المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله مصور النسم في شبكات الأرحام بلا مظاهرة ومعونة, ومقدر القسم لطبقات الأنام بلا كلفة ومئونة, شارع مشارع الأحكام بلطفه وأفضاله, ناهج مناهج الحلال والحرام بكرمه ونواله, مبدع فرائد الدرر من خطرات الفكر بسحائب فضله وإكرامه, منشئ لطائف العبر من شواهد النظر برواتب طوله وإنعامه, الذي أكمل بعنايته رونق الدين وأبهة الإسلام, وصير برعايته الملة الحنيفية مرتفعة الأعلام, نحمده حمدا تاه في وصفه أفهام العقلاء, ونشكره شكرا حار في قدره أوهام الألباء, على ما أوضح مناهج الشرع ورفع معالمه, وأحكم قواعد الدين وأثبت دعائمه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رسخت عروقها في صميم الجنان, ودعت صاحبها إلى نعيم الجنان.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جبله الله من سلالة المجد والكرم, وبعثه إلى كافة الخلق والأمم, فأبان معالم الدين وأثاره, وأضاء سبل اليقين ومناره, حتى سطع نور الشرع عن ظلام الجفاء بحسن عنايته, وظهر نور الدين عن أكمام الخفاء بيمن كفايته, صلى الله عليه وعلى آله الذين لم تستر أقمار دينهم بغمام الشك والبداء, ولم تحتجب أنوار يقينهم بأكمام الأهواء, صلاة تتجدد على تعاقب الليالي والأيام, وتتزايد على انتقاص الشهور والأعوام, وسلم تسليما.
"وبعد" فإن علوم الدين أحق المفاخر بالتوقير والتبجيل, وأولى الفضائل بالتفضيل والتحصيل, إذ هي الطريقة المسلوكة لنيل السعادات في الدنيا, والمرقاة المنصوبة إلى الفوز بالكرامات في العقبى, بنورها يهتدى من ظلمات الغواية إلى سبيل الرشاد, وبيمنها يرتقى من حضيض الجهالة إلى ذروة الاجتهاد, لا سيما علم أصول الفقه الذي هو أصعبها مدارك, وأدقها مسالك, وأعمها عوائد, وأتمها فوائد, لولاه لبقيت(1/7)
لطائف علوم الدين كامنة الآثار, ونجوم سماء الفقه والحكمة مطموسة الأنوار, لا تدخل ميامنه تحت الإحصاء, ولا تدرك محاسنه بالاستقصاء. ثم إن كتاب أصول الفقه المنسوب إلى الشيخ الإمام المعظم, والحبر الهمام المكرم, العالم العامل الرباني, مؤيد المذهب النعماني, قدوة المحققين أسوة المدققين صاحب المقامات العلية والكرامات السنية مفخر الأنام فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين البزدوي تغمده الله بالرحمة والرضوان, وأسكنه أعلى منازل الجنان, امتاز من بين الكتب المصنفة في هذا الفن شرفا وسموا, وحل محله مقام الثريا مجدا وعلوا, ضمن فيه أصول الشرع وأحكامه, وأدرج فيه ما به نظام الفقه وقوامه, وهو كتاب عجيب الصنعة رائع الترتيب, صحيح الأسلوب مليح التركيب, ليس في جودة تركيبه وحسن ترتيبه مرية, وليس وراء عبادان قرية, لكنه صعب المرام, أبي الزمام, لا سبيل إلى الوصول إلى معرفة لطفه وغرائبه, ولا طريق إلى الإحاطة بطرفه وعجائبه, إلا لمن أقبل بكليته على تحقيقه وتحصيله, وشد حيازيمه للإحاطة لجملته وتفصيله, بعد أن رزق في اقتباس العلم ذهنا جليا, وذرعا من هو أجس أضاليل المنى خليا, وقد تبحر مع ذلك في الأحكام والفروع, وأحاط بما جاء فيها من المنقول والمسموع. وقد سألني إخواني في الدين, وأعواني على طلب اليقين, أن أكتب لهم شرحا يكشف عن أوجه غوامض معانيه نقابها, ويرفع عن اللطائف المستترة في مبانيه حجابها, ويوضح ما أبهم من رموزه وإشاراته المعضلة, ويبين ما أجمل من ألفاظه وعباراته المشكلة, ظنا منهم أني لما استسعدت بخدمة شيخي, وسيدي وسندي وأستاذي وعمي, وهو الإمام المحقق الرباني, والقرم المدقق الصمداني, ناصب رايات الشريعة, كاشف آيات الحقيقة, فتاح أقفال المشكلات, كشاف غوامض المعضلات, فخر الحق والدين, ملاذ العلماء في العالمين, قطب المتهجدين, ختم المجتهدين, محمد بن إلياس المايمرغي1 أفاض الله عليه سجال إنعامه وغفرانه, وصب عليه شآبيب إكرامه ورضوانه, ونشأت في حجره برواتب بره وأفضاله, وربيت في بيته بصنائع جوده ونواله, لعلي فزت بدرر من غرر فرائده. وأخذت حظا وافرا من موائد فوائده, وإنه قد كان مختصا من بين العلماء باتفاق الأنام بتحقيق دقائق مصنفات فخر الإسلام فاستعفيت عن هذا الأمر الخطير وتشبثت بأهداب المعاذير, علما مني بأني لست من فرسان هذا الميدان, ولا لي بالإبلاء في مواقفه يدان, وأين أنا من ذلك وقد تحيرت الفحول في حل مشكلاته,
ـــــــ
1 هو محمد بن محمد بن إلياس المايمرغي فقيه حنفي توفي سنة 751 هـ.(1/8)
بعد تهالكهم في بحثه وتنقيره, وعجزت التحارير عن درك معضلاته, مع حرصهم على تحقيقه وتفكيره, فلم يزدهم ذلك إلا المبالغة في الإلحاح علي, والإقامة في مواقف الاقتراح لدي, فلم أجد بدا من إنجاح مسئولهم, ولا مندوحة عن تحقيق مأمولهم, فأجبتهم إلى ملتمسهم تفاديا من عقوقهم, وسعيا إلى أداء حقوقهم, وشرعت في هذا الأمر العظيم المهم, والخطب الجسيم المدلهم, مستعينا بالله الكريم الجليل, راجيا منه أن يهديني سواء السبيل, متوكلا على كرمه الشامل في طلب التوفيق لإتمامه, معتمدا على إنعامه العام في سؤال التيسير لابتدائه واختتامه. راغبا إليه في أن يجعل ما أقاسيه خالصا لوجهه الكريم, متعوذا به من أن يتلقاني بسخطه وعقابه الأليم, مبتهلا إليه في أن يحفظني عن الخطإ والزلل, ويلهمني طريق الصواب والسداد في القول والعمل, متضرعا إليه في أن ينفعني به وأئمة الإسلام, ويجمعني وإياهم ببركات جمعه في دار السلام.
ولما كان هذا الكتاب كاشفا عن غوامض محتجبة عن الأبصار ناسب أن سميته كشف الأسرار.
وأرجو أن يكون كتابا سبق عامة الشروح ترتيبا وجمالا, وفاق نظائره تحقيقا وكمالا, ومن نظر فيه بعين الإنصاف, عرف دعوى الصدق من الخلاف, ثم إني, وإن لم آل جهدا في تأليف هذا الكتاب وترتيبه, ولم أدخر جدا في تسديده وتهذيبه, فلا بد من أن يقع فيه عثرة وزلل, وأن يوجد فيه خطأ وخطل, فلا يتعجب الواقف عليه عنه, فإن ذلك مما لا ينجو منه أحد ولا يستنكفه بشر وقد روى البويطي1 عن الشافعي2 رحمه الله أنه قال له إني صنفت هذه الكتب فلم آل فيها الصواب فلا بد أن يوجد فيها ما يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه السلام قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] فما وجدتم فيها مما يخالف كتاب الله وسنة رسوله فإني راجع عنه إلى كتاب الله وسنة رسوله.
وقال المزني3 قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة فما من مرة
ـــــــ
1 البويطي: هو أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي من كبار أصحاب الشافعي توفي سنة 332هـ.
2 الإمام المجتهد ناصر السنة محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي القرشي ولد في غزة سنة 150 هـ توفي سنة 204 هـ.
3 هو الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني توفي سنة 264 هـ.(1/9)
إلا وكان نقف على خطأ فقال الشافعي: هيه أبى الله أن يكون كتاب صحيحا غير كتابه.
فالمأمول ممن وقف عليه بعد أن جانب التعصب والتعسف ونبذ وراء ظهره التكلف والتصلف, أن يسعى في إصلاحه بقدر الوسع والإمكان, أداء لحق الأخوة في الإيمان, وإحرازا لحسن الأحدوثة بين الأنام, وإدخارا لجزيل المثوبة في دار السلام, والله الموفق والمثيب عليه أتوكل وإليه أنيب.
"قال العبد الضعيف" عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري ستر الله عيوبه وغفر ذنوبه. حدثني بهذا الكتاب شيخي وأستاذي وعمي الذي تقدم ذكره آنفا قراءة عليه بسرخس1 في المدرسة الملكية العباسية قال حدثني به أستاذ أئمة الدنيا مظهر كلمة الله العليا شمس الأئمة محمد بن عبد الستار بن محمد الكردري2 من أول الكتاب إلى باب أسباب الشرائع ومنه إلى آخر الكتاب الشيخ الإمام والقرم الهمام بدر الملة والدين محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردري3 المعروف بخواهر زاده راويا عن خاله هذا قال حدثنا شيخ شيوخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني4 قال حدثنا إمام الأئمة ومقتدى الأمة نجم الدين أبو حفص عمر بن أحمد النسفي5 عن الشيخ الإمام المصنف قدس الله أرواحهم.
ـــــــ
1 سرخس: مدينة من نواحي خراسان بين نيسابور ومرو معجم البلدان 3/208 – 209.
2 هو محمد بن عبد الستار بن الكردري شمس الأئمة فقيه حنفي ولد سنة 559 هـ وتوفي سنة 642 هـ.
3 محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردري بدر الدين المعروف بخواهر زاده توفي سنة 651 هـ.
4 هو برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني الرشداني المعروف بالمرغيناني توفي سنة 593 هـ.
5 هو نجم الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن لقمان النسفي ولد سنة 461 هـ وتوفي سنة 537 هـ.(1/10)
أصول فخر الإسلام البزدوي
...
أصول الفخر الإسلام البزدوي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله خالق النسم ورازق القسم
ـــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "الحمد لله خالق النسم ورازق القسم" جرت سنة السلف والخلف بذكر الحمد في أوائل تصانيفهم اقتداء بكتاب الله تعالى. فإنه معنون به وعملا بقوله عليه السلام: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" 1.
والحمد هو الثناء على الجميل من نعمة وغيرها يقال حمدته على إنعامه وحمدته على شجاعته واللام فيه لاستغراق الجنس عند أهل السنة على ما عرف أي الحمد كله لله والله اسم تفرد به الباري سبحانه يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام لا شركة فيه لأحد قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2 [سورة مريم 65] أي هل تعلم أحدا يسمى بهذا الاسم غيره كذا روي عن الخليل وابن كيسان ولهذا اختص الحمد بهذا الاسم; لأنه لما كان كالعلم للذات كان مستجمعا لجميع الصفات فكان إضافة الحمد إليه إضافة له إلى جميع أسمائه وصفاته ألا ترى أن الإيمان اختص بهذا الاسم حيث قال عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" 3 مع أن الإيمان بجميع الأسماء والصفات واجب; لأنه مستجمع للصفات.
ثم لما كان من سنة التأليف أن يوافق التحميد مضمونه. وغرض الشيخ من هذا التصنيف بيان أصول الفقه والفقه على ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله معرفة النفس ما لها وما عليها قال: "خالق النسم" إذ لا بد من وجود النفس لتعرف ما شرع لها
ـــــــ
1 حديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" أخرجه أبو داود في الأدب حديث رقم 484 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه ابن ماجة في النكاح حديث رقم 1894 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/359.
2 أخرجه البخاري 1/13 ومسلم 1/38 والترمذي 5/3 – 4 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/19, 35, 37, 48, وابن ماجة 1/28 والنسائي 5/14.
3 هو الإمام المعظم والمجتهد الأكبر: أبو حنيفج النعمان بن ثابت الكوفي التيمي بالولاء ولد ونشأ بالكوفة وتفقه على حماد بن سليمان توفي سنة 150 هـ.(1/11)
مبدع البدائع وشارع الشرائع دينا رضيا ونورا مضيا وذكرا للأنام ومطية إلى دار السلام.
ـــــــ
مثل العقود وما شرع عليها مثل الواجبات والخالق ههنا بمعنى الإيجاد والنسمة الإنسان كذا في الصحاح والنسم جمع نسمة وفي المغرب النسمة النفس من نسم الريح ثم سميت بها النفس ومنها أعتق النسمة والله بارئ النسم ولما كان الإنسان محتاجا إلى العطاء في حالة البقاء أعقبه بقوله "رازق القسم" أي معطي العطايا, والرزق العطاء, وهو مصدر قولك رزقه الله.
والقسم جمع قسمة بمعنى القسم, وهو الحظ والنصيب من الخير.
وفي ذكر الرزق دون الإعطاء لطف, وهو أن الرزق ما يفرض للفقراء بخلاف العطاء, فإنه اسم لما يفرض للعمال مثل المقاتلة والإنسان في أول أمره فقير محتاج لا قوة له على كسب وعمل فكان ذكر الرزق أشد مناسبة من ذكر العطاء مع أن فيه رعاية صنعة الترصيع.
قوله: "مبدع البدائع وشارع الشرائع" الإبداع الاختراع لا على مثال والبدائع جمع بديع بمعنى مبتدع أي مخترع الموجودات بلا مادة ومثال بقدرته الكاملة وحكمته الشاملة.
وفي ذكر هذه القضية بدون الواو بدلا من قوله "خالق النسم" إشارة إلى أن خلق مثل هذا الموجود الذي فيه أنموذج من جميع ما في هذا العالم حتى قيل هو العالم الأصغر من عجائب قدرته وغرائب حكمته ثم هذا الجنس لما خلقوا على همم شتى وطبائع مختلفة وأهواء متباينة لا يكادون يجتمعون على شيء ويبعث لكل واحد همته إلى ما يستلذ طبعه وفيه من الفساد ما لا يخفى; لأن ذلك يؤدي في العاجل إلى التقاتل والتفاني وفي الآجل إلى استحقاق العذاب الأليم, شرع الشرائع زاجرا لهم عن ذلك وجامعا لهم على طريق واحد مستقيم فكان من أجل النعم.
والشرع الإظهار وشرع لهم كذا أي بين والشرائع جمع شريعة, وهي ما شرع الله تعالى لعباده من الدين ثم ضمن الشارع معنى الجعل والتصيير فانتصب دينا على أنه مفعول ثان أي جاعل الشرائع دينا رضيا أو انتصب على الحال من الشرائع مع أنه ليس بصفة لوجود معنى الصفة فيه باعتبار وصفه كما انتصب قرآنا على الحال في قوله عز اسمه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [فصلت: 3] مع أنه ليس بصفة لكونه موصوفا بوصف أي فصلت آياته في حال كونه موصوفا بالعربية. وهو مثل قولك جاءني زيد رجلا صالحا.(1/12)
................................................................................................
والدين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات والرضى المرضي ووصفه به اقتداء بقوله عز وجل: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] أي اخترته لكم من بين الأديان ويجوز أن يكون المراد من الشرائع مشروعات هذه الملة خاصة بدليل قوله دينا على صيغة الواحد ولو كان المراد جميع الشرائع من لدن آدم إلى عهد النبي عليهما السلام لقيل أديانا رضية وأنوارا مضيئة.
والنور: لغة اسم للكيفية العارضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر الأجسام الكثيفة مثل الأرض والجدار ومن خاصيته أن تصير المرئيات بسببه متجلية منكشفة ولذا قيل في تعريفه هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره. ثم تسمية الدين نورا بطريق الاستعارة; لأنه سبب لظهور الحق للبصيرة كما أن النور الجسماني سبب لظهور الأشياء للبصر والإضاءة متعد ولازم قال النابعة الجعدي1:
أضاءت لنا النار وجها ... أغر ملتبسا بالفؤاد التباسا
يضيء كضوء سراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا
فاستعمله بالمعنيين واللزوم هو المختار والضياء أقوى من النور وأتم منه; لأنه أضيف إلى الشمس والنور إلى القمر في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس: 5] ثم الشيخ وصف الدين بالنور أولا كما وصفه الله تعالى به في قوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً} [الشورى: 52] أي جعلنا الإيمان نورا وفي قوله عز اسمه: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8] أي دينه ثم وصفه بالإضاءة ثانيا; لأنه في أول الأمر في حق المتمسك به بمنزلة نور القمر ثم يتزايد بالتأمل والاستدلال إلى أن يبلغ ضوء الشمس. ولأن الخلق كانوا في ظلمة ظلماء قبل البعث فكان ظهور الدين فيها بمنزلة ظهور نور القمر في الظلمة الجسمانية ثم ازداد حتى بلغ المشرق والمغرب بمنزلة ضياء الشمس; فلهذا وصفه بهما; ولأن استنارة العالم الجسماني بهذين الكوكبين فوصفه بالنور والإضاءة فكأنه قال: هو الشمس والقمر في العالم الروحاني بطريق الاستعارة التخييلية.
قوله: "وذكرا للأنام ومطية إلى دار السلام" الذكر ههنا الشرف قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الانبياء: 10] أي شرفكم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1] قيل ذي الشرف والأنام الخلق, وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه والمطية المركب والمطاء الظهر, وهذا الكلام بطريق الاستعارة يعني كما أن المطية
ـــــــ
1 هو الشاعر أبو ليلى عبد الله بن قيس من بني جعدة بن كعب المتوفى سنة 684.(1/13)
أحمده على الوسع والإمكان وأستعينه على طلب الرضوان ونيل أسباب الغفران.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأصلي عليه وعلى آله وأصحابه وعلى الأنبياء والمرسلين وأصحابهم أجمعين.
ـــــــ
وسيلة إلى الوصول إلى المقصد فكذلك الدين وسيلة إلى الوصول إلى المقصد الأقصى, وهو دار السلام وسميت الجنة دار السلام لسلامة أهلها وما فيها من النعم عن الآفات والفناء أو لكثرة السلام فيها قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [ابراهيم: 23] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يّس:58] والسلام من أسماء الله تعالى فأضيفت الدار إليه تعظيما لها.
قوله: "أحمده على الوسع والإمكان" ولما نظر الشيخ رحمه الله في جلائل نعم الله تعالى على عباده وكمال قدرته وعظمته وعرف أن القدرة البشرية لا تفي بالقيام بمواجب حمده كما هو يستحقه, وإن سلوك طريق النجاة لا يتيسر إلا بإعانته وتيسيره قال: "أحمده على الوسع والإمكان وأستعينه على طلب الرضوان" يعني أحمده على حسب وسعي وطاقتي وبقدر ما يمكن الإقدام عليه من التحميد لا على حسب النعم إذا ليس ذلك وسع أحد قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ثم الإمكان أعم من الوسع; لأن الممكن قد يكون مقدورا للبشر وغير مقدور له ألا ترى أن نسف الجبال ممكن في نفسه. وإن لم يكن مقدورا للبشر والوسع راجع إلى الفاعل والإمكان إلى المحل وخص طلب الرضوان أي الرضا بالاستعانة فيه; لأنه أعظم النعم وأعلاها قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ثم ذكر الشهادتين; لأن ذلك من سنة الخطبة قال عليه السلام: " كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" 1.
قوله: "وأصلي عليه وعلى آله" أي ذريته وأصحابه أي متابعيه من المهاجرين والأنصار أو المراد من الآل الأتقياء من المؤمنين على ما قال عليه السلام: "آلي كل مؤمن تقي" 2 وتخصيص الأصحاب بالذكر بعد دخولهم في ذلك العموم لزيادة التعظيم.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في النكاح 3/414 وأبو داود في النكاح 4/261 وأخرجه الإمام في المسند 2/303 كلهم عن أبي هريرة.
2 أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس انظر المقاصد الحسنة ص 5 وفيض القدير 1/55 – 56 وكشف الخفاء ومزيد الإلباس 1/17 – 18.(1/14)
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد أبو الحسن علي بن محمد البزدوي رحمه الله: العلم نوعان: علم التوحيد والصفات وعلم الشرائع والأحكام.
ـــــــ
وتقديم الآل والأصحاب في الصلاة على عامة الأنبياء والمرسلين لتكميل الصلاة على النبي لا لتفضيلهم على الأنبياء إذ لا فضل لولي على نبي قط.
قوله: "العلم نوعان" اختلف في تفسير العلم:
فقيل لا يمكن تعريفه; لأنه ضروري إذ كل أحد يعلم وجوده ضرورة; ولأن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم فلو علم العلم بغيره كان دورا.
وقيل إنه صفة توجب في الأمور المعنوية تمييزا لا يحتمل النقيض.
وقوله لا يحتمل النقيض احتراز عن الظن ونحوه.
وقيل هو صفة ينتفي بها عن الحي الجهل والشك والظن والسهو.
ومختار الشيخ أبي منصور الماتريدي1 رحمه الله أنه صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به.
ثم أنه عام يتناول علم النحو والطب والنجوم وسائر علوم الفلسفة كما يتناول علم التوحيد والشرائع فلا يستقيم تقسيمه بالنوعين واكتفاؤه عليهما كما لا يستقيم تقسيم الحيوان بأنه نوعان: إنسان وفرس منحصرا عليهما; لأنه أعم من ذلك إلا بتقييد, وهو أن يقال المراد العلم المنجي أو العلم الذي ابتلينا به نوعان, وكان الشيخ رحمه الله أخرج بقوله العلم نوعان غير هذين النوعين عن كونه علما لعدم ظهور فائدته في الآخرة وانحصار الفائدة فيها على النوعين فكان هذا من قبيل قولك العالم في البلد زيد مع وجود غيره من العلماء فيه; لأنك لا تعدهم علماء في مقابلته علم التوحيد هو العلم بأن الله تعالى واحد لا شريك له وعلم الصفات هو العلم بأن لله تعالى صفات ثبوتية قائمة بذاته قديمة غير محدثة مثل العلم والحياة والقدرة وغيرها من أوصاف الكمال لا كما زعمت المعتزلة2 من نفي الصفات, ولا كما زعمت الكرامية3 من حدوث بعض الصفات "وعلم الشرائع" هو العلم بالمشروعات من السبب والعلة والشرط والحل
ـــــــ
1 هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي المتوفى سنة 333 هـ 944 م إمام المتكلمين وعلماء العقائد.
2 المعتزلة فرقة كبيرة من فرق المسلمين تشعبت إلى مذاهب عديدة وأصولهم ترجع إلى خمسة: التوحيد العدل الوعد والوعيد المنزلة بين المنزلتين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 الكرامية هم أتباع أبي عبد الله بن كرام وقد تفرعوا إلى مذاهب.(1/15)
والأصل في النوع الأول هو التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة
ـــــــ
والحرمة والجواز والفساد والأحكام, وإن دخلت في المشروعات لكنها لكونها مقصودة أفردت بالذكر "والأصل في النوع الأول التمسك بالكتاب والسنة" أي بمحكم الكتاب والسنة المتواترة. وهذا في المباحثة مع النفس أو مع أهل القبلة الذين أقروا برسالة النبي عليه السلام وبحقية القرآن وانتحلوا نحلة الإسلام إلا أنهم بسبب أهوائهم خرجوا عن حوزة الإسلام ونبذوا التوحيد وراء ظهورهم وأنكروا الصفات التي نطق بها القرآن والسنة زاعمين أن ما ذهبوا إليه هو عين الحق ومحض التوحيد, فأما في المباحثة مع من أنكر الرسالة والقرآن مثل المجوس1 والثنوية2 والفلاسفة3 فلا ينفع التمسك فيها بالكتاب والسنة لإنكار الخصم حقيتهما فيتمسك إذن بالمعقول الصرف. "ومجانبة الهوى والبدعة" الهوى: ميلان النفس إلى ما تستلذه من غير داعية الشرع والبدعة الأمر المحدث في الدين الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون يعني يتمسك بالكتاب والسنة مجانبا لهوى نفسه ومجانبا لما أحدثه غيره في الدين مما لم يكن منه فلا يحمل الكتاب والسنة على ما تهواه نفسه ولا على ما يوافق ما أبدعه غيره مثل ما قالت الرافضة4 المراد من الخمر والميسر والأنصاب أبو بكر وعمر وعثمان ومن الظلم في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] أبو بكر ومن قوله: {لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً} [الفرقان: 28] عمر ومثل ما قالت المعتزلة في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] أنه مشروط بشرط التوبة ليستقيم قولهم بالتخليد في النار لأصحاب الكبائر من المؤمنين ومثل حملهم المشيئة في قوله تعالى: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] ونظائره على مشيئة القسر ليستقيم قولهم بعدم دخول الشرور والقبائح تحت
ـــــــ
1 لمجوس والمجوسية دين قديم واللفظج وردت في القرآن الكريم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17] وقد تفرقوا أديانا وفرقا.
2 الثنوية: هم القائلون بأن أصل كل شيء النور والظلمة وهما قديمان أزليان وقد تفرقوا إلى منانية وديصانية ومرقونية ومزدكية.
3 الفلاسفة أو الحكماء غير الإسلاميين كأرسطوا وأفلاطون وأفلوطين والإسلاميين كالفارابي وابن سينا.
4 الرافضة: في تسميتهم خلاف وهم من فرق الشيعة أو هم عموما فرق الشيعة فبعضهم يقول بأنهم سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر كأبي الحسن الأشعري يقول بأنهم فرقة من فرق الشيعة كالنوبختي وبعضهم يقول بأنهم سموا كذلك في الكوفة لكونهم رفضوا زيد بن علي كالطبري.(1/16)
ولزوم طريق السنة والجماعة الذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه الصالحون وهو الذي كان عليه أدركنا مشايخنا, وكان على ذلك سلفنا أعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وعامة أصحابهم رحمهم الله وقد صنف أبو حنيفة رضي الله عنه في ذلك كتاب الفقه الأكبر وذكر فيه إثبات الصفات وإثبات تقدير الخير والشر من الله وأن ذلك كله بمشيئته وأثبت الاستطاعة مع الفعل,
ـــــــ
مشيئة الله تعالى وإرادته, "ولزوم طريق السنة" أي عقيدة الرسول "والجماعة" أي عقيدة الصحابة, "أدركنا مشايخنا" أي أستاذينا والسلف جمع سالف من سلف يسلف سلفا إذا مضى وعامة أصحابهم أي أكثرهم. وإنما قيد به; لأن بعضهم كان موسوما بالبدعة مثل بشر بن غياث المريسي1.
واعلم أن غرض الشيخ من تقرير هذه الكلمات في أول هذا الكتاب إبطال دعوى من زعم من المعتزلة أن أبا حنيفة رحمه الله كان على معتقدهم استدلالا بما نقل عنه أنه قال كل مجتهد مصيب ودفع طعن من طعن فيه من الشافعية وغيرهم من أصحاب الظواهر أنه كان من أصحاب الرأي وأنه كان يقدم الرأي على السنة فبدأ أولا بإبطال دعوى المعتزلة فقال "وقد صنف أبو حنيفة في ذلك" أي في علم التوحيد والصفات "كتاب الفقه الأكبر" سماه أكبر; لأن شرف العلم وعظمته بحسب شرف المعلوم ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته فلذلك سماه أكبر وذكر فيه إثبات الصفات فقال لم يزل ولا يزال بصفاته وأسمائه لم يحدث له صفة ولا اسم لم يزل عالما بعلمه والعلم صفته في الأزل وقادرا بقدرته والقدرة صفته في الأزل وخالقا بتخليقه والتخليق صفته في الأزل وفاعلا بفعله وفعله صفته في الأزل فالفاعل هو الله سبحانه وفعله صفته في الأزل والمفعول مخلوق وفعل الله تعالى غير مخلوق وصفاته أزلية غير مخلوقة ولا محدثة فمن قال إنها مخلوقة أو محدثة أو وقف فيها أو شك فيها فهو كافر بالله تعالى "وإثبات تقدير الخير والشر من الله عز وجل" أي ذكر ذلك فيه أيضا فقال يجب أن يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره من الله تعالى, "وإن ذلك كله بمشيئته" أي ذكر ذلك أيضا فقال جميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خالقها. وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره والطاعات كلها بمحبته ورضائه والمعاصي كلها بتقديره وعلمه وقضائه ومشيئته لا بمحبته ورضاه وأما مسألتا الاستطاعة والأصلح فما وجدتهما في النسخ التي كانت عندي من الفقه الأكبر وليس في كلام الشيخ أيضا ما يوجب أنه قد ذكرهما فيه,
ـــــــ
1 هو أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي مات سنة ببغداد سنة 218 هـ.(1/17)
وإن أفعال العباد مخلوقة بخلق الله تعالى إياها كلها ورد القول بالأصلح وصنف كتاب العالم والمتعلم وكتاب الرسالة وقال فيه لا يكفر أحد بذنب ولا يخرج به من الإيمان ويترحم له وكان في علم الأصول إماما صادقا
ـــــــ
فإنه لم يعطف ذلك على ما تقدم حيث لم يقل وإثبات الاستطاعة ولم يقل أيضا وأثبت فيه الاستطاعة ورد فيه القول بالأصلح بل استأنف الكلام وقال وأثبت الاستطاعة ورد القول بالأصلح مطلقا فلعله أثبتهما في موضع آخر أو في مباحثه ونحو ذلك. قوله: "وقال فيه لا يكفر أحد بذنب" أي قال فيه فقد ذكر في كتاب العالم والمتعلم أن المؤمن لا يكون لله عدوا, وإن ركب جميع الذنوب بعد أن لا يدع التوحيد; لأنه حين يرتكب العظيم من الذنب فالله أحب إليه مما سواه, فإنه لو خير بين أن يحرق بالنار وبين أن يفتري على الله من قلبه لكان الاحتراق أحب إليه من ذلك "ولا يخرج به من الإيمان" ذكر فيه أيضا قال المتعلم رحمه الله فما قولك في أناس رووا "أن المؤمن إذا زنى يخلع عنه الإيمان كما يخلع عنه القميص ثم إذا تاب أعيد إليه إيمانه" 1 أتكذبهم في قولهم أو تصدقهم فإن صدقت قولهم فقد دخلت في قول الخوارج2, وإن كذبت قولهم قالوا أنت مكذب للنبي عليه السلام, فإنهم رووا ذلك عن رجال شتى حتى انتهى إلى النبي عليه السلام.
قال العالم رحمه الله أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهم تكذيبا للنبي صلى الله عليه وسلم بل يكون تكذيبا للرواية عنه, فإن الرجل إذا قال أنا مؤمن بكل شيء تكلم به النبي عم, غير أنه لم يتكلم بالجور ولم يخالف القرآن كان هذا القول منه تصديقا بالنبي وبالقرآن وتنزيها له من الخلاف على القرآن وقد قال الله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16] فقوله منكم لم يعن به اليهود ولا النصارى, وإنما عني به المسلمون وذكر في الفقه الأكبر أيضا ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب. وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها ولا نزيل عنه اسم الإيمان ونسميه مؤمنا حقيقة, "ويترحم له" أي يدعى له بالرحمة ويقال رحمه الله قال عليه السلام لعدي بن حاتم: "لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه" أي لقلنا له رحمه الله3.
ـــــــ
1 أخرجه الديلمي في الفردوس 1/149 "الإيمان سربال يسربله الله عز وجل لمن يشاء فإذا زنى العبد نزع عنه السربال فإذا تاب يرد عليه" .
2 الخوارج فرقة من فرق المسلمين تفرعت أيضا إلى مذاهب مختلفة كالمحكمة والإباضة والأزارقة.
3 أخرجه الترمذي في نوادر الأصول 3/1287.(1/18)
................................................................................................
وذكر فيه أيضا قال المتعلم أخبرني عن الاستغفار لصاحب الكبيرة أهو أفضل أم الدعاء عليه باللعنة؟
قال العالم رحمه الله الذنب على منزلتين غير الإشراك بالله فأي الذنبين ركب هذا العبد, فإن الدعاء له بالاستغفار أفضل; لأنه مؤمن من أهل الشهادة, والدعاء لأهل هذه الشهادة بالمغفرة أفضل لحرمة هذه الشهادة إذا ليس شيء يطاع الله تعالى به أفضل من الإقرار بهذه الشهادة وجميع ما أمر الله تعالى من فرائضه في جنب هذه الشهادة أصغر من بيضة في جنب السموات والأرضين وما بينهن فكما أن ذنب الإشراك أعظم كذلك أجر هذه الشهادة أعظم "وكان في علم الأصول إماما صادقا" أي إماما على التحقيق والشيء إذا بولغ في وصفه يوصف بالصدق يقال للرجل الشجاع وللفرس الجواد إنه لذو صدق أي صادق الحملة وصادق الجري كأنه ذو صدق فيما يعدك من ذلك قال صاحب الكشاف: في قوله تعالى: {قَدَمَ صِدْقٍ} , وفي إضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل, وإنه من السوابق العظيمة.
ومما يدل على تبحره فيه ما روى يحيى بن شيبان عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال كنت رجلا أعطيت جدلا في الكلام فمضى دهر فيه أتردد وبه أخاصم وعنه أناضل. وكان أكثر أصحاب الخصومات بالبصرة فدخلتها نيفا وعشرين مرة أقيم سنة وأقل وأكثر وكنت قد نازعت طبقات الخوارج من الإباضية1 وغيرهم وطبقات المعتزلة وسائر طبقات أهل الأهواء وكنت بحمد الله أغلبهم وأقهرهم ولم يكن في طبقات أهل الأهواء أحد جدلا من المعتزلة; لأن ظاهر كلامهم مموه يقبله القلوب وكنت أزيل تمويههم بمبدأ الكلام وأما الروافض وأهل الإرجاء الذين يخالفون الحق فكانوا بالكوفة أكثر وكنت قهرتهم بحمد الله أيضا وكنت أعد الكلام أفضل العلوم وأرفعها فراجعت نفسي بعدما مضى لي فيه عمر وتدبرت فقلت إن المتقدمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم والتابعين وأتباعهم لم يكن يفوتهم شيء مما ندركه نحن وكانوا عليه أقدر وبه أعرف وأعلم بحقائق الأمور ثم لم يتهايئوا فيه متنازعين ولا مجادلين ولم يخوضوا فيه بل أمسكوا عن ذلك ونهوا أشد النهي ورأيت خوضهم في الشرائع وأبواب الفقه وكلامهم فيه, عليه تجالسوا وإليه دعوا وكانوا يطلقون الكلام والمنازعة فيه ويتناظرون عليه وعلى ذلك مضى الصدر الأول من السابقين وتبعهم التابعون فلما ظهر لنا
ـــــــ
1 هو أتباع عبد الله بن إباض ظهر في زمن مروان بن محمد آخر خلفاء أمية.(1/19)
وقد صح عن أبي يوسف أنه قال ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن ستة أشهر فاتفق رأيي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر وصح هذا القول عن محمد رحمه الله ودلت المسائل المتفرقة عن أصحابنا في المبسوط
ـــــــ
من أمورهم ذلك تركنا المنازعة والخوض في الكلام ورجعنا إلى ما كان عليه السلف وشرعنا فيما شرعوا وجالسنا أهل المعرفة بذلك مع أني رأيت من ينتحل الكلام ويجادل فيه قوما ليس سيماهم سيما المتقدمين ولا منهاجهم منهاج الصالحين رأيتهم قاسية قلوبهم غليظة أفئدتهم لا يبالون مخالفة الكتاب والسنة والسلف الصالح فهجرتهم ولله الحمد كذا ذكر الإمام ظهير الدين المرغيناني1 في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة رحمهما الله قوله: "ودلت المسائل المتفرقة إلى آخره" اعلم أن أهل الأهواء تفرقوا أولا على ست فرق القدرية2 والجبرية3 والرافضة والخارجية4 والمشبهة5 والمرجئة6 ثم تفرقت كل فرقة على اثنتي عشرة فرقة فصار الكل اثنتين وسبعين فرقة على ما عرف ففي المسائل المذكورة في المبسوط والجامع الصغير وغيرهما دليل على أنهم لم يميلوا إلى شيء من هذه المذاهب فقالوا في قوم صلوا بجماعة في ليلة مظلمة بالتحري فوقع تحري كل أحد إلى جهة إن من علم منهم بحال إمامه فسدت صلاته; لأن إمامه في زعمه مخطئ فلو كان كل مجتهد مصيبا عندهم كما هو مذهب المعتزلة لما صح القول منهم بفساد الصلاة كما لو صلوا كذلك في جوف الكعبة.
فإن قيل إنما حكموا بفساد الصلاة; لأن حقية كل جهة مختصة بمتحريها إذ اجتهاد كل مجتهد حق في حق نفسه لا في حق غيره حتى لم يجز العمل باجتهاده لغيره من المجتهدين كحل الميتة ثابت في حق المضطر دون غيره بخلاف الصلاة في الكعبة, فإن كل جهة فيها حق بالنسبة إلى جميع الناس؟
قلنا إذا كان اجتهاد كل مجتهد حقا بالنسبة إليه لا بد من أن يعتقد الغير الحقية بتلك النسبة كحل الميتة لما ثبت في حق المضطر لا بد من أن يعتقد غير المضطر الحل
ـــــــ
1 هو ظهير الدين أبو المحاسن الحسن بن علي المرغيناني توفي حوالي 600 هـ.
2 القدرية: وسموا بذلك لقولهم بأن كل عبد خالق لفعله وقادر عليه ويلقبون بالقدرية والعدلية.
3 الجبرية: يقول الشهرستاني: وهو الذين لا يثنون للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا.
4 أي الخوارج.
5 المشبهة: هو الذين يذهبون إلى تشبيه الخالق بالمخلوق في الصفات الخبرية ومدلولاتها.
6 المرجئة: وتنقسم إلى أربعة أصناف: مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية والمرجئة الخالصة.(1/20)
................................................................................................
في حقه, وإن لم يثبت ذلك في حق غير المضطر وههنا اعتقده مخطئا مطلقا فأوجب فساد الصلاة ولو كان الأمر على ما قالوا لما أوجب فساد الصلاة كالمتوضئ إذا اقتدى بالمتيمم صح صلاته عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وإن كان جواز الأداء بالتيمم ثابتا في حق الإمام دون المقتدي; لأنه لم يعتقد إمامه على الخطإ وقال أبو حنيفة رحمه الله في ميراث قسم بين الغرماء أو الورثة لا آخذ كفيلا من الغريم ولا من الوارث هو شيء احتاط به بعض القضاة, وهو جور سمى اجتهاد ذلك البعض جورا ولو كان كل مجتهد مصيبا عنده لما صح وصفه بالجور.
وقالوا فيمن حلف إن لم آتك غدا إن استطعت فكذا إنه واقع على سلامة الأسباب والآلات للعرف فإن قال عنيت به استطاعة القضاء صدق ديانة حتى لا يحنث وإن لم يأته مع عدم المانع فدل أنهم قائلون بالاستطاعة مع الفعل على خلاف ما قاله المعتزلة.
وقالوا بجواز إمامة الفاسق, وإن كانت مع الكراهية وفيه رد لمذهب الخوارج, فإنهم قالوا بكفر من ارتكب معصية وإمامة الكافر لا تجوز ولمذهب الرافضة أيضا; لأنهم شرطوا لصحة الإمامة الإمام المعصوم وقالوا إذا قضى القاضي بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه; لأنهم مسلمون وفيه رد لمذهب الخوارج والاعتزال.
وقالوا بفرضية غسل الرجلين وفيه رد لمذهب الروافض واتفقوا على عدم جواز الدعاء بقوله اللهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك من القعود; لأنه يشير إلى التمكن واختلفوا في جوازه بقوله بمعقد العز من العقد فقال أبو يوسف لا بأس به للحديث الوارد فيه1 وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهم الله لا يجوز; لأنه يوجب تعلق العز بالعرش ويوهم حدوث هذه الصفة والله تعالى بجميع أوصافه قديم أزلي والحديث شاذ لا يجوز العمل به في مثل هذه الصورة وفيه رد لمذهب المشبهة واختلفوا أيضا في الحلف بوجه الله فقال أبو يوسف يكون يمينا; لأن الوجه يذكر بمعنى الذات قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] وقال أبو حنيفة ومحمد لا يكون يمينا وأنه من إيمان السفلة أي الجهلة الذين يذكرونه بمعنى العضو الجارحة كذا في المبسوط وفيه رد لمذهب المشبهة أيضا.
وقالوا إذا ارتكب العبد ذنبا يوجب الحد فأجري عليه الحد لا يحصل له التطهير به من غير توبة وندم للحديث الوارد فيه إليه أشير في سرقة المبسوط وفيه رد لمذهب
ـــــــ
1 حديث "اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك...." أخرجه الديلمي في الفردوس عن ابن مسعود 1/551.(1/21)
وغير المبسوط على أنهم لم يميلوا إلى شيء من مذاهب الاعتزال وإلى سائر الأهواء وأنهم قالوا بحقية رؤية الله تعالى بالإبصار في دار الآخرة وحقية عذاب القبر لمن شاء وحقية خلق الجنة والنار اليوم حتى قال أبو حنيفة لجهم اخرج عني يا كافر وقالوا بحقية سائر أحكام الآخرة على ما نطق به الكتاب والسنة,
ـــــــ
المرجئة, فإن عندهم لا يضر ذنب مع الإيمان كما لا ينفع طاعة مع الكفر وبنوا مسائل لا تعد ولا تحصى على اختيار العبد وفيها رد لمذهب المجبرة فثبت أنهم لم يميلوا إلى شيء من مذاهب أهل الأهواء وخص نفي الاعتزال عنهم بالذكر أولا ثم عمم نفي جميع الأهواء عنهم; لأن المعتزلة هم المدعون أنهم كانوا على مذهبهم لا غيرهم من أهل الأهواء. قوله: "وإنهم قالوا" بكسر الهمزة على أنه كلام مستأنف لا بفتحها عطفا على أنهم لم يميلوا; لأنه لم يوجد في المسائل ما يدل على حقية رؤية الله تعالى وحقية ما ذكر ولكنه ذكر في الفقه الأكبر والله تعالى يرى في الآخرة يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رءوسهم بلا شبيه ولا كيفية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة, وحقية عذاب القبر لمن شاء ذكر في الفقه الأكبر وإعادة الروح إلى العبد في قبره حق وضغطة القبر حق كائن وعذابه حق كائن للكفار كلهم أجمعين ولبعض المسلمين.
وعن حماد بن أبي حنيفة أنه قال سألت أبي عن عذاب القبر أحق هو فقال هو حق أتت به السنة وجاءت به الآثار, وحقية خلق الجنة والنار يعني أقروا بخلق الجنة والنار وبأنهما موجودتان اليوم كذا ذكر في الفقه الأكبر أيضا أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تموت الحور أبدا ولا يفنى عذاب الله تعالى ولا ثوابه سرمدا, حتى قال أبو حنيفة لجهم1 بعدما طال مناظرتهما وظهر مكابرته اخرج عني يا كافر, وهو جهم بن صفوان رئيس الجبرية, وكان من مذهبه أنهما ليستا بموجودتين اليوم. وإنما تخلقان يوم القيامة كما هو مذهب المعتزلة كذا سمعت من بعض الثقات وعليه يدل سياق كلام الشيخ من مذهبه أيضا أنهما مع أهاليهما تفنيان, وإن الإيمان هو المعرفة فقط دون الإقرار وأنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا لله تعالى, وإن العباد فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الريح والإنسان مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار كذا في المغرب والكفاية وتسميته إياه كافرا إما باعتبار غلوه في هواه أو على سبيل الشتم, وقالوا بحقية سائر أحكام الآخرة من البعث بعد الموت وقراءة الكتب ووزن الأعمال والصراط والشفاعة كل ذلك مذكور في الفقه الأكبر, على ما نطق به الكتاب والسنة
ـــــــ
1 هو جهم بن صفوان تنسب إليه الجهمية وينسب إليه القول بنص الصفات والجبر وفناء الجنة والنار.(1/22)
وهذا فصل يطول تعداده.
والنوع الثاني علم الفروع وهو الفقه, وهو ثلاثة أقسام: علم المشروع بنفسه والقسم الثاني إتقان المعرفة به وهو معرفة النصوص بمعانيها وضبط
ـــــــ
مثل قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يّس: 79] {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ} [الاسراء: 71] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الانبياء: 47] وقوله عليه السلام: "إن الصراط جسر ممدود على وجه جهنم أو على متن جهنم" 1 "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" 2, وهذا أي النوع الأول, وهو علم التوحيد والصفات وما يتعلق به مما يجب الاعتقاد به. قوله: "والنوع الثاني علم الفروع", وهو الفقه سمي هذا النوع فرعا لتوقف صحة الأدلة الكلية فيه مثل كون الكتاب حجة مثلا على معرفة الله تعالى وصفاته وعلى صدق المبلغ وهو الرسول عليه السلام, وإنما يعرف ذلك من النوع الأول فكان هذا النوع فرعا له من هذا الوجه إذ الفرع على ما قيل هو الذي يفتقر في وجوده إلى الغير, وهو ثلاثة أقسام, أي ثلاثة أجزاء بدليل قوله فإذا تمت هذه الأوجه كان فقها, علم المشروع بنفسه, أي علم الأحكام مثل الحلال والحرام والصحيح والفاسد والواجب والمنهي والمندوب والمكروه, إتقان المعرفة به, أي أحكام العرفان بذلك المشروع, وهو أي ذلك الإتقان هو, معرفة النصوص بمعانيها, أي مع معانيها كقولك دخلت عليه بثياب السفر أي معها واشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معهما أو معناه ملتبسة بمعانيها وكانت الجملة واقعة موقع الحال كما في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] أي ملتبسة بالدهن والمراد من المعاني المعاني اللغوية والمعاني الشرعية التي تسمى عللا, وكان السلف لا يستعملون لفظ العلة, وإنما يستعملون لفظ المعنى أخذا من قوله عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث" 3 أي علل بدليل قوله إحدى بلفظة التأنيث وثلاث بدون الهاء, وضبط الأصول بفروعها أي الأصول المختصة
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الرقاق 8/146 – 147 ومسلم في الإيمان رقم 182, 183.
2 رواه أبو داود في السنة 4/236 والترمذي في صفة القيامة 4/625.
3 أخرجه البخاري في الديات 9/6 ومسلم في القسامة 5/106 والترمذي 4/29 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/382, 428, 444, 465.(1/23)
الأصول بفروعها والقسم الثالث هو العمل به حتى لا يصير نفس العلم مقصودا فإذا تمت هذه الأوجه كان فقيها وقد دل على هذا المعنى أن الله تعالى سمى علم الشريعة حكمة فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] وقد فسر ابن عباس رضي الله
ـــــــ
بهذا النوع مع فروعها مثال ما ذكرنا أن يعرف أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] كناية عن الحدث, فهذا معرفة معناه اللغوي ويعرف أن المعنى الشرعي المؤثر في الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان الحي فإذا أتقن المعرفة بهذا الطريق عرف الحكم في غير السبيلين ومثال ضبط الأصل بفرعه أن يعرف أن الشك لا يعارض اليقين فإذا شك في طهارته وقد تيقن بالحدث وجب عليه الوضوء وبالعكس لا يجب.
والقسم الثالث هو العمل به; لأنه هو المقصود من العلم لا نفسه إذ الابتلاء يحصل به لا بالعلم نفسه ولا يقال إن الشيخ قسم نفس العلم أولا ثم أدخل العمل في قسمة العلم وهو مخالف لحد العلم وحقيقته; لأنا نقول إنما أدخل العمل في التقسيم بالتقييد الذي ذكرناه, وهو أن المراد هو العلم المنجي والنجاة ليست إلا في انضمام العمل إليه إلا أن العمل في النوع الأول بالقلب, وهو الاعتقاد وفي هذا النوع بالجوارح مع أنا لا نسلم أن دخول العمل في التقسيم يضر به لأنك إذا فسرت الحيوان مثلا بأنه حساس متحرك بالإرادة وقسمته بأنه أنواع إنسان وفرس وكذا وكذا ثم فسرت الإنسان بأنه حيوان ناطق فدخول النطق في التقسيم لا يضر به, وإن كان مغايرا للحيوانية حقيقة لوجود الحيوانية بكمالها مع زيادة قيد فكذا الشيخ قسم العلم بالنوعين ثم فسر أحد النوعين وهو الفقه بأنه العلم المنضم إليه العمل فكان صحيحا مستقيما ثم استدل على ما ادعى فقال, وقد دل على هذا المعنى أي على أن الفقه هو الوجوه الثلاثة أنه تعالى سماه حكمة والحكمة لغة اسم للعلم المتقن والعمل به ألا ترى أن ضده السفه, وهو العمل على خلاف موجب العقل وضد العلم الجهل وذكر في بعض النسخ الحكيم هو الذي يمنع نفسه عن هواها وعن القبائح مأخوذ من حكمة الفرس, وهي التي تمنعه عن الحدة والجموحة وذكر في الكشاف والحكيم عند الله تعالى هو العالم العامل وفي عين المعاني كنهها ما يرد العقل من الخوض في معاني الربوبية إلى المحافظة على مباني العبودية فلأن يعود العقل معترفا بقصوره أحمد له من أن يتهم بإربه في أموره والتنكير في قوله تعالى: {خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 4] تنكير تعظيم كأنه قال فقد أوتي أي خير(1/24)
عنهما الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] أي بالفقه والشريعة والحكمة: في اللغة هو العلم والعمل فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم وهو الفقه دليل عليه, وهو العلم بصفة الإتقان مع اتصال العمل به قال الشاعر:
أرسلت فيها قرما ذا إقحام ... طبا فقيها بذوات الإبلام
سماه فقيها لعلمه بما يصلح وبما لا يصلح والعمل به فمن حوى هذه الجملة كان فقيها مطلقا وإلا فهو فقيه من وجه دون وجه وقد ندب الله تعالى
ـــــــ
كثير والموعظة الحسنة هي التي لا تخفى على من تعظه أنك تناصحه بها وتقصد نفعه فيها ووصف الموعظة بالحسن دون الحكمة; لأن الموعظة ربما آلت إلى القبح بأن وقعت في غير موضعها ووقتها. قال ابن مسعود رضي الله عنه كان النبي عليه السلام يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة1 فأما الحكمة فحسنة أينما وجدت إذ هي عبارة عن القول الصواب والفعل الصواب. قوله: "قال الشاعر", وهو رؤبة2 أرسلت فيها أي في النوق وكلمة في لبيان موضع الإرسال ومحلها كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} [الصافات:72] لا لتعدية الإرسال إلى المفعول الثاني, فإنه تعدى إليه بإلى, والقرم البعير المكرم الذي لا يحمل عليه ولا يذلل ولكن يكون للفحلة ومنه قيل للسيد قرم تشبيها له به, والإقحام إلقاء النفس في الشدة وفي تاج المصادر الإقحام در آوردن جيزي در جيزي بعنف والطب هو الماهر بالضراب والأبلام بفتح الهمزة جمع بلمة يقال ناقة بها بلمة شديدة إذا اشتدت ضبعتها أي رغبتها إلى الفحل وبكسر الهمزة مصدر أبلمت الناقة إذا ورم حياؤها من شدة الضبعة ووجه التمسك بالبيت هو ما ذكر الشيخ أنه لما وجد فيه العلم والعمل أطلق عليه اسم الفقيه فثبت أن الفقه اسم للجميع, فمن حوى أي جمع. هذه الجملة أي الوجوه الثلاثة, كان فقيها مطلقا أي كاملا تاما, وإلا أي, وإن يجمعها واقتصر على وجه أو وجهين, فهو فقيه من وجه دون وجه لوجود بعض أجزاء الحقيقة دون البعض ويسمي الشيخ هذا النوع حقيقة قاصرة قوله: "وقد ندب الله تعالى إليه" أي دعا يجوز أن يكون ابتداء كلام في بيان فضيلة الفقه ويجوز أن يكون من تتمة الدليل على أن الفقه هو العلم والعمل. وبيانه أن الشرع قد ورد بفضائل الفقه مطلقا في غير
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في العلم باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة وباب جعل لأهل العلم أياما معلومة وأخرجه مسلم في المنافقين باب الاقتصاد في الموعظة والترمذي في الأدب باب ما جاء في الفصاحة والبيان.
2 هو رؤبة بن العجاج البصري التميمي شاعر راجز توفي سنة 145 هـ.(1/25)
إليه بقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وصفهم بالإنذار وهو الدعوة إلى العلم
ـــــــ
آية وحديث, ومعلوم أن تلك الفضائل منتفية عنه عند تجرده عن العمل بدليل النصوص المطلقة الواردة في حق العلماء السوء مثل قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] وقوله عز اسمه: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] وقوله جل ذكره: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وقوله عليه السلام: "ويل للجاهل مرة وللعالم سبعين مرة" وما روي أنه عليه السلام سئل عن شرار الخلق فقال "اللهم غفرا حتى كرر عليه" فقال هم العلماء السوء إلى غير ذلك من الأحاديث فثبت أن مطلقه واقع على العلم والعمل جميعا توضيحه أن قوله عليه السلام: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" 1 ورد فيمن يجمع بين العلم والعمل كما أشار الشيخ إليه فأما من أقبل على العلم وترك العمل به فهو سخرة الشيطان وضحكته فكيف يكون مثله أشد عليه من ألف عابد وذكر الإمام الغزالي2 رحمه الله في بيان تبديل أسامي العلوم أن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على دقائقها وعللها واسم الفقه في العصر الأول كان منطلقا على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا قال الله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] والإنذار بهذا النوع من العلم دون تفاريع السلم والإجارة وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله" وروي أيضا موقوفا عن أبي الدرداء رضي الله عنه ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك أمك فريقد وهل رأيت فقيها بعينك إنما الفقيه هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بذنبه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن أعراض المسلمين فكان اسم الفقه متناولا لهذه العلوم وللفتاوى أيضا فخص بالفتاوى لا غير فتجرد الناس به لأغراض الجاه والاستتباع استرواحا بما جاء في فضيلة الفقه.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] اللام لتأكيد النفي ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤد إلى مفسدة لوجب لوجوب التفقه على الكافة; ولأن طلب العلم فريضة.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في العمل 5/48 وابن ماجة في المقدمة 1/81.
2 هو أبو حامد الغزالي محمد بن محمد حجة الإسلام الفقيه المتكلم الفيلسوف الصوفي الأصولي 450 – 505 هـ.(1/26)
................................................................................................
على كل مسلم ومسلمة {فَلَوْلا نَفَرَ} [التوبة: 122] أي فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة يكفونهم النفير {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة وتؤمونه من المقاصد الركيكة من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا وفشو داء الضرائر بينهم وانقلاب حمالق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر أو شرذمة جثوا بين يديه وتهالكه على أن يكون موطئ العقب دون الناس كلهم فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل: {لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص: 83] {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحا ووجه آخر, وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك وبعدما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعا عن استماع الوحي والتفقه في الدين فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة أعظم أثرا من الجهاد بالسيف وقوله {لِيَتَفَقَّهُوا} الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه كذا في الكشاف ولا يقال هذه الآية على الوجه الثاني معارضة بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] لأنا نقول هذه الآية ناسخة للآيات التي توجب نفر الكل. وهو قول الحسن وأبي بكر الأصم أو هي نازلة حال كثرة المؤمنين وتلك في حال قلتهم أو هي محمولة على غير حالة هجوم العدو وتلك على حالة الهجوم إليه أشير في شرح التأويلات والإنذار هو الدعوة إلى العلم والعمل لأن المنذر إذا لم يعمل بما ينذر به لا يلتفت إليه ولا إلى كلامه أصلا كمن أشار إلى طعام لذيذ وقال لا تأكلوه, فإنه مسموم ثم أخذ في أكله لا يلتفت إلى كلامه أصلا فثبت أنه لا بد للإنذار من العمل به وقد وصف الله تعالى الفقهاء بالإنذار بقوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} فلا بد من أن يكونوا عالمين بما أنذروا به فثبت أن الفقيه هو العالم العامل والفقه هو العلم والعمل ألا ترى أنه تعالى ذم أقواما على الإنذار بدون العمل بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:+(1/27)
والعمل به وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" 1 وقال: "إذا أراد الله بعبد خيرا يفقهه في الدين" 2 وأصحابنا هم السابقون في هذا الباب ولهم الرتبة العليا والدرجة القصوى في علم الشريعة
ـــــــ
من الآية44] وبقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] وقد حرضهم ههنا عليه فثبت أنه هو الدعوة إلى العلم والعمل جميعا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي الناس أكرم قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا ليس عن هذا نسألك قال: "أكرم الناس يوسف ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" قالوا ليس عن هذا نسألك قال: "فعن معادن العرب تسألونني" قالوا نعم قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" فقه الرجل بالكسر فقها فهم وفقه فقاهة إذا صار فقيها قوله: "وأصحابنا" أي أصحاب مذهبنا وهم أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه, هم السابقون أي المتقدمون, في هذا الباب أي الفقه ذكر ضمير الفصل ليدل على نوع تخصيص وحصر أي هم المختصون بالسبق فيه لا غيرهم; لأنه لم يتقدمهم أحد في تخريج المسائل وتصحيح الأجوبة ولم يبلغ غايتهم في ترتيب الفروع على الأصول وبذل المجهود في تلك, ولهم الرتبة العليا أي المنزلة التي لا منزلة فوقها والعليا والقصوى تأنيث الأعلى والأقصى, وكان القياس أن تقلب واو القصوى ياء كواو العليا; لأنها من الصفات الجارية مجرى الأسماء وواو فعلى تقلب ياء في مثل هذا الموضع إلا أنها جاءت بالواو أيضا في بعض اللغات على سبيل الشذوذ كما جاءت بالياء قال الإمام عبد القاهر3, وإذا كانت اللام واوا في فعلى, فإنها تقلب في الصفات الجارية مجرى الأسماء إلى الياء من غير علة مثل الدنيا والعليا والقصيا وقد قالوا القصوى فجاء على الأصل كما جاء قود واستحوذ وذكر في الكشاف القصوى كالقودى في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر كما كثر استعمال استصوب مع مجيء استصاب وأغليت مع غالت, الرباني في المتأله العارف بالله تعالى كذا في الصحاح وفي الكشاف الرباني الشديد التمسك بدين الله وطاعته وقيل هو الذي يرب الناس بصغار العلوم قبل كباره
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الأنبياء عن أبي هريرة 4/170 ومسلم في الفضائل 7/103 وأخرجه الإمام أحمد 4/101.
2 حديث "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن معاوية والترمذي وأحمد عن ابن عباس وابن ماجة عن أبي هريرة فيض القدير 6/242.
3 هو على الأرجح عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني أبو بكر النحوي البياني المتكلم المفسر المتوفى سنة 471 هـ.(1/28)
وهم الربانيون في علم الكتاب والسنة وملازمة القدوة وهم أصحاب الحديث والمعاني أما المعاني فقد سلم لهم العلماء حتى سموهم أصحاب الرأي والرأي
ـــــــ
وقيل هو الذي يرب الناس بعلمه وعمله بعمله, وهو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للتعظيم كاللحياني والنوراني وقد جاء ربى بفتح الراء وكسرها وضمها والقياس هو الفتح والباقي من تغيرات النسب, والقدوة من الاقتداء كالأسوة من الايتساء لفظا ومعنى ويقال فلان قدوة أي يقتدى به يعني أنهم كانوا يلازمون طريق الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في أخذ الأحكام من الكتاب ثم من السنة ثم من الإجماع ثم القياس ويسلكون نهجهم ولا يخترعون من عند أنفسهم ما يخالف طريقتهم في استخراج الأحكام واستنباطها. قوله:
"وهم أصحاب الحديث والمعاني" ولما طعن الخصوم في أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله أنهم كانوا أصحاب الرأي دون الحديث يعنون به أنهم وضعوا الأحكام باقتضاء آرائهم فإن وافق الحديث رأيهم قبلوه وإلا قدموا رأيهم على الحديث ولم يلتفتوا إليه رد عليهم طعنهم بقوله وهم أصحاب الحديث. وقد حكي أن الشيخ المصنف رحمه الله ناظر إمام الحرمين1 في ألوان تحصيله ببخارى بإشارة أخيه شيخ الأنام صدر الإسلام أبي اليسر2 وأفحمه فلما تفرقوا قال إمام الحرمين إن المعاني قد تيسرت لأصحاب أبي حنيفة ولكن لا ممارسة لهم بالحديث فبلغ الشيخ فرده في هذا التصنيف وقال وهم أصحاب الحديث والمعاني أما المعاني فقد سلم لهم العلماء أي سلموها لهم إجمالا وتفصيلا أما إجمالا; فلأنهم سموهم أصحاب الرأي تعبيرا لهم بذلك, وإنما سموهم بذلك لإتقان معرفتهم بالحلال والحرام واستخراجهم المعاني من النصوص لبناء الأحكام ودقة نظرهم فيها وكثرة تفريعهم عليها وقد عجز عن ذلك عامة أهل زمانهم فنسبوا أنفسهم إلى الحديث وأبا حنيفة وأصحابه إلى الرأي والرأي هو نظر القلب يقال رأى رأيا بدل ديد ورأى رؤيا بغير تنوين بخواب ديد ورأى رؤية بجشم ديد وفي المغرب الرأي ما ارتأه الإنسان واعتقده وأما تفصيلا فما روي عن مالك بن أنس أنه كان يقول اجتمعت مع أبي حنيفة وجلسنا أوقاتا وكلمته في مسائل كثيرة فما رأيت رجلا أفقه منه ولا أغوص منه في معنى وحجة وروي أنه كان ينظر في كتب أبي حنيفة رحمهما الله
ـــــــ
1 إمام الحرمين هو: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن عبد الله الجويني أحد كبار فقهاء الشافعية وعلماء الكلام والأصول ولد سنة 419 هـ وتوفي سنة 478 هـ.
2 هو أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي أخو البزدوي صاحب الأصول.(1/29)
اسم للفقه الذي ذكرنا وهم أولى بالحديث أيضا ألا ترى أنهم جوزوا نسخ
ـــــــ
وتفقه بها وعن حرملة أنه سمع الشافعي رحمه الله يقول من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة رحمه الله وعن أبي عبيد القاسم بن سلام1 عن الشافعي أنه قال من أراد الفقه فليلزم أصحاب أبي حنيفة رحمه الله والله ما صرت فقيها إلا باطلاعي في كتب أبي حنيفة لو لحقته قد لازمت مجلسه وبلغ ابن سريج2 أن رجلا وقع في أبي حنيفة فدعاه وقال يا هذا أتقع في رجل سلم له جميع الأمة ثلاثة أرباع العلم. وهو لا يسلم لهم الربع قال كيف ذاك فقال العلم قسمان سؤال وجواب وأنه وضع المسائل فسلم له النصف ثم أجاب فيها ووافقوه في النصف أو أكثر فسلم له الربع الآخر, وإنما خالفوه في الباقي, وهو لا يسلم لهم ذلك فبقي الربع متنازعا فيه بينه وبين الكل.
قوله: "وهم أولى بالحديث" أي بأن يكونوا من أصحاب الحديث أيضا تفصيلا وإجمالا أما تفصيلا فلما روي عن حي بن آدم أنه قال إن في الحديث ناسخا ومنسوخا كما في القرآن, وكان النعمان جمع حديث أهل بلده كله فنظر إلى آخر ما قبض عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ به فكان فقيها وعن نعيم بن عمرو قال سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: عجبا للناس يقولون إني أقول بالرأي وما أفتي إلا بالأثر وعن النضر بن محمد قال ما رأيت أحدا أكثر أخذا للآثار من أبي حنيفة وعن يحيى بن نصر قال سمعت أبا حنيفة يقول عندي صناديق من الحديث ما أخرجت منها إلا اليسير الذي ينتفع به.
وعن أحمد بن يونس قال سمعت أبي يقول كان أبو حنيفة شديد الاتباع للأحاديث الصحاح, وعن الفضيل بن عياض قال كان أبو حنيفة فقيها معروفا بالفقه مشهورا بالورع واسع المال صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار كثير الصمت هاربا من مال السلطان, وكان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه, وإن كان فيها قول عن الصحابة والتابعين أخذ به وإلا قاس فأحسن القياس, وقيل لعبد الله بن المبارك المراد من الحديث الذي جاء: "أصحاب الرأي أعداء السنة" أبو حنيفة وأمثاله فقال سبحان الله أبو حنيفة يجهد جهده أن يكون عمله على السنة فلا يفارقها في شيء منه فكيف يكون من أعادي السنة إنما هم أهل الأهواء والخصومات الذين يتركون الكتاب والسنة ويتبعون أهواءهم. وأما إجمالا فما ذكر الشيخ في الكتاب, والمرسل المطلق, وهو في اصطلاح
ـــــــ
1 هو أبو عبيد القاسم بن سلام 150 – 222 هـ المحدث الفقيه المقريء.
2 هو القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي كان من عظماء الشافعية وأئمة المسلمين ولد سنة 249 توفي سنة 306 هـ.(1/30)
الكتاب بالسنة لقوة منزلة السنة عندهم وعملوا بالمراسيل تمسكا بالسنة والحديث ورأوا العمل به مع الإرسال أولى من الرأي, ومن رد المراسيل فقد رد كثيرا من السنة وعمل بالفرع بتعطيل الأصل وقدموا رواية المجهول على القياس وقدموا قول الصحابي على القياس وقال محمد1 رحمه الله تعالى في كتاب أدب القاضي: لا يستقيم الحديث إلا بالرأي ولا يستقيم الرأي إلا
ـــــــ
المحدثين ما يرويه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر من بينه وبين الرسول كما يفعل ذلك سعيد بن المسيب والنخعي والحسن, والمراسيل اسم جمع له كالمناكير للمنكر كذا في المغرب, تمسكا بالسنة والحديث, السنة أعم من الحديث; لأنها تتناول الفعل والقول والحديث مختص بالقول. وقيل إنما جمع بينهما لئلا يتوهم أن ذلك العام قد خص منه فأكده بذكر الحديث والأظهر أنهما مترادفان ههنا, ورأوا أي اعتقدوا العمل به أي بالمرسل مع صفة الإرسال, أولى من الرأي, أي من العمل به, كثيرا من السنة, فإنهم جمعوا المراسيل فبلغ دفترا قريبا من خمسين جزءا أو أقل أو أكثر, وعمل بالفرع, وهو القياس, بتعطيل الأصل, أي ملتبسا به يعني عمل بالقياس معطلا للأصل, وهو الحديث ومن شرط صحة العمل بالفرع أن يكون مقررا للأصل لا معطلا له, وقدموا رواية المجهول, وهو الذي لم يشتهر برواية الحديث ولم يعرف إلا برواية حديث أو حديثين, على القياس, حتى قدموا رواية معقل بن سنان على القياس في مسألة المفوضة وقدموا قول الصحابي لاحتمال السماع من الرسول على ما يعرف كل واحد مما ذكرنا في موضعه من أقسام السنة وأبواب النسخ, وإذا أثبت ما ذكرنا من مذهبهم كيف يظن بهم أنهم كانوا يقدمون الرأي على الحديث الصحيح الثابت المتن ومع ذلك قدموا قول الصحابي ورواية المجهول على القياس فلو زعم أحد أنهم خالفوا الحديث في صورة كذا وكذا فذلك لمعارضة حديث آخر ثابت عندهم يؤيده القياس أو لدلالة آية أو نحو ذلك على ما بين في الكتب الطوال فأما أن يكون الرأي عندهم مقدما على السنة كما ظنه الطاعن فكلا قوله: "لا يستقيم الحديث إلا بالرأي" أي باستعمال الرأي فيه بأن يدرك معانيه الشرعية التي هي مناط الأحكام ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث أي لا يستقيم العمل بالرأي والأخذ به إلا بانضمام الحديث إليه, مثال الأول أنه سئل واحد من أهل الحديث عن صبيين ارتضعا لبن شاة هل ثبتت بينهما حرمة الرضاع فأجاب بأنها ثبتت عملا بقوله عليه السلام: "كل
ـــــــ
1 هو الإمام المجتهد صاحب أبي حنيفة رضي الله عنه محمد بن فرقد الشيباني ولد سنة 132 هـ توفي سنة 189 هـ.(1/31)
بالحديث حتى أن من لا يحسن الحديث أو علم الحديث ولا يحسن الرأي فلا يصلح للقضاء والفتوى وقد ملأ كتبه من الحديث, ومن استراح بظاهر الحديث عن بحث المعاني ونكل عن ترتيب الفروع على الأصول انتسب إلى ظاهر الحديث, وهذا الكتاب لبيان النصوص بمعانيها وتعريف الأصول
ـــــــ
صبيين اجتمعا على ثدي واحد حرم أحدهما على الآخر" 1 فأخطأ لفوات الرأي. وهو أنه لم يتأمل أن الحكم متعلق بالجزئية والبعضية, وذلك إنما يثبت بين الآدميين لا بين الشاة والآدمي, وسمعت عن شيخي رحمه الله أنه قال كان واحد من أصحاب الحديث يوتر بعد الاستنجاء عملا بقوله عليه السلام من استنجى فليوتر, ونظير الثاني أن الرأي يقتضي أن لا تنتقض الطهارة بالقهقهة في الصلاة; لأنها ليست بخارجة نجسة كما هي ليست بحدث خارج الصلاة لكن ثبت بحديث الأعرابي أنها حدث فوجب تركه به, وكذلك الاستسقاء في الصوم لا يكون ناقضا له بمقتضى الرأي; لأنه خارج وليس بداخل والصوم إنما يفسد مما يدخل لكن ثبت بالحديث أنه مفسد للصوم فيترك الرأي به فثبت أن كل واحد لا يستقيم بدون الآخر, ولا يتخالجن في وهمك ما وقع في وهم بعض الطلبة أن قوله لا يستقيم الحديث إلا بالرأي ولا الرأي إلا بالحديث مقتض للدور فيكون باطلا; لأن معنى الدور أن يجعل كل واحد منهما في وجوده مفتقرا إلى الآخر كما إذا قيل لا يوجد الخمر إلا بالعنب ولا العنب إلا بالخمر فيبطل وليس الأمر كذلك ههنا; لأن الرأي ليس بمفتقر في وجوده إلى الحديث ولا الحديث إلى الرأي ولكن افتقار كل واحد إلى الآخر في أمر آخر هو إثبات الحكم الشرعي في الحادثة كعلة ذات وصفين يفتقر كل وصف إلى الآخر في إثبات الحكم وليس هذا من الدور في شيء. وهو كما يقال لا يصير السكر سكنجبينا إلا بالخل ولا يصير الخل كذلك إلا بالسكر فكان توقف كل واحد منهما على الآخر في صيرورته سكنجبينا لا في وجوده فكذا ههنا فصار معنى الكلام لا يستقيم الحديث إلا بالرأي لإثبات الحكم الشرعي ولا الرأي إلا بالحديث لإثبات الحكم أيضا وليس فيها دور كما ترى, يقال استراح فلان بزيد عن عمرو أي طلب راحة نفسه بالاشتغال بزيد والإعراض عن عمرو ومنه الحديث: "مستريح أو مستراح منه" , فمن استراح بظاهر الحديث, أي اكتفى به وأعرض عن بحث المعاني, ونكل عن ترتيب الفروع, أي أعرض من نكل عن العدو وعن اليمين إذا جبن.
لبيان النصوص بمعانيها, أي مع معانيها الدالة على الأحكام مثل الخصوص
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الوضوء 1/229 ومسلم في الطهارة رقم 237 ومالك في الموطأ 1/190.(1/32)
بفروعها على شرط الإيجاز والاختصار إن شاء الله تعالى وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب حسبنا الله ونعم الوكيل.
اعلم أن أصول الشرع ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع والأصل الرابع القياس بالمعنى المستنبط من هذه الأصول.
ـــــــ
والعموم والحقيقة والمجاز إلى تمام الأقسام المذكورة, وتعريف الأصول بفروعها, يعني بين فيه الأصول ثم بنى على كل أصل فروعه مما يليق ذكره فيه, على شرط الإيجاز والاختصار, قد صنف الشيخ في أصول الفقه كتابا أطول من هذا الكتاب وبسط فيه الكلام بسطا, وكان في مطالعة شيخي رحمه الله فوعد أن هذا التصنيف أوجز منه, وما توفيقي, من باب إضافة الصدر إلى المفعول القائم مقام الفاعل, فإن التوفيق ههنا مصدر وفق المبني للمفعول لا مصدر وفق أي وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما قصدت من تصنيف هذا الكتاب ووقوعه موافقا لرضاء الله إلا بمعونته وتأييده والمعنى أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه وطلب منه التأييد في ذلك, والتوفيق جعل الشيء موافقا للشيء وتوفيق الله تعالى للعبد أن يجعل أفعاله الظاهرة موافقة لأوامره مع بقاء اختياره فيها وأن نيات قلبه موافقة لما يحبه, إليه أشير في حصص الأتقياء, والتوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والاعتماد عليه مع رعاية الأسباب, والإنابة الإقبال إليه. وقيل التوبة الرجوع عن المعصية إلى الله والأوبة الرجوع عن الطاعة إليه بأن لا يعتمد على طاعته بل على فضله وكرمه والإنابة الرجوع إليه في جميع الأحوال فكانت أعم من الأوليين, وفي تقديم عليه وإليه على الفعل أشار إلى التخصيص كما في إياك نعبد أي أخصه بتفويض الأمر إليه والاعتماد عليه وأخصه بالإقبال إليه في جميع الأمور والأحوال.
قوله: "اعلم أن أصول الشرع ثلاثة إلى قوله من هذه الأصول" اعلم كلمة تذكر في ابتداء الكلام تنبيها للسامع على أن ما يلقى إليه من القول كلام يلزم حفظه ويجب ضبطه فيتنبه السامع له ويصغي إليه ويحضر قلبه وفهمه ويقبل عليه بكليته ولا يضيع الكلام فحسن موقعه في مثل هذا الموضع كما حسن موقع واستمع في قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [قّ: 41], وهو كما يروى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "سبعة أيام لمعاذ رضي الله عنه اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك" , والأصول ههنا الأدلة إذ أصل كل علم ما يستند إليه تحقق ذلك العلم ويرجع فيه إليه ومرجع الأحكام إلى هذه الأدلة, والشرع الإظهار في اللغة, وهو إما بمعنى الشارع كالعدل والزور بمعنى العادل والزائر فيكون المعنى أدلة الشارع أي الأدلة التي نصبها الشارع على المشروعات أربعة ويكون(1/33)
...............................................................................................
اللام للعهد والمقصود من الإضافة تعظيم المضاف كقولك بيت الله وناقة الله, أو بمعنى المشروع كالضرب بمعنى المضروب والخلق بمعنى المخلوق فيكون المعنى أدلة المشروع أي الأدلة التي تثبت المشروعات أربعة ويكون اللام للجنس والمقصود من الإضافة تعظيم المضاف إليه كقولك أستاذي فلان وكقولنا الله إلهنا ومحمد نبينا أي المشروعات التي تثبت بمثل هذه الأدلة معظمة يلزم رعايتها ويجب تلقيها بالقبول. ثم المشروع يتناول العلل والأسباب والشروط كما يتناول الأحكام فإن كان المراد منه الجميع ومن المعلوم أن القياس لا مدخل له في إثبات ما سوى الأحكام فالمعنى مجموع الأدلة التي تثبت بها المشروعات أربعة من غير نظر إلى أن كل واحد يثبت الجميع أو البعض, وإن كان المراد منه الأحكام لا غير, وهو الظاهر فالمعنى الأدلة التي تثبت بكل واحد منها الأحكام أربعة, أو هو اسم لهذا الدين المشتمل على الأصول والفروع وغيرهما كالشريعة يقال شرع محمد كما يقال شريعته, وكأنه إنما عدل عن لفظ الفقه إلى لفظ الشرع مخالفا لسائر الأصوليين; لأن الإضافة تفيد الاختصاص, وهذه الأدلة سوى القياس لا تختص بالفقه بل هي حجة فيما سواه من أصول الدين ولفظة الشرع أعم ويطلق على أصول الدين كإطلاقه على فروعه قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الآية فيكون إضافة الأصول إلى الشرع أعم فائدة وأكثر تعظيما للأصول, ثم قدم الكتاب على الجميع; لأنه في الشرع أصل مطلق من كل وجه وبكل اعتبار, وأعقبه بالسنة; لأن كونها حجة ثابت بالكتاب كما ستعرف, وأخر الإجماع عنهما لتوقف موجبيته عليهما ولكن الثلاثة مع تفاوت درجاتها حجج موجبة للأحكام قطعا ولا تتوقف في إثبات الأحكام على شيء فقدمت على القياس الذي يتوقف في إثبات الحكم على المقيس عليه, ولهذا أفرده بالذكر بقوله والأصل الرابع; لأنه لما توقف في إثبات الحكم على المقيس عليه ولم يمكن إثبات الحكم به ابتداء كان فرعا له. وإلى هذه الفرعية أشار بقوله المستنبط من هذه الأصول, وإن كان فيه احتراز عن القياس العقلي أيضا, ولما لم يكن الحكم ثابتا في محل القياس بدونه كان أصلا للحكم وإليه أشار بقوله والأصل الرابع فلما كان أصلا من وجه دون وجه لا يدخل تحت المطلق; لأنه يتناول الكامل الذي هو موجود من كل وجه أو أفرده بالذكر; لأنه ظني في الأصل وقطعيته بعارض وما سواه من الأصول على العكس من ذلك وبعد كونه ظنيا أثره في تغيير وصف الحكم من الخصوص إلى العموم لا في إثبات أصله وأثر ما سواه من الأصول في إثبات أصل الحكم; فلهذا وجب تمييزه عنها, والاستنباط استخراج الماء من العين يقال نبط الماء من العين إذا خرج(1/34)
...............................................................................................
والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر وسمي النبط بهذا الاسم لاستخراجهم مياه القنى فاستعير لما يستخرجه الرجل بفرط ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم فكان في العدول عن لفظ الاستخراج إلى لفظ الاستنباط إشارة إلى الكلفة في استخراج المعنى من النصوص التي بها عظمت أقدار العلماء وارتفعت درجاتهم, فإنه, لولا المشقة ساد الناس كلهم, وإلى أن حياة الروح والدين بالعلم والغوص في بحاره كما أن حياة الجسد والأرض بالماء قال تعالى: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9] {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9]: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [قّ: 11]. وقال جل ذكره {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أي كافرا فهديناه, وإليه وقعت الإشارة النبوية في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "الناس كلهم موتى إلا العالمون" الحديث.
ثم مثال الاستنباط من الكتاب انتقاض الطهارة في الخارج من غير السبيلين بكونه خارجا نجسا قياسا على الخارج من السبيلين الثابت حكمه بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43], ومن السنة جريان الربا في الجص والنورة والحديد والصفر بالقدر والجنس قياسا على الأشياء الستة المنصوص عليها في قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" الحديث, ومن الإجماع سقوط تقوم منافع المغصوب بعلة أنها ليست بمحرزة قياسا على سقوط تقوم منافع البدل في ولد المغرور الثابت بالإجماع; لأنهم لما أوجبوا قيمة الولد وسكتوا عن تقوم منافع البدن صار إجماعا منهم على سقوط تقومها; لأن السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان, قد قيل في وجه انحصار الأصول على الأربعة أن الحكم إما أن يثبت بالوحي أو بغيره والأول إما أن يكون متلوا, وهو الذي تعلق بنظمه الإعجاز وجواز الصلاة وحرمة القراءة على الحائض والجنب أو لم يكن والأول هو الكتاب والثاني هو السنة, وإن ثبت بغيره فإما أن يثبت بالرأي الصحيح أو بغيره والأول إن كان رأي الجميع فهو الإجماع, وإن لم يكن فهو القياس والثاني الاستدلالات الفاسدة. وأفعال النبي داخلة فيها, وبعض أصحاب الشافعي حصرها بوجه آخر فقال الدليل الشرعي إما أن يكون واردا من جهة الرسول أو لم يكن والأول إن كان متلوا فهو الكتاب وإن لم يكن فهو السنة ويدخل فيها أقوال النبي وأفعاله, والثاني إن شرط فيه عصمة من صدر منه فهو الإجماع, وإن لم يشترط فهو القياس, ولكن الأولى أن يضاف ذلك إلى الاستقراء الصحيح لأن الدلائل الموجبة للأصالة لم تقم إلا على هذه الأربعة; لأن العقل يوجب حصرها على الأربعة.(1/35)
الدليل الأول: الكتاب
أما الكتاب فالقرآن المنزل على رسول الله المكتوب في المصاحف
ـــــــ
قوله: "أما الكتاب فالقرآن" اعلم أن الحد ونعني به المعرف للشيء لفظي ورسمي وحقيقي.
1 - فاللفظي هو ما أنبأ عن الشيء بلفظ أظهر عند السائل من اللفظ المسئول عنه مرادف له كقولنا العقار الخمر والغضنفر الأسد لمن يكون الخمر والأسد أظهر عنده من العقار والغضنفر.
2 - والرسمي هو ما أنبأ عن الشيء بلازم له مختص به كقولك الإنسان ضاحك منتصب القامة عريض الأظفار بادي البشرة.
3 - والحقيقي ما أنبأ عن ماهية تمام الشيء وحقيقته كقولك في جسد الإنسان هو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق, فالأولان مؤنتها خفيفة إذ المطلوب منهما تبديل لفظ بلفظ أو ذكر وصف يتميز به المحدود عن غيره. وأما الحقيقي فمن شرائطه أن يذكر جميع أجزاء الحد من الجنس والفصول وأن يذكر جميع ذاتياته بحيث لا يشذ واحد وأن يقدم الأعم على الأخص وأن لا يذكر الجنس البعيد مع وجود الجنس القريب وأن يحترز عن الألفاظ الوحشية الغريبة والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة وأن يجتهد في الإيجاز فإن أتى بلفظ مستعار أو مشترك وعرف مراده بالتصريح أو بالقرينة فلا يستعظم ذلك إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات إذ هو المقصود وغيره تزيينات وتحسينات فلا يبالي بتركها لكن من شرط الجميع الاطراد. وهو أنه متى وجد الحد وجد المحدود والانعكاس وهو أنه إذا عدم الحد عدم المحدود; لأنه لو لم يكن مطردا لما كان مانعا لكونه أعم من المحدود ولو لم يكن منعكسا لما كان جامعا لكونه أخص من المحدود وعلى التقديرين لا يحصل التعريف, إذا عرف هذا فنقول ما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى ليس بحد حقيقي سواء أراد به تعريف مجموع الكتاب من حيث هو مجموع أو تعريف ما يطلق عليه لفظ الكتاب في الشرع حقيقة أو مجازا حتى دخل فيه الكل والبعض; لأنه تعرض فيه للكتابة في المصحف والنقل وهما من العوارض ألا ترى(1/36)
المنقول عن النبي عليه السلام نقلا متواترا بلا شبهة, وهو النظم والمعنى
ـــــــ
في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان قرآنا بدون هذين الوصفين ولم يتعرض للإعجاز وهو معنى ذاتي لهذا الكتاب المحدود.
ثم قيل هو حد رسمي وأحسن الحدود الرسمية ما وضع فيه الجنس الأقرب وأتم باللوازم المشهورة فلا جرم قال فالقرآن وهو مصدر كالقراءة قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18], أي قراءته وأنه بمعنى المقروء ههنا فيتناول جميع ما يقرأ من الكتب السماوية وغيرها, فاحترز بقوله المنزل عن غير الكتب السماوية وعن الوحي الذي ليس بمتلو; لأن المراد من المنزل ما أنزل نظمه ومعناه والوحي الذي ليس بمتلو لم ينزل إلا معناه, وبقوله على رسول الله عما أنزل على غيره من الأنبياء عليهم السلام من التوراة والإنجيل والزبور أو نحوها. وبقوله المكتوب في المصاحف عما نسخت تلاوته وبقيت أحكامه مثل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله, وبقوله المنقول عنه نقلا متواترا عما اختص بمثل مصحف أبي1 وغيره مما نقل بطريق الآحاد نحو قوله: فعدة من أيام أخر متتابعات, وبقوله بلا شبهة عما اختص بمثل مصحف ابن مسعود رضي الله عنه مما نقل بطريق الشهرة, وهذا على قول الجصاص2 ظاهر, فإنه جعل المشهور أحد قسمي المتواتر وعلى قول غيره يكون قوله نقلا متواترا احترازا عنهما وقوله بلا شبهة تأكيدا, وهذا الموضع صالح للتأكيد لقوة شبه المشهور بالمتواتر.
فعلى هذا القول يكون هذا تعريف الكتاب بالمعنى الثاني فيدخل فيه الكل والبعض, وإنما لم يتعرض للإعجاز; لأنه يدل على صدق الرسول لا على كونه كتاب الله تعالى إذ يتصور الإعجاز بما ليس بكلام الله تعالى إليه أشير في التقويم; ولأن بعض الآية ليس بمعجز, وهو من الكتاب كذا قيل; ولأن أصالته للأحكام وكونه حجة فيه لا يتعلق بصفة الإعجاز, وإنما يتعلق بما ذكر من الأوصاف.
وقيل هو حد لفظي; لأن القرآن اسم علم للمنزل على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي المتلو كالتوراة اسم للمنزل على موسى والإنجيل اسم للمنزل على عيسى عليهما السلام قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2], والدليل عليه ما ذكر في الميزان أما الكتاب فهو المسمى بالقرآن وأنه. وإن أطلق على المعنى القائم بذات الله تعالى بالاشتراك
ـــــــ
1 هو أبي بن كعب الصحابي الجليل سيد القراء شهد العقبة وبردرا.
2 هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص من فقهاء الحنفية توفي سنة 370 هـ.(1/37)
................................................................................................
أو بطريق المجاز, وهو المراد من قولنا القرآن غير مخلوق لكنه من هذا الإطلاق أوضح من لفظ الكتاب; لأنه لا يطلق إلا على هذين المعنيين بخلاف الكتاب; فلهذا فسره به, ثم قيده بالمنزل على رسول الله احترازا عن المعنى القائم بالذات وبالمكتوب احترازا عن المنسوخ تلاوته لا عن الوحي الغير المتلو كما ظنه البعض; لأنه بداخل ليجب الاحتراز عنه والباقي على ما فسرنا فعلى هذا الطريق المنزل على الرسول قيد واحد بخلاف الطريق الأول ويكون هذا تعريفا للكتاب بالمعنى الأول فلا يدخل فيه البعض; لأنه ليس القرآن حقيقة وعلى قول من جعل اسم القرآن حقيقة للبعض كما هو حقيقة للكل أن يكون هذا تعريفا لفظيا للكتاب بالمعنى الثاني إن كان للمشترك عموم عنده, قال ابن الحاجب1 هذا تحديد للشيء بما يتوقف تصوره على ذلك الشيء; لأن الوجود الذهني للمصحف فرع تصور القرآن فيكون دور أو هو باطل2, قلت ليس الأمر كما زعم; لأن الأصحاف لغة جمع الصحائف في شيء لا جمع صحائف القرآن لا غير يقال أصحف أي جمعت فيه الصحف كذا في الصحاح والمصحف حقيقته مجمع الصحف وعلى هذا لا يتوقف معرفته على تصور القرآن, فإن معرفته كانت ثابتة لهم قبل كتابة القرآن في المصحف بل قبل إنزال القرآن; ولكون معناه معلوما سموه مصحفا; لأنه كان متفرقا في صحائف أولا فجمعوه بين الدفتين وسموه به ويجوز أن يسمى غيره بهذا الاسم إذا وجد هذا المعنى وإني قد رأيت دفاتر من الجامع الصحيح للبخاري مكتوبا عليها المصحف الأول المصحف الثاني فعلى هذا يكون قوله المكتوب في المصاحف احترازا عما لم يكتب من القرآن أصلا إن جاز الاحتراز عنه مثل ما ارتفع بالنسيان قبل الكتابة, فإنه روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة والأولى أن يحمل المصحف على المعهود وأن يمنع لزوم الدور على هذا الحد, فإنه تعريف للكتاب وتوقف وجود المصحف في الذهن على تصور القرآن لا يمنع صحته; لأن القرآن معلوم عند السامع متصور في ذهنه. وإن لم يكن الكتاب معلوما له ولو لم يكن القرآن معلوما له لما صح جعل القرآن مطلع الحد, وإنما يلزم الدور المذكور على تعريف القرآن بمثل هذا الحد كما نقل عن بعض الأصوليين أنه قال القرآن ما نقل إلينا بين دفات المصاحف مع أنه يمكنه التخلص عنه
ـــــــ
1 هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي المعروف بابن الحاجب الفقيه المالكي والمتوفى سنة 646 هـ.
2 ذكره الآمدي في الإحكام: أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه: هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا والأولى أن يقال: هو كلام الله المنزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم باللسان العربي المنقول إلينا بالتواتر بطريق الرواية والكتابة المعجز المتعبد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس.(1/38)
..............................................................................................
أيضا بأن يقول المراد من المصاحف ما جمعته الصحابة من الوحي المتلو في المصحف فيندفع الدور. فإن قيل يلزم على اطراد هذا الحد التسمية سوى التي في سورة النمل, فإنها دخلت تحت الحد وليست بقرآن ولم يتعلق بها جواز الصلاة ولا حرمة القراءة على الحائض والجنب, ومن أنكرها لا يكفر وانتفاء اللوازم يدل على انتفاء الملزوم, قلنا الصحيح من المذهب أنها من القرآن ولكنها ليست من كل سورة عندنا بل هي آية منزلة للفصل بين السور كذا ذكر أبو بكر الرازي ومثله روي عن محمد رحمة الله عليه أيضا; ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله في المصلي يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يفتتح القراءة ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم ففصلوها عن الثناء ووصلوها بالقراءة وذلك يدل على أنها عندهم من القرآن والأمر بالإخفاء يدل على أنها ليست من الفاتحة, وإنها تقرأ تبركا كالقراءة في الأخريين والدليل على أنها من القرآن أنها كتبت مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة1 وكذا انتقلت إلينا بين دفات المصاحف مع أنهم كانوا يبالغون في حفظ القرآن حتى كانوا يمنعون من كتابة أسامي السور مع القرآن ومن التعشير والنقط كي لا يختلط بالقرآن غيره فلو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في الدين لا سيما ورأس السور يكتب بخط يتميز عن القرآن بالحمرة أو الصفرة عادة والتسمية تكتب بخط القرآن بحيث لا تتميز عنه فيحيل العادة السكوت على من يبدعها لولا أنه بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن النقل المتواتر لما لم يثبت أنها من السورة لم يثبت ذلك وقد اختلف الفقهاء وأئمة القراءة في كونها من السورة وأدنى أحوال الاختلاف المعتبر إيراث الشبه; فلهذا لا يثبت كونها من كل سورة وحديث القسمة, وهو معروف دليل ظاهر على ما قلناه, وإنما لم يكفر من أنكر كونها من القرآن; لأنه زعم أنها أنزلت وكتبت للتيمن بها كما تكتب على صدور الكتب وتذكر عند كل أمر ذي خطر لا لكونها من القرآن والتمسك بمثله يمنع الإكفار. وأما عدم جواز الصلاة فقد ذكر التمرتاشي2 في شرح الجامع الصغير أنه لو اكتفى بها يجوز الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله ولكن الصحيح أنها لا تجوز; لأن في كونها آية تامة شبهة إذ الصحيح من مذهب الشافعي رحمه الله أنها مع ما بعدها إلى
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود وأخرجه البيهقي نحوه عن ابن مسعود الإتقان في علوم القرآن 1/78.
2 هو أحمد بن إسماعيل ظهير الدين التمرتاشي الخوارزمي أبو العباس فقيه حنفي متوفى سنة 600هـ.(1/39)
جميعا في قول عامة العلماء وهو الصحيح من قول أبي حنيفة عندنا إلا أنه لم يجعل النظم ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة على ما يعرف في موضعه.
وجعل المعنى ركنا لازما والنظم ركنا يحتمل السقوط رخصة بمنزلة التصديق
ـــــــ
رأس الآية آية تامة فأورث ذلك شبهة في كونها آية فلا يتأدى بها الفرض المقطوع به. وأما جواز قراءتها للحائض والجنب فذلك عند قصد التيمن كما جاز لهما قراءة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على قصد الشكر فأما عند قصد قراءة القرآن فلا; لأن من ضرورة كونها آية من القرآن حرمة قراءتها عليهما. قوله: "وهو النظم والمعنى جميعا" إلى قوله على ما يعرف في موضعه أي المبسوط, أراد بالنظم العبارات وبالمعنى مدلولاتها, ثم في العدول عن ذكر اللفظ الذي معناه الرمي يقال لفظ النوى أي رماه ولفظت الرحى بالدقيق أي رمت به إلى ذكر النظم الذي يدل على حسن الترتيب في أنفس الجواهر رعاية للأدب وتعظيم لعبارات القرآن, وفي تعريف الخاص وغيره ذكر اللفظ; لأن ذلك تعريف له من حيث هو خاص لا من حيث, إنه خاص القرآن فلا يجب فيه رعاية الأدب, والمراد من عامة العلماء جمهورهم ومعظمهم, ومنهم من اعتقد أنه اسم للمعنى دون النظم, وزعم أن ذلك مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى بدليل جواز القراءة بالفارسية عنده في الصلاة بغير عذر مع أن قراءة القرآن فيها فرض مقطوع به فرد الشيخ رحمه الله ذلك, وأشار إلى فساده بقوله, وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة عندنا أي المختار عندي أن مذهبه مثل مذهب العامة في أنه اسم للنظم والمعنى جميعا. وأجاب عما استدل به الزاعم بقوله, إلا أنه أي لكن أبا حنيفة, لم يجعل النظم ركنا لازما; لأنه قال مبنى النظم على التوسعة; لأنه غير مقصود خصوصا في حالة الصلاة إذ هي حالة المناجاة, وكذا مبنى فرضية القراءة في الصلاة على التيسير قال تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20], ولهذا تسقط عن المقتدي بتحمل الإمام عندنا وبخوف فوت الركعة عند مخالفنا بخلاف سائر الأركان فيجوز أن يكتفى فيه بالركن الأصلي وهو المعنى, يوضحه أنه نزل أولا بلغة قريش; لأنها أفصح اللغات فلما تعسر تلاوته بتلك اللغة على سائر العرب نزل التخفيف بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وأذن في تلاوته بسائر لغات العرب وسقط وجوب رعاية تلك اللغة أصلا واتسع الأمر حتى جاز لكل فريق منهم أن يقرءوا بلغتهم ولغة غيرهم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف" 1 فلما جاز للعربي ترك لغته إلى لغة غيره من العرب حتى جاز للقرشي أن يقرأ بلغة تيم مثلا مع كمال قدرته على لغة
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الخصومات 3/160 ومسلم في المسافرين وأبو داود في الوتر 2/75 – 76 وأحمد 5/114 و391 و332.(1/40)
.............................................................................................
نفسه جاز لغير العربي أيضا ترك لغة العرب مع قصور قدرته عنها والاكتفاء بالمعنى الذي هو المقصود, فصار الحاصل أن سقوط لزوم النظم عنده رخصة إسقاط كمسح الخف والسلم وسقوط شطر صلاة المسافر حتى لم يبق اللزوم أصلا فاستوى فيه حال العجز والقدرة. وفي قوله خاصة تنصيص على أن فيما سواه من الأحكام من وجوب الاعتقاد حتى يكفر كون من أنكر النظم منزلا وحرمة كتابة المصحف بالفارسية وحرمة المداومة والاعتياد على القراءة بالفارسية النظم لازم كالمعنى, ولا يلزم عليه وجوب سجدة التلاوة بالقراءة بالفارسية وحرمة مس مصحف كتب بالفارسية على غير المتطهر وحرمة قراءة القرآن بالفارسية على الجنب والحائض على اختيار بعض المشايخ منهم شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله; لأنه لم يرو عن المتقدمين من أصحابنا فيها رواية منصوصة وما ذكرنا جواب المتأخرين فالشيخ رحمه الله بنى على أصلهم لا على مختار المتأخرين, وإنما بنوه على أن النظم إن فات فالمعنى الذي هو المقصود قائم فيثبت هذه الأحكام احتياطا لا على أن النظم ليس بلازم للقرآن.
والدليل عليه أنهم لم يذكروا فيها اختلافا بين أصحابنا ولو لم يكن طريق ثبوت هذه الأحكام ما ذكرنا لم يستقم هذا الجواب على قولهما; لأن النظم عندهما كالمعنى, ويؤيد ما ذكر الإمام المحبوبي1 في شرح الجامع الصغير: جواز الصلاة حكم يختص بقراءة القرآن فيتعلق بالمنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم قياسا على قراءة القرآن في حق الجنب والحائض يعني حرمة التلاوة تتعلق بالنظم والمعنى حتى لو قرأ الجنب أو الحائض بالفارسية جاز. وأجيب أيضا عن سجدة التلاوة بأنها ملحقة بالصلاة; لأن السجدة من أركان الصلاة وبينها وبين سجدة التلاوة مشاركة في المعنى, وهو مطلق السجود فيجوز أن تلحق بالصلاة بواسطتها وركنية النظم قد سقطت في الصلاة فتسقط فيما ألحق بها, وعن المسألتين بأن المكتوب أو المقروء بالفارسية كلام الله تعالى, وإن لم يكن قرآنا فيحرم مسه لغير المتطهر وقراءته للحائض والجنب كالتوراة والإنجيل والأول أحسن وأشمل, ثم الخلاف فيمن لا يتهم بشيء من البدع وقد تكلم بالفارسية في الصلاة بكلمة أو أكثر غير مؤولة ولا محتملة للمعاني وزاد بعضهم ولم يختل نظم القرآن زيادة اختلال بأن قرأ مكان قوله تعالى: {مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه: 124] معيشة تنكا أو مكان: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] سزاء أما لو قرأ تفسير القرآن فلا يجوز بالاتفاق, وعن الإمام أبي
ـــــــ
1 هو عبيد الله بن إبراهيم بن أحمد المجبوبي العبادي ولد سنة 546 هـ وتوفي سنة 680 هـ.(1/41)
في الإيمان أنه ركن أصلي والإقرار ركن زائد على ما يعرف في موضعه إن شاء
ـــــــ
بكر محمد بن الفضل1 أن الخلاف فيما إذا جرى على لسانه من غير قصد أما من تعمد ذلك فيكون مجنونا أو زنديقا والمجنون يداوى والزنديق يقتل. وقيل الخلاف في الفارسية; لأنها قربت من العربية في الفصاحة فأما القراءة بغيرها فلا يجوز بالاتفاق وقد صح رجوعه إلى قول العامة ورواه نوح بن أبي مريم عنه ذكره المصنف في شرح المبسوط, وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد2 وعامة المحققين وعليه الفتوى.
قوله: "وجعل المعنى ركنا لازما" إلى قوله يعرف في موضعه أي جعل أبو حنيفة رحمه الله المعنى لازما في حالة القدرة لا في حالة العجز والنظم ركنا قابلا للسقوط رخصة في جميع الأحوال كما جعل التصديق في الإيمان لازما في جميع الأحوال والإقرار ركنا زائدا يحتمل السقوط عند العذر فالحاصل أن المقصود إظهار التفاوت بين الركنين في إحدى الحالتين في الصورتين; لأنه لا يمكن إظهار التفاوت بينهما في الحالة الأخرى فيهما; لأن النظم والمعنى لا يفترقان في السقوط حالة العجز بالاتفاق كما لا يفترق التصديق والإقرار في اللزوم حالة الاختيار; فلهذا وجب إظهار التفاوت بين النظم والمعنى حالة القدرة كما وجب في الإقرار والتصديق حالة الاضطرار, ثم الغرض من إعادة قوله والنظم ركنا يحتمل السقوط بعدما ذكر أنه لم يجعل النظم ركنا لازما تحقيق كونه زائدا بإتمام تشبيه الركنين بالركنين كما ذكرنا, وتسمية الإقرار ركنا مذهب الفقهاء فأما عند المتكلمين فهو شرط إجراء الأحكام على ما يعرف في موضعه من هذا الكتاب, ولا يستبعد تسمية النظم ركنا مع جواز تركه حالة القدرة كما لا يستبعد تسمية ما هو زائد على أصل الفرض في أركان الصلاة ركنا بعدما صار موجودا مع جواز تركه في الابتداء. فإن قيل لما جاز الاكتفاء بالمعنى عنده في الصلاة من غير عذر لا بد من أن يكون ذلك قرآنا إذ لا جواز للصلاة بدون القرآن بالإجماع وحينئذ لا يكون الحد المذكور متناولا له لعدم إمكان كتابة المعنى المجرد في المصحف ونقله بالتواتر وما تعلق المعنى به من العبارة الفارسية مثلا ليس بمكتوب في المصحف ولا منقول بالتواتر أيضا فلا يكون الحد جامعا أو لا يكون المعنى بدون النظم قرآنا فينبغي أن لا يجوز الصلاة, قلنا إنما جاز الاكتفاء عنده بالمعنى إما لقيام المعنى المجرد في حالة الصلاة قيام النظم والمعنى أو لقيام العبارة الفارسية الدالة على معنى القرآن مقام النظم المنقول كما قال أبو يوسف3 ومحمد
ـــــــ
1 هو محمد بن الفضل أبو بكر الفضلي الكماري البخاري مات سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
2 هو القاضي عبيد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي توفي سنة 430 هـ.
3 هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الكوفي ولد سنة 113 هـ توفي سنة 182 هـ.(1/42)
الله تعالى وإنما يعرف أحكام الشرع بمعرفة أقسام النظم والمعنى وذلك أربعة أقسام فيما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع: القسم الأول: في وجوه النظم صيغة ولغة
ـــــــ
في حالة العذر فيكون النظم المكتوب المنقول موجودا تقديرا وحكما فيدخل تحت الحد ويكون الحد جامعا ويفسر قوله المكتوب في المصاحف المنقول عنه نقلا متواترا بالكتابة والنقل حقيقة أو تقديرا أو نقول هو يسلم أن المعنى بدون النظم ليس بقرآن ولكنه لا يسلم أن جواز الصلاة متعلق بقراءة القرآن المحدود بل هو متعلق بمعناه ويحمل قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] على أن المراد وجوب رعاية المعنى دون النظم لدليل لاح له فلا يرد الإشكال. قوله: "وإنما يعرف أحكام الشرع" أي لا يعرف أحكام الشرع الثابتة بالقرآن أو أحكام شريعة محمد الثابتة بالقرآن إلا بمعرفة أقسام النظم والمعنى فيجب معرفة الأقسام لتحصل معرفة الأحكام, وذلك, أي المذكور, وهو أقسام النظم والمعنى, فيما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع احترازا عما لم يتعلق به معرفة الأحكام من القصص والأمثال والحكم وغيرها إذ هو بحر عميق لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه.
ولا يقال ليس شيء من القرآن مما لا يتعلق به حكم من أحكام الشرع, فإن وجوب اعتقاد الحقية وجواز الصلاة وحرمة القراءة على الجنب والحائض من أحكام الشرع, وهي متعلقة بجميع عبارات القرآن فكيف يصح هذا الاحتراز, لأنا نقول: هذه الأحكام, وإن تعلقت بالجميع لكنه لم يثبت معرفتها بالجميع بل تثبت ببعض النصوص من الكتاب أو السنة فيصح هذا الاحتراز.
قوله: "الأول في وجوه النظم" وجه الشيء طريقه يقال ما وجه هذا الأمر أي ما طريقه. وقدم النظم; لأن التصرف في اللفظ الموضوع للمعنى مقدم على التصرف في المعنى طبعا فيقدم وضعا وكذا قدم المفرد على المركب لهذا, صيغة ولغة, قيل لكل لفظ معنى لغوي, وهو ما يفهم من مادة تركيبه ومعنى صيغي, وهو ما يفهم من هيئته أي حركاته وسكناته وترتيب حروفه; لأن الصيغة اسم من الصوغ الذي يدل على التصرف في الهيئة لا في المادة فالمفهوم من حروف ضرب استعمال آلة التأديب في محل قابل له ومن هيئته وقوع ذلك الفعل في الزمان الماضي وتوحد المسند إليه وتذكيره وغير ذلك; ولهذا يختلف كل معنى باختلاف ما يدل عليه كفتح ويضرب إلا أن في بعض الألفاظ يختص الهيئة بمادة فلا تدل على المعنى في غير تلك المادة كما في رجل مثلا, فإن المفهوم من حروفه ذكر من بني آدم جاوز حد البلوغ ومن هيئته كونه مكبرا غير مصغر وواحد غير جمع وغير ذلك ولا تدل هذه الهيئة في أسد ونمر على شيء وفي بعضها(1/43)
والثاني في وجوه البيان بذلك النظم والثالث في وجوه استعمال ذلك النظم وجريانه في باب البيان والرابع في معرفة وجوه الوقوف على المراد والمعاني
ـــــــ
كلاهما يدل على معنى واحد, وهي الحروف ثم فيما نحن فيه دلالة اللغة والصيغة في الخاص دلالة حروف أسد مثلا على الهيكل المعروف ودلالة هيئته على توحده وكونه مكبرا وغير ذلك ولا يخرج الخاص عن الخصوص بالتعرض لمثل هذه العوارض فافهم, وفي العام دلالة حروف أسد على ذلك, ودلالة هيئته على تكثره وعمومه, وفي المشترك دلالة حروف القرء على الحيض أو الطهر, ودلالة الهيئة على التوحد ولكن الظاهر أنهما ترادف والمقصود تقسيم النظم باعتبار معناه في نفس الأمر لا باعتبار المتكلم والسامع فالشيخ أجل قدرا من أن يلتفت إلى مثل هذه التكلفات التي لا تليق بهذا الفن.
القسم الأول في تقسيم النظم نفسه بحسب توحد معناه وتعدده, والثاني في تقسيمه بعد التركيب بحسب ظهور المعنى للسامع وخفائه عليه; لأن المراد من البيان ههنا إظهار المعنى أو ظهوره للسامع, وذلك إنما يكون بعد التركيب, وهو المراد من قوله البيان بذلك النظم, والثالث في تقسيم النظم بحسب استعمال المتكلم; لأن اللفظ بسبب الاستعمال يتصف بكونه حقيقة أو مجازا لا بالوضع وأشار إلى جانب المتكلم بقوله في استعمال ذلك النظم وإلى جانب اللفظ واتصافه بالحقيقة والمجاز بقوله: وجريانه في باب البيان, والرابع في وجوه الوقوف أي وقوف السامع على مراد المتكلم ومعاني الكلام, وقيل الأقسام الثلاثة أقسام النظم, وهذا قسم المعنى بدليل أن الشيخ ذكر النظم في الأقسام الثلاثة فقال: في وجوه النظم في وجوه البيان بذلك النظم في استعمال ذلك النظم وذكر المعاني في هذا القسم وكون الدلالة والاقتضاء من أقسام المعنى ظاهر, وكذا كون العبارة والإشارة; لأن العبارة, وإن كانت نظما إلا أن نظر المستدل إلى المعنى دون النظم إذ الحكم إنما يثبت بالمعنى دون النظم نفسه, فإن إباحة قتل المشركين مثلا ثبت بالمعنى الثابت بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لا بعين النظم إلا أن المعنى لما كان مفهوما من النظم والعبارة سمي الاستدلال به استدلالا بالعبارة, ولكنه في الحقيقة استدلال بالمعنى الثابت بالعبارة فصلح أن يكون من أقسام المعنى بهذا الطريق. ويجوز أن يكون جميع الأقسام للنظم والمعنى جميعا على أن يكون بعض الأقسام للنظم وبعضها للمعنى من غير أن يعين القسم الرابع له فيكون الدلالة والاقتضاء راجعين إلى المعنى والباقي أقسام النظم, ويحتمل أن يكون النظم, والمعنى داخلين في كل قسم إذ هو في بيان أقسام القرآن الذي هو النظم والمعنى جميعا فكان الخاص اسما للنظم باعتبار معناه, وكذا العام وسائر الأقسام وعلى هذا الوجه يمكن أن يجعل الدلالة والاقتضاء من(1/44)
على حسب الوسع والإمكان وإصابة التوفيق
ـــــــ
أقسام النظم والمعنى أيضا; لأن المعنى فيهما لا يفهم بدون اللفظ أيضا, وهذه الأوجه كلها لا يخلو عن تكلف والله أعلم بحقيقة مراد المصنف, ثم إن الشيخ جعل معرفة وجوه الوقوف على المعاني من جملة أقسام الكتاب وفيه تساهل وتسامح; لأن المعاني هي التي دخلت في أقسام الكتاب دون معرفة وجوه الوقوف عليها ولكن لما لم تعد المعاني بدون الوقوف عليها جعل معرفة وجوه الوقوف عليها من أقسام الكتاب تسامحا, ثم ثبت بما ذكرنا من الأقسام الثلاثة أن للكلام معنى بحسب الوضع ومعنى بحسب التركيب وتقررا على المعنى الوضعي أو تجاوزا عنه بحسب إرادة المتكلم واستعماله فإذا قلت زيد منطلق مثلا فلكل واحد منهما معنى بحسب الوضع ولهما جميعا معنى بحسب التركيب, وهو إسناد الانطلاق إلى زيد وكل واحد منهما حقيقة بحسب إرادة المتكلم وتقريره إياهما في موضوعهما فبقوله المراد أشار إلى هذا القسم وبقوله والمعاني إلى القسمين الأولين, الوسع والإمكان. مترادفان ههنا أي على قدر طاقة العبد, وإصابة التوفيق, من الله تعالى وإليه أشار قوله جل جلاله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17], قيل الماء القرآن, نزل لحياة الجنان, كالماء للأبدان, والأودية القلوب يختلف في ضيقها وسعتها وأصلها وصفتها, فيقر فيها بقدر إقرارها واليقين, وتوفيق ربها والتلقين, ما هو أصفى من الماء المعين, ومنه قيل:
جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال
وإنما يتحقق قد تتأكد معرفة الشيء بذكر مقابله وتستفيد به زيادة وضوح, وإن كانت ثابتة في نفسها; ولهذا قيل, وبضدها تتبين الأشياء, ثم في هذا القسم لما لم يخالف بعضه بعضا; لأن الكل ظهور ولكن بعضه أعلى من بعض بخلاف غيره إذ الخاص يخالف العام والحقيقة تخالف المجاز اختصه بذكر ما يقابله في قسم آخر على حدة دون غيره, واعلم أنه ذكر في عامة الشروح في انحصار هذه الأقسام وجوه وأحسنها ما أذكره وهو أن المفهوم من النظم لا يخلو من أن يكون راجعا إلى نفس النظم فقط أو إلى غيره فالأول هو القسم الأول, والثاني لا يخلو من أن يكون راجعا إلى تصرف المتكلم أو إلى غيره, فالأول أن يكون تصرفه تصرف بيان أي إلقاء معنى إلى السامع, وهو القسم الثاني أو غير ذلك, وهو القسم الثالث والثاني هو القسم الرابع ثم القسم الأول, وهو نفس النظم لا يخلو من أن يدل على مدلول واحد وهو الخاص أو أكثر بطريق الشمول وهو العام, أو بطريق البدل من غير ترجح البعض على الباقي وهو المشترك, أو مع ترجحه وهو المؤول.
ولا يفيد الترجح بالدليل الظني احترازا عن المفسر كما قيده البعض فقال من(1/45)
أما القسم الأول, فأربعة أوجه الخاص والعام والمشترك والمؤول والقسم الثاني أربعة أوجه أيضا الظاهر والنص والمفسر والمحكم وإنما يتحقق معرفة هذه الأقسام بأربعة أخرى في مقابلتها وهي الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه والقسم الثالث أربعة أوجه أيضا الحقيقة والمجاز والصريح والكناية, والقسم الرابع أربعة أوجه أيضا الاستدلال بعبارته وبإشارته وبدلالته وباقتضائه وبعد معرفة هذه الأقسام قسم خامس, وهو وجوه أربعة أيضا معرفة مواضعها ومعانيها وترتيبها وأحكامها
ـــــــ
غير ترجح البعض بدليل ظني, وهو المشترك أو مع ترجحه به, وهو المؤول; لأنه يبقى حينئذ داخلا في قسم المشترك بل الأولى ترك التقييد ومنع الترجح في المفسر; لأنه إنما يثبت فيما يبقى فيه احتمال غيره وفي المفسر بطل جانب المرجوح بالكلية حتى صار كالخاص بل أقوى فلا يدخل فيما نحن فيه, والقسم الثاني, وهو أن يكون راجعا إلى بيان المتكلم لا يخلو من أن يكون ظاهر المراد للسامع أو لم يكن والأول إن لم يكن مقرونا بقصد المتكلم فهو ظاهر, وإن كان مقرونا به فإن احتمل التخصيص والتأويل فهو النص وإلا, فإن قبل النسخ فهو المفسر, وإن لم يقبل فهو المحكم, وإن لم يكن ظاهر المراد فإما إن كان عدم ظهوره لغير الصيغة أو لنفسها والأول هو الخفي والثاني فإن أمكن دركه بالتأمل فهو المشكل وإلا فإن كان البيان مرجوا فيه فهو المجمل, وإن لم يكن مرجوا فهو المتشابه, والقسم الثالث, وهو أن يكون راجعا إلى الاستعمال لا يخلو من أن يكون اللفظ مستعملا في موضوعه وهو الحقيقة أو لا, وهو المجاز وكل واحد منهما إن كان ظاهر المراد بسبب الاستعمال فهو الصريح وإلا فهو الكناية, والقسم الرابع, وهو قسم الاستثمار لا يخلو من أن يستدل في إثبات الحكم بالنظم أو غيره والأول إن كان مسوقا له فهو العبارة, وإن لم يكن فهو الإشارة والثاني إن كان مفهوما لغة فهو الدلالة, وإن كان مفهوما شرعا فهو الاقتضاء, وإن لم يكن مفهوما لغة ولا شرعا فهي التمسكات الفاسدة, ولكن الأولى أن نضرب عن مثل هذه التكلفات صفحا; لأن بعض هذه الانحصارات غير تام يظهر بأدنى تأمل بل يتمسك فيه بالاستقراء التام الذي هو حجة قطعا; لأن الكتاب ما يمكن ضبطه في حق هذه التقسيمات والاستقراء فيما يمكن ضبطه حجة قطعية قوله: "معرفة مواضعها" أي مآخذ اشتقاق الألفاظ التي هي أسماء لأقسام الكتاب, فهذا يرجع إلى أسماء للأقسام وقوله صيغة ولغة إلى نفس ذلك القسم, فإن قوله المؤمنون مثلا يدل على مسميين موصوفين بالإيمان صيغة ولغة ثم سمي هذا اللفظ بالعام فمأخذ اشتقاق هذا القسم العموم وقس عليه, وترتيبها. أي تقديم بعضها على البعض عند التعارض كما في النص مع الظاهر أو(1/46)
.............................................................................................
في الوجود كما في العام مع الخاص, ومعانيها, أي حقائقها وحدودها في اصطلاح الأصوليين, وأحكامها, أي الآثار الثابتة بها من ثبوت الحكم بها قطعا أو ظنا ووجوب التوقف وغير ذلك.
قال عامة الشارحين: لما انقسم ما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع من الكتاب عشرين قسما ثم انقسم كل واحد منها باعتبار هذا القسم أربعة أقسام صار أقسام الكتاب ثمانين قسما, ولكنه مشكل; لأن التقسيم على أنواع:
1 - تقسيم الجنس إلى أنواعه بأن يؤخذ بزيادة قيد قيد, وهو التقسيم المصطلح بين أهل العلم ولا بد فيه من أن يكون مورد التقسيم مشتركا بين أقسام, فإنك إذا قسمت الجسم إلى جماد وحيوان كان كل واحد منهما جسما, وإذا قسمت الحيوان إلى إنسان وفرس وطير كان كل واحد منهما جسما وحيوانا.
2 - وتقسيم الكل إلى أجزائه كتقسيم الإنسان إلى الحيوان والناطق. ولا يستقيم فيه إطلاق اسم الكل على كل قسم بطريق الحقيقة, فإن اسم الإنسان لا يطلق على الحيوان والناطق بل يطلق على المجموع.
3 - وتقسيم الشيء باعتبار أوصافه كتقسيم الإنسان إلى عالم وكاتب وأبيض وأسود ولا بد فيه من اشتراك مورد التقسيم أيضا, ومن أن يوجد في الجميع من يوصف بالكتابة دون العلم وبالبياض دون السواد وبالعكس ليتميز كل قسم عن غيره في الخارج.
وليس ما نحن بصدده من قبيل الأول لعدم اشتراك مورد التقسيم فيه بين الأقسام إذ لا يمكن أن يحكم على مأخذ العام مثلا بأنه عام ولا على مأخذ المجاز بأنه مجاز بل لا يمكن أن يحكم على ما ذكرنا أنه من الكتاب وأصل مورد التقسيم الكتاب, ولا من قبيل الثاني; لأن معرفة موضع الاشتقاق ليس من أجزاء الخاص وكذا معرفة معناه وحكمه وترتيبه وقس عليه سائر الأقسام ولا من قبيل الثالث; لأن مورد التقسيم ليس بمشترك; ولأن معرفة مأخذ اشتقاق لفظ الخاص ليس وصفا لحقيقة الخاص, وهو لفظ الطواف أو الركوع والسجود مثلا كما أن معرفة مأخذ اشتقاق لفظ الإنسان لا يكون وصفا لحقيقة الإنسان وكذا معرفة معناه وحكمه وترتيبه ليست من أوصافه فلا يستقيم بهذا الاعتبار أيضا كما لا يستقيم أن يقال الإنسان أقسام قسم منه أن مأخذ اسمه الإنس وقسم منه أن معناه حيوان ناطق وقسم منه أنه مقدم على الفرس في الشرف. ولئن سلمنا أن المعاني المذكورة من أوصاف كل فرد باعتبار تعلقها به إذ صح أن يقال الخاص الذي مأخذ اشتقاق اسمه كذا أو معناه كذا أو حكمه كذا لا يستقيم أيضا إذ لا بد من أن يتميز كل(1/47)
وأصل الشرع هو الكتاب والسنة فلا يحل لأحد أن يقصر في هذا الأصل بل يلزمه محافظة النظم ومعرفة أقسامه ومعانيه مفتقرا إلى الله تعالى مستعينا به راجيا أن يوفقه بفضله.
ـــــــ
قسم عن غيره بما يخصه ليظهر فائدة التقسيم ويمكن القول بأن الخاص أربعة أقسام والعام كذلك إلى آخر الأقسام وقد تعذر ذلك ههنا; لأن المعاني المذكورة لازمة لكل فرد من أفراد كل قسم إذ ما من خاص إلا ولاسمه مأخذ وله معنى وحكم وترتيب فكيف يتميز خاص عن خاص باعتبار هذه المعاني, وهذا كما يقال الإنسان قسمان قسم منه عريض الأظفار وقسم منه مستوي القامة وفساده ظاهر; لأن المعنيين من لوازم كل فرد فيم يتميز أحد القسمين عن الآخر, ولا يقال التمييز بين المعنيين ثابت في العقل فيكفي ذلك لصحة التقسيم, لأنا نقول ذلك ساقط الاعتبار في التقسيم إذ التكلف إلى هذا الحد في التقسيم ليس من عادة أهل العلم, وإنك لا تجد تقسيما في نوع من العلوم خصوصا في العلوم الإسلامية بهذا الاعتبار فثبت أن تقسيم الكتاب على ثمانين قسما غير متضح بل الأقسام عشرون كما ذكره الشيخ ولكن لكل قسم معنى وحكم وترتيب ولاسمه مأخذ على أن في كونها عشرين قسما كلاما أيضا. واعلم بأن الشيخ رحمه الله لم يرد بقوله قسم خامس أنه قسيم الأقسام الأربعة المتقدمة; لأنه لا يستقيم لما ذكرنا بل أراد أن معرفة تلك الأقسام متوقفة على هذا القسم فكأنه قسم خامس لها, وهو كما يقال المفصل هو السبع الثامن من الكشاف لتوقف معرفة الكشاف عليه لا أنه منه حقيقة. قوله: "وأصل الشرع هو الكتاب والسنة" خصهما بالذكر; لأن هذه الأقسام توجد فيهما دون الإجماع; ولأن أكثر الأحكام تثبت بهما; ولأن كل واحد منهما أصل للباقي على ما قيل; لأن الحكم لله تعالى وحده وقول الرسول ليس بحكم بل هو مخبر عن الله جل جلاله والكتاب هو كلام الله تعالى فيكون هو أصل الكل من هذا الوجه لكنا لا نعرف كلام الله تعالى إلا بقول الرسول عليه السلام لأنا لا نسمع من الله تعالى ولا من جبرائيل عليه السلام فيكون معرفة كلام الله تعالى متوقفة على قول الرسول فيكون هو الأصل من هذا الوجه وأما الإجماع ففرع لهما ثبوتا من كل وجه, وإن كان في إثبات الأحكام أصلا مطلقا, ثم قال فلا يحل لأحد أن يقصر في هذا الأصل, أي الكتاب ولم يقل في هذين الأصلين مع سبق ذكر الكتاب والسنة; لأنه الآن في بيان الكتاب دون السنة; فلهذا أفرده بالذكر, ومحافظة النظم يجوز أن يكون عبارة عن الحفظ الذي هو ضد النسيان أي يحفظه ويضبط أقسامه ومعانيه ويجوز أن يكون عبارة عن المحافظة التي هي ضد الترك والتضييع أي بجعله نصب عينه وأمام نفسه جاهدا في معرفة أقسامه ومعانيه غير مجاوز عن حدوده, وقوله مفتقرا مستعينا راجيا أحوال عن الضمير المنصوب في يلزمه.(1/48)
"تعريف الخاص"
أما الخاص فكل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد وانقطاع المشاركة وكل اسم وضع لمسمى معلوم على الانفراد, وهو مأخوذ من قولهم
ـــــــ
قوله: "أما الخاص إلى آخره" فقوله كل لفظ عام يتناول جميع المستعملات والمهملات وما يكون دلالته بالطبع كأخ على الوجع وأح على السعال, وهو جار مجرى الجنس بالنسبة إلى ما ذكرنا, فبقوله وضع لمعنى, خرج غير المستعملات عن الحد, والمراد بالوضع, وهو تخصيص اللفظ بإزاء المعنى أو تعيين اللفظة بإزاء معنى بنفسها لازمته, وهي الدلالة على المعنى الناشئة من جهة الوضع فيدخل فيه الحقيقة والمجاز, وبقوله واحد خرج, المشترك; لأنه موضوع لأكثر من واحد على سبيل البدل وخرج المطلق أيضا على قول من لم يجعل المطلق خاصا ولا عاما, وهو قول بعض مشايخنا وبعض أصحاب الشافعي رحمهم الله لأن المطلق ليس بمتعرض للوحدة ولا للكثرة; لأنهما من الصفات, وهو متعرض للذات دون الصفات, وبقوله على الانفراد, خرج العام, فإنه وضع لمعنى واحد شامل للأفراد إذ المراد من قوله على الانفراد كون اللفظ متناولا لمعنى واحد من حيث إنه واحد مع قطع النظر عن أن يكون له في الخارج أفراد أو لم تكن, وقوله وانقطاع المشاركة, تأكيد للانفراد وبيان للازمه وبينهما نوع تغاير; لأن الانفراد بالنظر إلى ذاته وانقطاع المشاركة بالنظر إلى غيره. ولو قيل المراد بالوضع حقيقته, وهو الوضع الأول لكان أحسن; لأن الحقيقة أو المجاز إنما يثبت بالإرادة لا بأصل الوضع والخصوص والعموم إنما يثبت كل واحد منهما بالنظر إلى أصل الوضع فلا يكون الحقيقة أو المجاز داخلا فيه بهذا الاعتبار بل إنما يصير الخاص أو العام حقيقة أو مجازا إذا انضم إليه إرادة موضوعه أو غير موضوعه ألا ترى أن المشترك الذي هو من هذا القسم إنما يكون مشتركا إذا اعتبر مجردا عن الإرادة, فإنه إذا انضم إليه إرادة لم يبق مشتركا; لأن إرادة الجميع لا يصح وبإرادة البعض لم يبق الاشتراك ولكن الاشتراك بالنظر إلى الوضع وصلاحية اللفظ لكل واحد على السواء, ولا يلزم عليه المؤول, فإنه مع انضمام الإرادة إليه من هذا القبيل; لأن الإرادة لم يثبت يقينا فلم تخرجه من الاشتراك مطلقا بخلاف المفسر, فإن قيل إن كان المراد من الوضع الأول فلا حاجة إلى الاحتراز عن المشترك; لأنه عارض لم يكن(1/49)
اختص فلان بكذا أي انفرد به وفلان خاص فلان أي منفرد به والخاصة اسم للحاجة الموجبة للانفراد عن المال وعن أسباب نيل المال فصار الخصوص عبارة عما يوجب الانفراد ويقطع الشركة
ـــــــ
في الوضع الأول. وإن كان مطلق الوضع فقد حصل الاحتراز عنه بقوله لمعنى; لأنه صيغة فرد كرجل فلا يدل على أكثر من معنى واحد كما لا يدل رجل على أكثر من مسمى واحد, قلنا المعنى في الأصل مصدر يقال عنى يعني عناية ومعنى وإن كان بمعنى المفعول ههنا فيجوز أن يراد به المأخوذ من جهة واحدة ومن جهتين فصاعدا; لأن المصدر جنس قال الله تعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:14] وزوال معنى المصدرية بإرادة المفعول لا يمنع ما ذكرنا, فإن رتقا في قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً} [الانبياء: 30] لم يثن, وإن كان بمعنى مرتوقتين لبقاء صيغة المصدر فلما كان كذلك وجب تأكيده بالواحد.
قوله: "وكل اسم" إنما ذكر الاسم ههنا دون اللفظ; لأن ما يدل على المشخص المعين, وهو المراد من المسمى المعلوم لا يكون إلا اسما بخلاف القسم الأول; لأن الدلالة على المعنى تحصل بالأفعال والحروف أيضا, وقوله على الانفراد هنا احتراز عن المشترك بين المشخصات; لأنه بالنسبة إلى كل واحد اسم وضع لمسمى معلوم, ولكن لا على الانفراد ثم المراد بالمعنى في قوله وضع لمعنى إن كان مدلول اللفظ يدخل فيه المشخصات وغيرها فيكون الحد تاما متناولا خصوص الجنس والنوع والعين ويكون إفراد خصوص العين بالذكر لقوة المغايرة بينه وبين غيره إذ لا شركة في مفهومه أصلا بخلاف غيره من أنواع الخصوص, وهذا كتخصيص أولي العلم بالذكر في قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] بعد دخولهم في قوله {الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 11] لقوة التفاوت بينهم وبين عامة المؤمنين في الدرجة والشرف وكتخصيص جبريل وميكائيل بالذكر في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد دخولهما في عموم قوله وملائكته لقوة منزلتهما وشرفهما عند الله تعالى, وإن كان المراد منه ما هو كالعلم والجهل, وهو الظاهر يكون هذا تعريفا لقسمي الخاص الاعتباري والحقيقي لا تعريف الخاص من حيث هو خاص, وقيل تعريفه على هذا الوجه قوله فصار الخصوص عبارة عما يوجب الانفراد, ويؤيده ما ذكره صدر الإسلام أبو اليسر الخاص اسم لفرد كالرجل والمرأة. والغرض من تحديد كل قسم بحد على حدة بيان أن الخصوص يجري في المعاني والمسميات جميعا بخلاف العموم, فإنه لا يجري إلا في المسميات فيكون في هذا(1/50)
فإذا أريد خصوص الجنس قيل إنسان; لأنه خاص من بين سائر الأجناس, وإذا أريد خصوص النوع قيل رجل, وإذا أريد خصوص العين قيل زيد وعمرو فهذا بيان اللغة والمعنى.
ـــــــ
تحقيق لنفي العموم عن المعاني; ولهذا ذكر في حد المشترك, وهو ما اشترك فيه معان أو أسام ليكون إشارة إلى أن الاشتراك يجري في القسمين كالخصوص بخلاف العموم, ثم ذكر ههنا لمعنى واحد وذكر شمس الأئمة1 رحمه الله لمعنى معلوم مكان واحد فعلى ما ذكر هنا يكون المجمل داخلا فيه; لأن اللفظ خاص سواء كان معلوما أو مجهولا; لأن خصوصية اللفظ بالنسبة إلى الواقع لا بالنسبة إلى القائل والسامع فلا يشترط فيه العلم, وعلى ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله لا يدخل, وهو الأصح; لأن الشيخين اتفقا في بيان حكم الخاص أنه لا يحتمل التصرف فيه بيانا; لأنه بين بنفسه والمجمل لا يعرف إلا بالبيان فيكون خلاف الخاص, ويمكن أن يقال المجمل لا يدخل في الحد على ما ذكره المصنف أيضا; لأنه لما تعرض للوحدة بقوله واحد والمجمل لا يعرف وحدة مفهومه وكثرته فلا يمكن الحكم عليه بالوحدة كما لا يمكن بالكثرة فلا يدخل وبعد لحوق البيان به ومعرفة وحدة معناه لم يبق مجملا فيدخل. قوله: "فإذا أريد خصوص الجنس قيل إنسان" الجنس أعلى من النوع اصطلاحا, وتسمية الإنسان جنسا والرجل نوعا على لسان أهل الشرع واصطلاحهم; لأنهم لا يعتبرون التفاوت بين الذاتي والعرضي الذي اعتبره الفلاسفة ولا يلتفتون إلى اصطلاحاتهم ولهذا لم يذكروا حدودهم في تصانيفهم, وإنما يذكرون تعريفات توقف بها على معنى اللفظ ويحصل بها التمييز تركا منهم للتكلف واحترازا عما لا يعنيهم لحصول مقصودهم دونها, قال السيد الإمام ناصر الدين السمرقندي2 رحمه الله في أصول الفقه هذا كتاب فقهي لا نشتغل فيه بصنعة التحديد في كل لفظ بل نذكر ما يعرف معانيها ويدل على حقائقها وأسرارها بالكشوف والرسوم. وقال فيه في موضع آخر ونحن لا نذكر الحدود المنطقية, وإنما نذكر رسوما شرعية يوقف بها على معنى اللفظ كما هو اللائق بالفقه, وإذا كان كذلك لم يلتفتوا إلى استبعادهم ذكر كلمة كل في الحدود بأنها لإحاطة الأفراد والتعريف للحقيقة لا للأفراد ولا إلى استنكارهم كون الرجل نوعا للإنسان بأن الإنسان نوع الأنواع إذ ليس بعده نوع عندهم
ـــــــ
1 هو شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي الفقيه الحنفي والأصولي النظار توفي سنة 483 هـ/ 1090 م وقيل 490 هـ.
2 هو ناصر الدين محمد بن يوسف أبو القاسم السمرقندي الفقيه الحنفي المتوفى سنة 556 هـ/ 1161 م.(1/51)
................................................................................................
فحكموا تارة على الرجل والمرأة باختلاف الجنس نظرا إلى فحش التفاوت بينهما في المقاصد والأحكام فقالوا لو اشترى عبدا فظهر أنه أمة لا ينعقد البيع بخلاف البهائم مع أن اختلاف النوع لا يمنع الانعقاد وحكموا تارة بكونهما نوعي الإنسان نظرا إلى اشتراكهما في الإنسانية واختلافهما في الذكورة والأنوثة, فهذا بيان اللغة والمعنى أي ما ذكرنا بيان معنى الخاص لغة وبيان معناه في اصطلاح الأصوليين فأما بيان ترتيبه وحكمه فسيأتي.(1/52)
"تعريف العام"1
ثم العام بعده وهو كل لفظ ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى
ـــــــ
قوله: "ثم العام بعده" أي بعد الخاص في الوجود لا عند التعارض; لأن المفرد مقدم على المركب وجودا في الذهن, كل لفظ فتخصيص اللفظ بالذكر إشارة إلى أن العموم من عوارض الألفاظ دون المعاني, والمراد اللفظ الموضوع على التفسير الذي ذكرناه بقرينة مورد التقسيم فيخرج منه ما يدل بالطبع, وقوله ينتظم, أي يشمل احتراز عن المشترك, فإنه لا يشمل معنيين بل يحتمل كل واحد على السواء, وقوله جمعا, احتراز عن التثنية, فإنها ليست بعامة بل هي مثل سائر أسماء الأعداد في الخصوص. وأما من قال حد العام هو اللفظ الدال على الشيئين فصاعدا فقد احترز عنها أيضا بقوله فصاعدا, وعن اشتراط الاستغراق, فإنه عند أكثر مشايخ ديارنا ليس بشرط, وعند مشايخ العراق من أصحابنا وعامة أصحاب الشافعي وغيرهم من الأصوليين هو شرط وحد العام عندهم هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد واحترزوا بقولهم المستغرق لجميع ما يصلح له عن النكرات في الإثبات وحدانا وتثنية وجمعا; لأن رجلا يصلح لكل ذكر من بني آدم لكنه ليس بمستغرق وقس عليه رجلين ورجالا, وبقولهم بحسب وضع واحد على اللفظ المشترك أو الذي له حقيقة ومجاز إذا عم كالعيون والأسود, فإنه لا يتناول مفهوميه معا, فالحاصل أن الاستغراق شرط عندهم والاجتماع عندنا.
ويظهر فائدة الخلاف في العام الذي خص منه فعندهم لا يجوز التمسك بعمومه حقيقة; لأنه لم يبق عاما وعندنا يجوز لبقاء العموم باعتبار الجمعية. ولهذا ظن بعض الناس أن العام لا يتناول جميع الأفراد عند عدم المانع لقوله جمعا من الأسماء, وهو نكرة في الإثبات فيتناول جمعا من الجموع لا الكل وليس كذلك, فإن الشيخ قد نص في باب ألفاظ العموم أنه شامل لكل ما يطلق عليه إلا أنه لما لم يشترط لحقيقة العموم تناول الكل قال
ـــــــ
1 ذكر العلماء للعام تعريفات عدة:
1 – العام: هو كل لفظ ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى ذكره البزدوي في أصول السرخسي 1/125.
2 – العام لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد ابن قدامة روضة الناظر 194.(1/53)
ومعنى قولنا من الأسماء المسميات هنا ومعنى قولنا لفظا أو معنى هو تفسير للانتظام يعني أن ذلك اللفظ إنما ينتظم الأسماء مرة لفظا مثل قولنا زيدون ونحوه أو معنى مثل قولنا من وما ونحوهما والعموم في اللغة هو الشمول يقال مطر عام أي شمل الأمكنة كلها وخصب عام أي عم الأعيان ووسع البلاد
ـــــــ
جمعا من الأسماء. قوله: "ومعنى قولنا من الأسماء" يعني من المسميات, فقوله يعني لم يقع موقعه إلا أن يؤول بمعنى أي; لأنه يستعمل في محل التفسير ككلمة أي فيكون معناه أي من المسميات ويدل عليه عبارة شمس الأئمة, فإنه قال ونعني بالأسماء ههنا المسميات, ثم قيل تفسير الأسماء بالمسميات مع أن الاسم والمسمى واحد عندنا احتراز عن التسميات; لأن الاسم يذكر ويراد به التسمية كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] أي التسميات وقوله عليه السلام: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما" 1 ويقال ما اسمك أي ما تسميتك فإذا احتمل الاسم التسمية احترز عنها وأكده بقوله من المسميات, وإلا ظهر أنه احتراز عن المعاني, فإن الاسم كما يدل على المشخص يدل على المعنى وقد اختار أن اللفظ الواحد لا ينتظم جمعا مع المعاني كما سيأتي; فلذلك فسر الأسماء بالمسميات.
قوله: "لفظا" أي صيغته تدل على الشمول كصيغ الجموع مثل زيدون ورجال, أو معنى أي عمومه باعتبار المعنى دون الصيغة كمن وما والجن والإنس, فإنها عامة من حيث المعنى حيث تناولت جمعا من المسميات دون الصيغة; لأنها ليست باسم جمع كذا قال أبو اليسر رحمه الله, ولا يقال الحد المذكور ليس بجامع; لأن النكرة المنفية ونحوها عامة كما نص عليه في هذا الكتاب وسائر الكتب ولم يتناولها هذا الحد إذ هي ليست بلفظ موضوع لانتظام جمع من المسميات بل عمومها ضروري كما عرف, لأنا نقول الحدود لبيان الحقائق وعمومها مجازي لصدق حد المجاز عليه, فإن رجلا في قوله ما رأيت رجلا لفظ أريد به غير ما وضع له لعلاقة بين المحلين إذ الرجل وضع للفرد وأريد به غير موضوعه, وهو العموم ههنا بقرينة النفي كما أريد بالأسد الشجاع في قوله رأيت أسدا يرمي بقرينة الرمي للعلاقة بينهما. وقد نص على مجازيته في شرح أصول الفقه لابن الحاجب, وإذا كان كذلك لا يمنع عدم دخولها في الحد صحته, على أنا إن سلمنا أن
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الشروط حديث رقم 2736 ومسلم في الذكر والدعاء حديث رقم 2677 والترمذي في الدعوات حديث رقم 3508 وابن ماجه في الدعاء حديث رقم 3861 والإمام أحمد في المسند 2/258 عن أبي هريرة.(1/54)
ونخلة عميمة أي طويلة والقرابة إذا توسعت انتهت إلى صفة العمومة
ـــــــ
عمومها حقيقي لا يقدح ذلك في صحة الحد أيضا; لأن الحد المذكور لبيان العام صيغة ولغة بدلالة مورد التقسيم لا لمطلق العام, وعموم النكرة المنفية لم يثبت بالصيغة بل بالضرورة والحد المذكور جامع مانع للعام الصيغي فيكون صحيحا, ولو لم يشترط الوضع في اللفظ بأن أجري على إطلاقه ولم يلتفت إلى مورد التقسيم لكان الحد متنا لا لها إذ هي لفظ ينتظم جمعا من المسميات معنى فتبين بما ذكرنا أن الحد جامع كما أنه مانع.
قوله: "ونخلة عميمة أي طويلة" قيل لما كانت أجزاؤها كثيرة شملت الهواء أكثر من غيرها, وقيل إذا طالت تشعبت أكثر مما إذا لم تطل, والقرابة إذا توسعت انتهت إلى صفة العمومية, فأول درجات القرابة البنوة ثم الأبوة ثم الأخوة ثم العمومة فبها تنتهي وتتوسع وليس بعدها قرابة أخرى إذ سائر القرابات بعد هذه الأربعة فرع لهذه الأربعة; ولهذا انتهت المحرمية التي هي من أحكام القرابة إلى العمومة ولم تتعد إلى فروعها, ولم يتعرض الشيخ للخؤولة; لأن الأصل قرابة الأب إذ النسب إلى الأباء, واعلم أن القاضي الإمام أبا زيد رحمه الله عرف العام كما عرفه الشيخ لكنه فسر الأسماء بالتسميات. كذا قال صاحب الميزان والانتظام لفظا أو معنى بطريق آخر فقال: وأما العام فما ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى كقولك الشيء, فإنه اسم لكل موجود ولكل موجود اسم على حدة والإنسان اسم عام في جنسه; لأن جنسه يشتمل على أفراد ولكل فرد اسم على حدة, ونقول مطر عام إذا عم الأمكنة فيكون عاما بمعناه, وهو الحلول بالأمكنة لا بأسماء يجمعها المطر, فسياق كلامه هذا يشير إلى أن مراده من الأسماء التسميات; لأن قوله ولكل موجود اسم على حدة ولكل فرد اسم على حدة يدل عليه ويشير أيضا إلى أن الانتظام لفظا أن يشمل اللفظ أسماء مختلفة كالشيء, فإنه يشمل الأرض والسماء والجن والإنس وغيرها والانتظام معنى أن يحل المعنى محال كثيرة فدخل المحال المختلفة تحت العموم بواسطة المعنى كمعنى المطر لما حل محال كثيرة دخلت المحال تحت لفظ المطر دخول الموجودات تحت لفظ الشيء لكن بواسطة معناه, وهو حلوله بها لا بلفظه; لأنه لا دلالة له على المحال بخلاف الشيء, فإن لفظه يدل على ما انتظمه. فالشيخ رحمه الله لما رأى أن انتظام اللفظ لمدلولات الأسماء لا للأسماء وأن دخول المحال تحت لفظ المطر بطريق الالتزام ولا مدخل له في التعريفات فسر الأسماء بالمسميات والانتظام اللفظي والمعنوي بما ذكر في الكتاب احترازا عما اختاره القاضي الإمام واختيارا للأصوب ووافقه شمس الأئمة وصدر الإسلام أبو اليسر وغيرهما, فالشيء والإنس والجن ونحوها عام لفظي في اختيار القاضي الإمام وعام معنوي في اختيارهم.(1/55)
وهو كالشيء اسم عام يتناول كل موجود عندنا ولا يتناول المعدوم خلافا للمعتزلة, وإن كان كل موجود ينفرد باسمه الخاص
ـــــــ
قوله: "وهو كالشيء" هذا من نظائر العام المعنوي والغرض من إيراده بعدما أورد نظير المعنوي مرة أن يبين أنه عام معنوي لا لفظي كما ظنه القاضي وأنه عام لا مشترك كما ذهب إليه بعض المتكلمين من أهل السنة, فإنهم لما تمسكوا في مسألة خلق الأفعال بعموم قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وقالوا الشيء اسم عام يتناول كل موجود فيدخل فيه الأعيان والأعراض اعترض الخصوم وقالوا قد خص منه ذات الله تعالى وصفاته فلا يجوز الاحتجاج به بعد الخصوص لخروجه عن كونه حجة أو لصيرورته ظنيا, فأجاب بعض المتكلمين عن هذا الاعتراض بأنا لا نسلم أنه عام بل هو مشترك; لأنه يتناول أفرادا مختلفة الحقائق ولئن اعتبر معنى الوجود; فلذلك أيضا مختلف; لأنه يطلق على ذات الله تعالى, وهو واجب الوجود وعلى غيره, وهو جائز الوجود والاختلاف بين الوجودين أكثر من الاختلاف بين الشمس والينبوع والباصرة لجواز المساواة بينهما في كثير من المعاني واستحالتها فيما نحن فيه فإذا أريد به المحدث يمتنع دخول القديم تحته كما في سائر الأسماء المشتركة. والعامة سلموا عمومه وقالوا: إنه عام باعتبار مطلق الوجود, فإنه متحد واختلاف الحقائق لا يمنع الدخول تحت أمر عام, فإن لفظ العرض يتناول الأضداد وكذا لفظ اللون يتناول السواد والبياض بمعنى أعم منهما, فلا يلزم منه الاشتراك, وهذا معنى قوله, وإن كان كل موجود يتعرف باسمه الخاص, ولكن بعضهم منعوا التخصيص فيه, وقالوا التخصيص إنما يجري فيما يوجب ظاهر الكلام دخول المخصوص فيه لولا المخصص, وهذا الكلام لا يوجب دخول المخاطب فيه, فإن من قال دخلت الدار وضربت جميع من فيها وأخرجتهم منها لا يوجب ذلك دخوله في عموم كلامه ليصير ضاربا نفسه ومخرجا لها فلا يعد هذا تخصيصا, وكذا في الأحكام إذا قال الرجل لامرأته طلقي من نسائي من شئت وله أربع نسوة لا يدخل المخاطبة في هذا الخطاب حتى لو طلقت نفسها لا يقع فكذا هذا, وحاصل هذا الجواب أن دليل العقل لا يصلح مخصصا; لأن التخصيص لإخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ, وخلاف المعقول لا يمكن أن يتناوله اللفظ. ولأن التخصيص يكون متأخرا متصلا أو منفصلا, وهذا سابق, وأكثرهم سلموا كونه مخصوصا; لأن دليل العقل يصلح مخصصا عند عامة الفقهاء والمتكلمين لكنهم لم يسلموا صيرورته ظنيا بمثل هذا التخصيص; لأن ذلك في تخصيص يقبل التعليل أو التفسير كما ستعرف, فأما فيما لا يقبله فلا ألا ترى أن العام بالاستثناء, وهو من دلائل التخصيص عندهم كدليل العقل لا يخرج من القطع إلى الظن; لأنه(1/56)
وذكر الجصاص رحمه الله أن العام ما ينتظم جمعا من الأسماء أو المعاني وقوله أو المعاني سهو منه أو مؤول لأن المعاني لا تتعدد إلا عند اختلافها وتغايرها وعند اختلافها وتغايرها لا ينتظمها لفظ واحد بل يحتمل كل واحد منها على الانفراد وهذا يسمى مشتركا وقد ذكر بعد هذا أن
ـــــــ
لا يقبل التعليل, فكذا هذا, وقوله, وإن كان كل موجود يتعلق بقوله يتناول كل موجود عندنا, وقوله ولا يتناول المعدوم معترض بينهما وفيه احتراز عن مذهبهم, وقوله عندنا احتراز عن القول بالاشتراك لا عن قول المعتزلة فافهم. قوله: "وهذا سهو منه" أي قوله أو المعاني سهو منه, وفي ذكر السهو دون الخطإ رعاية الأدب إذ لا عيب في السهو للإنسان والسهو ما ينتبه صاحبه بأدنى تنبيه والخطأ ما لا يتنبه صاحبه أو ينتبه بعد إتعاب كذا قال صاحب المفتاح1: ثم معنى قوله سهو أو مؤول أنه لا يخلو من أن أراد من قوله جمعا من المعاني تعددها حقيقة أو مجازا, فإن أراد الأول فلا يمكن تصحيح كلامه; لأن تعدد المعاني حقيقة لا يكون بتعدد أفرادها في الخارج بل بتعددها في الذهن, وذلك لا يكون إلا عند اختلافها, فإنك إذا رأيت إنسانا وثبت في ذهنك معناه ثم رأيت آخر وآخر لا يثبت معنى آخر في ذهنك. وإن كان إنسانية زيد في الخارج غير إنسانية عمرو وخالد ولكن إذا رأيت أسدا أو ذئبا أو فرسا أو غيرها يثبت معنى آخر في ذهنك غير الأول فثبت أن تعدد المعاني إنما يكون عند اختلافهما, وحينئذ لا يتناولها لفظ واحد على سبيل الشمول; لأن أفراد العام لا بد من أن تكون متفقة, فإذا اختلفت المعاني اختلفت أفراد العام فلا يدخل تحت لفظ واحد إلا بطريق البدل وذلك يسمى مشتركا ولا عموم له عنده أيضا, ولا يلزم على هذا لفظ العرض أو الأعراض بأنه يشمل المعاني المختلفة على سبيل الحقيقة; لأن تناوله ليس لكونها معاني مختلفة في ذواتها بل لكون كل واحد منها عرضا, وهذا معنى واحد ألا ترى أنه لا يتناول البياض أو السواد أو الحركة أو السكون; لأنه سواد أو بياض أو حركة أو سكون بل لكون كل واحد منها مستحيل البقاء فيكون كالشيء يتناول كل موجود بمعنى الموجود لا غير, توضيحه أنه لم يوضع بإزاء السواد أو البياض, فإنه لو فسر معناه بأنه السواد أو البياض أو نحوه يخطئ لغة, وقوله اختلافها وتغايرها ترادف ههنا, وإن كان الاختلاف في نفس الأمر أخص من التغاير لاستلزامه التغاير من غير عكس, وإن أراد الثاني أمكن تصحيحه; لأن المعنى الواحد يجوز أن يسمى معاني مجازا لتعدده في الخارج بسبب تعلقه بالمحال المتعددة كالخصب
ـــــــ
1 صاحب المفتاح هو يوسف بن محمد سراج الدين الخوارزمي السكاكي أبو يعقوب كان عالما بالنحو والتصريف والمعاني والبيان والعروض...توفي سنة 626 هـ.(1/57)
المشترك لا عموم له فثبت أنه سهو أو مؤول وتأويله أن المعنى الواحد لما تعدد محله يسمى معاني مجازا لاجتماع محاله لكن كان ينبغي أن يقول والمعاني والصحيح أنه سهو.
ـــــــ
يوصف بالعموم مجازا لما ذكرنا, ولا بد للعام من معنى متحد يشترك فيه أفراد العام ليصح شموله إياها به, وهو معنى قولنا أفراد العام متفقة الحدود وذلك كلفظة مسلمون مثلا, فإنه لا يتناول الأشخاص الداخلة تحتها إلا بمعنى الإسلام ثم ذلك المعنى لما كان متعددا في الخارج, فإن إسلام زيد غير إسلام عمرو. وإن كان متحدا حقيقة سماه معاني مجازا فيصير ما ذكر على هذا التأويل موافقا لما ذكرنا في التحقيق, ولكن كان ينبغي أن يقول: والمعاني بالواو التي هي لمطلق الجمع ليصح هذا التأويل ويصير تقدير كلامه العام ما يتناول جمعا من المسميات مع المعنى الذي به صارت متفقة, ولكنه سماه معاني مجازا, وهذا هو تفسير العام عندنا أيضا, قال شمس الأئمة رحمه الله وهكذا رأيت في بعض النسخ من كتابه أي بالواو لكن قوله أو يأبى هذا التأويل; لأن أو لأحد الشيئين والعام يشمل كليهما فلا يصح هذا التأويل إلا أن يجعل أو بمعنى الواو, وفيه بعد; فلهذا قال: والصحيح أنه سهو, هذا معنى كلام الشيخ رحمه الله وحاصله أنه لم يجوز أن يشمل اللفظ معاني مختلفة لئلا يلزم القول بعموم المعاني وجعل المعاني مجازا عن معنى واحد ولكن أخاه صدر الإسلام أبا اليسر رحمه الله ذكر في أصول الفقه أن الجصاص بقوله أو المعاني لم يرد عموم المعاني ولكن يحتمل أنه أراد بقوله من الأسماء والمعاني ما ينتظم جمعا من الأعيان والأعراض, فإنه إذا قال المسلمون عم المسلمين أجمع. وإذا قال الحركات عم الحركات كلها, وهي المعاني فيجعل أبو اليسر المعاني على حقيقته, وهذا أصح; لأنه يجوز أن يتناول اللفظ الواحد معاني مختلفة بمعنى أعم منها كما في قولنا المعاني والعلوم والأعراض ونحوها, فإن كلا منها عام على الحقيقة لكونه موضوعا لجمع من مدلولاته ولكن بمعنى متحد يشمل الكل, وهو مطلق المعنى والعلم والعرض كما أشرنا إليه ألا ترى أن الشيء يتناول المعاني المختلفة بمعنى الموجود كما يتناول الأعيان فيجوز أن يتناول لفظ آخر معاني مختلفة بمعنى يشملها فعلى هذا يكون العام قسمين: ما يتناول الأعيان بمعنى واحد وما يتناول المعاني بمعنى يعمها فيصح قوله أو المعاني ويكون حده متعرضا للقسمين فيكون جامعا ولا يتعرض حد المصنف إلا لقسم واحد فلا يكون جامعا إلا أن يكون المراد من المسمى مفهوم اللفظ فحينئذ يتناولها, وعن هذا قيل في تحديد العام هو لفظ ينتظم جمعا من المفهومات بالوضع, ولكن طعنه على أبي بكر الجصاص يأبى هذا الحمل فافهم.(1/58)
...........................................................................................
ولا يلزم مما ذكرنا القول بعموم المعاني; لأن العموم وصف للمشتمل لا للمشتمل عليه إذ العام نعت فاعل كما في قولنا الرجال, فإنه هو الموصوف بالعموم لا الأفراد الداخلة تحته وههنا الشامل هو اللفظ سواء اشتمل على أعيان أو على معان فيجوز وصفه بالعموم بالاتفاق, فأما المعنى إذا شمل أشياء من غير أن يدل لفظه على الشمول كمعنى المطر أو الخصب إذا شمل الأمكنة والبلاد, فهذا هو محل الاختلاف فعند العامة لا يوصف بالعموم إلا مجازا, وعند البعض يوصف به حقيقة, وما نحن فيه ليس من ذلك الباب في شيء, ولا يقال حده ليس بمانع; لأن قوله ما ينتظم يتناول المعنى كما يتناول اللفظ, والمعنى لا يوصف بالعموم حقيقة; ولهذا تعرض المصنف للفظ فقال كل لفظ; لأنا نقول يجوز عنده وصف المعنى بالعموم حقيقة, فإنه ذكر أن إطلاق لفظه بالعموم حقيقة في المعاني كما هو في الألفاظ يقال عمهم الخصب باعتبار المعنى من غير أن يكون هذا عاما كذا ذكر شمس الأئمة. رحمه الله.(1/59)
"تعريف المشترك"1
وأما المشترك فكل لفظ احتمل معنى من المعاني المختلفة أو اسما من الأسماء على اختلاف المعاني على وجه لا يثبت إلا واحد من الجملة مرادا به
ـــــــ
قوله: "وأما المشترك" أي المشترك فيه; لأن المفهومات مشتركة والصيغة مشترك فيها, وقوله احتمل كذا أي بالوضع عرف ذلك بمورد التقسيم; لأن هذا تقسيم نفس اللفظ ودلالته على المعنى من غير نظر إلى إرادة المتكلم. والمجاز لا يثبت إلا بإرادته, وقوله من المعاني أو الأسماء يوهم أن عدد الثلاث شرط في الاشتراك كما هو شرط في العموم ليس كذلك بل الاشتراك يثبت بين المعنيين أو الاسمين أيضا كالقرء; ولهذا قيل في حده هو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أولا من حيث هما مختلفتان, فاحترز بالموضوعة لحقيقتين مختلفتين عن الأسماء المفردة, وبقوله وضعا أولا عن المنقول, وبقوله من حيث هما مختلفتان عن مثل الشيء, فإنه يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث إنها مختلفة بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد, وقوله أو اسما من الأسماء على اختلاف المعاني معناه أو مسمى من المسميات المختلفة المعاني باعتبار اختلافهما لا باعتبار معنى يشملها بخلاف العام, فإنه قد يشمل المسميات المختلفة المعاني لكن لا لاختلافها في ذواتها بل بمعنى يشملها كما ذكرنا, واعلم أن ذكر كلمة أو في التحديد إن كان يؤدي إلى تقسيم الحد فهو باطل لعدم حصول المقصود, وهو التعريف, وإن كان يؤدي إلى تقسيم المحدود لا إلى تقسيم الحد, فهو جائز لعدم الاختلال في التعريف, ثم إن تناول القسمين لفظ من ألفاظ الحد فهو تقسيم المحدود وإلا فهو تقسيم الحد كما لو قيل الجسم ما يتركب من جوهرين أو أكثر يكون
ـــــــ
1 للمشترك تعريفات منها:
1 – المشترك: كل لفظ يشترك فيه معان أو أسام لا على سبيل الانتظام بل على احتمال أن يكون كل واحد هو المراد به على الانفراد وإذا تعين الواحد مراد به انتقى الآخر أصول السرخسي 1/126.
2 – هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر شرح تنقيح الفصول ص 29.
3 – المشترك ما وضع لمعنيين مختلفين أو لمعان مختلفة الحقائق أصول الشاشي ص 36.(1/60)
مثل العين اسم لعين الناظر وعين الشمس وعين الميزان وعين الركبة وعين الماء وغير ذلك ومثل المولى والقرء من الأسماء, وهو مأخوذ من الاشتراك ولا عموم لهذا اللفظ وهو مثل الصريم اسم لليل والصبح جميعا على الاحتمال
ـــــــ
تقسيما للمحدود لتناول التركيب إياهما ولو قيل الجسم ما يتركب من جوهرين أو ما له أبعاد ثلاثة يكون تقسيما للحد لعدم دخولهما تحت لفظ من ألفاظ الحد فيفسد فقوله أو اسما من الأسماء من قبيل تقسيم المحدود لا من تقسيم الحد لدخولهما تحت قوله كل لفظ احتمل فيكون معناه المشترك ما احتمل واحدا من مفهومات اللفظ كما إن قوله في تحديد العام لفظا أو معنى تقسيم للمحدود لدخولهما تحت قوله ينتظم, وقوله على اختلاف حال من قوله من الأسماء, وعلى بمعنى مع كما في قولك تبحر فلان في العلوم على صغر سنه أي مع. والعامل فيه الفعل المقدر في الظرف, ومحل الظرف النصب على الصفة ل: "اسما", واللام في المعاني بدل من الإضافة, وتقدير الكلام احتمل اسما استقر هو من الأسماء مختلفة معانيها, وقوله على وجه حال من المعاني ومن الأسماء جميعا بمعنى الشرط, والعامل فيه احتمل, واللام في الجملة بدل من الإضافة, والتقدير احتمل معنى من المعاني أو اسما من الأسماء بشرط أن لا يثبت إلا واحد من المعاني أو الأسماء أي واحد من مفهوماته, "ومرادا" تمييز, والضمير في به راجع إلى اللفظ, ثم المراد من المعاني إن كان مفهومات الألفاظ فالمراد من الأسماء الألفاظ الدالة عليها; ولهذا قال شمس الأئمة الكردري رحمه الله تعالى إن لفظ العين إن كان موضوعا بإزاء لفظ الشمس والينبوع والذهب فهو نظير اشتراك الأسماء, وإن كان موضوعا بإزاء مفهومات هذه الألفاظ فهو نظير اشتراك المعاني, وإن كان المراد ههنا المعاني الذهنية كالعلم والجهل, وهو ظاهر فالمراد من الأسماء المسميات أي الأعيان فالعين على هذا نظير الأسماء, وكذا المولى والقرء; ولهذا قال بعده من الأسماء ونظير المشترك في المعاني الإخفاء للإظهار والسر والنهل للري والعطش ولفظ بان بمعنى انفصل وظهر وبعد. وقوله من الأسماء قيل يتعلق بالقرء أي مثل القرء الذي هو بمعنى الحيض والطهر, فإنه من الأسماء الجامدة, وهو المشترك دون القرء الذي بمعنى الجمع والانتقال, والأوجه أنه يتعلق بالجموع أي هذه النظائر من الأسماء لا من المعاني كما بينا, قوله وغير ذلك, فإنه اسم أيضا للدينار والمال النقد والجاسوس والديدبان والمطر الذي لا يقلع وولد البقر الوحش وخيار الشيء ونفس الشيء يقال هو هو بعينه, والناس القليل يقال بلد قليل العين أي قليل الناس وماء عن يمين قبلة العراق يقال نشأت سحابة من قبل العين وحرف من حروف المعجم وعيب في الجلد يقال في الجلد عين, وأعاد لفظة مثل في(1/61)
.............................................................................................
المولى لئلا يتوهم عطفه على مفهومات العين فيفسد المعنى إذا; ولأن المغايرة بين الشيئين قد تكون على وجه يكون بينهما غاية الخلاف كالضدين وقد لا تكون كذلك ولا يبعد أن يذهب الوهم إلى أن اللفظ إذا دل على شيء لا يجوز أن يدل على ضده لغاية البعد بينهما بخلاف القسم الآخر ألا ترى أنه لا يقبل العموم بالاتفاق فالشيخ أزال ذلك الوهم بإيراد هذين النظيرين وبين أن الاشتراك يثبت في النوعين جميعا, ثم لما بين أن لا عموم للمشترك أورد نظيرا من هذا الجنس, وهو الصريم توضيحا لما ادعاه إذ هو أشد دلالة على انتفاء العموم; لأن أحدا لم يقل بالعموم في مثل هذا المشترك كما سنبينه; ولهذا قال على الاحتمال لا على العموم. واعلم أن الاشتراك خلاف الأصل, والمراد به أن اللفظ إذا دار بين الاشتراك وعدمه كان الأغلب على الظن عدمه; لأن الاشتراك يخل بالفهم في حق السامع لتردد الذهن بين مفهوماته, وقد يتعذر عليه الاستكشاف إما لهيبة المتكلم أو للاستنكاف من السؤال فيحمله على غير المراد فيقع في الجهل وربما ذكره لغيره فيصير ذلك سببا لجهل جمع كثير, ومن هذا قيل السبب الأعظم في وقوع الأغلاط حصول اللفظ المشترك, وكذا في حق القائل; لأنه يحتاج في تفسيره إلى أن يذكره باسم خاص فيقع تلفظه بالمشترك عبثا.
ولأنه ربما ظن أن السامع تنبه للقرينة الدالة على المراد مع أن السامع لم يتنبه لها فيتضرر كمن قال لعبده أعط فلانا عينا, وأراد به خبزا أو شيئا آخر من الأعيان فأعطاه دينارا فيتضرر السيد, فهذا يقتضي امتناع الوضع كما ذهب إليه جماعة, ولكن وقوعه لما أبى ذلك بقي اقتضاء المرجوحية, وهو المعني بكونه غير أصل, يوضح ما ذكرنا أن لكل فرد من أفراد المشترك اسما خاصا آخر به يصير اللفظ المشترك مرادفا لذلك المعنى من غير عكس ولكنه إنما وقع إما لغفلة من الواضع إن كانت اللغات اصطلاحية كما ذهب إليه أبو هاشم وأتباعه1 بأن نسي وضعه الأول, وقد اشتهر في قوم فوضعه ثانيا لمعنى آخر واشتهر في آخرين ثم تراضى الكل على الوضعين أو لاختلاف الواضعين بأن ما وضعه واضع لمعنى وضعه آخر لآخر ثم اشتهر كلامهما بين الأقوام أو للقصد إلى تعريف الشيء لغيره مجملا غير مفصل إذ هو مقصود في بعض الأحوال كالتفصيل في عامة الأحوال ألا ترى أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كيف أجمل على الكافر الذي سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت ذهابهما إلى الغار وقال من هو فقال هو رجل يهديني السبيل2. وإن كانت توقيفية
ـــــــ
1 هو أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي المعتزلي المعروف تنسب إليه فرقة البهشمية توفي سنة 321 هـ.
2 أخرجه البخاري في مناقب الأنصار 5/79 والإمام أحمد 3/122, 211, 387.(1/62)
................................................................................................
كما ذهب إليه الأشعري1 وابن فورك2 فللابتلاء كما في إنزال المتشابه فيلزم مما ذكرنا أن لا يدل على كلا المعنيين بالوضع خلافا لقوم لما سنذكر, واعلم أن النزاع فيما إذا أريد به كل واحد من معنييه لا المجموع من حيث هو مجموع, فإنه غير متنازع فيه والفرق بينهما ثابت إذ من شرط الإرادة الخطور بالبال, ويجوز أن يكون مريدا لهذا ولذاك ويكون غافلا عن المجموع من حيث هو مجموع لغفلته عن الهيئة الاجتماعية التي هي أحد أجزاء المجموع من حيث هو مجموع, ويتضح الفرق بأن في اعتبار الجمعية يصير كل واحد من المعنيين جزء المعنى وبدون هذا الاعتبار يصير كل واحد كأنه هو المعنى بتمامه ألا ترى أنك لو قلت كل من دخل داري فله درهم يستحق كل داخل درهما ولو قلت جميع من دخل داري فله درهم فيستحق جميع الداخلين درهما واحدا, وإذا عرفت هذا فاعلم أنه يجوز عند الشافعي وأبي بكر الباقلاني3 وجماعة من المعتزلة كالجبائي4 وعبد الجبار5 وغيرهم أن يراد بالمشترك كل واحد من معنييه أو معانيه بطريق الحقيقة إذا صح الجمع بينهما كاستعمال العين في الباصرة والشمس لا كاستعمال القرء في الحيض والطهر معا أو استعمال أفعل في الأمر بالشيء والتهديد عليه; لأنه يمتنع الجمع بينهما, إلا عند الشافعي وأبي بكر متى تجرد المشترك عن القرائن الصارفة إلى أحد معنييه وجب حمله على المعنيين كسائر الألفاظ العامة, وعند الباقين لا يجب فصار العام عندهما قسمين قسم متفق الحقيقة وقسم مختلفها. وعند بعض المتأخرين يجوز إطلاقه عليهما مجازا لا حقيقة, وعند أصحابنا وبعض المحققين من أصحاب الشافعي وجميع أهل اللغة وأبي هاشم وأبي عبد الله البصري6 لا يصح ذلك حقيقة ولا مجازا, فمن جوز ذلك حقيقة تمسك بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] فقيل
ـــــــ
1 هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري إمام أهل السنة في العقائد ولد في سنة 260 وقيل 270 هـ توفي سنة 330 هـ.
2 هو أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني الشافعي المتكلم الشعري الفقيه والأصولي توفي سنة 406 هـ.
3 هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني توفي سنة 403 هـ.
4 هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ولد سنة 235 هـ.
5 هو القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني الاستراباذي أبو الحسن 325 – 415 هـ فقيه أصولي متكلم معتزلي ومفسر.
6 هو أبو عبد الله الحسين بن عبد الله البصري المعتزلي المتوفى سنة 367 هـ.(1/63)
لا على العموم, وهذا يفارق المجمل لأن المشترك يحتمل الإدراك بالتأمل في معنى الكلام لغة برجحان بعض الوجوه على البعض فقبل ظهور الرجحان سمي
ـــــــ
أريد بالسجود, وهو لفظ واحد معنيان مختلفان; لأن سجود الناس, وهو وضع الجبهة غير سجود الدواب, وهو الخشوع والأصل في الإطلاق الحقيقة والدليل على أن المراد من سجود الناس وضع الجبهة لا الخشوع تخصيص كثير من الناس بالسجود دون من عداهم ممن حق عليه العذاب مع استوائهم في السجود بمعنى الخشوع, وبقوله عز ذكره: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] أريد به معنيان مختلفان; لأن الصلاة من الله تعالى رحمة ومن الملائكة استغفار مع أن الأصل في الإطلاق الحقيقة, ومن جوز ذلك مجازا لا حقيقة قال لا يسبق المجموع إلى الفهم عند إطلاق المشترك بل يسبق أحد مفهوميه على سبيل البدل فيكون حقيقة في أحد معنييه فلو أطلق عليهما كان مجازا لكونه مستعملا في غير ما وضع له لعلاقة مخصوصة وهي تسمية الكل باسم الجزء وفيه تقليل الاشتراك الذي هو خلاف الأصل; لأنه لو كان حقيقة فيهما صار مشتركا بين ثلاثة معان. وأما العامة فقالوا لو جاز استعماله فيهما معا يلزم الجمع بين المتنافيين لكون المستعمل مريدا لأحد مفهوميه خاصة ضرورة كونه مريدا لهما غير مريد إياه أيضا لاستعماله في المفهوم الآخر المستلزم لعدم إرادة الأول باعتبار أصل الوضع فيكون كل واحد من مفهوميه مرادا وغير مراد, يوضحه أن اللفظ بمنزلة الكسوة للمعاني والكسوة الواحدة لا يجوز أن يكتسبها شخصان كل واحد بكمالها في زمان واحد فكذا لا يجوز أن يدل اللفظ الواحد على أحد مفهوميه بحيث يكون هو تمام معناه ويدل على المفهوم الآخر كذلك أيضا في ذلك الزمان نعم إنما يجوز ذلك لو كان كل واحد من مفهوميه جزءا لمعنى فيكون دلالته على المجموع من حيث هو مجموع وقد اتفقوا أنه ليس كذلك; ولأنه لا يتحقق مقصود الواضع; لأنه ما وضعه إلا لفرد من أفراد مفهوماته فقط ولا يحصل الابتلاء ولا التعريف الإجمالي أيضا; لأنه يصير معلوما حينئذ من كل وجه. وأما تمسكهم بالآية الأولى فضعيف; لأن المراد من السجود هو الخشوع والانقياد على ما قيل, وهو يعم الجميع فلا يختلف المعنى, والأوجه أن قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ} [الحديد: 26] مرفوع بفعل مضمر يدل عليه يسجد الأول أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة فيكون يسجد الأول بمعنى الانقياد والخضوع والثاني بمعنى العبادة فيختلف المعنى لاختلاف اللفظ. وكذا تمسكهم بالآية الثانية; لأن المراد من الصلاة هو العناية بأمر الرسول إظهارا لشرفه فيعم الرحمة والاستغفار, أو تقدير الآية إن الله يصلي وملائكته يصلون, وأما قولهم يجوز ذلك مجازا تسمية للكل باسم الجزء ففاسد; لأن إطلاق اسم الجزء على(1/64)
............................................................................................
الكل وعكسه إنما يجوز لملازمة بينهما إذ الجزء مستلزم للكل من حيث هو جزء والكل مستلزم للجزء من كل وجه, فإن الوجه مستلزم للذات والذات مستلزم له أيضا فيجوز ذكر الوجه وإرادة لازمه وعكسه فأما ما نحن فيه, فليس من هذا الباب; لأن الينبوع الذي هو من مفهومات العين لا يستلزم الشمس ولا الباصرة ولا الذهب بوجه, وكذا العكس, وكيف يستلزمها ولا اتصال له بها بوجه لا من حيث الوجود ولا من حيث كونه مفهوم اللفظ; لأن كونه من مفهومات العين لا يتوقف على كون الباقي مفهوما منه فلا يكون بينهما علاقة بوجه فلا يجوز إطلاقه عليهما مجازا كما لا يجوز حقيقة; لأن المجاز ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
وقيل إنه يعم في النفي دون الإثبات كالنكرة والجامع أن كل واحد منهما يتناول واحدا من الجملة غير عين, وقيل لا يعم فيه أيضا لما ذكرنا, والجواب عن الاعتبار بالنكرة أن عمومها في النفي إنما يثبت ضرورة صدق خبره لا بموجب اللفظ ومثل تلك الضرورة لم يوجد في المشترك, فإنك لو قلت ما رأيت عينا وأردت به الينبوع دون سائر مفهوماته لكنت صادقا وإن تعمم في ذلك المفهوم, بخلاف قولك ما رأيت رجلا كذا في الميزان. ولا يلزم عليه ما لو حلف لا يكلم مواليه حيث يتناول يمينه الأعلى والأسفل وفيه تعميم المشترك في النفي; لأن ذلك ليس لوقوعه في موضع النفي بل; لأن المعنى الذي دعاه إلى اليمين, وهو بغضه إياهم غير مختلف فيها فلا يتحقق فيه الاشتراك بل اللفظ في هذا الحكم بمنزلة العام, فإن اسم الشيء يتناول الموجودات كلها باعتبار معنى واحد, وهو صفة الوجود, فكان منتظما للكل كذا هذا هكذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله في أصول الفقه. ومال إلى القول الأول في المبسوط وشرح الجامع قوله: "وهذا يفارق المجمل" إنما ذكر هذا; لأن بعض من صنف في هذا الفن جعل الكتاب قسمين محكما ومتشابها, وجعل كل كلام فيه ظهور من أنواع المحكم وجعل كل كلام فيه خفاء من أقسام المتشابه وجعل المشترك من أنواع المجمل وجعل المجمل مما يعرف بالتأمل في القرائن إذ المذهب عنده أن المتشابه مع جميع أقسامه مما يمكن أن يعلمه الراسخ في العلم فالمصنف رحمه الله نفى ذلك وفرق بينهما بما ذكر كذا سمعت من شيخي قدس الله روحه. فإن قلت هذا تقسيم معقول سهل المأخذ موافق للكتاب, وهو قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7], فمن أين وقع هذه التقاسيم المعضلة المخالفة لظاهر الكتاب التي ذكرتموها, قلت كم من شيء يتراءى أنه هو الصواب, فإذا كشف عنه الغطاء بالتأمل ظهر أن الحق(1/65)
مشتركا. فأما المجمل فما لا يدرك لغة لمعنى زائد ثبت شرعا أو لانسداد
ـــــــ
غيره فأنعم النظر إن الأقسام المذكورة هل هي موجودة في الكتاب أم لا؟ فإذا وجدتها فلا بد من القبول إذ ليس الخبر كالمعاينة ثم إذا اشتبه عليك النص فتأمل فيه هل هو مقتض لقصر الكتاب على القسمين أو لا ولعمري أنه لا يقتضي ذلك; لأن قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] معناه بعضه آيات محكمات. وقوله وأخر صفة لمحذوف دل عليه الظاهر, وهو آيات وتقديره والله أعلم ومنه آيات أخر متشابهات, فهذا يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه, ولا يدل على أن ليس فيه غيرهما كيف, ولم يوجد من طرق القصر, وهي العطف كقولك زيد شاعر لا منجم أو النفي والاستثناء كقولك ما زيد إلا شاعر أو إنما كقولك إنما زيد ذاهب أو التقديم كقولك تميمي أنا في هذا المقام شيء ألا ترى أنه لو عطف عليه وآيات أخر مفسرات وآيات أخر مجملات لاستقام ولو اقتضى الكلام الأول القصر على القسمين لم يستقم العطف عليه كما لو قيل منه آيات محكمات والباقي متشابهات. وأجيب عنه أيضا بأن الله تعالى قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44], والمحكم لا يحتاج إلى البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فلا بد من أن يكون فيه قسم آخر يتوقف على بيان الرسول عليه السلام ليصح إسناد البيان, إليه في قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44], فثبت أنه ليس بمقتصر على القسمين, ولقائل أن يقول ليس المراد من البيان ما زعمت بل المراد منه التبليغ إذ هو بيان أيضا ألا ترى أنه عليه السلام أمر ببيان ما نزل إليه والبيان الذي أضيف إلى جميع ما نزل ليس إلا التبليغ فأما بيان المجمل فهو بيان لبعض ما نزل لا لكله, والأولى أن يقال إن في الكتاب قسما يتوقف معرفته على بيان الرسول كالصلاة والربا والمتشابه لا يرجى بيانه والمحكم لا يتوقف معرفة معناه على البيان فثبت أنه لم يقتصر على القسمين وحاصله حينئذ يرجع إلى ما ذكرته أولا.
وبيان الفرق من وجهين: أحدهما أن المشترك قسمان: قسم يمكن ترجيح بعض وجوهه بالتأمل في معناه لغة من غير بيان آخر وقسم لا يمكن الترجيح فيه إلا بالبيان, فهذا القسم الأخير من أقسام المجمل دون الأول كما زعم المخالف, والثاني أن المشترك هو ما يمكن الوقوف على المراد منه بالتأمل من غير بيان فإذا لم يمكن ذلك لا يسمى مشتركا بل هو من أقسام المجمل فعلى الوجه الأول يسمى القسم الأخير مشتركا مع كونه مجملا وعلى الثاني لا يسمى مشتركا أصلا, والوجه الأول أصح, وإن كان ظاهر كلام المصنف يشير إلى الوجه الثاني لدخول هذا القسم في حد المشترك ولو لم يجعل هذا القسم من المشترك لم يكن الحد مانعا. والباء في: "بالتأمل" للاستعانة وفي: "برجحان" للسببية وكلاهما يتعلق بالإدراك, ولغة تمييز للمعنى في قوله معنى الكلام من باب ملأ(1/66)
باب الترجيح لغة فوجب الرجوع فيه إلى بيان المجمل على ما نبين إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
الإناء عسلا. وقوله لغة بعده تمييز عن النسبة, ونظير ما يحتمل الإدراك بالتأمل في معناه لغة قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228], فإن أصحابنا تأملوا في معنى القرء فوجدوه دالا على الجمع والانتقال في أصل اللغة وذلك في الحيض دون الطهر; لأن المجتمع هو الدم والانتقال يحصل بالحيض إذ الطهر هو الأصل, وتأملوا في لفظ الثلاثة فوجدوه دالا على الأفراد الكاملة وذلك في الحمل على الحيض فحملوه عليه, ولقائل أن يقول معنى الجمع يدل على الطهر لا على الحيض; لأن الطهر هو الجامع والدم ليس بجامع بل هو مجتمع. قوله: "لمعنى زائد" ثبت شرعا كالربا, فإنه اسم للزيادة وهي بنفسها ليست بمرادة; لأن البيع وضع للاسترباح وكالصلاة, فإنها اسم للدعاء أو تحريك الصلوين وليس ذلك بمراد بنفسه أو لانسداد باب الترجيح لغة كالناهل للعطشان والريان والصريم للصبح والليل وكما لو أوصى بثلث ماله لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم ومات قبل أن يبين بطلت الوصية; لأن المولى مشترك يتناول الأعلى والأسفل حقيقة واستعمالا ولا يمكن إدخالهما جميعا في الإيجاب لاختلاف المعنى; لأن الأعلى منعم والأسفل منعم عليه ولا يمكن التعيين; لأن مقاصد الناس مختلفة فمنهم من يقصد الأعلى بالوصية مجازاة وشكرا لإنعامه ومنهم من يقصد الأسفل إتماما للإنعام فلا يوقف على مراد الموصي وربما يؤدي التعيين إلى إبطال مراده فلذلك بطلت الوصية, وقال زفر1: رحمه الله إن الوصية للفريقين وجعله قياس ما لو حلف لا يكلم مواليه حيث يتناول يمينه الأعلى والأسفل, ولكن الفرق بينهما أن المقصود في الإيصاء مختلف فأما المقصود في اليمين فلا يختلف فيمكن أن يجعل كلامه مجازا عن أحدهما بالنظر إلى اتحاد المقصود ويتعمم باعتبار هذا المجاز, وعن أبي يوسف رحمه الله أنه أجاز الوصية وصرفها إلى الموالي الذين أعتقوه; لأن شكر الإنعام واجب وإتمامه مندوب فصار صرفها إلى أداء الواجب أولى, والجواب أن هذا الجواب لا يدخل في الحكم فلا يصح اعتباره في الحكم. وعن محمد رحمه الله أنه قال إذا اصطلحوا على حده صح; لأن الجهالة تزول به كما في مسألة الإقرار لأحد هذين كذا في جامع المصنف وشمس الأئمة رحمهما الله, والحاصل أن المجمل قسمان ما ليس له ظهور أصلا كالصلاة والزكاة والربا وما له ظهور من وجه كالمشترك الذي انسد فيه باب الترجيح, فإنه ظاهر في أن المتكلم أراد هذا أو ذاك ولم يرد شيئا آخر ولكنه مجمل في تعيين ما أراده من المعنيين فقوله لمعنى زائد ثبت شرعا إشارة إلى القسم الأول وقوله أو لانسداد باب الترجيح لغة إشارة إلى القسم الثاني.
ـــــــ
1 هو أبو الهذيل زفر بن قيس العنبري ولد سنة 110 هـ وتوفي سنة 158 هـ.(1/67)
"تعريف المؤول"1
وأما المؤول فما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي وهو مأخوذ من آل يئول إذا رجع وأولته إذا رجعته وصرفته; لأنك لما تأملت في
ـــــــ
قوله: "وأما المؤول فكذا" قيد بقوله من المشترك وبغالب الرأي وهما ليسا بلازمين, فإن صاحب الميزان ذكر فيه أن الخفي والمشكل والمشترك والمجمل إذا لحقها البيان بدليل قطعي يسمى مفسرا, وإذا زال الإشكال أي الخفاء بدليل فيه شبهة كخبر الواحد والقياس يسمى مؤولا, وذكر في التقويم بعد ذكر المؤول وتفسيره كما فسره الشيخ هنا وكذا المراد من الكلام متى خفي لدقته فأوضح بالرأي كان مؤولا, وقال صدر الإسلام المؤول اسم لمشترك تناول بعض ما دخل تحته بدليل غير مقطوع به من القياس ونحوه فثبت بما ذكرنا أن القيدين ليسا بلازمين فعلى هذا يكون المراد من قوله من المشترك ما فيه نوع خفاء ومن غالب الرأي ما يوجب الظن فيكون تقدير الكلام المؤول ما ترجح مما فيه خفاء بعض وجوهه بدليل ظني فقوله ما ترجح بعض وجوهه بمنزلة الجنس فدخل فيه المفسر بقوله بدليل ظني احترز عنه. وقوله مما فيه خفاء ليس بلازم أيضا; لأن الظاهر والنص يقبلان التأويل أيضا قال شمس الأئمة: المفسر فوق الظاهر والنص; لأن احتمال التأويل قائم فيهما في المفسر, فالأولى أن يجعل قوله من المشترك زائدا لا عبارة عما فيه خفاء أو يجعل بمعنى المحتمل أي المؤول ما ترجح من اللفظ المحتمل بعض محتملاته ليتناول الجميع, ولكنه خلاف الظاهر, فإن سياق كلامه يدل على أن المراد هو المشترك الذي سبق ذكره, فإن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى.
وقيل في حد التأويل هو اعتبار احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر, ثم قيل إنما دخل المؤول في أقسام النظم; لأن الحكم بعد التأويل يضاف إلى الصيغة واللغة; لأن إضافة الحكم إلى الدليل الأقوى أولى; ولهذا كان
ـــــــ
1 عبارة السرخسي المؤول تبين بعض ما يحتمل المشترك بغالب الرأي والاجتهاد أصول السرخسي 1/127.(1/68)
موضع اللفظ فصرفت اللفظ إلى بعض المعاني خاصة فقد أولته إليه وصار ذلك عاقبة الاحتمال بواسطة الرأي قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}
ـــــــ
الحكم في المنصوص عليه مضافا إلى النص لا إلى العلة; لأنه أقوى منها, وإن كان في غير محل النص مضافا إلى العلة بخلاف المفسر; لأن التفسير اللاحق به مثله في القوة فيجوز إضافة الحكم إلى المفسر, وهذا كالمجمل إذا لحقه البيان بخبر الواحد يكون ذلك ثابتا قطعا, وإن كان خبر الواحد لا يوجب الحكم بنفسه قطعا; لأن بعد البيان يضاف الحكم إلى المفسر لكونه أقوى لا إلى خبر الواحد ألا ترى أن خبر الواحد وهو قوله عليه السلام إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك لما التحق بيانا بقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72], ثبتت فرضية القعدة الأخيرة لما ذكرنا. قال العبد الضعيف أصلح الله شأنه أما قولهم المؤول من أقسام النظم بالطريق الذي ذكروا فمشكل; لأنه إن كان يستقيم فيما إذا ترجح بعض وجوه المشترك بالرأي فلا يستقيم فيما إذا ظهر المراد من الخفي أو المشكل بالرأي ولا فيما إذا حمل الظاهر أو النص على بعض محتملاته بدليل ظني; لأنها ليست من أقسام الصيغة واللغة إلا أن يجعل قوله من المشترك قيدا لازما عند المصنف وفيه تعسف. وأما قولهم المجمل إذا لحقه البيان بخبر الواحد يكون الثابت به قطعيا فليس كذلك لما ذكرنا; ولأن مثل هذا البيان لا يوجب الكشف لكونه ظنيا مثل القياس فكيف تثبت به الفرضية, فإنها لا تثبت إلا بما هو قطعي الدلالة والثبوت, فإن خبر الواحد لا يثبت الفرضية وإن كان قطعي الدلالة, وكذا العام المخصوص, وإن كان قطعي الثبوت, وأي فرق بين معرفة المراد من المشترك بالرأي الذي هو ظني وبين معرفة المراد من المجمل بخبر الواحد الذي هو ظني. وأما استدلالهم بالقعدة ففاسد; لأنا لا نسلم أنها فريضة بل هي واجبة ولكن الواجب نوعان: واجب في قوة الفرض في العمل كالوتر عند أبي حنيفة رحمه الله حتى منع تذكره صحة الفجر كتذكر العشاء, وواجب دون الفرض في العمل فوق السنة كتعيين الفاتحة حتى وجب سجود السهو بتركها ولكن لا تفسد الصلاة فالقعدة من القسم الأول; فلذلك سميناها فرضا فأما أن يجب اعتقاد فرضيتها بحيث يكفر جاحدها أو يضلل فلا, ألا ترى أن أبا بكر الأصم ومالكا لم يكفرا بإنكارهما فرضيتها ولم يكفر ابن عباس رضي الله عنهما بإنكاره ربا النقد مع لحوق البيان بآية الربا في الأشياء الستة. ولم يكفر من أنكر تقدير فرض المسح بالربع مع لحوق خبر المغيرة بيانا بمجمل الكتاب, وهو قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] حتى قال بعض أصحابنا بالتقدير بثلاثة أصابع والشافعي بالقطر ومالك1 بالاستيعاب وكيف يثبت
ـــــــ
1 هو إمام المدينة والمجتهد المطلق مالك بن أنس ولد سنة 93 هـ توفي سنة 179 هـ.(1/69)
[الأعراف: 53] أي عاقبته وليس هذا كالمجمل إذا عرفت بعض وجوهه ببيان المجمل فإنه يسمى مفسرا لأنه عرف بدليل قاطع فسمي مفسرا أي مكشوفا كشفا بلا شبهة مأخوذ من قولهم أسفر الصبح إذا أضاء إضاءة لا شبهة فيه وسفرت
ـــــــ
الحكم قطعا بمثل هذا البيان وفي ثبوته بيانا شبهة, أولته بضم التاء إذا رجعته وصرفته بفتح التاءين, وصار ذلك عاقبة الاحتمال أي احتمال اللفظ إياه, قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53], أي عاقبة أمر الكتاب وما يئول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد. قوله: "وليس هذا كالمجمل" أي ليس المؤول على التفسير الذي قلنا كالمجمل الذي عرف معناه ببيان المجمل, فإن ذلك مفسر وليس بمؤول وكذا الظاهر أو النص أو المشكل أو غيرها إذا التحق به بيان قاطع فهو مفسر لا مؤول فلا يكون ما ذكر مختصا بالمجمل لكن غرضه إثبات الفرق بين التفسير والتأويل; لأن الحديث المذكور يقتضي حرمة تفسير القرآن بالرأي بآكد الوجوه وإجماع الأمة من حيث العمل على استخراج معاني القرآن بالرأي يقتضي الجواز ولا بد من التوفيق ففرقوا بينهما وقالوا النهي وارد عن التفسير دون التأويل.
ثم اختلفوا في الفرق فقيل التفسير هو الإخبار عن شأن من نزل فيه وعن سبب نزوله وذلك علم الصحابة رضي الله عنهم; لأنهم شهدوا ذلك فهم يقولون فيه بالعلم وغيرهم بالرأي والتأويل, وهو تبيين ما يحتمله اللفظ من المعاني ولهذا قيل التفسير للصحابة والتأويل للفقهاء, وقيل التفسير بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحدا والتأويل توجيه لفظ يتوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر عنده من الأدلة, وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله: هو القطع على أن المراد باللفظ هذا فإن قام دليل مقطوع به على المراد يكون تفسيرا صحيحا مستحسنا, وإن قطع على المراد لا بدليل مقطوع به فهو تفسير بالرأي, وهو حرام; لأنه شهادة على الله تعالى بما لا يأمن أن يكون كذبا, فأما التأويل فهو بيان عاقبة الاحتمال بالرأي دون القطع فيقال يتوجه اللفظ إلى كذا وكذا, وهذا الوجه أوجه لشهادة الأصول فلم يكن فيه شهادة على الله تعالى كذا في شرح التأويلات فالمصنف اختار قول الشيخ أبي منصور رحمهما الله. قوله: "مأخوذ من كذا" مدار تركيب السفر يدل على الكشف لما ذكر.
ومنه يقال سفرت البيت أي كنسته, ومنه السفير; لأنه يكشف مراد اثنين وسافر الرجل انكشف عن البنيان ومنه السفر; لأنه يكشف عن أخلاق المرء وأحواله, فيكون هذا اللفظ أي التفسير مقلوبا من التسفير ومعناهما واحد, وهو الكشف والإظهار على وجه لا شبهة فيه فيكون من باب الاشتقاق الكبير كجبذ وجذب وطسم وطمس إلا أنه قيل(1/70)
المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب فيكون هذا اللفظ مقلوبا من التفسير وهذا معنى قول النبي عليه السلام: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" 1 أي قضى بتأويله واجتهاده على أنه مراد الله تعالى; لأنه نصب نفسه صاحب وحي وفي هذا إبطال قول المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب لأنه يصير الثابت بالاجتهاد تفسيرا وقطعا على حقيته مرادا, وهذا باطل.
ـــــــ
السفر كشف الظاهر لما ذكرنا والفسر كشف الباطن ومنه التفسرة للقارورة التي يؤتى بها عند الطبيب; لأنها يكشف عن باطن العليل فسمي كشف المعاني تفسيرا; لأنه كشف باطن الألفاظ. قوله: "وهذا معنى قول النبي" أي ما ذكرنا أن التفسير هو الكشف بلا شبهة هو المراد من التفسير المذكور في الحديث, وقوله عليه السلام: "فليتبوأ" أمر بمعنى الخبر أي فقد تبوأ أي اتخذ النار منزلا, قضي بتأويله الباء للاستعانة, والضمير في أنه راجع إلى الحاصل بالتأويل والاجتهاد أي حكم بأن ما صرفت اللفظ إليه واجتهدت في استخراجه, وهو مراد الله تعالى, وفي هذا أي الحديث إبطال قولهم لما ذكر, وما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال كل مجتهد مصيب أراد به في حق العمل أي يجوز له العمل بما أدى إليه اجتهاده ويؤجر عليه, وإن كان خطأ عند الله تعالى أو أراد أن كل مجتهد مصيب في المقدمات ولكنه يقع في الخطإ بعد ذلك إن أصاب الحق غيره.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 2951 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/269 و293 و323 و327.(1/71)
"تعريف الظاهر والنص"
وأما القسم الثاني فإن الظاهر اسم لكل كلام ظهر المراد به للسامع بصيغته مثل قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فإنه ظاهر في الإطلاق قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] هذا
ـــــــ
قوله: "الظاهر اسم لكل" المراد من الظاهر هو المصطلح أي الشيء الذي يسمى ظاهرا في اصطلاح الأصوليين, ومن قوله ما ظهر الظهور اللغوي فلا يكون فيه تعريف الشيء بنفسه إذ الأول بمنزلة العلم فلا يراعى فيه المعنى, وقيل هو ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالا مرجوحا, وقيل هو ما لا يفتقر في إفادته لمعناه إلى غيره قوله: "وأما النص فكذا" اعلم أن أكثر من تصدى لشرح هذا الكتاب والمختصر ذكروا أن قصد المتكلم إذا اقترن بالظاهر صار نصا وشرط في الظاهر أن لا يكون معناه مقصودا بالسوق أصلا فرقا بينه وبين النص, قالوا لو قيل رأيت فلانا حين جاءني القوم ظاهرا في مجيء القوم لكونه غير مقصود بالسوق ولو قيل ابتداء جاءني القوم كان نصا في مجيء القوم لكونه مقصودا بالسوق, وهذا; لأن الكلام إذا سيق لمقصود كان فيه زيادة ظهور وجلاء بالنسبة إلى غير المسوق له; ولهذا كانت عبارة النص راجحة على إشارته, قالوا وإليه أشار المصنف بقوله بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة وبقوله فازداد وضوحا على الأول بأن قصد به وسيق له. قلت هذا الكلام حسن ولكنه مخالف لعامة الكتب, فإن شمس الأئمة رحمه الله ذكر في أصول الفقه الظاهر ما يعرف المراد منه بنفس السماع من غير تأمل, مثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]. وقوله جل ذكره: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275], وقوله عز اسمه: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38], فهذا ونحوه ظاهر يوقف على المراد منه بسماع الصيغة. وهكذا ذكر القاضي الإمام أبو زيد في التقويم وصدر الإسلام أبو اليسر في أصول الفقه أيضا, ورأيت في نسخة أخرى من تصانيف أصحابنا في أصول الفقه الظاهر اسم لما يظهر المراد منه بمجرد السمع من غير إطالة فكرة ولا إجالة رؤية نظيره في الشرعيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [لقمان: 33], وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2], وذكر السيد الإمام الأجل أبو(1/72)
ظاهر في الإحلال وأما النص فما ازداد وضوحا على الظاهر بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة مأخوذ من قولهم نصصت الدابة إذا استخرجت بتكلفك
ـــــــ
القاسم السمرقندي رحمه الله الظاهر ما ظهر المراد منه لكنه يحتمل احتمالا بعيدا نحو الأمر يفهم منه الإيجاب, وإن كان يحتمل التهديد وكالنهي يدل على التحريم, وإن كان يحتمل التنزيه فثبت بما ذكرنا أن عدم السوق في الظاهر ليس بشرط بل هو ما ظهر المراد منه سواء كان مسوقا أو لم يكن ألا ترى كيف جمع شمس الأئمة وغيره في إيراد النظائر بين ما كان مسوقا وغير مسوق وألا ترى أن أحدا من الأصوليين لم يذكر في تحديده للظاهر هذا الشرط, ولو كان منظورا إليه لما غفل عنه الكل, ليس ازدياد وضوح النص على الظاهر بمجرد السوق كما ظنوا إذ ليس بين قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32], مع كونه مسوقا في إطلاق النكاح وبين قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3], مع كونه غير مسوق فيه فرق في فهم المراد للسامع, وإن كان يجوز أن يثبت لأحدهما بالسوق قوة يصلح للترجيح عند التعارض كالخبرين المتساويين في الظهور يجوز أن يثبت لأحدهما مزية على الآخر بالشهرة أو التواتر أو غيرهما من المعاني, بل ازدياده بأن يفهم منه معنى لم يفهم من الظاهر بقرينة نطقية تنضم إليه سباقا أو سياقا تدل على أن قصد المتكلم ذلك المعنى بالسوق كالتفرقة بين البيع والربا لم تفهم من ظاهر الكلام بل بسياق الكلام. وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: 275], عرف أن الغرض إثبات التفرقة بينهما, وأن تقدير الكلام: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فأنى يتماثلان, ولم يعرف هذا المعنى بدون تلك القرينة بأن قيل ابتداء: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275], يؤيد ما ذكرنا ما قال شمس الأئمة: رحمه الله وأما النص فما يزداد بيانا بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهرا بدون تلك القرينة وإليه أشار القاضي الإمام في أثناء كلامه وقال صدر الإسلام النص فوق الظاهر في البيان لدليل في عين الكلام, وقال الإمام اللامشي1: النص ما فيه زيادة ظهور سيق الكلام لأجله وأريد بالإسماع باقتران صيغة أخرى بصيغة الظاهر كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275], نص في التفرقة بين البيع والربا حيث أريد بالإسماع ذلك بقرينة دعوى المماثلة. وأما قوله بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة فمعناه ما ذكرنا أن المعنى الذي به ازداد النص وضوحا على الظاهر ليس له صيغة في الكلام يدل عليه وضعا بل يفهم بالقرينة التي اقترنت بالكلام أنه هو الغرض للمتكلم من السوق كما أن فهم
ـــــــ
1 هو الحسين بن علي أبو القاسم عماد الدين اللامشي نسبة إلى لامش قرية من قرى فرغانة فقيه حنفي.(1/73)
منها سيرا فوق سيرها المعتاد وسمي مجلس العروس منصة لأنه ازداد ظهورا على سائر المجالس بفضل تكليف اتصل به ومثاله قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} فإن هذا ظاهر في الإطلاق نص في بيان العدد; لأنه سبق الكلام للعدد وقصد به فازداد ظهورا على الأول بأن قصد به وسيق له ومثله قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} فإنه ظاهر للتحليل
ـــــــ
التفرقة ليس باعتبار صيغة تدل عليه لغة بل بالقرينة السابقة التي تدل على أن قصد المتكلم هو التفرقة ولو ازداد وضوحا بمعنى يدل عليه صيغة بصير مفسرا فيكون هذا احترازا عن المفسر. يقال الماشطة تنض العروس فتقعدها على المنصة بفتح الميم, وهي كرسيها لترى بين النساء.
قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3], أي ما حل لكم من النساء; لأن منهن ما حرم كاللاتي في آية التحريم, وقيل ما ذهابا إلى الصفة; لأن ما سؤال عن الصفة كما أن من سؤال عن الذات; ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6].
{مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3], معدولة عن أعداد مكررة, وإنما منعت التصريف لما فيها من العدلين عدلها عن صيغتها وعدلها عن تكررها, وهي نكرات يعرفن فاللام التعريف تقول فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ومحلهن النصب على الحال مما طاب تقديره فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا كذا في الكشاف, وقيل ما طاب أي ما أدرك من طابت الثمرة إذا أدركت والوجه هو الأول; لأن نكاح الصغائر جائز, ظاهر في الإطلاق أي في إباحة نكاح ما يستطيبه المرء من النساء; لأن أدنى درجات الأمر الإباحة, وقيل في اختياره لفظ الإطلاق إشارة إلى أن الأصل في النكاح الحظر; لأن النكاح رق وكونها حرة ينافي صيرورتها مملوكة; ولأنها مكرمة بالتكريم الإلهي كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الاسراء: 70], وصيرورتها موطوءة مصبة للماء المهين ينافي التكريم إلا أنه أبيح للضرورة على ما عرف ففي قوله الإطلاق إشارة إلى إزالة هذه الحرمة, الضمير في لأنه للشأن. وقصد به أي قصد العدد بالسوق, فازداد هذا الكلام, وهو قوله تعالى: {فَانْكِحُوا} [النساء: 3] إلى قوله رباع, وضوحا على الأول, وهو قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] من غير ذكر عدد بسبب أن قصد العدد بالكلام وسيق الكلام للعدد, وهذا المعنى لم يكن مفهوما من الأول.(1/74)
والتحريم نص للفصل من البيع والربا لأنه سيق الكلام لأجله فازداد وضوحا بمعنى من المتكلم لا بمعنى في صيغته وحكم الأول ثبوت ما انتظمه يقينا وكذلك الثاني إلا أن هذا عند التعارض أولى منه.
ـــــــ
قوله: "وحكم الأول", وهو الظاهر ثبوت ما انتظمه يقينا عاما كان أو خاصا وكذا الثاني, وهو النص عاما كان أو خاصا, وهو مذهب مشايخ العراق من أصحابنا منهم الشيخ أبو الحسن الكرخي1 وأبو بكر الجصاص وإليه ذهب القاضي أبو زيد ومن تابعه وعامة المعتزلة وقال عامة مشايخ ديارنا منهم: الشيخ أبو منصور رحمه الله حكم الظاهر وجوب العمل بما وضع له اللفظ ظاهرا لا قطعا ووجوب اعتقاد حقية ما أراد الله تعالى من ذلك وكذا حكم النص وبه قال أصحاب الحديث وبعض المعتزلة وهو بناء على أن العام الخالي من قرينة الخصوص يوجب العلم والعمل قطعا عندنا وعندهم بخلافه لاحتمال الخصوص في الجملة وكذا كل حقيقة محتمل للمجاز ومع الاحتمال لا يثبت القطع كذا في الميزان, وحاصله أن ما دخل تحت الاحتمال. وإن كان بعيدا لا يوجب العلم بل يوجب العمل عندهم كخبر الواحد والقياس وعندنا لا عبرة للاحتمال البعيد, وهو الذي لا تدل عليه قرينة; لأن الناشئ عن إرادة المتكلم, وهي أمر باطن لا يوقف عليه والأحكام لا تتعلق بالمعاني الباطنة كرخص المسافر لا تتعلق بحقيقة المشقة والنسب بالأعلاق والتكليف باعتدال العقل لكونها أمورا باطنة بل بالسفر الذي هو سبب المشقة والفراش الذي هو دليل الأعلاق والاحتلام الذي هو دليل اعتدال العقل وسيأتي بيان هذا بعد إن شاء الله تعالى, وذكر الغزالي رحمه الله في المستصفى الظاهر هو الذي يحتمل التأويل والنص هو الذي لا يحتمله ثم قال النص يطلق في تعريف العلماء على ثلاثة أوجه: الأول ما أطلقه الشافعي, فإنه سمى الظاهر نصا فهو منطلق على اللغة ولا مانع في الشرع والنص في اللغة بمعنى الظهور تقول العرب نصت الظبية رأسها إذا رفعت وأظهرت فعلى هذا حده حد الظاهر, وهو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص. الثاني: وهو الأشهر هو ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد كالخمسة مثلا, فإنه نص في معناه لا يحتمل شيئا آخر فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا في
ـــــــ
1 هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي الفقيه الحنفي المولود سنة 260 هـ توفي سنة 340 هـ.(1/75)
...........................................................................................
طرفي الإثبات والنفي أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نص, ويجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا وظاهرا ومجملا لكن بالإضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد.
الثالث التعبير: بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص, وهو المعتضد بدليل ولا حجر في إطلاق النص على هذه المعاني الثلاثة لكن الإطلاق الثاني أوجه وأشهر وعن الاشتباه بالظاهر أبعد, فظهر بهذا أن موجب الظاهر والنص على التفسير الذي اختاره مشايخنا ظني عند أصحاب الشافعي فأما على التفسير الذي اختاروه فقطعي كالمفسر. "وقوله إلا أن هذا" أي النص استثناء منقطع من المساواة التي دل عليها قوله, وكذا الثاني فيكون بمعنى لكن, أولى منه أي من الظاهر; لأن النص لما كان أوضح بيانا كان العمل به أولى; ولأن فيه جمعا بين الدليلين بخلاف العكس لإمكان حمل الظاهر على معنى يوافق النص من غير عكس; ولأنا إنما لم نعتبر الاحتمال الذي في الظاهر لعدم دليل يعضده فلما تأيد ذلك الاحتمال بمعارضة النص وجب حمله عليه. ونظير التعارض بين الظاهر والنص من الكتاب قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24], مع: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3], فإن الأول ظاهر عام في إباحة نكاح غير المحرمات فيقتضي بعمومه وإطلاقه جواز نكاح ما وراء الأربع والثاني نص يقتضي اقتصار الجواز على الأربع فيتعارضان فيما وراء الأربع فيرجح النص ويحمل الظاهر عليه, ومن السنة قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" 1 مع قوله عليه السلام: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 2 فالأول ظاهر في نفي الجواز عام في كل صلاة; لأن لا هذه لنفي الجنس فيتناول صلاة المقتدي والمنفرد والثاني نص; لأنه أشد وضوحا في إفادة معناه من الأول; لأن استعمال لا لنفي الفضيلة واستعمال العام في بعض مفهوماته شائع ذائع فيتعارضان في حق المقتدي فيعمل بالنص ويحمل الأول على المنفرد أو على نفي الفضيلة.
ـــــــ
1 أخرجه النابلسي في المواريث 1/281 – 282.
2 أخرجه أحمد وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه مرفوعا.(1/76)
"تعريف المفسر"1
وأما المفسر فما ازداد وضوحا على النص سواء كان بمعنى في النص أو بغيره بأن كان مجملا فلحقه بيان قاطع فانسد به التأويل أو كان عاما فلحقه ما انسد به باب التخصيص مأخوذا مما ذكرنا وذلك مثل قوله تعالى: {فَسَجَدَ
ـــــــ
قوله: "وأما المفسر فما ازداد" أي فكلام ازداد وضوحا على النص; لأن احتمال التأويل منقطع فيه بخلاف النص, فإن احتماله قائم فيه, سواء كان ذلك الوضوح بسبب معنى في النص, بأن كان أي النص مجملا, وهو تسامح في العبارة لأن النص لا يكون مجملا بالنسبة إلى معنى واحد, وإنما أراد به اللفظ أو الكلام ههنا. وقوله بأن كان مجملا بدل من قوله بمعنى في النص بتكرير العامل, فلحقه بيان قاطع احتراز عما ليس بقاطع ثبوتا أو دلالة حتى لا يصير المجمل مفسرا بخبر الواحد, وإن كان قطعي الدلالة ولا ببيان فيه احتمال, وإن كان قطعي الثبوت بل هو بعد في حيز التأويل, وإن كان خرج عن حيز الإجمال, ولهذا قال فانسد به باب التأويل نتيجة لقوله بيان قاطع أي بيان قاطع لا يحتمل الكلام التأويل بعد لحوقه به, وإن كان النص أي اللفظ عاما, وهو بيان لقوله بغيره على طريقة اللف والنشر ومن حقه أن يعاد حرف الجر ويقال بأن كان عاما إلا أن الشيخ لم يلتفت إلى ذلك نظرا إلى حصول فهم المعنى بدونه.
وحاصله أن البيان كما يلتحق بالكلام للتفسير يلتحق به للتأكيد والتقرير وبيان التفسير سببه معنى في نفس الكلام وهو الإجمال أما بيان التقرير فسببه إرادة المتكلم لا معنى في الكلام; لأنه ظاهر في إفادة معناه لا يحتاج فيه إلى بيان ولكنه يحتمل أن يراد به غير ظاهره وذلك إنما يثبت بإرادة المتكلم فالتحاق البيان به يقطع ذلك الاحتمال, وقيل معنى قوله بمعنى في النص أن البيان يكون متصلا به كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 19, 21], فسر الهلوع الذي كان مجملا ببيان متصل به. سئل أحمد بن يحيى ما الهلع فقال قد فسره
ـــــــ
1 عرفه الشاشي بأنه ما ظهر المراد به من اللفظ ببيان من قبل المتكلم بحيث لا يبقى معه احتمال التأويل والتخصيص ص 76.(1/77)
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] فإن الملائكة جمع عام محتمل للتخصيص فانسد باب التخصيص بذكر الكل وذكر الكل احتمل تأويل التفرق فقطعه بقوله أجمعون فصار مفسرا وحكمه الإيجاب قطعا بلا احتمال تخصيص ولا تأويل إلا أنه يحتمل النسخ والتبديل.
ـــــــ
الله ولا يكون تفسير أبين من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع, وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس وكما في النظير المذكور في الكتاب, ومعنى قوله بغيره أن لا يكون بيانه متصلا به بل ثبت ذلك بكلام آخر كالصلاة والزكاة ثبت تفسيرهما بأقوال النبي وأفعاله لا ببيان متصل به فالمثال المذكور في الكتاب على التفسير الأول من القسم الثاني وعلى التفسير الثاني من القسم الأول والصلاة والزكاة على العكس من ذلك والهلوع على التفسيرين من القسم الأول.
قوله: "جمع" أي صيغة, عام أي معنى, وإنما ذكرهما; لأن صيغة الجمع قد يسلب عنها معنى العموم بدخول اللازم كما في قوله لا أتزوج النساء وقد يذكر ويراد به الواحد مجازا كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ} [آل عمران: 42] قيل المراد جبريل عليه السلام, ويصلح هذا المثال نظيرا للأقسام الأربعة; لأن قوله تعالى فسجد الملائكة ظاهر في سجود الملائكة وبقوله كلهم ازداد وضوحا على الأول فصار نصا وبقوله أجمعون انقطع الاحتمال بالكلية فصار مفسرا, وهو إخبار لا يقبل النسخ فيكون محكما, وحكمه الإيجاب قطعا, وهذا لا خلاف فيه لأحد من أهل العلم "قوله بلا احتمال تخصيص ولا تأويل" إشارة إلى رجحانه على النص قال المصنف: رحمه الله في شرح التقويم1 وحكمه اعتقادا ما في النص وأنه لا يحتمل التأويل فيكون أولى من النص عند المقابلة. قال شمس الأئمة: رحمه الله مثاله ما قال علماؤنا فيمن تزوج امرأة شهرا يكون ذلك متعة لا نكاحا; لأن قوله تزوجت نص للنكاح ولكن احتمال المتعة فيه قائم. وقوله شهرا مفسر في المتعة ليس فيه احتمال النكاح, فإن النكاح لا يحتمل التوقيت بحال فإذا اجتمعا رجحنا المفسر وحملنا النص على ذلك المفسر فكان متعة لا نكاحا وذكر غيره نظير التعارض بينهما قوله عليه السلام: "المستحاضة تتوضأ لكل صلاة" مع قوله صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة" قال; لأن الأول مسوق في مفهومه فكان نصا ولكنه يحتمل التأويل إذا اللام يستعار للوقت
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 297 وأخرجه الترمذي في الطهارة حديث رقم 126 وأخرجه ابن ماجه في الطهارة حديث رقم 625.(1/78)
............................................................................................
والثاني لا يحتمله فيكون مفسرا فيرجح ويحمل الأول عليه ولكن الأولى أن يجعل هذا نظير تعارض الظاهر مع النص أو المفسر لما بينا أن الاعتبار لازدياد الوضوح لا للسوق, إلا أنه أي المفسر يحتمل النسخ أي في نفس الأمر لا هذا المثال, فإنه من الإخبارات والخبر لا يحتمل النسخ ونعني به المعنى القائم باللفظ; لأنه يؤدي حينئذ إلى الكذب أو الغلط, وهو محال على الله تعالى. فأما اللفظ فيجوز أن يجري فيه النسخ, وإن كان معناه محكما, فإنه يجوز أن لا يتعلق بهذا النظم جواز الصلاة وحرمة القراءة للجنب, وهو المراد من نسخ اللفظ وكذا يحتمل الاستثناء, فإن إبليس استثني من قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} [الحجر: 30] لكن الشيخ لم يذكره; لأن هذا الاحتمال ينقطع بعد تمام الكلام; لأن الاستثناء لا يصح متراخيا فأما احتمال النسخ فباق; لأنه لا يثبت إلا متراخيا(1/79)
"تعريف المحكم"
فإذا ازداد قوة وأحكم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل سمي محكما من أحكام البناء قال الله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
ـــــــ
فإذا ازداد, أي المفسر, قوة وأحكم المراد به, الباء يتعلق بالإرادة وضمن "أحكم" معنى امتنع أو أمن أي امتنع المعنى الذي أريد بالمفسر عن النسخ والتبديل وهما مترادفان ههنا, سمي محكما فظهر بما ذكر أنه لا بد من كون الكلام في غاية الوضوح في إفادة معناه وكونه غير قابل للنسخ ليسمى محكما, وهو قول عامة الأصوليين من أصحابنا, ومنهم من لم يشترط كونه غير قابل للنسخ, وقال هو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا, وقيل ما في العقل بيانه, وقيل هو الناسخ وقيل هو ما يوقف عليه ويفهم مراده, وقيل هو ما ظهر لكل أحد من أهل الإسلام حتى لم يختلفوا فيه, والمتشابه على أضدادها, وقيل هو ما فيه الفرائض والحدود, وقيل ما فيه الحلال والحرام والأصح هو الأول; لأن مأخذه يدل على أنه لا يقبل النسخ يقال بناء محكم أي مأمون الانتقاض وأحكمت الصنعة أي أمنت نقضها وتبديلها, وقيل هو مأخوذ من قولهم أحكمت فلانا عن كذا أي منعته, قال الشاعر1:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا.
ومنه حكمة الفرس; لأنها تمنعه من العثار والفساد فالمحكم ممتنع من احتمال التأويل, ومن أن يرد عليه النسخ والتبديل; ولهذا سمى الله تعالى المحكمات أم الكتاب أي الأصل الذي يكون المرجع إليه بمنزلة الأم للولد وسميت مكة أم القرى; لأن الناس يرجعون إليها للحج وفي آخر الأمر والمرجع ما ليس فيه احتمال التأويل ولا احتمال النسخ والتبديل كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله. ثم انقطاع احتمال النسخ قد يكون لمعنى في ذاته بأن لا يحتمل التبدل عقلا كالآيات الدالة على وجود الصانع وصفاته جل جلاله
ـــــــ
1 هو جرير انظر شرح ديوان جرير ص 47.(1/80)
عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] [التوبة: 115] [المجادلة: 7] وأما الأربعة التي تقابل هذه الوجوه:
ـــــــ
وحدوث العالم, ويسمى هذا محكما لعينه, وقد يكون بانقطاع الوحي بوفاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويسمى هذا محكما لغيره.
قوله: "تقابل هذه الوجوه" إنما اختار لفظ المقابلة الذي هو أعم من التضاد الذي ذكره غيره ليمكنه بيان تحقيق المقابلة ونهاية الخلاف بقوله بعارض غير الصيغة, ولا يرد عليه من السؤال ما ورد على غيره فلا يحتاج إلى جواب ضعيف لا يقبله السائل.(1/81)
"الخفي"
فالخفي اسم لكل ما اشتبه معناه وخفي مراده بعارض غير الصيغة لا ينال إلا بالطلب, وذلك مأخوذ من قولهم اختفى فلان أي استتر في مصره بحيلة عارضة من غير تبديل في نفسه فصار لا يدرك إلا بالطلب وذلك مثل النباش والطرار, وهذا في مقابلة الظاهر.
ـــــــ
"قوله ما اشتبه معناه وخفي مراده" قيل ما اشتبه معناه من حيث اللغة وخفي مراده أي الحكم الشرعي كما أن معنى السارق لغة, وهو آخذ مال الغير على سبيل الخفية اشتبه في حق الطرار والنباش, وكذا حكمه, وهو وجوب القطع خفي في حقهما. والأشبه أنهما ينبئان عن معنى واحد بمنزلة المترادفين; ولهذا لم يذكر الأول في المختصر والتقويم, بعارض غير الصيغة أي خفي بسبب عارض لا أن يكون اللفظ خفيا في نفسه فإن آية السرقة ظاهرة في كل سارق لم يعرف باسم آخر ولكنها خفية في الطرار والنباش لعارض اختصاصهما باسمين آخرين يعرفان بهما واختلاف الأسماء يدل على اختلاف المعاني فبعدا بهذه الواسطة عن اسم السرقة; فلهذا خفيت الآية في حقهما, "وقوله لا ينال إلا بالطلب" تأكيد. وفي قوله, وذلك أي الخفي مثل الطرار والنباش تسامح; لأنهما ليسا بخفيين بل آية السرقة خفية في حقهما ولكن لما حصل المقصود, وهو فهم المعنى لم يلتفت الشيخ إلى جانب اللفظ, والأولى أن يقال, وذلك مثل آية السرقة في حق الطرار والنباش كما ذكر هو في شرح التقويم وغيره في تصانيفهم, ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى العارض أي العارض الذي صارت الآية خفية بسببه مثل اسم الطرار والنباش ولكن فيه بعد, وذكر شمس الأئمة بعارض في الصيغة مكان قول المصنف بعارض غير الصيغة وعنى به أن الخفاء في الصيغة, وهو السارق مثلا بالعارض, وهو ما ذكرنا لا أن يكون أصله خفيا فيكون موافقا لما ذكره الشيخ رحمه الله, وقيل المراد من الصيغة في كلام المصنف نظم الآية والمراد منها في كلام شمس الأئمة صيغة الطرار والنباش مثلا ولا اختلاف إذا بين كلاميهما ولكن الوجه هو الأول.(1/82)
"المشكل".
ثم المشكل, وهو الداخل في إشكاله وأمثاله مثل قولهم أحرم أي دخل في الحرم وأشتى أي دخل في الشتاء وهذا فوق الأول لا ينال بالطلب بل بالتأمل بعد الطلب ليتميز عن إشكاله, وهذا لغموض في المعنى أو لاستعارة بديعة
ـــــــ
"قوله ثم المشكل", في ثم إشارة إلى تباعد رتبة المشكل في الخفاء عن الخفي; لأنه في أدنى درجات الخفاء وفوق المشكل. "وقوله, وهو الداخل في إشكاله" إشارة إلى مأخذه قال شمس الأئمة: المشكل مأخوذ من قولهم أشكل على كذا أي دخل في أشكاله وأمثاله, وهو اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال. وقال القاضي الإمام: هو الذي أشكل على السامع طريق الوصول إلى المعاني لدقة المعنى في نفسه لا بعارض فكان خفاؤه فوق الذي كان بعارض حتى كاد المشكل يلتحق بالمجمل وكثير من العلماء لا يهتدون إلى الفرق بينهما. قوله: "وهذا لغموض في المعنى" أي الإشكال إنما يقع لغموض في المعنى, قيل نظيره قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6], فإنه مشكل في حق الفم والأنف; لأنه أمر بغسل جميع البدن والباطن خارج منه بالإجماع للتعذر فبقي الظاهر مرادا وللفم والأنف شبه بالظاهر حقيقة وحكما وشبه بالباطن كذلك على ما عرف فأشكل أمرهما باعتبار هذين الشبهين فبعد الطلب ألحقناهما بالظاهر احتياطا ثم وجدنا داخل العين خارجا من الوجوب مع أن له شبها بالظاهر وشبها بالباطن حقيقة وحكما أما حقيقة فظاهر وأما حكما; فلأن الماء لو دخل عين الصائم أو اكتحل لا يفسد صومه ولو خرج دم من قرحة في عينه ولم يخرج من العين لا يفسد وضوءه وأن يجاوز عن القرحة فتأملنا فيه فوجدناه خارجا للتعذر كالباطن; لأن إيصال الماء إلى داخل العين سبب للعمى, وليس في إيصاله إلى داخل الفم والأنف حرج فبقي داخلا تحت الوجوب هذا هو معنى التأمل بعد الطلب, قلت هذا معنى فقهي لطيف إلا أن ما ذكروه لا يصلح نظيرا للمشكل; لأن المشكل ما كان في نفسه اشتباه, وليس ما ذكروه كذلك; لأن معنى التطهر لغة وشرعا معلوم, ولكنه اشتبه بالنسبة إلى الفم والأنف كاشتباه لفظ السارق بالنسبة إلى الطرار والنباش فكان من نظائر الخفي لا من نظائر المشكل, وذكر شمس الأئمة الكردري رحمه(1/83)
وذلك يسمى غريبا مثل رجل اغترب عن وطنه فاختلط بأشكاله من الناس فصار خفيا بمعنى زائد على الأول.
ـــــــ
الله أن من نظائره قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]. ولا بد من أن توجد ليلة القدر في كل اثني عشر شهرا فيؤدي إلى تفضيل الشيء على نفسه بثلاث وثمانين مرة فكان مشكلا فبعد التأمل عرف أن المراد ألف شهر ليس فيها ليلة القدر لا ألف شهر على الولاء; ولهذا لم يقل خير من أربعة أشهر وثلاث وثمانين سنة; لأنها توجد في كل سنة لا محالة فيؤدي إلى ما ذكرنا قلت ومثله قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "من قرأ يس يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة" 1 وفي رواية "من قرأ سورة يس كان كمن قرأ القرآن عشر مرات" 2 ففيه تفضيل الشيء على نفسه أيضا فبعد التأمل عرف أن معناه فكأنما قرأ القرآن عشر مرات أو اثنتين وعشرين مرة بدونها لا معها, ومن نظائره قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223], اشتبه معناه على السامع أنه بمعنى كيف أو بمعنى أين فعرف بعد الطلب والتأمل أنه بمعنى كيف بقرينة الحرث وبدلالة حرمة القربان في الأذى العارض, وهو الحيض ففي الأذى اللازم أولى. وأما نظير الاستعارة البديعة فقوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان: 16], فالقوارير لا يكون من الفضة وما كان من الفضة لا يكون قوارير ولكن للفضة صفة كمال, وهي نفاسة جوهره وبياض لونه وصفة نقصان وهي أنها لا تصفو ولا تشف وللقارورة صفة كمال أيضا. وهي الصفاء والشفيف وصفة نقصان, وهي خساسة الجوهر فعرف بعد التأمل أن المراد من كل واحد صفة كماله وأن معناه أنها مخلوقة من فضة, وهي مع بياض الفضة في صفاء القوارير وشفيفها. وقوله عز اسمه: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:13], فللصب دوام ولا يكون له شدة وللسوط عكسه فاستعير الصب للدوام والسوط للشدة أي أنزل عليهم عذابا شديدا دائما, وقيل ذكر الصب إشارة إلى أنه من السماء أي من عند الله وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحل بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. وقوله جل ذكره: { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112], فاللباس لا يذاق ولكنه يشمل الظاهر ولا أثر له في الباطن والإذاقة أثرها في الباطن ولا شمول لها فاستعيرت الإذاقة لما يصل من أثر الضرر إلى
ـــــــ
1 أخرجه الزمخشري في الكشاف 3/295.
2 أخرجه البيهقي في الجامع الضغير 6/200 وسويد بن إبراهيم البصري العطار أبو حاتم.(1/84)
............................................................................................
الباطن واللباس بالشمول فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف أي أثرهما واصل إلى بواطنهم مع كونه شاملا لهم, وبيان النظائر الثلاثة منقول من العلامة شمس الأئمة الكردري رحمه الله.
واعلم أن معنى الطلب والتأمل أن ينظر أولا في مفهومات اللفظ جميعا فيضبطها ثم يتأمل في استخراج المراد منها كما إذا نظر في كلمة "أنى" فوجدها مشتركة بين معنيين لا ثالث لهما فهذا هو الطلب ثم تأمل فيهما فوجدها بمعنى كيف في هذا الموقع دون أين فحصل المقصود وكما إذا نظر في قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3], فوجده دالا على مفهومين أحدهما أن يكون خيرا من ألف شهر متوالية والثاني أن يكون خيرا من ألف شهر غير متوالية ولا ثالث لهما ثم تأمل فيهما فوجده بالمعنى الثاني لفساد في المعنى الأول فظهر المراد وقس عليه الباقي.(1/85)
"المجمل"
ثم المجمل, وهو ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل, وذلك مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فإنه لا يدرك بمعاني اللغة بحال, وكذلك
ـــــــ
قوله: "ثم المجمل" أي بعد المشكل المجمل ومعناه فوقه; لأنه لما بدأ ببيان أدنى درجات الخفاء أولا كان كل ما بعده أعلى رتبة منه في الخفاء, ما ازدحمت فيه المعاني أي تدافعت يعني يدفع كل واحد سواه لا أنه شمل معاني كثيرة, وقوله المعاني, ليس بشرط لصيرورته مجملا; لأن اللفظ المشترك بين معنيين قد يصير مجملا إذا انسد فيه باب الترجيح كما مر, والمراد من المعنى ههنا مفهوم اللفظ, والأولى أن يقال المراد من ازدحام المعاني تواردها على اللفظ من غير رجحان لأحدهما على الباقي كما في المشترك في أصل الوضع إلا أن التوارد ههنا أعم منه في المشترك; لأنه في المشترك باعتبار الوضع فقط وههنا باعتباره وباعتبار غرابة اللفظ وتوحشه من غير اشتراك فيه وباعتبار إبهام المتكلم الكلام وهذا لأن المجمل أنواع ثلاثة نوع لا يفهم معناه لغة كالهلوع قبل التفسير ونوع معناه مفهوم لغة ولكنه ليس بمراد كالربا والصلاة والزكاة ونوع معناه معلوم لغة إلا أنه متعدد والمراد واحد منها ولم يمكن تعيينه لانسداد باب الترجيح فيه كما مر ففي القسم الأخير توارد المعنى باعتبار الوضع وفي القسمين الأولين باعتبار غرابة اللفظ وإبهام التكلم, وقيل قوله ما ازدحمت فيه المعاني زائد في التحديد إذ يكفيه أن يقول هو ما اشتبه المراد اشتباها لا يدرك إلا بالاستفسار كما قال شمس الأئمة هو لفظ لا يفهم المراد منه إلا بالاستفسار المجمل, وقال القاضي الإمام: هو الذي لا يعقل معناه أصلا ولكنه احتمل البيان. وقال آخر هو ما لا يمكن العمل به ببيان يقترن به, قلت لما حصل المقصود, وهو فهم المعنى لا ضير في ترك التكلف وبيان سبب الاشتباه.
واعلم أن البيان اللاحق بالمجمل قد يكون بيانا شافيا, ويصير المجمل به مفسرا كبيان الصلاة والزكاة, وقد يكون غير شاف ويصير المجمل به مؤولا كبيان الربا بالحديث الوارد في الأشياء الستة; ولهذا قال عمر: رضي الله تعالى عنه خرج النبي عليه السلام من الدنيا ولم يبين لنا أبواب الربا, وهذا النوع من البيان قد يحتاج فيه إلى الطلب والتأمل; لأن(1/86)
الصلاة والزكاة, وهو مأخوذ من الجملة, وهو كرجل اغترب عن وطنه بوجه انقطع به أثره والمشكل يقابل النص والمجمل يقابل المفسر.
ـــــــ
المجمل بمثل هذا البيان يخرج عن حيز الإجمال إلى حيز الإشكال بخلاف الأول, وإلى ما ذكرنا أشار القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في التقويم بقوله ثم بعد البيان يلزمه ما يلزم بالمفسر أو الظاهر على حسب اقتران البيان به, فالشيخ لما أراد توضيح الفرق بينه وبين المشكل قال لا بد فيه من الاستفسار أولا ثم قد يحتاج فيه إلى ما يحتاج إليه في المشكل, وهو الطلب والتأمل. ولهذا قدم نظير المجمل الذي يحتاج إلى الطلب والتأمل بعد البيان, وهو الربا على المجمل الذي لم يحتج إلى أمر آخر بعد البيان كالصلاة والزكاة, وبيان ما قلنا أنه يصير مشكلا بعد البيان أن الربا مع إجماله اسم جنس محلى باللام فيستغرق جميع أنواعه والنبي عليه السلام بين الحكم في الأشياء الستة من غير قصر عليها بالإجماع فبقي الحكم فيما وراء السنة غير معلوم كما كان قبل البيان فينبغي أن يكون مجملا فيما سواها إلا أنه لما احتمل أن يوقف على ما وراءها بالتأمل في هذا البيان نسميه مشكلا فيه لا مجملا, وبعد الإدراك بالتأمل والوقوف على المعنى المؤثر صار مؤولا فيه أيضا فصار تقدير الكلام لا بد من الرجوع إلى الاستفسار في كل أنواعه ثم الطلب والتأمل في البعض, قيل معنى الطلب طلب المعنى المؤثر والتأمل هو التأمل في صلاحه للتعدية والأظهر أن المراد هو الطلب والتأمل في اللفظ لإزالة الخفاء كما في المشكل; لأن الطلب والتأمل كما ذكروا لا يختصان بالمجمل بل يكونان في المفسر والنص أيضا.
قوله: "لا يدرك بمعاني اللغة بحال", فإن مطلق الزيادة التي يدل عليه لفظ الربا, وكذا الدعاء والنماء اللذان يدل عليهما لفظا الصلاة والزكاة لم يبقيا مرادين بيقين ونقلت هذه الألفاظ إلى معان أخر شرعية أما مع رعاية المعنى اللغوي, أو بدونها فلا يوقف عليه إلا بالتوقيف كما في الوضع الأول, انقطع به أي بالاغتراب أثره, فلا يوقف عليه إلا بعد الاستفسار. وذكر في نسخة وأنه على مثال رجل غاب عن بلدته ودخل بلدة أخرى لا يعرفه أهل تلك البلدة بالتأمل فيه بل بالرجوع إلى أهل بلدته حتى لو شهد لا يحل للقاضي أن يقضي بشهادته ولا للمزكي أن يعدله إلا بالرجوع إلى أهل بلدته لتعرف حاله.
فإن طريق دركه متوهم أي مرجو من جهة المجمل وطريق درك المشكل قائم أي ثابت بدون بيان يلتحق به بل يعرف بالتأمل في مواضع اللغة. قوله: "إلا التسليم" استثناء(1/87)
"المتشابه"
فإذا صار المراد مشتبها على وجه لا طريق لدركه حتى سقط طلبه ووجب اعتقاد الحقية فيه سمي متشابها بخلاف المجمل فإن طريق دركه متوهم وطريق درك المشكل قائم فأما المتشابه فلا طريق لدركه إلا التسليم فيقتضي اعتقاد الحقية قبل الإصابة, وهذا معنى قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل
ـــــــ
منقطع من لا طريق, قبل الإصابة أي قبل يوم القيامة فإن المتشابهات تنكشف يوم القيامة, وهذا أي ما ذكرنا من تفسير المتشابه, وهو الذي لا طريق لدركه أصلا قوله: "وعندنا لا حظ للراسخين إلا التسليم" استثناء متصل من لا حظ أي ليس له موجب سوى اعتقاد الحقية فيه والتسليم, وعلى بمعنى مع, وهذا بيان حكم المتشابه, وأن الوقف معطوف على قوله لا حظ, وفي بعض النسخ وعندنا أن لا حظ, وهو أصح واختلفوا في أن الراسخ في العلم هل يعلم تأويل المتشابه فذهب عامة السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم إلى أنه لا حظ لأحد في ذلك; وإنما الواجب فيه التسليم إلى الله تعالى مع اعتقاد حقية المراد عنده. وهو مذهب عامة متقدمي أهل السنة والجماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي, وهو مختار المصنف وإليه أشار بقوله وعندنا, وعلى هذا الوقف على قوله إلا الله واجب لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويله فيتغير الكلام, وذهب أكثر المتأخرين إلى أن الراسخ يعلم تأويل المتشابه وأن الوقف على قوله والراسخون في العلم لا على ما قبله والواو فيه للعطف لا للاستئناف, وهو مذهب عامة المعتزلة, قالوا لو لم يكن للراسخ حظ في العلم بالمتشابه إلا أن يقولوا آمنا به كل من عند ربنا لم يكن لهم فضل على الجهال; لأنهم يقولون ذلك أيضا, قالوا ولم يزل المفسرون إلى يومنا هذا يفسرون ويؤولون كل آية ولم نرهم وقفوا عن شيء من القرآن وقالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله بل فسروا الكل, وقال ابن عباس رضي الله عنهما أعلم كل القرآن إلا أربعة: الغسلين والحنان والرقيم والأواه ثم روي عنه أنه علم ذلك. وروي عنه أنه كان يقول الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه وأنا ممن يعلم تأويله وقد اشتهر عن الصحابة(1/88)
عمران: 7] وعندنا أن لا حظ للراسخين في العلم من المتشابه إلا التسليم على اعتقاد حقية المراد عند الله تعالى; وإن الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
ـــــــ
تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور, ويدل على ما ذكرنا ما قال مجاهد1 وابن جريج2 والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به, وقال القتبي لم ينزل الله تعالى شيئا من القرآن إلا لينتفع به عباده ويدل على معنى أراده فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزم للطاعن فيه مقال ولزم منه الخطاب بما لا يفهم ولم يبق فيه فائدة وهل يجوز أن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه وإذا جاز أن يعرفه مع قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} جاز أن يعرف الربانيون من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وأما العامة فقالوا الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} واجب; لأنه أكد أولا بالنفي ثم خصص اسم الله بالاستثناء فيقتضي أنه مما لا يشاركه في علمه سواه فلا يجوز العطف على قوله إلا الله كما على لا إله إلا الله فقوله والراسخون يكون ثناء مبتدأ من الله تعالى عليهم بالإيمان والتسليم بأن الكل من عنده لا عطفا على اسم الله عز وجل كذا ذكر في بعض نسخ أصول الفقه, والدليل عليه قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن تأويله إلا عند الله وقراءة أبي وابن عباس في رواية طاوس عنه ويقول الراسخون. ولأنه تعالى ذم من اتبع المتشابه ابتغاء التأويل كما ذم على اتباعه له ابتغاء الفتنة بأن يجريه على الظاهر من غير تأويل ومدح الراسخين بقولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وبقولهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] أي لا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ فاتبعوا المتشابه مؤولين أو غير مؤولين فدل هذا على أن الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} لازم, وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" 3 أمر بالحذر من غير فصل بين متابع ومتابع فيتناول الجميع, وروي عنها أيضا أن النبي عليه السلام لم يفسر من القرآن إلا آيات علمهن جبريل عليه السلام فمن قال أنا أفسر الجميع فقد تكلف فيه ما لم يتكلفه الرسول عليه السلام.
ثم قيل لا اختلاف في هذه المسألة في الحقيقة; لأن من قال بأن الراسخ يعلم تأويله
ـــــــ
1 هو مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج 21 – 104 هـ من التابعين المفسرين.
2 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المحدث المفسر أو مكي رتب الأحاديث ترتيبا موضوعيا ولد سنة 86 – توفي سنة 150 هـ.
3 أخرجه البخاري في التفسير 6/42 ومسلم في العلم رقم 2665 وأبو داود في السنة حديث رقم 4598.(1/89)
اللَّهُ} [آل عمران: 7] واجب. وأهل الإيمان على طبقتين في العلم منهم من يطالب بالإمعان في السير لكونه مبتلى بضرب من الجهل ومنهم من يطالب بالوقف لكونه مكرما بضرب من العلم فأنزل المتشابه تحقيقا للابتلاء وهذا
ـــــــ
أراد أنه يعلمه ظاهرا لا حقيقة, ومن قال إنه لا يعلمه أراد أنه لا يعلمه حقيقة; وإنما ذلك إلى القديم سبحانه وتعالى, وقيل كل متشابه يمكن رده إلى محكم فإن الراسخ يعلم تأويله كقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67], فهذا متشابه يمكن رده إلى قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52], الذي هو محكم لا يحتمل التأويل فيكون معناه جازاهم النسيان, وهو الترك والإعراض وكل متشابه لا يمكن رده إلى محكم فالراسخ لا يعلم تأويله كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187], ثم الراسخ في العلم هو الثابت المستقيم الذي لا يتهيأ استزلاله وتشكيكه, وقيل هو الذي حقق العلم لبسط الفروع بالاجتهاد حتى رسخ في قلبه. وقيل هو الذي حقق العلم بالمعرفة والقول بالعمل, وعن النبي صلى الله عليه وسلم,: "الراسخ من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعف بطنه وفرجه" 1 قوله: "وأهل الإيمان" جواب عما يقال الخطاب المنزل إما للتعريف أو للتكليف ولا بد فيهما من علم المخاطب ليمكنه العمل به أو يحصل له المعرفة به, فإذا انسد باب العلم به أصلا خلا عن الحكمة; لأن من خاطب عبده بشيء لا يفهمه لا يعد من الحكمة ولم يكن إذ ذاك فرق بينه وبين أصوات الطيور فبين الحكمة بقوله وأهل الإيمان على طبقتين أي منزلتين في العلم, منهم من يطالب أي يؤمر, بالإمعان أي المبالغة في السير أي في الطلب من أمعن الفرس إذا تباعد في عدوه, لكونه مبتلى بضرب من الجهل إنما قال بضرب ولم يقل بالجهل; لأنه لا يصح تكليف من لم يعلم شيئا أصلا فأنزل المحكم والمفسر ونحوهما ابتلاء لمثله, ومنهم من يطالب بالوقف أي بالوقوف عن الطلب; لأن الوقف يستعمل بمعنى اللازم; وإن كان متعديا يقال على رأس هذه الآية وقف أي وقوف أو معناه وقف النفس عن الطلب أي حبسها. فأنزل المتشابه تحقيقا للابتلاء أي في حقه أو تتميما للابتلاء في حق الكل وهذا هو المعنى في الابتلاء بإنزال المجمل والمشكل والخفي فإن الكل لو كان ظاهرا جليا بطل معنى الامتحان ونيل الثواب بالجهد في الطلب ولو كان الكل مشكلا خفيا لم يعلم شيء حقيقة فجعل بعضها جليا ظاهرا وبعضها خفيا ليتوسل بالجلي
ـــــــ
1 أخرج الحديث الديلمي في الفردوس 2/416 وابن جرير وابن أبي حاتم في الدر المنثور 2/07.(1/90)
أعظم الوجهين بلوى وأعمهما نفعا وجدوى وهذا يقابل المحكم ومثاله
ـــــــ
إلى معرفة الخفي بالاجتهاد وإتعاب النفس وإعمال الفكر فيتبين المجد من المقصر والمجتهد من المفرط فيكون ثوابهم بقدر اجتهادهم ومراتبهم على قدر علومهم فيظهر فضيلة الراسخين في العلم لحاجة الناس إلى الرجوع إليهم والاقتداء بهم ولولا ذلك لاستوت الأقدام ولم يتميز الخاص من العام ولذهب التفاوت بين الناس ولا يزال الناس بخير ما تفاوتوا, فإذا استووا هلكوا وقال الله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165], ووجه آخر أنه تعالى ابتلى عباده بضروب من العبادات بعضها على كل البدن كالصلاة ونحوها وبعضها متفرق على الأعضاء بحسب ما يليق بكل عضو إقداما وامتناعا والقلب أشرف الأعضاء فابتلاه بإنزال الخفي والمشكل والمتشابه ليتعب بالتفكر فيما سوى المتشابه فيخرجه على موافقة الظاهر الجلي ويمتنع عن التفكر في المتشابه معتقدا حقيته فيكون ذلك عبادة منه كعبادات سائر الأعضاء بالإقدام والامتناع, وذكر في عين المعاني الحكمة في إنزال المتشابه ابتلاء العقل; لأن في تكليف الأحكام ابتلاء العاقل وله من تفهم معانيها وحكمها مفزع إلى العقل فلو لم يبتل العقل الذي هو أشرف الخلائق لاستمر العالم في أبهة العلم على المرودة, وما استأنس إلى التذلل لعز العبودة. والحكيم إذا صنف كتابا ربما أجمل فيه إجمالا وأبهم فيما أفهم منه إشكالا ليكون موضع جثوة التلميذ لأستاذه انقيادا فلا يحرم باستغنائه برأيه هداية منه وإرشادا فالمتشابه هو موضع جثوة العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها والتزاما. قوله: "وهذا أعظم الوجهين بلوى" أي الوقف عن الطلب أعظم ابتلاء من الإمعان في الطلب; لأن العقل جبل على صفة يتأمل في غوامض الأشياء ليقف على حقائقها فكان منعه عن ذلك أشد عليه من حمله على تحصيل ما يميل إليه كما أن الابتلاء بالترك في حق سائر الجوارح أشد من الابتلاء بالعمل; لأن النفس مائلة إلى الشهوات فكان امتناعها عنها أشق عليها من الإقدام على العمل; ولهذا كان ثوابه أجزل كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لترك ذرة مما نهى الله أفضل من عبادة الثقلين" ولهذا اختص به الراسخون في العلم; لأن ابتلاء الرجل على قدر دينه قال عليه السلام: "إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل" 1, وأعمها نفعا أي في الدنيا بالأمن من الوقوع في الزيغ والزلل بسبب الاتباع, وجدوى أي في الآخرة بكثرة الثواب; لأنه لما كان أعظم ابتلاء كان الصبر فيه أشد
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي 4/601 حديث رقم 2398 وأخرجه ابن ماجه 2/1334 حديث رقم 4023 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/172 و 174 و185.(1/91)
المقطعات في أوائل السور ومثاله إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار حقا في الآخرة بنص القرآن بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22, 23], لأنه موجود بصفة الكمال وأن يكون مرئيا لنفسه ولغيره من صفات
ـــــــ
فيكون الثواب فيه أكثر, وبلوى وجدوى كلاهما بلا تنوين كدعوى ثم الخلف مع كون هذه الطريقة أسلم وأعم نفعا عدلوا عنها واشتغلوا بتأويل المتشابه لظهور أهل البدع والأهواء بعد انقراض زمان السلف وتمسكهم بالمتشابهات في إثبات مذاهبهم الباطلة فاضطر الخلف إلى إلزامهم وإبطال دلائلهم فاحتاجوا إلى التأويل. ولهذا قيل طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم قوله: "ومثاله المقطعات" أي مثال المتشابه الحروف المقطعة أي الحروف التي يجب أن يقطع في التكلم كل حرف منها عن الباقي بأن يؤتى باسم كل منها على هيئته كقوله ألف لام ميم بخلاف قوله: "ألم" فإنه يجب أن يوصل بعضها ببعض ليفيد المعنى وهذه الألفاظ; وإن كان اسما حقيقة لكنها تسمى حروفا باعتبار مدلولاتها تجوزا, ثم قيل هي من المتشابهات التي لم يطلع الله عليه الخلائق إلا من شاء منهم فيجب الإيمان بها ولا يطلب لها التأويل, وقيل هي من ألسن الملائكة التي تفهم بعضهم من بعض وألسن الطيور والدواب فيحتمل أن يكون هذا مما لا يطلعنا الله تعالى ويعرفه الرسول بتعليم الملائكة إياه, وقيل إنها ليست من المتشابه بل هي من جنس التكلم بالرمز فيحتمل التأويل فيقبل كل تأويل احتمله ظاهر الكلام لغة ولا يرده الشرع ولا يقبل تأويلات الباطنية التي خرجت عن الوجوه التي يحتملها ظاهر اللغة وأكثرها مخالفة للعقل والآيات المحكمة; لأنها ترك للقرآن لا تأويل كذا في شرح التأويلات, والدليل على أنها ليست من المتشابهات تأويل بعض السلف مثل ابن عباس وغيره هذه الحروف من غير رد; وإنكار عليهم من الباقين ولم ينقل عن أحد منهم تأويل الوجه واليد والاستواء بل كانوا يزجرون عن ذلك حتى قال مالك بن أنس رحمه الله حين سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5], الاستواء غير مجهول والكيف منه غير معقول والإيمان به واجب والشك فيه شرك والسؤال عنه بدعة, ولما كان القول الأول قول الأكثر اختاره المصنف. ثم قال: "ومثاله إثبات رؤية الله تعالى" ولم يقل, وكذلك إثبات رؤية الله كما قال, وكذلك إثبات الوجه واليد فرقا بين ما هو مختلف في كونه متشابها وبين ما هو متشابه بالاتفاق أو فرقا بين ما تشابه لفظه وبين ما تشابه معناه. وقوله إثبات رؤية الله أي إثبات كيفيتها; لأن نفس الرؤية ليست بمتشابهة كذا قيل, والمراد من الإثبات إثباتها في الاعتقاد لا في نفس الأمر إذ لا يمكن ذلك; لأنه يؤدي إلى الحدوث بل هي في نفس الأمر ثابتة, وقوله; لأنه موجود بصفة الكمال إشارة إلى علة جواز الرؤية; فإنها الوجود(1/92)
الكمال والمؤمن لإكرامه بذلك أهل لكن إثبات الجهة ممتنع فصار بوصفه متشابها فوجب تسليم المتشابه على اعتقاد الحقية فيه وكذلك إثبات اليد
ـــــــ
عندنا على ما عرف, وقوله وأن يكون مرئيا لنفسه ولغيره من صفات الكمال; لأن في الشاهد عدم رؤية ما عرف موجودا أمارة العجز والنقصان; لأن من يتستر عن الناس إنما يتستر لعيب به ولنقصان حل فيه أو لعجزه عن مقاومة الناس في إيذائهم إياه والله تعالى غالب على كل شيء, وهو أجمل من كل جميل منزه عن النقائص والعيوب موصوف بصفات الكمال فيجوز أن يكون مرئيا; لأنه من صفات الكمال, وقوله والمؤمن لإكرامه بذلك أهل أي المؤمن أهل لأن يكرم بتلك الكرامة; وإنما قال هذا; لأن الشيء قد يمتنع لعدم الأهل. وإن كان في نفسه ممكنا فقال الرؤية ممكنة عقلا والمؤمن أهل لها كما هو أهل لغيرها من الكرامات التي لم تخطر على قلب بشر وقد ورد بها السمع فيجب القول بثبوتها, واعلم أن أكثر المعتزلة يقولون بأن الله تعالى يرى ذاته ولكن لا يرى وطائفة منهم أنكروا أن يرى ويرى فقوله أن يكون مرئيا لنفسه رد لقول هذه الطائفة وإشارة إلى الإلزام على الأكثر; لأنه تعالى لما كان يرى ذاته كانت رؤية ذاته ممكنة في نفس الأمر; لأنه تعالى لا يوصف بما هو مستحيل ألا ترى أنه جل جلاله لا يوصف بأنه يرى المعدوم; لأن رؤية المعدوم مستحيلة ولما كانت ممكنة يجوز أن يراه المؤمنون بلا كيف وجهة كما يرى هو نفسه بلا كيف وجهة قوله: "لكن إثبات الجهة ممتنع"; لأن من شرط الرؤية في الشاهد أن يكون المرئي في جهة من الرائي وأن يكون مقابلا له ومحاذيا ويكون بينهما مسافة مقدرة لا في غاية القرب ولا في غاية البعد وكل ذلك على الله تعالى محال فصار إثبات الرؤية بوصفه أي بكيفيته متشابها أي بحيث لا يدرك بالعقل فنسلم ذلك إلى الله تعالى ولا نشتغل بالتأويل, ومن جوز التأويل من المحققين المتأخرين قال لا نسلم أن ما ذكروا من القرائن اللازمة بل هي من الأوصاف الاتفاقية وذلك; لأن المرئي في الشاهد ذو جهة يتحقق في حقه المقابلة فيرى كذلك فأما الله تعالى فمنزه عن الجهة والمقابلة والمسافة فيرى كما هو أيضا; لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو, والدليل عليه أن الله تعالى يرانا قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14], وقد اعترف بذلك كثير من المعتزلة ورؤية الله تعالى إيانا من غير مقابلة ولا جهة فعلم أنها ليست من القرائن اللازمة للرؤية; لأن ما كان من القرائن اللازمة الذاتية لا يتبدل بين الشاهد والغائب بل هي من الأوصاف الاتفاقية ككون الثاني في الشاهد محدثا وذا صورة ودم ولحم مع فوات هذه الأوصاف في الغائب بالاتفاق لكون هذه الأوصاف اتفاقية فعلى هذا لم يبق التشابه في الوصف أيضا لزواله بالتأويل والله الهادي.(1/93)
والوجه حق عندنا معلوم بأصله متشابه بوصفه, ولن يجوز إبطال الأصل بالعجز عن درك الوصف; وإنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه, فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة.
ـــــــ
قوله: "وكذلك" أي وكإثبات الرؤية إثبات الوجه واليد لله تعالى حق عندنا فبقوله عندنا احترز عن قول من قال لا يوصف الله تعالى سبحانه بالوجه واليد بل المراد من الوجه الرضاء أو الذات ونحوهما ومن اليد القدرة أو النعمة ونحوها فقال الشيخ: بل الله تعالى يوصف بصفة الوجه واليد مع تنزيهه جل جلاله عن الصورة والجارحة; لأن الوجه واليد من صفات الكمال في الشاهد; لأن من لا وجه له أو لا يد يعد ناقصا, وهو تعالى موصوف بصفات الكمال فيوصف بهما أيضا إلا أن إثبات الصورة والجارحة مستحيل, وكذا إثبات الكيفية فتشابه وصفه فيجب تسليمه على اعتقاد الحقية من غير اشتغال بالتأويل, واعلم أن في أمثال ما ذكرنا يتبع اللفظ الذي ورد به النص من الكتاب والسنة فلا يشتق منه الاسم ولا يقال: الله تعالى متوجه إلى فلان بنظر الرحمة أو العناية ولا يبدل بلفظ آخر لا بالعربية ولا بغيرها فلا يبدل لفظ العين بالباصرة ولا لفظ القدم بالرجل ولا يقال بالفارسية أيضا: "جثم خداي وروى خداي ودست خداي" وغير ذلك.
قوله: "ولن يجوز إبطال الأصل" أي لا يجوز الحكم بأن القول الرؤية والوجه واليد باطل بالعجز عن درك الوصف أي الكيفية لما فيه من إبطال المتبوع بالتبع والأصل بالفرع وذلك كمن رأى شخصا على شط نهر عظيم لا يتصور العبور منه بدون سفينة وملاح ثم رأى ذلك الشخص في الجانب الآخر من غير أن يشاهد سفينة وملاحا لا يمكنه أن ينكر عبوره من النهر; وإن لم يدرك كيفية العبور, فكذا فيما نحن فيه لما ثبت بالدلائل القاطعة جواز الرؤية وصفة الوجه واليد لله سبحانه لا يجوز إنكارها بالعجز عن درك أوصافها والجهل بطريق ثبوتها, فإنهم ردوا الأصول يجوز أن يكون معناه ردوا أصل الرؤية والوجه واليد لجهلهم بالصفات اللام في الصفات بدل المضاف إليه أي بكيفياتها. ويجوز أن يكون معناه ردوا الأصول أي الصفات جمع بأن قالوا ليس له صفة العلم والقدرة والحياة وغيرها لجهلهم بالصفات أي بكيفية ثبوتها بأن اشتبه عليهم طريقه وذلك; لأن الصانع القديم واحد لا شريك له والصفات لو ثبتت لكانت غير الذات لا محالة; لأن الصفة إذا لم تكن هي الذات فهي غير الذات لا محالة كزيد لما لم يكن عمرا كان غير عمر ولا محالة والقول بإثبات الأشياء المتغايرة في الأزل مناف للتوحيد ومن هذا سموا أنفسهم أهل التوحيد ولم يعلموا أنهم أبطلوا توحيدهم بتوحيدهم, ويدل على هذا الوجه قوله فصاروا(1/94)
................................................................................................
معطلة أي فرقة معطلة أي قائلة بخلو الذات عن الصفات, والتعطيل في الأصل نزع الحلي من امرأة مأخوذ من عطلت المرأة عطلا إذا خلا جيدها من القلائد إلا أنه يستعمل في التخلية عن الصفات; لأنها بمنزلة الزينة ولهذا يقال حليته كذا أي هيئته التي هي صفته; لأن تزينه بها, ويجوز أن يكون مأخوذا من العطلة أي عطلوا النصوص وتركوها بلا عمل فصاروا معطلة لها.(1/95)
"الحقيقة والمجاز"
وتفسير القسم الثالث أن الحقيقة اسم لكل لفظ أريد به ما وضع له مأخوذ من حق الشيء يحق حقا, فهو حق وحاق وحقيق.
ـــــــ
قوله: "وتفسير القسم الثالث" أي بالنسبة إلى أصل التقسيم, وفي بعض النسخ الرابع أي بالنسبة إلى القسم المقابل, الحقيقة كل لفظ أريد به ما وضع له قد ذكرنا أن ذكر كلمة كل في التعريف مستبعد واعتذرنا عنه. وقوله كل لفظ إشارة إلى أن الحقيقة من عوارض الألفاظ لا المعاني, وكذا المجاز إذ المراد من كلمة ما في تعريفه اللفظ أيضا, واعلم أن الحقيقة ثلاثة أقسام لغوية وشرعية وعرفية والسبب في انقسامها هذا هو أن الحقيقة لا بد لها من وضع والوضع لا بد له من واضع فمتى تعين نسبت إليه الحقيقة فقيل لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة كالإنسان المستعمل في الحيوان الناطق وقيل شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع كالصلاة المستعملة في العبادة المخصوصة ومتى لم يتعين قيل عرفية سواء كان عرفا عاما كالدابة لذوات الأربع أو خاصا كما لكل طائفة من الاصطلاحات التي تخصهم كالنقض والقلب والجمع والفرق للفقهاء والجوهر والعرض والكون للمتكلمين والرفع والنصب والجر للنحاة, ولا يستراب في انقسام المجاز إلى نحو هذه الثلاثة فإن الإنسان المستعمل في الناطق مجاز لغوي والصلاة المستعملة في الدعاء مجاز شرعي; وإن كانت حقيقة لغوية والدابة المستعملة في كل ما يدب مجاز عرفي; وإن كانت حقيقة لغوية.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد من الوضع, وهو تعيين اللفظة بإزاء معنى بنفسها في التعريفين مطلق الوضع فيدخل فيهما الأقسام الستة ولا بد في تعريف المجاز من قيد, وهو أن يقال لعلاقة مخصوصة بين المحلين أو نحوه كما ذكر صاحب المختصر لاتصال بينهما معنى أو ذاتا وإلا ينتقض بما إذا استعمل لفظ السماء في الأرض, فإنه ليس بمجاز; وإن كان مستعملا في غير ما وضع له بل هو وضع جديد. ولا يقال تعريف المجاز بما ذكر مع هذا القيد الذي شرطت غير جامع لخروج التجوز بتخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة كتخصيص الدابة بذوات الأربع عنه إذ ليس هو مستعملا في غير ما وضع له وخروج(1/96)
والمجاز اسم لما أريد به غير ما وضع له مفعل من جاز يجوز بمعنى فاعل أي متعد عن أصله ولا ينال الحقيقة إلا بالسماع ولا تسقط عن المسمى
ـــــــ
التجوز بزيادة الكاف في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11], عنه لعدم استعمالها في شيء أصلا وغير مانع لدخول الحقيقة العرفية والشرعية فيه لكونهما مستعملتين في غير ما وضعتا له والحقيقة من حيث هي حقيقة لا تكون مجازا لأنا نجيب عن الأول بأن حقيقة المطلق مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك وإذا كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق كل دابة فاستعماله في الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعمالا له في غير ما وضع له وعن الثاني بأن الكاف إذا لم يكن لها معنى كانت مستعملة لا فيما وضعت له أولا وعن الثالث بأنهما; وإن كانتا حقيقتين بالنسبة إلى تواضع أهل الشرع والعرف فلا يخرجان بذلك عن كونهما مجازين بالنسبة إلى استعمالهما في غير ما وضعتا له أولا في اللغة إذ لا تناقض بين كون اللفظ حقيقة باعتبار ومجازا باعتبار آخر, واختار بعض الأصوليين في تعريفهما أن الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به وقد دخل فيه الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية. "والمجاز" ما أفيد به غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها لعلاقة بينه وبين الأول وقد دخل فيه المجاز اللغوي والشرعي والعرفي أيضا ولكن لقائل أن يقول هذا التعريف يقتضي خروج الاستعارة عنه, وكذا التعريف المذكور في الكتاب; لأنا إذا قلنا على وجه الاستعارة هذا أسد قدرنا صيرورته في نفسه أسدا لبلوغه في الشجاعة التي هي خاصة الأسد إلى الغاية القصوى ثم أطلقنا عليه اسم الأسد فلا يكون هذا استعمالا للفظ في غير موضوعه, ويجاب عنه أن تعظيمه بتقدير حصول قوة له مثل قوة الأسد لا يوجب تحقيق ذلك والتعريف للحقائق فيكون استعمال لفظ الأسد فيه استعمالا له في غير موضعه حقيقة, وذكر صاحب المفتاح فيه أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع كاستعمال الأسد في الهيكل المخصوص فلفظ الأسد موضوع له بالتحقيق ولا تأويل فيه, قال; وإنما ذكرت هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة ففي الاستعارة تعد الكلمة مستعملة فيما هي موضوعة له على أصح القولين ولا نسميها حقيقة لبناء دعوى المستعار موضوعا للمستعار له على ضرب من التأويل, قال والمجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع, قال وقولي بالتحقيق احتراز من خروج الاستعارة التي هي من باب المجاز نظرا إلى دعوى(1/97)
أبدا والمجاز ينال بالتأمل في طريقه ليعتبر به ويحتذى بمثاله ومثال المجاز من الحقيقة مثال القياس من النص.
ـــــــ
استعمالها فيما هي موضوعة له, وقولي مع قرينة مانعة إلى آخره احتراز عن الكناية فإن الكناية تستعمل وتراد بها المكنى فتقع مستعملة في غير ما هي موضوعة له مع أنا لا نسميها مجازا لعرائها عن هذا القيد. واعلم أن فعيلا إذا كان بمعنى الفاعل يلحقه تاء التأنيث لقرب الفاعل من الفعل الذي هو الأصل في لحوق تاء التأنيث به وإذا كان بمعنى المفعول غير جار على موصوف, فكذلك تقول مررت بقتيل بني فلان وقتيلتهم رفعا للالتباس; وإن كان جاريا على موصوف لا يلحقه التاء تقول رجل قتيل وامرأة جريح, ثم الحقيقة إما فعيلة بمعنى فاعل من حق الشيء يحق إذا وجب وثبت وإليه أشار المصنف, وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء أحقه إذا أثبته فيكون معناها الثابتة أو المثبتة في موضعها الأصلي, والتاء للتأنيث إذا كانت بالمعنى الأول ولشبه التأنيث, وهو نقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة كالنطيحة والأكيلة إذا كانت بالمعنى الثاني; لأن النقل ثان كما أن التأنيث ثان, وقال صاحب المفتاح: هي عندي للتأنيث في الوجهين بتقدير لفظ الحقيقة قبل التسمية صفة مؤنث غير مجراة على الموصوف.
والمجاز مفعل بمعنى فاعل من الجواز بمعنى العبور والتعدي; لأن الكلمة إذا استعملت في غير موضوعها فقد تعدت موضعها, وهو المراد من قوله متعد من أصله أي عن موضعه الأصلي; ولهذا قيل إنه حقيقة عرفية في معناه مجاز لغوي; لأن بناء المفعل للموضع أو للمصدر حقيقة لا للفاعل فإطلاقه على اللفظ المنتقل لا يكون إلا مجازا; ولأن حقيقة معنى العبور والتعدي إنما تحصل في انتقال الجسم من حيز إلى حيز فأما في الألفاظ فلا فثبت أن ذلك إنما يكون على سبيل التشبيه. وكذا لفظ الحقيقة في مفهومه مجاز لغوي حقيقة عرفية أيضا لما ذكرنا أنها مأخوذة من الحق, وهو حقيقة في الثابت ثم إنه نقل إلى العقد المطابق; لأنه أولى بالوجود من العقد الغير المطابق ثم نقل إلى القول المطابق لعين هذه العلة ثم نقل إلى استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي إذ استعماله فيه تحقيق لذلك الوضع فظهر أنه مجاز واقع في الرتبة الثالثة بحسب اللغة الأصلية كذا قيل, وذكر الغزالي في المستصفى أن لفظة الحقيقة مشتركة قد يراد بها ذات الشيء وحده ولكن إذا استعملت في الألفاظ أريد بها ما استعمل في موضوعه فهذا يدل على أن لفظ الحقيقة في مفهومه حقيقة لغوية أيضا, وهو الأصح; لأن الحقيقة اسم للثابتة لغة واللفظ المستعمل في موضوعه ثابت فيه فيكون إطلاق الحقيقة(1/98)
...........................................................................................
عليه بالحقيقة لا بالمجاز, واعلم أيضا أن اللفظ بعد الوضع قبل الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز; لأن شرطهما استعمال اللفظ بعد الوضع أما في موضوعه أو في غير موضوعه للعلاقة كما بينا وانتفاء المشروط بانتفاء الشرط غني عن البيان, وإلى ما ذكرنا إشارة في قوله أريد به ما وضع له وأريد به غير ما وضع له.
قوله: "ولا ينال الحقيقة إلا بالسماع" أي لا يوجد ولا يعرف كون اللفظ حقيقة فيما استعمل فيه إلا بالسماع من أهل اللغة أنه موضوع فيما استعمل فيه بخلاف المجاز فإنه يوقف عليه بالتأمل في طريقه أو معناه لا يمكن أن يستعمل اللفظ في موضوعه إلا بالسماع من أهل اللغة أنه موضوع فيه بخلاف المجاز فإنه يمكن أن يستعمل اللفظ في غير موضوعه من غير سماع أنهم استعملوه فيه. وحاصله أن استعمال اللفظ في مفهومه الحقيقي لغير الواضع موقوف على السماع بالاتفاق; لأن دلالات الألفاظ لما لم تكن ذاتية إذ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف الأماكن والأمم ولاهتدى كل إنسان إلى كل لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم لا بد فيها من الوضع ولا بد فيه من السماع فأما استعمال اللفظ في معناه المجازي فلا يفتقر في كل فرد إلى السماع; وإن كان يفتقر في معرفة طريقه إليه كإطلاق اسم الملزوم على اللازم والسبب على المسبب والخاص على العام وعكسهما, وهو المراد من قوله والمجاز ينال بالتأمل في طريقه, وهو مذهب الجمهور, وذهبت طائفة إلى اشتراط السماع في كل فرد من المجاز محتجين بأن السماع لو لم يشترط لجاز إطلاق النخلة على طويل غير إنسان كمنارة مثلا لوجود العلاقة المعتبرة التي هي كافية في جواز الإطلاق عندكم وهي المشابهة الصورية ولجاز إطلاق الشبكة على الصيد وإطلاق الابن على الأب وعكسهما للمجاورة والملازمة وكل ذلك ممتنع; ولأنه لو جاز إطلاق الاسم على الشيء للعلاقة من غير السمع كإطلاق النخلة على المنارة مثلا; فإن كان هذا الإطلاق; لأنها أطلقت على الإنسان للطول, وهو موجود في المنارة لكان هذا قياسا في اللغة, وهو باطل وإلا كان اختراعا من المطلق وحينئذ لا يكون من لغة العرب وكلامنا فيها, واحتج الجمهور بأنا نجد أهل العربية إذا وجدوا بين محلي الحقيقة والمجاز العلاقة المعتبرة يطلقون الاسم; وإن لم يسمع من العرب استعمال تلك اللفظة فيه ولو كان السماع شرطا لتوقفوا في الإطلاق على النقل لاستحالة وجود المشروط بدون الشرط. وبأن الكل اتفقوا على أن استعمال اللفظ في مفهومه المجازي مفتقر إلى النظر في العلاقة المعتبرة وما يكون نقليا لا يكون كذلك إذ يكفي في استعمال اللفظ فيه كونه منقولا عن أهل اللغة كما في جميع المستعملات فإنا إذا رأيناهم استعملوا لفظا بإزاء معنى تابعناهم(1/99)
.............................................................................................
في إطلاقه عليه من غير نظر إلى شيء آخر, والجواب عما ذكروا من عدم جواز الإطلاقات المذكورة أن وجود العلاقة إنما يكفي للإطلاق إذا كانت العلاقة معتبرة ولم يكن ثمة مانع وفي الصورتين الأوليين العلاقة ليست بمعتبرة; لأن مجرد الطول ليس بمعتبر إذ هو معنى عام ولم يطلق على الإنسان لمجرد الطول بل له ولغيره من الأوصاف, وكذا لا ملازمة بين الشبكة والصيد إذ الصيد قد يحصل بدون الشبكة والشبكة قد لا يحصل بها الصيد وفي الصورة الأخيرة المانع موجود; لأنهما من المتقابلات وفي مثله لا يعتبر المجاورة. وأما قولهم لو جاز لكان قياسا أو اختراعا فلا نسلم أنه لو لم يكن قياسا لكان اختراعا; لأنه إنما يكون كذلك لو لم يكن معلوما من مجاري كلامهم صحة الإطلاق لكنه ليس كذلك; لأنا قد استقرأنا كلامهم فعلمنا أن العلاقة مصححة للإطلاق كما في رفع الفاعل ونصب المفعول وغيرهما من المسائل المعلومة وإلا لزم مما ذكرتم كون رفع الفاعل فيما لم يسمع عنهم قياسا أو اختراعا وأنتم لا تقولون به.
وقوله: "ولا تسقط عن المسمى أبدا" من إحدى العلامات الذي يميز بها الحقيقة عن المجاز ومعناه أن الحقيقة لا ينفي عن مسماها بحال بخلاف المجاز فإنه يمكن نفيه عن مفهومه في نفس الأمر; ولهذا لما لم يصح أن ينفي لفظ الأسد عن الهيكل المخصوص وصح أن ينفي عن الإنسان الشجاع علمنا أنه حقيقة في الأول مجاز في الثاني وقيل التعريف بهذه العلامة غير مفيد لاستلزامه الدور وذلك لتوقف النفي وامتناعه على كون اللفظ مجازا أو حقيقة فإن من تردد في كون اللفظ حقيقة أو مجازا إنما يصح منه النفي لو علم كونه مجازا ويمتنع منه لو علم كونه حقيقة فلو توقف كونه حقيقة أو مجازا على صحة النفي وامتناعه لزم الدور. ولو قيل المراد من صحة النفي وعدم صحته وجدانه في مجاري استعمالاتهم وعدم وجدانه فيها ليندفع الدور فهو بعيد; لأن الوجدان إن صلح علامة للمجاز ح فعدم الوجدان لا يصلح علامة للحقيقة إذ عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود الذي هو المطلوب فالأولى أن يجعل امتناع النفي في الحقيقة وصحته في المجاز من الخواص لا من العلامات, بل المعتبر من العلامات أن اللفظ إذا تبادر مدلوله إلى الفهم عند الإطلاق بلا قرينة فهو حقيقة; وإن لم يتبادر إليه إلا بالقرينة فهو مجاز; لأن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام المعنى للغير اقتصروا على عبارات مخصوصة, وإذا عبروا عنه بعبارات أخر لم يقتصروا عليها بل ذكروا معها قرينة.
قوله: "ومثال المجاز إلى آخره" يعني كما أن النص لا يعرف إلا بالتوقيف ولكن يمكن أن يوقف على حكم الفرع من غير توقيف بسلوك طريقه, وهو التأمل في النص(1/100)
................................................................................................
واستخراج الوصف المؤثر, فإذا وجد ذلك في الفرع يعدى الحكم إليه, فكذلك الحقيقة لا يمكن أن يثبت في محل إلا بالسماع من أهل اللغة ولكن المجاز يمكن أن يثبت في محل بالتأمل في طريقه من غير سماع, وهو التأمل في محل الحقيقة واستخراج المعنى المشهور اللازم له, فإذا وجد في محل آخر يجوز أن يستعار اللفظ له فيصح هذا من كل متكلم كما يصح القياس من كل مجتهد إلا أن المعتبر في القياس المعاني الشرعية وفي المجاز المعاني اللغوية.(1/101)
"الصريح والكناية"
وأما الصريح فما ظهر المراد به ظهورا بينا زائدا ومنه سمي القصر صرحا لارتفاعه عن سائر الأبنية والصريح الخالص من كل شيء وذلك مثل
ـــــــ
قوله: "وأما الصريح فما ظهر المراد منه ظهورا بينا" أي انكشف انكشافا تاما, وهو احتراز عن الظاهر, وقيل لا بد فيه من قيد, وهو أن يقال بالاستعمال أو بالعرف ونحوهما ليتميز عن المفسر والنص إذ الفرق بين الصريح وبين ما ذكرنا ليس إلا بكثرة الاستعمال في الصريح وعدمه في المفسر والنص إليه أشير في الميزان إلا أن الشيخ رحمه الله ترك ذكره لدلالة مورد التقسيم عليه إذ هذا القسم في بيان وجوه الاستعمال فعلى هذا لا يدخل فيه إلا الحقائق العرفية, وقيل لا حاجة إلى هذا القيد; لأن تمام انكشاف المعنى قد يحصل بالتنصيص والتفسير كما يحصل بكثرة الاستعمال فكما يدخل فيه الحقائق العرفية يدخل فيه النص والمفسر ويكون كل واحد قسما من أقسام الصريح ولكن لا يدخل فيه الظاهر; لأن الشرط فيه كون الظهور بينا أي تاما وليس هو في الظاهر كذلك بل فيه مجرد الظهور ولهذا توصف الإشارة بالظهور فيقال هذه إشارة ظاهرة وهذه غامضة ولا توصف بالصراحة أصلا لعدم تمام الانكشاف فيها, ويؤيده ما ذكره السيد الإمام أبو القاسم رحمه الله أن الصريح هو الذي يعرف مراده معرفة جلية وما ذكر الشيخ القاضي أبو زيد وشمس الأئمة رحمهما الله أن الصريح اسم لكلام مكشوف المعنى كالنص سواء كان حقيقة أو مجازا, قلت هذا كلام حسن إذ لا استبعاد في تسمية النص أو المفسر صريحا وقد رأيت في كثير من الكتب ما يدل عليه إلا أن مورد التقسيم ههنا يوجب اشتراط الاستعمال فيه ولا يتحقق ذلك في النص والمفسر إذ ظهورهما باللغة لا بالاستعمال فتبين أن ما ذكرنا أولا أصح, ثم لما استوى في الصريح الحقيقة والمجاز جمع الشيخ في إيراد النظائر بين ما هو مجاز لغوي وبين ما هو حقيقة لغوية فقوله أنت حر وأنت طالق ونكحت من قبيل الأول. وقوله بعت من قبيل الثاني.
وقوله: "وهذا اللفظ" أي الصريح موضوع لهذا المعنى أي لما ظهر المراد منه ظهورا(1/102)
قوله أنت حر وأنت طالق والكناية خلاف الصريح وهو ما استتر, المراد به مثل
ـــــــ
بينا إشارة إلى أنه من الأسماء المقررة, وهي التي قررت على موضوعها اللغوي في العرف أو الشرع كالبيع والشراء لا من الأسماء المغيرة, وهي التي غيرت عن موضوعها فيه كالصلاة والزكاة, وهي فعيل بمعنى فاعل من صرح يصرح صراحة وصروحة إذ خلص وانكشف, وتصريح الخمر أن يذهب عنه الزبد, وصرح فلان بما في نفسه أي أظهره قوله: "والصريح الخالص من كل شيء" كلمة من متعلقة بالصريح أي الصريح من كل شيء خالصه قيل في الصحاح وكل خالص صريح, ويجوز أن تكون متعلقة بالخالص أي الذي خلص من كل شيء, وهو الصريح وكلاهما واحد فلما خلص هذا اللفظ عن محتملاته بمنزلة المفسر سمي صريحا. قوله: "وهو ما استتر المراد به" أي خلاف الصريح لفظ "استتر" المعنى الذي أريد به; وإنما فسر خلاف الصريح به لأن خلاف الشيء قد يكون نقيضه وقد يكون ضده; فإن كان المراد من الخلاف ههنا نقيضه فهو ما لم يظهر المراد به ظهورا بينا وأنه يتناول الظاهر, وهو ليس بكناية, وكذا يتناول النص والمفسر والخفي والمشكل وغيرها إن قدر قيد الاستعمال وقيل هو ما لم يظهر المراد به بالاستعمال ظهورا بينا وفساده ظاهر; وإن كان المراد ضده فهو ما استتر المراد به استتارا تاما ولا يوجد ذلك إلا في المجمل فلا يكون التعريف جامعا ولا مانعا فالشيخ بهذا التفسير بين أن المراد من خلاف الصريح ضده, وهو الاستتار لا نقيضه إذ هو أولى بالتعريف به من نقيضه, وهو عدم الظهور لكون الأول وجوديا والثاني عدميا وبين أيضا بترك قوله استتارا تاما أن قوله ظهورا بينا في تعريف الصريح لزيادة البيان إذ هو مفهوم من تقدير قيد الاستعمال; لأنه من لوازمه, ثم لا بد من القيد المذكور أيضا عند من قال باشتراطه في الصريح بأن يقال هو ما استتر المراد به بالاستعمال أي يحصل الاستتار بالاستعمال بأن يستعملوه قاصدين للاستتار فإنه مقصود عندهم لأغراض صحيحة. وإن كان معناه ظاهرا في اللغة كما أن الانكشاف يحصل في الصريح باستعمالهم; وإن كان خفيا في اللغة, وعند من لم يقل باشتراطه في الصريح لا يشترط ههنا فيدخل فيه المشترك والمشكل وأمثالهما وعليه يدل كلام القاضي الإمام فإنه قال كل كلام يحتمل وجوها يسمى كناية ولهذا سمي المجاز قبل أن يصير متعارفا كناية لاحتمال الحقيقة وغيرها إلا أن الصحيح هو الأول لما ذكرنا من اشتراط اشتراك مورد التقسيم بين الأقسام ولا يحصل ذلك إلا باشتراط هذا القيد.
ثم إذا تأملت علمت أن المراد من الاستعمال, وهو التلفظ بكلام لإفادة معنى في مورد التقسيم, وهو قوله والقسم الثالث في وجوه استعمال ذلك النظم مطلق الاستعمال إذ الاستعمال في الحقيقة والمجاز غير الاستعمال في الصريح إذ هو فيه مقيد بالكثرة وفي الحقيقة مقيد بالموضوع وفي المجاز بغير الموضوع, وهو في الكناية غيره في الصريح إذ هو(1/103)
هاء الغائبة وسائر ألفاظ الضمير أخذت من قولهم كنيت وكنوت ومنه قول الشاعر:
وإني لأكنو عن قذور بغيرها ... وأعرب أحيانا بها فأصارح
ـــــــ
فيها مقيد بقصد الاستتار فلا بد حينئذ من قدر مشترك أي معنى جامع ليستقيم التقسيم وليس ذلك إلا مطلق الاستعمال فافهم وقال صاحب المفتاح في تعريف الكناية هي ترك التصريح بذكر الشيء إلى ما يلزمه لينتقل من المذكور إلى المتروك كما تقول فلان طويل النجاد لينتقل منه إلى ما هو ملزومه, وهو طول القامة والفرق بين المجاز والكناية من وجهين أحدهما أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها فلا يمتنع في قولك فلان طويل النجاد أن تريد طول نجاده من غير ارتكاب تأويل مع إرادة طول قامته والمجاز ينافي ذلك فلا يصح في نحو قولك في الحمام أسد أن تريد معنى الأسد من غير تأويل.
والثاني أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم ومبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم, وذكر غيره في الفرق بينهما أنه لا بد في المجاز من اتصال وتناسب بين المحلين وفي الكناية لا حاجة إليه فإن العرب تكني عن الحبشي بأبي البيضاء وعن الضرير بأبي العيناء ولا اتصال بينهما بل بينهما تضاد, مثل هاء المغايبة وسائر ألفاظ الضمير مثل أنا وأنت وغيرها; لأنها لما لم تميز بين اسم واسم إلا بدلالة أخرى لم تكن صريحة ولما احتملت التمييز بدلالة استقامت كناية عن الصريح فكانت ألفاظ الكناية من الصريح بمنزلة المشترك من المفسر من حيث إن ألفاظ الكناية مما لا يفهم معناها إلا بدلالة أخرى والصريح اسم لما فهم معناه منه بنفسه, ولا يلزم على قول من زاد قيد الاستعمال في التعريف أن هذه الألفاظ كنايات بالوضع لا بالاستعمال فلا تكون داخلة في التعريف; لأنه يقول إنها إنما وضعت ليستعملها المتكلم بطريق الكناية فإن المتكلم إذا أراد أن لا يصرح باسم زيد مثلا يكني عنه بهو كما يكني عنه بأبي فلان لا أنها كنايات قبل الاستعمال فكما أن الألفاظ الموضوعة لا تكون حقيقة قبل الاستعمال لا يكون هذه الألفاظ كنايات قبل الاستعمال أيضا فتكون داخلة في التعريف قوله: "أخذت أي الكناية من قولهم كنيت وكنوت" وقع على مذهب الكوفيين فإن المصدر مأخوذ من الفعل عندهم والفعل هو الأصل فأما على مذهب البصريين فالمصدر هو الأصل والفعل مشتق منه. ثم إن كانت لام الكلمة ياء, وهو المشهور, فهي في الكناية أصلية كما في النهاية والسقاية; وإن كانت واوا وهي لغة فيها غير مشهورة; ولهذا استشهد لها دون الياء فهي منقلبة عن الواو على غير قياس كما انقلبت الواو عنها في جبيت الخراج(1/104)
وهذه جملة يأتي تفسيرها في باب بيان الحكم.
ـــــــ
جباوة والأصل جباية, والكناية لغة أن تتكلم بشيء وتريد به غيره فهي من الأسماء المقررة, والقذور المرأة التي تجتنب الأقذار والريب, وأعرب بحجته أي أفصح بها من غير تقية من أحد, والمصارحة المجاهرة, يعني أني ربما أذكر غيرها وأريدها خوفا من عشيرتها وإخفاء لمحبتي إياها وربما غلبني سكر المحبة فأفصح بها من غير تقية من أحد وأذكرها صريحا, وهذه جملة أي الحقيقة والمجاز والصريح والكناية يأتي تفسيرها أي تمام تفسيرها(1/105)
أقسام الدلالات
عبادة النص
...
"أقسام الدلالات"
1 – عبارة النص
وتفسير القسم الرابع أن الاستدلال بعبارة النص هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له.
ـــــــ
قوله: "وتفسير القسم الرابع" أي باعتبار أصل التقسيم أو الخامس باعتبار المقابل أن الاستدلال بعبارة النص أي بعينه; ولهذا قال القاضي الإمام: الثابت بعين النص ما أوجبه نفس الكلام وسياقه, وكذا ذكر أبو اليسر أيضا فتكون هذه الإضافة من باب إضافة العام إلى الخاص كما في قولك جميع القوم وكل الدراهم ونفس الشيء, والاستدلال انتقال الذهن من الأثر إلى المؤثر وقيل على العكس, وهو المراد ههنا, والعبارة لغة تفسير الرؤيا يقال عبرت الرؤيا أعبرها عبارة أي فسرتها, وكذا عبرتها, وعبرت عن فلان إذا تكلمت عنه فسميت الألفاظ الدالة على المعاني عبارات; لأنها تفسر ما في الضمير الذي هو مستور كما أن المعبر يفسر ما هو مستور, وهو عاقبة الرؤيا; ولأنها تكلم عما في الضمير, واعلم أنهم يطلقون اسم النص على كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة سواء كان ظاهرا أو مفسرا أو نصا حقيقة أو مجازا خاصا كان أو عاما اعتبارا منهم للغالب; لأن عامة ما ورد من صاحب الشرع نصوص فهذا هو المراد من النص في هذا الفصل دون ما تقدم تفسيره حتى كان التمسك في إثبات الحكم بظاهر أو مفسر أو خاص أو عام أو صريح أو كناية أو غيرها استدلالا بعبارة النص لا غير, هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له المراد من العمل عمل المجتهد, وهو إثبات الحكم لا العمل بالجوارح كما إذا قيل الصلاة فريضة لقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 83] [البقرة: 110] [النساء: 77] [الأنعام: 72] [يونس: 87] [النور: 56] [الروم: 31] [المزمل: 20], والزنا حرام لقوله جل ذكره: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الاسراء: 32], فهذا وأمثاله هو العمل بظاهر النص والاستدلال بعبارته, واعلم أن دلالة الكلام على المعنى باعتبار النظم على ثلاث مراتب, إحداها أن يدل على المعنى ويكون ذلك المعنى هو المقصود الأصلي منه كالعدد في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3], والثانية أن(1/106)
..........................................................................................
يدل على معنى ولا يكون مقصودا أصليا فيه كإباحة النكاح من هذه الآية. والثالثة أن يدل على معنى هو من لوازم مدلول اللفظ وموضوعه كانعقاد بيع الكلب من قوله عليه السلام: "إن من السحت ثمن الكلب" 1, الحديث, فالقسم الأول مسوق ليس إلا والقسم الأخير ليس بمسوق أصلا والمتوسط مسوق من وجه, وهو أن المتكلم قصد إلى التلفظ به لإفادة معنى غير مسوق من وجه, وهو أنه إنما ساقه لإتمام بيان ما هو المقصود الأصلي إذ لا يتأتى له ذلك إلا به يوضح الفرق بين القسمين الأخيرين أن المتوسط يصلح أن يصير مقصودا أصليا في السوق بأن انفرد عن القرينة والقسم الأخير لا يصلح لذلك أصلا, وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد ههنا من كون الكلام مسوقا لمعنى أن يدل على مفهومه مطلقا سواء كان مقصودا أصليا أو لم يكن وفيما سبق في بيان النص والظاهر المراد من كونه مسوقا أن يدل على مفهومه مقيدا بكونه مقصودا أصليا فيدخل القسم المتوسط ههنا في السوق ولم يدخل فيه فيما سبق, فإذا تمسك أحد في إباحة النكاح بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3], أو في إباحة البيع بقوله عز اسمه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] كان استدلالا بعبارة النص لا بإشارته, ويؤيد ما ذكرنا ما قال صدر الإسلام في أصوله الحكم الثابت بعين النص أي بعبارته ما أثبته النص بنفسه وسياقه كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فعين النص يوجب إباحة البيع وحرمة الربا والتفرقة, فسوى بين ما هو مقصود أصلي, وهو الفرق وبين ما ليس كذلك, وهو حل البيع وحرمة الربا فجعلهما ثابتين بعبارة النص لا بإشارته.
ـــــــ
1 هو جزء من حديث "القينة سحت وغناؤها حرام والنظر إليها حرام وثمنها مثل الكلب وثمن الكلب سحت ومن نبت لحمه على السحت فالنار أولى به" رواه الطبراني وروي عن ابن معن في مجمع الزوائد 4/94 وأخرجه الديلمي 2/164.(1/107)
"2 – إشارة النص"
والاستدلال بإشارته هو العمل بما ثبت بنظمه لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النص وليس بظاهر من كل وجه فسميناه إشارة كرجل ينظر ببصره
ـــــــ
قوله: "والاستدلال بإشارته" الإشارة الإيماء فكأن السامع غفل عن المعنى المضمون في النص لإقباله إلى ما دل عليه ظاهر الكلام فالنص يشير إليه, وقوله لكنه غير مقصود تعرض لجانب المعنى وقوله ولا سيق له النص تعرض لجانب اللفظ, والضمير في لكنه وله راجع إلى ما, وليس بظاهر من كل وجه; لأنه لما لم يسق له الكلام لا بد من أن يكون فيه نوع غموض فيحتاج إلى ضرب تأمل ولهذا لا يقف عليه كل أحد قال القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله الإشارة من العبارة بمنزلة الكناية والتعريض من الصريح أو المشكل من الواضح, ثم إن كان ذلك الغموض بحيث يزول بأدنى تأمل يقال هذه إشارة ظاهرة; وإن كان يحتاج إلى زيادة فكرة يقال هذه إشارة غامضة. "قوله ليس بظاهر من كل وجه" ليس من تمام التعريف بل هو ابتداء كلام والغرض منه الإشارة إلى تعليل تسمية هذا القسم إشارة; ولهذا قال فسميناه إشارة بالفاء. وقوله كرجل إلى آخره تشبيه لما ثبت بالنظم غير مقصود في ضمن ما هو المقصود بما أدرك بالبصر غير مقصود في ضمن ما هو المقصود والغرض منه التنبيه على كون هذا القسم من محاسن الكلام وأقسام البلاغة كما أن إدراك ما ليس بمقصود بالنظر مع إدراك ما هو المقصود به من كمال قوة الإبصار, واللحظ النظر بمؤخر العين ويدرك غيره بإشارة لحظاته أي بلحظاته وكأنها تشير الناظر إلى ما أقبل عليه ليدركه, الضمير في نظيره راجع إلى ما في قوله ما ثبت بنظمه لغة, على سبيل الترجمة بفتح الجيم أي التفسير ومنه الترجمان بفتح التاء والجيم وضمهما لمن يفسر كلام الغير, لما سبق, وهو قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7], لا لما قبله, وهو قوله: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7]; لأن قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ} بدل مما ذكرنا بتكرير العامل لا من قوله: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} والمعطوف عليه; لأنه تعالى هو الغني على الإطلاق ورسوله أجل قدرا من أن يطلق عليه اسم الفقير كيف وأنه تعالى أخرج رسوله عن الفقراء بقوله عز اسمه: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8], إليه أشير في الكشاف. وقيل هو معطوف على الأول بغير واو كما يقال هذا المال لزيد لبكر لعمرو كذا في التيسير فعلى هذا لا يكون ترجمة لما سبق بل يكون بيانا لمصرف آخر, وعلى التفسيرين السوق لبيان مصارف الخمس,(1/108)
إلى شيء ويدرك مع ذلك غيره بإشارة لحظاته ونظيره قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إنما سبق النص لاستحقاق سهم من الغنيمة على سبيل الترجمة لما سبق واسم الفقراء إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب.
ـــــــ
واسم الفقراء أي وذكر هذا الاسم دون غيره إشارة إلى أن الذين هاجروا من مكة قد زالت أملاكهم عما خلفوا بها باستيلاء الكفار عليه; لأنه تعالى وصفهم بالفقر مع أنهم كانوا مياسير بمكة بدليل قوله جل ذكره: {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8], والفقر على الحقيقة بزوال الملك لا يبعد اليد عن المال; لأن ضده الغنى, وهو ملك المال لا قرب اليد من المال ألا ترى أن ابن السبيل غني حقيقة; وإن بعدت يده عن المال لقيام الملك; ولهذا وجب عليه الزكاة والمكاتب فقير حقيقة ولو أصاب مالا عظيما لعدم الملك حقيقة; فلهذا قلنا إن استيلاءهم بشرط الأحرار سبب للملك إذ لو لم يكن كذلك لسماهم أبناء السبيل; لأنه اسم لمن بعدت يده عن المال مع قيام الملك فيه, وهذه من الإشارات الظاهرة التي تعرف بأدنى تأمل إلا أن الشافعي رحمه الله لم يعمل بها, وقال إنما سماهم فقراء ولم يسمهم أبناء السبيل; لأنه اسم لمن له مال في وطنه, وهو بعيد عنه ويطمع أن يصل إليه, وأنهم لم يكونوا مسافرين بالمدينة بل توطنوا بها وانقطعت أطماعهم بالكلية عن أموالهم فلم يستقم أن يسموا بابن السبيل ولكنهم لما كانوا محتاجين حقيقة وانقطع عنهم ثمرات أموالهم بالكلية; وإن كانت باقية على ملكهم صحت تسميتهم فقراء تجوزا كأنه لا مال لهم أصلا كما صحت تسمية الكافر أصم وأعمى وأبكم وعديم العقل في قوله تعالى عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. بهذا الطريق, والدليل على صرفه إلى المجاز قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141], وليس المراد نفي السبيل الحسي بالإجماع فيرجع النفي إلى السبيل الشرعي والتملك بالقهر الذي هو عدوان محض أقوى جهات السبيل, وما روي أن عيينة بن حصن أغار على سرح بالمدينة وفيها ناقة رسول الله العضباء وأسر امرأة الراعي قالت المرأة فلما جن الليل قصدت الفرار فما وضعت يدي على بعير إلا رغا حتى وضعت يدي على ناقة رسول الله العضباء فركنت إلي فركبتها وقلت إن نجاني الله عليها فلله علي أن أنحرها فلما أتيت رسول الله عليه السلام وقصصت عليه القصة قال عليه السلام: "بئس ما جازيتها لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم وإنها ناقة من إبلي ارجعي إلى أهلك على اسم الله تعالى" 1, ولكنا نقول لا حجة له في الآية; لأنها تدل على نفي سبيلهم على المؤمنين لا
ـــــــ
1 أخرجه الطبراني عن النواس بن سمعان في المعجم الكبير والأوسط مجمع الزوائد 4/190.(1/109)
وقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] سيق لإثبات النفقة وأشار بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلى أن
ـــــــ
على أموالهم وهم لا يملكوننا بالاستيلاء أيضا إنما الكلام في الأموال, أو المراد نفي السبيل في الآخرة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما بدليل قوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113], أو نفي الحجة كما قال السدي1 ولا فيما ذكر من الحديث; لأنه معارض بما روي أن عليا رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ألا تنزل دارك يعني الدار التي ورثها النبي عليه السلام من خديجة رضي الله عنها وقد كان استولى عليها عقيل بعد هجرته فقال وهل ترك لنا عقيل من دار2. ولا يقال إنما قال ذلك; لأنه كان خربها ولم تبق صالحة للنزول; لأن قول علي رضي الله عنه ألا تنزل دارك يأبى ذلك, ومؤول بأن عيينة لم يحرزها بدار الحرب فلم يملكها ولا ملكت المرأة; فلهذا استردها منها وجعل نذرها فيما لا تملك فلما لم يصلح ما ذكر من القرائن صارفا للفظ الفقراء إلى المجاز يحمل على الحقيقة إذ هي الأصل في الكلام, فالحاصل أن الإشارة قد تكون موجبة لموجبها قطعا مثل العبارة مثلها في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233], وقد لا توجب قطعا وذلك عند اشتراك معنى الحقيقة والمجاز مرادا بالكلام, فأما كونها حجة فلا خلاف فيه. قوله: "وقوله عز وجل" إما معطوف على قوله قوله تعالى للفقراء وقوله سيق لكذا جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب وإما مبتدأ وسيق خبره فيكون مرفوع المحل وأشار عطف على سيق والضمير المستكن فيهما يرجع إلى القول, وكذا البارز في بقوله أي سيق هذا القول لكذا وأشار هذا المسوق بقوله وعلى المولود له إلى كذا فكأنه قدر المسوق قائلا هذا الكلام, أو الضمير المستكن في أشار والبارز في بقوله يرجعان إلى ما دل عليه قوله سيق من السائق, وهو الله تعالى إن جاز ذلك, وكأنه هو مراد المصنف أي سيق هذا القول لكذا وأشار السائق هذا القول, وهو الله تعالى بقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلى كذا, أو الباء في بقوله زائدة وأشار مسند إلى القول والضمير البارز راجع إلى الله أي سيق قول الله, وهو: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلى آخره لكذا وأشار قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلى كذا وفي الكل بعد. ولو قيل أشير لكان أحسن. قوله جل ذكره: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ}
ـــــــ
1 هو أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي التابعي المفسر توفي سنة 127 هـ.
2 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود جامع الأصول 9/600.(1/110)
النسب إلى الآباء وإلى قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" وقوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] سيق لإثبات منة الوالدة على الولد
ـــــــ
[البقرة: 233] أي وعلى الذي ولد له, وهو الأب, وله في محل الرفع على الفاعلية نحو عليهم في: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} : {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أي طعام الوالدات ولباسهن: {بِالْمَعْرُوفِ} أي من غير إسراف ولا تقتير نظرا للجانبين, أو تفسيره ما ذكر بعده في الآية, ثم إن كان المراد من الوالدات في أول الآية المطلقات, وهو الظاهر بدليل أن ما قبل الآية وما بعدها في ذكر المطلقات فالمراد إيجاب أصل الرزق والكسوة على طريق الأجر; لأنهن يحتجن إلى ما يقمن به أبدانهن; لأن الولد إنما يغتذي باللبن; وإنما يحصل لها ذلك بالاغتذاء وتحتاج هي إلى التستر فكان هذا من الحوائج الضرورية كذا في التيسير. وإن كان المراد منها المنكوحات بدليل ذكر الرزق والكسوة دون الأجر فالمراد إيجاب فضل الطعام والكسوة الذي تحتاج إليه في حالة الرضاع لا أصل النفقة; لأن ذلك واجب بالنكاح, وعلى التقديرين الكلام مسوق لبيان إيجاب أصل النفقة أو فضلها على الأب, وفي ذكر المولود له دون ذكر الوالد إشارة إلى أن النسب إلى الأب; لأنه تعالى أضاف الولد إليه بحرف الاختصاص فيدل على أنه هو المختص بالنسبة إليه حتى لو كان الأب قرشيا والأم أعجمية يعد الولد قرشيا في باب الكفأة والإمامة الكبرى وفي العكس بالعكس, ولهذا قيل:
وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأنساب آباء
وفيه تنبيه أيضا على علة إيجاب هذه النفقة والكسوة على الآباء أي الوالدات لما ولدن لهم فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن أولادهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى, وهو قوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان: 33], الآية.
قوله: "وإلى قوله" أي قول النبي عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" 1, روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي عليه السلام فقال إن لي مالا; وإن والدي يحتاج إلى مالي قال: "أنت ومالك لوالدك" , وفي رواية: "لوالديك" كذا في المصابيح, وذكر في الكشاف شكا رجل إلى رسول الله عليه السلام أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به, فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال إنه كان ضعيفا وأنا قوي, وفقيرا وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي واليوم أنا ضعيف. وهو قوي, وأنا فقير وهو غني ويبخل علي بماله فبكى
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في البيوع حديث رقم 3530 وابن ماجه في التجارات حديث رقم 2291 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/179 و204, 214. والطبراني في الكبير 10/99.(1/111)
وفيه إشارة إلى أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إذا رفعت مدة الرضاع وهذا القسم هو الثابت بعينه.
ـــــــ
عليه السلام وقال ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ثم قال للولد: "أنت ومالك لأبيك" , وذكر الإمام ظهير الدين البخاري1 في فوائده أن شيخا أتى النبي عليه السلام وقال إن ابني هذا له مال كثير; وإنه لا ينفق علي من ماله فنزل جبرائيل عليه السلام وقال إن هذا الشيخ قد أنشأ في ابنه أبياتا ما قرع سمع بمثلها فاستنشدها فأنشدها الشيخ وقال:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا ... تعل بما أحني عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا باكيا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدا للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب مؤكل
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أنت ومالك لأبيك" , فهذا الحديث يدل على أن للأب حق التملك في مال ولده; لأن ظاهره; وإن دل على ثبوت حقيقة الملك له لكنه لما تخلف بالإجماع وبقوله عليه السلام: "الرجل أحق بماله من والده وولده والناس أجمعين" , ثبت به حق التملك له في ماله فيتملكه عند الحاجة بغير عوض إن كانت من الحوائج الأصلية وبعوض إن لم يكن كذلك; وإن له تأويلا في نفسه فلا يعاقب بإتلاف ولده كما لا يعاقب بإتلاف عبده وقد عرف تحقيقه في موضعه فالنص المذكور بإشارته أيد هذا الحديث وآزره; لأن موافقة الحديث الكتاب من دلائل صحة الحديث لقوله عليه السلام: "وما وافق فاقبلوه" . فهذا معنى قوله وأشار إلى قوله: "أنت ومالك لأبيك" .
قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الاحقاف: 15] المراد بيان مدة الرضاع لا الفطام ولكن عبر عن الرضاع به; لأن الرضاع يليه الفصال ويلابسه; لأنه ينتهي به والغرض هو الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال ووقته, ثم المراد من الحمل إن كان هو الحمل بالأيدي إذ الطفل يحمل باليد في هذه المدة غالبا فالمدة المذكورة للحمل والفصال جميعا ولا
ـــــــ
1 هو أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر البخاري ظهير الدين الفقيه الحنفي الأصولي القاضي توفي سنة 619 هـ.(1/112)
............................................................................................
تعرض للحمل في البطن حينئذ في الآية, فلا يكون الإشارة المذكورة ثابتة فيها, ويكون الآية حجة لأبي حنيفة رحمه الله في أن أكثر مدة الرضاع ثلاثون شهرا, ويحمل على هذا التقدير قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14], على بيان مدة وجوب أجر الرضاع على الأب دفعا للتعارض; وإن كان المراد منه الحمل في البطن كما ذهب إليه الجمهور, وهو الظاهر, فالإشارة ثابتة ولا يمكن التمسك لأبي حنيفة بها في تلك المسألة بل يتمسك له بالمعقول, وهو أن اللبن كما يغذي الصبي قبل الحولين يغذيه بعدهما والفطام لا يحصل في ساعة واحدة بل يفطم درجة فدرجة حتى ييبس اللبن ويتعود الصبي الطعام فلا بد من زيادة على حولين لمدة الفطام, فإذا وجبت الزيادة قدرنا تلك الزيادة بأدنى مدة الحمل, وذلك ستة أشهر اعتبارا للانتهاء بالابتداء كذا في المبسوط, ثم هذا النص مسوق لبيان منة الوالدة; لأنه تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين ثم بين السبب في جانب الأم بقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} [الاحقاف: 15] أي ذات كره على الحال أو حملا ذا كره على الصفة للمصدر والكره المشقة. ثم زاد في البيان بقوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15], أي مشقة الحمل لم تكن مقتصرة على زمان قليل بل هي مع مشقات الرضاع ممتدة هذه المدة, وفيه إشارة إلى أن أقل مدة الحمل ستة أشهر كما قال علي أو ابن عباس رضي الله عنهم فيما روي أن امرأة ولدت لستة أشهر من وقت التزوج فرفع ذلك إلى عمر وفي رواية إلى عثمان رضي الله عنهما فهم برجمها فقال علي: أو ابن عباس رضي الله عنهم أما إنها لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم أي غلبتكم في الخصومة قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] وقال عز اسمه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233], فبقي ستة أشهر لحملها فأخذ عمر بقوله وأثنى عليه ودرأ عنها الحد قال أبو اليسر: رحمه الله وهذه إشارة غامضة وقف عليها عبد الله بن عباس بدقة فهمه وقد اختفى هذا الحكم على الصحابة فلما أظهره قبلوا منه.
ولا يقال لا بد في الإشارة من لفظ يدل على المشار إليه, وليس ذلك فيما ذكرت بل هو من قبيل بيان الضرورة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى; لأنا نقول قوله ثلاثون يشمل أفراده مطابقة فيكون الستة بعض مدلوله فيكون ثابتا بالنظم ولا منافاة بين بيان الضرورة والإشارة فليكن بيان ضرورة أيضا "فإن قيل" العادة المستمرة في مدة الحمل تسعة أشهر فكان المناسب في مقام بيان المنة ذكر الأكثر المعتاد لا ذكر الأقل النادر كما في جانب الفصال "قلنا" قد قيل نزلت الآية في أبي بكر رضي الله عنه حملته أمه بمشقة ثم وضعته(1/113)
..........................................................................................
على تمام ستة أشهر وقيل نزلت في الحسن أو الحسين رضي الله تعالى عنهما وضعته أمه على ما ذكر من المدة كذا في شرح التأويلات, فإذا كان كذلك لا يستقيم ذكر ما ورائها لئلا يؤدي إلى الكذب; ولأن هذه المدة أقل مدة الحمل إذ الإنسان لا يعيش إذا ولد لأقل من ستة أشهر فيكون مشقة الحمل في هذه المدة موجودة لا محالة في حق كل مخاطب فيكون اعتبار ما هو المتيقن به; لكونه ملزما للمنة لا محالة أدخل في باب المناسبة بخلاف الفصال; لأنه لا حد لجانب القلة فيه بل لا تيقن في نفس الرضاع إذ يجوز أن يعيش الإنسان بدون ارتضاع من الأم فلا جرم اعتبر فيه الأكثر; لأنه هو الغالب فيه إذ الرضاع اختياري والشفقة حاملة على تكميل المدة فصار في التقدير كأنه قيل قد حملته ستة أشهر لا محالة إن لم تحمله أكثر منها وأرضعته سنتين فوجب عليه الإحسان إليها.(1/114)
"3 – دلالة النص"
وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادا ولا استنباطا مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23] هذا قول
ـــــــ
دلالة النص هي فهم غير المنطوق من المنطوق بسياق الكلام ومقصوده, وقيل هي الجمع بين المنصوص وغير المنصوص بالمعنى اللغوي, ويسميها عامة الأصوليين فحوى الخطاب; لأن فحوى الكلام معناه كذا في الصحاح, وفي الأساس عرفت في فحوى كلامه أي فيما تنسمت من مراده بما تكلم به مأخوذ من الفحاء, وهو أبزار القدر, ويسميها بعض أصحاب الشافعي مفهوم الموافقة; لأن مدلول اللفظ في محل السكوت موافق لمدلوله في محل النطق. قوله: "بمعنى النص لغة" أي بمعناه اللغوي لا بمعناه الشرعي, ولغة تمييز, لا اجتهادا ولا استنباطا ترادف وهذا نفي كونه قياسا, واعلم أن الحكم إنما يثبت بالدلالة إذا عرف المعنى المقصود من الحكم المنصوص كما عرف أن المقصود من تحريم التأفيف والنهر كف الأذى عن الوالدين; لأن سوق الكلام لبيان احترامهما فيثبت الحكم في الضرب والشتم بطريق التنبيه وكما عرف أن الغرض من تحريم أكل مال اليتيم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10], ترك التعرض لها فيثبت الحكم في الإحراق والإهلاك أيضا ولولا هذه المعرفة لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب إذ قد يقول السلطان للجلاد إذا أمره بقتل ملك منازع له لا تقل له أف ولكن اقتله لكون القتل أشد في دفع محذور المنازعة من التأفيف ويقول الرجل والله ما قلت لفلان أف وقد ضربه, والله ما أكلت مال فلان وقد أحرقه فلا يحنث, ثم إن كان ذلك المعنى المقصود معلوما قطعا كما في تحريم التأفيف فالدلالة قطعية; وإن احتمل أن يكون غيره هو المقصود كما في إيجاب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب فهي ظنية, ولما توقف ثبوت الحكم بالدلالة على معرفة المعنى ولا بد في معرفته من نوع نظر ظن بعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم أن الدلالة قياس جلي فقالوا لما توقف على ما ذكرنا وقد وجد أصل كالتأفيف مثلا وفرع كالضرب وعلة جامعة مؤثرة كدفع الأذى يكون قياسا إذ لا معنى للقياس إلا ذلك إلا أنه لما كان ظاهرا سميناه جليا, وليس كما ظنوا على ما ذهب إليه الجمهور; لأن الأصل في القياس لا يجوز أن يكون جزءا من الفرع بالإجماع. وقد يكون في هذا النوع ما تخيلوه أصلا جزءا مما تخيلوه فرعا كما لو قال السيد لعبده: لا تعط زيدا ذرة فإنه يدل على منعه من إعطاء ما فوق الذرة مع أن الذرة المنصوصة داخلة(1/115)
معلوم بظاهره معلوم بمعناه, وهو الأذى وهذا معنى يفهم منه لغة حتى شارك فيه غير الفقهاء أهل الرأي والاجتهاد كمعنى الإيلام من الضرب ثم يتعدى حكمه إلى الضرب والشتم بذلك المعنى فمن حيث إنه كان معنى لا عبارة لم نسمه نصا, ومن حيث إنه ثبت به لغة لا استنباطا يسمى دلالة وأنه يعمل عمل النص.
ـــــــ
فيما زاد عليها; ولأنه كان ثابتا قبل شرع القياس فعلم أنه من الدلالات اللفظية وليس بقياس, ولهذا اتفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به من مثبتي القياس ونفاته إلا ما نقل عن داود الظاهري1 لفهم المعنى منه على سبيل القطع أو الظن.
قوله: "وهذا معنى يفهم منه لغة" أي الأذى يفهم من التأفيف لغة لا رأيا كمعنى الإيلام من الضرب يعني إذا قيل اضرب فلانا أو لا تضربه يفهم منه لغة أن المقصود إيصال الألم بهذا الطريق إليه أو منعه عنه; ولهذا لو حلف لا يضربه فضربه بعد الموت لا يحنث, ولو حلف ليضربه فلم يضربه إلا بعد الموت لم يبر, فكذلك معنى الأذى من التأفيف, ثم تعدى حكمه أي حكم التأفيف, وهو الحرمة إلى الضرب والشتم بذلك المعنى للتيقن بتعلق الحرمة به لا بالصورة حتى إن من لا يعرف هذا المعنى من هذا اللفظ أو كان من قوم هذا في لغتهم إكرام لم يثبت الحرمة في حقه, ولما تعلق الحكم بالإيذاء في التأفيف صار في التقدير كأن قيل لا تؤذهما فثبت الحرمة عامة. ولا يقال ينبغي أن يحرم التأفيف للوالدين; وإن لم يعرف المتكلم معناه أو استعمله بجهة الإكرام; لأن العبرة للمنصوص عليه في محل النص لا للمعنى كما في أداء نصف صاع من تمر قيمته نصف صاع من بر عن نصف صاع من بر بطريق القيمة في صدقة الفطر فإنه لا يجوز لما ذكرنا, لأنا نقول: ذلك فيما إذا كان المعنى ثابتا بالاجتهاد فيكون ظنيا وأنه لا يظهر في مقابلة القطع فأما إذا كان المعنى ثابتا بالنص وعرف قطعا أن الحكم متعلق به فالحكم يدور على هذا المعنى لا غير كطهارة سؤر الهرة لما تعلقت بالطوف في قوله عليه السلام: "الهرة ليست بنجسة" الحديث كان سؤر الهرة الوحشية نجسا مع قيام النص لعدم الطوف, وحاصل فرق المصنف أن المفهوم بالقياس نظري ولهذا شرط في القائس أهلية الاجتهاد بخلاف ما نحن فيه; لأنه ضروري أو بمنزلته; لأنا نجد أنفسنا ساكنة إليه في أول سماعنا هذه اللفظة ولهذا شارك أهل الرأي غيرهم فيه فلا يكون قياسا لانتفاء المشروط بانتفاء الشرط.
قوله: "وأنه يعمل عمل النص" أي هذا النوع, وهو دلالة النص يثبت به عند المصنف ما يثبت بالنصوص حتى الحدود والكفارات, وكذا عند من جعله قياسا من
ـــــــ
1 هو أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني ولد سنة 200 هـ توفي سنة 270 هـ.(1/116)
...............................................................................................
أصحاب الشافعي; لأنها تثبت بالقياس عندهم, فأما عند من جعله قياسا من أصحابنا فلا يثبت به الحدود والكفارات; لأنها لا تثبت بالقياس عندنا فهذا هو فائدة الخلاف وإليه أشار المصنف فيما بعد. وسمعت عن شيخي قدس الله روحه وهو كان أعلى كعبا من أن يجازف أو يتكلم من غير تحقيق أنها تثبت بمثل هذا القياس عندهم كما تثبت بالقياس الذي علته منصوصة فعلى هذا لا يظهر فائدة الخلاف ويكون الخلاف لفظيا, ويؤيده ما ذكر الغزالي في المستصفى وقد اختلفوا في تسمية هذا القسم قياسا ويبعد تسميته قياسا; لأنه لا يحتاج فيه إلى فكرة واستنباط علة, ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به ولا مشاحة في الأسامي فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الإلحاق يشمل هذه الصورة ولا مشاحة في عبارة.(1/117)
"4 - إقتضاء النص"
وأما الثابت باقتضاء النص فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه, فإن ذلك أمر اقتضاه النص لصحة ما تناوله, فصار هذا مضافا إلى النص بواسطة المقتضى,
ـــــــ
قوله: "وأما الثابت باقتضاء النص إلى آخره" الاقتضاء الطلب ومنه اقتضى الدين وتقاضاه أي طلبه, قيل في تفسير المقتضى هو ما أضمر في الكلام ضرورة صدق المتكلم ونحوه, وقيل هو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا لكن يكون من ضرورة اللفظ, وقال القاضي الإمام: هو زيادة على النص لم يتحقق معنى النص بدونها فاقتضاها النص ليتحقق معناه ولا يلغو, وهذه العبارات تؤدي معنى واحدا ولا بد من زيادة قيد في التعريف على مذهب من جعل المحذوف قسما آخر, وهو أن يقال هو ما ثبت زيادة على النص لتصحيحه شرعا, واعلم أن الشرع متى دل على زيادة شيء في الكلام لصيانته عن اللغو ونحوه فالحامل على الزيادة, وهو صيانة الكلام هو المقتضي والمزيد هو المقتضى ودلالة الشرع على أن هذا الكلام لا يصح إلا بالزيادة هو الاقتضاء كذا ذكر بعض المحققين, وقيل الكلام الذي لا يصح شرعا إلا بالزيادة هو المقتضي وطلبه الزيادة هو الاقتضاء والمزيد هو المقتضى وما ثبت به هو حكم المقتضى. ومثاله المشهور قولك لغيرك اعتق عبدك عني بألف فنفس هذا الكلام هو المقتضى لعدم صحته في نفسه شرعا وطلبه ما يصح به اقتضاء وما زيد عليه, وهو البيع مقتضى وما ثبت بالبيع, وهو الملك حكم المقتضى وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد من لفظة الثابت إن كان المقتضي; لأنه هو الثابت باقتضاء النص فمعنى قوله وأما الثابت باقتضاء النص وأما المقتضى, والضمير المستكن في لم يعمل والبارز في عليه راجعان إلى النص, ويقرأ بشرط تقدم على الإضافة ويكون التنوين في تقدم عوضا عن المضاف إليه, وهو الضمير العائد إلى ما أي بشرط تقدمه كما يقتضيه هذا المقام, وكذا ذكر المصنف فيما بعد, وذلك وهذا إشارتان إلى الثابت, والمقتضى بالفتح في قوله بواسطة المقتضى بمعنى الاقتضاء; لأن زنة المفعول من أوزان المصادر في المنشعبات, واللام فيه بدل الإضافة, والفاء في فإن "إشارة" إلى تعليل تسميته بهذا الاسم أو إلى تعليل اشتراط تقدمه عليه. وهي في فصار لبيان كونه نتيجة للجملة الأولى, وتقدير الكلام وأما المقتضى فالشيء الذي لم يعمل النص أي لم يفد شيئا ولم(1/118)
وكان كالثابت بالنص وعلامته أن يصح به المذكور, ولا يلغى عند ظهوره
ـــــــ
يوجب حكما إلا بشرط تقدم ذلك الشيء على النص; وإنما سمي هذا الشيء بالمقتضى; لأنه أمر اقتضاه النص; وإنما شرط تقدمه عليه; لأن ذلك أمر اقتضاء النص لصحة ما تناول النص إياه فتكون صحة النص متوقفة عليه توقف المشروط على الشرط فيقدم لا محالة ولما اقتضى النص ذلك الشيء لصحته صار ذلك الشيء مضافا إلى النص بواسطة اقتضاء النص إياه, ويؤكد هذا الوجه ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله المقتضى عبارة عن زيادة على المنصوص بشرط تقديمه ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا للحكم وبدونه لا يمكن إعمال المنظوم, ورأيت في بعض الشروح وأما الثابت بطلب النص لنفسه فشيء لم يعمل النص بدون تقدمه على النص فإن النص اقتضاه ليكون متناوله صحيحا فصار متناول النص مضافا إلى النص لكن بواسطة المقتضى إذ لو لم يكن المقتضى لما صح ما تناوله النص, وإذا لم يصح لا يكون مضافا إلى النص كقوله عليه السلام: "شراء القريب إعتاق" , أضاف الإعتاق إلى الشراء بواسطة مقتضاه, وهو الملك هو الذي يوجب العتق في القريب لا الشراء ولولا المقتضى لما صح إضافة الإعتاق إلى الشراء فجعل هذا الشارح اسم الإشارة راجعا إلى ما في متناوله وهذا وجه حسن أيضا; وإن كان المراد من الثابت حكم المقتضى كما أن المراد من الثابت الحكم فيما تقدم فالاقتضاء بمعنى المقتضى ويقرأ بشرط بالتنوين والجملة بعده صفة له. وذلك إشارة إلى الشرط وهذا إلى الثابت, والمقتضى بمعنى المفعول, والفاء في فإن للإشارة إلى تعليل التقدم لا غير, وهي في فصار للإشارة إلى كون إضافة الحكم نتيجة للاقتضاء, وتقديره وأما الحكم الثابت بمقتضى النص فما لم يعمل النص في إثباته أي لم يوجبه إلا بشرط تقدم على النص; وإنما تقدم ذلك الشرط; لأنه أمر اقتضاء النص لصحة متناوله ولما كان مثبت ذلك الحكم مضافا إلى النص; لأن النص اقتضاه صار الحكم مضافا إلى النص أيضا بواسطته فلا يكون ثابتا بالرأي وإليه أشار بقوله فكان كالثابت بالنص أي الحكم الثابت بالمقتضي أو المقتضى على الوجه الأول كالثابت بالنص, قال شمس الأئمة فعرفنا أن الثابت بطريق الاقتضاء بمنزلة الثابت بدلالة النص لا بمنزلة الثابت بطريق القياس, ويؤيد هذا الوجه ما قال صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله وأما الحكم الثابت بمقتضى النص فما ثبت بشيء زائد على النص اقتضاه النص فيكون الحكم ثابتا بالنص; لأن المقتضى ثابت بالنص والحكم ثبت بالمقتضى فيكون المقتضى مع حكمه ثابتين بالنص.
قوله: "وعلامته إلى آخره" اعلم أن عامة الأصوليين من أصحابنا وجميع أصحاب الشافعي وجميع المعتزلة جعلوا ما يضمر في الكلام لتصحيحه ثلاثة أقسام:(1/119)
ويصلح لما أريد به فأما قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]
ـــــــ
ما أضمر ضرورة صدق المتكلم كقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ" الحديث1.
1 - وما أضمر لصحته عقلا كقوله تعالى إخبارا: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
2 - وما أضمر لصحته شرعا كقول الرجل اعتق عبدك عني بألف.
وسموا الكل مقتضى; ولهذا قالوا في تحديده هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق, وهو مذهب القاضي الإمام أبي زيد, ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى القول بجواز العموم في الأقسام الثلاثة, وهو مذهب الشافعي وبعضهم إلى القول بعدم جوازه في جميعها, وهو مذهب القاضي الإمام. وخالفهم المصنف وشمس الأئمة وصدر الإسلام وصاحب الميزان في ذلك فأطلقوا اسم المقتضى على ما أضمر لصحة الكلام شرعا فقط وجعلوا ما وراءه قسما واحدا وسموه محذوفا أو مضمرا وقالوا: بجواز العموم في المحذوف دون المقتضى إلا أبا اليسر فإنه لم يقل بعموم المحذوف أيضا; وإن سلم أنه غير المقتضى وسيأتيك الكلام فيه مشروحا إن شاء الله عز وجل, فلما كان كذلك أراد الشيخ أن يفرق بين المقتضى والمحذوف ببيان العلامة, فقال وعلامته أي علامة المقتضى أن يصح به أي بالمقتضى المذكور أي يصير مفيدا لمعناه, وموجبا لما تناوله, وفي بعض النسخ ولا يلغى عند ظهوره أي لا يتغير ظاهر الكلام عن حاله وإعرابه عند التصريح به كذا قيل بل يبقى كما كان قبله, ويصلح بنصب الحاء أي المذكور لما أريد به من المعنى أي لا يتغير معناه أيضا, وبمجموع ما ذكر يقع الفرق بينه وبين المحذوف; لأن بالمحذوف; وإن كان يصح المذكور إلا أنه ربما يتغير به ظاهر الكلام عن حاله وإعرابه كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وربما لم يتغير ولكنه لا يبقى صالحا لما أريد به لتغير معناه كما لو تزوج عبد بغير إذن سيده فأخبر المولى فقال طلقها لا يثبت الإجازة اقتضاء; وإن كان يصح المذكور به ولا يتغير ظاهره عن حاله لكنه لا يبقى صالحا لما
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في الطلاق 1/659 وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/198 وأخرجه ابن عباس الطبراني في الكبير 11/133 والدارقطني عنه عن أبي هريرة 4/170 – 171.(1/120)
فإن الأهل غير مقتضى لأنه إذا ثبت لم يتحقق في القرية ما أضيف إليه بل هذا من باب الإضمار; لأن صحة المقتضي إنما يكون لصحة المقتضى ومثاله
ـــــــ
أريد به; لأن دلالة حال العبد, وهو تمرده على مولاه بهذا التزوج يدل على أن غرض المولى رد العقد والمتاركة, فإنه يسمى طلاقا لا إبقاء النكاح وأنه في ولايته فيصح الأمر فلو ثبتت الإجازة اقتضاء لم يبق قوله طلقها صالحا لما أريد به. وهو إيجاب المتاركة بل يصير أمرا للعبد بالطلاق وليس في ولايته ذلك فلا يصح الأمر, بخلاف ما إذا زوجه فضولي فبلغه الخبر فقال: طلقها حيث يثبت الإجازة اقتضاء; لأنه يبقى الكلام صالحا لما أريد به كما كان; لأنه يملك التطليق بعد الإجازة كما كان يملكه قبلها فيملك الأمر به أيضا; وإن قرئ ولا يصلح بالرفع ويجعل الضمير عائدا إلى المقتضى مع أنه يلزم منه انتشار الضمير فمعناه ويصلح المقتضى لما أريد به من تصحيح الكلام, وذلك بأن يمكن إثباته تبعا للمقتضى, قال أبو اليسر: رحمه الله الشيء إنما يثبت بطريق الاقتضاء إذا كان تابعا للمصرح; لأن المقتضى يصير تابعا للمصرح في الثبوت فينبغي أن يكون تابعا في الجملة حتى يصلح أن يصير تابعا له في الثبوت أو يكون مثله; لأن الشيء قد يستتبع مثله ولا يجوز أن يكون أصلا له ألبتة; ولهذا قلنا لو قال لامرأته يدك طالق لا يقع الطلاق ولا يقتضي ذكر اليد ذكر النفس; وإن كان الطلاق لا يقع على اليد إلا بعد وقوعه على النفس; لأن النفس أصل اليد فلا يجوز أن تصير تابعة لها في الذكر والثبوت; لأنه يؤدي إلى أن يصير الأصل تبعا والتبع أصلا, وكذا حكم النكاح والبيع وهذا بلا خلاف بيننا وبين الشافعي إلا أن عنده يقع الطلاق بإضافته إلى اليد بطريق آخر; وإنما الاختلاف في عمومه, هذا لفظه وعن هذا قلنا إذا قال لعبده كفر بهذا العبد عن يمينك لا يثبت الإعتاق اقتضاء; لأن أهلية الإعتاق أصل لسائر التصرفات فلا تثبت تبعا. وكذلك قلنا إن الكفار لا يخاطبون بالشرائع إذ لو خوطبوا بها لثبت الإيمان مقتضى تبعا لها ولا يصح إذ جميع الأحكام الشرعية تبع للإيمان, وكذلك ذكر في دعوى الجامع إذا ادعى على آخر أنك أخي لأبي وأمي; فإن كان يدعي عليه حقا صحت الدعوى, وقبلت الشهادة على ذلك وإلا فلا; لأن الأخوة حق يبتنى على البنوة على الغائب, وذلك أصل وهذا تابع له فلم يجز أن يصير ذلك مقتضى هذا فبقي هذا حقا على غائب فلم يسمع; فإن ادعى حقا مقصودا صارت الأخوة والبنوة مقتضاه وتبعا له فوجب القضاء به غير مقتضى وإن كان يشبه المقتضى من وجه; لأنه أي; لأن الأهل إذا ثبت أي صرح به ما أضيف إليه أي السؤال الذي نسب إلى القرية وتعلق بها, والضمير في إليه راجع إلى القرية على تأويل المذكور أو المسئول هذا هو المشهور في مثل هذا الضمير ولكن التحقيق فيه أن التأنيث إنما يجب مراعاة حقه إذا كان مرتبا على المذكر بزيادة حرف على صيغة التذكير كضارب وضاربة أو بصيغة غير صيغة التذكير أي يكون له مذكر في الجملة, فإذا كان كذلك يلزم مراعاة حق التذكير والتأنيث وإذا لم يكن كذلك سقط اعتباره لعدم الترتيب وتعذر المراعاة كما في لفظ المعرفة والنكرة مثلا فإن تأنيثهما لما لم يكن مرتبا على التذكير(1/121)
الأمر بالتحرير للتكفير مقتض للملك ولم يذكر هذا البيان معرفة تفسير هذه الأصول لغة وتفسير معانيها وبيان ترتيبها والفصل الرابع في بيان أحكامها والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
والتأنيث سواء وصفت به نحو: اسم معرفة واسم نكرة أو جعلته خبرا نحو: زيد معرفة والرجل معرفة بخلاف المعرفة والمنكرة; لأن تأنيثهما مرتب فأمكن المراعاة ونظيرهما لفظ اسم وشيء فتقول هذا اسم وهذه اسم, وهذا شيء وهذه شيء. وكذا الفعل والحرف تقول: ضربت: فعل, وضرب: فعل وربت: حرف, ومن: حرف, فلا تقول هذا اسم وهذه سمة وهذا شيء وهذه شيئة وضرب: فعل, وضربت: فعلة ومن: حرف, وربت: حرفة فتبين أن التذكير والتأنيث إذا لم يكونا مرتبين لم يراع حقهما كذا في المحصل في شرح المفصل, ولهذا قال جار الله1 في المفصل في المضمرات والضمير في قولهم ربه رجلا نكرة مبهم ولم يقل مبهمة ولما كان تأنيث القرية غير مرتب استوى فيه التذكير والتأنيث, وليكن هذا على ذكر منك فإنك تحتاج إليه في هذا الكتاب كثيرا.
قوله: "من باب الإضمار" جعله من باب الإضمار هنا وسماه فيما بعد محذوفا, وإلا صار ما له أثر في اللفظ كقوله وبلدة أي ورب بلدة وقوله الله لأفعلن بالجر والحذف بخلافه كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155], أي من قومه وقول الرجل الله لأفعلن بالنصب وما ذكر من النظير من هذا القبيل فكان تسميته بالمحذوف أولى وما ذكره ههنا توسع, ومثاله أي مثال المقتضى الأمر بالتحرير, وهو قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]; لأنه في معنى الأمر أي فحرروا رقبة مقتض للملك; لأن تحرير الحر لا يتصور, وكذا تحرير ملك الغير عن نفسه فصار التقدير فعليه تحرير رقبة مملوكة له ثم إذا قدر مذكورا لم يتغير موجب الكلام وبقي صالحا لما أريد به, وهو التكفير, وذكر السيد الإمام أبو القاسم رحمه الله والثابت مقتضى نحو قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15], ولا يتحقق المصاحبة إلا بالاتفاق وترك القتل فيثبت حرمة القتل ووجوب الاتفاق مقتضاه سابقا عليه. هذا إشارة إلى ما سبق من قوله الخاص كذا إلى ما انتهى إليه, وبيان ترتيبها أي في البعض; لأنه لم يتبين الترتيب في الكل, والفصل الرابع أي من البيان فكأنه جعل بيان معانيها لغة فصلا وبيان معانيها شرعا فصلا وبيان ترتيبها عند التعارض فصلا وبيان الأحكام رابع الفصول والله أعلم.
ـــــــ
1 هو أبو القاسم جار الله محمود ين عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري المفسر المتكلم النحوي اللغوي والأديب ولد 467 هـ توفي سنة 538 هـ.(1/122)
"باب معرفة أحكام الخصوص"
باب معرفة أحكام الخصوص: اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعا ويقينا بلا شبهة لما أريد به من الحكم ولا يخلو الخاص عن هذا في أصل الوضع; وإن
ـــــــ
الباب: النوع ومنه قوله عليه السلام: "من تعلم بابا من العلم" , أي نوعا منه قوله: "يتناول المخصوص" أي مدلوله, قطعا تمييز أي على وجه انقطع إرادة الغير عنه, ويقينا أي ثبوتا في ذاته من غير شك, واليقين العلم وزوال الشك فعيل من يقن الأمر يقنا لازم ومتعد, بلا شبهة تأكيد آخر ببيان النتيجة; لأنه إذا ثبت في ذاته وانقطع عنه إرادة الغير لا تبقى فيه شبهة لا محالة, والغرض من التأكيد مرتين المبالغة في نفي قول من قال إنه ليس بقطعي لبقاء الاحتمال ولهذا قدم قطعا على يقينا; وإن كان من قضية الكلام تقديم اليقين على القطع; لأن المنازعة لم تقع في ثبوت موضوعه بل هي وقعت في قطع الاحتمال فكان هذا هو الغرض الأصلي; فلهذا قدمه, لما أريد به أي لأجل ما أريد بالمخصوص من الحكم الشرعي, ومن للبيان وذلك كلفظة الثلاثة يتناول مخصوصها. وهو الأفراد المعلومة لما أريد به من تعلق وجوب التربص به, يوضحه ما قال شمس الأئمة رحمه الله: حكم الخاص معرفة المراد باللفظ ووجوب العمل به فيما هو موضوع له لغة; لأنه عامل فيما وضع له بلا شبهة, وهذا على مذهب المصنف, ومن لم يعتبر نفس الاحتمال قادحا في اليقين فأما عند من اعتبره كذلك, فهو يوجب العمل بظاهره ولكن لا يوجب اليقين, لا يخلو الخاص عن هذا أي عن تناول المخصوص بطريق القطع في أصل الوضع; لأنه وضع لذلك, وفيه إشارة إلى أن دلالة الخاص على المخصوص باعتبار أصل الوضع لا باعتبار الحقيقة والمجاز; لأنهما من باب الاستعمال والخصوص من باب الوضع والوضع مقدم على الاستعمال; وإن احتمل التغير أي قبل أن يراد به غير موضوعه مجازا إذا قام الدليل; فإن قيل كيف يثبت القطع مع الاحتمال قلنا لما لم يقم عليه دليل الحق بالعدم فلا يمتنع القطع به ألا يرى أنه لم يمتنع أحد من دخول المسقف مع أن احتمال السقوط ثابت جزما لكنه لما لم يقم عليه دليل ألحق بالعدم هذا هو المسموع من الثقات, وتحقيقه أن الاحتمال صفة اللفظ, وهو صلاحيته لأن يراد به غير الموضوع له وإرادة الغير هو المحتمل فقولنا قطعا راجع إلى المحتمل لا إلى الاحتمال بيانه أن لفظ الأسد الموضوع للحيوان(1/123)
احتمل التغير عن أصل وضعه لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان لكونه بينا لما وضع له من ذلك أن الله تعالى قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قلنا المراد به الحيض لأنا إذا حملنا على الأطهار
ـــــــ
المخصوص في قولك رأيت أسدا من غير قرينة يقبل أن يراد به الشجاع مجازا فهذا هو الاحتمال وإرادة الشجاع هي المحتمل, فإذا قلنا المراد منه موضوعه قطعا فالمراد بالقطع قطع المحتمل; لأن ثبوته متوقف على قيام الدليل ولم يوجد فيكون منقطعا لا محالة لا قطع الاحتمال إذ صلاحية اللفظ باقية حتى لو انقطع الاحتمال أيضا يسمى محكما فثبت أن القطع يجتمع مع الاحتمال.
قوله: "لكن لا يحتمل التصرف" استدراك من قوله واحتمل التغير بطريق البيان. وذلك أن البيان إما إثبات الظهور, وهو حقيقته أو إزالة الخفاء, وهي لازمته فلو احتمل التصرف بطريق البيان مع كونه بينا يلزم إثبات الثابت أو نفي المنفي وكلاهما فاسد, من ذلك أي من الخاص الذي ذكرنا أن العمل يجب بموجبه ولا يحتمل البيان.
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} الآية. وقوله قلنا نحن جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} , خبر في معنى الأمر أي وليتربص المطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أي مضي ثلاثة قروء على أنها مفعول به كقولك المحتكر يتربص الغلاء, أو مدة ثلاثة قروء على أنها ظرف, والمراد بالقروء الحيض عندنا, وهو مذهب الخلفاء الراشدين وأبي الدرداء رضي الله عنهم وعند الشافعي المراد بها الأطهار, وهو مذهب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم واللفظ يحتملها بالاتفاق والشأن في الترجيح فقلنا لو حمل اللفظ على الأطهار انتقص العدد عن الثلاثة; لأنه إذا طلقها في الطهر; وإن كان في أوله ينتقص ذلك الطهر في حق العدة لا محالة إذ المراد من الطهر هو الطهر الشرعي المتخلل بين دمي ترك بالاتفاق لا مسمى الطهر إذ لو كان كذلك لانقضت العدة في طهر واحد أو أقل ولما انقضت عدة المستحاضة ثم هو محسوب من العدة عند من حمل القروء على الأطهار فيصير العدة قرأين وبعض قرء والثلاثة اسم خاص لعدد معلوم لا يحتمل غيره سواء كان أقل منه أو أكثر فلا يجوز أن يراد بالخمسة الأربعة ولا الستة مع أن إطلاق اسم الكل على البعض وبالعكس جائز وذلك; لأن أسماء الأعداد أعلام; ولهذا يقال ستة ضعف ثلاثة وأربعة نصف ثمانية من غير انصراف للعلمية والتأنيث والنقل لا يجري في الإعلام بخلاف ما إذا حملنا على الحيض; لأنه لو طلقها في الحيض لا تحتسب تلك الحيضة بالاتفاق فيكمل الأقراء لا محالة فيكون عملا بهذا اللفظ الخاص, وهو الثلاثة فيكون الحمل على وجه يوافق الكتاب أولى من الحمل على وجه يخالفه. ولا يلزم عليه قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}(1/124)
انتقص العدد عن الثلاثة فصارت العدة قرأين وبعض الثالث وإذا حملنا على الحيض كانت ثلاثة كاملة والثلاثة اسم خاص لعدد معلوم لا يحتمل غيره كالفرد لا يحتمل العدد والواحد لا يحتمل الاثنين فكان هذا بمعنى الرد والإبطال.
ـــــــ
[البقرة: 197], حيث أريد شهران وبعض الثالث, وهو عشر ذي الحجة مع أن أقل الجمع ثلاثة; لأن الأشهر اسم عام فيجوز أن يذكر ويراد به البعض كما أريد من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ} [آل عمران: 42], جبريل عليه السلام ومن قوله عز اسمه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] قلباكما فأما أسماء الأعداد فأعلام فلا يجوز فيها ذلك; ولهذا جاز إذا رأى رجلين أن يقول رأيت رجالا ولا يجوز أن يقول رأيت ثلاثة رجال.
فإن قيل: في الحمل على الحيض مخالفة للنص من وجهين: أحدهما: أنه يلزم منه ازدياد الحيض على الثلاثة; لأنه إذا طلقها في الحيض لا يحتسب تلك الحيضة بالإجماع فيجب التربص حينئذ بثلاثة أقراء وبعض الرابع واسم الثلاثة كما لا يحتمل النقصان لا يحتمل الزيادة, والثاني أن الهاء علامة التذكير في مثل هذا العدد يقال ثلاثة رجال وثلاث نسوة والحيضة مؤنثة والطهر مذكر فدلت العلامة في الثلاثة على أن المراد من القروء الأطهار.
قلنا: الجواب عن الأول أن ذلك الازدياد ثبت ضرورة وجوب التكميل فلا يعبأ به وذلك; لأن الحيضة الواحدة لا تقبل التجزئة ولهذا قلنا لو قال لامرأته أنت طالق إذا حضت نصف حيضة لا تطلق حتى تطهر كما لو قال حيضة وقد وجب تكميل الأولى بالرابعة فوجب بتمامها ضرورة عدم التجزؤ والعدة قد يحتمل مثل هذه الزيادة احترازا عن النقصان كما أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة بالإجماع ثم جعلت قرأين وفيه زيادة نصف القرء كذا في الأسرار. وعن الثاني أن الحيضة; وإن كانت مؤنثة فالقرء المضاف إليه الثلاثة مذكر ولا استبعاد في تسمية شيء واحد باسم التذكير والتأنيث كالبر والحنطة والذهب والعين فلما أضيف إلى المذكر روعي علامة التذكير, ومما يؤكد أن المراد من القروء الحيض قوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك" 1 وقوله: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان" 2 ولم يقل طهران وقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4], الآية فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار وأن الغرض الأصيل
ـــــــ
1 أخرجه الطحاوي والدارقطني من حديث فاطمة بنت أبي حبيش ص 19.
2 أخرجه أبو داود في الطلاق رقم 2189 وأخرجه الترمذي في الطلاق رقم 182 وأخرجه ابن ماجه في الطلاق رقم 2080 وأخرجه مالك في الموطأ 2/205.(1/125)
ومن ذلك قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] والركوع اسم لفعل معلوم, وهو الميلان عن الاستواء بما يقطع اسم الاستواء فلا يكون
ـــــــ
في العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة بالاتفاق ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت كذا في الكشاف.
قوله: "والواحد لا يحتمل المثنى" تأكيد لقوله كالفرد لا يحتمل العدد; وإنما أكد به; لأن الفرد يطلق على الأعداد التي ليست بزوج كما يطلق على الواحد يقال ثلاثة عدد فرد وأربعة عدد زوج فلما احتمل الفرد العدد أزال الإبهام بقوله والواحد لا يحتمل المثنى ومعناه لفظ الفرد لا يتناول العدد واسم الواحد لا يتناول المثنى, فكان هذا أي الحمل على الأطهار بمعنى الرد والإبطال أي بموجب الكتاب; لأن الكتاب يقتضي التكميل والتنقيص ضده قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص الذي لا يحتمل التصرف بطريق البيان قوله تعالى: {وَارْكَعُوا} [البقرة: 43], قيل هو أمر لليهود بالركوع أي أقيموا صلاة المسلمين وزكاتهم واركعوا مع الراكعين منهم وذلك; لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم, ويجوز أن يراد بالركوع الصلاة كما يعبر عنها بالسجود ويكون أمرا بأن يصلي مع المصلين يعني في الجماعة كأنه قيل وأقيموا الصلاة وصلوها مع المصلين لا منفردين كذا في الكشاف فعلى هذا فرضية الركوع بهذه الآية ثابتة علينا بطريق الإشارة أو الدلالة, فإنه تعالى لما أوجب الركوع عليهم متابعة لنا فيكون ذلك علينا أوجب, وإيراد قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77], لإثبات فرضية الركوع كما أورده شمس الأئمة أحسن.
وقوله اركعوا خاص في حق المأمور به; وإن كان عاما في حق المأمور. قوله: "وهو الميلان عن الاستواء" يقال ركعت النخلة إذا مالت وركع البعير إذا طأطأ رأسه, وركع الشيخ إذا انحنى قامته من الكبر, بما يقطع اسم الاستواء حتى لو طأطأ رأسه قليلا ثم رفع رأسه إن كان إلى القيام أقرب منه إلى الركوع لم يجزه لعدم انقطاع الاستواء. وإن كان إلى الركوع أقرب جاز, وفي المبسوط قدر الركن من الركوع أدنى الانحطاط على وجه يسمى له في الناس راكعا, فلا يكون إلحاق التعديل, وهو الطمأنينة في الركوع والسجود وإتمام القيام بين الركوع والسجود والقعدة بين السجدتين, به أي بالركوع أو بقوله تعالى {وَارْكَعُوا} [البقرة: 43], بخبر الواحد, وهو حديث تعليم الأعرابي1 على وجه يكون فرضا كالركوع, بيانا صحيحا; لأن من شرط التحاق خبر الواحد بيانا بالكتاب أن يكون فيما
ـــــــ
1 حديث لأعرابي الذي دخل المسجد وصلى وقال له صلى الله عليه وسلم "ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا.." أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه والترمذي وأبو داود والنسائي عن رفاعة بن رافع جامع الأصول لابن الأثير 5/420 – 425.(1/126)
إلحاق التعديل به على سبيل الفرض حتى تفسد الصلاة بتركه بيانا صحيحا لأنه بين بنفسه بل يكون رفعا لحكم الكتاب بخبر الواحد لكنه يلحق به إلحاق الفرع بالأصل ليصير واجبا ملحقا بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وهذا فعل خاص وضع لمعنى خاص, وهو الدوران حول البيت, فلا يكون وقفه على
ـــــــ
التحق به إجمال; لأنه لو لم يكن كذلك يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد وقد عدم هنا; لأنه بين بنفسه فلم يصح لعدم شرطه. وقوله لكنه استدراك من مفهوم هذا الكلام وتقديره أن إلحاقه بالنص على وجه التسوية فاسد فلا يلحق لكنه أي التعديل يلحق بالنص أو بالركوع إلحاق الفرع بالأصل, وذلك بأن لا يؤدي إلى إبطال الأصل, ليصير واجبا ملحقا بالفرض حتى ينتقص الصلاة بدونه ويأثم هو بتركه ولكن لا تبطل; لأن الحكم يثبت على حسب الدليل, كما هو منزلة خبر الواحد, وذلك بأن يكون تبعا للكتاب لا مبطلا له. قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص الذي ذكرنا قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29], أي طواف الزيارة وطاف وتطوف بمعنى, بالبيت العتيق أي من الجبابرة والغرق; لأنه رفع إلى السماء وقت الطوفان, أو الكريم وكرمه وشرفه ظاهر, أو القديم; لأنه أول بيت وضع للناس. وهذا فعل, أي الطواف الذي هو مدلول وليطوفوا وتسميته فعلا توسع إذ المراد منه لفظ الطواف بدليل قوله وضع لكذا, قال شمس الأئمة: الطواف موضوع لغة لمعنى معلوم, فلا يكون وقفه أي الحكم بأن الطواف متوقف على الطهارة كما قال الشافعي رحمه الله, عملا بالكتاب; لأنه ساكت عن اشتراطها, ولا بيانا; لأنه ليس فيه إجمال, وذكر في الأسرار إنما يقال إنه بيان إذا كان النص يحتمله بوجه والأمر بالطواف لا يحتمل الطهارة, بل كان نسخا محضا; لأن الكتاب يقتضي جواز الطواف مع الحدث واشتراط الطهارة ينفيه فيكون نسخا محضا فلا يصح بخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام: "ألا لا يطوفن بهذا البيت محدث ولا عريان" 1 وقوله عليه السلام: "الطواف صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام" 2, لكنه أي شرط الطهارة يزاد على الطواف واجبا, وهو الصحيح بدليل إيجاب الدم عند تركه, وكان ابن
ـــــــ
1 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه جامع الأصول 2/152 – 156 وأخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما المرجع نفسه 8/660.
2 أخرجه النسائي في الأصول 3/190 – 191 وأخرجه ابن عباس الحاكم والبيهقي كما روى الطبراني وأبو نعيم والحاكم والبيهقي في الفتح الكبير 2/219.(1/127)
الطهارة عن الحدث حتى لا ينعقد إلا بها عملا بالكتاب ولا بيانا بل نسخا محضا فلا يصح بخبر الواحد لكنه يزاد عليه واجبا ملحقا بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب ليثبت الحكم بقدر دليله
ـــــــ
شجاع يقول إنه سنة1 كذا في المبسوط.
فإن قيل: النص مجمل; لأن نفس الطواف ليس بمراد بالإجماع فإنه قدر بسبعة أشواط وشرط فيه الابتداء من الحجر الأسود حتى لو ابتدأ من غيره لا يعتد بذلك القدر حتى ينتهي إلى الحجر, وكذا يلزم إعادة طواف الجنب والعريان والطواف المنكوس فثبت أنه مجمل لمعنى زائد ثبت شرعا عليه كالربا فيجوز أن يلتحق خبر الطهارة بيانا به.
قلنا: أما التقدير بسبعة أشواط فقد ثبت بالأحاديث المتواترة فكان كالمنصوص في القرآن فتجوز الزيادة بها; ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز النقصان عن هذا العدد كالحدود إلا أن علماءنا رحمهم الله قالوا يحتمل أن يكون التقدير به للإكمال ويحتمل أن يكون للاعتداد به فيثبت القدر المتيقن. وهو أن يجعل ذلك شرط الإتمام ولئن كان شرط الاعتداد فالأكثر منه يقوم مقام الكل لترجح جانب الوجود فيه على جانب العدم كالنية قبل انتصاف النهار في الصوم المتعين وكما أن المعظم من أفعال الحج يقوم مقام الكل في حق الخروج عن عهدة الأمر حتى لم يفسد الحج بعد عرفة بوجه كأنه أتي بالكل. وأما الابتداء من غير الحجر فمن أصحابنا من يقول بأنه معتد به ولكنه مكروه, ولئن سلمنا أنه غير معتد به كما ذكر محمد رحمه الله في الرقيات فذلك لما روي أن إبراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام ائتني بحجر أجعله علامة افتتاح الطواف فأتاه بحجر فألقاه ثم بالثاني ثم بالثالث فناداه قد أتاني بالحجر من أغناني عن حجرك ووجد الحجر الأسود في موضعه فعرفنا أن ابتداء الطواف منه فما أداه قبل الافتتاح به لا يكون معتدا به كذا ذكر في المبسوط, ولكن لا تزول الشبهة به; لأن هذه زيادة على النص بخبر الواحد أيضا, والأشبه أن يقال إنه ليس بمجمل في نفسه, ولكنه في حق المبالغة وابتداء الفعل مجمل; لأن الأمر صدر بصيغة التطوف وتاء التفعل للتكلف والمبالغة, وذلك يحتمل أن يكون من حيث العدد ومن حيث الإسراع في المشي فالتحق خبر العدد والابتداء بيانا به; لأنه يصلح لبيان إجماله فأما خبر الطهارة فلا يصلح للبيان لما ذكرنا أن الطواف لا يحتمل الطهارة بل هو شرط زائد فلا يثبت بخبر الواحد. ونظيره مسح الرأس, فإنه لما كان في حق المقدار
ـــــــ
1 هو عبد الرحمن بن شجاع بن الحسن بن الفضل أبو الفرج البغدادي فقيه حنفي ولد سنة 539 هـ وتوفي سنة 609 هـ.(1/128)
ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فإنما الوضوء غسل ومسح وهما لفظان خاصان
ـــــــ
مجملا التحق فعل النبي عليه السلام بيانا به; لأنه يبين إجماله دون خبر التثليث; لأن اللفظ لا يحتمله.
وأما وجوب إعادة طواف الجنب والعريان والطواف المنكوس فليس لعدم الجواز بل لتمكن النقصان الفاحش فيه كوجوب إعادة الصلاة التي أديت مع الكراهة; ولهذا ينجبر بالدم إذا رجع من غير إعادة انجبار نقصان الصلاة بالسجدة.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص الذي تقدم ذكره والفاء في فإنما إشارة إلى تعليل كون مفهوم الآية من هذا الباب, وهما لفظان خاصان لمعنى معلوم أي كل واحد منهما لمعنى كما في قول المتنبي:
حشاي على جمر ذكي من الهوى ... وعيناي في روض من الحسن ترتع
أي كل واحدة والمعنى المعلوم الإسالة للغسل والإصابة للمسح, فلا يكون شرط النية كما قاله الشافعي, في ذلك أي في الوضوء بقوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" 1, أو بالقياس على التيمم; لأن اشتراطها في البدل يدل على اشتراطها في الأصل; لأن البدل لا يخالف الأصل في الشروط, عملا بالكتاب; لأنه ساكت, ولا بيانا; لأنه بين, والواو في "وهو" للحال, والنية عنده أن يقصد بقلبه عند غسل الوجه إزالة الحدث أو استباحة الصلاة أو فرض الوضوء حتى لو توضأ للتبرد أو للتعليم أو نوى غير مقارن لغسل الوجه لا يعتد بذلك الوضوء عنده, بل إضراب عن مفهوم الكلام. على الوصف الذي ذكرنا أي إلحاق الفرع بالأصل وذلك بأن يجعل واجبا أو سنة على حسب اقتضاء الدليل لا فرضا كما قاله الخصم, ولا يلزم على ما ذكرنا اشتراط النية في التيمم مع أنه خاص; لأن ذلك ثبت بإشارة النص إذ التيمم القصد, وبطل شرط الولاء, وهو أن يتابع في الأفعال, ولا يفرق والذي يقطع التتابع جفاف العضو مع اعتدال الهواء; وإنما شرطه مالك وابن أبي ليلى2 والشافعي في قوله القديم بفعل النبي عليه السلام واظب على الموالاة قالوا فلو جاز تركه لفعله مرة تعليما للجواز, قال ابن أبي ليلى: إن اشتغل بطلب الماء أجزأه; لأن ذلك
ـــــــ
1 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني في الأشباه والنظائر ص 38 – 39.
2 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار الأنصاري الكوفي الفقيه المجتهد الفرضي القاري المحدث توفي سنة 148 هـ.(1/129)
لمعنى معلوم في أصل الوضع, فلا يكون شرط النية في ذلك عملا به ولا بيانا له, وهو بين لما وضع له بل يجب أن يلحق به على الوصف الذي ذكرنا وبطل
ـــــــ
من عمل الوضوء; وإن أخذ في عمل آخر غير ذلك وجف أعاد ما جف وجعله قياس أعمال الصلاة إذا اشتغل في خلالها بعمل آخر كذا في المبسوط, والترتيب, وهو أن يراعي النسق المذكور في كتاب الله تعالى وقد شرطه الشافعي رحمه الله بقوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه أو قال ذراعيه" وحرف ثم للترتيب, والتسمية. وهي أن يسمي الله تعالى في ابتداء الوضوء ومختار المشايخ بسم الله العظيم والحمد لله على الإسلام; وإنما شرط التسمية أصحاب الظواهر وقيل هو قول مالك أيضا بقوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يسم" 1, لما ذكرنا أنه ليس بعمل بالكتاب ولا ببيان له بل هو نسخ لموجبه بخبر الواحد.
فإن قيل: فهلا قلتم بوجوب النية وأخواتها كما قلتم بوجوب التعديل في الصلاة والطهارة في الطواف "قلنا" للمانع من القول بالوجوب, وهو لزوم المساواة بين التبعين مع ثبوت التفرقة بين الأصلين وذلك; لأن الوضوء أحط رتبة من الصلاة; لأنه فرض لغيره إذ هو شرط والشروط أتباع ولهذا تسقط بسقوط المشروط من غير عكس والصلاة فرض لعينه فلو قلنا بالوجوب في مكمل الوضوء كما قلنا بالوجوب في مكمل الصلاة يلزم التسوية إذ يصير كل واحد منهما واجبا لغيره فقلنا بالسنة في مكمل الوضوء إظهارا للتفاوت بينهما كذا قالوا وشبهوا هذا بأن غلام الوزير لا بد من أن يكون أدون حالا من غلام الأمير لكون الوزير أدنى رتبة من الأمير قلت والأقرب إلى التحقيق أن ذلك التفاوت درجات الدلائل فإن الأدلة السمعية أنواع أربعة:
قطعي الثبوت والدلالة كالنصوص المتواترة.
وقطعي الثبوت ظني الدلالة كالآيات المؤولة.
وظني الثبوت قطعي الدلالة كأخبار الآحاد التي مفهومها قطعي.
وظني الثبوت والدلالة كأخبار الآحاد التي مفهومها ظني.
فبالأول يثبت الفرض وبالثاني والثالث يثبت الوجوب وبالرابع يثبت السنة والاستحباب ليكون ثبوت الحكم بقدر دليله. فخبر التعديل من القسم الثالث; لأنه عليه السلام أمر الأعرابي بالإعادة ثلاثا فقال له كل مرة ارجع فصل, فإنك لم تصل ثم علمه
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة رقم 101 والترمذي في الطهارة رقم 25 وأخرجه ابن ماجه في الطهارة رقم 397, 398, 399, 400.(1/130)
شرط الولاء والترتيب والتسمية كما ذكرنا وصار مذهب المخالف في هذا الأصل غلطا من وجهين أحدهما أنه حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته
ـــــــ
ومثله لو كان قطعي الثبوت يثبت به الفرض لانقطاع الاحتمال عنه, فإذا كان ظني الثبوت يثبت به الوجوب; ولهذا قال أبو حنيفة فيه أخشى أن لا تجوز صلاته يعني إذا تركه, وكذا خبر الطهارة, وهو قوله عليه السلام: "لا يطوفن بهذا البيت محدث" لتأكده بالنون المؤكدة, فأما قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" فمن القسم الرابع; لأن معناه إما ثواب الأعمال أو اعتبار الأعمال على ما ستعرفه فيكون مشترك الدلالة, وكذا خبر التسمية; لأنه معارض بقوله عليه السلام: "من توضأ وسمى كان طهورا لجميع أعضائه ومن توضأ ولم يسم كان طهورا لما أصابه الماء" 1 فلم يبق قطعي الدلالة كيف واستعمال مثله في نفي الفضيلة شائع, وكذا دليل الموالاة; لأن المواظبة لا تدل على الركنية فإنه عليه السلام كان يواظب على المضمضة والاستنشاق كما كان يواظب على غسل الوجه, وخبر الترتيب أيضا معارض بما روي أنه عليه السلام نسي مسح الرأس في وضوئه فتذكر بعد فراغه فمسحه ببلل في كفه فلما كانت هذه الدلائل ظنية الثبوت والدلالة يثبت بها السنة لا الوجوب.
قوله: "وصار مذهب المخالف غلطا من وجهين"; لأنه لما سوى بينهما في الرتبة حيث أثبت بخبر الواحد ما أثبت بالكتاب لزم حط درجة الكتاب بالنظر إلى رتبة الخبر أو رفع درجة الخبر بالنظر إلى رتبة الكتاب كمن سوى بين شريف, ومن هو أدنى منه في المكان يلزم رفع درجة الأدنى إن أجلسه في مكان الشريف أو حط درجة الشريف إن أجلسه في مكان الأدنى, ولكنهم يقولون إنما يلزم ذلك لو قلنا بأن ما ثبت بخبر الواحد ثابت علما وعملا ونحن لا نقول به بل نقول ما ثبت بالكتاب قطعي موجب للعلم والعمل وما ثبت بخبر الواحد موجب للعمل دون العلم حتى لا يكفر جاحده كما قال أبو حنيفة رحمه الله بفرضية الوتر وفرضية الترتيب بين الفوائت فأنى يلزم ما ذكرتم وجوابه سيأتي في باب العزيمة والرخصة.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص الذي ذكرنا, اعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسألة الهدم وصورتها مشهورة فقال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وطء الزوج الثاني يهدم حكم ما مضى من الطلقات واحدا كان أم ثلاثة وبه قال إبراهيم2 وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهم الله وقال عمر
ـــــــ
1 أخرجه الدارقطني والبيهقي نيل الأوطار 1/167.
2 هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس ولد سنة 50 هـ(1/131)
والثاني أنه رفع حكم الخبر الواحد فوق منزلته ومن ذلك قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] قال محمد والشافعي رحمهما الله: قوله حتى تنكح كلمة وضعت لمعنى خاص, وهو للغاية والنهاية فمن جعله محدثا حلا جديدا لم يكن ذلك عملا بهذه الكلمة ولا بيانا; لأنها ظاهرة فيما وضعت له بل كان إبطالا, ولكنها تكون غاية ونهاية والغاية والنهاية بمنزلة البعض لما وصف بها وبعض الشيء لا ينفصل عن كله فيلغو قبل وجود الأصل
ـــــــ
وعلي وأبي بن كعب وعمران بن الحصين وأبو هريرة رضوان الله عليهم: لا يهدم ما دون الثلاث وبه قال محمد وزفر والشافعي رحمهم الله, ومبنى المسألة على أن الزوج الثاني أي إصابته في الطلقات الثلاث مثبت حلا جديدا أم هو غاية للحرمة الثابتة بها فقط فعند الأولين هو مثبت للحل, وعند الآخرين هو غاية, تمسك الفريق الآخر بأن الله تعالى جعل الزوج الثاني غاية للحرمة بقوله جل ذكره: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أي الطلقة الثالثة: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي بعد ذلك التطليق: {حَتَّى تَنْكِحَ} أي تتزوج زوجا غيره أي رجلا أجنبيا وسماه زوجا باعتبار العاقبة كتسمية العنب خمرا وكلمة حتى للغاية وضعا ولا تأثير للغاية في إثبات ما بعدها بل هي منهية فقط, فإذا انتهى المغيا ثبت الحكم فيما بعد بالسبب السابق كما في الأيمان الموقتة ينتهي الحرمة الثابتة بها بالغاية ثم يثبت الإباحة بالسبب السابق وكما في الصوم ينتهي حرمة الأكل والشرب بالليل ثم يثبت الحل بعد الإباحة الأصلية. وكذا الحكم في تحريم البيع إلى قضاء الجمعة وتحريم الاصطياد على المحرم إلى انتهاء الإحرام والظهار الموقت التكفير, فكذا ههنا بإصابة الزوج الثاني ينتهي الحرمة ثم يثبت الحل بالسبب السابق, وهو كونها من بنات آدم خالية عن أسباب الحرمة, ولا يقال قد اضمحل الحل الأول بضده فلا بد من أن يثبت حل آخر يضمحل به الحرمة لاستحالة عود الحل الأول, لأنا نقول نحن لا ننكر ذلك لكنه إنما يثبت بالسبب الذي يثبت به الأول, وهو أنها من بنات آدم لا بالزوج الثاني الذي هو غاية; لأن إضافة الحكم إلى السبب الذي ظهر أثره مرة أولى من إضافته إلى سبب لم يظهر أثره أصلا كمن آجر داره فخرجت المنافع عن ملكه ثم انتهت الإجارة صارت المنافع مملوكة له بملك جديد غير الأول لزوال الأول بالتمليك وعدم ارتفاع سبب الزوال ولكن بالسبب السابق, وهو ملك الدار لا بانتهاء الإجارة.
فمن جعل الزوج الثاني مثبتا حلا جديدا لم يكن ذلك عملا بالكتاب; لأنه لا يقتضي ذلك بل يقتضي كونه غاية فقط, بل كان إبطالا; لأن الكتاب يقتضي أن يكون(1/132)
والجواب أن النكاح يذكر ويراد به الوطء, وهو أصله ويحتمل العقد على ما يأتي في موضعه وقد أريد به العقد هنا بدلالة إضافته إلى المرأة لأنها في فعل مباشرة العقد مثل الرجل فصحت الإضافة إليها وأما فعل الوطء فلا يضاف إليها مباشرته أبدا لأنها لا تحتمل ذلك; وإنما ثبت الدخول بالسنة على ما روي
ـــــــ
الزوج الثاني غاية وكونه غاية يقتضي أن يكون وجوده وعدمه قبل الثلاث بمنزلة وجعله مثبتا حلا جديدا يقتضي خلافه فيكون إبطالا. ولما ثبت أن الزوج الثاني غاية لم يكن له عبرة قبل الثلاث; لأن غاية الشيء بمنزلة البعض لذلك الشيء لتوقف صيرورتها غاية عليه توقف البعض على الكل وبعض الشيء لا ينفصل عن كله إذ لو انفصل لم يبق بعضا حقيقة, فتلغوا بالتاء أي الغاية قبل وجود الأصل, وهو المغيا كرجل حلف لا يكلم فلانا في رجب حتى يستشير إياه فاستشاره قبل دخول رجب لم يكن معتبرا في حق اليمين حتى لو كلمه في رجب قبل الاستشارة حنث; لأن اليمين أوجبت تحريم الكلام بعد دخول رجب إلى غاية الاستشارة فالاستشارة وعدمها قبل دخول رجب بمنزلة.
ولا يقال النص متروك الظاهر; لأنه يقتضي أن يكون نفس التزوج غاية كما ذهب إليه سعيد بن المسيب وليس كذلك إذ الإصابة بعده شرط للحل بالإجماع وقول سعيد مردود حتى لو قضى القاضي به لا ينفذ فلا يستقيم التمسك به, لأنا نقول قد زيد على النص الإصابة بالحديث المشهور حتى صار كالمنصوص عليه فلا يمنع ذلك كون الحرمة موقتة وكون الزوج الثاني مع الإصابة غاية, فكأنه قيل هذه الحرمة مغياة إلى التزوج والإصابة فيصح التمسك به, "فمن جعله" الضمير البارز راجع إلى الزوج المفهوم من الكلام الأول والتقدير كلمة حتى وضعت لمعنى خاص, وهو الغاية والنهاية فيكون الزوج الثاني غاية فمن جعل الزوج, ولكنها استدراك من حيث المعنى أيضا كما ذكرنا, والهاء راجعة إلى كلمة حتى والمراد الزوج أو نكاحه بطريق التوسع; لأن حتى لا يكون غاية بل الغاية ما دخل عليه حتى, والتقدير فمن جعله محدثا حلا جديدا لا يكون عملا بل يكون إبطالا فلا يكون الزوج محدثا حلا جديدا لكنه يكون غاية ونهاية. والنهاية تأكيد للغاية ووقع في محله; لأنه في بيان الخلاف كما مر مثله.
قوله: "والجواب إلى آخره" اتفق العلماء سوى سعيد بن المسيب على اشتراط الوطء للتحليل لكنهم اختلفوا في أنه ثابت بالكتاب أو بالسنة المشهورة فذهب الجمهور منهم إلى أنه ثابت بالسنة وذهب طائفة منهم إلى أنه ثابت بالكتاب متمسكين بأن النكاح حقيقة في الوطء فيحمل على حقيقته إلا أنه أسند إلى المرأة ههنا باعتبار التمكين كما أسند الزنا الذي هو الوطء الحرام إليها بهذا الاعتبار فيكون الإسناد مجازا(1/133)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة رفاعة وقد طلقها ثلاثا ثم نكحت عبد الرحمن بن الزبير ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تتهمه بالعنة وقالت ما وجدته إلا كهدبة ثوبي هذا فقال صلى الله عليه وسلم: "أتريدين أن تعودي إلى رفاعة" فقالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك" 1.
ـــــــ
كما يقال نهارك صائم وليلك قائم, ولا يصح أن يحمل على النكاح; لأن قوله زوجا يأبى ذلك; لأن المرأة لا تزوج نفسها زوجها فصار معناه على هذا التقدير حتى تمكن من وطئها زوجا فكان ذكر الزوج اشتراطا للعقد وذكر النكاح اشتراطا للوطء, قالوا: وفيه تقليل المجاز الذي هو خلاف الأصل; لأنه لم يبق إلا في الإسناد فيجب اعتباره, وتمسك الجمهور بأن النكاح; وإن كان حقيقة في الوطء إلا أنه أريد به العقد ههنا بدليل إضافته إلى المرأة والنكاح المضاف إلى المرأة ليس إلا العقد يقال نكحت أي تزوجت, وهي ناكح في بني فلان أي هي ذات زوج منهم كذا في الصحاح; وإنما يجوز إرادة الوطء منه إذا أضيف إلى الرجل; لأن الوطء يتصور منه فأما المرأة فلا يجوز إضافة الوطء إليها ألبتة; لأنه لم يسمع في كلامهم إضافة الوطء والنكاح الذي بمعناه إلى المرأة ولو جاز أن تسمى واطئة بالتمكين لجاز أن يسمى المركوب راكبا والمضروب ضاربا, وهي خلاف اللغة.
وأما إضافة الزنا إليها, فليس بطريق المجاز بل; لأنه اسم للتمكين الحرام من المرأة كما هو اسم للوطء الحرام من الرجل; ولهذا لا يصح نفي الزنا عنها إذا زنت كما لا يصح نفي التمكين عنها, ولئن سلمنا أن النكاح ههنا بمعنى التمكين فلا يحصل المقصود; لأن الحل متعلق بالوطء الذي هو فعل الزوج ولا يلزم الوطء من التمكين لا محالة فثبت أنه ثابت بالسنة, ثم في هذا الطريق إعمال السنة والكتاب جميعا فكان أولى مما قالوا; لأن فيه إعمال أحدهما وفيه عمل بالحقيقة من وجه; لأن الوطء إنما سمي بالنكاح لمعنى الضم وفي العقد ضم كلام إلى كلام شرعا.
واعلم أن الشيخ إنما اختار هذه الطريقة بعد كونها أولى بالاعتبار من الأولى; لأن كلام الفريق الأول لا يتضح إلا بأن يجعل الوطء مثبتا للحل ولو ثبت الوطء بالكتاب كما ذكروا لا يحصل المقصود إذ ليس فيه دليل على المطلوب ويتأكد كلام الخصوم حينئذ; وإنما
ـــــــ
1 أخرجه البخاري حديث رقم 1433, 2/1056 ومالك في الموطأ 2/531 وأبو داود في الطلاق حديث 2/303 رقم 2308 والترمذي في النكاح حديث رقم 1118 والنسائي في الطلاق 6/146 – 147 وابن ماجه في النكاح حديث رقم 1932 – 1933 والإمام أحمد في المسند 2/25, و62, و85.(1/134)
وفي ذكر العود دون الانتهاء إشارة إلى التحليل وفي حديث آخر: "لعن الله المحلل والمحلل له"
ـــــــ
ثبت الدخول بالسنة, وهي ما ذكره الشيخ في الكتاب, والمرأة هي تميمة بنت أبي عبيد القرظية, وقيل عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضيرية, ورفاعة هو ابن وهب بن عتيك ابن عمها. وقيل ابن سموأل, والزبير بفتح الزاي لا غير واتهامها له بالعنة قولها ما معه إلا مثل هدبة الثوب, وهو نظير ما حكت امرأة عن عنين فقالت حللت منه بواد غير ذي زرع, والعسيلتان كنايتان عن العضوين لكونهما مظنتي الالتذاذ. وصغرت بالهاء; لأن الغالب على العسل التأنيث; وإن كان يذكر أيضا, ويقال إنما أنث; لأنه أريد به العسلة, وهي القطعة منه كما يقال للقطعة من الذهب ذهبة, والتأكيد بالتعرض للجانبين إشارة إلى أنه هو المقصود في باب التحليل. وقوله تذوقي ويذوق إشارة إلى أن الشبع, وهو الإنزال ليس بشرط, وكذا التصغير إشارة إلى أن القدر القليل كاف وراوي الحديث عائشة رضي الله عنها, وكذا روى ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم من غير قصة رفاعة, وفي عامة الروايات أن ترجعي مقام أن تعودي وكلاهما واحد, وفي بعض الروايات أنها جاءت بعد ذلك وقالت كان غشيني فقال عليه السلام لها كذبت في قولك الأول فلن أصدقك في الآخر فلبثت حتى قبض النبي عليه السلام ثم أتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت: أرجع إلى زوجي الأول فإن زوجي الآخر قد مسني فقال أبو بكر: قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال فلا ترجعي إليه فلما قبض أبو بكر أتت عمر رضي الله عنهما فقال لها لئن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك فمنعها كذا في التيسير.
قوله: "وفي ذكر العود" إضافة المصدر إلى المفعول أي وفي ذكر رسول الله العود وتركه لفظ الانتهاء الذي هو مدلول الكتاب بأن لم يقل أتريدين أن تنتهي حرمتك إشارة إلى أن ذوق العسيلة تحليل وذلك أنه عني عدم العود إلى ذوق العسيلة, فإذا وجد الذوق يثبت العود لا محالة; لأن حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها, وهو أمر حادث; لأنه لم يكن قبل ولا بد له من سبب وقد ثبت بعد الدخول فيضاف إليه بخلاف أصل الحل; لأنه كان ثابتا قبل الحرمة الغليظة وسببه كونها من بنات آدم إلا أن حكمه تخلف باعتراض الحرمة, فإذا انتهت أمكن أن يقال ثبت الحل بالسبب السابق, فأما العود فلم يكن ثابتا قبل ذلك, وقد حدث بعد الإصابة فيكون حادثا به, وعبارة بعض الشروح أن العود هو الرد إلى الحالة الأولى وفي الحالة الأولى كان الحل ثابتا مطلقا, ولم يبق فيكون فعل الزوج الثاني مثبتا للحل الذي عدم; لأنه حدث بعده, وهو معنى ما قال شمس الأئمة رحمه الله ففي اشتراط الوطء للعود إشارة إلى السبب الموجب للحل.(1/135)
............................................................................................
قوله: "لعن الله المحلل والمحلل له" 1 سماه محللا والمحلل حقيقة من يثبت الحل كالمحرم من يثبت الحرمة والمبيض من يثبت البياض فيثبت له هذه الصفة بعبارة النص كذا قيل, والأوجه أنه إشارة أيضا; لأن الكلام لم يسق له بل لإثبات اللعن إلا أن هذه إشارة ظاهرة, والأولى غامضة, وإلحاق اللعن به لا يمنع الاستدلال; لأن ذلك ليس للتحليل بل لشرط فاسد ألحقه بالنكاح, وهو ذكر الشرط الفاسد إن تزوجها بشرط التحليل أو لقصده تغيير المشروع إن لم يشرط; لأنه مشروع للتناسل والبقاء, وهو إنما قصد غيره ويدل عليه قوله عليه السلام: "إن الله لا يحب كل ذواق مطلاق" . وأما إلحاق اللعن بالمحلل له فلأنه مسبب لمثل هذا النكاح والمسبب شريك المباشر في الإثم والثواب, والأشبه أن الغرض من اللعن إظهار خساسة المحلل بمباشرة مثل هذا النكاح والمحلل له بمباشرة ما ينفر عنه الطباع من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها واستمتاعه بها لا حقيقة اللعن إذ هو الأليق بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في حق أمته; لأنه عليه السلام ما بعث لعانا ويدل عليه قوله عليه السلام: "ألا أنبئكم بالتيس المستعار" 2 وعلى هذا قوله عليه السلام: "لعن الله السارق يسرق البيضة فيقطع يده" 3 ثم هذا الحديث; وإن كان من الآحاد لكنه لما لم يكن مخالفا للكتاب ولم يلزم منه نسخه يجب العمل به, وذلك; لأن الكتاب أثبت كون الزوج الثاني غاية ولم ينف كونه مثبتا للحل وليس ذلك من ضرورات كونه غاية أيضا إذ لا منافاة بين كونه غاية وبين كونه مثبتا للحل; لأن انتهاء الشيء كما يكون بنفسه يكون بثبوت ضده كما في قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43], فالاغتسال مثبت للطهارة ومنه للجنابة; لأنه لما ثبتت الطهارة لم تبق الجنابة وكما في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] أي تستأذنوا والاستئذان منه لحرمة الدخول بإثبات الحل ابتداء والحديث أثبت كونه مثبتا للحل فيجب العمل به ولما ثبت الحل لما ذكرنا لم يزل إلا بثلاث تطليقات كالحل الأول.
"فإن قيل" المثبت للحل رافع للحرمة ضرورة والرافع للشيء لا يكون غاية له كالطلاق للنكاح. "قلنا" ما يرفع الشيء قصدا فهو قاطع له ولا يطلق عليه اسم الغاية
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2076 والترمذي في النكاح 3/427 – 429 والنسائي في الطلاق 6/149.
2 أخرجه ابن ماجة في النكاح حديث رقم 1936.
3 أخرجه البخاري 8/200 – 201 ومسلم في الحدود حديث رقم 1687 والنسائي في السارق 8/65 وابن ماجه في الحدود حديث رقم 2583.(1/136)
فثبت الدخول زيادة بخبر مشهور يحتمل الزيادة بمثله وما ثبت الدخول بدليله إلا بصفة التحليل وثبت شرط الدخول به بالإجماع, ومن صفته التحليل وأنتم أبطلتم هذا الوصف عن دليله عملا بما هو ساكت, وهو نص الكتاب عن هذا
ـــــــ
كالطلاق, فأما ما يثبت حكما آخر من ضرورة ثبوته انتفاء الثابت لتضاد بينهما فهو غاية لما كان ثابتا لما ذكرنا أن الشيء ينتهي بضده كالليل بالنهار وعكسه ومسألتنا من هذا القبيل.
"فإن قيل" سلمنا أنه مثبت للحل ولكنه يقتضي عدم الحل; لأن إثبات الثابت محال ألا ترى أنه لو تزوج منكوحته لم ينعقد; لأن الحل ثابت فلا يملك إثباته ثانيا وههنا الحل ثابت بكماله غير منتقص; لأن زواله معلق بالثلاث فقبله لا يثبت شيء من الحكم; لأن أجزاء الحكم لا تتوزع على أجزاء الشرط والعلة, قلنا السبب إذا وجد وأمكن إظهار فائدته لا بد من اعتباره, وقد وجد السبب وفي اعتباره فائدة, وهي أن لا تحرم عليه إلا بثلاث تطليقات مستقبلات فيجب اعتباره كاليمين بعد اليمين والظهار بعد الظهار منعقد; وإن تم المنع عن الفعل باليمين الأولى والحرمة بالظهار الأول; لأن في الانعقاد فائدة وهي تكرر التكفير, وكذا إذا اشترى ماله من المضارب قبل ظهور الربح أو ضم ماله إلى مال الغير فاشتراهما يصح; لأنه يفيد ملك التصرف أو جواز العقد في مال الغير "فإن قيل" فعلى هذا وجب أن يملك أربعا أو خمسا من التطليقات ثلاثا بهذا الحادث وواحدة أو ثنتين بالأول "قلنا" إذا وجب إثبات الحل بهذا السبب الثاني لما فيه من الفائدة اقتضى انتفاء الأول إذ لم يبق فيه فائدة فينتفي به اقتضاء كما إذا عقدا البيع بألف ثم جدداه بأنقص أو أكثر يصح الثاني وينفسخ الأول اقتضاء. أو يقال لما عرفنا الثلاث محرما للمحل بالنص حكمنا بتأثيره في الحلين فيرفعهما جميعا الأول بالطلقة أو الطلقتين لتمام علة زوال الأول والثاني بالباقي كما قلنا في تداخل العدتين, وهو مشهور.
قوله: "فثبت الدخول زيادة" أي على النص; وإنما تركه لكونه مفهوما, بخبر مشهور, وهو حديث امرأة رفاعة, يحتمل, الضمير راجع إلى المفهوم من قوله "زيادة", وهو النص, وما ثبت أي لم يثبت الدخول, بدليله, وهو الحديث إلا بصفة التحليل, وثبت شرط الدخول به أي بالحديث, بالإجماع, فإن المتقدمين اتفقوا على أنه ثابت بالحديث وإثباته بالكتاب تخريج بعض المتأخرين, ومن صفته أي صفة الدخول التحليل, ويجوز أن يكون الواو في قوله وثبت وقوله ومن صفته للحال أي والحال أن الدخول ثبت بالحديث موصوفا بصفة التحليل, وأنتم أبطلتم هذا الوصف, وهو التحليل,(1/137)
الحكم أعنى الدخول بأصله ووصفه جميعا, ومن ذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الآية فالله تعالى ذكر الطلاق مرة ومرتين وأعقبهما بإثبات الرجعة ثم أعقب ذلك بالخلع بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فإنما بدأ بفعل الزوج,
ـــــــ
عن دليله, وهو الحديث حيث قلتم باشتراط الدخول وأنكرتم صفة التحليل, عملا أي لأجل العمل بما هو ساكت, وهو نص الكتاب عن هذا الحكم فكان الطعن عائدا عليكم, قال القاضي الإمام أبو زيد: رحمه الله متى نظرت إلى السنة كان الأمر ما قاله أبو حنيفة رحمه الله ومتى نظرت إلى موجب نص الآية أشكل وأنه أولى الأمرين قولا بظاهر كلمة حتى ومسألة اختلف فيها كبار الصحابة رضي الله عنهم يصعب الخروج عنها وبالله التوفيق.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص الذي مر ذكره قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة, ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4], أي كرة بعد كرة, ونحوه قولهم لبيك وسعديك وحنانيك. وقوله جل ذكره: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229], تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم, وقيل معناه الطلاق الرجعي مرتان; لأنه لا رجعة بعد الثلاث فيكون المراد بالمرتين حقيقة التثنية, وإلى هذا الوجه مال المصنف, ويدل عليه قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229], أي رجعة برغبة لا على قصد إضرار أو تسريح بإحسان بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها, وقيل بأن تطلقها الثالثة في الطهر الثالث, وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} أي علمتم أو ظننتم, وهو خطاب للحكام: {أَلَّا يُقِيمَا} أي الزوجان: {حُدُودَ اللَّهِ} أي حقوق الزوجية بما يحدث من نشوزها أو نشوزهما: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي لا إثم على الرجل فيما أخذ, ولا على المرأة: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نفسها أي لا يكون دفعها إسرافا وأخذه ظلما. هذا تفسير الآية, ثم اعلم بأن الخلع طلاق عندنا, وهو مذهب عامة الصحابة وأكثر الفقهاء رضي الله عنهم وقال الشافعي رحمه الله في قوله القديم: هو فسخ, وهو قول ابن عمر وابن عباس وإحدى الروايتين عن عثمان رضي الله عنهم, وفائدة الخلاف تظهر في انتقاص عدد الثلاث به تمسك الشافعي بأنه عقد محتمل للفسخ فإنه يفسخ بخيار عدم الكفاءة وخيار العتق وخيار البلوغ عندكم فينفسخ بالتراضي, وذلك بالخلع قياسا على البيع(1/138)
وهو الطلاق ثم زاد فعل المرأة, وهو الافتداء وتحت الأفراد تخصيص المرأة به وتقرير فعل الزوج على ما سبق فإثبات فعل الفسخ من الزوج بطريق الخلع لا
ـــــــ
فالشيخ رحمه الله تمسك في إثبات كونه طلاقا بالنص على ما ذكره في الكتاب.
قوله: "ذكر الطلاق مرة" يعني بقوله عز اسمه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وذكره مرتين بهذه الآية, وأعقبهما الضمير البارز راجع إلى المرة والمرتين لا إلى المرتين فحسب أي أعقب المرة بإثبات الرجعة بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} [البقرة: 228] والمرتين بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] ليعلم أن الرجعة مشروعة بعد تطليقتين كما هي مشروعة بعد تطليقة كذا قيل, والأظهر أن مراده من الذكر مرة ومرتين الذكر في هذه الآية لا غير إذ السوق يدل عليه; لأنه في بيان قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229], ودلالته على أن الخلع طلاق لا في بيان قوله عز ذكره: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228], إذ لا حاجة له إلى التمسك به; وإنما يحسن ذلك التفسير لو قال من ذلك قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الله تعالى ذكر الطلاق مرة ومرتين ولم يقل كذلك, ويدل على ما ذكرنا بيان وجه التمسك أيضا, والغرض من ضم المرة إلى المرتين مع أن المقصود يتم بدونه الإشارة إلى أن التثنية; وإن كانت مقصودة كما ذكرنا فالتفريق فيها مقصود أيضا حتى لا يحل إرسال التطليقتين; لأنه تعالى قال مرتان وإرسالهما جمعا لا يسمى مرتين كمن أعطى فقيرا درهمين لا يقال أعطاه مرتين إلا أن يفرق فعلى ما ذكرنا يكون معنى قوله ومرتين أي مع الأولى لا بدونها كما يقال نصحتك مرة ومرتين فلم تسمع وأتيت بابك مرة ومرتين فما صادفتك ويراد مع الأولى لا أنه نصح ثلاث مرات وأتاه ثلاث مرات. ويجوز أن يكون الضمير في وأعقبهما راجعا إلى المرة والمرتين كما ذكرنا, وأن يكون راجعا إلى المرتين فحسب, وعلى التقديرين إثبات الرجعة بقوله, فإمساك بمعروف لا غير, فافهم.
قوله: "فإنما بدأ" بيان وجه التمسك أي بدأ الله تعالى في أول الآية بذكر فعل الزوج, وهو الطلاق ثم زاد فعل المرأة, وهو الافتداء, وبحث الإفراد أي إفراد المرأة بالذكر تخصيصها بالافتداء أي لا يكون الافتداء إلا من جانبها; لأنها هي المحتاجة إلى الخلاص ويصير تقدير الكلام فلا جناح عليهما فيما اختصت هي به, وهو الافتداء, وفيه أي في الإفراد تقرير فعل الزوج على الوصف الذي سبق, وهو الطلاق; لأنه تعالى لما جمعهما في قوله أن لا يقيما ثم خص جانبها مع أنها لا تتخلص بالافتداء إلا بفعل الزوج كان بيانا بطريق الضرورة أن فعله هو الذي سبق في أول الآية, وهو الطلاق ومثل هذا البيان في حكم المنطوق كما في قوله عز اسمه: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11], فصار كأنه صرح بأن فعله في الخلع طلاق, فمن جعل فعله في الخلع فسخا لا يكون ذلك عملا بهذا(1/139)
يكون عملا به بل يكون رفعا ومن ذلك قوله تعالى بعد هذا: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] والفاء حرف خاص لمعنى مخصوص, وهو الوصل والتعقيب; وإنما وصل الطلاق بالافتداء بالمال فأوجب صحته بعد الخلع فمن وصله بالرجعي وأبطل وقوعه بعد الخلع لم يكن عملا به ولا بيانا ومن
ـــــــ
الخاص المنطوق حكما, وهو الطلاق بل يكون رفعا. "فإن قيل" ذكر في أول الآية الطلاق لا فعل الزوج صريحا فيثبت بالبيان السكوتي هذا القدر ويصير في التقدير كأنه قيل; فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ولا يطلقها مجانا فلا جناح عليهما فيما افتدت به لتحصيل الطلاق فيكون الآية بيان الطلاق على مال لا بيان الخلع وكلامنا في الخلع.
"قلنا" بل هي بيان الخلع بدليل سبب النزول, فإنها نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس, وكان يحبها فتخاصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت التفريق فقال ثابت قد أعطيتها حديقة فلترد علي فقال عليه السلام أتردين عليه حديقته وتملكين فقالت: نعم وأزيده فقال عليه السلام لا بل حديقته فقط1 ثم قال يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان أول خلع في الإسلام.
"فإن قيل" لو كان الخلع طلاقا صارت التطليقات أربعا في سياق الآية "قلنا" المراد بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] بيان الشرعية لا بيان الوقوع بدليل أنه تعالى ذكر الطلاق في مواضع ولا يقتضي ذلك أن يكون الطلاق متعددا بتعدد الذكر, فكذلك ههنا كذا ذكر في بعض الشروح. وأما قول الشافعي إنه يحتمل الفسخ فغير مسلم, فإن النكاح بعد تمامه لا يقبل الفسخ ألا يرى أنه لا ينفسخ بالهلاك قبل التسليم, وأن الملك الثابت به ضروري لا يظهر إلا في حق الاستيفاء أما الفسخ بعدم الكفاءة ففسخ قبل التمام, فكان في معنى الامتناع من الإتمام, وكذلك في خيار العتق والبلوغ. فأما الخلع فإنما يقع بعد تمام العقد والنكاح فلا يمكن أن يجعل فسخا فيجعل قطعا للنكاح في الحال فيكون طلاقا قوله: "ومن ذلك قوله تعالى": {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الآية الصريح يلحق البائن عندنا, وعند الشافعي لا يلحقه; وإنما يتحقق الخلاف في المختلعة والمطلقة على مال إذ لا بينونة فيما سواهما عنده هكذا سمعت من الثقات, وإليه يشير لفظ التهذيب فقد ذكر فيه إذا طلق امرأته طلاقا رجعيا ثم طلقها في العدة يقع; لأن أحكام النكاح باقية; وإن حرم الوطء أما المختلعة إذا طلقها زوجها في العدة فلا يلحقها; لأنها صارت أجنبية
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الطلاق 7/60 والنسائي في الطلاق 6/169 وابن ماجه في الطلاق حديث رقم 2056.(1/140)
ذلك قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] فإنما أحل الابتغاء بالمال, والابتغاء لفظ خاص وضع لمعنى مخصوص, وهو الطلب.
ـــــــ
منه بالخلع, ورأيت في بعض الشروح أن عند الشافعي يقع الطلاق بعد الطلاق على مال فلو صح هذا لم يبق الخلاف إلا في المختلعة وما ذكرته أولا أصح, قال; لأن الطلاق مشروع لإزالة ملك النكاح, وقد زال بالخلع, فلا يقع الطلاق بعده كما بعد انقضاء العدة, واستدل الشيخ بالآية فقال: وصل الطلاق بالافتداء بالمال, وهو الخلع بحرف الفاء, وهو للوصل والتعقيب فيكون هذا تنصيصا على صحة إيقاع الطلقة الثالثة بعد الخلع متصلا به, وصار معنى الآية; فإن طلقها بعد الخلع, فمن وصله أي الطلاق أو قوله; فإن طلقها بالرجعي يعني بأول الآية لا يكون وصله عملا بالفاء ولا بيانا.
واعلم أن ما ذكره الشيخ مشكل, فإنه ذكر في شرح التأويلات: هذه الآية رجعت إلى الآية الأولى, وهي قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي; فإن طلقها بعد التطليقتين تطليقة أخرى, وذكر في الكشاف; فإن طلقها الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} واستوفى نصا به أو; فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فوصلاه بالآية الأولى. وكذا في عامة التفاسير, ثم المراد من قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] إما بيان مباشرة الطلقة الثالثة إن كانت شرعيتها ثابتة بقوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] على ما روى أبو رزين العقيلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الطلقة الثالثة فقال: "أو تسريح بإحسان أو بيان الشرعية" كما ذهب إليه أكثر أهل التأويل وعلى الوجهين يجب وصله بأول الآية لا بالخلع, فلا يبقى التمسك به في المسألة كيف والترتيب في الذكر لا يوجب الترتيب في الحكم والمشروعية; لأنه لو وجب ذلك لما تصور شرعية الطلقة الثالثة قبل الخلع عملا بالفاء وأنها ثابتة بالإجماع, وكذا الخلع متصور ومشروع قبل الطلقتين فعرفنا أن موجب حرف الفاء ساقط, وأنها لمطلق العطف; ولأنه لو اعتبر الترتيب والوصل كما هو موجب حرف الفاء لصار عدد الطلاق أربعا; لأنه يصير الطلقة الثالثة مرتبة على الخلع والخلع مرتبا على الطلقتين وذلك خلاف النص والإجماع.
وأجاب الإمام البرغري في طريقته عن هذا بأن بيان الطلقة الثالثة في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فلا تحل لا في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وأن قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ينصرف إلى الطلقتين المذكورتين في أول الآية لا أنه بيان طلقة أخرى; لأنه لم يذكر تطليق آخر من جهة الزوج, فكأنه قيل فلا جناح عليهما فيما افتدت في الطلاقين المذكورين ثم رتب على الافتداء الثالثة فلا يلزم منه أن(1/141)
والطلب بالعقد يقع فمن جوز تراخي البدل عن الطلب الصحيح إلى المطلوب, وهو فعل الوطء كان ذلك منه إبطالا فبطل به مذهب الخصم في مسألة
ـــــــ
يكون الطلاق أكثر من الثلاث ويبقى النص حجة من الوجه الذي ذكرنا وإلى هذا أشار القاضي الإمام في الأسرار أيضا إلا أنه مع بعده عن سياق النظم ومخالفته لأقوال المفسرين لا يستقيم ههنا; لأنا لو حملناه على هذا الوجه لم يبق حجة في المسألة الأولى, وقد بينا في تلك المسألة أن المراد منه الخلع لا الطلاق على مال بدليل سبب النزول, فإذا كان الأولى أن يتمسك في المسألة بما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة" وبالمعاني الفقهية المذكورة في المبسوط وغيره.
قوله قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أي سوى هؤلاء المحرمات أن تبتغوا مفعول له بمعنى بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم, ويجوز أن يكون أن تبتغوا بدلا مما وراء ذلكم, والأموال المهور, محصنين في حال كونكم ناكحين غير زانين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم, ومفعول أن تبتغوا مقدر, وهو النساء, فالله تعالى أحل الابتغاء أي الطلب بالمال والباء للإلصاق فيقتضي أن يكون الطلب ملصقا بالمال والطلب بالعقد يقع لا بالإجارة والمتعة وغيرهما لقوله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24], فيجب المال عند العقد إما تسمية وإما وجوبا بإيجاب الشرع. وقوله عن الطلب الصحيح احتراز عن النكاح الفاسد; لأنه لا يجب فيه المهر بنفس العقد بالإجماع بل يتراخى إلى الوطء.
قوله: "في المفوضة" بكسر الواو وبفتحها, واعلم أن التفويض هو التزويج بلا مهر, وهو عنده صحيح وفاسد فالصحيح هو أن تأذن المرأة المالكة لأمرها ثيبا كانت أو بكرا لوليها أن يزوجها بلا مهر أو تقول زوجني ولا تذكر المهر فيزوجها وليها ويقول زوجتكها بلا مهر أو يسكت عن ذكر المهر أو السيد يزوج أمته بلا مهر أو يسكت عن ذكره فيصح النكاح ولا يجب المهر بالعقد على الصحيح من المذهب, ولو دخل بها وجب لها مهر المثل ولها مطالبته بالفرض ولو طلقها قبل المسيس والفرض لا مهر لها, والفاسد هو أن يزوج الأب الصغيرة أو المجنونة مفوضة أو الأب زوج البكر البالغة دون رضاها مفوضة.
ففي انعقاد النكاح قولان أصحهما يصح ويجب مهر المثل بالعقد كذا في التهذيب للإمام محيي السنة رحمه الله1, ثم في التفويض الصحيح يجوز أن تسمى
ـــــــ
1 هو الإمام الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالبغوي توفي سنة 516 هـ.(1/142)
المفوضة ومثله قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] والفرض لفظ خاص وضع لمعنى مخصوص, وهو التقدير فمن
ـــــــ
المرأة المالكة لأمرها مفوضة بكسر الواو; لأنها فوضت أي أذنت في التزويج بلا مهر ومفوضة بفتحها; لأن وليها فوضها أي زوجها بلا مهر والأمة المزوجة بلا مهر لا تسمى إلا مفوضة بالفتح فهذا معنى فتح الواو وكسرها. فأما ما ذكر في بعض الشروح أن المفوضة بالكسر هي التي زوجت نفسها بغير مهر وبالفتح هي الصغيرة التي زوجها وليها بلا مهر فغير صحيح; لأن نكاح الأولى فاسد عنده لعدم الولي فلا يكون من باب التفويض وفي نكاح الثانية يجب المهر بالعقد كما ذكرنا فلا يتأتى الخلاف.
وذكر في الطريقة المنسوبة إلى الصدر الحجاج قطب الدين رحمه الله أن التمسك بهذه الآية من أصحابنا لا يستقيم في المفوضة; لأن فيه دليلا على كونه مشروعا بمال وليس فيه نفي كونه مشروعا بلا مال بل هو مسكوت عنه موقوف إلى قيام الدليل وقد قام الدليل على كونه مشروعا بلا عوض, وهو قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32], فإنه بإطلاقه يدل على ما ذكرنا والمطلق يجري على إطلاقه والمقيد على تقييده. قلت المطلق يحمل على المقيد في الحكم الواحد في الحادثة الواحدة بالاتفاق كما في كفارة اليمين وههنا كذلك فيجب حمل المطلق على المقيد بالمال ألا يرى أنه شرط فيه الإشهاد مع أن إطلاقه لا يدل عليه, فكذا يشترط المال.
"قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] أي قد علم الله ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء كذا في الكشاف وقيل النفقة والكسوة والمهر, وفي التيسير أي ما أوجبنا من المهور في أمتك في أزواجهم ومن العوض في إمائهم وأحللنا لك الواهبة نفسها من غير مهر وأطلقنا لك الاصطفاء من الغنيمة ما شئت, فعلى هذا القول استدل الشيخ في تقدير المهر فقال الفرض لفظ خاص لمعنى مخصوص, وهو التقدير فيقتضي أن يكون المهر مقدرا بحيث لا يجوز النقصان عنه إلا أنه في تعيين المقدار مجمل فالتحق السنة بيانا به, وهي ما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الأكفاء ولا مهر أقل من عشرة" 1 فصارت العشرة تقديرا لازما فمن لم يجعله مقدرا كان مبطلا له لا عاملا به,
ـــــــ
1 أخرجه الدارقطني من حديث جابر 3/245.(1/143)
لم يجعل المهر مقدرا شرعا كان مبطلا, وكذلك الكناية في قوله تعالى: {مَا فَرَضْنَا} [الأحزاب: 50] لفظ خاص يراد به نفس المتكلم فدل ذلك على أن صاحب الشرع هو المتولي للإيجاب والتقدير; وإن تقدير العبد امتثال به فمن جعل إلى
ـــــــ
ولكن للخصم أن يقول لا أسلم أن الفرض خاص في المعنى الذي ذكرت بل الفرض الجز في الشيء ومنه قيل فرض القوس للجز الذي يقع فيه الوتر, والمفرض للحديدة التي يجز بها, والفريض للسهم المفروض الذي فرض فوقه وفرضة النهر لثلمته التي منها يستقى, والفرض الإيجاب أيضا, وهو مشهور, والفرض البيان أيضا قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] أي بيناها في قول غير واحد من المفسرين, وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} [التحريم: 2] فيما فرض الله له, أي بين في قول جماعة. والفرض التقدير كما ذكرت فيكون مشتركا لا خاصا, أو هو خاص في القطع حقيقة فيه على ما قال صاحب الكشاف في أول سورة النور أصل الفرض القطع, وكذا قال غيره من أئمة اللغة ثم نقل إلى الإيجاب والتقدير; لأن الواجب مقطوع به, وكذا المقدر مقطوع عن الغير فكان مجازا فيهما ثم على التقديرين حمله على معنى الإيجاب ههنا بقرينة: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50] أولى من حمله على التقدير; لأن معنى الإيجاب يستقيم في حق الإماء كما يستقيم في الأزواج; لأن ما به قوامهن من النفقة والكسوة واجب لهن عليهم كوجوبه ووجوب المهر للأزواج عليهم ولهذا فسره عامة أهل التأويل بالإيجاب ههنا فأما معنى التقدير فلا يستقيم في حق الإماء; لأنه لم يقدر على الموالي للإماء شيء ويدل أيضا على أن الإيجاب هو المراد ههنا كلمة على, فإنها صلة الإيجاب لا صلة التقدير يقال فرض عليه أي أوجب ولا يقال فرض عليه بمعنى قدر, فإذا ثبت أن حمله على الإيجاب أولى لا يكون ترك القول بالتقدير في المهر إبطالا.
قوله: "قبل ذلك" أي مجموع قوله فرضنا على أن صاحب الشرع هو المتولي للإيجاب بالإضافة إلى ذاته, والتقدير بلفظ الفرض وأن تقدير العبد امتثال به قيل معناه أن مهور النساء مقدرة معلومة عند الله تعالى, ولكنها غيب عنا فباصطلاح الزوجين على مقدر يظهر ذلك المقدر المعلوم لا أنهم يقدرون ما ليس بمقدور اعتبر هذا بقيم الأشياء فإنها مقدرة معلومة عند الله تعالى ثم تظهر بتقويم المقومين ونظيره كفارة اليمين, فإن الواجب في حق كل أحد معلوم عند الله تعالى مستور عنا ويظهر في ضمن الفعل ولكن فيه بعد; لأن الغرض إثبات تقدير المهر, وأنه معلوم قبل الفعل ليتحقق الامتثال كتقدير نصاب السرقة وما ذكروه لا يفيد هذا الغرض ويلزم منه أنهما لو اصطلحا على الخمسة يكون ذلك إظهارا للمقدر أيضا كما لو اصطلحا على العشرين(1/144)
العبد اختيار الإيجاب والترك في المهر والتقدير فيه كان إبطالا لموجب هذا اللفظ الخاص لا عملا به ولا بيانا له لأنه بين ومن ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وقال الشافعي
ـــــــ
والذي يخطر ببالي أن هذا جواب سؤال مقدر, وهو أن يقال لو كان المهر مقدرا بما ذكرتم ينبغي أن لا يجوز الزيادة عليه كما لا يجوز النقصان عنه اعتبارا بأعداد الركعات ولما جازت الزيادة جاز النقصان أيضا فلا يكون المهر مقدرا؟, فأجاب بأنه من المقادير التي تمنع النقصان دون الزيادة كمقادير الزكوات ألا يرى أنه تعرض لجانب القلة بالنفي فقال لا مهر أقل من عشرة دون الكثرة إذ لم يقل ولا أكثر منها فيكون التزام الأكثر امتثالا بهذا التقدير لا محالة كالتزام الزيادة في الزكاة بخلاف جانب النقصان; لأنه ترك للامتثال به, فلا يجوز فهذا معنى قوله, وأن تقدير العبد امتثال به أي بتقدير الشرع, فمن جعل إلى العبد اختيار الإيجاب والترك في المهر أي إثبات المهر وتركه كما جعله مالك وعلي بن أبي هريرة1 من أصحاب الشافعي حيث قالا إن شاء أوجب المهر في العقد أو سكت فيجب المهر, ويصح العقد; وإن شاء نفاه فيصح نفيه أيضا ويؤثر في فساد العقد كنفي الثمن عن البيع يصح ويفسد البيع, والتقدير فيه أي في المهر كما جعله الشافعي حيث قال: إيجاب أصله بالعقد وبيان مقداره مفوض إلى رأي الزوجين كان إبطالا, ويجوز أن يكون التقدير منصوبا عطفا على الاختيار وأن يكون مجرورا عطفا على الإيجاب أي من جعل إلى العبد اختيار الإيجاب واختيار التقدير.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص المذكور قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية, رفعهما على الابتداء والخبر محذوف كأنه قيل وفيما فرض عليكم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} أي حكمهما أو الخبر {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط, أيديهما, ونحوه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف, وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم جزاء ونكالا2 مفعول لهما كذا في الكشاف, وذكر في التيسير إنما جمع الأيدي; لأن السارق اسم جنس, وكذا السارقة أريد بهما الجمع; فلذلك قال الأيدي; لأنها أفراد مضافة إلى الجمع وقال أيديهما على التثنية ولم يقل
ـــــــ
1 هو أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة البغدادي الفقيه الشافعي المتوفي سنة 345.
2 أخرجه الطبري في تفسيره 6/148.(1/145)
رحمه الله: القطع لفظ خاص لمعنى مخصوص, فأنى يكون إبطال عصمة المال عملا به فقد وقعتم في الذي أبيتم.
ـــــــ
أيديهم لظاهر اللفظ وهذا جمع بين اعتبار اللفظ واعتبار المعنى في كلام واحد, وهو شائع لغة كالجمع بين تذكير المعنى وتأنيث اللفظ, وفي عين المعاني وقرأ ابن عباس والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما والصواب أيمانهم إلا أنه أراد أيمان اثنين منهم والعضو أن يجمع من اثنين; لأنهما اثنان من اثنين, واعلم بأن عندنا حكم السرقة قطع ينفي الضمان عن السارق حتى لو هلك المسروق عنده قبل القطع أو بعده أو استهلكه لا يضمن كما لو أتلف خمرا, وهو ظاهر المذهب. وروى الحسن1 عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يضمن إذا استهلكه وقال الشافعي: رحمه الله عليه القطع لا ينفي ضمان العين عنه بل العين في حق الضمان كما لو لم يكن قطع, وكذا الحكم في السرقة الكبرى وحد الزنا قال; لأن الله تعالى أمر بالقطع بقوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولم ينف الضمان صريحا ولا دلالة; لأن القطع اسم لفعل معلوم, وهو الإبانة ولا دلالة له على انتفاء الضمان وانقطاع العصمة أصلا, ولا هو من ضروراته أيضا; لأنهما مختلفان, اسما, وهو ظاهر, ومقصودا; لأن أحدهما شرع جبرا للمحل والآخر شرع زاجرا بطريق العقوبة ومحلا; لأن محل أحدهما اليد ومحل الآخر الذمة, وسببا; لأن سبب أحدهما الجناية على حق الله تعالى وسبب الآخر الجناية على حق العبد واستحقاقا, فإن مستحق القطع هو الله تعالى ومستحق الآخر العبد وإذا اختلفا من كل وجه لا يقتضي ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ولا انتفاءه وقد دل الدليل على ثبوته, وهو العمومات الموجبة للضمان كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40], وكقوله عز اسمه: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وكقوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد" 2, فيجب القول به فمن قال بأن القطع يوجب انتفاء الضمان وإبطال العصمة لا يكون هذا عملا بهذا اللفظ الخاص بل يكون زيادة عليه بالرأي أو بخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام: "لا غرم على سارق بعدما قطعت يمينه" , وقد أبيتم ذلك, وفيه ترك العمل بالعمومات الموجبة للضمان أيضا. وقوله: أنى بمعنى كيف, وهو استفهام بمعنى النفي أي لا يكون إبطال عصمة المال عملا به.
ـــــــ
1 هو الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي توفي سنة 204 هـ.
2 أخرجه الترمذي في البيوع حديث رقم 1266 وأبو داود في البيوع حديث رقم 3561 والإمام أحمد في المسند 5/8/12/13 والحاكم 2/47.(1/146)
والجواب أن ذلك ثبت بنص مقرون به عندنا, وهو قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38]; لأن الجزاء المطلق اسم لما يجب لله تعالى على مقابلة
ـــــــ
والجواب أن ذلك أي إبطال العصمة ثبت بنص يشير إلى إبطالها, "مقرون" بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وقد يجوز أن يتغير النص بدليل يقترن به كقولك أنت حر نص في إثبات الحرية, فإذا اتصل به الاستثناء أو الشرط تغير موجبه, فكذلك ههنا غيرنا هذا النص الذي لم يوجب سقوط عصمة المحل, وهو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38], بدليل زائد اقترن به, وهو قوله: {جَزَاءُ} , وفي قوله مقرون به إشارة إلى نوع من التشنيع على الخصم, وهو أنه غفل عن الدليل القطعي المتصل بهذا الكلام من غير فصل ولم يطلع على إشارته ثم طعن من غير روية فيكون الطعن عائدا عليه, ثم بيان إشارته إلى ما ذكرنا أن الجزاء قد أطلق ههنا والجزاء إذا أطلق في معرض العقوبات يراد به ما يجب حقا لله تعالى بمقابلة أفعال العباد فتبين به أن وجوب القطع حق الله تعالى على الخلوص; ولهذا لم يتقيد بالمثل وما يجب حقا للعبد يتقيد به مالا كان أو عقوبة كالغصب والقصاص; ولهذا لا يملك المسروق منه الخصومة بدعوى الحد وإثباته ولا يملك العفو بعد الوجوب ولا يورث عنه وما يجب لله تعالى على الخلوص إنما يجب بهتك حرمة هي لله تعالى على الخلوص; ليكون الجزاء وفاقا وذلك بأن يثبت الحرمة لمعنى في ذاته كحرمة شرب الخمر والزنا لا لحق العبد; لأنه يصير حراما لغيره مباحا في ذاته بالإباحة الأصلية ومثل هذه الحرمة لا يوجب الجزاء لله تعالى كشرب عصير الغير والوطء في حالة الحيض. ثم إن الله تعالى جعل هذا المال قبل السرقة محترما لحق العبد على الخلوص ولم يستبق لذاته حقا حتى صح بذل العبد وإباحته ويجب الضمان له بإتلاف ولا يجب لله تعالى ضمان ثم أوجب الجزاء, وهو القطع بسرقته حقا لنفسه خالصا فعرفنا ضرورة أنه استخلص الحرمة لنفسه وإذا استخلصها لذاته وهي حرمة واحدة لا تبقى للعبد ضرورة كالعصير إذا تخمر وصار محترما حقا لله تعالى ولا يبقى حقا للعبد وكالأرض تتخذ مسجدا وصارت لله تعالى لا يبقى للعبد وكما لا يبقى للبائع إذا ثبت للمشتري بالبيع فهذا معنى قول الشيخ ومن ضرورته تحويل العصمة إليه, وظهر من هذا أن معنى قوله إبطال العصمة إبطالها على العبد بنقلها إلى الله تعالى لا إبطالها مطلقا.
"فإن قيل" لا نسلم أن الحرمة واحدة بل المال محترم لحق الله تعالى لوجود النهي فيجب القطع ومحترم أيضا لحق العبد كما كان لبقاء حاجته إليه فيجب الضمان كما في قتل الصيد المملوك في الحرم أو الإحرام وشرب خمر الذمي عندكم وكوجوب الدية مع الكفارة.(1/147)
فعل العبد; وإن يجب حقا لله تعالى يدل على خلوص الجناية الداعية إلى الجزاء واقعة على حقه ومن ضرورته تحول العصمة إليه; ولأن الجزاء يدل على كمال المشروع لما شرع له مأخوذ من جزى أي قضى وجزاء بالهمزة أي كفى
ـــــــ
"قلنا" بل الحرمة واحدة; لأنا لا نجد القطع يجب إلا بمال محترم حقا للعبد; وقد أوجب الله تعالى القطع به لنفسه تحقيقا لصيانته على العبد وانتقلت تلك الحرمة إليه كما ذكرنا فلم يبق معنى للعبد يضاف وجوب الضمان إليه بخلاف جزاء الصيد; لأنه لم يجب بالجناية على حق العبد في الصيد بل بالجناية على الإحرام أو الحرم بدليل أنه يجب في الصيد الذي ليس بمملوك. وإذا لم يصر حقه مقضيا به وجب الضمان.
وكذلك وجوب الكفارة بالجناية على حق الله تعالى لا لحق العبد, فإنها تجب في قتل المسلم الذي لم يهاجر إلينا; وإن لم يكن حقه مضمونا بالدية, وكذلك شرب خمر الذمي; لأن الحد بشربها لم يجب لحق العبد, فإنه لو شرب خمر نفسه يجب الحد أيضا وإذا لم يجب لحقه وجب جبر حقه بالضمان.
ثم استدل الشيخ رحمه الله بوجه آخر فقال; ولأن الجزاء يدل يعني لغة, على كمال المشروع, وهو القطع في مسألتنا مثلا, لما شرع له, وهو السرقة أو الزجر, والضمير المستكن راجع إلى المشروع والبارز إلى ما, يعني تسمية الشيء جزاء يدل على أنه كامل وتام في المقصود الذي شرع له; لأنه مأخوذ من جزي بالياء أي قضي والقضاء الإحكام والإتمام قال1:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
أي أحكمهما وأتمهما كذا قيل, فعلى هذا أصله جزاي بالياء إلا أنها قلبت همزة لوقوعها بعد الألف كالقضاء أصله قضاي, وأجزأ بالهمز أي كفى والشيء إنما يكون كافيا إذا كان تاما وكاملا فعلى هذا يكون الهمزة أصلية والأول أظهر; لأنه مصدر جزى يجزي يقال جزيته بما صنع جزاء فأما كونه مهموزا فما وجدته في كتب اللغة التي عندي ولعل الشيخ وقف عليه, وإذا دل لفظ الجزاء على الكمال لغة استدعى كمال الجناية; لأن كمال الشيء باعتبار كمال سببه وذلك بأن يكون الفعل حراما لعينه ومع بقاء العصمة حقا للعبد لا يكون الفعل حراما لعينه بل لغيره. وهو حق المالك فيبقى مباحا بالنظر إلى ذاته وذلك أعظم شبهة في سقوط الحد فلا يجب معها الحد كما لا يجب بالغصب,
ـــــــ
1 البيت لأبي ذؤيب الهذلي لسان العرب 5/3665.(1/148)
وكماله يستدعي كمال الجناية ولا كمال مع قيام حق العبد في العصمة; لأنه يكون حراما لمعنى يكون في غيره ولا يلزم أن الملك لا يبطل; لأن محل الجناية العصمة, وهي الحفظ ولا عصمة إلا بكونه مملوكا.
فأما تعين المالك فشرط ليصير خصمه متعينا لا لعينه حتى إذا وجد
ـــــــ
والفرق بين النكتتين أن الأولى استدلال بإطلاق لفظ الجزاء والثانية استدلال بمعناه اللغوي, وحاصلهما يرجع إلى معنى واحد, وهو الاستدلال بكمال الجزاء على كمال الجناية; لأن الإطلاق يدل على الكمال أيضا, واستدل شمس الأئمة رحمه الله في المبسوط بوجه آخر فقال في لفظ الجزاء إشارة إلى الكمال فلو أوجبنا الضمان معه لم يكن القطع جميع موجب الفعل فكان نسخا لما هو ثابت بالنص. قوله: "ولا يلزم أن الملك لا يبطل" جواب سؤال, وهو أن يقال: أتلك شرط لانعقاد السرقة موجبة للقطع كالعصمة; ولهذا لا يقطع النباش عندكم باعتبار شبهة في الملك ثم لم يقتض وجوب القطع نقل الملك إلى الله تعالى بل بقي للعبد كما كان حتى يثبت له ولاية الاسترداد إن كان قائما بعينه, فكذلك لا يقتضي نقل العصمة حتى يثبت له ولاية التضمين إن كان هالكا, فأجاب وقال: اشتراط الملك ليس بعينه; وإنما هو لتحقيق العصمة التي هي محل الجناية, وذلك; لأن القطع لم يجب جزاء على الجناية على المحل بوصف كونه مملوكا بل بكونه معصوما متقوما إلا أن العصمة لا يتحقق بدون الملك; لأن ما ليس بمملوك للعبد ليس بمعصوم فثبت أن اشتراطه لتحقيق العصمة لا لذاته, فلا يلزم من انتقال العصمة انتقاله; لأن الضرورة, وهي تحقق الجناية الكاملة قد اندفعت به. وذلك كالعصير إذا تخمر بقي الملك لصاحبها; وإن انتقلت عصمتها إلى الله تعالى وكالشاة إذا ماتت بقي ملك صاحبها في الجلد; وإن صارت محرمة العين حقا لله تعالى.
قوله: "قوله فأما تعين المالك فشرط" جواب سؤال آخر يرد على هذا الجواب, وهو أن يقال لما كان الملك شرطا لغيره, والأصل هو العصمة في تحقق الجناية, وقد انتقلت إلى الله تعالى حتى صار كالخمر على ما قلتم ينبغي أن لا يشترط فيه دعوى المالك ويثبت بالبينة من غير دعوى كالزنا وشرب الخمر وسائر محارم الله تعالى, فقال: تعين المالك ليس بشرط لعينه أيضا بل ليظهر السبب بخصومته عند الإمام فإن السرقة هي الجناية على(1/149)
الخصم بلا ملك كان كافيا كالمكاتب ومتولي الوقف ونحوهما; فلذلك تحولت العصمة دون الملك ألا ترى أن الجناية تقع على المال والعصمة صفة للمال
ـــــــ
مال الغير ولا يتصور الجناية موجبة للحد إلا بذلك المحل, وهو المال المتقوم المحرز, ومال الغير لا يثبت إلا بخصومة الغير وإثباته فكانت الدعوى شرطا لإثبات محل الجناية لا غير كذا في الأسرار ولهذا لو وجد الخصم بلا ملك كان كافيا عندنا كالمكاتب ومتولي الوقف والغاصب والمستعير والمستودع والعبد المستغرق بالدين والمضارب والمرتهن.
ووجه آخر لتقرير الجواب, وهو أن يقال إنما لا يبطل الملك; لأن محل الجناية العصمة ولا عصمة إلا بكون المسروق مملوكا للعبد; لأن ما هو ملك لله تعالى خالصا لا يوصف بالعصمة بل يوصف بالإباحة فلو قلنا بانتقال الملك إليه لبطلت العصمة أصلا وفي بطلانها بطلان الجناية والمقصود من النقل تحقيقها لا إبطالها فامتنع القول بانتقال الملك بخلاف العصمة.
وقوله; ولذلك تحولت العصمة دون الملك متصل بأول الكلام ومعناه على التقرير الأول; فلكون العصمة محل الجناية دون الملك انتقلت العصمة دون الملك وعلى التقرير الثاني فلعدم إمكان انتقال الملك تحولت العصمة دون الملك, والوجه الثاني أوفق لظاهر اللفظ.
"فإن قيل" قد ذكر الشيخ أنه لا عصمة إلا بكونه مملوكا وقد وجدت العصمة بدون الملك; فإنه إذا سرق مال الوقف من المتولي يجب القطع ولا ملك فيه لأحد; لأنه إذا تم الوقف خرج من ملك الواقف, ولم يدخل في ملك الموقوف عليه.
"قلنا" الفتوى على أن الملك باق على ملك الواقف حكما; ولهذا يرجع الثواب إليه والغلة مملوكة للموقوف عليه إن كان أهلا للملك; وإن لم يكن أهلا له كالمسجد والرباط يبقى على ملك الواقف أيضا تبعا لأصله كذا ذكر الإمام العلامة أستاذ الأئمة حميد الملة والدين رحمه الله في فوائده وقوله حجة; وإن كان مخالفا لظاهر الرواية, وذكر الإمام فخر الدين البرغري في طريقته في جواب سرقة مال الوقف وسرقة التركة المستغرقة بالدين فإنها توجب القطع ولا ملك فيها لغريم ولا وارث إن الملك ما شرط لعينه; وإنما شرط لمكان الخصومة فإنها شرط لظهور السرقة وفيما ذكرنا أن عدم الملك فاليد ثابتة, وهي كافية للخصومة, ثم استوضح الفرق بين العصمة والملك فقال ألا ترى إلى آخره أي النقل إنما يثبت ضرورة تكامل الجناية وأنها واقعة على المال فينتقل ما(1/150)
مثل كونه مملوكا فأما الملك الذي هو صفة للمالك كيف يكون محلا للجناية لينتقل وكيف ينتقل الملك, وهو غير مشروع فأما نقل العصمة فمشروع كما في الخمر والله أعلم.
ـــــــ
هو من أوصاف المال, وهو العصمة فأما الملك فصفة للمالك وذلك لا يتصور أن يكون محلا للجناية فكيف ينتقل أي لا ينتقل. وهكذا ذكر أبو اليسر فقال الجزاء: إنما يجب بالجناية على المال لا على المالك والملك صفة المالك; لأنه عبارة عن القدرة, وهو من أوصاف القادر لا من أوصاف المال فجاز أن لا يسقط الملك فأما العصمة, وهي الاحترام فوصف المحل وهذه جناية على المحل فجاز أن يسقط كما في الخمر.
"فإن قيل" العصمة صفة للعاصم لا للمال كالملك صفة للمالك ولهذا يقال مال معصوم ولا يقال مال عاصم كما يقال مال مملوك لا مالك, فأنى يستقيم هذا الفرق "قلنا" تقريره يحتاج إلى زيادة كشف, وهو أن الفعل المتعدي كالضرب مثلا له تعلق بالفاعل, وهو تعلق التأثير وتعلق بالمفعول, وهو تعلق التأثر; ولهذا يوصف كل واحد منهما بذلك الفعل فيقال زيد الضارب وعمرو المضروب, فإذا وصف به الفاعل فمعناه أن الفعل المؤثر قام به, وإذا وصف به المفعول فمعناه أن التأثر بذلك الفعل قام به والمصدر الذي دل عليه كل واحد منهما لغة مناسب له لا محالة فمصدر الضارب ضرب بمعنى التأثير, ومصدر المضروب ضرب بمعنى التأثر, ثم قد يكون المقصود تعلقه بالفاعل من غير نظر إلى جانب المفعول كما في قولك فلان يعطي ويمنع أي سجيته الإعطاء والمنع وقد يكون المقصود تعلقه بالمفعول دون الفاعل كما إذا بني الفعل للمفعول. ثم المقصود من شرع العصمة التعلق بالمفعول, وهو المال لا بالفاعل; لأن العصمة هي الحفظ والمقصود منه صيرورة المال محفوظا لا اتصاف الفاعل به; وإن كان ذلك من ضروراته والمقصود من الملك عكسه, وهو تعلقه بالفاعل واتصافه به من غير نظر إلى جانب المفعول; وإن كان ذلك من ضروراته أيضا; لأن الغرض اتصاف العبد بالمالكية لا اتصاف المال بالمملوكية; فلهذا جعل الشيخ العصمة صفة المال والملك صفة المالك.
قوله: "وكيف ينتقل, وهو غير مشروع" يعني لو كانت الجناية متصورة الوقوع على الملك لا يمكن القول بانتقاله فكيف إذا لم يتصور, وذلك; لأنا لم نعهد في الشرع انتقال ملك العبد إلى الله; لأنه لا سائبة في الإسلام كيف وأنه يستلزم إثبات الثابت إذ جميع الأشياء ملكه; ولهذا لا يجوز أن يقال هذا مملوك العبد لا مملوك الله تعالى إذ العبد وما في يده لمولاه, فأما العصمة التي تثبت للعبد فقد عهد في الشرع انتقالها إلى الله تعالى كالعصير إذا تخمر; ولهذا يجوز أن يقال هذا معصوم للعبد لا لله تعالى; فلهذا قلنا بانتقال(1/151)
ومن هذا الأصل
ـــــــ
العصمة دون الملك, واعلم بأن انتقال العصمة عندنا إنما يثبت حال انعقاد السرقة موجبة للقطع لمساس الحاجة إلى الحفظ في تلك الحالة وليصير الفعل فيها مضمونا بالعقوبة الزاجرة ولكن إنما يتقرر هذا بالاستيفاء; لأن ما يجب لله تعالى تمامه بالاستيفاء فكان حكم الأخذ مراعى إن استوفى القطع تبين أن حرمة المحل قد كانت لله تعالى فلا يجب الضمان للعبد; وإن تعذر الاستيفاء تبين أنها كانت للعبد فيجب الضمان له, وبهذا يندفع كثير من الأسئلة. ثم هذا الانتقال ضروري لما ذكرنا أنه لتحقق الجناية فلا يظهر في حق غيره حتى لو وهب المسروق منه العين المسروقة للسارق أو باعها منه أو من غيره صح ولو أتلفه غير السارق يضمن, وكذا لو أتلفه السارق بعد القطع في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله; لأن الاستهلاك فعل آخر غير السرقة فيظهر حكم التقوم في حق هذا الفعل, ولا يقال ينبغي أن لا يظهر الانتقال في الضمان أيضا; لأن الضرورة قد اندفعت بإثباته في حق وجوب القطع, لأنا نقول قد بينا أن العصمة شيء واحد وقد ظهر انتقالها وإبطالها في حق أحد الضمانين فلا يمكن اعتبارها في حق الضمان الآخر لئلا يؤدي إلى تكرار الضمان بإزاء شيء واحد بسبب واحد; ولهذا قلنا إذا استهلكه لا يضمن في ظاهر الرواية; لأن الاستهلاك إتمام للمقصود بالسرقة فيظهر سقوط حق العبد في حقه أيضا بخلاف البيع والهبة فإنه ليس بإتمام للمقصود بالسرقة بل هو تصرف آخر ابتداء كذا في المبسوط.
"فإن قيل" لو انتقلت العصمة إلى الله تعالى كما في الخمر يلزم أن لا يجب القطع كما في سرقة الخمر "قلنا" إنما لا يجب القطع في الخمر; لأن من شرطه أن يكون المسروق معصوما حقا للعبد قبل السرقة; ولهذا لا يجب في صيد الحرم وحشيشه والخمر ليست كذلك فعدم الحكم لعدم شرطه فأما المال المسروق فقد كان معصوما قبل السرقة حقا للعبد مفتقرا إلى الصيانة فوجب القطع لوجود شرطه.
"فإن قيل" القطع شرع لصيانة حق العبد وفي القول بسقوط العصمة وبطلان الضمان إبطال حقه فيمتنع القول به. "قلنا" إن كان فيه إبطال حقه صورة ففيه تكميل معنى الحفظ عليه; لأنه لما لم يمكن الجمع بينهما; لأن الحرمة واحدة كما ذكرنا كان القطع أنفع من الضمان; لأن فيه تحقيق الحفظ حالة السرقة بجعل المحل محرم التناول لحق الله تعالى فيصير تناوله مضمونا بالقطع فيتحقق معنى الحفظ, وهذا خير له من حفظ ماله
ـــــــ
1 هو هشام بن عبيد الله الرازي توفي سنة 201 هـ(1/152)
.......................................................................................
بإيجاب الضمان له كما أن إيجاب القصاص خير له من إيجاب الدية; لأن الزجر وصيانة النفس فيه أتم ولهذا سمي حياة, فكذلك هذا, واعلم أن ما ذكرنا من سقوط الضمان في الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فيفتي بالضمان فيما رواه هشام عن محمد رحمهما الله; لأن المسروق منه قد لحقه النقصان والخسران من جهته بسبب هو متعد فيه ولكن تعذر على القاضي القضاء بالضمان لما اعتبر المالية والتقوم في حق استيفاء القطع فلا يقضي بالضمان ولكن يفتي برفع النقصان والخسران الذي ألحق به فيما بينه وبين ربه كذا في المبسوط والله أعلم.
قوله: "ومن هذا الأصل" أي ومن القسم الذي نحن في بيانه وهو الخاص:(1/153)
"باب الأمر"
ذكر الشيخ رحمه الله في أول الباب لفظة ذلك, وهو للإشارة إلى البعيد ولما طال الكلام وبعد ذكر الأصل ذكر لفظ هذا, وهو للإشارة إلى القريب, وكذا ذكر قبيل باب النهي, وكان عكسه أولى إلا أنه ذكر في شرح التأويلات أن مما لا يحس بالبصر فالإشارة إليه بلفظ ذلك وهذا سواء; لأنه من حيث لا يحس بالبصر أشبه المحسوس الغائب ومن حيث هو مدرك بالعقل أو بالسمع أشبه المحسوس الحاضر فصح فيه استعمال اللفظين وذلك كما يقال دخل الأمير البلدة فيقول السامع سمعت هذا أو سمعت ذلك كان صحيحا; لأنه إشارة إلى الإخبار عن دخول الأمير, وهو ما لا يحس بالبصر, ولهذا قال مجاهد ومقاتل1 وابن جريج والكسائي2 والأخفش3 وأبو عبيدة4 أن معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1] هذا الكتاب واعلم أن عبارات القوم اختلفت في تعريف الأمر الذي بمعنى القول; ولهذا لم يذكر الشيخ تعريفه كما ذكر تعريف الأقسام المتقدمة, فقيل هو القول المقتضي طاعة المأمور بإتيان المأمور به, وفيه تعريف الأمر بالمأمور والمأمور به المتوقف معرفتهما على معرفة الأمر لاشتقاقهما منه, وبالطاعة المتوقفة معرفتها على معرفة الأمر أيضا; لأنها لا تعرف إلا بموافقة الأمر وعلى التقديرين يلزم الدور.
وقيل هو قول القائل لمن دونه افعل ونحوه, وهو غير مطرد لصدقه على التهديد والتعجيز والإهانة ونحوها.
وقيل هو اللفظ الداعي إلى تحصيل الفعل بطريق العلو ويلزم على اطراده واطراد
ـــــــ
1 هو مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي البلخي توفي سنة 150 هـ انظر وفيات الأعيان 2/147 – 149.
2 هو علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي الكوفي المقرئ المفسر والنحوي توفي سنة 180 هـ من تصانيفه المختصر انظر معجم الأدباء 13/167 – 203.
3 الأخفش لقب اشتهر به أحد عشر عالما من النحويين سماهم السيوطي في المزهر والمقصود هنا: الأخفش الأوسط وهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة البخي توفي سنة 215 هـ انظر وفيات الأعيان 1/261.
4 أبو عبيدة هو معمر بن المثنى التيمي ولاء البصري ولد سنة 110 هـ وتوفي سنة 209 هـ وقيل غير ذلك..أديب نحوي مفسر عالم بالأخبار والنسب.(1/154)
فإن المراد بالأمر يختص بصيغة لازمة عندنا ومن الناس من قال ليس
ـــــــ
الأول أيضا أن صيغة الأمر لو صدرت من الأعلى نحو الأدنى على سبيل التضرع والشفاعة لا تسمى أمرا, وعلى انعكاسهما أنها لو صدرت من الأدنى نحو الأعلى بطريق الاستعلاء تسمى أمرا; ولهذا ينسب قائلها إلى الحمق وسوء الأدب.
وقيل هو اللفظ الدال على طلب الفعل بطريق الاستعلاء واحترز بلفظ الاستعلاء عن الالتماس والدعاء. وهذا أقرب إلى الصواب واختار بعض المتأخرين أن الأمر اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء فأراد بالاقتضاء ما يقوم بالنفس من الطلب; لأن الأمر بالحقيقة هو ذلك الاقتضاء والصيغة سميت به مجازا, وبقوله: فعل غير كف احترز عن النهي, وبقوله على جهة الاستعلاء عن الالتماس والدعاء كما ذكرنا. وذكر في القواطع أن حقيقة الكلام معنى قائم في نفس المتكلم والأمر والنهي كلام فيكون قوله افعل ولا تفعل عبارة عن الأمر والنهي ولا يكون حقيقة الأمر والنهي ولكن لا يعرفه الفقهاء; وإنما يعرفون قوله افعل حقيقة في الأمر وقوله لا تفعل حقيقة في النهي.
قوله: "فإن المراد" الفاء في فإن إشارة إلى تعليل كون الأمر من هذا الأصل, وهو الخاص, المراد بالأمر أي الوجوب; لأن عندنا وعند هؤلاء المخالفين لا موجب له إلا الوجوب, يختص بصيغة لازمة أي لازمة مختصة بذلك المراد, فإن اللازم قد يكون خاصا, وقد يكون عاما, والمراد هو الخاص هنا لما سنشير إليه, ثم اللفظ قد يكون مختصا بالمعنى ولا يكون المعنى مختصا به كالألفاظ المترادفة وقد يكون على العكس كبعض الألفاظ المشتركة, وقد يكون الاختصاص من الجانبين كما في الألفاظ المتباينة فالشيخ بالتعرض للجانبين أشار إلى أنه من القسم الأخير, والغرض من تعرض جانب اللفظ وهو قوله بصيغة لازمة هو إثبات كونه من هذا الأصل; لأنه في بيان خصوص اللفظ ولا يلزم من خصوص المعنى خصوص اللفظ فلا بد من ذكره ليستقيم التعليل, ومن التعرض لجانب المعنى, وهو قوله المراد بالأمر يختص هو الإشارة إلى أن الخلاف الذي يذكر بعد في خصوص المعنى لا في خصوص اللفظ, فإنهم لم يخالفونا في أن صيغة افعل خاصة في الوجوب ولكنهم قالوا إنه يستفاد من غير الصيغة أيضا كما يستفاد منها, ولهذا قدم ذكره; لأنه هو المقصود الكلي من هذا الباب لا بيان كونه من الخاص, وهذا هو الغرض من العدول عن لفظة المخصوصة إلى لفظة اللازمة أيضا; لأن الصيغة لما كانت لازمة له لا يوجد بدونها فكانت هذه اللفظة أدل على المقصود ويحتمل أن الشيخ جعل الأمر من الخاص باعتبار اختصاص المعنى بالصيغة من غير نظر إلى جانب اختصاص اللفظ بالمعنى. وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ فعلى هذا كان ذكر اللازمة في قوله يختص(1/155)
المراد بالأمر صيغة لازمة وحاصل ذلك أن أفعال النبي عليه السلام عندهم موجبة كالأمر, وهو قول بعض أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله
ـــــــ
بصيغة لازمة تأكيدا إذ اللزوم يستفاد من الاختصاص بالصيغة أما ذكرها في قوله ليس للمراد بالأمر صيغة لازمة فلازم إذ لو لم يذكر اللازمة ههنا لم يفهم نفي اختصاص الوجوب بالصيغة من هذا الكلام, وهو المقصود منه فيختل الكلام, واعلم أن المخالفين وافقونا على أن الأمر اسم لما هو موجب وأن الإيجاب لا يستفاد إلا بالأمر فصارا متلازمين وأن الصيغة المخصوصة تسمى أمرا حقيقة فيحصل بها الإيجاب ولكن الاختلاف في أن الفعل هل يسمى أمرا حقيقة حتى يحصل به الإيجاب فعندنا لا يسمى أمرا على الحقيقة فلا يستفاد منه الإيجاب وعندهم يسمى أمرا بطريق الحقيقة فيفيد الإيجاب فهذا معنى قول الشيخ وحاصل ذلك أي حاصل هذا الاختلاف أن أفعال النبي عليه السلام عندهم أي عند ذلك البعض الذي دل عليه قوله من الناس موجبة كالأمر أي كالأمر المتفق عليه, وهو صيغة افعل.
وصورة المسألة أنه إذا نقل إلينا فعل من أفعاله عليه السلام التي ليست بسهو مثل الزلات ولا طبع مثل الأكل والشرب ولا هي من خصائصه مثل وجوب الضحى والسواك والتهجد والزيادة على الأربع ولا ببيان لمجمل مثل قطعه يد السارق من الكوع فإنه بيان لقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وتيممه إلى المرفقين فإنه بيان لقوله جل ذكره: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] هل يسعنا أن نقول فيه أمر النبي عليه السلام بكذا وهل يجب علينا اتباعه في ذلك أم لا فعند مالك في إحدى الروايتين عنه وأبي العباس بن شريح وأبي سعيد الإصطخري1 وأبي علي بن أبي هريرة وأبي علي بن خيران2 من أصحاب الشافعي يصح إطلاق الأمر عليه بطريق الحقيقة ويجب علينا الاتباع فيه وعند عامة العلماء لا يصح إطلاقه عليه بطريق الحقيقة ولا يجب الاتباع. وأما إذا كان بيانا لمجمل, فيجب الاتباع بالإجماع ولا يجب في الأقسام الأخر بالإجماع.
ثم اختلفوا فقال بعضهم: لفظ الأمر مشترك بين الصيغة المخصوصة والفعل
ـــــــ
1 هو أبو سعيد الحسن بن أحمد الأصطخي الفقيه الشافعي كان زاهدا في الدنيا ولد سنة 244 وتوفي سنة 328 هـ انظر وفيات الأعيان 1/161.
2 هو أبو علي الحسين بن صالح بن خيران البغدادي الفقيه الشافعي أحد أركان المذهب كان إماما زاهدا ورعا متقشفا توفي سنة 320 هـ انظر طبقات السبكي 2/213 – 214.(1/156)
واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي فعله ولو لم يكن الأمر مستفادا بالفعل لما سمي به وقال عليه السلام: "صلوا كما
ـــــــ
بالاشتراك اللفظي كاشتراك لفظ العين بين مسمياته, وقال بعضهم: هو مشترك بالاشتراك المعنوي كاشتراك الحيوان بين الإنسان والفرس, والحاصل أن الإيجاب مع حقيقة الأمر متلازمان يثبت كل واحد بثبوت الآخر وينتفي بانتفائه فيلزم من انحصار الإيجاب على الصيغة انتفاء الاشتراك في لفظ الأمر, ومن ثبوته بغير الصيغة ثبوت الاشتراك; فلهذا يتعرض في الدلائل تارة لنفي الاشتراك وإثباته وتارة لنفي الوجوب عن غير الصيغة وإثباته فافهم.
واحتج من قال بالاشتراك اللفظي بالكتاب, وهو قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي فعله وطريقته; لأنه وصفه بالرشد والفعل إنما يوصف به لا القول, وقوله عز ذكره: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] أي فعلهم, وقوله جل ثناؤه: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 152] أي فيما تقدمون عليه من الفعل. وقوله عز اسمه إخبارا: "أتعجبين من أمر الله" أي صنعه فأطلق لفظ الأمر في هذه الآيات على الفعل والأصل في الإطلاق الحقيقة فهذا هو المشهور من وجه التمسك في هذا المقام وما ذكر الشيخ راجع إليه أيضا وقوله ولو لم يكن الأمر أي معنى الأمر, وهو الطلب أو الإيجاب مستفادا بالفعل أي حاصلا به ومفهوما منه لما سمي الفعل بالأمر أي لما أطلق عليه لفظ الأمر; لأنه يصير إذ ذاك لغوا من الكلام. وإذا ثبت أن معنى الأمر مستفاد منه ولا يجوز أن يكون ذلك بطريق المجاز; لأنه لا اتصال بينهما صورة بلا شبهة ولا معنى; لأن معنى الأمر الطلب ومعنى الفعل تحقيق الشيء ولا اتصال بينهما بوجه ثبت أنه بطريق الحقيقة وإذا ثبت كونه حقيقة في الفعل ثبت كون الفعل موجبا; لأنه من لوازم حقيقة الأمر, ولئن سلمنا جواز الإطلاق بطريق المجاز فالحمل على الحقيقة أولى; لأنها هي الأصل, وبالسنة, وهي ما روي أنه عليه السلام شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاها مرتبة وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1 وما روي أنه عليه السلام قال في حجة الوداع: "خذوا عني مناسككم فإني امرؤ مقبوض" 2 فجعل المتابعة لازمة فثبت بالتنصيص أن فعله موجب وإن لم يكن موجبا لذاته كما ثبت بالتنصيص, وهو قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] إن قوله موجب; وإن لم يصلح أن
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في مواقيت الصلاة حديث رقم 179 والإمام أحمد في المسند 1/375.
2 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1297 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1970 والنسائي في الحج 5/170 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 3023 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 3/318 و366.(1/157)
رأيتموني أصلي" فجعلوا المتابعة لازمة واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن العبارات إنما وضعت دلالات على المعاني المقصودة ولا يجوز قصور العبارات
ـــــــ
يكون موجبا لذاته; لأنه بشر مثلنا وبأن اختلاف الجمع في لفظ واحد باعتبار معنيين مختلفين يدل على أنه حقيقة في كل واحد منهما, فإن العود بمعنى الخشب يجمع على عيدان وبمعنى اللهو على أعواد وقد يجمع الأمر بمعنى الفعل على أمور وبمعنى القول على أوامر فيكون الأمر حقيقة فيهما.
واحتج من قال بالاشتراك المعنوي بأن القول المخصوص والفعل مشتركان في عام كالشيئية والشأن فيجب جعل اللفظ المطلق عليهما, وهو الأمر للمشترك بينهما دفعا للاشتراك اللفظي والمجاز; لأن كل واحد منهما خلاف الأصل.
واحتج الجمهور في نفي الاشتراك اللفظي بأن الأمر لو كان مشتركا بين القول المخصوص والفعل لما سبق أحدهما إلى الفهم دون الآخر; لأن تناول المشترك للمعاني على السواء والأمر بخلافه, وبأنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك, وفي نفي الاشتراك المعنوي بأنه لو كان مشتركا بالاشتراك المعنوي لما فهم منه أحدهما عينا عند الإطلاق; لأن مسماه حينئذ أعم من كل واحد منهما ولا دلالة للأعم على الأخص كما لا دلالة للحيوان على الإنسان هذا هو المشهور المذكور في عامة الكتب, وهو تعرض لنفي الاشتراك عن الأمر وانتفاء الإيجاب عن الفعل من لوازمه ولكن الشيخ رحمه الله تعرض فيما ذكر من الدليل لنفي الإيجاب من غير الصيغة على عكس ما ذكروا ليطابق ما ذكره في أول الباب, فقال واحتج أصحابنا بأن العبارات إنما وضعت دلالات على المعاني المقصودة فكأنه أراد بذكر كلمة إنما حصر الدلالة على العبارات; وإن كان لا ينقاد له اللفظ وأراد بالمعاني مدلولات الألفاظ يعني الموضوع للدلالة على المعاني التي قصد المتكلم إلقاءها إلى السامع, وأراد أن يبينها له هي العبارات لا غير, ولا يجوز قصور العبارات عن المعاني أي ولا يجوز عقلا أن يوجد معنى بلا لفظ فيحتاج في الدلالة عليه إلى شيء آخر; لأن المهملات أكثر من المستعملات وكذا في المترادفات كثرة فأما وقوع المشترك في اللغة فليس من قبيل قصور العبارة ألا يرى أن لكل معنى من المشترك اسما على حدة إذا ضم إلى المشترك صارا مترادفين. وكأنه جواب سؤال, وهو أن يقال قد سلمنا أن العبارات هي الموضوعة للدلالة على المعاني إلا أن العبارات قاصرة عنها; لأنها متناهية لتركبها من حروف متناهيات والمعاني غير متناهية فلا بد من أن يكون غير العبارة دالا عليها أيضا ضرورة فقال ليس كذلك; لأنا نجد المهملات أكثر من(1/158)
عن المقاصد والمعاني, وقد وجدنا كل مقاصد الفعل مثل الماضي والحال والاستقبال مختصة بعبارات وضعت لها فالمقصود بالأمر كذلك يجب أن يكون مختصا بالعبارة, وهذا المقصود أعظم المقاصد فهو بذلك الأولى
ـــــــ
المستعملات ولا نجد معنى لا يمكن التعبير عنه بلفظ عند الحاجة إليه ولا نسلم أن المعاني التي تعقلها الذهن واحتيج إلى التعبير عنها غير متناهية لاستحالة تعقل الذهن ما لا يتناهى, وإليه أشار بقوله المعاني المقصودة.
وإذا ثبت أن الوضع للدلالة على المعاني المقصودة محصور على العبارات, وأنها لا تقصر عن المعاني لا يكون للفعل دلالة على معنى الأمر ولا يستفاد ذلك منه أصلا; لأنه لو استفيد منه لم يبق الحصر في العبارات وقد تم الاستدلال, ولكن الشيخ أدرج دليلا آخر للتوضيح فقال: وقد وجدنا كل مقاصد الفعل مثل الماضي والحال والاستقبال مختصة بعبارات وضعت لها مثل ضرب ويضرب وسيضرب, قالوا وهذا على مذهب الفقهاء, فإن عندهم صيغة المضارع للحال وإذا انضم إليه سوف أو السين صارت للاستقبال وقد تعرف ذلك في شرح الجامع الصغير للمصنف, ولكن لا حاجة إلى هذا التأويل ههنا; لأنه في بيان خصوص المعنى لا في بيان خصوص اللفظ; وإنما يحتاج إليه في خصوص اللفظ وهو أن يقال ضرب مختص بالماضي ويضرب بالحال وسيضرب بالاستقبال وأراد بقوله مختصة بعبارات أن معنى الماضي مختص بالصيغة الموضوعة له. وكذا معنى الحال والاستقبال نفيا للترادف الذي هو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى الأمر, وهو الطلب أو الإيجاب مختصا بالعبارة الموضوعة له كذلك; لأنه من أعظم المقاصد إذ الثواب والعقاب مبنيان عليه وثبوت أكثر الأحكام به فهو بالاختصاص بالصيغة أولى, ألا ترى أنه لو لم يختص بالصيغ وثبت بالفعل كما يثبت بالصيغة لزم منه الاشتراك في لفظ الأمر, وهو خلاف الأصل وإذا ثبت اختصاصه بالصيغة لم يثبت بالفعل, ويحتمل أن يكون كلمة إنما للتأكيد لا للحصر; ولهذا لم يذكر في بعض النسخ ويكون الكل دليلا واحدا.
وتقريره أن العبارات وضعت دلالات على المعاني المقصودة والعبارة غير قاصرة عنها لما بينا أن المهملات أكثر من المستعملات فيكون للمعنى المثبت بالأمر صيغة موضوعة لا محالة; لأنه معنى مقصود بل هو أعظم المقاصد وإذا كان له صيغة موضوعة كان هو مختصا بها; لأنا وجدنا كل مقاصد الفعل مختصة بالعبارات الموضوعة لها فوجب أن يكون معنى الأمر مختصا بالعبارة الموضوعة له; لأنه أعظم المقاصد وإذا صار مختصا بها لا يثبت بالفعل.(1/159)
وإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة فتكون لازمة إلا بدليل ألا ترى أن أسماء الحقائق لا تسقط عن مسمياتها أبدا أو أما المجاز فيصح نفيه يقال للأب الأقرب أب لا ينفي عنه بحال ويسمى الجد أبا ويصح نفيه ثم ههنا صح أن يقال إن فلانا لم يأمر اليوم بشيء مع كثرة أفعاله وإذا تكلم بعبارة الأمر لم يستقم نفيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: حين خلع نعليه فخلع الناس نعالهم منكرا
ـــــــ
قوله: "وإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة" يعني وإذا ثبت أن لهذا المعنى عبارة موضوعة في أصل اللغة, وهي صيغة افعل مثلا كانت حقيقة في هذا المعنى لا محالة فتكون لازمة له, والضمير في كان ويكون عائد إلى أصل الموضوع. وإنما قال لازمة دون لازما; لأن الأصل الموضوع هو الصيغة المخصوصة فأنث على تأويل الصيغة وإذا كانت الصيغة التي هي أصل الموضوع لازمة لهذا المعنى لا يوجد بدونها فيمتنع ثبوته بالفعل ضرورة قوله: "إلا بدليل" أي لزوم الصيغة المخصوصة لهذا المعنى ثابت نظرا إلى أصل الوضع إلا أن يقوم دليل أنه قد يستفاد بغير الصيغة كما يستفاد بها فحينئذ ينتفي اللزوم ويثبت بدون الصيغة على خلاف الأصل.
ثم تعرض الشيخ لنفي الاشتراك عن لفظ الأمر المستلزم لنفي الإيجاب عن الفعل بطريق التوضيح فقال ألا ترى إلى آخره وهو ظاهر, قال المصنف في شرح التقويم: الفعل لا يصلح أن يكون موجبا; لأن الأمر لطلب الوجود من الغير والفعل تحقيق الوجود وليس فيه دليل طلب الوجود فلا يكون سببا لطلب الوجود; وإن دام على ذلك; لأن ما لا يدل على طلب الوجود أصلا لا يدل عليه; وإن كثر إلا أنه يدل على كونه مرضيا محمودا عنده.
قوله: "وقد قال النبي عليه السلام" هذه معارضة لما تمسكوا به من السنة, وهي ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه وهو يصلي فخلع من خلفه فقال: "ما حملكم على خلع نعالكم" فقالوا رأيناك خلعت فخلعنا قال: "إن جبريل أخبرني أن في أحديهما قذرا فخلعتهما لذلك فلا تخلعوا نعالكم" 1 كذا في شرح الآثار2 وفي رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بينما رسول الله رضي الله عنه يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم فلما قضى صلاته قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم" قالوا رأيناك ألقيت نعليك فقال: "إن جبريل
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم 650 والإمام أحمد في المسند 3/92.
2 الآثار كتاب لمحمد بن الحسن الشيباني ولأبي يوسف القاضي.(1/160)
عليهم: "ما لكم خلعتم نعالكم" وأنكر عليهم الموافقة في وصال الصوم فقال: "إني أبيت عند ربي يطعمني ربي ويسقيني" فثبت أن صيغة الأمر لازمة ولا ننكر تسميته مجازا; لأن الفعل يجب به فسمي به مجازا أو النبي عليه السلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر بقوله: "صلوا كما رأيتموني" فدل أن الصيغة لازمة ومن ذلك.
ـــــــ
عليه السلام "أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا فليمسحه وليصل فيهما" كذا في المصابيح. وما روي أنه عليه السلام واصل فواصل أصحابه فأنكر عليهم ونهاهم عن ذلك وقال: "وأيكم مثلي يطعمني ربي ويسقيني" 1 ففي إنكار النبي عليه السلام عليهم دليل واضح على أن فعله ليس بموجب إذ لو كان موجبا كالأمر لم يكن لإنكاره معنى كما لو كان أمرهم بذلك وامتثلوا به, قال الغزالي: رحمه الله إنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله فكيف صار اتباعهم للبعض دليلا ولم يصر مخالفتهم في البعض دليلا, وقوله عليه السلام: "يطعمني ربي ويسقيني" يجوز أن يكون ذلك حقيقة الطعام والشراب كما ثبت ذلك لمن دونه من الأولياء بطريق الكرامة, ويجوز أن يكون ذلك كناية عما تتقوى به الروح من القربة والمشاهدة والأنس بذكره وطاعته وغير ذلك قال بعضهم:
وذكرك للمشتاق خير شراب ... وكل شراب دونه كسراب
قوله: "ولا ننكر تسميته مجازا" جواب عن تمسكهم بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] فقال إنا لا ننكر تسمية الفعل بالأمر مجازا; لأن الفعل يجب بالأمر فيجوز أن يسمى بالأمر إطلاقا لاسم السبب على المسبب, وفي الإقليد شبه الداعي الذي يدعو إلى الفعل من يتولاه بأمره به فقبل له أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه قيل مأمور به كما قيل شأن. وهو مصدر شأنت أي قصدت سمي به المشئون أي المطلوب وإليه أشار شمس الأئمة أيضا على أنه قد قيل إن المراد من الأمر في الآية المذكورة القول بدليل قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} [هود: 97] أي أطاعوه فيما أمرهم والرشد الصواب وقد يوصف القول به, وفي المطلع: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} هو ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إلها: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي بذي رشد بل هو غي وضلال وقيل بمرشد.
قوله: "والنبي عليه السلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر" جواب عن تمسكهم بقوله
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الصوم باب رقم 49 ومسلم في الصيام حديث رقم 57 و58.(1/161)
..............................................................................................
عليه السلام صلوا أي المتابعة إنما وجبت بقوله صلوا لا بالفعل ولو كان الفعل موجبا بنفسه لما احتيج إلى قوله صلوا بعد قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] كما لا يحتاج قوله افعلوا كذا إلى شيء آخر يوجب الامتثال به, قال الغزالي في جوابه وجواب أمثاله أن قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" و "خذوا عني مناسككم" و "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي" 1, بيان من النبي صلى الله عليه وسلم أن شرعه وشرعهم فيه سواء ففهموا وجوب الاتباع بذلك لا بمجرد حكاية الفعل. وأما قولهم اختلاف الجمع يدل على اختلاف المسمى فلا تمسك لهم فيه; لأن الأمور جمع الأمر بمعنى الشأن والصفة لا بمعنى الفعل والأعواد والعيدان كلاهما جمع عود مطلقا كذا في الصحاح وأما الأوامر فقد ذكر في المعتمد أنها جمع آمرة لا جمع أمر, وهو حق; لأن فواعل في الثلاثي جمع فاعل اسما ككواهل أو فاعلة اسما وصفة ككواثب وضوارب فأما فعل فلم يجمع على فواعل ألبتة لكنه قيل أوامر جمع آمرة مجازا كأن صيغة افعل جعلت آمرة وجمعت على أوامر كما جمع نهي على نواهي بهذا التأويل; ولهذا يقال ما له ناهية أي نهي. وأما قولهم هو متواطئ أي مشترك معنوي ففاسد أيضا; لأن ذلك يؤدي إلى رفع المجاز والاشتراك أصلا; لأن الاشتراك في أمر عام قد يوجد بين كل مشتركين وكل مجاز وحقيقة. وقولهم المجاز والاشتراك خلاف الأصل قلنا كل ما هو خلاف الأصل يصير موافقا له إذا دل عليه الدليل وقد قام الدليل على المجاز ههنا كما ذكرنا والله أعلم قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في الطهارة حديث رقم 420 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/98.(1/162)
"باب موجب الأمر"
وإذا ثبت خصوص الصيغة ثبت خصوص المراد في أصل الوضع وهو قول عامة الفقهاء ومن الناس من قال: إنه مجمل في حق الحكم لا يجب به حكم
ـــــــ
"باب موجب الأمر"
أي حكم الأمر, الباب المتقدم في بيان لزوم الصيغة للمراد بالأمر بحيث لا يوجد ذلك المراد بدونها وبيان اختصاص ذلك المعنى بالصيغة ولكن ليس فيه بيان ذلك المراد صريحا وهذا الباب في بيان المراد أنه متعدد أم واحد, متعين أو مبهم قوله: "وإذا ثبت خصوص الصيغة" أي لزومها للمعنى واختصاصها به ثبت خصوص المراد أي انفراد المعنى وتعينه في أصل الوضع; لأنه لو لم يكن معناه منفردا أو متعينا مع أن الصيغة المخصوصة لازمة له يلزم الاشتراك أو الإجمال في الصيغة وكلاهما خلاف الأصل وهذا; لأن الغرض من وضع الألفاظ الإفهام للسامع والاشتراك والإجمال يخلان به إلا أن الاشتراك والإجمال وقعا لعوارض قد ذكرنا وسنذكرها أيضا إن شاء الله تعالى.
"فإن قيل" إنه في بيان خصوص اللفظ; ولهذا قال: الخاص لفظ وضع لكذا وما ذكر في هذا الباب من أقسام خصوص المعنى فكيف يستقيم أن يجعل من أقسام الخاص اللفظي "قلنا" لا يتم خصوص اللفظ إلا ببيان خصوص المعنى أعني تفرده; لأنه قال في تحديد الخاص لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد فلا بد من التعرض لجانب خصوص المعنى ليتم خصوص اللفظ; فلهذا جعله من أقسام الخاص.
واعلم أن صيغة الأمر استعملت لوجوه والمشهور منها ثمانية عشر وجها, للوجوب كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وللندب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] وللإرشاد إلى الأوثق كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] والفرق بين الإرشاد والندب أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد للتنبيه على مصلحة الدنيا ولا ينقص ثواب بترك الإشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله, وللإباحة كقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وللإكرام كقوله(1/163)
إلا بدليل زائد واحتجوا بأن صيغة الأمر استعلمت في معان مختلفة للإيجاب مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وللندب مثل
ـــــــ
تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] وللامتنان كقوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142] وللإهانة كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] وللتسوية كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] وللتعجب كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أي ما أسمعهم وما أبصرهم وللتكوين وكمال القدرة كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] وللاحتقار كقوله تعالى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80] وللإخبار كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} [التوبة: 82] وللتهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] و {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الاسراء: 64] ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} [ابراهيم: 30]; وإن كان قد جعلوه قسما آخر, وللتعجيز كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وللتسخير كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وللتمني كقول الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
وللتأديب كقوله عليه السلام لابن عباس: رضي الله عنهما: "كل مما يليك" 1, وهو قريب من الندب إذ الأدب مندوب إليه, وللدعاء كقولك اللهم اغفر لي.
إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أن صيغة افعل ليست حقيقة في جميع هذه الوجوه; لأن معنى التسخير والتعجيز والتسوية مثلا غير مستفاد من مجرد الصيغة بل إنما يفهم ذلك من القرائن, إنما الذي وقع الخلاف فيه أمور أربعة: الوجوب والندب والإباحة والتهديد فقال بعض الواقفية الأمر مشترك بين هذه الوجوه الأربعة بالاشتراك اللفظي كلفظ العين ونقل ذلك عن الأشعري في بعض الروايات وابن شريح من أصحاب الشافعي وبعض الشيعة وإلى هذا القول أشار الشيخ حيث جعل التوبيخ من مواجبه. وقيل هو مشترك بين الوجوب والندب والإباحة بالاشتراك اللفظي وقيل بالمعنوي, وهو أن يكون حقيقة في الإذن الشامل للثلاثة, وهو مذهب المرتضى2 من الشيعة فعلى هذين القولين
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الأطعمة 7/88 ومسلم في الأشربة حديث رقم 2022 وأبو داود في الأطعمة حديث رقم 3777 والترمذي في الأطعمة حديث رقم 1857.
2 المرتضى هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ولد سنة 355 وتوفي في 25 وبيع الأول انظر معجم المؤلفين 7/81 – 81.(1/164)
.........................................................................................
يكون في التهديد مجازا. وقيل هو مشترك في الإيجاب والندب لفظا, وهو منقول عن الشافعي, وقيل معنى بأن يجعل حقيقة في معنى الطلب الشامل لهما, وهو ترجيح الفعل على الترك, وقال أبو الحسن الأشعري: في رواية والقاضي الباقلاني والغزالي, ومن تبعهم لا يدرى أنه حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا بالاشتراك فعلى قول هؤلاء جميعا لا حكم له أصلا بدون القرينة إلا التوقف مع اعتقاد أن ما أراد الله تعالى منه حق; لأنه محتمل لازدحام المعاني فيه وحكم المجمل التوقف لا أن التوقف عند البعض في نفس الموجب وعند البعض في تعيينه, وقال مشايخ سمرقند: رئيسهم الشيخ أبو منصور رحمهم الله إن حكمه الوجوب عملا لا اعتقادا, وهو أن لا يعتقد فيه بندب ولا إيجاب بطريق التعيين بل يعتقد على الإبهام أن ما أراد الله تعالى منه من الإيجاب والندب فهو حق ولكن يؤتى بالفعل لا محالة حتى إنه إذا أريد به الإيجاب يحصل الخروج عن العهدة; وإن أريد به الندب يحصل الثواب فهذا بيان أقوال الواقفية, فأما عامة العلماء من الفقهاء والمتكلمين فقالوا: إنه حقيقة في واحد من هذه المعاني عينا من غير اشتراك ولا إجمال إلا أنهم اختلفوا في تعيينه فذهب الجمهور من الفقهاء وجماعة من المعتزلة كأبي الحسين البصري والجبائي في أحد قوليه إلى أنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه, وذهب جماعة من الفقهاء والشافعي في أحد قوليه وعامة المعتزلة إلى أنه حقيقة في الندب مجاز فيما سواه, وذهب طائفة إلى أنه حقيقة في الإباحة ونقل ذلك عن بعض أصحاب مالك رحمه الله.
قوله: "واحتجوا" أي الطائفة الأولى من الواقفية بأن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة, وهي ما ذكر في الكتاب من غير أن يثبت ترجيح أحدها على الباقي.
والأصل في الاستعمال الحقيقة فيثبت الاشتراك الذي هو من أقسام الإجمال عندهم فلا يجب العمل به إلا بدليل زائد يرجح أحد المعاني على سائرها لاستحالة ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح, والتقريع التعجيز والإفحام والتوبيخ التهديد والفرق بينهما أن في التقريع لا يكون المأمور قادرا على إتيان المأمور به; ولهذا يلحق به افعل كذا إن استطعت كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] والمراد منه النفي أي الإتيان بالسورة أو الشمس من المغرب ليس بموجود ومقدور أصلا وفي التوبيخ يكون المأمور قادرا على إتيان المأمور به كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] فإن المأمور قادر على الكفر والإيمان جميعا إلا أن المأمور به في التوبيخ ليس بمطلوب بل المراد النهي منه أي لا تفعل هذا فإنك إن فعلته ستلحق بك عقوبته ولهذا يلحق به افعل(1/165)
قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وللإباحة مثل قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وللتقريع مثل قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
ـــــــ
فإنك تستحق به العقاب, ثم قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ} [الاسراء: 64] أي استخف واستزل وهيج من استطعت منهم على المعاصي بوسوستك ودعائك إلى الشر من قبيل التهديد لا من قبيل التقريع الذي ذكره الشيخ كذا في الكشاف والمطلع وعين المعاني وعامة التفاسير والتقويم وأصول شمس الأئمة وأصول أبي اليسر وغيرها ألا ترى أن اللعين قادر على الوسوسة والدعاء إلى الشر; وإن لم يكن قادرا على الإضلال والإغواء فأنى يكون هذا من باب التقريع, ولا حاجة إلى ذكر التقريع ههنا; وإن ذكر في بعض الكتب; لأنه في بيان المعاني الأصلية ليثبت الاشتراك على زعم الخصم وهذا من المعاني المجازية بالاتفاق فلا حاجة إلى ذكره.
وما ذكرنا هو المتمسك للباقين من القائلين بالاشتراك اللفظي إلا أنهم قالوا حمله على الإباحة أو التهديد الذي هو المنع بعيد; لأنا ندرك التفرقة في اللغات كلها بين قوله افعل وقوله لا تفعل وبين قوله إن شئت فافعل; وإن شئت لا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها وقدرنا هذه الصيغة منقولة عن غائب لا في فعل معين من قيام أو قعود أو صلاة أو صيام حتى يتوهم فيه قرينة دالة بل في الفعل مطلقا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعا أنها ليست بألفاظ مترادفة على معنى واحد كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم قام زيد ويقوم زيد في أن الأول للماضي والثاني للمستقبل, وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل وبالعكس لقرائن تدل, وكما ميزوا الماضي عن المستقبل ميزوا الأمر عن النهي وقالوا: الأمر قوله افعل والنهي لا تفعل; وإنهما لا ينبئان عن معنى قوله إن شئت فافعل; وإن شئت فلا تفعل. وهذا أمر نعلمه بالضرورة من اللغات فعلم بما ذكرنا أن قوله افعل يدل على ترجيح جانب الفعل على جانب الترك والتهديد الذي هو المنع خلافه, وكذا قوله أبحت لك إن شئت فافعل; وإن شئت فلا تفعل يرفع الترجيح فبقي الاشتراك بين الندب والوجوب.
ومن قال: إنه مشترك بالاشتراك المعنوي قال جعله حقيقة في الإذن المشترك بين الثلاثة أو الطلب المشترك بين الوجوب والندب أولى دفعا للاشتراك والمجاز, ثم الواقفية إنما قالوا بوجوب الصلاة بقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} بقرينة: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] وبما ورد من التهديدات في ترك الصلاة وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف والمرض إلى غير ذلك. وأما في الزكاة فقد اقترن بقوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}(1/166)
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الاسراء: 64] وللتوبيخ مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وإذا اختلفت وجوهه لم يجب العمل به إلا بدليل ولعامة العلماء أن صيغة الأمر لفظ خاص من تصاريف الفعل, وكما أن العبارات لا تقصر عن المعاني, فكذلك العبارات في أصل الوضع مختصة بالمراد ولا يثبت الاشتراك إلا بعارض, فكذلك صيغة الأمر لمعنى خاص ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب من الدليل المغير كسائر ألفاظ الخصوص.
ـــــــ
[التوبة: 34] الآية وأما في الصوم فبقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وقوله عز اسمه : {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وإيجاب تداركه على الحائض, وكذلك الزنا والقتل وغيرهما من المحرمات وردت فيها تهديدات ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى.
قوله: "ولعامة العلماء" أي الذين قالوا بأن للأمر موجبا متعينا أن صيغة الأمر لفظ خاص من تصاريف الفعل, والأولى أن يقال صيغة الأمر أحد تصاريف الفعل كما قال شمس الأئمة; لأن النزاع وقع في خصوصه فلا يستقيم أن يجعل مقدمة الدليل, وكما أن العبارات لا تقصر عن المعاني حتى كانت كافية في الدلالة على المعاني ولم يحتج إلى شيء آخر على ما بيناه في الباب المتقدم فكذلك العبارات مختصة بالمعاني أي كل عبارة مختصة بمعنى في أصل الوضع والمراد بالمراد الجنس. ولا يثبت الاشتراك أي في العبارة إلا بعارض لما مر أن الغرض من وضع الكلام إفهام المراد للسامع والاشتراك يخل به فلم يكن أصلا ولكنه قد يقع بعارض, وهو تعدد الوضع مع غفلة الواضع إن كانت اللغات اصطلاحية, وذلك بأن كان الواضع نسي وضعه الأول وقد اشتهر ذلك إن كان الواضع متعددا وقد غفل كل واحد عن وضع صاحبه واشتهر الوضعان بين الأقوام, أو الابتلاء إن كانت توقيفية وقد مر بيانه, فكذلك صيغة الأمر لا بد أن تكون مختصة بمعنى خاص في أصل الوضع, واللام في المعنى إشارة إلى اختصاص الصيغة بالمعنى.
ثم الاشتراك يثبت بضرب من الدليل المغير كسائر ألفاظ الخصوص, السائر بمعنى الجميع يقال سائر الناس أي جميعهم كذا في الصحاح, أو بمعنى الباقي كما هو أصله فقد ذكر في الفائق أنه اسم فاعل من سأر إذا بقي ومنه السؤر وهذا مما يغلط فيه الخاصة فيضعه موضع الجميع والمصدر بمعنى الفاعل والتشبيه متعلق بقوله لمعنى خاص أي صيغة الأمر لمعنى خاص ولا يثبت الاشتراك والتغير فيها عن الوضع الأصلي إلا بعارض كجميع الألفاظ الخاصة أو باقيها; فإنها لمعان خاصة ولا يثبت الاشتراك والتغير فيها(1/167)
ثم الفقهاء سوى الواقفية اختلفوا في حكم الأمر قال بعضهم حكمه الإباحة وقال بعضهم: الندب وقال عامة العلماء: حكمه الوجوب.
أما الذين قالوا بالإباحة قالوا إن ما ثبت أمرا كان مقتضيا لموجبه فيثبت
ـــــــ
إلا بدليل مغير كما قلنا. ويجوز أن يكون معناه كسائر الألفاظ التي يحصل بها الخصوص في العام, فيكون إضافة الألفاظ إلى الخصوص إضافة السبب إلى المسبب كقولك وقت الظهر والتشبيه متعلقا بقوله بضرب من الدليل المغير, وإلى هذا الوجه أشار شمس الأئمة فقال: فلا بد من أن يكون صيغة الأمر لمعنى خاص في أصل الوضع ولا يثبت الاشتراك فيه إلا بعارض مغير بمنزلة دليل الخصوص في العام, ويجوز أنه لم يرد بالاشتراك الاشتراك الحقيقي المصطلح; وإنما أراد به الاشتراك الصوري الذي يحدث للألفاظ بسبب الاستعارة بين المعنى الحقيقي والمجازي فإن لفظ الأسد باعتبار ظاهر الاستعمال مشترك بين الحيوان المخصوص وبين الشجاع وهذا الاشتراك لا يمنع خصوص اللفظ; وإنما يثبت بعدما ثبت خصوص اللفظ في معناه الموضوع له بدليل يقترن باللفظ أنه غير عن موضوعه الأصلي وأريد به هذا المعنى الآخر; ولهذا لا يخل هذا الاشتراك بالفهم; لأن قيام الدليل الذي يسمونه قرينة لازم له فيدل على المراد لا محالة بخلاف الاشتراك الحقيقي فإنه لا يثبت معه الخصوص ويثبت بالاستعمال الخالي عن القرينة; ولهذا يخل بالفهم ألا ترى أنك إذا قلت رأيت أسدا يفهم منه الهيكل المخصوص لا غير وإذا قلت رأيت أسدا يرمي يفهم منه الإنسان الشجاع لا غير فأما إذا قلت رأيت عينا فلا يفهم منه شيء معين, ثم الخصوم لما استدلوا باستعمال الأمر في المعاني المختلفة أنه مشترك حقيقي نظرا إلى أن الأصل في الاستعمال الحقيقة.
واستدل الشيخ على أنه خاص بأن الأصل في الكلام الخصوص دون الاشتراك أجاب عما تمسكوا به فقال بعدما ثبت خصوص الصيغة بما ذكرنا من الدليل وإليه أشار بقوله: ثم قد يثبت الاشتراك الصوري أي المجاز بالدليل المغير, وهو القرينة كسائر الألفاظ الخاصة تصرف إلى المجاز بالقرائن المنضمة إليها فيثبت بالاستعمال الذي تمسكتم به بعدما ثبت الخصوص هذا النوع من الاشتراك لا الاشتراك الحقيقي; لأنه لا يجتمع مع الخصوص, والحاصل أن الاستعمال يدل على الاشتراك وعلى المجاز فحمله على المجاز أولى; لأنه لا يخل بالفهم.
قوله: "وأما الذين قالوا بالإباحة" قالوا الفاء في جواب إما لازم لكن المشايخ قد يتركونها كثيرا; لأن نظرهم كان إلى المعنى لا إلى اللفظ كذا كان يقول شيخنا العلامة(1/168)
أدناه, وهو الإباحة والذين قالوا بالندب قالوا لا بد مما يوجب ترجيح جانب الوجود وأدنى ذلك معنى الندب إلا أن هذا فاسد لأنه إذا ثبت أنه موضوع.
ـــــــ
مولانا حافظ الملة والدين نور الله مضجعه: قالوا: إن ما ثبت كونه أمرا أي الذي ثبت كونه أمرا من الصيغ الموضوعة, وقيل هو احتراز عن السؤال والدعاء والتوبيخ ونحوها فإن الصيغة في هذه المعاني ليست بأمر على الحقيقة باتفاق هؤلاء كان مقتضيا لموجبه لا محالة, فيثبت أدناه أي أدنى ما يصح أن يثبت بالأمر, وهو الإباحة كما إذا وكل رجلا في ماله يثبت به الحفظ; لأنه أدنى ما يراد بهذا اللفظ وهو متيقن, وفي التقويم قالوا: الأمر لطلب وجود المأمور به, ولا وجود له إلا بالائتمار فدل ضرورة على انفتاح طريق الائتمار عليه وأدناه الإباحة. وأما النادبون فقالوا: لا يجوز أن يكون موجبه الإباحة; لأن الأمر لطلب الفعل, ولا بد فيه من أن يكون جانب إيجاد الفعل راجحا على جانب الترك وليس في الإباحة ذلك; لأن كليهما فيها سواء ولما لم يكن بد من الترجح ولا يحصل ذلك إلا بالوجوب أو الندب يثبت أدناهما للتيقن به, ولا يثبت الزيادة; لأن معنى الطلب قد تحقق فلا معنى لإثبات صفة زائدة بعد من غير ضرورة; وإنما يحصل الترجيح بالندب لاقتضائه كون الفعل أحسن من الترك وتعلق الثواب به, قال الشيخ: رحمه الله إلا أن هذا أي القول بالندب مع دليله فاسد, خصه بالحكم بالفساد دون القول الأول; لأن دليل النادبين قد تضمن إفساد القول الأول فلا حاجة إلى التعرض له.
قوله: "لأنه" الضمير للشأن إذا ثبت أن الأمر موضوع لمعناه المخصوص, وهو طلب الفعل بما ذكر من الدليل كان الكمال أصلا في ذلك المعنى; لأن الناقص ثابت من وجه دون وجه وكماله بالوجوب لا بالندب; لأن استحقاق العقاب لما ترتب على تركه كترتب الثواب على فعله دل أن الفعل مطلوب الأمر من كل وجه فيثبت به كمال الطلب من جانبه, وكذا المطلوب, وهو الفعل يحصل به من جانب المأمور غالبا فأما الندب ففيه نقصان في جانب الطلب لعدم ترتب العقاب على تركه, وكذا لا يؤدي إلى وجود المطلوب غالبا, وإذا كان كمال الطلب في الوجوب وجب القول به إذ لا قصور في دلالة الصيغة على الطلب; لأنها موضوعة لذلك ولا في ولاية الأمر; لأنه مفترض الطاعة يملك الإلزام, وكان قوله لا قصور في دلالة الصيغة احتراز عن صيغة اقترن بها ما يمنع صرفها إلى الإيجاب مع كمال ولاية المتكلم كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] فكان قصور الصيغة عبارة عن عدم دلالتها على موضوعها, وهو الإيجاب. وقوله ولا في ولاية المتكلم احتراز عما إذا اقترن بالمتكلم ما يمنع صرفها إلى الإيجاب مع كمال دلالتها عليه كما في الدعاء والالتماس, قال أبو اليسر: الأمر لفظ فكان(1/169)
لمعناه المخصوص به كان الكمال أصلا فيه فثبت أعلاه على احتمال الأدنى إذ لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم والحجة لعامة العلماء الكتاب والإجماع والدليل المعقول أما الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]
ـــــــ
المراد به خاصا كاملا; لأن الأصل في الأشياء الكمال والنقصان بعارض والكمال إنما يكون بالوجوب; لأن الوجوب يحمله على الوجود فكان الوجود بواسطة الوجوب مضافا إلى الأمر السابق فمن جعل الأمر للإباحة أو الندب جعل النقصان أصلا والكمال بعارض, وهذا قلب القضية.
ولا حجة للنادبين في قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا" 1 حيث فوض الأمر إلى مشيئتنا, وهو دليل الندبية; لأنا لا نسلم أنه رده إلى مشيئتنا بل رده إلى استطاعتنا, فإنه قال: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل فافعلوا ما شئتم, وليس الرد إلى الاستطاعة من خواص المندوب بل كل واجب كذلك, ولما بين فساد شبهة الخصم شرع في بيان الاحتجاج على مذهبه ومدعاه; لأنه لا يلزم من إبطال مذهب الخصم صحة هذا القول فقال: والحجة لعامة العلماء وفي بعض النسخ الفقهاء, وهو أحسن لمطابقته قوله ثم الفقهاء سوى الواقفية, والإجماع أي دلالته; لأن الإجماع في صورة أخرى ولكن يلزم منه ثبوت الحكم في هذه الصورة قوله: "قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} " الآية قولنا مبتدأ وأن نقول خبره وكن ويكون من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له احدث فهو يحدث عقيب ذلك بلا توقف. وهذا مثل; لأن مراد الله لا يمتنع عليه وأن وجوده عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل ولا قول ثمة, والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات كذا في الكشاف وسمي المعدوم شيئا باعتبار ما يئول إليه, واعلم أن أهل السنة لا يرون تعلق وجود الأشياء بهذا الأمر بل وجودها متعلق بخلق الله وإيجاده وتكوينه وهو صفته الأزلية وهذا الكلام عبارة عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده وكمال قدرته على ذلك بطريق الاستدلال بالشاهد يعني لو كان في قدرة البشر إيجاد الأشياء عن العدم بهذه الكلمة التي ليست في كلامهم ما هو أوجز في الدلالة على التكوين منها فيكون ما أرادوا وجوده عقيب المتكلم بهذه الكلمة بلا صنع آخر منهم
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الاعتصام 9/117 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1337 وابن ماجة في المقدمة حديث رقم 1 و2.(1/170)
وهذا عندنا على أنه أريد به ذكر الأمر بهذه الكلمة والتكلم بها على الحقيقة لا مجازا عن الإيجاد بل كلاما بحقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل وقد
ـــــــ
أليس يكون الإيجاد عليهم في غاية اليسر فتكوين العالم وأمثاله أيسر على الله بكثير, وعند الأشعري, ومن تابعه من متكلمي أهل الحديث وجود الأشياء متعلق بكلامه الأزلي وهذه الكلمة دالة عليه لا إن كانت من حرف وصوت أو كان لكلامه وقت أو حال تعالى عن ذلك كذا ذكر في شرح التأويلات في غير موضع, وهذا; لأنهم لما قالوا بأن التكوين عين المكون لم يمكنهم تعليق التكوين بالتكوين فعلقوه بالأمر, وعندنا لما كان التكوين صفة ثابتة أزلية أمكن تعليق الوجود به فلا حاجة إلى تعليقه بالأمر فجعلناه عبارة عن سرعة الإيجاد وسهولته. وذكر في التيسير في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أنه تعالى لم يرد به أنه خاطبه بكلمة كن فيكون بهذا الخطاب; لأنه لو جعل خطابا حقيقة فأما أن يكون خطابا للمعدوم وبه يوجد أو خطابا للموجود بعدما وجد, لا جائز أن يكون خطابا للمعدوم; لأنه لا شيء فكيف يخاطب ولا جائز أن يكون خطابا للموجود; لأنه قد كان فكيف يقال له كن, وهو كائن; وإنما هو بيان أنه إذا شاء كونه كونه فكان.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الشيخ رحمه الله إنما اختار في هذا الكتاب أن المراد بقوله كن حقيقة التكلم بهذه الكلمة لا أنه مجاز عن الإيجاد والتكوين موافقا لمذهب الأشعرية مخالفا لعامة أهل السنة; لأن التمسك بالآية في إثبات المطلوب على هذا القول أظهر, وعن هذا اختار للتمسك هذه الآية من بين سائر الآي التي فيها هذه الكلمة; لأنها أدل على أن المراد حقيقة التكلم إذ القول فيها مكرر مذكور في المبتدأ والخبر بخلاف سائر الآيات, فقال: وهذا عندنا أي معنى الآية عندنا, وأراد بقوله عندنا نفسه وأقر أنه دون السلف المتقدمين, على أن الضمير للشأن والظرف خبر المبتدأ مرفوع المحل, أريد به أي بالنص, ذكر الأمر إضافة المصدر إلى المفعول أي الأمر مذكور عند وجود الأشياء بهذه الكلمة التي هي أوجز الكلمات لا بكلمة أحدث وتكون ونحوهما., والتكلم معطوف على ذكر, والظرف وهو قوله على الحقيقة منصوب المحل على الحال وذو الحال الضمير في بها والتكلم هو العامل فيها أي أريد بالنص التكلم بهذه الكلمة حقيقة. وقوله لا مجازا وبل كلاما عطف على الظرف المنصوب المحل, ولو قيل لا مجاز وبل كلام بالرفع عطفا على الظرف المرفوع المحل, وهو قوله على أنه أريد به كذا لكان أحسن; لأن الخلاف إنما وقع في نفس التكلم أهو موجود عند وجود الأشياء أم لا لا في وصف التكلم أنه موجود بطريق الحقيقة أم هو موجود بطريق المجاز(1/171)
أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصودا بالأمر لما استقام قرينة للإيجاد بعبارة الأمر وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
ـــــــ
ومجازا بالنصب يقتضي أن يكون الخلاف في الوصف لا في الأصل. وقوله من غير تشبيه نفي لقول الكرامية فإنهم يقولون إنه تعالى يصير متكلما بخلق الحروف والأصوات في ذاته وهذا يؤدي إلى تشبيه كلامه بكلام المخلوقين وتشبيه ذاته بذواتهم أيضا إذ يلزم منه أن يكون ذاته محل الحوادث كذوات المخلوقين تعالى عن ذلك علوا كبيرا, وقوله ولا تعطيل نفي لقول المعتزلة فإنهم أنكروا كلام النفس وقالوا إنه تعالى لم يكن متكلما في الأزل; وإنما صار متكلما بخلق هذه الحروف والأصوات في محالها وهذا يؤدي إلى التعطيل وقد مر شرحه, ثم شرع في بيان وجه التمسك بهذا النص فقال وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصودا من الأمر مقرونا به لما استقام أن يكون الوجود قرينة للإيجاد أي للآمر إذ الإيجاد ليس إلا الأمر على هذا القول, وذلك; لأن الفاء في مثل هذه الصورة لبيان أنه نتيجة للأول ثابت به كما يقال أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه فلو لم يكن الوجود مستفادا بالأمر; لكان قوله كن فيكون بمنزلة قولك سقيته فأشبعته وأطعمته فأرويته, وهذا لا يجوز خصوصا من الحكيم الذي لا يسفه.
وذكر بعض الشارحين أن مذهب الشيخ غير مذهب الأشعرية فإن عندهم وجود الأشياء بخطاب كن لا غير كما أن عند أهل السنة بالإيجاد لا غير ومذهب الشيخ أنه بالخطاب والإيجاد معا فكان هذا مذهبا ثالثا, والدليل عليه أن قوله وقد أجرى سنته إنما يستعمل فيما إذا أمكن أن يثبت ذلك الشيء بغير ذلك السبب كما أن إجراء السنة أن لا يوجد ولد بلا أب وقد أمكن أن يوجد بلا أب كما وجد عيسى عليه السلام كذلك, وقد قال هنا أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر, فذلك يقتضي أن يمكن ثبوت الوجود بدون الخطاب وليس هذا بمذهب الأشعرية, ولهذا صرف هذا الشارح الضمير المستكن في استقام إلى الآمر لا إلى الوجود وجعل الإيجاد على حقيقته لا عبارة عن الآمر وقال: معناه ولو لم يكن الوجود مقرونا بالآمر لما استقام الأمر قرينة للإيجاد يعني لو لم يكن للآمر أثر في الوجود كما أن للإيجاد أثرا فيه لم يستقم أن يضم الأمر إلى الإيجاد في تكون الأشياء ووجودها; لأن الشيء إنما يضم ويقرن بغيره لتحقيق موجب ذلك الغير إذا كان له أثر في ذلك فأما إذا لم يكن له أثر فلا يضم.
قال; فإن قيل فإذا حصل الوجود بالإيجاد فما فائدة هذا الأمر, قلنا إظهار العظمة والقدرة كما أنه تعالى يبعث من في القبور يبعثه ولكن وسطه نفخ الصور لإظهار العظمة,(1/172)
بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] فقد نسب وأضاف القيام إلى الأمر وذلك دليل على حقية الوجود مقصودا بالأمر وقال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]
ـــــــ
أو يقال دلت الدلائل العقلية على أن الوجود بالإيجاد ووردت النصوص القاطعة على أنه بهذا الأمر فوجب القول بموجبهما من غير اشتغال بطلب الفائدة كما أن في الآيات المتشابهة وجب الإيمان من غير اشتغال بالتأويل.
قال العبد الضعيف أصلحه الله إن كان معنى هذا الكلام ما ذكر هذا الشارح فلا يخلو من أن يتعلق الوجود بالآمر كما يتعلق بالإيجاد أو لا تعلق له به أصلا بل هو علامة تعرف بها الملائكة أن عنده يحدث خلق كما هو قول بعض المفسرين على ما ذكر في المطلع وعين المعاني; فإن كان الأول فلا يخلو من أن يكون كلاهما علة واحدة للوجود, وذلك لا يجوز; لأنه يؤدي إلى افتقار صفة الإيجاد إلى شيء آخر في إثبات موجبه وذلك دلالة النقصان تعالى صفاته عن ذلك.
ولا يلزم عليه الإرادة فإن الوجود موقوف على الإرادة أيضا كما هو موقوف على الإيجاد ولم يلزم منه نقصان صفة الإيجاد; لأن الإرادة من أسبابه أو شرائطه ولا تأثير لها في الوجود وكلامنا فيما هو مؤثر فيه ألا ترى أنه لا واسطة بين الوجود وبين الإيجاد أو الأمر على هذا المذهب فكان من قبيل العلل لا من قبيل الأسباب بخلاف الإرادة; لأن الوجود لا يضاف إليها بلا واسطة أو يكون كل واحد علة للوجود وثبوت معلول واحد بعلتين محال; وإن كان الثاني فلا يستقيم التمسك بهذا النص على المدعي; لأن الوجود لما تعلق بالإيجاد, ولم يتعلق بالخطاب لا يكون الوجود قرينة للأمر وحكما له فكيف يستدل به على أن الأمر للوجوب فثبت أن الأولى أن يجعل الوجود متعلقا بالخطاب لا بالإيجاد عند الشيخ كما هو مذهب الأشعري ليصح تمسكه بهذه الآية.
يؤيده ما ذكره شمس الأئمة أن المراد حقيقة هذه الكلمة عندنا لا أن يكون مجازا عن التكوين كما زعم بعضهم, فإنا نستدل به على أن كلام الله تعالى غير محدث ولا مخلوق; لأنه سابق على المحدثات أجمع يريد به ما تمسكت الأشعرية في إثبات أزلية كلام الله تعالى بهذه الآية فقالوا: إنه تعالى أخبر أنه خلق المخلوقات بخطاب كن فلو كان هذا مخلوقا لاحتاج إلى خطاب آخر, وكذا في الثاني والثالث إلى ما لا يتناهى.
وقد استدل الشيخ أيضا في نسخة أخرى بهذه الآية على أن الأمر للوجوب مع أنه جعل الأمر فيها كناية عن الإيجاد فقال كن صيغة الأمر والمراد من الأمر الإيجاد كنى(1/173)
............................................................................................
بالأمر عن الإيجاد والكناية لا يصح إلا لمشابهة بينهما ولا مشابهة بينهما إلا بطريق السببية, وهو أن يكون الأمر للإيجاب ثم الإيجاب حامل على الوجود فصار الوجود مضافا إلى الأمر بواسطة الوجوب, والفرق بينهما أن الطريق الأول يدل على أن أصل الأمر للوجود ثم نقل إلى الوجوب لما سنذكره والطريق الثاني يشير إلى أن أصله للوجوب ثم استعير للإيجاد استعارة السبب للمسبب.
"فإن قيل" فعلى ما اختار الشيخ في هذا الكتاب يلزم منه الأمر للمعدوم وذلك لا يصح لعدم شرطه, وهو الفهم ألا ترى أن الصبي والمجنون ليسا بمأمورين لعدم الفهم والمعدوم سواء حالا منهما. "قلنا" هذا أمر تكوين لا أمر تكليف فلا يتوقف على الفهم بل يتوقف على الإمكان ألا ترى أن أمر التكليف الذي من شرطه الوجود والفهم قد يتعلق بالمعدوم على معنى أن الشخص الذي سيوحد يصير مأمورا ومكلفا بالأمر الأزلي القائم بذات الله تعالى أو بأمر النبي السابق على زمان وجود هذا الشخص; ولهذا كنا مأمورين بأوامره عليه السلام; وإن كنا معدومين حينئذ, ومن أنكره فهو معاند, فكذلك يصح أمر التكوين على تقدير ما تصور كونه في علمه إلى هذا أشير في عين المعاني, وأجيب عنه أيضا بأن الأمر للمعدوم إنما لا يصح إذا لم يتعلق به فائدة وقد تعلق به أعظم الفوائد ههنا, وهو الوجود فلذلك صح.
وهل يسمى الأمر للمعدوم في الأزل أمرا وخطابا الحق أنه يسمى أمرا; لأن الأمر هو الطلب, وهو موجود في الأزل ولا يسمى خطابا عرفا فإنه يصح منا أن نقول أمرنا النبي عليه السلام بكذا ولا يصح أن نقول خاطبنا بكذا قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الآية أي ومن آياته قيام السموات والأرض واستمساكهما بغير عمد, قال الفراء: أن تدوما قائمتين أي ثابتتين تماما لمنافع الخلق: {بِأَمْرِهِ} بأن أمرهما الله تعالى فقال لهما كونا قائمتين, وقيل بإقامته وتدبيره, وسياق كلام الشيخ يدل على أن القيام عبارة عن الوجود عنده.
ثم إن كان الأمر على حقيقته كما اختار ههنا فالتمسك ظاهر, وهو ما ذكر في الكتاب, "ومقصودا" حال عن الوجود والعامل فيها حقية إذ هي مصدر والتقدير حق الوجود مقصودا. وإن كان كناية عن الإيجاد فهو ما ذكر الشيخ في شرح التقويم أنه تعالى كنى بالأمر عن إيجاد السموات والأرض, فلا بد من مناسبة بينهما ولا طريق إلا أن يجعل الأمر إيجابا حتى يحمل المأمور على الإيجاد فيحصل الوجود فيصير الأمر سببا للوجود فيصح الكناية بطريق السببية وقد تقدم مثله قوله قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} الآية يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت معرض عنه وخالفني عنه إذا أعرض عنه وأنت قاصده, ويلقاك(1/174)
وكذلك دلالة الإجماع حجة; لأن من أراد طلب فعل لم يكن في وسعه أن
ـــــــ
الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا.
فمن الأول قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم.
ومن الثاني قوله عز ذكره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي الذين يخالفون المؤمنين عن أمره أي يعرضون وهم المنافقون والمخالف لا بد له من مخالف فاستغنى عن ذكره بذكر المخالف عنه; لأن الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه لا غير, والضمير في أمره لله سبحانه, أو للرسول عليه السلام, وهو الأظهر; لأنه بناء على قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] والدعاء على طريق العلو ممن هو مفترض الطاعة أمر, ويؤيده ما ذكر عن المبرد أن معناه لا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم إلى شيء كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضا لازما قال ومثله قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] وعلى هذا يكون المصدر مضافا إلى الفاعل: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] محنة في الدنيا ويصيبهم عذاب أليم في الآخرة., ووجه التمسك أنه تعالى ألحق الوعيد بمخالفة أمر النبي عليه السلام مطلقا ومخالفة أمره هي ترك ما أمر به إذ المخالفة ضد الموافقة وموافقته إتيان بما أمر به فيكون مخالفته ترك ذلك, ولو لم يكن مخالفة أمره حراما مطلقا لما ألحق الوعيد به وإذا كان مخالفة أمره, وهي ترك المأمور به مطلقا حراما يكون الإتيان بالمأمور به واجبا ضرورة وإذا كان إتيان ما أمر به الرسول واجبا كان الإتيان بما أمر به الله تعالى كذلك بالطريق الأولى كذا في الميزان وغيره.
وفي التمسك بهذه الآية اعتراضات مع أجوبتها صفحنا عن ذكرها احترازا عن الإطناب "قوله", وكذلك دلالة الإجماع أي الإجماع في صورة أخرى يدل على ثبوت المطلوب ههنا, وهو أن العقلاء أجمعوا على أن من أراد أن يطلب فعلا من غيره لا يجد لفظا موضوعا لإظهار مقصوده سوى صيغ الأمر فهذا الإجماع يدل على أن المطلوب من الأمر وجود الفعل وأنه موضوع له, وإلا لم يستقم طلبهم الفعل من المأمور بهذه الصيغة فهذا هو المراد بدلالة الإجماع والدلالة تعمل عمل الصريح إذا لم يوجد صريح يخالفه فيثبت بها المدعي, ونظيره إثبات نجاسة سؤر الكلب بدلالة الإجماع, فإن الإجماع المنعقد على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب يدل على نجاسة سؤره; لأن لسانه يلاقي الماء دون الإناء فلما تنجس الإناء فالماء أولى., ولا يقال لا نسلم أنهم لم يجدوا لفظا(1/175)
يطلبه إلا بلفظ الأمر, والدليل المعقول أن تصاريف الأفعال وضعت لمعان على الخصوص كسائر العبارات فصار معنى المضي للماضي حقا لازما إلا بدليل
ـــــــ
لإظهار هذا المقصود سوى الأمر; لأن قولهم أوجبت عليك كذا أو ألزمت أو أطلب منك كذا وأمثالها يدل عليه أيضا ألا ترى أن النبي عليه السلام لو قال أوجبت عليكم كذا أو ألزمت كان ذلك بمنزلة قوله افعلوا كذا في وجوب الفعل بالاتفاق, لأنا نقول لا دلالة لما ذكرت على المطلوب من صيغ الأمر حقيقة; لأنه إخبار عن الإيجاب والطلب لا إنشاء وكلامنا فيه; ولهذا يجري فيه التصديق والتكذيب ولا مدخل لهما في الإنشاء إلا أنه قد يراد به الإنشاء, ويصير كناية عن الأمر فحينئذ يثبت به الإلزام بطريق الاقتضاء كما عرف وصار معناه أوجبت عليك كذا لأني أمرتك به, كسائر العبارات من الأسامي مثل رجل وفرس وحمار والحروف مثل من وعن وإلى وعلى, إلا بدليل كلحوق حرف الشرط به في قولك إن فعلت كذا فعبدي حر وكعدم إمكان إجرائه على حقيقته مثل الإخبار عن أمور القيامة بصيغة الماضي كقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الزمر: 71] {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر: 73], عبر بها عن الماضي لتحققه وكونه ثابتا لا محالة كأنه تحقق ومضى, وكذلك الحال أي كما أن معنى المضي للماضي لازم, فكذلك معنى الحال لصيغة المضارع لازم إلا بدليل, واحتمال أن يكون المضارع للاستقبال لا يخرجه عن موضوعه, وهو الحال وهذا على مذهب بعض النحاة وبعض الفقهاء فإنهم قالوا في قول الرجل كل مملوك أملكه فهو حر أنه يتناول ما هو في ملكه في الحال ولا يتناول ما سيملكه على ما عرف في شرح الجامع الصغير, فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمور به فيكون المأمور به حقا لازما بالأمر في أصل الوضع ليفيد الأمر فائدته., وقوله ألا ترى متصل بقوله حقا لازما, أو هو توضيح لما ثبت بهذه الدلائل;; لأن جميعها يدل على أن موجب الأمر هو الوجود إلا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} [النور: 63] فإنه يدل على أن موجبه الوجوب فاستوضح ذلك بقوله ألا ترى أن الأمر فعل متعد إلى آخره.
"فإن قيل" لا يستقيم أن يكون الائتمار أي الامتثال لازما للأمر; لأنه إن أراد به اللازم اللغوي فالائتمار ليس كذلك; لأنه متعد يقال ايتمر زيد عمرا واللازم إنما سمي لازما للزومه على الفاعل وعدم تعديه إلى الغير, وإن أراد به اللازم الحقيقي الذي ينتفي الملزوم بانتفائه فالائتمار ليس كذلك أيضا; لأن الأمر يتحقق بدون الامتثال ألا ترى أن الأمر قد يتحقق من الله تعالى للكفارة بالإيمان بدون الائتمار منهم ولهذا صح أن يقال أمرته فلم(1/176)
وكذلك الحال واحتمال أن يكون من الاستقبال لا يخرجه عن موضوعه, فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمور به فيكون حقا لازما به على أصل الوضع ألا ترى أن الأمر فعل متعد لازمه ائتمر, ولا وجود المتعدي إلا أن يثبت لازمه كالكسر لا يتحقق إلا بالانكسار فقضية الأمر لغة أن لا يثبت إلا بالامتثال إلا أن ذلك لو ثبت بالأمر نفسه لسقط الاختيار من المأمور أصلا
ـــــــ
يأتمر كما صح أن يقال أمرته فائتمر ولا يصح أن يقال كسرته فلم ينكسر "قلنا" أنا لا ننكر أن الائتمار متعد في ذاته ولكن ما هو متعد إلى مفعول واحد قد يكون لازما بالنسبة إلى ما هو متعد إلى مفعولين للزومه على الفاعل والمفعول الواحد وعدم تعديه إلى المفعول الآخر فيصلح أن يكون لازما أي مطاوعا لما هو متعد إلى مفعولين كما يقال علمته القرآن فتعلمه وأطعمته الطعام فطعمه وكسوته الثوب فاكتساه والأمر متعد إلى مفعولين إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بالباء يقال أمرت زيدا بكذا فيصلح أن يكون الائتمار لازما له, وأما قوله الائتمار ليس بلازم حقيقي له لتحقق الأمر بدونه فالجواب عنه ما ذكر في الكتاب. وهو أن الائتمار لازم الأمر في الأصل لما ذكرنا أن المقصود منه حصول الفعل كما أن الغرض من الكسر حصول الانكسار ولهذا يقال أمرته فائتمر كما يقال كسرته فانكسر فكما لا يتحقق الكسر بدون الانكسار فكذلك ينبغي أن لا يتحقق الأمر بدون الائتمار بالنظر إلى الأصل إلا أن الائتمار لو جعل لازم الأمر كما هو مقتضى الأصل حتى يثبت الائتمار بنفس الأمر لسقط الاختيار من المأمور أصلا وصار ملحقا بالجمادات وفيه نزوع إلى مذهب الجبر فلذلك نقل الشرع حكم الوجود, وهو كونه لازما للأمر عنه إلى الوجوب لكونه مفضيا إلى الوجود نظرا إلى العقل والديانة فصار الوجوب لازما للأمر بعدما كان الوجود لازما له. وقوله حقا أي ثابتا حال عن الوجوب, وقوله بالأمر متعلق بحقا قال الشيخ رحمه الله في نسخة أخرى فاجتمع ههنا ما يوجب الوجود عقيب الأمر وما يوجب التراخي; لأن اعتبار جانب الأمر يوجب الوجود عقيبه واعتبار كون المأمور مخاطبا مكلفا يوجب التراخي إلى حين إيجاده فاعتبرنا المعنيين وأثبتنا بالأمر آكد ما يكون من وجوه الطلب, وهو الوجوب خلفا عن الوجود وقلنا بتراخي حقيقة الوجود إلى اختياره وقال أبو اليسر: الائتمار من حكم الأمر كما أن الانكسار من حكم الكسر إلا أن حصوله بفعل مختار فيقتضي وجوب الفعل حتى يحصل الائتمار فإن الائتمار لا يحصل بدونه والدليل على أنه من حكم الأمر أن المأمور إذا لم يكن ذا اختيار في الائتمار يحصل الائتمار عقيب الأمر بلا واسطة كالانكسار عقيب الكسر قال الله تعالى لقوم موسى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وقد حصل الائتمار عقيب(1/177)
وللمأمور عندنا ضرب من الاختيار; وإن كان ضروريا فنقل حكم الوجود إلى الوجوب حقا لازما بالأمر لا يتوقف على اختيار المأمور توقف الوجود على اختيار المأمور صيانة واحترازا عن الجبر; فلذلك صار الأمر للإيجاب ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في النهي فيصير حكمهما واحدا, وهو باطل وما اعتبره
ـــــــ
الأمر وقد أنبأنا عن الائتمار عقيب الأمر في قوله عز ذكره: {كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وجعل القيام موجب الأمر فيما لا اختيار له في قوله عز اسمه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] فعرفنا أن الائتمار موجب الأمر كما أن الانكسار موجب الكسر.
قوله: "وللمأمور ضرب من الاختيار" إنما قال ذلك; لأن الاختيار المطلق الكامل لله تعالى واختيار العبد تابع لذلك قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] وقال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: في بيان الاعتقاد بالفارسية آن مختاري كه جملة مختاران باختيار خود جزان نكند كه أو خواهد ويجوز أن يكون هذا معنى قوله: وإن كان ضروريا يعني لما لم يسع للعبد أن يختار خلاف ما أراده الله تعالى منه كان مضطرا في ذلك الاختيار كالمكره على المشي إلى المقتل فإنه مختار في رفع الأقدام حقيقة, وفي حمله على هذا الوجه نفي مذهب الجبرية والقدرية جميعا فإن الفرقة الأولى نفت اختيار العبد أصلا والفرقة الثانية أثبتوه مطلقا حتى كان للعبد أن يختار خلاف ما أراد الله تعالى منه عندهم فأثبت الشيخ أمرا بين أمرين كما هو دأب أهل السنة في ترك الغلو والتقصير, ويجوز أن يكون معناه أن العبد مضطر في ثبوت هذه الصفة له كما هو مضطر في كونه عاقلا وجاهلا وأبيض وأسود وطويلا وقصيرا; لأنه ليس في وسعه إثبات هذه الصفة ولا نفيها كما ليس في وسعه إثبات تلك الصفات ولا نفيها, ولما فرغ عن إقامة الدليل على مدعاه وإلى الفراغ أشار بقوله والله أعلم شرع في الجواب عن شبهة الواقفية, فقال ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في حكم النهي لوجود الداعي إليه على ما زعمتم, وهو استعماله في معان مختلفة, مثل التحريم كقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران: 130] والكراهة كالنهي عن الصلاة في أرض مغصوبة وعن الصلاة في ثوب واحد, والتنزيه كقوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] والتحقير كقوله تعالى {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] وبيان العاقبة كقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66] والإرشاد كقوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] والشفقة كالنهي عن اتخاذ الدواب كراسي والمشي في نعل(1/178)
الواقفية من الاحتمال يبطل الحقائق كلها, وذلك محال ألا ترى أنا لم ندع أنه محكم وإذا أريد بالأمر الإباحة أو الندب فقد زعم بعضهم أنه حقيقة وقال الكرخي: والجصاص: بل هو مجاز; لأن اسم
ـــــــ
واحد وحينئذ يصير حكمهما واحدا وهو باطل; لأنهما ضدان بإجماع أهل اللسان ويستحيل أن يكون الأثر الثابت بالضدين شيئا واحدا.
قوله: "يبطل الحقائق كلها"; لأنه ما من كلام إلا وفيه احتمال قريب أو بعيد من نسخ أو خصوص أو مجاز فلو أوجب مجرد الاحتمال التوقف لتعطلت النصوص وأحكام الشرع وذلك باطل قوله: "ألا ترى أنا لم ندع أنه محكم" أي نحن ما أنكرنا احتمال صيغة الأمر غير ما وضع له من الوجوب حيث لم نقل إنه محكم ولكنا أنكرنا ثبوت المحتمل عند عدم الدليل كما حققناه في أول باب الخصوص.
قوله: "وإذا أريد بالأمر الإباحة والندب" إلى قوله, وهذا أصح, جمع الشيخ بين الإباحة والندب وبين الخلاف فيهما على نمط واحد ونحن نبين كل فصل على حدة فنقول اختلف القائلون بأن الأمر للوجوب في أنه إذا أريد به الندب كان حقيقة فيه أو مجازا فذهب عامة أصحابنا وجمهور الفقهاء إلى أنه مجاز فيه, وهو اختيار الشيخ أبي الحسن الكرخي وأبي بكر الجصاص وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام أبي اليسر والمحققين من أصحاب الشافعي., قال أبو اليسر: قال أبو حنيفة وأصحابه وعامة الفقهاء إن الأمر إذا أريد به الندب فهو مجاز فيه, وذهب بعض أصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث إلى أنه حقيقة فيه وإليه مال الشيخ, وشبهتهم أن المندوب بعض الواجب; لأن الواجب هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والندب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه, فإذا أريد به الندب فقد أريد به بعض ما يشتمل عليه الوجوب فكان حقيقة فيه كما لو أريد من العام بعضه يكون حقيقة فيه وكما لو أطلق لفظ الإنسان على الأعمى والأشل ومقطوع الرجل يكون حقيقة; وإن فات بعضه, وكيف لا ومن شرط المجاز أن يكون المعنى المجازي مغايرا للمعنى الحقيقي وهذا هو عين المعنى الحقيقي; لأنه جزؤه إلا أنه قاصر فكيف يكون اللفظ فيه مجازا; ولأن من شرط ثبوت المجاز انتفاء الحقيقة بالكلية فما بقي شيء من الحقيقة لا يتحقق الشرط فلا يتحقق المجاز.
وحجة الجمهور أن الأمر حقيقة في الإيجاب, فإذا استعمل في غيره يكون مجازا كما لو استعمل في التهديد, والدليل على أن الندب غير الإيجاب أن من لوازم الإيجاب استحقاق العقوبة على الترك ومن لوازم الندب عدم استحقاقها على الترك وباشتراكهما في استحقاق الثواب لا ينتفي هذه الغيرية فثبت أنه مجاز فيه ألا ترى أنه يصح نفيه فإنه لو قال ما أمرت بصلاة الضحى ولا بصوم أيام الحيض يصح ولا يكذب بخلاف ما لو قال ما(1/179)
الحقيقة لا يتردد بين النفي والإثبات فلما جاز أن يقال إني غير مأمور بالنفل دل أنه مجاز لأنه جاز أصله وتعداه
ـــــــ
أمرت بالصلوات الخمس ولا بصيام رمضان فإنه يكذب بل يكفر وصحة التكذيب والنفي من خواص المجاز.
وليس هذا كالعام إذا أريد به بعضه فإنه حقيقة فيه; لأنه موضوع لشمول جمع من المسميات لا لاستغراقها عندنا والشمول موجود في البعض والكل حتى إن من شرط الاستغراق فيه يقول إنه مجاز في البعض أيضا., وكذا لفظ الإنسان موضوع بإزاء معنى الإنسانية وبالعمى والشلل لا ينتقض ذلك المعنى بخلاف الأمر فإنه موضوع للطلب المانع من النقيض والندب مغاير له لا محالة, ولا نسلم أن من شرط المجاز انتفاء الحقيقة بالكلية بل الشرط انتفاء الكلية وذلك يحصل بانتفاء جزء منها كما يحصل بانتفاء كلها, يوضحه أن أهل اللسان اتفقوا على أن إطلاق اسم الكل على البعض من جهات المجاز ولو كان الانتفاء بالكلية شرطا لما صح هذا القول منهم. وأما إذا أريد به الإباحة فقد ذكر عبد القاهر البغدادي1 في أصوله أن المباح غير مأمور به عند جمهور الأمة سوى طائفة من المعتزلة البغدادية وهذا قول شاذ خارج عن الإجماع وذكر أبو اليسر وصاحب الميزان أنه إذا أريد به الإباحة فهو مجاز فيه بالإجماع; لأن الأمر طلب تحصيل المأمور به وليس في الإباحة طلب بل معناه التخيير بين الشيئين إن شاء فعل; وإن شاء لم يفعل فلم يكن أمرا بل كان إرشادا فكان مجازا فيه بالإجماع بخلاف ما إذا أريد به الندب فإن فيه طلب تحصيل المندوب إليه.
والحاصل أن الحكم بأنه حقيقة في الإباحة مع القول بأنه حقيقة في الوجوب لا يصح إلا بأن يجعل مشتركا بين الإيجاب والندب والإباحة بالاشتراك اللفظي أو بالمعنوي, وهو أن يجعل موضوعا للإذن المشترك بين الثلاثة كما هو مذهب بعض الشيعة, وكذا القول بأنه حقيقة في الندب مع كونه حقيقة في الوجوب لا يمكن إلا بأن يجعل مشتركا بينهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي بأن يجعل موضوعا لمطلق الطلب كما هو مذهب بعض أصحابنا من مشايخ سمرقند ومذهب بعض أصحاب الشافعي فأما من جعله خاصا في الوجوب عينا فلا يمكنه القول بأنه حقيقة في غيره إليه أشير في الميزان.
وإذا حققت ما ذكرنا عرفت أن الخلاف فيهما ليس على نمط واحد كما أشار إليه
ـــــــ
1 هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي البغدادي الشافعي أبو منصور الفقيه المتكلم الأشعري توفي سنة 429 هـ انظر وفيات الأعيان 1/375.(1/180)
ووجه القول الآخر أن معنى الإباحة أو الندب من الوجوب بعضه في التقدير كأنه قاصر لا مغاير; لأن الوجوب ينتظمه وهذا أصح.
ويتصل بهذا الأصل أن الأمر بعد الحظر لا يتعلق بالندب والإباحة
ـــــــ
الشيخ في قوله وزعم بعضهم, وعرفت أيضا أن قوله وهذا أصح مخالف لقول العامة بل للإجماع على ما ذكره أبو اليسر ووجهه ما ذكر في بعض الشروح أن الندب والإباحة ليسا بمغايرين للوجوب; لأن الغيرين موجودان جاز وجود أحدهما بدون الآخر على ما عرف في مسألة الصفات والوجوب لا يتصور بدون الإباحة والندب فلم يكونا مغايرين للوجوب; فلهذا كان الأمر حقيقة فيهما وظهر مما ذكرنا أنه لم يتجاوز عن موضوعه فكيف يسمى مجازا, ولكن لقائل أن يقول قد بينا أن معنى الندب الثواب على الفعل وعدم العقاب على الترك ومعنى الإباحة التخيير بين الفعل والترك والوجوب يتصور بدون هذين المعنيين بل لا يثبت معهما كما يتصور الندب والإباحة بدون الوجوب فكان مغايرا لهما ألبتة فيكون مجازا فيهما.
وقوله زعم معناه قال لكن من عادة العرب أن من قال كلاما, وكان عندهم كاذبا فيه قالوا زعم فلان وإذا كان صادقا عندهم قالوا قال فلان ومنه قيل زعم كنية الكذب, وفي التحقيق الزعم ادعاء العلم بالشيء ولا علم ومنه قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] وقوله عليه السلام: "بئس مطية الرجل زعموا" 1.
ـــــــ
1 اخرجه أبو داود في الأدب حديث رقم 4972 والإمام أحمد في المسند 4/119 والبخاري في الأدب المفرد حديث رقم 762.(1/181)
"الأمر بعد الخطر"
قوله: "ويتصل بهذا الأصل" أي بالأمر إذ هو أصل عظيم من أصول الفقه, واعلم أن جمهور الأصوليين على أن موجب الأمر المطلق قبل الحظر وبعده سواء فمن قال بأن موجبه التوقف أو الندب أو الإباحة قبل الحظر فكذلك يقول بعده, ومن قال بأن موجبه الوجوب قبل الحظر فعامتهم على أن موجبه الوجوب بعد الحظر أيضا, وذهبت طائفة من أصحاب الشافعي إلى أن موجبه قبل الحظر الوجوب وبعده الإباحة وعليه دل ظاهر قول الشافعي في أحكام القرآن كذا ذكره صاحب القواطع, هذا هو المشهور المذكور في عامة الكتب, ورأيت في نسخة من أصول الفقه أن الفعل إن كان مباحا في أصله ثم ورد حظر معلق بغاية(1/181)
لا محلة بل هو للإيجاب عندنا إلا بدليل استدلالا بأصله وصيغته ومنهم من قال بالندب والإباحة لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
ـــــــ
أو بشرط أو لعلة عرضت فالأمر الوارد بعد زوال ما علق الحظر به يفيد الإباحة عند جمهور أهل العلم كقوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]; لأن الصيد كان حلالا على الإطلاق ثم حرم بسبب الإحرام فكان قوله تعالى: {فَاصْطَادُوا} إعلاما بأن سبب التحريم قد ارتفع وعاد الأمر إلى أصله; وإن كان الحظر واردا ابتداء غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط ولا غاية فالأمر الوارد بعده هو المختلف فيه., وذكر في المعتمد الأمر إذا ورد بعد حظر عقلي أو شرعي أفاد ما يفيد لو لم يتقدمه حظر من وجوب أو ندب وقال بعض الفقهاء إنه يفيد بعد الحظر الشرعي الإباحة وهذا الكلام يشير إلى أنه لا خلاف في الحظر العقلي أنه لا يدل على أن الأمر للإباحة مثل الأمر بالقتل والذبح.
احتج من قال بأنه يفيد الإباحة بأن هذا النوع من الأمر للإباحة في أغلب الاستعمال كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] وقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ألا فانتبذوا" 1 وكقول الرجل لعبده ادخل الدار بعدما قال له لا تدخل الدار, فإنه يفهم منه الإباحة دون الوجوب, وهذا; لأن الحظر المتقدم قرينة دالة على أن المقصود رفع الحظر لا الإيجاب كما أن عجز المأمور قرينة دالة على أن المقصود ظهور عجزه لا وجود الفعل فصار كأن الآمر قال قد كنت منعتك عن كذا فرفعت ذلك المنع وأذنت لك فيه.
واحتج العامة بأن المقتضي للوجوب قائم, وهو الصيغة الدالة على الوجوب إذ الوجوب هو الأصل فيها والعارض الموجود لا يصلح معارضا لذلك; لأنه كما جاز الانتقال من المنع إلى الإذن جاز الانتقال منه إلى الإيجاب والعلم به ضروري, كيف وقد ورد الأمر بعد الحظر للوجوب أيضا كقوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وقوله عز اسمه: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53] وكالأمر للحائض والنفساء بالصلاة والصوم بعد زوال الحيض والنفاس. وكالأمر بالصلاة بعد زوال السكر, وكالأمر بالقتل في شخص حرام القتل بالإسلام أو الذمة بارتكاب أسباب موجبة للقتل من الحراب والردة وقطع الطريق, وكالأمر بالحدود بسبب الجنايات بعدما كان ذلك
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأشربة حديث رقم 63 و64 و65 وابن ماجه في الأشربة حديث رقم 3450 والترمذي في الأشربة حديث رقم 1869.(1/182)
[المائدة: 2] لكن ذلك عندنا بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ارتدها لا بصيغته ابن سيرين نسخة ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب.
ـــــــ
محظورا, وكقول الرجل لعبده اسقني بعدما قال له لا تسقني فهذا كله يفيد الوجوب; وإن كان بعد الحظر فثبت بما ذكرنا أن الحظر المتقدم لا يصلح قرينة لصرف الصيغة عن الوجوب إلى الإباحة كما أن الإيجاب المتقدم لا يصلح قرينة لصرف النهي الوارد بعده عن التحريم إلى الكراهة أو التنزيه بالاتفاق; وإنما فهم الإباحة فيما ذكروا من النظائر بقرائن غير الحظر المتقدم, فإنه لولا الحظر المتقدم لفهم منها الإباحة أيضا, وهي أن الاصطياد وأخواتها شرعت حقا للعبد, فلو وجبت عليه لصارت حقا عليه فيعود الأمر على موضوعه بالنقض; ولهذا لم يحمل الأمر بالكتابة عند المداينة ولا الأمر بالإشهاد عند المبايعة على الإيجاب; وإن لم يتقدمه حظر لئلا يصير حقا علينا بعدما شرع حقا لنا.
قوله: "ومنهم من قال بالندب والإباحة" إنما جمع الشيخ بين الندب والإباحة; وإن لم يوجد القول بالندب في عامة الكتب; وإنما المذكور فيها الإباحة فقط; لأنه قد قيل في قوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] إنه أمر ندب حتى قيل يستحب القعود في هذه الساعة لندب الله تعالى إلى ذلك وقال سعيد بن جبير إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشيء.; وإن لم تشتره, وعن ابن سيرين قال إنه ليعجبني أن يكون لي حاجة يوم الجمعة فأقضيها بعد الانصراف كذا في التيسير, وذكر شمس الأئمة رحمه الله في شرح كتاب الكسب أنه أمر إيجاب فقال أصل الكسب فريضة بقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] يعني الكسب والأمر حقيقة في الوجوب, قال وما ذكرنا من التفسير مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "طلب الكسب بعد الصلاة هو الفريضة بعد الفريضة وتلا قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 1 [الجمعة: 10]" الآية وما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن شئت فاخرج; وإن شئت فصل إلى العصر وإن شئت فاقعد يدل على أنه أمر إباحة.
قوله: "ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب" أي ومما يتعلق بالخاص الاختلاف في موجب الأمر في معنى التكرار قد يثبت بما ذكر في البابين أن الصيغة مخصوصة بالوجوب, وأن الوجوب مختص بهذه الصيغة ولا يثبت بغيرها فبعد ذلك اختلفوا في أن ذلك الوجوب المختص بالصيغة يوجب العموم والتكرار أم يوجب فعلا واحدا خاصا حقيقة أو حكما وهذا الباب لبيانه.
ـــــــ
1 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/291 والطبراني في الكبير 10/9993.(1/183)
"باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار"
قال بعضهم: صيغة الأمر توجب العموم والتكرار وقال بعضهم: لا بل تحتمله, وهو قول الشافعي وقال بعض مشايخنا: لا توجبه ولا تحتمله إلا أن يكون معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف وقال عامة: مشايخنا لا توجبه ولا
ـــــــ
"باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار"
قيل في الفرق بين العموم والتكرار أن العموم هو أن يوجب اللفظ ما يحتمله من الأفعال مرة واحدة; لأن العموم هو الشمول وأدناه أن يكون الأفعال ثلاثة والتكرار أن يوجب فعلا ثم آخر ثم آخر فصاعدا وأدناه أن يكون في فعلين, وبيانه في قوله: "طلق" العموم فيه أن يطلقها ثلاث تطليقات جملة والتكرار أن يطلقها واحدة بعد واحدة., والظاهر أن المراد منهما الدوام وأنهما مترادفان ههنا; لأن العموم لا يتصور في الفعل المأمور به إلا بطريق التكرار; ولهذا لم يوجد في سائر الكتب إلا لفظة الدوام أو التكرار, ذكر في الميزان أن استعمال لفظ التكرار ههنا لا يراد به حقيقته; لأنه عود عن الفعل الأول, وهو لا يتحقق عند أكثر المتكلمين; وإنما يراد به تجدد أمثاله على الترادف وهو معنى الدوام في الأفعال, وفي القواطع التكرار أن يفعل فعلا وبعد فراغه منه يعود إليه, واعلم أن القائلين بالوجوب في الأمر المطلق اختلفوا في إفادته التكرار, فقال بعضهم: إنه يوجب التكرار المستوعب لجميع العمر إلا إذا قام دليل يمنع منه ويحكى هذا عن المزني, وهو اختيار أبي إسحاق الإسفراييني1 من أصحاب الشافعي وعبد القاهر البغدادي من أصحاب الحديث وغيرهم.
وقال بعض أصحاب الشافعي إنه لا يوجب التكرار ولكن يحتمله ويروى هذا عن الشافعي رحمه الله, والفرق بين الموجب والمحتمل أن الموجب يثبت من غير قرينة والمحتمل لا يثبت بدونها وقال بعض مشايخنا الأمر المطلق لا يوجب التكرار ولا
ـــــــ
1 هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني أبو إسحاق ركن الدين الأصولي والفقيه والمتكلم الشافعي توفي سنة 418 هـ انظر شذرات الذهب 3/209 – 210.(1/184)
تحتمله بكل حال غير أن الأمر بالفعل يقع على أقل جنسه ويحتمله كله بدليله مثال هذا الأصل رجل قال لامرأته طلقي نفسك أو قال ذلك لأجنبي فإن ذلك واقع على الثلاث عند بعضهم وعند الشافعي يحتمل الثلاث والمثنى وعندنا
ـــــــ
يحتمله لكن المعلق بشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أو المقيد بوصف كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] يتكرر بتكرره, وهو قول بعض أصحاب الشافعي ممن قال إنه لا يوجب التكرار ولكن يحتمله وهذا القول يستقيم على أصلهم; لأن الأمر لما احتمل التكرار عندهم كان تعليقه بالشرط أو الوصف قرينة دالة على ثبوت ذلك المحتمل, فأما من قال إنه لا يحتمل التكرار في ذاته فهذا القول منه غير مستقيم; لأنه لا أثر للتعليق والتقييد في إثبات ما لا يحتمله اللفظ ولهذا لم يذكر القاضي الإمام في التقويم لفظ ولا يحتمله; وإنما قال وقال بعضهم المطلق لا يقتضي تكرارا ولكن المعلق بشرط أو وصف يتكرر بتكرره.
وقال شمس الأئمة أيضا والصحيح عندي أن هذا ليس بمذهب علمائنا رحمهم الله هكذا قيل ولقائل أن يقول ليس بمستبعد أن الأمر المطلق لا يكون محتملا للتكرار والمقيد بالشرط يحتمله أو يوجبه; لأن المقيد عين المطلق فلا يلزم من عدم احتمال المطلق التكرار عدم احتمال المقيد إياه والمذهب الصحيح عندنا أنه لا يوجب التكرار ولا يحتمله سواء كان مطلقا أو معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف إلا أن الأمر بالفعل يقع على أقل جنسه, وهو أدنى ما يعد به ممتثلا ويحتمل كل الجنس بدليله, وهو النية, وهو قول بعض المحققين من أصحاب الشافعي.
قال أبو اليسر الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار ولا يحتمله معلقا كان أو مطلقا, وهو قول مالك والشافعي وعامة الفقهاء, وحاصل هذا القول أن العموم ليس بموجب للأمر ولا بمحتمل له ولكنه يثبت في ضمن موجبه بدليل يدل عليه.
قوله: "أو قال ذلك لأجنبي" أي قال لأجنبي طلق امرأتي; وإنما جمع بينهما ليشير إلى أنهما سواء في هذا الحكم; وإن كان أحدهما تمليكا وتفويضا حتى اقتصر على المجلس وامتنع الرجوع عنه والثاني توكيل محض حتى لا يقتصر على المجلس ويملك الرجوع ويملك الرجوع عنه.
قوله: "واقع على الثلاث عند بعضهم" وهم الفريق الأول; لأن الأمر بالفعل يوجب التكرار والعموم عندهم فتملك هي أو هو أن يطلق نفسها واحدة وثنتين وثلاثا جملة أو(1/185)
يقع على الواحدة إلا أن ينوي الكل وجه القول الأول أن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر الذي هو اسم لجنس الفعل والمختصر من الكلام والمطول سواء
ـــــــ
على التفاريق كذا ذكره أبو اليسر وهذا إذا لم ينو الزوج شيئا أو نوى ثلاثا فأما إذا نوى واحدة أو ثنتين فينبغي أن يقتصر على ما نوى عندهم; لأنه وإن أوجب التكرار عندهم إلا أنه قد يمتنع عنه بدليل والنية دليل, وعند الشافعي, ومن وافقه يقع على الواحدة; وإن نوى ثنتين أو ثلاثا فهو على ما نوى, وعندنا يقع على الواحدة إن لم ينو شيئا أو نوى واحدة أو ثنتين وإن نوى ثلاثا فعلى ما نوى; فإن طلقت نفسها ثلاثا وقعن جميعا; وإن طلقت نفسها واحدة فلها أن تطلق ثانية وثالثة في المجلس, وكذا الوكيل إذا طلقها واحدة له أن يطلقها ثانية وثالثة في المجلس وبعده ما لم ينعزل إليه أشير في المبسوط.
قوله: "لفظ الآمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر" الباء يتعلق بالطلب, واللام في المصدر بدل المضاف إليه, وهو الآمر أو الضمير الراجع إليه, والذي صفة المصدر أي لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بمصدر ذلك الأمر; فإن اضرب مختصر من قولك أطلب منك الضرب وانصر مختصر من قولك أطلب منك النصر كما أن ضرب مختصر من قوله فعل الضرب في الزمان الماضي والمختصر من الكلام والمطول في إفادة المعنى سواء, فإن قولك هذا جوهر مضيء محرق وقولك هذا نار سواء وقولك هذا شراب مسكر معتصر من العنب, وقد غلى واشتد مع قولك هذا خمر سواء فيكون قوله: اضرب وأطلب منك الضرب سواء.
واسم الفعل, وهو المصدر الذي دل عليه الأمر اسم عام لجنس الفعل أي شامل لجميع أفراده لوجود حرف الاستغراق, وفي بعض النسخ اسم عام لجنسه أي اسم موضوع لجنس الفعل لا لفعل واحد والأصل في الجنس العموم فوجب القول بعمومه; لأن القول بالعموم فيما أمكن القول به واجب كما في سائر ألفاظ العموم.
واعتبروا الأمر بالنهي فقالوا النهي في طلب الكف عن الفعل مثل الأمر في طلب الفعل وأنه يوجب الدوام حتى لو ترك الفعل مرة ثم فعله يكون تاركا للنهي, فكذلك الأمر يوجبه حتى لو فعل المأمور به مرة ثم لم يفعله يكون تاركا للأمر; ولأنه لو اقتضى الفعل مرة وجب أن لا يجوز عليه النسخ. ولا يصح الاستثناء منه; لأن النسخ يؤدي إلى البداء إذ الفعل الواحد لا يكون حسنا وقبيحا في زمان واحد والاستثناء يؤدي إلى استثناء الكل من الكل وكلاهما فاسد, واحتج الفريق الثاني بما ذكرنا أن الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر فيقتضي المصدر غير أن الثابت به مصدر نكرة; لأن ثبوته بطريق الاقتضاء(1/186)
واسم الفعل اسم عام لجنسه فوجب العمل بعمومه كسائر ألفاظ العموم ووجه قول الشافعي هو ما ذكرنا غير أن المصدر اسم نكرة في موضع الإثبات
ـــــــ
للحاجة إلى تصحيح الكلام وبالمنكر يحصل هذا المقصود فلا حاجة إلى إثبات الألف واللام فيه; لأنه ليس في صيغة الأمر ما يدل على الألف واللام والنكرة في الإثبات تخص ولكنها تقبل العموم بدليل يقترن بها; لأنها اسم جنس, وهو يقبل العموم ألا ترى إلى قوله تعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:14] وصف الثبور بالكثرة ولو لم يحتمل اللفظ العموم لما صح وصف الثبور بها, وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الأمر والنهي; لأن المصدر في النهي نكرة في موضع النفي فيعم ضرورة لما عرف فأما ههنا فهي في موضع الإثبات فتخص إلا إذا قام دليل على خلافه, فأما صحة النسخ والاستثناء; فلأن ورودهما عليه قرينة دالة على أنه أريد به العموم كما أن الاستثناء في قولك ما رأيت اليوم إلا زيدا دليل على أن المستثنى منه إنسان واستدلوا بحديث الأقرع بن حابس, وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا, فقال الأقرع بن حابس: أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" فسؤاله, وهو من فصحاء العرب وقول النبي عليه السلام: "ولو قلت نعم لوجبت" دليل واضح على أن الأمر يحتمل التكرار, وقول الشيخ ألا ترى إلى قول الأقرع متصل بقوله على احتمال العموم ولو كان مع الواو لكان أحسن. وتمسك الفريق الثالث بالنصوص الواردة في القرآن مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] فإنه يتكرر بتكرر الدلوك لتقيده به وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فإنه يتكرر بتكرر الجنابة لتعلقه به والسنة مثل قوله عليه السلام: "أدوا عمن تمونون" وقوله: "في خمس من الإبل السائمة شاة" 1 إذ معناه أدوا عن خمس من الإبل السائمة شاة, وبأن الشرط كالعلة فإنه إذا وجد الشرط وجد المشروط مثل ما إذا وجدت العلة وجد المعلول بل أقوى منها الانتفاء المشروط بانتفاء الشرط عند البعض بخلاف العلة; لأن المعلول لا ينتفي بانتفاء العلة بالاتفاق ثم لا خلاف أن الأمر المتعلق بالعلة يتكرر بتكررها, فكذا المتعلق بالشرط, واحتج من ادعى التكرار وهم الفريق الأول لا كما زعم بعضهم أن هؤلاء فريق آخر غير الأولين الذين قالوا بالعموم بحديث الأقرع, والاحتجاج بطريقين. أحدهما أن الأمر لو كان موجبه المرة ولم
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1568 والترمذي في الزكاة حديث رقم 621 وابن ماجة في الزكاة حديث رقم 1798 والإمام أحمد في المسند 2/15.(1/187)
فأوجب الخصوص على احتمال العموم ألا ترى أن نية الثلاث صحيحة, وهو عدد لا محالة, فكذلك المثنى ألا ترى إلى قول الأقرع بن حابس في السؤال عن الحج ألعامنا هذا أو للأبد ووجه القول الثالث الاستدلال بالنصوص الواردة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } [المائدة: 6] أو احتج من ادعى التكرار بحديث الأقرع بن حابس1 حين قال في الحج ألعامنا هذا يا رسول الله أم للأبد فقال
ـــــــ
يقتض التكرار لغة لما أشكل عليه ولم يبق لسؤاله معنى كما لو قال حجوا مرة واحدة ولما أشكل عليه علم أن المرة ليست بمقتضاه فيلزم أن يكون مقتضاه التكرار ضرورة اتفاقنا على أن مقتضاه أحدهما, ولا يعارض بأنه لو كان موجبه التكرار لما أشكل عليه أيضا كما لو قال حجوا كل عام; لأنه قد عرف أن موجب الأمر التكرار ولكنه قد علم من قواعد الدين أن الحرج فيه منفي, وفي حمله على موجبه حرج عظيم فأشكل عليه; فلذلك سأل ألا ترى أن النبي عليه السلام لما عرف وجه إشكاله كيف أشار في قوله: "ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" , إلى انتفاء التكرار لضرورة لزوم الحرج, وإلا كان موجبه التكرار.
والثاني ما ذكر في التقويم وإليه أشار المصنف أن الأمر لو لم يحتمل الوجهين لما أشكل عليه; لأن موجب اللفظ إذا كان واحدا لا يشتبه على السامع إذا كان من أهل اللسان, ولما احتملهما والتكرار من المرة يجري مجرى العموم من الخصوص وجب القول بالعموم حتى يقوم دليل الخصوص.
قوله: "ولنا أن لفظ الأمر أي سلمنا أن صيغة الأمر اختصرت لمعناها من طلب الفعل" ولكن لفظ الفعل الذي دلت عليه الصيغة فرد سواء قدرته معرفا كما قال الفريق الأول أو منكرا كما قال الفريق الثاني, وإليه أشار بقوله تطليقا أو التطليق وبين الفرد والعدد تناف; لأن الفرد ما لا ثلث فيه والعدد ما تركب من الأفراد والتركب وعدمه متنافيان فكما لا يحتمل العدد معنى الفرد مع أن الفرد موجود في العدد, فكذلك لا يحتمل الفرد معنى العدد مع أنه ليس بموجود فيه أصلا فثبت أنه لا دلالة لهذا اللفظ على عدد من الأفعال كالضرب لا يدل على خمس ضربات أو عشر ضربات ولا يحتمل ذلك بل دلالته على مطلق الضرب الذي هو معنى واحد.
وقوله مثل قول الرجل متصل بمجموع قوله لفظ الأمر صيغة اختصرت إلى قوله
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الحج حديث رقم 1721 وابن ماجه في المناسك حديث رقم 3866 والإمام أحمد في المسند 1/255 و372 والنسائي في الحج 5/111.(1/188)
عليه السلام: "بل للأبد" فلو لم يحتمل اللفظ لما أشكل عليه ولنا أن لفظ الأمر صيغة اختصرت لمعناها من طلب الفعل لكن لفظ الفعل فرد, وكذلك سائر الأسماء المفردة والمصادر مثل قول الرجل طلقي أي أوقعي طلاقا أو افعلي تطليقا أو التطليق وهما اسمان فردان ليسا بصيغتي جمع ولا عدد وبين الفرد والعدد تناف وكما لا يحتمل العدد معنى الفرد لم يحتمل الفرد معنى العدد أيضا, وكذلك الأمر بسائر الأفعال كقولك اضرب أي اكتسب ضربا أو الضرب, وهو فرد بمنزلة زيد وعمرو وبكر فلا يحتمل العدد إلا أنه اسم جنس له كل وبعض فالبعض منه الذي هو أقله فرد حقيقة وحكما.
وأما الطلقات الثلاث فليست بفرد حقيقة بل هي أجزاء متعددة, ولكنها فرد حكما; لأنها جنس واحد فصارت من طريق الجنس واحد ألا ترى أنك إذا
ـــــــ
فرد, وقوله, وكذلك أي وكلفظ الفعل الذي اقتضاه الأمر سائر أسماء المفرد أي جميع أسماء الأجناس التي صيغتها صيغة فرد, والمصادر أي سائر المصادر التي تقتضيها الأفعال مثل الماضي والمضارع فرد معترض, والغرض من إيراده أن يبين حكم سائر أسماء الأجناس أنها لا يحتمل العدد كما لا يحتمل الأمر التكرار, وأن يمنع كون اسم الجنس عاما أو قابلا للعموم على ما زعمه الخصوم; ولهذا قال وهما أي تطليقا والتطليق اسمان مفردان ليسا بصيغتي جمع ولا عدد قوله: "وكذلك الأمر" عطف على النظير أي ومثل قول الرجل طلقي الأمر بسائر الأفعال في أن الثابت به لفظ فرد لا اسم عدد, والمقصود منه أن يبين أن كون المصدر المنكر أو المعرف الثابت بالأمر فردا ليس مختصا بقوله طلقي بل هو مستمر في جميع الأوامر. قوله: "إلا أنه أي المصدر الثابت بالأمر اسم جنس" جواب عما يقال أنه لما كان فردا غير محتمل للعدد ينبغي أن لا يصح في قوله طلقي نية الثلاث; لأنه عدد بلا شبهة كما لا يصح نية الثنتين عندكم, فأجاب عنه بأنه مع كونه فردا اسم جنس وأنه يقع على الأدنى للتيقن بفرديته ويحتمل كله باعتبار معنى الفردية فيه لا باعتبار كونه متعددا فإنك إذا عددت الأجناس وقلت أجناس التصرفات المشروعة النكاح والطلاق والعتاق والبيع والإجارة, وكذا وكذا. كان هذا أي الطلاق مع جميع أجزائه واحدا منها, ألا ترى أنه يصح وصفه بالوحدة فيقال الطلاق جنس واحد من التصرفات كما يصح أن يقال الحيوان جنس واحد من الموجودات ولا يقدح كونه ذا أجزاء في الخارج في توحده من حيث الجنس; لأن ذلك باعتبار المعنى الذهني ولا تعدد فيه, فلما كان فردا من حيث المعنى صح أن يكون محتمل اللفظ.(1/189)
عددت الأجناس كان هذا بأجزائه واحدا. فكان واحدا من حيث هو جنس, وله أبعاض كالإنسان فرد من حيث هو آدمي, ولكنه ذو أجزاء متعددة فصار هذا الاسم الفرد واقعا على الكل بصفة أنه واحد لكن الأقل فرد حقيقة وحكما من كل وجه فكان أولى بالاسم الفرد عند إطلاقه والآخر محتملا فأما بين الأقل والكل فعدد محض ليس بفرد حقيقة ولا حكما ولا صورة ولا معنى فلم يحتمله
ـــــــ
فأما ما بين الكل والأقل, فليس بفرد بوجه فلا يكون محتمل اللفظ ألبتة; فلهذا لا تعمل فيه النية; لأن النية لتعيين محتمل اللفظ لا لإثبات ما لا يحتمله, وقوله كالإنسان فرد آخره يحتمل معنيين, أحدهما أنه فرد من حيث هو جنس; وإن كان ذا أجزاء أي أفراد في الخارج كزيد وعمرو, فكذا الطلاق ووجه التشبيه ظاهر.
والثاني أن الإنسان الذي هو في الخارج واحد كزيد مثلا فرد حقيقة من حيث هو آدمي; وإن كان ذا أجزاء في نفسه أي أطراف وأعضاء كالرأس واليد والرجل, فكذا الطلاق واحد من حيث إنه جنس; وإن كان ذا أجزاء ثلث, فصار هذا الاسم الفرد أي الطلاق أو اسم الجنس.
وقوله ولا صورة ولا معنى تأكيد لقوله ليس بفرد حقيقة ولا حكما ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله ولا تعمل نية الثنتين أصلا; لأنه ليس فيه معنى الفردية صورة ولا معنى فلم يكن من محتملات الكلام أصلا, ويجوز أن يكون قوله حقيقة ولا حكما احترازا عما ذكر من الأقل والكل وقوله ولا صورة ولا معنى احترازا عما سنذكر, وهو أن يكون فردا صيغة أو دلالة أي ما بين الكل والأقل ليس بفرد حقيقة كالأقل إذ هو متعدد, ولا حكما كالكل إذ هو دونه, ولا صورة أي صيغة كماء أو الماء في قوله لا أشرب ماء أو الماء, وهو ظاهر. ولا معنى كالنساء في قوله لا أتزوج النساء; لأنه صار عبارة عن الجنس باعتبار اللام, وهو ليس كذلك.
"فإن قيل كيف يقال إنه لا يحتمل العدد, ولو قرن به على سبيل التفسير لاستقام" كقول الرجل لآخر طلق امرأتي مرتين أو ثلاث مرات وكانت المرة نصبا على التفسير, ولو لم يحتمله لما صح ذلك, وكذلك تقول صم أبدا أو أياما كثيرة قلنا هذا القران لم يصح لغة على سبيل التفسير للمحتمل ولكن على سبيل التغيير إلى معنى آخر ما كان يحتمله مطلقه بل يحتمل التغيير إليه كما يصح قران الشرط بالطلاق والاستثناء بالجملة على سبيل تغيير موجبه إلى وجه آخر لا على سبيل بيان موجب المطلق منه فإن قول القائل أنت طالق ثلاثا لا يحتمل التأخر ولا ثنتين ولو قال إلى شهر أو إلا واحدة تأخر إلى شهر ولم يقع إلا اثنتان.(1/190)
............................................................................................
ولهذا قالوا إذا قرن بالصيغة ذكر العدد في الإيقاع يكون الوقوع بلفظ العدد لا بأصل الصيغة حتى لو قال لامرأته: طلقتك ثلاثا أو قال واحدة فماتت قبل ذكر العدد لم يقع شيء فتبين أن عمل هذا القران في التغيير لا في التفسير; لأن التفسير يكون مقررا للحكم المفسر لا مغيرا له, يوضحه أنه لو قال لامرأته: أمرك بيدك فطلقي نفسك أو اختاري فطلقي نفسك فقالت: طلقت نفسي أو اخترت نفسي يقع الطلاق بائنا اعتبارا للمفسر, وهو اختاري أو أمرك بيدك; لأن طلقي تفسير له, ولو قال: اختاري تطليقة أو أمرك بيدك في تطليقة فطلقت نفسها أو اختارت نفسها فهي رجعية; لأن التطليقة لم توضع على وجه التفسير بل خيرها في التصريح فكان رجعيا كذا في الجامع الصغير للتمرتاشي. فأما النصب فليس على التفسير ولكن لقيامه مقام المصدر فإن قوله طلقت امرأتي ثلاث مرات معناه تطليقات ثلاثا كذا في التقويم وأصول شمس الأئمة.
وقال الغزالي في المستصفى: فإن قيل فلو فسر بالتكرار فقد فسره بمحتمل أو كان ذلك إلحاق زيادة كما لو قال أردت بقولي اقتل اقتل زيدا وبقولي صم أي يوم السبت خاصة, فإن هذا تفسير بما ليس يحتمله اللفظ بل ليس تفسيرا إنما هو ذكر زيادة لم يوضع اللفظ المذكور لها لا بالاشتراك ولا بالتخصيص قلنا الأظهر عندنا أنه إن فسره بعدد مخصوص كسبعة أو عشرة فهو إتمام بزيادة وليس بتفسير إذ اللفظ لا يصلح للدلالة على كمية وعدد, وإن أراد استغراق العمر فقد أراد كلية الصوم في حقه فإن كلية الصوم شيء فرد إذ له حد واحد وحقيقة واحدة فهو واحد بالنوع كما أن الصوم الواحد واحد بالعدد فاللفظ يحتمله ويكون ذلك بيانا للمراد لا استئناف زيادة ولهذا لو قال أنت طالق ولم يخطر بباله عدد كانت الطلقة الواحدة ضرورة لفظه فيقتصر عليها ولو نوى الثلاث نفذت; لأنه كلية الطلاق فهو كالواحد بالجنس أو بالنوع ولو نوى طلقتين فالأغوص ما قاله أبو حنيفة رحمه الله وهو أنه لا يحتمله.
فإن قيل الزيادة التي هي كالتتمة لا تصلح إرادتها باللفظ. فإنه لو قال طلقت زوجتي وله أربع نسوة وقال أردت زينب يبين وقوع الطلاق من وقت اللفظ ولولا احتماله لوقع من وقت التعيين قلنا بل الفرق أغوص; لأن قوله زوجتي مشترك بين الأربع يصلح لكل واحدة فهو كإرادة أحد المسميات بالمشترك أما الطلاق فموضوع لمعنى لا يتعرض للعدد والصوم لمعنى لا يتعرض للعشرة, وليست الأعداد موجودة ليكون اسم الصوم مشتركا بينها اشتراك الزوجية بين النسوة إلى هنا كلامه رحمه الله, وبما ذكرنا تبين أن صحة الاستثناء لا يدل على أنه يحتمل التكرار والعدد; لأن ذلك بمنزلة قرينة دالة على أنه(1/191)
..............................................................................................
أريد به ما هو محتمله, وهو الكل أو ألحق به على وجه الزيادة ما ليس بمحتمله لغة فكأنه قيل في قوله صم إلا يوم السبت صم الأيام كلها إلا يوم السبت أو صم الأسبوع إلا يوم السبت.
"فإن قيل" قوله: طلقتك في اقتضاء المصدر لغة مثل قوله طلق إذ معناه فعلت فعل الطلاق كما أن معنى الأمر افعل فعل الطلاق فهلا صحت فيه نية الثلاث بما ذكرتم ومن أين وقع الفرق؟
"قلنا" إنما لا يصح فيه نية الثلاث كما لا يصح نية الثنتين; لأنه إخبار والخبر لا يقتضي وجود المخبر به ليصح فإن الخبر خبر; وإن كان كذبا ولا أثر له في إيجاده أيضا; لأن المخبر به لا يصير موجودا بالإخبار في الزمان الماضي ولكن يقتضي وجوده ليكون صحيحا في الحكمة بأن يكون صدقا فكان ثابتا ضرورة الصدق, وهي يرتفع بالواحدة غير أن الشرع جعله إنشاء فاقتضى ما كان يقتضيه الإخبار, وهو الواحدة فأما قوله طلق فأمر وله أثر في إيجاد المأمور به على ما بينا فصار مذكورا فكان التعميم داخلا على المذكور فكان حكما أصليا. فلهذا صحت فيه نية الثلاث كذا في مختصر التقويم.
وأما ما ذهب إليه الفريق الثالث فغير صحيح; لأنه لا أثر للشرط في التكرار; لأن قوله اضربه إن لم يقتض التكرار فقوله اضربه قائما أو إن كان قائما لا يقتضيه أيضا بل لا يزيده إلا اختصاص الضرب الذي يقتضيه الإطلاق بحالة القيام, وهو كقوله لوكيله طلق زوجتي إن دخلت الدار لا يقتضي التكرار بتكرر الدخول, فكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وإذا زالت الشمس فصل كقول الرجل لزوجاته من شهد منكن الشهر فلتطلق نفسها فمن زالت عليها الشمس فلتطلق نفسها, وأما تكرار أوامر الشرع فليس من موجب اللغة بل بدليل شرعي في كل شرط فقد قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ولا يتكرر الوجوب بتكرر الاستطاعة; فإن أحالوا ذلك على الدليل أحلنا ما تكرر أيضا على الدليل كيف, ومن كان جنبا فليس عليه أن يطهر إذا لم يرد الصلاة فلم يتكرر مطلقا لكن اتبع فيه موجب الدليل كذا ذكر الغزالي رحمه الله.
وأما اعتبارهم الشرط بالعلة فضعيف; لأن العلة موجبة للحكم والموجب لا ينفك عن الموجب, فأما الشرط فليس بموجب; ولهذا يوجد الشرط بدون المشروط والمشروط بدون الشرط عندنا, يوضح الفرق بينهما أن الحكم يقتصر ثبوته على العلة ولا يحتاج إلى(1/192)
الفرد وكذلك سائر أسماء الأجناس إذا كانت فردا صيغة أو دلالة أما الفرد صيغة فمثل قول الرجل والله لا أشرب ماء أو الماء أنه يقع على الأقل ويحتمل الكل فأما قدرا من الأقدار المتخللة بين الحدين فلا. فكذلك لا آكل طعاما أو ما يشبهه وأما الفرد دلالة فمثل قول الرجل والله لا أتزوج النساء ولا أشتري
ـــــــ
أمر آخر وثبوت المشروط لا يقتصر على الشرط بل يحتاج إلى موجب يوجبه, وهو العلة. وأما الشروط المذكورة فيما استشهدوا فعلل أو في معنى العلل; فلهذا تكررت الأوامر بتكررها.
قوله: "وكذلك سائر أسماء الأجناس" أي وكالمصدر الثابت بالأمر سائر أسماء الأجناس أي جميعها أو باقيها في وقوعه على الأقل واحتماله للكل دون العدد إذا كانت فردا صيغة أي لم يكن صيغته صيغة تثنية ولا جمع سواء كانت معرفة أو منكرة مثل: "ماء" أو "الماء" في يمين الشرب أو دلالة بأن كانت صيغته صيغة جمع قرنت بها لام التعريف أو الإضافة مثل: "العبيد" وبني آدم في يمين الكلام. فأما قدرا من الأقدار المتخللة بين الحدين وهما الأقل والكل فلا أي لا يحتمله اللفظ, فإن نوى كوزا أو كوزين أو قدحا أو قدحين لا يعمل نيته وقدرا منصوب بلا يحتمله المقدر, وليس من شرط أما دخوله في المرفوع ألبتة بل يجوز دخوله في المنصوب كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] ونحوه.
قوله: "وأما الفرد دلالة إلى آخره" اعلم أن اللام للتعريف فإن دخلت على معهود, وهو الذي عرف وعهد إما بالذكر أو بغيره من الأسباب فهي تعرف ذلك المعهود ويسمى هذا تعريف العهد, وهو الأصل فيه, وهو في الحقيقة تعريف فرد من أفراد الجنس كقولك فعل الرجل كذا تريد رجلا بعينه قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً*فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أي ذلك الرسول بعينه.
وإن لم يكن ثمة معهود فهي لتعريف نفس الحقيقة مع قطع النظر عن عوارضها, وهي بمنزلة المعهود لحضورها في الذهن واحتياجها إلى التعريف ويسمى هذا تعريف الجنس, ثم الحقيقة في ذاتها لما كانت صالحة للتوحد والتكثر لتحققها مع الوحدة والكثرة كانت اللام في تعريف الحقيقة للاستغراق ولغيره بحسب اقتضاء المقام; فإن أمكن ارتباط الحكم بجميع أفراده فاللام للاستغراق مفردا كان اللفظ أو جمعا نحو قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] وقوله جل ذكره: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]; وإن لم يمكن فاللام لنفس الجنس دون الاستغراق والعهد نحو قوله تعالى(1/193)
العبيد ولا أكلم بني آدم ولا أشتري الثياب أن ذلك يقع على الأقل ويحتمل الكل; لأن هذا جمع صار مجازا عن اسم الجنس; لأنا إذا أبقيناه جمعا لغا حرف العهد أصلا وإذا جعلناه جنسا بقي اللام لتعريف الجنس وبقي معنى الجمع من وجه في الجنس فكان الجنس أولى قال الله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب: 52] وذلك لا يختص بالجمع فصار هذا وسائر أسماء الجنس سواء وإنما أشكل على الأقرع لأنه اعتبر ذلك بسائر العبادات وعلى هذا يخرج أن
ـــــــ
إخبارا عن يعقوب عليه السلام: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] ويقع على أقل ما يحتمله اللفظ. وهو الواحد في المفرد بالاتفاق, وكذا في الجمع عندنا, وذكر صاحب الكشاف فيه أن الفرق بين لام الجنس داخلة على المفرد وبينها داخلة على المجموع هو أنها إذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد; لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية والجمعية وفي حمل الجنس لا في وحدانه, وكذا ذكر صاحب المفتاح فيه فقال فيما تعذر حمله على الاستغراق حمل على أقل ما يحتمله, وهو الواحد في المفرد والعدد الزائد على الاثنين بواحد في الجمع فلا يوجب في مثل حصل الدرهم إلا واحدا وفي مثل حصل الدراهم إلا ثلثه.
ووجهه أنه أمكن رعاية الصيغة مع اعتبار حرف التعريف فيجعل حرف التعريف للجنس مراعى فيه الجمعية رعاية للمعنيين, فأما جعله مجازا عن الفرد مع إمكان العمل بالحقيقة فغير سديد, وقلنا إذا دخلت في الجمع بطل معنى الجمعية أي لم يبق مقصودا في الكلام وصار مجازا عن الجنس أي صار كاسم المفرد المعرف باللام, وذلك; لأنه اجتمع ههنا صيغة الجمع وحرف التعريف فلو اعتبر صيغة الجمع لزم إلغاء حرف التعريف; لأنه إما للعهد أو للجنس ولا يمكن أن يجعل للعهد إذا ليس في أقسام الجموع معهود يمكن صرفها إليه; لأن الجمع لم يوضع لمعدود معين بل هو شائع كالنكرة ولا يمكن أن يجعل للجنس أيضا مع اعتبار الصيغة; لأن اعتبارها يقتضي أن يكون الجمع فيها مقصودا وجعل اللام للجنس ينافيه; لأن اسم الجنس دلالته على نفس الحقيقة مع قطع النظر عن العوارض, وكون الجمع مقصودا مع قطع النظر عنه متنافيان.
ولو اعتبر حرف التعريف فجعل للجنس وجعلت الصيغة مجازا عن الفرد لم يلغ معنى الجمعية بالكلية; لأن في الجنس معنى الجمع من وجه; وإن لم يكن مقصودا إذ هو مشتمل على الأفراد إما تحقيقا أو توهما فكان اعتبار حرف التعريف أولى من اعتبار(1/194)
.............................................................................................
الصيغة إذ فيه جمع بين المعنيين من وجه فكان أولى من إلغاء أحدهما بالكلية, وما ذكرنا مؤيد بالنص والعرف أما النص فقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] ولم يكن الحظر متعلقا بالجمع بل كان حرم عليه صلى الله عليه وسلم الفرد فصاعدا وقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] أريد به الجنس لا الجمع.
وأما العرف فإنه يقال فلان يحب النساء وفلان يخالط الناس; وإنما يراد به الجنس فلهذا جعلنا مجازا عن الجنس فهذا معنى قوله فرد دلالة, قال شمس الإسلام الأوزجندي1, فإذا بطل معنى الجمع يتناول الأدنى بحقيقته أي بحقيقة الفردية مع احتمال الكل بحقيقته, ولا يلزم على ما ذكرنا قولها خالعني على ما في يدي من الدراهم وليس في يدها شيء حيث يلزمها ثلاثة دراهم لا درهم واحد ولا قوله لا أكلمه الأيام أو الشهور حيث يقع على العشرة عند أبي حنيفة وعلى الجمعة والسنة عندهما لا على اليوم الواحد والشهر الواحد.
لأنا نقول إنما يجعل اللام في الجمع للجنس إذا لم يمكن صرفها إلى معهود حتى لو أمكن تصرف إليه كما في قولك كنت اليوم مع التجار ولقيت الفقهاء تريد قوما بأعيانهم قد جرت عادتك بلقائهم وقد أمكن ههنا; لأن قولها ما في يدي عام يتناول الدراهم وغيرها ومن الدراهم بيان له فوجب صرف اللام إليه. وكذا أيام الجمعة وشهور السنة معهودة بين الناس فيجب صرف اللام إليها عندهما, فأما أبو حنيفة رحمه الله فقد جعل الاسم معهودا على الثلاثة فصاعدا إلى العشرة فصرف اللام إلى أكثر هذا المعهود احتياطا كذا ذكر الشيخ في شرح الجامع.
إذا عرفنا هذا جئنا إلى بيان المسائل فنقول: إذا قال والله لا أشرب ماء أو الماء أو لا آكل طعاما أو الطعام أنه يقع على الأدنى; لأنه هو المتيقن به, وهو الكل لولا غيره فيكون فيه معنى الجنسية أيضا; فإن نوى الكل صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى حتى لا يحنث أصلا; لأنه نوى محتمل كلامه; لأنه فرد من حيث إنه اسم جنس لكنه عدد من وجه فلن يتناوله الفرد إلا بالنية كذا في شرح الجامع للمصنف, وهذا يشير إلى أنه لا يصدق قضاء إن كان اليمين بطلاق أو نحوه; لأنه خلاف الظاهر إذ الإنسان إنما يمنع نفسه باليمين عما يقدر عليه وشرب كل المياه ليس في وسعه وفيه تخفيف عليه أيضا, وكذا إذا حلف لا يتزوج النساء أو لا يكلم العبيد أو لا يشتري الثياب يقع على الأدنى على احتمال
ـــــــ
1 هو محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الملقب بشمس الأئمة انظر الفوائد البهية ص 209.(1/195)
............................................................................................
الكل. وكذا لو حلف لا يكلم بني آدم لأنا إذا حملناه على حقيقة الجمع بطلت الإضافة; لأنها للتعريف بمنزلة اللام ولا تعريف لشيء من أنواع الجمع وإذا حملناه على الجنس حصل به تعريف الجنس مع العمل بالجمع فصار أولى; فإن نوى الكل في هذه المسائل صحت نيته ولا يحنث أبدا, قال شمس الإسلام: قالوا وإطلاق الجواب دليل على أنه يصدق قضاء وديانة إن كان اليمين بطلاق أو نحوه; لأنه نوى حقيقة كلامه, وعن أبي القاسم الصفار1 رحمه الله أنه لا يصدق قضاء; لأنه نوى حقيقة لا تثبت إلا بالنية فصار كأنه نوى المجاز.
ولا يذهبن بك الوهم كما ذهب بالبعض إلى أنه ينبغي أن لا ينعقد اليمين عند إرادة الكل; لأن كلام جميع الناس وتزوج جميع النساء وشراء جميع العبيد غير متصور كما لم ينعقد في قوله لأشربن الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه لعدم تصور شرب الماء المعدوم; لأن شرط البر في مسألة الكوز شرب الماء, وهو غير متصور, فأما شرط البر في هذه المسائل فعدم الكلام والتزوج والشراء, وهو متصور; فإن حلف لا يتزوج نساء أو لا يشتري عبيدا فهذا على الثلاثة مما ذكر; لأن دلالة الجنس عدمت ههنا فوجب العمل بصيغة الجمع وأدناه ثلاثة; فإن نوى به ما زاد على الثلاثة قالوا يكون مصدقا; لأنه نوى حقيقة كلامه وعلى قول أبي القاسم لا يصدق قضاء; لأنه نوى حقيقة لا تثبت إلا بنية, وفيه تخفيف فلا يصدق قضاء; فإن نوى الواحد مما ذكر صحت نيته; لأن الجمع يذكر ويراد به الواحد فقد نوى ما يحتمله لفظه وفيه تغليظ عليه فيصدق بخلاف ما لو قال إن تزوجت ثلاث نسوة فكذا, وقال: عنيت به الواحدة لا يصدق. وإن كان فيه تغليظ; لأنه نوى الخصوص في العدد, وذلك لا يصح إلا بطريق الاستثناء.
واعلم أن اللام وحدها هي حرف التعريف عند سيبويه2 والهمزة قبلها همزة وصل مجلوبة للابتداء كهمزة اسم وابن وعند الخليل3 كلمة التعريف أل كهل وبل; وإنما استمر التخفيف بالهمزة لكثرة الاستعمال فالشيخ بقوله لغا حرف العهد وقوله بقي اللام
ـــــــ
1 هو أبو القاسم أحمد بن عصمة الصفار فقيه حنفي توفي سنة 336 هـ انظر معجم المؤلفين 8/104.
2 هو عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه أبو بشر النحوي المشهور توفي سنة 180 هـ انظر وفيات الأعيان 1/487.
3 هو شيخ العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي اليحمدي البصري أبو عبد الرحمن النحوي اللغوي توفي سنة 175 هـ انظر شذرات الذهب 1/275.(1/196)
كل اسم فاعل دل على المصدر لغة مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لم يحتمل العدد حتى قلنا لا يجوز أن يرد بالآية إلا الإيمان;
ـــــــ
أشار إلى مذهب سيبويه حيث لم يقل حرفا العهد وبقي الألف واللام كما قال غيره. قوله: "وإنما أشكل" جواب عما تمسك به الفريقان الأولان من سؤال الأقرع فقال لم يكن سؤاله بناء على الاحتمال الذي ذكروه بل إنما كان; لأنه عرف أن سائر العبادات متعلقة بأسباب متكررة مثل تعلق الصلاة بالأوقات والصوم بالشهر والزكاة بالأموال النامية ولهذا تكررت بتكرر النماء, وقد رأى الحج متعلقا بالوقت الذي هو متكرر بحيث لم يصح أداؤه قبله وبالبيت الذي ليس هو بمتكرر فاشتبه عليه; فلهذا سئل لا لكون الأمر للتكرار لغة, ومعنى قوله عليه السلام: "لو قلت نعم لوجبت" أي لو قلت نعم يجب في كل عام لوجبت فريضة الحج في كل عام وحينئذ صار الوقت سببا, فإنه عليه السلام كان صاحب الشرع وإليه نصب الشرائع كذا ذكر الشيخ في شرح التقويم.
السارق لا يؤتى على أطرافه الأربعة عندنا ولكن يحبس حتى يحدث توبة وعند الشافعي رحمه الله يؤتى على الجميع; لأن الله تعالى نص على الأيدي بلفظ الجمع وأضافها إلى السارق والسارقة فأوجبت الاستغراق كقولك عبيدكما فيدخل اليسار كاليمين في الحكم بمطلق الاسم كما في الطهارة ولا يحمل على اليمين; لأن فيه إبطال الإطلاق وذلك يجري مجرى النسخ عندكم; ولأن فيه إبطال صيغة الجمع; لأنه لا يكون لسارق وسارقة أيمان بل لهما يمينان فثبت أن اليسار محل القطع كاليمين وكيف إلا واليسار آلة السرقة كاليمين وفوق الرجل اليسرى فيكون محل القطع إلا أن في المرة الثانية يثبت المحلية للرجل بالسنة وبالإجماع فلا يوجب ذلك انتفاء المحلية الثابتة بمطلق الكتاب. ولنا قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, فاقطعوا أيمانهما, وهذه القراءة من قراءة العامة بمنزلة المقيد من المطلق فيصير كأنه قال فاقطعوا أيمانهما من الأيدي فلا يتناول اليسرى فهذا قيد جاء في الحكم; لأن الواجب قطع يد, فإذا قيدت باليمين كان القيد زيادة وصف يثبت فيه كما في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} متتابعات فيرتفع الإطلاق بالقيد, ويجب الحمل بالإجماع, وكان كرجل قال لآخر أعتق عبدا من عبيدي ثم قال عنيت سالما والدليل عليه أن في المرة الثانية لا يقطع اليسرى ويقطع الرجل فلو كان النص متناولا لليسرى لم يجز قطع الرجل مع بقاء اليد; لأن مع بقاء المنصوص لا يجوز العدول إلى غيره, وإذا ثبت التقييد في النص جعلت صيغة الجمع مجازا عن التثنية ضرورة كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] كيف والعمل بصيغة الجمع غير ممكن على ما نذكر فثبت أن اليسار لم يدخل في النص وأنه لم يتناول إلا اليمنى وأن استدلال الخصم بالآية غير صحيح, وكذا بالقياس إذ لا مدخل له في الحدود.(1/197)
لأن كل السرقات غير مراد بالإجماع فصار الواحد مرادا وبالفعل الواحد لا يقطع إلا واحد
ـــــــ
ثم الشيخ خرج هذه المسألة على الأصل الذي بينه فقال: وعلى هذا الأصل أي على ما ذكرنا أن اسم الجنس لا يحتمل العدد; لأنه فرد, يخرج أن كل اسم فاعل, وقوله دل على المصدر لغة صفة لفاعل واحترز به عن اسم الفاعل إذا جعل علما مثل الحارث والقاسم فإنه لا يدل على المصدر, وقوله لم يحتمل العدد خبران. "فإن قيل" فالضمير المستكن في لم يحتمل إن جعل راجعا إلى كل اسم فاعل كما هو مقتضى الكلام لم يبق له تعلق بالمقصود, وهو نفي القطع في المرة الثالثة; وإن جعل راجعا إلى المصدر لا يخلو التركيب عن نوع خلل إذ الخبر لا بد أن يكون محكوما به على المبتدأ وهو اسم إن ههنا وعلى تقدير كونه راجعا إلى المصدر لا يكون كذلك "قلنا" دأب المشايخ النظر إلى المعنى لا إلى التركيب كذا سمعت عن شيخنا العلامة مولانا حافظ الملة والدين قدس الله روحه غير مرة ولما كان بناء الباب لبيان أن المصدر لا يحتمل العدد لا يخفى على الفطن أن المقصود منه نفي احتمال العدد عن المصدر لا عن الفاعل وصار من حيث المعنى كأنه قال وعلى هذا يخرج أن كل مصدر دل عليه اسم فاعل لا يحتمل العدد كالمصدر الذي دل عليه الأمر, ورأيت في بعض النسخ ولم يحتمل العدد بالواو فعلى هذا يكون الخبر قوله دل على المصدر ولا يراد السؤال, ثم لما لم يحتمل المصدر الثابت بلفظ السارق العدد لا يجوز أن يراد بالآية إلا الأيمان, وذلك; لأنه لما لم يحتمل العدد لا بد من أن يراد به الكل أو الأقل ولا يجوز أن يراد به الكل; لأن كل السرقات التي توجد منه لا يعلم إلا بآخر العمر فيؤدي إلى أن لا يقطع; وإن سرق ألف مرة إلا عند الموت وقد انعقد الإجماع على خلافه فتعين أن المراد سرقة واحدة فكأنه قيل الذي فعل سرقة والتي فعلت سرقة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ثم ظاهر هذا الكلام يقتضي أن يقطع اليدان جميعا بسرقة واحدة, وهو غير مراد بالإجماع أيضا فثبت أن الواجب بالآية قطع يد واحدة لسرقة واحدة في حق كل سارق وسارقة. ثم هذه اليد الواحدة إما أن تكون اليمنى أو اليسرى وقد ثبت أيضا بالإجماع وبالسنة قولا وفعلا وبقراءة ابن مسعود رضي الله عنه أن قطع اليمنى مراد بالآية فلم يبق قطع اليسرى مرادا بها ضرورة فهذا معنى قوله لم يحتمل العدد حتى قلنا إلى آخره, ولو كان محتملا للعدد كما زعم الخصم لجاز أن يثبت قطع اليسرى بالآية كاليمنى وصار التقدير الذي سرق سرقات والتي سرقت سرقات فاقطعوا من كل واحد منهما بكل واحدة منها يدا.
وذكر في طريقه الخلاف للإمام البرغري بهذه العبارة أما قراءة العامة فلا يمكن(1/198)
وموجب الأمر على ما فسرنا يتنوع نوعين وكل نوع يتنوع نوعين وهذا تنويع في صفة الحكم.
ـــــــ
العمل بها; لأن الله تعالى لم يذكر السرقة إنما ذكر اسم السارق وهذا يقتضي السرقة ولا يتناول إلا سرقة واحدة وبالإجماع لا يقطع بسرقة واحدة إلا يد واحدة; فإن كانت قراءة العامة معمولا بها لقطعت اليدان كلاهما بالمرة الأولى; لأن العقوبة المذكورة جزاء جناية واحدة كالجلد مائة في الزنا وأجمعنا أن بالسرقة الواحدة لا يقطع إلا اليمين عرفنا أن هذه الآية لا يتناول إلا اليمين.
"فإن قيل" قد ثبت تكرر الجلد بتكرر الزنا من شخص واحد مع أن المصدر وهو الزنا لا يدل على التكرار والعدد كما قلتم في السرقة فليكن السرقة كذلك.
"قلنا" قد ثبت في قواعد الشرع أن المصدر في مثل هذا الكلام علة للحكم فالزنا علة والجلد حكمه فتكرر بتكرره لبقاء محل الحكم, وهو البدن, فأما السرقة فعلة للقطع أيضا إلا أن حكمها الثابت بالنص قطع اليمين وبقطعها مرة لم يبق حكم المحل أصلا كما بعد المرة الثالثة عندكم; فلهذا لا يتكرر الحكم بتكررها.
قوله: "وموجب الأمر إلى آخره". واعلم أن الثابت بالأمر, وهو الواجب ينقسم بحسب نفسه إلى معين كأكثر الواجبات, وإلى مخير كأحد الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين, وبحسب فاعله إلى فرض عين كعامة العبادات وإلى فرض كفاية كصلاة الجنازة والجهاد وبحسب وقته إلى موسع كالصلاة وإلى مضيق كالصوم وإلى أداء وقضاء كما يذكر فالشيخ ذكر عامة هذه الأقسام, وبدأ بتقسيم الأداء والقضاء فقال: وموجب الأمر على ما فسرنا يتنوع نوعين, قيل معناه الواجب بالأمر نوعان: أداء وقضاء وكل واحد منهما نوعان حسن لمعنى في عينه وحسن لمعنى في غيره; لأن كلامنا في موجب الأمر والمأمور به حسن لا محالة.
وقيل معناه أن موجب الأمر يتنوع نوعين أحدهما في صفة قائمة في الموجب والثاني في صفة قائمة في غير الموجب ثم الأول يتنوع نوعين وهما الأداء والقضاء, وهذه صفة راجعة إلى نفس الموجب كما ترى والثاني يتنوع نوعين أيضا وهما المؤقت وغير المؤقت والوقت صفة راجعة إلى غير الموجب.
والذي يدور في خلدي أن معناه أن موجب الأمر أي الثابت بالأمر. وهو الواجب على ما فسرنا أن الأمر للإيجاب, يتنوع نوعين وهما الأداء والقضاء, وكل واحد من الأداء والقضاء يتنوع نوعين أيضا وهما الأداء المحض وغير المحض والقضاء المحض وغير المحض.(1/199)
.............................................................................................
فمحصل الأقسام أربعة: ثم ينقسم الأداء المحض إلى كامل وقاصر والقضاء المحض إلى القضاء بمثل معقول وبمثل غير معقول فصار الأقسام ستة فبين الشيخ قبل الباب التقسيمين الأولين الذين بهما صار الأقسام أربعة وبعد الباب اعتبر الحاصل من التقاسيم وبين الأقسام ستة, وذلك لا يخل بالمعنى.
ووجه آخر, وهو أن يجعل هذا تقسيم مطلق الأداء والقضاء من غير نظر إلى تركبهما وتمحضهما, وذلك أربعة أداء كامل, وقاصر, وقضاء بمثل معقول, وبمثل غير معقول فدخل المتركب منهما في هذا التقسيم كالمتمحض ثم بعد الباب ميز المتركب منهما من المتمحض منهما فمحصل الأقسام ستة, وهذا أحسن الوجوه; لأنه أوفق للكتب فإن الشيخ رحمه الله ذكر في شرح التقويم ثم حكم الوجوب شيئان الأداء والقضاء والأداء على نوعين واجب ونفل والقضاء على نوعين أيضا بمثل يعقل وبمثل لا يعقل لكنه ثبت شرعا.
وهكذا ذكر القاضي الإمام في التقويم أيضا إلا أن الشيخ ههنا أخرج النفل عن قسم الأداء وجعل الأداء الواجب على قسمين كامل وقاصر.
قوله: "وهذا تنويع في صفة الحكم" أي الذي ذكرنا من التقسيم تنويع في صفة حكم الأمر وهذا الباب لبيان هذه الأقسام وعلى الوجهين الأولين هذا إشارة إلى الباب لا إلى ما ذكر من التقسيم; لأن ما تضمنه الباب هو بيان أنواع صفة الحكم, ولهذا لقب الباب به والتنويع المذكور يتناول غيره كما يتناوله على الوجهين الأولين فلا يصح صرف اسم الإشارة إليه فيجب صرفه إلى الباب أي هذا الباب تنويع في صفة الحكم, ولكن إعادة لفظة هذا في قوله وهذا باب يأبى ذلك.(1/200)
"باب"
يلقب ببيان صفة حكم الأمر وذلك نوعان: أداء وقضاء والأداء: ثلاثة أنواع: أداء كامل محض وأداء قاصر محض وما هو شبيه بالقضاء والقضاء أنواع ثلاثة: نوع بمثل معقول ونوع بمثل غير معقول ونوع بمعنى الأداء, وهذه الأقسام تدخل في حقوق الله تعالى وتدخل في حقوق العباد أيضا.
والأداء اسم لتسليم نفس الواجب بالأمر والقضاء اسم لتسليم مثل
ـــــــ
"باب يلقب ببيان صفة حكم الأمر"
وذلك أي حكم الأمر, وقوله كامل وقاصر تقسيم للأداء المحض, بمثل معقول أي مماثلته مدرك بالعقل, وبمثل غير معقول أي غير مدرك بعقولنا لا أنه خلاف العقل إذ العقل حجة من حجج الله تعالى ولا تناقض في حججه فيستحيل أن يرد الشرع بخلاف العقل كذا قيل. قوله: "والأداء اسم لتسليم نفس الواجب" أي عينه, بالأمر الباء للسببية, وهي تتعلق بالواجب لا بالتسليم على ما زعم بعضهم أي الواجب بسبب الأمر, وإضافة الواجب إلى الأمر توسع; لأن الوجوب بالسبب ووجوب الأداء بالأمر على ما يعرف بعد إلا أن السبب لما علم بالأمر أضيف الوجوب إليه, وهذا التعريف يشمل تسليم المؤقت في وقته كالصلاة والصوم وتسليم غير المؤقت كالزكاة.
"فإن قيل" كيف يمكن تسليم عين الواجب, وهو وصف في الذمة لا يقبل التصرف من العبد; ولهذا قيل الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها.
"قلنا" لما شغل الشرع الذمة بالواجب ثم أمر بتفريغها أخذ ما يحصل به فراغ الذمة حكم ذلك الواجب كأنه عينه, أو يقال الواجب بالأمر غير الواجب بالسبب إذ الواجب بالأمر فعل الصلاة أو إيتاء ربع العشر الذي به يحصل فراغ الذمة مثلا, وهو ممكن التسليم فأما الوصف الشاغل للذمة فحاصل بالسبب لا بالأمر فعلى هذا لا يكون إضافة الواجب إلى الأمر في التعريف على سبيل التوسع بل يكون بطريق الحقيقة كذا قيل.
قوله: "والقضاء اسم لتسليم مثل الواجب به" أي بالأمر ولم يذكر الشيخ مثل(1/201)
الواجب به كمن غصب شيئا لزمه تسليم عينه ورده فيصير به مؤديا وإذا هلك لزمه ضمانه فيصير به قاضيا وقد يدخل في الأداء قسم آخر وهو النفل على قول من جعل الأمر حقيقة في الإباحة والندب.
فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
ـــــــ
الواجب من عنده كما ذكره شمس الأئمة فقال القضاء إسقاط الواجب بمثل من عند المأمور هو حقه, وكذا ذكره القاضي الإمام أيضا. ولا بد منه إذ لو لم يكن من عند المأمور لا يكون قضاء; وإن كان مثلا للواجب فإن من صرف دراهم الغير إلى دينه لا يكون قضاء وللمالك أن يستردها من رب الدين, وكذا لو صرف العصر إلى الظهر أو ظهر اليوم إلى ظهر الأمس بأن نوى أن يكون هذا الظهر قضاء عن الفائت لا يصح; وإن كانت المماثلة بينه وبين الفائت أقوى منها بين النفل والفائت بكونها ثابتة بين الظهر والظهر ذاتا ووصفا وبين النفل والظهر ذاتا لا وصفا; لأن ذلك ليس من عنده ألا ترى كيف أكده شمس الأئمة رحمه الله بقوله هو حقه احترازا عن الوديعة ولهذا اختير في المنتخب ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله.
قوله: "وقد يدخل في الأداء قسم آخر" أي يزاد عليه قسم آخر على قول من جعل الأمر حقيقة في الندب فيصير الأداء عنده قسمين تسليم عين الواجب كما ذكرنا وتسليم عين المندوب إليه, قال القاضي الإمام في التقويم الأداء نوعان: واجب كالفرض في وقته وغير واجب كالنفل وكذا ذكر الشيخ في شرح التقويم أيضا فقال الأداء على نوعين: واجب ونفل وكلاهما موجب الأمر, وعلى قول من جعله حقيقة في الإباحة أيضا ينبغي أن ينقسم الأداء ثلاثة أقسام تسليم الواجب وتسليم المندوب وتسليم المباح إذ الكل موجب للآمر عنده وقد ذكرنا أن هذا قول خارج عن الإجماع, والتعريف الشامل للقسمين على القول الأول هو ما ذكره القاضي الإمام الأداء اسم لفعل ما طلب من العمل بعينه. وإن جعل الواجب بمعنى الثابت في التعريف المذكور في الكتاب فهو يشمل القسمين أيضا, والشامل للأقسام الثلاثة على القول الآخر هو ما يقال الأداء تسليم عين ما أمر به, قال الإمام بدر الدين: رحمه الله إنما ذكر هذا يعني قوله يدخل في الأداء قسم آخر احتراز عما يقال ما ذكرتم من تفسير الأداء ينتقض بقولهم أدى النفل, وهو ليس بتسليم الواجب بالأمر فلا يكون التعريف جامعا يقال هذا قسم آخر وما ذكرنا قسم آخر إذ نحن في تفسير الأداء الذي هو موجب الأمر فلا يرد ذلك نقضا علينا.
قوله: "فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف", وهو دخول النفل فيه; لأن القضاء مبني(1/202)
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وقد يدخل إحدى العبارتين في قسم
ـــــــ
على كون المتروك مضمونا والنفل لا يضمن بالترك. وأما إذا شرع في النفل ثم أفسده فإنما يجب القضاء; لأنه بالشروع صار ملحقا بالواجب لا; لأنه نفل كما قبل الشروع.
قوله: قال الله تعالى متصل, بقوله الأداء تسليم نفس الواجب واستشهاد على أنه مستعمل في تسليم العين; لأن الآية نزلت في تسليم مفتاح الكعبة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة طلب المفتاح فقيل له إنه مع عثمان بن طلحة وكان يلي سدانة الكعبة فوجه إليه عليا رضي الله عنه فأبى أن يدفعه إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح فلوى علي رضي الله عنه يده وأخذه منه قسرا حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى فيه فلما خرج قال له العباس اجمع لي السدانة مع السقاية وسأله أن يعطيه المفتاح فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه برده إليه فرده إليه وألطف له في القول واعتذر إليه فقال لعلي رضي الله عنه أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق قال; لأن الله تعالى أنزل في شأنك قرآنا وأمرنا برده عليك, وقرأ هذه الآية فأتى النبي عليه السلام وأسلم ثم إنه هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم.
وأمانة في الأصل مصدر سمي به الشيء الذي يؤتمن عليه, ثم الآية عامة في كل أمانة كما قال ابن مسعود رضي الله عنه الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والصوم والزكاة والجنابة وفي الكيل والوزن وأعظم من ذلك الودائع. وذكر في عين المعاني قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان وحفظ الحواس التي هي ودائع الله جل جلاله ثم الواجب في ذمة العبد بمنزلة عين مودعة عنده, فإذا أداه في وقته مراعيا حقه بأقصى الإمكان كان أداء بمنزلة تسليم عين الوديعة وإذ قصر في رعايته كان بمنزلة الخيانة في الأمانة فكان قضاء إذ الخيانة في الأمانة يوجب الضمان وأداء الضمان قضاء حقيقة لا أداء كذا في بعض الشروع.
واعلم أن عامة الأصوليين قسموا الواجب إلى أداء وقضاء وإعادة, ثم من لم يجعل الأمر حقيقة في الندب فسر الأقسام فقال: الأداء تسليم عين الواجب في وقته المعين أي المقدر شرعا والقضاء تسليم مثل الواجب في غير وقته المعين شرعا, والإعادة إتيان مثل الأول على صفة الكمال بأن وجب على المكلف فعل موصوف بصفة فأداه على وجه النقصان وهو نقصان فاحش يجب عليه الإعادة, وهي إتيان مثل الأول ذاتا مع صفة الكمال كذا ذكر في الميزان, فعلى هذا إذا فعل ثانيا في الوقت أو خارج الوقت يكون إعادة, وعبارة بعضهم الواجب إذا فعل في وقته ويسمى أداء وإذا فعل بعد خروج وقته المضيق أو الموسع يسمى قضاء; وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في وقته(1/203)
..............................................................................................
المضروب له يسمى إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل مع ضرب من الخلل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود فشرط الوقت في الإعادة فلا يكون إتيانه بعد الوقت إعادة.
ومن جعل الأمر حقيقة في الندب قال الأداء ما فعل أولا في وقته المقدر شرعا والقضاء ما فعل بعد وقت مقدر استدراكا لما سبق له وجوب والإعادة ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الأول, فقوله ما فعل يتناول الفرائض والنوافل, وقوله.
أولا احتراز عن الإعادة. وقوله في وقته المقدر احتراز عن القضاء, وقوله في تعريف القضاء استدراكا احترازا عما إذا فعل لا بقصد الاستدراك وقوله لما سبق له وجوب احتراز عن النوافل, وقوله في تفسير الإعادة.
ثانيا احتراز عن الأداء, وقوله لخلل أي لفوات شرط سواء كان مفسدا أو لم يكن احتراز عن صلاة من صلى بجماعة بعد أن صلاها منفردا على وجه الصحة, فإنها لا تسمى إعادة, ثم التعريف الذي ذكره الشيخ للأداء أحسن مما قالوا; لأنه جامع يشمل المؤقت وغيره على ما ذكرنا وما ذكروه لا يشمل غير المؤقت كالزكاة والكفارات والنذور المطلقة ثم فعل غير المؤقت إن كان أداء عندهم فلا يكون الحد الذي ذكروه جامعا فيكون فاسدا بالاتفاق; وإن لم يكن كذلك بل كان الأداء مختصا بالمؤقت كالقضاء فالحد صحيح عندهم فاسد عندنا; لأنا لا نسلم لهم أن الأداء مختص بالوقت; لأن فعل غير المؤقت يسمى أداء شرعا وعرفا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58], وقال عليه السلام: "أدوا عمن تمونون" و "أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع" 1 الحديث وكل ذلك ليس مؤقتا بوقت مقدور ويقال أدى زكاة ماله بعد سنين وأدى طعام الكفارة كما يقال أدى الصوم والصلاة وقد نص الشيخ عليه في هذا الباب فقال والأداء في العبادات إلى آخره وإذا ثبت أنه أداء كان الحد الذي ذكروه فاسدا لعدم انعكاسه. وإنما لم يذكر الشيخ الإعادة في تقسيم الواجب; لأنها إن كانت واجبة بأن وقع الفعل الأول فاسدا بأن ترك القراءة أو ركنا آخر من الصلاة مثلا فهي داخلة في الأداء أو القضاء; لأن الفعل الأول لما فسد أخذ حكم العدم شرعا ويكون الاعتبار للثاني فيكون أداء إن وقع في الوقت وقضاء إن وقع خارج الوقت; وإن لم تكن واجبة بأن وقع الفعل الأول
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/432 وأبو داود حديث رقم 1619 – 1620.(1/204)
العبارة الأخرى فسمى الأداء قضاء; لأن القضاء لفظ متسع وقد يستعمل الأداء
ـــــــ
ناقصا لا فاسدا بأن ترك مثلا في الصلاة شيئا يجب بتركه سجدة السهو فلا تكون داخلة في هذا التقسيم; لأنه تقسيم الواجب بالأمر, وهي ليست بواجبة; ولهذا وقع الفعل الأول عن الواجب دون الثاني والثاني بمنزلة الخبر بسجود السهو, وهذا بناء على أن المأمور إذا أتى بالمأمور به على وجه الكراهة أو الحرمة يخرج عن العهدة على القول الأصح كالحاج إذا طاف محدثا خلافا لهم.
واعلم أيضا أنهم اتفقوا على أن وجوب الفعل إذا تقرر ولم يفعل في وقته المقدر وفعل بعده أنه يكون قضاء حقيقة سواء تركه في وقته عمدا أو سهوا ولكنهم اختلفوا فيما انعقد بسبب وجوبه وتأخر وجوب أدائه لمانع سواء كان المكلف قادرا على الإتيان به كالصوم في حق المريض والمسافر أو غير قادر عليه إما شرعا كالصوم في حق الحائض وإما عقلا كالصلاة في حق النائم والمغمى عليه, فقال بعض أصحاب الحديث: إنه يسمى قضاء مجازا, وهو في الحقيقة فرض مبتدأ; لأن القضاء الحقيقي مبني على وجوب الأداء, وهو ساقط عن هؤلاء بالاتفاق وكيف يقال بوجوب أداء الصوم على الحائض ولا سبيل لها إلى الأداء ولا إلى إزالة المانع من الأداء بخلاف الحدث فإنه يمكن إزالته, وكذلك المغمى عليه والنائم لكنه سمي قضاء مجازا; لأن من شرط هذا الفرض فوات الأول فلفوات إيجابه في الوقت سمي قضاء, وقال عامة الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي إنه قضاء حقيقة; لأن حقيقته ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لمصلحة ما انعقد سبب وجوبه وقد انعقد في حق هؤلاء فيكون هذا حقيقة. والدليل عليه أنه يجب عليهم نية قضاء الفائت بالإجماع, ولو كان فرضا مبتدأ لما وجبت وليس من شرطه وجوب الأداء حقيقة بل تصور ذلك كاف; وإن كان بعيدا كتصور وجوب الطهارة بالماء في موضع لا ماء فيه لصحة نقل الحكم إلى التراب وقد تصور زوال هذه الأعذار في الوقت وإيجاب الأداء بعده فيكون هذا القدر كافيا في نقل الحكم إلى القضاء بشرط أن لا يكون مؤديا إلى الحرج, وهذا كالمحدث إذا ضاق به وقت الصلاة لا يتأتى له الأداء ووجوب الأداء يلاقيه وكذلك من لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا لا يتصور منه الأداء ولا التسبيب إليه, ومع ذلك صح الوجوب عليه والسكران يلاقيه وجوب الصلاة وهو ممنوع من أدائها, وذكر في الميزان في هذه المسألة, وليس من شرط القضاء وجوب الأداء في حق من عليه ولكن الشرط وجوب الأداء في الجملة لعموم دليله وفواته عن الوقت في حقه مع إدراك وقت القضاء وانتفاء الحرج عنه على ما عرف من مسألة المجنون والله أعلم.
قوله: "فسمي الأداء قضاء" كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}(1/205)
في القضاء مقيدا; لأن للأداء خصوصا بتسليم نفس الواجب وعينه; لأن مرجع العبارة إلى الاستقصاء وشدة الرعاية كما قيل في الثلاثي منه:
"الذئب يأد للغزال بأكله"
ـــــــ
[البقرة: 200] أي أديتم وأتممتم أمور الحج, وقوله عز اسمه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] أي أديت وفرغ منها; لأن المراد منها الجمعة وأنها لا تقضى, ورأيت في نسخة من أصول الفقه أن الواجب الأصلي في يوم الجمعة هو الظهر لقول عائشة رضي الله عنها إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة إلا أن الجمعة أقيمت مقامها مع القدرة على أدائها لنوع حاجة فكان اسم القضاء لها حقيقة من هذا الوجه.
قوله: "لأن القضاء لفظ متسع" بالكسر أي عام يجوز إطلاقه على تسليم عين الواجب ومثله; لأن معناه الإسقاط والإتمام والإحكام وهذه المعاني موجودة في تسليم عين الواجب كما هي موجودة في تسليم مثله فيجوز إطلاقه على الأداء بطريق الحقيقة لعموم معناه كإطلاق الحيوان على الإنسان والفرس والأسد وغيرها إلا أنه لما اختص بتسليم المثل عرفا أو شرعا كان في غيره مجازا فكان إطلاقه على الأداء حقيقة لغوية مجازا عرفيا أو شرعيا.
قوله: "وقد يستعمل الأداء في القضاء مقيدا" أي بقرينة يعني لا بد فيه من قرينة تدل على القضاء إذا استعمل فيه كما أنه لا بد من قرينة تدل على الشجاع إذا استعمل لفظ الأسد فيه من نحو قوله يرمي أو غيره في قولك رأيت أسدا يرمي أو في الحمام وهذا كما يقال أدى ما عليه من الدين فبقرينة قوله من الدين يفهم منه القضاء; لأن أداء حقيقة الدين محال وكما يقال نويت أن أؤدي ظهر الأمس فبقرينة الأمس يفهم منه القضاء; لأن أداء ظهر الأمس بعد مضيه محال.
قوله: "لأن للأداء خصوصا" دليل على اشتراط التقييد يعني أن معنى الأداء مختص بتسليم نفس الواجب لأنه في اللغة ينبئ عن شدة الرعاية والاستقصاء في الخروج عما لزمه وذلك بتسليم عين الواجب لا بتسليم مثله بعدما فات فلا يمكن إطلاقه على تسليم المثل إلا بطريق المجاز; فلهذا يحتاج إلى التقييد بقرينة فأما القضاء فإحكام الشيء نفسه وذلك موجود في تسليم المثل والعين فيطلق عليهما بطريق الحقيقة فلا يحتاج إلى التقييد بالقرينة.
وقال القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله وقد يستعمل القضاء في الأداء مجازا لما فيه من إسقاط الواجب ويستعمل الأداء في القضاء مجازا لما فيه من التسليم(1/206)
أي يحتال ويتكلف فيختله وأما القضاء فأحكام الشيء نفسه لا ينبئ عن شدة الرعاية واختلف المشايخ في القضاء أيجب بنص مقصود أم بالسبب
ـــــــ
فجعلا كل واحد منهما مجازا في الآخر, والتوفيق بينهما أن الشيخ نظر إلى معناهما اللغوي فوجد معنى القضاء شاملا لتسليم العين وتسليم المثل فجعله حقيقة فيهما ووجد معنى الأداء خاصا في تسليم العين فجعله مجازا في غيره فاشترط التقييد بالقرينة والقاضي الإمام وشمس الأئمة نظرا إلى العرف أو الشرع فوجدا كل واحد منهما خاصا بمعنى فجعلاه مجازا في غير ما اختص كل واحد به.
وفي بعض النسخ إلا أن للأداء خصوصا مقام; لأن معناه على هذا الوجه أن الأداء قد يسمى قضاء وعلى العكس إلا أن الأداء مختص بتسليم عين الواجب في الحقيقة والقضاء بتسليم المثل على ما بينا; لأن الأداء ينبئ عن شدة الرعاية والقضاء لا ينبئ عن شدة الرعاية بل عن مجرد الإحكام فيكون مختصا بتسليم المثل الذي ليس فيه شدة الرعاية بل فيه نوع قصور, وهذا الوجه يوافق ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله فعلى هذا الوجه يجوز أن يكون قوله مقيدا متصلا بالجملتين كما في قوله تعالى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] ويكون معناه ويسمى الأداء قضاء مقيدا بقرينة ويستعمل الأداء في القضاء مقيدا بقرينة, وقوله نفس الواجب وعينه ترادف, وقوله في الثلاثي أي الثلاثي المجرد منه أي من الأداء; لأن الأداء من منشعبة الثلاثي يقال أدى يؤدي أداء وتأدية كما يقال سلم يسلم سلاما وبلغ يبلغ بلاغا. وقوله يأدو وذكر في الصحاح يقال الذئب يأدو للغزال أي يختله ليأكله والختل الخداع وأدوت له وأديت أي ختلته وهذا مثل يضرب في مقاساة المرء في الشيء ومعاناته لرجاء نفع يعود إليه في عاقبته.
ثم حاصل ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الأداء على معنى القضاء كقوله نويت أن أؤدي ظهر الأمس وعكسه كقوله نويت أن أقضي الظهر الوقتية جائز, فأما صحة الأداء بنية القضاء حقيقة كنية من نوى أداء ظهر اليوم بعد خروج الوقت على ظن أن الوقت باق, وكنية الأسير الذي اشتبه عليه شهر رمضان فتحرى شهرا وصامه بنية الأداء فوقع صومه بعد رمضان, وعكسه كنية من نوى قضاء الظهر على ظن أن الوقت قد خرج, وهو لم يخرج بعد, وكنية الأسير الذي صام رمضان بنية القضاء على ظن أنه قد مضى فليس مبنيا على هذا الأصل كما ذهب إليه البعض; لأنه; وإن اقتصر على قصد القلب ولم يذكر باللسان شيئا فلا يشكل; لأن كلامنا في إطلاق اللفظ على معنى وليس ههنا لفظ; وإن ضم إليه الذكر باللسان, فكذلك; لأنه أراد بكل لفظ حقيقته حينئذ وليس كلامنا فيه, وأما جوازه فباعتبار(1/207)
الذي يوجب الأداء فقال بعضهم: بنص مقصود; لأن القربة عرفت قربة بوقتها وإذا فاتت عن وقتها ولا يعرف لها مثل إلا بالنص كيف يكون لها مثل بالقياس.
ـــــــ
أنه أتى بأصل النية ولكنه أخطأ في الظن والخطأ في مثله معفو على ما عرف في موضعه.
قوله: "واختلف المشايخ" أي مشايخنا واللام بدل الإضافة, في القضاء أيجب بنص مقصود أي بنص قصد به إيجاب القضاء ابتداء أم بالسبب الذي يجب به الأداء, وهو الأمر لأن وجوب الأداء يضاف إليه لا إلى السبب إذ لا يثبت بالسبب إلا نفس الوجوب; وإن شئت أبهمت السبب كما أبهمه الشيخ فقلت يجب القضاء بما يجب به الأداء سواء كان الموجب نصا أو غيره.
وقال بعض الشارحين: معنى قوله بنص مقصود بسبب ابتدائي غير سبب الأداء عرف بالنص أنه سبب له, ويدل على صحة الوجه الأول ما ذكره الشيخ رحمه الله في شرح التقويم ثم اختلف أصحابنا قال بعضهم: القضاء يجب بأمر مبتدأ من الله تعالى وقال بعضهم: لا يحتاج إلى أمر مبتدأ بل يجب المثل إذا فات المضمون بالكتاب والسنة والإجماع وما ذكر صاحب الميزان فيه اختلف مشايخنا في الأمر المؤقت إذا خرج الوقت قبل تحصيل الفعل حتى وجب القضاء أنه يجب بالأمر السابق أو يجب بأمر مبتدأ قال بعضهم: يجب بالأمر السابق وقال بعضهم: يجب بأمر مبتدأ وعليه يدل سياق كلام شمس الأئمة رحمه الله أيضا. وذكر صدر الإسلام أبو اليسر قال عامة الفقهاء إن الوقت متى فات لا يبقى المأمور دينا في الذمة ويجب القضاء في وقت آخر بدليل آخر, بعض الناس يبقي دينا في الذمة بعد خروج الوقت بحكم ذلك الأمر, والحاصل أن وجوب القضاء لا يتوقف على أمر جديد وإنما يجب بالأمر الأول عند القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة والمصنف, ومن تابعهم وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي والحنابلة وعامة أصحاب الحديث وعند العراقيين من أصحابنا وصدر الإسلام أبي اليسر وصاحب الميزان لا يجب بالأمر الأول بل بأمر آخر وبدليل آخر, وهو مذهب عامة أصحاب الشافعي وعامة المعتزلة والخلاف في القضاء بمثل معقول, فأما القضاء بمثل غير معقول فلا يمكن إيجابه إلا بنص جديد بالاتفاق, احتج من قال بأنه يجب بأمر مبتدأ بأن الواجب بالأمر أداء العبادة ولا مدخل للرأي في معرفتها; وإنما تعرف بالنص, فإذا كان الأمر مقيدا بوقت كان كون المأمور به عبادة مقيدا به أيضا ضرورة توقفه على الأمر فإن العبادة مفسرة بأنها فعل يأتي به المرء على وجه التعظيم لله تعالى بأمره وإذا كان كذلك لا يكون الفعل في وقت آخر عبادة بهذا الأمر لعدم دخوله تحت الأمر كمن قال لغيره افعل كذا يوم الجمعة لا يتناول هذا الأمر ما عدا يوم الجمعة بحكم الصيغة كما لو كان مقيدا بالمكان(1/208)
وقد ذهب وصف فضل الوقت وقال عامتهم يجب بذلك السبب وبيان ذلك
ـــــــ
بأن قيل اضرب من كان في الدار لا يتناول من لم يكن فيها وإذا لم يتناوله الأمر كان الفعل بعد الوقت وقبله سواء فيحتاج إلى أمر آخر ضرورة ولا يمتنع أن يكون الفعل مصلحة في وقت دون غيره; ولهذا كانت الصلوات مخصوصة بأوقات والصوم كذلك. ولا يقال نحن لا ندعي أنه يتناوله من حيث الصيغة; لأنه لو كان كذلك لما سمي قضاء ولكنا نقول المأمور لما فات يضمن بالمثل من غير توقف على أمر آخر كما في حقوق العباد, لأنا نقول من شرط إيجاب الضمان المماثلة ولا مدخل للرأي في مقادير العبادات وهيئاتها فلا يمكن إثبات المماثلة فيها بالرأي وكيف يمكن ذلك والأداء مشتمل على الفعل وإحراز فضيلة الوقت; ولهذا لم يجز قبل الوقت وقد فاتت فضيلة الوقت بحيث لا يمكن تداركه قال عليه السلام: "من فاته صوم يوم من رمضان لم يقضه صيام الدهر كله" 1 فكيف يكون الفعل بعد الوقت مثلا للفعل في الوقت ولما لم يمكن إيجابه بالأمر الأول توقف على دليل آخر ضرورة, قال أبو اليسر: رحمه الله إن إقامة الفعل في الوقت إنما عرفت قربة شرعا بخلاف القياس فلا يمكننا إقامة مثل هذا الفعل في وقت آخر مقام هذا الفعل بالقياس عند الفوات كما في الجمعة فإن أداء الركعتين لما عرف قربة بخلاف القياس لا يمكننا أن نقيم مثل هاتين الركعتين مقامهما في وقت آخر بالقياس عند الفوات وكما في تكبيرات التشريق, فإنها لما عرفت قربة في تلك الأيام شرعا بخلاف القياس لا يمكننا أن نقيم مثل هذه التكبيرات في غير تلك الأيام مقامها عند الفوات, واحتج من قال بأنه يجب بالأمر الأول بالقياس, وهو أن الشرع ورد بوجوب القضاء في الصوم والصلاة قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184 و185] أي فأفطر فعليه عدة من أيام أخر. وقال عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" 2, وما ورد فيه معقول المعنى فوجب إلحاق غير المنصوص به. وبيانه أن الأداء قد صار مستحقا عليه بالأمر في الوقت ومعلوم بالاستقراء أن المستحق لا يسقط عن المستحق عليه إلا بالأداء أو بالإسقاط أو بالعجز ولم يوجد الكل فبقي كما كان قبله أما عدم وجود الأداء فظاهر وكذا عدم الإسقاط; لأنه لم يوجد صريحا بيقين ولا دلالة; لأنه لم يحدث إلا خروج الوقت, وهو بنفسه لا يصلح مسقطا لأن بخروج الوقت تقرر ترك الامتثال وذلك لا يجوز أن يكون مسقطا بل
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصوم حديث رقم 2396 والترمذي في الصوم حديث رقم 723 والإمام أحمد في المسند 2/387 و442 و458 و470.
2 أخرجه أبو داود في الصلاة باب رقم 11 والنسائي في المواقيت باب رقم 53 وابن ماجة في الصلاة باب رقم 10.(1/209)
.............................................................................................
هو تقرر ما عليه من العهدة; وإنما يصلح الخروج مسقطا باعتبار العجز ولم يوجد العجز إلا في حق إدراك الفضيلة لبقاء القدرة على أصل العبادة لكونه متصور الوجود منه حقيقة وحكما فيتقدر السقوط بقدر العجز فيسقط عنه استدراك شرف الوقت إلى الإثم إن تعمد التفويت وإلى عدم الثواب إن لم يكن تعمد للعجز ويبقى أصل العبادة الذي هو المقصود مضمونا عليه لقدرته عليه فيطالب بالخروج عن عهدته بصرف المثل إليه كما في حقوق العباد.
"فإن قيل" لا نسلم أن القدرة على أصل الواجب تبقى بعد فوات الوقت; لأن الأمر مقيد بالوقت بحيث لو قدم الأداء عليه لا يصح فيكون الواجب فعلا موصوفا بصفة, ومن وجب عليه فعل موصوف بصفة لا يبقى بدون تلك الصفة كالواجب بالقدرة الميسرة لا تبقى بعد فوات تلك القدرة لفوات وصفه. وهو اليسر.
"قلنا" هذا إذا كان الوصف مقصودا ونحن نعلم أن نفس الوقت ههنا ليس بمقصود; لأن معنى العبادة في كون الفعل عملا بخلاف هوى النفس أو في كونه تعظيما لله تعالى وثناء عليه وهذا لا يختلف باختلاف الأوقات كما لا يختلف باختلاف الأماكن, وكان هذا كمن أمر بأن يتصدق درهما من ماله باليد اليمنى فشلت يده اليمنى يجب أن يتصدق باليسرى; لأن الغرض به يحصل, فكذا هنا وأما عدم صحة الأداء قبل الوقت فليس لكونه مقصودا بل لكونه سببا للوجوب والأداء قبل السبب لا يجوز ولما كان الوقت تبعا غير مقصود لم يجز أن يسقط بسقوطه ما هو المقصود الكلي, وهو أصل العبادة كمن أتلف مثليا وعجز عن تسليم المثل صورة يسقط عنه ذلك للعجز ولا يسقط بسقوط ما هو المقصود, وهو المثل معنى فيجب عليه القيمة كذا هنا, قال الشيخ أبو المعين1: رحمه الله القضاء مثل الأداء وإن لم يكن في الفضيلة مثله والمثلية في حق إزالة المأثم لا في إحراز الفضيلة, وكذا جميع عبادات أصحاب الأعذار كالمومئ وغيره يقوم مقام العبادات الكاملة في حق إزالة المأثم لا في حق إحراز الفضيلة, ولما ثبت أن النص معقول المعنى تعدى الحكم, وهو وجوب القضاء به إلى الفروع وهي الواجبات بالنذر المؤقت من الصلاة والصيام والاعتكاف وغيرها. وبما ذكرنا خرج الجواب عن قولهم إن مثل العبادة لا يصير عبادة إلا بالنص لأنا قد سلمنا ذلك ولكن الكلام في أن الفعل الذي قد شرع عبادة في غير
ـــــــ
1 هو ميمون بن محمد بن محمد بن مكحول أبو المعين النسفي الفقيه الأصولي والمتكلم الحنفي 418 – 508 انظر الفوائد البهية 216 – 217.(1/210)
أن الله تعالى أوجب القضاء في الصوم بالنص فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} [البقرة: 184] وجاءت السنة بالقضاء في الصلاة قال النبي عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" فقلنا نحن: وجب القضاء في هذا بالنص, وهو معقول فإن الأداء كان فرضا, فإذا فات فات مضمونا, وهو قادر على تسليم مثله من عنده لكون النفل مشروعا له من جنسه أمر بصرف ماله إلى ما عليه وسقط فضل الوقت إلى غير مثل وإلى غير ضمان إلا
ـــــــ
هذا الوقت حقا للعبد هل يجب إقامته مقام الفعل الواجب في الوقت عند فواته فنقول بأنه يجب; لأن الشرع قد أقامه في الصوم والصلاة بمعنى معقول فيقاس عليهما غيرهما, وقد خرج الجواب أيضا عن الجمعة وتكبيرات التشريق; لأن سقوطهما للعجز; لأن إقامة الخطبة مقام ركعتين غير مشروع للعبد في غير ذلك الوقت فبمضي الوقت يتحقق العجز فيه ويلزمه صلاة الظهر; لأن مثلها مشروع للعبد بعد مضي الوقت, وكذا الجهر بالتكبير دبر الصلوات غير مشروع للعبد في غير أيام التكبير بل هو منهي عنه لكونه بدعة فبمضي الوقت يتحقق الفوات فيه فيسقط كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله, ولا يقال لما وجب القضاء في الصلاة والصوم بالنص إذ لولاه لما عرف وجوب القضاء كيف يستقيم قولكم القضاء بالأمر الذي يوجب الأداء, لأنا نقول قد عرفنا بالنص الموجب للقضاء أن الواجب لم يكن سقط بخروج الوقت, وأن هذا النص طلب لتفريغ الذمة عن ذلك الواجب بالمثل ولهذا سمي قضاء ولو وجب به ابتداء لما صح تسميته قضاء حقيقة, وهذا كمن غصب شيئا وهلك عنده يجب الضمان لورود النصوص الموجبة له, ولكنه يضاف إلى الغصب السابق الموجب للأداء, وهو رد العين والنصوص لطلب التفريغ عن ذلك الواجب, فكذا هنا., قال الشيخ رحمه الله في شرح التقويم: الفريق الآخر قالوا الفائت مضمون عليه; لأنه واجب الأداء وما وجب أداؤه فات يصير مضمونا عليه كالمغصوب وإن لم يكن أداؤه واجبا وكانت أمانة عنده يضمن بالتفويت أيضا فثبت أنه صار مضمونا عليه عند الفوات, وله مثل مشروع عنده مملوك له, وهو النفل, فإنه شرع عبادة بحكم الأمر وأداء المثل من عنده عن الفائت المضمون أمر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع فلا يحتاج إلى أمر مبتدأ وهو الأصح.
قوله: "وبيان ذلك" أي بيان الوجوب بذلك السبب, في هذا أي في المنصوص عليه, وهو الصوم والصلاة, وهو معقول أي وجوب القضاء يدرك بالعقل, وسقط فضل الوقت إلى كذا ضمن فيه معنى الانتهاء أي سقط منتهيا إلى غير مثل بأن لم يجب من جنسه, وإلى غير ضمان بأن لم يجب من(1/211)
بالإثم إن كان عامدا للعجز, فإذا عقل هذا وجب القياس به في قضاء المنذورات المتعينة من الصلاة والصيام والاعتكاف وهذا أقيس وأشبه بمسائل أصحابنا.
ـــــــ
خلاف جنسه أيضا, فإذا عقل هذا أي المعنى الذي ذكرنا في المنصوص, وهو الصوم والصلاة وجب القياس به.
وهكذا الكلام يشير إلى أن ثمرة الاختلاف تظهر فيما ذكر من المنذورات المتعينة فعند العامة يجب قضاؤها بالقياس, وعند الفريق الأول لا يجب لعدم ورود نص مقصود فيه, ولكن ذكر أبو اليسر في أصوله أنه إذا نذر صوم هذا الشهر أو نذر أن يصلي في هذا اليوم أربع ركعات فمضى اليوم والشهر ولم يف فالقضاء واجب بالإجماع بين الفريقين ولكن على قول الفريق الأول بسبب آخر مقصود غير النذر, وهو التفويت وعلى القول الآخر بالنذر, واعلم أن التفويت إنما يوجب القضاء عندهم; لأنه بمنزلة نص مقصود فكأنه إذا فوت فقد التزم المنذور ثانيا فعلى هذا إذا فات لا بالتفويت بأن مرض أو جن في الشهر المنذور صومه أو أغمي عليه في اليوم المنذور فيه الصلاة يجب أن لا يقضى عندهم لعدم النص المقصود صريحا أو دلالة فتظهر ثمرة الاختلاف., ولكن ما ذكر شمس الأئمة أن وجوب القضاء بدليل آخر, وهو تفويت الواجب عن الوقت على وجه هو معذور فيه أو غير معذور يشير إلى أن الفوات بمنزلة التفويت عندهم في إيجاب القضاء فحينئذ لا يظهر فائدة الاختلاف في الأحكام بين أصحابنا وإنما يظهر في التخريج.
قوله: "وهذا أقيس" أي قول العامة أقرب إلى المعقول مما ذهب إليه الفريق الأول, وأشبه بمسائل أصحابنا أي أوفق لها فإنهم قالوا إن قوما فاتتهم صلاة من صلوات الليل فقضوها بالنهار بالجماعة جهر إمامهم بالقراءة ولو فاتتهم صلاة من صلوات النهار فقضوها بالليل لم يجهر إمامهم بالقراءة ومن فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر صلى ركعتين لو فاتته في الحضر فقضاها في السفر صلى أربعا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله وفي اعتبار حالة وجوب الأداء دون وجوب القضاء دليل على أنه يجب بالسبب السابق, ولا يلزم عليه ما إذا فاتته صلاة في المرض الذي يعجز فيه عن القيام والركوع والسجود فيقضيها في حالة الصحة أو على العكس حيث يعتبر فيه حالة القضاء لا حالة الأداء حتى وجب عليه القيام والركوع والسجود في الفصل الأول مع أن الأداء لم يجب بهذه الصفة ولم يجب عليه في الفصل الثاني مع أن الأداء وجب بهذه الصفة فهذا يدل على أنه وجب بدليل آخر كما قال الفريق الأول; لأنا نقول السبب في حق الأداء انعقد في الفصلين موجبا للقيام والركوع والسجود باعتبار يوهم القدرة مجوزا للانتقال إلى الخلف وهو القعود أو الإيماء عند العجز إن اختار الفعل في هذه الحالة., فكذلك عمله في حق القضاء من غير(1/212)
ولهذا قلنا في صلاة فاتت عن أيام التشريق وجب قضاؤها بلا تكبير; لأنه لا
ـــــــ
تفاوت فإذا فاتته صلاة في حالة المرض أو الصحة فقد فاتته صلاة كاملة بقيام وركوع وسجود كان له فيها ولاية الانتقال إلى الخلف عند الفعل للعجز, فإذا قضاها فهي بتلك الصفة بعينها; فإن وجد شرط النقل في هذه الحالة كان له ذلك وإلا فلا كما في الأداء ألا ترى أنه لو افتتحها في الوقت قائما ثم حدث به عجز كان له أن يتمها قاعدا وبإيماء ولو افتتحها قاعدا ثم زال العجز كان له أن يتمها قائما فإذا ثبت الانتقال في الأداء, فكذلك في القضاء وهذا كمن وجب عليه التيمم ثم قدر على الماء أو على العكس لا يجوز له التيمم في الفصل الأول, ويجوز في الفصل الثاني; لأن السبب انعقد موجبا للطهارة بالماء في الحالين لتوهم حدوث الماء مجوزا للانتقال إلى الخلف, وهو التراب عند العجز; فإن أقدم على الفعل حالة العجز كان له ولاية الانتقال إلى الخلف وإلا فلا, فكذا هذا بخلاف السفر والحضر, فإن السبب هناك قد تقرر موجبا للركعتين أو الأربع فلا يتغير ذلك في القضاء.
"فإن قيل" قد ذكرتم أن القضاء إنما يجب إذا كان قادرا على المثل وإلا سقط فينبغي أن لا يجهر الإمام في قضاء صلاة الليل إذا قضوها بالنهار لأن الجهر بالقراءة في نافلة النهار غير مشروع, وكذا ينبغي أن لا يلزمه قضاء المغرب; لأنه ليس له نافلة مشروعة على هيئة المغرب.
"قلنا" إنما يشترط لصحة القضاء كون النفل مشروعا من غير نظر إلى الكيفية والكمية فإنه يجب قضاء الظهر مع أن النفل لم يكن مشروعا على صفة الظهر ركعتان بقراءة وركعتان بغير قراءة., وكذا لا يجوز التسليم على رأس الركعتين في قضاء الظهر ويجوز في النفل فعلم أن المعتبر ما قلنا كذا أورد شيخي في فوائد الجامع الكبير1 ناقلا عن أستاذه مولانا بدر الدين الكردي رحمهما الله, وأجيب أيضا في جنس هذه المسائل بأن الشرع لما أمره بالقضاء على هذه الهيئة والصفة عرفنا أن له نفلا يصلح للصرف إلى ما عليه, ولكن يظهر ذلك في ضمن فعل القضاء لا مطلقا كما أن له أن يعين أحد الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين ضرورة التخيير ولكن يثبت ذلك في ضمن الفعل لا أن يعينه بالقول ابتداء, وكما أن للأب أن يمتلك جارية الابن ولكن في ضمن الفعل لا أن يمتلكها ابتداء ونظائره كثيرة. قوله: "ولهذا قلنا" أي ولما ذكرنا أن ما قدر عليه يجب ولا يسقط
ـــــــ
1 شيخ المؤلف هو محمد بن محمد بن نصر أبو الفضل حافظ الدين الكبير البخاري الفقيه الحنفي المولود سنة 615 هـ وتوفي سنة 693 هـ انظر الفوائد البهية ص 199 – 200.(1/213)
تكبير عنده في سائر الأيام ثم لم يسقط ما قدر عليه بهذا العذر ويتفرع من هذا الأصل مسألة النذر بالاعتكاف في شهر رمضان إذا صامه ولم يعتكف أنه
ـــــــ
بسقوط ما عجز عنه قلنا إذا فاتته صلاة في أيام التشريق وجب قضاؤها بلا تكبير أي في غير أيام التشريق, والمسألة على أربعة أوجه, إن تركها قبل أيام التشريق ثم قضاها في هذه الأيام لا يكبر وعن أبي يوسف أنه يكبر; لأنه قدر على وجه الكمال فيلزمه كالمريض إذا فاتته صلاة بإيماء فقضاها في الصحة يقضيها بركوع وسجود, وأنا نقول: الجهر بالتكبير لم يشرع إلا مقدرا فلو كبر للفائتة يكون زيادة على ذلك المقدر.; وإن تركها في أيام التشريق فقضاها في غير أيام التشريق وهي مسألة الكتاب, فإنه لا يكبر وقال الشافعي رحمه الله يكبر ليكون القضاء على حسب الفوات, وأنا نقول الجهر بالتكبير بدعة إلا في زمان مخصوص فيبطل بفوته كرمي الجمار يسقط بانقضاء أيام النحر وكالجمعة وكالأضحية وصار كالصحيح إذا نسي صلاة فقضاها في المرض يقضيها بإيماء; وإن قضاها في أيام التشريق من العام القابل وحده أو بجماعة لا يكبر أيضا; لأن الزيادة على المشروع بدعة, فأما إذا قضاها في هذه الأيام من هذه السنة بجماعة, فإنه يكبر; لأن وقت التكبير قائم ولو كبر لا يزيد على المشروع في هذه الأيام فيكبر; ليكون القضاء على حسب الفوات كذا ذكر شمس الإسلام الأوزجندي في شرح الجامع.
وذكر الشيخ في شرح الجامع في هذه المسألة أنه إنما يكبر; لأن التكبير جهرا مشروع فيها, ويصلح أن يكون مشروعا في حق النوافل إلا أنه لم يؤد لفقد شرطه, وهو الجماعة فظهر ذلك في حق الصرف إلى ما عليه; لأنه مثل لما فات بجماعة وعندهما لم يكبر في النوافل احتياطا فظهر ذلك في حق ما عليه أيضا ولا يشترط الجماعة عندهما للتكبير كما في الأداء.
"فإن قيل" إنه قد عجز عن صفة الجهر لا غير; لأن أصل التكبير مشروع فينبغي أن لا يسقط الأصل مع القدرة عليه بالعجز عن الوصف فيجب عليه التكبير خفية.
"قلنا" قد ذكرنا أن الوصف إذا كان مقصودا يسقط الأصل بفواته وههنا كذلك; لأن التكبير في هذه الأيام من الشعائر وذلك يختص بصفة الجهر فيسقط بسقوطه لعدم حصول المقصود بالأصل بدون الوصف.
قوله: "ويتفرع عن هذا الأصل", وهو أن القضاء يجب بما وجب به الأداء عند عامة مشايخنا وبنص مقصود عند آخرين مسألة النذر بالاعتكاف, وهي أن يقول لله علي أن أعتكف شهر رمضان أو أن أعتكف هذا الشهر سواء عينه باسمه العلمي أو بالإشارة فصامه(1/214)
يقضي اعتكافه ولا يجزئ في رمضان آخر. قالوا: لأن القضاء إنما وجب بالتفويت ابتداء لا بالنذر والتفويت سبب مطلق عن الوقت فصار كالنذر المطلق لكنا
ـــــــ
ولم يعتكف لزمه أن يقضي الاعتكاف متتابعا بصوم مبتدأ وعند الحسن بن زياد لا شيء عليه, وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف وزفر رحمهم الله; لأنه التزم اعتكافا بصوم لا أثر للاعتكاف في وجوبه ولا سبيل إلى قضائه في شهر آخر; لأنه يلزمه بصوم للاعتكاف أثر في وجوبه فيزيد على ما التزمه فوجب أن يبطل.
وجه الظاهر على مذهب الفريق الأول هو أن القضاء إنما يجب بالتفويت ابتداء لا بالدليل الذي تعلق به الأصل والتفويت سبب مطلق عن الوقت أي لا يخص القضاء بوقت دون وقت كالأوامر المطلقة فصار كأنه قال بعد فوات الوقت لله علي أن أعتكف شهرا متتابعا لأنا قد ذكرنا أن التفويت بمنزلة التنصيص ثانيا على الإيجاب فلذلك يلزمه الاعتكاف بصوم مقصود.
وأما الفريق الثاني فإنهم يقولون الواجب بالنذر بمنزلة الواجب بالأمر وذلك مضمون بالقضاء, فكذلك هذا وإذا وجب صار من ضرورته إيجاب الفضل; لأن تحمل الفضل أحق من إبطال الأصل; فإن لم يقضه حتى جاء شهر رمضان من قابل فقضى فيه لم يجز عندنا خلافا لزفر رحمه الله; لأن الصوم شرط الاعتكاف والشرط يعتبر وجوده تبعا لا وجوده قصدا كالطهارة; ولهذا صح نذره بهذا الاعتكاف فكان كمن نذر أن يصلي ركعتين, وهو متطهر يجوز له أن يصلي المنذور بتلك الطهارة; فإن انتقض وضؤه يلزمه التوضؤ لأداء المنذور; فإن توضأ لصلاة أخرى يجوز له أن يصلي المنذور بتلك الطهارة, فكذا هذا., ولنا أنه إذا لم يعتكف حتى وجب القضاء عليه صار التفويت بمنزلة نذر مطلق عن الوقت على القول الأول أو صار ذلك النذر مطلقا عن الوقت على القول الثاني فلا يتأدى بصوم رمضان وهذا; لأن الصوم, وإن كان شرطا ههنا لكنه مما يلتزم بالنذر بخلاف الطهارة; لأنها مما لا يلتزم بالنذر أصلا ولما أثر النذر في إيجابه لا يتأدى بواجب آخر كذا في شرح الجامع للمصنف وشمس الإسلام رحمهما الله.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الفريق الأول استدلوا بهذه المسألة على صحة مذهبهم بوجهين:
أحدهما أنهم قالوا لو كان القضاء واجبا بالسبب الأول; لكان ينبغي أن يبطل فيما إذا صام ولم يعتكف كما قال أبو يوسف رحمه الله; لأن السبب الأول لا أثر له في إيجاب الصوم كما ذكرنا ولا يمكن إيجاب القضاء بلا صوم ولا يمكن إيجاب صوم بلا موجب فيبطل ولم يبطل باتفاق بيننا فعرفنا أنه وجب بسبب آخر أوجب الصوم.(1/215)
نقول إنما وجب القضاء في هذا بالقياس على ما قلنا لا بنص مقصود في هذا الباب وإذا ثبت هذا لم يكن بد من إضافته إلى السبب الأول ألا ترى أنه يجب بالفوات مرة وبالتفويت أخرى إلا أن الاعتكاف الواجب بالنذر مطلقا أثر في
ـــــــ
والثاني أنه لو كان واجبا بما وجب به الأداء, وهو الأمر بالوفاء بالنذر لجاز قضاؤه في الرمضان الثاني كما قال زفر رحمه الله: لأنه مثل الأول في كون الصوم مشروعا فيه مستحقا عليه وصحة أداء الاعتكاف به ومع هذا لم يجز فعرفنا أن وجوب القضاء غير مضاف إلى السبب الذي يجب به الأداء وفي قول الشيخ أنه يقضي اعتكافه ولا يجري في شهر رمضان الآخر إشارة إلى الوجهين والدليل على الوجهين واحد, وهو أن التفويت بمنزلة نذر مطلق عن الوقت فلهذا لم يفصل بينهما.
وقوله لكنا نقول استدراك عما قالوا إنه يجب بالتفويت ولهذا ذكر كلمة الحصر أي لا يجب إلا بكذا, في هذا أي في النذر, بالقياس على ما قلنا من الصلاة والصوم, لا بنص مقصود وهو التفويت, وفيه إشارة إلى أن التفويت كنص مقصود عندهم, في هذا الباب, وهو النذر, وإذا ثبت هذا أي عدم وجوب القضاء بنص مقصود بالدليل الذي ذكره لم يكن بد من إضافة وجوب القضاء إلى السبب الأول, وهو النذر.
قوله: "ألا ترى أنه يجب بالفوات مرة" استدلال على أنه لا يمكن إضافته إلى التفويت; لأنه لو كان كذلك يلزم أن لا يجب في الفوات, وذلك بأن جن أو أغمي عليه أو مرض حتى فاته المنذور لا باختياره إذ لا يمكن أن يجعل فوات المنذور حينئذ بمنزلة نذر ابتدائي; لأنه لا بد فيه من كونه مختارا ولا اختيار في الفوات فلا يكون الفوات بمنزلة نص مقصود, ولما وجب في الفوات كما وجب في التفويت يضاف إلى معنى يشملهما, وهو السبب الأول, وصورة الفوات في مسألة الاعتكاف بأن مرض مرضا لا يمنعه من الصوم ويمنعه من الاعتكاف بأن صار مبطونا أو نحوه.
قوله: "إلا أن الاعتكاف" جواب سؤال يرد عليه, وهو أنه لو كان مضافا إلى السبب الأول فكيف وجب زائدا على ما أوجبه السبب الأول مع أن الحكم لا يزيد على العلة فقال نعم إلا أن مطلق الاعتكاف الواجب من غير نظر إلى تقيده بوقت أو عدم تقيده به أو الاعتكاف الواجب الذي هو مطلق عن الوقت يقتضي صوما للاعتكاف أي للنذر الذي يوجبه أثر في إيجابه; لأن الصوم شرطه وشرط الشيء تابع له وما لا يتوسل إلى الواجب إلا به يجب كوجوبه تبعا له, وقيد بالواجب; لأن في الاعتكاف النفل لا يشترط الصوم في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يشترط فيه الصوم أيضا; لأن(1/216)
إيجابه وإنما جاء هذا النقصان في مسألة شهر رمضان بعارض شرف الوقت وما ثبت بشرف الوقت فقد فات بحيث لا يتمكن من اكتساب مثله إلا بالحياة إلى رمضان آخر, وهو وقت مديد يستوي فيه الحياة والموت فلم يثبت القدرة فسقط فبقي مضمونا بإطلاقه, وكان هذا أحوط الوجهين; لأن ما ثبت بشرف
ـــــــ
الصوم فيه كالطهارة في الصلاة فعلى هذا لا يكون الاعتكاف النفل أقل من يوم وجه الظاهر أن مبنى النفل على المساهلة والمسامحة حتى يجوز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول والواجب لا يجوز قال محمد رحمه الله: إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما أقام تارك له إذا خرج فيثبت أن الظاهر ما ذكرنا كذا في المبسوط, غير أنه امتنع وجوب الصوم بوجوب هذا الاعتكاف, بعارض على شرف الزوال, وهو شرف الوقت, وهو معنى قوله; وإنما جاء هذا النقصان أي عدم اقتضاء الاعتكاف صوما له أثر في إيجابه بعارض شرف الوقت أي بتقيد الاعتكاف واتصاله بوقت شريف لا يقبل إيجاب الصوم من جهة العبد لشرفه, أو معناه إنما لم يوجب هذا الاعتكاف صوما; لأنه يضاف إلى شهر شريف فكان الاعتكاف فيه أفضل من غيره قال عليه السلام: "من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه., ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه" 1.
فاكتفى فيه بصوم الشهر لإدراك هذه الفضيلة, وما ثبت بشرف الوقت, وهو زيادة فضيلة حصلت لهذا الاعتكاف بسبب شرف الوقت فقد فات بفوات الوقت أصلا; لأنه لا يتمكن من اكتساب مثله إلا بإدراك العام القابل وذلك متردد لاستواء الحياة والممات في هذه المدة فلا يثبت به القدرة, فسقط أي استدراك ما ثبت بشرف الوقت واكتساب مثله للعجز كما في الصوم والصلاة بعد خروج الوقت, فبقي أي الاعتكاف مضمونا في الذمة, بإطلاق الاعتكاف أي بإطلاق ما يوجب الاعتكاف, وهو النذر السابق عن الوقت كالأمر بالصلاة بعد خروج الوقت, ولما صار النذر بالاعتكاف مطلقا بزوال العارض وجب به الصوم المقصود ولم يتأد في الرمضان الثاني كما لو كان ذلك النذر مطلقا ابتداء; لأنه يريد بذلك صرف الواجب إلى الواجب الآخر وليس له ذلك, فصار الحاصل أن الفريق الأول جعلوا التفويت كالنذر المطلق والعامة جعلوا النذر السابق بعد زوال العارض كالنذر المطلق, ولا يقال لما صار النذر السابق كالمطلق بعد زوال العارض حتى وجب به الصوم
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال حديث رقم 24276 والمنذري في الترغيب والترهيب 2/94.(1/217)
الوقت من الزيادة احتمل السقوط فالنقصان والرخصة الواقعة بالشرف; لأن يحتمل السقوط والعود إلى الكمال أولى. وإذا عاد لم يتأد في الرمضان الثاني والأداء في العبادات يكون في الموقتة في الوقت وفي غير الموقتة أبدا على ما
ـــــــ
المقصود لزم أن لا يتأدى بصوم القضاء فيما إذا لم يصم ولم يعتكف ثم اعتكف في قضاء الصوم متتابعا كما لو كان النذر مطلقا ابتداء, لأنا نقول امتناع وجوب الصوم في هذا الاعتكاف يجوز أن يكون باعتبار شرف الوقت ويجوز أن يكون باعتبار اتصاله بصوم الشهر فإن زال شرف الوقت لم يزل الاتصال لبقاء الخلف فيجوز لبقاء إحدى العلتين.
قوله: "وكان هذا أحوط الوجهين" قيل الوجهان إيجاب القضاء بالسبب الذي وجب به الأداء وإيجابه بسبب آخر مقصود والأول أحوط; لأنه لو أضيف إلى سبب آخر يجب أن لا يلزم عليه القضاء عند الفوات والأول يوجب القضاء عند الفوات والتفويت جميعا فكان أولى, والأولى أن يقال الوجهان إيجاب القضاء بصوم مقصود وإسقاطه بزوال الوقت لتعذر الاعتكاف بلا صوم وتعذر إيجاب الصوم بلا موجب كما قاله أبو يوسف رحمه الله فإيجاب القضاء أحوطهما; لأن فيه إسقاط النقصان وإعادة الواجب إلى صفة الكمال بإيجاب تبعه لوجوبه وفي الوجه الآخر إسقاط أصل الواجب لتعذر إيجاب التبع وقد أمكن اعتبار هذا الوجه مع رعاية الأصل الذي مهدناه بالطريق الذي قلنا, وبيان الإمكان أن الزيادة التي تثبت بسبب شرف الوقت للعبادة احتملت السقوط بزوال الوقت كما بينا في الصوم والصلاة, فالنقصان, وهو عدم وجوب الصوم به, والرخصة الواقعة بالشرف, وهي الاكتفاء بصوم الوقت لأن يحتمل السقوط والعود إلى الكمال أولى; لأن الأول عود من الكمال إلى النقصان, وهذا عود من النقصان إلى الكمال ومن الرخصة إلى العزيمة ولما عاد إلى الكمال لم يتأد في الرمضان الثاني, وفي بعض النسخ والنقصان بالواو والنصب عطفا على السقوط وليس بمستقيم لأن السقوط حينئذ يرجع إلى الزيادة والنقصان يرجع إلى محل الزيادة, وهو الصوم والصلاة فيختلف الضمير المستكن في احتمل فيختل الكلام; ولأن السقوط في قوله لأن يحتمل السقوط راجع إلى النقصان والعود إلى الكمال راجع إلى الرخصة وفي عطف النقصان على السقوط إبطال هذه اللطيفة فكانت النسخة الأولى أولى.
قوله: "وفي غير المؤقتة" كسجود التلاوة وأداء الزكاة وصدقة الفطر والكفارات, أبدا أي في العمر; لأن جميع العمر فيه بمنزلة الوقت فيما هو مؤقت., وهذا على مذهب من قال الأمر المطلق لا يوجب الفور ظاهر, وهو مذهب عامة أصحابنا, وكذا على مذهب بعض القائلين بالفور; لأن أول أوقات الإمكان; وإن تعين عندهم إلا أن بفوته لا يصير قضاء;(1/218)
نبين إن شاء الله تعالى والمحض ما يؤديه الإنسان بوصفه على ما شرع مثل الصلاة بالجماعة فأما فعل الفرد فأداء فيه قصور ألا ترى أن الجهر عن المنفرد ساقط والشارع مع الإمام في الجماعة مؤد أداء محضا والمسبوق ببعض الصلاة
ـــــــ
لأن معنى هذا الأمر افعل في الوقت الأول; فإن أخرت ففي الثاني والثالث إلى آخر العمر فيكون أداء لا قضاء, فأما عند الباقين منهم إذا فات عن أول أوقات الإمكان فإنه يصير قضاء; لأن أول أزمنة الإمكان وقت مقدر كوقت الصلاة; ولهذا من شرط منهم الأمر الجديد في القضاء شرطه ههنا كذا في الميزان وغيره, على ما تبين من بعد يعني قبيل باب النهي, والمحض منه أي الخالص الكامل من الأداء, هو الذي يؤديه الإنسان ملتبسا بوصفه كما شرع مثل الصلاة بجماعة; لأن هذه صلاة توفر عليها حقها من الواجبات والسنن والآداب لما بينا أن الأداء ينبئ عن الاستقصاء وشدة الرعاية وفيها ذلك, وهذا في الصلاة التي سنت الجماعة فيها مثل المكتوبات والوتر في رمضان والتراويح فأما فيما لم تسن الجماعة فيه مثل عامة النوافل والوتر في غير رمضان فالجماعة فيها صفة قصور عندنا كالإصبع الزائدة, فأداء فيه قصور لعدم وصفه المرغوب فيه شرعا, وهو الجماعة فإن الصلاة بالجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة كما نطق به الحديث1, الجهر ساقط أي وجوبه والجهر صفة كمال في الصلاة بدليل وجوب السجدة بتركه., ولما كان الأداء منقسما أقساما ثلاثة; لأنه إما إن أديت الصلاة كلها مع الجماعة أو بعضها وذلك البعض إما إن كان أول الصلاة أو غيره أعاد قوله والشارع مع الإمام في الجماعة أي الذي شرع معه وأتمها معه مؤد أداء محضا أي كاملا ليبين القسمين الآخرين.
قوله: "والمسبوق ببعض الصلاة" أي الذي فاته أول الصلاة مع الإمام بأن فاتته الركعة الأولى أو أكثر مؤد أيضا; لأنه يؤديها في الوقت, لكنه منفرد في أداء ما سبق به; لأن الاقتداء لم يتحقق فيما فرغ الإمام من أدائه, فكان أي المسبوق فيه مؤديا أداء قاصرا أو فعله أداء قاصرا ولكن فعله في القصور دون فعل المنفرد من وجهين:, أحدهما: أن صفة الجماعة موجودة ههنا في البعض بخلاف المنفرد, والثاني أنه وإن كان منفردا فيما سبق به حتى لزمه القراءة وسجود السهو لو سها فيه لكنه مقتد فيه باعتبار التحريمة; لأنه أدركها مع الإمام, وهي شيء واحد ولهذا لا يصح اقتداء الغير به فكان الذي صلى بغير إمام منفردا في الكل أداء وتحريمة والمسبوق منفردا في البعض أداء لا تحريمة فكان قصوره دون الأول بدرجتين.
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الآذان 645 ومالك في الموطأ في الصلاة 1/129.(1/219)
مؤد أيضا لكنه منفرد فكان قاصرا ومن نام خلف الإمام أو أحدث فذهب يتوضأ ثم عاد بعد فراغ الإمام فهذا مؤد أداء يشبه القضاء.
ألا ترى أنهم قالوا في مسافر اقتدى بمسافر في الوقت ثم سبقه الحدث أو نام حتى فرغ الإمام ثم سبقه الحدث فدخل مصره للوضوء أو نوى الإقامة,
ـــــــ
قوله: "ومن نام خلف الإمام" ثم انتبه بعد فراغه. "أو أحدث" أي صار محدثا, وهو المسمى باللاحق أي الذي أدرك أول الصلاة وفاته الباقي, مؤد أي باعتبار بقاء الوقت أداء, يشبه القضاء باعتبار فوات ما التزمه من الأداء مع الإمام بفراغه, ولما كانت الجهة مختلفة صح اجتماعهما في فعل واحد مع كونهما متنافيين. وإنما جعلنا فعله أداء يشبه القضاء لا على العكس; لأنه باعتبار أصل الفعل مؤد وباعتبار الوصف قاض والوصف تبع, ثم من المعلوم أن القضاء يقوم مقام الأداء فكان هو في حكم المقتدي دون المنفرد حتى لا يلزمه القراءة وسجود السهو لو سها كالمقتدي, وكان فعله في القصور دون فعل المسبوق; لأنه مؤد باعتبار الوقت وقاض صفة الجماعة فيما فاته مع الإمام فكان أداؤه كاملا بعضه حقيقة وبعضه حكما, يوضح ما ذكرنا ما قال محمد رحمه الله في أيمان الجامع لو قال عبدي حر إن صليت الجمعة مع الإمام فسبق فيها بركعة لم يحنث; لأنه إنما صلى معه ركعة فأما الأخرى فلا; لأن المسبوق منفرد لا إمام له, ولو افتتح مع الإمام ثم نام حتى سلم الإمام ثم قام فصلى حنث; لأن النائم الذي يقضي مثل ما انعقد له إحرام الإمام مقتد به كذا ذكر الشيخ في جامعه.
"فإن قيل" قد جعل صاحب الشرع المسبوق قاضيا بقوله: "وما فاتكم فاقضوا" 1 فكيف يستقيم جعله مؤديا "قلنا" قد بينا أن استعمال إحدى العبارتين مكان الأخرى مجازا جائز; وإنما سمي المسبوق قاضيا مجازا لما فعله من إسقاط الواجب أو باعتبار حال الإمام وإليه أشار في قوله: "وما فاتكم" ونحن إنما جعلناه مؤديا باعتبار حاله ويؤيده ما أورده الإمام محمد بن إسماعيل2 رحمه الله في الصحيح: "وما فاتكم فأتموا" , أشار إلى أكثر هذه اللطائف شمس الأئمة رحمه الله.
قوله: "ألا ترى أنهم" أي المشايخ استدلال على شبه القضاء, في الوقت حتى لو اقتدى به خارج الوقت لا يتغير بمغير بحال بالاتفاق, ثم سبقه الحدث أي قبل فراغ الإمام,
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الآذان 1/163 – 164 ومسلم في المساجد حديث رقم 602 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 572 وابن ماجه في المساجد حديث رقم 775 والإمام أحمد في المسند 2/237 و238.
2 هو محمد بن إسماعيل البخاري 194 – 256هـ.(1/220)
وهو في غير مصره والوقت باق أنه يصلي ركعتين ولو تكلم صلى أربعا ولو كان الإمام بعد لم يفرغ أو كان هذا الرجل مسبوقا صلى أربعا كما في المسألة الأولى.
ـــــــ
ثم سبقه الحدث أي بعد الفراغ ضرورة, فدخل في مصره في الصورتين بعد فراغ الإمام, أو نوى الإقامة أي في موضع الإقامة والوقت باق إذ لو لم يكن باقيا يصلي ركعتين; وإن تكلم بلا خلاف أنه يصلي ركعتين باعتبار معنى القضاء, ولو تكلم أي هذا المسافر اللاحق بعد وجود المغير صلى أربعا لزوال شبه القضاء بالخروج عن التحريمة المشتركة وبقاء الوقت فيتغير فرضه.
وعكس هذه المسألة مسافر أحدث فانفتل ليأتي مصره فيتوضأ ثم علم أن أمامه ماء, فإنه يتوضأ ويصلي أربعا, فإن تكلم صلى ركعتين; لأنه حين عزم على الانصراف إلى أهله فقد صار مقيما وبعدما صار مقيما في صلاة لا يصير مسافرا فيها; لأن السفر عمل وحرمة الصلاة تمنعه من مباشرة العمل بخلاف الإقامة; لأنها ترك السفر وحرمة الصلاة لا تمنعه عن ذلك, فإذا تكلم فقد ارتفعت حرمة الصلاة, وهو متوجه أمامه على عزم السفر فصار مسافرا كذا في المبسوط بعد أي بعد وجود المغير ولو تكلم أي هذا الرجل المسبوق, فالحاصل أن المسبوق يصلي أربعا بعد وجود المغير سواء فرغ الإمام أو لم يفرغ تكلم أو لم يتكلم; لأنه مؤد. وكذا اللاحق إذا تكلم أو لم يفرغ إمامه, فأما إذا فرغ إمامه ثم وجد المغير والوقت باق فإنه يصلي ركعتين عندنا وقال زفر رحمه الله يصلي أربعا; لأنه إما أن يعتبر اللاحق بالمسبوق نظرا إلى انفراده حقيقة أو بالمقتدي نظرا إلى الاقتداء حكما والحكم في صلاتهما أنها تتغير بالمغير, فكذا للاحق, وأنا نقول اللاحق مع كونه مقتديا ليس بمؤد; لأنه يستحيل أن يجعل مؤديا خلف الإمام ولا إمام له بل هو قاض شيئا فاته مع الإمام وجعل كأنه خلف الإمام في الحكم; لأن العزيمة في حقه أن يؤدي مع الإمام; لأنه مقتد لكن الشرع جوز الأداء بعد فراغ الإمام إذا فاته الأداء بعذر وجعل أداؤه في هذه الحالة كالأداء مع الإمام وهذا هو تفسير القضاء; لأن معناه أن يؤدي شيئا بمثل ما وجب عليه قبل ذلك فصار اللاحق بمنزلة القاضي الحقيقي بعد الوقت فلا يؤثر في فعله نية الإقامة.
وهذا; لأن المغير لم يتصل بالأصل لانقضائه فلم يتغير في نفسه فلا يتغير ما بنى عليه, وهو القضاء بخلاف المسبوق فإنه منفرد مؤد شيئا عليه في الحال, وكذا الذي خلف الإمام حقيقة; لأنه مؤد في الحال فيجوز أن تعمل نية الإقامة في تغير صلاته وصلاته(1/221)
وأصل هذا أن هذا مؤد باعتبار الوقت لكنه قاض باعتبار فراغ الإمام لأنه كأنه خلف الإمام لا أنه في الحقيقة خلفه فصار قاضيا لما انعقد له إحرام الإمام بمثله والمثل بطريق القضاء إنما يجب بالسبب الذي أوجب الأصل فما لم يتغير الأصل لم يتغير المثل. فإذا لم يفرغ الإمام حتى وجد من المقتدي ما يوجب إكمال صلاته تمت صلاته بنية إقامته أو بدخول مصره لأنه مؤد في الوقت, فأما إذا فرغ الإمام ثم وجد ما ذكرنا فإنما اعترض هذا على القضاء دون الأداء, فإذا لم يتغير الأداء لم يتغير القضاء كما إذا صار قضاء محضا بالفوات عن الوقت ثم وجد المغير وإذا تكلم فقد بطل معنى القضاء وعاد الأمر إلى
ـــــــ
محتملة للتغير مع وصف التبعية بدليل أنه يجوز أن يكون صلاته على خلاف وصف صلاة الإمام في الابتداء فجاز في البقاء; ولأنه منفرد فيما سبق وأثر التغير يظهر فيه, وهو ليس بتابع فيه كذا في مبسوط الشيخ رحمه الله.
"فإن قيل" نية الإمام إنما لم تعتبر لخروجه عن حرمة الصلاة فأما المقتدي فهو في حرمة الصلاة فيكون نيته معتبرة. "قلنا" المقتدي تبع فيجعل كالخارج من الصلاة حكما بخروج إمامه منها كذا في مبسوط شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وأصل ذلك, استدل أولا بالحكم على صحة المذهب ثم بين المعنى فيه فقال: وأصل ذلك أي أصل ما ادعينا من شبه القضاء في فعل اللاحق", أن هذا أي اللاحق, وقوله كأنه خلف الإمام لا أنه في الحقيقة خلف الإمام نفي لقول زفر رحمه الله فإنه جعله مؤديا خلف الإمام حقيقة حيث جعل اللاحق والمؤدي خلف الإمام سواء كما بينا, فصار أي اللاحق قاضيا لما انعقد له إحرام الإمام بمثله الباء تتعلق بقاضي والضمير عائد إلى ما وفي هذه العبارة نوع تسامح; لأنه لا يقضي ما انعقد له إحرام الإمام; وإنما يقضي ما انعقد له إحرام نفسه من المتابعة والمشاركة معه في الفعل الذي فاته بفراغ الإمام إلا أن المتابعة والمشاركة لما لم تتحقق بدون فعل الإمام جعل فعل الإمام أصلا, فما لم يتغير الأصل أي ما دام الأصل, وهو الأداء لا يقبل التغير لا يتغير المثل; لأن القضاء خلف الأداء والخلف لا يفارق الأصل, وقد تم هنا بيان الأصل.
ثم شرع في ترتيب الفروع المذكورة عليه فقال فإذا لم يفرغ الإمام وقد وجد المغير في صلاة المقتدي تمت صلاته لعدم المانع للمغير من العمل لقبول الأصل التغير; لأنه مؤد من كل وجه فاعتراض المغير يؤثر فيه. قوله: "بخلاف المسبوق" متصل بقوله ثم وجد المغير أو بقوله, فإذا لم يتغير الأداء لم يتغير القضاء; وإنما قال أيضا لئلا يتوهم أن(1/222)
الأداء فتغير بالمغير لقيام الوقت بخلاف المسبوق أيضا لأنه مؤد ولهذا قلنا في اللاحق لا يقرأ ولا يسجد للسهو بخلاف المسبوق لما بينا أنه قاض لما انعقد له إحرام الجماعة وأما القضاء فنوعان: إما بمثل معقول فكما ذكرنا وإما بمثل غير معقول فمثل الفدية في الصوم وثوابه النفقة في الحج بإحجاج النائب لأنا لا
ـــــــ
مسألة المسبوق تخالف مسألة التكلم; لأن ظاهر الكلام يقتضي ذلك لولاه فقوله أيضا يدل على أن مسألة التكلم توافق مسألة المسبوق وأنهما تخالفان مسألة اللاحق فعلى هذا لو قيل وبخلاف بالواو لاستقام المعنى كما استقام بدونها, وكان عطفا على مسألة التكلم من حيث المعنى والتقدير بخلاف ما إذا تكلم وبخلاف المسبوق أيضا "قوله وأما القضاء فنوعان" أي القضاء الخالص نوعان فأما الذي شابه معنى الأداء فقسم آخر, أو معناه أن القضاء بالنظر إلى كون المثل معقولا وغير معقول نوعان فيدخل فيه جميع أقسامه; لأن القضاء الذي فيه معنى الأداء لا يخلو من أن يكون قضاء بمثل معقول أو غير معقول, ثم تقسيمه بالنظر إلى خلوصه وعدم خلوصه لا يضر بالتقسيم الأول كما أن اللفظ يقسم على اسم وفعل وحرف بالنظر إلى معنى ثم يقسم إلى مفرد ومركب بالنظر إلى معنى آخر ولا يضر ذلك بالتقسيم الأول فكذا هذا., وتقدير الكلام أما القضاء فنوعان قضاء بمثل معقول وقضاء بمثل غير معقول أما القضاء إلى آخره وإنما اختصر اعتمادا على ما ذكره في أول الباب "قوله فمثل الفدية في باب الصوم" فإنها شرعت خلفا عن الصوم عند العجز المستدام عن الصوم لعجز الشيخ الفاني ومن بحاله, والفدية والفداء البدل الذي يتلخص به عن مكروه توجه إليه.
قوله: "وثواب النفقة" أي الإنفاق في الحج بإحجاج النائب. واعلم أن الإحجاج عن الغير جائز ولكنه في الحج الفرض مشروط بالعجز الدائم حتى جاز عن الميت وعن المريض الذي لا يستطيع الحج إذا لم يزل مريضا حتى مات فإن صح فعليه حجة الإسلام والمؤدى تطوع; لأنا عرفنا جوازه بحديث الخثعمية1 وقد ورد في عجز الشيخوخة وأنها دائمة لازمة ولأنه فرض العمر فيعتبر فيه عجز يستغرق بقية العمر ليقع به اليأس عن الأداء بالبدن, وفي التطوع ليس بمشروط بالعجز حتى إن صحيح البدن إذا أحج بماله رجلا على سبيل التطوع عنه يجوز; لأن مبنى التطوع على التوسع. ثم المتأخرون من أصحابنا اختلفوا في هذه المسألة فقال عامتهم: للآمر ثواب النفقة ويسقط الواجب عن الآمر فأما الحج فيقع
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الحج ومسلم في الحج حديث رقم 1334 والترمذي في الحج حديث 928 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1809 وابن ماجه في المناسك حديث رقم 2907.(1/223)
نعقل المماثلة بين الصوم والفدية لا صورة ولا معنى فلم يكن مثلا قياسا وأما الصوم فمثل صورة ومعنى وكذلك ليس بين أفعال الحج ونفقة الإحجاج مماثلة بوجه لكنا جوزناه بالنص
ـــــــ
عن المأمور وهو رواية عن محمد رحمه الله; لأن الحج عبادة بدنية ولا تجري النيابة في أداء العبادات البدنية ولكن له ثواب الإنفاق; لأنه فعله فيثاب عليه وإنما يسقط عن الآمر الحج إما; لأن الإنفاق سبب وإقامة السبب مقام المسبب أصل في الشرع أو لأن الواجب عليه إنفاق المال في طريق الحج وأداء الحج, فإذا عجز عن أداء الحج بقي عليه مقدار ما يقدر عليه وهو إنفاق المال في طريق الحج فيلزمه دفع المال لينفقه الحاج في الطريق والدليل عليه أنه يشترط أهلية النائب لصحة الأفعال حتى لو أمر ذميا لا يجوز ولو كان الفعل ينتقل إلى الآمر لشرط أهليته لا أهلية النائب كما في الزكاة, ولا يقال لما لم تجر النيابة في الأفعال ووقعت عن نفسه لزم أن يسقط عن المأمور فرض الحج بهذه الأفعال; لأنا نقول فرض الحج لا يتأدى إلا بنية الفرض أو بمطلق النية ولم يوجد وإنما وجدت النية عن الآمر. وقال بعضهم الحج يقع عن الآمر وهو اختيار شمس الأئمة في المبسوط وهو ظاهر المذهب; لأن ظواهر الأخبار في هذا الباب تشهد به فإنه عليه السلام قال لسائلة, "حجي عن أبيك واعتمري" . وقال رجل يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج أفيجزئني أن أحج عنه؟ فقال "نعم" 1. وحديث الخثعمية في هذا الباب مشهور على ما سنذكره فدل أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه ولهذا يشترط الحج عنه ولو نوى الحج لنفسه يصير ضامنا. يوضحه أن الواجب عليه الفعل لا الإنفاق بدليل أنه لو حج من غير أن ينفق من ماله يسقط عنه الفرض ولو أنفق في الطريق ولم يحج لا يسقط فثبت أن النيابة في الفعل. وإذا ثبت هذا قلنا قوله وثواب النفقة في الحج بإحجاج النائب إنما يصح على المذهب الأول لا على المذهب الثاني; لأن الفعل فيه أقيم مقام الفعل لا الإنفاق. ثم على هذا المذهب بيان أن المماثلة بين الفعل والفعل غير معقولة مع كونها معقولة ظاهرا أن يقال إنما جعل فعل نفسه مثلا لفعل نفسه في قضاء الصلاة والصوم لحصول المشقة وإتعاب النفس في الفعل الثاني كحصولها في الفعل الأول فأما فعل الغير فلا يحصل به المشقة له فكيف يكون مثلا لفعل نفسه؟ ألا ترى أنه لا مدخل للقياس فيه حتى لم تجز أن يقضي الابن صلاة أبيه ولا صيامه بأمره وبغير أمره, ولو كانت المثلية معقولة بينهما لجاز إثباته بالقياس كما في المنذورات المتعينة.
قوله: "لا صورة ولا معنى" أما عدمها صورة فظاهر. وأما معنى فلأن معنى الصوم
ـــــــ
1 أخرجه النسائي في الحج حديث رقم 2638.(1/224)
قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أي لا يطيقونه وهذا مختصر بالإجماع وثبت في الحج بحديث
ـــــــ
إتعاب النفس بالكف عن قضاء الشهوتين, ومعنى الفدية تنقيص المال ودفع حاجة الغير فلم يكن الفدية مثلا للصوم قياسا أي رأيا وفي قوله; لأنا لا نعقل المماثلة لطف ورعاية أدب ليس ذلك في قوله فيما بعده وكذلك ليس بين أفعال الحج ونفقة الإحجاج مماثلة بوجه يعرف ذلك بالذوق. وإنما جاء التفرقة من قبل أنه قد قيل: إن بين الفدية والصوم مماثلة وهي أنه لما صرف طعام يوم إلى مسكين فقد منع النفس عن الارتفاق بذلك الطعام فكأنه لم يوصل إلى نفسه حظها من الطعام يوما وهذا معنى الصوم ولم يقل المماثلة بوجه عن أحد بين الإنفاق وأفعال الحج فكأن الشيخ نظر إلى ذلك المعنى ونفاه بألطف عبارة.
وقوله لكنا استدراك من حيث المعنى يعني لما لم يكن الفدية مثلا معقولا للصوم وكذا الإنفاق للحج لا يجوز إثباته بالرأي لكنا جوزناه أي المذكور وهو الفدية بالنص قوله: "قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} " أي وعلى المطيقين الذين لا عذر لهم إن أفطروا: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} نصف صاع من بر أو صاع من غيره عندنا. وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية وقرأ ابن عباس يطوقونه ويطيقونه أي يكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز وحكم هؤلاء الإفطار والفدية وهو على هذا الوجه غير منسوخ. ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أي يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم كذا في الكشاف, وذكر في التيسير وفي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يكلفونه فلا يطيقونه, وفي قراءة حفصة رضي الله عنها: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وقيل هو الشيخ الفاني فعلى هذا لا يكون منسوخا فإنه حكم ثابت مجمع عليه. قوله: "وهذا مختصر" أي قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} , أو وهذا النص مختصر أي حذف عنه حرف لا كما في قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176], بالإجماع أي بإجماع القائلين بأنه غير منسوخ, أو معناه بدلالة الإجماع فإن حكم الشيخ الفاني ومن بمعناه مجمع عليه وهو مستفاد من الكتاب ولا يستفاد منه بدون حرف لا فيكون محذوفا لا محالة فيكون النص مختصرا ضرورة. ويمكن أن يجري على ظاهره أي هذا النص مختصر بالإجماع أما عند من جعله غير منسوخ فلما ذكرنا وأما عند من جعله منسوخا فلأن التقدير عنده وعلى الذين يطيقون الصوم فلا يصومون فعليهم فدية ولما ثبت أنه مختصر لا يمكن العمل بظاهره رجحنا ما ذكرنا بقراءة ابن عباس وحفصة رضي الله عنهما(1/225)
الخثعمية أنها قالت يا رسول الله إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفيجزئني أن أحج عنه فقال عليه السلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يقبل منك فقالت نعم قال فدين الله أحق"
ـــــــ
قوله: "وثبت" أي قيام الإنفاق مقام الأفعال في الحج بحديث الخثعمية وهي أسماء بنت عميس من المهاجرات والحديث مذكور في الكتاب. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال: "نعم" قال وقال رجل إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه السلام, "لو كان عليها دين أكنت قاضيه قال نعم فاقض الله فهو أحق بالقضاء" كذا في المصابيح لا يستمسك على الراحلة أي لا يقدر على إمساك نفسه عليها وضبطها والثبات عليه. أفيجزئني بالهمز أي يكفيني عما وجب في ذمته. أن أحج عنه بفتح الهمزة وضم الحاء أي أحرم عنه بنفسي وأؤدي الأفعال عنه وهذا هو المشهور من الرواية وعلى هذا الوجه لا دلالة في الحديث على أن الإنفاق قائم مقام الأفعال فلا يستقيم التمسك به في هذه المسألة إلا أن يثبت أن أباها كان أمرها بذلك وأنفق عليها. وفي بعض النسخ أن أحج بضم الهمزة وكسر الحاء أي آمر أحدا أن يحج عنه وعلى هذا الوجه صح التمسك به, أرأيت أي أخبريني وكان هذا اللفظ للنظر ثم صار للإخبار وذلك أن العرب إذا لم يجدوا الضالة يقولون لكل من يرونه أرأيت ضالة كذا أي أخبرني عنها, أما كان يقبل منك وفي عامة الكتب من المبسوط وغيره أكان يقبل بدون كلمة ما وهذا هو الصحيح; لأن نعم لا يستقيم جوابا للمذكور ههنا; لأنه لتصديق ما سبق من الكلام نفيا كان أو إثباتا فيصير تقدير المذكور ههنا نعم لا يقبل فيفسد المعنى بل جوابه بلى; لأنه لتحقيق ما بعد النفي لكنه يستقيم جوابا للمذكور في عامة الكتب فتبين أنه هو الصحيح, ورأيت في الأسرار في حديث الخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يجوز قالت بلى قال فدين الله أحق" . ومعنى قوله أحق أي بالقبول; لأنه أكرم الأكرمين فأولى بكرمه وأجدر برأفته أن يقبل منه حالة العجز فعل الغير أو الإنفاق الذي لا يقدر إلا عليه ويؤيده رواية المبسوط الله أحق أن يقبل. وقيل معناه فدين الله أولى بالقضاء ويؤيده رواية المصابيح وفي بعض النسخ فقضيتيه بالياء ذلك بطريق الإشباع لكسرة التاء وهو جائز في لغة حمير. قال شاعرهم:
يا أم عمرو لم ولدتيه ... معمما بالكبر والتيه
ليتك إذ جئت به هكذا ... كما بذرتيه أكلتيه(1/226)
ولهذا قلنا: إن ما لا يعقل مثله يسقط كمن نقص صلواته في أركانها بتغيير ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما فيمن أدى في الزكاة خمسة دراهم زيوفا عن خمسة جياد أنه يجوز ولا يضمن شيئا; لأن الجودة لا
ـــــــ
كذا في الجوامع الجمادية. قيل وفي حديث الخثعمية دليل على أن أباها كان أمرها بالحج حيث قاس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبول الحج بالأداء من الغير بقبول الدين بالأداء من الغير وإنما يجب ويتحقق قبول الدين بالأداء من الغير إذا كان ذلك الأداء بأمر المديون; لأن رب الدين إن امتنع فيه عن القبول يجبر عليه فأما إذا كان بغير أمر منه فرب الدين بالخيار في القبول فلا يتحقق القبول فهذا يدل على أن ذلك كان بالأمر. والظاهر أنه عليه السلام قاس على العادة الفاشية بين الناس أنهم يقبلون ديونهم من أي وجه تصل إليهم من المديون أو غيره تبرعا أو غير تبرع نظرا منهم إلى حصول المقصود وهذا لا يدل على الأمر بوجه قوله: "ولهذا قلنا" متصل بما اتصل به الاستدراك في قوله ولكنا جوزناه بالنص أي ولعدم تصرف الرأي فيما لا ندركه قلنا إن ما لا يدرك بالعقل مثله ولم يرد فيه نص يسقط; لأن إيجاب المثل متوقف إما على إدراك العقل ليمكن إيجابه بالسبب الأول أو على السمع, فإذا لم يوجد واحد منهما فلا وجه إلا الإسقاط كترك الاعتدال في أركان الصلاة لا يضمن بشيء سوى الإثم; لأنه ليس لذلك الوصف منفردا عن الأصل مثل عقلا ولا نصا. وقوله يتغير احتراز عن نقصان الركن نفسه من الصلاة فإن قوله نقص الصلاة في أركانها يحتمل ذلك.
قوله: "ولهذا" أي ولما ذكرنا أن ما لا يعقل مثله ولا نص فيه يسقط قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله إذا أدى خمسة زيوفا في الزكاة مكان خمسة جياد يجوز أن يسقط عنه الواجب ولكنه يكره لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267], الآية ولا يضمن شيئا بمقابلة الجودة; لأن المؤدى قد صح ولزم حتى لا يملك أحدهما الفسخ لصيرورته صدقة وليس للوصف الذي تحقق فيه الفوات منفردا مثل صورة وهو ظاهر ولا معنى; لأنها لا تتقوم عند المقابلة بجنسها فيسقط أصلا.
ألا ترى أنه لو أدى أربعة جيادا عن خمسة زيوف لا يصح إلا عن أربعة عندنا خلافا لزفر رحمه الله. وكذا لو كان له إبريق فضة وزنه مائة وخمسون وقيمته لصياغته مائتان وقد حال عليه الحول لا تجب فيه الزكاة لسقوط اعتبار الجودة في هذه الأموال عند المقابلة بجنسها, ولا معنى لقوله من قال سقوط اعتبار الجودة للربا ولا ربا بين العبد وسيده; لأنا نقول إن الله تعالى عامل عباده معاملة المكاتبين أو الأحرار فإنه تعالى استقرضهم(1/227)
يستقيم أداؤها بمثلها صورة ولا بمثلها قيمة; لأنها غير متقومة فسقط أصلا واحتاط محمد رحمه الله في ذلك الباب فأوجب قيمة الجودة من الدراهم أو الدنانير ولهذا قلنا إن رمي الجمار لا يقضى والوقوف بعرفات والأضحية
ـــــــ
وملكهم والربا يجري بين المولى ومكاتبه. ألا ترى إلى ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في صوم يوم الشك أنه تعالى نهى عن الربا أفيقبل منكم1؟
واحتاط محمد رحمه الله في ذلك الباب أي باب العبادة فقال عليه أن يؤدي فضل ما بينهما, ووجهه أن الجودة متقومة من وجه فإنها تتقوم في الغصوب وفي تصرف المريض حتى لو حابى بها بأن باع قلبا وزنه عشرة وقيمته عشرون بعشرة لم تسلم المحابات للمشتري وكذا في تصرف الوصي حتى لو باع درهما جيدا من مال اليتيم بدرهم رديء لا يجوز, وغير متقومة من وجه فوجب الاحتياط في حق الله تعالى ألا ترى أن ما لا عبرة به أصلا وهو تغير السعر إلى الزيادة اعتبر في ضمان حق الله تعالى حقا قيل إن من أخذ صيدا من الحرم فأخرجه ثم تغير سعره إلى زيادة ثم هلك أنه يضمن الزيادة احتياطا فهذا أولى كذا في شرح الجامع للمصنف. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرحه للجامع أن الجودة إنما سقطت في حكم الربا في حق العاقدين ليتحقق المماثلة التي هي شرط جواز البيع فأما في حق غير العاقد كالوارث والصغير فلا لعدم الحاجة إليه; لأنه لا يؤدي إلى الربا.
ثم اعتبار الجودة في حق الفقير يؤدي إلى الربا وجه دون وجه فمن حيث إن الفقير بما يأخذ من الغني لا يملك منه مقدار الواجب إذ قدر الواجب قبل الأخذ لم يكن ملكا للفقير حتى يصير مملكا إياه صاحب المال بما يأخذ بل يأخذ صلة لا يؤدي إلى الربا, ومن حيث إنه تعلق بالواجب حق الفقير إن لم يصر ملكا له حتى صار صاحب المال ضامنا بالاستهلاك والحق ملحق بالحقيقة يتحقق فيه الربا; لأنه يصير مملكا الواجب منه بما يأخذ من صاحب المال, فإذا تردد بين الأمرين قلنا متى كان في اعتبار جهة الربا منفعة للفقير فإنها تعتبر كما إذا أدى أربعة جيادا عن خمسة زيوف لا يجوز ومتى كان في اعتبار الربا ضرر في حقه لا يعتبر كما في مسألتنا فإنه لو اعتبر لا يسلم الدراهم الزائدة والله أعلم. قوله: "ولهذا" أي ولعدم المثل عقلا ونصا قلنا إن رمي الجمار وأخواته لا يقضى: "فإن قيل" كيف يستقيم هذا وقد أوجبتم الدم عليه باعتبار ترك الرمي؟
"قلنا" إيجاب الدم عليه ليس بطريق أنه مثل للرمي قائم مقامه بل; لأنه جبر لنقصان
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/441 وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وابن أبي شيبة والطبراني نيل الأوطار 3/5.(1/228)
كذلك فإن قيل: فإذا ثبت هذا بنص غير معقول فلم أوجبتم الفدية في الصلاة بلا نص قياسا على الصوم من غير تعليل؟ قلنا; لأن ما ثبت من حكم الفدية عن الصوم يحتمل أن يكون معلولا والصلاة نظير الصوم بل أهم منه لكنا لم نعقل واحتمل أن لا يكون معلولا وما لا ندركه لا يلزمنا العمل به لكنه
ـــــــ
تمكن في نسكه بترك الرمي كسجود السهو في الصلاة وجب جبرا لنقصان لا قضاء بما فاته ألا ترى أنه يجب أيضا إذا أراد في الصلاة من جنسها وفي الزيادة لا يتصور القضاء كذا هذا.
ولما ذكر الشيخ أن لا مدخل للرأي فيما ليس له مثل معقول ولزم عليه إيجاب الفدية في الصلاة تعرض لذلك فقال فإن قيل: إذا ثبت أي وجوب الفدية عند اليأس غير معقول المعنى فلم أوجبتم الفدية في الصلاة بلا نص يوجب ذلك قياسا على الصوم من غير معنى يعقل؟, وقوله بلا نص حال عن الفدية أي أوجبتموها حال كونها غير منصوصة قلنا نحن لا نعدي ذلك الحكم بالقياس ولا نوجبه حتما لكنا نقول يحتمل أن يكون إيجاب الفدية في الصوم بناء على معنى معقول وإن كنا لا نقف عليه. والصلاة نظير الصوم من حيث إن كل واحد منهما عبادة بدنية محضة لا تعلق لوجوبهما ولا لأدائهما بالمال بل أهم منه; لأنها عبادة لذاتها لكونها تعظيم الله تعالى والصوم عبادة بواسطة قهر النفس على ما يعرف بعد إن شاء الله تعالى, فإذا وجب تدارك الصوم عند العجز بالفدية فالصلاة بالتدارك أولى, يحتمل أن لا يكون معقولا وما لا ندركه لا يلزمنا العمل به فلا يجب علينا العمل بذلك الاحتمال لمعارضة الاحتمال الثاني إياه لكن وجوب الفدية في الصوم لما احتمل الوجهين المذكورين أمرناه بالفدية في الصلاة بناء على الوجه الأول على سبيل الاحتياط, فلئن كان هذا الحكم في الصلاة مشروعا فقد صار مؤدى وإلا فليس به بأس; لأنه ح يكون برا مبتدأ يصلح ماحيا للسيئات فتبين أن إيجاب الفدية في الصلاة بهذا الطريق لا بالقياس. ولهذا لم يحكم بجواز الفداء في الصلاة مثل حكمنا بجوازه في الصوم; لأنا حكمنا بجوازه في الصوم قطعا لكونه منصوصا عليه فيه, ورجونا القبول أي الجواز في الصلاة فضلا فإن محمدا رحمه الله قال في الزيادات في هذا أي في فداء الصلاة يجزيه إن شاء الله كما قال يجزيه إن شاء الله في فداء الصوم فيما إذا تطوع به الوارث بأن مات من عليه الصوم من غير قضاء ولا إيصاء بالفدية, ولو كان ثابتا بالقياس لما احتاج إلى إلحاق الاستثناء به كما في سائر الأحكام الثابتة بالقياس ولا يقال لما كانت الصلاة مثل الصوم أو أهم منه يلزم أن يثبت الحكم فيه بالدلالة وإن كان غير معقول المعنى كما يثبت الحكم في الأكل والشرب بطريق الدلالة بالنص الوارد في الجماع وإن كان غير(1/229)
لما احتمل الوجهين أمرناه بالفدية احتياطا فلئن كان مشروعا فقد تأدى وإلا فليس به بأس ثم لم نحكم بجوازه مثل ما حكمنا به في الصوم; لأنا حكمنا به في الصوم قطعا ورجونا القبول من الله تعالى في الصلاة فضلا. وقال محمد رحمه الله في الزيادات في هذا يجزيه إن شاء الله كما إذا تطوع به الوارث في الصوم
ـــــــ
معقول المعنى حتى لم يكن للقياس فيه مدخل. لأنا نقول لا بد في الدلالة من كون المعنى المؤثر في الحكم معلوما سواء كان التأثير في ذلك الحكم معقولا كالإيذاء في التأفيف أو غير معقول كالجناية على الصوم في إيجاب الكفارة المكيفة المقدرة وها هنا المعنى الذي هو المؤثر في إيجاب الفدية غير معلوم فلا يمكن إثباته بالدلالة كما لا يمكن بالقياس, ثم إذا مات وعليه صلوات يطعم عنه لكل صلاة نصف صاع من حنطة أو صاع من غيرها, وكان محمد بن مقاتل1 يقول أو لا يطعم عنه لكل يوم نصف صاع على قياس الصوم ثم رجع فقال كل صلاة فرض على حدة بمنزلة صوم يوم وهو الصحيح كذا في المبسوط وغيره وهذا إذا أوصى بالفدية عن الصلاة فإن لم يوص وتبرع بها الوارث قيل لا يسقط الصلوات عن الميت; لأن الاختيار فيه معدوم أصلا ولأنه أدنى رتبة من الإيصاء فيحكم فيه بعدم الجواز إظهارا لانحطاط رتبته كما فعل كذلك في الصوم. وقيل تسقط عنه إن شاء الله تعالى كما في الإيصاء; لأن دليل الجواز وهو الرجاء إلى فضل الله وكرمه يشمل الإيصاء والتبرع جميعا يوضحه ذكر في النوازل سئل أبو القاسم عن امرأة ماتت وقد فاتتها صلوات عشر أشهر ولم تترك مالا فقال لو استقرض ورثتها قفيز حنطة ودفعوها إلى مسكين ثم يهبها المسكين لبعض ورثتها يتصدق بها على المسكين فلم يزل يفعل كذلك حتى يتم لكل صلاة نصف صاع أجزأ ذلك عنها فتبين بهذا أن التبرع فيه كالإيصاء.
وقد لزم الشيخ مسألة أخرى فتصدى لها أيضا فقال: فإن قيل لا مثل للأضحية عقلا ولا نصا وقد أوجبتم بعد فوات وقتها التصدق بالعين فيما إذا كانت الشاة التي عينت للتضحية بالنذر أو بالشراء الصادر من الفقير بنية الأضحية باقية بعد أيام النحر فإنه يلزمه التصدق بعينها حية أو بالقيمة فيما إذا استهلكت الشاة المعينة للتضحية بالنذر أو غيره أو كان غنيا ولم يضح أصلا حتى مضت أيام النحر فإنه يلزمه التصدق بالقيمة كذا في الإيضاح والمبسوط قلنا: لأن التضحية ثبتت قربة بالنص وهو قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ
ـــــــ
1 هو محمد بن مقاتل الرازي توفي سنة 242 هـ انظر كشف الظنون 2/1457.(1/230)
فإن قيل فالأضحية لا مثل لها وقد أوجبتم بعد فوات وقتها التصدق بالعين أو القيمة قلنا; لأن التضحية ثبتت قربة بالنص واحتمل أن يكون التصدق بعين الشاة أو قيمتها أصلا; لأنه هو المشروع في باب المال كما في سائر الصدقات إلا أن الشرع نقل من الأصل إلى التضحية وهو نقصان في المالية بإراقة الدم عند محمد وبإراقة الدم وإزالة التمول عن الباقي عند أبي يوسف على ما
ـــــــ
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] وقوله عليه السلام: "ضحوا" 1. وغير ذلك واحتمل أن يكون التصدق أصلا في باب التضحية; لأنه هو المشروع في باب المال كما في سائر العبادات المالية من الزكاة وصدقة الفطر; لأن معنى العبادة وهو مخالفة هوى النفس بإزالة المحبوب من يده يحصل به إلا أن الشرع أي الشارع نقل القربة من تمليك عينها أو قيمتها إلى الإراقة في أيام النحر لأجل تطبيب الطعام; لأن الناس أضياف الله تعالى يوم العيد ولهذا كره الأكل قبل الصلاة ليكون أول ما يتناولون من طعام الضيافة ومن عادة الكريم أن يضيف بأطيب ما عنده ومال الصدقة يصير من الأوساخ لإزالته الذنوب بمنزلة الماء المستعمل وإليه أشار الله تعالى في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]. ولهذا حرم على النبي عليه السلام وعلى من التحق به نسبا لكرامتهم وعلى الغني لعدم حاجته فلا يليق بالكريم المطلق الغني على الحقيقة أن يضيف عباده بالطعام الخبيث, فنقل القربة من عين الشاة إلى الإراقة لينتقل الخبث إلى الدماء فتبقى اللحوم طيبة فيتحقق معنى الضيافة في هذه الأيام باستواء الغني والفقير فيه, إلا أنه مع ما بينا يحتمل أن يكون معنى التضحية أصلا دون التصدق فلم يعتبر بهذا الموهوم وهو التصدق في معارضة المنصوص المتيقن به وهو التضحية, فإذا فات المتيقن بفوات وقته وجب العمل بالموهوم وهو التصدق.
مع الاحتمال أي احتمال أن لا يكون معتبرا احتياطا أيضا يعني كما قلنا بوجوب الفدية في الصلاة احتياطا. وحاصل الجواب أنا أوجبنا التصدق باعتبار كونه أصلا لا باعتبار كونه مثلا لها.
قوله: "وهو" أي فعل التضحية أو الذبح "نقصان في المالية" إلى قوله في الهبة معترض فنبين المسألة أولا ثم نكشف الغرض عن إيرادها فنقول إذا وهب شاة لرجل فضحى الموهوب له بها لم يكن للواهب أن يرجع فيها في قول أبي يوسف وقال محمد له أن يرجع فيها ويجزيه الأضحية وقال أبو حنيفة مع أبي يوسف رحمهما الله. وجه قول
ـــــــ
1 الحديث "ضحوا بالجذع من الضأن فإنه جائز" أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/368.(1/231)
نبين في مسألة التضحية أيمنع الرجوع في الهبة أم لا فنقل إلى هذا تطبيبا للطعام وتحقيقا لمعنى العيد بالضيافة إلا أنه يحتمل أن يكون التضحية أصلا فلم نعتبر هذا الموهوم في معارضة المنصوص المتيقن, فإذا فات هذا المتيقن بفوات وقته وجب العمل بالموهوم مع الاحتمال احتياطا أيضا والدليل على أنه
ـــــــ
محمد رحمه الله أن ملك الموهوب له لم يزل عن العين والذبح نقصان فيها فلا يمنع الرجوع فيما بقي كشاة القصاب, وهذا; لأن القربة لم تقع بعين الشاة بل بالإراقة بدليل أن ما أديت به القربة لا يجوز أن يبقى على ملكه والمذبوح باق على ملكه يأكله ويضمن له مستهلكه ويورث عنه ويبيعه فيجوز إلا أنه يتصدق بثمنه وذلك لا يدل على عدم الملك فإن الأملاك الخبيثة سبيلها التصدق بها مع قيام الملك وإذا ثبت أن أداء القربة لم يقع إلا بالإراقة بقي الحكم فيما وراء الدم على ما لو ذبح لا للأضحية والرجوع فيها لا يغير حكم الإراقة; لأن الفائت لا يعمل فيه الفسخ ونظيره وهب شاتين فضحى بأحديهما وأكلها ثم رجع في الأخرى أو ذبح شاة الهبة وباع جلدها ورجع الواهب فيما بقي لا يبطل البيع. ولأبي يوسف رحمه الله أن القربة كما يتأدى بالدم يتأدى بأجزاء الشاة بدليل أن سلامتها معتبرة للجواز ابتداء وبعد الذبح لو باع شيئا منها يتصدق بثمنه لمكان أنه بقي قربة فيجب صرفه إلى حيث لا يبطل به حق الله عز وجل ولو لم يتعلق معنى القربة بما بقي لبقي على حكم سائر الأغنام فتأدى القربة بإراقة الدم وبإبطال حق التمول من الباقي فلذلك لم يبطل أصل الملك; لأن القربة لم تتأد به وإذا كان كذلك لم يصح الرجوع; لأنه يبطل ما أدى من القربة بالعين ألا ترى أنه يصير بعد الرجوع مالا يتمول كسائر الأموال كذا في الأسرار. فمحمد رحمه الله عد سقوط التمول نقصا فيه لا باعتبار ظهور معنى القربة فيه ونحن اعتبرناه أثر القربة.
ثم الغرض من إيراد هذه المسألة في أثناء الكلام أن معنى التصدق في النقل إلى التضحية حاصل أيضا من وجه; لأن التصدق تنقيص المال بإيصال منفعته إلى الفقير والتضحية تنقيص المال بالإراقة أو التنقيص مع إزالة التمول عن الباقي فيكون بينهما نوع مماثلة. قال المصنف رحمه الله في شرح التقويم: إن الله تعالى نقل القربة من التمليك إلى الإراقة فثبت المماثلة بينهما شرعا من حيث إن الله تعالى أقام الإراقة مقام التمليك وفيه شبهة المماثلة فإن محمدا قال القربة لا تتم إلا بالتمليك حتى لو وهب شاة فضحى الموهوب لا ينقطع حق الواهب قبل التمليك, فدل أن القربة لا تتم إلا بالتمليك, فإذا كان بينهما مماثلة من هذا الوجه, فإذا ذهب وقت التضحية وجب التمليك بالشاة أو القيمة; لأنه مثل من حيث إن الشرع أقام أحدهما مقام الآخر.(1/232)
كان بهذا الطريق لا أنه مثل الأضحية أنه إذا جاء العام القابل لم ينتقل الحكم إلى الأضحية.
وهذا وقت يقدر فيه على أداء مثل الأصل فيجب أن يبطل الخلف كما في الفدية إلا أنه لما ثبت أصلا من الوجه الذي بينا ووقع الحكم به لم ينقض
ـــــــ
وقوله إلا أنه يحتمل جواب سؤال وهو أن يقال لما ثبت أصالة التصدق في التضحية بما ذكرتم والنقل إلى الإراقة لمعنى الضيافة ينبغي أن يخرج عن العهدة بالتصدق في أيام النحر أيضا كمن وجب عليه الجمعة لو صلى الظهر في منزله يخرج عن العهدة, وإن كان مأمورا بأداء الجمعة لكون الظهر أصلا فأجاب وقال يحتمل أن يكون إراقة الدم أصلا من غير اعتبار معنى التصدق وهي واجبة بالنص في هذه الأيام فلا يعتبر الموهوم في مقابلته بخلاف صلاة الظهر فإن أصالتها ثبت بالنص أيضا كوجوب الجمعة فيجوز أن تقابل الجمعة.
قوله: "والدليل على أنه" أي وجوب التصدق. كان بهذا الطريق وهو احتمال كونه أصلا في التضحية لا أنه مثل للأضحية غير معقول كالفدية للصوم, أنه إذا جاء القابل أي أيام النحر منه لم ينتقل الحكم إلى الأضحية والحال أن هذا وقت يقدر فيه على مثل الأصل أي على مثل أصل الواجب وهو الإراقة إذ الإراقة للإراقة مثل من كل وجه, أو معناه على المثل الأصلي فيجب أن يبطل الخلف وهو وجوب التصدق.
كما في الفدية يعني من وجب عليه الفدية إذا قدر على الصوم يسقط عنه الفدية وينتقل الحكم إلى الصوم; لأنه المثل الأصلي في الباب, إلا أنه أي التصدق لما ثبت أصلا من الوجه الذي بينا وهو أن الأصل في القربات المالية التصدق, ووقع الحكم به أي حكم الشرع بوجوبه, لم يبطل بالشك أيضا وهو أن التصدق إن كان أصلا لا يبطل بالقدرة على الإراقة, وإن كانت الإراقة أصلا يبطل للقدرة على المثل الأصلي كما في الفدية وقد صار كونه أصلا محكوما به فلا يبطل بهذا الشك كما لم يبطل الإراقة المنصوص عليها في أيام النحر باحتمال كون التصدق أصلا.
وإليه أشار بقوله أيضا وذكر في شرح التقويم أنه إذا عاد وقت الأضحية إنما لا يسقط التصدق; لأنه مثل أصلي في هذا الباب على معنى أنه كان أصلا فنقل منه إلى التضحية ولو لم يكن مثلا أصليا لعادت الأضحية للقدرة عليها كما أن المثل في حقوق العباد إذا فات ووجبت القيمة عاد حقه بالقدرة على المثل وها هنا لما لم يعد الفائت دل أنه مثل أصلي.(1/233)
بالشك أيضا. أما القضاء الذي بمعنى الأداء فمثل رجل أدرك الإمام في العيد راكعا كبر في ركوعه وهذا قد فات موضعه فكان قضاء وهو غير قادر على مثل
ـــــــ
وبعض أصحابنا رحمهم الله قالوا: إنما لا تعود الأضحية; لأن المثل وجب وتأكد بإيجاب الله تعالى فلا يسقط بالقدرة على الفائت كما في المثليات إذا انقطعت عن أيدي الناس وقضى القاضي بالقيمة ثم عاد المثل لا يعود حقه إليه كذا هذا, وقد وقع لفظ إلا أن في هذه المسألة في ثلاثة مواضع كلها بمعنى لكن.
فالأول استدراك من قوله واحتمل أن يكون التصدق أصلا وفي هذا الاستدراك تحقيق ذلك الاحتمال.
والثاني استدراك عما يلزم من هذا الاحتمال مع استدراكه وهو أنه لما احتمل أن يكون أصلا والنقل بعارض فيلزم أن يجوز التصدق في أيام النحر فقال لكنه يحتمل أن يكون التضحية أصلا وفي هذا الاستدراك رفع ذلك الاحتمال.
والثالث استدراك من قوله وجب العمل بالموهوم مع الاحتمال, ويجوز أن يكون استدراكا من قوله فيجب أن يبطل, وقوله على ما نبين أراد به في شرح المبسوط لا في هذا الكتاب, أو هو تبين بالتاء أي ظهر, وقوله فنقل إلى هذا أي الذبح متصل بقوله نقل من الأصل إلى التضحية على سبيل الإعادة لطول الكلام والله أعلم. قوله: "وأما القضاء الذي بمعنى الأداء إلى آخره" رجل أدرك الإمام في الركوع من صلاة العيد يأتي بتكبيرات العيد قائما إن كان يرجو أن يدرك الإمام في الركوع ليكون التكبيرات في القيام من كل وجه وإن كان هذا اشتغالا بقضاء ما سبق قبل فراغ الإمام كي لا يفوت أصلا, فإن خاف إن كبر تكبيرات العيد أن يرفع الإمام رأسه فإنه يكبر للافتتاح وهو فرض ثم يكبر للركوع وهو واجب ثم يكبر في الركوع تكبيرات العيد ولا يرفع يديه; لأن الرفع سنة ووضع الأكف على الركبة سنة فلا يجوز الاشتغال بسنة فيها ترك سنة, وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يأتي بها في الركوع; لأنها قد فاتت موضعها وهو القيام وهو غير قادر على مثل من عنده قربة في الركوع فلا يصح أداؤها فيه كالقراءة والقنوت وتكبير الافتتاح فإنه إذا أنسي الفاتحة والسورة لا يأتي بها في الركوع وكذا إذا أدرك الإمام في الركوع الأخير من الوتر في رمضان وخشي أنه لو قنت قائما يفوته الركوع فركع فإنه لا يقنت في الركوع.
والدليل عليه أن الإمام إذا نسي التكبيرات لا يأتي بها في الركوع. ووجه ظاهر الرواية أن التكبيرات شرعت في القيام المحض وشرع من جنسها فيما لو شبه بالقيام فإن تكبير الركوع حسب منها حتى أن من سها عنه وهو إمام أو مسبوق يسجد للسهو وإن سها عنه(1/234)
من عنده قربة فكان ينبغي أن لا يقضي إلا أنه قضاء يشبه الأداء لأن الركوع يشبه القيام وهذا الحكم قد ثبت بالشبهة ألا ترى أن تكبير الركوع يحتسب
ـــــــ
ثم تذكر في ذلك الركوع كبر فيه; لأنه واجب وقد بقي محله الخالص وإذا كان من جنسها ما شرع في حال الانحناء وله شبه بالقيام احتمل أن يكون سائرها ملحقة بهذه لاتحاد الجنس واحتملت المفارقة فكان الاحتياط في فعلها على أن ذلك أداء لا قضاء, وكان هذا احتياطا لا تعليلا ومقايسة كما قلنا في الفدية في الصلاة بخلاف القراءة والقنوت وتكبير الافتتاح; لأنها غير مشروعة فيما له شبه القيام بوجه. وبخلاف الإمام إذا سها عن التكبيرات حتى ركع أنه يعود إلى القيام; لأنه قادر على حقيقة الأداء فلا يعمل بشبهه وهذا عجز عن حقيقته فيعمل بشبهه كذا في جامع المصنف وغيره.
قوله: "لأن الركوع يشبه القيام أي حقيقة وحكما" أما حقيقة فلأن القيام ليس إلا الانتصاب وهو باق باستواء النصف الآخر; إذ المضادة أو المفارقة بينه وبين القعود إنما يثبت بفوات الاستواء في النصف الأسفل; لأن استواء النصف الأعلى موجود فيهما لكن فيها نقصان لما فيه من الانحناء وذلك لا يضر; لأنه قد يكون قيام بعض الناس هكذا كذا ذكر الإمام الإسبيجابي. وأما حكما فلأن من أدرك الإمام في الركوع وشاركه فيه يصير مدركا لتلك الركعة قال عليه السلام: "من أدرك الإمام في الركوع فقد أدركها" 1.
وهذا الحكم أي وجوب التكبير قد ثبت بالشبهة; لأنه عبادة فيحتاط في إثباتها فتثبت بشبهة الأداء قوله: "ألا ترى" قيل تقرير وتأكيد لقوله الركوع يشبه القيام والأشبه أنه دليل آخر استوضح به ما تقدم, وليست أي تكبيرة الركوع في حال محض القيام فإن محمدا رحمه الله قال: يكبر وهو يهوي قالوا وهذا أصح مما روي عنه يكبر ثم يهوي; لأنه يخلو إذا حالة الانحناء عن الذكر بخلاف الأول. ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام كان يكبر وهو يهوي2 وما روي أنه عليه السلام كان يكبر مع كل خفض ورفع3 ولهذا قال في الجامع الصغير ويكبر مع الانحطاط. إذا قرأ الفاتحة في الأوليين ولم يزد عليها قرأ في الآخرين الفاتحة والسورة وإن قرأ في الأوليين السورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يقرأ بعدها في الآخرين قال عيسى بن أبان4 الجواب على
ـــــــ
1 أخرج بنحوه البخاري في المواقيت باب رقم 29 ومسلم في المساجد حديث رقم 161 والإمام مالك في الموطأ في وقوت الصلاة حديث رقم 15.
2 أخرجه البخاري في صفة الصلاة 1/200 – 203 ومسلم في الصلاة حديث رقم 392 والإمام أحمد في المسند 2/454 والترمذي باب 189 – 2/34 – 35.
3 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 253 والنسائي في الافتتاح 2/195 والإمام أحمد في المسند 1/386.
4 هو القاضي أبو موسى عيسى بن أبان بن صدقة توفي سنة 221 هـ انظر الفوائد البهية 151.(1/235)
منها وليس في حال محض القيام فاحتمل أن يلحق به نظائره فوجب عليه التكبير اعتبارا بشبهة الأداء احتياطا وكذلك السورة, فإذا فاتت عن أوليين وجبت في الأخريين; لأن موضع القراءة جملة الصلاة إلا أن الشفع الأول تعين بخبر الواحد الذي يوجب العمل وقد بقي للشفع الثاني شبهة كونه محلا وهو
ـــــــ
العكس إذا ترك الفاتحة يقضيها في الآخرين وإن ترك السورة لا يقضيها; لأن قراءة الفاتحة واجبة وقراءة السورة غير واجبة وبهذا الطريق تمسك يحيى بن أكثم1 وطعن على محمد في الجامع الصغير. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن يقضيها أما السورة فلما تذكر وأما الفاتحة فلما قال عيسى وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقضي واحدة منهما أما الفاتحة فلما يذكر وأما السورة فلأنها سنة في الأوليين وما كان سنة في وقته كان بدعة في غير وقته فلا يقضي. وجه الظاهر ما يذكر.
"قوله وكذلك السورة يعني كما أن تكبيرات العيد تقضى في الركوع باعتبار شبه الأداء فكذلك السورة" إذا فاتت عن الأوليين يؤتى بها في الآخرين لشبهه الأداء وإن كانت قضاء ظاهرا, وذلك; لأن موضع القراءة جملة الصلاة لقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بقراءة" 2 ولقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. إذ المراد والله أعلم القراءة في الصلاة لكن الشفع الأول تعين للقراءة بخبر الواحد الذي يوجب العمل وهو ما روي عن علي رضي الله عنه القراءة في الأوليين قراءة في الآخرين أي تنوب عن القراءة فيهما كما يقال لسان الوزير لسان الأمير وقد تعين الشفع الأول لقراءة السورة أيضا بما روي عن جابر وأبي قتادة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الآخرين بفاتحة الكتاب3 كذا في مبسوط الشيخ فبقي للشفع الثاني شبهة كونه محلا; لأن القيام في الآخرين مثل القيام في الأوليين في كونه ركن الصلاة والدليل على المعين غير قطعي فمن هذا الوجه لم يتحقق الفوات فوجب أداؤها اعتبارا بهذه الشبهة وإن كان في الحقيقة قضاء بالنظر إلى خبر الواحد.
وما ذكرنا مؤيد بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ترك القراءة في ركعة من صلاة
ـــــــ
1 هو القاضي يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن التميمي الأسيدي المروزي 159 – 242 هـ انظر لسان الميزان 6/760.
2 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 396 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 820.
3 أخرجه البخاري في صفة الصلاة 1/197 وأخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 451 وأبو داود في الصلاة حديث 799.(1/236)
من هذا الوجه ليس بفائت فوجب أداؤها اعتبارا لهذه الشبهة وإن كان قضاء في الحقيقة ولهذا لو ترك الفاتحة سقطت; لأن المشروع من الفاتحة في الأخريين إنما شرع احتياطا فلم يستقم صرفها إلى ما عليه
ـــــــ
المغرب فقضاها في الثالثة وجهر وعثمان رضي الله عنه ترك قراءة السورة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في الآخرين كذا في المبسوط ويلزم على ما ذكرنا أنه لما وجب قضاء السورة التي هي دون الفاتحة في الوجوب مع عدم القدرة على المثل باعتبار شبهة الأداء فلأن يجب قضاء الفاتحة التي هي آكد في الوجوب من السورة مع القدرة على المثل لشرعية الفاتحة في الآخرين نفلا كان أولى.
فقوله ولهذا جواب عنه أي ولكون قضاء السورة لشبهه الأداء لا لمعنى القضاء قلنا: لو ترك الفاتحة في الأوليين سقطت; لأنه لا يمكن قضاؤها باعتبار معنى الأداء كما لا يمكن باعتبار معنى القضاء. أما من حيث القضاء فلأنه لم يشرع له قراءتها في الآخرين نفلا ابتداء حقا له ليصرفه إلى ما عليه وإنما شرعت إما على سبيل الوجوب كما رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أو على سبيل الاحتياط أداء عملا بقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" , فلما كانت شرعيتها بهذه الجهة لم يستقم صرفها إلى ما عليه; لأنه يصير تغييرا للمشروع وذلك ليس في ولاية العبد إليه أشار شمس الأئمة رحمه الله. وحاصله أن قراءة الفاتحة في الآخرين ليست بنفل مطلق بل فيه جهة الوجوب نظرا إلى الاحتياط فلذلك لم يستقم صرفها إلى ما عليه. وأما من حيث الأداء فلأن الفاتحة شرعت في الآخرين أداء فإن قرأها مرة واحدة وقعت عن الواجب أو المسنون الذي فيه جهة الوجوب وإن قرأها مرتين كان خلاف المشروع; لأن تكرار الفاتحة في ركعة واحدة غير مشروع فلذلك تسقط.
ولا يقال: لما انتقلت إحداهما إلى الشفع الأول لم يبق تكرارا معنى, لأنا نقول يبقى صورة ورعاية الصورة واجبة أيضا ولأن النفل إنما يتصور على تقدير القضاء وكلامنا على تقدير الأداء, وقوله والسورة لم تجب قضاء جواب عن السؤال المذكور بطريق المنع يعني لا نسلم أن السورة وجبت قضاء بل وجبت باعتبار الأداء وذلك في الفاتحة غير ممكن.
ثم إذا قضى السورة قال بعضهم يقدم السورة على الفاتحة; لأنها ملحقة بالقراءة فكان تقديم السورة أولى, وقال بعضهم: يؤخر وهو الأشبه وأبعد من التغيير كذا ذكر المصنف في شرح المبسوط.(1/237)
ولم يستقم اعتبار معنى الأداء; لأنه مشروع أداء فيتكرر فلذلك قيل يسقط والسورة لم تجب قضاء; لأنه ليس عنده في الأخريين قراءة سورة يصرفها إلى ما عليه وإنما وجب لاعتبار الأداء. وأما حقوق العباد فهي تنقسم على هذا الوجه, أما الأداء الكامل فهو رد العين في الغصب والبيع وأداء الدين, والقاصر مثل أن يغصب عبدا فارغا ثم يرده مشغولا بالجناية أو يسلم المبيع مشغولا
ـــــــ
قوله: "على هذا الوجه" أي على الأداء والقضاء منقسما كل واحد على أقسام ثلاثة كما في حقوق الله تعالى, أما الأداء الكامل فهو رد المغصوب وتسليم المبيع على الوصف الذي ورد عليه الغصب والبيع, وأداء الدين أي على الوصف الذي وجب. ثم عد أداء الدين من هذا القسم وإن كانت الديون تقضى بأمثالها; لأنه لا طريق لأداء الدين سوى هذا ولهذا كان للمقبوض في الصرف والسلم حكم عين الحق إذ لو لم يكن كذلك لصار استبدالا ببدل الصرف ورأس مال السلم أو المسلم فيه قبل القبض وإنه حرام, وكذا له حكم عين الحق في غير الصرف والسلم بدليل أنه يجبر رب الدين على القبض, ولو كان غير حقه لم يجبر عليه; لأنه كان استبدالا ح وأنه موقوف على التراضي فعرفنا أنه عين ما وجب حكما, ألا ترى أن القضاء مبني على الأداء أو على تصوره وذلك منتف فيه بالكلية وفي انتفائه انتفاء القضاء فيؤدي إلى أن تسليم العين لا يكون أداء ولا قضاء وذلك خلاف المعقول والإجماع فعلم أن تسليم العين في حكم تسليم الدين فكان من قبيل الأداء المحض ولم يجعل من الأداء القاصر; لأنه أدى ما عليه أصلا ووصفا فكان أداء كاملا.
قوله: "مشغولا بالجناية" بأن جنى المغصوب في يد الغاصب أو المبيع في يد البائع جناية يستحق بها رقبته أو طرفه أو بالدين بأن استهلك في يدهما مال إنسان فتعلق الضمان برقبته, أو ما أشبه ذلك أي الجناية والدين بأن رده مريضا أو مجروحا أو رد الجارية المبيعة أو المغصوبة مشغولة بالحبل.
ولا بد من بيان هذه المسائل والفرق بين بعضها والبعض فنقول إذا غصب عبدا فارغا فرده مشغولا بالجناية أو بالدين إن هلك في يد المالك قبل الدفع أو البيع في الدين برئ الغاصب وإن دفع أو قتل بذلك السبب أو بيع في ذلك الدين رجع المالك على الغاصب بالقيمة بلا خلاف ولو سلم البائع العبد المبيع مشغولا بالدين فبيع في ذلك الدين يرجع بكل الثمن بلا خلاف, ولو سلمه مشغولا بالجناية فهلك في ذلك الوجه يرجع بكل الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يرجع بنقصان العيب بأن قوم حلال الدم وحرام الدم فيرجع بتفاوت ما بين القيمتين من الثمن.(1/238)
بالجناية أو الدين أو ما أشبه ذلك حتى إذا هلك في ذلك الوجه انتقض التسليم عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما هذا تسليم كامل; لأن العيب لا يمنع
ـــــــ
ففي هذه المسائل أصل الأداء موجود; لأنه رد عين ما غصب أو باع لكنه قاصر; لأنه أداه لا على الوصف الذي وجب عليه أداؤه إلا أن كونه مباح الدم في البيع بمنزلة العيب عندهما فلا يمنع تمام التسليم وعنده بمنزلة سبب الاستحقاق فيمنع تمام القبض وكونه عيبا لا شك فيه; لأن العبد الذي حل دمه أو طرفه لا يشترى بما إذا لم يكن كذلك وهذا المعنى أشد من المرض وهو عيب بالإجماع, وإنما الشبهة في كونه استحقاقا فوق العيب فقالا: إنه ليس باستحقاق; لأن تلف المالية التي ورد البيع عليها لم يكن بوجوب العقوبة; لأن وجوبها يتعلق بكونه مخاطبا لا بالمالية; لأن المالية لا يستحق عقوبة كالبهائم وكيف يتعلق بالمالية وإنها سبب سقوط الخطاب الذي توقف وجوب العقوبة عليه. يوضحه أن المشتري إذا اشترى عبدا وولي القصاص يأباه صح البيع وملكه المشتري, ولو كان حقه فيما اشترى لما صح كحق المرتهن ونحوه فثبت أن البيع ورد على محل غير مستحق بسبب الجناية والمستحق بها النفس وإنما تملك بالبيع المالية وبحل الدم لا تفوت المالية ولا تصير مستحقة وإنما تلفت المالية بالاستيفاء وذلك فعل إنشاء المستوفي باختياره بعدما دخل المبيع في ضمان المشتري فيقتصر الفوات على زمان وجود الاستيفاء فلا ينتقض به التسليم, وكان هذا بمنزلة ما لو سلمه زانيا فجلد عند المشتري ومات منه لم يرجع بالثمن لاقتصار الفوات على زمان الجلد كذا هذا بخلاف ما إذا استحق المبيع بملك أو حق رهن أو دين; لأن المستحق هناك هو الذي تناوله البيع وهو المالية فينتقض به قبض المشتري من الأصل. وبخلاف ما إذا غصب عبدا ثم رده حلال الدم فقتل عند المولى حيث يرجع بالقيمة; لأن الرد لا يتم مع قيام سبب العقوبة; لأنه رد على سبيل الخروج عن عهدة الغصب وذلك بإعادة يده كما كانت قبل الغصب فكان سقوط الضمان بهذا الرد موقوفا على سقوط حكم هذا السبب الطارئ عند الغاصب, فإذا لم يسقط عدم الرد المستحق عليه الذي يبرئه عن عهدة الضمان فبقي تحته, فأما التسليم بحكم الشراء فقد تم مع السرقة والقصاص; لأنه عيب قبل الاستيفاء بالإجماع والعيب لا يمنع تمام القبض, والرجوع بالثمن إنما يكون بالانتقاض بعدم التمام وذلك بالفوات والفوات كان بسبب بعد القبض فلا ينتقض به القبض.
"فإن قيل" يشكل على هذا الفرق ما إذا رد المغصوبة حاملا فهلكت بالولادة حيث يرجع بالنقصان لا بالقيمة عندهما كما لو سلم المبيعة حاملا فهلكت عند المشتري بالولادة يرجع بالنقصان لا بالثمن بالاتفاق فلم يفرقا بين الغصب والبيع في الحمل وفرقا بينهما في الجناية.(1/239)
.............................................................................................
"قلنا" لأن الأصل في الحمل هو السلامة والهلاك مضاف إلى ألم الطلق الذي هو حادث وليس بمضاف إلى الانغلاق الذي كان في يد الغاصب فلا يبطل به حكم الرد كما لو حمت الجارية عند الغاصب ثم ردها فهلكت لم يضمن الغاصب إلا النقصان بالاتفاق; لأن الهلاك لم يكن بالسبب الذي كان عند الغاصب إنما كان ذلك لضعف الطبيعة عن دفع آثار الحمى المتوالية وذلك لا يحصل بأول الحمى الذي كان عند الغاصب وإن ذلك غير موجب لما كان بعده.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول زالت يد المشتري عن المبيع بسبب كانت إزالتها به مستحقة في يد البائع فيرجع بالثمن كما لو استحقه مالك أو مرتهن أو صاحب دين وهذا; لأن الإزالة لما كانت مستحقة قبل قبض المشتري ينتقض به قبض المشتري من الأصل فكأنه لم يقبضه وإنما قلنا ذلك; لأن القتل بسبب الردة مستحق لا يجوز تركه وبسبب القصاص مستحق في حق من عليه إلا أن ينشئ من له حق عفو باختياره البيع وإن كان يرد على المالية ولكن استحقاق النفس بسبب القتل والقتل متلف للمالية في هذا المحل فكان في معنى علة العلة وعلة العلة تقام مقام العلة في الحكم فمن هذا الوجه المستحق كأنه المالية.
ولأنه لا تصور لبقاء المالية في هذا المحل بدون النفسية وهي مستحقة بالسبب الذي كان عند البائع فيجعل ذلك بمنزلة استحقاق المالية; لأن ما لا ينفك عن الشيء بحال فكأنه هو إلا أن استحقاق النفسية في حكم الاستيفاء فقط وانعقاد البيع صحيحا وراء ذلك وإذا مات في يد المشتري فلم يتم الاستحقاق في حكم الاستيفاء فلهذا هلك في ضمان المشتري وإذا قتل فقد تم الاستحقاق, ولا يبعد أن يظهر الاستحقاق في حكم الاستيفاء دون غيره كملك الزوج في زوجته وملك من له القصاص في نفس من عليه القصاص لا يظهر إلا في حكم الاستيفاء حتى إذا وطئت المنكوحة بشبهة كان العقر لها وإذا قتل من عليه القصاص خطأ كانت الدية لورثته دون من له القصاص. وهذا بخلاف الزنا فإن بزنا العبد لا يصير نفسه مستحقة إذ المستحق عليه ضرب مؤلم واستيفاء ذلك لا ينافي المالية في المحل والتلف حصل لخرق الجلاد أو لضعف المجلود فلم يكن مضافا إلى الزنا بوجه.
وإذا اشتراه وهو يعلم بحل دمه ففي أصح الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله يرجع بالثمن أيضا إذا قتل عنده; لأن هذا بمنزلة الاستحقاق وفي الرواية الأخرى قال لا يرجع; لأن حل الدم من وجه كالاستحقاق ومن وجه كالعيب حتى لا يمنع صحة البيع فلشبهه(1/240)
تمام التسليم وهو عيب عندهما وأداء الزيوف في الدين إذا لم يعلم به صاحب الحق أداء بأصله; لأنه جنس حقه وليس بأداء بوصفه لعدمه فصار قاصرا ولهذا
ـــــــ
بالاستحقاق قلنا عند الجهل به يرجع بجميع الثمن ولشبهه بالعيب قلنا لا يرجع عند العلم بشيء; لأنه إنما جعل كالاستحقاق لدفع الضرر عن المشتري وقد اندفع حين علم به.
فأما الحامل فهناك السبب الذي كان عند البائع يوجب انفصال الولد لا موت الأم بل الغالب عند الولادة السلامة فهي مثل الزاني إذا جلد, وليس هذا كالغصب; لأن الواجب على الغاصب نسخ فعله وهو أن يرد المغصوب كما غصب ولم يوجد ذلك حين ردها حاملا, وههنا الواجب على البائع تسليم المبيع كما أوجبه العقد وقد وجد ذلك ثم إن تلف بسبب كان الهلاك به مستحقا عند البائع ينتقض قبض المشتري فيه وإن لم يكن مستحقا لا ينتقض قبض المشتري فيه والله أعلم كذا في المبسوط والأسرار.
وإذا حققت ما ذكرنا علمت أن قوله أو الدين راجع إلى المسألتين وأن الخلاف المذكور مختص بتسليم المبيع مشغولا بالجناية وفي لفظ الكتاب إشارة إليه قيل انتقض التسليم عنده وعندهما هذا تسليم كامل والتسليم يستعمل في العقد لا في الغصب وإنما يستعمل فيه الرد; لأنه يقتضي مسابقة الأخذ ولهذا قال الشيخ في مسألة الغصب فرده مشغولا وفي مسألة البيع أو تسليم المبيع فعلم باستعمال لفظة التسليم أن الخلاف في البيع دون الغصب إذ لو كان فيهما لقيل انتقض الرد والتسليم وهذا رد وتسليم كامل. وقوله إذا هلك في ذلك الوجه إشارة إلى أن مسألة الدين خارجة عن الخلاف أيضا; لأن الهلاك إنما يتحقق في الجناية لا في الدين وإنما يتحقق فيه البيع فحيث قيل هلك ولم يقل هلك أو بيع علم أن مسألة الدين على الوفاق, وقوله تسليم كامل أي تام أراد به ليس بموقوف كما قاله أبو حنيفة رحمه الله لا أنه أداء كامل; إذ العيب يمنع الكمال في الأداء كما ذكرنا.
قوله: "وأداء الزيوف" هو جمع زيف أي مردود يقال زافت عليه دراهمه أي صارت مردودة عليه لغش ودرهم زيف وزائف ودراهم زيوف وزيف وهو دون النبهرج في الرداءة; لأن الزيف ما يرده بيت المال ولكنه يروج فيما بين التجار والنبهرج ما يرده التجار وربما تسامح فيه بعضهم, وإذا وجب على المديون دراهم جياد فأدى زيوفا مكانها فهو أداء قاصر لوجود تسليم أصل الواجب إذ الزيوف من جنس الدراهم ولهذا لو تجوز بها في السلم والصرف تجوز مع أن الاستبدال فيهما حرام قبل القبض ولكنه قاصر لفوات الوصف وهو الجودة.(1/241)
قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما إنها إذا هلكت عند القابض بطل حقه أصلا; لأنه لما كان أداء بأصله صار مستوفيا وبطل الوصف; لأنه لا مثل له صورة ولا معنى
ـــــــ
ثم إذا كان قائما في يد رب الدين ولم يكن علم بالزيافة حالة القبض كان له أن يفسخ الأداء ويطالبه بالجياد إحياء لحقه في الوصف وفي الصرف والسلم يشترط مجلس العقد, وإذا هلك عنده بطل حقه في الجودة عند أبي حنيفة ومحمد "رح" فلا يرجع بشيء على المديون وقال أبو يوسف رحمه الله له أن يرد مثل المقبوض ويطالبه بالجياد, لهما أن استيفاء الحق قدرا حصل بالزيوف; لأنها من جنس حقه مساو له قدرا وإنما بقي حقه في الجودة التي لا مثل لها ولا قيمة ولا يمكن تداركها إلا بضمان الأصل ولا سبيل إليه; لأن القضاء بالضمان على القابض حقا له ممتنع إذ الإنسان لا يضمن لنفسه وكيف يضمن وقد ملكه ملكا صحيحا بالقبض, وحقا لغيره ولا طالب له ممتنع أيضا, فإذا تعذر التدارك سقط للعجز وهذا هو القياس. واستحسن أبو يوسف رحمه الله فقال يضمن مثل ما قبض ليحيي حقه في الجودة; لأن حقه مراعى في الوصف كما في القدر ولو كان المقبوض دون حقه قدرا لم يسقط حقه في المطالبة بقدر النقصان فكذا إذا كان دون حقه وصفا إلا أنه تعذر عليه الرجوع بالقيمة لتأديته إلى الربا فيرد مثل المقبوض كما يرد عينه إذا كان قائما; لأن مثل الشيء يحكي عينه, وإنما يصير الزيوف حقا له إذا أسقط حقه في الجودة فأما إذا لم يسقط فهي غير حقه وتضمين الإنسان لنفسه إنما يبطل لعدم الفائدة وقد حصل ههنا فائدة عظيمة وهي تدارك حقه في الصفة فيصح.
نظيره شراء الإنسان مال نفسه باطل وإذا تضمن فائدة صح وهو أن يشتري مال المضاربة أو كسب عبده المأذون المديون أو ماله مع مال غيره فكذا هذا, كذا في شرح الجامع الصغير للمصنف وشمس الأئمة رحمهما الله.
"وقوله إذا لم يعلم به" ليس بشرط لكونه أداء قاصرا كما يدل عليه سياق الكلام بل هو أداء قاصر علم به أو لم يعلم لكنه شرط لصحة العين إذا كانت قائمة ورد المثل إذا كانت هالكة عند أبي يوسف فإنه إذا علم به عند القبض ليس له ذلك بالاتفاق, ولهذا أي ولكونه أداء بأصله; لأنه لا مثل له أي للوصل منفردا عن الأصل ولم يجز إبطال الأصل أي أصل الأداء, للوصف أي لأجل الوصف الذي هو تبع وهذا جواب عن كلام أبي يوسف.
ثم الفرق لمحمد رحمه الله بين هذه المسألة وبين مسألة الزكاة التي تقدمت أنه أمكن تضمين الوصف هناك; لأن سقوطه للاحتراز عن الربا وأنه لا يجري بين المولى وعبده وههنا لا يمكن تضمين الوصف لجريان الربا فيما بين العباد فلهذا وافق أبا(1/242)
ولم يجز إبطال الأصل للوصف إذ الإنسان لا يضمن لنفسه واستحسن أبو يوسف وأوجب مثل المقبوض إحياء لحقه في الوصف والأداء الذي هو في معنى القضاء مثل أن يتزوج رجل امرأة على أبيها وهو عبد فاستحق ووجبت قيمته فإن
ـــــــ
حنيفة. والفرق لأبي يوسف رحمه الله بينهما أن ما قبضه الفقير في مسألة الزكاة لا يمكن أن يجعل مضمونا عليه; لأنه إنما يقبضه في الحكم كفاية له من الله تعالى لا من المعطي وبدون رد المثل يتعذر اعتبار الجودة منفردة عن الأصل ولهذا لو كان المقبوض قائما لا يتمكن من الرد وطلب الجياد وكذا ليس له ولاية المطالبة عن الغني إن لم يؤد إليه شيئا وههنا رب الدين يتمكن من مطالبته أصلا ووصفا بطريق الجبر فأمكن أن يجعل المقبوض مضمونا بالمثل إحياء لحقه. قوله: "والأداء الذي هو في معنى القضاء" إلى آخره, رجل تزوج امرأة على أبيها عتق الأب; لأن المهر يملك بنفس العقد كالبضع, فإن استحق الأب بقضاء بطل ملكها وبطل عتقه وعلى الزوج قيمته; لأنه سمى مالا وعجز عن تسليمه فيجب قيمته كما إذا تزوجها على عبد الغير ابتداء فإن لم يقض بقيمته حتى ملك الزوج الأب أي أبا المرأة واللام للعهد, بوجه من الوجوه أي بشراء أو هبة أو ميراث أو نحوها, لزم الزوج تسليم العبد إلى المرأة حتى لو امتنع عنه بعد طلب المرأة يجبر على التسليم, ولو أراد أن يدفعه إليها فأبت عن القبول تجبر عليه أيضا; لأن هذا أداء لعين ما استحق بالتسمية في العقد وكونه ملك الغير لا يمنع صحة التسمية وثبوت الاستحقاق بها على الزوج ألا ترى أنه تلزمه القيمة إذا تعذر التسليم وليس ذلك إلا لاستحقاق الأصل. فرق بين هذا وبين ما إذا باع عبدا فاستحق العبد بقضاء ثم اشتراه البائع من المستحق لا يجبر البائع على تسليمه إلى المشتري; لأن بالاستحقاق ظهر أن البيع توقف على إجازة المستحق وقد بطل برده, فإذا انفسخ البيع لا يجبر البائع على التسليم أما الموجب لتسليم العبد ههنا فقائم وهو النكاح; لأنه لا ينفسخ باستحقاق المهر كما لا ينفسخ بهلاكه, فإذا قدر على تسليم العبد يلزمه, إلا أنه في معنى القضاء; لأن تبدل الملك بمنزلة تبدل العين فكان هذا غير ما وجب تسليمه بالعقد حكما, والدليل عليه أن عائشة رضي الله عنها قالت دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وإدام من أدم البيت فقال عليه السلام: "ألم أر برمة فيها لحم" قالوا بلى ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة قال: "هو عليها صدقة ولنا هدية" 1 كذا في المصابيح فجعل اختلاف السبب بمنزلة اختلاف العين. ولا يقال كيف يصح هذا والصدقة لا تحل لبني
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الطلاق 7/61 ومسلم في العتق حديث رقم 1504 والإمام أحمد في المسند 6/178.(1/243)
لم يقض بقيمته حتى ملك الزوج الأب بوجه من الوجوه لزمه تسليمه إلى المرأة; لأنه عين حقها في المسمى إلا أنه في معنى القضاء; لأن تبدل الملك أوجب تبدلا في العين حكما فكان هذا عين حقها في المسمى لكن بمعنى المثل ولهذا قلنا: إن الزوج إذا ملكه لا يملك أن يمنعها إياه; لأنه عين حقها ولهذا قلنا: إنه لا يعتق حتى يسلمه إليها أو يقضي به لها; لأنه مثل من وجه فلا تملك قيمته إلا بالتسليم ولهذا قلنا إذا أعتقه الزوج أو كاتبه أو باعه قبل التسليم صح; لأنه مثل من وجه وعليه قيمته ولهذا قلنا إذا قضي بقيمته على الزوج ثم
ـــــــ
هاشم ومواليهم; لأنا نقول إنها كانت مولاة عائشة وهي من بني تيم لا من بني هاشم كيف وكان ذلك التصدق تطوعا بدليل كونه لحما وحرمته مختصة بالنبي عليه السلام, وتصدق أبو طلحة بحديقة له على أمه ثم ماتت فورثها منها فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله تعالى قبل عنك صدقتك ورد عليك حديقتك" 1, ولأن بتبدل الوصف يتغير حكم العين حسا وشرعا كالخمر إذا تخللت تغير حكمها الطبيعي من الحرارة إلى البرودة ومن الإسكار إلى عدمه وحكمها الشرعي من الحرمة إلى الحل, وقد يتغير بتبدله حل التصرف الثابت للبائع إلى الحرمة وحرمته الثابتة للمشتري إلى الحل أيضا فيجوز أن يجعل العين باعتباره بمنزلة شيء آخر.
وإذا ثبت هذا كان هذا التسليم من الزوج أداء مال من عنده مكان ما استحق عليه فكان شبيها بالقضاء من هذا الوجه, ولهذا أي ولكون العبد عين المسمى في العقد حقيقة قلنا لا يملك الزوج أن يمنعها إياه أي العبد; لأنه عين حقها, ولهذا أي ولكونه غير المسمى حكما قلنا إنه لا يعتق قبل التسليم إليها والقضاء به لها; لأنه لما كان ملحقا بالمثل كان ملكا للزوج قبل التسليم والقضاء فلا يعتق عليها, والفقه فيه أن العقد حال وقوعه لم يقع تمليكا للعبد; لأن تمليك مال الغير لا يصح وإنما وقع تمليكا لمثل مالية العبد في الذمة فكان المهر مثل ماليته إلا أن مالية العبد مثل لما في ذمته حقيقة ومالية محل آخر ليست كذلك; لأنها تكون مثلا بالحزر والظن فمتى أمكن تسليم عين العبد لا يصار إلى غيره; لأنه أعدل من القيمة وإذا ثبت هذا لا يكون العبد ملكا لها قبل التسليم أو القضاء.
ولهذا أي ولكونه غير المسمى حكما قلنا إذا تصرف الزوج فيه بإعتاق أو كتابة أو بيع أو هبة قبل التسليم والقضاء نفذت تصرفاته; لأنها صادفت ملك نفسه, وكان ينبغي أن
ـــــــ
1 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/235.(1/244)
ملكه الزوج أن حقها لا يعود إليه وهذه الجملة في نكاح كتاب الجامع مذكورة ويتصل بهذا الأصل أن من غصب طعاما فأطعمه المالك من غير أن يعلمه لم يبرأ عند الشافعي لأنه ليس بأداء مأمور به; لأنه غرور إذ المرء لا
ـــــــ
ينقض التصرفات التي تحتمل النقض كالبيع والهبة لتعلق حق المرأة بعين العبد كالمشتري إذا تصرف في الدار المشفوعة والراهن إذا تصرف في المرهون وإنما لا تنقض; لأنها لو نقضت بطل حق الزوج في التصرف لا إلى خلف ولو لم تنقض بطل حق المرأة إلى خلف وهو القيمة والإبطال خلف أهون فكان أولى بالتحمل بخلاف مسألة الشفيع; لأن ثمة لو نقض بطل حق المشتري إلى خلف وهو الثمن ولو لم ينقض بطل الشفيع أصلا وفي الرهن لا ينقض تصرفاته بل يؤخر إلى أن يفك الرهن كذا في الجامع لشمس الإسلام رحمه الله.
ولهذا أي ولكون العبد غير المسمى في الحكم قلنا: إذا قضى القاضي بقيمته بعد الاستحقاق ثم ملكه الزوج لم يعد حقها إلى العين فلا يجبر الزوج على التسليم ولا المرأة على القبول; لأن الحق نقل من العين إلى القيمة بالقضاء وتقرر به فانقطع الحق عما له حكم المثل كمن غصب شيئا له مثل من جنسه فهلك عنده ثم انقطع مثله فقضى القاضي عليه بالقيمة ثم جاء, أو أنه لم يعد حقه إلى المثل, ولو كان للعبد بعد الدخول في ملك الزوج حكم عين المسمى من كل وجه لعاد حقها فيه إذا كان القضاء بالقيمة بقول الزوج مع اليمين كما في المغصوب إذا عاد من إباقة بعد قضاء القاضي بالقيمة للمغصوب منه بقول الغاصب مع يمينه والله أعلم.
قوله: "ويتصل بهذه الجملة" أي وبما ذكرنا من أقسام الأداء يتصل مسألة مبنية على الأداء وهي أن من غصب طعاما فقدمه إلى مالكه وأباحه كله فأكله وهو لا يعلم به, أو غصب ثوبا فكساه رب الثوب فلبسه حتى يخرق ولم يعرفه يبرأ الغاصب عن الضمان عندنا, وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله لا يبرأ وهذا إذا لم يحدث فيه ما يقطع حق المالك فإن أحدث فيه ما يقطع حقه بأن كان دقيقا فخبزه ثم أطعمه أو لحما فشواه ثم أطعمه أو تمرا فنبذه وسقاه أو ثوبا فقطعه وخاطه قميصا وكساه لا يبرأ عن الضمان بالاتفاق; لأنه ملكه بهذه التصرفات عندنا ولو وهبه وسلمه إليه أو باعه منه وهو لا يعلم به وأكله المالك من غير أن يطعمه الغاصب يبرأ عن الضمان بالاتفاق هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله له أنه ما أتى بالرد المأمور به فإنه غرور منه والشرع لا يأمره بالغرور والغاصب لا يستفيد البراءة إلا بالرد المأمور به, فإذا لم يوجد صار ضامنا. ولأنه ما أعاده إلى ملكه كما كان; لأن المباح له الطعام لا يصير مطلق التصرف فيما أبيح له فكان(1/245)
يتحامى في العادات عن مال غيره في موضع الإباحة, والشرع لم يأمر بالغرور فبطل الأداء نفيا للغرور فصار معنى الأداء لغوا ردا للغرور.
قلنا نحن هذا أداء حقيقة; لأنه عين ماله وصل إلى يده ولو كان قاصرا لتم بالهلاك فكيف لا يتم وهو في الأصل كامل فأما الخلل الذي ادعاه فإنما وقع
ـــــــ
فعله قاصرا في حكم الرد فلو جعلنا هذا ردا تضرر به المغصوب منه; لأنه أقدم على الأكل بناء على خبزه أنه أكرم ضيفه ولو علم أنه ملكه ربما لم يأكله وحمله إلى عياله فأكله معهم فلدفع الضرر عنه بقي الضمان على الغاصب كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
فالنكتة الأولى تشير إلى أن الأداء لم يوجد, والثانية تشير إلى أنه وجد قاصرا ولكنه لم يعتبر نفيا للغرور, وحجتنا في ذلك أن الواجب على الغاصب نسخ فعله وقد تحقق ذلك أما من حيث الصورة فلأنه وصل إلى يد المالك وبه ينعدم ما كان فائتا وأما من حيث الحكم فلأنه صار متمكنا من التصرف حتى لو تصرف فيه نفذ تصرفه غير أنه جهل بحاله وجهله لا يكون مبقيا للضمان في ذمة الغاصب مع تحقق العلة المسقطة كما أن جهل المتلف لا يكون مانعا من وجوب الضمان عليه عند تحقق الإتلاف إذا كان يظن أنه ملكه. وأما الغرور فثابت ولكن الغرور بمجرد الخبر لا يوجب حكما كمن عرف بسراق في الطريق فأخبر أن الطريق أمن فخرجوا فقطع عليهم لا يضمن الغار شيئا وإنما المعتبر منه ما يوجد في ضمن عقد ضمان كما في ولد المغرور ولم يوجد ذلك فإن الغاصب المضيف ما شرط لنفسه عوضا. ولأن أكثر ما في الباب أن لا يكون فعل الغاصب هو الرد المأمور به ولكن تناول المغصوب منه عين المغصوب كاف في إسقاط الضمان عن الغاصب, ألا ترى أنه لو جاء إلى بيت الغاصب وأكل ذلك الطعام بعينه وهو يظن أنه ملك الغاصب برئ الغاصب من الضمان, فكذلك إذا أطعمه الغاصب إياه كذا في المبسوط.
قوله: "ليس بأداء مأمور به" إذ لا بد للمأمور به من أن يكون حسنا والغرور قبيح منهي عنه فكيف يكون مأمورا به. إذ المرء لا يتحامى أي لا يجتنب ولا يحترز في العادات عن مال الغير في موضع الإباحة; لأن المانع من التصرف في مال الغير الحرمة الشرعية أو المنع الحسي, فإذا زال ذلك بالإباحة لا يبالي بإتلافه بخلاف مال نفسه فإنه يحترز عن إتلافه أشد الاحتراز بقاء له على نفسه وإذا كان كذلك كان التلف مضافا إلى الغرور لا إلى فعله فبقي الضمان على الغار, فبطل معنى الأداء أي بطل إيصاله إلى المالك حقيقة ردا للغرور المنهي عنه, وحاصل هذا الدليل أن ما صدر عنه ليس بأداء لكونه غرورا.
وقوله ولو كان قاصرا لتم بالهلاك جواب عين نكتة للشافعي لم تذكر في الكتاب(1/246)
لجهله والجهل لا يبطله وكفى بالجهل عارا فكيف يكون عذرا في تبديل إقامة الفرض اللازم والعادة المخالفة للديانة الصحيحة على ما زعم لغو; لأن عين ماله
ـــــــ
وهي ما ذكرنا أن الغاصب أزال يدا مطلقة لجميع التصرفات وما أعاد بتقديم الطعام إليه إلا يد إباحة فكان هذا أداء قاصرا فلا ينوب عن الكامل فأجاب وقال لو كان قاصرا كما زعمتم لتم بالهلاك كما في أداء الزيوف عن الجياد مع أنا لا نسلم أنه قاصر بل هو كامل; لأنه إيصال الحق إلى مالكه أصلا ووصفا. وقوله ما أعاد الأيد إباحة قلنا جهة الإباحة ساقطة بالإجماع; لأنه لا يتصور في حق المالك إلا جهة الملك فأما الخلل الذي ادعاه الخصم وهو الغرور الذي تضمنه هذا الأداء فإنما وقع بجهل المالك والجهل أي جهل المالك لا يبطل الأداء الصادر من الغاصب إذ علم المالك ليس من شرائط صحة الأداء كما ذكرنا وكفى بالجهل عارا; لأنه نقيصة فإن الرجل يعير به فوق تعييره بنقصان أعضائه فكيف يصلح عذرا في تبديل إقامة الفرض اللازم وهو الرد إلى المالك يعني تسليم هذا العين إلى المالك فرض على الغاصب وقد أتى به بجهله بأن هذا ملكه لا يصلح مبطلا له, ألا ترى أن المغصوب لو كان عبدا فقال الغاصب للمالك أعتق هذا العبد فقال أعتقته وهو لا يعلم أنه عبده ينفذ عتقه ولا يرجع على الغاصب بشيء وكذا البائع لو قال للمشتري أعتق عبدي هذا وأشار إلى المبيع فأعتقه المشتري ولم يعلم بأنه عبده صح إعتاقه ويجعل قبضا ويلزمه الثمن; لأنه أعتق ملكه وجهله بأنه ملكه لا يمنع صحة ما وجد منه فكذا هذا.
وقوله: "والعادة المخالفة للديانة الصحيحة" لغو جواب عن قوله المرء لا يتحامى في العادات عن مال الغير يعني العادة إنما تعتبر إذا لم يكن مخالفة للديانة الصحيحة, وقيد بالصحيحة احترازا عن ديانات أهل الأهواء والمتقشفة ونحوها فإن العادة المخالفة لها يعتبر, وما ذكرت من العادة مخالفة للديانة الصحيحة; لأن مقتضى الإسلام أن لا يرغب في مال الغير وأن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه قال عليه السلام: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 1, فكما يكره إتلاف مال نفسه مع كونه مطلق التصرف فيه فكذلك ينبغي أن يكره إتلاف مال الغير.
وروي عن بعض الكبار أنه قال: وقع حريق بالليل فخرجت أنظر إلى دكاني فقيل لي الحريق بعيد من دكانك فقلت: الحمد لله ثم قلت في نفسي: هب إنك نجوت من البلاء
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الإيمان باب رقم 14 ومسلم في الإيمان حديث رقم 45 والإمام أحمد في المسند 3/176 و206 و251 و272 و278 و289.(1/247)
وصل إلى يده. أما القضاء بمثل معقول فنوعان كامل وقاصر أما الكامل فالمثل صورة ومعنى وهو الأصل في ضمان العدوان.
وفي باب القروض تحقيقا للجبر حتى كان بمنزلة الأصل من كل وجه
ـــــــ
ألا تهتم للمسلمين ما تهتم لنفسك فأنا أستغفر الله من قولي الحمد لله منذ ثلاثين سنة, وإذا كان كذلك كانت العادة المخالفة لهذه الديانة غير معتبرة فلا تصلح ناقصة للأداء الموجود حقيقة في القضاء بمثل معقول في حقوق العباد.
قوله: "كامل وقاصر" قيل هذا التقسيم يجري في حقوق الله تعالى أيضا فإن قضاء الفائتة بالجماعة قضاء بمثل معقول كامل وقضاؤها منفردا قضاء بمثل معقول قاصر كما في الأداء فصارت الأقسام بهذا الاعتبار أربعة عشر. ويحتمل أن لا يجري هذا التقسيم فيها; لأن صفة القصور في المثل إنما تثبت إذا تحقق الوجوب في الصفة ليتمكن بفواتها قصور فيه كما في الأداء ولم يتحقق هنا; لأن وصف الجماعة ليس بلازم في القضاء; لأن اللزوم فيه يبتني على صيرورة الواجب دينا في الذمة وبعد الفوات لا يصير وصف الجماعة دينا في الذمة بالإجماع بل الدين أصل الصلاة لا غير فبفوات هذا الوصف لا يتمكن قصور في المثل بل القضاء منفردا مثل كامل والقضاء بجماعة أكمل منه فكانت الأقسام بهذا الاعتبار ثلاثة عشر. وهذا بخلاف الأداء فإن فوات هذا الوصف يوجب قصورا فيه; لأنه ثبت له فيه شبه الوجوب من حيث إنه سنة مؤكدة ولكن أثره يظهر في الفعل حتى سقط به التخيير بين الفعل والترك بترجح جانب الفعل على سبيل التأكيد دون صيرورته دينا في الذمة; لأنه ليس بواجب حقيقة فلشبه الوجوب يثبت القصور في الأداء بفواته ولعدم الوجوب حقيقة لا يثبت في القضاء وهذا; لأن وصف الجماعة من الشعار فيليق بالأداء الذي ينبئ عن شدة الرعاية ويجوز أن يثبت له فيه شبه الوجوب دون القضاء الذي ينبئ عن التقصير في الامتثال ولهذا قيل كره قضاء الصلوات في المسجد علانية وإنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فاته غداة ليلة التعريس بجماعة لبقاء معنى الأداء من وجه بأن ما بعد الطلوع إلى الزوال له حكم ما قبل الطلوع في بعض الأحكام مثل قضاء سنة الفجر وتدارك الورد الذي فاته بالليل كما جاءت به السنة وكان ينبغي أن تكره الجماعة في القضاء لما قلنا إلا أنه لما كان مبنيا على الفائت انتفت الكراهة كما انتفى شبه الوجوب وبقي الجواز بظاهر الحديث والله أعلم.
قوله: "وفي باب القروض" إنما عد الشيخ رد المثل في باب القروض من القضاء وفي باب الديون من الأداء; لأن رد عين ما قبض ممكن في القرض فصح أن يجعل رد مثله(1/248)
فكان سابقا. أما المثل القاصر فالقيمة فيما له مثل إذا انقطع مثله وفيما لا مثل
ـــــــ
قضاء لوجود شرطه وهو تصور الأصل فأما تسليم الدين فغير ممكن فلا يصح أن يجعل تسليم العين فيه قضاء له لعدم شرطه فكان تسليم العين فيه كتسليم نفس الدين فلهذا كان من أقسام الأداء.
"فإن قيل" ينبغي أن يكون رد المثل في القرض قضاء يشبه الأداء; لأن بدل القرض في حكم عين المقبوض إذ لو لم يجعل كذلك كان مبادلة الشيء بجنسه نسيئة ولهذا كان القرض في حكم الإعارة حتى لا يلزم فيه التأجيل عندنا بخلاف الديون.
"قلنا" بدل القرض غير المقبوض حقيقة وإنما أخذ حكم المقبوض ضرورة الاحتراز عن الربا فلا يظهر فيما وراء موضع الضرورة وهو كونه أداء كذلك قيل., والأولى أن يقال كونه شبيها بالأداء لا يمنعه من أن يكون من أقسام القضاء بمثل معقول كما أشرنا إليه فيما سبق; لأن الشيخ قسم القضاء بالمثل المعقول مطلقا ولم يقيده بالقضاء المحض فيدخل فيه القضاء المحض وغير المحض.
قوله: "تحقيقا للجبر" جبر الكسر جبرا أي أصلحه. فالغاصب فوت على المغصوب منه ما له صورة ومعنى فالجبر التام أن يتداركه بأداء مال من عنده هو مثل لما فوت عليه صورة ومعنى حتى يقوم مقام الأصل وهو المغصوب من كل وجه, فكان أي المثل صورة ومعنى, سابقا أي على المثل معنى وهو القيمة فلا يصار إليه إلا عند تعذر رد الأصل صورة ومعنى, وهو مذهب عامة الفقهاء وقال نفاه القياس لأن الواجب على الغاصب رد القيمة في جميع الأموال عند تعذر رد العين; لأن حق المغصوب منه في العين والمالية وقد تعذر إيصال العين إليه فيجب إيصال المالية إليه ووجوب الضمان على الغاصب باعتبار صفة المالية ومالية الشيء عبارة عن قيمته, ولكن العامة يقولون الواجب هو المثل قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194], وتسمية الفعل الثاني اعتداء بطريق المقابلة مجازا كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40], وقد ثبت بالنص أن هذه الأموال أمثال متساوية قال عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" 1, الحديث فيجب رد المثل لا رد القيمة, ولأن المقصود هو الجبر كما ذكرنا وذلك في المثل أتم; لأن فيه مراعاة الجنس والمالية وفي القيمة مراعاة المالية فقط فكان إيجاب المثل أعدل إلا إذا تعذر ذلك
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساقاة حديث رقم 1588 وابن ماجه في التجارات حديث رقم 2255 والإمام أحمد في المسند 2/232.(1/249)
له; لأن حق المستحق في الصورة والمعنى إلا أن الحق في الصورة قد فات للعجز عن القضاء به فبقي المعنى ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه فيمن
ـــــــ
بالانقطاع من أيدي الناس "فح" يصار إلى المثل القاصر وهو القيمة للضرورة كذا في المبسوط.
قوله: "فالقيمة فيما له مثل" كالمكيل والموزون والعددي المتقارب, إذا انقطع مثله أي عن أيدي الناس بأن لا يوجد في الأسواق وهذا بالاتفاق, وفيما لا مثل له كالحيوانات والثياب والعدديات المتفاوتة فإن الواجب فيها المثل معنى وهو القيمة عند تعذر رد العين عند الجمهور, وقال أهل المدينة يضمن مثلها من جنسها معدلا بالقيمة; لأن فيه رعاية المماثلة صورة ومعنى أما صورة فظاهر وأما معنى فلأنهما عدلا قيمة فكان أولى من الدراهم التي تفوت فيها المماثلة صورة, وروي أن عائشة رضي الله عنها كسرت قصعة لصفية رضي الله عنها ثم جاءت بقصعة مثل تلك القصعة فردتها واستحسن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم1, وروي أن أعرابيا أتى عثمان رضي الله عنه وقال إن بني عمك عدوا على إبلي فقطعوا ألبانها وأكلوا فصلانها, الحديث إلى أن قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أرى أن يأتي هذا واديه فيعطي ثمة إبلا مثل إبله وفصلانا مثل فصلانه فرضي به عثمان. وتمسك الجمهور بالحديث المشهور وهو ما روي عن النبي عليه السلام: "من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا" 2 وهذا تنصيص على اعتبار القيمة فيما لا مثل له إذ لم يقل يضمن مثله نصف عبد آخر وبأن ضمان التعدي مبني على المماثلة, وهذه الأموال تتفاوت في المالية خلقة فتعذر فيها رعاية الصورة إذ لو روعيت لفاتت المماثلة معنى فوجب رعاية المعنى الذي لا تفاوت فيه, وهو القيمة بخلاف المكيلات والموزونات; لأنها لا تتفاوت خلقة فأمكن فيها رعاية الصورة والمعنى يوضحه أنه لو اشترى عشرة أقفزة حنطة بعشرة دراهم كان له أن يبيع واحدا منها مرابحة على درهم لعدم تفاوت القفزان وبمثله في العبيد لا يجوز للتفاوت الذي بينهم فلا يعرف قدر الواحد من الجملة قطعا. وأما حديث عائشة فتأويله أن الرد كان على سبيل المروءة ومكارم الأخلاق لا على طريق الضمان فقد كانت القصعتان لرسول الله عليه السلام
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الأحكام حديث رقم 1359 وابن ماجه في الأحكام حديث رقم 2333 والإمام أحمد في المسند 3/105.
2 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 1503 وأبو داود في العتق حديث رقم 3937 والترمذي في الأحكام رقم 1348 وابن ماجه في العتق حديث رقم 2527 والإمام أحمد في المسند 2/326 و427.(1/250)
قطع يد رجل ثم قتله عمدا أنه يقطع ثم يقتل إن شاء الولي; لأنه مثل كامل وأما القتل المنفرد فمثل قاصر
ـــــــ
ويحتمل أن القصعة كانت من العدديات المتقاربة. وأما حديث عثمان فقد كان ذلك على سبيل الصلح لا على طريق القضاء بالضمان; لأن المتلف لم يكن عثمان والإنسان غير مؤاخذ بجناية بني عمه إلا أنه تبرع بأداء مثل ذلك عن بني عمه لفرط ميله إلى أقاربه وانتصارهم به كذا في الأسرار والمبسوط.
قوله: "ولهذا" أي ولكون المثل الكامل أصلا في الباب وسابقا على القاصر قال أبو حنيفة إلى آخره, والمسألة على وجوه أما إن كان القتل بعد البرء أو قبله, وأما إن كان القطع والقتل من شخص واحد أو من شخصين, وأما إن كانا خطأين أو عمدين أو أحدهما عمدا والآخر خطأ فإن كان القتل بعد البرء فهما جنايتان على كل حال بالاتفاق. وكذا إن كان قبل البرء إلا أنه من شخص آخر, وكذا إن كان قبل البرء من ذلك الشخص ولكن كان أحدهما عمدا والآخر خطأ, وإن كانا خطأين من شخص واحد والقتل قبل البرء فهما جناية واحدة بالاتفاق, وإن كانا عمدين فهما جنايتان عند أبي حنيفة رحمه الله وجناية واحدة عندهما, فتبين بما ذكرنا أن قوله قطع يد رجل مقيد بالعمد أي قطعا عمدا, وإن قوله ثم قتله عمدا مقيد بأن يكون قبل البرء أي قتله عمدا قبل برء اليد, أنه الضمير للشأن أي الشأن أن الولي يتخير إن شاء قطعه ثم قتله وإن شاء قتله من غير قطع; لأن القصاص مبني على المساواة في الفعل والمقصود الفعل وفي القتل بدون القطع مراعاة المساواة في المقصود بالفعل وفيه مع القطع مراعاة المساواة في المقصود بالفعل وصورة الفعل جميعا فيتخير الولي بينهما لا يمنع من القطع بخلاف الخطأ فالمعتبر هناك صيانة المحل عن الإهدار لا صورة الفعل; لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع علينا, وقالا بل له أن يقتل وليس له أن يقطع; لأن القطع موقوف في حق الحكم على السراية فإذا سرى سقط حكمه في نفسه وصار قتلا والفعل الثاني ههنا إتمام لما توقف عليه القطع وتحقيق له بدليل أن حكمه حكم السراية بعينه فكانا جناية واحدة بخلاف ما إذا تخلل بينهما برء; لأن الجناية الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبرء فيكون الثانية إنشاء جناية أخرى, ألا ترى أنهما لو كانا خطأين وتخلل برء بينهما تجب دية ونصف كما لو حلا بشخصين. وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين; لأن الفعل من الأول لم يتوقف على أن يصير بالسراية فعلا مضافا إلى شخص آخر فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول, وبخلاف ما إذا كان أحدهما عمدا والآخر خطأ; لأن صفة الفعل يختلف باختلاف الموجب; لأن باختلاف صفة الفعل يختلف الموجب فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول كما إذا اختلف الفاعل أو محل الفعل.(1/251)
وقالا بل يقتله ولا يقطعه; لأن القتل بعد القطع تحقيق لموجب القطع فصار أمر الجناية يئول إلى القتل, وقلنا هذا هكذا من طريق المعنى فأما من طريق الصورة في باب جزاء الفعل فلا, ألا ترى أن القتل قد يصلح ماحيا أثر القطع كما يصلح محققا; لأنه علة مبتدأة صالحة للحكم فوق الأول فخيرناه بين الوجهين. ولهذا لا يضمن المثلي بالقيمة إذا انقطع المثل إلا يوم الخصومة
ـــــــ
وإيضاح جميع ما ذكرنا في فصل الخطأ أنه لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا يجب إلا دية واحدة فكذا ههنا وقلنا هذا أي القتل بعد القطع قبل البرء, هكذا أي تحقيق لموجب القطع كما ذكرتم فكانا جناية واحدة ولكنه من طريق المعنى والمقصود فأما من طريق الصورة فلأن الفعل متعدد.
وقوله في باب جزاء الفعل إشارة إلى ما ذكرنا من الفرق أن الواجب في باب القصاص جزاء الفعل فإنما يقتل نفوسا بنفس واحدة لتعدد الأفعال بخلاف الخطأ فإن الواجب فيه بدل الفائت فإن جماعة لو قتلوا واحدا خطأ لم تجب إلا دية واحدة وههنا قد تعدد الفعل فيجوز أن يتعدد الجزاء, قوله ألا ترى أنه يصلح ماحيا أثر القطع كما يصلح محققا يعني أن القتل بعد القطع كما يصلح إتماما للفعل الأول من وجه فكذلك يصلح ماحيا له بمنزلة البرء من حيث إن المحل يفوت به ولا تصور للسراية بعد فوات المحل والقتل بنفسه علة صالحة للحكم وهو إزهاق الروح فوق الأول; لأنه ليس بمؤد إلى الإزهاق لا محالة بل الغالب فيه عدمه فيصلح أن يكون الحكم مضافا إلى القتل ابتداء, ألا ترى أن القاتل لو كان غير القاطع كان القصاص في النفس على الثاني خاصة ولو كان محققا لا محالة لوجب القصاص عليهما, ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3], جعل الذكاة قاطعة للسراية وإلا لما حل المذكى بعد جرح السبع. ولهذا قلنا إذا رمى إلى صيد تاركا للتسمية عمدا وجرحه ثم أدركه وذكاه حل فعلم أن الفعل الثاني يصلح ماحيا كما يصلح محققا فلهذا خيرناه بين الوجهين.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولكون المثل الكامل أصلا في ضمان العدوان وسابقا على القاصر قلنا إذا انقطع المثل في المثلي تعتبر القيمة وقت القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله; لأن التحول إلى القيمة إنما يتحقق وقت القضاء إذ المثل هو الواجب في الذمة قبله وهو مطالب به حتى لو صبر إلى مجيء أو أنه كان له أن يطالبه بالمثل وإنما يتحول إلى القيمة للعجز وذلك وقت القضاء بخلاف ما إذا كان المغصوب أو المستهلك مما لا مثل له; لأن الواجب هناك وإن كان هو المثل عند أبي حنيفة ولكنه غير مطالب بأداء المثل بل(1/252)
عند أبي حنيفة رضي الله عنه; لأن المثل القاصر لا يصير مشروعا مع احتمال الأصل ولا يقطع الاحتمال إلا بالقضاء ولهذا لا يضمن منافع الأعيان بالإتلاف بطريق التعدي; لأن العين ليس بمثل لها صورة ولا معنى أما الصورة فلا شك فيها وأما المعنى فلأن المنافع إذا وجدت كانت إعراضا لا تبقى زمانين وليس
ـــــــ
هو مطالب بأداء القيمة بأصل السبب فتعتبر قيمته عند ذلك, وأبو يوسف رحمه الله يقول لما انقطع المثل فقط التحق بما لا مثل له في وجوب اعتبار القيمة والخلف إنما يجب بالسبب الذي يجب به الأصل وذلك الغصب فتعتبر قيمته يوم الغصب. ومحمد رحمه الله يقول أصل الغصب أوجب المثل خلفا عن رد العين وصار ذلك دينا في ذمته فلا يوجب القيمة أيضا; لأن السبب الواحد لا يوجب ضمانين ولكن المصير إلى القيمة للعجز عن أداء المثل وذلك بالانقطاع عن أيدي الناس فتعتبر قيمته بآخر يوم كان موجودا فيه فانقطع كذا في المبسوط.
قوله: "ولهذا لم يضمن منافع الأعيان إلى آخره" أي ولكون المثل الكامل أو القاصر شرطا في القضاء قلنا لا يضمن المنافع بالأعيان; لأنها ليست بمثل للمنافع لا كاملا ولا قاصرا, أو معناه ولكون العجز مسقطا للضمان في حقوق العباد كما في حقوق الله تعالى فإنه لو غصب زوجة إنسان أو ولده وهلك عنده لا يجب الضمان للعجز قلنا لا يضمن المنافع بالإتلاف للعجز عن تسليم المثل. واعلم بأن المنافع لا تضمن بالغصب ولا بإتلاف عندنا وقال الشافعي تضمن بهما وصورة الغصب أن يمسك العين المغصوبة مدة ولا يستعملها وصورة الإتلاف أن يستعملها بأن يستخدم العبد أو يركب الدابة أو يسكن البيت.
ثم الخلاف في مسألة الغصب ليس بناء على الأصل المذكور بل هو بناء على الاختلاف في زوائد الغصب فإنها ليست بمضمونة على الغاصب عندنا; لأن الغصب هو إزالة اليد المحقة بإثبات يد المبطلة ولا يتصور الإزالة في الزوائد لحدوثها في يد الغاصب فكذلك المنافع أزهى زوائد تحدث في العين شيئا فشيئا وعنده هي مضمونة; لأن الغصب ليس إلا إثبات اليد المبطلة وقد يتحقق ذلك في الزوائد فكذلك المنافع; لأن اليد تثبت على المنفعة كما تثبت على العين. فأما الخلاف في الإتلاف فبناء على الأصل المذكور وهو القدرة على المثل وعدمها لا على إثبات اليد وإزالتها ألا ترى أن الزوائد تضمن بالإتلاف بلا خلاف فتحقق بما ذكرنا أن الشيخ إنما قيد بقوله بالإتلاف احترازا عن الغصب وبقوله بطريق التعدي احترازا عن الإتلاف بالعقد كالإجارة والعارية, ثم منافع الحر مضمونة بالإتلاف عنده قولا واحدا حتى لو استسخر حرا واستعمله لزمه أجر المثل(1/253)
لما لا تبقى زمانين صفة التقوم; لأن التقوم لا يسبق الوجود وبعد الوجود التقوم لا يسبق الإحراز والاقتناء, والإعراض لا يقبل هذه الأوصاف إلا أن يثبت إحرازها
ـــــــ
وغير مضمونة بالغصب في قول حتى استولى عليه وحبسه حتى تعطلت منافعه لا يلزمه شيء; لأن منافع الحر تحت يده ولا يد لغيره عليه كثياب بدنه بخلاف العبد. وجه قول الشافعي رحمه الله في مسألة الإتلاف أن المنافع أموال متقومة فتضمن بالإتلاف كالأعيان.
وإنما قلنا أنها أموال بدليل الحقيقة والعرف والحكم, أما الحقيقة فلأن المال غير الآدمي خلق لمصالح الآدمي والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة وكيف لا والمصلحة في التحقيق تقوم بمنافع الأشياء لا بذواتها, والذوات تصير متقومة ومالا بمنافعها, إذ كل شيء لا منفعة فيه لا يكون مالا فكيف يسقط حكم المالية والتقوم عنها. وأما العرف فلأن الأسواق إنما تقوم بالمنافع والأعيان جميعا فإن الحجر والخانات إنما بنيت للتجارة وقد يستأجر المرء جملة ويؤاجر متفرقا لابتغاء الربح كما يشتري جملة ويبيع متفرقا. وأما الحكم فلأنها في الشرع عدت أموالا متقومة حتى صلحت مهرا وورد العقد عليها وضمنت بالمال في العقود الصحيحة والفاسدة بالإجماع والعقد لا يجعل ما ليس بمال مالا ولا ما ليس بمتقوم متقوما كورود العقد على الميتة والخمر وإذا ثبت أنها أموال متقومة وقد تحقق إتلافها; لأن الانتفاع بالشيء إتلاف لمنافعه تكون مضمونة عليه.
ولعلمائنا رحمهم الله في نفي المماثلة بين المنفعة والعين طريقان, أحدهما نفيها بنفي المالية والتقوم عن المنفعة أصلا, وثانيهما بإثبات التفاوت في المالية بينهما, بيان الأول أن المنفعة ليست بمال ولا بمتقومة فلا تضمن بالإتلاف بالمال كالميتة والخمر وذلك; لأن صفة المالية للشيء بالتمول والتمول عبارة عن صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة لا عن الانتفاع بالإتلاف فإن الأكل لا يسمى تمولا والمنافع لا تبقى وقتين بل كما توجد تتلاشى فكيف يرد عليها التمول, وكذا التقوم الذي هو شرط الضمان ومبناه لا يسبق الوجود فإن المعدوم لا يوصف بأنه متقوم إذ المعدوم ليس بشيء وبعد الوجود التقوم لا يسبق الأحراز كالصيد والحشيش والأحراز لا يتحقق فيما لا يبقى زمانين فكيف يكون متقوما.
ولا يقال المنافع توجد محرزة ضرورة إحراز ما قامت هي به, لأنا نقول إن ذلك يوجب أنها يكون محرزة للغاصب لا للمغصوب منه وإحراز الغاصب لا يوجب الضمان عليه كما في زوائد الغصب ليست بمضمونة عندنا, ولو كانت محرزة للمغصوب منه فذلك لا يوجب الضمان أيضا; لأنه إحراز ضمني لا قصدي وذلك لا يوجب الضمان(1/254)
بولاية العقد حكما شرعيا بناء على جواز العقد فلا يثبت في غير موضع العقد
ـــــــ
كالحشيش النابت في أرض مملوكة لا يكون مضمونا بالإتلاف وإن كان محرزا ضمنا لإحراز الأرض. وعلى هذا نقول الإتلاف يتصور في المنفعة أيضا; لأنه لا يحل المعدوم ولا يأتي مقترنا بالوجود; لأنه ضده فيمتنع الوجود وإنما يأتي بعده وهي لا تبقى في الزمان الثاني ليحله الإتلاف وإثبات الحكم بدون تحقق سببه لا يجوز, وبيان الثاني أن ضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص والمنافع وإن كانت أموالا متقومة فهي دون الأعيان في المالية فلا تضمن بالأعيان كما لا تضمن الديون بالعين والرديء بالجيد, وهذا لأن المنفعة تقوم بالعين والعين تقوم بنفسها وما يقوم بغيره تبع له والتفاوت بين التبع والمتبوع ظاهر. وكذا المنافع لا تبقى وقتين والعين أوقاتا وبين ما تبقى وبين ما لا تبقى تفاوت عظيم ثم من ضرورة كون الشيء مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له إذ هو اسم إضافي كالأخ والعين لا تضمن في باب العدوان بالمنفعة قط فعرفنا أنه لا مماثلة بينهما, يوضحه أن المنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الإتلاف حتى أن الحجر في خان واحد على تقطيع واحد لا يكون منفعة أحديهما مثلا لمنفعة الأخرى عند الإتلاف بالإجماع مع أن المماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر منها بين العين والمنفعة فلأن لا يضمن المنفعة بالعين وهي الدراهم أو الدنانير أولى فالشيخ رحمه الله أشار بقوله; لأن العين ليس بمثل لها إلى آخره إلى الطريق الأول وبقوله ولأن التفاوت بين ما يبقى إلى آخره إلى الطريق الثاني.
قوله: "إلا أن يثبت إحرازها" استثناء منقطع من قوله وليس لما لا يبقى صفة التقوم أي وليس لما لا يبقى صفة التقوم حقيقة إلا أن يثبت إحرازها شرعا بخلاف القياس فيتقوم وهو في الحقيقة جواب سؤال مقدر وهو أن يقال قد ثبتت لها صفة التقوم في باب العقد مع استحالة إحرازها حقيقة لعدم بقائها زمانين فجاز أن تثبت لها هذه الصفة في الإتلاف أيضا سدا لباب العدوان فأجاب أن إحرازها وتقومها في باب العقد إنما ثبت غير معقول المعنى بناء على جواز العقد يعني لما جاز العقد شرعا يثبت الإحراز ضرورة بناء عليه فلا يثبت في غير موضع العقد.
ولا يقال وقد ثبت التقوم لها في غير العقد أيضا كما إذا وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره يجب نصف العقر لصاحبه, لأنا نقول: منافع البضع التحقت بالأعيان عند الدخول على ما عرف فيكون الضمان في مقابلة العين حكما, ولأنها إنما تضمن بالعقر إذا كانت فيه شبهة العقد فأما إذا كان عدوانا محضا فلا يجب العقر وإنما يجب الحد, وهذا الجواب يشير إلى عدم صحة المقايسة بين العقد والإتلاف لكون الأصل غير معقول المعنى.(1/255)
بل يثبت التقوم في حكم العقد خاصة ولأن التقوم في حكم العقد ثبت لقيام العين مقامها وهذا أصح.
ـــــــ
وقوله: "ولأن التقوم في حكم العقد ثبت بقيام العين مقامها" جواب آخر عن هذا السؤال يعني لما كان بالناس حاجة إلى هذا العقد أقام الشرع العين المنتفع بها مقام المنفعة في قبول العقد إذ لا بد له من محل ألا ترى أنه لو أضاف العقد إلى المنافع لا يصح بأن قال: آجرتك منافع هذه الدار شهرا ثم عند حدوث المنفعة يثبت حكم العقد فيها فيثبت التقوم لها بهذا الطريق للضرورة ولا يتحقق مثل هذه الضرورة في العدوان فتبقى الحقيقة معتبرة.
قوله: "وهذا أصح" اعلم بأن الشافعي رحمه الله جعل المنافع المعدومة في باب الإجارة كالموجودة حكما; لأن العقود لا تصح إلا مضافة إلى محال أحكامها والحكم وهو الملك إنما يثبت في المنفعة دون الدار فلا بد من وجودها حال العقد إما حقيقة أو تقديرا من جهة الشرع ليكون الحكم في المقدر على مثال الحكم في المحقق فأنزل المنافع موجودة تحريا لصحة العقد واعتبرت الإضافة إلى الدار; لأنها محل المنفعة فصارت المنفعة بذكرها مذكورة; لأن باعتبارها حدثت لها عرضية الوجود وصار كالنطفة في الرحم يعطى لها حكم الولد الحي باعتبار العرضية. وعندنا عقد الإجارة مضاف إلى العين التي هي محل حدوث المنافع خلفا عن المنافع في حق كونها شرطا للعقد; لأنه لا يثبت الحكم إلا بالإضافة إلى محل فصار وجود المحل شرطا لصحة العقد وتعذر اعتبار هذا الشرط بحقيته في بيع المنافع إذ لا وجود لها حالة العقد ولا بقاء لها بعد الوجود فأقمنا الدار مقام المنفعة لصحة الإضافة ثم بعدما وجد اللفظان المرتبطان وصارا علة لإثبات حكم يتأخر عملهما في إثبات الحكم وهو الملك إلى حين وجود المنافع حقيقة ساعة فساعة, ومن أصحابنا من قال اللفظ الصادر منهما مضافا إلى محل المنفعة صح كلاما وهو العقد منهما إذ العقد فعلهما ولا فعل يصدر منهما سوى ترتيب القبول على الإيجاب ثم الانعقاد حكم الشرع يثبت وصفا لكلامهما شرعا فجاز أن يقال العقد قد وجد منهما وذلك عبارة عن كلامين يترتب أحدهما على الآخر فيحكم الشرع بالانعقاد عند حدوث المنافع ساعة فساعة كذا في إشارات الأسرار للشيخ الإمام أبي الفضل الكرماني1 رحمه الله.
ـــــــ
1 هو ركن الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن محمد بن أميرويه الكرماني الفقيه الحنفي ولد سنة 457 هـ وتوفي في 543 هـ انظر الفوائد البهية 91 – 92.(1/256)
ألا ترى أن ضمان العقد فاسدا كان أو جائزا يجب بالتراضي فوجب بناء التقوم على التراضي, وضمان العدوان يعتمد أوصاف العين والرجوع إليها يمنع التقوم على ما عرف ولأن التفاوت بين ما يبقى وتقوم العرض به وبين العرض
ـــــــ
فعلى الطريقة الأولى يكون العقد منعقدا في حق العين والحكم ينفذ في المنفعة وعلى الطريقة الثانية ينعقد على المنفعة لا على العين, فإذا عرفت هذا فنقول أجاب الشيخ عن السؤال المقدر على معتقد الخصم أولا بقوله إلا أن يثبت إحرازها بولاية العقد; لأن هذا الكلام يدل على أن العقد يرد على المنفعة ابتداء, ثم أجاب على مذهبه ثانيا بقوله ولأن التقوم إلى آخره ورجح مذهبه بقوله وهذا أصح ووجهه أن ما قاله الخصم قلب الحقيقة وهو جعل المعدوم موجودا وما قلنا إبقاء الأمر على حقيقة وتأخير الحكم إلى حين الوجود وأنه قابل للتأخر والتراخي كما إذا أوصى بما يثمر نخيله يتأخر حكمه إلى حين وجود الثمرة لا أنها تجعل موجودة, ولأن إقامة السبب مقام المسبب في الشرع أمر شائع كإقامة السفر مقام المشقة والنوم مقام الحدث والبلوغ مقام اعتدال العقل وحدث الملك مقام شغل الرحم في وجوب الاستبراء فأما جعل المعدوم موجودا فليس له في الشرع استمرار مثل استمرار ما ذكرنا فيكون ما قلنا أصح.
وقوله: "ألا ترى أن ضمان العقد فاسدا كان أو جائزا يجب بالتراضي" جواب آخر عن ذلك السؤال المقدر بطريق التوضيح, وهذا الجواب يثبت وصفا مفارقا به يفسد القياس وصار كأنه قال لا يصح القياس; لأن التقوم ثبت غير معقول المعنى وإن كان معقول المعنى ففي المقيس عليه وصف يفارق به المقيس وهو الرضاء; لأن للرضاء أثرا في إيجاب أصل المال وفضله فيجب الأجر بالتراضي فأما ضمان العدوان فمبني على أوصاف العين والرجوع إلى أوصاف المحل يوجب عدم الضمان ههنا فصار هذا القياس كما قيل مس الفرج حدث كما إذا مس وبال.
والغرض من إيراده هو الجواب عن العقد الفاسد; لأن ما ذكر أولا إنما يصلح جوابا عن العقد الصحيح لا عن الفاسد; لأن إثبات التقوم بطريق الضرورة إنما يكون في العقد الجائز دون الفاسد فيلزم منه أن لا تتقوم المنافع فيه كما في الإتلاف والغصب, فأما إثبات التقوم والتزام المال بطريق التراضي فموجود في العقد الصحيح والفاسد بخلاف الإتلاف والغصب, ثم الانفصال عن لزوم العقد الفاسد على ما ذكره أولا هو أن التقوم لما ظهر في حق العقد لا تميز فيه بين الصحيح والفاسد بل يؤخذ حكم الفاسد من الصحيح ولا يجعل الفاسد بنفسه أصلا.
قوله: "ولأن التفاوت" قد ذكرنا أن التفاوت بين العين والمنفعة من وجهين(1/257)
القائم به تفاوت فاحش فلم يصلح مثلا له معنى بحكم الشرع في العدوان بخلاف ضمان العقود; لأن العقود مشروعة فبنيت على الوسع والتراضي باعتبار الحاجة إليها وسقط اعتبار هذا التفاوت, ألا ترى أن اعتبار هذا التفاوت في
ـــــــ
أحدهما أن العين تبقى والمنفعة لا تبقى وثانيهما أن المنفعة تقوم بالعين لكونها عرضا والعين تقوم بنفسها فجمع الشيخ بين الوجهين بقوله بين ما تبقى وتقوم العرض به وبين العرض القائم به أي العرض الذي لا يبقى وهو مع ذلك قائم بغيره.
قوله: "تفاوت فاحش" قال الشافعي رحمه الله التفاوت باعتبار البقاء لا يؤثر في المنع من إيجاب الضمان بعد المساواة في الوجود كما إذا أتلف ما يتسارع إليه الفساد نحو الجمد والبطيخ فإنه تضمن الدراهم ولا مساواة بينهما في البقاء; لأن الدراهم يبقى أزمنة كثيرة والجمد ونحوه لا يبقى فكذا التفاوت الذي بين العين والمنفعة في البقاء لا يمنع من وجوب الضمان لتساويهما في أصل الوجود, فأجاب الشيخ بأن التفاوت بينهما فاحش لا يبقى معه المساواة بينهما فمنع من إيجاب الضمان, وهذا; لأن المماثلة إنما تعتبر في المعنى الذي بني عليه الضمان وهو المالية لا في كل معنى فإن الدراهم مثل للحيوان في المالية لا غير وههنا التفاوت في نفس المالية لما ذكرنا أن مالية المنافع لا تساوي مالية الأعيان; لأنها لا تقبل البقاء والمالية صفة للموجود, فإذا كان الموجود غير قابل للبقاء كيف يكون معنى المالية فيهما مثل معنى المالية في الأعيان فأشبه التفاوت بين العين والدين بخلاف ما يتسارع إليه الفساد; لأن التفاوت بينه وبين الدراهم في مقدار البقاء; لأنه يبقى في زمانين وأزمنة كثيرة إلا أن الدراهم أكثر بقاء منه ومثل هذا التفاوت لا يمنع وجوب الضمان وهذا; لأن المساواة بين المتلف وبدله إنما يشترط حال وجوب الضمان; لأنها حال إقامة أحدهما مقام الآخر فيجب أن يكون كل واحد منهما موصوفا بالبقاء ليصح المقابلة بوجود المساواة فأما البقاء بعد الإقامة فليست من موجب الغصب والعدوان فلهذا لا يمنع التفاوت بعد ذلك من وجوب الضمان.
قوله: "باعتبار الحاجة إليها". "فإن قيل" الحاجة ماسة إلى إهدار هذا التفاوت ههنا أيضا سدا لباب العدوان إذ في اعتباره انفتاح باب الظلم وتضيق الأمر على الناس "قلنا" ليس الأمر كما زعمت فإن مساس الحاجة فيما يكثر وجوده وهو ما كان مشروعا لا فيما يندر وجوده وهو العدوان فإنه منهي عنه وسبيله أن لا يوجد كيف وقد أوجبنا للزجر التعزير والحبس فإنه ذكر في المبسوط وعندنا يأثم ويؤدب على ما صنع ولكنه لم يضمن شيئا. "فإن قيل" في اعتبار هذا التفاوت إبطال حق المالك أصلا وفي إهداره وإيجاب(1/258)
ضمان العقود يبطلها أصلا واعتباره في ضمان العدوان لا يبطله أصلا بل يؤخره إلى دار الجزاء; لأنه بطل حكما لعجز نابه لا لعدمه في نفسه وإهدار التفاوت يوجب ضررا لازما للغاصب في الدنيا والآخرة ولم يحصل التمييز بين الجائز والفاسد; لأن ذلك يؤدي إلى الحرج فلم يعتبر فيما شرع ضرورة.
ـــــــ
الضمان إبطال حق الغاصب وصفا فكان ترجيح حق صاحب الأصل أولى كيف وأنه مظلوم والغاصب ظالم وإلحاق الحبس بالظالم أولى.
"قلنا" حق الغاصب فيما وراء ظلمه محترم معصوم لا يجوز تفويته عليه ولهذا قدر الضمان بالمثل وإنما يجوز استيفاء الضمان منه على طريق الانتصاف مع قيام حرمة ماله فلا يترجح حق المغصوب منه على الغاصب.
وأما قوله حق الغاصب يفوت وصفا وحق المالك يفوت أصلا فليس كذلك; لأن حق المالك لا يفوت بل يتأخر إلى دار الجزاء لتعذر الاستيفاء نحو حق الشتم والأذى, فأما حق الغاصب في الوصف فيبطل أصلا; لأنه يستحق عليه بقضاء القاضي وما يستحق بالقضاء الذي هو حجة الشرع لا توصل إليه في دار الآخرة فكان تأخر الأصل أهون من إبطال الوصف. يوضح ما ذكرنا أنا لو أوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ظلما مضافا إلى الشرع; لأن الموجب هو الشرع وذلك لا يجوز وإذا لم يوجب الضمان لتعذر إيجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا وهي أنا لا نقدر على القضاء بالمثل وذلك مستقيم. وقوله: "ألا ترى" توضيح لقوله: "وسقط اعتبار هذا التفاوت" ودليل عليه, وتقديره وسقط اعتبار هذا التفاوت; لأنه لو لم يسقط وبقي معتبرا لأدى إلى إبطال العقود أصلا.
قوله: "يبطلها أصلا" أي العقود; لأنها شرعت للاسترباح ولا يحصل ذلك إلا بالتفاوت بين البدل والمبدل فإن البائع يرى خيرية في الثمن نظرا إلى جانبه والمشتري كذلك في جانب المبيع فيتبايعان طلبا للفضل الذي رأى كل واحد منهما في مال صاحبه ولا كذلك في باب العدوان لما ذكر. وقد أوردت هذه المسألة في بعض النسخ بطريق آخر فلا بد من شرحه أيضا فنقول: قوله: "وليس إلى التقوم حاجة; إذ الاستبدال صحيح من غير التقوم" معناه أنها قد تقومت في باب العقود لا بطريق الضرورة إذ هي تندفع بالاستبدال من غير تقوم كما في الخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد ولما تقومت فيه من غير ضرورة عرفنا أنه هو الأصل فيها فيثبت تقومها في ضمان العدوان أيضا, ثم أجاب عنه فقال: إن القياس يأبى ثبوت تقومها لما مر من الدلائل ولكنها تقومت بالنص في العقد بخلاف القياس وإن لم يكن إلى التقوم حاجة فنقتصر على مورد النص لكونه غير معقول المعنى.(1/259)
وأما القضاء بمثل غير معقول فهو كغير المال المتقوم إذا ضمن بالمال المتقوم كان مثلا غير معقول مثل النفس تضمن بالمال; لأن المال ليس بمثل للنفس لا صورة ولا معنى; لأن الآدمي مالك والمال مملوك فلا يتشابهان بوجه ولهذا قلنا إن المال غير مشروع مثلا عند احتمال القصاص; لأن القصاص مثل
ـــــــ
قوله: "وإنما قلنا ذلك" أي بأن التقوم ثبت نصا بخلاف القياس; لأن الله تعالى شرع ابتغاء الإبضاع بالمال المتقوم بقوله عز ذكره: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24], والأموال إنما تضاف إلينا بواسطة الإحراز الذي به يثبت التقوم للأموال فثبت أن الابتغاء بالمال المتقوم., ثم هذا النص يقتضي أن لا يكون الابتغاء إلا بالمال; لأن معناه والله أعلم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بشرط أن تبتغوا بأموالكم والمشروط لا وجود له بدون الشرط, والشرع جوز الابتغاء بالمنافع فإنه إذا تزوج امرأة على رعي غنمها سنة جاز قال تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27], فعرفنا ضرورة أن المنافع في العقد أموال متقومة حيث صح الابتغاء بها, وبطلت المقايسة; لأنه قياس مع الفارق على ما بيناه, ولا يثبت شيء من ذلك بالعدوان يعني لا يثبت به أصل المال ولا فضله فإنه إذا أتلف جلد ميتة لا يجب عليه شيء ولو أتلف ثوب إنسان لم يجب عليه أكثر من قيمته فعلم أنه لا أثر للعدوان في إيجاب أصل ولا فضل والله أعلم.
قوله: "لأن المال ليس بمثل للنفس صورة" وهذا ظاهر إذ لا مماثلة بين الآدمي والإبل أو الدراهم صورة, ولا معنى; لأن الآدمي مالك مبتذل لما سواه والمال مملوك مبتذل له ولا تساوي بين المالك والمملوك بل هما على التضاد في الدرجة هذا في الدرجة العليا وذلك في الدرجة السفلى, ولأن معنى المال هو ما خلق المال له من إقامة المصالح به ومعنى الآدمي هو ما خلق له من عبادة ربه والخلافة في أرضه لإقامة حقوقه وتحمل أمانته ولا مشابهة بين المعنيين, ولأن المال جعل مثل لمال آخر يخالفه صورة بتساويهما في قدر المالية لا غير وهذا المتلف ليس بمال فكان طريق المماثلة بينهما منسدا, ولأن المثل معنى عبارة عن قيمة الشيء وهي عبارة عن قدر ماليته بالدراهم أو الدنانير وإذا لم يكن الشيء مالا لم يكن له قيمة كذا في الأسرار.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولكون المماثلة غير معقولة بين المال والنفس قلنا المال غير مشروع بطريق المثل عند احتمال القود, وإنما قيد بقوله مثلا; لأن المال بطريق الصلح مشروع مع احتمال القود بالاتفاق. وبيان هذا أن موجب العمد القود على التعيين عندنا لا يعدل عنه إلى المال إلا صلحا, وهو أحد قولي الشافعي وفي قوله الآخر موجبه القود أو(1/260)
الأول صورة ومعنى وهو إلى الإحياء الذي هو المقصود أقرب فلم يجز أن
ـــــــ
الدية والخيار إلى الولي في التعيين لقوله عليه السلام: "من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" 1, فهذا تنصيص على أن كل واحد منهما موجب القتل وإن الولي مخير بينهما, ولأن وجوب المال هو الأصل في القتل شرع لجبر حق المقتول فيما فات عليه بدليل حالة الخطأ فإن الفوات عليه في الوجهين يقع على نمط واحد, ألا ترى أنه ينتفع به يقضي به ديونه وتنفذ وصاياه أما القصاص فإنما ينتفع به الوارث إذ التشفي يحصل له ولهذا كان المقتول شهيدا في العمد دون الخطأ; لأن نفع القصاص لا يعود إليه بخلاف نفع الخطأ إلا أن الشرع أوجب القصاص ضمانا زائدا لمعنى الانتقام وتشفي الصدر نظرا للولي وإبقاء للحياة فشرعه لا ينفي الضمان الأصلي لكنه تعذر الجمع بينهما; لأن كل واحد منهما يجب حقا للعبد حتى يعمل فيه إسقاطه ويورث عنه ولا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد بمقابلة محل واحد فأثبتنا الجمع بينهما على سبيل التخيير, ولنا أنه أتلف مضمونا فيتقيد ضمانه بالمثل ما أمكن كإتلاف المال وتفويت حقوق الله تعالى من الصلاة والصوم, والمال ليس بمثل للمتلف لما ذكرنا والقصاص مثل له صورة; لأنه قتل وإفاتة حياة كالأول, ومعنى لأن المقصود بالقتل ليس إلا الانتقام والثاني في معنى الانتقام كالأول ولهذا سمي قصاصا وفيه مقابلة النفس بالنفس كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45], فمع القدرة على المثل الكامل لا يجوز المصير إلى غيره; لأنه سابق على أقسام القضاء ألا ترى أن الصوم لا يجوز قضاؤه بالفدية مع القدرة على المثل الكامل وهو الصوم لما ذكرنا.
"فإن قيل" كما أن المال ليس بمثل للقصاص أو النفس فكذا القتل ليس بمثل للقطع مع القتل فيما تقدم فينبغي أن لا يجوز الاقتصار على القتل مع القدرة على القطع والقتل.
"قلنا" المال ليس بمثل للنفس صورة ولا معنى فأما القتل فمثل للقطع صورة ومعنى ومثل للقطع معنى لا صورة فلهذا النوع من المماثلة كان الواجب في الابتداء أحدهما إما الجمع أو الاقتصار فلا يكون الاقتصار انتقالا عن الواجب الأصلي مع القدرة على استيفائه إلى خلفه بخلاف الدية في القتل العمد; لأنها لو وجبت كانت خلفا عن القصاص; لأنه الواجب الأصلي دون الدية التي لا مماثلة بينها وبين الفائت بوجه فيكون
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الديات باب رقم 2434 ومسلم في الحج حديث رقم 1355 والترمذي في الديات حديث رقم 1405.(1/261)
يزاحمه ما ليس بمثل وإنما شرع عند عدم المثل صيانة للدم عن الهدر ومنة على القاتل بأن سلمت له نفسه وللقتيل بأن لم يهدر حقه, ولهذا قلنا نحن خلافا
ـــــــ
خيار الدية انتقالا عن الأصل إلى الخلف مع القدرة عليه, ولأن الاقتصار بمنزلة استيفاء بعض الحق وإسقاط الباقي ولهذا جاز الاقتصار بالإجماع.
قوله: "وهو" أي القصاص إلى الأحياء الذي هو المقصود من شرعية الضمان أقرب. بيانه أن الأول أفات حياة فيكون المثل القائم مقامه ما ينجبر به الفائت وإنما يحصل ذلك بإتلاف حياة تحصل به حياة للولي القائم مقام القتيل وذلك في القصاص دون إيجاب المال; لأن إفاتة الحياة مضمونة بما تقوم مقامها وإنما تقوم مقام الحياة حياة أخرى لا مال إذ كل الدنيا لا يسوى بحياة ساعة وقد نص الله تعالى على أن في القصاص حياة لنا وذلك في شرعيته واستيفائه, أما الأول فلأن من قصد قتل عدوه وتفكر أنه يقتص منه فإنه ينزجر عن ذلك فيكن القصاص حياة لهما جميعا فعلى هذا يكون الخطاب لكافة الناس, وأما الثاني فلأن من قتل إنسانا يصير حربا على أولياء القتل خوفا على نفسه وهم يخافونه; لأنه يستعين عليهم بغيره على ما عليه العادات المتغلبة فمتى قتلوه قصاصا اندفع عنهم الشر والهلاك وبقيت حياتهم وعلى هذا يكون الخطاب للورثة والله تعالى سمى دفع الهلاك من الحي إحياء قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]. فيكون في القصاص حياة أولاده وفي حياتهم حياة; لأن بقاء الرجل ببقاء ولده من طريق المعنى ولهذا يسعى لولده كما سعى لنفسه فثبت أن القصاص إلى الإحياء أقرب.
وإنما قال أقرب; لأن للمال نوع قرب إلى المقصود إذ بوجوبه قد يمتنع القاتل عن القتل وباستيفائه قد يمتنع الولي عن انتقام لكنه دون القصاص في هذا المعنى فلهذا كان القصاص أقرب إلى المقصود.
قوله: "وإنما شرع المال" جواب عما قال الشافعي أن المال مثل للنفس بدليل حالة الخطأ فقال إنما شرع المال في تلك الحالة لأجل صيانة الدم عن الهدر فإنه عظيم الخطر وتعذر إيجاب القصاص لا بطريق أنه مثل, وتحقيقه أن القصاص نهاية في العقوبات المعجلة في الدنيا فلا يجوز مؤاخذة الخاطئ به لكونه معذورا فيه ونفس المقتول محترمة لا تسقط حرمتها بعذر الخاطئ فوجب صيانتها عن الهدر فأوجب الشرع المال في حالة الخطأ لصيانة النفس المحترمة عن الإهدار لا بطريق أنه مثل كما أوجب الفدية على الشيخ الفاني عند وقوع اليأس له عن الصوم وذلك لا يدل على أن الإطعام مثل الصوم, فيكون في إيجاب المال منة على القاتل بأن سلمت له نفسه به مع أنه قتل نفسا معصومة ومنة على المقتول بأن لم يهدر حقه بإيجاب شيء يقضي به حوائجه أو حوائج ورثته مع أن القاتل(1/262)
للشافعي إن القصاص لا يضمن لوليه بالشهادة الباطلة على العفو أو بقتل القاتل; لأن القصاص ليس بمتقوم فلم يكن له مثل صورة ومعنى وإنما شرعت
ـــــــ
معذور. وإذا ثبت هذا في الخطأ ففي كل موضع من مواضع العمد يتحقق هذا المعنى وهو تعذر القصاص مع بقاء المحل لمعنى في المحل يجب المال أيضا; لأن المخصوص من القياس بالنص يلحقه ما يكون في معناه من كل وجه فالأب إذا قتل ابنه عمدا يجب المال لتعذر إيجاب القصاص بحرمة الأبوة وإذا عفا أحد الشريكين يجب للآخر المال; لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لمعنى في المقاتل وهو أنه أحيا بعض نفسه بعفو الشريك فكان ذلك في معنى الخطأ فوجب المال للآخر بخلاف ما إذا مات من عليه القصاص; لأنه تعذر الاستيفاء لفوات المحل فلا يكون في معنى الخاطئ, وفي لفظ الشيخ إشارة إلى ما ذكرنا حيث قال وإنما شرع عند عدم المثل ولم يقل في حالة الخطأ إذ وجوب المال ليس مختصا بحالة الخطأ بل هو ثابت في غيره من الصور كما ذكرنا فلهذا قال عند عدم المثل ليكون شاملا للصور أجمع.
قوله: "ولهذا" أي ولما ذكرنا أن ما ليس بمال لا يكون المال مثلا له فلا يجوز أن يضمن به قلنا إذا شهد الشهود على رجل بالعفو عن القصاص ثم رجعوا بعد القضاء به لم يضمنوا لولي القصاص شيئا وقال الشافعي رحمه الله يضمنون الدية له.
وكذا إذا قتل من عليه القصاص إنسان آخر لا يضمن لولي القصاص شيئا وما ذكر ههنا يدل على أن عنده يضمن لولي القصاص الدية كالشاهد, ورأيت في التهذيب ولو وجب القصاص على رجل فقتله أجنبي يجب عليه القصاص لورثته وحق من له القصاص في تركته ولو عفا وارثه عن القصاص على الدية للوارث كالقصاص وحق من له القصاص في تركته فهذا يدل على أن الأجنبي لا يضمن عنده شيئا لولي القصاص كما هو مذهبنا وكذا ذكره في الأسرار أيضا, وسنذكر الفرق له على تقدير الوفاق.
وقوله: "أو بقتل القاتل" إضافة المصدر إلى المفعول, له أن القصاص ملك متقوم للولي, ألا ترى أن القاتل إذا صالح في مرضه على الدية يعتبر ذلك جميع المال وقد أتلفوا عليه ذلك بشهادتهم فيضمنون عند الرجوع وإن لم يكن مالا كما تضمن النفس بالإتلاف حالة الخطأ وكذا القاتل أتلف عليه حقه المتقوم فيضمن., وإن لم يضمن عنده كما هو المذكور في التهذيب والأسرار فالفرق له أن القاتل إنما أتلفه ضمنا لإتلاف المحل لا قصدا إليه فلا يضمن بخلاف الشاهد فإنه أتلفه قصدا إليه وهذا; لأن ملك القصاص ضروري فيظهر في حق الولي من حيث تطرقه إلى الاستيفاء دون المملوك عليه حتى لم يصر المحل مملوكا له فلا يظهر في حق القتل إليه أشير في الأسرار., ولنا أن(1/263)
الدية صيانة للدم عن الهدر والعفو عن القصاص مندوب إليه فكان جائزا أن يهدر بل حسنا ولهذا قلنا إن ملك النكاح لا يضمن بالشهادة بالطلاق بعد الدخول وبقتل المنكوحة وبردتها; لأنه ليس بمال متقوم وإنما يقوم بالمال
ـــــــ
المتلف ليس بمال متقوم فلا يضمن المال; لأن المال ليس بمثل لا صورة ولا معنى; لأن ملك القصاص ملك من عليه القصاص, وملك حياته في حق الاستيفاء وشرعيته لمعنى الإحياء فلا يكون المال مثلا إلا أن القاتل إنما يلتزم في الصلح الدية بمقابلة ما هو من أصول حوائجه فهو محتاج إلى هذا الصلح لإبقاء نفسه وحاجته مقدمة على حق الوارث فلهذا يعتبر من جميع المال.
قوله: "وإنما شرعت الدية" جواب عن الخطأ الذي هو المقيس عليه للخصم فقال لا يجوز القياس على الخطأ; لأن وجوب المال ورد على خلاف القياس لصيانة الدم عن الهدر وإظهار خطر المحل وما في الشهادة إراقة دم ليصان بالضمان بل فيها إبطال ملك القصاص بإثبات العفو والعفو مندوب إليه فيكون إهداره جائزا بهذا الطريق وهو العفو بل حسنا لقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43]. ولأن القصاص حياة حكما وفي العفو حياة حقيقة فلا يمكن إيجاب الضمان لمعنى الصيانة وصار كأن الشهود أثنوا عليه بفعل مندوب والمراد من الإهدار ههنا عدم إيجاب شيء من المال بمقابلته.
قوله: "ولهذا أي ولما بينا أن ما ليس بمال" متقوم لا يضمن بالمال قلنا إذا شهد شاهدان بالتطليقات الثلاث بعد الدخول ثم رجعا بعد القضاء بالفرقة لم يضمنا شيئا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يضمنان للزوج مهر مثلها وكذلك إن قتل رجل منكوحة رجل لم يضمن القاتل شيئا من المهر عندنا وعند الشافعي يضمن مهر المثل للزوج., وكذلك لو ارتدت المرأة بعد الدخول لم تغرم للزوج شيئا عندنا وعنده له مهر المثل عليها كذا في المبسوط, وذكر في إشارات الأسرار للشيخ أبي الفضل الكرماني رحمه الله في مسألة رجوع شهود الطلاق بعد الدخول في جانب الشافعي ولا يلزم المرأة إذا ارتدت بعد الدخول لا تضمن للزوج شيئا وقد فوتت عليه الملك بالردة كما فوت الشاهد بالشهادة; لأن الردة تؤثر في تغيير الاعتقاد لا في النكاح قصدا والشاهد أتلف بالشهادة قصدا, فهذا يخالف ما ذكر في المبسوط عن الشافعي في مسألة الردة فيحمل على أن له في مسألة الردة قولين, وذكر في التهذيب إن وجدت الردة بعد الدخول فقد استقر مهرها بالدخول فلا يسقط بالردة وإن وجدت قبل الدخول نظر فإن ارتدت(1/264)
بضع المرأة تعظيما لخطره وإنما الخطر للمملوك فأما الملك الوارد عليه فلا, حتى صح إبطاله بغير شهود ولا ولي ولهذا لم يجعل له حكم التقوم عند الزوال; لأنه ليس يتعرض له بالاستيلاء بل إطلاق له ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول
ـــــــ
المرأة سقط مهرها; لأن الفسخ من قبلها وإن ارتد الزوج فعليه نصف المهر. وهذا يؤيد ما ذكره أبو الفضل تمسك الشافعي رحمه الله بأن ملك النكاح متقوم على الزوج ثبوتا فيكون متقوما عليه زوالا; لأن الزائل عين الثابت فمن ضرورة تقومه في إحدى الحالتين تقومه في الحالة الأخرى كملك اليمين بل أولى; لأن ملك اليمين يجوز اكتسابه بلا بدل بخلاف ملك النكاح فإنه لا ينفك عن مهر ويجب بالفاسد قيمته كما في الأعيان, ألا ترى أن الزوج لو خالعها على مال يجوز وما لم يكن متقوما لا يصير متقوما بالعقد كالخمر والميتة وإنما المعاوضة لإقامة المسمى من المال مقام أصل القيمة بتراضيهما, ولنا أن ملك النكاح ليس بمال متقوم فلا يضمن بالمال عند الإتلاف; لأن ضمان الإتلاف مقدر بالمثل ولا مماثلة بينهما صورة ولا معنى; لأن معنى الشيء ما شرع أو خلق ذلك الشيء له وملك النكاح شرع للسكن والازدواج وإقامة حكم الله تعالى في النسل وإبقاء العالم والمال خلق بذلة لإقامة المصالح فأنى يتماثلان, ولأن ملك النكاح في حكم جزء من الآدمي بمعنى تفريع الآدمي منه فكان معتبرا به معنى وأنه خلق مالك المال والمال خلق بذلة مملوكا له فكيف يتشابهان.
قوله: "وإنما يقوم بالمال بضع المرأة" جواب عما استدل به الشافعي أنه متقوم ثبوتا فيتقوم زوالا فقال إنما المتقوم عند الثبوت بضع المرأة لا الملك الوارد عليه ولا يلزم من تقومه تقوم الملك; لأن ذلك لإظهار خطر ذلك المحل ليكون مصونا عن الابتذال ولا يمتلك مجانا فإن ما يتملكه المرء مجانا لا يعظم خطره عنده وذلك محل له خطر مثل خطر النفوس; لأن النسل يحصل منه فأما الملك الوارد عليه فليس بذي خطر ولهذا صح إزالته بالطلاق من غير شهود ولا ولي ولا عوض, ولا يقال عدم توقفه على هذه المقدمات حالة الإبطال لا يدل على كونه غير خطير في تلك الحالة فإنه لو أتلف ماله المتقوم بلا شهادة بأن يأكله أو يلقيه في البحر صح ومع هذا لو أتلفه عليه إنسان ضمن; لأنا نقول إنما ضمن ثمة باعتبار مملوكه الذي هو متقوم في ذاته حقيقة لا باعتبار ملكه وقد بينا أنه ليس بمتقوم حقيقة فلا يضمن.
قوله: "ولهذا" أي ولأن تقوم البضع لإظهار خطره, لم يجعل له أي للبضع حكم التقوم, عند الزوال أي عند خروجه عن ملك الزوج أو عند زوال ملك الزوج عنه; لأن معنى(1/265)
فإنها عند الرجوع يوجب ضمان نصف المهر; لأن ذلك لم يجب قيمة للبضع ألا ترى أنه لم يجب مهر المثل تاما كما قال الشافعي لكن المسمى الواجب
ـــــــ
الخطر للمحل إنما يظهر عند التملك والاستيلاء عليه بإثبات الملك فأما عند زوال الاستيلاء عنه وإطلاقه فلا ولهذا لو زوج الأب الصغير بماله يصح ولو خالع ابنته الصغيرة بمالها من زوجها لم يصح.
قوله: "ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول" جواب عما يقال لو لم يكن البضع متقوما عند الزوال لما ضمن الشهود شيئا بالشهادة على الطلاق قبل الدخول ثم الرجوع بعد القضاء بشهادتهم وقد ضمنوا نصف المهر عندكم فثبت أنه متقوم عند الزوال أيضا فقال الشيخ لم يوجب ذلك قيمة لما أتلفوا عليه وهو البضع فقيمته مهر المثل تاما ولا يغرمونه بل يغرمون نصف المسمى وإن كان ذلك أقل من مهر المثل بكثير أو أكثر منه بكثير فلو ضمنوا بدل المتلف لما اعتبر نصف الواجب بالعقد كما في مال اشتراه الإنسان لا يعتبر الثمن عند الإتلاف, وهذا القدر يكفي جوابا عن النقض., ثم بين وجه لزوم نصف المسمى فقال لكن المسمى إلى آخره, وبيانه أن عود المعقود عليه إليها بوقوع الفرقة قبل الدخول مسقط جميع الصداق إذا لم يكن الفرقة مضافة إلى الزوج ولم تكن بانتهاء النكاح فهم بإضافة الفرقة إليه منعوا العلة المسقطة من أن تعمل عملها في النصف فكأنهم ألزموا الزوج ذلك النصف بشهادتهم أو كأنهم فوتوا يده في ذلك النصف بعد فوات تسليم البضع فكانوا بمنزلة الغاصبين في حقه فيضمنون ذلك عند الرجوع, ولا يلزم عليه أن الابن إذا أكره امرأة أبيه حتى زنى بها قبل الدخول يغرم الأب نصف المهر ويرجع به على الابن ولم يوجد منه ما تصير الفرقة به مضافة إلى الأب; لأنا نقول هو بإكراهه إياها منع صيرورة الفرقة مضافة إليها وذا موجب نصف الصداق على الأب فكأنه ألزمه ذلك أو قصر يده عنه فلذلك يضمن, وهذا الجواب هو مختار المتأخرين, وعبارة المتقدمين فيه أن المهر قبل الدخول على شرف السقوط فإن المرأة إذا ارتدت والعياذ بالله أو قبلت ابن الزوج يسقط عنه كل المهر, فالشهود بشهادتهم أكدوا ما كان على شرف السقوط فكأنهم ألزموه ذلك فلهذا ضمنوا., ولكنهم قالوا لا نسلم التأكيد بل المهر كله وجب متأكدا بنفس العقد; لأنه لم يبق بعده إلا الوطء الذي جرى مجرى القبض وهذا العقد لا يتعلق تمامه بالقبض على ما عرف., ولئن سلمنا التأكيد فلا نسلم أن تأكيد الواجب سبب للضمان ألا ترى أن الشاهدين لو شهدا على الواهب يأخذ العوض حتى أبطل القاضي عليه حق الرجوع ثم رجعا وقد هلكت الهبة لم يضمنا للواهب شيئا وقد أكدا بثبوت العوض حكم زوال ملكه ولم يجر مجرى الإزالة ابتداء كذا في الأسرار.(1/266)
بالعقد لا يستحق تسليمه عند سقوط تسليم البضع فلما أوجبوا عليه تسليم النصف مع فوات تسليم البضع كان قصرا ليده عن ذلك المال فأشبه الغصب. فأما القضاء الذي في حكم الأداء فمثل رجل تزوج امرأة على عبد بغير عينه أنه
ـــــــ
ولما كان جواب المتأخرين أقرب إلى التحقيق اختار الشيخ قوله: "كما قال الشافعي" متصلا بقوله تاما كاملا لا بقوله قيمة للبضع على ما ظنه البعض فإن عند الشافعي إذا كان ما ذكرنا بعد الدخول يجب على الشهود تمام مهر المثل قولا واحدا وإن كان قبل الدخول فكذلك في رواية المزني عنه, وفي رواية الربيع1 عنه يجب عليهم نصف مهر المثل; لأن الزوج لم يغرم لها إلا نصف المسمى وقد عاد إليه نصفه, ألا ترى أنهما لو شهدا بالإقالة ثم رجعا لم يغرما شيئا; لأنهما إن أخرجا السلعة عن ملك المشتري فقد رد إليه الثمن, والأصح هو الأول; لأنهم أتلفوا جميع البضع فيجب عليهم جميع بدله ولا اعتبار بما غرم ألا ترى أنه يرجع بمهر المثل وإن غرم المسمى سواء كان مهر المثل أقل من المسمى أو أكثر وكذا لو برأته عن الصداق يرجع بمهر المثل على الشهود وإن لم يغرم شيئا كذا في التهذيب, فالشيخ بقوله تاما كاملا كما قال الشافعي أشار إلى هذا المذهب.
قوله: "فمثل رجل تزوج امرأة على عبد" إذا تزوج امرأة على عبد مطلق وجب الوسط عندنا إن أتاها بالعين أجبرت على القبول وإن أتاها بالقيمة أجبرت على القبول, وعند الشافعي رحمه الله لا تصح التسمية فيجب مهر المثل; لأن النكاح عقد معاوضة فيكون قياس البيع والعبد المطلق لا يستحق بعقد المعاوضة فكذا بالنكاح وهذا; لأن المقصود بالمسمى مهرا هو المالية وبمجرد ذكر العبد لا تصير المالية معلومة فلا يصح التزامه بعقد المعاوضة لبقاء الجهالة فيه ألا ترى أنه لو سمى ثوبا أو دابة أو دارا لم تصح التسمية فكذا إذا سمى عبدا., ولنا أن المهر إنما يستحق عوضا عما ليس بمال والحيوان يثبت دينا في الذمة مطلقا في مبادلة ما ليس بمال بمال, ألا ترى أن الشرع أوجب في الدية مائة من الإبل وأوجب في الجنين غرة عبدا أو أمة, فإذا جاز أن يثبت الحيوان مطلقا دينا في الذمة عوضا عما ليس بمال فكذلك يثبت شرطا وهذا لأن المهر باعتبار المالية مال وجب ابتداء والجهالة المستدركة في التزام المال ابتداء لا يمنع صحته كما في الإقرار فإن من أقر لإنسان بعبد صح إقراره ولكن لما كان عين المهر عوضا باعتبار ذاته
ـــــــ
1 هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي صاحب الإمام الشافعي 174 – 270 هـ شذرات الذهب 2/150.(1/267)
إذا أدى القيمة أجبرت على القبول وقيمة الشيء قضاء له لا محالة إنما يصار إليها عند العجز عن تسليم الأصل وهذا الأصل لما كان مجهولا من وجه ومعلوما من وجه صح تسليمه من وجه واحتمل العجز فإن أدى صح وإن اختار جانب العجز وجبت قيمته.
ولما كان الأصل لا يتحقق أداؤه إلا بتعينه ولا تعيين إلا بالتقويم صار التقويم أصلا من هذا الوجه فصارت القيمة مزاحمة للمسمى بخلاف العبد المعين; لأنه معلوم بدون التقويم فصارت قيمته قضاء محضا فلم يعتبر عند
ـــــــ
لزم مراعاة الجانبين فأوجب الشرع الوسط نظرا لهما كما في الزكوات أوجب الوسط نظرا للفقراء وأرباب الأموال, وهذا بخلاف تسميته الثوب أو الدابة; لأن الجهالة فيها جهالة الجنس; لأنه يشتمل على أجناس مختلفة ومعنى كل جنس يعدم في الجنس الآخر فلا يتحمل فأما العبد ههنا فمعلوم الجنس ولكنه مجهول الوصف وهي جهالة يسيرة فتتحمل فيما بني على المسامحة وهو النكاح دون ما بني على المضايقة وهو البيع, وإذا ثبت أن الواجب هو الوسط فإذا أتى به أجبرت على القبول; لأنه أدى عين الواجب, ولو أتى بالقيمة أجبرت على القبول أيضا وإن كان تسليم قيمة الشيء قضاء له لا محالة إذ هو تسليم مثل الواجب ولهذا لا يجب القيمة إلا عند العجز عن تسليم الأصل ولكن هذا الأصل وهو المسمى لما كان مجهولا باعتبار الوصف ومعلوما باعتبار الجنس صح تسليمه باعتبار كونه معلوما كما لو كان عبدا له بعينه, واحتمل العجز باعتبار جهالة الوصف إذ لا يمكنه تسليم المجهول فيجب القيمة بهذا الاعتبار كما إذا سمى عبد نفسه فأبق ثم لما كان الأصل وهو العبد المسمى لا يتحقق أداؤه لجهالة وصفه, إلا بتعيينه أي بتعين الأصل وهو المسمى وهو إضافة المصدر إلى المفعول. ولا تعيين إلا بالتقويم, صار التقويم أي القيمة أصلا من هذا الوجه إذ هي بهذا الاعتبار قبل العبد الذي يقضي به فكان تسليمها من هذا الوجه أداء لا قضاء; لأن القضاء خلف عن الأداء فيثبت بعد ثبوت الأصل لا قبله, فصارت القيمة مزاحمة للمسمى أي مساوية له في الوجوب; لأنها صارت أصلا في الإيفاء اعتبارا والعبد أصل تسمية فكأنه وجب بالعقد أحد الشيئين فلهذا يخير الزوج, وإنما يخير هو دون المرأة; لأن اعتبار القيمة إنما وجب لإمكان التسليم وهو عليه دون المرأة بخلاف العبد المعين والمكيل والموزون الموصوف; لأن المسمى معلوم جنسا ووصفا فكانت قيمته قضاء خالصا فلا يعتبر عند القدرة على الأصل.(1/268)
القدرة والله أعلم. ومن قضية الشرع في هذا الباب أن حكم الأمر موصوف بالحسن عرف ذلك بكونه مأمورا به لا بالعقل نفسه إذ العقل غير موجب بحال وهذا الباب لتقسيمه والله الموفق.
ـــــــ
"فإن قيل" فعلى ما ذكرتم يصير كأنه تزوجها على عبد أو قيمته وذلك يوجب فساد التسمية فيجب مهر المثل إذا كما قال الشافعي رحمه الله ألا ترى أنه لو عين العبد فقال تزوجتك على هذا العبد أو قيمته لم تصح التسمية فعند جهالة العبد أولى.
"قلنا" إنما يفسد التسمية في المسألة المذكورة; لأنه إذا قال علي عبد وقيمته صارت القيمة واجبة بالتسمية ابتداء وهي مجهولة; لأنها دراهم مختلفة العدد; لأنه لا بد من اختلاف يقع بين المقومين فصار كأنه قال علي عبد أو دراهم فيفسد للجهالة, فأما إذا قال علي عبد فقد صحت التسمية; لأن جهالته لا تمنع الصحة ولم تجب القيمة بهذا العقد; لأنه ما سماها فيه لكنها اعتبرت بناء على وجوب تسليم المسمى لما ذكرنا أنه لا يتمكن منه إلا بمعرفتها, ولما كانت مبنية على تسمية مسمى معلوم جاز أن يثبت كما إذا تزوجها على عبد بعينه فاستحق أو هلك فإن القيمة تجب وينتصف بالطلاق قبل الدخول; لأنها وجبت بناء على مسمى معلوم لا ابتداء كذا في الأسرار.
قوله: "ومن قضية الشرع" أي ومن حكم الشريعة, في هذا الباب أي باب الأمر, أن حكم الأمر أي المأمور به يوصف بالحسن, والمعنى أن ثبوت الحسن للمأمور به من قضايا الشرع لا من قضايا اللغة; لأن هذه الصيغة تتحقق في القبيح كالكفر والسفه والعبث كما يتحقق في الحسن, ألا ترى أن السلطان الجائر إذا أمر إنسانا بالزنا والسرقة والقتل بغير حق كان أمرا حقيقة حتى إذا خالفه المأمور ولم يأت بما أمر به يقال خالف أمر السلطان, ثم اختلف أن الحسن من موجبات الأمر أم من مدلولاته.
فعندنا هو من مدلولات الأمر وعند الأشعرية وأصحاب الحديث هو من موجباته, وهو بناء على أن الحسن والقبح في الأفعال الخارجة عن الاضطرار هل يعرف بالعقل أم لا فعندهم لا حظ له في ذلك وإنما يعرف بالأمر والنهي فيكون الحسن ثابتا بنفس الأمر لا أن الأمر دليل ومعروف على حسن سبق ثبوته بالعقل, وعندنا لما كان للعقل حظ في معرفة حسن بعض المشروعات كالإيمان وأصل العبادات والعدل والإحسان كان الأمر دليلا ومعروفا لما ثبت حسنه في العقل وموجبا لما لم يعرف به كذا في الميزان.
وذكر في القواطع ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أن العقل بذاته ليس بدليل على تحسين شيء ولا تقبيحه ولا يعرف حسن الشيء وقبحه حتى يرد السمع بذلك وإنما(1/269)
............................................................................................
العقل آلة تدرك به الأشياء فيدرك به ما حسن وما قبح بعد أن ثبت ذلك بالسمع., وذهب إلى هذا كثير من المتكلمين وذهب إليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله, قال وذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن الحسن والقبح ضربان, ضرب علم بالعقل كحسن العدل والصدق النافع وشكر النعمة وقبح الظلم والكذب الضار وكفران النعمة, وضرب عرف بالسمع كحسن مقادير العبادات وهيئاتها وقبح الزنا وشرب الخمر, قالوا وسبيل السمع إذا ورد بموجب العقل أن يكون وروده مؤكدا لما في العقل, وإليه ذهب من أصحابنا أبو بكر القفال الشاشي1 وأبو بكر الصيرفي2 وأبو بكر الفارسي3 والقاضي أبو حامد4 والحليمي5 وغيرهم وإليه ذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة خصوصا العراقيون منهم وهو مذهب المعتزلة بأسرهم.
وإذا عرفت هذا فنقول الظاهر أن قوله عرف ذلك أي كونه موصوفا بالحسن, بكونه مأمورا لا بالعقل نفسه إشارة إلى أنه من موجبات الأمر كما ذهب إليه جماعة من أصحابنا وعامة أصحاب الحديث, ويدل عليه ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله ولا نقول أنه أي حسن المأمور به ثابت عقلا كما ذهب إليه بعض مشايخنا; لأن العقل بنفسه غير موجب عندنا, وأشار بقوله نفسه إلى أن العقل ليس بمهدر أصلا بل هو آلة يعرف به الحسن بعد ما ثبت بالأمر كالسراج للأبصار ولكنه غير موجب بحال سواء كان مما زعم الخصم أنه مدرك بالعقل قبل الشرع أو لم يكن.
ومسألة الحسن والقبح مسألة كلامية عظيمة فالأولى أن يطلب تحقيقها من علم الكلام وأن يقتصر ههنا على ما ذكرنا وإنما كان الحسن من موجبات الأمر; لأن الأمر من الله تعالى طلب تحصيل المأمور بأبلغ الجهات وإنما يصح هذا الطلب إذا كان الفعل
ـــــــ
1 هو أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل المعروف بالقفال الشاشي الكبير ولد سنة 291 هـ وتوفي سنة 365 هـ شذرات الذهب 3/51.
2 هو محمد بن عبد الله الصيرفي أبو بكر الشافعي الفقيه الأصولي المتكلم توفي سنة 330 هـ وفيات الأعيان 1/580.
3 هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن مسهل الفارسي الفقيه الأصولي الشافعي توفي سنة 350 هـ طبقات السبكي 1/286 – 287.
4 هو القاضي أبو حامد بن بشر بن عامر العامري المروروذي البداية والنهاية 11/209.
5 هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد حليم الحليمي ولد سنة 338 هـ وتوفي سنة 406 هـ شذرات الذهب 3/167.(1/270)
.............................................................................................
حسنا; لأنه تعالى حكيم لا يليق بحكمته طلب ما هو قبيح قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]. فدل الأمر على كونه حسنا والعقل إليه هاد لا أنه موجب بنفسه; إذ لو كان حسن المأمور به بالعقل لما جاز ورود النسخ عليه; لأن الحسن العقلي حقيقي لا يجوز عليه التبديل فثبت أن حسن المشروعات بالأمر, والعقل يدرك الحسن في بعضها في ذاته وفي بعضها في غيره كذا رأيت بخط شيخي قدس الله روحه.
"فإن قيل" الفعل عرض وأنه صفة والصفة لا تقوم بها الصفة فكيف يصح وصفه بالحسن والقبح والوجوب حقيقة, وأيضا الفعل قبل الوجود يوصف بكونه حسنا وقبيحا وواجبا وحراما والمعدوم كيف يقبل الصفة حقيقة.
"قلنا" هذه صفات راجعة إلى الذات كالوجود مع الموجود والحدوث مع المحدث, وكالعرض الواحد الذي يوصف بأنه موجود ومحدث ومصنوع وعرض وصفة ولون وسواد فهذه صفات راجعة إلى الذات لا معان زائدة عليها, ولأن الفعل يوصف بأنه حسن وقبيح لدخوله تحت تحسين الله تعالى وتقبيحه كما يوصف بأنه حادث ومحدث لدخوله تحت أحداث الله تعالى لا أنه محدث لحدوث قام به; لأن ذلك الحدوث محدث فيحتاج إلى حدوث آخر فيؤدي إلى القول بمعان لا نهاية لها وأنه باطل.
ولأن هذه صفات إضافية وأسماء نسبية والصفات الإضافية ليست بمعان قائمة بالذات ويكون الذات موصوفة بها على الحقيقة وإنما يقتضي وجود غير يكون علقة بين الصفة والموصوف والاسم والمسمى كما في لفظ الأب والابن والأخ والذات موصوفة بهذه الصفات حقيقة لا مجازا وإن لم يكن الأبوة والبنوة والأخوة معاني قائمة بالذات موصوفة بهذه الصفات حقيقة لا مجازا وإن لم يكن الأبوة والبنوة والأخوة معاني قائمة بالذات زائدة عليها, ثم يوصف المعدوم بهذه الصفات على الطريق الأول والثاني مجازا; لأن صفات الذات لا يتصور قبل الذات وكذا الأحداث لا يتعلق بالمعدوم إلا حالة الحدوث وعلى الطريق الثالث يوصف على سبيل الحقيقة كوصف المعدوم بأنه معلوم ومذكور ومخبر عنه كذا في الميزان.(1/271)
"باب بيان صفة الحسن للمأمور به"
المأمور به نوعان في هذا الباب: حسن لمعنى في نفسه وحسن لمعنى في غيره, فالحسن لمعنى في نفسه ثلاثة أضرب:
1 - ضرب لا يقبل سقوط هذا الوصف بحال.
2 - وضرب يقبله, وضرب منه ملحق بهذا القسم لكنه مشابه لما حسن لمعنى في غيره.
ـــــــ
"باب بيان صفة الحسن للمأمور به"
المأمور به نوعان في هذا الباب أي في وصف الحسن حسن لمعنى في نفسه أي اتصف بالحسن باعتبار حسن ثبت في ذاته وحسن لمعنى في غيره أي اتصف بالحسن باعتبار حسن ثبت في غيره., ضرب لا يقبل سقوط هذا الوصف وهو حسن بحال سواء كان مكرها أو غير مكره كالتصديق, وضرب منه يقبله أي يقبل سقوط وصف الحسن عنه كالإقرار فإن وصف الحسن سقط عنه عند الإكراه هذا ما دل عليه سياق الكلام وذكر في بعض الشروح, وهو مشكل; لأن حسن الإقرار وما يضاهيه لا يسقط في حالة الإكراه, ألا ترى أنه لو صبر عليه حتى قتل كان مأجورا فكيف يكون حسنه ساقطا في هذه الحالة وإنما سقط وجوبه ولا يلزم منه سقوط حسنه; لأن عدم الوجوب لا يستلزم عدم الحسن كالمندوب على أنا لا نسلم أن الوجوب ساقط. وأجيب عنه أنه لا يلزم من كون الصابر عليه شهيدا بقاء حسن الإقرار; لأنه لو سقط حسنه لا يلزم منه إباحة ضده وهو إجراء كلمة الكفر بل بقي ذلك حراما كما كان إلا أن الترخص ثبت رعاية لحق نفسه, فإذا صبر حتى(1/272)
والذي حسن لمعنى في غيره ثلاثة أضرب أيضا:
1 - فضرب منه ما حسن لغيره وذلك الغير قائم بنفسه مقصودا لا يتأدى بالذي قبله بحال.
2 - وضرب منه ما حسن لمعنى في غيره لكنه يتأدى بنفس المأمور به فكان شبيها بالذي حسن لمعنى في نفسه.
3 - وضرب منه حسن لحسن في شرطه بعد ما كان حسنا لمعنى في نفسه أو ملحقا به وهذا القسم سمي جامعا, أما الضرب الأول من القسم الأول فنحو الإيمان بالله تعالى وصفاته حسن لعينه غير أنه نوعان: تصديق هو ركن لا
ـــــــ
في جميع الأحوال. وضرب يقبله أي يقبل سقوط هذا الوصف كالإقرار فإنه لا يبقى مأمورا به في حالة الإكراه وهذا أحسن ولكن سياق الكلام يأباه, وما ذكر شمس الأئمة رحمه الله أدل على هذا المعنى فإنه قال: والنوع الأول قسمان حسن لعينه لا يحتمل السقوط بحال يعني به السقوط عن المكلف وحسن لعينه قد يحتمل السقوط في بعض الأحوال. وضرب منه أي من الذي حسن لمعنى في نفسه ما ألحق به حكما لكنه يشبه بما حسن لمعنى في غيره نظرا إلى حقيقته كالزكاة, لا يتأدى أي ذلك الغير الذي هو مقصود كالصلاة والجمعة مثلا بالذي قبله وهو الطهارة والسعي, فكان شبيها بالذي حسن لمعنى في نفسه من حيث إن ما هو موصوف بالحسن حقيقة يحصل بنفس المأمورية. وضرب منه ما حسن لحسن في شرطه بعدما كان حسنا لمعنى في نفسه كالصلاة, أو ملحقا بالذي حسن لمعنى في نفسه كالزكاة فإن الصلاة حسنة لعينها لكونها تعظيم الله تعالى قولا وفعلا والزكاة ملحقة بها وقد ازدادت كل واحدة حسنا باعتبار حسن شرطها وهو القدرة على الأداء, وهذا القسم يسمى جامعا لاشتماله على ما هو حسن لعينه ولغيره, وقد يجتمع الحسن بالاعتبارين في شيء واحد كالمرأة الجميلة إذا تزينت بزينة اكتسبت حسنا زائدا على حسنها بتلك الزينة, ونظيره الظهر المحلوف بأدائه فإن أداه صار حسنا احترازا عن هتك حرمة اسم الله تعالى بعد أن كان حسنا في نفسه.
قوله: "فنحو الإيمان بالله تعالى وصفاته" احترز به عمن آمن بوحدانيته تعالى وأنكر الصفات كالفلاسفة والمعتزلة وغيرهم. وقوله غير أنه نوعان ليس بمجرى على ظاهره; لأن النوع لا بد من أن يوجد فيه تمام ماهية الجنس مع زيادة قيد ولا يوجد تمام ماهية الإيمان في الإقرار ولا في التصديق على ما اختاره الشيخ فيكون معناه غير أنه ركنان أي هو مشتمل على ركنين بدليل قوله تصديق وهو ركن وإقرار هو ركن.(1/273)
يحتمل السقوط بحال حتى أنه متى تبدل ضده كان كفرا, وإقرار هو ركن ملحق به لكنه يحتمل السقوط بحال حتى أنه متى تبدل بضده بعذر الإكراه لم يعد كفرا; لأن اللسان ليس معدن التصديق لكن ترك البيان من غير عذر يدل على فوات التصديق فكان ركنا دون الأول فمن صدق بقلبه وترك البيان من غير
ـــــــ
واعلم أن مذهب المحققين من أصحابنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام في الدنيا حتى أن من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من البيان كان مؤمنا عند الله تعالى غير مؤمن في أحكام الدنيا, كما أن المنافق إذا وجد منه الإقرار دون التصديق كان مؤمنا في أحكام الدنيا لوجود شرطه وهو الإقرار كافرا عند الله تعالى لعدم التصديق., وقال كثير من أصحابنا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان إلا أن الإقرار ركن زائد يحتمل السقوط بعذر الإكراه والتصديق ركن أصلي لا يحتمل السقوط فعند هؤلاء لو صدق بقلبه ولم يقر بلسانه من غير عذر لم يكن مؤمنا عند الله تعالى وكان من أهل النار وهو مذهب المصنف وشمس الأئمة وكثير من الفقهاء وتمسكوا في ذلك بظواهر النصوص من نحو قوله عليه السلام: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله" 1 والشهادة لا تكون إلا باللسان وقوله عليه السلام: "أتدرون ما الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله" , وقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" , وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله" 2 وغير ذلك وتمسك الفريق الأول بأن الإيمان لغة وعرفا: هو التصديق فحسب وأنه عمل القلب ولا تعلق له باللسان فالإيمان بالله هو تصديق الله فيما أخبر على لسان رسوله أو تصديق رسوله فيما بلغ عن الله تعالى فمن أطلق اسم الإيمان على غير التصديق فقد صرفه عن مفهومه لغة, وبأن الشيء لا وجود له إلا بوجود ركنه والذي آمن موصوف بالإيمان على التحقيق من حين آمن إلى أن مات بل إلى الأبد فيكون مؤمنا بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة ولا وجود للإقرار حقيقة في كل لحظة, فدل أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم بقلبه الدائم بتجدد أمثاله لكن الله تعالى أوجب الإقرار ليكون شرطا لإجراء أحكام الدنيا إذ لا وقوف للعباد على ما في القلب فلا بد لهم من دليل ظاهر لتمكنهم بناء الأحكام
ـــــــ
1 حديث أخرجه البخاري في الإيمان باب رقم 53 ومسلم في الإيمان حديث رقم 17 وأبو داود في السنة حديث رقم 4677.
2 حديث أخرجه البخاري في الإيمان باب رقم 9 ومسلم في الإيمان حديث رقم 35 وأبو داود في السنة حديث رقم 4676 وابن ماجه في المقدمة حديث رقم 57 والترمذي في الإيمان حديث رقم 2614 والإمام أحمد في المسند 2/379.(1/274)
عذر لم يكن مؤمنا ومن لم يصادف وقتا يتمكن فيه من البيان وكان مختارا في التصديق كان مؤمنا إن تحقق ذلك وكالصلاة حسنت لمعنى في نفسها من التعظيم لله تعالى إلا أنها دون التصديق وهي نظير الإقرار حتى سقطت بأعذار
ـــــــ
عليه والله تعالى هو المطلع على ما في الضمائر فيجري أحكام الآخرة على التصديق بدون الإقرار حتى أن من أقر ولم يصدق فهو مؤمن عندنا وعند الله تعالى هو من أهل النار ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو كافر عندنا وعند الله تعالى هو من أهل الجنة.
ثم لما كان الإقرار ركنا عند الشيخ والشيء لا يبقى بدون ركنه لزم عليه بقاء الإيمان حالة الإكراه بدون الإقرار فأدرج في أثناء كلامه الجواب عنه, فقال: الإقرار ركن ملحق به أي بالتصديق في كونه ركنا, لكنه استدراك عن قوله هو ركن أي الإقرار مع كونه ركنا محتمل للسقوط عن المكلف في بعض الأحوال وهو حالة الإكراه; لأن اللسان ليس معدن التصديق الذي هو الأصل في الإيمان فلا يلزم من فوات الإقرار فوات التصديق, وهذا يقتضي أن لا يكون الإقرار ركنا لكن اللسان لما كان معبرا عما في القلب كان الإقرار دليلا على التصديق وجودا وعدما فجعل ركنا فيه, وقيام السيف في مسألة الإكراه على رأسه دليل ظاهر على أن الحامل له على تبديل الإقرار حاجته إلى دفع الهلاك عن نفسه لا تبديل التصديق, فلم يصلح عدمه في هذه الحالة دليلا على عدم التصديق فلم يبق ركنا فأما في غير هذه الحالة فعدمه مع التمكن منه دليل على عدم التصديق; لأن الامتناع عنه مع كونه حسنا لعينه وواجبا عليه من غير عذر وكلفه في الإتيان به لا يكون إلا لتبدل الاعتقاد فصلح أن يكون ركنا وإن كان دون التصديق, مختارا في التصديق احترازا عن التصديق حالة اليأس فإنه لا ينفع أصلا, كان مؤمنا يعني عند الله تعالى. وإنما قال إن تحقق ذلك; لأن التصديق الاختياري مع عدم التمكن من الإقرار أو ما يقوم مقامه في غاية الندرة.
قوله: "وكالصلاة" عطف من حيث المعنى على قوله وإقرار هو ركن; لأن الصلاة والإقرار كل واحد منهما يحتمل السقوط فكانا من الضرب الثاني فكان قوله وإقرار هو ركن ابتداء بيان الضرب الثاني, وكان من حق الكلام أن يقال أما الضرب الأول من القسم الأول فكالتصديق الذي هو الركن الأصلي في الإيمان; لأنه لا يحتمل السقوط عن المكلف بحال وأما الضرب الثاني فكالإقرار الذي هو ركن ملحق بالتصديق; لأنه حسن لعينه إذ هو إقرار بوحدانية الله تعالى وإقرار بالعبودية له وهو حسن وضعا لكنه يحتمل السقوط إلى آخره وكالصلاة فإنها حسنت لمعنى في نفسها وهو التعظيم لله تعالى قولا وفعلا لجميع الجوارح وتعظيم المعظم حسن في الشاهد فدل أنها حسنت في ذاتها وضعا ولهذا كانت رأس العبادات قال عليه السلام: "الصلاة عماد الدين" , وقال عليه السلام: "وجعلت قرة(1/275)
كثيرة إلا أنها ليست بركن في الإيمان بخلاف الإقرار; لأن في الإقرار وجودا وعدما دلالة على التصديق. والقسم الثالث الزكاة والصوم والحج فإن الصوم صار حسنا لمعنى قهر النفس والزكاة لمعنى حاجة الفقير والحج لمعنى شرف
ـــــــ
عيني في الصلاة" 1, لكنها تسقط بالأعذار إلا أن اعتبار المعنى من غير نظر إلى اللفظ في كلام المشايخ خصوصا تصنيفات الشيخ غير غريب, والأحسن أن يقال الحسن لعينه باعتبار كون الحسن حقيقة في ذاته أو حكما ينقسم قسمين ما حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما., والقسم الأول باعتبار احتمال السقوط وعدمه ينقسم قسمين أيضا ما يحتمل السقوط وما لا يحتمل فجعل الأقسام ثلاثة فالقسم المتوسط من القسم الأول باعتبار أصل التقسيم ومستبد باعتبار الحاصل.
وكان من حق الكلام أن يقال الحسن لمعنى في نفسه ضربان ما حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما والضرب الأول قسمان ما لا يقبل السقوط وما يقبله إلا أن الشيخ عد الأقسام في أول الباب باعتبار الحاصل وترك التقسيم الأول; لأنه يفهم مما ذكر بأدنى تأمل ثم قال بعده. وأما الضرب الأول من القسم الأول وأراد منه أي من الضرب الأول الحسن لعينه مطلقا باعتبار أصل التقسيم المفهوم مما ذكره فدخل فيه القسمان الأولان ولهذا لم يفرد القسم المتوسط بالذكر, فعلى هذا يكون قوله وكالصلاة عطفا على فنحو الإيمان ويكون الكاف في محل الرفع ويدل عليه قوله إلا أنها دون التصديق إذ لو كان عطفا على الإقرار لم يبق لهذا الاستثناء فائدة, ويؤيده أيضا قوله فيما بعد: والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن يتناول الضرب الأول من القسم الأول حيث أراد به الحسن لعينه مطلقا كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قوله: "إلا أنها ليست بركن" جواب عما يقال إنها لما كانت كالإقرار فهلا جعلت ركنا من الإيمان كما دل عليه ظواهر النصوص التي تدل على أن العمل من الإيمان فقال الإقرار دليل على التصديق وجودا وعدما كما ذكرنا فيصلح أن يكون ركنا أما الصلاة فعدمها لا يصلح دليلا على عدم التصديق أصلا ووجودها لا يصلح دليلا على وجوده إلا مقيدا بصفة وهو الجماعة حتى لو صلى الكافر منفردا لا يحكم بإسلامه فلهذا لا يصلح أن يكون ركنا فيه.
قوله: "صار حسنا لمعنى قهر النفس" بيانه أن الصوم إنما حسن لحصول قهر النفس الأمارة بالسوء التي هي عدو الله وعدوك به على ما جاء في الخبر أنه تعالى أوحى إلى داود
ـــــــ
1 أخرجه النسائي في عشرة النساء حديث رقم 3949 والإمام أحمد في المسند 3/128(1/276)
المكان إلا أن هذه الوسائط غير مستحقة لأنفسها; لأن النفس ليست بجانية
ـــــــ
عليه السلام عاد نفسك فإنها انتصبت لمعاداتي وقال عليه السلام: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" 1, لا أنه حسن في ذاته; لأن تجويع النفس ومنع نعم الله تعالى عن مملوكه مع النصوص المبيحة لها مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57, و172] و[الأعراف 160] و[طه 81] {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة: 168] ليس بحسن., وكذا الزكاة إنما صارت حسنة بواسطة دفع حاجة الفقير الذي هو من خواص الرحمن لا لنفسها; لأن تمليك المال وتنقيصه في ذاته إضاعة وهي حرام شرعا وممنوع عقلا, وكذا الحج إنما صار حسنا بواسطة أنه زيارة أمكنة معظمة محترمة عظمها الله تعالى وشرفها على غيرها قال واحد من الصحابة:
ما أنت يا مكة إلا وادي ... شرفك الله على البلاد
وفي زيارتها تعظيم صاحبها فصار حسنا بواسطة شرف المكان لا لذاته إذ قطع المسافة وزيارة أماكن معلومة يساوي في ذاته سفر التجارة وزيارة البلاد, غير أن هذه الوسائط تثبت بخلق الله تعالى لا اختيار للعبد فيها فإن النفس ليست بجانية في صفتها بل هي مجبولة على تلك الصفة كالنار على صفة الإحراق ولهذا لا يلام أحد على الميل إلى الشهوات ولا يسأل عنه يوم القيامة; لأنه طبعي, ولا يقال لما لم تكن جانية في صفتها كيف استحقت القهر; لأنا نقول إنما وجب قهرها بمخالفة هواها لئلا يقع المرء في الهلاك بسبب متابعتها كما أن التباعد وجب عن النار احترازا عن الهلاك وإن كانت مجبولة في صفة الإحراق غير مختارة., وكذا الفقير ليس بمستحق عبادة إذ العبادة لا يستحقها إلا الله عز وجل, وإنما قال ذلك; لأنه بفقره قد يستحق إيصال النفع إليه بطريق المبرة التي تدعو إليها الطبيعة إذ هي في الأصل مائلة إلى الإحسان إلى الغير ودفع الضرر عن الجنس ولكن لا يستحق ما هو عبادة أصلا لما ذكرنا, وكذا البيت ليس بمستحق للتعظيم بنفسه إذ هو حجر كسائر البيوت بل بجعل الله تعالى إياه معظما وأمره أبانا بتعظيمه, ولما ثبت أن هذه الوسائط ثبتت بخلق الله تعالى بدون اختيار العبد كانت مضافة إلى الله جل جلاله وسقط اعتبارها في حق العبد فصارت هذه العبادات حسنة خالصة من العبد للرب بلا واسطة كالصلاة فشرط لها الأهلية الكاملة فلا يجب على الصبي كالصلاة خلافا للشافعي رحمه الله في فصل الزكاة.
ـــــــ
1 أخرجه البيهقي في الزهد الكبير برقم 343.(1/277)
في صفتها والفقير ليس بمستحق عبادة والبيت ليس بمستحق لنفسه فصار هذا كالقسم الثاني عبادة خالصة لله حتى شرطنا لها أهلية كاملة.
ـــــــ
"فإن قيل" الصلاة صارت قربة بواسطة الكعبة أيضا فينبغي أن تكون من الضرب الثالث لا من الثاني كالحج.
"قلنا" إنما أراد بالواسطة ههنا ما يتوقف ثبوت الحسن للمأمور به عليه كما بينا أن حسن هذه العبادات يتوقف على هذه الوسائط المذكورة حتى شابهت باعتبارها الحسن لغيره والصلاة تعظيم الله تعالى وهو حسن في ذاته من غير توقف له على جهة الكعبة فإنها قد كانت حسنة حين كانت القبلة بيت المقدس وجهة المشرق وقد تبقى حسنة عند فوات هذه الجهة حالة اشتباه القبلة, فلما لم يتوقف حسنها على الواسطة كانت الضرب الثاني بخلاف تلك العبادات فإنها لا تكون حسنة بدون وسائطها فكانت في الضرب الثالث. إليه أشار الإمام العلامة بدر الدين الكردري في فوائد التقويم.
فصار هذا أي القسم الثالث كالقسم الثاني وهو الإقرار والصلاة حتى شرطنا لها أهلية كاملة; لأن العبادة الخالصة محض حق الله تعالى شرعت على العباد ابتلاء وهو غني على الإطلاق فتوقف وجوب حقه لغناه على كمال الأهلية فلم يجب على الصبي والمجنون بخلاف حقوق العباد فإنها يجوز أن تجب بأهلية قاصرة لحاجتهم فيجب على الصبي والمجنون وينوب الولي منابهما في الأداء, واعلم أن إيراد الإيمان في نظائر هذا النوع مشكل; لأنه في بيان الحسن الذي ثبت للمأمور به بالأمر وعرف ذلك به لا قبله بالعقل وحسن الإيمان ثابت قبل الأمر ويعرف بالعقل لا بتوقف ذلك على ورود السمع حتى قلنا بوجوب الاستدلال على من لم تبلغه الدعوة أصلا, ولهذا لم يذكر القاضي الإمام الإيمان في هذه الأقسام بل بدأ بالصلاة; لأن حسن هذه الهيئة ثابت بالأمر لا بالعقل إلا أن يكون حسنه ثابتا بالسمع عند الشيخ لا بالعقل كما هو مذهب الأشعرية لكن قوله لا يقبل سقوط هذا الوصف يأبى هذا الاحتمال, ثم حاصل ما ذكر أن التصديق في أعلى درجات الحسن والإقرار دونه; لأنه يحتمل السقوط والصلاة دونه; لأنها ليست بركن في الإيمان والصوم واختاره دونها; لأنها مشابهة للحسن لغيره.
قوله: "وأما الضرب الأول من القسم الثاني" وهو ما حسن لمعنى في غيره وذلك الغير لا يتأدى إلا بفعل مقصود فمثل السعي إلى الجمعة ليس بفرض مقصود أي ليس بحسن في نفسه إذ هو مشي ونقل أقدام وإنما حسن وصار مأمورا به لإقامة الجمعة إذ به يتوصل إلى أدائها فكان حسنا لغيره لا لذاته ثم الجمعة لا تتأدى به بل بفعل مقصود(1/278)
وأما الضرب الأول من القسم الثاني: فمثل السعي إلى الجمعة ليس بفرض مقصود إنما حسن لإقامة الجمعة; لأن العبد يتمكن به من إقامة الجمعة لا يتأدى به الجمعة, وكذلك الوضوء عندنا من حيث هو فعل يفيد الطهارة للبدن ليس بعبادة مقصودة; لأنه في نفسه تبرد وتطهر لكن إنما حسن; لأنه يراد به إقامة الصلاة ولا تتأدى به الصلاة بحال ويسقط بسقوطها وتستغني عن صفة القربة
ـــــــ
بعده فلم يكن له مشابهة بالحسن لعينه أصلا ولهذا قدم هذا الضرب على غيره; لأنه أعلى رتبة من غيره في كونه حسنا لغيره بمقابلة التصديق في القسم الأول, ومعنى السعي إلى الجمعة هو الإقبال عليها والمشي بلا سرعة فإنه روي عن عمر وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم أن معنى قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] تعالى أقبلوا على العمل الذي أمرتم به وامضوا فيه وليس في حديث السكينة فصل بين الجمعة وغيرها وأجمع الفقهاء أنه يمشي في الجمعة على هيئته كذا في شرح التأويلات.
قوله: "وكذلك الوضوء" أي وكالسعي الوضوء في كونه من هذا الضرب; لأنه من حيث هو فعل يفيد الطهارة للبدن ليس بعبادة مقصودة أي لا يصلح أن يكون عبادة مقصودة إذ لا بد لها من كونها حسنة لذاتها وأنه في نفسه تبرد وتطهر وذلك ليس بحسن لذاته وإنما حسن بسبب التمكن من إقامة الصلاة فكان حسنا لغيره, ولا يتأدى به أي بالوضوء الصلاة بحال ويسقط بسقوط الصلاة فكان كاملا في كونه حسنا لغيره, ولهذا جاز التيمم لصلاة العيد وصلاة الجنازة مع وجود الماء عند خوف الفوت; لأن التوضؤ إنما يلزمه إذا كان يتوصل به إلى أداء الصلاة ولو اشتغل به هنا تفوته الصلاة لا إلى خلف فتسقط عنه وإذا سقط عنه صار وجود الماء كعدمه فكان فرضه التيمم كذا في المبسوط.
قوله: "وتستغني" أي الصلاة عن صفة القربة في الوضوء جواب عما قال الشافعي رحمه الله النية شرط في الوضوء; لأنه عبادة إذ العبادة اسم لفعل يؤتى به تعظيما لله تعالى بأمره وحكمه الثواب وكل ذلك موجود في الوضوء وقال عليه السلام: "الطهارة على الطهارة نور على نور يوم القيامة" وإذا ثبت أنه عبادة كانت النية من شرطه كسائر العبادات, ونحن نسلم أن الوضوء يصلح أن يصير عبادة وأن لا بد لصيرورته عبادة من النية ولكنا نقول: صحة الصلاة تستغني عن هذه الصفة بل هي إنما تتوقف على كونه طهارة وباستعمال الماء بطريق التبرد يحصل الطهارة التي هي شرط الصلاة كما لو استدام الطهارة ولم يحدث حتى حضرت صلوات, وهذا لما ذكرنا أن معنى العبادة فيه غير(1/279)
في الوضوء حتى يصح بغير نية عندنا ومن حيث جعل الوضوء في الشرع قربة يراد بها ثواب الآخرة كسائر القرب لا يتأدى بغير نية إلا أن الصلاة تستغني من هذا الوصف في الوضوء. والضرب الثاني الجهاد وصلاة الجنازة إنما صارا حسنين لمعنى كفر الكافر وإسلام الميت وذلك معنى منفصل عن الجهاد والصلاة حتى أن الكفار إن أسلموا لم يبق الجهاد مشروعا إن تصور لكنه خلاف
ـــــــ
المقصود بل مقصود التمكن من إقامة الصلاة بالطهارة, فإذا طهرت الأعضاء بأي سبب كأن سقط الأمر كالسعي إلى الجمعة يسقط بسعي لا للجمعة وإن كان يصلح أن يصير عبادة بالنية; لأن المقصود منه التمكن من أداء الجمعة بحصوله في المسجد لا لكونه عبادة فعلى أي وجه حصل سقط الأمر كذا هذا كذا في الأسرار.
قوله: "والضرب الثاني" وهو الذي حسن لمعنى في غيره وذلك الغير يتأدى بالمأمور به لا يحتاج إلى فعل مقصود الجهاد وصلاة الجنازة, أما الجهاد فلأنه ليس بحسن في وضعه; لأنه تعذيب عباد الله تعالى وتخريب بلاده وليس في ذلك حسن كيف وقد قال عليه السلام: "الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب" , وسئل نبي من بني إسرائيل عن تعمير ملوك فارس وقد كانوا عمروا الأعمار الطوال فأوحى الله تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وفي رواية أنصفوا عبادي وعمروا بلادي فأدمت لهم الملك, وإنما صار حسنا بواسطة كفر الكافر فإن الكافر صار عدو الله تعالى وللمسلمين فشرع الجهاد إعداما للكفرة وإعزازا للدين الحق وإعلاء لكلمة الله تعالى.
وأما صلاة الجنازة فلأنها ليست بحسنة في ذاتها إذ هي بدون الميت عبث كذا ذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله وإنما صارت حسنة بواسطة إسلام الميت ألا ترى أن الميت لو لم يكن مسلما كانت الصلاة عليه قبيحة منهيا عنها قال الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة: 84], الآية فصارت حسنة لمعنى في غير الصلاة وهو قضاء حق الميت المسلم. قوله: "وذلك" أي كفر الكافر وإسلام الميت منفصل عن الجهاد والصلاة فإن الكفر قائم بالكافر والإسلام بالميت والجهاد قائم بالمجاهد والصلاة بالمصلي, والمقصود من هذا الكلام تحقيق كون هذا الضرب حسنا لغيره إذ حصول المقصود بالإتيان بالمأمور به نفسه يوهم أنه ملحق بالحسن لعينه كالصوم فحقق كونه حسنا لغيره بقوله وذلك معنى منفصل إلى آخره دفعا لذلك الوهم. قوله: "لكنه خلاف الخبر"; لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يبرح هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" 1 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الإمارة حديث رقم 1922 والإمام أحمد في المسند 5/103.(1/280)
الخبر وإذا صار حق المسلم مقضيا بصلاة البعض سقط عن الباقين ولما كان المقصود يتأدى بالمأمور به بعينه كان شبيها بالقسم الأول. وأما الضرب
ـــــــ
الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال" 1. قوله: "كان شبيها بالقسم الأول" وهو الحسن لعينه وهذا الضرب عكس الضرب الثالث من النوع الأول; لأن ذلك حسن لعينه شبيه بالحسن لغيره وهذا الضرب حسن لغيره شبيه بالحسن لعينه, وإنما اعتبرت الواسطة وهي كفر الكافر وإسلام الميت ههنا دون الصوم ونظيريه; لأنها وإن كانت بتقدير الله تعالى ومشيئته فهي تثبت باختيار العبد وصنعه عن طواعية فوجب اعتبارها وإذا اعتبرت كانت العبادة حسنة لمعنى في غيرها; لأن العبادة تتم بالعبد للرب عزت قدرته فتكون الواسطة المضافة إلى غير الله تعالى غير فعل العبادة صورة ومعنى بخلاف تلك الوسائط فإنها تثبت بصنع الله تعالى لا بصنع للعبد فيها فسقط اعتبارها فبقيت العبادة حسنة من العبد للرب بلا واسطة ثم حكم النوع الأول مع ضروبه الثلاثة واحد وهو أنه إذا وجب بالأمر لا يسقط إلا بالأداء لو باعتراض ما يسقطه بعينه. وحكم الضربين الأولين من القسم الثاني واحد أيضا وهو بقاء الوجوب ببقاء وجوب الغير وسقوطه بسقوط الغير حتى إذا حمله إنسان من الجامع إلى موضع مكرها بعد السعي قبل أداء الجمعة ثم إذا خلى عنه كان السعي واجبا عليه, وإذا حصل المقصود بدون السعي بأن حمل مكرها إلى الجامع أو كان معتكفا فيه فصلى الجمعة سقط اعتبار السعي ولا يتمكن بعدمه نقصان فيما هو المقصود وإذا سقطت عنه لمرض أو سفر سقط السعي, وكذلك حكم الوضوء إلا أن مع عدم السعي يتم أداء الجمعة وبدون الوضوء لا يجوز أداء الصلاة من المحدث; لأن من شرط الجواز الطهارة عن الحدث هكذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله قلت الوضوء مساو للسعي في هذا أيضا; لأن فعل الوضوء بمنزلة فعل السعي وحصول الطهارة به بمنزلة حصول الرجل في الجامع بالسعي وقد تحصل الصلاة بدون فعل الوضوء كما تحصل الجمعة بدون فعل السعي ولا يحصل بدون صفة الطهارة كما لا تحصل الجمعة بدون كونه في الجامع.
وكذلك لو تصور إسلام الخلق عن آخرهم لا تبقى فريضة الجهاد أيضا, وكذلك حق الميت متى سقط بعارض مضاف إلى اختياره من بغي أو قطع طريق أو كفر سقط حقه. وكذا إذا قام به الولي سقط عن الباقين لحصول المقصود ومتى لم يقض حقه بأن صلى عليه غير الولي كانت الصلاة باقية على الولي وكذا إذا لم تنكسر شوكة الكفار بالقتال
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الجهاد حديث رقم 2484 والإمام أحمد في المسند 4/429.(1/281)
الثالث فمختص بالأداء دون القضاء وذلك عبارة عن القدرة التي يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه وذلك شرط الأداء دون الوجوب وأصل ذلك قول الله تعالى:
ـــــــ
مرة لم يسقط الفرض ووجب ثانيا; لأن المعنى الذي له وجب بمنزلة السبب الموجب فلا يبقى الحكم بدون السبب, كذا ذكر القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله.
ثم الشيخ لما ذكر في أثناء كلامه ما يفهم منه هذه الأحكام لم يذكرها صريحا.
قوله: "وأما الضرب الثالث" وهو الذي سماه جامعا يختص بالأداء دون القضاء أي هذا القسم يتأتى في الأداء دون القضاء; لأن هذا القسم إنما صار جامعا للحسن الذاتي والحسن الإضافي باعتبار اشتراط القدرة وهي مشروطة في وجوب الأداء دون وجوب القضاء على ما ستعرفه فلا يتأتى في القضاء الجمع بين الحسنين فيكون مختصا بالأداء ضرورة, ثم الحسن باعتبار الغير إنما يثبت في هذا القسم مع كونه حسنا لذاته; لأن العبادة لا تصح أن تكون مأمورا بها إلا بقدر من المخاطب فيتوقف وجوبها على القدرة توقف وجوب السعي على وجوب الجمعة فصار حسنا لغيره مع كونه حسنا لذاته.
وذلك إشارة إلى الغير المفهوم من قوله الضرب الثالث أي الشيء الذي صار الحسن لعينه حسنا لغيره بواسطته هي القدرة التي يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه أي يقدر عليه, وذلك أي الشرط المذكور وهو القدرة, شرط الأداء أي شرط وجوب الأداء, دون الوجوب أي دون نفس الوجوب. وقيل معناه الشرط المذكور وهو القدرة الحقيقية, شرط الأداء أي شرط حقيقة الأداء, دون الوجوب أي دون وجوب الأداء; لأن شرطه سلامة الآلات وصحة الأسباب لا حقيقة القدرة, والأول هو الوجه وعليه دل ما ذكر القاضي الإمام وشمس الأئمة في كتابيهما, وأصل ذلك أي أصل اشتراط القدرة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أي طاقتها وقدرتها أي لا يأمرها بما ليس في طاقتها فثبت بالنص أن القدرة شرط لصحة الأمر. واعلم أن الأمة قد اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع وهو المسمى بتكليف ما لا يطاق فقال أصحابنا لا يجوز ذلك عقلا ولهذا لم يقع شرعا وقالت الأشعرية إنه جائز عقلا واختلفوا في وقوعه والأصح عدم الوقوع والخلاف في التكليف بما هو ممتنع لذاته كالجمع بين الضدين والعقد بين شعيرتين فأما التكليف بما هو ممتنع لغيره كإيمان من علم الله تعالى أنه لا يؤمن مثل فرعون وأبي جهل وسائر الكفار الذين ماتوا على كفرهم فقد اتفق الكل على جوازه عقلا وعلى وقوعه شرعا, فالأشعرية تمسكوا بأن التكليف منه تصرف في عباده ومماليكه فيجوز سواء أطاق العبد أو لم يطق, وهذا; لأن امتناع التكليف إما أن كان لاستحالته في ذاته أو لكونه قبيحا لا وجه إلى الأول لتصور صدور الأمر من الله تعالى بالممتنع للعبد لا(1/282)
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهو نوعان مطلق وكامل فأما المطلق منه فأدنى ما يتمكن به المأمور من أداء ما لزمه بدنيا كان أو ماليا
ـــــــ
إلى الثاني; لأن القبح إنما يكون باعتبار عدم حصول الغرض والقديم منزه عن الغرض, وتمسك أصحابنا بأن تكليف العاجز عن الفعل بالفعل يعد سفها في الشاهد كتكليف الأعمى بالنظر فلا يجوز نسبته إلى الحكيم جل جلاله.
تحقيقه أن حكمة التكليف هي الابتلاء عندنا وإنما يتحقق ذلك فيما يفعله العبد باختياره فيثاب عليه أو يتركه باختياره فيعاقب عليه فإذا كان بحال لا يمكن وجود الفعل منه كان مجبورا على ترك الفعل فيكون معذورا في الامتناع فلا يتحقق معنى الابتلاء, ويعرف باقي الكلام في علم الكلام.
فإذا ثبت هذا فنقول ما ذكر الشيخ ههنا من قوله, وهذا أي اشتراط هذه القدرة فضل ومنة من الله تعالى عندنا يوهم بظاهره أن التكليف بدون هذه القدرة يجوز عنده كما هو مذهب الأشعرية, وما ذكر في بعض مصنفاته أن المكنة الأصلية مشروطة في العبادات تحقيقا للعدل على ما قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] والميسرة مشروطة في بعضها تحقيقا للفضل على ما نطق به النص, وما ذكر القاضي الإمام في التقويم أن الشرع جعل من شرط وجوب الأداء مكنة العبد منه حكمة وعدلا يشير إلى خلاف ذلك كما هو مذهب أهل السنة.
ووجه التوفيق بينهما أن إعطاء هذه القدرة التي يصير العبد بها أهلا للتكليف الذي هو تشريف فضلا من الله ومنة; لأنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما عرف في مسألة الأصلح, وإليه أشار بقوله عندنا وبناء التكليف على هذه القدرة واشتراطها له فيه عدل وحكمة وهذا كاشتراط العقل لصحة الخطاب عدل وحكمة; لأن خطاب من لا يفهم قبيح وخلق العقل في الإنسان ليصير أهلا للخطاب فضل ومنة كذا ذكر في عامة الشروح, ولقائل أن يقول هذا التأويل وإن كان صحيحا في نفسه لكن سياق الكلام لا يدل عليه فإن الكلام مسوق لاشتراط القدرة لصحة التكليف لا لإعطاء القدرة وخلقها في المكلف فالأوجه أن تصرف الإشارة في قوله وهذا فضل إلى اشتراط القدرة دون إعطائها. وبيان ذلك أن جواز التكليف مبني على القدرة الحقيقية التي بها يوجد الفعل المأمور به إلا أنها لما لم تسبق الفعل ولا بد للتكليف من أن يكون سابقا على الفعل المأمور به نقل الحكم عنها إلى سلامة الآلات وصحة الأسباب التي تحدث هذه القدرة بها عند إرادة الفعل عادة فشرط لصحة التكليف سلامة الآلات وصحة الأسباب لصلاحيتها لقبول تلك القدرة وتعلق تلك القدرة بها لا محالة, فاشتراط هذه القدرة مع أن التكليف(1/283)
وهذا فضل ومنة من الله تعالى عندنا وهذا شرط في أداء حكم كل أمر حتى أجمعوا أن الطهارة بالماء لا تجب على العاجز عنها ببدنه وعلى من عجز عن
ـــــــ
صحيح بدونها بناء على توهم وجود القدرة الحقيقية عند الفعل كما سنبينه يكون تحقيقا للفضل إليه أشير في الميزان. وعليه دل سياق كلام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله فإنه قال من شرط وجوب الأداء القدرة التي بها يتمكن المأمور من الأداء غير أنه لا يشترط وجودها وقت الأمر لصحته; لأنه لا يتأدى المأمور به بالقدرة الموجودة وقت الأمر وإنما يتأدى بالموجود منها عند الأداء وذلك لا يوجد سابقا على الأداء فإن الاستطاعة لا تسبق الفعل وعدمها عند الأمر لا يمنع صحة الأمر ولا يخرجه من أن يكون حسنا بمنزلة عدم المأمور فإن النبي عليه السلام كان رسولا إلى الناس كافة ثم صح الأمر في حق الذين وجدوا بعده ويلزمهم الأداء بشرط أن يبلغهم فيتمكنوا من الأداء فكما يحسن الأمر قبل وجود المأمور يحسن قبل وجود القدرة التي يتمكن بها من الأداء ولكن بشرط التمكن عند الأداء, ألا ترى أن التصريح به لا يعدم صفة الحسن في الأمر فإن المريض يؤمر بقتال المشركين إذا برئ فيكون ذلك حسنا قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 103] أي إذا أمنتم من الخوف فصلوا بلا إيماء ولا مشي فثبت بما ذكر رحمه الله أن التكليف قبل القدرة الحقيقية صحيح بناء على وجودها عند الفعل فاشتراط القدرة التي هي سلامة الآلات وصحة الأسباب عند التكليف يكون فضلا لا محالة. قوله: "وهذا شرط في أداء حكم كل أمر" أي ما ذكرنا من القدرة بسلامة الآلات شرط وجوب أداء ما ثبت بكل أمر سواء كان المأمور به حسنا لعينه أو لغيره, حتى أجمعوا أن الطهارة لا تجب على العاجز عنها ببدنه بأن لم يقدر على استعماله حقيقة, وتأويله إذا لم يجد من يستعين به فإن وجد من يستعين به لا يجوز له التيمم كذا في المبسوط. وفي فتاوى القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله إن كان المعين حرا أو امرأته جاز له التيمم في قول أبي حنيفة رحمه الله; لأنه لا يجب عليهما إعانته وإن كان مملوكا اختلف المشايخ على قوله, والفرق على أحد القولين أن العبد وجب عليه الإعانة فكان بمنزلة بدنه بخلاف الحر وعن هذا قيل إن كان المعين يعينه ببدل لا يجوز له التيمم عند الكل.
فثبت بما ذكرنا أن قوله وأجمعوا مؤول بما ذكرنا على أنه روي عن محمد رحمه الله إن لم يجد من يعينه لا يجوز له أن يتيمم في المصر إلا أن يكون مقطوع اليدين; لأن الظاهر أنه يجد في المصر من يستعين به من قريب أو بعيد والعجز بعارض على شرف الزوال بخلاف مقطوع اليدين كذا في المبسوط.(1/284)
استعماله إلا بنقصان يحل به أو بماله في الزيادة على ثمن مثله وفي مرض يزداد به وكذلك الصلاة لا يجب أداؤها إلا بهذه القدرة والحج لا يجب أداؤه إلا بالزاد والراحلة; لأن تمكن السفر المخصوص به لا يحصل بدونهما في الغالب ولا يجب الزكاة إلا بقدرة مالية حتى إذا هلك النصاب بعد الحول قبل التمكن سقط الواجب بالإجماع.
ـــــــ
قوله: "وعلى من عجز عن استعماله" أي حكما بأن حل نقصان ببدنه بأن ازداد مرضه بالتوضؤ أو بماله بأن لا يجد الماء إلا بثمن غال., واختلف في تفسير الغالي فقيل إن كان لا يجده إلا بضعف القيمة فهو غال وقيل ما لا يدخل تحت تقويم المقومين فهو غال ويعتبر قيمة الماء في أقرب المواضع من الموضع الذي يعز فيه الماء كذا في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله, وقوله في مرض معطوف على قوله في الزيادة, وهو لف ونشر مشوش.
قوله: "وكذلك" أي وكالوضوء الصلاة لا يجب أداؤها إلا بهذه القدرة أي المكنة ولهذا كان وجوب الأداء بحسب ما يتمكن منه قائما أو قاعدا أو بالإيماء; لأن تمكن السفر المخصوص به أي بالحج, لا يحصل دونهما أي دون الزاد والراحلة في الغالب فالزاد والراحلة من ضرورات السفر على ما عليه العادة; لأن الزاد عبارة عن قوته والراحلة عبارة عما تحمله وهو لا يجد بدا عنهما ولا يشترط زيادة المال والخدم; لأن الوجوب ح يتعلق بالمكنة الميسرة وهي ليست بشرط بالإجماع.
وإنما قيد بقوله في الغالب; لأنه قد يوجد بدونهما بطريق الكرامة كما هو محكي عن بعض السلف, وقد يوجد بدون الراحلة أيضا إلا أن ذلك نادر لا يصح بناء الحكم عليه, ولا يقال أدنى القدرة فيه صحة البدن بحيث يقدر على المشي واكتساب الزاد في الطريق ولهذا صح النذر به ماشيا فينبغي أن يكون الوجوب متعلقا بهذا القدر من القدرة لا بالزاد والراحلة; لأنا نقول في اعتبار هذه القدرة حرج عظيم; لأنه يؤدي إلى الهلاك في الغالب والحرج منفي وإنما اعتبرنا في الصلاة القدرة المتوهمة وإن كان لا يتحقق الأداء بها ليظهر أثره في الخلف وهو القضاء لا لعين الأداء ولا خلف للحج ينتفي بمباشرته الحرج فلذلك لم تعتبر, إلا بقدرة مالية وهي أن يكون متمكنا من أدائها بأن كان مالكا للمال قادرا عليه بنفسه أو بنائبه حتى لو ثبت له التمكن بمال الغير بأن أذن له في ذلك لا يعتبر في وجوب الأداء الزكاة, وهذا بخلاف الطهارة حيث ثبت القدرة على الماء بالإباحة; لأن صفة العبادة فيها غير مقصودة بل المقصود الطهارة وهي تحصل بالإباحة.(1/285)
ولهذا قال زفر في المرأة تطهر من حيضها أو نفاسها أو الكافر يسلم أو الصبي يبلغ في آخر الوقت أن لا صلاة عليهم إلا أن يدركوا وقتا صالحا للأداء لما قلنا لكن أصحابنا استحسنوا بعد تمام الحيض أو دلالة انقطاعه قبل تمامه
ـــــــ
وههنا معنى العبادة مقصود مع ذلك صفة الغنى في المؤدى معتبر ولا يحصل ذلك بالإباحة. وكذلك لو كان بعيدا من ماله أو لم يكن يجد المصرف لا يثبت التمكن حتى لو هلك المال قبل الوصول إليه سقط الواجب بالإجماع., وإنما قيد به; لأن في الهلاك بعد التمكن خلافا كما سيأتي.
قوله: "ولهذا قال زفر إلى آخره" قد ذكرنا أن المأمور بفعل لا بد من أن يكون قادرا على تحصيل المأمور به حقيقة; لأن تكليف ما ليس في الوسع ليس بحكمة إلا أن القدرة على نوعين أحدهما سلامة الآلات وصحة الأسباب وهي تسمى قدرة لحدوث القدرة فيها عند قصد الفعل في المعتاد.
والثاني حقيقة القدرة التي يوجد بها الفعل والتكليف يعتمد الأولى وكان ينبغي أن يعتمد الثانية غير أن تعذر تقدم المشروط على الشرط منع عن ذلك فنقل الشرطية إلى الأولى لحصول الثانية بها عادة عند الفعل فثبت أنه لا بد من أن يكون المأمور قادرا على الفعل حقيقة على معنى أنه لو عزم على الفعل لوجد الفعل بالقدرة الحقيقية فكانت حالة وجود الفعل حالة وجود القدرتين جميعا, فلهذا قال زفر رحمه الله إذا صار الإنسان أهلا للتكليف في آخر الوقت بأن أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو طهرت الحائض أو أفاق المجنون في آخر الوقت بحيث لا يتمكن من أداء الفرض فيه لا يجب عليه الصلاة; لأنه ليس بقادر على الفعل حقيقة لفوات الوقت الذي هو من ضرورات القدرة فلم يثبت التكليف لعدم شرطه. ولا معنى لقول من قال إن احتمال القدرة ثابت باحتمال امتداد الوقت وهو كاف لصحة التكليف; لأن ذلك احتمال بعيد وهو لا يصلح شرطا للتكليف; لأن المقصود لا يحصل به, ألا ترى أن احتمال سفر الحج بدون زاد وراحلة واحتمال القدرة على الصوم للشيخ الفاني واحتمال القدرة على القيام والركوع والسجود للمريض المدنف والمقعد بزوال المرض والزمانة واحتمال الإبصار للأعمى بزوال العمى أقرب إلى الوجود من هذا الاحتمال ومع ذلك لم يصلح شرطا للتكليف فهذا أولى.
قوله: "لكن أصحابنا استحسنوا" أي عملوا بالدليل الخفي الأقوى وتركوا القياس الذي عمل به زفر بعد تمام الحيض بأن انقطع الدم على العشرة, أو دلالة انقطاعه أي الحيض قبل تمامه بأن انقطع الدم فيما دون العشرة بإدراك وقت الغسل بعد الانقطاع,(1/286)
بإدراك وقت الغسل أنها تجب بإدراك جزء يسير من الوقت يصلح للإحرام بها وكذلك في سائر الفصول; لأنا نحتاج إلى سبب الوجوب وذلك جزء من الوقت ونحتاج لوجوب الأداء إلى احتمال وجود القدرة لا إلى تحقق القدرة وجودا; لأن ذلك شرط حقيقة الأداء فأما سابقا عليه فلا; لأنها لا تسبق الفعل إلا في الأسباب والآلات لكن توهم القدرة يكفي لوجوب الأصل مشروعا ثم العجز
ـــــــ
وحاصله أن الدم إذا انقطع على العشرة أي تم الحيض بتمام العشرة وقد بقي من الوقت شيء قليل أو كثير كان عليها قضاء تلك الصلاة عندنا وإن لم تدرك وقت الغسل, وإن انقطع على ما دون العشرة وقد بقي من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل وتتحرم للصلاة كان عليها قضاء تلك الصلاة وإلا فلا; لأن زمان الاغتسال فيما دون العشرة من جملة الحيض في حق المسلمة, ولهذا لا ينقطع حق الرجعة للزوج قبل الاغتسال وذلك; لأن الدم يسيل تارة وينقطع أخرى فبمجرد الانقطاع لا يحكم بالخروج من الحيض لجواز أن يعاودها الدم فإذا اغتسلت يحكم بطهارتها فلما كانت مدة الاغتسال من الحيض وجب أن يدرك جزء من الوقت بعد مدة الاغتسال ليجب عليها الصلاة. وقوله يصلح للإحرام لمبالغة جانب القلة لا أن يكون ذلك شرطا حتى لو أدركت أقل من ذلك يجب عليها الصلاة وكذلك في سائر الفصول أي كما استحسنوا في الحيض استحسنوا في إيجاب الصلاة على الكافر إذا أسلم والصبي إذا بلغ والمجنون إذ أفاق في آخر الوقت وهو المختار من مذهب الشافعي أيضا فإنه قد ذكر في الملخص في الفتوى في مذهب الشافعي ولو زال العذر المسقط للقضاء كالجنون والصبا والكفر والحيض في قدر تكبيرة من الوقت لزمه تلك الصلاة, ولو زال قبيل الغروب لزمه الظهر والعصر ولو زال قبيل الفجر لزمه العشاء والمغرب وكذا ذكر الغزالي أيضا.
وجه الاستحسان أن سبب الوجوب هو جزء من الوقت قد وجد في حق الأهل فيثبت به أصل الوجوب إذ هو ليس بمفتقر إلى شيء آخر وكذا شرط وجوب الأداء موجود; لأنه ليس بمتوقف على حقيقة القدرة لامتناع تقدم القدرة على الفعل واستحالة تقدم المشروط على شرطه بل هو متوقف على توهم القدرة الذي ثبت بناء على سلامة الآلات وصحة الأسباب وقد وجدا لتوهم ههنا لجواز أن يظهر في ذلك الجزء امتداد بتوقف الشمس فيسع الأداء فيثبت بهذا القدر وجوب الأداء ثم بالعجز الحالي عن الأداء ينتقل الحكم إلى خلفه وهو القضاء.
يوضحه أن في أوامر العباد يثبت لزوم الأداء بهذا القدر من القدرة فإن من قال لعبده(1/287)
الحالي دليل النقل إلى البدل المشروع عند فوات الأصل, وقد وجد احتمال القدرة باحتمال امتداد الوقت عن الجزء الأخير بوقف الشمس كما كان لسليمان صلوات الله عليه وذلك نظير مس السماء فصار مشروعا ثم وجب
ـــــــ
اسقني ماء غدا يكون أمرا صحيحا موجبا للأداء وإن لم يثبت في الحال أنه قادر على ذلك غدا لجواز أن يموت قبله أو يظهر عارض يحول بينه وبين التمكن من الأداء فكذلك في أوامر الشرع وجوب الأداء يثبت بهذا القدر كذا ذكر الإمام السرخسي رحمه الله.
"فإن قيل" قد ذكرت أن القدرة على نوعين: قدرة سلامة الآلة والقدرة الحقيقية فنحن نسلم أن توهم القدرة الحقيقية كاف لصحة التكليف إذا كان مبنيا على سلامة الآلة ووجودها حقيقة ولكن لا نسلم أن توهم حدوث الآلة وسلامتها كاف لصحته فإن توهم حدوث آلة الطيران للإنسان ثابت وكذلك توهم حدوث سلامة آلة الأبصار والمشي للأعمى والمقعد ثابت ومع ذلك لا يصح التكليف بالطيران والإبصار والمشي والتوهم الذي ذكرتم من هذا القبيل; لأن الوقت للفعل بمنزلة الآلة كاليد للبطش والرجل للمشي فلا يصح بناء التكليف عليه.
"قلنا" توهم هذه القدرة إنما لا يصلح شرط التكليف إذا كان المطلوب منه عين ما كلف به فأما إذا كان المطلوب منه غيره فهو كاف لصحته كالأمر بالوضوء إذا كان المقصود منه حقيقة التوضؤ لا يصح إلا عند وجود الماء حقيقة فأما إذا كان المطلوب منه خلفه وهو التيمم فتوهم الماء وإن كان بعيدا كاف لصحة الأمر به ليظهر أثره في حق خلفه ويشترط ح سلامة آلات الخلف; لأنه هو المقصود لا سلامة آلات الأصل وفي مسألتنا المقصود من هذا التكليف إيجاب خلفه لا حقيقة الأداء فيشترط سلامة الآلات في حق الخلف وهو القضاء لا سلامة آلات الأصل وهو الأداء بل يكفي فيه توهم الحدوث.
قوله: "باحتمال امتداد الوقت عن الجزء الأخير" كلمة عن بمعنى من البيانية ويتعلق بالوقت, والوقت بمعنى الزمان, والباء في بوقف الشمس للسببية وتتعلق بالامتداد أي باحتمال امتداد الزمان الذي هو الجزء الأخير من وقت الصلاة بسبب وقف الشمس, كما كان لسليمان صلوات الله عليه وسلامه, روي أن سليمان عليه السلام لما عرض له الخيل الصافنات الجياد وفاته صلاة العصر أو ورد له كان في ذلك الوقت باشتغاله بها وأهلك تلك الخيل بالعقر وضرب الأعناق كما قال تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [صّ: 33] تشؤما بها حيث شغلته عن ذكر ربه وعبادته وقهرا للنفس بمنعها عن حظوظها جازاه الله تعالى بأن أكرمه برد الشمس إلى موضعها من وقت الصلاة ليتدارك(1/288)
النقل للعجز الحالي كمن هجم عليه وقت الصلاة وهو في السفر أن خطاب الأصل عليه يتوجه لاحتمال وجود الماء ثم بالعجز الحالي ينتقل إلى التراب. والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن يتناول الضرب الأول من القسم الأول; لأن كمال الأمر يقتضي كمال صفة المأمور به وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا
ـــــــ
ما فاته من الصلاة أو الورد وبتسخير الريح بدلا عن الخيل فتجري بأمره رخاء حيث أصاب, إليه أشير في كتاب عصمة الأنبياء وكتاب حصص الأتقياء من قصص الأنبياء عليهم السلام.
قوله: "وذلك نظير مس السماء" أي اعتبار توهم القدرة وإن كان بعيدا في وجوب الأداء لخلفه نظير اعتبارنا توهم البر وإن كان بعيدا في انعقاد اليمين على مس السماء لوجوب الكفارة, فإذا حلف ليمس السماء أو ليحولن هذا الحجر ذهبا انعقدت يمينه عندنا ويأثم في هذه اليمين; لأن المقصود باليمين تعظيم المقسم وإنما يحصل منها هتك حرمة الاسم باستعمال اليمين في هذا المحل, وقال زفر رحمه الله لا ينعقد; لأن من شرط انعقاد اليمين أن يكون ما يحلف عليه في وسعه إيجاده ولهذا لم ينعقد اليمين الغموس وذلك غير موجود ههنا. ولكننا نقول انعقاد اليمين باعتبار توهم الصدق في الخبر وهو موجود فإن السماء عين ممسوسة قال الله تعالى إخبارا عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] والملائكة يصعدون إليها ولو أقدره الله تعالى على صعودها لصعدها كعيسى ومحمد عليهما السلام وكذلك الحجر محل قابل للتحول لو حوله الله عز وجل فينعقد يمينه ثم يحنث في الحال لعجزه عن إيجاد شرط البر ظاهرا وذلك كاف للحنث ولا يؤخر الحنث إلى حين الموت لعدم الفائدة وهذا بخلاف الغموس; لأن تصور البر الذي هو الأصل مستحيل فيه بمرة فلا ينعقد للخلف وهو الكفارة, ولا يقال: إعادة الزمان الماضي في قدرة الله تعالى وأيضا وقد فعله لسليمان عليه السلام فكان ينبغي أن ينعقد يمين الغموس بهذا الطريق أيضا; لأنا لا نسلم تصور إعادة الزمان الماضي على أنه أخبر عن فعل قد وجد منه كاذبا فيستحيل فيه الصدق; لأن الله تعالى وإن أعاد الزمان لا يصير الفعل فيه موجودا من الحالف بدون أن يفعله فلهذا لم ينعقد الغموس كذا في المبسوط.
قوله: "فصار مشروعا" متعلق بقوله وقد وجد احتمال القدرة, والضمير المستكن في فصار راجع إلى وجوب الأصل أي فصار وجوب الأصل وهو الأداء مشروعا بهذا الاحتمال, ثم وجب النقل يعني إلى خلفه وهو القضاء للعجز الحالي. قوله: "كمن هجم" أي دخل, وإنما اختار لفظ الهجوم دون الدخول; لأن معناه الإتيان بغتة والدخول(1/289)
المعنى, ويحتمل الضرب الثاني بدليل وعلى هذا قال الشافعي رحمه الله وهو
ـــــــ
يمينه ثم يحنث في الحال لعجزه عن إيجاد شرط البر ظاهرا وذلك كاف للحنث ولا يؤخر الحنث إلى حين الموت لعدم الفائدة وهذا بخلاف الغموس; لأن تصور البر الذي هو الأصل مستحيل فيه بمرة فلا ينعقد للخلف وهو الكفارة, ولا يقال: إعادة الزمان الماضي في قدرة الله تعالى وأيضا وقد فعله لسليمان عليه السلام فكان ينبغي أن ينعقد يمين الغموس بهذا الطريق أيضا; لأنا لا نسلم تصور إعادة الزمان الماضي على أنه أخبر عن فعل قد وجد منه كاذبا فيستحيل فيه الصدق; لأن الله تعالى وإن أعاد الزمان لا يصير الفعل فيه موجودا من الحالف بدون أن يفعله فلهذا لم ينعقد الغموس كذا في المبسوط.
قوله: "فصار مشروعا" متعلق بقوله وقد وجد احتمال القدرة, والضمير المستكن في فصار راجع إلى وجوب الأصل أي فصار وجوب الأصل وهو الأداء مشروعا بهذا الاحتمال, ثم وجب النقل يعني إلى خلفه وهو القضاء للعجز الحالي. قوله: "كمن هجم" أي دخل, وإنما اختار لفظ الهجوم دون الدخول; لأن معناه الإتيان بغتة والدخول من غير استئذان وإتيان وقت الصلاة بهذه الصفة, ولأن العجز في هذه الحالة أكثر فإن من دخل عليه باستئذان ربما يتهيأ لذلك فأما إذا دخل عليه بغتة فالظاهر أنه لا يمكنه التهيؤ لذلك فهجوم وقت الصلاة على المسافر مع اشتغاله بتعب السفر وعدم من يعلمه بالوقت من مؤذن ونحوه يحقق العجز عن استعمال الماء لعدم تهيئته الماء قبل ذلك ومع ذلك يتوجه عليه خطاب الأصل أي الوضوء وهو قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6], لاحتمال حدوث الماء بطريق الكرامة كما هو منقول عن بعض المشايخ ثم ينتقل بالعجز الظاهري إلى خلفه وهو التراب.
قوله: "والأمر المطلق" أي المطلق عن القرينة الدالة على أن المأمور به حسن لعينه أو لغيره يتناول الضرب الأول من القسم الأول. القسم الأول: هو الحسن لعينه وقد تنوع نوعين ما حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما فالأمر المطلق يتناول الضرب الأول دون ما عداه من الأقسام, أو معناه يتناول الضرب الأول أي النوع الأول وهو الحسن لعينه من القسم الأول أي من التقسيم الأول وهو قوله المأمور به نوعان في هذا الباب, ويدل عليه ما ذكر بعده ويحتمل الضرب الثاني أي ما حسن لغيره نص على هذا في غير واحد من الكتب, وهكذا ذكر الشيخ في شرح التقويم أيضا فقال, وأما الأمر المطلق في العبادة فينصرف إلى ما حسن لمعنى في عينه مثل الإيمان بالله والصلاة إلا بدليل يصرفه إلى غيره. والحاصل أن الأمر المطلق يثبت به حسن المأمور به لعينه وعند بعض مشايخنا(1/290)
قول زفر لما تناول الأمر بعد الزوال يوم الجمعة بالجمعة دل ذلك على صفة حسنه وعلى أنه هو المشروع دون غيره حتى قالا لا يصح أداء الظهر من المقيم ما لم تفت الجمعة.
وقالا لما لم يخاطب المريض والعبد والمسافر بالجمعة بل بالظهر صار الظهر حسنا مشروعا في حقهم فإذا أدوها لم تنتقض بالجمعة من بعد, وقلنا
ـــــــ
شرعي فالحسن عندهم ما أمر به فيجب أن يكون كل مأمور به حسنا إلا إذا ثبت بالدليل أنه حسن لغيره وهذا هو الأصح.
قوله: "وعلى هذا" أي على أن الأمر المطلق يقتضي كمال صفة الحسن للمأمور به قال زفر والشافعي رحمهما الله لما تناول الأمر بعد الزوال يوم الجمعة الجمعة وهو قوله جل ذكره: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9], دل هذا الأمر على صفة حسنه أي على كون المأمور به وهو الجمعة حسنا لعينه, وعلى أنه أي المأمور به هو المشروع في حق من تناوله الأمر دون غيره حتى لو صلى الصحيح المقيم الظهر في منزله ولم يشهد الجمعة لا يجزيه إلا إذا أعاد الظهر بعد فراغ الإمام من الجمعة عند زفر وبعد خروج الوقت عند الشافعي رحمهما الله وذلك; لأن الإجماع منعقد على أن فرض الوقت صلاة واحدة وقد ثبت أنها هي الجمعة في حقه إذ هو مأمور بالسعي إلى الجمعة وترك الاشتغال بالظهر ما لم يتحقق فوت الجمعة فيلزم منه انتفاء شرعية الظهر قبل فوات الجمعة ضرورة إلا أن عند زفر فوت الجمعة بفراغ الإمام; لأنه يشترط السلطان لإقامة الجمعة وعند الشافعي فوتها بخروج الوقت; لأن السلطان عنده ليس بشرط كذا في المبسوط.
قوله: "وقالا" أي بناء على هذا الأصل إن المعذور إذا صلى الظهر يوم الجمعة في بيته ثم أتى الجمعة فصلاها لا ينتقض به الظهر وهو القياس حتى لو شرع مع الإمام فقبل أن يتم الإمام الجمعة خرج وقت الظهر لا يلزمه إعادة الظهر, وعندنا ينتقض الظهر ويلزمه الإعادة وهذا استحسان, وجه قولهما أن هذا اليوم في حقه كسائر الأيام فيتوجه عليه خطاب الظهر وصار الظهر حسنا مشروعا في حقه ولهذا صح أداء الظهر منه بالإجماع من غير إساءة وإذا صح أداؤه في وقته لم ينتقض بالجمعة كما إذا صلى الظهر في بيته ثم أدرك الجماعة أو كما إذا صلى الظهر ثم أدى العصر ويلزم مما ذكرنا أنه لو أدى الجمعة قبل أداء الظهر لا يجوز عندهما كما لو أدى غير المعذور الظهر لما ذكرنا أن فرض الوقت واحد وقد تعين الظهر في حقه فاندفع غيره ضرورة وليس كذلك فإن المعذور لو أدى الجمعة قبل أداء الظهر يجوز عن فرض الوقت بالإجماع كما لو أدى الظهر, فالأوجه ما(1/291)
نحن لا خلاف في هذا الأصل لكن الشأن في معرفة كيفية الأمر بالجمعة وليس ذلك على نسخ الظهر كما قلتم ألا ترى أن بعد فوات الجمعة يقضى الظهر ولا يصلح قضاء للجمعة ولا تقضى الجمعة بالإجماع فثبت أنه عود إلى الأصل.
ـــــــ
ذكره القاضي الإمام في الأسرار وهو أن فرض الوقت واحد وأجمعنا أن المعذور لم يؤمر بإقامة الجمعة عينا بل له الخيار بين إقامة الجمعة والظهر, فإذا أدى أحدهما اندفع الآخر كالمكفر عن اليمين إذا كفر بنوع بطل سائر الأنواع ولم ترخص نقض ما أدى بالآخر كما إذا صلى الجمعة لم ينتقض بالظهر.
قوله: "وقلنا نحن لا خلاف في هذا الأصل" يعني في كون الأمر المطلق مقتضيا لكمال الحسن لكن الكلام في كيفية توجه الأمر بالجمعة فيقول الفرض الأصلي في هذا اليوم هو الظهر في حق الكافة; لأن فرض العين ما يخاطب الآحاد بإقامته ترخص شرائط لا يتمكن الواحد من إقامتها بنفسه فبقي الفرض كما كان مشروعا. والدليل عليه أنه إذا فاته فرض الوقت أصلا ينوي قضاء الظهر بعد الوقت فلو لم يكن أصل فرض الوقت الظهر لما صح نية قضاء الظهر بعد فوات الوقت فثبت أن فرض الوقت هو الظهر في حق الكل كما في سائر الأيام إلا أن الأمر ورد بأداء الجمعة في هذا اليوم وليس ذلك على سبيل النسخ للظهر كما زعم الخصم; لأنه بعد فوات الجمعة وبقاء الوقت يؤدى الظهر وهو لا يصلح قضاء للجمعة لاختلافهما اسما ومقدارا وشروطا كيف ولا قضاء للجمعة بالإجماع فعرفنا أن موجب الأمر ليس نسخ الظهر بل قضيته إقامة الجمعة مقام الظهر بفعلنا غير أن هذا الأمر حتم في حق غير المعذور وليس كذلك في حق المعذور بل رخص له أن لا يقيم الجمعة مقام الظهر بفعله ويأتي بالفرض الأصلي بدليل أن المسلمين أجمعوا أن المسافر إذا صلى الجمعة قبل الظهر كان ذلك فرض وقته. وكذا المقيم الصحيح إذا صلى الظهر بعد فوات الجمعة كان فرض وقته وفرض الوقت ما علق إلا بالوقت فأما الفوت فإنما يتعلق به قضاء الفائت فتبين بما ذكرنا أن الظهر مشروع في حق الصحيح المقيم كما أن الجمعة مشروعة في حق المسافر وصار كأن الشارع جعل الدلوك يوم الجمعة سببا للظهر والجمعة على أن يختار العبد الجمعة وأنها تقوم مقام الظهر إذا أديت.
ومثاله وقت رمضان علقت شرعية الصوم بالشهر في حق الكل ويسقط في حق المسافر بعدة من أيام أخر., فإذا ثبت هذا قلنا إذا صلى المقيم الظهر صح; لأنه فرض وقته ولم ينسخ بالجمعة كما في حق المعذور; لأنهما سواء في كون الظهر مشروع الوقت في حقهما وإنما اختلفا في وجوب الفعل وعدمه وعدم الوجوب لا يمنع الصحة كالمسافر إذا صام الشهر صح كالمقيم وإن اختلفا في الوجوب; لأنهما اتفقا في أن الشهر سبب شرع(1/292)
وثبت أن قضية الأمر أداء الظهر بالجمعة فصار ذلك مقررا لا ناسخا فصح الأداء وأمر بنقضه بالجمعة كما أمر بإسقاطه بالجمعة وإنما وضع عن المعذور أداء الظهر بالجمعة رخصة فلم يبطل به العزيمة, وإنما قلنا: إن الضرب الثالث من هذا القسم يختص بالأداء دون القضاء, أما إذا فات الأداء بحال القدرة
ـــــــ
هذا الصوم في حقهما إلا أن الصحيح المقيم يأثم بترك الجمعة بأداء الظهر; لأنه منهي عن ذلك ولكن لما كان النهي لمعنى في غير ما أتى به من الفعل لم يوجب فساد الفعل. وأما المسافر إذا صلى الجمعة بعد الظهر فقد انتقض ظهره أيضا; لأنه يساوي المقيم في شرعية الجمعة في حقه على ما بينا وإنما يفارقه في أن ثبت له رخصة الترك وهذه رخصة حقيقية; لأنها رخصة ترفيه بالإجماع وهي محققة للعزيمة لا نافية لها فإذا قدم على العزيمة صار معرضا عن الرخصة التي هي حقه فالتحق بالمقيم والمقيم يفسد ظهره بجمعته كذا هذا كذا في الأسرار وغيره, وعن محمد رحمه الله أنه قال لا أدري ما أصل فرض الوقت في هذا اليوم ولكن يسقط الفرض عنه بأداء الظهر أو الجمعة, يريد به أن أصل الفرض أحدهما لا بعينه ويتعين بفعله كذا في المبسوط قوله: "وثبت أن قضية الأمر" يعني قوله تعالى: {فَاسَعَوْا} [الجمعة: 9]. أداء الظهر بالجمعة أي إقامتها مقام الظهر بالفعل وإسقاطه عن الذمة بأدائها, فصار ذلك أي الأمر بالجمعة مقررا للظهر لا ناسخا له بمنزلة فداء إسماعيل عليه السلام بالكبش حيث وقع الذبح عن إسماعيل ولهذا سمي ذبيحا, وأمر بنقضه أي الظهر بالجمعة بعدما أدي كما أمر بإسقاطه بالجمعة قبل الأداء, وذلك; لأن قوله تعالى: {فَاسَعَوْا} [الجمعة: 9] يتناول من صلى الظهر ومن لم يصله ولأنه وقع مكروها وسبيله النقض بالإعادة ولا يقال في الأمر بالنقض إبطال العمل وهو حرام منهي فلا يجوز القول به; لأن النقض للإكمال جائز ولأنه إبطال ضمني فلا يعتبر.
قوله: "وإنما وضع عن المعذور" جواب عما يقال إن المعذور رخص له ترك الجمعة فإذا ترخص وأدى الظهر في بيته استوفى موجب الرخصة فلا يكون أداء الجمعة منه نقضا لما صنع; لأنه لا يمكنه تبديل الرخصة بعد الاستيفاء وإليه أشار الشيخ في قوله ولم ينتقض بالجمعة من بعد, فقال العمل بالرخصة لا يوجب إبطال العزيمة إذا أمكن العمل بها بعد ذلك وقد أمكن ههنا لبقاء الجمعة بعد أداء الظهر فلو لم يجز جمعته بعدما حضر وأدى الجمعة لكان عائدا على موضوعه بالنقض; لأن السقوط كان لدفع الحرج فلو لم يجز كان فيه إثبات حرج لم يثبت في حق غير المعذور وذلك باطل.
قوله: "يختص بالأداء دون القضاء" حتى إذا قدر في الوقت على الأداء ثم زالت(1/293)
بتقصير المخاطب فقد بقي تحت عهدته وجعل الشرط بمنزلة القائم حكما لتقصيره وأما إذا فات لا بتقصيره فكذلك; لأن هذه القدرة كانت شرطا لوجوب الأداء فضلا من الله تعالى فلم يشترط لبقاء الواجب ولهذا قلنا لا يسقط بالموت في أحكام الآخرة ولهذا قلنا إذا ملك الزاد والراحلة فلم يحج
ـــــــ
القدرة بعد خروج الوقت كان القضاء واجبا عليه, حكما لتقصيره; لأن التقصير لا يصلح سببا لإسقاط الواجب عنه; لأنه جناية وهي لا تصلح سببا للتخفيف, فلم يشرط البقاء الواجب; لأن بقاء الشيء غير وجوده ولهذا صح إثبات الوجود ونفي البقاء بأن يقال وجد ولم يبق فلا يلزم أن يكون شرط الوجود شرط البقاء; لأن ما هو شرط الشيء لا يلزم أن يكون شرطا لغيره كالشهود في باب النكاح شرط للانعقاد لا للبقاء, ولا يلزم منه تكليف ما ليس في الوسع; لأنه بقاء التكليف الأول الذي وجد شرطه لا أنه تكليف ابتدائي فلهذا لم يشترط فيه القدرة., وهذا إنما يستقيم على قول من أوجب القضاء بالنص الذي وجب به الأداء فأما من أوجب القضاء بنص مقصود فلا بد له من أن يشترط القدرة في القضاء أيضا; لأنه تكليف آخر, والدليل على أن القدرة ليست بشرط في وجوب القضاء أن في النفس الأخير من العمر يلزمه تدارك ما فاته من الصلوات والصيامات والحج وغيرها وتيقنا أنه ليس بقادر على تداركها ولهذا تبقى عليه بعد الموت وليس ذلك كالجزء الأخير من الوقت في حق الأداء; لأنا اعتبرنا ذلك ليظهر أثره في خلفه ولا خلف للقضاء فلم يعتبر وقد بقيت الفوائت عليه فعلم أن القدرة مختصة بالأداء.
ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا فاتته صلوات في الصحة فقضاها في حالة المرض قاعدا أو مضطجعا أو موميا حيث يخرج عن العهدة ولو لم يشترط القدرة في القضاء لما خرج عن العهدة; لأن القيام والركوع والسجود كانت واجبة ولم يأت بها; لأنا نقول إنه قضاها كما وجب عليه الأداء; لأن الشرط في الأداء أصل القدرة التي تمكنه من الأداء قائما أو قاعدا لا قدرة مكيفة فظهر بهذا أن استطاعته على القيام ما كانت شرطا في الابتداء بل شرطنا ذلك لكونه قادرا على القيام لا أن يكون القدرة على القيام مشروطة في وجوب الصلاة, ألا ترى أنه لو كان مريضا في الوقت يلزمه الصلاة على ما يستطيعه فعلم أن الشرط هو مطلق القدرة لا القدرة المكيفة فيكون اشتراط القيام والركوع وغيرهما أمرا عارضا زائدا, كذا رأيت في بعض الشروح ولم يتضح لي هذا الجواب.
وقوله: "ولهذا قلنا" أي ولعدم اشتراطها لبقاء الواجب قلنا لا يسقط بالموت وإن كان عجزا كليا في أحكام الآخرة فيبقى تحت عهدته مؤاخذا به فثبت أن دوام القدرة(1/294)
حتى هلك المال لم يبطل عنه الحج وكذلك صدقة الفطر لا تسقط بهلاك المال لما ذكرنا.
ـــــــ
ليس بشرط للبقاء, ولقائل أن يقول أثر عدم السقوط في حق الإثم دون وجوب الفعل فإن الفعل ساقط عن الميت بالإجماع وذلك لا يدل على عدم اشتراط بقاء القدرة لبقائه فإن ما ثبت بالقدرة الميسرة لا يسقط بالموت في حق الإثم أيضا فإنه إذا فرط في أداء الزكاة بعد التمكن حتى هلك المال يبقى الواجب في حق الإثم حتى جاز أن يؤاخذ به في الآخرة وإن سقط في أحكام الدنيا فلا يصح هذا الاستدلال., والحاصل أن بقاء الوجوب يستغني عن القدرة عند الشيخ وإن كان لا يثبت ابتداء بدون القدرة ويظهر ثمرته فيما إذا مات قبل أن يقدر ثانيا أثم لما فيه من الفوت بتأخيره مختارا وإن لم يكن القدرة قائمة عند الإيجاب ولم يقدر حتى مات لم يؤاخذ به لعدم شرط الوجوب فإذا قدر على الحج مثلا بملك الزاد والراحلة حال أمن الطريق وجب عليه الأداء فإن لم يحج ولم يقدر بعد حتى مات يؤاخذ به في الآخرة وإن لم يكن له قدرة عليه أصلا لم يؤاخذ به, وهذا الذي ذكرنا إذا لم يكن الفعل حالة البقاء مطلوبا منه فأما إذا كان مطلوبا منه فلا بد له من القدرة; لأن طلب الفعل بدون القدرة لا يجوز, ألا ترى أن المنظور إليه اشتراط القدرة حالة الفعل فيجب الفعل بحسب القدرة في تلك الحالة فإنه إذا وجبت الصلاة عليه في حالة الصحة قائما يقضيها في حالة المرض مضطجعا ويخرج به عن العهدة ولو وجبت عليه في حالة المرض مضطجعا يقضيها في حالة الصحة قائما لا مضطجعا فلو لم يشترط القدرة حالة البقاء ولم يكن حال البقاء منظورا إليها في ذلك لكان الجواب على العكس في المسألتين.
وبعض الحذاق من تلامذة شيخنا كان يقول لا فرق في اشتراط القدرة بين الأداء والقضاء; لأن الأداء إذا كان مطلوبا بنفسه يشترط فيه القدرة التي هي سلامة الآلات حقيقة وإن كان مطلوبا لغيره يشترط فيه نفس التوهم لا غير على ما مر فكذا القضاء إذا كان الفعل منه مقصودا يشترط فيه القدرة وإن لم يكن الفعل فيه مقصودا يشترط فيه التوهم أيضا ففي النفس الأخير إنما يبقى عليه وجوب قضاء الصلوات المتكثرة والصيامات المتعددة بناء على توهم الامتداد ليظهر أثره في المؤاخذة كما إن وجوب الأداء يثبت في الجزء الأخير من الوقت بناء على التوهم ليظهر أثره في القضاء وكان يخرج الفروع ويقول إنما يبقى الصوم والصلاة في الذمة بعد فوات القدرة لتوهم حدوث القدرة بعد ذلك لا; لأن القدرة لم تشترط للبقاء. وكذلك ما ثبت بقدرة ميسرة يبقى بعد فوات القدرة كالكفارة بالمال تبقى بعد فوات المال بناء على توهم حدوث القدرة, ألا ترى أنه لو ملك بعد فوات المال وانتقال الحكم إلى الصوم ما يؤدي به الكفارة يجب عليه الكفارة بالمال ولو كان(1/295)
وأما الكامل من هذا القسم فالقدرة الميسرة وهذه زائدة على الأولى بدرجة كرامة من الله تعالى وفرق ما بين الأمرين أن القدرة الأولى للتمكن من الفعل فلم يتغير بها الواجب فبقي شرطا محضا فلم يشترط دوامها لبقاء الواجب وهذه لما كانت ميسرة غيرت صفة الواجب فجعلته سمحا سهلا لينا فيشترط
ـــــــ
بقاء القدرة شرطا لبقائه ينبغي أن لا يجب الكفارة بالمال بعد سقوطها بفوات المال كما لو كفر بالصوم ثم ملك المال وإنما يسقط الزكاة بهلاك المال لتعين المحل حتى لو سرق مال الزكاة أو صار ضمارا سقط عنه الزكاة لفوات القدرة ولو وجده بعد سنين لا تجب عليه زكاة السنين الماضية ولكنه يجب عليه أداء الزكاة التي كانت عليه وكذا العشر والخراج; لأن كل واحد متعلق بنماء متعين فبهلاكه لم يبق التوهم وكان يقول لا أجد فرقا بين الصلاة ووجوب الكفارة في أنه تعتبر القدرة عند الفعل ويكفي قبله التوهم. ويدل على اشتراط القدرة في القضاء ما مر في باب الأداء والقضاء أن الأداء إنما يفوت مضمونا إذا كان قادرا على المثل حتى لو عجز عن المثل سقط كما في سقوط فضل الوقت وغصب المنافع وإتلاف ملك النكاح فلو لم يكن القدرة شرطا في القضاء لما سقط بالعجز إلا أن ما وجب بالقدرة الممكنة يبقى بعد فوات تلك القدرة لتوهم القدرة بعد ذلك فإن تحقق التوهم وجب الفعل وإلا ظهر أثره في المؤاخذة في الدار الآخرة. وذكر في الأسرار في مسألة التفريط أن الأصل أن القدرة المشروطة لابتداء وجوب الأداء يشترط لبقاء وجود الأداء; لأنها شرط الأداء فإن الله تعالى ما كلف أداء ما ليس في القدرة وأسقط بالحرج كثيرا من حقوقه والأداء حقيقته وقت الفعل فيشترط قيام تلك القدرة المشروطة للأداء وقت الفعل أيضا, ألا ترى أنا نشترط القدرة على التوضؤ بالماء حين المباشرة وقيام القدرة على أداء الصلاة قائما حين الأداء لا حين الوجوب؟
قوله: "وأما الكامل من هذا القسم" أي من الشرط الذي بينا أن الواجب يتوقف عليه ويزداد حسنا باشتراطه القدرة الميسرة, وهذه زائدة على الأولى وهي الممكنة بدرجة; لأن بها يثبت الإمكان ثم اليسر, وإنما شرطت هذه القدرة في أكثر الواجبات المالية ولم يشترط في البدنية; لأن أداءها أشق على النفس من العبادات البدنية; لأن المال شقيق الروح محبوب النفس في حق العامة والمفارقة عن المحبوب بالاختيار أمر شاق إليه أشار أبو اليسر, وفرق ما بين الأمرين أي القدرتين أن الأولى لما شرطت للتمكن من الفعل لم يتغير بها صفة الواجب إذ لا يمكن إثباته بدونها فكانت شرطا محضا ليس فيها معنى العلة بوجه والشرط المحض لا يشترط دوامه لبقاء المشروط كالطهارة شرط لجواز الصلاة ولا يشترط دوامها لبقاء الجواز وكالشهود في باب النكاح كما ذكرنا, وهذه أي القدرة الميسرة,(1/296)
بقاء هذه القدرة لبقاء الواجب لا لمعنى أنها شرط لكن لمعنى تبدل صفة الواجب بها فإذا انقطعت هذه القدرة بطل ذلك الوصف فيبطل الحق; لأنه غير مشروع بدون ذلك الوصف ولهذا قلنا الزكاة تسقط بهلاك النصاب لأن الشرع علق الوجوب بقدرة ميسرة ألا ترى أن القدرة على الأداء تحصل بمال مطلق.
ـــــــ
غيرت صفة الواجب صفة لموصوف دل عليه ميسرة. وقوله شرط جواب لما وفي بعض النسخ فشرط بالفاء فعلى هذا يكون غيرت جواب لما, وقوله فجعلته تفسيرا للتغيير, وقوله سمحا سهلا لينا ألفاظ مترادفة, والتقدير وهذه القدرة لما كانت قدرة ميسرة مغيرة صفة الواجب من مجرد الإمكان إلى صفة السهولة شرط بقاؤها لبقاء الواجب., وليس معنى التغيير أنه كان واجبا أولا بقدرة ممكنة بصفة العسر ثم تغير باشتراط هذه القدرة إلى وصف اليسر بل معناه أنه لو كان واجبا بقدرة ممكنة لكان جائزا فلما توقف الوجوب على هذه القدرة دون الممكنة صار كأن الواجب تغير من العسر إلى اليسر بواسطتها فكانت مغيرة وصارت شرطا في معنى العلة فيشترط دوامها باعتبار معنى العلة لا باعتبار أنها شرط, ولا يقال بقاء الحكم يستغني عن بقاء العلة أيضا كاستغناء المشروط عن بقاء الشرط فيجب أن لا يشترط دوامها أيضا; لأنا نقول ذلك إذا أمكن البقاء بدون العلة كالرمل في الحج فأما إذا لم يكن فبقاء العلة شرط وههنا مما لا يمكن; لأن اليسر لا يبقى بدونها والواجب لا يبقى بدون هذا الوصف, لمعنى تبدل صفة الواجب أي من العسر إلى اليسر, ذلك الوصف أي اليسر, فيبطل الحق أي الواجب; لأنه متى وجب بصفة لا تبقى إلا بتلك الصفة.
قوله: "ولهذا" أي ولاشتراط بقاء هذه القدرة لبقاء الواجب الذي تعلق بها قلنا الزكاة تسقط بهلاك المال عندنا وكذا العشر والخراج; لأن الشرع علق وجوبه أي وجوب هذا الواجب بقدرة ميسرة, وقال الشافعي رحمه الله إذا تمكن من الأداء ولم يؤد ضمن; لأن الوجوب تقرر عليه بالتمكن من الأداء ثم بهلاك المال عجز عن الأداء لعدم ما يؤدي به ومن تقرر عليه الوجوب لم يبرأ بالعجز عن الأداء فبقي عليه إلى الآخرة كما في ديون العباد وصدقة الفطر والحج, ولأن الواجب جزء من النصاب فلما لم يؤد حتى ذهب المال بعد تمكنه منه صار مفوتا للحق عن محله فيضمن كمن لم يصل حتى ذهب الوقت, ولنا أن الحق المستحق إذا وجب بوصف لا يبقى إلا كذلك; لأن الباقي عين الواجب ابتداء لا غيره كالملك إذا ثبت مبيعا يبقى كذلك وإن ثبت هبة تبقى كذلك وكذلك ما في الذمة من صوم أو صلاة أو مال وهذا الواجب وجب بعد نماء المال حقيقة أو تقديرا فلو بقي بعد هلاك ذلك المال الذي هو نماء لا تقلب غرامة يأتي على أصل ماله.(1/297)
ثم شرط النماء في المال ليكون المؤدى جزءا منه فيكون في غاية التيسير فلو قلنا ببقاء الواجب بدون النصاب لانقلب غرامة محضة فيتبدل الواجب فلذلك سقط بهلاك المال ولا يلزم أن النصاب شرط لابتداء الوجوب ولا يشترط لبقائه
ـــــــ
"فإن قيل" الباقي عندي غير الواجب ابتداء بل هو مثله ضمنه بالتفويت عن وقته وهو أول أوقات الإمكان كتفويت الصلاة والصوم عن الوقت أو بالمنع عن الفقير بعد تعين مقدار الواجب محلا للصرف إلى الفقير كمنع الرهن عن المرتهن.
"قلنا" الزكاة ليست بموقتة فلا يتصور تفويتها عن الوقت وكذا المنع لا يوجب الضمان إلا بتحقق يد الغاصب على المال بأن أبطل على صاحب الحق حقه من ملك كما في منع الوديعة عن المالك أو يد متقومة كما في منع الرهن عن المرتهن ولا تصور ليد الغاصب فيما نحن فيه على المال; لأنه حق صاحب المال ملكا ويدا وإنما حق الفقير في أن تعين محلا للصرف إليه وبالمنع لا تبطل تلك المحلية فلا يوجب الضمان كمنع المشتري الدار عن الشفيع حتى صار بحرا ومنع المولى العبد المديون عن البيع أو العبد الجاني عن أولياء الجناية من غير اختيار الأرش حتى هلك لا يوجب الضمان ولا على ما في ذمته من فعل التسليم; لأن الغصب لا يتصور على ما في الذمة, ولأنه بالمنع إنما يضمن إذا لم يكن عن ولاية وله ولاية المنع ما دام يتحرى من هو أولى كالإمام حتى قال العراقيون من مشايخنا إذا طلب الساعي فامتنع من الأداء إليه حتى هلك المال ضمن وهكذا ذكره الكرخي في مختصره; لأن الساعي متعين للأخذ فيلزمه الأداء عند طلبه فبالامتناع يصير مفوتا. ومشايخنا يقولون لا يصير ضامنا, وكذا ذكره أبو سهل الزجاجي وأبو طاهر الدباس1 وهو الأصح; لأنه ما فوت بهذا الحبس على أحد ملكا ولا يدا وله رأي في اختيار محل الأداء إن شاء من السائمة وإن شاء من غيرها فإنما حبس السائمة ليؤدي من محل آخر فلا يضمن كذا في الأسرار والمبسوط.
قوله: "علق وجوبه" أي وجوب هذا الجواب وهو الزكاة بقدرة ميسرة بدليلين, أحدهما أن المكنة الأصلية تحصل بملك الخمسة مثلا ومع ذلك لم يوجبها الشرع إلا بعد ملك المائتين ليكون الواجب قليلا من كثير, والثاني أن الوجوب تعلق بوصف النماء لئلا ينتقض به أصل المال وإنما يفوت به بعض النماء غير أن الشرع أقام المدة في النصاب المعد للنمو مقام حقيقته تيسيرا لما في التعليق بحقيقة النمو ضرب حرج فعرفنا أنها
ـــــــ
1 هو محمد بن محمد بن سفيان أبو طاهر الدباس كان إمام أهل الرأي بالعراق وكان من أهل السنة والجماعة.(1/298)
فإن كل جزء من الباقي يبقى بقسطه; لأن شرط النصاب لا يغير صفة الواجب ألا ترى أن تيسير أداء الخمسة من المائتين وتيسير أداء الدرهم من الأربعين سواء لا يختلف; لأنه ربع عشر بكل حال لكن الغناء وصف لا بد منه ليصير الموصوف به أهلا للإغناء إذ الإغناء من غير الغنى لا يتحقق كالتمليك من غير
ـــــــ
متعلقة بقدرة ميسرة, وإلى الوجه الثاني أشير في الكتاب وهو المعتمد, بمال مطلق أي عن صفة النماء, فيتبدل الواجب أي من اليسر إلى العسر فكان غير الأول فلا يثبت إلا بسبب آخر كصلاة المقيم لا يتغير إلى الركعتين إلا بمغير وهو السفر وكذا على العكس. قوله: "ولا يلزم" جواب السؤال وهو أن يقال: إن اشتراط النصاب في الابتداء للتيسير كاشتراط النماء; لأن المكنة الأصلية تثبت بدونه كما ذكرنا فوجب أن يشترط بقاؤه لبقاء الوجوب كما شرط لابتدائه ولو ملك بعض النصاب في الابتداء لا يجب به شيء من الزكاة فكذلك يجب أن لا يبقى ببقاء البعض شيء من الواجب وقد قلتم بخلافه, فقال لا نسلم أن اليسر في اشتراط النصاب بل اليسر في إيجاب القليل من الكثير وذلك ثابت فيما بقي من المال فإنه لم يجب عليه إلا أداء ربع عشر الباقي وهذا; لأن اليسر في الابتداء كان بإيجاب ربع العشر في كل جزء من النصاب ولم يكن يزداد يسر ما تعلق بجزء بانضمام جزء آخر إليه; لأنه تعلق به ربع العشر أيضا كما تعلق بذلك الجزء فكما لم يزدد اليسر بانضمام جزء آخر إليه لا ينتقض أيضا بهلاكه إلا أن كمال النصاب شرط في الابتداء ليصير أهلا للوجوب فإن أهل الوجوب هو الغني والشرع أكد هذا الشرط في باب الزكاة فاعتبر الغناء بالمال الذي جعل سببا لوجوب الزكاة لا بمال آخر ولا يحصل الغناء به لولا مال آخر إلا إذا كان نصابا كاملا فيشترط النصاب ليصير به غنيا أهلا للوجوب والغناء لا يثبت بمطلق المال بل يثبت بكثرة المال وذلك أمر لا يضبط لاختلافه بالأشخاص والأزمان والأماكن فتولى الشارع تقديره بذاته فكان النصاب شرطا لثبوت الأهلية لا لثبوت اليسر بل اليسر فيما دون النصاب أكثر منه في النصاب; لأن إيتاء درهم من أربعين درهما أيسر على رب المال من إيتاء خمسة من مائتي درهم كما أن إيتاء خمسة من المائتين أيسر من إيتاء ألف درهم من أربعين ألفا, وإذا ثبت أنه شرط الوجوب لا شرط اليسر لم يشترط بقاؤه لبقاء الوجوب فيما بقي من المال.
قوله: "ولكن الغناء وصف" جواب سؤال آخر يرد على هذا الجواب وهو أنه لما لم يحصل به اليسر وجب أن لا يشترط في الابتداء أيضا; لأن الزكاة لا يجب إلا بقدرة ميسرة فقال الغناء وصف لا بد منه إلى آخره.
قوله: "الإغناء من غير الغنى لا يتحقق". "فإن قيل" الإغناء الواجب تمليك ما(1/299)
المالك والغنى بكثرة المال وليس للكثرة حد تعرف به وأحوال الناس فيه شتى فقدر الشرع بحد واحد فصار ذلك شرطا للوجوب لما كان أمرا زائدا على الأهلية الأصلية وشرط الوجوب لا يشترط دوامه إذ الوجوب في واجب واحد لا يتكرر
ـــــــ
يدفع حاجة الفقير دون الإغناء الشرعي وتحققه لا يتوقف على ملك النصاب فكيف يصح قوله والإغناء من غير الغنى لا يتحقق. "قلنا" المراد به نفي صفة الحسن عن الإغناء أي الإغناء بصفة الحسن من غير الغنى لا يتحقق فلم يكن مأمورا به شرعا; لأنها وجبت لدفع حاجة الفقير لا لإحواج المؤدي, ويؤيده ما ذكر القاضي الإمام في التقويم ولما شرعت أي صدقة الفطر للأغنياء عن الفقير لم يكن الفقير أهلا لوجوبها فتصير مشروعة لإحواجه فهذا يشير إلى أن حسن الإغناء المأمور به متعلق بالغناء الشرعي دون أصله, ونص عليه شمس الأئمة أيضا فقال: وإنما يتحقق الإغناء بصفة الحسن من الغنى وإذا كان كذلك لم يكن حسنا عند عدم ما تعلق به حسنه فلم يجز أن يكون مأمورا به شرعا.
"فإن قيل" حسن الإغناء لا يتوقف على الغناء الشرعي أيضا فإن الله تعالى مدح أقواما على الإيثار مع مساس حاجتهم إلى ما آتوا بقوله جل ذكره: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] "قلنا" بناء الأحكام على الأمور الغالبة والغالب من حال البشر عدم الصبر على الشدة وإظهار الجذع والضجر عند إصابة المكروه قال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 19, 21] فقلنا لم يحسن الإغناء من غير الغنى لئلا يؤدي إلى الأمر المذموم, فأما من اختص بتوفيق من ربه وأوتي قوة في دينه حتى آثر مراد غيره على مراده وصبر على الشدائد والمكاره فحسن الإغناء منه لا يتوقف على الغنى الشرعي بل هو أحسن من الإغناء الصادر عن الغنى قال عليه السلام: "أفضل الصدقة جهد المقل" 1, إلا أن هذا لما كان نادرا لم يصلح لبناء الحكم فبني على الأول.
قوله: "لما كان أمرا زائدا على الأهلية الأصلية" يعني لما ثبت أن اشتراط النصاب لثبوت الأهلية وأصل الأهلية ثابت بالعقل والبلوغ كان هذا أمرا زائدا على تلك الأهلية في هذه العبادة حتى صارت أهلية هذه العبادة بالعقل والبلوغ وملك النصاب كما أن القدرة الممكنة من الفعل في الصلاة أمر زائد على الأهلية الأصلية وإذا كان كذلك كان اشتراطه للوجوب لا للتيسير كاشتراط الأهلية الأصلية واشتراط القدرة في الصلاة فلم يشترط دوامه إلى آخره.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الوتر حديث رقم 1449 والإمام أحمد في المسند 3/412.(1/300)
فأما قيام المال بصفة النماء فميسر للأداء فتغير به صفة الواجب فشرطنا دوامه.
وهذا بخلاف استهلاك النصاب فإنه لا يسقط الحق وقد صار غرما; لأن النصاب صار في حق الواجب حقا لصاحب الحق فيصير المستهلك متعديا على صاحب الحق فعد قائما في حق صاحب الحق فصار الواجب على هذا التقدير غير متبدل, ولهذا قلنا: إن الموسر إذا حنث في اليمين ثم أعسر وذهب ماله أنه
ـــــــ
ولا يقال لما كان النصاب شرط الأهلية لا شرط اليسر ينبغي أن لا يسقط الزكاة بهلاكه; لأنا نقول سقوط الزكاة لفوات النماء الذي تعلق اليسر به لا لفوات النصاب, ألا ترى أنه إذا هلك بعضه يبقى بقسطه الباقي ولو كان النصاب شرط اليسر لسقطت الزكاة بفوات جزء من النصاب لانتفاء الكل بفوات جزئه.
قوله: "وهذا" أي هلاك النصاب يخالف استهلاكه بأن أنفقه رب المال في حاجة نفسه أو أتلفه مجانة بأن ألقاه في البحر مثلا فإنه لا يسقط الحق وإن فات النماء والملك كما في الهلاك; لأن النصاب صار في حق الواجب حقا لصاحب الحق وهو الفقير, بيانه أن النصاب وإن كان في ملك رب المال وفي يده حتى جاز بيعه وسائر تصرفاته فيه عندنا ولكنه في حق الواجب صار حقا للفقير من حيث إنه صار رصدا لقضاء حقه منه إذ الواجب جزء من النصاب لا مطلق المال في الذمة بدليل أنه لو وهب النصاب من الفقير لا ينوي الزكاة أجزأه عن الزكاة, ولو وهب مالا آخر له لم يجزه عنها, وكذلك لو هلك المال قبل التمكن من الأداء لا يجب عليه شيء ولو كان الواجب مالا مطلقا في الذمة لكان هلاك النصاب وبقاؤه سواء. وإذا ثبت أن الحق متعلق بالعين كان المستهلك جانيا على محل الحق بالإتلاف فيجعل المحل قائما زجرا عليه ونظرا لصاحب الحق إذ لو لم يجعل قائما أدى إلى فوات الحق; لأن كل من وجب عليه الزكاة يصرف مال الزكاة إلى حاجته فلا يصل الفقير إلى حقه وإذا جعل قائما تقديرا يبقى الواجب ببقائه كما يثبت ابتداء بالنماء تقديرا, وهذا كالمولى إذا أعتق العبد الجاني أو قتله من غير أن يعلم بالجناية يضمن القيمة لأولياء الجناية; لأنه جنى على حقهم بإتلاف محله ولو فرط في تسليم العبد حتى هلك لا يضمن شيئا; لأن التفريط لا يصلح سببا للضمان فكذا هذا, ولأنه خوطب بأداء العين إلى الفقير فإذا أقدم على الاستهلاك فقد قصد إسقاط الحق الواجب عن نفسه فلا يقدر عليه فيجعل العين كالقائم ردا لقصده, فإذا هلك بآفة سماوية فلا صنع من جهته فجاز أن يسقط الواجب.
ونظيره الصائم إذا سافر لم يحل له الفطر; لأن الصوم واجب عليه فلم يسقط باختياره(1/301)
يكفر بالصوم; لأن الوجوب متعلق بالقدرة الميسرة الدليل عليه أن الشرع خيره عند قيام القدرة بالمال والتخيير تيسير
ـــــــ
وقصده ولو مرض أبيح له; لأنه آفة سماوية فكذلك ههنا, ولأن السعي لا يأخذ ذلك الواجب بل يأخذ واجبا آخر بسببه; لأن سبب الوجوب قد تحقق وهو الاستهلاك وسبب الوجوب إذا تحقق أمكن تحقيق الوجوب, ولأن القدرة الميسرة شرط لبقاء الواجب نظرا لمن يجب عليه والمفوت لها لا يستحق النظر كذا في الأسرار وطريقة الإمام البرغري وغيرهما.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولاشتراط بقاء القدرة الميسرة لبقاء الواجب الذي تعلق بها قلنا كذا, والتخيير تيسير; لأنه إذا ثبت له الخيار شرعا ترفق بما هو الأيسر عليه كالمسافر إذا خير بين الصوم والفطر ولو لم يكن مخيرا وكان الواجب شيئا عينا بدون اختياره كان أشق عليه كالمقيم وجب عليه الصوم عينا, ولا يلزم عليه صدقة الفطر قد خير فيها بين نصف صاع من بر وبين صاع من شعير أو تمر أو غير ذلك ولم يفد التخيير التيسير حتى قلتم إنها واجبة بقدرة ممكنة; لأنا نقول ذلك ليس بتخيير معنى فلا يفيد التيسير, وتحقيقه أن المقصود من التخيير قد يكون تأكيدا لواجب وقد يكون تيسيرا لأمر على المكلف., فنظير الأول قوله تعالى: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66], أي لا بد أن يصدر واحد منهما منكم, وقولك لولدك حين غضبت عليه إما أن تقرأ الليلة ربع القرآن أو تقرأ الكتاب الفلاني أو تكتب كذا جزء من العلم ثم تنام وإلا لأنتقمن منك فالمقصود منه تأكيد ما أوجبت عليه من السهر في التعب لا التيسير عليه ومعناه لا بد لك من أن تفعل أحد هذه الأشياء ألبتة وأن لا يفوت عنك السهر لا محالة, ونظير الثاني قولك لغلامك اشتر بهذا الدرهم لحما أو خبزا أو فاكهة فالمقصود منه التيسير ومعناه اختر منها ما تيسر عليك ثم يعرف المقصود في التخييرات الشرعية بكون تلك الأشياء التي خير المكلف فيها متماثلة في المعنى وغير متماثلة فيه; لأنها إذا كانت متماثلة في المعنى فالتخيير يقتصر على الصورة ولا عبرة بالصور فيفيد تأكيد الواجب وإن كانت مخالفة في المعاني غير متماثلة فيها كما في الصور "فح" يتعدى أثر التخيير إلى المعنى فيفيد التيسر لا محالة, فصدقة الفطر من القبيل الأول; لأن الواجب فيها مقدار مالية نصف صاع من بر وقيمة صاع من شعير أو تمر تساويه عندهم وكذا المقصود دفع حاجة الفقير في هذا اليوم والكل فيه سواء فلا يفيد التخيير التيسير قصدا بل يفيد التأكيد ويصير معناه لا بد من أن يقع الأداء لا محالة إما بنصف صاع من بر أو غير ذلك مما يماثله في المالية., وكفارة اليمين من القبيل الثاني; لأن مالية تلك الأشياء مختلفة اختلافا ظاهرا(1/302)
ولأنه نقل إلى الصوم لقيام العجز عند أداء الصوم مع توهم القدرة فيما يستقبل, ولم يعتبر ما يعتبر في عدم سائر الأفعال وهو العدم في العمر كله لكنه اعتبر العدم الحالي, ألا ترى أنه قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} وتقدير العجز بالعمر يبطل أداء الصوم فعلم أنه أراد به العجز الحالي وكذلك في طعام
ـــــــ
فالتخيير فيها يقع على الصورة والمعنى فيفيد التيسير. واعلم أن ما ذكر أن التخيير يفيد التيسير إنما يستقيم على قول عامة الفقهاء وأكثر المتكلمين فإنهم قالوا بأن الأمر بأحد الأشياء يوجب واحدا منها غير عين وأن المأمور مخير في تعيين واحد منها فعلا فأما على قول المعتزلة فلا يستقيم; لأنهم قالوا بأن الكل واجب على طريق البدل بمنزلة فرض الكفاية فإنه واجب على الكل ويسقط بأداء البعض ولما كان الكل واجبا لا يفيد التخيير التيسير والمسألة طويلة مذكورة في عامة الكتب.
قوله: "ولأنه نقل" دليل آخر على أنها متعلقة بقدرة ميسرة, وذلك; لأنه لما نقل إلى الصوم بالعجز الحالي مع توهم القدرة فيما بعد ولم يعتبر العجز المستدام في العمر كما اعتبر في سائر الأفعال مثل قوله إن لم آت البصرة فعبدي حر أو قوله إن لم أطلقك فأنت طالق أو إن لم أكلم فلانا فعلي كذا وكما اعتبر في حق الشيخ الفاني حتى لو قدر بعد الفدية لا تجزيه تلك الفدية دل على تيسير الأمر على المكلف حيث لم يشترط أصل المكنة مع احتمال حدوثها في العمر ليبرأ عنهما بالصوم ولا يبقى تحت عهدة الوجوب إلى حدوث القدرة, ثم استدل على أن المعتبر العجز الحالي. بقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89], فإنه تعالى لما نقل الحكم إلى الصوم عند العجز ولو اعتبر العجز المستدام في العمر ولا يثبت ذلك إلا بآخر العمر لا يتحقق منه أداء الصوم علم أن المراد العجز الحالي.
وذكر في المبسوط ولو كان له مال غائب وهو لا يجد ما يكفر به أجزأه الصوم; لأن المانع قدرته على التكفير بالمال وذلك لا يحصل بالملك بدون اليد إلا أن يكون في ماله الغائب عبد "فح" لا يجزيه التكفير بالصوم; لأنه متمكن من التكفير بالعتق, فإن نفوذ العتق باعتبار الملك دون اليد فلما لم يشترط الانتظار إلى وصول المال فلأن لا يشترط الانتظار إلى حصوله أولى, وكذلك في طعام الظهار يعني كما أن المعتبر العجز الحالي فيما ذكرنا فكذلك هو المعتبر في جميع الكفارات في نقل الحكم عن واجب إلى ما بعده مثل كفارة الظهار والصوم والقتل فيعتبر في جميعها العجز الحالي في نقل الحكم عن الرقبة إلى الصوم. وكذلك في النقل عن الصوم إلى الإطعام في كفارة الظهار والصوم حتى لو مرض(1/303)
الظهار وسائر الكفارات فثبت أن القدرة ميسرة فكانت من قبيل الزكاة إلا أن المال ههنا غير عين فأي مال أصابه من بعد دامت به القدرة ولهذا ساوى الاستهلاك الهلاك ههنا; لأن الحق لما كان مطلقا عن الوقت ولم يكن متعينا لم يكن الاستهلاك تعديا وصارت هذه القدرة على هذا التقدير نظير استطاعة
ـــــــ
أياما فكفر بالإطعام جاز وإن قدر على الصوم بعد فثبت أن القدرة المشروطة فيها ميسرة فكانت أي الكفارات من قبيل الزكاة, وإنما خص الطعام بالذكر مع أن الحكم في الصوم كذلك; لأنه آخر ما ينقل إليه في كفارة الظهار كالصوم في كفارة اليمين. ولما ذكر الشيخ رحمه الله أن الكفارة من قبيل الزكاة وقد فارقتها, في أن الواجب فيها يعود بعد هلاك المال بإصابة مال آخر قبل الأداء ولا يعود في الزكاة وهذا يدل على أنها دون الزكاة, وفي أن الواجب بالاستهلاك فيها ينتقل إلى الصوم كما ينتقل بالهلاك وفي الزكاة خالف الاستهلاك الهلاك كما قررنا وهذا يشير إلى أنها فوق الزكاة تعرض للجواب عن الأول بقوله: إلا أن المال ههنا غير عين يعني الواجب غير متعلق بهذا المال قبل الأداء والقدرة الميسرة تثبت بملك المال ولا تختص بمال دون آخر; لأن المال إنما اعتبر ههنا لكونه صالحا للتقرب به إلى الله تعالى فيحصل به الثواب ليصير مقابلا بالأثم الذي عليه ولهذا لم يشترط فيه النماء فكان المال الموجود وقت الحنث والمستفاد بعده فيه سواء بخلاف الزكاة; لأنها متعلقة بالعين فلا تبقى القدرة بهلاك العين على ما مر من بعد أي من بعد الحنث أو من بعد الهلاك, دامت أي ثبتت. وعن الثاني بقوله ولهذا أي ولكون المال غير عين ساوى الاستهلاك الهلاك في الكفارات حتى إن من وجب عليه التكفير بالمال إذا أتلف ماله جاز له التكفير بالصوم كما إذا هلك بغير صنع منه بخلاف الزكاة حيث فارق الاستهلاك الهلاك كما ذكرنا.
وذلك; لأن بقاء الواجب بعد فوات القدرة إنما يكون بكونه موقتا كالصلاة فإنها لما شرعت موقتة كان التأخير عن الوقت جناية على نفس الحق بالتفويت أو بالتعدي على محل الواجب بأن كان متعلقا بمحل عين كالزكاة وههنا الواجب لما لم يكن موقتا ليعد تفويته عن الوقت جناية ولم يكن المال متعينا أيضا ليصير استهلاكه تعديا كان الاستهلاك كالهلاك ضرورة إليه أشير في طريقة الإمام البرغري رحمه الله.
قوله: "وصارت هذه القدرة" أي القدرة المالية في الكفارة, على هذا التقدير أي على تقدير أنها تدوم بأي مال أصابه نطير الاستطاعة التي لا تسبق الفعل من حيث إن وجودها يعتبر حالة الأداء لا قبله ولا بعده كالاستطاعة لا يتقدم الفعل ولا يتأخر عنه حتى(1/304)
الفعل التي لا تسبق الفعل ولهذا قلنا بطل وجوب الزكاة بالدين; لأنه ينافي الغناء واليسر ولا يلزم أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة وهو ينافي اليسر لأنه قال في كتاب الأيمان رجل له ألف درهم وعليه دين أكثر من ألف فكفر بالصوم بعد ما يقضي دينه بماله قال يجزئه ولم يذكر أنه إذا لم يصرف إلى
ـــــــ
لو كان موسرا وقت الحنث معسرا وقت الأداء يجزيه التكفير بالصوم ولو كان على العكس لا يجزيه. قوله: "ولهذا قلنا" أي ولما ذكرنا أن الزكاة تجب بقدرة ميسرة وأن من شرط وجوبها الغناء قلنا بطل وجوب الزكاة بالدين أي بالدين الذي اقترن بوجوب الزكاة لكن إذا لحقه دين بعد وجوب الزكاة فذلك لا يسقط الزكاة كذا في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله; لأن ما عرف مانعا لا يلزم أن يكون رافعا; لأنه أي; لأن الدين ينافي الغنى واليسر; لأن الغنى إنما يحصل بما يفضل عن حاجته وهذا المال مشغول بالحاجة الأصلية إذ الحاجة إلى قضاء الدين أصلية فلا يحصل الغناء بملك قدر الدين ولهذا حل له أخذ الصدقة وهي لا تحل للغني, وكذلك اليسر فيما إذا كان للمؤدي فضل مال غير مشغول بحاجته ونعني بمشغولية المال بالحاجة أنه متعين لقضاء الدين; لأن تفريغ الذمة عن الدين واجب ولا يحصل ذلك إلا بهذا المال فكان كالمصروف إلى الدين كالماء المعد للعطش, وإنما أورد هذه المسألة في هذا الموضع ليبتني عليها المسألة التي تليها ويبين الفرق بينهما.
قوله: "لأنه قال" أي; لأن محمدا والإضمار من غير ذكر جائز عند الشهرة وعدم الاشتباه كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] والمذكور في أصول شمس الأئمة; لأن المذكور في كتاب الأيمان قوله: "ولم يذكر" أي محمد أنه إذا كفر بالصوم قبل صرف الألف إلى الدين ما جوابه, واختلف المشايخ المتأخرون فيه فمنهم من قال يجزيه وهو الأصح لما أشار إليه في الكتاب في قوله: ألا ترى أن الصدقة تحل لهذا وفي هذا التعليل لا فرق بين ما قبل قضاء الدين وبعده وهذا; لأن المال الذي في يده مستحق بدينه فيجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم كالمسافر إذا كان معه ماء وهو يخالف العطش يجوز له التيمم; لأن الماء مستحق بعطشه فيجعل كالمعدوم في حق التيمم.
وقال بعضهم لا يجزيه استدلالا بالتقييد الذي ذكره بقوله بعدما يقضي دينه, والتقييد في الرواية يدل على انتفاء ما عداه وعلى هذا يحتاج إلى الفرق. والحاصل أن في الكتاب ما يدل على القولين فالتعليل بقوله: إن الصدقة تحل له, يدل على أن الصوم يجزيه في الحالين والتقييد يدل على أنه لا يجزيه قبل قضاء الدين فلهذا اختلفوا.(1/305)
دينه ما جوابه فقال بعض مشايخنا يجزئه التكفير بالصوم لما قلنا من فوات صفة اليسر به فيجعل المال كالمعدوم, وقال بعضهم: بل يجب بالمال ولا يجزئه الصوم بخلاف الزكاة, والفرق أن الزكاة وجبت بصفة اليسر وبشرط القدرة ولمعنى الإغناء بقول النبي صلى الله عليه وسلم أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم
ـــــــ
قوله: "وجبت بصفة اليسر"; لأن مبنى الزكاة في الشرع على اليسر والسهولة ولهذا وجب القليل من الكثير ووجبت في النماء لا في أصل المال تيسيرا على أرباب الأموال ولهذا شرط لتكرار الواجب تكرار الحول كذا في أصول الفقه لبعض المشايخ, وشرط القدرة يعني قدرة توجب هذا اليسر, ولمعنى الإغناء بقوله عليه السلام: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم" نص على معنى الإغناء, وهذا الحديث ورد في صدقة الفطر فإن ابن عمر رضي الله عنهما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يؤدوا صدقة الفطر قبل أن يخرجوا إلى المصلى, وقال: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم" 1 ولكن الحكم يثبت في الزكاة بطريق الدلالة; لأن الإغناء لما وجب في صدقة الفطر لسد خلة الفقير مع قصور صفة الغناء فيها لقصور النصاب فلأن يجب في الزكاة لهذا المعنى مع كمال صفة الغناء فيها كان أولى. وقوله عليه السلام في مثل هذا اليوم متعلق بالإغناء لا بالمسألة يعني أغنوهم في مثل هذا اليوم عن المسألة, ثم قيل المثل زائد كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11], والصواب أنه ليس كذلك وفائدته تعميم الحكم إذ لو لم يذكر لاقتصر الحكم على ذلك اليوم المعين, وإنما أدخل اللام في قوله ولمعنى الإغناء; لأن الزكاة والكفارة في صفة اليسر وشرط القدرة تشتركان فأما معنى الإغناء فمختص بالزكاة فلهذا أفرده باللام.
قوله ولقوله عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" 2 ذكر في مجازات الآثار النبوية أن هذا القول مجاز; لأن المراد بذلك أن المصدق إنما يجب عليه الصدقة إذا كانت له قوة من غنى والظهر ههنا كناية عن القوة فكان المال للغنى بمنزلة الظهر الذي عليه اعتماده وإليه استناده ولذلك يقال فلان ظهر لفلان إذا كان يتقوى به ويلجأ في الحوادث إليه, وذكر في المغرب وأما لا صدقة إلا عن ظهر غنى أي صادرة عن غنى فالظهر فيه مقحم كما في ظهر القلب وظهر الغيب, ووجه التمسك به أنه عليه السلام شرط الغناء
ـــــــ
1 ذكره الزيلي في نصب الراية 2/432.
2 أخرجه مسلم في الزكاة حديث رقم 1034 الإمام أحمد في المسند 2/230 وأبو داود في الزكاة برقم 1676.(1/306)
وبقوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" فهذا الإغناء وجب عبادة شكرا لنعمة الغنى فشرط الكمال في سببه ليستحق شكره فيكون الواجب شطرا من الكامل, والدين يسقط الكمال ولا يعدم أصله.
ولهذا حلت له الصدقة فلم يجب عليه الإغناء ولهذا لا يتأدى الزكاة إلا
ـــــــ
لوجوب الصدقة; لأن المراد من قوله لا صدقة ليس نفي الوجود إذ هي توجد وتصح بدون الغناء فيحمل على نفي الوجوب; لأن الوجوب أشد مناسبة للوجود من غيره وليس اشتراطه لثبوت اليسر في الواجب; لأنه لا يحصل به بل لثبوت الأهلية على ما مر ولا احتياج لثبوت الأهلية إليه إلا أن يكون المقصود غناء الفقير فتبين بهذا أنها وجبت لمعنى الإغناء, ولما ثبت أنها وجبت لمعنى إغناء الفقير إنما يجب شكرا لنعمة الغناء; لأن المال نعمة عظيمة به تعلق بقاء الأبدان وبه نيط مقاصد الدنيا والآخرة وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" 1, فوجب أن لا يخلو عن شكر يجب لله تعالى على سبيل العبادة كنعمة البدن ولم يجب في المال عبادة محضة سوى الزكاة فتعينت لشكر نعمة المال.
ثم الشكر يستدعي سببا كاملا ليؤثر في إيجاب الشكر من كل وجه; إذ لو لم يكن كاملا كان ملحقا بالعدم من وجه والعدم لا يؤثر فيمتنع وجوب الشكر من ذلك الوجه, والدين يسقط الكمال أي عن الغنى قال شمس الأئمة: وحاجته إلى قضاء الدين بالمال تعدم تمام الغنى بملكه; لأنه يوجب استحقاق المال عليه والمستحق بجهة كالمصروف إلى تلك الجهة بمنزلة الماء المعد للعطش, ولا يعدم أصله أي أصل الغنى; لأن المال باق على ملكه ولهذا جازت تصرفاته فيه ولما زال وصف الكمال عنه لم يجب به الإغناء; لأنه متعلق بالغنى الكامل وقد عدم.
قوله: "شطرا من الكامل" أي بعضا منه وشطر الشيء نصفه إلا أنه يستعمل في البعض توسعا, ومنه قوله عليه السلام في الحائض: "تقعد شطر عمرها", سمى البعض شطرا توسعا في الكلام واستكثارا للقليل ومثله في التوسع: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها نصف العلم" , كذا في المغرب.
قوله: "ولهذا حلت" أي ولانتفاء الغنى بانتفاء الكمال عنه حلت للمديون الصدقة أي الزكاة وهي لا تحل لغني إذا لم يكن عاملا وابن السبيل.
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/197.(1/307)
بعين متقومة. وأما الكفارة فلا تستغني عن شرط القدرة وعن قيام صفة اليسر في تلك القدرة; لأنها لم تشرع للإغناء, ألا ترى أنها شرعت ساترة أو زاجرة لا أمرا أصليا للفقير إغناء, وألا ترى أنه يتأدى بالتحرير وبالصوم ولا إغناء فيهما لكن المقصود به نيل الثواب ليقابل بموجب الجناية وما يقع به كفاية الفقير في باب الكفارة يصلح سببا للثواب ولذلك يتأدى بالإباحة ولا إغناء يحصل بها فإذا لم يكن الإغناء مقصودا لم يشترط صفة الغنى في المخاطب بها بل القدرة واليسر بها شرط وذلك لا ينعدم بالدين ويتبين أنها لم تجب شكرا للغنى بل
ـــــــ
قوله: "ولهذا لا يتأدى الزكاة" أي ولأن الزكاة وجبت لمعنى الإغناء لا يتأدى إلا بعين متقومة أي بتمليك عين متقومة حتى لو أسكن الفقير داره سنة بنية الزكاة لا يجزيه; لأن المنفعة ليست بعين متقومة, وكذا لو أباحه طعاما بنية الزكاة فأكله الفقير لا يجزيه عن الزكاة; لأنه أكل مال الغير وبه لا يحصل الغنى, قال أبو اليسر الزكاة شرعت لإغناء الفقير لقوله عليه السلام: "أغنوهم" والواجب فيها هو الإغناء الكامل وهو تمليك مال محترم متقوم بلا نقصان في نفسه والإغناء الكامل لا يجب إلا على الغني الكامل كما في التمليك بغير عوض لا يحصل إلا من المالك.
قوله: "ساترة أو زاجرة" أي ساترة بعد الجناية زاجرة قبلها وذلك; لأن الكفارة تضمنت معنى العبادة والعقوبة فباعتبار معنى العبادة هي ساترة للذنب أي ماحية له قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وقال عليه السلام: "أتبع السيئة الحسنة تمحها" 1 أو هي ساترة لمرتكب الذنب; لأنه لما مزق لباس تقواه بارتكابه حتى صار عريانا سترته الكفارة وصارت ترقيعا لما مزق, وباعتبار معنى العقوبة هي زاجرة كسائر العقوبات.
قوله: "ولذلك" أي ولأنها لم تشرع للإغناء تتأدى بالإباحة, في المخاطب بها أي في كونه مخاطبا بأداء الكفارة, بل شرطت القدرة واليسر بها أي شرطت القدرة الميسرة., وفي بعض النسخ بل القدرة واليسر بها أي تعلقت أو وجبت بالقدرة الميسرة, وذلك بالدين أي اليسر لا يفوت به بل تيسير الأداء قائم بملك المال مع قيام الدين عليه; لأن اليسر فيها ثبت بالتخيير أو اعتبار العجز الحالي كما ذكرنا وذلك لا يفوت بالدين, والانعدام وإن كان من الألفاظ المحدثة فإن أهل اللغة لم يجوزوا عدمته فانعدم; لأن عدمته
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البر والصلة برقم 1987 والإمام أحمد في المسند 5/129.(1/308)
جزاء للفعل فلم يشترط كمال صفة الغنى إنما شرط أدنى ما يصلح لطلب الثواب وأصل المال كاف لذلك وعلى هذا الأصل يخرج سقوط العشر بهلاك الخارج; لأنه وجب بشرط القدرة الميسرة; لأن القدرة على أداء العشر يستغني عن قيام تسعة الأعشار, لكنه شرط ذلك لليسر ولم يجب إلا بأرض نامية بالخارج فشرط قيامه لبقاء صفة اليسر وكذلك الخراج يسقط إذا اصطلم الزرع آفة; لأنه إنما وجب بصفة اليسر, ألا ترى أنه لا يجب إلا بسلامة الخارج إلا أنه بطريق التقدير بالتمكن لكون الواجب من غير جنس الخارج وبدليل أن الخارج إذا قل
ـــــــ
بمعنى لم أجده وحقيقته تعود إلى قولك فات وليس له مطاوع فكذا لعدمت إذ ليس فيه إحداث فعل, وذكر في المفصل ولا يقع يعني انفعل إلا حيث يكون علاج وتأثير, ولهذا كان قولهم انعدم خطأ إلا أنه لما شاع استعماله في الكتب صار استعماله أولى من غيره; لأنه أقرب إلى الفهم, ولهذا قيل الخطأ المستعمل أولى من الصواب النادر.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن بقاء القدرة الميسرة شرط لبقاء ما تعلق بها يخرج مسألة العشر, يستغنى عن قيام تسعة الأعشار يعني القدرة على أداء ما هو عشر من الجملة لا تفتقر إلى تسعة الأعشار بالنظر إلى ذاته وإن افتقرت إليها من حيث هو عشر كما أن الجزء لا يفتقر إلى الكل نظرا إلى ذاته فأما من حيث هو جزء فلا يستغنى عنه, بأرض نامية بالخارج أي بالنماء الحقيقي. قوله: "وكذلك الخراج يسقط" أي كما أن العشر يسقط بهلاك الخارج فكذا الخراج يسقط, إذا اصطلم الزرع أي استأصله آفة; لأنه متعلق بنماء الأرض كالعشر حتى لو كانت الأرض سبخة لا يجب عليه شيء, وكذا لو لم يسلم الخارج لرب الأرض بأن زرعها ولم تخرج شيئا أو غرقت الأرض ثم نضب عنها الماء في وقت لا يقدر على زراعتها قبل مضي السنة لا يجب عليه الخراج فعرفنا أنه متعلق بقدرة ميسرة إلا أن النماء التقديري بأن كان متمكنا من الزراعة في وقتها كاف للوجوب; لأنه أمكن اعتبار النماء التقديري في الخراج لكون الواجب من خلاف جنس الخارج فلا يجعل تقصيره عذرا في إبطال حق الغزاة ويجعل النماء موجودا حكما لتقصيره حيث عطلها مع التمكن كما يجعل موجودا بعد حولان الحول في مال الزكاة بخلاف العشر; لأنه اسم إضافي فلا يمكن إيجابه إلا في النماء الحقيقي وبخلاف ما إذا أصاب الزرع آفة; لأنه لم يقصر حيث لم يعطلها إلا أنه أصيب فلا يغرم شيئا كي لا يؤدي إلى استيصاله حتى لو كان بعد الاصطلام مدة يمكن فيها استغلال الأرض إلى آخر السنة لا يسقط الخراج أيضا كذا سمعت من شيخي قدس الله روحه., قال شمس الأئمة رحمه الله ومما حمد من سير الأكاسرة أنهم إذا أصاب زرع بعض الرعية آفة غرموا له ما أنفق في الزراعة من بيت مالهم(1/309)
حط الخراج إلى نصف الخارج ولما كان كذلك سقط بهلاك الخارج حتى لا ينقلب غرما محضا وهذا مخالف للحج فإنه إذا وجب بملك الزاد والراحلة لم يسقط بفوتهما; لأنه وجب بشرط القدرة دون اليسر, ألا ترى أن الزاد والراحلة أدنى ما يقطع به السفر ولا يقع اليسر إلا بخدم ومراكب وأعوان وليس بشرط بالإجماع فلذلك لم يكن شرطا لدوام الواجب وكذلك لا يسقط صدقة الفطر
ـــــــ
وقالوا التاجر شريك في الخسران كما هو شريك في الربح فإن لم يعطه الإمام شيئا فلا أقل من أن لا يغرمه الخراج.
قوله: "وبدليل" عطف على قوله ألا ترى أنه لا يجب من حيث المعنى, وتقديره بدليل أنه لا يجب إلا بسلامة الخارج وبدليل كذا, حط إلى نصف الخارج يعني الخراج كله وإنما يجب إذا لم يكن أكثر من نصف الخارج فإذا كان أكثر من النصف حط إلى نصف الخارج ليسلم له النصف على كل حال, والتنصيف عين الأنصاف فلو كان الخارج مثلا يساوي دينارا والواجب دينار أن يجب نصف دينار.
قوله: "وهذا" أي جميع ما ذكرنا من الزكاة والعشر والخراج مخالف للحج الذي قاسها الشافعي عليه فإنه إذا وجب بملك الزاد والراحلة لم يسقط بفوتهما; لأنها أي عبادة الحج وجبت بشرط القدرة دون صفة اليسر فإنه تعالى شرط فيه نفس الاستطاعة بقوله عز اسمه: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97], ولا يتحقق إلا بالزاد والراحلة عادة فكان ملكهما أدنى ما يقطع به هذا السفر, فكان أي ملك الزاد والراحلة شرط الوجوب لا شرط اليسر فلا يشترط دوامه لبقاء الواجب, وذكر في الأسرار الحج لا يجب إلا بملك الزاد والراحلة ويبقى بدونه; لأنه شرط الوجوب; لأن أداء الحج بالوقوف والطواف ولا يتيسر بالزاد والراحلة, وإنما يتيسر بهما السفر وما لا يثبت به قدرة الأداء ولا التيسير لا يشترط للأداء فعلم أنه شرط الوجوب رحمة علينا.
قوله: "وكذلك" أي وكما أن الحج لا يسقط بعد الوجوب بفوات الزاد والراحلة لا يسقط صدقة الفطر بهلاك الرأس الذي هو السبب بأن كان له عبد وجب عليه صدقة الفطر بسببه فهلك, وذهاب المال الذي هو الشرط وإن لم تجب ابتداء بدونهما; لأن اشتراط الغناء للوجوب لا لتيسير الأداء لما ذكرنا أن الصدقة لا يستقيم إيجابها إلا على غنى كما لا يستقيم إلا على مؤمن; لأنها ما شرعت إلا لإغناء الفقير خصوصا هذه الصدقة لقوله عليه السلام: "أغنوهم", فلو كان الفقير أهلا لوجوبها عليه لصارت مشروعة لإحواجه, وذلك لا يجوز. وبيانه أنه إذا ملك ما يتمكن به من إغناء الفقير عن المسألة به متمكنا من الإغناء فلو(1/310)
بهلاك الرأس وذهاب الغنى; لأنها لم تجب بصفة اليسر بل بشرط القدرة وقيام صفة الأهلية بالغنى, ألا ترى أنها وجبت بسبب رأس الحر ولا يقع به الغنى ووجد الغنى بثياب البذلة ولا يقع بها اليسر; لأنها ليست بنامية فلم
ـــــــ
اعتبر هذا الغناء وأمر بالإغناء لعاد على موضوعه بالنقض; لأنه ح يصير محتاجا إلى المسألة وهذا لا يجوز; لأن دفع حاجة نفسه لئلا يحتاج إلى المسألة أولى من دفع حاجة الغير ألا ترى أنه لو كان له طعام أو شراب يحتاج إليه وغيره أيضا يحتاج إليه كان الصرف إلى نفسه أولى بل واجبا إن خاف الهلاك عليها ولهذا شرط الشافعي رحمه الله أن يملك من وجبت عليه صاعا فاضلا من قوته وقوت من يقوته يوم الفطر وليلته إلا أن عندنا ما دون النصاب له حكم العدم في الشرع حتى حل لمالكه الصدقة فشرطنا النصاب ليثبت حكم الوجود شرعا فيتحقق الإغناء, وما ذكر في بعض الشروح في جواب ما يقال المراد من الإغناء المذكور في الحديث الإغناء عن المسألة لا الإغناء الشرعي فلا يكون الغناء الشرعي شرطا لأهليته به إنه ثبت بالدليل أن المراد من الإغناء كفاية الفقير بقرينة قوله عن المسألة فبقي الغناء المشروط في جانب المؤدي مطلقا فينصرف إلى ما هو المتعارف في الشرع ضعيف جدا; لأن اشتراط الغناء في المؤدي ما ثبت نصا وإنما ثبت ضرورة وجوب الإغناء فإذا تبين أن المراد منه ليس الغناء الشرعي فأنى يثبت اشتراطه في المؤدى به فكان ما ذكرناه أولا أولى.
قوله: "بثياب البذلة والمهنة" البذلة بالكسرة ما يبتذل من الثياب والمهنة بالفتح الخدمة, وحكى أبو زيد1 والكسائي المهنة بالكسر وأنكره الأصمعي2 كذا في الصحاح, وفي المغرب المهنة بفتح الميم وكسرها الخدمة والابتذال فعلى هذا يكون البذلة والمهنة ترادفا, وقيل: أراد بثياب البذلة ثياب الجمال التي تلبس في الأعياد والمواسم وبالمهنة التي تلبس في غيرها, فإذا ملك من ثياب البذلة والمهنة ما يساوي نصابا فاضلا عن حاجته الأصلية يجب عليه صدقة الفطر وبهذا النوع من المال يحصل أصل التمكن والغناء فأما صفة اليسر فمتعلقة بالمال النامي ليكون الأداء من فضل المال وذلك ليس بشرط ههنا ألا ترى أنه لا يشترط حولان الحول المحقق للنماء بل إذا ملك نصابا ليلة
ـــــــ
1 هو أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس الأنصاري البصري 119 – 215 هـ انظر تاريخ بغداد 9/77 – 80.
2 هو عبد الملك بن قريب الباهلي المعروف بالأصمعي توفي سنة 216 انظر شذرات الذهب 2/36 – 37.(1/311)
يكن البقاء مفتقرا إلى دوام شرط الوجوب ولا يلزم أنها لا تجب عند قيام الدين وقت الوجوب; لأن الدين يعدم الغناء الذي هو شرط الوجوب وبه يقع أهلية الإغناء بخلاف الدين على العبد فإنه لا يمنع; لأنه لا يمنع قيام الغنى بمال آخر يفضل عن حاجته بالغا مائتي درهم وبخلاف زكاة التجارة فإنها تسقط بدين العبد الذي هو للتجارة; لأن الزكاة تقتضي صفة الغنى الكامل بعين النصاب لا بغيره والله أعلم هذا الذي ذكرنا هو في تقسيم صفة حكم الأمر وصفة المأمور به في
ـــــــ
الفطر تلزمه صدقة الفطر فعرفنا أن الغناء شرط التمكن لا شرط اليسر فلا يشترط دوامه لبقاء الواجب كذا ذكر شمس الأئمة والإمام البرغري في كتابيهما.
قوله ولا يلزم أي على قولنا صدقة الفطر لم يجب بصفة اليسر أن الدين القائم وقت الوجوب يمنع عن وجوبها كما في الزكاة, ولو لم تكن واجبة بصفة اليسر لم يكن الدين مانعا من الوجوب; لأن الأداء مع الدين ممكن ألا ترى أنه لا يمنع وجوب الكفارة مع أنها تجب بقدرة ميسرة فلأن لا يمنع فيما تجب بقدرة ممكنة كان أولى; لأنا نقول الدين إنما يمنع; لأنه يعدم الغناء كما قررناه في فصل الزكاة والغناء من شروط الأهلية فعدمه يخل بها فيمتنع الوجوب لا محالة.
قوله: "بخلاف الدين على العبد" إذا كان على العبد الذي هو للخدمة دين بأن أذن له مولاه في التجارة فعلقت رقبته به ومولاه موسر فعليه أن يؤدي عنه صدقة الفطر; لأن صفة الغناء ثابتة له بما يملك من مال آخر سوى هذا العبد ومالية من يؤدي عنه غير معتبرة للوجوب كما في ولده وأم ولده وبسبب الإذن في التجارة لم يخرج من أن يكون للخدمة; لأنه شغله بنوع من خدمته بخلاف ما إذا كان الدين على المولى; لأنه ينفي غناه ولا صدقة إلا على الغنى, ثم فرق بين دين العبد في صدقة الفطر وبينه في الزكاة حيث يمنع دينه في الزكاة ولا يمنع في صدقة الفطر فقال بخلاف زكاة التجارة إلى آخره, وبيان الفرق أن المعتبر في الزكاة الغناء بذلك المال الذي يجب فيه الزكاة حتى لو هلك ذلك المال سقطت الزكاة وإن كان غنيا بمال آخر ودين العبد يمنع الغناء بماليته, فأما المعتبر في صدقة الفطر فمطلق الغنى بأي مال كان ودين العبد لا يمنع الغناء بمال آخر فافترقا.
قوله: "هذا الذي ذكرنا" أي ما ذكرنا من باب الأداء والقضاء إلى ههنا, تقسيم في صفة حكم الأمر وهو ما مر في باب الأداء والقضاء, وتقسيم في صفة المأمور به في نفسه وهو ما ذكر في هذا الباب من تقسيم الحسن, فأما ما يكون صفة للمأمور به قائمة بغيره أي بغير المأمور به وهو الوقت إذ المأمور به قد يوصف بأنه موقت كما يوصف بأنه حسن,(1/312)
نفسه فأما ما يكون صفة قائمة بغيره وهو الوقت فلا بد من ترتيبه على الدرجة الأولى وهذا.
ـــــــ
فلا بد من ترتيبه أي تقسيمه, على الدرجة الأولى وهو الأداء; لأنه هو المفتقر إلى الوقت المحدود في بعض الأوامر لا القضاء الذي هو الدرجة الثانية فإنه غير موقت, وقيل معناه أن المأمور به في الدرجة الأولى أي القسمة الأولى انقسم إلى نوعين أداء وقضاء وإلى حسن لعينه ولغيره ثم كل واحد إلى أنواع فكذا في حكم الوقت ينقسم إلى موقت وغير موقت ثم إلى ما يكون ظرفا ومعيارا ومشكلا فهذا الانقسام والترتيب كالدرجة الأولى كما ترى إليه أشار الإمام المحقق العلامة بدر الملة والدين رحمه الله, وقال الشيخ الإمام أستاذ الأئمة حميد الملة والدين رحمه الله معناه أن المأمور به في الدرجة الأولى مرتب على الأداء والقضاء وذا ترتيب في نفسه وههنا انقسم إلى موقت وغير موقت وهذا الترتيب في غيره والموقت ينقسم إلى وقت الأداء ووقت القضاء لقوله عليه السلام: "فإن ذلك وقتها" , قلت ويؤيد هذا الوجه ما ذكر الشيخ في شرح التقويم ثم هذا الذي ذكرنا من حكم الأمر من الأداء والقضاء على نوعين موقت وغير موقت فغير الموقت نوع واحد. وأما الموقت فهو أنواع, فصار الحاصل أن المأمور به انقسم إلى أداء وقضاء وكلاهما انقسم إلى موقت وغير موقت ونعني به أن مجموع أقسام الأداء والقضاء لا يخرج عن كونها موقتة وغير موقتة فبعض أقسام الأداء موقت وبعضها مع جميع أنواع القضاء غير موقت والله أعلم.(1/313)
"باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت".
العبادات نوعان: مطلقة ومؤقتة, أما المطلقة فنوع واحد وأما المؤقتة فأنواع نوع جعل الوقت ظرفا للمؤدى وشرطا للأداء وسببا للوجوب وهو وقت الصلاة, ألا ترى أنه يفضل عن الأداء فكان ظرفا لا معيارا والأداء يفوت بفواته
ـــــــ
باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت
قوله: "مطلقة" أي غير متعلقة بوقت, وموقتة أي متعلقة بوقت والمراد به الوقت المحدود الذي اختص جواز أدائها به حتى لو فات صار قضاء أما أصل الوقت فلا بد للمأمور به منه; لأن الواجب بالأمر فعل لا محالة ولا بد له من وقت; لأنه لا يوجد بدونه ولهذا قال مطلقة ولم يقل غير موقتة كما قال غيره.
قوله: "ظرفا للمؤدى وشرطا للأداء" "فإن قيل" قد يستفاد الشرطية من الظرفية; لأن الظروف محال والمحال شروط على ما عرف فإنه فائدة في قوله شرطا للأداء, قلنا: المراد من المؤدى الركعات التي تحصل في الوقت ومن الأداء إخراجها من العدم إلى الوجود فكانا غيرين واعتبر هذا بالزكاة فإن أداءها تسليم الدراهم مثلا إلى الفقير والمؤدى نفس تلك الدراهم التي حصلت في يده, وإذا كان كذلك لا يستفاد من ظرفية المؤدى شرطية الأداء إذ لا يلزم من كون الشيء شرط الشيء أن يكون شرطا لغيره, على أنا لا نسلم أنه يلزم من كون الشيء المعين ظرفا لشيء أن يكون شرطا لوجوده كالوعاء ظرف لما فيه وليس بشرط له; لأنه يوجد بدون هذا الظرف, ثم الغرض من إيراد هذه الجمل الثلاث بيان ما وقع به الاشتراك والامتياز لوقت الصلاة والصوم فامتاز وقت الصلاة عن وقت الصوم بكونه ظرفا واشتركا في كون كل واحد منهما شرطا للأداء وسببا للوجوب فيكون في قوله وشرطا للأداء فائدة عظيمة.
قوله: "ألا ترى أنه يفضل عن الأداء" يعني إذا اكتفى في الأداء على القدر المفروض يفضل الوقت عن الأداء ولو أطال ركنا منه مضى الوقت قبل تمام الأداء, وكذا يجوز الأداء في أي جزء شاء من أجزاء الوقت ولو كان معيارا لما جاز فثبت أنه ظرف لا معيار, وتفسير.(1/314)
فكان شرطا والأداء يختلف باختلاف صفة الوقت ويفسد التعجيل قبله فكان سببا وهذا القسم أربعة أنواع نوع منها ما يضاف إلى الجزء الأول والثاني ما
ـــــــ
الظرف ههنا أن يكون الفعل واقعا فيه ولا يكون مقدرا به وتفسير المعيار أن يكون الفعل المأمور به واقعا فيه ومقدرا به فيزداد وينتقص بازدياد الوقت وانتقاصه كالكيل في المكيلات فكان قوله ظرفا محضا احترازا عن المعيار فإنه ظرف ولكنه ليس بمحض ولهذا أكده بقوله لا معيارا.
قوله: "فكان شرطا"; لأن فعل الصلاة لا يختلف بالإتيان به في الوقت وخارج الوقت من حيث الصورة والمعنى فعلم أن التفاوت إنما وقع باعتبار الوقت حتى سمي أحدهما أداء والآخر قضاء.
قوله: "والأداء يختلف باختلاف صفة الوقت" فإن الأداء في الوقت الصحيح كامل وفي الوقت الناقص ناقص وإن وجد جميع شرائطه وتغيره بتغير الوقت علامة كون الوقت سببا له كالبيع لما كان سببا للملك تغير الملك بتغيره حتى لو كان البيع صحيحا كان الملك صحيحا ولو كان فاسدا كان الملك فاسدا حتى ظهر أثره في حل الوطء وثبوت الشفعة وغيرهما على ما عرف في فروع الفقه.
ولا يقال يجوز أن يكون اختلاف صفة الأداء باختلاف صفة الوقت لكونه ظرفا لا لكونه سببا كما في صوم يوم النحر كيف والوقت ليس بسبب للأداء بل السبب فيه الخطاب فلا يصح هذا الاستدلال; لأنا نقول الأصل هو اختلاف الحكم باختلاف السبب فيحمل عليه ما لم يقم دليل يصرفه عنه, ولأن المراد من اختلاف الأداء اختلاف الواجب في الذمة فإنه يجب كاملا وناقصا بكمال الوقت ونقصانه, ووجوب الأداء وإن كان بالخطاب ولكنه ليس إلا تسليم ذلك الواجب الذي ثبت بالسبب في الذمة فيختلف أيضا باختلاف الواجب فتبين أن الاستدلال صحيح.
قوله: "ويفسد التعجيل قبله" دليل آخر على سببية الوقت, ولا يقال لا يصلح هذا دليلا على السببية; لأن التعجيل كما لا يجوز قبل السبب لا يجوز قبل الشرط أيضا كالصلاة قبل الطهارات; لأنا نقول ذلك إذا لم يوجد قرينة ترجح أحد الجانبين وقد وجد ههنا ما يدل على أن الفساد لعدم السبب وهو الدليل السابق وهو تغير الأداء بتغير الوقت إذ المشروط لا يختلف باختلاف صفة الشرط فتعين أن الفساد لعدم السبب لا لعدم الشرط فصلح دليلا على السببية, وهذا كالمشترك لا يصلح دليلا على أحد مفهوميه عينا من غير قرينة فإذا انضمت إليه قرينة ترجيح أحد مفهوميه صلح دليلا عليه.(1/315)
يضاف إلى ما يلي ابتداء الشروع من سائر أجزاء الوقت ونوع آخر ما يضاف إلى الجزء الناقص عند ضيق الوقت وفساده, والنوع الرابع ما يضاف إلى جملة الوقت ودلالة كون الوقت سببا نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
قوله: "وهذا القسم" أي الوقت الذي هو ظرف بالنظر إلى كونه سببا أربعة أنواع فكان هذا في الحقيقة تقسيما لسببيته لا لنفسه ما يضاف أي سببية تضاف إلى الجزء الأول أي فيما إذا أدى في أول الوقت, إلى ما يلي ابتداء الشروع أي فيما إذا لم يؤد في أول الوقت, ما يضاف إلى الجزء الناقص عند ضيق الوقت وفساده أي فيما إذا أخر العصر إلى وقت الاحمرار. وقوله وفساده تفسير لضيق الوقت وإنما فسره به; لأنه ربما يظن أن الجزء الأخير من وقت كل صلاة ناقص ففسره بقوله: "وفساده" دفعا لهذا الوهم, ما يضاف إلى جملة الوقت أي فيما إذا فات الأداء في الوقت, ودلالة كون الوقت سببا يعني ما ذكرنا هو علامة سببية الوقت فأما الدليل على سببيته فمذكور في موضعه وهو باب بيان أسباب الشرائع.
قوله: "والأصل في أنواع القسم الأول" أي القسم الذي هو ظرف وأراد بالأنواع الثلاثة الأولى دون النوع الأخير; لأنا لا نحتاج فيه إلى جعل الجزء سببا; لأن ذلك أي جعل كل الوقت سببا يوجب تأخير الأداء عن وقته أو تقديمه على سببه; لأنه لا بد من رعاية معنى السببية ومعنى الظرفية فلو روعي فيه معنى السببية يلزم منه تأخير الأداء عن الوقت وفيه إبطال معنى الظرفية والشرطية المنصوص عليهما بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103], ولو روعي معنى الظرفية يلزم منه تقديم الحكم على سببه وهو ممتنع بدلالة العقل وإذا لم يمكن أن يجعل كل الوقت سببا ولا بد من اعتبار معنى السببية وجب أن يجعل البعض سببا ضرورة.
ولا يقال لا يجب ذلك; لأنه أمكن أن يجعل مطلق الوقت سببا والمطلق مغاير للكل والبعض; لأنا نقول لا يمكن ذلك; لأن في الإطلاق يدخل الكل والبعض فيلزم حينئذ أن يصح جعل الكل سببا من حيث هو مطلق الوقت وقد بينا أن ذلك لا يجوز فتبين أنه لا بد من تقييده بالبعض, ولأنه لا بد من تعيين السبب ولا يمكن ذلك في مطلق الوقت, ثم لما لزم أن يكون البعض سببا لزم أن يكون سابقا على الأداء ليقع الأداء بعده.
ولما لم يكن بعد الكل جزء مقدر أي مقدار معلوم يمكن ترجيحه على سائر الأجزاء مثل الربع والخمس والعشر ونحوها لعدم الدليل عليه وفساد الترجيح بلا مرجح وجب الاقتصار على الأدنى وهو الجزء الذي لا يتجزأ من الزمان إذ هو مراد بكل حال ولا دليل على الزائد عليه فتعين للسببية ولهذا لو أدى بعد مضي جزء من الوقت جاز.(1/316)
والقسم الثاني من المؤقتة ما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه وذلك مثل شهر رمضان.
والقسم الثالث ما جعل الوقت معيارا له ولم يجعل سببا مثل أوقات صيام الكفارة والنذور والأصل في أنواع القسم الأول من المؤقتة أن الوقت لما جعل سببا لوجوبها وظرفا لأدائها لم يستقم أن يكون كل الوقت سببا; لأن ذلك يوجب تأخير الأداء عن وقته أو تقديمه على سببه فوجب أن يجعل بعضه سببا وهو ما يسبق الأداء حتى يقع الأداء بعد سببه وليس بعد الكل جزء مقدر فوجب الاقتصار على الأدنى "وهو" ولهذا قالوا في الكافر إذا أدرك الجزء الأخير بعدما أسلم لزمه فرض الوقت, وقد قال محمد رحمه الله في نوادر الصلاة في مسألة الحائض إذا طهرت وأيامها عشرة إن الصلاة تلزمها إذا أدركت شيئا من الوقت قليلا كان ذلك أو كثيرا وإذا ثبت هذا كان الجزء السابق أولى أن يجعل سببا لعدم ما يزاحمه, وبدليل أن الأداء بعد الجزء الأول صحيح ولولا أنه سبب لما صح ولما صار الجزء الأول سببا أفاد الوجوب بنفسه وأفاد صحة الأداء لكنه لم يوجب
ـــــــ
قوله: "ولهذا" أي ولكون السببية مقتصرة على الجزء الأدنى قالوا أي أصحابنا الثلاثة والشافعي وأصحابه رحمهم الله إن الكافر إذا أسلم وقد بقي جزء واحد من الوقت لزمه فرض الوقت أي قضاؤه لوجود السبب حال صيرورته أهلا للوجوب, وقد قال محمد في نوادر الصلاة أراد به النوادر التي رواها أبو سليمان1 عنه فذكر فيها امرأة أيام أقرائها عشرة فانقطع الدم عنها وعليها من الوقت شيء قليل أو كثير فعليها قضاء تلك الصلاة وإنما خص محمدا رحمه الله بالذكر وإن كان قولهم جميعا باعتبار التصنيف, وهذا النوع من الاستدلال إنما يكون لإثبات المذهب أو لبيان تأثير الأصل ولا يكون لإثبات الأصل; لأنه لا يستقيم إثبات الأصل بالفرع وما ذكر ههنا من القسم الأول.
قوله: "وإذا ثبت هذا" أي وجوب الاقتصار على الجزء الأدنى بما ذكرنا من الدليل, كان الجزء السابق أولى بالسببية أي حال وجوده لعدم ما يزاحمه إذ المعدوم لا يعارض الموجود.
قوله: "أفاد الوجوب بنفسه" أي أفاد الجزء الأول الوجوب بنفسه من غير أن يحتاج إلى انضمام شيء آخر إليه أو من غير أن يتوقف عن الاستطاعة; لأن السبب لما وجد في
ـــــــ
1 هو موسى بن سليمان أبو الجوزجاني فقيه حنفي توفي سنة 200 هـ تاريخ بغداد 13/36 – 37.(1/317)
الأداء للحال; لأن الوجوب جبر من الله تعالى بلا اختيار من العبد ثم ليس من ضرورة الوجوب تعجيل الأداء بل الأداء متراخ إلى الطلب كثمن المبيع ومهر النكاح يجبان بالعقد, ووجوب الأداء يتأخر إلى المطالبة وهو الخطاب فأما
ـــــــ
حق الأهل ولم يوجد مانع ظهر تأثيره لا محالة, ويجوز أن يكون الباء زائدة والضمير راجعا إلى الوجوب أي أفاد نفس الوجوب ويؤيده ما ذكر في بعض النسخ أفاد الوجوب نفسه, والمراد منه أن يثبت معنى في الذمة يفيد صحة الأداء ولا يأثم بتركه قبل الطلب, قال صدر الإسلام أبو اليسر: نفس الوجوب اشتغال الذمة بالواجب كالصبي إذا أتلف مال إنسان يشتغل ذمته بوجوب القيمة ولا يجب عليه الأداء بل يجب على وليه وكذا القصاص يجب على القاتل ولا يجب عليه أداء الواجب وهو القصاص وإنما يجب عليه تسليم النفس إذا طلب من له القصاص بتسليم النفس لاستيفاء القصاص, ثم قال الوجوب أمر حكمي والأمر الحكمي يعرف بالحكم وحكمه أنه إذا أدى ما في ذمته يقع واجبا.
قوله: "وأفاد صحة الأداء"; لأن الوجوب لما ثبت كان جواز الأداء من ضروراته على ما عليه عامة الفقهاء والمتكلمين فإن الوجوب يفيد جواز الأداء عندهم, لكنه أي لكن السبب أو نفس الوجوب لا يوجب الأداء للحال, وقوله; لأن الوجوب يجوز أن يكون دليلا على قوله لا يوجب الأداء للحال. وبيانه أن الوجوب ثبت جبرا من الله تعالى بلا اختيار من العبد والوجوب بلا اختيار منه في مباشرة سببه لا يوجب الأداء للحال كثوب هبت به الريح وألقته في حجر إنسان دخل في عهدته حتى صحت مطالبة صاحبه إياه به ولكن لا يجب التسليم قبل الطلب حتى لو هلك قبل الطلب لا يجب عليه شيء; لأن حصوله في يده كان بغير صنعه فكذا هذا بخلاف الغصب فأنه مختار متعد في مباشرة سبب الضمان فيجب التسليم قبل الطلب إزالة للتعدي., ويجوز أن يكون قوله; لأن الوجوب دليلا على ثبوت نفس الوجوب بوجود نفس السبب, وقوله وليس من ضرورة الوجوب دليلا على أن الوجوب لا يوجب الأداء للحال فيكون المجموع دليلا على المجموع., وتقريره أن الوجوب لا يتوقف على اختيار العبد وقدرته توقف حقيقة الفعل عليه بل يثبت جبرا عند وجود سببه بلا اختيار منه وقد وجد السبب ههنا فيثبت الوجوب شاء العبد أو أبى ولكن لا يثبت به وجوب الأداء; لأنه ليس من ضرورة الوجوب في الذمة تعجل الأداء أي تعجيل وجوب الأداء فإنه ينفك عنه, كما في ثمن البيع ومهر النكاح أي الثمن والمهر الثابت بهما, يجبان بالعقد أي عقد البيع والنكاح لامتناع خلو البيع عن الثمن والنكاح عن المهر, ووجوب الأداء فيهما يتأخر إلى المطالبة حتى لو كان البيع بأجل يجب الثمن في الحال ويتأخر المطالبة إلى حلول الأجل وكما في صوم شهر رمضان في حق المسافر يثبت(1/318)
الوجوب فبالإيجاب لصحة سببه لا بالخطاب ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل وهو كثوب هبت به الريح في دار إنسان لا يجب عليه تسليمه إلا
ـــــــ
نفس الوجوب في حقه وينعدم وجوب الأداء في الحال وإذا كان كذلك لا يثبت بنفس الوجوب وجوب الأداء للحال بل يتأخر إلى وجود دليله وهو الطلب ولم يوجد ههنا; لأن الشرع خيره في وقت الأداء أي فوض إليه تعين الجزء الذي يؤدي فيه بالفعل; لأنه إنما طالبه بالأداء في كل وقت لا في جزء معين وإذا لم يتعين بقي العبد مخيرا في الأداء في أي جزء شاء لكن بشرط أن لا يفوت عن الوقت ولهذا يتعين وجوب الأداء في آخر الوقت لتحقق المطالبة فيه.
قوله: "وأما الوجوب" متصل بقوله وجوب الأداء يتأخر إلى المطالبة يعني الوجوب يثبت بناء على صحة السبب الذي هو علامة إيجاب الله تعالى علينا لا بالخطاب بل يثبت به مطالبة الواجب بالسبب.
قوله: "ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل" أي ولما ذكرنا أن نفس الوجوب ينفصل عن وجوب الأداء قلنا الاستطاعة التي هي سلامة الآلات, مقارنة للفعل أي مشروطة لوجود الفعل لا لنفس الوجوب فإنه يثبت في حق العاجز كالنائم والمغمى عليه وإن لم يثبت وجوب الأداء في حقه لعدم القدرة فثبت أن الوجوب ينفك عن وجوب الأداء, وذكر الشيخ في نسخة له في أصول الفقه أن السبب موجب وهو جبري لا يعتمد القدرة; إذ هي شرط في الفعل الاختياري لا في الجبري ولذلك لم يشترط القدرة سابقة على الفعل; لأن ما قبله نفس الوجوب وهو جبر ووجوب الأداء وأنه لا يعتمد القدرة الحقيقية على ما عرف أما فعل الأداء فيعتمد القدرة فلذلك كانت الاستطاعة مع الفعل لا مع الخطاب. وقيل معناه ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل أي لأجل ما ذكرنا من المعنى وهو أن نفس الوجوب لا يفتقر إلى فعل المكلف وقدرته كانت الاستطاعة مقارنة للفعل فكما أن نفس الوجوب لا يفتقر إلى فعل المكلف وقدرته كذلك وجوب الأداء لا يفتقر إلى وجود الفعل والقدرة الحقيقية; لأن القدرة الحقيقية مقارنة للفعل فنفس الوجوب ينفصل عن وجوب الأداء كذلك وجوب الأداء ينفصل عن وجود نفس الفعل والقدرة الحقيقية; لأن الوجود من وجوب الأداء غير مراد عند أهل السنة والجماعة إذ لو كان مرادا لوجد الإيمان من جميع الكفرة; لأنه يستحيل تخلف المراد عن إرادة الله تعالى; لأنه عجز واضطرار والله تعالى متعال عنه والكفار كلهم مخاطبون بالإيمان ولم يوجد الإيمان منهم حال كفرهم وكذلك العبادات المفروضة على المؤمنين فإنهم مخاطبون بها ثم قد لا توجد فثبت أن وجود الفعل غير مراد من وجوب الخطاب, فحصل من هذا كله أشياء(1/319)
.............................................................................................
ثلاثة نفس الوجوب ووجوب الأداء ووجود الفعل فنفس الوجوب بالسبب ووجوب الأداء بالخطاب ووجود الفعل بإرادة الله تعالى لكن عدم الفعل من العبد بعد توجه الخطاب لعدم إرادة الله تعالى إياه لا يكون حجة للعبد; لأن ذلك عيب عنه فكان العبد ملزما ومحجوجا عليه بعد توجه الخطاب عليه; لأن وجوب الأداء بالخطاب إنما يكون عند سلامة الآلات وصحة الأسباب والتكليف يعتمد هذه القدرة; لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق القدرة الحقيقية عند إرادة العبد الفعل أو مباشرته إياه ووجود الفعل يفتقر إلى هذه القدرة الحقيقية فكان قوله ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل متصلا بقوله ليس من ضرورة الوجوب تعجل الأداء; لأن الاستطاعة مقارنة للفعل الذي يوجد من المكلف فلو كان نفس الوجوب يوجب تعجل الأداء كانت الاستطاعة مقارنة لنفس الوجوب كذا ذكر بعض الشارحين.
وحاصله أنه حمل الاستطاعة على حقيقة القدرة لا على سلامة الآلات وحمل قوله تعجل الأداء على حقيقته يعني ليس من ضرورة الوجوب أن يوجد الفعل مقارنا له ومتصلا به ولهذا أي ولكون الفعل غير متصل بالوجوب كانت الاستطاعة مقارنة للفعل لا مقارنة للوجوب ولو كان تعجل الأداء من ضرورة الوجوب لكانت مقارنة للوجوب لاقتران الفعل الذي هو المحتاج إلى القدرة به, ولكن لا تعلق لهذا الوجه بالمطلوب وهو تأخر وجوب الأداء عن نفس الوجوب كما ترى إذ لا يلزم من هذا التقرير تأخر وجوب الأداء عن نفس الوجوب. وقيل معناه أنا إنما أثبتنا الاستطاعة مقارنة للفعل لا سابقة عليه احترازا عن تكليف العاجز وتحقق الفعل بلا قدرة فإنها لو كانت متقدمة على الفعل كانت عدما وقت وجود الفعل لاستحالة بقاء الأعراض إلى الزمان الثاني فيكون الفعل واقعا ممن لا قدرة له ولو تصور الفعل بلا قدرة لم يكن لاشتراطها في التكليف فائدة ولصح تكليف العاجز وهو خلاف النص والعقل فثبت أن القول بمقارنة القدرة مع الفعل للاحتراز عن تكليف العاجز ثم لو لم يتأخر وجوب الأداء عن نفس الوجوب مع أن نفس الوجوب قد يثبت جبرا بلا اختيار العبد أي يثبت عند العجز وعدم القدرة على اختيار الفعل بدليل وجوب الصلاة على النائم والمغمى عليه لزم منه تكليف العاجز الذي احترزنا عنه في مسألة الاستطاعة. وهذا وجه حسن ولكن لا ينقاد له سوق الكلام إذ ليس لاسم الإشارة فيه مرجع لعدم تقدم ذكر تكليف العاجز إلا بإضمار وهو أن يقال ليس من ضرورة الوجوب تعجل الأداء أي وجوب الأداء إذ لو كان ذلك من ضرورته لزم تكليف العاجز, وهو غير جائز, ولهذا أي ولعدم جواز تكليف العاجز كانت الاستطاعة كذا, فالوجه الأول أولى وإن لم يخل عن تمحل أيضا.(1/320)
بالطلب وفي مسألتنا لم يوجد المطالبة بدلالة أن الشرع خيره في وقت الأداء فلا يلزمه الأداء إلا أن يسقط خياره بضيق الوقت. ولهذا قلنا إذا مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه وهو كالنائم والمغمى عليه إذا مر عليهما جميع وقت
ـــــــ
قوله: "وهو كثوب" أي ما ذكرنا من تحقق الوجوب وتأخر وجوب الأداء نظير ثوب هبت به الريح أي هاجت وثارت به وإنما ذكر هذا بعدما استوضح كلامه بنظرين وهما البيع والنكاح; لأنه أوفق وأشبه بمرامه إذ لا اختيار له في مباشرة هذا السبب وتحقق الوجوب كما لا اختيار له في وجود الوقت وثبوت الوجوب به فأما البيع والنكاح فله في مباشرتهما اختيار تام.
قوله: "وفي مسألتنا لم يوجد المطالبة" أي على وجه يأثم بتركه في أول الوقت وإنما يتحقق المطالبة في آخر الوقت لا قبله; لأن له ولاية التأخير إلى آخر الوقت والتأخير ينافي المطالبة فإذا ضاق الوقت فقد انتهى التخيير "فح" يجب عليه الأداء لتحقق المطالبة, ولا يلزم عليه ما إذا حال الحول على النصاب فإنه يصير مطالبا بالأداء مع أنه مخير فيه حتى لو هلك النصاب سقطت عنه الزكاة فثبت أن التخيير لا ينافي المطالبة; لأنا لا نسلم أن المطالبة على الفور تحققت بل ثبتت بصفة التراخي بشرط أن لا يفوته عن العمر على ما عرف وفي آخر أجزاء العمر تعين المطالبة كما في آخر أجزاء الوقت ههنا كذا قيل.
قوله: "ولهذا قلنا" تأثير المذهب أي ولأن الأداء لما لم يلزمه عندنا قلنا إذا مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه, ثم استدل على انفكاك وجوب الأداء عن نفس الوجوب بمسألة مجمع عليها فقال وهو أي تراخي وجوب الأداء عن الوجوب في أول الوقت نظير تراخي وجوب الأداء عن النائم والمغمى عليه إذا مر عليهما جميع وقت الصلاة ولم يزدد الإغماء على يوم وليلة حيث ثبت أصل الوجوب ولهذا وجب القضاء عليهما وتراخي وجوب الأداء لعدم أهلية الخطاب بزوال الفهم.
"فإن قيل" السببية تثبت بالخطاب أيضا فإن قبل ورود الشرع لم يكن السببية ثابتة للوقت فلا يتصور ثبوتها في حق من لا يخاطب.
"قلنا" بالخطاب عرف أن الشرع جعل الوقت سببا فبعد ذلك يفتى بالوجوب في حق كل أهل ثبت السبب في حقه ولا يشترط خطاب كل فرد لصيرورة السبب في حقه سببا; لأن العلم بالوجوب كما ليس بشرط لثبوته جبرا فكذا بسبب الوجوب بل الحاجة في الجملة تقع إلى جعل الشرع إياه سببا ولا يشترط على كل فرد بل إذا عرف الفقيه(1/321)
............................................................................................
بالسببية يفتي بالوجوب في حق كل من ثبت السبب في حقه علم بذلك أو لم يعلم ألا ترى أن الزكاة تجب عليه ولا شك في تعلق الوجوب هناك بالسبب ولم يشترط علم كل شخص بذلك وكذلك الإتلاف جعل سببا للضمان والنكاح للحل والبيع للملك وكل ذلك ثابت في حق الصبيان والمجانين وإن لم يثبت الخطاب في حقهم كذا ذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقته. "فإن قيل" كيف يصح هذا الاستدلال وقد ثبت أن القضاء لا يجب إلا بعد وجوب الأداء; لأنه خلف عنه والخلف لا يثبت إلا بعد ثبوت الأصل وقد تمحلتم في إثبات وجوب الأداء في حق الكافر إذا أسلم في الجزء الأخير ونظائره لا يجاب القضاء كما مر الكلام مع زفر رحمه الله في الباب المتقدم وههنا وجب القضاء بالإجماع فمع وجوبه تعذر القول بانتفاء وجوب الأداء عنهما, يؤيده أن القضاء لا يجب إلا بما يجب به الأداء والأداء لا يجب إلا بالخطاب فوجب ههنا أما سقوط القضاء لعدم وجوب الأداء وهو خلاف الإجماع أو وجوب الأداء قبل الانتباه والإفاقة "وح" لا يصح الاستدلال.
"قلنا" قد ذكرنا فيما تقدم أن وجوب الأداء على نوعين نوع يكون الفعل فيه بنفسه مطلوبا من المكلف حتى يأثم فيه بترك الفعل ولا بد فيه من استطاعة سلامة الآلات ونوع لا يكون فعل الأداء فيه مطلوبا حتى لا يأثم فيه بترك الأداء بل المطلوب ثبوت خلفه وهو القضاء ويكتفى فيه بتصور ثبوت الاستطاعة ولا يشترط حقيقة الاستطاعة ففي مسألة النائم والمغمى عليه وجوب الأداء بمعنى كون الفعل فيه مطلوبا على وجه يأثم بتركه لم يوجد لفوات شرطه وهو استطاعة سلامة الآلات فأما وجوب الأداء على وجه يصلح وسيلة إلى وجوب القضاء ولا يكون الفعل فيه مقصودا فموجود لوجود شرطه وهو تصور حدوث الاستطاعة بالانتباه والإفاقة فوجب القضاء بناء على هذا النوع من الوجوب وعدم الإثم بناء على انتفاء النوع الأول فهذا هو التخريج على الطريقة المذكورة في هذا الكتاب, ويؤيده ما ذكر الشيخ في شرح المبسوط أن تصور القدرة كاف في وجوب الأداء في الجملة لينعقد السبب سببا في حق الخلف قائما مقام الأداء; لأنه لو لم يكن الأصل متصورا لصار الخلف في حق كونه حكما للسبب أصلا وهو باطل فلا بد من احتماله وتصوره ليجعل في الأصل كأنه هو الأصل تقديرا ودلالة أن التصور كاف لوجوب القضاء أن القضاء يجب على النائم والمغمى عليه إذا انتبه وأفاق ولا قدرة على الأداء لهما حقيقة وإنما يجب القضاء لما قلنا من الاحتمال.
وذكر بعض العلماء أن القضاء مبني على نفس الوجوب دون وجوب الأداء يعني به(1/322)
الصلاة وجب الأصل وتراخى وجوب الأداء والخطاب فكذلك عن الجزء الأول. وتبين أن الوجوب يحصل بأول الجزء خلافا لبعض مشايخنا وأن الخطاب بالأداء لا يتعجل خلافا للشافعي رحمه الله.
ـــــــ
أن الوجوب إذا ثبت في الذمة فإما أن يكون مفضيا إلى وجوب الأداء أو وجوب القضاء فإن أمكن إيجاب الأداء وجب القول به وإلا وجب الحكم بوجوب القضاء وليس يشترط لوجوب القضاء أن يكون وجوب الأداء ثابتا أو لا ثم يجب القضاء لفواته بل الشرط أن يصلح السبب الموجب لإفضائه إلى وجوب الأداء في نفس الأمر, فإذا امتنع وجوب الأداء لمانع ظهر وجوب القضاء فهذا هو معنى الخلفية بين الأداء والقضاء فعلى هذا لا يحتاج إلى إثبات وجوب الأداء لوجوب القضاء; لأن السبب الموجب وهو الوقت يصلح للإفضاء إلى وجوب الأداء في نفس الأمر كما في حق المستيقظ والمفيق فيصلح أن يكون مفضيا إلى القضاء فلا يرد السؤال.
قوله: "فتبين أن الوجوب بأول الجزء" أي بأول جزء من الوقت واللام لتحسين الكلام كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. أو بدل من الإضافة.
قوله: "خلافا لبعض مشايخنا" نفي لقول مشايخ العراق من أصحابنا حيث قالوا الوجوب يتعلق بآخر الوقت وقوله إن الخطاب بالأداء لا يتعجل نفي لقول الشافعي رحمه الله إن الوجوب ووجوب الأداء عبارتان عن معنى واحد في العبادات البدنية فتبين كل فصل على حدة.
أما الفصل الأول فنقول الواجب إذا تعلق بوقت يفضل عن أدائه يسمى واجبا موسعا كما يسمى ذلك الوقت ظرفا وهذا عند الجمهور من أصحابنا وأصحاب الشافعي وعامة المتكلمين, ومعنى التوسع أن جميع أجزاء الوقت وقت لأدائه فيما يرجع إلى سقوط الفرض ويجوز له التأخير عن أول الوقت إلى أن يتضيق بأن يعلم أنه لو أخر عنه فات الأداء "فح" يحرم عليه التأخير., وأنكر بعض العلماء التوسع في الوجوب وقال إنه ينافي الوجوب; لأن الواجب ما لا يسع تركه ويعاقب عليه والقول بالتوسع فيه يوجب أن يجوز تركه ولا يعاقب عليه وهذا جمع بين المتنافيين.
ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم الوجوب يتعلق بأول الوقت فإن أخره فهو قضاء وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم إنه يتعلق بآخره وهو قول بعض أصحابنا العراقيين فإن قدمه فهو نفل يمنع لزوم الفرض عند بعضهم وموقوف على ما يظهر من حاله عند آخرين فإن بقي أهلا للوجوب كان المؤدى واجبا وإن لم يبق كذلك كان نفلا,(1/323)
............................................................................................
فمن جعل الوجوب متعلقا بأول الوقت قال الواجب الموقت لا ينتظر لوجوبه بعد استكمال شرائطه سوى دخول الوقت فعلم أنه متعلق به فكما في سائر الأحكام مع أسبابها وإذا ثبت الوجوب بأول الوقت لم يجز أن يكون متعلقا بما بعده لما ذكرنا من امتناع التوسع, وفائدة التوقيت على هذا القول أنه لو أتى بالفعل فيما بقي من الوقت يصلح أن يكون قضاء بخلاف الصوم إذا فات عن أول أوقاته بأن أكل أو شرب بعد الصبح فإنه لا يكون الإمساك فيما بقي قضاء, ووجه ما ذهب إليه العراقيون أنه لما جاز له التأخير إلى أن يتضيق الوقت وامتنع التوسع لما ذكرنا كان الوجوب متعلقا بآخره., ثم المؤدى قبله إما أن يكون نفلا كما قال البعض; لأنه متمكن من الترك في أول وقت لا إلى بدل وإثم وهذا حد النفل إلا أن المطلوب يحصل بأدائه وهو إظهار فضيلة الوقت فيمنع لزوم الفرض كمن توضأ قبل دخول الوقت يقع نفلا; لأنه إنما يجب للصلاة فما لم يحضر وقتها لا يوصف بالوجوب ومع هذا يمنع لزوم الفرض بعد دخول الوقت, وإما أن يكون موقوفا كالزكاة المعجلة قبل الحول فإنه إذا عجل شاة من أربعين شاة إلى الساعي ثم تم الحول وفي يده ثمان وثلاثون له أن يسترد المدفوع إن كان قائما وإن كان الساعي تصدق به كان تطوعا ولو تم الحول وفي يده تسع وثلاثون كان المؤدى زكاة وكالجزء الأول من الصلاة فإنه لا يوصف بالوجوب ما لم يتصل بباقي أجزاء الصلاة فإن اتصل بمجموعها يوصف بالوجوب وإلا فلا. وتمسك الجمهور بالنصوص والإجماع, فإن قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الاسراء: 78], وقول جبرائيل للنبي عليهما السلام في حديث: "الإمامة ما بين هذين وقت لك ولأمتك" 1, وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولا وآخرا" 2, أي لوقتها يتناول جميع أجزاء الوقت ويدل على أن جميعها وقت الأداء الواجب وليس المراد تطبيق فعل الصلاة على أول الوقت وآخره ولا فعلها في كل جزء بالإجماع فلم يبق إلا أنه أريد به أن كل جزء منه صالح لوقوع الفعل فيه ويكون المكلف مخيرا في إيقاعه في أي جزء أراد ضرورة امتناع قسم آخر فثبت أن التوسع ثابت شرعا.
وليس بممتنع عقلا أيضا كما زعموا فإن السيد إذا قال لعبده خط هذا الثوب في بياض النهار إما في أوله أو في وسطه أو في آخره كيف ما أردت فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي كان صحيحا ولا يخلو إما أن يقال ما أوجب شيئا أصلا أو أوجب مضيقا وهما
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 149 – 150 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 393 والإمام أحمد في المسند 1/333 و354.
2 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 151 والإمام أحمد في المسند 2/232.(1/324)
........................................................................................
محالان فلا يبقى إلا أن يقال أوجب موسعا., وكذا الإجماع منعقد على أن الواجب إنما يتأدى بنية الظهر ولا يتأدى بنية النفل وبمطلق النية ولو كان نفلا كما زعم بعض العراقيين لتأدى بنية النفل ولو كان موقوفا كما زعم الباقون منهم لتأدى بمطلق النية ولاستوت فيه نية النفل والفرض. وقولهم قد وجد في المؤدى في أول وقت حد النفل; لأنه لا عقاب على تركه فاسد; لأنا لا نسلم أن ذلك ترك بل هو تأخير ثبت بإذن الشرع وكذا الإجماع منعقد على وجوب الصلاة على من أدرك أو أسلم أو طهر في وسط الوقت أو في آخره ولو كان الوجوب متعلقا بأول الوقت كما قاله البعض لما وجبت الصلاة عليهم بعد فوات أول الوقت في حال الصبي والكفر والحيض كما لو فات جميع الوقت في هذه الأحوال, وذكر الغزالي رحمه الله أن الأقسام في الفعل ثلاثة فعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب, وفعل لا يعاقب على تركه مطلقا, وهو الندب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت لكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث فيفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع أو الندب الذي لا يسع تركه وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب فإذا الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل والنزاع يرجع إلى اللفظ واللفظ الذي ذكرناه أولى.
وأما الفصل الثاني فنقول وجوب الأداء منفصل عن نفس الوجوب عندنا خلافا للشافعي رحمه الله في العبادات البدنية, وفائدة الاختلاف تظهر في المرأة إذا حاضت في آخر الوقت لا يلزمها قضاء تلك الصلاة عندنا; لأن وجوب الأداء لم يوجد وعنده إن أدركت من أول الوقت مقدار ما تصلي فيه ثم حاضت يلزمها قضاؤها قولا واحدا لتحقق وجوب الأداء, وإن أدركت أقل من ذلك فأصحابه مختلفون في وجوب القضاء والظاهر من مذهبه أن استقرار الوجوب بإمكان الأداء بعد وجود الوقت., وجه قوله إن الواجب في البدنيات ليس إلا الفعل; لأن الصلاة اسم لحركات وسكنات معلومة وهي فعل وكذا الصوم اسم للإمساك عن المفطرات وهو فعل وليس معنى الأداء إلا الفعل ولما لم يكن بين الفعل والأداء واسطة كان وجوب الصلاة ووجوب الأداء عبارتين عن معنى واحد وهو لزوم إخراج ذلك الفعل من العدم إلى الوجود فلا معنى للفصل بين الوجوب ووجوب الأداء فيها بخلاف الحقوق المالية; لأن الواجب قبل الأداء مال معلوم فيمكن أن يوصف بالوجوب قبل وجوب الأداء كما في حقوق العباد, ونظيرهما الشراء مع الاستئجار فإن بشراء العين يثبت(1/325)
................................................................................................
الملك ويتم السبب قبل فعل التسليم وبالاستئجار لا يثبت الملك في المنفعة قبل الاستيفاء; لأنها لا تبقى وقتين ولا يتصور تسليمها بعد وجودها بل يقترن التسليم بالوجود فإنما تصير معقودا عليها مملوكا بالعقد عند الاستيفاء فكذلك في حقوق الله تعالى يفصل بين المالي والبدني من هذا الوجه.
ووجه ما ذهبنا إليه أن الوجوب حكم إيجاب الله تعالى علينا بسببه والواجب اسم لما لزمه بالإيجاب والأداء فعل العبد الذي يسقط الواجب عنه وهو بمنزلة رجل استأجر خياطا ليخيط له هذا الثوب قميصا بدرهم فيلزم الخياط فعل الخياطة بالعقد والأداء الخياطة نفسها وبها يقع تسليم ما لزمه بالعقد فكان الفعل المسمى واجبا في الذمة غير الموجود مؤدى حالا بالقميص, واعتبر بالنائم والمغمى عليه فإن هناك أصل الوجوب ثابت لما ذكرنا من وجوب القضاء بعد الانتباه والإفاقة, ووجوب الأداء غير ثابت لزوال الخطاب عنه كما مر تحقيقه وهذا يدلك على المغايرة بين الأمرين وإن كان التمييز يتعذر بينهما بالعبارة, ولا يقال ذلك ابتداء عبادة يلزم بعد حدوث الأهلية بالانتباه والإفاقة بخطاب جديد; لأن شرائط القضاء تراعى فيه كالنية وغيرها ولو كان ذلك ابتداء فرض لما روعيت فيه شرائط القضاء بل كان ذلك أداء في نفسه كالمؤدى في الوقت لولا النوم والإغماء. والذي يحقق هذا أن الوقت لو مضى على غير الأهل ثم حدثت الأهلية لما وجب القضاء بأن كان كافرا أو صبيا في الوقت ثم حدثت الأهلية بالإسلام والبلوغ وحيث وجب ها هنا ومع الوجوب روعيت شرائط القضاء دل أن الأمر على ما بينا, وكذلك وجوب أصل الصوم ثابت في حق المسافر والمريض حتى لو صام المسافر عن الواجب صح بالإجماع ووجوب الأداء متراخ إلى حال الإقامة والصحة حتى لو مات قبل الإقامة أو الصحة لقي الله تعالى ولا شيء عليه, كذا في طريقة الشيخ أبي المعين رحمه الله, وسيأتي بيان فساد فرقه في موضعه إن شاء الله عز وجل, ثم اعترض الشيخ أبو المعين رحمه الله على هذه الطريقة فقال ما ذكرنا طريقة بعض مشايخنا وهي واهية بمرة بل هي فاسدة; لأن أداء الصوم هو عين الصوم لا غيره فإن الصوم فعل العبد ولا فعل له إلا الأداء وهذا شيء لا حاجة إلى إثباته بالدليل لثبوت صحته في البداية, قال ثم يقول الصوم ما هو الإمساك عن قضاء الشهوتين نهارا لله تعالى أم غيره فإن قال غيره بان بهته ومكابرته لكل منصف وإن قال هو الإمساك فنقول الإمساك فعلك أم هو معنى وراء فعلك فإن قال هو معنى وراء فعلي فيقال أيوجد بفعلك أم بغير فعلك؟ فإن قال يوجد بغير فعلي فقد جعل الصوم مما يوجد بلا فعل العبد واختياره وذا فاسد, وإن قال يوجد بفعلي فيقال له بأي فعل يوجد وما ذلك(1/326)
................................................................................................
الفعل الذي يوجد به الإمساك الذي هو صوم ولا سبيل له إلى بيان ذلك., ثم يقال له ما الفرق بينك وبين قول القائل الضرب ليس بفعل للرجل ولكنه يوجد بفعله؟ وكذا الجلوس والقيام والأكل والشرب وفي ارتكاب هذا خروج عن المعارف وجحد للضرورات, وإن قال الإمساك فعلي فنقول إذا حصل منك الإمساك فقد حصل منك الفعل فما الأداء فعل آخر هو, فإن قال نعم فإذا صار الصائم فاعلا بفعلين أحدهما الإمساك والآخر أداء الإمساك وكذا كل فاعل فعل فعلا كالآكل والشارب والقائم والقاعد كان فاعلا فعلين أحدهما ذلك الفعل والآخر أداؤه وهذه مكابرة عظيمة.
ثم هذا الكلام بناء على مذهب لأبي الهذيل العلاف1 من شياطين القدرية وهو أن الصوم والصلاة والحج ليست بحركات ولا سكون وهي معان تقارن الحركات والسكون حكى المذهب عنه أبو القاسم الكعبي2 وهو مذهب لم يقدر أبو الهذيل تصويره فضلا عن تحقيقه وهو كقوله إن الكون معنى وراء الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وأراد تصويره فلم يقدر عليه, فكذا ما نحن فيه مكان القول بجعل أصل الوجوب غير وجوب الأداء مبنيا على هذا المذهب فإن الأداء هو حركات وسكنات والصوم والصلاة والحج معان وراءها فيجب تلك المعاني وتشتغل الذمة بها ثم تحصل عند وجود الحركات والسكنات أو بها فكان التحرك والسكون من العبد أداء لها وتحصيلا لها فتحصل هي بها أو معها ثم مع هذا هذه العبادات عنده أفعال للعبد فكذا عند هذا القائل هذه العبادات أفعال للعبد وهي معان وراء الأداء الذي هو من جنس الحركة والسكون فيجب بالأسباب ثم بالأمر يجب الحركات والسكون التي بها أو معها تحصل هذه العبادات الواجبة فكانت الحركات والسكون التي هي أغيارها وهي من قرائنها أداء لها لحصولها بحصول الحركات والسكون.
فأما من يقول إن هذه العبادات هي هذه الحركات والسكون وهي بنفسها أداء فلا يمكنه أن يجعل أصل الوجوب غير وجوب الأداء; لأن المراد بوجوب الأصل وجوب هذه الأفعال وهي بأنفسها أداء فلا يتصور أن لا يكون الأداء واجبا; لأن القول بعدم وجوب فعل ما مع وجوبه مناقضة ظاهرة وذا لا يقوله من له لب, قال وقولهم إن من استأجر خياطا
ـــــــ
1 هو أبو الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف ولد بالبصرة سنة 131 هـ توفي سنة 235 هـ وفيات الأعيان 1/607 – 608.
2 هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد محمود الكعبي البلخي توفي سنة 319 هـ وفيات الأعيان 1/316.(1/327)
............................................................................................
ليخيط له هذا الثوب إلى آخره كلام فاسد; لأن المعقود عليه هناك ما يحل بالثوب من آثار الخياطة التي هي فعله وهو ما يحصل في الثوب من التركب على صور مخصوصة فأما الفعل فليس بمعقود عليه بل هو ذريعة يتوصل بها إلى المعقود عليه, ويمكن بها التسليم للمعقود عليه وهو الواجب بالعقد وتسليمه غيره, فإن التسليم وهو الفعل قائم بالخياط والمعقود عليه ما يصير مسلما بفعله في الثوب وهو حصول صفة التركب على هيئة مخصوصة ولا شك أن ما يحصل بالفعل هو غير الفعل, يحققه أن الخياطة فعل الخياط والمعقود عليه وهو التركب الحاصل في الثوب ليس بفعل له حقيقة لاستحالة فعل العبد فيما وراء حيزه بل هو فعل الله تعالى ولكنه يضاف إلى العبد حكما لإجراء الله تعالى العادة بتخليقه تلك الصفة في الثوب عند مباشرة الخياطة. فأما فيما نحن فيه فبخلافه لما بينا أن أداء الصوم ليس بغير للصوم والصوم فعل العبد والعبد هو الصائم كما أنه هو المؤدي فأما التركب الحاصل في الثوب فليس بفعل له فإنه ليس بمتركب بل المتركب هو الثوب ولو كانت صفة التركب فعلا له لكان هو المتركب فدل أن بين الأمرين تفاوتا عظيما, على أن من ساعده أن المعقود عليه الخياطة يقول هي الواجبة بنفسها وأداؤها نفسها لا غيرها ووجوبها بالعقد وجوب أدائها لا غير بدلالة ما بينا أن أداء الفعل نفسه لا غير.
وقولهم إن في حق النائم والمغمى عليه أصل الوجوب ثابت ووجوب الأداء منتف غير صحيح لما بينا أن الأداء هو نفس الصوم أو الصلاة والقول بوجوب الشيء مع انتفاء وجوبه محال فإذا لا نسلم وجوب أصل الصوم والصلاة عليه بل الوجوب عليه عند زوال الإغماء بخطاب مبتدأ, من قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184], والمغمى عليه مريض, ومن قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" , والإغماء مثل النوم., قولهم هذا يسمى قضاء ولو كان ابتداء فرض لزمه لكان أداء قلنا لا فرق بين الأداء والقضاء بل هما لفظان متواليان على معنى واحد يقال قضيت الدين وأديته وقضيت الصلاة وأديتها على أن المغايرة بينهما تثبت باصطلاح الفقهاء دون اقتضاء اللغة.
قولهم يراعى فيه شرائط القضاء قلنا عند الخصم لا فرق بين الأداء والقضاء في حق النية لا في الصوم ولا في الصلاة وإنما يحتاج إلى أن ينوي صوما وجب عليه عند زوال العذر ولولا العذر وجب في الوقت المعين له شرعا وبهذا لا يتبين أن الصوم أو الصلاة كانا يجبان في حالة سقط عن الإنسان أداؤهما. وقولهم لو مضى الوقت على غير الأهل(1/328)
..............................................................................................
ثم حدثت الأهلية لما وجب عليه القضاء إلى آخره فاسد أيضا; لأنا بينا بالدليل أن هذا محال والاشتغال بإثبات المستحيل بما يتحايل أنه دليل ضرب من السفه, على أن الشرع أوجب على من مضى عليه الوقت وهو مغمى عليه أو نائم بعد زوال العذر ما كان يوجبه في الوقت لولا العذر وفي باب الصبا والكفر ما فعل هكذا والأمر لصاحب الشرع يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال ولا نقول يتحقق وجوب أصل الصوم في حق المسافر والمريض وتأخر وجوب الأداء لما بينا أنه محال بل نقول إن هناك أوجب الله تعالى الصوم على العبد معلقا باختياره الوقت تخفيفا منه على عباده ومرحمة عليهم فإن اختيار الأداء في الشهر كان الصوم واجبا فيه وإن أخر إلى حالتي الصحة والإقامة لم يكن الصوم واجبا عليه بل كان واجبا بعد الصحة والإقامة حتى أنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر بأن مات من مرضه أو في سفره يلقى الله تعالى ولا شيء عليه ولو أدرك بعض الأيام دون البعض وجب عليه بقدر ما أدرك فأما أن يقول بوجوب الأصل دون وجوب الأداء فكلا, وهذا كله بخلاف الزكاة وسائر الواجبات المالية فإن هناك الواجب هو المال والأداء فعل في ذلك فيجب عند تحقق الأسباب الأموال في ذمم الصبيان وجعل ذلك شرعا كما لو وضع عند الصبي مال معين فيجب على الولي أداء ما وضع في ذمة الصبي من المال وتفريغها عنه كما لو وضع في بيت الصبي مال وهذا لا يمكن تصويره في الأفعال.
هذا كلامه أوردته بلفظه وحاصله منع المغايرة بين الوجوب ووجوب الأداء ودعوى استحالتها في الواجب البدني.
والجواب أن الأمر ليس على ما زعم فإنا وإن سلمنا أن الصوم أو الصلاة هو الفعل وأداء الصوم هو الفعل أيضا لكنا لا نسلم أنهما واحد. وبيانه أن لكل شيء من الأجسام والأعراض وجودا في الذهن ويدرك ذلك بالعقل ويسمى ماهية ووجودا في الخارج ويدرك ذلك بالحس فنفس الوجوب عبارة عن اشتغال الذمة بوجوب الفعل الذهني ووجوب الأداء عبارة عن وجوب إخراج ذلك الفعل من العدم إلى الوجود الخارجي ولا شك أن إخراجه من العدم إلى الوجود غير ذلك التصور الموجود في الذهن وإن كان مطابقا له ولهذا لا يتبدل ذلك التصور بتبدل الوجود الخارجي بالعدم بل هو باق على حاله. والبدني كالمالي بلا فرق فإن أصل الوجوب في المال عبارة عن لزوم مال متصور في الذمة, ولزوم الأداء عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود الخارجي إلا أنه لما لم يكن في وسعه ذلك أقيم مال آخر من جنسه مقام ذلك المال الواجب في حق صحة الأداء والخروج عن العهدة وجعل كأنه ذلك المال الواجب وهذا معنى قولهم الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها فثبت بما ذكرنا أن المغايرة بينهما ثابتة من غير استحالة والله أعلم.(1/329)
ثم إذا انقضى الجزء الأول فلم يؤد انتقلت السببية إلى الجزء الثاني ثم كذلك ينتقل لما قلنا من ضرورة تقدم السبب على وقت الأداء وكان ما يلي الأداء به أولى; لأنه لما وجب نقل السببية عن الجملة إلى الأقل لم يجز تقريره
ـــــــ
قوله: "ثم إذا انقضى الجزء الأول فلم يؤد" أي لم يشرع في الأداء, انتقلت السببية إلى الجزء الثاني, ثم كذلك تنتقل أي ما انتقل من السببية إلى الثاني ينتقل إلى آخر أجزاء الوقت جزءا فجزءا مثل انتقالها إلى الثاني; لأنه لما ثبت أن كل الوقت ليس بسبب بل السبب جزء منه والباقي ظرف وشرط كان الجزء القائم أولى بالسببية من الجزء الفائت فيجعل القائم خلفا عن الفائت في كونه سببا إلى أن يبلغ آخر الوقت فيصير ذلك الجزء هو السبب عينا لكن على تقدير الشرع فيه فإذا لم يشرع فيه حتى خرج الوقت فالوجوب يضاف إلى كل الوقت كذا في شرح التقويم للمصنف رحمه الله.
ولا يقال لا ضرورة في نقل السببية وجعل القائم خلفا عن الفائت إذ الفوات لا يمنع من تقرر السببية كما إذا فات الوقت; لأنا نقول دل على ذلك تغير الأحكام في السفر والإقامة والحيض والطهر ونحوها بعد الجزء الأول فأن السببية لو تقررت عليه لما تغيرت الأحكام بهذه العوارض بعد انقضائه كما لا يتغير بها بعد انقضاء الوقت. وإنما لم يمنع تقرر السببية فوات الوقت لعدم ما يعارضه بعده وأما ههنا فالجزء الثاني يعارض الأول وهو موجود بعد فوات الأول فكان أولى بالسببية.
قوله: "لما ذكرنا من ضرورة تقدم السبب على وقت الأداء" يعني كما أن ضرورة كون السبب متقدما على وقت الأداء أي على الزمان الذي يقع فيه الأداء أوجبت انتقال السببية من الكل إلى الجزء فكذلك توجب انتقالها إلى الثاني والثالث; لأن السبب إنما يكون متقدما بصفة الاتصال بالمسبب لا بصفة الانفصال إذ الانفصال بعارض وصفة الاتصال لا تثبت إلا بالانتقال إلى ما بعد الجزء الأول فكان هذا الانتقال من ضرورات التقدم أيضا كالانتقال الأول.
قوله: "وكان ما يلي الأداء به أولى" كأنه جواب سؤال يرد عليه وهو أن يقال لا نسلم تحقق الضرورة في الانتقال إلى ما بعد الجزء الأول; لأنه أمكن أن يجعل جميع ما تقدم على الأداء من أجزاء الوقت سببا لحصول المقصود به وهو تقدم السبب مع صفة الاتصال بالمسبب فقال ما يلي الأداء به أولى أي الجزء المتصل بالأداء بنفسه أولى بالسببية من جميع الأجزاء المتقدمة; لأنه لما وجب نقل السببية عن كل الوقت إلى الجزء الأدنى لما ذكرنا من الدليل, لم يجز تقديره أي لم يجز إثبات معنى السببية لجميع الأجزاء(1/330)
على ما يسبق قبيل الأداء; لأن ذلك يؤدي إلى التخطي عن القليل بلا دليل.
ـــــــ
المتقدمة على الأداء; لأن ذلك يؤدي إلى التخطي أي التجاوز, عن القليل وهو الجزء المتصل بالأداء بلا دليل, يوجب ذلك; لأن الدليل إنما دل على أن الكل سبب أو الجزء الأدنى سبب فإثبات السببية لما وراء الكل والأدنى يكون إثباتا بلا دليل وإذا كان كذلك كانت الضرورة في الانتقال إلى الثاني والثالث باقية.
"فإن قيل لا ضرورة في الانتقال إلى ما بعد الجزء الأول; لأن حكم السبب الوجوب في الذمة لا حقيقة الأداء وقد ثبت الوجوب بالجزء الأول" متصلا به فلا حاجة إلى انتقال السببية عنه.
"قلنا" الأمر كذلك إلا أن الأداء لما كان بناء على ذلك السبب; لأنه أداء ذلك الواجب كان من نتيجة ذلك السبب أيضا فيجب أن يكون متصلا به وكذلك الحكم في البيع أيضا إلا أن البيع باق حكما إلى زمان الأداء شرعا إذ العقود الشرعية موصوفة بالبقاء على ما عرف فيثبت الاتصال بينه وبين الأداء الذي هو حكمه, فأما الجزء الأول ههنا فقد انقضى حقيقة وكذا حكما; لأنه لا ضرورة في إبقائه حكما; لأن أمثاله التي تصلح للسببية توجد بعده فلا يثبت الاتصال فلهذا دعت الضرورة إلى الانتقال, وذكر في بعض الشروح أن معنى قوله وكان ما يلي الأداء به أولى أن الجزء المتصل بالأداء أولى بالسببية من الجزء الأول; لأن الجزء المتصل بالأداء لما صلح للسببية لا يجوز إلغاؤه وجعل ما قبله سببا; لأن ذلك يؤدي إلى التخطي عن القليل وهو الجزء المتصل بلا دليل وذلك لا يجوز كمن سبقه الحدث في الصلاة فانصرف واستقبله نهر ووراءه نهر آخر فترك الأقرب ومشي إلى أبعد لا يجوز وتفسد صلاته; لأنه اشتغال بما لا يعنيه فكذلك هذا.
"قلت هذا معنى حسن ويشير إليه قوله" ولم يجز تقريره على ما سبق ولكن قوله يؤدي إلى التخطي عن القليل لا ينقاد له ولو كان المعنى ما ذكر لوجب أن يقال يؤدي إلى التخطي عن القريب إلى البعيد بلا دليل, وقوله بلا دليل احتراز عن انتقال السببية عن الجزء الأخير إلى الكل إن لم يوجد الأداء في الوقت فإنه وإن كان تخطيا عن القليل إلى الكثير ولكنه بالدليل. وحاصل ما ذكرنا أن السببية لو لم تنتقل عن الجزء الأول فإما أن تضم إليه الأجزاء المتقدمة على الأداء أم لا, فإن لم تضم إليه يلزم ترجيح المعدوم على الموجود مع صلاحية الموجود للسببية واتصال المقصود به وأنه فاسد وإن ضمت إليه يلزم التخطي عن القليل بلا دليل وهو فاسد أيضا فتعين الانتقال, وقد استدلوا عليه بدلالة الإجماع أيضا فإن الأهلية لو حدثت في أثناء الوقت بأن أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو أفاق المجنون بعد انقضاء الجزء الأول لزمت عليهم الصلاة بالإجماع فلو استقرت السببية(1/331)
وإذا انتهى إلى آخر الوقت حتى تعين الأداء لازما استقرت السببية لما يلي الشروع في الأداء فإن كان ذلك الجزء صحيحا كما في الفجر وجب كاملا فإذا
ـــــــ
على الجزء الأول ولم ينتقل جزءا فجزءا لما وجبت الصلاة عليهم كما لو حدثت الأهلية بعد خروج الوقت وكذلك أداء العصر وقت الاحمرار جائز نصا وإجماعا ولولا الانتقال لم يجز كما إذا قضى عصر الأمس في هذه الحالة فهذه الضرورة دعتهم إلى القول بالانتقال.
وقوله: "وإذا انتهى إلى آخر الوقت" اعلم أن خيار تأخير الأداء يثبت إلى أن يتضيق الوقت بحيث لا يسع فيه إلا فرض الوقت بالإجماع حتى لو أخر عنه يأثم فأما انتقال السببية فكذلك يثبت إلى تضيق الوقت أيضا عند زفر رحمه الله; لأنه مبني على ثبوت الخيار عنده ولم يبق ذلك وعندنا الانتقال ثابت إلى آخر جزء من الوقت لما ذكرنا أن كل جزء صالح للسببية وأن المعدوم لا يعارض الموجود وإنما لا يسعه التأخير لكي لا يفوت شرط الأداء وهو الوقت. وإذا عرفت هذا فاعلم أن آخر الوقت في قوله وإذا انتهى أي الانتقال إلى آخر الوقت إن حمل على وقت التضييق بدليل قوله حتى تعين الأداء لازما كان موافقا لمذهب زفر; لأن استقرار السببية عند التضييق مذهبه وإن حمل على الجزء الأخير كما هو حقيقته لم يبق لقوله حتى تعين الأداء لازما فائدة; لأنه ثابت قبل ذلك, إلا أن يقال المراد من استقرار السببية استقرارها في حق وجوب الأداء لا في عدم جواز الانتقال وهو بعيد; لأن سوق الكلام لا يدل عليه., أو يقال المراد من تعين الأداء تقرر الواجب يعني وإذا انتهى الانتقال إلى آخر جزء من الوقت حتى تقرر الواجب بحيث لا يحتمل السقوط استقرت السببية على ذلك الجزء إن اتصل الشروع به ولا ينتقل إلى غيره إذ لم يبق بعده شيء يحتمل الانتقال إليه ولهذا يعتبر حال المكلف عند ذلك الجزء في الحيض والطهر والصبا والبلوغ والكفر والإسلام على ما عرف وإن لم يتصل به الشروع فينتقل السببية إلى كل الوقت كما سيأتي بيانه, فصار الحامل أنه يتعين للسببية الجزء المتصل بالأداء فإن اتصل بالجزء الأول كان هو السبب وإلا فينتقل إلى الثاني والثالث; لأن في المجاورة عن الجزء الذي يتصل به الأداء في جعله سببا لا ضرورة وليس بين الأدنى والكل مقدار يمكن الرجوع إليه كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
قوله: "فإن كان ذلك الجزء صحيحا" بيان استقرار السببية واعتبار صفة ذلك الجزء فإنه إن كان صحيحا كان الواجب كاملا كما في الفجر وإن كان فاسدا أي ناقصا كان الواجب ناقصا, فإذا غربت الشمس في خلال العصر لا يفسد العصر; لأنه وجب ناقصا لنقصان في سببه وبالغروب ينتفي النقصان فيتأدى كاملا, ولو طلعت في خلال الفجر تفسد عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا تفسد اعتبارا بالغروب واستدلالا بقوله عليه(1/332)
اعترض الفساد بطلوع الشمس بطل الفرض وإن كان ذلك الجزء فاسدا انتقص الواجب كالعصر يستأنف في وقت الاحمرار فإذا غربت الشمس وهو فيها لم يتغير فلم ولا يلزم إذا ابتدأ العصر في أول الوقت ثم مده إلى أن غربت الشمس قبل فراغه منها فإنه نص محمد أنه لا يفسد وقد كان الوجوب مضافا إلى سبب صحيح ووجهه أن الشرع جعل الوقت متسعا ولكن جعل له حق
ـــــــ
السلام: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" 1, رواه أبو هريرة رضي الله عنه, والفرق بينهما عندنا أن الطلوع بظهور حاجب الشمس وبه لا ينتفي الكراهة بل يتحقق فكان مفسدا للفرض والغروب بآخره وبه ينتفي الكراهة فلم يكن مفسدا للعصر وتأويل الحديث أنه لبيان الوجوب بإدراك جزء من الوقت قل أو كثر كذا في المبسوط ولكن يأبى هذا التأويل ما روي في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" , والتأويل الصحيح ما ذكره أبو جعفر الطحاوي2 رحمه الله في شرح الآثار أن هذا الحديث كان قبل نهيه عليه السلام عن الصلاة في الأوقات المكروهة ولا يقال كان ذلك نهيا عن التطوع خاصة كالنهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر فلا يوجب نسخ هذا الحديث; لأنا نقول بل هو نهي عن الفرائض والنوافل فإن قضاء الفوائت فيها لا يجوز, ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الصبح غداة ليلة التعريس انتظر في قضائها إلى أن ارتفعت الشمس فدل هذا على أن ما رواه نسخ به. وعن أبي يوسف رحمه الله أن الفجر لا يفسد بطلوع الشمس ولكنه يصبر حتى إذا ارتفعت الشمس أتم صلاته وكأنه استحسن هذا ليكون مؤديا بعض الصلاة في الوقت ولو أفسدها كان مؤديا جميع الصلاة خارج الوقت وأداء بعض الصلاة في الوقت أولى من أداء الكل خارج الوقت كذا في المبسوط, وقوله بطل الفرض إشارة إلى نفي ما روي عن محمد رحمه الله أن أصل الصلاة يبطل ببطلان الجهة على ما عرف في شرح الجامع الصغير للمصنف.
قوله: "جعل الوقت متسعا" الشارع جعل جميع الوقت محلا لأداء فرض الوقت
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة 1/151 ومسلم في المساجد حديث رقم 608 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 412 والترمذي في الصلاة حديث رقم 186 وابن ماجه في الصلاة حديث رقم 699.
2 هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي الحجري الفقيه المحدث ولد سنة 239 هـ توفي سنة 321 هـ انظر البداية والنهاية 11/174.(1/333)
شغل كل الوقت بالأداء فإذا شغله بالأداء جاز وإن اتصل به الفساد; لأن ما يتصل من الفساد بالبناء جعل عفوا; لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر وقد روى هشام عن محمد رحمه الله فيمن قام إلى الخامسة في العصر أنه يستحب له الإتمام; لأنه من غير قصده ثبت فإذا اتصل به الفساد صار في الحكم عفوا فصار بمنزلة المؤدى في وقت الصحة بخلاف حالة الابتداء; لأنه بقصده ثبت الفساد إذ الاحتراز عنه ممكن بأن يختار وقتا لا فساد فيه.
وأما إذا خلا الوقت عن الأداء أصلا فقد ذهب الضرورة الداعية عن الكل
ـــــــ
وأثبتت له ولاية شغل الكل بالأداء وهو العزيمة; لأن الأصل أن يكون العبد مشغولا بخدمة ربه في جميع الأوقات إلا أن الله تعالى جعل للعبد ولاية صرف بعض الأوقات إلى حوائج نفسه رخصة فثبتت أن شغل كل الوقت بالعبادة هو العزيمة, ولهذا جعلنا الوقت في حق صاحب العذر مقام الأداء لحاجته إلى شغل الوقت بالأداء ولا يمكنه الأقبال على العزيمة ههنا إلا بأن يقع بعض الأداء في الوقت الناقص فيصير ذلك البعض ناقصا ولما لم يمكن الاحتراز عنه سقط اعتباره; لأنه حصل حكما لا قصدا فإنه بناء على الأول كما قال محمد في النوادر إن من شرع في الخامسة بعدما قعد قدر التشهد في صلاة العصر فإنه يضيف إليها ركعة أخرى ويكون الركعتان تطوعا ومعلوم أن التطوع بعد العصر مكروه ولكن لما كانت بناء على الأول وقد حصل حكما لا قصدا لم يعتبر حتى لم تثبت صفة الكراهة كذا هذا كذا ذكره أبو اليسر رحمه الله. وذكر القاضي الإمام علاء الدين المعروف بالغني في مختلفاته أنه السبب إنما هو الجزء القائم من الوقت لا جملة الوقت ونعني بالجزء القائم أنه لو أخر ينتقل السببية جزءا فجزءا إلى آخر الوقت وعلى هذا الحرف يخرج الفرق بين صلاة الفجر والعصر فإن الفجر يفسد بطلوع الشمس في خلاله والعصر لا يفسد بالغروب, ثم قال وظن كثير من فقهائنا أنا نعني بالجزء القائم الجزء الذي هو قبيل الشروع وليس كذلك فإنه لو شرع في العصر في الوقت المستحب وطول القراءة حتى دخل الوقت المكروه يجوز ولو جعل الوجوب مضافا إلى الجزء الذي هو قبيل الشروع لكان لا يجوز; لأن السبب كامل بل نقول بعد الشروع كل جزء إلى آخر الصلاة سبب لوجوب الجزء الذي يلاقيه ومحل لأدائه إلا أن يخرج الوقت فيتقرر السببية على الجزء الأخير إن كان شرع فيها في آخر الوقت.
قوله: "وأما إذا خلا الوقت يجوز أن يكون" جواب سؤال وهو أن يقال لما انتقلت السببية إلى الجزء الأخير لزم أن يجوز الأداء في الأوقات الناقصة إذا كان الجزء الأخير ناقصا(1/334)
إلى الجزء وهو ما ذكرنا من شغل الأداء فانتقل الحكم إلى ما هو الأصل وهو أن يجعل كل الوقت سببا فإذا فاتت العصر أصلا أضيف وجوبها إلى جملة الوقت دون الجزء الفاسد فوجبت بصفة الكمال فلم يجز أداؤها بصفة النقصان ولا يلزم إذا أسلم الكافر في آخر وقت العصر ثم لم يؤد حتى احمرت الشمس في اليوم
ـــــــ
كالعصر إذا فاتت عن وقتها ينبغي أن يجوز قضاؤها في الأوقات المكروهة فأجاب بما ذكر, ويجوز أن يكون ابتداء بيان النوع الرابع من القسم الأول وهو أن الوجوب يضاف إلى كل الوقت إذا فات الأداء في الوقت; لأنا إنما جعلنا جزءا من الوقت سببا ضرورة وقوع الأداء في الوقت; لأن الوقت بعينه شرط الأداء وذلك سبب أيضا ولا يجوز أن يكون الوقت الواحد ظرفا وسببا فجعلنا جزءا منه سببا والباقي ظرفا وهذه الضرورة فيما إذا جعله ظرفا متحققة فإذا لم يجعله ظرفا بأن لم يؤد في الوقت حتى فات سقطت الضرورة ووجب العمل بالأصل وهو أن يجعل الوقت سببا لكماله; لأن الإضافة وجدت إلى جميع الوقت يقال صلاة الظهر والظهر اسم لجميع الوقت ولما جعل الكل سببا ولا فساد في كل الوقت كان الواجب على وقفه فلا يصح أداؤه في وقت ناقص كما في الفجر وقت الطلوع.
ولا يقال لو كان الوجوب مضافا إلى الكل بعد الفوات لزم أن لا يكون الوجوب ثابتا في الوقت فوجب أن لا يكون إنما بترك الأداء; لأنا نقول إنما ينتقل السببية إلى الكل بعد اليأس عن الأداء في الوقت فلا يلزم منه انتفاء الوجوب في الوقت, ولأنه لما كان مأمورا بأداء الصلاة في الوقت ومن ضرورته جعل بعض الوقت سببا في حقه فكان له القدرة على أن يقرر بعض الوقت للسببية بأن يصل الأداء به يأثم بتركه وتقصيره.
"فإن قيل" لو أضيف الوجوب إلى جميع الوقت وبعضه ناقص في العصر يكون الواجب ناقصا ضرورة فينبغي أن يجوز قضاؤه في وقت مثله.
"قلنا" السبب الكامل من وجه ناقص من وجه الواجب يكون كذلك فلا يتأدى في الوقت الناقص من كل وجه كذا في مختلفات القاضي الغني, إلا أنه يقتضي أنه لو قضى العصر في اليوم الثاني فوقع بعضه في الوقت الناقص كان جائزا وليس كذلك فإن وقت التغير ليس بوقت لقضاء شيء من الصلاة كذا ذكر القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله في الجامع الصغير, والجواب الصحيح ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله أنه إذا لم يشتغل بالأداء حتى تحقق التفويت بمضي الوقت صار دينا في ذمته فيثبت بصفة الكمال وإنما يتأدى بصفة النقصان عند ضعف السبب إذا لم يصر دينا في الذمة وذلك بأن يشتغل بالأداء; لأنه يمنع صيرورته دينا في الذمة.(1/335)
الثاني وقد نسي ثم تذكر فأراد أن يؤديها عند احمرار الشمس لأن هذا لا يروى ومن حكم هذا القسم أن وقت الأداء لما لم يكن متعينا شرعا والاختيار فيه للعبد لم يقبل التعين بتعيينه قصدا ونصا وإنما يتعين ضرورة تعين الأداء وهذا لأن تعيين الشرط أو السبب ضرب تصرف فيه وليس إلى العبد ولاية وضع الأسباب والشروط فصار إثبات ولاية التعيين قصدا ينزع إلى الشركة في وضع
ـــــــ
وحقيقة المعنى فيه أن النقصان في هذا الوقت إنما يمكن باعتبار الفعل لا باعتبار ذاته إذ هو وقت كسائر الأوقات لكن في الاشتغال بالصلاة في هذا الوقت تشبه بعبادة أهل الكفر وتعظيمهم ما يعتقدونه آلهة في هذا الوقت فإذا مضى من غير فعل لم يتحقق فيه نقصان وصار كسائر الأوقات في حق ما يرجع إلى الإيجاب في الذمة إلا أن النقصان الذي ذكرنا كان متحملا في الوقت للأمر بالأداء فإذا مضى لم يبق متحملا; لأن الواجب تحقق في الذمة كاملا فلا يتأدى بصفة النقصان, وهذا هو الجواب عما إذا أسلم الكافر أو بلغ أو طهرت الحائض في آخر وقت العصر ثم قضوها في اليوم الثاني في ذلك الوقت حيث لا يجوز; لأنه إذا مضى الوقت صار الواجب دينا في ذمته بصفة الكمال فلا يتأدى ناقصا كذا قال شمس الأئمة رحمه الله تعالى.
ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا كان مقيما في أول الوقت ثم سافر في آخره وفاتته الصلاة حيث يجب عليه صلاة السفر مع أن الوجوب مضاف إلى كل الوقت; لأنا نقول النقصان من الأربع إلى الركعتين لم يثبت من قبل السبب بل يثبت من قبل حال المصلي فلا يتفاوت بأن يضاف إلى الجزء أو إلى الكل بخلاف وقت العصر فإن النقصان فيه من قبل السبب فيتفاوت بإضافته إلى الوقت الناقص والكامل, ولأن الرخصة باعتبار السفر وبعد خروج الوقت السفر باق فبمضي الوقت لا ينقلب فرضه أربعا بخلاف ما نحن فيه فإن النقصان باعتبار الوقت ولم يبق فيعود إلى الكمال.
قوله: "لأن هذا لا يروى" أي عن السلف كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله فيحتمل أن يجوز قال أبو اليسر في هذا المقام لا نسلم فإنه لا يجوز بل يجوز بأنه لا رواية لهذا., ومن المشايخ من قال لا يجوز; لأن الفوات عن الوقت يوجب القضاء مطلقا عن الوقت فلا يجوز في وقت ناقص بخلاف الأداء كما قالوا في قضاء اعتكاف رمضان إذا صامه ولم يعتكف لا يجوز في الرمضان الثاني وإن كان الأداء جائزا في الرمضان الأول.
قوله: "لما لم يكن متعينا" يعني لكون الوقت متسعا وكون العبد مختارا في الأداء والواو في قوله والاختيار للحال, والضمير في فيه راجع إلى الأداء أو إلى التعيين الذي(1/336)
المشروعات وإنما إلى العبد أن يرتفق بما هو حقه ثم يتعين به المشروع حكما ونظير هذا الكفارة الواجبة في الأيمان أن الحانث فيها بالخيار إن شاء أطعم عشرة مساكين وإن شاء كساهم وإن شاء حرر رقبة ولو عين شيئا من ذلك قصدا لم يصح وإنما يصح ضرورة فعله لما قلنا ومن حكمه أن التأخير عن الوقت يوجب الفوات لذهاب شرط الأداء من حكم كونه ظرفا للواجب أنه لا ينفي غيره لأنه مشروع أفعالا معلومة في ذمة من عليه فبقي الوقت خاليا وبقيت منافعه على حقه فلم ينتف غيرها من الصلوات.
ومن حكمه أن النية شرط ليصير ما له مصروفا إلى ما عليه ومن حكمه أن
ـــــــ
دل عليه الكلام, قصدا أي بالقلب بأن نوى أن يكون هذا الجزء سببا, ونصا أي بالقول بأن يقول عينت هذا الجزء للسببية لا يتعين ويجوز الأداء بعده, وهذا أي عدم قبوله التعيين قصدا ونصا, وليس إلى العبد ولاية تعيين الأسباب والشروط أي من غير تفويض إليه وههنا كذلك, ينزع إلى الشركة أي يقضي ويذهب إليها يقال فلان نزع إلى أبيه في الشبه أي ذهب, والتعيين نوع تصرف; لأنه تقييد للمطلق وهو نسخ لإطلاقه, ثم يتعين به المشروع أي بارتفاقه تعين ما هو متعلق به. قوله: "وإنما للعبد أن يرتفق" يعني ليس له الاختيار المطلق; لأن ذلك لله تعالى يفعل ما يشاء ويختار فلو ثبت التعيين بالقول كان اختيارا مطلقا فإنه خال عن الرفق والنفع وإنما جعل إلى العبد اختيار ما فيه رفق ولا رفق له في اختيار جزء من الجملة قولا بل فيه نوع ضرر; لأنه ربما لا يمكنه الأداء فيه فيفوته الأداء أصلا مع بقاء الوقت وإنما إليه التعيين بأداء الصلاة وفيه فائدة بأن يختار الأداء في الجزء الذي تيسر عليه الأداء كذا في أصول الفقه للمصنف رحمه الله. قوله: "أن لا ينفي غيره" أي لا يمنع صحة صلاة أخرى; لأن الوقت لما لم يكن معيارا لا يصير مستغرقا بالواجب فلا ينفي مشروعية سائر أنواع الصلاة وهذا; لأن الصلاة اسم لأفعال معلومة من القيام والركوع والسجود والقعدة وهذه الأفعال وجبت في الذمة والأداء يحصل بمنافع بدنه فكان الوقت خلفا عنها فبقي غيرها مشروعا فيه والمنافع مملوكة له يصرفها إلى أي نوع شاء كالرجل عليه ديون وله مال لا ينفي وجوب دين آخر ولا قضاء دين آخر عن ذلك المال كذا هذا, وكذلك من أجر نفسه لخياطة الثوب ملك أن يخيط ثوبا آخر; لأن الواجب فعل الخياطة وذلك لا ينافي فعلا آخر كذا هنا. قوله: "النية شرط ليصير ماله مصروفا إلى ما عليه" أي ليصير المنافع التي هي مملوكة له صالحة لأداء الفرض وغيره مصروفة إلى ما عليه, ولا يقال هذا تفسير القضاء; لأن القضاء صرف ماله من المشروع بعد فوات الوقت إلى ما عليه وهذا صرف المنافع في الوقت إلى ما عليه, ثم لا بد من تعيين النية وهو إن(1/337)
تعيين النية شرط لأن المشروع لما تعدد لم يصر مذكورا بالاسم المطلق إلا عند تعيين الوصف ومن حكمه أنه لما لزمه التعيين لما قلنا يسقط بضيق وقت الأداء لأن التوسعة أفادت شرطا زائدا وهو التعيين فلا يسقط هذا الشرط بالعوارض ولا بتقصير العباد. وأما النوع الثاني من المؤقتة فما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه مثل شهر رمضان وإنما قلنا إنه معيار له لأنه قدر وعرف به وسبب له وذلك شهود جزء من الشهر لما نذكر في باب السبب إن شاء الله ومن حكمه أن غيره صار منفيا لأن الشرع لما أوجب شغل المعيار به وهو واحد
ـــــــ
تعين فرض الوقت لتعدد المشروع في هذا الوقت, ولم يصر مذكورا بالاسم المطلق بأن يقول نويت أن أصلي إلا عند تعيين الوصف بأن يقول بلسانه نويت أن أصلي فرض الظهر أو يقصد بقلبه ذلك, وذكر فرض الوقت ليس بشرط عند البعض والأصح أنه شرط ولا يسقط هذا الشرط بضيق الوقت; لأنه من العوارض وهي لا تعارض الأصل كالعصمة الثابتة بالإسلام والدار لا تسقط بعارض دخول دار الحرب حتى لو دخل مسلمان دار الحرب وقتل أحدهما صاحبه يجب الدية; لأن الأصل وهو العصمة لم يبطل بهذا العارض فكذلك ههنا وجب التعيين باعتبار تعدد المشروع الذي ثبت بناء على توسع الوقت فلا يسقط بعارض ضيق الوقت, ألا ترى أن التعدد باق فإنه لو قضى فرضا آخر عند ضيق الوقت أو أدى نفلا جاز ويجوز أن يكون المراد من العوارض النوم والإغماء ونحوهما أي لا يسقط هذا الشرط بأن نام أو أغمي عليه أو نسي حتى ضاق الوقت; لأنها من العوارض وكذلك لا يسقط بتقصير العباد بالطريق الأولى; لأن التقصير لا يصلح سببا لسقوط الحق.
قوله: "وإنما قلنا إنه معيار" أي الوقت معيار لأنه قدر أي لأن الصوم قدر بالوقت حتى ازداد بازدياده وانتقص بنقصانه كالمكيل بالكيل وعرف به أي الصوم عرف بالوقت فقيل الصوم هو الإمساك عن المفطرات الثلاث نهارا مع النية بإذن صاحب الشرع فإذا دخل الوقت وهو النهار في تعريفه لا يوجد بدونه فكان مقدرا به وكان الوقت معيارا له ضرورة ويجوز أن يكون عرف من المعرفة ويكون تأكيدا لقدر أي قدر الصوم بالوقت وعرف مقدار الصوم به فكان معيارا له وسبب له عطف على معيار أي الوقت سبب للصوم كما يعرف في موضعه ومن حكمه أي حكم هذا النوع شغل المعيار به أي بهذا الواجب الموقت به وهو أي المعيار واحد والواو للحال فإذا ثبت له أي للمعيار وصف وهو كونه مشغولا بواجب يعني: "المعيار واحد" فإذا صار معيارا للفرض لا يسع فيه غيره مع قيام الفرض فيه فكان من ضرورة تعين الفرض انتفاء غيره لأنه لا يتصور أداء صومين بإمساك واحد ولا يتصور في هذا الوقت إلا إمساك واحد وهو لا يفضل عن المستحق فلا يكون غيره مشروعا(1/338)
فإذا ثبت له وصف انتفى غيره كالمكيل والموزون في معياره فانتفى غيره لكونه غير مشروع قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ولما لم يبق غيره مشروعا لم يجز أداء الواجب فيه من المسافر لأن شرع الصوم فيه عام ألا ترى أن صوم المسافر عن الفرض يجزيه فيثبت أنه مشروع في حقه إلا أنه رخص له أن يدعه بالفطر وهذا لا يجعل غير الفرض مشروعا فانعدم فعله لعدم ما نواه وكذلك على قولهما إذا نوى النقل أو أطلق النية وكذلك المريض في هذا كله وقال أبو حنيفة رحمه الله الوجوب واقع على المسافر ولهذا صح أداؤه بلا توقف إلا أنه
ـــــــ
فيه ولا يتصور الأداء شرعا كذا قاله شمس الأئمة رحمه الله. وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله المسافر إذا نوى واجبا آخر في رمضان أو تطوعا أو أطلق النية وقع عن فرض رمضان لأن شرع الصوم عام في حق المقيم والمسافر لأن وجوبه بشهود الشهر وقد تحقق في حق المسافر كما تحقق في حق المقيم ولهذا لو صام عن فرض الوقت يجزيه وقد بينا أن شرعه ينفي شرعية الغير فثبت أن غير فرض الوقت لم يبق مشروعا في حق المسافر أيضا إلا أن الشرع أثبت له الترخص بالفطر دفعا للمشقة فإذا ترك الترخص كان هو والمقيم سواء فيقع صومه عن فرض الوقت بكل حال. وقوله رخص له أن يدعه بالفطر معناه أن الترخص مختص بالفطر دون غيره فلو جوزنا له الصوم لا عن فرض الوقت صار مترخصا بما لم يجعل الشرع له ذلك فكان هذا نصب المشروع للشرع لا انقيادا للشرع كذا ذكر الشيخ في شرح التقويم فانعدم فعله أي أداؤه الواجب الآخر أو التطوع لعدم ما نواه أي لعدمه في نفسه شرعا كالصوم في الليل وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا نوى عن واجب آخر يقع عما نوى لأن الوجوب وإن كان ثابتا في حق المسافر لوجود سببه وهو شهود الشهر إلا أن الشرع أثبت له الترخص بترك الصوم تخفيفا عليه عند وجود السفر الذي هو محل المشاق. ومعنى الترخص أن يدع مشروع الوقت بالميل إلى الأخف فإذا اشتغل بواجب آخر كان مترخصا لأن إسقاطه من ذمته أخف عليه من إسقاط فرض الوقت لأنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر لا يكون مؤاخذا بفرض الوقت ويكون مؤاخذا بذلك الواجب ولما جاز له الترخص بالفطر لأنه أخف عليه نظرا إلى منافع بدنه فلأن يجوز له الترخص بما هو أخف عليه نظرا إلى مصالح دينه كان أولى.
قوله: "ولهذا صح أداؤه" وهذا عند جمهور الفقهاء وأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم وعند أصحاب الظواهر لا يجوز وهو مروي عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم لأن الوجوب في حقه مضاف إلى عدة من أيام فصار هذا الوقت في حقه(1/339)
رخص له الترك قضاء لحقه وتخفيفا عليه فلما أساغ له الترخص بما يرجع إلى مصالح بدنه ففيما يرجع إلى مصالح دينه وهو قضاء ما عليه من الدين أولى وصار كونه ناسخا لغيره متعلقا بإعراضه عن جهة الرخصة وتمسكه بالعزيمة
ـــــــ
كالشهر في حق المقيم فلا يجوز الأداء قبله وقال صلى الله عليه وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" 1 وقال: "ليس من البر الصيام في السفر" 2 وتمسك الجمهور بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهذا يعم المسافر والمقيم ثم قوله عز ذكره: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 185] لبيان الترخص بالفطر فينفى به وجوب الأداء لا جوازه وفي حديث أنس رضي الله عنه قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر لا يعيب البعض على البعض3 والأخبار في هذا كثيرة وتأويل حديثهم إذا كان يجهده الصوم حتى يخاف عليه الهلاك على ما روي أنه عليه السلام مر برجل مغشي عليه قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فسأل عن حاله فقيل إنه صائم فقال: "ليس من البر الصيام في السفر" يعني لمن هذا حاله كذا في المبسوط.
قوله: "بلا توقف" احتراز عن أداء الصلاة في أول الوقت على قول بعض مشايخنا العراقيين فإنه موقوف على ما يظهر من حال المؤدي في آخر الوقت عندهم لأن السبب هو الجزء الأخير عندهم واحتراز عن أداء الزكاة في أول الحول فإنه موقوف على كمال النصاب في آخر الحول حتى لو هلك النصاب كان له أن يسترد من الساعي إن كان قائما لأن أصل السبب وإن وجد في أول الحول إلا أن وصفه وهو النماء لم يوجد. فلو وجد أصل السبب قلنا بالجواز ولفوات وصفه قلنا بالتوقف وههنا السبب وهو شهود الشهر ثابت في حق الجميع بصفة الكمال فيصح الأداء بلا توقف كأداء الحج من الفقير لكمال سببه وهو البيت ويجوز أن يكون معناه بلا تردد وشك.
قوله: "وصار كونه ناسخا لغيره" جواب عن قولهما إن شرع الصوم لما ثبت في حقه لم يبق غيره مشروعا أي صار كون صوم رمضان ناسخا لغيره من الصيامات متعلقا بإعراضه عن الرخصة وتمسكه بالعزيمة
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في الصيام حديث رقم 1666.
2 أخرجه البخاري في الصوم 3/44 ومسلم في الصيام حديث رقم 1115 وأبو داود في الصيام حديث رقم 2407 وابن ماجه في الصيام حديث رقم 1665 والإمام أحمد في المسند 3/299.
3 أخرجه البخاري في الصوم 3/44 ومسلم في الصيام رقم 1118 والإمام مالك في الموطأ 1/295 أبو داود في الصوم حديث رقم 2405 والإمام أحمد في المسند 3/45.(1/340)
وإذا لم يفعل بقي مشروعا فصح أداؤه ولأن الأداء غير مطلوب منه في سفره فصار هذا الوقت في حق تسليم ما عليه بمنزلة شعبان فقبل سائر الصيامات, والطريق الأول يوجب أن لا يصح النقل بل يقع عن الفرض والثاني يوجب أن يصح وفيه روايتان عنه وأما إذا أطلق النية فالصحيح أن يقع عن رمضان لأن الترخص والترك لا يتحقق بهذه العزيمة وأما المريض فإن الصحيح
ـــــــ
فإذا لم يفعل أي لم يعرض عن الرخصة لما ذكرنا بقي أي غير صوم الوقت مشروعا لأن المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط فصح أداؤه وهذا الطريق يوجب أنه إذا نوى النفل يقع عن فرض الوقت كما روى ابن سماعة1 عنه وهو الأصح لأنه لا يمكن إثبات معنى الرخصة بهذه النية إذ هو يتجشم للحال مرارة الجوع ويلزمه قضاء فرض الوقت في الثاني ولا فائدة في النفل إلا الثواب وهو في فرض الوقت أكثر فكان هذا ميلا إلى الأثقل لا إلى الأخف وإذا لم يثبت الترخص بقي صوم الوقت مشروعا فيتأدى بنية النفل كما في حق المقيم وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يقع عما نوى لأن انتفاء شرعية النفل ليس من حكم الوجوب واستحقاق الأداء بمنافعه فإن ذلك موجود في الواجب الموسع بل من حكم تعين هذا الزمان لأداء الفرض ولا تعين في حق المسافر لأنه مخير بين الأداء فيه والتأخير إلى عدة من أيام أخر فلا ينتفي صحة أداء صوم آخر منه بهذا الإمساك كذا ذكر الإمام السرخسي وذكر القاضي الإمام أبو زيد أن الله تعالى أمر المسافر ابتداء بصوم العدة من غير شرط الترخص بالفطر فتأجل وجوب الصوم في حقه بالإضافة كمن نذر أن يصوم رجبا وهو في غير رجب لا يجب الصوم عليه في الحال فلم يبق في حقه رمضان فرضا إلا أن يعجله ولما نوى صوما آخر ما عجله فبقي رمضان في حقه كشعبان ما لم يعجل الفرض فيصح منه أداء النفل وغيره. وتبين بهذا أنه مترخص بأداء النفل أيضا كما أنه مترخص بأداء فرض آخر وإن ترخصه لا يبطل إلا بصوم الوقت وأما إذا أطلق النية فعلى الرواية التي لا يصح نية النفل لا شك أنه يقع عن رمضان وإن بنية النفل لما وقع عن صوم الوقت مع أنها لا تحتمل الفرض فبالنية المطلقة التي تحتمله أولى أن يقع عنه وعلى الرواية التي يقع بنية النفل عن النفل قيل إذا أطلق النية لا يقع عن الفرض لأن رمضان لما صار في حقه كشعبان حتى قيل سائر أنواع الصيام لا بد من تعيين النية كما في الظهر المضيق ولأن المطلق يحتمل النفل والفرض والوقت يقبلهما فكان الحمل على النفل الذي هو أدنى أولى كما في خارج رمضان والصحيح أنه يقع عن فرض الوقت
ـــــــ
1 هو محمد بن سماعة بن عبد الله بن هلال بن وكيع بن بشر التميمي 130 – 232.(1/341)
عندنا فيه أن يقع صومه بكل حال عن الفرض لأن رخصته متعلقة بحقيقة العجز فيظهر بنفس الصوم فوات شرط الرخصة فيلحق بالصحيح
ـــــــ
على جميع الروايات لأن الترخص وترك العزيمة وهي صوم الوقت لا يثبت بهذه النية لأنه إنما يثبت بنية واجب آخر أو بنية صريح النفل على رواية الحسن وهذه النية لا تحتمل واجبا آخر غير فرض الوقت لأنه لا يتأدى بمثل هذه النية في غير رمضان ففيه أولى وليست بنية صريح النفل أيضا بل هي تحتمله كما تحتمل فرض الوقت ولما لم يثبت الترخص التحق بالمقيم فإطلاق النية منه ينصرف إلى صوم الوقت وصار الحاصل أن الرخصة عنده متعلقة بالفطر وما في معناه من ترفيه يرجع إليه وعندهما هي متعلقة بالفطر لا غير.
قوله: "أما المريض فالصحيح عندنا" إلى آخره احترز به عما روى أبو الحسن الكرخي رحمه الله أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة رحمه الله وبهذه الرواية أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله فقال وإن كان مريضا أو مسافرا فصام رمضان بنية واجب آخر فعند أبي حنيفة يصير صائما عما نوى ولو صام بنية التطوع ففي ظاهر الرواية أنه يصير صائما عن رمضان وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يصير صائما عما نوى وهو اختيار شيخ الإسلام صاحب الهداية والقاضي الإمام فخر الدين والإمام ظهير الدين الولوالجي1 والقاضي الإمام ظهير الدين البخاري والشيخ الكبير أبي الفضل الكرماني رحمهم الله فقد ذكر أبو الفضل في الإيضاح وكان مشايخنا يفصلون بين المسافر والمريض وأنه ليس بصحيح والصحيح أنهما يتساويان قال وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله نصا أنه إذا نوى التطوع يقع عن التطوع وما ذكر ههنا اختيار المصنف وشمس الأئمة ومن تابعهما.
قلت وكشف هذا أن الرخصة لا تتعلق بنفس المرض بإجماع بين الفقهاء ولا يعبأ فيه بقول مخالفيهم وذلك لأن المرض متنوع نوع منه ما يضر به الصوم نحو الحميات المطبقة ووجع الرأس والعين وغيرها ونوع منه ما لا يضر به الصوم كالأمراض الرطوبية وفساد الهضم وغير ذلك, والترخص إنما ثبت للحاجة إلى دفع المشقة والضرر ترفيها فمن البعيد أن يثبت فيما لا حاجة فيه إلى دفع ضرر. فلذلك شرط كونه مفضيا إلى الحرج بخلاف السفر فإنه يوجب المشقة بكل حال فتعلق الترخص بنفس السفر وأقيم السفر مقام المشقة لما عرف
ـــــــ
1 ظهير الدين الولوالجي عبد الرشيد بن أبي حنيفة بن عبد الرزاق أبو الفتح المتوفى سنة 540 هـ فقيه حنفي انظر معجم المؤلفين 2/231.(1/342)
فأما المسافر فيستوجب الرخصة بعجز مقدر بقيام سببه وهو السفر فلا يظهر بنفس الصوم فوات شرط الرخصة فلا يبطل الترخص فيتعدى حينئذ بطريق التنبيه إلى حاجته الدينية قال زفر رحمه الله ولما صار الوقت متعينا لهذا
ـــــــ
ثم عندنا يثبت الترخص بخوف ازدياد المرض كما يثبت بحقيقة العجز لا خلاف فيه بين أصحابنا فإن من ازداد وجعه أو حماه بالصوم يباح له الفطر وإن لم يعجز عن الصوم ولم يرو عن أحد من أصحابنا خلاف ذلك فهذا المريض إن تحمل زيادة المرض وصام عن واجب آخر لا شك أنه يقع عما نوى عند أبي حنيفة إذ لا فرق بينه وبين المسافر بوجه فعلى هذا لا يستقيم الفرق الذي ذكره صاحب الكتاب إلا بتأويل وهو أن المرض لما تنوع كما ذكرنا تعلق الترخص في النوع الأول وهو الذي يضر به الصوم بخوف ازدياد المرض ولم يشترط فيه العجز الحقيقي دفعا للحرج وتعلق في النوع الثاني بحقيقة العجز لأنه وإن لم يضر به الصوم لكن لما آل أمر المريض إلى الضعف الذي عجز به عن الصوم لا بد من أن يثبت له الترخص دفعا للهلاك عن نفسه كما يثبت بالإكراه إذ معنى العجز أنه لو صام لهلك غالبا فإذا صام هذا المريض عن واجب آخر ولم يهلك ظهر أنه لم يكن عاجزا ولم يثبت له الترخص فيقع عن فرض الوقت. فظهر أن مراد الشيخ أبي الحسن من قوله الجواب في المريض والمسافر سواء المريض الذي أضر به الصوم وتعلق ترخصه بازدياد المرض ومراد المصنف من قوله إن رخصته متعلقة بحقيقة العجز المريض الذي لم يضر به الصوم وتعلق ترخصه بحقيقة العجز. وقوله فإن الصحيح عندنا كذا أراد به نفسه وإنما قال هذا لأن رواية الشيخ أبي الحسن أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة لو أجريت على ظاهرها وعمومها من غير تأويل لأوجبت تعميم الحكم في حق كل مريض كعمومه في حق المسافر وذلك فاسد فالشيخ نظر إلى عمومها الظاهري وأشار إلى الفساد بقوله فإن الصحيح عندنا كذا يوضح ما ذكرنا ما قال شمس الأئمة في المبسوط فأما المريض إذا نوى واجبا آخر فالصحيح أنه يقع صومه من رمضان لأن إباحة الفطر له عند العجز عن أداء الصوم فأما عند القدرة فهو والصحيح سواء بخلاف المسافر ثم قال وذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله إن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة وهو سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق الصوم ويخاف منه زيادة المرض فهذا يدلك بأدنى تأمل على صحة ما ذكرنا والله أعلم.
قوله: "بطريق التنبيه" التنبيه الإعلام يعني جواز الترخص بالفطر لحاجته الدنيوية تنبيه على جوازه بأداء الصوم لحاجته الدينية بالطريق الأولى لأنه أهم فيتعدى الترخص أو الحكم من الفطر إلى الصوم الواجب للحاجة بالقياس أو بالدلالة.(1/343)
المشروع صار ما يتصور من الإمساك في هذا الوقت مستحقا على الفاعل فيقع للمستحق بكل حال كصاحب النصاب إذا وهبه من الفقير بعد الحول وكأجير الوحد يستحق منافعه قلنا ليس التعيين باستحقاق لمنافع العبد لأن ذلك لا يصلح قربة وإنما القربة فعل يفعله العبد عن اختيار بلا جبر بل الشرع لم يشرع
ـــــــ
قوله: "ولما صار متعينا" إلى آخره, الصحيح المقيم إذا أمسك في نهار رمضان ولم يحضره النية لم يكن صائما عندنا وقال زفر رحمه الله يخرج به عن عهدة الأمر لأن الأمر بالفعل متى تعلق بمحل بعينه أخذ حكم العين المستحق فعلى أي وصف وجد وقع عن جهة المأمور به كالأمر برد المغصوب والودائع لما كان متعلقا بمحل بعينه فعلى أي وجه أوقع الفعل لا يقع إلا عن الجهة المستحقة عليه كالأمر بأداء الزكاة لما تعلق بمحل عين وهو النصاب كان الصرف إلى الفقير واقعا عن الجهة المستحقة حتى لو وهب النصاب من الفقير من غير نية يخرج عن العهدة وكما لو استأجر إنسانا ليخيط له ثوبا كان الفعل الواقع فيه من جهة ما استحق عليه سواء قصد به التبرع أو أداء الواجب بالعقد والفقه الجامع للكل أنه لما أخذ تعلقا بمحل عين كان متعينا على اعتبار الوجود فإذا وجد وقع عنه وإن كان دينا باعتبار ذاته على معنى أنه يجب إيجاده.
ولنا حرفان أحدهما أن الواجب في الذمة أمر العبد بتحصيله وإيجاده في وقت عين والإيجاد بصورته ومعناه وصورته الإمساك ومعناه كونه عبادة. وهذا المعنى لا يحصل إلا بالعزيمة ولم توجد فلا يقع عن الجهة المستحقة وإن تعين له بخلاف هبة النصاب لأن الإخراج تم بصورته ومعناه وكذا الفعل في الإجارة تم بصورته ومعناه.
والثاني وهو المذكور في الكتاب أن منافعه مع تعين الوقت للفرض واستحقاق الصوم عليه بقيت على ملكه ونعني بها الصلاحية التي يتمكن بها من أداء العبادة أو غيرها وهو مأمور بأن يؤدي بها ما هو مستحق عليه من العبادة وذلك بأداء يكون منه عن اختيار فلا يتحقق ذلك بدون العزيمة لأنه ما لم يعزم لا يكون صارفا ماله إلى ما هو مستحق عليه ولا يحصل ذلك بعدم العزيمة لأن العدم ليس بشيء ولا يقال الإمساك وجد منه اختيارا فلا حاجة إلى النية ليحصل الاختيار لأنا نقول إنما شرطنا الاختيار في صرف هذا الفعل عن العادة إلى العبادة ولا يحصل ذلك بدون النية وإنما لا يمكنه صرف منافعه إلى أداء صوم آخر لأنه غير مشروع لا لأن المنافع مستحقة عليه كما لا يمكنه ذلك في الليل وهذا بخلاف الأجير فإن المستحق منافعه إن كان أجيرا واحدا والوصف الذي يحدث في الثوب إن كان أجيرا مشتركا فيه وذلك لا يتوقف على عزم يكون منه وبخلاف الزكاة فإن المستحق صرف جزء من المال إلى المحتاج ليكون كفاية له من الله تعالى. وقد تحقق(1/344)
في هذا الوقت مما يتصور فيه الإمساك قربة إلا واحدا فانعدم غير الفرض الوقتي لعدم كونه مشروعا لا باستحقاق منافعه كما ينعدم في الليل أصلا ولا استحقاق ثمة فإذا بقيت المنافع له لم يكن بد من التعيين ولم يوجد لأن عدم العزيمة ليس بشيء بخلاف هبة النصاب لأنه عبادة تصلح مجازا عن الصدقة
ـــــــ
ذلك فالهبة صارت عبارة عن الصدقة في حقه مجازا لأن المبتغى بها وجه الله تعالى دون العوض من المصروف إليه كما أن الصدقة على الغني صارت عبارة عن الهبة حتى ملك المتصدق الرجوع بدلالة في المحل قال شمس الأئمة في المبسوط وفي مسألة هبة النصاب معنى القصد حصل باختيار المحل ومعنى القربة حصل لحاجة المحل ألا ترى أن من وهب لفقير شيئا لا يملك الرجوع فيه لحصول الثواب له فالحاصل أن الخصم نظر إلى الإمساك فقال هو الواجب لا غير وجعل تأثير النية في تحصيل الإيقاع عن الجهة المستحقة ولا حاجة إلى ذلك إذا تعلق بمحل عين ونحن جعلنا تأثيرها في تحصيل معنى الإمساك وهو كونه عبادة ووقفنا الحصول على وجود المعنى كما وقفنا على حصول الصورة أو جعلنا تأثيرها في تحقيق معنى الاختيار الذي هو شرط في تحصيل العبادة ثم بعد حصول المعنى أو حصول أداء العبادة عن اختيار أعرضنا عن تعيين النية كما نذكره مع الشافعي رحمة الله عليه.
وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله ينكر هذا المذهب لزفر ويقول المذهب عنده أن صوم جميع الشهر يتأدى بنية واحدة كما هو قول مالك رحمه الله وهذا الاختلاف الذي ذكرناه في الصحيح المقيم فأما المريض أو المسافر فلا خلاف أنه لا يكون صائما ما لم يبق. والفرق لزفر رحمه الله أن الأداء غير مستحق في هذا الوقت فلا يتعين إلا بنيته بخلاف الصحيح المقيم وقلنا إنما يشترط النية ليصير الفعل قربة وفي هذا المسافر والمقيم سواء كذا في المبسوط.
وقوله كصاحب النصاب أداء وهبة من الفقير بعد الحول إنما يستقيم مقيسا عليه لزفر إذا لم يحصل للفقير غنى بهذه الهبة بأن كان مديونا أو وهبه متفرقا فأما إذا لم يكن كذلك فلا لأن إيتاء مأتي درهم إلى الفقير بنية الزكاة لا يصح عنده ولا يخرج به عن العهدة فما ظنك في الهبة بدون نية الزكاة إلا إذا أراد به الإلزام على مذهب الخصم مما يتصور فيه الإمساك قربة أي من فرض الوقت والقضاء والمنذور والكفارة والنفل إلا واحدا وهو فرض الوقت لم يكن بد من التعيين أي تعيين المنافع للعبادة لأنه عبارة أي عقد الهبة عبارة والعبارة شيء فأمكن أن يجعل مجازا عن الصدقة بخلاف عدم العزيمة فإنه ليس بشيء.(1/345)
استحسانا. وقال الشافعي رحمه الله لما كانت منافعه بقيت على ملكه وجب التعيين حتى يصير مختارا لا مجبورا ولو وضعنا عنه تعيين الجهة لصار مجبورا في صفة العبادة ولخلا معنى العبادة عن الإقبال والعزيمة وقلنا الأمر على ما قلت إلا
ـــــــ
قوله: "لما بقيت منافعه" أي إلى آخره يصح صوم رمضان بنية التطوع ونية واجب آخر ونية الصوم مطلقا عن الصحيح المقيم وقال الشافعي رحمه الله لا يصح عن أحد بنية ما إلا بنية فرض رمضان لأن منافعه لما بقيت على ملكه وجب التعيين أي تعيين الجهة لأنه لا يتحقق صرف ماله إلى مشروع الوقت ما لم يعينه في عزيمته وهذا لأن الصوم متنوع في أوصافه فرضا ونفلا كأصل الإمساك متنوع إلى عادة وعبادة ومعنى العبادة معتبر في الوصف كما هو معتبر في الأصل فإنه مأمور به ويحصل به زيادة ثواب ويستحق تاركه زيادة تغليظ في العقاب فكان الوصف بنفسه عبادة كأصل الصوم ومن الممتنع حصول عبادة لا عن اختيار من العبد فكما شرطت العزيمة للأصل نفيا للجبر فكذلك يشترط للوصف لهذا المعنى كما في الصلاة.
ولا يقال تعين المحل لقبول المشروع دون غيره قد أغنى عن تعيين الوصف لأنا نقول تعين الوصف واجب على العبد ليقع عن اختيار ولا يغني تعين المحل عن ذلك شيئا إذ نحن ما اعتبرنا النية للتمييز حتى يسقط اعتبار التميز بالنية بتعين المحل وإنما اعتبرت للتحصيل على ما حققنا ولا يلزم عليه حجة الفرض حيث يتأدى بمطلق النية بالإجماع وبنية النفل عندي لأنه ثبت بخلاف القياس بدلالة النص. وهو ما روي عن النبي عليه السلام أنه رأى رجلا يلبي عن شبرمة فقال: "ومن شبرمة" فقال أخ لي أو صديق لي فقال: "أحججت عن نفسك" قال لا فقال عليه السلام: "حج عن نفسك ثم عن شبرمة" 1 فأمر بالحج لنفسه بإحرام انعقد لغيره فجوزنا عن الفرض بنية النفل أيضا دلالة ولا يمكن إلحاق الصوم بالحج لأن أمر الحج عظيم الخطر لما يحتاج فيه إلى زيادة مشقة وليس الصوم في معناه ولكنا نقول الأمر على ما قلت أي لا بد للوصف من التحصيل بالنية نفيا للجبر كما لا بد للأصل منه إلا أن النية الموجودة شاملة للأصل والوصف. وبيانه أنا أجمعنا على أن الشرط هو نية الصوم المشروع فيه حتى إذا نوى بهذا الوصف أجزأه وإن لم ينو فرضا وهو بنية أصل الصوم نوى مشروع الوقت لأن المشروع فيه واحد وهو الفرض بلا خلاف بيننا وبين الشافعي والواحد في مكان أو زمان ينال باسم جنسه كما ينال باسم نوعه باسمه العلم فإن زيدا لو نودي يا إنسان أو يا رجل وهو منفرد
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في المناسك حديث رقم 1811 وابن ماجه في المناسك حديث رقم 2903.(1/346)
أنه لما اتحد المشروع في هذا الوقت تعين في زمانه فأصيب بمطلق الاسم ولم يفقد بالخطإ في الوصف كالمتعين في مكانه فصار جوازه بهذه النية على أنه تعيين لا على أن التعيين عنه موضوع فكان هذا منا قولا بموجب العلة وقال
ـــــــ
في الدار كان كما قيل يا زيد فكذا فيما نحن فيه الإمساك قد وجد بصورته ومعناه لأنه نوى الصوم وهو واحد فيتناوله مطلق الاسم وهو معنى قول علمائنا رحمهم الله إنه صوم عين فيتأدى بمطلق النية كالنفل وفي غير رمضان فإنه لا صوم مع النفل في غير رمضان في أصل الشرع وإنما يوجد غيره بعوارض.
وكذلك إذا نوى النفل لأن الموصوف بأنه نفل غير مشروع فلغت نية النفل وبقيت نية الصوم فصار كما لو نوى الصوم مطلقا بمنزلة ما إذا نوى الفرض في غير رمضان ولا فرض عليه يكون نفلا لأن الوصف لغا فبقي مطلق النية.
"فإن قيل" الواحد في المكان إنما ينال باسم جنسه إذا كان موجودا وههنا الصوم معدوم يوجد بتحصيله فكيف ينال المعدوم باسم جنسه.
"قلنا" كونه معدوما لم يمنع أن ينال باسم نوعه بأن نوى الصوم المشروع في الوقت فكذلك باسم جنسه لأن اسم جنسه اسمه كما أن اسم نوعه اسمه.
"فإن قيل" لو سلمنا أنه يتأدى بمطلق النية لا نسلم أنه يتأدى بنية التطوع أو بنية القضاء وغيره لأن المتوحد في المكان ينال باسمه ولا ينال باسم غيره فإن زيدا لا ينال باسم عمرو وإن كان ينال باسم إنسان ورجل كيف وأنه بهذه النية معرض عن الفرض لأنه ترك الثقيل إلى الخفيف فإنه لو أفطر في النفل أو في القضاء لا يلزمه الكفارة فلا يمكن أن يجعل مع الإعراض عنه مقبلا عليه لتضاد بينهما يوضحه أنه لو اعتقد المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر فكيف يجوز أن يصير ناويا للصوم المشروع بنية النفل.
"قلنا" إنه قد نوى أصل الصوم ووصفه والوقت لا يقبل وصفه فلغت نية الوصف وبقيت نية الأصل إذ ليس من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل لأن قوام الأصل ليس بالوصف وأصل الصوم جنسه لا اسم غيره بخلاف عمرو فإنه ليس باسم جنس أصلا والأعراض إنما تثبت في ضمن نية النفل وقد لغت الاتفاق فيلغو ما في ضمنها ونظيره الحج على مذهبه وبه يبطل قوله إنه لو اعتقد فيه أنه نفل يكفر.
وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقته أن الفريضة اسم لفعل ألزمه الله تعالى وبين مقداره وأظهر لنا إلزامه لذلك الفعل بطريق لا ريبة فيه فلولا الإلزام الظاهر لما سمي الفعل فريضة والعبادة اسم لكل ما يحصل على طريق الإخلاص لله تعالى على وجه(1/347)
الشافعي رحمه الله لما وجب التعيين شرطا بالإجماع وجب من أوله لأن أول أجزائه فعل مفتقر إلى العزيمة فإذا تراخى بطل فإذا اعترضت العزيمة من بعد لم
ـــــــ
لا يبقى فيه لغيره شركة ولهذا كانت العبادة مشروعة بخلاف هوى النفس لأنها لو كانت على موافقة الهوى لتسارع إليها المكلفون لما فيها من داعية الهوى واستلذاذ النفس لذلك فيتحقق فيها الشركة فيزول معنى الإخلاص فكانت العبادة اسما للفعل لا لعينه بل لوجود فعل آخر من الفاعل وهو الإخلاص وهو يحصل بالنية وهي أن يقصد بقلبه توجيه فعله إلى الله تعالى وحده فإذا وجد القصد ههنا كان الإمساك عبادة فبعد ذلك اتسامه بسمة الفرضية لن يتعلق بفعل يوجد من العبد بل يتعلق بوجود الإلزام من الله تعالى على طريق ظهر ثبوته بيقين وقد تحقق ذلك في هذا اليوم بعينه فتتسم هذه العبادة بهذه السمة شاء العبد أو لم يشأ كالمولود إذا ولد وقد كانت أمه ولدت قبله آخر يتسم هذا بسمة الأخوة لوجود من يقابله. فكذا هذا غير أن من نوى نفلا أو واجبا آخر ظن أن لا أمر بتحصيل عبادة الصوم في هذا اليوم وأن العبادة وإن حصلت وحصل الإمساك لله تعالى لم يتسم بسمة الفرض لزوال الأمر بالإمساك المعين في هذا اليوم وهذا الظن منه فاسد كما ظن أن هذا المولود لا يسمى أخا لأن أمه ما ولدت قبله وقد كانت ولدت كان الظن باطلا والإثم ثابتا كذا هذا.
قال وعن هذا قال بعض مشايخنا إن هذه المسألة مصورة في اليوم الأول من شهر رمضان إذا شك إنسان فيه وشرع بهذه النيات ثم تبين أن هذا اليوم من شهر رمضان حتى يكون هذا الظن معفوا فأما لو وجد في غيره من الأيام فيخشى عليه الكفر لأنه ظن أن لا أمر بالإمساك في هذا اليوم المعين بتعيين الله تعالى للإمساك ومثل هذا الظن يخشى منه الكفر ثم قال في آخر هذه المسألة ومن وقف على ما ذكرنا عرف جيد الخصوم عن سنن الصواب بتعلقهم في المسألة بقوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فإنا سلمنا أن العمل لن يصير عبادة بدون النية لكن وجدت النية في المتنازع فيه وإنما الخصم هو الذي ترك العمل بالجبر حيث أخرج عمله المقرون بالإخلاص عن أن يكون عبادة وكذا قوله عليه السلام: "ولكل امرئ ما نوى" يقتضي جواز الصوم لوجود النية ثم يكون الصوم فرض الوقت لوجود الإلزام من الله تعالى على وجه توقف عليه بطريق لا شبهة فيه والله أعلم.
قوله: "لما وجب التعيين شرطا بالإجماع" أي وجب تعيين مشروع الوقت باتفاق بيننا أما بتعيين الوصف كما قلت أو بتعيين الأصل كما قلتم وجب أن يشترط من أوله(1/348)
يؤثر في الماضي بوجه لأن إخلاص العبد فيما قد عمله لا يتحقق وإنما هو لما لم يعمله بعد فإذا فسد ذلك الجزء فسد الباقي لأنه لا ينجزئ ووجب ترجيح جانب الفساد احتياطا.
وهذا بخلاف التقديم لأن التقديم واقع على جملة الإمساك ولم يعترض
ـــــــ
فإذا صام بنية من النهار لا يجزيه لأن الصوم واجب عليه في جميع النهار ولا يوجد ذلك إلا بالنية فإذا خلا أوله عن النية فسد لفقد شرط ولا وجه إلى تصحيحه بأعمال النية المتأخرة في الماضي بطريق الإلحاق بأول النهار لأن العزم أثره في المستقبل من حيث تحقيقه وإيجاده دون تصحيح الماضي لأنه خرج عن يده ولم يبق قادرا ولا وجه لاعتباره في الأكثر وإقامته مقام الكل لأنه أمر ترده الحقيقة لأنه مأمور بالكل ولم يوجد فإنزاله موجدا في الكل بالإيجاد في البعض خلاف الحقيقة ألا ترى أنه لا يكتفى بالإمساك في الأكثر ولا يقام مقام الكل فكذا في اعتبار النية التي بها يوجد معنى الصوم وإذا فسدوا له بعدم العزيمة وأنه غير متجزئ فسد الباقي ضرورة عدم التجزي. ولا يقال لما صح الباقي بوجود العزيمة فيه صح الكل ضرورة عدم التجزي أيضا لأنا نقول ترجيح الفساد في باب العبادة أولى لأنه أقرب إلى الاحتياط إذ فيه الخروج عن العهدة بيقين فهذا معنى قوله ووجب ترجيح الفساد احتياطا ولا يلزم عليه النفل فإنه يجوز بنية من النهار بالإجماع لأنه غير مقدر شرعا فيمكن أن يجعل صائما من حين نوى لما بينه.
قوله: "وهذا بخلاف التقديم" أي تأخير النية عن أول الإمساكات يخالف تقديمها عليه حيث جاز التقديم مع أن النية لم تقترن بأوله أيضا ولم يجز التأخير والفرق أن التقديم واقع على جملة الإمساك يعني أنه قد عزم في الليل أنه يمسك لله تعالى من الفجر إلى الغروب فصحت النية بوضعها من حيث كونها عزما في المستقبل ولم يعترض عليه أي على ما قدم من النية ما يبطله لأنه لم يوجد ما يضاده من ترك العزيمة والإفطار بعد الصبح والأكل والشرب والمواقعة في الليل لا ينافي العزيمة المتقدمة بالإجماع لأن من شرط المنافاة اتحاد المحل والليل ليس بمحل للصوم أصلا فالأكل وما يشبهه لا ينافي عزيمته فإذا لم يبطل يحكم ببقائها إلى حين الشروع لتعذر اعتبارها مقترنة بحالة الشروع ولهذا عم الجواز أنواع الصيامات من القضاء وغيره فأما المتأخر فلا يتصور تقديمه أصلا فلا يمكن الحكم به لأن الشيء إنما يقدر حكما إذا تصور حقيقة وهذا كالنية في أول الصلاة جعلت باقية حكما إلى آخر الصلاة. أما النية الموجودة في خلال الصلاة فلا يحكم باقترانها بأول الصلاة للتعذر كذا هنا ثم استوضح الشيخ ما ذكر من الفرق بمسألتين(1/349)
عليه ما يبطله فبقي فأما المعترض فلا يحتمل التقدم ألا ترى أن النية بعد نصف النهار لا يصح وألا ترى أن في الصوم الدين وجب الفصل بين هذين الوجهين
ـــــــ
فقال ألا ترى أن النية بعد نصف النهار لا تصح ولو جاز الحكم باقتران هذه النية بأول الإمساك كما جاز في المتقدمة لما اختلف الحكم بين أول النهار وآخره كما لم يختلف الحكم هناك بين أول الليل وآخره وألا ترى أن في الصوم الدين وجب الفصل بين هذين الوجهين أي بين تقديم النية وتأخيرها حيث جاز التقديم ولم يجز التأخير بالإجماع فكذلك ههنا لأنه أقوى من سائر الصيامات فإن الإفطار فيه يوجب الكفارة دون غيره وعندنا إذا صام في رمضان بنية قبل انتصاف النهار يجزيه واختلف في ذلك طريق أصحابنا فمنهم من سوى بينه وبين النفل وفي الجواز ومنهم من سوى بين تقديم النية وتأخيرها وهذا هو المذكور في الكتاب فنتكلم عليه فنقول لما كانت النية شرطا ينبغي أن تكون شرطا على وجه لا يؤدي إلى فوات المشروط ولهذا لم يشترط مقارنتها بجميع أجزاء العبادة في جميع العبادات ولا بالجزء الأول في باب الصوم لامتناع تحصيلها وتعذر تحصيلها على وجه يفوت في الأعم الأغلب فلم يكن بد من تجويز التقديم ليحصل التكليف بقدر الوسع والتأخير يساوي التقديم في هذا المعنى لأنا لو لم نجوز التأخير لأدى إلى التفويت لأن الإنسان قد ينشئ النية من الليل وهو أمر غالب وقد يشتبه عليه رأس الشهر وهو أيضا أمر معتاد وقد تطهر المرأة عن الحيض ولا تشعر إلا بعد انفجار الصبح. وكذا الصبي قد يبلغ في الليل ولا يعلم بذلك إلا بعد الانتباه وكذا الكافر قد يسلم في الليل ولا يعلم بوجوب الصوم عليه إلا عند وجود النهار وإذا ثبت المساواة بينهما في الحاجة وجب إلحاق التأخير بالتقديم لئلا يؤدي إلى فوات الصوم.
"فإن قيل" لا مساواة بين الحاجتين لأن الحاجة إلى جواز التقديم عامة في حق جميع المكلفين وإلى جواز التأخير خاصة في حق البعض ثابتة في بعض الأوقات وأحكام الشرع مبنية على ما عليه أحوال الدهماء لا على ما يبتلى به الأشخاص الجزئية على ما عرف ولهذا لم يجعل ما بعد الزوال محلا للنية وإن كان يتصور بقاء الحائض النائمة والصبي المحتلم إلى ما بعد الزوال ولم يعتبر الحاجة الخاصة فكذا فيما نحن فيه على أن الجواز لو ثبت باعتبار هذه الحاجة لثبت في حق من يثبت في حقه الحاجة لا في حق الكل لأن ما ثبت لحاجة عامة سقط فيه اعتبار الحاجة ووجب إجراء الحكم فيه على الإطلاق وما ثبت لحاجة خاصة اقتصر على موضعها لكونها عارضة وفي اعتبارها تغليب العارض على الأصل ولهذا لم يبق للحاجة عبرة في الإجارة ونحوها وإن شرعت لدفع(1/350)
وقلنا نحن إن الحاجة إلى النية لأن يصير الإمساك قربة وهذا الإمساك واحد غير متجزئ صحة وفسادا والثبات على العزيمة حال الأداء ساقط
ـــــــ
الحوائج لكونها عامة واعتبرت في جواز التيمم حتى اقتصر على من تحققت الحاجة في حقه لكونها خاصة إذ الأصل وجود الماء وكون العوز والعدم فيه عارضا.
"قلنا" إنا إنما سوينا بين الأصل والفرع باعتبار أصل الحاجة لا باعتبار قدرها فنطلب المساواة في أصل الحاجة لا في قدرها وقد وجدت كما بينا فيفسد التفرقة بينهما بالدوام وعدمه وكذا بالخصوص والعموم إذ الخاصة منها في موضعها كالعامة في مواضعها والحاجة إلى تجويز الصوم بالنية المتأخرة خاصة فيما يشرع من الصوم في وقت معين فاختص القول بالجواز فيه وما ذكر أن بناء الأحكام على ما عمم وغلب دون ما شذ وندر كلام في غير موضعه لأن ذلك على ما ذكرنا فيما كان من الخاص في حيز الندرة فأما ما كان في نفسه في حد الكثرة فله العبرة وإن كان غيره أكثر كعدم الماء اعتبر في حق جواز التيمم شرعا وإن كان الوجود هنا هو الغالب لدخول العدم في نفسه في حد الكثرة وخروجه عن حد الندرة وههنا الأعذار في حد الكثرة لكثرة جهالتها إذ من ضرورة كثرة الجهات كثرتها على أن الجهة لو لم تكن إلا جهة النسيان لدخلت في حد الكثرة لاستيلائه على طبع كل فرد من أفراد الجنس فكيف وقد كثرت الجهات على ما سبق.
وقولهم ما ثبت باعتبار الحاجة القاصرة لم يعد موضعها قلنا فجوزوا في موضع الحاجة وخالفونا فيما وراء ذلك لتبين لكم العذر فيما وراء محل الحاجة على أن وجود النية من النهار في حق من لا عذر له من نسيان أو جهل غير متصور من حيث العادة بل يوجد منه النية أو ما يقوم مقامها في الليل بأكل زيادة من الطعام على المعتاد أو شرب زيادة شربه وإن تصور ووجد فهو في غاية الندرة فيلحق بالعدم.
أو نقول إذا تحقق فقد صار عاجزا عند انفجار الصبح عن تقديم النية فصار كالمعذورين وإذا حققت معنى المسألة فاصغ لشرح ما في الكتاب فقوله الحاجة إلى النية لأن يصير الإمساك قربة معناه النية محتاج إليها لغيرها لا لذاتها فلا يجوز إثباتها على وجه يؤدي إلى تفويت ذلك الغير وهذا الإمساك واحد أي الكف إلى آخر النهار ركن واحد ممتد بخلاف الصلاة فإنها أركان غير متجزئ صحة وفسادا حتى لو فسد جزء منه فسد الكل ولو حكم بصحة جزء بعدما تم يحكم بصحة الكل وحاصل المعنى أن الصوم وإن كان متركبا من جنس الإمساك الدائم من أول اليوم إلى آخره ولكن جعل جنس الإمساك كله في حق كونه صوما كشيء لا يتجزأ لأن الأشياء المتعددة إذا دخلت تحت خطاب واحد صارت كشيء واحد كما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}(1/351)
بالإجماع للعجز وحال الابتداء ساقط أيضا للعجز وصار حال الابتداء هنا نظير حال البقاء في الصلاة وحال البقاء نظير حال الابتداء في صلاة ثم العجز أطلق التقديم مع الفصل عن ركن العبادة وجعل موجودا تقديرا فصار له فصل الاستيعاب. ونقصان حقيقة الوجود عند الأداء على حد الإخلاص
ـــــــ
[المائدة: 6] لما دخل جميع البدن تحت الخطاب صار كشيء واحد حتى جاز نقل البلة من موضع إلى موضع ولا يجوز ذلك في الوضوء لعدم هذا المعنى فكذلك ههنا لما دخلت الإمساكات المتعددة في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] صارت كشيء واحد فلا يتجزأ صحة وفسادا والثبات على العزيمة حال أداء هذه العبادة بأن يداوم على العزم إلى حالة الانتهاء ساقط عن المكلف بالإجماع كما في سائر العبادات لأن اعتبار النية على هذا الوجه يوقعه في الحرج وربما لا يكون في الوسع. وهذا معنى قوله للعجز ولهذا لو أغمي عليه أو لم يخطر بباله الصوم بعدما وجد العزم يتأدى صومه ولهذا يشترط في سائر العبادات قران النية بأولها لاستدامة النية من أولها إلى آخرها وحال الشروع في الأداء أي الثبات على العزيمة في حالة الشروع في هذه العبادة ساقط عنه بالإجماع أيضا فإنه لو نوى في أول الليل لا يشترط أن يستديم تلك النية إلى حالة الشروع وحاصله أنه لا يشترط اقتران العزيمة بأول حال الأداء أيضا للعجز وهو أن وقت الشروع مشتبه لا يعرف إلا بالنجوم ومعرفة ساعات الليل وهو مع ذلك وقت نوم وغفلة في حق عامة الخلق الذين ثبت أمور الشرائع على عاداتهم ولم يحرم النوم فيه شرعا أيضا بل سن لمن قام بالليل وبعدما كان متيقظا ولم يشتبه أول الفجر بالليل فسقط اشتراط اقتران النية بأوله وصار حال الابتداء في الصوم من حيث إنه يخرج في قران النية وبها نظير حال البقاء في الصلاة من حيث إنه يخرج فيها على الثبات على العزيمة وحال البقاء في الصوم من حيث إنه يمكن قران النية بها من غير حرج نظير حال الابتداء في الصلاة في هذا المعنى أيضا فصار الحاصل أن اقتران النية بابتداء الصوم متعذر والثبات على العزيمة حال بقائه كذلك وقران أصل النية به حال البقاء غير متعذر كما في ابتداء الصلاة. والغرض من إيراد هذا الكلام هو الإشارة إلى أن النية المتصلة به في حالة البقاء أولى بالاعتبار من المتقدمة عليها لكونها متصلة بركن العبادة كالنية المتصلة بابتداء الصلاة أولى باعتبار من المتقدمة عليها لهذا المعنى ثم هذا العجز وهو تعذر قران النية بابتدائه أطلق التقديم أي أجازه مع فصل النية عن ركن العبادة وهو الإمساك لأنه إذا نوى في أول الليل ثم لم يخطر بباله الصوم إلى الغروب جاز صومه بالإجماع مع أن النية لم توجد حال الشروع ولا حال البقاء حقيقة وجعل أي العزم المتقدم والمعدوم حقيقة موجود تقديرا فصار له(1/352)
والعجز الداعي إلى التأخير موجود في الجملة في حق من يقيم بعد الصبح أو يفيق عن إغمائه وفي يوم الشك ضرورة لازمة لأن تقديم النية من الليل عن صوم الفرض حرام ونية النفل عندك لغو فقد جاءت الضرورة فلأن يثبت بها التأخير مع الوصل بالركن أولى ولهذا رجحان في الوجود عند الفعل وهو حد
ـــــــ
أي لما قدم من النية فضل استيعاب أي هو مستوعب لجميع الإمساكات تقديرا لأنه نوى الإمساك من الصبح إلى الغروب ونقصان حقيقة الوجود عند الأداء أي أنه ليس بموجود حقيقة حالة الأداء على حد الإخلاص أي على حقيقته وكلمة على متعلقة بالأداء لا بالوجود والأداء على حد الإخلاص أن تكون النية مقترنة بالأداء ليمتاز العبادة عن العادة وقد عدمت هنا حقيقة وإن وجدت تقديرا والعجز الداعي إلى التأخير موجود في الجملة يعني به أن العجز الذي ذكرنا كما هو داع إلى جواز التقديم ومرخص له فكذلك هو داع إلى جواز التأخير في حق بعض المكلفين كما في حق المقيم بعد الصبح وأمثاله وخلاصة المعنى أن الضرورة لم تندفع بتجويز التقديم في الجنس لأن فيهم أصحاب هذه الأعذار وإنما يندفع بالكلية بتجويز النية من النهار وفي يوم الشك ضرورة لازمة أي في حق الكل لأن تقديم النية عن صوم الفرض أي فرض الوقت حرام ولو نوى ليلة الشك أداء صوم فرض رمضان غدا وبان اليوم من رمضان لم يصح صومه عند الشافعي. وكذا لا يجوز بنية النفل فثبت أن الضرورة فيه لازمة لا ترتفع إلا بتأخير النية فلأن يثبت بهذه الضرورة جواز التأخير مع أنه متصل بالركن وهو الإمساك أولى.
وهذا الكلام متصل بقوله ثم هذا العجز أطلق التقديم مع الفصل عن ركن العبادة يعني لما جاز الصوم بنية متقدمة مع فصلها عن ركن العبادة والاشتغال بأعمال أخر منافية للصوم من الأكل والشرب والوقاع للضرورة وهي موجودة في النية المتأخرة فلأن يجوز بها مع وصلها بالركن كان أولى.
"فإن قيل" هذا إنما يستقيم إن لو أمكن اعتبار المتأخرة تقديرا كالمتقدمة والأمر بخلافه لأن النية متى تقدمت وصحت بموضوعها عزما في المستقبل بقيت كذلك واقترنت بكل جزء لأن نيته انتظمت أجزاء الوقت ولو نوى صوم البعض لم يصح فمتى تأخرت صارت كما نوى صوم بعض اليوم إذ هي لا تعمل في الماضي بوجه ما.
"قلنا" لا حاجة إلى القول ببقائه حكما لأنه قام دليل سقوط الامتداد حقيقة فلئن ساغ لأحد أن يحكم بالاقتران بكل جزء منه حكما مع انعدامه حقيقة جاز لآخر أيضا أن يجعل الاقتران بجزء منه حقيقة كالاقتران بالكل لأنه من حيث اتصافه بكونه صوما جملة(1/353)
حقيقة الأصل ونقصان القصور عن الجملة بقليل يحتمل العفو فاستويا في طريق الرخصة بل هو أرجح وهذا الوجه يوجب الكفارة بالفطر فيه وروي ذلك عنهما ولما صح الاقتصار على البعض للضرورة وجب المصير إلى ماله حكم
ـــــــ
الإمساكات في اليوم شيء واحد فكان الاقتران منه بجزء منه حقيقة اقترانا بالكل حكما كذا في إشارات الأسرار.
ثم شرع الشيخ في بيان المساواة بينهما فقال ولهذا أي ولما أخر من النية رجحان على النية المتقدمة في الوجود عند الفعل أي من حيث إنها موجودة عند الفعل حقيقة بخلاف المتقدمة وهو أي الوجود عند الفعل حد حقيقة الأصل أن تكون النية مقترنة بالعمل فإذا اقترنت به حقيقة كان هذا حقيقة الأصل والاقتران به تقديرا ليس من حقيقته فكان حد حقيقة الأصل أن يكون الاقتران حقيقة لا تقديرا وحاصل المعنى أن الأصل في العبادات أن تكون النية مقترنة بها وهو موجود ههنا في المتأخرة دون المتقدمة ونقصان القصور أي وله نقصان من حيث إنه قاصر على الجملة لأنه لم يوجد في أوله ولكن ما قصر عنه العدم قليل بالنسبة إلى ما وجد فيه العزيمة يحتمل العفو لأن القليل محل العفو كالنجاسة القليلة والانكشاف القليل في حق الصلاة وابتلاع ما دون الحمصة مما بين الأسنان في حق الصوم وغير ذلك فاستويا من حيث إن لكل واحد منهما كمالا ونقصانا فالكمال في المتقدمة الاستيعاب والنقصان فيها عدمها عند الفعل والكمال في المتأخرة الوجود عند الفعل والنقصان فيها قصورها عن الجملة حقيقة فكانا مستويين في طريق الرخصة أي في جواز الترخص بها بل هذا راجح أي التأخير أولى بالترخص به لأن الاستيعاب فيه موجود تقديرا أيضا لأنا نقول أقمنا النية في الأكثر مقام الكل كما أن الاستيعاب ثابت تقديرا لا تحقيقا فصار جهة النقصان في المتأخرة معارضة لجهة الكمال في المتقدمة فسلم جهة الكمال وهي الوجود عند الفعل للمتأخرة عن التعارض فصار التأخير أرجح.
"فإن قيل" يلزم على هذا أن تكون النية من النهار أفضل عندكم وليست كذلك إذ النية أفضل من الليل بالإجماع.
"قلنا" إنما كانت النية من الليل أفضل لأن فيها المسارعة إلى الأداء والتأهب له أو الأخذ بالاحتياط لإكمال في الصوم كما أن الابتكار يوم الجمعة أولى من السعي بعد النداء لما فيه من المسارعة لا لتعلق كمال الصلاة نفسها به وكذلك المبادرة إلى سائر الصلوات كذا في الأسرار.(1/354)
الكل من وجه خلفا عن الكل من كل وجه وهو أن يشترط الوجود في الأكثر لأن الأقل في مقابلته في حكم العدم ولا ضرورة في ترك هذا الكل تقديرا فلم نجوزه بعد الزوال ورجحنا الكثير على القليل لأنه في الوجود راجح وبطل
ـــــــ
قوله: "ولما صح الاقتصار" إلى قوله بعد الزوال جواب عن قوله ألا ترى أن النية بعد نصف النهار لا يصح أي لما صح اقتصار النية على بعض الإمساك وجب أن يكون لذلك البعض حكم الكل من وجه حتى يكون قران النية به كقرانها بالكل تقديرا وذلك هو الأكثر إذ له حكم الكل في كثير من المواضع بخلاف الربع والثلث فإنه وإن كان لهما حكم الكل في بعض مواضع الاحتياط إلا أن ذلك على خلاف الدليل لأنه لو أعطي للربع حكم الكل لكانت الثلاثة الأرباع التي تقابله بذلك أولى فأما ما زاد على النصف فغلب على ما يقابله وقرب إلى الكل فكان الحكم بكليته على وفاق الدليل خلفا عن الكل من كل وجه وهو الإمساك من أول النهار إلى آخره وهذا كالمثل من وجه وهو القيمة جعل خلفا عن المثل من كل وجه إذا انقطع المثل في ضمان العدوان وهو أن يشترط الوجود في الأكثر الضمير راجع إلى المصير إلى ماله حكم الكل أن يشترط وجود النية في الأكثر لأن الأقل الذي لم يصادفه النية في مقابلة الأكثر الذي صادفته في حكم العدم ولا ضرورة في ترك هذا الكل الثابت تقديرا يعني إنما وجب ترك اعتبار الكل الحقيقي للضرورة التي ذكرناها ولا ضرورة في ترك هذا الكل التقديري واعتبار ما دونه فلهذا لم نجوز الصوم بالنية بعد الزوال ولا يقال قد يتحقق الضرورة أيضا في حق الذي أقام أو أفاق بعد الزوال والذي بلغ أو أسلم في الليل ولم يعلم بالبلوغ أو وجوب الصوم إلا بعد الزوال لأنا إنما اعتبرنا الضروة في ترك اعتبار الكل لوجود خلفه وهو الأكثر وههنا قد فات الأكثر وبفواته فات الصوم لأن الأقل الذي صادفته النية في مقابلة الأكثر الذي لم تصادفه النية في حكم العدم فكان وجود الضرورة ههنا كوجودها بعد الغروب فلا يعبأ بها.
قوله: "ورجحنا الكثير على القليل" جواب عن قوله ووجب ترجيح الفساد احتياطا وذلك لأن الكثير باعتبار ذاته راجح على القليل فالكثرة وإن كانت من الأوصاف كالصحة والفساد إلا أن هذا الوصف يثبت للشيء باعتبار ازدياد في أجزاء ذاته فكانت الكثرة وصفا راجعا إلى الذات بخلاف الصحة والفساد لأنهما من الأوصاف المحضة التي لا تعلق لها بالوجود فإنهما يطرآن بعد الوجود فكان الترجيح بالكثرة راجعا إلى الذات وبالصحة والفساد راجعا إلى الحال فكان الأول أولى لأن الذات أصل والحال تبع(1/355)
الترجيح على ما قلنا بصفة العبادة لأنه حال بعد الوجود, والكثرة والقلة من باب الوجود والوجود قبل الحال فوجب الترجيح به على ما يأتي بيانه في باب الترجيح إن شاء الله ولأن صيانة الوقت الذي لا درك له أصلا على العباد
ـــــــ
وعبارة الشيخ في شرح التقويم ولما وجدت النية في الأكثر فقد وجد بعض العبادة وعدم البعض فالشافعي رجح جانب العدم على جانب الوجود احتياطا لأمر العبادة ونحن رجحنا الموجود على المعدوم باعتبار الكثرة وهو أولى لأنه ترجيح بمعنى راجع إلى الذات وما فعله الشافعي رحمه الله راجع إلى العدم وهو ليس بشيء فلا يصلح مرجحا.
قوله: "ولأن صيانة الوقت" يجوز أن يكون عطفا على الدليل المتقدم من حيث المعنى ويجوز أن يكون عطفا على قوله لأنه في الوجود راجح يعني ورجحنا الكثير الموجود فيه النية على القليل الذي لم يوجد النية فيه لأن الكثير في الوجود أي في وجوده وذاته راجح.
ولأن صيانة الوقت الذي لا درك له أصلا على العباد واجب لأنه تعالى فرض عليهم الأداء في هذا الوقت وبفواته يفوت الأداء لا إلى خلف في حق فضيلة الوقت فوجب صيانته احترازا عن الفوات وإليه أشار النبي عليه السلام بقوله: "من فاته صوم من رمضان لم يقضه صيام الدهر" ولا وجه إلى الصيانة في حق أصحاب الأعذار المذكورين إلا بتجويز هذا الصوم بالنية الموجودة قبل انتصاف النهار فوجب القول به إذ التجويز مع خلل تمكن فيه أقرب إلى قضاء حق العبادة من التفويت.
"فإن قيل" لا يجوز تغيير الشرط وإسقاطه لفوات الفضيلة كمن عليه الفجر لو خاف فوت الجمعة لا يسقط عنه الترتيب وكذا لا يجوز التيمم في الجمعة وسائر الصلوات عند خوف فوت الجمعة والجماعة وكذا لا يجوز عند خوف فوت الوقت لأن الفائت هو الفضيلة وجاز في صلاة العيد والجنازة لأن الفائت أصل العبادة وههنا الفائت الفضيلة فلا يجوز تغيير الشرط وإسقاطه لفواتها.
"قلنا" نحن لا نقول بإسقاط الشرط وتغييره لاستدراك الفضيلة ولكن نقول ينبغي أن تكون النية مشروعة على وجه لا يؤدي إلى فوات هذه الفضيلة لحاجة الناس إلى استدراكها كما كانت مشروعة على وجه لا يؤدي إلى فوات أصل الصوم إذ الحاجة تدفع ما أمكن وإنما لا يجوز التيمم عند خوف فوت الجمعة والجماعة والوقت لأنه لا يمكن(1/356)
واجب وهو معنى قول مشايخنا إن أداء العبادة في وقتها مع النقصان أولى فصار هذا الترجيح متعارضا وهذا الوجه يوجب أن لا كفارة فيه ويروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله
ـــــــ
استدراك هذه الفضائل إلا بفوت فضيلة أخرى وهي أداء الصلاة بالوضوء لأنه أفضل من أدائها بالتيمم فلا يجوز استدراك فضيلة بتفويت فضيلة أخرى وكذا لا يسقط الترتيب لفوت الجمعة لأن الوقت وقت الفائتة بشهادة الرسول عليه السلام وإنما وقت الجمعة بعد قضائها فلا يجوز أداؤها قبل الوقت.
وفي قوله لأدرك له أصلا إشارة إلى الجواب عن صوم القضاء ونحوه حيث لا يجوز بنية من النهار لأنا إنما جوزناه في رمضان على خلاف الأصل لصيانة فضيلة الوقت الذي لا يدرك بالفوات أصلا على ما نطق به النص ولا حاجة في القضاء إلى صيانة الوقت لأن كل الأوقات فيه سواء فبقي على الأصل.
قوله: "إن أداء العبادة في وقتها مع النقصان أولى" أي من القضاء لأنه أقرب إلى صيانة حق العبادة من التفويت كأداء العصر وقت الاحمرار أولى من قضائها بعد الغروب.
قوله: "فصار هذا الترجيح متعارضا" أي صار ترجيح الكثير على القليل لصحة التأخير متعارضا لأن ما يوجب ترجيحه معنيان أحدهما اقتران النية بركن العمل وهذا يقتضي أن يكون التأخير أولى من التقديم وأن تجب الكفارة إذا أفطر والثاني صيانة الوقت وهذا يوجب أن يكون التأخير دون التقديم وأن لا يجب الكفارة بالفطر لتمكن خلل فيه وهذه الكفارة تسقط بالشبهة فهذا معنى كونه متعارضا وقيل معناه أن ترجيحنا الكثير في صورة التأخير بكون العبادة مؤداة في الوقت يعارضه ترجيح الشافعي وهو أن الجزء الأول من النهار عري عن النية فيحكم بالفساد احتياطا لأن كل واحد من الترجيحين راجع إلى حال العبادة بخلاف الترجيح الأول لأنه راجع إلى الذات فلم يعارضه ترجيح الشافعي هو راجع إلى الحال ولهذا دل على وجوب الكفارة إذا أفطر بخلاف الترجيح الثاني لأنه ضعف بالمعارض فصار له شبهة عدم وجود الصوم فلا يجب الكفارة.
قوله: "ويروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله" ذكر في المبسوط إذا أصبح غير ناو للصوم ثم نوى قبل الزوال ثم أكل فلا كفارة عليه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله أنه يلزمه الكفارة لأن شروعه في الصوم قد صح فيتكامل جنايته بالفطر كما لو كان نوى بالليل.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن ظاهر قوله عليه السلام: "لا صيام لمن(1/357)
ولم نقل بالاستناد ولا بفساد الجزء الأول مع احتمال طريق الصحة والإمساك في أول النهار قربة مع قصور معنى الطاعة فيه لأنه لا مشقة في
ـــــــ
لم يعزم الصيام من الليل" 1 ينفي كونه صائما بهذه النية والحديث وإن ترك العمل بظاهره يبقى شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات كمن وطئ جارية ابنه مع العلم بالحرمة لا يلزمه الحد لظاهر قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" وما ذكر ههنا موافق للمنظومة وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقته لا فرق في وجوب الكفارة بين ما إذا نوى من الليل وبين ما إذا نوى من النهار في ظاهر الرواية وفي النوادر قال لا يلزمه الكفارة فيما إذا نوى من النهار والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية.
"فإن قيل" لا نظير لما اخترتم من جواز تأخير النية في الشرع فلا يجوز العمل به فأما لجواز التقديم فنظائر جمة كتقديم نية الصلاة عليها وتقديم نية الزكاة على الأداء وغيرهما.
"قلنا" نحن ما جعلنا النية المتأخرة متقدمة لكن جعلنا الإمساكات موقوفة على النية فبعد وجودها ينقلب صوما شرعيا وتوقف الأمر على ما يوجد بعد موجود في الحسيات والشرعيات فإن الرمي حكمه موقوف على الإصابة وتصرفات الفضولي موقوفة على الإجازة والتعليقات موقوفة على الشرط وكذا الظهر المؤدى يوم الجمعة حكمه موقوف على وجود السعي إلى الجمعة وعدمه وكذا الوقتية المؤداة مع تذكر الفائتة حكمها موقوف عند أبي حنيفة على ما عرف فكان توقف الإمساكات على وجود النية في الأكثر طريقا مسلوكا.
قوله: "ولم نقل بالاستناد" جواب عما قاله الشافعي أن النية المعترضة لا تؤثر في الماضي بوجه فقال إنما يلزم على من قال بصحة هذا الصوم بطريق الاستناد كما اختاره بعض مشايخنا اعتبارا بحكم البيع بشرط الخيار فإنه يثبت بطريق الاستناد ولكن هذا لا يصح لأن الاستناد يظهر أثره في الموجود لا في المعدوم فإنه لو كان الخيار للمشتري وحدثت زيادة في مدة الخيار في يد البائع وهلكت ثم أجيز البيع حتى استند حكمه إلى أول المدة لا يظهر أثر الاستناد في ذلك الهالك حتى لا يسقط بمقابلته شيء من الثمن وههنا ما تقدم على النية قد عدم فلا يمكن الحكم بصحته بطريق استناد النية إليه وهو معنى ما قال الشافعي رحمه الله النية المعترضة لا تؤثر في الماضي بل الصحيح ما ذهبنا إليه من إقامة الأكثر مقام الكل ولا يرد عليه ما قال الشافعي.
ـــــــ
1 أخرجه أبوداود الصوم حديث رقم 2454 والترمذي في الصوم حديث رقم 730 وابن ماجه في الصيام حديث رقم 1700.(1/358)
الإمساك في أول النهار فصار إثبات العزيمة فيه تقديرا لا تحقيقا وفاء لحقه وتوفيرا لحظه وعلى هذا الأصل قلنا إن صوم النفل مقدر بكل اليوم حتى فسد
ـــــــ
قوله: "ولا بفساد الجزء الأول" رد لقوله أول الجزء الفعل مفتقر إلى العزيمة فيفسد بعدم العزيمة ومن فساده يلزم فساد الباقي فقال نحن لا نقول بفساد الجزء الأول مع احتمال طريق صحته وذلك بأن يجعل الإمساك في أول النهار موقوفا على وجود النية إلى وقت يمكن صون العبادة عن الفوات فإن حصلت النية في ذلك الوقت كان كحصولها في الجميع ويتبين أن الفعل في أول الوقت كان عبادة لما بينا أن الإمساكات في كونها صوما شيء واحد لا يتجزى فاقتران النية بجزء منها كان اقترانا بجميعها ضرورة عدم التجزؤ وإن لم يتصل النية بشيء من أجزاء الإمساك حتى مضى الوقت الذي أمكن الاستدراك تبين أنه لم يكن صوما فظهر بما ذكرنا أن كل جزء من أجزاء العبادة مقترن بالنية تقديرا كما في النية المتقدمة وأن القول بفساد الجزء الأول فاسد لانتفاء دليل الفساد وهو انعدام النية.
قوله: "والإمساك في أول النهار قربة" إلى آخره بجواز أن يكون بيان احتمال طريق الصحة ويجوز أن يكون ابتداء كلام. وبيانه أن المعتاد في الأكل هو الغداء والعشاء فأما ما وراءهما فمن السرف والشره ولهذا وعد الله تعالى في الآخرة الغداء والعشاء فقال: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] والصوم عبادة فيكون تركا للمعتاد ليحصل معنى المشقة لأنها مشروعة على خلاف هوى النفس وليس فيه ترك العشاء بل تأخيره إلى الغروب فكان معناه تأخير العشاء وترك الغداء المعتاد وهو عند الضحوة وأما ما قبل ذلك من الترك فخارج على العادة ولا مشقة فيما يخرج مخرج العادة فكان ابتداء الركن من الضحوة من حيث المعنى إلا أن الإمساك فيها لا يصلح للركنية إلا بما تقدم عليه من الإمساك المعتاد فكان هو واجب التحصيل ضرورة صيرورة هذا الإمساك ركنا فكان هذا أصلا وما تقدم عليه تبعا له ومعنى النية القصد إلى ترك الغداء لله تعالى فإذا نوى في هذا الوقت فقد تحقق معنى النية وكانت مقترنة حقيقة بأول العبادة معنى وهو أصل فيستتبع تبعه فيما يثبت فيه كالأم يستتبع ولدها في الإسلام والعتاق والرق والاستيلاد والتدبير وكالأمير والمولى يستتبع العسكر والعبد في نية الإقامة فيثبت النية فيما تقدم تقديرا وإن لم يثبت تحقيقا وكان إثبات النية فيه تقديرا لا تحقيقا وفاء لحقه وتوفيرا لحظه وإذا وجدت النية المناسبة له لا يجب الحكم بفساده والله أعلم.
ثم هذا الحكم وهو جواز الصوم بنية من النهار ثابت في حق الصحيح المقيم بلا خلاف بين أصحابنا فأما المريض أو المسافر فكالصحيح المقيم عندنا وعند زفر لا يجوز لهما الصوم إلا بنية من الليل كذا في المبسوط وذكر في فتاوى القاضي الإمام فخر(1/359)
بوجود المنافي في أوله ولم يتأد إلا من أوله ولم يتأد بالنية في الآخر لأن الصوم عرف قربة بمعياره ولم يعرف معياره إلا بيوم كامل فلم يجز شرع العبادة وأما
ـــــــ
الدين وغيره مريض أو مسافر لم ينو الصوم من الليل في شهر رمضان ثم نوى بعد طلوع الفجر قال أبو يوسف يجزيهما وبه أخذ الحسن رحمهما الله فهذا يشير إلى أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يجزيهما وجه عدم الجواز أن الأداء غير مستحق عليهما في هذا الوقت فلا يتعين عليهما إلا بنية من الليل كالقضاء ووجه الجواز أن الوجوب ثابت في حقهما كما في حق الصحيح المقيم إلا أن لهما الترخص بالفطر فإذا لم يترخصا صحت منهما النية قبل انتصاف النهار كما يصح من المقيم وكالنفل.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن وقت الصوم معيار قلنا النفل مقدر بكل اليوم لأن الوقت لما كان معيارا لهذه العبادة فلا بد من أن يمتلئ المعيار ليوجد ولا بد من أن يكون الصائم أهلا للصوم من أوله إلى آخره ليتحقق منه الصوم الشرعي فيفسد بوجود المنافي في أوله من كفر أو حيض أو نحوهما حتى إذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض بعد الفجر وأراد أن يتنفل بصوم ذلك اليوم ليس له ذلك وكذا لا يتأدى بالنية بعد انتصاف النهار وقال الشافعي رحمه الله أنه ليس بمقدر شرعا بل يصير صائما من حين نوى لأن النبي عليه السلام قال: "إني إذا لصائم" 1 وهي كلمة تنبئ عن الإخبار للحال ولأن مبنى التطوع على النشاط فيتأدى بقدر ما يؤديه ألا ترى أن صلاة النفل تجوز قاعدا وراكبا مع القدرة على القيام والنزول وكذا الصدقة النافلة ليست بمقدرة وإن كانت الواجبة مقدرة ولهذا يجوز عنده بنية بعد الزوال في قول وكذا مع المنافي في أوله كالكفر والحيض في قول ولكن بشرط عدم الأكل في أول النهار لأن ركنه إمساك يخالف هوى النفس ولا يحصل ذلك مع الأكل في أول النهار بخلاف عدم النية أو الأهلية فإنه لا يجعل الإمساك موافقا للعادة على أن الأكل في أول النهار لا يمنع عن صحة الصوم في باقيه عند بعضهم أيضا منهم أبو زيد القاشاني وقد يوجد في الشرع إمساك بعض اليوم قربة كما في يوم الأضحى فيجوز أن يكون قربة في غيره من الأيام أيضا ولنا ما ذكرنا أن الصوم لا يعرف قربة إلا بمعيار شرعي ولم يعرف معياره في الشرع إلا يوم كامل فالذي يخترعه العبد من قبل نفسه لا يصلح معيارا له إذ لا مدخل للرأي في معرفة المقادير الشرعية وإذا كان كذلك لا يتأدى بالنية بعد الزوال كالفرض لفوات أكثر الركن بلا نية والدليل عليه أنه من نذر أن يصوم بعد الزوال في يوم لم يأكل فيه لم يصح بالإجماع ولو
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصيام حديث رقم 1154 والترمذي في الصوم حديث رقم 733 وأبو داود في الصوم حديث رقم 2455 والإمام أحمد في المسند 6/207.(1/360)
الإمساك في أول يوم النحر فلم يشرع صوما ولكن ليكون ابتداء التناول من القرابين كراهية للأضياف أن يتناولوا من غير طعام الضيافة قبل طعامها ومن هذا الجنس الصوم المنذور في وقت بعينه لما انقلب بالنذر صوم الوقت واجبا لم يبق نفلا
ـــــــ
كان الإمساك في بعض اليوم صوما لصح كالنذر بالصدقة وإن قلت لأن النذر إيجاب المشروع وحقيقة المعنى فيه أن النفل تبع للفرض فيكون مقدرا بتقديره في الجملة كنافلة الصلاة مقدرة بركعتين لأنه أدنى مقادير الفرض ويجوز قاعدا أو راكبا لأن الفرض يجوز بتلك الهيئة عند العذر وكذا الصدقة بالقليل قد تقع عن الفرض حتى لو وجبت عليه زكاة فأدى دانقا سقط عنه الواجب بقدره في أحكام الدنيا والآخرة وههنا الإمساك في بعض اليوم قصدا لا يقع عن الفرض بحال فلا يجوز أن يقدر النفل به ولا تمسك له في الحديث فإن قوله عليه السلام "إني إذا لصائم" إخبار عن حالة العزم فعبر بلسانه ما خطر بقلبه وكان فيه بيان جواز العزم دون تغيير المعيار الشرعي وكان قوله لصائم منصرفا إلى الصوم المعهود في الشرع ولا في ما ذكر من قوله مبنى التطوع على النشاط لأنه لا أثر لنشاطه في التقدير أصلا فإنه لو أراد أن يصلي ركعة أو يكتفي بسجدة واحدة في كل ركعة أو تقدم السجود على الركوع وأراد أن يصوم أول النهار دون آخره بأن نوى أن يصوم إلى العصر ليس له ذلك بالإجماع وإنما أثر نشاطه في أنه مخير في فعله فإن شاء فعل المشروع المقدر الشرعي فيثاب عليه وإن شاء تركه من غير توجه عقاب عليه لا في تغيير التقدير الشرعي.
وأما الإمساك في أول يوم النحر فليس بصوم ولهذا لم يشترط فيه النية وإنما ندب إليه في حق أهل الأمصار ليكون ابتداء التناول من ضيافة الله تعالى ولهذا لم يثبت هذا الحكم في حق أهل السواد لأن لهم حق التضحية بعد طلوع الفجر وليس لأهل الأمصار أن يضحوا إلا بعد الصلاة.
قوله: "ومن هذا الجنس" أي من جنس ما صار الوقت متعينا له كشهر رمضان للصوم المشروع فيه الصوم المنذور في وقت بعينه أي وقت معين مثل أن يقول لله علي أن أصوم رجبا أو يوم الخميس واحترز به عن النذر المطلق مثل أن يقول نذرت أن أصوم يوما أو شهرا أو سنة لما انقلب صوم الوقت وهو النفل لأنه هو الأصل في غير رمضان وسائر الصيامات بمنزلة العوارض ولهذا يشترط فيها التعيين والتبييت واجبا أي بالنذر لم يبق نفلا لأن الصوم المشروع(1/361)
لأنه واحد لا يقبل وصفين متضادين فصار واحدا من هذا الوجه فأصيب بمطلق الاسم ومع الخطإ في الوصف وتوقف مطلق الإمساك فيه على صوم الوقت وهو المنذور لكنه إذا صامه عن كفارة أو قضاء ما عليه صح عما نوى لأن التعيين حصل بولاية الناذر وولايته لا تعدوه فصح التعيين فيما يرجع إلى حقه وهو أن لا يبقى النفل مشروعا فأما في ما يرجع إلى حق صاحب الشرع وهو أن لا يبقى الوقت محتملا لحقه فلا فاعتبر في احتمال ذلك العارض بما لو لم ينذر. وأما الوقت الذي جعل معيارا لا سببا
ـــــــ
في وقت لا يقبل وصفين متضادين أي متنافيين أو متغايرين وهما كونهما نفلا وواجبا لأن النفل ما لا يستحق العبد العقوبة بتركه والواجب ما لا يستحقها بتركه فإذا ثبت الوجوب بالنذر انتفى النفل ضرورة فصار أي الصوم المشروع في هذا الوقت واحد من هذا الوجه أي من حيث إنه لم يحتمل صفة النفلية وإن بقي محتملا لصفة القضاء والكفارة فأصيب بمطلق الاسم أي يقع عن المنذور بالنية المطلقة ومع الخطإ في الوصف أي بنية النفل كصوم رمضان لكنه إذا صامه أي صوم الوقت أو صام الوقت على طريق الاتساع عن واجب آخر صح عما نوى لأن التعيين أي تعيين الناذر الوقت للصوم المنذور حصل بولايته فلا يعدوه لحقه أي لحق صاحب الشرع. فاعتبر أي هذا الوقت في احتمال ذلك العارض وهو ما يرجع إلى صاحب الشرع بما لو لم ينذر أي بعدم النذر أو المعنى فاعتبر النذر أو التعيين في حق إبطال احتمال الوقت ذلك العارض وهو القضاء والكفارة بما لو لم ينذر أي بالعدم يعني كمال الموجب الأصلي في هذا اليوم هو النفل حقا للعبد وصوم القضاء والكفارة كان محتمله فإذا نذر فقد تصرف فيما هو حقه بالإيجاب لا فيما هو حق الشرع وهو احتمال الوقت لصوم القضاء والكفارة إذ لو ظهر أثره في ذلك صار العبد مبدلا للمشروع والذي ليس بحقه من قبل نفسه وذلك لا يصح كمن سلم وعليه سجدتا السهو يريد به قطع الصلاة لا يعمل إرادته فيه لأنه تبديل للمشروع فكذا هذا.
واعلم أن إيراد هذا القسم في هذا النوع مشكل لأن هذا النوع في بيان ما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه وفي هذا القسم الوقت معيار ولكنه ليس بسبب إذ السبب فيه النذر على ما عرف فكان إيراده في القسم الذي يليه أولى وإنما أورده في هذا النوع لأن شبهه بصوم رمضان أقوى من شبهه بصوم الكفارة لأن الوقت فيه معيار وشرط للأداء وفي القسم الثالث الوقت معيار لا غير فلهذا أورده ههنا.
قوله: "وأما الوقت الذي جعل معيارا لا سببا" وهو القسم الثالث من أقسام الموقتة فالشيخ ذكر هذا القسم في أقسام الموقتة وغيره من المشايخ ذكره في المطلقة وذلك لأن له شبها بهما جميعا فشبهه بالموقتة أنه تعلق بوقت مقدر له وهو النهار لا بمطلق الوقت كالزكاة حتى لو أداه ليلا لم يعتبر بخلاف الزكاة وشبهه بالمطلقة أنه لم يتعلق بوقت متعين يفوت الأداء كما يفوت بفوات شهر رمضان بل متى أداه يكون مؤديا لا(1/362)
فمثل الكفارات المؤقتة بأوقات غير متعينة وكقضاء رمضان والنذر المطلق, والوقت فيها معيار لا سبب ومن حكمها أنها من حيث جعلت قربة لا تستغني عن النية وذلك في أكثر الإمساك ومن حيث إنها غير متعينة لا يتوقف الإمساك فيها إلا لصوم الوقت وهو النفل فأما على الواجب فلا لأنه محتمل الوقت وإنما التوقف على الموضوعات الأصلية فأما على المحتمل فلا فلهذا كانت النية من أوله شرطا ليقع الإمساك من أوله من العارض الذي يحتمله الوقت فأما إذا توقف على وجه فلا يحتمل الانتقال إلى غيره ومن حكمه أنه لا فوات له ما لم
ـــــــ
قاضيا فاختار الشيخ جانب كونه موقتا واختار غيره جانب كونه مطلقا والوقت فيها أي فيما ذكرنا من الصيامات معيار ولهذا لا يتحقق قضاء صومين في يوم واحد وأداء كفارتين بالصوم في شهرين لا سبب فإن سبب الكفارات ما يضاف إليه من ظهار أو قتل أو يمين ونحوها. وسبب القضاء التفويت أو الفوات أو ما هو سبب الأداء وسبب النذر المطلق أي المنذور المطلق النذر ومن حكمها أي من حكم هذه الصيامات أنها من حيث جعلت قربة لا تستغني عن النية وتكفي في أكثر الإمساك كصوم رمضان والنذر المعين والتطوع ومن حيث إنها غير متعينة في هذا الوقت بل هي من محتملاته لا يكون توقف الإمساك في هذه الصيامات إلا على صوم الوقت وهو النفل إذ هو الموضوع الأصلي في غير رمضان فأما على الواجب فلا أي فأما التوقف على الواجب وهو القضاء والكفارات فلا يكون لأن الواجب محتمل الوقت وإنما يكون التوقف على الموضوعات الأصلية كما في قولك رأيت أسدا يتوقف صحته وصدقه على رؤية الهيكل المعلوم لا على رؤية إنسان شجاع لأن الأول موضع اللفظ والثاني محتمله وهذا لأن التوقف إنما يثبت ضرورة استدراك فضيلة صوم الوقت التي لا يدرك أصلا والضرورة فيما هو الموضوع الأصلي للوقت لا فيما هو محتمله فإذا كان الوقت عينا لفرض كرمضان كان الوقف عليه فنفذ عليه وإن كان غير رمضان فالأصل فيه النفل فلا ينفذ على غيره. فلهذا كانت النية شرطا من أوله ليقع الإمساك من أوله من محتمل الوقت فإذا نوى من الليل صوم القضاء ينعقد الإمساك من أول النهار لمحتمل الوقت فيجوز وأما إذا انعقد الإمساك لموضوع الوقت وهو النفل لا يمكن صرفه إلى محتمل الوقت وهذا في الحقيقة جواب عن كلام الخصم فإنه جمع بين صوم رمضان وصوم القضاء في عدم جواز التأخير ففرق الشيخ بينهما بما ذكره ومن حكمه أنه لا فوات له ذكر الشيخ في شرح التقويم ومن حكمه أنه لا يتضيق عليه وجوب الأداء وحكى عن أبي الحسن الكرخي أن عند أبي يوسف رحمه الله يتضيق كالحج والصحيح ما ذكرنا والله أعلم(1/363)
يكن الوقت متعينا. وأما النوع الرابع من المؤقتة فهو المشكل منه وهو حج الإسلام ومعنى قولنا إنه مشكل أن وقته العمر وأشهر الحج في كل عام صالح لأدائه أم أشهر الحج من العام الأول وقت متعين لأدائه ولا خلاف في الوصف الأول حتى إذا أخر عن العام الأول كان مؤديا فأما الوصف الثاني فهو صحيح عند أبي يوسف في الحال وأشهر الحج في هذا العام الذي لحقه الخطاب به بمنزلة وقت الصلاة فإذا أدرك العام الثاني صار ذلك بمنزلة العام الأول لا يصير
ـــــــ
قوله: "وأما النوع الرابع من الموقتة فهو المشكل" أي الذي لا يعلم أن وقته متوسع أم متضيق منه أي من الموقتة على تأويل المذكور وهو حج الإسلام إسناد الإشكال إلى الحج مجاز إذ الإشكال في وقته لا في نفسه وبيان الإشكال من وجهين أحدهما بالنسبة إلى سنة واحدة وهو أن الحج عبادة تتأدى بأركان معلومة ولا يستغرق الأداء جميع الوقت فمن هذا الوجه يشبه وقت الصلاة ومن حيث إنه لا يتصور في سنة واحدة إلا أداء حجة واحدة يشبه وقت الصوم والثاني بالنسبة إلى سني العمر فإن الحج فرض العمر ووقته أشهر الحج وهي من السنة الأولى يتعين على وجه لا يفضل عن الأداء وباعتبار أشهر الحج من السنين التي يتأتى يفضل الوقت عن الأداء وذلك محتمل في نفسه فكان مشتبها كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
وإلى الوجه الثاني أشار الشيخ في الكتاب وكذا في شرح التقويم فقال وقت الحج وقت عين جعل ظرفا لأداء الحج ومعنى إشكاله أنه إذا أخر الحج عن هذا الوقت المعلوم له ظرفا في هذه السنة وقع الشك والإشكال في أدائه فإنه إن عاش أدى وإن مات تحقق الفوات فسميناه مشكلا وهكذا في التقويم أيضا وهو الصحيح.
قوله: "وأشهر الحج في كل عام" إلى آخره يعني لا يدري أوقته متوسع في الحقيقة في حق كل من وجب عليه أم متضيق فإن عاش سنين كان أشهر الحج من كل عام صالحا لأدائه بمنزلة آخر الوقت في الصلاة وكان الوقت في حقه متوسعا وإن لم يعش كان أشهر الحج من العام الأول متعينا لأدائه وكان الوقت متضيقا كما بينا ولا خلاف في الوصف الأول وهو أن كل عام صالح لأدائه حتى إذا أخر عن العام الأول وأداه في عام آخر كان مؤديا لا قاضيا بالاتفاق لكون ذلك عاما من عمره فأما الوصف الثاني وهو تعيين أشهر الحج من العام الأول للأداء فهو صحيح أي ثابت مع الوصف الأول عند أبي يوسف رحمه الله يعني أشهر الحج من العام الأول متعين للأداء في الحال كوقت الصلاة للصلاة من غير نظر إلى أنه يعيش إلى القابل أم لا فيأثم بتأخيره عنه كما في الصلاة إلا أنه إذا أداه في العام الثاني كان مؤديا لا قاضيا بخلاف الصلاة.(1/364)
كذلك إلا بشرط الإدراك وقال محمد رحمه الله موسعا يسع تأخيره عن العام الأول وقال الكرخي وجماعة من مشايخنا إن هذا يرجع إلى أن الأمر المطلق عن الوقت يوجب الفور أم لا مثل وجوب الزكاة وصدقة الفطر والعشر والنذر بالصدقة المطلقة فقال أبو يوسف على الفور وقال محمد رحمه الله على التراخي فكذلك الحج فأما تعين الوقت فلا. والذي عليه عامة مشايخنا أن الأمر المطلق لا يوجب الفور بلا خلاف فأما مسألة الحج فمسألة مبتدأة
ـــــــ
قوله بمنزلة يوم أدركه في حق قضاء رمضان" يعني من وجب عليه قضاء رمضان إذ لو أدرك يوما من أيام أخر لا يتعين عليه وجوب القضاء في هذا اليوم حتى لو أخر عنه لا يأثم لأن وقت القضاء جميع العمر فكذلك ههنا وإنما خص هذا النظير دون أول أجزاء الوقت في الصلاة مع أنه مثله لأنه أشبه بوقت الحج من وقت الصلاة فإن وقت أداء الصوم ينقطع بإقبال الليل إلى الغد كما أن وقت أداء الحج ينقطع بانقضاء أشهر الحج من هذا العام إلى أشهر الحج من العام القابل بخلاف وقت الصلاة لأنه لم يتخلل من أجزائه ما يمنع جواز الأداء.
قوله: "وإنما يعرف" أي حقيقة الخلاف في تعين الأشهر من العام الأول للأداء بمعرفة كيفية وجوب الحج فقال أبو يوسف رحمه الله وجوبه بطريق التضييق فيلزم منه تعين الأشهر من العام الأول وقال محمد رحمه الله وجوبه بطريق التوسع فيلزم منه جواز التأخير عن العام الأول وعدم تعينه للأداء.
"فإن قيل" لما ثبت أن وقته متضيق عند أبي يوسف لم يبق مشكلا كوقت الصوم ولما ثبت أنه متوسع عند محمد زال الإشكال عنه أيضا كوقت الصلاة.
"قلنا" إنما حكم أبو يوسف بالتضيق على سبيل الاحتياط حتى لا يؤدي إلى تفويت العبادة لا من حيث إنه انقطع جهة التوسع بالكلية ألا ترى أنه لو أدرك العام الثاني جاز أداؤه فيه وإنما قال محمد بالتوسع نظرا إلى ظاهر الحال لا أنه لا يحتمل التضيق عنده ألا ترى أنه لو مات قبل إدراك الأشهر من العام الثاني كان الأشهر من العام الأول متعينا للأداء عنده. فثبت أن الإشكال لم يزل بما قالاه.
قوله: "مثل وجوب الزكاة" جمع الشيخ بين ما وجب بإيجاب الله تعالى وبين ما وجب بإيجاب العبد فالزكاة وصدقة الفطر والعشر نظير الأول والنذر بالصدقة المطلقة أي غير المقيدة بوقت نظير الثاني فأما تعين الوقت فلا أي إما أن يكون تعيين الوقت مختلفا فيه ابتداء فلا يعني مسألة الحج مبنية على أن في الأمر المطلق أول أوقات الإمكان متعين للأداء عند أبي يوسف خلافا لمحمد لا أن الخلاف فيها ابتدائي.(1/365)
فذهب محمد رحمه الله في ذلك أن الحج فرض العمر بلا خلاف إلا أنه لا يتأدى في كل عام إلا في وقت خاص فيكون وقته نوعا من أنواع أشهر الحج في عمره وإليه تعيينه كصوم القضاء وقته النهر دون الليالي وإلى العبد تعيينه فلا يتعين الذي يليه إلا بتعيينه بطريق الأداء ألا ترى أنه متى أداه كان مؤديا ولو
ـــــــ
قوله: "فأما مسألة الحج فمسألة مبتدأة" أي غير بنائية فعند أبي يوسف هو واجب على الفور حتى يأثم بنفس التأخير رواه عنه بشر1 والمعلى2 وهكذا ذكره ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهم الله قال سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال بل يحج به فهذا دليل على أن الوجوب عنده على الفور وعند محمد رحمه الله يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت فإن أخره ومات قبل إدراك السنة الثانية فهو آثم بالاتفاق أما عند أبي يوسف فظاهر وأما عند محمد فلأن التأخير كان بشرط عدم الفوت وقد فوت فيأثم وعند الشافعي رحمه الله لا يأثم بالتأخير وإن مات كذا في المبسوط وغيره. وهذا الخلاف في التأثيم بالتأخير فأما الوجوب فثابت عند الكل حتى وجب عليه الإيصاء بالإحجاج بالإجماع كما في تأخير صوم القضاء والكفارة ويجب الإيصاء بالفدية وإن جاز تأخيره وذكر الغزالي رحمه الله في المستصفى أن التأخير عند الشافعي جائز في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض لأن البقاء إلى السنة الثانية غالب في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض وذكر في إشارات الأسرار لأبي فضل الكرماني وقال محمد والشافعي رحمهما الله يجب موسعا يحل فيه التأخير إلا إذا غلب على ظنه أنه إذا أخر يفوت ثم ذكر في آخر كلام محمد وأما إذا مات قبل أن يحج فإن كان الموت فجأة لم يلحقه إثم وإن كان بعد ظهور إمارات يشهد قلبه بأنه لو أخر يفوت لم يحل له التأخير ويصير متضيقا عليه لقيام الدليل فإن العمل بدليل القلب واجب عند عدم الأدلة واستدل محمد رحمه الله بأن الحج فرض العمر فكان جميع العمر وقت أدائه إلا أنه لا يتأدى في كل عام إلا في وقت خاص وهو أشهر الحج فيكون وقته نوعا من أنواع أشهر الحج أي فردا من أفرادها لا أشهر الحج من هذا العام بعينها. وما من سنة يمضي إلا ويتوهم إدراك الوقت بعدها وإنما يثبت العجز بعارض الموت فرجحنا الحياة عليه لأن ما
ـــــــ
1 هو بشر بن الوليد بن خالد الكندي توفي سنة 238 هـ انظر وفيات الأعيان 6/379 و 384 و386.
2 هو المعلى بن منصور أبو يعلى الرازي فقيه حنفي ومحدث توفي سنة 211 هـ انظر معجم المؤلفين 12/309.(1/366)
كان الأول متعينا لصار بالتأخير مفوتا والدليل عليه أنه بقي وقتا للنفل مع أنه لم يشرع في مدة واحدة إلا حج واحد ولو تعين للفرض لما بقي النفل مشروعا كما في شهر رمضان فثبت أنه غير متعين إلا بالأداء ومتى تعين بالأداء لم يبق النفل فيه مشروعا ولأبي يوسف رحمه الله أن أشهر الحج من العام الأول متعينة للأداء فلا يحل له التأخير عنها كوقت الظهر للظهر وإنما قلنا هذا لأن الخطاب
ـــــــ
كان ثابتا فالظاهر بقاؤه إلى أن يظهر المزيل وفيه شك فلم يعتبر وإذا كان كذلك لا يتعين إلا بتعينه فعلا كصوم القضاء فإنه موقت بالعمر ووقت أدائه النهر دون الليالي كما أن وقت الحج أشهر الحج دون باقي السنة ومع هذا لا يتعين إلا بتعين العبد فعلا فكذا هذا.
ولأبي يوسف رحمه الله أن أشهر الحج من السنة الأولى في حق المخاطب به آخر الوقت فيحرم التأخير عنه كما في آخر وقت الصلاة وذلك لأن الوقت في حقه أشهر الحج من عمره لا من جميع الدهر والأشهر التي من عمره ما كان متصلا بعمره وهذه الأشهر هي المتصلة بعمره يقينا والتي لم يجئ بعد غير متصلة بعمره فلا تصير وقت حجه إلا بالاتصال. وذلك مشكوك والانفصال في الحال ثابت فلا يرتفع بالشك وعلى اعتبار الانفصال لا يبقى وقت لحجه غير الوقت الحاضر فيكون التأخير عنه تفويتا كالتأخير عن آخر وقت الصلاة يحققه أن بمضي وقت عرفة يفوت وقت الحج في الحال ولا يرجى عوده إلا بالعيش إلى العام القابل وفيه شك لأن العيش إلى سنة ليس بأرجح من الموت فلا يثبت العود بالشك ولا يرتفع حكم الفوت بخلاف الواجب المطلق عن الوقت حيث له أن يؤخره لأن الفوت فيه بالموت والعمر ثابت للحال والموت محتمل فلا يرتفع الثابت بالمحتمل فأما الثابت ههنا فالفوت بمضي الوقت فلا يرتفع بالمحتمل وهو العيش إلى السنة القابلة ونظيره المفقود لا يورث عنه ماله لأن ملكه ثابت فلا يزول بالشك ولا يرث عن واحد لأن ملك غيره لم يكن ثابتا له فلا يثبت بالشك أيضا وبخلاف تأخير صوم القضاء والكفارة لأن الموت في ليلة نادر فلم يعد تفويتا على ما ذكر في الكتاب فصار حرف المسألة أن الخصم يقول لا فوات إلا بالموت فإن جميع العمر وقت الأداء ويعتبر الظاهر لإبقاء ما كان من القدرة ولا يبطلها بالموهوم ونحن نقول إذا تعذر الأداء عليه بعد خروج الوقت فقد تحقق الفوات وله احتمال أن لا يكون فواتا بالإدراك وفيه شك فحكمنا بالفوات للحال على احتمال أن لا يكون فواتا.
"فإن قيل" قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج سنة عشر من الهجرة ونزلت فرضيته سنة ست منها فعلم أن التأخير جائز.(1/367)
للأداء لحقه في هذا الوقت وهذا واحد لا مزاحم له لأن المزاحمة لا يثبت إلا بإدراك وقت آخر وهو مشكوك لأنه لا يدركه إلا بالحياة إليه والحياة والممات في هذه المدة سواء في الاحتمال فلا يثبت الإدراك بالشك فيبقى هذا الوقت متعينا بلا معارضة ويصير الساقط بطريق التعارض كالساقط بالحقيقة فيصير كوقت الظهر في التقدير بخلاف الصوم لأن تأخيره عن اليوم الأول لا يفوته
ـــــــ
"قلنا" تأخيره عليه السلام كان لعذر وهو اشتغاله بأمر الحروب وغيره ولأن التأخير إنما حرم للفوت وذلك بالشك في العيش وقد ارتفع ذلك في حقه عليه السلام فإنه كان يعلم أنه يعيش إلى أن يبين أمر الحج الذي هو أحد أركان الدين ويعلم الناس المناسك ولم يكن علم قبل عام الحج فلما ارتفع الشك في حقه اتسع الوقت وصار كأول وقت الصلاة وهذا الدليل لم يثبت في حق غيره كذا في الأسرار.
واعلم أن ما ذهب إليه محمد من القول بجواز التأخير بشرط سلامة العاقبة على ما ذكر في المبسوط وفي هذا الكتاب وغيرهما مشكل لأن العاقبة مستورة فلا يمكن بناء الأمر عليها فإنه إذا سألنا سائل وقال قد وجب علي حج وأريد أن أؤخره إلى السنة التي تأتي والعاقبة مستورة عني فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم لا فإن قلنا نعم فلم يأثم بالموت الذي ليس إليه. وإن قلنا لا يحل فهو خلاف مذهبه وإن قلنا إن كان في علم الله أنك تموت قبل إدراك السنة الثانية لا يحل لك التأخير وإن كان في علمه أنك تحيا فلك التأخير فيقول أو ما يدريني ماذا في علم الله فما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فيلزم منه القول بعدم الإثم وإن مات كما هو قول الشافعي أو الإثم بنفس التأخير وإن لم يمت كما هو قول أبي يوسف كذا رأيت في بعض نسخ أصول الفقه فثبت أن الصحيح من قول محمد ما ذكره أبو الفضل في إشارات الأسرار كما مر بيانه.
قوله: "ويصير الساقط بطريق التعارض كالساقط بالحقيقة" يعني قد سقط أشهر العام القابل من كونها وقت الحج في حقه لتعارض دليل الإدراك وهو الحياة ودليل عدم الإدراك وهو الممات لما بينا أنهما سواء في هذه المدة فصار كأنه سقط حقيقة أي صار كأن أشهر الحج بعد ليس من عمره أصلا فيبقى هذا الوقت الموجود بلا معارض فيصير كوقت الظهر فالتأخير عنه يكون تفويتا كتأخير الظهر عن وقته بخلاف الصوم أي صوم القضاء والكفارة ونحوهما أن تأخيره عن اليوم الأول لا يفوته لما ذكر فلم يكن دليل عدم الإدراك مساويا لدليل الإدراك وهو معنى قوله والتعارض للحال غير قائم أي تعارض الحياة والموت في ليلة غير قائم لأن الحياة غالبة والموت نادر فلا يسقط إدراك اليوم الثاني(1/368)
والتعارض للحال غير قائم لأن الحياة إلى اليوم الثاني غالبة, والموت في ليلة واحدة بالفجاءة نادر فلا يترك الظاهر بالنادر وإذا كان كذلك استوت الأيام كلها كأنه أدركها جملة فخير بينها ولا يتعين أولها ولا يلزم أن النفل بقي مشروعا لأنا إنما اعتبرنا التعيين احتياطا واحترازا عن الفوت فظهر ذلك في حق المأثم لا غير فأما أن يبطل اختيار جهة التقصير والمأثم فلا ولا يلزم إذا أدرك العام الثاني لأنا إنما عينا الأول لوقوع الشك فإذا أدركه وذهب الشك صار الثاني
ـــــــ
باحتمال الموت لأن السقوط بتعارض الحياة والموت ولم يوجد وإذا لم يسقط كان مزاحما لليوم الأول فلم يثبت تعينه للأداء فجاز التأخير.
وفي بعض النسخ لأن التعارض للحال قائم أي تعارض اليوم الأول والثاني في الحال قائم وإن وجد احتمال الموت قبل مجيء اليوم كما في الحج لأن ذلك نادر فلا يقابل الغالب وهو الحياة وإذا ثبت التعارض لم يتعين اليوم الأول للأداء فجاز التأخير. وقوله للحال إشارة إلى أن التعارض في الحج للحال معدوم وإن احتمل أن يثبت بالإدراك فأما التعارض ههنا فقبل الإدراك ثابت وهذا اللفظ يدل على أن ما في هذه النسخة أصح.
قوله: "ولا يلزم أن النفل بقي مشروعا" جواب عن قوله والدليل على أنه بقي وقتا للنفل وتقريره أن التعيين إنما ثبت ههنا يعارض خوف الفوت لا أنه أمر أصلي فيظهر التعيين أي أثره في حرمة التأخير وحصول الإثم به لا في انتفاء شرعية النفل بخلاف تعين رمضان للفرض فإنه أمر أصلي ثبت بتعيين الشارع فيظهر أثره في انتفاء النفل وحصول الإثم جميعا فأما أن يبطل أي بهذا التعيين جهة اختيار التقصير والمأثم بالشروع في النفل فلا نعني شروعه في النفل اختيار جهة الإثم والتقصير لأنه ترك الفرض وقد بقي له اختيار ذلك كما له اختيار جانب الترك أصلا وفي سائر العبادات إذ لو لم يبق له اختيار ذلك لحصلت العبادة جبرا والفعل الجبري لا يصلح أن يكون عبادة.
قوله: "ومن حكم هذا الأصل" أي وقت الحج أو الوقت المشكل أنه ظرف لا معيار وقوله إن وقت الحج إقامة للمظهر مقام المضمر ألا ترى أنه أي وقت الحج يفضل عن أداء الحج فإن وقت الوقوف وهو الركن الأعظم فيه يفضل عنه وكذلك وقت الطواف والرمي وغيرهما ولو كان معيارا لا يفضل عنه كوقت الصوم عن الصوم وأن الحج أفعال عرفت بأسمائها كالوقوف والطواف والسعي والرمي وغيرها وصفتها أي وهيئتها وترتيبها مثل كيفية الطواف والرمل فيه وكيفية السعي والرمي وتقديم بعضها على بعض لا بمعيارها أي لا مدخل للوقت في معرفة هذه العبادة فكان ظرفا كوقت الظهر ومشابهته(1/369)
هو المتعين وسقط الماضي لأن الماضي لا يحتمل الأداء بعد مضيه وفي إدراك الثالث شك فقام الثاني مقام الأول ومن حكم هذا الأصل أن وقت الحج ظرف
ـــــــ
لوقت الصوم ليس من حيث إنه مقدر للعبادة بل من حيث إنه لم يشرع فيه إلا حج واحد وذلك لا يوجب اشتباها في ظرفيته فإنه لو أذن فيه بأداء حج آخر لكان قادرا عليه بل على أمثاله من غير نقصان في الأول كما في وقت الصلاة فثبت أنه في ذاته ظرف لا معيار وإذا ثبت أنه ظرف لا يدفع غيره من جنسه كوقت الظهر قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله العبادة متى أعملت بأفعال معلومة بنفسها صارت متقدرة بتلك الأفعال لا بالوقت وإذا لم يتقدر بالوقت لا يصير الوقت معيارا لذلك الفعل فلا يصير مستغرقا به فلا يقتضي تعينه محلا لذلك الفعل نفي غيره لأن الحال بمحل إنما ينفي غيره إذا استغرقه كالصوم لما قدر بالوقت استغرقه ونفي غيره والانتفاء بسبب الفرض ليس بنص الكتاب فإنه ليس فيه نص على دفع غيره صريحا بل بحكم ضيق الوقت وذلك باستغراق الحال للمحل كله ولا استغراق إلا إذا قدرت العبادة بالوقت والحج لم يقدر بالوقت فإنه إذا فسر عن قدره قيل أنه إحرام ووقوف وطواف كالصلاة قيام وقراءة وركوع وسجود فلا يستغرق الوقت فلا ينفي غيره والأمر بالتعجل لا ينافي ما قلناه كالأمر بتعجيل الصلاة في آخر الوقت لا ينفي غيره.
قوله: "ولهذا" أي ولأن وقت الحج ظرف لا معيار قلنا إذا نوى التطوع من عليه حجة الإسلام يصح ويقع عما نوى وقال الشافعي رحمه الله تلغو نية النفل ويقع عن حجة الإسلام لأنه لما عظم أمر الحج لما فيه من زيادة كلفة ومشقة عدمت في غيرها من الطاعات ولهذا لم يجب في العمر إلا مرة حجر عن الصرف إلى التطوع مع قيام الفرض صيانة له أي لحج الإسلام عن الفوت وإشفاقا عليه أي على المكلف لأن تحمل المشاق الكثيرة وترك حجة الإسلام واختيار النفل عليه مع أن الثواب في أداء الفرض أكثر وأن العقاب على تركه بعد التمكن من أدائه مستحق عليه من السفه والسفيه عندي مستحق الحجر في أمر الدنيا صيانة لماله كالمبذر ففي أمر الدين أولى فيجعل نية النفل لغوا تحقيقا لمعنى الحجر ويبقى أصل نية الحج وبه يتأدى فرض الحج بالإجماع.
توضيحه أنه لو نوى الفرض ثم طاف أو وقف بنية التطوع تلغو نيته ووقع ذلك عن الفرض لما ذكرنا فكذا في أصل الحج ولا يقال لما لغت نية النفل لم يبق أصل النية كما في الصوم على أصله لأنا نقول الصفة في هذه العبادة قد ينفصل عن الأصل فإنه لو عدم وصف الصحة في الحج بقي أصل الإحرام بخلاف الصوم لأن الصفة هناك لا تنفصل عن الأصل فإن الصحة إذا عدمت لم يبق أصل الصوم لكنا نقول الحجر عن هذا يفوت الاختيار وفوات الاختيار ينافي العبادة فيكون القول بالحجر لصيانة الحج مؤديا إلى تفويت الحج.(1/370)
له لا معيار وجوازه عند الإطلاق بدلالة التعيين من المؤدي إذ الظاهر أنه لا يقصد النفل وعليه حجة الإسلام فصار التعيين لمعنى في المؤدي لا في
ـــــــ
بيانه أن الحج عبادة والعبادة فعل اختياري لأن ما لا اختيار للعبد فيه لا يصلح طاعة أو عصيانا على ما عرف فإذا نوى النفل فقد أعرض عن الفرض بأبلغ من ترك أصل العزيمة لأن الوقت في ذاته قابل للنفل فمع هذا لو وقع عن الفرض كان واقعا بدون اختياره وهذا هو الجبر الصريح فالقول به يكون مفضيا إلى إبطاله فيكون عائدا على موضوعه بالنقض فالقول بصحته يكون قولا بإبطاله إذ العبادة لا تقع من غير اختيار قط بخلاف شهر رمضان فإنه غير قابل للنفل فلا تصح فيه نية النفل أصلا فلا يثبت الإعراض لأنه يثبت في ضمن النفل على ما مر.
وقوله وقط لا يصح العبادة بلا اختيار رد لقوله وصح أصله بلا نية وقوله ولكن الاختيار في كل باب بما يليق به إلى آخره جواب عن صحة إحرام الرفقة عنه بدون أمره وقصده عند أبي حنيفة رحمه الله يعني إنما جوزنا ذلك لأن الاختيار فيه موجود عنده تقديرا لا على أنه جائز من غير اختيار أصلا. وبيانه أن الإحرام شرط الأداء عندنا بمنزلة الوضوء للصلاة ولهذا جوزنا تقديمه على أشهر الحج, والرفقة إنما تعقد ليعين بعضهم بعضا عند العجز ولما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بهم في كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا كما في شرب ماء السقاية وإذا ثبت الأذان قامت نيتهم مقام نيته كما لو أمرهم بذلك نصا فكان هذا النوع من الاختيار كافيا فيما هو شرط العبادة فأما الأفعال فلا بد من أن تجري على بدنه عند بعض مشايخنا وإليه مال الشيخ لأن النيابة تجري في الشروط ولا تجري في الأفعال ألا ترى أن النيابة تجري في الوضوء فإنه لو غسل أعضاء المحدث غيره كان له أن يصلي بتلك الطهارة ولا تجري النيابة في أعمال الصلاة يوضحه أن النيابة عند تحقق العجز وفي أصل الإحرام تحقق عجزه عنه بسبب الإغماء فينوب عنه أصحابه فأما الأفعال فلم يتحقق فيها العجز لأنهم إذا حضروا المواقف كان هو الواقف وإذا طافوا به كان هو الطائف بمنزلة من طاف راكبا بعذر وعند بعضهم نيابتهم عنه في الأفعال يصح أيضا قال شمس الأئمة رحمه الله وهو الأصح إلا أن الأولى أن يقفوا به وأن يطوفوا به ليكونوا أقرب إلى أدائه لو كان رفيقا ولو أدوا عنه كان جائزا لأن الحج يؤدى بالنائب عند العجز بالإجماع.
قوله: "وجوازه عند الإطلاق" إلى آخره جواب عن قوله يصح بإطلاق النية يعني لا نسلم أن جوازه في هذه الحالة باعتبار أن تعيين الفرض ساقط بل هو شرط ولكنه لا يحتاج إلى ذكره بالقلب أو باللسان حالة الإحرام لأن الظاهر أن المسلم لا يتكلف لحج النفل(1/371)
المؤدى فإذا نوى النفل فقد جاء صريح بخلافه فيبطل به بخلاف شهر رمضان لأنه متعين لا مزاحم له في وقته لا لمعنى في المؤدي وهذا كنقد البلد لما تعين لمعنى في المؤدي وهو تيسر إصابته دلالة بطل عند التصريح بغيره.
وأما الأمر المطلق عن الوقت فعلى التراخي خلافا للكرخي على ما أشرنا إليه والله أعلم. ومن هذا الأصل.
ـــــــ
وعليه حجة الإسلام فصار الفرض متعينا بدلالة الحال فاستغني عن التعيين وانصرف مطلق النية إليه فإذا سمى شيئا آخر نصا اندفع به ما تعين بالحال.
وأما الإحرام عن الأبوين فإنما يصح لأنه يجعل ثوابه لهما أو لأحدهما وله ولاية ذلك عند أهل السنة والجماعة لأنه حقه فيصرفه إلى من شاء لا أن يكون الأفعال واقعا عنهما أو عن أحدهما ولهذا كان له أن يجعله عن أحدهما بعدما أحرم عنهما لأن جعل الثواب لهما أو لأحدهما إنما يصح بعد الأداء فلغت نيته قبله ولهذا لم يسقط حجة الإسلام عنهما كذا في بعض الشروح وذكر شمس الأئمة في المبسوط إذا حج الرجل عن أبيه أو أمه حجة الإسلام من غير وصية أوصى بها الميت أجزأه إن شاء الله وتمسك فيه بأحاديث ثم ذكر في آخر هذه المسألة وإنما قيد الجواب بالاستثناء بعدما صح الحديث لأن سقوط حجة الإسلام عن الميت بأداء الورثة طريقة العلم لأنه أمر بينه وبين ربه والعلم لا يثبت بخبر الواحد فلهذا قيد الجواب بالاستثناء وأما قوله إذا طاف أو وقف متطوعا يقع عن الفرض فالجواب عنه أن عقد الإحرام قد انعقد للفرض ولا اعتبار للنية بعد ذلك إنما المعتبر هو النية عند الإحرام الذي هو جامع كما لو سجد سجدة في صلاة الفرض بنية التطوع لم يعتبر لأن التحريمة انعقدت للفرض والنية تعتبر عند التحريمة.
"فإن قيل" ما ذكرتم مخالف للنص فإنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام سمع رجلا يلبي عن شبرمة فقال: "ومن شبرمة" قال أخ لي أو صديق لي فقال عليه السلام: "أحججت عن نفسك؟" فقال لا فقال عليه السلام: "حج عن نفسك ثم عن شبرمة" .
"قلنا" ليس كذلك فإن تأويله عندنا أنه كان ذلك للتعليم على سبيل الأدب ألا ترى أنه أمره أن يستأنف الحج ولم يقل أنت حاج عن نفسك وكان هذا حين كان الخروج عنه ممكنا بالعمرة فانتسخ والله أعلم.(1/372)
..............................................................................................
الأمر المطلق هل يقتضي الفور أم التراخي؟
قوله: "وأما الأمر المطلق عن الوقت فعلى التراخي" اختلف العلماء في الأمر المطلق أنه على الفور أم على التراخي فذهب أكثر أصحابنا وأصحاب الشافعي وعامة المتكلمين إلى أنه على التراخي وذهب بعض أصحابنا منهم الشيخ أبو الحسن الكرخي وبعض أصحاب الشافعي منهم أبو بكر الصيرفي وأبو حامد إلى أنه على الفور وكذا كل من قال بالتكرار يلزمه القول بالفور لا محالة وذهب طائفة من أصحاب الشافعي إلى أنه على الوقف لا يحمل على الفور ولا على التراخي إلا بدليل ومعنى قولنا على الفور أنه يجب تعجيل الفعل في أول أوقات الإمكان ومعنى قولنا على التراخي أنه يجوز تأخيره عنه وليس معناه أنه يجب تأخيره عنه حتى لو أتى به فيه لا يعتد به لأن هذا ليس مذهبا لأحد.
تمسك القائلون بالفور بأن الأمر يقتضي وجوب الفعل في أول أوقات الإمكان بدليل أنه لو أتى به فيه يسقط الفرض عنه بالاتفاق فجواز تأخيره عنه نقض لوجوبه إذ الواجب ما لا يسع تركه ولا شك أن تأخيره ترك لفعله في وقت وجوبه فثبت أن في التأخير نقض الوجوب في وقت الوجوب وهو باطل ولأن التأخير تفويت لأنه لا يدري أيقدر على الأداء في الوقت الثاني أو لا يقدر وبالاحتمال لا يثبت التمكن من الأداء على وجه يكون معارضا للمتيقن به فيكون تأخيره عن أول أوقات الإمكان تفويتا ولهذا يستحسن ذمه على ذلك إذا عجز عن الأداء ولأن المتعلق بالأمر اعتقاد الوجوب وأداء الفعل وأحدهما وهو الاعتقاد يثبت بمطلق الأمر للحال فكذلك الثاني واعتبر الأمر بالنهي والانتهاء الواجب بالنهي يثبت على الفور فكذا الائتمار الواجب بالأمر.
وتمسك القائلون بالتراخي بأن صيغة الأمر ما وضعت إلا لطلب الفعل بإجماع أهل اللغة فلا تفيد زيادة على موضوعها كسائر الصيغ الموضوعة للأشياء وهذا لأن قوله افعل ليس فيه تعرض للوقت بوجه كما لا تعرض لقوله فعل ويفعل على زمان قريب أو بعيد ومتقدم أو متأخر فكما لا يجوز تقييد الماضي والمستقبل بزمان لا يجوز تقييد الأمر به أيضا لأن التقييد في المطلق يجري مجرى النسخ ولهذا لم يتقيد بمكان دون مكان يزيد ما قلنا إيضاحا أن مدلول الصيغة طلب الفعل والفور والتراخي خارجيان إلا أن الزمان من ضرورات حصول الفعل لأن الفعل لا يوجد من العباد إلا في زمان والزمان الأول والثاني والثالث في صلاحيته للحصول واحد فاستوت الأزمنة كلها وصار كما لو قيل افعل في أي(1/373)
..........................................................................................
زمان شئت فيبطل تخصيصه وتقييده بزمان دون زمان ألا ترى أنه لو أمره بالضرب مطلقا لا يتقيد بآلة دون آلة وشخص دون شخص وإن كان ذلك من ضروراته لما ذكرنا فكذا الزمان فثبت أن الأمر بصيغة لا يفيد الفور وكذا بحكمه وهو الوجوب لأن الفعل يجوز أن يكون واجبا وإن كان المكلف في أول الوقت مخيرا بين فعله وتركه فيجوز له التأخير ما لم يغلب على ظنه فواته وإن لم يفعله فيكون هذا الأمر مقتضيا طلب الفعل في مدة عمره بشرط أن لا يخلي زمان العمر منه فيثبت الوجوب عليه بوصف التوسع لا بوصف التضيق.
والتكليف على هذا الوجه جائز عقلا وشرعا أما عقلا فلأنه لو قال لغلامه افعل كذا في هذا الشهر أو في هذه السنة في أي وقت شئت بشرط أن لا تخلى هذه المدة عن الواجب صح ولم يستنكر وأما شرعا فلأن الصلوات المفروضات في الأزمنة المعلومة وقضاء الواجبات في العمر بهذه المثابة ولهذا يكون مؤديا في أي وقت فعله لأنه أتى بالمأمور به على الوجه الذي أمر به فثبت أنه لا دليل على الفور لا من جهة اللفظ ولا من جهة الحكم فبطل القول به.
وأما الجواب عن كلماتهم فنقول قولهم في جواز التأخير نقض الوجوب إذ الواجب لا يسع تركه قلنا ما ذكرتم حكم الواجب المضيق فأما الموسع فحكمه جواز التأخير إلى وقت مثله بشرط أن لا يخلي الوقت عنه ولو أخلى عصى وأثم فلا يلزم من التأخير نقض الوجوب وقولهم في التأخير تفويت وذلك حرام قلنا الفوات لا يتحقق إلا بموته وليس في مجرد التأخير تفويت لأنه يتمكن من الأداء في جزء يدركه من الوقت بعد الجزء الأول حسب تمكنه في الجزء الأول وموت الفجأة نادر لا يصلح لبناء الأحكام عليه فيجوز له التأخير إلى أن يغلب على ظنه بأمارة أنه إذا أخر يفوت المأمور به والظن عن أمارة دليل من دلائل الشرع كالاجتهاد في الأحكام فيجوز بناء الحكم عليه.
"فإن قيل" ما قولكم فيمن مات بغتة أيموت عاصيا أم غير عاص فإن قلتم يموت عاصيا فمحال لأنا إذا أطلقنا له التأخير واخترمته المنية من غير أن يحس بحضورها لم يتصور إطلاق وصف العصيان عليه لأن العصيان بالتأخير مع إطلاق التأخير محال وإن قلتم يموت غير عاص فلم يبق للوجوب فائدة.
"قلنا" اختلف الأصوليون فيه فمنهم من قال إذا مات بعد تمكنه من الأداء يموت عاصيا لأن التأخير إنما أبيح له بشرط أن لا يكون تفويتا وتقييد المباح بشرط فيه خطر مستقيم في الشرع كالرمي إلى الصيد يباح بشرط أن لا يصيب آدميا وهذا لأنه متمكن من ترك الترخص بالتأخير بالمسارعة إلى الأداء التي هي مندوب إليها فقلنا بأنه يتمكن من(1/374)
.............................................................................................
البناء على الظاهر ما دام يرجو الحياة عادة وإن مات كان مفرطا لتمكنه من ترك الترخص بالتأخير.
ومنهم من قال لا يموت عاصيا ولكنه يدل على بطلان فائدة الوجوب وهذا لما بينا أن التأخير عن الوقت الأول إلى وقت مثله لم يحرم عليه لأنه ليس فيه تفويت المأمور به ثم إذا أحس بالفوات بظهور علامات الموت منعناه من التأخير لأنه تفويت تعد فإذا مات بغتة وفجأة فهو غير مفوت للمأمور به لأنه أخر عن وقت إلى وقت مثله وقد أطلقنا له ذلك فصار الفوات عند موته بغتة من غير ظهور أمارات الموت مضافا إلى صنع الله تعالى لا إلى العبد لأنه قد فعل ما كان مطلقا له فلم يصح وصف فعله بالتفويت فلم يجز أن يوصف بالعصيان ثم عدم وصفه بالعصيان لم يدل على فوات فائدة الوجوب لأنا حققنا صفة الواجبية فيما يرجع إلى فعل العبد من منعه من التفويت فبوجود الفوات من الله تعالى لا يبطل فائدة الوجوب وقولهم وجب تعجيل الاعتقاد فيجب تعجيل الفعل قلنا اعتقاد الوجوب يستغرق جميع العمر ومن ضرورته تعجيل وجوبه وكذا الانتهاء في النهي فأما أداء الواجب فلا يستغرق جميع العمر فلا يتعين للأداء جزء من العمر إلا بدليل على أنا نقول يجب اعتقاد وجوبه على التوسع كما يلزمه فعله على التوسع فإذا وجب الفعل على حسب ما يعتقده من الوجوب ووجب الاعتقاد على حسب ما يلزمه من الفعل لم يقع الفرق بينهما بوجه والله أعلم.
قوله: "على ما أشرنا إليه" متعلق بقوله فعلى التراخي لا بقوله خلافا للكرخي فإنه لم يشر إلى مذهبه فيما تقدم والإشارة قوله والذي عليه عامة مشايخنا أن الأمر المطلق لا يوجب الفور بلا خلاف. قوله: "ومن هذا الأصل" أي ومن الخاص.(1/375)
"باب النهي"
قال والنهي المطلق نوعان نهي عن الأفعال الحسية مثل الزنا والقتل
ـــــــ
"باب النهي"
لأنه خاص في التحريم كالأمر خاص في الإيجاب ثم النهي في اللغة المنع ومنه النهية للعقل لأنه مانع عن القبيح وفي اصطلاح أهل الأصول هو استدعاء ترك الفعل بالقول ممن هو دونه وقيل هو قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الاستعلاء وقيل هو اقتضاء كف عن فعل على جهة الاستعلاء وهذه العبارات بعضها قريب من بعض ويفهم ما فيها من الاحترازات عما ذكرنا في حد الأمر ولما كان النهي مقابل الأمر فكل ما قيل في حد الأمر من مزيف أو مختار قيل مقابله في حد النهي ثم صيغة النهي.
وإن كانت مترددة بين التحريم كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الاسراء: 32] والكراهة كقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] إذ معناه ولا تبايعوا والتحقير كقوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] الآية وبيان العاقبة كقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً} [ابراهيم: 42] والدعاء كقول الداعي لا تكلني إلى نفسي والتآسي كقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم: 7] والإرشاد كقوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] والشفقة كقوله عليه السلام: "لا تتخذوا الدواب كراسي" 1 فهي مجاز في غير التحريم والكراهة بالاتفاق.
فأما الكلام في أنها حقيقة في التحريم دون الكراهة أو على العكس أو مشتركة بينهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي أو موقوف فعلى ما تقدم في الأمر من المزيف والمختار كذا في عامة نسخ أصول الفقه وذكر في التقويم ويحتمل أن لا يكون على الاختلاف لأن القول به يؤدي إلى أن يصير موجب الأمر والنهي واحدا وهو الوقف وهذا لا سبيل إليه.
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/439 و441 و4/234 والحاكم 1/444 و2/100.(1/376)
وشرب الخمر ونهي عن التصرفات الشرعية مثل الصوم والصلاة والبيع والإجارة وما أشبه ذلك فالنهي عن الأفعال الحسية دلالة على كونها قبيحة في أنفسها لمعنى في أعيانها بلا خلاف إلا إذا قام الدليل على خلافه.
وأما النهي المطلق عن التصرفات الشرعية فيقتضي قبحا لمعنى في غير
ـــــــ
ثم موجب النهي وجوب الانتهاء عن مباشرة المنهي عنه لأنه ضد الأمر فكما أن طلب الفعل بأبلغ الوجوه مع بقاء اختيار المخاطب يتحقق بوجوب الائتمار فكذلك طلب الامتناع عن الفعل بآكد الوجوه وذكر في الميزان أن حكم النهي صيرورة الفعل المنهي عنه حراما وثبوت الحرمة فيه فإن النهي والتحريم واحد وموجب التحريم هو الحرمة كموجب التمليك هو ثبوت الملك هذا هو حكم النهي من حيث إنه نهي فأما وجوب الانتهاء فحكم النهي من حيث إنه أمر بضده ففي الحقيقة وجوب الانتهاء حكم الأمر الثابت بالنهي وكون الفعل المنهي عنه حراما حكم النهي ومقتضى النهي شرعا قبح المنهي عنه كما أن مقتضى الأمر حسن المأمور به لأن الحكيم لا ينهى عن فعل إلا لقبحه كما لا يأمر بشيء إلا لحسنه قال تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90] فكان القبح من مقتضياته شرعا لا لغة لما ذكرنا في الأمر والمنهي عنه في صفة القبح انقسم على أربعة أقسام ما قبح لعينه وضعا كالعبث والسفه والكذب والظلم وما التحق به شرعا كبيع الحر والمضامين والملاقيح وما قبح لغيره وصفا كالبيع الفاسد وما قبح لغيره مجاورا إياه جمعا كالبيع وقت النداء على ما ستعرفه.
قوله: "والنهي المطلق نوعان" أي المطلق عن القرينة الدالة على أن المنهي عنه قبيح لعينه أو لغيره أو المطلق عن القرينة الدالة على أنه على حقيقته أو مصروف إلى مجازه.
نهي عن الأفعال الحسية وهي التي تعرف حسا ولا يتوقف حصولها وتحققها على الشرع.
ونهي عن التصرفات الشرعية وهي التي يتوقف حصولها وتحققها على الشرع فالزنا والقتل وشرب الخمر وأمثالها لا يتوقف تحققها ومعرفتها على الشرع لأنها كانت معلومة قبل الشرع عند أهل الملل أجمع فأما الصلاة فلم يكن كونها قربة وعبادة على هذه الهيئة معلوما قبل الشرع وكذا الصوم والبيع وأشباههما ولا يقال هذه الأفعال يعرف حسا كشرب الخمر والقتل فإنا إذا رأينا من يصلي أو يبيع علمنا حسا أنه فعل ذلك كما علمنا القتل وشرب الخمر لأنا نقول نحن نسلم أن هذه الأفعال من حيث كونها فعلا(1/377)
المنهي عنه لكن متصلا به حتى يبقى المنهي مشروعا مع إطلاق النهي وحقيقته وقال الشافعي رحمه الله بل يقتضي هذا القسم قبحا في عينه حتى لا يبقى مشروعا أصلا بمنزلة القسم الأول إلا أن يقوم الدليل فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول وبيان هذا الأصل في صوم
ـــــــ
يعرف بالحس فأما من حيث كونها صلاة وعقدا حتى كانت سبب ثواب وسبب ملك فلا يعرف إلا بالشرع.
"فإن قيل" فالبيع والإجارة ونحوهما لم يتوقف تحققها على الشرع فإن أهل الملل كلهم يتعاطونها من غير شرع وقد كانت قبل الشرع أيضا.
"قلنا" إنهم إنما يتعاطون مبادلة المال بالمال أو بالمنفعة فإما أن يكون بعت واشتريت عقدا عندهم بحيث يترتب عليه أحكام لا تكاد تضبط فلا بل إنما هي يثبت بالشرع. وما أشبه ذلك أي المذكور مثل الحج والنكاح لمعنى في أعيانها بلا خلاف لأن الأصل أن يثبت القبح باقتضاء النهي فيما أضيف إليه النهي لا فيما لم يضف إليه فلا يترك هذا الأصل من غير ضرورة ولا ضرورة ههنا لأنه أمكن تحقيق هذه الأفعال مع صفة القبح لأنها توجد حسا فلا يمتنع وجودها بسبب القبح إلا إذا قام الدليل على خلافه أي خلاف كونها قبيحة في نفسها كالوطء في حالة الحيض فإنه منهي لغيره وهو الأذى بدليل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] لا لذاته ولهذا يثبت به الحل للزوج الأول والنسب وتكميل المهر والإحصان وسائر الأحكام التي تثبت عليه ونظير الأول قول الطبيب للمريض لا تأكل اللحم فإن المنع من الأكل لمعنى في اللحم وهو أنه لا يوافقه ونظير الثاني قولك لغيرك لا تأكل هذا اللحم وقد عرفت أنه مسموم يكون المنع لقبح في غيره وهو السم لا لعينه.
قوله: "وأما النهي المطلق" أي عن القرائن الدالة على أن المنهي عنه قبيح لعينه أو لغيره "لكن متصلا به" أي لكن يقتضي قبحا متصلا بالمنهي عنه مع إطلاق النهي أي مع كمال النهي لأن المطلق كامل وذلك بأن يكون للتحريم لا للتنزيه وحقيقته وهي أن يكون النهي لطلب الامتناع عن الفعل بناء على اختيار العبد لا أن يصير مجازا عن النسخ والنفي إلا أن يقوم الدليل استثناء من قولين فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته أي على خلاف حقيقته على اختلاف الأصول أي الأصلين فحقيقته وموجبه عندنا في الأفعال الشرعية أن يثبت القبح في غير المنهي عنه وأن يبقى المنهي عنه مشروعا ليتصور امتناع المكلف عنه باختياره ومحتمله أن يثبت القبح في غير المنهي(1/378)
يوم العيد وأيام التشريق والربا والبيع الفاسد أنها مشروعة عندنا لأحكامها وعنده باطلة منسوخة لا حكم لها
ـــــــ
عنه فلا يبقى مشروعا أصلا ويصير النهي مجازا عن النسخ فالنهي المطلق يحمل على حقيقته وهي أن يكون المنهي عنه قبيحا لغيره مشروعا بأصله إلا أن يقوم الدليل على خلافه فيجب إثبات محتمله وهو أن يكون قبيحا لعينه غير مشروع أصلا كما في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وكما في بيع المضامين والملاقيح على ما نبينه.
وحقيقته عند الشافعي أن يثبت القبح في عين المنهي عنه فلا يبقى مشروعا أصلا كما في الفعل الحسي ومحتمله أن يثبت القبح في غير المنهي عنه فيبقى المنهي عنه مشروعا كما كان فالنهي المطلق يحمل على حقيقته وهي أن يكون المنهي عنه قبيحا لعينه غير مشروع أصلا إلا أن يقوم دليل بصرفه عن هذه الحقيقة فيحمل على محتمله وهو أن يكون قبيحا لغيره كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء والطلاق في حالة الحيض فهذا معنى قوله فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول. وبيان هذا الأصل أي هذا الاختلاف يعني أثر هذا الاختلاف يظهر في هذه المسائل.
وحاصل المسألة أن النهي المطلق عن الأفعال الشرعية يدل على بطلانها عند أكثر أصحاب الشافعي وهذا هو الظاهر من مذهبه وإليه ذهب بعض المتكلمين وعند أصحابنا لا يدل على ذلك وإليه ذهب المحققون من أصحاب الشافعي كالغزالي وأبي بكر القفال الشاشي وهو قول عامة المتكلمين وذهب بعضهم إلى أنه يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات ثم القائلون بأنه يدل على البطلان مطلقا أي في العبادات والمعاملات جميعا اختلفوا فيما بينهم فقال بعضهم يدل عليه لغة وقال بعضهم يدل عليه شرعا لا لغة والقائلون بأنه لا يدل على البطلان مطلقا اختلفوا أيضا فذهب أصحابنا إلى أنه يدل على الصحة وذهب غيرهم كالغزالي وغيره إلى أنه لا يدل عليها ثم لا بد من تفسير الصحة والبطلان والفساد توضيحا لهذه الأقوال فنقول الصحة في العبادات عند الفقهاء عبارة عن كون الفعل مسقطا للقضاء وعند المتكلمين عن موافقة أمر الشرع بالصلاة وجب القضاء أو لم يجب فصلاة من ظن أنه متطهر وليس كذلك صحيحة عند المتكلمين لموافقة أمر الشرع بالصلاة على حسب حاله غير صحيحة عند الفقهاء لكونها غير مسقطة للقضاء وفي عقود المعاملات معنى الصحة كون العقد سببا لترتب ثمراته المطلوبة عليه شرعا كالبيع للملك وأما البطلان فمعناه في العبادات عدم سقوط القضاء بالفعل وفي(1/379)
احتج الشافعي رحمه الله بأن العمل بحقيقة كل قسم واجب لا محالة إذ الحقيقة أصل في كل باب والنهي في اقتضاء القبح حقيقة كالأمر في اقتضاء
ـــــــ
عقود المعاملات تخلف الأحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام على مقابلة الصحة وأما الفساد فيرادف البطلان عند أصحاب الشافعي وكلاهما عبارة عن معنى واحد وعندنا هو قسم ثالث مغاير للصحيح والباطل وهو ما كان مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه على ما سيأتي بيانه. وذكر صاحب الميزان فيه أن الصحيح ما استجمع أركانه وشرائطه بحيث يكون معتبرا شرعا في حق الحكم فيقال صلاة صحيحة وصوم صحيح وبيع صحيح إذا وجد أركانه وشرائطه قال وتبين بهذا أن الصحة ليست بمعنى زائد على التصرف بل إنما يرجع إلى ذاته من وجود أركانه وشرائطه الموضوعة له شرعا.
والفاسد ما كان مشروعا في نفسه فائت المعنى من وجه لملازمة ما ليس بمشروع إياه بحكم الحال مع تصور الانفصال في الجملة.
والباطل ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة إما لانعدام معنى التصرف كبيع الميتة والدم أو لانعدام أهلية للتصرف كبيع المجنون والصبي الذي لا يعقل واعلم أن الصحة عندنا قد يطلق أيضا على مقابلة الفاسد كما يطلق على مقابلة الباطل فإذا حكمنا على شيء بالصحة فمعناه أنه مشروع بأصله ووصفه جميعا بخلاف الباطل فإنه ليس بمشروع أصلا وبخلاف الفاسد فإنه مشروع بأصله دون وصفه فالنهي عن التصرفات الشرعية يدل على الصحة بالمعنى الأول عندنا من حيث إن المنهي عنه يصلح لإسقاط القضاء في العبادات كما إذا نذر صوم يوم النحر وأداه فيه لا يجب عليه القضاء ولترتب الأحكام في المعاملات ولا يدل عليها بالمعنى الثاني لأنه ليس بمشروع بوصفه وإن كان مشروعا بأصله ثم القائلون بالفساد لغة تمسكوا بأن السلف فهموا الفساد من النواهي حتى احتج عمر رضي الله عنه في بطلان نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] واستدلت الصحابة رضي الله عنهم على فساد عقود الربا بقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] وبقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق" 1 الحديث وهم أرباب اللسان فدل أن ذلك ثابت لغة ولأن الأمر يقتضي الصحة لغة والنهي يقابله فيقتضي ما يقابله الصحة وهو البطلان لوجوب تقابل أحكام المتقابلات.
ومن قال بالفساد شرعا لا لغة قال لا دليل في اللفظ على الفساد إذ لو صرح الشارع
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساقاة حديث رقم 14 وأبو داود في البيوع باب رقم 9.(1/380)
الحسن حقيقة ثم العمل بحقيقة الأمر واجب حتى كان حسنا لمعنى في عينه إلا بدليل فكذلك النهي في صفة القبح وهذا لأن المطلق من كل شيء يتناول الكامل منه ويحتمل القاصر والكمال في صفة القبح فيما قلنا فمن قال بأنه يكون مشروعا في الأصل قبيحا في الوصف يجعله مجازا في الأصل حقيقة في
ـــــــ
وقال حرمت عليك استيلاد جارية الابن ونهيتك عنه لعينه ولكن إن فعلت ملكتها وكان ذلك سببا للملك وحرمت عليك صوم يوم النحر ولكن إن صمت خرجت عن عهدة النذر وكان ذلك سببا للجزاء لم يتناقض بخلاف قوله حرمت عليك الصوم وأمرتك به أو أبحته لك ولا نسلم أن الصحابة تمسكوا للفساد بل للتحريم والمنع ونحن نقول به فثبت بما ذكرنا أنه لا يدل عليه لغة ولكنه يدل عليه شرعا. وبيانه مذكور في الكتاب والنهي في اقتضاء القبح حقيقة كالأمر في اقتضاء الحسن حقيقة يعني حقيقة النهي أن يكون مقتضيا للقبح في المنهي عنه شرعا كما أن حقيقة الأمر أن يكون مقتضيا للحسن في المأمور به شرعا لما ذكرنا من ضرورة حكم للآمر والناهي ألا ترى أنه لو قيل نهي الشارع لا يقتضي القبح يكذب القائل كما لو قيل أمره لا يقتضي الحسن وصحة تكذيب النافي من أمارات الحقيقة.
ولو نصبت حقيقته على التمييز من القبح على معنى أن النهي في اقتضاء القبح الحقيقي وهو أن يكون في ذات المنهي عنه كالأمر في اقتضاء الحسن الحقيقي وهو أن يكون في ذات المأمور به يكون تعسفا لأن سياق الكلام يأباه لأنه لم ينقل والعمل بحقيقة الحسن واجب. ثم العمل بحقيقة الأمر واجب حتى إن مطلقه يقتضي حسن المأمور به لعينه لا لغيره والضمير في كان راجع إلى مفهوم يدل عليه لفظ الأمر وهو المأمور به إلا بدليل كالأمر بالقتال والحدود فكذلك النهي في صفة القبح أي فكالأمر النهي في صفة القبح فيجب العمل بحقيقته وهو أن يثبت به قبح لعين المنهي عنه لا لغيره إلا بدليل.
ثم شرع في بيان تأثير ما ذكر فقال وهذا أي ما ذكرنا من اقتضاء النهي قبحا في عين المنهي عنه لأن المطلق من كل شيء يتناول الكامل لأنه هو الموجب الأصلي إذ الناقص موجود من وجه دون وجه ومع شبهة العدم لا يثبت حقيقة الوجود والكمال في صفة القبح أن يكون في المنهي عنه لا في غيره كما في جانب الحسن فكان هذا هو الموجب الأصلي فوجب القول به ومن قال بأنه يكون مشروعا في الأصل قبيحا في الوصف يجعله مجازا في الأصل لأنه لم يجعل الأصل منهيا عنه حقيقة مع أن النهي أضيف(1/381)
الوصف وهذا عكس الحقيقة وقلب الأصل وإذا ثبت هذا الأصل كان لتخريج الفروع طريقان أحدهما أن ينعدم المشروع باقتضاء النهي والثاني أن ينعدم بحكمه وبيان ذلك أن من ضرورات كون التصرف مشروعا أن يكون مرضيا قال
ـــــــ
إليه حقيقة في الوصف أي يجعل النهي حقيقة في الوصف مع أن النهي غير مضاف إليه وهذا عكس الحقيقة أي عكس ما يقتضيه حقيقة الكلام لأن الأصل أن يثبت حكم النهي ومقتضاه فيما أضيف إليه النهي وأن لا يثبت فيما لم يضف إليه فمتى ثبت مقتضاه فيما لم يضف إليه ولم يثبت فيما أضيف إليه كان عكس الحقيقة لأن فيه إثبات ما لم يوجبه الكلام وإبطال ما أوجبه وقلب الأصل لأن الوصف تابع للأصل وفيما قالوا يصير الأصل تابعا للوصف في صحة إضافة النهي إليه إذ لولا الوصف لم يصح إضافة النهي إليه وهو في التحقيق مرادف للأول.
قوله: "وإذا ثبت هذا الأصل" وهو أن النهي بحقيقته يقتضي القبح في عين ما أضيف إليه كان لتخريج الفروع وهو خروج الأفعال الشرعية المنهية من أن تكون مشروعة طريقان أحدهما أن ينعدم مشروعيتها باقتضاء النهي أي بمقتضاه وهو القبح أو باقتضاء النهي عدم المشروعية لأنه لما اقتضى القبح وهو لا يثبت مع بقاء المشروعية وكان انتفاؤها باقتضاء النهي أيضا كثبوت القبح والثاني أن تنعدم بحكم النهي والتفرقة بينهما ظاهرة إذ المقتضي يتقدم على النص لصحته والحكم متأخر عنه وبيان ذلك أي بيان الطريق الأول أنه لما ثبت القبح في المنهي عنه بالنهي لزم أن لا يبقى مشروعا لأن من ضرورة كون الشيء مشروعا أن يكون مرضيا بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} أي بين وأوضح لكم من الدين ما أمر به نوحا والتوصية الأمر بطريق المبالغة وشرع الشارع ذاته دليل على كون المشروع مرضيا فكيف إذا كان مما وصى به الأنبياء عليهم السلام والتمسك بالآية إنما يستقيم أن لو كان المراد من الدين جميع الشرائع فأما المراد منه لو كان التوحيد والإيمان وما لا يجري فيه النسخ من الشرائع كما ذهب إليه أهل التفسير بدليل قوله جل ذكره: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] إذ هي أن المفسرة بمعنى أي فكان تفسيرا لما وصى به فلا يستقيم لأنها تدل "ح" على أن سوى ما ذكرنا بهذه الصفة إلا أن الشيخ تساهل فيه لكونه أمرا مجمعا عليه.
وأما المعقول فهو أن شرع الشيء استعباد من الشارع لعباده يوضع طريق يصلون بسلوكه إلى السعادة العظمى وهي رضاء الله سبحانه وتعالى فيلزم منه أن يكون ذلك مرضيا له ليصلح للعبد رضاه بسلوكه قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة: 119](1/382)
الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] وللمشروعات درجات وأدناها أن تكون مرضية وكون الفعل قبيحا منهيا ينافي هذا الوصف وإن كان داخلا في المشيئة والقضاء والحكم كالكفر, وسائر المعاصي فإنها بمشيئة الله وقضاء الله وحكمته توجد لا برضاه فصار النهي عن هذه التصرفات نسخا بمقتضاه وهو التحريم السابق والثاني أن من حكم النهي وجوب الانتهاء وأن يصير الفعل على خلاف موجبه معصية هذا موجب حقيقته وبين كونه معصية وبين كونه مشروعا وطاعة تضاد وتناف ولهذا لم
ـــــــ
[التوبة:100] [المجادلة: 22] [البينة: 8] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21] {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] والقبيح لذاته لا يكون مرضيا للحكيم العليم فثبت أن بين القبح وبين المشروعية تنافيا وقد ثبت القبح بالنهي لما ذكرنا فينتفي المشروعية ضرورة قوله: "فصار النهي عن هذه التصرفات نسخا" أي بيانا لانتهاء مدة المشروعية فيها بمقتضاه وهو التحريم السابق يعني إنما صار النهي نسخا بما اقتضاه النهي وهو القبح والحرمة وهذا لأن النهي مع المشروعية لا يصح فيثبت القبح والحرمة سابقين على النهي ليصح النهي فصار كأن الناهي قال حرمت عليك هذا الفعل فلا تفعلوا فيصير على هذا التقدير التحريم سابقا على النهي ضرورة كذا في فوائد مولانا العلامة حميد الملة والدين رحمه الله.
"قوله والثاني" أي الطريق الثاني وهو انتفاء المشروعية بحكم النهي هو أن من حكم النهي وجوب الانتهاء وصيرورة الفعل على خلاف موجبه وهو ترك الانتهاء والإقدام على الفعل معصية وبين كونه أي كون الفعل معصية وبين كونه مشروعا كما إذا كان المنهي عنه من المعاملات كعقد الربا وطاعة كما إذا كان من العبادات تضاد وتنافي التضاد راجع إلى كونه طاعة ومعصية والتنافي راجع إلى كونه مشروعا ومعصية من قبيل اللف والنشر المشوش أما التضاد بين المعصية والطاعة فظاهر لأنهما أمران وجوديان بينهما غاية الخلاف. وأما التنافي بين المشروعية والمعصية فمن حيث إن الشيء إذا كان مشروعا لا يكون معصية ألبتة وبين اللامعصية والمعصية تناف ثم شرع في تخريج الفروع على هذا الأصل بعد تمهيده والجواب عما يلزم على هذا الأصل فقال ولهذا أي ولما ذكرنا أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه وانتفاء مشروعيته لم تثبت حرمة المصاهرة وهي حرمة المرأة على آباء الرجل وإن علوا وعلى أولاده وإن سفلوا وحرمة أمهاتها وإن علون وبناتها وإن سفلن على الرجل بالزنا لأن المصاهرة شرعت نعمة وكرامة كالنسب فإنه(1/383)
يثبت حرمة المصاهرة بالزنا لأنها شرعت نعمة تلحق بها الأجنبية بالأمهات والزنا حرام محض فلم يصلح سببا لحكم شرعي هو نعمة وكذلك الغصب لا يفيد
ـــــــ
ثبت كرامة لبني آدم اختصوا به من بين سائر الحيوانات وتعلق به أنواع من الكرامات من الحضانة والنفقة والإرث والولايات وكذا حرمة النكاح ثبتت كرامة صيانة للمحارم عن الاستذلال بالنكاح الذي فيه ضرب استرقاق ولهذا تعلقت بأسماء تنبئ عن الكرامة نحو اسم الأم والبنت والأخت فألحقت أم المرأة وابنتها بالمحارم بالنص فكان ثبوت هذه الحرمة نعمة وكرامة.
وأشار الشيخ إلى معنى النعمة بقوله تلحق بها أي بهذه الحرمة الأجنبية بالأمهات حتى حلت الخلوة بها والمسافرة والنظر إلى مواضع الزينة ألا ترى أن الله تعالى جمع بينها وبين النسب ومن بهما علينا فقال.: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54] أي ذا نسب وذا صهر والصهر حرمة الختونة وقيل خلطة تشبه القرابة في تحريم النكاح وإذا ثبت أنها نعمة لا يستحق بما هو حرام محض وهو الزنا لأن الحرام لا يصلح سببا لحكم شرعي هو نعمة كاللواطة ووطء الصغيرة لأنه لا بد من المناسبة بين السبب والحكم لا يقال أهن العالم وأعز الجاهل لأن الإهانة لا تناسب العالم كما أن الإعزاز لا يلائم الجاهل ولا مناسبة هنا والدليل على أنه حرام محض أنه يتعلق به الجلد والرجم الذي هو أعظم العقوبات ولا يتعلق به شيء من أحكام الوطء المشروع من لزوم المهر ووجوب العدة وثبوت النسب وهذا معنى ما نقل عن الشافعي رحمه الله أن الزنا فعل رجمت عليه والنكاح أمر حمدت عليه فلم يجز أن يعمل أحدهما عمل الآخر ولا يلزم على ما ذكرنا تعلق وجوب الاغتسال وفساد الصوم والإحرام والاعتكاف به مع أنها أحكام مشروعة لأنا عللنا لمنع ثبوت ما هو نعمة وكرامة وبه والاغتسال شرع للتطهير وزوال النجاسة وهي في الزنا موجودة بل أشد فكان أولى بإيجاب الاغتسال وكذلك فساد الصوم والإحرام والاعتكاف به ليس من باب الكرامة في شيء وإنما هو من باب التغليظ والتشديد فيجوز إثباته بالزنا.
واحترز الشيخ بقوله حرام عن الوطء الحلال كوطء المنكوحة والمملوكة وبقوله محض عن الوطء بشبهة كالوطء بالنكاح الفاسد وبما إذا زفت إليه غير امرأته فوطئها ووطئ الجارية المشتركة ووطئ الرجل أمة ابنه فإن حرمة المصاهرة تثبت في هذه الصور بالاتفاق لأن الوطء فيها ليس بحرام محض فيجوز أن يثبت به هذه الحرمة كما يثبت بعض أحكام الوطء المشروع مثل سقوط الحد ووجوب المهر والعدة وثبوت النسب.
وتأييد ما ذكرنا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن تتبع امرأة حراما أيحل له أن يتزوج(1/384)
الملك لما قلنا ولا يلزم إذا جامع المحرم أو أحرم مجامعا أنه يبقى مشروعا مع كونه فاسدا لأن الإحرام منهي لمعنى الجماع وهو غيره لا محالة لكنه محظوره فصار مفسدا والإحرام لازم شرعا لا يحتمل الخروج باختيار العباد ففسد ولم ينقطع بجناية الجاني, وكلامنا فيما ينعدم شرعا لا فيما لا ينقطع بجناية الجاني.
ولا يلزم الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها لأنه منهي عنه لمعنى
ـــــــ
أمها وابنتها فقال: "الحرام لا يحرم الحلال" 1 وبما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عمن غشي أم امرأته هل تحرم عليه امرأته فقال لا الحرام لا يحرم الحلال. وهكذا نقل عن عائشة رضي الله عنها أيضا.
قوله: "وكذا الغصب" إذا غصب شيئا وقضى القاضي بالضمان أو تراضيا على ذلك أن يثبت الملك للغاصب في المغصوب مستندا إلى وقت الغصب عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا يثبت الملك بالغصب أصلا وتظهر ثمرة الاختلاف في ملك الأكساب ونفوذ البيع ووجوب الكفن على الغاصب إذا مات المغصوب وغير ذلك قال لأن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا للملك لأن الملك نعمة وكرامة يصل به إلى مقاصده الدينية والدنيوية فيتعلق بسبب مشروع لا محظور لأن المحظور سبب للعقوبة لا للكرامة والنعمة ألا ترى أنه لو قتل عبد غيره ثم ضمن قيمته فإنه لا يملكه حتى يكون الكفن على المالك لأنه متعد كذلك ههنا بخلاف وجوب الضمان لأن الجناية تصلح أن تكون سببا لوجوب الغرامة على الجاني والملك في الضمان إنما يقع للمالك لا بسبب الجناية ولكن بملك الأصل.
واعلم أن بناء هاتين المسألتين على الأصل المذكور مشكل لأن الزنا والغصب من الأفعال الحسية ولا خلاف أن النهي عنها يوجب انتفاء المشروعية ولهذا لم يقل أحد بمشروعية الزنا والغصب ونحن إنما جعلناهما سببين للحرمة والملك لا لأن النهي يقتضي المشروعية فيهما بل لما نذكره من بعد وكلامنا في النهي عن الأفعال الشرعية فلا يستقيم بناؤهما عليه إلا من حيث الظاهر وهو أن النهي يقتضي انتفاء المشروعية مطلقا سواء كان المنهي عنه شرعيا أو حسيا.
قوله: "ولا يلزم" أي على ما ذكرنا أن النهي عن المشروع يوجب فساده وقبحه ومع صفة الفساد لا تبقى المشروعية إن المحرم إذا جامع قبل الوقوف يفسد حجه وإحرامه
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في النكاح حديث رقم 2015.(1/385)
في غيره وهو الضرر بالمرأة بتطويل العدة أو بتلبيس أمر العدة عليها
ـــــــ
ويبقى مع صفة الفساد حتى لزم عليه أداء الأفعال ليخرج عن هذا الإحرام وكذا إذا أحرم مجامعا لأهله ينعقد إحرامه بصفة الفساد مع أنه منهي عنه فعرفنا أن النهي والفساد لا ينافي الشرعية.
وإنما ذكر المسألة الأخيرة لأنه لو أجاب عن الأولى بأن الإحرام قد انعقد صحيحا وهو لازم لا يمكن الخروج عنه إلا بأداء الأفعال أو بالدم عند الإحصار فلا يؤثر المفسد في رفعه صورة وإن أثر في معناه حتى وجب عليه القضاء يرد عليه المسألة الثانية لأن المفسد فيها مقارن فينبغي أن يمنعه من الانعقاد فجمع بينهما ليجيب عنهما بجواب يشملهما وهو أن الجماع غير الإحرام وليس بوصف له أيضا لأن الجماع فعل والإحرام قول والفعل لا يصير من أوصاف القول لكنه يوجد معه على سبيل المجاورة بدليل أنه قد ينفصل أحدهما عن الآخر فكان النهي عن الإحرام مجامعا نهيا لمعنى في غيره متصل به وصفا فكان من قبيل النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة والنهي عن البيع وقت النداء فلم يوجب إعدامه فانعقد صحيحا.
والدليل عليه أن هذا الإحرام يوجب القضاء والشروع في الفاسد لا يوجب القضاء بحال كمن شرع في الصلاة مع انكشاف العورة فتبين بهذا أنه انعقد صحيحا ثم فسد. وكان ينبغي أن لا يفسد كالصلاة في الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء لأن المعنى الذي ورد النهي لأجله هو الجماع مجاور لا متصل على ما ذكرنا لكنه محظوره كالكلام للصلاة والحدث للطهارة ففسد لارتكاب المحظور كما يفسد الاعتكاف به فهذا معنى استدراك الشيخ في قوله لكنه محظوره فصار مفسدا ولا يقال لما كان الجماع من محظوراته حتى أفسده لزم أن يمنعه من الانعقاد إذ المنع أسهل من الرفع لأنا نقول إنما يوصف الجماع بكونه محظور الإحرام بعد وجود الإحرام لا قبله لأن الشيء ما لم يوجد لا يوصف بأن له محظور فلم يكن الجماع المقارن من محظورات إحرامه فلم يمنع من الانعقاد فإذا داوم عليه بعدما انعقد الإحرام صار من محظوراته فأفسده كما إذا جامع بعد الإحرام ابتداء وينبغي أن لا يبقى بعدما فسد غير أن الإحرام لازم شرعا لا يحتمل البعض بالأسباب الناقصة من الخارج بخلاف الصلاة والصيام فأثر المفسد في إيجاب القضاء ولم يؤثر في الخروج من الإحرام فلزمه المضي ضرورة ليخرج عنه بالأداء كما شرع وباب الضرورة مستثنى عن القواعد وليس الكلام فيه إنما الكلام في أن النهي وفي وضعه لرفع المشروعية فيؤثر فيما يقبل ذلك لا أنه لا يجوز الامتناع عنه بمانع بل يجوز ذلك بدليله كما في سائر الحقائق. وذكرنا في القواطع أن انعقاده على الفساد وإلزامه أفعاله يجري(1/386)
ولهذا لم يكن سفر المعصية سببا للرخصة للنهي ولا يملك الكافر مال المسلم بالاستيلاء للنهي أيضا فلم يصلح سببا مشروعا ولا يلزم الظهار لأن كلامنا في حكم مطلوب تعلق بسبب مشروع له ليبقى سببا والحكم به مشروعا
ـــــــ
مجرى نوع معاقبة من الشرع والمؤاخذات من الشرع على أنواع فيجوز أن يكون هذا الإلزام وإبقاء المرء في عهده أفعال الحج ليفعلها ولا يسقط بها الحج عن ذمته ولا يثاب على فعلها نوع معاقبة من الله تعالى له لارتكابه النهي وفعله الحج على وجه المعصية فلم يدخل هذه المسألة على الأصل الذي قلناه وإليه أشار الشيخ أيضا في قوله ولم ينقطع بجناية الجاني.
قوله: "ولا يلزم" أي على هذا الأصل الطلاق في الحيض فإنه منهي عنه شرعا وكذا الطلاق في طهر جامعها فيه وقد بقي مشروعا بعد النهي حتى كان واقعا موجبا لحكم مشروع وهو الفرقة لأن هذا الطلاق منهي عنه لمعنى في غيره غير متصل به وصفا وذلك المعنى في الطلاق في الحيض هو الإضرار بالمرأة من حيث تطويل العدة عليها فإن الحيضة التي أوقع فيها الطلاق ليست بمحسوبة من العدة بالاتفاق فإن عندي الاعتداد بالأطهار لا بالحيض وعندكم لا يحتسب هذه الحيضة من حيض العدة لانتقاضها ولهذا لا يحرم الطلاق في الحيض إذا لم يؤد إلى الضرار فإن طلقها في حالة الحيض قبل الدخول بها وإلى ما ذكرنا إشارة في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وفي الطلاق في طهر الجماع هو تلبيس أمر العدة عليها لأنها لا تدري أن الوطء معلق فيعتد بالحبل أو غير معلق فيعتد بالإقرار والحامل قد تحيض على أصلي فلا يتمكن من التزوج. وكذا تلبيس أمر النفقة لأنها لو كانت حاملا وجب لها النفقة لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولو لم تكن حاملا وكان الطلاق بائنا لا يجب لها النفقة عنده فتشك في طلب النفقة.
قوله: "ولهذا" أي ولما قلنا إن النهي ينفي المشروعية لم يكن سفر المعصية أي السفر الذي هو معصية كسفر الآبق وقاطع الطريق والباغي سببا للرخصة للنهي أي لكونه منهيا عنه شرعا يعني لما كان منهيا عنه كان معصية والرخصة نعمة لأنها شرعت لدفع الحرج عند السير المديد فيستدعي سببا مشروعا فلا يجوز أن يتعلق بالمعصية.
قوله: "ولا يملك الكافر" عطف على قوله لم يكن لأنه في معنى المستقبل إذ هو بيان شرع أي لا يكون سفر المعصية سببا ولا يملك الكافر مال المسلم بالاستيلاء أي بالاستيلاء التام المطلق وذلك بالإحراز بدار الحرب فإنهم ما داموا في دارنا كانوا مقهورين(1/387)
مع وقوع النهي عليه فأما ما هو حرام غير مشروع تعلق به جزاء زاجر عنه فيعتمد حرمة سببه كالقصاص ليس بحكم مطلوب بسبب مشروع بل جزاء شرع زاجرا فاعتمد حرمة سببه.
ـــــــ
حكما ولا يتم الاستيلاء فلا يصلح سببا للملك بالاتفاق للنهي أيضا أي لكونه منهيا عنه شرعا كالسفر وذلك لأنه استيلاء على مال معصوم محترم فيكون حراما منهيا عنه خصوصا على أصله أن الكفار مخاطبون بالشرائع أجمع وعلى أصل بعض مشايخنا أنهم مخاطبون بالحرمات والمناهي وإذا كان كذلك لا يصلح سببا للملك الذي هو نعمة كاستيلائهم على رقابنا وكاستيلاء المسلم على هذا المال ويرد ما قلنا في مسألتي الزنا والغصب في هاتين المسألتين أيضا.
قوله: "ولا يلزم" أي على هذا الأصل الظهار فإنه منهي عنه محظور. وقد انعقد سببا للكفارة التي هي عبادة ولم ينعدم بالنهي لأن كلامنا في النهي الوارد عن التصرف الموضوع لحكم مطلوب شرعا والظهار ليس بتصرف موضوع لحكم مطلوب شرعا بل هو حرام فإنه منكر من القول وزور والكفارة إنما وجبت جزاء لتلك الجريمة وثبوت وصف الخطر في السبب للجزاء لا يخرج السبب من أن يكون صالحا لإيجاب الجزاء بل يحققه كما في القتل العمد فإنه محظور محض ومع ذلك أوجب القصاص وثبوت وصف الحظر فيه لم يخرجه من أن يكون صالحا لإيجابه فكذا في الظهار ولنا ما احتج به محمد في كتاب الطلاق في باب الرد على من قال إذا طلق لغير السنة لا يقع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم النحر1 فقال أنهانا عما يكون أو لا يكون والنهي عما لا يكون لغو لا يقال للأعمى لا تبصر وللآدمي لا تطر. وبيانه أن الله تعالى ابتلى عباده بالأمر والنهي بناء على اختيارهم فمن أطاعه بالائتمار بما أمر والانتهاء عما نهى باختياره نال الجنة بفضله ومن عصاه بترك الائتمار والانتهاء استحق النار بعدله والابتلاء بالنهي إنما يتحقق إذا كان المنهي عنه متصور الوجود بحيث لو أقدم عليه يوجد حتى يبقى العبد مبتلى بين أن يقدم على الفعل فيعاقب أو يكف عنه فيثاب بامتناعه مختارا عن تحقيق الفعل للنهي فيكون عدم الفعل مضافا إلى كسبه واختياره هذا موجب حقيقة النهي وأما النسخ فلبيان أن الفعل لم يبق متصور الوجود شرعا كالتوجه إلى بيت المقدس وحل الأخوات لم يبق مشروعا أصلا وصار باطلا شرعا فامتناع العبد عن ذلك بناء على عدمه في نفسه لا تعلق
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الصوم 3/56 ومسلم في الصيام حديث رقم 1138 و827 وأبو داود الصوم حديث رقم 2416 والترمذي في الصوم حديث رقم 772 وابن ماجه في الصيام حديث رقم 1721.(1/388)
ولنا ما احتج به محمد رحمه الله في كتاب الطلاق أن صيام العيد وأيام التشريق منهي والنهي لا يقع على ما لا يتكون وبيانه أن النهي يراد به عدم الفعل مضافا إلى اختيار العباد وكسبهم فيعتمد تصوره ليكون العبد مبتلى بين
ـــــــ
له باختياره ولهذا لا يثاب على الامتناع في المنسوخ. نظير ما ذكرنا أن من امتنع عن شرب الخمر مع القدرة يثاب عليه لأن العدم بناء على امتناعه وكسبه ولو امتنع عنه لأنه لا يجدها لا يثاب عليه لأن امتناعه عنه بناء على عدمها.
ثم النهي كما يوجب تصور المنهي عنه يقتضي قبحه أيضا لما مر فإن أمكن الجمع بينهما وجب العمل به وإلا وجب الترجيح ففي الفعل الحسي أمكن الجمع بينهما لأنه لا يمتنع وجوده بسبب القبح فأما الفعل الشرعي فلا يمكن فيه الجمع بينهما لأنه لا يتحقق مع القبح فوجب الترجيح ثم إما أن يرجح جانب القبح كما هو مذهب الخصم أو جانب التصور فقلنا ترجيح جانب التصور أولى من وجوه أحدها أن التصور هو الموجب الأصلي للنهي لغة وعرفا وشرعا.
أما لغة فلأنه متعد لازمه انتهى يقال نهيته فانتهى كما يقال أمرته فائتمر والائتمار والامتناع واحد أما عرفا فلما ذكرنا أنه يستقبح أن يقال للأعمى لا تبصر و للإنسان لا تطر.
وأما شرعا فلما ذكرنا أن تحقق الابتلاء به والقبح ليس كذلك بل هو من مقتضياته الشرعية فكان اعتبار الموجب الأصلي الذي لا وجود لحقيقته بدونه شرعا وعرفا ولغة أولى من اعتبار ما هو دونه وهو ثابت شرعا لا لغة.
وثانيها أن مع اعتبار جانب التصور أمكن اعتبار جانب القبح أيضا بأن يكون القبح راجعا إلى الوصف فكان فيه جمع بين الأمرين من وجه ومع اعتبار جانب القبح لا يمكن اعتبار جانب التصور بوجه فكان الأول أولى.
وثالثها أن اعتبار جانب القبح يؤدي إلى إبطال حقيقة النهي لأنه "ح" يصير نسخا وهو غير النهي حدا وحقيقة وفي إبطاله إبطال القبح الذي ثبت مقتضى به لأن في إبطال المقتضى إبطال المقتضي ضرورة فكان اعتبار القبح وإثباته في عين المنهي عنه عائدا على موضوعه بالنقض وذلك باطل وليس في اعتبار جانب التصور ذلك وفيه تحقيق النهي مع رعاية مقتضاه فكان اعتباره أولى. ثم إنك قد علمت أن المراد من أمر الشارع ونهيه وجوب الائتمار ووجوب الانتهاء لا وجود الفعل وعدمه لأن تخلف المراد عن إرادة الله تعالى محال عند أهل الحق فكان معنى قوله يراد به عدم الفعل يطلب به عدمه أو يراد به عدم الفعل(1/389)
أن يكف عنه باختياره فيثاب عليه وبين أن يفعله باختياره فيلزمه جزاؤه والنسخ لإعدام الشيء شرعا لينعدم فعل العبد لعدم المشروع بنفسه ليصير امتناعه بناء على عدمه وفي النهي يكون عدمه بناء على امتناعه وهما في طرفي نقيض فلا يصح الجمع بحال والحكم الأصلي في النهي ما ذكرنا.
فأما القبح فوصف قائم بالنهي مقتضى به تحقيقا لحكمه فكان تابعا فلا يجوز تحقيقه على وجه يبطل به ما أوجبه واقتضاه فيصير المقتضي دليلا على الفساد بعد أن كان دليلا على الصحة بل يجب العمل بالأصل في موضعه والعمل بالمقتضي بقدر الإمكان وهو أن يجعل القبح وصفا للمشروع فيصير
ـــــــ
في وضعه من غير نظر إلى أنه صادر من الشارع وقيل معناه يراد به عدم الفعل في حق من علم الله تعالى منه الامتناع عن مباشرة المنهي عنه فأما في حق الكل فالمراد من النهي إيجاب الانتهاء لا حصوله ومن الأمر إيجاب الائتمار لا غير والأول أوجه.
قوله: "وهما في طرفي نقيض" أي كون الامتناع عن الشيء مبنيا على عدمه مع كون عدم الشيء مبنيا على الامتناع عنه متناقضان أي مخالفان وأنهم قد يطلقون التضاد والتنافي والتناقض ولا يريدون بها معانيها المصطلحة بين قوم وإنما يريدون نفس المخالفة والحكم الأصلي ما ذكرنا وهو أن النهي لطلب الامتناع عن الفعل مضافا إلى اختيار العبد وكسبه فيعتمد التصور فأما القبح أي قبح المنهي عنه فوصف قائم أي ثابت بالنهي للمنهي عنه لا أنه قائم بحقيقة النهي لأنه منع من القبيح وذلك حسن مقتضى حال والعامل فيه قائم به أي بالنهي تحقيقا لحكمه أي لأجل تحقيق حكم النهي وهو طلب الإعدام فكان أي القبح في المنهي عنه تابعا للنهي من حيث إنه ثبت به فلا يجوز تحقيقه أي إثبات القبح الذي ثبت اقتضاء على وجه يبطل به أي بالقبح ما أوجب القبح واقتضاء وهو النهي فيصير المقتضى "ح" دليلا على الفساد أي فساد المقتضي بعد أن كان دليلا على صحته. بل يجب العمل إضراب عن قوله فلا يجوز تحقيقه أي يجب العمل بالأصل وهو النهي في موضعه وهو ما ورد النهي فيه وذلك بإبقاء المشروعية ليبقى النهي على حقيقته ويجب العمل بالمقتضى وهو القبح بقدر الإمكان إلى آخره قال القاضي الإمام فوجب إثبات القبح في غيره ليمكن تحريم الفعل بذلك الغير ولكن يثبته على وجه يكون ألزم فيجعله قبيحا لوصف زائد متصل به ما أمكن كما يثبت الحسن للمأمور به على وجه يكون ألزم وهو الإثبات لعينه فإن ذلك تحقق الوجوب عليه والوجود من قبله وفي النهي لو أثبت القبح لعينه انعدم المشروعية والنهي للانتهاء لا للإعدام فلم نثبته لعينه ليبقى مشروعا وأثبتناه وصفا له ما أمكن ليكون(1/390)
مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه فيصير فاسدا هذا غاية تحقيق هذا الأصل فأما الشافعي رحمه الله فقد حقق المقتضى وأبطل المقتضي وهذا في غاية
ـــــــ
حرمة الفعل لازمة أبدا لمعنى راجع إلى المنهي عنه لأن الوصف منه قال صاحب القواطع في الجواب عما ذكرنا إن الفعل المشروع وجوده بأمرين بفعل العبد وبإطلاق الشرع فبالنهي انتهى الطلاق فلم يبق مشروعا فأما تصور الفعل من العبد فعلى حاله فيصح النهي بناء عليه ببينة أن العبد مأذون بالصوم مأمور به وليس في وسعه إلا النية والإمساك فأما اعتباره وصيرورته عبادة فمفوض إلى الشرع لا إلى العبد فبالنهي خرج الفعل عن الاعتبار وصيرورته صوما لزوال إذن الشرع وإطلاقه فلم يكن الفعل صوما نظرا إلى زوال إطلاق الشرع وكان صوما نظرا إلى فعل العبد وإذا بقي تصور الفعل من العبد صح النهي وتحقق ولهذا لو ارتكبه كان عاصيا مستحقا للعقاب لارتكاب المنهي عنه وإتيانه بما في وسعه وطاقته من فعل الصوم إذ ليس في وسعه في جميع الأحوال إلا هذا القدر الذي وجد منه. قال وهذا لأن الصحة والفساد معنيان متلقيان من الشرع وليس إلى العبد ذلك وإنما إليه إيقاع الفعل باختياره فإن وقع على وفق أمر الشرع وإطلاقه صح وإلا فلا.
قال ولهذا أبطلنا صوم الليل وصوم الحائض مع تحقق الإمساك حسيا وصورة لأنه لما لم يوافق أمر الشرع لم يثبت له الحقيقة الشرعية قلت وحاصله يئول إلى أن النهي راجع إلى الفعل المتصور من العبد حسا لا شرعا والجواب عنه أنا لا نسلم أن فعل العبد بدون اعتبار الشرع إياه يسمى بالاسم الشرعي حقيقة فإن الصوم اسم لفعل معلوم معتبر في الشرع فبدون اعتبار الشرع لا يسمى صوما حقيقة ألا ترى أن الإمساك في الليل لا يسمى صوما وإن وجدت النية لعدم اعتبار الشرع إياه وإذا كان كذلك كان صرف النهي إليه مجازا لا حقيقة والنهي ورد عن مطلق الصوم فلا يحمل على حقيقته إلا بدليل يوضحه أن الصوم إنما صار صوما بصورته ومعناه وكذا كان البيع ومعنى الصوم كونه صوما في حكم الله تعالى ومعنى البيع كونه سببا للملك فإذا لم يوجد المعنى لم يبق للصورة عبرة فلا يسمى صوما وبيعا إلا مجازا كتسمية صورة الأسد أسدا وأجاب الغزالي أيضا في المستصفى عما ذكرنا أن الاسم يصرف إلى موضوعه اللغوي إلا ما صرفه عرف الاستعمال في الشرع وقد ألفينا عرف الشرع في الأوامر أنه يستعمل الصوم والصلاة والبيع لمعانيها الشرعية أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف المغير للوضع بدليل قوله عليه السلام دعي الصلاة أيام إقرائك وقوله جل ذكره: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]. وأمثال هذه المناهي عما لا ينعقد أصلا فلم يثبت فيه عرف استعمال الشرع أو تعارض فيه عرف الشرع فيرجع إلى أصل الوضع ونقول من صام يوم النحر فقد ارتكب المنهي عنه وإن لم ينعقد صومه.(1/391)
المناقضة والفساد فإن قيل هذا صحيح في الأفعال الحسية لأنها لا تنعدم بصفة القبح فأما الشرعية فتنعدم لما قلنا فلا بد من إقامة الدلالة على أن المشروعات تحتمل هذا الوصف قيل له قد وجدنا المشروع يحتمل الفساد
ـــــــ
وحاصل هذا الكلام أيضا يرجع إلى أن النهي مصروف إلى الصوم اللغوي وهو فاسد أيضا لأنه لو أمسك حمية أو لعدم اشتهاء أو عدم طعام لا يكون مرتكبا للمنهي عنه بالاتفاق مع تحقق الإمساك اللغوي فعلم أنه ليس المراد إلا الصوم الشرعي ولأن المنهي عنه لو كان الصوم اللغوي فلا نهي إذا عن الصوم الشرعي فبقي ثابتا وقال بعضهم الفعل عند النهي كان متصورا فكفى ذلك لصحة النهي فلا حاجة إلى إبقائه مشروعا بعد ذلك والجواب أن النهي لإعدام المنهي عنه من قبل المنهي في المستقبل كالأمر للإيجاد في المستقبل فلا بد من أن يكون متصورا في المستقبل ليتحقق الانتهاء بالنهي كما في الأمر ولا يكون ذلك إلا ببقائه مشروعا ولا يقال حقيقة النهي أن يكون المنهي عنه قبيحا في ذاته ومتصورا في نفسه فكما قلتم إن انتفاء التصور شرعا مع بقاء التصور من العبد يجعله مجازا فكذلك انتفاء القبح عن ذات المنهي عنه وانصرافه إلى وصفه يجعل النهي فيه مجازا أيضا لأنه لا يثبت موجب النهي وهو التحريم نظرا إلى ذات المنهي عنه وإنما يثبت في غيره. لأنا لا نسلم أن النهي بإثبات القبح في وصف المنهي عنه يصير مجازا بل هو على حقيقته لأن المنهي عنه بعد يبقى واجب الانتهاء مع كونه مشروعا ألا ترى أن الأمر إذا ورد لحسن في غير المأمور به لا يصير مجازا في المأمور به كالأمر بالجهاد والطهارة لم يصر مجازا بل يبقى على حقيقته وهو الإيجاب فكذا هذا ولا نسلم أيضا أن التحريم لا يثبت فيما أضيف إليه النهي بل يثبت حتى لو أقدم على بيع الربا مثلا يصير عاصيا مستحقا للعقاب لأنه ارتكب حراما ولكنه مع كونه حراما يصلح سببا لحصول الملك إذ لا تناقض في قول الشارح حرمت البيع وجعلته سببا لحصول الملك في العوضين لأن شرط التحريم التعرض لعقاب الآخرة فقط دون تخلف الثمرات والأحكام على أنا إن سلمنا أنه يصير مجازا فهو أولى مما قالوا لأنه يصير مجازا في الإسناد مع بقاء النهي في ذاته على حقيقته وما قالوا مجازا في ذاته لأنه يصير نسخا وهو غير النهي فكان الأول أولى.
قوله: "فإن قيل هذا صحيح" أي الجمع بين العمل بحقيقة المنهي وبين الفساد والقبح في المنهي عنه إنما يصح في الأفعال الحسية لأنها لا تنعدم وتوجد بصفة القبح والفساد فأما الأفعال الشرعية فتنعدم بالقبح لما قلنا من التنافي والتضاد بين المشروعية والقبح فلا بد من إقامة الدليل على أن المشروعات يحتمل أي يقبل هذا الوصف وهو الفساد.(1/392)
بالنهي كالإحرام الفاسد والطلاق الحرام والصلاة الحرام والصوم المحظور يوم الشك وما أشبه ذلك فوجب إثباته على هذا الوجه رعاية لمنازل المشروعات ومحافظة لحدودها وعلى هذا الأصل تخرج الفروع كلها منها أن البيع بالخمر منهي بوصفه وهو الثمن لأن الخمر مال غير متقوم فصلح ثمنا من وجه دون وجه فصار
ـــــــ
قوله: "والصلاة الحرام" كالصلاة في الأرض المغصوبة والأوقات المكروهة والمواطن السبعة والصوم المحظور يوم الشك الاستدلال به أوضح لأن المحظورية وصف الصوم. وما أشبه ذلك أي المذكور نحو البيع والإجارة وقت النداء والحلف على فعل محظور مثل قتل زيد وسب الأبوين وترك الصلاة فوجب إثباته أي إثبات كونه مشروعا على هذا الوجه أي صفة الفساد رعاية لمنازل المشروعات وهو أن ينزل الأصل وهو المقتضي في منزله والتبع وهو المقتضى في منزله وذلك بأن لا يجعل التبع مبطلا للأصل ومحافظة لحدودها وهي أن يجعل النهي نهيا والنسخ نسخا لا أن يجعل كلاهما في المشروعات واحدا من غير ضرورة.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن النهي في المشروعات يقتضي بقاء مشروعيتها. قوله: "منهي بوصفه" وهو الثمن.
اعلم أن البيع مبناه على البدلين لأنه مبادلة المال بالمال عن تراض لكن الأصل فيه المبيع دون الثمن ولهذا يشترط القدرة على المبيع ولا يشترط القدرة على الثمن وينفسخ بهلاك المبيع دون الثمن وذلك لأن المقصود من شرعيته الوصول إلى ما يحتاج الإنسان إليه من الانتفاع بالأعيان فإن من احتاج إلى طعام أو ثوب مثلا وليس عنده ذلك لا تندفع حاجته إلا بالظفر على مقصوده فشرع البيع وسيلة إلى حصول المقصود ولما كان الانتفاع يتحقق بالأعيان لا بالأثمان إذ ليس في ذوات الأثمان نفع إلا من حيث الوسيلة إلى المقاصد كانت الأعيان أصولا في البيوع وكانت الأثمان أتباعا لها فيها بمنزلة الأوصاف فإذا باع عبدا بالخمر كان فاسدا لكونه منهيا عنه لأن أحد البدلين وهو الخمر واجب الاجتناب فلا يجوز تسليمه وتسلمه إلا أنها في ذاتها مال لأن المال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة كذا قيل وقيل هو الشيء الذي خلق لمصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة وهي بهذه المثابة ولكنها ليست بمتقومة لأن المتقوم ما هو واجب الإبقاء إما بعينه أو بمثله أو بقيمته كما عرف فصلحت ثمنا من حيث إنها مال ولم يصلح من حيث إنها ليست بمتقومة فلا يمنع أصل الانعقاد لأن ما هو ركن العقد وهو الإيجاب والقبول الصادر من الأهل صادف محله وهو المبيع من غير خلل في الركن ولا في المحل.(1/393)
فاسدا لا باطلا ولا خلل في ركن العقد ولا في محله فصار قبيحا بوصفه مشروعا بأصله وكذلك إذا اشترى خمرا بعبد لأن كل واحد منهما ثمن لصاحبه فلم ينعقد في الخمر لعدم محله وانعقد في العبد لوجود محله وفسد بفساد ثمنه
ـــــــ
وإنما الخلل فيما هو جار مجرى الوصف وهو الثمن فصار العقد مشروعا بأصله قبيحا بوصفه وهو الثمن فكان فاسدا لا باطلا.
وذكر في المبسوط في هذه المسألة أن محل العقد المالية في البدلين وبتخمر العصير لا تنعدم المالية وإنما ينعدم التقوم شرعا فإن المالية بكون العين منتفعا بها وقد أثبت الله تعالى ذلك في الخمر بقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ولأنها كانت مالا متقوما قبل التحريم وإنما ثبت بالنص حرمة التناول ونجاسة العين وليس من ضرورتهما انعدام المالية كالسرقين إلا أنه فسد تقومها شرعا ضرورة وجوب الاجتناب عنها بالنص ولهذا بقيت مالا متقوما في حق أهل الذمة فانعقد العقد بوجود ركنه في محله بصفة الفساد.
قوله: "وكذلك إذا باع خمرا بعبد" أي بيع الخمر بالعبد كبيع العبد بالخمر في انعقاد البيع بصفة الفساد وإنما ذكر هذه المسألة لأن دخول الباء في أحد البدلين يدل على كونه هو الثمن لأنها تدخل في الأتباع والوسائل يقال كتبت بالقلم والأثمان بهذه الصفة وقد دخلت في هذه المسألة في العبد فيقتضي أن تكون الخمر مبيعة فيبطل البيع كما إذا باعها بالدراهم بخلاف المسألة الأولى لأن الباء فيها دخلت في الخمر فبقي العبد مبيعا فقال الشيخ هما سواء لأن هذا بيع مقايضة أي بيع عرض بعرض فكان كل واحد منهما ثمنا لصاحبه بخلاف بيعها بالدراهم لأن الدراهم تعينت للثمنية فبقيت الخمر مبيعة. وفي قوله كل واحد منهما ثمن لصاحبه إشارة إلى أن كل واحد منهما متعين في هذه المسألة لأن كل واحد منهما إنما يصلح ثمنا لصاحبه إذا كان الآخر عينا بالنسبة إليه وذلك بأن يكون متعينا لأن المبيع لا يجب في الذمة إلا في عقد خاص فإذا كان العبد غير عين لا يصلح ثمنا ولا مبيعا لأن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة في البيوع وإذا كانت الخمر غير عين لم تصلح مبيعة فعلم أن قوله كل واحد منهما ثمن لصاحبه لا يستقيم إلا أن يكونا متعينين ولكن إذا كانت الخمر غير عين يجب أن ينعقد في العبد فاسدا وإن أدخل الباء في العبد لأنه تعين لكونه مبيعا من كل وجه كما إذا باع خلا غير معين بعبد أو دراهم بثوب صح وتعين العبد والثوب للمبيعة.
ثم بين حكم المسألتين فقال فلم ينعقد أي البيع في الصورتين في الخمر لعدم(1/394)
بخلاف الميتة لأنها ليست بمال لا بمتقومة فوقع البيع بلا ثمن وهو غير مشروع وكذلك جلد الميتة لأنه ليس بمال ولا متقوم وكذلك بيع الربا مشروع
ـــــــ
محله حتى لا يثبت الملك فيها وإن اتصل بها القبض وينعقد في العبد لوجود محله ولكن بصفة الفساد لفساد ثمنه فيثبت الملك فيه في الصورتين إذا اتصل به القبض بإذن المالك.
قوله: "بخلاف الميتة" أي في المسألتين فإنه إذا باع العبد بالميتة أو الميتة بالعبد بطل البيع لأنه أي المذكور ليس بمال في الحال ولا في المال بخلاف الخمر وكذا لا يعد مالا في دين سماوي فوقع العقد بلا ثمن وهو باطل لعدم ركنه. وكذا جلد الميتة ليس بمال في الحال ولا في المال ولهذا لو ترك كذلك يفسد وإنما تحصل المالية بصنع مكتسب وهو الدباغ ولهذا اتفق العلماء على بطلان هذا البيع ولو قضى قاض بجوازه لا ينفذ فلانعدام ما هو ركن العقد لم ينعقد العقد كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
قوله: "ولا متقوم" بدليل أن إنسانا لو استهلكه لا يضمن ألا ترى أنه جزء الميتة ويحصل التألم بقطعه كاللحم بخلاف الشعر والميتة ليست بمال ولا متقومة فكذا جزؤها ويجوز أن يكون قوله ولا متقوم احترازا عن المنافع فإنها ليست بأموال حقيقة ولكنها يتقوم في العقود قالوا المراد بالميتة هي التي ماتت حتف أنفها أما البيع بالميتة التي ماتت بالخنق والجرح في غير المذبح ففاسد لا باطل كذا رأيت بخط شيخي قدس الله روحه وذكر في الذخيرة قال أبو الحسن في الجامع الصغير في ذبيحة المجوسي وكل شيء يعملونه وهو عندهم ذكاة كالتخنيق والوقذ فإنه يجوز البيع بينهم عند أبي يوسف رحمه الله ولو استهلكها مسلم ضمن القيمة وليس كالميتة حتف أنفها وقال محمد رحمه الله هو والميتة حتف أنفها سواء لأن الذكاة فعل شرعي والفاعل ليس من أهله فصار هذا الذبح في حقه والموت حتف أنفه سواء لأبي يوسف رحمه الله أنهم يتمولونه كالخمور ونحن أمرنا ببناء الأحكام على ما يدينون بخلاف الميتة حتف أنفها لأنها ليست بمال في حق أحد وهكذا ذكر في التجنيس من غير خلاف لمحمد. قوله: "وكذلك بيع الربا" أي مثل البيع بالخمر بيع الربا وهو معاوضة مال بمال في أحد الجانبين فضل خال عن العوض مستحق بعقد المعاوضة غير مشروع بوصفه وهو الفضل أي بالفضل يفوت المساواة التي هي شرط الجواز وهو تبع كالوصف وكذلك الشرط الفاسد في البيع مثل الربا وهو شرط لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه نفع أو للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق والربا قد يكون اسما للعقد ولنفس الفضل ففي قوله بيع الربا مشروع بأصله(1/395)
بأصله وهو وجود ركنه في محله غير مشروع بوصفه وهو الفضل في العوض فصار فاسدا لا باطلا وكذلك الشرط الفاسد في البيع مثل الربا ولهذا قلنا في قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4] إن النهي بعدم الوصف من شهادته وهو الأداء ويبقى الأصل فيصير فاسدا.
ـــــــ
المراد منه العقد أي بيع هو ربا وفي قوله الشرط الفاسد مثل الربا المراد منه نفس الفضل أي الشرط الفاسد في إفساد البيع وعدم المنع من الانعقاد مثل الدرهم الزائد لأن الشرط الفاسد على ما وصفنا في معنى الدرهم الزائد من حيث إنه فضل استحق بعقد المعاوضة فأخذ حكمه ثم النهي في المسألتين وهو قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275]. وقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء" الحديث وما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع وشرط1 وغير ذلك من الأحاديث ورد لمعنى في غير البيع وهو الفضل الخالي عن العوض والشرط الفاسد فلا ينعدم به أصل المشروع لأنه إيجاب وقبول من أهله في محله ولا يختل شيء من ذلك بالدرهم الزائد ولا بالشرط الفاسد فكانا أمرين زائدين على العقد فكانا غيره لكن يثبت به صفة الفساد والحرمة وملك اليمين يحتمل ذلك ألا ترى أن صيد الحرم مملوك للمالك وكذا الخمر وجلد الميتة مملوكان وحرم الانتفاع بها فلما كانت الحرمة لا تنافي ملك اليمين لا تنافي سببه وكان ينبغي أن لا يفسد العقد لما ذكرنا أن النهي راجع إلى غيره إلا أن النهي إن لم يتصل بأصل العقد اتصل بوصفه لأن الفضل أو الشرط إذا دخل فيه صار من حقوقه وكوصفه فإنه يقال بيع رابح لمكان زيادة ما اشترى وبيع لازم وغير لازم لمكان شرط الخيار وبيع حال ونساء لمكان الأجل ولما ورد النهي لمعنى في صفته لا أصله رفع وصف البيع لا أصله ووصف المشروع أنه بيع حلال جائز فارتفع الوصف وصار حراما فاسدا وبقي الأصل موجبا للملك.
"فإن قيل" لما بقي أصله موجبا للملك فلماذا توقف ثبوت الملك على القبض؟
"قلنا" لأن السبب لما ضعف بصفة الفساد لم ينهض سببا للملك إلا بأن يتقوى بالقبض كالهبة والتبرعات فانعدم الملك قبل القبض لقصور السبب كذا في الأسرار. قوله: "ولهذا قلنا" أي ولأن النهي يقتضي بقاء المشروعية قلنا في قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} إن النهي لعدم الوصف من شهادته أي شهادة المحدود في القذف وهو الأداء حتى لو شهد لا يقبل وكذا يخرج به من أهلية اللعان أيضا لأن اللعان أداء وقد فسد الأداء ويبقى الأصل أي أصل الشهادة لأن عدم القبول إنما يتصور إذا كانت الشهادة
ـــــــ
1 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/85.(1/396)
ومنها: صوم يوم العيد وأيام التشريق حسن مشروع بأصله وهو الإمساك لله
ـــــــ
موجودة شرعا وإذا بقي أصلها انعقد النكاح بها كما ينعقد بشهادة الأعمى لأن الانعقاد لا يتوقف على وصف الأداء وأهليته.
قوله: "منها صوم يوم العيد" الصوم في يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق مشروع عند علمائنا الثلاثة وهو استحسان وعند زفر والشافعي رحمه الله غير مشروع وهو رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمهما الله ثم إذا صح نذره في ظاهر الرواية يفتى بأن يفطر في هذه الأيام ويقضي في أيام أخر ليحصل له العبادة على الخلوص ويتخلص عن المعصية ولو صام في هذه الأيام خرج عن العهدة وجه قولهما أن الصوم غير مشروع في هذه الأيام وليس إلى العبد شرع ما ليس بمشروع كالصوم ليلا. وبيانه أن الشرع عين هذا الزمان للأكل بقوله: "فإنها أيام أكل وشرب" عرفها بالأكل والشرب ولن يحصل التعريف إلا بوجود خاص من الفعل فيها أو وجوبه, ووجود الأكل والشرب ليس من خصائص هذه الأيام فلا يحصل به التعريف وإنما الخاص فيها وجوب الأكل والشرب فكان ذلك جعلا من صاحب الشرع لها محال وجوب الأكل والشرب, ويندفع الوجوب بجواز الضد فدل أن الصوم فيها ممتنع الوجود شرعا كما في الليل وأيام الحيض ولهذا قالا لا يجوز الظهر من الحر المقيم الصحيح يوم الجمعة لأن الوقت تعين للجمعة في حقه حتما فلم يبق الظهر ضرورة لأنهما لم يشرعا مجموعين بالإجماع.
والدليل عليه أن الصوم اسم لما هو قربة والمنهي عنه يكون معصية فلا يكون صوما ألا ترى أنه لا يصح أداء شيء من الواجبات به ولو بقي مشروعا بعد النهي لصح كالصلاة في الأرض المغصوبة ولا معنى لقولهم إنما لا يجوز لأن الواجب في الذمة كامل وهذا صوم ناقص فلا يتأدى به الكامل لأن النقصان لا يمنع قضاء الواجب كما إذا ترك الفاتحة أو السورة أو التعديل في قضاء الفائتة يمكن فيه النقصان حتى وجب جبره بالسجود ولم يمنع من الخروج عن عهدة الواجب فعرفنا أن عدم الجواز لصيرورته معصية وعدم بقاء مشروعيته وإذا ثبت ذلك لا يصح النذر به لقوله عليه السلام: "لا نذر في معصية الله" 1. ولنا ما مر أن النهي عن المشروع يقتضي بقاء مشروعيته إلى آخره وما ذكر ههنا أن الصوم في هذه الأيام حسن مشروع بأصله وهو في التحقيق راجع إلى ما تقدم وتقريره أن الشرائع كلها مبنية على الحكمة على ما عرف تفاصيلها في غير هذا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الإيمان والنذور حديث رقم 3290 و3292 والنسائي في الإيمان والنذور حديث رقم 2125 والإمام أحمد في المسند 6/247.(1/397)
تعالى في وقته طاعة وقربة قبيح بوصفه وهو الإعراض عن الضيافة الموضوعة في
ـــــــ
الكتاب والحكمة في الصوم حصول التقوى لمباشرة إذ لا مشروع أدل على التقوى منه فإن من أدى هذه الأمانة كان أشد أداء لغيرها من الأمانات وأكثر اتقاء لما يخاف حلوله من النقمة بمباشرة شيء من القاذورات وإليه الإشارة في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183, 184] وفيه أيضا معرفة قدر النعم, ومعرفة ما عليه الفقراء من تحمل مرارة الجوع فيكون حاملا له على المواساة إليهم وفيه أيضا انطفاء حرارة الشهوة الخداعة المنسية للعواقب, ورد جماح النفس الأمارة بالسوء, وانقيادها لطاعة مولاها إلى غير ذلك من معان لا تحصى كثرة.
ثم لا بد لهذه العبادة من تعيين وقت لأن صوم الوصال متعذر والوقت على قسمين النهر والليالي, والليالي أعدت للسكون والراحة وضعا والنهر أعدت للتصرف والتقلب للاكتساب وابتغاء الرزق وذلك مؤد إلى الجوع والعطش حامل على الأكل والشرب لما في الحركة من التحليل فتعينت النهر للصوم ليكون على خلاف العادة وليتحقق الحكم التي ذكرناها.
ثم في هذه المعاني مساواة بين هذه الأيام وسائر الأيام من جميع الوجوه فكان الشرع الوارد في جعل سائر الأيام محلا لهذه العبادة واردا بجعل هذه الأيام محلا لها أيضا للمساواة وتحقق الحكم فيها حسب تحققها في تلك فهذا معنى قوله حسن مشروع بأصله, والذي يدل على بقاء المشروعية أن الشافعي يقول للمتمتع أن يصوم صوم المتعة فيها في أظهر أقواله كذا في الأسرار.
"وهو الإمساك" أي أصل الصوم الإمساك لله تعالى: "في وقته" على سبيل الطاعة والقربة. ويجوز أن يكون قوله طاعة لتناول الفرض منه لأن الطاعة اسم لفعل عمل بأمر آخر إذا قصد الفاعل جعله للأمر فإن الفعل وإن وجد لا يستحق اسم الطاعة ما لم يوجد هناك أمر كذا ذكره الشيخ أبو المعين رحمة الله عليه.
وقوله قربة لتناول النفل لأنها اسم لكل ما يتقرب به إلى الله تعالى فصار التقدير أصل الصوم الإمساك لله تعالى طاعة إن وجد الأمر كصوم رمضان, وقربة إن لم يوجد كصوم أيام البيض وغيرها وههنا إن لم يتحقق الإمساك على سبيل الطاعة فقد يتحقق على سبيل القربة فكان مشروعا ويجوز أن يكون ترادفا وهو الأظهر ثم لما عرف بدلالة العقل والشرع أن مثل هذا المشروع لا يجوز أن يكون منهيا عنه لذاته كان النهي لغيره لا محالة لكن ذلك الغير قام به فيما نحن فيه فصار كالوصف له بحيث لا تصور لوجود ذلك الغير إلا(1/398)
هذا الوقت بالصوم فلم تنقلب الطاعة معصية بل هو طاعة انضم إليها وصف هو معصية ألا ترى أن الصوم يقوم بالوقت ولا فساد فيه والنهي يتعلق بوصفه وهو أنه يوم عيد فصار فاسدا ومعنى الفاسد ما هو غير مشروع بوصفه مثل الفاسد من الجواهر وبيانه على وجه يعقل أن الناس أضياف الله تعالى يوم العيد والمتناول من جنس الشهوات بأصله طيب بوصفه فصار تركه طاعة بأصله
ـــــــ
بالصوم فصار قبيحا بوصفه ثم ذلك الغير ترك الإجابة والإعراض عن الضيافة الموضوعة في هذا الوقت بالصوم وإنما قيد بالصوم لأن الإعراض لا يحصل إلا به والدليل على المغايرة تصور الصوم بدون الإعراض وكفى لثبوت المغايرة بين الشيئين تصور وجود أحدهما بدون صاحبه وإليه أشار الشيخ بقوله بل هو طاعة أي الصوم في هذا الوقت طاعة انضم إليه وصف هو معصية. وقوله فلم ينقلب الطاعة معصية معناه أن بحدوث هذا الوصف أو بورود النهي لم ينقلب الصوم الذي هو طاعة معصية بل هو طاعة انضم إليه وصف هو معصية وهو الإعراض ثم استوضح ما ذكر بقوله ألا ترى أن الصوم يقوم بالوقت أي يوجد به لأنه معيار ولا يتصور الصوم بدونه ولا فساد فيه أي في نفس الوقت فلا يجوز أن يتعلق النهي بالصوم باعتبار نفس الوقت أيضا. والنهي يتعلق بوصفه أي إنما يتعلق بالصوم باعتبار وصف الوقت وهو أنه يوم عيد, والمتصل بالوقت كالمتصل بالصوم لأنه يقوم به فأوجب فساد الصوم وبقي أصل الصوم مشروعا.
قوله: "مثل الفاسد من الجواهر" الجوهر معرب "كوهر" والمراد منه ههنا ما هو المفهوم فيما بين الناس يقال لؤلؤة فاسدة إذا بقي أصلها وذهب لمعانها وبياضها واصفرت وكذا يقال لحم فاسد إذا بقي أصله ولم يبق منتفعا به فكذا المراد من الفاسد فيما نحن فيه ما هو مشروع بأصله غير مشروع بوصفه.
قوله: "وبيانه" أي بيان كون الصوم مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه "على وجه يعقل" أي على طريق يدرك بالعقل يعني على وجه التحقيق أن الناس أضياف الله تعالى يوم العيد بلحوم القرابين وتوسعة النعم "والمتناول من جنس الشهوات بأصله" لأنه مما تشتهيه النفس وترغب فيه "طيب بوصفه" لكونه ضيافة الله تعالى وإنما وصفه بالطيب لاستواء الغني والفقير والهاشمي فيه بخلاف الصدقة "فكان تركه" أي ترك المتناول "طاعة بأصله" أي بالنظر إلى أصل المتناول فإنه كف النفس عما تشتهيه وهو طاعة بوصفه أي هذا الترك معصية بالنظر إلى وصف المتناول لأنه ترك ضيافة الله تعالى وهو معصية. ويجوز أن يكون الضمير في أصله ووصفه راجعا إلى الترك أي ترك المتناول أصله طاعة ووصفه معصية لما ذكرنا.(1/399)
معصية بوصفه على مثال البيع الفاسد. ولهذا صح النذر به لأنه نذر بالطاعة.
ـــــــ
وحاصل هذا الكلام أن النهي ورد لمعنى في غير الصوم وهو ترك الإجابة والإعراض عن الضيافة لكنه متصل بالصوم وصفا ففسد الصوم به وهذا هو طريقة القاضي الإمام أبي زيد والشيخين وعامة المتأخرين.
واعترض الشيخ أبو المعين رحمه الله على هذه الطريقة فقال النهي ورد عن عين الصوم بقوله عليه السلام لا تصوموا فصرفه إلى غيره عدول عن الحقيقة وذلك لا يجوز إلا بدليل وأما قولهم النهي ورد لمعنى ترك الإجابة ففيه اعتراضات كثيرة مشهورة وبعد التسليم لا نسلم أنه غير الصوم بل هو عين الصوم وذلك لأن فعل أحد الضدين هو بعينه ترك لصاحبه إن لم تكن بينهما واسطة كالحركة مع السكون فإن التحرك هو ترك السكون والسكون ترك التحرك بعينه ليس وراء هذين الفعلين فعل آخر يكون تركا لأن التحرك مناف للسكون وكذا على العكس فوقعت الغنية عن إثبات فعل آخر لم يقصد الفاعل فعله ولا خطر بباله مباشرته ولا عرف ثبوته بالمشاهدة لنفي هذا الضد ولو جاز إثبات فعل آخر مع أن هذا الموجود كاف لنفي ضده لأمكن إثبات ما لا يتناهى من الأفعال ولا يبعد أن يكون أخذ الفعل تركا فإنه ليس بترك لما هو آخذ له وإنما يستحيل أن لو كان آخذا لما هو تارك له وإن كان الفعل له أضداد كثيرة فكل واحد منها ترك لجميع أضداده فالقيام ترك القعود والاتكاء والركوع والسجود والاضطجاع, والإسلام ترك لليهودية والنصرانية والمجوسية وجميع الأديان.
ثم الصوم ضد للأكل والشرب والجماع ولإجابة الدعوة في هذا اليوم فكان بنفسه تركا لهذه الأشياء فإذا لم يوجد للصوم غير هو المنهي عنه فكان النهي عن ترك الإجابة نهيا عن عين الصوم. وقولهم لا بل هو غيره لتصور الصوم بدون الترك وهذا هو حد المغايرة وهو غير سديد ولا بد من بيان شرط المغايرة ليتضح عوار هذا الكلام وذلك أن المغايرة بين الشيئين يطلب من حيث الذات دون الجنس فإن تصور وجود أحدهما مع عدم صاحبه من حيث الذات فهما متغايران وإن كان لا يجوز الانفكاك بين جنسهما كجوهر معين مع أعراضه المعينة متغايران لجواز وجودهما مع عدم صاحبه, وإن كان الانفكاك بين جنس الجواهر والأعراض مستحيلا لاستحالة تعري الجواهر عن الأعراض واستحالة قيام الأعراض بأنفسها دون جوهر وعلى القلب من هذا العرضية مع الوجود في عرض معين ليسا بمتغايرين وهو في نفسه شيء واحد ولا يتصور عدم معنى العرضية مع ثبوت الوجود ولا عدم الوجود مع تقرر العرضية فكان العرض شيئا واحدا من غير أن يكون اجتمع فيه معنيان متغايران وإن كان يتصور انفكاك معنى الوجود في الجملة عن معنى العرضية فإن(1/400)
..............................................................................................
الجواهر موجودة وليست بأعراض والله تعالى موجود وليس بعرض وكذا الجوهرية مع الوجود من هذا القبيل وكذا الله تعالى موجود وهو قائم بذاته وهو متحد الذات وإن كان الوجود في الجملة قد ينفك عن القيام بالذات. ثم ما نحن فيه من هذا القبيل فإن ترك الإجابة وترك الأكل والشرب والجماع في هذا اليوم المعين شيء واحد وإن كان في الجملة يتصور انفكاكها عن الآخر, فمن اعتبر العين في هذا الباب بالجنس وجعل جواز الانفكاك في الجملة دليلا على ثبوت المغايرة في المعين وإن كان لا يتصور فيه المغايرة فهو القائل بكون العرض الموجود شيئين متغايرين وكون الجوهر الموجود شيئين متغايرين وكون الباري الموجود القائم بالذات متغايرين, وخروج هذا عن قضية العقول ودلائل الحق ودخوله في حيز الممتنع المحال مما لا يخفى على ذي لب.
ثم قال والذي أظن فيه الشفاء لن يتوصل إليه إلا بمعرفة مقدمات منها أن الترك ضد للمتروك ويتعلق به ثواب وعقاب فإن من ترك الصلاة فقد باشر ضدا لها يعاقب على مباشرة ذلك الضد المنهي لا لانعدام الصلاة من قبله لأن العبد لا يعاقب من غير فعل منهي باشره ومأثم ارتكبه.
ومنها: ما بينا أن الفعل إذا كان له ضد واحد يكون كل واحد منهما تركا للآخر إلى آخر ما بينا.
ومنها: أن ما كان له أضداد وهو بنفسه ترك للأضداد كلها ويجوز أن يختلف وصفه في الحكم باعتبار الإضافة إلى المتروك كمن أمر بالتحرك إلى اليمين ونهي عن التحرك إلى اليسار فتحرك أمامه كان هذا التحرك تركا للتحرك إلى اليمين الذي هو واجب وترك الواجب حرام, وتركا للتحرك إلى اليسار الذي نهي عنه وترك المنهي عنه واجب وهذا الترك فعل واحد في ذاته وصف بالوجوب بالنسبة إلى ضد وبالحرمة بالنسبة إلى ضد آخر.
ومنها: أن ما كان متحدا حقيقة يلحق في الحكم بالمتعدد لعارض أوجب ذلك من مصادفته المحال المتعددة أو تعلق الأحكام المختلفة به فإن الرامي إلى إنسان عامدا لو أصاب السهم المقصود إليه ونفذه وأصاب آخر لم يقصده أخذ في حق الأول بأحكام العمد وفي حق الثاني بأحكام الخطإ والفعل في نفسه واحد وجعل متعددا لتعدد محال أثره واختلاف الأحكام المتعلقة به.
ومنها: أن العارض مع الأصل إذا اجتمعا وأمكن اعتبارهما وجب الاعتبار ويجعل الأصل متبوعا والعارض تابعا لاستحالة القلب وتعذر التسوية.(1/401)
...........................................................................................
وبعد الوقوف على هذه المقدمات نخوض في إيضاح ما رمنا إيضاحه فيقول الصوم في هذه الأيام ترك للأكل والشرب والجماع ولإجابة دعوة الله تعالى عباده بالقرابين التي هي خالص أموال الله تعالى فإنها أموال خالصة لله تعالى جعلت محالا لإقامة التقرب إلي الله سبحانه بإراقة دماء الأنعام قد شرف الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته بهذه الضيافة فوجب عليهم إجابة دعوته والمسارعة إلى قبول إكرامه, فكان الصوم تركا لإجابة الدعوة والأكل والشرب والجماع وهو في نفسه شيء واحد غير أنه بالإضافة إلى الأكل والشرب والجماع كان عبادة مأذونا فيها لما تعلق به من الحكم والمصالح التي بينا وبالإضافة إلى إجابة الدعوة كان منهيا عنه باعتبار أنه في حقها ترك للواجب فيكون منهيا عنه وهو في ذاته متحد وهذه الأضداد متعددة بلا شك فإن إجابة الدعوة غير الأكل والشرب لتصور وجودها بدون إجابة الدعوة, وتغاير الأكل والشرب والجماع في أنفسها مما لا يشكل فكان الصوم الذي هو متحد في نفسه باعتبار الإضافة إلى الأضداد المتعددة بمنزلة المتعدد وهو باعتبار الإضافة إلى إجابة الدعوة منهي عنه وباعتبار الإضافة إلى الأكل والشرب والجماع عبادة مستحسنة فكان النهي باعتبار الحقيقة راجعا إلى الذات وباعتبار الحكم راجعا إلى غير ما هو صوم مستحسن على حسب ما ذكرت من المثال في المقدمات.
ثم إجابة الدعوة ليست بضد أصلي للصوم فإن الصوم في غير هذه الأيام ليس بترك لإجابة الدعوة وهو في جميع الأوقات ترك للأكل والشرب والجماع لكونها أضدادا له أصلية فكان الصوم باعتبار الإضافة إلى هذه الأضداد بمنزلة الأصل وباعتبار الإضافة إلى إجابة الدعوة بمنزلة التابع, فترك إجابة الدعوة في الصوم جعل كأنه وصف له وترك الأكل والشرب والجماع جعل كأنه موصوف متبوع فبقي الصوم مشروعا وبقي فيه نوع خلل فأمكن إيجابه بالقول, لأن بالقول يمكن التمييز بين المشروع منه وبين المنهي عنه وهو معنى قول الشيخ في الكتاب إنما وصف المعصية متصل بذاته فعلا لا باسمه ذكرا ولو صام عن واجب آخر لا يجوز لحصوله مختلا في نفسه لاستحالة التمييز في الفعل بين ترك الأكل والشرب والجماع وبين ترك إجابة الدعوة.
وهذا كما جوز علماؤنا بيع السمن الذائب الذي ماتت فيه الفأرة لإمكان إيراد البيع على السمن دون صفة النجاسة ومنعوا من أكله لاستحالة التمييز بينهما ثم لو صام في هذه الأيام يخرج عن عهدة النذر لأنه لما أضاف النذر إلى هذه الأيام أوجب على نفسه قدر ما يتحقق فيها وقد أتى بذلك القدر كمن نذر أن يعتق هذه الرقبة وهي عمياء خرج عن(1/402)
.............................................................................................
نذره بإعتاقها وإن كان لا يتأدى شيء من الواجبات بها. والأفضل أن يصوم في وقت آخر ليكون مؤديا أكمل مما وجب عليه مع التخلص عن ارتكاب المنهي عنه كمن نذر أن يصلي عند طلوع الشمس فعليه أن يصلي في وقت آخر وإن صلى في ذلك الوقت خرج عن موجب نذره ولا يقال إن النهي لو كان لترك الإجابة لكان ينبغي أن يأثم من لم يأكل بدون النية لأنا نقول من لم يأكل بدون النية لعدم الطعام أو للحمية لا يأثم لأنه ترك الإجابة عن عذر أما من لم يأكل مع القدرة على الطعام وانعدام العذر فلا نسلم أنه لا يأثم وهذا بخلاف الصلاة في أرض مغصوبة لأن المنهي عنه هو الغصب دون الصلاة, والصلاة فعل معلوم يتأدى بأركان وشرائط معلومة والغصب أيضا شيء معلوم لا اتحاد بينهما بوجه.
ولا يلزم أن من رأى رجلا يغرق وهو في الصلاة وقد أمكنه التخليص لو قطع الصلاة فلم يقطع حيث يجوز وإن كان مأمورا بتركها منهيا عن ترك التخليص, والمضي في الصلاة هو ترك التخليص فكانت الصلاة منهيا عنها من حيث إنها ترك التخليص ثم لم يؤثر ذلك في صحة قضاء ما وجب عليه كاملا وكذا لو رأى رجلا يقتل آخر ويمكنه الدفع فمضى في صلاته أو اشتغل بها ابتداء حيث جازت صلاته مع ما بينا. وكذا من اشتغل بالصلاة في أول الوقت عند استنفار الناس إلى عدو من المشركين قد أظلهم وهو قادر على أن ينفر إليهم على هذا أيضا لأن الصلاة في هذه الحالة ليست بترك للتخليص والدفع فإنها مع التخليص والدفع ممكنة في الجملة عند قرب الغريق منه فيأخذ بيده فيخلصه وقرب القاصد للقتل منه فيقبض على يده أو يتعلق بثيابه أو بعض أعضائه فيمكنه فلو كانت الصلاة تركا للتخليص والدفع لما تصور حصولهما في حالة الصلاة ألبتة لأن ترك كل فعل ضده باجتماع الفعل مع تركه مستحيل كاستحالة اجتماع السواد والبياض في حالة واحدة فدل أن الترك معنى وراء الصلاة يقارن الصلاة وارتكاب النهي بفعل لا يمنع من صحة فعل آخر هو عبادة وليس بمنهي عنه كالمصلي يرمي ببصره إلى من لا يحل له النظر إليه من الأجنبيات والطائف ينظر إلى أعضاء الأجنبيات أو يقذف محصنا فكذا ما نحن فيه وهذا لأن الركن في باب الصلاة هو الأفعال المعهودة والصلاة في الحقيقة هذه الأفعال لا غيرها وترك التخليص والدفع بترك استعمال اليد, وترك استعمالها في باب الصلاة ليس من الأركان إذ لا أداء لها بذلك إنما استعمالها جعل من باب النواقض لو كثر لوجود الإعراض عن العبادة فأما ترك استعمالها فليس من الصلاة لأن الصلاة ليست هي ترك استعمالها بل هي أداء الأركان. وكذا المشتغل بالصلاة في وقت التغير على هذا لأن الترك(1/403)
وإنما وصف المعصية متصل بذاته فعلا لا باسمه ذكرا ولهذا قلنا في ظاهر الرواية لا
ـــــــ
حصل بترك المشي, والصلاة ليست بترك المشي إنما هي أفعال أخر وراء ترك المشي وهو القرار على المكان والقرار معنى وراء الأركان المعهودة, ألا ترى أنه يتصور القرار على المكان بدون أركان الصلاة ويكون به تاركا للذهاب ويتصور ترك استعمال آلة التخليص والدفع وهي اليد بدون الصلاة ويحصل الترك فكان ترك المشي معنى مقارنا لأركان الصلاة والمنهي هو لا هي, فأما في مسألتنا هذه فالصوم هو بنفسه ترك هذه الأشياء على ما قررنا والله أعلم.
هذا كله كلام الشيخ أبي المعين رحمه الله وخلاصة معناه أن المنهي عنه عين الصوم بجهة, والمشروع عينه أيضا ولكن بجهة أخرى ويجوز أن يكون الشيء الواحد مشروعا حراما بجهتين مختلفتين عند عامة الفقهاء.
وزبدة الطريقة الأولى أن المشروع هو الصوم والمنهي عنه غيره ولكنه وصف له قائم به فالشيخ المصنف رحمه الله بين الطريقة الأولى وألحق بآخر كلامه ما يشير إلى الطريقة الثانية بقوله وبيانه على وجه تعقل إلى آخره ويوقف عليه بأدنى تأمل إن شاء الله تعالى.
قوله: "ولهذا" أي ولأن الطاعة وهي الصوم لم ينقلب معصية بالنهي "صح النذر به" أي بهذا الصوم أو ولأن ترك المتناول وهو الصوم طاعة بأصله صح النذر به "لأنه نذر بالطاعة" لأن كف النفس عن الشهوات بذاته قربة وهو جواب عن قولهم الصوم في هذه الأيام معصية فلا يصح النذر به "والمعصية متصل بذاته فعلا لا باسمه ذكرا" أي وصف هو معصية وهو ترك الإجابة متصل بفعل الصوم لا بذكر الصوم ولم يوجد منه إلا ذكر الصوم وهو قوله نذرت أن أصوم لله يوم النحر أو أصوم لله غدا وغدا يوم النحر فلم يمنع صحة النذر به.
"فإن قيل" ذكر الصوم ذكر للمعصية لأن الصوم عينه ترك الإجابة على ما ذكرت وهو معصية فكان ذكرا للصوم وإيجابه ذكرا للمعصية وقصدا إليه فلم يصح كمن نذر أن يضرب أباه أو يشتم أمه لم يصح والعصيان نفس الضرب والشتم إلا أنه لما كان ذكرا له وقصدا إليه كان معصية أيضا فلم يصح.
"قلنا" لم ينعقد هذا النذر من حيث إنه ذكر المعصية ولكنه انعقد من حيث إنه ذكر طاعة وإيجاب قربة وقد بينا أن جهة القربة أصل فيه فيصح النذر به.
"فإن قيل" ما وجه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا أضاف النذر إلى يوم النحر بأن قال لله علي صوم يوم النحر لم يصح نذره وإذا أضاف إلى الغد بأن قال لله(1/404)
يلزم بالشروع لأن الشروع فيه متصل بالمعصية فأمر بالقطع حقا لصاحب الشرع فصار مضافا إلى صاحب الشرع فبرئ العبد عن عهدته.
ومنها: الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها مشروعة بأصلها إذ لا قبح في
ـــــــ
علي أن أصوم غدا وغد يوم النحر صح نذره "قلنا" وجهه أنه إذا نص على يوم النحر فقد صرح في نذره بما هو منهي عنه فلم يصح. وإذا قال غدا فلم يصرح في نذره بالمنهي عنه فصح نذره وهو كالمرأة إذا قالت لله علي أن أصوم يوم حيضي لم يصح نذرها ولو قالت لله علي أن أصوم غدا وغد يوم حيضها صح نذرها ويجب عليها القضاء والجواب عنه على ظاهر الرواية أن الحيض وصف المرأة لا وصف اليوم وقد ثبت بالإجماع أن كونها طاهرة عن الحيض شرط ليكون أهلا لأداء الصوم فلما علقت النذر بصفة لا تبقى أهلا للأداء معها لم يصح لأنه لا يصح إلا من أهله كالرجل يقول لله علي أن أصوم يوما أكلت فيه.
قوله: "ولهذا" أي ولأن هذا الصوم معصية بوصفه قلنا إنه لا يلزم بالشروع في ظاهر الرواية إذا شرع في صوم يوم النحر ثم أفسده لا يلزمه القضاء في ظاهر الرواية عن أبي يوسف رحمه الله يلزمه القضاء رواه بشر بن الوليد عنه كذا في الأسرار, والكشف لأبي جعفر.
وذكر في المبسوط إذا أصبح يوم الفطر صائما ثم أفطر لا قضاء عليه في قول أبي حنيفة وعليه القضاء في قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله لهما أن الشروع ملزم كالنذر بدليل سائر الأيام والنهي لا يمنع صحة الشروع في حق القضاء كمن شرع في الصلاة في الأوقات المكروهة وجه ظاهر الرواية ما ذكر في الكتاب وهو أن الشروع في هذا الصوم متصل بالمعصية لأنه مرتكب للمنهي عنه وهو ترك الإجابة بنفس الشروع فلم يجب عليه إتمامه وحفظه بل أمر بقطعه رعاية لحق صاحب الشرع وهو الاحتراز عن المعصية فصار كأن صاحب الشرع قال له اقطع لأجل حقي فلا يجب على القاطع شيء لحصوله مضافا إلى صاحب الحق.
"فبرئ العبد عن عهدته" أي عهدة القطع أو عهدة ما شرع فيه كمن أمر غيره بإتلاف ماله فأتلفه لا يضمن لأنه بأمره بخلاف النذر فإنه بنذره ما صار مرتكبا للمنهي عنه وبخلاف الشروع في الصلاة في الوقت المكروه على ما نذكر.
قوله: "ومنها" أي ومن الفروع المخرجة على الأصل المذكور الصلاة عند طلوع الشمس ودلوكها أي زوالها أو غروبها يقال دلكت الشمس أي زالت أو غابت أي الصلاة(1/405)
أركانها وشروطها, والوقت صحيح بأصله فاسد بوصفه وهو أنه منسوب إلى الشيطان كما جاءت به السنة, إلا أن الصلاة لا توجد بالوقت لأنه ظرفها لا
ـــــــ
في الأوقات الثلاثة المكروهة مشروعة بأصلها لأن النهي يقتضي المشروعية ولا قبح في أركانها من القيام والركوع والسجود لأنها تعظيم الله تعالى لتكون حسنة كما في سائر الأوقات.
وشروطها من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة فبقيت مشروعة بعد النهي كما كانت قبله والوقت صحيح بأصله أيضا لأنه زمان كسائر الأزمنة صالح لظرفية العبادة كما جاءت به السنة وهي ما روى عمرو بن عنبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له حين سأله عن الصلاة: "صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني الشيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنه حين تسجر جهنم فإذا أقبل الظل فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني الشيطان وحينئذ يسجد لها الكفار" 1. وفي حديث الصنابحي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وقال: "إنها تطلع بين قرني الشيطان وإن الشيطان يزينها في عين من يعبدها حتى يسجدوا لها فإذا ارتفعت فارقها فإذا كانت عند قيام الظهيرة قارنها فإذا مالت فارقها فإذا دنت للمغيب قارنها فإذا غربت فارقها فلا تصلوا في هذه الأوقات" 2 فهذا معنى نسبة الوقت إلى الشيطان ورأيت في بعض القصص أن زرادشت اللعين أمر المجوس بالصلاة في هذه الأوقات الثلاثة فجاء الشرع بحرمة الصلاة فيها مخالفة لهم وقرنا الشيطان ناحيتا رأسه قيل إنه يقابل الشمس حين طلوعها فينصب حتى يكون طلوعها بين قرنيه فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له. وقيل هو مثل, ثم لما أثبت التسوية بين صوم الأيام الخمسة وبين الصلاة في الأوقات الثلاثة من قبل أن النهي في كل منهما ورد لمعنى في وصف الوقت شرع في بيان التفرقة بينهما فقال: "إلا أن الصلاة" أي لكن الصلاة: "لا توجد بالوقت" لأن الوقت للصلاة ظرف ولا تأثير للظرف في اتحاد المظروف بل هي توجد بأفعال معلومة فلا يكون فساده مؤثرا فيها لأنه مجاور بخلاف الصوم لأنه توجد بالوقت لأنه معيار له على ما مر.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم 1277 وأخرجه مسلم في صلاة المسافرين حديث رقم 832 وابن ماجه في الإقامة حديث رقم 1251 والإمام أحمد في المسند 3/300.
2 أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة حديث رقم 1253 والإمام أحمد في المسند 4/348 و349.(1/406)
معيارها وهو سببها فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة فقيل لا يتأدى به الكامل ويضمن بالشروع, والصوم يقوم بالوقت ويعرف به فازداد الأثر فصار فاسدا فلم يضمن
ـــــــ
قوله: "وهو سببها" إشارة إلى جواب سؤال مقدر وهو أن يقال فساد الظرف لما لم يؤثر في المظروف لأنه مجاور كان ينبغي أن لا يؤثر في نقصانه أيضا حتى يتأدى به الكامل كما لا يؤثر فساد ظرف المكان فيه كما في الصلاة في الأرض المغصوبة حيث تأدى بها الكامل فقال الوقت وإن كان ظرفا لكنه سبب للصلاة ففساده يؤثر في المسبب لا محالة إلا أنه لما كان مجاورا ولم يكن وصفا. يؤثر في النقصان لا في الفساد بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة فإن المكان فيها ليس بسبب ولا وصف فلا يؤثر في الفساد ولا في النقصان بل يوجب كراهة وهي لا يمنع أداء الواجب.
وفي قوله وهو سببها إشارة إلى أن الوقت سبب لما شرع فيه من النفل كما هو سبب لما شرع فيه من الفرض وإلا لم يستقم هذا الكلام لأن كلامنا في النفل لا في الفرض وقيل في معنى سببية الوقت إن أدرك كل زمان والبقاء إليه نعمة فيستدعي شكرا وكان ينبغي أن يجب عليه الاشتغال بالخدمة في كل الأزمنة شكرا إلا أن الله تعالى رخص بالإيجاب في بعض الأزمنة دون البعض فإذا نذر أو شرع فقد أخذ بما هو العزيمة فثبت أن مطلق الوقت سبب فقيل لا يتأدى به أي بالمذكور وهو الصلاة في هذه الأوقات المكروهة الكامل وهو ما وجب في غير هذه الأوقات لأن الكامل لا يتأدى بالناقص.
"فإن قيل" لا يمنع النقصان عن الجواز كما لا يمنع الكراهة عنه بدليل أن من ترك الفاتحة أو بعض الواجبات في أداء الصلاة أو في قضائها يخرج عن العهدة وأن يمكن فيه النقصان ولهذا وجب جبره بالسجود إن كان ساهيا وإذا كان كذلك وجب أن يتأدى به الكامل كما يتأدى بالصلاة في الأرض المغصوبة.
"قلنا" النقصان إنما يمنع إذا كان راجعا إلى نفس المأمور به أصلا أو وصفا لأن ذلك دخل تحت الأمر فلا بد من أن يمنع فوات ما دخل تحت الأمر عن الجواز فأما ما لم يدخل تحت الأمر ففواته لا يمنع عنه لأنه لا يخل بالمأمور به وذلك كمن أعتق رقبة عمياء عن كفارة يمينه لا يجوز لأن الوصف دخل تحت الأمر وإن كانت كافرة تجوز وأن يمكن فيهما نقصان بفوات الإيمان لأن وصف الإيمان لم يدخل تحت الأمر فنقصانه لا يمنع عن أداء الواجب ثم الوقت في الصلاة داخل تحت الأمر بالدلائل القطعية فنقصانه يمنع عن الجواز كوصف العمى في الرقبة, فأما واجباتها فلم تدخل تحت الأمر ففواتها لا يؤثر في المنع عن الجواز كفوات وصف الإيمان في الرقبة لأن المأمور به كامل أصلا ووصفا.(1/407)
بالشروع. والنهي عن الصلاة في أرض مغصوبة متعلق بما ليس بوصف فلم
ـــــــ
وإنما حكمنا بالنقصان عملا بأخبار الآحاد التي لا تزاد على الكتاب وتوجب العمل لا العلم ولهذا قلنا ينجبر بالسجود فلا يظهر في حق المأمور به وكذا المكان في الصلاة لم يدخل تحت الأمر فلا ينتقص المأمور به بنقصانه.
قوله: "ويضمن بالشروع" حتى لو قطعها وجب عليه القضاء وينبغي أن يقضيها في وقت يحل فيه الصلاة فإن قضاءها في وقت آخر مكروه أجزأه. وقد أساء لأنه لو أتمها في ذلك الوقت أجزأه فكذا إذا قضاها في وقت مثل ذلك الوقت وقال زفر لا يضمن وهو رواية عن أبي حنيفة رحمهما الله لأنها منهي عنها فلم تجب صيانتها عن البطلان كالصوم المنهي عنه ولنا أن فساد الوقت لما لم يؤثر في إفسادها بقيت صحيحة وإن صارت ناقصة فوجبت صيانتها عن البطلان بخلاف الصوم لأنه يقوم بالوقت إذ الوقت فيه جزء من أجزاء الماهية حتى قيل هو الإمساك عن المفطرات الثلاث نهارا ولهذا لو أمسك في الليل لا يكون صوما بحال.
"ويعرف به" أي يعرف مقداره بالوقت حتى ازداد بازدياده وانتقص بانتقاصه. "فازداد الأثر" أي أثر فساد الوقت في الصوم فصار فاسدا فلم يضمن بالشروع يوضحه أن في الصلاة يمكنه الأداء بذلك الشروع لا بصفة الكراهة بأن يصير حتى ترتفع الشمس فلهذا لزمه وفي الصوم بعد الشروع لا يمكنه الأداء بدون صفة الكراهة فلم يلزمه وحقيقة الفرق ما ذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله أن ما تركب من أجزاء متفقة متجانسة يكون للبعض اسم الكل كالماء والهواء والخل واللبن فإن اسم الماء كما ينطلق على جميع ماء البحر ينطلق على قطرة منه لكون أجزاء الماء متفقة متجانسة في نفسها, وما تركب من أجزاء مختلفة لا يكون للبعض اسم الكل كالسكنجبين المتركب من الماء والسكر والخل لا يكون للبعض منه اسم الكل فإن الخل لا يسمى سكنجبينا وكذا الآدمي مع الأجزاء البسيطة من اللحم والدم والعظم والعصب والأجزاء المتركبة كالوجه واليد والرجل هكذا فإن شيئا من هذه الأجزاء من أي النوعين كان لا ينطلق عليه اسم الآدمي معروف ذلك عند أهل اللغة لا نزاع في ذلك.
ثم الصوم تركب من أجزاء متفقة وهي الإمساكات الموجودة من انشقاق الفجر إلى غروب الشمس فكان اسم الصوم واقعا على كل جزء من أجزائه, والنهي ورد عن الصوم, وجزء من أجزائه صوم فكان منهيا عنه ولهذا لو حلف أن لا يصوم فشرع فيه ثم أفسد يحنث في يمينه فكان ما انعقد منه انعقد مشروعا محظورا على ما قررنا ولو مضى فيه لكان كل جزء منه مشروعا محظورا والمضي إنما يلزم لإبقاء ما انعقد على ما انعقد(1/408)
تفسد فكذلك البيع وقت النداء وهو بخلاف بيع الحر والمضامين والملاقيح
ـــــــ
والمنعقد الماضي كان مشتملا عليهما, فالمضي لو لزم لما فيه من تقرير الطاعة لا يلزم لما فيه من تقرير المعصية لأن تقريرها حرام, والتوبة عما سبق من المعصية والندم عليه فريضة, وتقرير ما انعقد طاعة واجب لكنه مجتهد فيه وتعارضت فيه الأخبار من حيث الظاهر فتمكنت فيه الشبهة. فأما افتراض التوبة عن المعصية فلا شك فيه فكان جانب ترك المضي مرجحا على جانب وجوب المضي فلم يجب المضي فلا يلزمه القضاء بالإفساد بخلاف ما إذا شرع في الصلاة في الأوقات المكروهة ثم أفسد حيث يلزمه القضاء بالإفساد لأن الصلاة تركبت من أجزاء مختلفة غير متجانسة من قيام وركوع وسجود فلا يكون لبعضها اسم الصلاة وإنما ينطلق الاسم عند انضمام هذه الأجزاء بعضها إلى بعض بأن يقيد الركعة بالسجدة وصارت الركعات بعد ذلك أجزاء متجانسة فكان لركعة واحدة اسم الصلاة ولهذا لو حلف أن لا يصلي فشرع في الصلاة لا يحنث ما لم يقيد الركعة بالسجدة, ومن انتقل من الفرض إلى النفل قبل تمامه لا يجعل متنفلا ما لم يوجد منه السجدة لأن ما دون الركعة ليس بصلاة والنهي ورد عن الصلاة في هذه الأوقات فلم يكن الشروع منهيا عنه ولا القيام ولا القراءة ولا للركوع وإنما يتوجه عليه النهي عند وجود السجدة فما مضى قبل ذلك انعقد عبارة محضة وإبطالها حرام وصيانتها واجبة ولا تحصل الصيانة بدون المضي فكان المضي في حق ما مضى امتناعا عن إبطال العمل وهو واجب وفي حق ما يستقبل تحصيل طاعة وتحصيل معصية فكان المضي طاعة ومعصية وامتناعا عن المعصية وهي إبطال العبادة وترك المضي امتناعا عن معصية وطاعة وارتكاب معصية وهي إبطال عبادة محضة فترجحت جهة المضي على جهة الإفساد فوجب المضي. فإذا أفسد فقد أفسد عبادة وجب عليه المضي فيها فيلزمه القضاء والله أعلم.
قوله: "متعلق بما ليس بوصف" أي ليس بوصف ولا سبب فلم تفسد ولم ينتقض أيضا حتى تأدى بها الواجب الكامل باتفاق الفقهاء إلا أن غرض الشيخ لما كان هو التفرقة بينها وبين صوم يوم النحر والتفرقة بين البيع وقت النداء وبين بيع الربا لا غير لم يتعرض لعدم الانتقاض وإنما كان النهي متعلقا بما ليس بوصف لأنه متعلق في الصلاة بشغل الأرض وفي البيع بترك السعي وهما أمران منفكان عن الصلاة والبيع ألا ترى أن الشغل يوجد بدون الصلاة والصلاة توجد بدون الشغل وكذا البيع يوجد بدون ترك السعي بأن تبايعا في الطريق ذاهبين وترك السعي يوجد بدون البيع بأن مكث من غير بيع, وإذا كان كذلك كان النهي لأمر مجاور فأوجب الكراهة دون الفساد.
وفي بعض الشروح القبح المتصل بالمشروع على ثلاثة أوجه اتصال كامل ووسط(1/409)
لأنه أضيف إلى غير محله فلم ينعقد فصار النهي مجازا عن النفي وهذه
ـــــــ
وناقص فالكامل في صوم يوم العيد ولذلك لم يضمن بالشروع ولم يتأد به الكامل والوسط في الصلاة في الأوقات المكروهة إذ اتصال القبح بها أقل بالنسبة إلى الصوم وأكثر بالنسبة إلى الصلاة في الأرض المغصوبة ولذلك لا يتأدى به الكامل وتضمن بالشروع والناقص في الصلاة في الأرض المغصوبة ولذلك ثبت فيها الكراهة دون الفساد والنقصان لأن القبح فيها على طريق المجاورة لا على طريق الاتصال في الحقيقة.
واعلم أن العلماء قد اختلفوا في الصلاة في أرض مغصوبة فذهب الجمهور إلى أنها صحيحة وذهب أهل الظاهر وأحمد بن حنبل ومالك في رواية والزيدية1 والجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنها لا تصح قائلين بأن القول بصحتها يؤدي إلى أن يكون الفعل الواحد بذاته حراما وحلالا لأن هذا الفعل المعين غصب ومتعلق الحرمة بالاتفاق فلو صحت لكان هو بعينه متعلق الوجوب أيضا وذلك باطل وهذا لأن فعله واحد وهو كونه في الدار المغصوبة وهو في حالة القيام والركوع والسجود غاصب بفعله عاص به فلا يجوز أن يكون متقربا بما هو عاص به مثابا بما هو معاقب عليه.
ولا يفيد قولكم أمكن انفكاك أحدهما عن الآخر لأنه وإن أمكن ذلك في غير صورة النزاع لكنهما متلازمان فيما تنازعنا فيه فلا يمكن الجمع بين الأمرين وتمسك الجمهور بإجماع السلف فإنهم ما أمروا الظلمة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الأراضي المغصوبة إذ لو أمروا به ونهوا عنها لانتشر وبأن الفعل وإن كان واحدا في نفسه إذا كان له وجهان مختلفان يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الثاني وإنما الاستحالة في أن يطلب من الوجه الذي يكره لعينه, ثم فعله من حيث إنه صلاة مطلوب ومن حيث إنه غصب مكروه والغصب يعقل دون الصلاة والصلاة تعقل دون الغصب وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد ومتعلق الأمر والنهي الوجهان المتغايران وهو نظير ما إذا قال السيد لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإن ارتكبت النهي عاقبتك وإن امتثلت أعتقتك فخاط الثوب في تلك الدار فيصح من السيد أن يعاقبه ويعتقه ويقول أطاع بالخياطة وعصى بدخول الدار فكذلك ما نحن فيه من غير فرق فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين
ـــــــ
1 الزيدية هم الفرقة المنسوبة لزيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ولد سنة 80 هـ وتوفي سنة 122 هـ وقد ذكر أنهم افترقوا إلى عدة فرق: منها الجارودية والسليمانية والصالحية والبترية انظر مروج الذهب 3/306 – 309.(1/410)
الاستعارة صحيحة لما بينهما من المشابهة ولا خلاف فيه إنما الكلام في حكم حقيقته وكذلك صوم الليالي لأن الوصال غير مشروع ولا ممكن والنهار هو
ـــــــ
مختلفين يطلب أحدهما ويكره الأخر وبأن جمعهما المكلف لم يخرجا عن حقيقتهما وهو أيضا كمن رمى سهما إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر وإلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم فإنه يثاب ويعاقب, ويملك سلب الكافر عند من جعله سببا لذلك ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين وبهذا خرج الجواب عما قالوا إنه غاصب بفعله ولا فعل له إلا قيامه وركوعه وسجوده فكان متقربا بعين ما هو غاصب به لأنا إنما جعلناه عاصيا من حيث إنه يستوفي منافع الدار ومتقربا من حيث إنه أتى بصورة الصلاة كما ذكرنا في مسألة الخياطة وقد يعلم كونه غاصبا من لا يعلم كونه مصليا ويعلم كونه مصليا من لا يعلم كونه غاصبا. ألا ترى أنه لو سكن ولم يفعل فعلا لكان غاصبا في حالة النوم وعدم استعمال القدرة وإنما يتقرب بأفعاله وليست تلك الأفعال شرطا لكونه غاصبا فثبت أنهما وجهان مختلفان وإن كان الفعل واحدا.
ولما فرغ الشيخ من بيان تخريج الفروع على الأصل المذكور شرع في جواب ما يرد نقضا على ذلك الأصل فقال وهذا يخالف أي بقاء المشروعية مع ورود النهي يخالف بيع الحر أو ما ذكرنا من الفروع يخالف بيع الحر والمضامين والملاقيح من حيث إن النهي فيها لم يقتض بقاء المشروعية حتى بطلت أصلا وقد اقتضى ذلك في الفروع المتقدمة لأنها بيوع أضيفت إلى غير محلها إذ المعدوم لا يصلح محلا للبيع ولا بد للانعقاد من المحل فبطلت لعدم المحل وصار النهي عنها مستعارا للنفي بهذه القرينة واستعارة النهي للنفي صحيحة لما بينهما من المشابهة وهي استواؤهما في نفس الرفع فأحدهما برفع الأصل والآخر برفع الصفة أو لأن كل واحد منهما عبارة عن العدم أو لأن كل واحد منهما محرم ولهذا صحت استعارة النفي للنهي في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] والمضامين ما تضمنته أصلاب الفحول ومنه قول الشاعر:
إن المضامين التي في الصلب ... ماء الفحول في الظهور الحدب
جمع مضمون من ضمن الشيء بمعنى تضمنه يقال ضمن كتابه كذا وكان مضمون كتابه كذا. والملاقيح ما في البطون من الأجنة جمع ملقوح أو ملقوحة من لقحت الدابة إذا حبلت وهو فعل لازم فلا يجيء اسم المفعول منه إلا موصولا بحرف الجر إلا أنهم استعملوه محذوف الجار وصورته أن يقول بعت الولد الذي سيحصل من هذا الفحل أو من هذه الناقة وكان ذلك من عادة العرب فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك1.
ـــــــ
1 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/107.(1/411)
المتعين لشهوة البطن غالبا فتعين للصوم تحقيقا للابتلاء فصار النهي مستعارا عن النفي. ولا يلزم النكاح بغير شهود لأنه منفي بقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشهود" فكان نسخا وإبطالا وإنما يسقط الحد ويثبت النسب والعدة لشبهة
ـــــــ
قوله: "وكذلك صوم الليالي" أي وكبيع الحر والمضامين والملاقيح صوم الليالي في أنه غير مشروع مع أنه منهي عنه لأن الوصال غير مشروع فإن الشرع أخرج زمان الليل من أن يكون وقتا للصوم ولم يجعله وقتا له أصلا فكان النهي عنه بمعنى النفي ثم صوم الفرض يتأدى بصيام أيام الوصال إذا نواه لأن القبح في المجاور وهو الإمساك في الليل لا لمعنى متصل بوقت الصوم بخلاف صوم يوم النحر لأن القبح لمعنى اتصل بوقت الصوم.
قوله: "ولا ممكن" لأن الآدمي لا يحيى بدون الأكل على ما عليه جبلته فلا بد من أن يعين بعض الزمان للصوم وبعضه للفطر فتعينت النهر للصوم لأن الابتلاء يتحقق فيها لأن في النفس داعية إلى الأكل والشرب وذلك في النهار في العادة فيتحقق خلاف هوى النفس بالإمساك عن الشهوات فيه, فأما الإمساك في الليل فعلى وفاق هواها فلا يتحقق فيه معنى الابتلاء على الكمال إذ أصل بناء العبادة على مخالفة العادة لا على موافقتها ولا يقال بأن الجماع يوجد في الليالي عادة وهو إحدى المفطرات فكان الإمساك عنه في الليل على خلاف هوى النفس فينبغي أن يكون الليل محلا للصوم أيضا لأنا نقول شهوة الفرج تابعة لشهوة البطن ولهذا كان الصوم وجاء على ما ورد به الأثر فلا يعتبر بنفسها.
قوله: "ولا يلزم النكاح بغير شهود" أي ولا يلزم على الأصل المذكور النكاح بغير شهود فإنه لم يبق مشروعا مع أنه منهي عنه بدليل تحقق حكم النهي فيه وهو الحرمة وبدليل أنه لو حمل قوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشهود" على حقيقته يلزم الخلف في كلام صاحب الشرع فوجب حمله على النهي كما حمل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] عليه لهذا المعنى لأنا لا نسلم ذلك بل نقول هو منفي فكان ذلك إخبارا عن عدمه كقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهارة" وكقولك لا دخل في الدار وذلك لا يوجب بقاء المشروعية بل يوجب انتفاء ضرورة صدق الخبر وما ذكر أنه يلزم منه الخلف غير مسلم لأن الكلام في النكاح الشرعي وهو منتف أصلا.
و قوله: "وإنما يسقط الحد" جواب سؤال يرد على هذا الجواب وهو أنه لما لم يبق مشروعا أصلا ينبغي أن لا يسقط الحد ولا يثبت النسب ولا يجب العدة والمهر فيه لأنها من أحكام النكاح, والحكم لا يثبت بدون السبب فقال إنما يثبت هذه الأحكام لشبهة العقد وهي وجود صورته في محله لا لانعقاد أصل العقد إذ الشبهة ما يشبه الثابت وليس بثابت.(1/412)
العقد ولأن النكاح شرع لملك ضروري لا ينفصل عن الحل حتى لم يشرع مع الحرمة ومن قضية النهي التحريم فبطل العقد لمضادة ثبتت بمقتضى النهي بخلاف البيع لأنه وضع لملك العين والتحريم لا يضاده لأن الحل فيه تابع ألا ترى أنه شرع في موضع الحرمة وفيما لا يحتمل الحل أصلا كالأمة المجوسية والعبد والبهائم وكملك الخمر. وكذلك نكاح المحارم منفي لعدم محله فلفظ
ـــــــ
قوله: "ولأن النكاح شرع لملك ضروري" يعني ولئن كان صيغته نهيا لم يكن القول ببقاء المشروعية والعمل بالحقيقة ولوجب حملها على النفي والنسخ أيضا لأن النهي إنما يوجب بقاء المشروعية فيما أمكن إثبات موجبه وهو الحرمة مع المشروعية لا فيما لم يمكن ذلك والنكاح من هذا القبيل لأنه شرع لملك ضروري لا ينفصل عن الحل لأن الأصل فيه أن لا يكون مشروعا لأنه استيلاء على حرة مثله في الشرف والكرامة واسترقاق لها حكما من غير جناية ولكنه إنما شرع ضرورة بقاء النسل إذا لو لم يشرع لاجتمع الذكور والإناث على وجه السفاح بداعية الشهوة وفيه ما لا يخفى من الفساد فشرع النكاح سببا للملك ليظهر أثره في حل الاستمتاع. ولهذا سمي ذلك الملك حلا في نفسه ولهذا لا يظهر أثره فيما وراء ذلك حتى بقيت حرة مالكة لأجزائها ومنافعها بعد النكاح كما كانت قبله ألا ترى أنه لو قطع طرفها أو آجرت نفسها أو وطئت بشبهة كان الأرش والأجر والعقر لها دون الزوج وإذا كان الموجب الأصلي في النكاح الحل وموجب النهي الحرمة لا يمكن الجمع بين موجبهما لتضاد بينهما ثم الحرمة ثابتة بالإجماع فينعدم الحل ضرورة ومن ضرورة انعدامه خروج السبب من أن يكون مشروعا, لأن الأسباب الشرعية تراد لأحكامها لا لذواتها ومن ضرورة خروج السبب عن المشروعية صيرورة النهي فيه بمعنى النفي.
ولا يلزم على ما ذكرنا انعقاد النكاح وبقاؤه مع حرمة الاستمتاع في حالة الإحرام والاعتكاف والحيض وكذا بقاؤه مع الظهار الموجب للحرمة لأنه إنما انعقد وبقي في هذه الصور ليظهر أثره بعد زوال هذه العوارض فإنها تزول لا محالة فالإحرام ينتهي بضده, والحيض تنتهي بالطهر, وحرمة الظهار تزول بالكفارة فكان بمنزلة من تزوج امرأة وهناك مانع حسي لا يمكنه الوصول إليها إلا برفعه لا يمنع ذلك عن صحة النكاح لأن بعد رفع المانع يظهر أثره فأما فيما نحن فيه فالحرمة ليست بمغياة إلى غاية يمكن إظهار أثر النكاح بعد انتهائها فلا يكون في الانعقاد فائدة أصلا.
قوله: "وكذلك نكاح المحارم منفي" أي محمول على النفي لعدم محله لأن النص الوارد فيه يوجب تحريم العين, والحرمة متى أضيفت إلى العين أخرجتها عن محلية الفعل(1/413)
النهي في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] مستعار عن النفي. وأما استيلاء أهل الحرب فإنما صار منهيا بواسطة العصمة وهي ثابتة في حقنا دون أهل الحرب لانقطاع ولايتنا عنهم ولأن
ـــــــ
لأن الحل والحرمة لا يجتمعان في محل واحد فكانت إضافة الحرمة إليهن نفيا للحل لا نهيا.
قوله: "مستعار عن النفي" أي للنفي يعني إن كان المراد من النكاح المذكور في النص العقد فالنهي محمول على النفي لأنه ثبت بالدليل أن الحرمة الثابتة بالمصاهرة هي الحرمة الثابتة بالنسب على أن تقوم المصاهرة مقام النسب فكان تقديره وحرمت عليكم ما نكح آباؤكم فتخرج عن محلية النكاح فكان النهي مجازا بمعنى النفي لا محالة قال شمس الأئمة الكردري رحمه الله لا يرد قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} نقضا على هذا الأصل لأن كلامنا فيما كان مشروعا ثم صار منهيا عنه أيبقى مشروعا بعد النهي أم لا ولم يكن ذلك مشروعا أصلا بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} [النساء: 22] فلم يكن من هذا الباب ثم ما ذكر جواب عن المسائل التي يرد نقضا على الأصل المختلف فيه وهو أن النهي عن الأفعال الشرعية يوجب بقاء المشروعية. فلما فرغ عنه شرع في جواب ما يرد نقضا على الأصل المتفق عليه وهو أن النهي عن الأفعال الحسية يوجب انتفاء المشروعية عنها أصلا وهي أربع مسائل فقال وأما استيلاء أهل الحرب ووجه وروده أن الاستيلاء فعل حسي والنهي عن الفعل الحسي يوجب قبحا في عينه وانتفاء المشروعية عنه وقد قلتم بخلافه حيث جعلتموه سببا للملك الذي هو نعمة ولا بد لها من سبب مشروع رعاية للتناسب بين السبب والمسبب فكان هذا نقضا لذلك الأصل. وتوجيه الجواب أنا لا نسلم أن الاستيلاء منهي عنه لذاته بدليل أنه لو استولى على مال مباح أو على صيد يصير مملوكا له بالإجماع فثبت أنه منهي عنه لغيره وليس ذلك إلا عصمة المحل, والعصمة إنما يثبت في حقنا دون أهل الحرب لأنها إنما تثبت بالخطاب بالإجماع ولم يثبت الخطاب في حقهم لانقطاع ولاية التبليغ والإلزام فكانوا في حق هذا الحكم أعني ثبوت العصمة بمنزلة من لم يبلغه الخطاب من المؤمنين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فكان استيلاؤهم على هذا المال واستيلاؤهم على الصيد سواء ولكن يلزم على هذا استيلاؤهم على رقابنا فإنهم يعتقدون تملكها بالاستيلاء ويعتقدون إباحة ذلك ومع هذا لا يملكونها فلذلك ضم إليه دليلا آخر يفرق به بين الأموال والرقاب فقال ولأن العصمة متناهية يعني ولئن سلمنا أن العصمة ثابتة على الإطلاق في حق الجميع إلا أنها انتهت بانتهاء سببها وهو الإحراز لأن العصمة وهي عبارة(1/414)
العصمة متناهية يتناهى سببها وهو الإحراز فسقط النهي في حكم الدنيا.
ـــــــ
عن كون الشيء محرم التعرض محصنا لحق الشرع أو لحق العبد إنما يثبت بالإحراز وهو يتحقق باليد عليه حقيقة بأن كان في تصرفه أو بالدار على ما عرف وقد انتهى كلاهما بإحرازهم المأخوذ بدار الحرب فينتهي العصمة الثانية به كما ينتهي عصمة النفس بانتهاء الإسلام وإذا انتهت العصمة بانتهاء سببها سقط النهي ولم يبق الاستيلاء محظورا لأنه ثبت بناء على عصمة المحل ولم يبق.
"فإن قيل" ابتداء الاستيلاء ورد على محل معصوم فيلغو لعدم مصادفته محله فلا يفسد زوال العصمة بعد ذلك كمن أخذ صيد الحرم وأخرجه لا يملكه ولو هلك في يده يجب الضمان وإن زالت عصمة الحرم بعد الإخراج لأن ابتداء الأخذ لاقاه وهو ليس بمحل للملك. وكذا إذا اشترى خمرا فصارت خلا لا ينعقد البيع وإن صار محلا للبيع بعد زوال الخمرية كذلك هذا.
"قلنا" قد ثبت بالدليل أن للفعل الممتد حكم الابتداء في حالة البقاء كأنه يحدث ساعة فساعة كما في لبس الخف في حق المسح ولبس الثوب في حق الحنث, والاستيلاء فعل ممتد فصار بعد الإدخال في دار الحرب كأنه استولى على مال غير معصوم ابتداء في دار الحرب فيصلح سببا للملك كاستيلاء المسلم على مثل هذا المال وهو مال أهل الحرب وهكذا نقول في الصيد أنه يملك بعد الإخراج عن الحرم حتى لو باع يجوز بيعه نص عليه في الجامع ولو أكله يحل إلا أنه يجب الإرسال ولو لم يرسل يجب الجزاء تعظيما للحرم وصيانة لحرمته فإنا لو قلنا بأن من أخذ الصيد وأخرجه لا يجب الإرسال والجزاء يؤدي ذلك إلى تفويت الأمن عن الصيد وإلى هتك حرمة الحرم فأما مسألة البيع فليست من هذا القبيل لأنه ليس بممتد فإذا لم يصادف محله بطل أصلا وهذا بخلاف استيلائهم على رقاب المسلمين حيث لا يصلح سببا للملك بحال لأن عصمتها عن الاسترقاق ثبتت بالحرية المتأكدة بالإسلام ولم تنته بالإحراز الموجود منهم وبخلاف ما إذا دخل المسلم دار الحرب مستأمنا فاستولى على ماله مسلم حيث لا يملكه وإن لم تبق العصمة بزوال اليد والدار جميعا, وتحقق الاستيلاء على مال غير معصوم في حالة البقاء لأن الاستيلاء لم يتم لأنه إنما يتم بالإحراز والمسلم لا يحرز نفسه وماله بدارهم بل يدخلها على سبيل العارية وإنما هو من أهل دار الإسلام حيثما كان فكان بمنزلة ما لو استولى عليه في دار الإسلام.
وحقيقة الخلاف أن عصمة النفوس والأموال يثبت بالإحراز بالدار أم بمجرد الإسلام فعندنا تثبت بالإحراز وعنده تثبت بالإسلام أو بما يخلفه في أحكام الدنيا وهو(1/415)
وأما الملك بالغصب فلا يثبت مقصودا به بل شرطا لحكم شرعي وهو
ـــــــ
عقد الذمة وقد عرف تحقيقه في موضعه ثم فيما نحن فيه لما زال العاصم وهو الإحراز بالدار بطلت العصمة فيملك بالاستيلاء لأن الاستيلاء على مال غير معصوم ليس بمحظور فيصلح سببا للملك وعنده لما بقي العاصم وهو إسلام المالك لم تزل العصمة فلا يملك بالاستيلاء لأنه محظور فلا يصلح سببا للملك الذي هو نعمة والله أعلم.
قوله: "وأما الملك بالغصب" إلى آخره جواب عن نقض آخر يرد على ذلك الأصل أيضا ووجه وروده ما ذكرناه في الاستيلاء واعلم أن بعض المتقدمين من مشايخنا قالوا سبب الملك في المغصوب للغاصب تقرر الضمان عليه كي لا يجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد ولكن هذا غلط لأن الملك عندنا يثبت من وقت الغصب ولهذا نفذ بيع الغاصب وسلم الكسب له وقال بعض المتأخرين الغصب هو السبب الموجب للملك عند أداء الضمان وهذا أيضا وهم فإن الملك لا يثبت عند أداء الضمان من وقت الغصب للغاصب حقيقة ولهذا لا يسلم له الولد ولو كان الغصب هو السبب للملك لكان إذا تم له الملك بذلك السبب يملك الزوائد المتصلة والمنفصلة كالبيع الموقوف إذا تم بالإجازة يملك المشتري المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة. ومع هذا في هذه العبارة بعض الشنعة لأن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا للملك كما قال الشافعي رحمه الله.
فالأسلم أن يقال الغصب يوجب رد العين ورد القيمة عند تعذر رد العين بطريق الجبر مقصودا بهذا السبب ثم يثبت الملك به للغاصب شرطا للقضاء بالقيمة لا حكما ثابتا بالغصب مقصودا ولهذا لا يملك الولد لأن الملك كان شرطا للقضاء بالقيمة والولد غير مضمون بالقيمة وهو بعد الانفصال ليس بتبع فلا يثبت هذا الحكم فيه بخلاف الزيادة المتصلة فإنها تبع محض والكسب كذلك بدل المنفعة فيكون تبعا محضا وثبوته في البيع بثبوته في الأصل سواء ثبت في المتبوع مقصودا بسببه أو شرطا لغيره كذا في المبسوط ولا بد من كشف سر المسألة وهو أن ضمان الغصب يجب بمقابلة اليد الفائتة أم بمقابلة العين فعندنا يجب بمقابلة العين وعند الشافعي رحمه الله يجب بمقابلة اليد قال لأن المضمون بالغصب ما فات بالغصب وهو اليد فكان شرع الضمان لجبر ما ذكرنا ما فات على المالك لأنه ضمان جبر بالاتفاق لا بإزاء ما هو قائم ليفوت وإذا كان الضمان لجبر ما ذكرنا بقي الملك في المغصوب كما كان. وكان ينبغي أن يثبت الملك في الضمان للمالك يدا لا ذاتا على مثال المضمون لكن إثبات يد الملك بدون ملك الذات غير ممكن فإن اليد كانت ثابتة على وجه يتمكن بها من الانتفاع وهذا بدون ملك الذات لا يتصور فأثبتنا الملك في الذات ضرورة تحقق المماثلة بين الفائت والجابر(1/416)
الضمان لأنه شرع جبرا ولا جبر مع بقاء الأصل على ملكه إذ الجبر يعتمد
ـــــــ
وما ثبت ضرورة غيره كان عدما في حق نفسه ألا ترى أن المغصوب إذا كان مدبرا وتعذر رده وجب الضمان مقابلا باليد بالاتفاق ويثبت الملك فيه للمغصوب منه ضرورة تحقق المماثلة وفصل المدبر يوضح أن الضمان بمقابلة اليد إذ لو كان بدلا عن العين وكان من شرط القضاء به زوال ملك المالك عن العين لما قضى القاضي به في محله لا يتحقق هذا الشرط وإن تم بقضاء بالقاضي ينبغي أن يزول ملكه عن المدبر كما لو قضى بجواز بيع المدبر وإذا ثبت أن الضمان بمقابلة قطع اليد لم تقع الحاجة إلى إزالة ملك العين عن المالك إلى الغاصب كما في المدبر إذا ليس فيه اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد وحجتنا في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشاة المغصوبة المصلية: "أطعموها الأسارى" 1 فقد أمرهم بالتصدق بها ولو لم يملكوها لما أمرهم به لأن التصدق بملك الغير إذا كان مالكها معلوما لا يجوز ولكن يحفظ عليه عين ملكه فإن تعذر ذلك يباع فيحفظ عليه ثمنه ولأن الضمان إنما يجب بمقابلة ما هو المقصود ومقصود صاحب الدراهم مثلا عين الدراهم لا امتلاء كيسه ويده ألا ترى أنه تقوم العين به ويسمى الواجب قيمة العين لا قيمة اليد ويتقدر بمالية العين.
والدليل عليه أنه خلف عن الضمان الأصلي بالغصب, والمضمون الأصلي هو المال المغصوب بعينه بالإجماع وعليه رده إلى مالكه ليخرج عن الضمان الأصلي بالغصب فكذا الخلف يكون خلفا عن ذلك المضمون وهو المال هذا هو الأصل فلا يعدل عنه إلى ما ذكره الخصم إلا عند العجز عن هذا كما لا يقضى بالقيمة إلا عند العجز عن يمين المغصوب وهذا أولى مما قاله الخصم لأنه جعل المتقوم بدلا عما ليس بمتقوم مع إمكان جعله بدلا عن المتقوم وليس له نظير في الشرع ونحن جعلناه بدلا عما هو متقوم عند الإمكان.
ولما ثبت أن الواجب بدل العين وإنما يجب بطريق الجبر بالإنفاق, والجبر يستدعي الفوات لا محالة لأنه إنما يجبر الفائت دون القائم كان من ضرورة القضاء بقيمة العين انعدام ملكه في العين ليكون جبرا لما فات ولتتحقق المماثلة التي هي شرط ضمان العدوان وما لا يمكن إثباته إلا بشرط فإذا وقعت الحاجة إلى إثباته يقدم شرطه عليه لا محالة كما في قوله اعتق عبدك عني على ألف درهم فأعتقه يقدم التمليك منه على نفوذ العتق عنه ضرورة كونه شرطا في المحل لا أن يكون قوله أعتقه عني سببا للتمليك مقصودا.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في البيوع حديث رقم 3339 والإمام أحمد في المسند 5/294.(1/417)
الفوات وشرط الحكم تابع له فصار حسنا لحسنه وإنما قبح لو كان مقصودا به وفي ضمان المدبر قلنا بزوال المدبر عن ملك المولى لكونه مالا مملوكا
ـــــــ
وتبين بما ذكرنا أنا نثبت بالعدوان المحض ما هو حسن مشروع به وهو القضاء بالقيمة جبرا لحقه في الفائت ثم انعدام الملك في العين لما كان من شرط هذا المشروع يثبت به فيكون حسنا بحسنه. وصح الأمر بإيجاب البدل وإن لم يثبت شرطه بعد وهو عدم ملك الأصل إذا كان الشرط مما يثبت بالائتمار به مقتضى كالأمر بالإعتاق صح وإن لم يثبت ملك العبد لأنه مما يثبت مقتضى الائتمار به فإذا أعتق يثبت الملك بالشراء أولا ثم العتق كما لو صرح بالشراء ثم أمر بالإعتاق فكذا ههنا يزول ملك الأصل أولا مقتضى به ثم يترتب عليه ملك البدل كما لو أتى بما ينص على الإزالة من ضمان بيع وتبين أن الغصب موجب للملك في البدلين كالبيع إلا أنه أوجب اقتضاء والشراء نصا.
"فإن قيل" قد سلمنا أنه بدل العين إلا أنه بدل خلافة لا بدل مقابلة لأن في بدل المقابلة قيام المبدل شرط كالثمن مع المثمن ليقابل به البدل, وفي بدل الخلافة الشرط عدم الأصل ليقوم الخلف مقامه كالتيمم مع الوضوء والاعتداد بالأشهر مع الاعتداد بالأقراء ثم ههنا عدم الأصل شرط فعلم أنه بدل خلافة وفي بدل الخلافة إذا ثبت القدرة على الأصل سقط حكم الخلف كالقدرة على الماء إذا حصلت أسقطت التيمم فههنا إذا عاد العبد من الإباق جاءت القدرة على الأصل فوجب أن يسقط اعتبار الخلف.
"قلنا" نحن نسلم أنه بدل خلافة ولكنا نحتاج إلى إزالة الأصل عن ملكه حال ما يقضي القاضي بإدخال البدل في ملكه احترازا عن اجتماع البدل والمبدول في ملك واحد فإذا دخل البدل في ملكه وزال الأصل عن ملكه ووقع الفراغ عنه لا يلتفت إلى حصول القدرة بعد ذلك لأنه بعد حصول المقصود بالبدل فلا يوجب سقوط اعتبار البدل كمن تيمم وصلى ثم قدر على الماء.
قوله: "وشرط الشيء تابع له" لأنه يثبت لتصحيح الغير لا أن يثبت مقصودا بنفسه ولهذا يثبت بثبوت المشروط ويسقط بسقوطه كالطهارة للصلاة "فصار" أي ثبوت الملك للغاصب الذي هو شرط "حسنا بحسنه" أي بحسن الحكم الشرعي الذي هو مشروطه وهو الضمان وإن قبح أن لو ثبت الملك للغاصب مقصودا بالغصب ثم أجاب الشيخ عن فصل المدبر بوجهين تقرير الأول أنا نقول في فصل المدبر بزواله عن ملك المغصوب منه بعد تقرر حقه في القيمة تحقيقا لشرط المشروع وهو الضمان ولهذا لو لم يظهر المدبر بعد ذلك وظهر له كسب كان للغاصب دون المغصوب منه ولكن لا يدخل في ملك الغاصب صيانة لحق المدبر فإن حق العتق ثبت له بالتدبير, والملك في المدبر(1/418)
تحقيقا لشرط المشروع وهو وجوب الضمان ولا يدخل في ملك المشتري صيانة لحقه ولأن ضمان المدبر جعل مقابلا بالفائت وهو اليد دون الرقبة وهذا طريق جائز لكن لا يصار إليه عن المقابلة بالرقبة إلا عند العجز والضرورة فالطريق الأول واجب وهذا جائز. وأما الزنا فلا يوجب حرمة المصاهرة أصلا
ـــــــ
يحتمل الزوال ولكن لا يحتمل الانتقال, والزوال كاف لتحقق الشرط فيثبت هذا القدر ونظيره الوقف فإنه يخرج عن ملك الواقف ولا يدخل في ملك الموقوف عليه.
وقوله: "في ملك المشتري" أراد به الغاصب لأنه بمنزلة المشتري عند أداء الضمان وتقدير الثاني أن في المدبر القيمة ليست ببدل عن العين لأن ما هو شرطه وهو انعدام الملك في العين متعذر في المدبر فيجعل هذا خلفا عن النقصان الذي حل بيده ولكن هذا عند الضرورة ففي كل محل يمكن إيجاد الشرط فيه لا يتحقق الضرورة فيجعل بدلا عن العين وإذا تعذر إيجاد الشرط يجعل خلفا عن النقصان الذي حل بيده ونظيره فصلان أحدهما ضمان العتق فإنه بمقابلة العين في كل محل يحتمل إيجاد شرطه وهو تمليك العين وفيما لا يحتمل إيجاد الشرط كالمدبر وأم الولد عندهم لا يجعل بدلا عن العين وكذلك ضمان الصلح فإنه إذا أخذ القيمة بالترضي كان المأخوذ بدلا عن العين في كل محل يحتمل تمليك العين وفي كل محل لا يحتمل تمليك العين بجعل المأخوذ بمقابلة الجناية التي حلت بيده فكذلك إذا أخذ القيمة بقضاء القاضي كذا في المبسوط.
قوله: "فالطريق الأول" أي جعل الضمان مقابلا بالعين "واجب" أي ثابت متقرر لا يجوز العدول عنه من غير ضرورة "وهذا" أي جعله مقابلا بقطع اليد "جائز" أي ممكن محتمل يجوز المصير إليه عند الضرورة كالمجاز مع الحقيقة لا يترك الحقيقة من غير ضرورة ويصار إلى المجاز عند الضرورة.
قوله: "وأما الزنا فلا يوجب حرمة المصاهرة أصلا" وهذا يرد نقضا على ذلك الأصل أيضا بالطريق الذي مر ذكره فقال نحن لا نوجب حرمة المصاهرة بالزنا من حيث كونه زنا ولكنا جعلناه موجبا لهذه الحرمة من حيث إنه سبب للماء كالوطء الحلال والماء سبب لوجود الولد الذي هو المستحق للكرامات والحرمات. وبيانه أن أصل هذه الحرمة في الوطء الحلال ليس لعين الملك ولكن لمعنى البعضية وهو أن ماء الرجل يختلط بماء المرأة في الرحم ويصيران شيئا واحدا ويثبت له حكم الإنسان يعتق ويوصى له ويرث وبين الواطئ والماء بعضية وكذا بين الموطوءة وهذا الماء فيصير بعضها مختلطا ببعضه(1/419)
بنفسه إنما هو سبب للماء والماء سبب للولد وجودا والولد هو الأصل في
ـــــــ
فيثبت حكم البعضية التي بينها وبين أمهاتها وبناتها, والبعضية التي بين الواطئ وآبائه وأبنائه لذلك الماء الذي هو بعضها وإذا ثبت للماء والماء بعضهما تعدت البعضية إليهما ثم لما صار هذا الماء إنسانا استحق سائر كرامات البشر ومن جملتها حرمة المحارم فيثبت الحرمة في حقه للبعضية أعني تحرم عليه أمهات الموطوءة وبناتها وأباء الواطئ وأبناؤه للبعضية الحقيقية التي بينه وبينهم ثم يتعدى منه هذه الحرمة إلى الطرفين لتعدي البعضية منه إليهما أي يتعدى حرمة آباء الواطئ وأبنائه من الولد إلى المرأة وحرمة أمهات الموطوءة وبناتها منه إلى الرجل لصيرورة كل واحد من الرجل والمرأة بعضا للآخر بواسطته لأن جزأه صار جزءا منها إذ الولد مضاف بكماله إليها وجزؤها صار جزءا منه لأنه مضاف إليه بتمامه أيضا فصار الولد على هذا التحقيق سببا لثبوت الحرمة بينهما بالبعضية التي تحدث بينهما بواسطته حكما.
والدليل على صحة ما ذكرنا من المعنى تعليل عمر رضي الله عنه في عدم جواز بيع أمهات الأولاد به حيث قال كيف تبيعونهن وقد اختلطت لحومكم بلحومهن ودماؤكم بدمائهن ثم أقيم الوطء مقام الولد لأن الوقوف على حقيقة العلوق متعذر وهو سبب ظاهر مفض إليه فأقيم مقامه وجعل الولد كالحاصل تقديرا واعتبارا للاحتياط وكما أن الوطء الحلال مفض إليه فكذا الحرام مفض إليه من غير تفاوت بينهما في الإفضاء إليه فيجوز أن يقوم مقامه في إثبات الحرمة أيضا, وكان ينبغي أن يثبت الحرمة بين الواطئ والموطوءة لما بينا أن كل واحد منهما صار بعضا للآخر والاستمتاع بالبعض حرام بقوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] وبقوله عليه السلام: "ناكح اليد ملعون" إلا أنا تركناه في حق الموطوءة ضرورة إقامة النسل كما سقطت حقيقة البعضية في حق آدم عليه السلام لهذا المعنى حتى حلت حواء لآدم عليه السلام وقد خلقت منه حقيقة, وحرمت عليه بنته ثم هذه البعضية لا يختلف بالحل والحرمة فلا يختلف حكم الحرمة وإنما يختلف حكم هذه البعضية بالمحل فإن إلقاء البذر إنما يكون حرثا في المحل الذي خلق منبتا له وذلك النساء لا الرجال إلا أن إتيان دبر المرأة يوجب الحرمة عندنا لمعنى المساس عن شهوة وأنه سبب للوطء الذي هو حرث من النساء ولا يتصور من الرجل سببا لوطء هو حرث والبعضية في الحرث فما لم يتصل به لا يكون علة للحرمة كذا في الأسرار. فلهذا قلنا لا تثبت الحرمة باللواطة ولا بوطء الميتة ولا بوطء الصغيرة.
وتبين بما ذكرنا أن هذا الفعل من حيث إنه زنا موجب للحد لا يصلح سببا للكرامة(1/420)
.............................................................................................
كما قال ولكنه مع ذلك حرث للولد وهو مباح من هذا الوجه فيصلح أن يكون سببا للحرمة, والكرامة باعتبار أنه حرث فيكون هذه الحرمة مضافة إلى ما هو مباح لا إلى ما هو محظور ألا ترى أن في جانبها الفعل زنا ترجم عليه وإذا حبلت به كان لذلك الولد من الحرمة ما لغيره من بني آدم ويكون نسبه ثابتا منها وتحرم هي عليه ويتوقف في رجم الأم إلى أن تلد وينقطع الرضاع وثبوت هذا كله بطريق الكرامة لأنه حرث لا لأنه زنا فكذلك ههنا وإنما لم يثبت النسب من جانبه لأن المقصود من الانتساب التشرف ولا يحصل ذلك بالنسبة إلى الزاني.
"فإن قيل" فعلى ما ذكرتم يكون الزنا محظورا من وجه مباحا من وجه وهذا قول باطل فإنه لو كان كذلك لما وجب به الحد كما في الجارية المشتركة.
"قلنا" هذا الفعل من حيث كونه زنا محظور من كل وجه لكن من حيث كونه سببا للبعضية ليس بمحظور ويجوز أن يثبت للفعل جهتان إحداهما مشروع والأخرى محظور كما مر, فوجوب الحد من حيث كونه زنا ومن هذا الوجه هو محظور من كل وجه, وثبوت وصف آخر لأصل الفعل لا يقدح في الفعل من حيث كونه زنا لأنه لا يوجب فيه ملكا ولا شبهة فلا يوقع خللا فيما هو سبب للحد فيجب الحد ويمكن أن يقال الشرع أعرض عن تلك الشبهة في باب الحد لتعذر الاحتراز عنها. وبعض أصحابنا قالوا الحرمة تثبت ههنا بطريق العقوبة كما يثبت حرمان الميراث في حق القاتل عقوبة والأصل فيه قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وعلى هذا الطريق يقولون المحرمية لا تثبت حتى لا تباح الخلوة والمسافرة ولكن هذا فاسد فإن التعليل لتعدية حكم النص لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص عليه فإن ابتداء الحكم لا يجوز إثباته بالتعليل, والمنصوص حرمة ثابتة بطريق الكرامة فإنما يجوز التعليل لتعدية تلك الحرمة إلى الفروع لا لإثبات حرمة أخرى كذا في المبسوط.
قلت وإنما اختار بعض مشايخنا هذا الطريق لأن ثبوت هذه الحرمة لما كان بطريق الاحتياط في إثبات حرمة المناكحة والمسافرة والخلوة جميعا كما قالوا فيما إذا كان الرضاع ثابتا غير مشهور بين الناس لا تحل المناكحة ولا الخلوة والمسافرة أيضا للاحتياط والاحتراز عن التهمة ومذهبنا في هذه المسألة مذهب عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعمران بن الحصين ومسروق رضي الله عنهم.
وذكر الإمام البرغري في طريقته أن في المسألة إجماع الصحابة وكذا ذكر القاضي الإمام أبو زيد في الأسرار فقال ويدل لنا إجماع الصحابة أو ما يقرب منه ثم(1/421)
استحقاق الحرمات ولا عصيان ولا عدوان فيه ثم يتعدى منه إلى أطرافه ويتعدى منه إلى أسبابه وما يعمل لقيامه مقام غيره فإنما يعمل بعلة الأصل ألا
ـــــــ
بما ذكرنا خرج الجواب عن هذا الحديث الذي استدل به الشافعي رحمه الله فإنا لا نجعل الحرام محرما للحلال وإنما بنيت الحرمة باعتبار أن الفعل حرث للولد وحرمة هذا الفعل لكونه زنا, مع أن هذا الحديث غير مجرى على ظاهره, فإن كثيرا من الحرام يحرم الحلال كما إذا وقعت قطرة من خمر في ماء قليل وكالوطء بالشبهة ووطء الأمة المشتركة ووطء الأب جارية الابن فإن هذا كله حرام حرم الحلال لا لأنه حرام بل للمعنى الذي قلنا فكذلك ههنا كذا في المبسوط.
قوله: "والولد هو الأصل في استحقاق الحرمات" أي الحرمات الأربع التي ذكرناها. "ولا عصيان" بالنظر إلى حقوق الله تعالى: "ولا عدوان" بالنظر إلى حقوق العباد أيضا في الولد لأنه مخلوق بخلق الله تعالى ولا عصيان ولا عدوان في صنعه ولهذا استحق هذا الولد جميع كرامات البشر التي استحقها المخلوق من ماء الرشدة كما ذكرنا "ثم يتعدى" أي الحرمات المذكورة "منه" أي الولد "إلى أطرافه" أي طرفيه وهما الأب والأم لا غير لأن حرمة أمهات الموطوءة وبناتها لا يتعدى منه إلا إلى الأب وكذلك حرمة آباء الواطئ وأبنائه لا يتعدى إلا إلى الأم ولا يستقيم تفسير الأطراف بالأبوين والأجداد والجدات كما هو مذكور في عامة الشروح فافهم.
"ويتعدى" أي سببية ثبوت هذه الحرمة والضمير المستكن راجع إلى المفهوم لا إلى المذكور ولا يجوز أن يكون راجعا إلى ما رجع إليه الضمير المستكن في يتعدى الأول لأن الحرمة لا يتعدى إلى الأسباب ولهذا أعيد لفظ يتعدى وإلا كان يكفيه أن يقول وإلى أسبابه "إلى أسبابه" أي أسباب الولد من النكاح والوطء والتقبيل والمس بشهوة عندنا خلافا للشافعي والنظر إلى الفرج خلافا له ولابن أبي ليلى.
"وما يعمل لقيامه مقام غيره" أي يعمل بطريق الخلافة والبداية. فإنما يعمل بعلة الأصل أي بالمعنى الذي يعمل به الأصل من غير نظر إلى أوصاف نفسه وصلاحيته للحكم بل ينظر في ذلك إلى صلاحية الأصل كالنوم والتقاء الختانين والسفر لما أقيمت مقام خروج النجاسة وخروج المني والمشقة عملت عملها من غير نظر إلى أوصاف أنفسها وصلاحيتها للحكم وكالتراب لما أقيم مقام الماء في إفادة التطهير نظر إلى صلاحية الماء للتطهير ولم يلتفت إلى وصف التراب الذي هو تلويث فكذلك ههنا أقيم الزنا مقام الولد بمعنى السببية فأخذ حكم الولد وأهدر وصف الزنا بالحرمة لأنه مع هذه الصفة سبب صالح للولد ولهذا أقيم مقامه والولد لا يوصف بالحرمة والقبح لما ذكرنا.(1/422)
ترى أن التراب لما قام مقام الماء نظر إلى كون الماء مطهرا وسقط وصف التراب فكذلك يهدر وصف الزنا بالحرمة لقيامه مقام ما لا يوصف بذلك في إيجاب حرمة المصاهرة.
وأما سفر المعصية فغير منهي لمعنى فيه لأنه من حيث إنه خروج مديد مباح وإنما العصيان في فعل قطع الطريق أو التمرد على المولى وهو مجاور له فكان كالبيع وقت النداء ولا يلزم على هذا النهي عن الأفعال الحسية لأن القول بكمال القبح فيها وهو مقتضى مع كمال المقصود ممكن على ما قلنا.
ـــــــ
وما روي أنه عليه السلام قال: "ولد الزنا شر الثلاثة" 1 فذلك في مولود خاص لأنا نشاهد أن ولد الزنا قد يكون أصلح, ومنفعته أعود إلى الناس من ولد الرشدة كذا في طريقة الصدر الحجاج قطب الدين السربلي "لقيامه" أي الزنا "مقام ما لا يوصف" وهو الولد "بذلك" أي بوصف الحرمة "في إيجاب حرمة المصاهرة" أي قيامه مقام الولد وإهدار وصف الحرمة في حق هذا الحكم خاصة لا في حق سقوط الحد والله أعلم.
قوله: "وأما سفر المعصية" هذه المسألة رابعة المسائل الأربع التي ترد نقضا على الأصل المذكور فأجاب وقال إنه ليس بمنهي لمعنى في عينه بل هو منهي لمعنى في غيره مجاور له فلا يوجب ذلك صيرورته معصية لذاته, وانتفاء مشروعيته كالوطء حالة الحيض والبيع وقت النداء والاصطياد بقوس الغير وهذا لأن خطاه إنما صارت سفرا بقصده مكانا بعيدا لا بقصده الإغارة والبغي والتمرد على المولى ألا ترى أنه لو قصد ذلك المكان بلا قصد الإغارة صار مسافرا ولو قصد الإغارة بدون أن يقصد مكانا بعيدا لم يصر مسافرا وإن طاف الدنيا, وكذلك إذا تبدل قصده بقصد الحج خرج من أن يكون عاصيا ولم يتغير سفره وكذا العبد إذا لحقه إذن مولاه لم يتغير سفره وخرج من أن يكون عاصيا فتبين بهذا أن معنى المعصية مجاور لهذا السفر فصلح سببا للترخيص.
قوله: "ولا يلزم على هذا" أي على ما ذكرنا أن النهي المطلق عن الأفعال الشرعية يوجب قبحا في غير المنهي عنه حتى بقي مشروعا "النهي عن الأفعال الحسية" حيث يوجب قبحا في عينها حتى لا تبقى مشروعة أصلا "لأن القول بكمال القبح" الذي هو مقتضى النهي في الأفعال الحسية "مع كمال المقصود" وهو أن يكون الفعل متصور
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في العتق حديث رقم 3963 والإمام أحمد في المسند 2/311 والحاكم 2/214.(1/423)
والنهي في صفة القبح ينقسم انقسام الأمر ما قبح لعينه وضعا مثل الكفر والكذب والعبث وما قبح ملحقا بالقسم الأول وهو بيع الحر والمضامين والملاقيح لأن البيع لما وضع لتمليك المال كان باطلا في غير محله وما قبح لمعنى في غيره وهو البيع وقت النداء والصلاة في أرض مغصوبة وما قبح لمعنى في غيره وهو ملحق به وصفا وذلك مثل البيع الفاسد وصيام يوم النحر, والنهي عن الأفعال الحسية يقع على القسم الأول وعن الأمور المشروعة يقع على هذا القسم الذي قلنا إنه ملحق به وصفا.
ـــــــ
الوجود من العبد ليتحقق الابتلاء "على ما قلنا" أي قبل هذا أن الأفعال الحسية لا تنعدم بصفة القبح.
قوله: "والنهي" أي المنهي عنه "في صفة القبح ينقسم انقسام الأمر" أي المأمور به في صفة الحسن تحقيقا للمقابلة إذ النهي يقابل الأمر "ما قبح لعينه وضعا" وهو قسمان قسم لا يحتمل أن يسقط القبح عنه بحال كالكفر وهو على مقابلة الإيمان وقسم يحتمل ذلك كالكذب فإن قبحه يسقط في إصلاح ذات البين وفي الحرب وفي إرضاء المنكوحتين كما ورد به الأثر وهو في مقابلة الصلاة.
وما قبح ملحقا بالقسم الأول مثل بيع الحر والمضامين والملاقيح ومثل الصلاة بغير طهارة فإن البيع في نفسه مما يتعلق به المصالح ولكن الشرع لما قصر محله على مال متقوم حال العقد والحر ليس بمال وكذا الماء قبل أن يخلق منه الحيوان ليس بمال صار بيعه عبثا لحلوله في غير محله نحو ضرب الميت وأكل ما لا يتغدى به وكذلك الشرع لما قصر أهلية العبد لأداء الصلاة على حال طهارته عن الحدث صار فعل صلواته مع الحدث عبثا لخروجه من غير أهله نحو كلام الطائر والمجنون فالتحقا بالقبيح وضعا بواسطة عدم الأهلية والمحلية شرعا كذا في التقويم وهذا في مقابلة الصوم والزكاة والحج.
"وما قبح لمعنى في غيره" مجاور يقبل الانفكاك مثل البيع وقت النداء والصلاة في أرض مغصوبة وهذا في مقابلة السعي والطهارة.
وما قبح لمعنى في غيره وهو ملحق به وصفا مثل البيع الفاسد وصوم يوم النحر وهذا في مقابلة الجهاد والصلاة على الميت والله أعلم.(1/424)
"باب معرفة أحكام العموم"
العام عندنا يوجب الحكم فيما تناوله قطعا ويقينا بمنزلة الخاص فيما يتناوله والدليل على أن المذهب هو الذي حكينا أن أبا حنيفة رحمه الله قال إن الخاص لا يقضي على العام بل يجوز أن ينسخ الخاص به مثل حديث
ـــــــ
"باب معرفة أحكام العموم"
"قوله" العام عندنا يوجب الحكم فيما تناوله أي في جميع الأفراد الداخلة تحته قطعا ويقينا وقد فسرناهما في أول باب أحكام الخصوص وهو مذهب أكثر مشايخنا كما ستقف عليه ويشير قوله العام بعمومه إلى استواء الأمر والنهي والخبر في ذلك وفيه خلاف كما سنبينه وهذا إذا أمكن اعتبار العموم فيه فإن لم يمكن لكون المحل غير قابل له مثل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] فحينئذ يجب التوقف فيه إلى أن يتبين ما هو المراد به ببيان ظاهر بمنزلة المجمل ولا يعمل فيه بقدر الإمكان وفيه خلاف الشافعي رحمه الله.
قوله: "لا يقضي على العام" أي لا يترجح عليه منقول من قضى عليه بمعنى حكم لأن الراجح حاكم على المرجوح بل يجوز أن ينسخ الخاص بالعام إذا كان العام متأخرا.
قوله: "مثل حديث العرنيين"1 وهو ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن قوما من عرنة أتوا المدينة فاجتووها أي كرهوا بالمقام بها لأنها لم توافقهم فاصفرت ألوانهم وانتفخت بطونهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا إلى إبل الصدقة ويشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا وصحوا ثم ارتدوا ومالوا إلى الرعاة وقتلوهم واستاقوا الإبل فبعث رسول الله
ـــــــ
1 أخرجه البخاري 9/200 – 202 ومسلم في القسامة حديث رقم 1671 والترمذي في الطهارة حديث رقم 72 وأبو داود في الحدود حديث رقم 4364 – 4371 وابن ماجه حديث رقم 2578 والإمام أحمد في المسند 3/107.(1/425)
العرنيين في بول ما يؤكل لحمه نسخ وهو خاص بقول النبي عليه السلام: "استنزهوا من البول" ومثل قوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم في أثرهم قوما فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في شدة الحر حتى ماتوا قال الراوي حتى رأيت بعضهم يكدم الأرض بفيه من شدة العطش هذا حديث خاص لأنه ورد في أبوال الإبل ثم هو منسوخ عنده بعموم قوله عليه السلام: "استنزهوا البول فإن عامة عذاب القبر منه" إذا البول اسم جنس محلى باللام فيتناول أبوال الإبل وغيرها ولو لم يكن العام مثل الخاص لما صح نسخ الأول بالثاني إذ من شرطه المماثلة.
"فإن قيل" إنما يصح القول بالنسخ إذا ثبت تقدم الأول وتأخر الثاني ولم يثبت ذلك إذا لم يعرف التاريخ.
"قلنا" قد ثبت تقدم الأول بدليل أن المثلة التي تضمنها ذلك الحديث قد نسخت بالاتفاق وهي كانت مشروعة في ابتداء الإسلام فدل انتساخه على تقدم ذلك الحديث ولم يثبت تقدم الحديث الثاني بدليل بل فيه مجرد احتمال فلا يعتبر.
قوله ومثل قوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 1 يجب العشر في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره عند أبي حنيفة رحمه الله لعموم قوله عليه السلام: "ما سقته السماء ففيه العشر" 2 وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجب العشر في أقل من خمسة أوسق مما يدخل تحت الوسق لقوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" قالا المراد من الصدقة العشر لأن الزكاة تجب فيما دون خمسة أوسق إذا بلغت قيمته نصابا ولا يجب في خمسة أوسق إذا لم يبلغ نصابا فكان هذا الحديث نصا في المسألة.
والجواب لأبي حنيفة رحمه الله أن العام في إيجاب الحكم مثل الخاص ثم إذا وردا في حادثة ويعرف تاريخهما كان الثاني ناسخا إن كان هو العام ومخصصا إن كان هو الخاص كمن قال لعبده أعط زيدا درهما ثم قال له لا تعط أحدا شيئا كان نسخا للأول ولو قال لا تعط أحدا شيئا ثم قال أعط زيدا درهما كان تخصيصا له. وإن لم
ـــــــ
1 أخرجه البخاري فيا لزكاة 2/133 ومسلم حديث رقم 979 وأبو داود في الزكاة حديث رقم 1558 وابن ماجه في الزكاة حديث رقم 1793 والترمذي في الزكاة حديث رقم 626.
2 أخرجه البخاري في الزكاة 2/155 والترمذي في الزكاة حديث رقم 640 وأبو داود في الزكاة حديث رقم 1596 وابن ماجه في الزكاة حديث رقم 1817.(1/426)
صدقة" نسخ بقوله: "ما سقته السماء ففيه العشر" ولما ذكر محمد رحمه الله فيمن أوصى بخاتمه لإنسان ثم بالفص منه لآخر بكلام مفصول أن الحلقة
ـــــــ
يعلم تاريخهما يجعل العام آخرا للاحتياط وفيما نحن فيه كذلك كذا في الفوائد الظهيرية فهذا معنى قوله نسخ بقوله: "ما سقته السماء ففيه العشر" وذكر بعضهم أن أبا حنيفة رحمه الله إنما عمل بالحديث العام دون الخاص في هذه المسألة وفيما تقدم أيضا لأن الأصل عنده أن العام المتفق على قبوله أولى من الخاص المختلف في قبوله لأنهما لما تساويا يرجح العام بكونه متفقا عليه على الخاص فقوله عليه السلام: "ما سقته السماء ففيه العشر" متفق عليه لأنهما عملا به فيما وراء الخمسة الأوسق وحكما بتفاوت الواجب عند قلة المؤنة وكثرتها فأوجبا العشر فيما سقته السماء ونصف العشر فيما سقي بدالية عملا بهذا الحديث وجعلا الحديث الخاص مخصصا له وأبو حنيفة رحمه الله لم يعمل بالحديث الخاص أصلا فكان المتفق عليه أولى من المختلف فيه.
قوله: "ولما ذكر محمد" عطف على ما تقدم من الدليل من حيث المعنى وتقدير الكلام, العام بمنزلة الخاص فيما تناوله عندنا لما قال أبو حنيفة كذا ولما ذكر محمد إذا أوصى بخاتمه لإنسان وبفصه لآخر في كلام موصول كانت الحلقة للأول والفص للثاني بالاتفاق وأما إذا فصل فكذا الجواب عند أبي يوسف وعلى قول محمد رحمهما الله يكون الفص بينهما نصفين وجه قول أبي يوسف أن بإيجابه في الكلام الثاني تبين أن مراده من الكلام الأول إيجاب الحلقة للأول بدون الفص وهذا البيان منه صحيح وإن كان مفصولا لأن الوصية لا يلزمه شيئا في حال حياته فيكون البيان الموصول فيه والمفصول سواء كما في الوصية بالرقبة لإنسان وبالخدمة أو الغلة لآخر كذا الدار مع السكنى والبستان مع الثمرة. ومحمد رحمه الله يقول اسم الخاتم عام يتناول الحلقة والفص جميعا فكان إيجاب الفص للثاني تخصيصا لذلك العموم وتخصيص العام إنما يصح موصولا فإذا كان مفصولا لا يكون تخصيصا بل يكون معارضا فكان كلامه الثاني في الفص إيجابا للثاني وبقي عموم الإيجاب الأول على ما كان, والعام مثل الخاص في إيجاب الحكم فثبت المساواة بينهما في الاستحقاق فجعلناه بينهم نصفين وليست الوصية الثانية رجوعا عن الأولى كما لو أوصى بالخاتم للثاني بخلاف ما ذكر من المسائل لأن اسم الرقبة والدار والبستان لا يتناول الخدمة والسكنى والثمرة ولكن الموصى له بالرقبة إنما يستخدم لأن المنفعة تحدث على ملكه ولا حق للغير فيه فإذا أوجب الخدمة للغير لم يبق للموصى له بالرقبة حق بحكم التعارض في الإيجاب وكذا السكنى والثمرة يوضح ما ذكرنا أنه لو قال أوصيت بهذا الخاتم إلا فصه صح الاستثناء صحة الاستثناء فيما إذا(1/427)
للأول والفص بينهما وإنما استحقه الأول بالعموم والثاني بالخصوص وهذا قولهم جميعا. وقالوا في رب المال والمضارب إذا اختلفا في العموم والخصوص
ـــــــ
كان الكلام متناولا له ولهذا جعل عبارة عما وراء المستثنى وبمثله لو أوصى بالرقبة إلا خدمتها أو بالدار إلا سكناها أو بالبستان إلا ثمرته بطل الاستثناء فعرفنا أن الإيجاب لم يتناول هذا الأشياء حتى لم يعمل الاستثناء في إخراجها فإذا أوجبها للآخر اختص بها من أوجبها كذا في المبسوط.
وهكذا الخلاف مذكور في الهداية والإيضاح والزيادات للقاضي الإمام فخر الدين والزيادات للإمام العتابي1 والمنظومة وشروحها فكان قول الشيخ: "وهذه قولهم جميعا" محمول على أنه ثبت عنده رواية عن الشيخين على وفاق قول محمد ويؤيده ما ذكر القاضي الإمام في التقويم وقد دل على هذا القول فتاواهم ومحاجتهم أما الفتوى فقد قالوا في رجل أوصى إلى آخره فقد أسند هذا القول إليهم من غير ذكر خلاف وكذا ذكر شمس الأئمة هذه المسألة في الزيادات من غير ذكر خلاف أبي يوسف وإنما ذكر خلافه في المبسوط.
أو تصرف الإشارة في قوله وهذا إلى أصل المسألة أي كون العام مثل الخاص قولهم جميعا أو إلى قوله وإنما استحقه الأول بالعموم والثاني بالخصوص ثم الخاتم ليس بعام حقيقة لأنه لا يتناول أفرادا متفقة الحدود بل الفص فيه بمنزلة الرأس واليد والرجل في اسم الإنسان ولا يصير الإنسان باعتبار هذه الأجزاء تماما فكذلك الخاتم لكنه شبيه بالعام من حيث إن الفص يدخل في اسم الخاتم بطريق الحقيقة وفواته لا يخل بالحقيقة أيضا كما أن الزائد على الثلاثة في العام بهذه المثابة.
وقد يجوز الاستدلال بمثله كالواحد مع العشرة في مسألة الصفات, فإنه جعل نظير الصفات من حيث إنه لم يكن عين العشرة ولا غيرها كالصفات ليست عين الذات ولا غيره لا أنه نظير للصفات حقيقة لأن ذات الله تعالى وصفاته منزهة عن النظير وكذلك الواحد جزء من العشرة والصفات ليست بجزء للذات ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أن العموم قد يطلق على لفظ وإن لم يكن عاما لتعدده باعتبار أجزاء يصح افتراقها حسا كعشرة فإن استثناء بعضها يسمى تخصيصا وهو لا يجري إلا في العام.
قوله: "وقالوا" أي العلماء الثلاثة "في رب المال إلى آخره" إذا اختلف المضارب
ـــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن عمر زاهد الدين أبو نصر العتابي فقيه حنفي توفي سنة 586 وقيل 582 هـ انظر الفوائد البهية 36 - 37.(1/428)
أن القول قول من يدعي العموم ولولا استواؤهما وقيام المعارضة بينهما لما وجب الترجيح به بدلالة العقد. وقد قال عامة مشايخنا إن العام الذي لم يثبت خصوصه لا يحتمل الخصوص بخبر الواحد والقياس هذا هو المشهور واختاره
ـــــــ
ورب المال في الخصوص والعموم فإن كان قبل التصرف فالقول قول رب المال على كل حال لأن العموم لو كان ثابتا بالتنصيص أو باتفاقهما ثم نهاه رب المال عن العموم قبل التصرف عمل نهيه فههنا أولى فيجعل اختلافهما حجرا له عن العموم وإن كان بعد التصرف وقد ظهر ربح فقال المضارب أمرتني بالبز وقد خالفت فالربح لي وقال رب المال لم أسم شيئا فالقول قول رب المال والربح بينهما على الشرط بالاتفاق وإن قال المضارب وفي العقد خسران دفعت المال مضاربة بالنصف ولم تسم شيئا وقال رب المال دفعته إليك مضاربة في البز وقد خالفت فالقول قول المضارب مع يمينه استحسانا عندنا وقال زفر رحمه الله القول قول رب المال وهو القياس.
وفي قول الشيخ القول قول من يدعي العموم إشارة إلى ما قلنا يعني أيهما يدعي العموم فالقول قوله: فزفر رحمه الله يقول الإذن مستفاد من جهة رب المال ولو أنكر الإذن أصلا كان القول قوله فكذلك إذا قربه بصفة دون صفة كالمعير مع المستعير إذا اختلفا في صفة الإعارة كان القول فيه قول المعير والموكل مع الوكيل إذا اختلفا كان القول قول الموكل فهذا مثله.
ولنا أن مقتضى المضاربة العموم لأن المقصود تحصيل الربح وتمام ذلك باعتبار العموم في التفويض للتصرف إليه. والدليل عليه أنه لو قال خذ هذا المال مضاربة بالنصف يصح ويملك به جميع التجارات فلو لم يكن مقتضى مطلق العقد العموم لم يصح العقد إلا بالتنصيص على ما يوجب التخصيص كالوكالة وهو معنى قول الشيخ لما وجب الترجيح بدلالة العقد وإذا ثبت أن مقتضى مطلق العقد العموم فالمدعي لإطلاق العقد متمسك بما هو الأصل والآخر يدعي تخصيصا زائدا فيكون القول قول من يتمسك بالأصل كما في البيع إذا ادعى أحدهما شرطا زائدا من خيار أو أجل.
قوله: "ولولا استواؤهما" أي ولولا المساواة بين الخاص والعام أو بين الخصوص والعموم "لما وجب الترجيح" أي ترجيح العموم ههنا "بدلالة العقد" وهي ما ذكرنا لأن الترجيح يعتمد المساواة إذ لا ترجيح عند عدم المساواة بل لا يعمل بالأدنى لأنه لا يساوي الأعلى ولا يقاومه.
قوله: "العام الذي لم يثبت خصوصه" يعني العام من الكتاب والسنة المتواترة لا يحتمل الخصوص أي لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس لأنهما ظنيان فلا يجوز(1/429)
القاضي الشهيد في كتاب الغرر فثبت بهذه الجملة أن المذهب عندنا ما
ـــــــ
تخصيص القطعي بهما لأن التخصيص بطريق المعارضة والظني لا يعارض القطعي هذا أي ما ذكرنا من عدم جواز التخصيص بهما هو المشهور من مذهب علمائنا ونقل ذلك عن أبي بكر الجصاص وعيسى بن أبان وهو قول أكثر أصحاب أبي حنيفة وهو قول بعض أصحاب الشافعي أيضا وهو قول أبي بكر وعمر وعبد الله بن عباس وعائشة رضي الله عنهم فإن أبا بكر جمع الصحابة وأمرهم بأن يردوا كل حديث مخالف للكتاب وعمر رضي الله عنه رد حديث فاطمة بنت قيس1 في المبتوتة أنها لا تستحق النفقة وقال لا نترك كتاب الله بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وردت عائشة رضي الله عنها حديث تعذيب الميت ببكاء أهله وتلت قوله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] [الاسراء: 15] [فاطر: 18] [الزمر: 7] [النجم: 38] أورد هذا كله الجصاص ذكره أبو اليسر في أصوله "واختاره القاضي الشهيد" يعني الحاكم أبا الفضل محمد بن محمد بن أحمد السلمي المروزي2 صاحب المختصر هكذا ذكر في بعض الشروح وظني أنه أراد به القاضي الشهيد أبا نصر المحسن بن أحمد بن المحسن بن أحمد بن علي الخالدي المروزي لأنه هو المعروف بالقاضي الشهيد فأما أبو الفضل فمعروف بالحاكم الشهيد.
وهو أن العام مثل الخاص في إيجاب الحكم قطعا قوله: "ولهذا قلنا" أي ولأن تخصيص العام من الكتاب لا يجوز بخبر الواحد وبالقياس ابتداء قلنا إلى آخره إذا ترك التسمية على الذبيحة عامدا لا تحل الذبيحة عندنا لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الآية ومطلق النهي يقتضي التحريم وأكد ذلك بحرف من لأنه في موضع النفي للمبالغة فيقتضي حرمة كل جزء منه, والهاء في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إن كانت كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام وإن كانت كناية عن المذبوح فالمذبوح الذي يسمى فسقا في الشرع يكون حراما كما قال تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وقال الشافعي رحمه الله تحل لحديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الطلاق حديث رقم 1480.
2 هو أبو الفضل محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد المجيد بن إسماعيل بن الحاكم الشهير بالحاكم الشهيد المروزي البلخي فقيه حنفي ومحدث قتل شهيدا سنة 344 هـ انظر الفوائد البهية 185 – 186.(1/430)
.........................................................................................
يسم" وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قالوا يا رسول الله إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا يدرى يذكرون اسم الله عليها أم لا قال: "اذكروا أنتم اسم الله وكلوا" 1. قال ولا متمسك لكم في الآية لأن الناسي قد خص منها بالنص وهو ما روي أنه عليه السلام سئل عمن ترك التسمية ناسيا فقال: "كلوه فإن تسمية الله في قلب كل امرئ مسلم" 2 فيخص العامد بالقياس عليه لشمول العلة المنصوصة إياهما فإن وجود التسمية في القلب حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان أو نخصه بحديث عائشة والبراء وأبي هريرة رضي الله عنهم.
فأجاب الشيخ عن ذلك وقال لا نسلم أن الآية لحقها خصوص لأن الناسي ليس بتارك للذكر بل هو ذاكر فإن الشرع أقام الملة في هذه الحالة مقام الذكر بخلاف القياس للعجز كما أقام الأكل ناسيا مقام الإمساك في الصوم وإذا ثبت أن الناسي ذاكر حكما لا يثبت التخصيص في الآية فبقيت على عمومها فلا يجوز تخصيصها بالقياس وخبر الواحد لما ذكرنا أن الظني لا يعارض القطع ولأن التخصيص إنما يجوز إذا بقي تحت العام ما يمكن العمل به أما الفرد الواحد في اسم الجنس أو الثلاثة في اسم الجمع وههنا لم يبق تحت النص إلا حالة العمد فلو ألحق العمد بالنسيان لم يبق النص معمولا به أصلا فيكون القياس أو خبر الواحد ح معطلا للنص وأنه لا يجوز مع أنه لا يستقيم إلحاق العامد بالناسي لأن الناسي عاجز مستحق للنظر والتخفيف والعامد جان مستحق للتغليظ والتشديد فإثبات التخفيف في حقه بإقامة الملة مقام الذكر خلفا عنه لا يدل على إثباته في حق العامد إذ الفرق بين المعذور وغير المعذور أصل في الشرع في الذبح وغير الذبح كما أن في اشتراط الذكر في الذبح يفصل بين المعذور وغيره وكما في الأكل في الصوم يفصل بين الناسي والعامد ولأن الخلف إنما يصار إليه عند العجز عن الأصل كما في التراب مع الماء, والعجز إنما تحقق في حق الناسي دون العامد ولأن العامد معرض عن التسمية فلا يجوز أن يجعل مسميا حكما مع الإعراض عنها بخلاف الناسي فإنه غير معرض.
وأما حديث عائشة فدليلها لأنها سألت عن الأكل عند وقوع الشك في التسمية وذلك دليل على أنه كان معروفا عندهم أن التسمية من شرائط الحل وإنما أفتى النبي عليه
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الضحايا حديث رقم 2829 وابن ماجه في الذبائح حديث رقم 3174.
2 أخرج نحوه الدارقطني وابن عدي حديث برقم 900.(1/431)
قلنا ولهذا قلنا إن قول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] عام لم يلحقه خصوص لأن الناسي في معنى الذاكر لقيام الملة
ـــــــ
السلام بإباحة الأكل بناء على الظاهر وهو أن المسلم لا يدع التسمية عمدا لأن السؤال كان عن الأعراب كمن اشترى لحما في سوق المسلمين يباح له التناول بناء على الظاهر وإن كان يتوهم أنه ذبيحة مجوسي وأما حديث البراء وأبي هريرة رضي الله عنهما فمحمول على حالة النسيان بدليل أنه ذكر في بعض الروايات وإن تعمد لم يحل كذا في المبسوط.
"فإن قيل" المراد من الآية إما ما ذبح لغير الله كما قال الكلبي أو ذبائح المشركين للأوثان كما قال عطاء أو الميتة والمنخنقة كما قال ابن عباس بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وأكل متروك التسمية لا يوجب الفسق فإنه يقبل شهادة من يأكله وبدليل قوله عز اسمه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} [الأنعام: 121] أي ليوسوسون: {إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] من المشركين: {لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] وإنما كانوا يجادلونهم في تحريم الميتة ويقولون إنكم تأكلون ما قتلتموه ولا تأكلون ما قتله الله لا في متروك التسمية. وبدليل قوله جل ذكره: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] وإنما يكفر الإنسان إذا أطاع الكفار في إباحة الميتة لا في متروك التسمية.
"قلنا" الآية بظاهرها وعمومها يتناول متروك التسمية عمدا وغيره والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] قلنا أكل متروك التسمية فسق أيضا حتى إن من يعتقد حرمته يفسق بأكله ولا تقبل شهادته ولكن من أكله معتقدا إباحته إنما لا يفسق لتأويله كما لا يحرم الباغي عن الميراث بقتل العادل لأنه يقتله متأولا قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] قلنا سلمنا أن هذا النص يدل على أن سبب نزول الآية مجادلتهم في الميتة إلا أن الله تعالى أجاب بجواب أعم مما سألوا كما هو دأب التنزيل وهي الحرمة على وصف يشمل الميتة وغيرها وهو ترك ذكر اسم الله تعالى لأن التحريم بوصف دليل على أن ذلك الوصف هو الموجب للحرمة كالميتة فيكون الآية بيانا أن الميتة حرمت لكونها متروكة التسمية وأن هذا الوصف مؤثر في إثبات الحرمة كما أن وصف الموت مؤثر فيه فإذا حملت على الميتة وعلى ذبائح المشركين كما ذكره الخصم من غير اعتبار هذا الوصف المذكور كان فيه إبطال الوصف المنصوص عليه وأنه لا يجوز.
قال شمس الأئمة في المبسوط كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يفصل بين(1/432)
مقام الذكر فلا يجوز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد وكذلك قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] لم يلحقه الخصوص فلا يصح تخصيصه
ـــــــ
النسيان والعمد ويحرم المتروك ناسيا أيضا وبه قال مالك وأصحاب الظواهر وكان علي وابن عباس رضي الله عنهم يفصلان بين الناسي والعامد كما هو مذهبنا فقد كانوا مجمعين على الحرمة إذا ترك التسمية عامدا وإنما يختلفون إذا تركها ناسيا وكفى بإجماعهم حجة ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله متروك التسمية عامدا لا يسمع فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز البيع فيه لا يجوز قضاؤه لأنه مخالف للإجماع والله أعلم.
قوله: "وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} " مباح الدم بردة أو زنا أو قطع طريق أو قصاص إذا التجأ إلى الحرم لا يقتل فيه عندنا ولا يؤذى ليخرج ولكن لا يطعم ولا يسقى ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل خارج الحرم لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} علق الأمن بالشرط فيثبت عند وجود الشرط لا أن يكون ثابتا قبله فكان معناه والله أعلم صار آمنا, ولا يتحقق الأمن إلا بإزالة الخوف, وغير الجاني ليس بخائف فلا يتصور ثبوت الأمن في حقه فعرفنا أن النص متناول للجاني فيثبت الأمن في حقه وقال الشافعي رحمه الله يقتل فيه لأن الجاني قد خص من الآية بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح أمر بقتل نفر منهم ابن خطل فوجدوه متعلقا بأستار الكعبة فقتلوه1. وقوله عليه السلام: "الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم" 2 وبالقياس على الطرف فإنه لو كان عليه قصاص في الطرف فدخل الحرم استوفي منه في الحرم فلما لم يبطل أدون الحقين بالحرم فأعلاهما أولى وبالقياس على ما إذا أنشأ القتل فيه فإنه يقتل فيه بالاتفاق فكذا إذا التجأ إليه وقال ومعنى الآية ومن حجه فدخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها أو من النار فأجاب الشيخ عن كلامه وقال لا يجوز تخصيص هذا العام بالآحاد والقياس لأنه لم يلحقه خصوص فبقي قطعيا فلا يعارضه الدلائل الظنية. وذكر بعض مشايخنا أن التمسك بهذه الآية في إثبات الأمن للجاني الداخل في الحرم مشكل لأن الضمير البارز في دخله راجع إلى البيت لا إلى الحرم فإن البيت هو المذكور إلا إذا وقع النزاع في الجاني إذا دخل البيت فحينئذ يصح التمسك بها
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1357 وأبو داود في جهاد حديث رقم 2685 والترمذي في الجهاد حديث رقم 1693 والإمام أحمد 3/109.
2 أخرجه البخاري في المغازي باب رقم 51 ومسلم في الحج حديث رقم 1354 والترمذي في الحج حديث رقم 809.(1/433)
بالآحاد والقياس. وقال الشافعي العام يوجب الحكم لا على اليقين وعلى هذا مسائله
ـــــــ
ويثبت الحكم فيمن دخل الحرم أيضا لعدم القائل بالفصل عند من جوز ذلك فأما إذا سلم الخصم أن دخول البيت يفيد الأمن ولكن دخول الحرم لا يفيده فالإلزام عليه بهذه الآية متعذر, واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فبعضهم قالوا لا يصير آمنا بالدخول في البيت ولكن لا يقتل في البيت كي لا يؤدي إلى تلويثه بل يؤخذ ويخرج من البيت ويقتل, وبعضهم قالوا يصير آمنا بالدخول فيه وإن لم يأمن بالدخول في الحرم.
ولا يقال ليس المراد منه عين الكعبة بدليل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] ومقام إبراهيم خارج البيت في الحرم لأنا نقول مقام إبراهيم ما قام عنده إبراهيم وتعبد, وإبراهيم كان يقوم في البيت ولا يقال أيضا إن البيت لما صار مأمنا له صار الحرم مأمنا له أيضا تبعا له لأنه من حريمه لأنا نقول حرمة التبع دون حرمة المتبوع فلا يلزم من كون البيت مأمنا للجاني أن يكون الحرم كذلك ألا ترى أنه لا يلزم من كون البيت قبلة للصلاة كون الحرم كذلك. ومن الطواف حول البيت وجوبه حول الحرم, ومن وجوب تبرئة البيت عن النجاسات وجوب تبرئة الحرم عنها فكذلك هذا كذا في طريقة الصدر الحجاج قطب الدين رحمه الله ولكن الصحيح هو الطريق الأول فإن صفة "الأمن" تعم البيت والحرم قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] وقال إخبارا عن إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] ولهذا ثبت الأمن للصيد بدخول الحرم فلا معنى للفصل بين البيت والحرم ولما أخذ الحرم حكم البيت في الأمن صار البيت والحرم بمنزلة شيء واحد فيما يمكن أن يجعل كذلك فجاز أن يكون الضمير الراجع إلى البيت متناولا للحرم ولهذا قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97] ولم يقل في حرمه آيات مع أن مقام إبراهيم خارج البيت.
وما قالوا من أن المراد من مقام إبراهيم هو البيت باعتبار عبادته فيه فاسد لأن أحدا من أهل التفسير والتأويل لم يفسره بذلك. ولأنه تعالى قال: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] فسر الآيات بمقام إبراهيم إذ هو عطف بيان لآيات وليس في كون البيت متعبدا له آية بل هي ظهور أثر قدمه في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء لإبراهيم خاصة, وحفظه مع كثرة الأعداء من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألف سنة ألا ترى أنه قيل فيه آيات ولو كان المراد ما قالوا لقيل هو آية بينة مقام إبراهيم فثبت أن الطريق الأول صحيح ولا يلزم على ما(1/434)
وقال بعض الفقهاء الوقف واجب في كل عام حتى يقوم الدليل, وقال بعضهم بل يثبت به أخص الخصوص, أما من قال بالوقف فقد احتج بأن اللفظ
ـــــــ
ذكرنا فصل الطرف لأن الأطراف في حكم الأموال على ما عرف والأمن ثبت للأنفس فإن قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ} [آل عمران: 97] يتناول الأنفس لا الأطراف إلا أن الأمان يثبت فيها تبعا للنفس حتى لم يحل الجناية على أطراف المرتد والكافر في الحرم فإذا وجب القصاص والقطع بالجناية أو السرقة لا يمنع استيفاءه إلا من الذي ثبت تبعا بخلاف طرف الصيد فإن طرفه بمنزلة ذاته لأن الصيد لا يبقى متوحشا بعد فوات طرفه فكان إتلاف طرفه إخراجا له عن الصيدية ولأن من ثبت فيه بنص مقصود وهو قوله عليه السلام: "لا ينفر صيدها" 1 الحديث وكذا لا يلزم من إنشاء القتل فيه فإنه يقتل فيه لأن النص تناول الداخل في الحرم وبالدخول يثبت الأمان ولم يوجد في حقه ولأن الملتجئ إلى الحرم معظم حرمته بالالتجاء إليه فاستحق الأمن, والمنشئ هاتك لحرمته فلا يستحق الأمن. وأما قتل ابن خطل فقد كان في ساعة أحلت مكة للنبي صلى الله عليه وسلم كما ورد به الأثر أما الحديث الآخر فالصحيح أنه لا يعيذ عاصيا والزيادة ليست بمشهورة ولئن ثبتت فيحمل على أنه لا يسقط العقوبة والله أعلم.
قوله: "قال الشافعي العام يوجب الحكم لا على اليقين" يعني موجب العام عنده ظني بمنزلة القياس وخبر الواحد ولهذا جوز تخصيص العام ابتداء بهما وجعل الخاص أولى بالمصير إليه من العام متقدما كان أو متأخرا كذا ذكر في كتب أصحاب الشافعي على هذا دلت مسائله فإنه رجح خبر العرايا على عموم قوله عليه السلام: "التمر بالتمر كيل بكيل" الحديث كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
وبيانه أن الشافعي رحمه الله أجاز العرية وهي أن يبتاع الرجل ما على رءوس النخل خرصا بمثل ما يعود إليه بعد الجفاف تمرا فيما دون خمسة أوسق لما روي أنه عليه السلام رخص في العرايا سئل زيد بن ثابت رضي الله عنه ما عراياكم هذه قال إن محاويج الأنصار قالوا يا رسول الله إن الرطب ليأتينا وليس بأيدينا نقد نبتاعه وعندنا فضول قوتنا من التمر فرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبتاع بخرصها تمرا فنأكل مع الناس الرطب2 فرجح خبر الرخصة لخصوصه على الخبر العام الذي ذكرناه.
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الحج 3/18 ومسلم في الحج حديث رقم 1353 وأبو داود في المناسك حديث رقم 2917 وابن ماجه حديث رقم 3109 والإمام أحمد في المسند 1/253.
2 أخرجه البخاري في البيوع 3/98 مسلم في البيوع حديث رقم 1539 وأبو داود في البيوع حديث رقم 3362 والترمذي في البيوع حديث رقم 1300 و1302 وابن ماجه حديث رقم 2268 و2269.(1/435)
العام مجمل فيما أريد به لاختلاف أعداد الجمع, ألا ترى أنه يؤكد بما يفسره فيقال جاءني القوم أجمعون وكلهم, فلما استقام تفسيره بما يوجب الإحاطة علم أنه كان محتملا, ألا ترى أن الخاص لا يؤكد بمثله يقال جاءني زيد نفسه
ـــــــ
وعندنا لا يجوز ذلك البيع لأن ما على رءوس النخل تمر فلا يجوز بيعه بالتمر إلا كيلا بكيل عملا بعموم ذلك الحديث فرجحناه بعمومه ولكن بكونه متفقا على قبوله على الخاص المختلف في قبوله, وقلنا العرية التي رخص فيها هي العطية وهي أن يهب الرجل ثمرة بستانه لرجل ثم يشق على المعري دخوله في بستانه لمكان أهله فيه ولا يرضى من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة فيعطيه مكان ذلك تمرا محدودا بالخرص ليندفع ضرره عن نفسه ولا يكون مخلفا للوعد وهذا عندنا جائز لأن الموهوب لم يصر ملكا للموهوب له ما دام متصلا بملك الواهب فما يعطيه من التمر لا يكون عوضا عنه بل يكون هبة مبتدأة وإنما سمي ذلك تبعا مجازا لأنه في الصورة عوض يعطيه للتحرز عن خلف الوعد, واتفق أن ذلك كان فيما دون خمسة أوسق فظن الراوي أن الرخصة مقصورة عليه فنقل كما وقع عنده.
وكذلك رجح الشافعي قوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" على عموم قوله عليه السلام: "ما سقته السماء ففيه العشر" كما رجح أبو يوسف ومحمد, إلا أنه رجح نظرا إلى خصوصه وعموم الآخر فإن الخاص عنده راجح على العام بكل حال, وهما رجحاه باعتبار أن التاريخ لما لم يعرف بينهما جعلا كأنهما وردا معا فجعل الخاص مخصصا للعام حتى لو علم كون العام متأخرا كان ناسخا للخاص عندهما خلافا له.
قوله وقال بعض الفقهاء الوقف واجب في كل عام حتى يقوم الدليل" يعني على العموم أو الخصوص ويسمون الواقفية وقد تحزبوا فرقا.
فمنهم من قال ليس في اللغة صيغة مبينة للعموم خاصة لا تكون مشتركة بينه وبين غيره, والألفاظ التي ادعاها أرباب العموم أنها عامة لا تفيد عموما ولا خصوصا بل هي مشتركة بينهما أو مجملة فيتوقف في حق العمل والاعتقاد جميعا إلا أن يقوم الدليل على المراد كما يتوقف في المشترك أو كما يتوقف في المجمل. والخبر والأمر والنهي في ذلك سواء وهو مذهب عامة الأشعرية وعامة المرجئة وإليه مال أبو سعيد البردعي1 من أصحابنا ومنهم من قال يثبت به أخص الخصوص وهو الواحد في اسم الجنس والثلاثة
ـــــــ
1 أبو سعيد أحمد بن الحسين الأشروسني البردعي فقيه حنفي قتل سنة 317 هـ الفوائد البهية 19 -21.(1/436)
لا جميعه لأنه يحتمل المجاز دون البيان فلا يؤكد بالجميع وقد ذكر الجمع
ـــــــ
في صيغة الجمع ويتوقف فيما وراء ذلك إلى أن يقوم الدليل ويسمون أصحاب الخصوص وبه أخذ أبو عبد الله الثلجي1 من أصحابنا وأبو علي الجبائي من المعتزلة.
ومنهم من توقف في حق الكل في حق الاعتقاد دون العمل فقالوا يجب أن يعتقد على الإبهام أن ما أراد الله تعالى من العموم والخصوص فهو حق ولكنه يوجب العمل وهو مذهب مشايخ سمرقند رئيسهم الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمهم الله.
ومنهم من فرق بين الخبر وبين الأمر والنهي فتوقف في الخبر وأجرى الأمر والنهي على العموم وهذا قول حكاه أبو الطيب بن شهاب2 عن أبي الحسن الكرخي ومنهم من توقف في الأمر والنهي وأجرى الأخبار على ظواهرها في العموم فعند الفريق الأول لا يصح التمسك بعام أصلا وكذا عند الفريق الثاني فيما وراء أخص الخصوص وعند الفريق الثالث يصح التمسك بظواهر العمومات في الأحكام لا في الاعتقادات لأن المقصود منها العمل وهي توجب العمل وكذا إذا قال علي دراهم لفلان فعند الفريق الأول والرابع لا يلزمه شيء إلا بعد البيان كما لو قال علي شيء وعند الفريق الثاني يلزمه ثلاثة دراهم لأنها أخص الخصوص وكذا عند الفريق الخامس وأرباب العموم أيضا, لأن العمل بالعموم ههنا متعذر فيصار إلى أخص الخصوص.
ثم لما كان وجوب التوقف عند الفريق الأول للإجمال أو للاشتراك أشار الشيخ في بيان شبهتهم إلى المعنيين. فأشار إلى الإجمال بقوله اللفظ مجمل فيما أريد به أي في معرفة المراد به حقيقة لأن الاستغراق ليس من موجبات العموم وشرائطه عندكم على ما مر ذكره في أول الكتاب والدليل عليه يستقيم أن يقرن به على وجه البيان والتفسير ما يوجب عموم الصيغة وإحاطتها للجميع فيقال جاءني القوم كلهم وأجمعون, ولو كان العموم والإحاطة موجب اللفظ لم يستقم تفسيره بما هو عين موجبه كالخاص لا يستقيم أن يقرن به ما هو بيان موجبه بأن يقال جاءني زيد كله أو جميعه ولما استقام ذلك عرفنا أنه غير موجب للإحاطة بنفسه وإذا كان كذلك كان البعض مرادا منه لا محالة وهو غير معلوم لأن أعداد الجمع مختلفة وليس بعضها أولى من البعض لاستواء الكل في معنى
ـــــــ
1 هو أبو عبد الله محمد بن شجاع بن الثلجي فقيه حنفي توفي سنة 267 هـ انظر الفوائد البهية 171 – 172.
2 هو إبراهيم بن محمد بن شهاب البغدادي أبو الطيب فقيه متكلم توفي ينة 350 هـ انظر معجم المؤلفين 1/97.(1/437)
وأريد به البعض مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] وإنما هو واحد فلذلك وجب الوقف وجه القول الآخر أن الأخص وهو الثلاثة من الجماعة والواحد من الجنس متيقن فوجب القول به.
ـــــــ
الجمعية فلا يمكن معرفته بالتأمل في صيغة اللفظ فيكون بمنزلة المجمل فيجب التوقف فيه وحاصل الفرق أن قوله جاءني زيد موضوعه الأصلي معلوم لكنه يحتمل غير ما وضع له أيضا بطريق المجاز وهو مجيء الخبر أو الكتاب, أما الموضوع الأصلي في العام فالجمع وذلك يوجد في الكل فيما دونه من الأعداد إلى الثلاثة ومع ذلك يحتمل غير ما وضع له أيضا وهو الفرد بطريق المجاز ولهذا يؤكد بما يقطع الاحتمالين أي احتمال المجاز واحتمال البعض فيقال جاءني القوم أنفسهم كلهم أو أجمعون ولا يقال جاءني زيد نفسه كله أو جميعه, وإذا كان الاحتمال والاشتباه فيه موضوعه الأصلي كان بمنزلة المجمل بخلاف الخاص.
وأشار إلى الاشتراك بقوله: "وقد ذكر الجمع" أي صيغة الجمع: "وأريد به البعض" أي البعض الخاص "مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} " كان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أن يوافيه العام المقبل ببدر الصغرى فلما دنا الموعد رعب وندم وجعل لنعيم بن مسعود الأشجعي عشرا من الإبل على أن يخوف المؤمنين فذلك قوله جل ذكره الذين يعني المؤمنين: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} أي نعيم بن مسعود وهو معنى قول الشيخ: "وإنما هو الواحد" إن الناس أي أهل مكة قد جمعوا لكم أي الجيش لقتالكم فاخشوهم ولا تأتوهم فزادهم ذلك القول إيمانا أي ثبوتا في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم ولما استعملت هذه الصيغ في الخصوص استعمالا شائعا كما استعملت في العموم بل استعمالها في الخصوص أكثر فقل ما وجد في الكتاب والسنة والكلمات المطلقة في المحاورات من العمومات ما لا يتطرق إليه تخصيص قضينا بأنها مشتركة إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة كما قضينا باشتراك اسم العين لما رأينا العرب يستعملون لفظ العين في مسمياته استعمالا واحدا متشابها فمن ادعى أنه حقيقة في العموم مجاز في الخصوص فهو متحكم كمن ادعى على العكس.
وإذا ثبت الاشتراك وجب التوقف لا محالة حتى يتبين المراد. والفرق بين الوجهين أن في الوجه الأول لا يمكن الوقوف على المراد إلا بالبيان وفي الوجه الثاني قد توقف عليه بالتأمل وبالبيان كما في المشترك.
قوله: "وجه القول الآخر" بفتح الخاء وكسرها وهو القول بأخص الخصوص أنه لا(1/438)
ووجه قولنا والشافعي إنه موجب لأن العموم معنى مقصود بين الناس شرعا وعرفا
ـــــــ
وجه إلى القول بالتوقف لأنه يؤدي إلى إهمال اللفظ الموضوع مع إمكان العمل به فلا بد من أن يثبت به شيء من محتملاته ثم تناول اللفظ للأخص وهو الثلاثة من الجماعة والواحد من الجنس متيقن لثبوته على التقديرين أعني تقدير إرادة العموم وتقدير إرادة الخصوص وتناوله للعموم محتمل فالعمل بالمتيقن وجعل اللفظ حقيقة فيه أولى من العكس, ووجه قول مشايخ سمرقند رحمهم الله أن صيغ العموم موضوعة له في أصل الوضع ولكن في عرف الاستعمال صارت مشتركة وورود هذه النصوص كان في الوقت الذي صارت مشتركة فلو اعتقدنا فيها العموم لا نأمن عن الوقوع في الخطأ لاحتمال أن يكون المراد منها الخصوص إذ أكثر العمومات غير مستوعبة, ولو قلنا بالتوقف في حق العمل أو بأخص الخصوص كما قالوا لا نأمن من أن يؤدي ذلك إلى ترك واجب أو ارتكاب محظور إذ احتمال إرادة العموم قائم أيضا فقلنا بالتوقف في حق الاعتقاد وبالعموم في حق العمل احتياطا ووجه قول من توقف في الخبر دون الأمر والنهي أن الإجماع منعقد على التكليف بأوامر ونواه عامة لجميع المكلفين فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم لما كان التكليف عاما, بخلاف الخبر إذ ليس فيه تكليف فوجب التوقف فيه بالدليل الذي قاله الفريق الأول.
ووجه قول من عكس الأمر أن احتمال الوجوب والندب والتحريم والتنزيه في حقيقة الأمر والنهي وهي الطلب والمنع قائم فيتوقف فيهما بخلاف الخبر لما نذكر من دليل أرباب العموم.
قوله: "ووجه قولنا والشافعي إنه موجب" إلى آخره واعلم أن في دلائل أرباب العموم كثرة ولكن الشيخ أشار إلى اثنين منها إلى الدليل المعقول وإلى إجماع الصحابة فقوله: "العموم معنى مقصود إلى قوله عبيدي أحرار" إشارة إلى المعقول قوله: "والاحتجاج إلى آخره" إشارة إلى الإجماع أما بيان الأول فهو أن الأسماء وضعت دلالات على المعاني المقصودة وقد مر تحقيقه في باب الأمر ثم معنى العموم مقصود بين العقلاء كمعنى الخصوص والأمر والنهي فلا بد من أن يكون له لفظ موضوع مختص به كسائر المقاصد, إذ الألفاظ لا تقصر عن المعاني أعني المعاني التي يقصد بها تفهيم الغير وهذا لأن المتكلم باللفظ الخاص له في ذلك مراد لا يحصل باللفظ العام وهو تخصيص الفرد بشيء فكان لتحصيل مراده لفظ موضوع وهو الخاص فكذا المتكلم باللفظ العام له مراد في العموم لا يحصل ذلك باللفظ الخاص ولا يتيسر عليه التنصيص على كل فرد مما هو مراد باللفظ العام فلا بد من أن يكون لمراده لفظ موضوع لغة أيضا.(1/439)
فلم يكن له بد من أن يكون لفظه وضع له لأن الألفاظ لا يقصر عن المعاني أبدا ألا ترى أن من أراد أن يعتق عبيده كان السبيل فيه أن يعمهم فيقول عبيدي أحرار والاحتجاج بالعموم من السلف متوارث وقد احتج ابن مسعود رضي
ـــــــ
قوله: "ألا ترى" متصل بقوله عرفا يعني الدليل على أنه مقصود بين الناس عرفا أن: "من أراد أن يعتق جميع عبيده جملة يقول عبيدي أحرار" ولا سبيل له إلى تحصيل هذا المقصود إلا بالتعميم فمن جعل موجبه التوقف فإنه يسد على المتكلم باب تحصيل مقصوده في العموم باستعمال صيغته إليه أشار شمس الأئمة رحمه الله.
واعترضوا على هذا الدليل فقالوا هذا قياس أو استدلال واللغة ثبتت توقيفا ونقلا لا قياسا وإن سلم أن ذلك واجب في الحكمة لا نسلم عصمة واضعي اللغة حتى لا يخالفوا الحكمة في وضعها ألا ترى أن العرب قد عقلت الماضي والمستقبل والحال ثم لم تضع للحال لفظا خاصا حتى لزم استعمال المستقبل فيها وكما عقلت الألوان عقلت الروائح ثم لم تضع للروائح أسامي حتى لزم تعريفها بالإضافة فيقال ريح المسك وريح العود ولا يقال لون الدم ولون الزعفران بل يقال أحمر أو أصفر. ولئن سلمنا أنهم وضعوا للعموم لفظا لا نسلم أنهم وضعوا فيه لفظا خاصا يدل عليه فقط فإن العين موضوع للباصرة ولكن بصفة الاشتراك بين أشياء لأنهم استعملوه في غير الباصرة فكذلك صيغ العموم مشتركة بين العموم والخصوص.
وأما بيان الثاني وهو العمدة في الباب فهو أن الاحتجاج بالعموم أي بالعام عن السلف وهم الصحابة ومن بعدهم من أئمة الدين متوارث أي ثابت فقد اختلف علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما في المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فقال علي رضي الله عنه إنها تعتد بأبعد الأجلين لأن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ} [البقرة: 234] أي وأزواج الذين: {يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] أي يستوفى أزواجهم: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] أي يعتددن هذه المدة وقيل عشرا ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها يقتضي أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر وقوله عز اسمه: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] أي ذوات الحمل من النساء: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أي عدتهن وضع حملهن يقتضي أنها تعتد بوضع الحمل والتاريخ غير معلوم فوجب القول بأبعد الأجلين احتياطا.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إنها تعتد بوضع الحمل لا غير لأن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] متأخر في النزول عن قوله عز اسمه: {وَالَّذِينَ(1/440)
الله عنه في الحمل أنه ينسخ سائر وجوه العدد بقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقال إنه آخرهما نزولا وصار ناسخا للخاص الذي في سورة البقرة فدل على ما قلنا إنه موجب مثل الخاص واحتج علي
ـــــــ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] الآية حتى قال من شاء بأهلته عند الحجر الأسود إن سورة النساء القصرى يعني سورة الطلاق نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة وأنه يتناول المتوفى عنها زوجها كما يتناول غيرها فصار بعمومه ناسخا لما تقدمه وهو قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فلهذا أوجب عليها الاعتداد بوضع الحمل لا غير.
قوله: "فصار ناسخا" أي صار قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] ناسخا للخاص الذي في سورة البقرة وهو قوله عز اسمه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] واعلم أن كل واحد من النصين بالنسبة إلى الآخر عام من وجه خاص من وجه فقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} عام من حيث إنه يتناول المتوفى عنها زوجها وغيرها خاص من حيث إنه لا يتناول إلا أولات الأحمال. وقوله عز اسمه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] خاص بالنسبة إلى الأول من حيث إنه لا يتناول إلا المتوفى عنها زوجها عام من حيث إنه يتناول المتوفى عنها زوجها الحامل وغير الحامل فنسخ قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} بعمومه حكم هذا النص الخاص النسبي في حق الحامل لكونه متأخرا عنه فهو معنى قوله فصار ناسخا للخاص.
فثبت بما ذكرنا أن كل واحد من القرمين الإمامين عمل بالعموم كما هو موجب الصيغة إلا أن أحدهما جمع بين النصين لعدم علمه بالتاريخ والآخر عمل بالمتأخر لمعرفته به.
وكذلك اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما في الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين قال علي رضي الله عنه يحرم ذلك لأن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] يوجب تحريمه لأن الجمع بين الأختين لما حرم نكاحا وهو سبب مفض إلى الوطء فلأن يحرم الجمع بينهما وطئا بملك اليمين كان أولى وقوله جل جلاله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] يوجب حله فكان الأخذ بما يحرم أولى احتياطا ووافقه عثمان رضي الله عنه في أن النصين يوجبان التحريم والتحليل إلا أنه رجح الموجب للحل باعتبار الأصل فعمل كل واحد منهما بالعموم. ولا يقال المبيح عبارة والمحرم دلالة فلا يتعارضان لأنا نقول قد خص من المبيح الأمة المجوسية والأخت من الرضاع وأخت المنكوحة وغيرهن فكان أدنى من القياس فيعارضه الدلالة بل(1/441)
رضي الله عنه في تحريم الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين فقال أحلتهما آية وهو قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] وحرمتهما آية وهو قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]
ـــــــ
تترجح عليه على أنا نقول الحرمة ثابتة بالعبارة أيضا فإن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} يتناول الجمع من حيث النكاح والوطء جميعا.
وكذلك قد اشتهر الاحتجاج بالعمومات عن عامة الصحابة رضي الله عنهم في الوقائع من غير نكير من أحد فإنهم عملوا بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] فاستدلوا به على إرث فاطمة رضي الله عنها حتى نقل أبو بكر رضي الله عنه "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وأجروا قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} [الاسراء: 33] {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] و {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" "لا تنكح المرأة على عمتها"1 "من ألقى السلاح فهو آمن"2 "لا يرث القاتل"3 "لا يقتل والد بولده" 4 إلى غير ذلك مما لا يحصى على العموم.
ويدل عليه أنه لما نزل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] قال ابن أم مكتوم وكان ضريرا يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فنزل قوله عز ذكره: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] فعقل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: 98]. قال بعض الكفار أنا أخصم لكم محمدا فجاء وقال أليس عبد الملائكة وعبد المسيح فيجب أن يكونوا من حصب جهنم فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الانبياء: 101] الآية تنبيها على التخصيص ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم تعلقه بالعموم وما قالوا له لما استدل
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2066.
2 أخرجه مسلم في الجهاد والسير حديث رقم 1780.
3 أخرجه الترمذي في حديث رقم 2109 وابن ماجه في الديات حديث رقم 2645 وأبو داود حديث رقم 4564.
4 أخرجه الترمذي في الديات حديث رقم 1401 والإمام أحمد في المسند 3/434 وابن ماجه في الديات حديث رقم 2661.(1/442)
............................................................................................
استدللت بلفظ مشترك أو مجمل ولما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قالت الصحابة فأينا لم يظلم نفسه فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد به ظلم النفاق والكفر1 واحتج عمر على أبي بكر رضي الله عنهما بقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" فدفعه أبو بكر بقوله عليه السلام: "إلا بحقها" ولم ينكر عليه التعلق بالعموم هذا وأمثاله لا تنحصر حكايته فثبت بهذا أن القول بالعموم مذهب السلف ومن بعدهم قبل ظهور الواقفية متوارث ذلك عنهم بالنقل المستفيض وأنهم كانوا يجرون ألفاظ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل الدليل على تخصيصه فإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم فكان القول بالتوقف أو بأخص الخصوص مخالفا لإجماع السلف فوجب رده.
قال الإمام الغزالي رحمه الله والطريق المختار في إثبات العموم عندنا أن الحاجة إلى صيغة تدل على معنى العموم لا يختص بلغة العرب بل هي ثابتة في جميع اللغات فيبعد أن يغفل عنها جميع أصناف الخلق فلا يضعوها مع الحاجة إليها ويدل على وضعها توجه الاعتراض على من عصى الأمر العام وسقوط الاعتراض عمن أطاع ولزوم النقض والخلف على الخبر العام. وجواز بناء الاستحلال على المحللات العامة فهذه أربعة أمور تدل على الغرض.
وبيانها أن السيد إذا قال لعبده من دخل اليوم داري فأعطه رغيفا أو درهما فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه وأن يعاتبه في إعطائه واحدا من الداخلين ويقول لم أعطيت هذا من جملتهم وهو قصير وأنا أردت الطوال أو هو أسود وأنا أردت البيض وللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال والبيض بل بإعطاء من دخل وهذا دخل فالعقلاء إذا سمعوا في اللغات كلها رأوا اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها وقالوا للسيد أنت أمرته بإعطاء من دخل وهذا قد دخل ولو أنه أعطى الجميع إلا واحدا فعاتبه السيد وقال لم لم تعطه فقال العبد لأن هذا طويل أو أبيض وكان لفظك عاما فقلت لعلك أردت القصار أو السود استوجب التأديب بهذا الكلام وقيل له مالك والنظر إلى الطول واللون وقد أمرتك بإعطاء الداخل فهذا معنى سقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي.
ـــــــ
1 أخرج البخاري في الإيمان حديث رقم 32 ومسلم في الإيمان حديث رقم 124 والترمذي في التفسير حديث رقم 3067.(1/443)
فصار التحريم أولى وذلك عام كله ثم قال الشافعي كل عام يحتمل إرادة
ـــــــ
وأما النقض على الخبر فهو ما إذا قال ما رأيت اليوم أحدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا منقوضا وكذبا فإن قال أردت أحدا غير تلك الجماعة كان مستنكرا وهذه إحدى صيغ العموم فإن النكرة في النفي تعم عند القائلين بالعموم ولذلك قال تعالى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً} [الأنعام: 91] إنما أورد هذا نقضا على كلامهم فإن لم يكن عاما فلم ورد النقض عليهم فإنهم أرادوا غير موسى فلم يلزم دخول موسى تحت اسم البشر.
وأما الاستحلال بالعموم فإذا قال الرجل أعتقت عبيدي أو إمائي ومات عقيبه جاز لمن سمعه أن يزوج من أي عبيده شاء أو يتزوج بأي جواريه بغير رضاء الورثة وإذا قال العبيد الذين هم في يدي ملك فلان كان ذلك إقرارا محكوما به في الجميع وبناء أمثال هذه الأحكام على العمومات في سائر اللغات لا ينحصر ولا خلاف أنه لو قال أنفق على عبدي غانم أو على زوجتي زينب وله عبدان اسمهما غانم وزوجتان اسمهما زينب يجب المراجعة والاستفهام لأنه أتى باسم مشترك غير مفهوم فلو كان لفظ العموم مشتركا فيما وراء أقل الجمع ينبغي أن يجب التوقف على العبد إذا أعطى ثلاثة ممن دخل الدار وينبغي أن يراجع في الباقي وليس كذلك عند العقلاء كلهم في اللغات كلها.
"فإن قيل" إن سلمنا لكم ما ذكرتموه فإنما نسلم بسبب القرائن فإذا عري عن القرائن فلا نسلم وفي قوله أنفق على عبيدي وجواري في غيبتي إنما كان مطيعا بالإنفاق على الجميع بقرينة الحاجة إلى النفقة وفي قوله أعط من دخل داري لقرينة إكرام الزائر.
"قلنا" فلنقدر أضدادها فإنه لو قال لا تنفق على عبيدي وزوجاتي كان عاصيا بالإنفاق مطيعا بالتصنيع ولو قال اضربهم لم يكن له أن يقتصر على ثلاثة بل إذا ضربهم جميعا عد مطيعا ولو قال من دخل داري فخذ منه شيئا بقي العموم.
قوله: "وذلك عام كله" إشارة إلى ما احتج ابن مسعود وعلي رضي الله عنهما من الآيات فعموم الأوليين ظاهر وكذا عموم الثالثة وهي قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] إذ معناه وحرم عليكم الجمع بين الأختين والجمع اسم جنس محلى باللام فيتناول الجمع نكاحا ووطئا.
قوله: "ثم قال الشافعي" إلى آخره اختلف أرباب العموم في موجب العام فعند الجمهور من الفقهاء والمتكلمين منهم موجبه ليس بقطعي وهو مذهب الشافعي وإليه ذهب الشيخ أبو منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند وعند عامة مشايخنا العراقيين(1/444)
الخصوص من المتكلم فتمكنت فيه الشبهة فذهب اليقين, ولنا أن الصيغة متى وضعت لمعنى كان ذلك المعنى واجبا به حتى يقوم الدليل على خلافه,
ـــــــ
منهم أبو الحسن الكرخي وأبو بكر الجصاص موجبه قطعي كموجب الخاص وتابعهم في ذلك القاضي الإمام أبو زيد وعامة المتأخرين منهم الشيخ المصنف رحمهم الله وثمرة الاختلاف تظهر في وجوب الاعتقاد وجواز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد ابتداء فعند الفريق الأول لا يجب أن يعتقد العموم فيه ويجوز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد, وعند الفريق الثاني على العكس.
تمسك من قال بأنه ليس بقطعي بأن اليقين والقطع لا يثبت مع الاحتمال لأنه عبارة عن قطع الاحتمال ثم احتمال إرادة الخصوص في العام قائم لأنه لا يرد إلا على احتمال الخصوص في نفسه إلا أن يثبت بالدليل أنه غير محتمل للخصوص كقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284]. وإذا كان الاحتمال ثابتا في نفسه لا يمكن القول بثبوت موجبه قطعا مع الاحتمال كالثابت بالقياس وخبر الواحد وهذا بخلاف الخاص فإن احتمال إرادة المجاز والنسخ قائم فيه ومع ذلك يثبت موجبه قطعا عند الشافعي لأن احتمال المجاز ثابت في العموم أيضا مع احتمال التخصيص فكان الاحتمال فيه أكثر وأقوى فيجوز أن يؤثر في رفع القطع واليقين وحقيقة الفرق أن احتمال التخصيص لا يخرج العام عن حقيقته لأن العموم باق بعد التخصيص إلى الثلاث لما نذكر أن العام بعد التخصيص لا يصير مجازا فيما وراءه, وإذا كان كذلك كان احتمال إرادة التخصيص بمنزلة إرادة مسمى آخر لهذه الصيغة فيجوز أن يعتبر في رفع اليقين لأنه ليس على خلاف الأصل كالمشترك إذا ترجح بعض وجوهه بدليل ظاهر كان احتمال إرادة المسمى الآخر معتبرا في رفع القطع واليقين.
فأما احتمال إرادة المجاز في الخاص فيخرجه عن حقيقته وأصله فكان على خلاف الأصل فلا يعتبر من غير دليل وأما احتمال النسخ فذكر صدر الإسلام في أصوله أن الخاص بنفسه لا يوجب شيئا ما لم يتفحص ولم يتأمل فإذا تفحص عنه ولم يوقف على النسخ فقد زال الاحتمال فإنه لا يتصور في زماننا ابتداء النسخ حتى أن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان الخاص يوجب العمل دون العلم لتوهم الانتساخ فأما إرادة الخصوص فموهوم في كل زمان, وكل عام محتمل للخصوص في كل زمان فيوجب العمل دون العلم.
ويدل على صحة رواية الصحابة والسلف أخبار الآحاد الخاصة في معارضة عموم(1/445)
وإرادة الباطن لا تصلح دليلا لأنا لم نكلف دليلا درك الغيب فلا يبقى له عبرة
ـــــــ
الكتاب وتخصيص العموم بها وبالقياس فكان ذلك اتفاقا منهم أنه يوجب العمل دون العلم. وتمسك من قال بأن موجبه قطعي بأن اللفظ متى وضع لمعنى كان ذلك المعنى عند إطلاقه واجبا أي لازما وثابتا بذلك اللفظ حتى يقوم الدليل على خلافه, ثم صيغة العموم موضوعة له وحقيقة فيه فكان معنى العموم واجبا وثابتا بها قطعا حتى يقوم الدليل على خلافه كما في الخاص فإن مسماه ثابت به قطعا لكونه موضوعا له حتى يقوم الدليل على صرفه إلى المجاز.
فأما الاحتمال الذي ذكره الخصم فلا عبرة به أصلا لأنه إرادة في باطن المكلف وهي غيب عنا وليس في وسعنا الوقوف عليها فلا يعتبر إلا أن يظهر دليل فقبل ظهوره يكون موجبه ثابتا قطعا بمنزلة الخاص فإن إرادة المجاز لما كانت غيبا لا يمكن الوقوف عليها من غير دليل كان موجبه ثابتا قطعا قبل ظهور الدليل يوضحه أن ورود صيغة العموم على إرادة الخصوص من غير قرينة تدل عليه يوهم التلبيس على السامع ويؤدي إلى تكليف المحال تعالى الله عن ذلك فلا يجوز ورود العام على إرادة الخصوص ولا ورود الخاص على إرادة المجاز من غير دليل يفهم السامع مراد الخطاب.
قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله الخصم مال إلى أن الإرادة مغيرة حكم الحقيقة لا محالة واحتمال الإرادة ثابت حال التكلم فيثبت احتمال التغير به إلا أن الله تعالى لما لم يكلفنا ما ليس في الوسع سقط اعتبار الإرادة في حق العمل فلزمنا العمل بالعموم الظاهر دون ما لا نصل إليه من الإرادة الباطنة وبقي احتمال الإرادة معتبرا في حق العلم فلا نعلم قطعا وأنه كلام حسن ولكن يجب أن نقول كذلك في حقيقة الخاص مع مجازه. والجواب عنه أن الله تعالى لما لم يكلفنا ما ليس في وسعنا وليس في وسعنا الوقوف على الباطن إلا بدلالة ظاهرة لم يجعل الباطن حجة أصلا في حقنا وسقط اعتباره في العمل والعلم جميعا وجعل الحجة ما يظهر به الباطن وإن كان سببا لثبوت الحجة في الحقيقة إقامة للسبب الظاهر مقام ما هو حجة باطنة تيسيرا على العباد كإقامة البلوغ مقام اعتدال العقل وكإقامة دليل المحبة والبغض وهو الإخبار مقام حقيقتهما حتى سقط اعتبار الاعتدال فلم يخاطب الصبي وإن اعتدل عقله وخوطب البالغ وإن لم يعتدل عقله وكذا سقط اعتبار حقيقة المحبة والبغض وصار كأنه قال إن أخبرتني أنك تحبيني أو تبغضيني فأنت طالق فتطلق بالإخبار صدقا أو كذبا فكذا هذا.
قال المصنف رحمه الله في بعض تصانيفه ولما سقط اعتبار الإرادة في حق العمل بالاتفاق يسقط في حق العلم بالطريق الأولى لأن العلم عمل القلب والقلب أصل والعمل(1/446)
أصلا والجواب عما احتج به طائفة أهل المقالة الأولى أنا ندعي أنه موجب لما وضع له لا أنه محكم لما وضع له فكان محتملا أن يراد به بعضه فيصلح توكيده بما يحسم باب الاحتمال ليصير محكما كالخاص يحتمل المجاز فتوكيده بما يقطعه لا بما يفسره فيقال جاءني زيد نفسه لأنه قد يحتمل غير المجيء مجازا.
ـــــــ
يقوم بالجوارح وإنها تابعة للقلب فلما سقط في حق التبع ففي حق الأصل أولى ولكن يرد عليه خبر الواحد والقياس فإن اعتبار الاحتمال فيهما ساقط في حق العمل ثم لم يسقط في حق العلم بالاتفاق فكذا ههنا.
قوله: "والجواب عما احتجت به الطائفة الأولى" يعني الواقفية "أنا ندعي أنه" أي العام "موجب لما وضع له" وهو العموم قطعا عند عدم دليل الخصوص "لا أنه محكم لما وضع له" أي فيما وضع له بحيث لم يبق صلاحيته لإرادة الخصوص "فكان محتملا أن يراد به بعضه" أي صالحا في ذاته لذلك وقد حققنا هذا في "أول باب أحكام الخاص".
بما يحسم أي يقطع بالكلية. "باب الاحتمال" أي صلاحيته الآن يراد به بعضه "ليصير محكما" أي غير قابل لمعنى آخر يعني إنما صلح توكيده مع أنه بدون التوكيد يوجب العموم والإحاطة ليصير محكما لا لما ظنه الخصم أنه مجمل أو مشترك فيصير بهذا التوكيد مفسرا ويكون هذا التوكيد إزالة لخفائه وتعيينا لبعض مسمياته "كالخاص يحتمل المجاز فتوكيده بما" يقطع احتمال المجاز "لا بما يفسره" فيقال جاءني زيد نفسه "لأنه قد يحتمل غير المجيء" أي غير مجيء زيد بل يحتمل مجيء خبره وكتابه وإنما لم يتعرض لجواب أصحاب الخصوص لأن فيما ذكر جوابا عما احتجوا به أيضا وإنما سوينا في موجب العام بين الخبر والأمر والنهي لأن ذلك حكم صيغة العموم وهي موجودة في الكل فلا وجه إلى الفرق بين الخبر وغيره وقول الفارق الإجماع منعقد على التكاليف بأوامر ونواه عامة قلنا فكذا الإجماع منعقد على التكليف بأخبار عامة لجميع المكلفين على معنى كونهم مكلفين بمعرفتها كقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] وكذلك عمومات الوعد والوعيد إذ بمعرفتها يتحقق الانزجار عن المعاصي والانقياد للطاعات ومع التساوي في التكليف لا معنى للفرق والله أعلم.(1/447)
"باب العام إذا لحقه الخصوص"
فإن لحق هذا العام خصوص فقد اختلف فيه فقال أبو الحسن الكرخي لا يبقى حجة أصلا سواء كان المخصوص معلوما أو مجهولا, وقال غيره إن
ـــــــ
"باب العام إذا لحقه الخصوص"
اعلم أن التخصيص لغة تمييز بعض الجملة بحكم ولهذا يقال خص فلان بكذا وفي اصطلاح هذا العلم اختلفت عبارات الأصوليين فيه فقيل تخصيص العموم بيان ما لم يرد باللفظ العام.
وقيل هو إخراج ما تناوله الخطاب عنه.
وقيل هو تعريف أن المراد باللفظ الموضوع للعموم إنما هو الخصوص.
وقيل هو قصر العام على بعض مسمياته.
وفي كل هذه العبارات كلام والحد الصحيح على مذهبنا أن يقال هو قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل مقترن واحترزنا بقولنا مستقل عن الصفة والاستثناء ونحوهما إذ لا بد عندنا للتخصيص من معنى المعارضة وليس في الصفة ذلك ولا في الاستثناء لأنه لبيان أنه لم يدخل تحت الصدر ولهذا يجري الاستثناء حقيقة في العام والخاص ولا يجري التخصيص حقيقة إلا في العام, ولهذا لا يتغير موجب العام باستثناء معلوم بالاتفاق ويتغير باستثناء مجهول بلا خلاف وبقولنا مقترن عن الناسخ فإنه إذا تراخى دليل التخصيص يكون نسخا لا تخصيصا وستقف على حقيقة الكل بعد إن شاء الله تعالى.
ثم التخصيص يجوز في جمع ألفاظ العموم أمرا كان أو نهيا أو خبرا وذهب شذوذ لا يؤبه بهم إلى امتناعه في الخبر كامتناع النسخ فيه ولأنه يوهم الكذب وهذا ضعيف لأن اللفظ لما احتمل في نفسه التخصيص كان قيام الدلالة عليه رافعا للوهم والتخصيص ليس من النسخ في شيء كيف وقد وقع التخصيص في الخبر في كتاب الله تعالى كما وقع في(1/448)
كان المخصوص معلوما بقي العام فيما وراء المخصوص على ما كان وإن كان مجهولا يسقط حكم العموم, وقال بعضهم إن كان المخصوص معلوما بقي العام فيما وراءه على ما كان فأما إذا كان مجهولا فإن دليل الخصوص يسقط.
ـــــــ
الأمر والنهي قال الله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذريات:42] {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وقد أتت تلك الريح على الجبال والأرض ولم تجعلهما كالرميم وتلك المرأة لم تؤت كل الأشياء.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الأصوليين اختلفوا في العام المخصوص في فصلين. أحدهما أن العام بعد التخصيص هل يبقى عاما في الباقي بطريق الحقيقة أم يصير مجازا.
والثاني أنه هل يبقى حجة بعد التخصيص أم لا؟
أما الأول فقد قيل الاختلاف فيه مبني على أن الشرط في العام الاستيعاب أم نفس الاجتماع فمن شرط فيه الاجتماع دون الاستغراق قال إنه يبقى حقيقة في العموم بعد التخصيص إلى أن ينتهي التخصيص إلى ما دون الثلاثة فحينئذ يصير مجازا ومن قال شرطه الاستيعاب قال يصير مجازا بعد التخصيص وإن خص منه فرد واحد لأن الكل ينتفي بانتفاء جزئه فلا يبقى عاما ضرورة فعلى قول من جعله مجازا لا يصح الاستدلال بعمومه بعد التخصيص لأنه لم يبق عاما وقيل بل هي مسألة مبتدأة سواء كان شرطا لعموم الاجتماع أو الاستيعاب لأن عامة شارطي الاستيعاب جعلوه حقيقة في الباقي بعد التخصيص وذهب بعض من شرط الاستيعاب إلى اجتماع جهة الحقيقة وجهة المجاز فيه فمن حيث إنه تناول بقية المسميات كما تناول قبل التخصيص كان حقيقة فيها ومن حيث إنه اختص بها وقصر عما عداها كان مجازا وفي أقوال هذا الفصل كثرة تعرف شرحها وبيان وجوهها في غير هذا الكتاب.
أما الفصل الثاني وهو الذي عقد الباب لبيانه فنقول اختلف الأصوليون في كون العام المخصوص منه حجة فذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله الجرجاني1 وعيسى بن أبان في رواية وأبو ثور2 من متكلمي أهل الحديث وغيرهم إلى أنه لا يبقى
ـــــــ
1 هو أبو عبد الله يوسف بن محمد الجرجاني فقيه حنفي انظر ترجمته في الفوائد البهية 231.
2 أبو ثور هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي توفي سنة 240 هـ انظر تهذيب التهذيب 1/118 – 119.(1/449)
فعلى قول الكرخي يبطل الاستدلال بعامة العمومات لما دخلها من الخصوص, وعلى القول الثاني لا يصح الاستدلال بآية السرقة وآية البيع لأن ما دون ثمن المجن خص من آية السرقة وهو مجهول, وخص الربا من قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] وهو مجهول, وكذلك نصوص الحدود لأن
ـــــــ
حجة بعد التخصيص بل يجب التوقف فيه إلى البيان سواء كان المخصوص معلوما كما يقال اقتلوا المشركين ولا تقتلوا أهل الذمة, أو مجهولا كما لو قيل اقتلوا المشركين ولا تقتلوا بعضهم إلا أنه يجب به أخص الخصوص إذا كان معلوما وقال عامتهم إن كان المخصوص مجهولا يسقط حكم العموم حتى لا يبقى حجة فيما بقي ويتوقف فيه إلى البيان وإن كان معلوما بقي العام فيما وراءه على ما كان ثم من قال منهم إن موجبه قطعي قبل التخصيص يبقى عنده قطعيا حتى لا يجوز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد ومن قال منهم إن موجبه ظني يبقى عنده ظنيا. وحاصل هذا القول أن تخصيص المعلوم لا يؤثر في العام أصلا وذهب بعضهم إلى أن المخصوص إن كان معلوما يبقى العام بعد التخصيص فيما وراءه على ما كان وإن كان مجهولا يسقط دليل الخصوص ويبقى العام موجبا حكمه في الكل كما كان قبل لحوق دليل الخصوص به وإلى هذا القول مال الشيخ أبو المعين في طريقته وفيه أقوال أخر صفحنا عن ذكرها كما أعرض المصنف عنها.
قوله: "بعامة العمومات" أي بأكثرها "ما دون ثمن المجن خص من الآية" وذلك مجهول ولهذا وقع الاختلاف فيه فقيل ربع دينار وقيل ثلاثة دراهم وقيل عشرة دراهم وخص الربا وهو مجهول لأنه مجمل وبعدما التحق خبر الأشياء الستة بيانا به لم تزل الجهالة عنه بالكلية لأنه ثبت به أن الربا يجري في الأشياء الستة ولم يثبت أنه مقتصر عليها ولهذا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم خرج النبي عليه السلام من الدنيا ولم يبين لنا أبواب الربا وإذا بقيت الجهالة لا يجوز التمسك عندهم بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .
وكذلك أي وكآية السرقة والبيع نصوص الحدود وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الشيخ والشيخة إذا زنيا "لأن مواضع الشبهة منها مخصوصة" بقوله عليه(1/450)
مواضع الشبهة منها مخصوصة وفيها ضرب جهالة واختلاف والصحيح من مذهبنا أن العام يبقى حجة بعد الخصوص معلوما كان المخصوص أو مجهولا إلا أن فيه ضرب شبهة وذلك مثل قول الشافعي في العموم قبل الخصوص.
ـــــــ
السلام: "ادرءوا الحدود ما استطعتم"1 "ادرءوا الحدود بالشبهات" وقد تلقته العلماء بالقبول فيجوز التخصيص به. "وفيه" أي فيما خص وهو مواضع الشبهة "ضرب جهالة" أي لا يعرف أية شبهة تعتبر ولهذا اختلفوا فيها ولو كان معلوما ظاهرا لما وقع الاختلاف فيه وعلى القول الثالث يصح الاحتجاج بكل عام سواء خص منه شيء أو لم يخص ولم يذكره الشيخ لظهوره.
قوله: "والصحيح من مذهبنا إلى آخره" والدليل على أن المذهب ما ذكر الشيخ أن أبا حنيفة رحمه الله استدل على فساد البيع بالشرط بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط وهذا عام دخله خصوص فإن شرط الخيار قد خص منه واحتج على استحقاق الشفعة بالجوار بقوله عليه السلام: "الجار أحق بصقبه" 2 وهذا عام قد دخله خصوص فإن الجار عند وجود الشريك لا يكون أحق بصقبه واستدل محمد على عدم جواز بيع العقار قبل القبض بنهيه عليه السلام عن بيع ما لم يقبض وقد خص منه بيع المهر قبل القبض وبيع الميراث قبل القبض وبيع بدل الصلح.
وأبو حنيفة رحمه الله خص هذا العام بالقياس فعرفنا أنه حجة للعمل من غير أن يكون موجبا قطعا لأن القياس لا يكون موجبا قطعا فكيف يصلح معارضا لما يكون موجبا قطعا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله وما ذكر يصلح دليلا على المذهب في المخصوص المعلوم لا في المجهول, إذ ليس فيما ذكر مخصوص مجهول إلا أن القاضي الإمام أبا زيد ذكر في التقويم والذي ثبت عندي من مذهب السلف أنه يبقى على عمومه بعد التخصيص في الفصلين جميعا ولكن غير موجب للعلم قطعا فروي المذهب في الفصلين فيثبت المذهب به.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الحدود حديث رقم 1424.
2 أخرجه أبو داود في البيوع حديث رقم 3516 وابن ماجه في الشفعة حديث رقم 2495 والإمام أحمد في المسند 6/10 و390.(1/451)
ودلالة صحة هذا المذهب إجماع السلف على الاحتجاج بالعموم ودلالة أن في ذلك شبهة إجماعهم على جواز التخصيص بالقياس والآحاد وذلك دون خبر الواحد حتى صحت معارضته بالقياس, أما الكرخي فقد احتج بأن ذلك
ـــــــ
قوله: "إجماع السلف على الاحتجاج بالعموم" أي بالعام الذي خص منه فإن فاطمة احتجت على أبي بكر رضي الله عنهما في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية مع أن الكافر والقاتل وغيرهما خصوا منه ولم ينكر أحد من الصحابة احتجاجها به مع ظهوره وشهرته بل عدل أبو بكر رضي الله عنه في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وعلي رضي الله عنه احتج على جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فقال أحلتهما آية مع كون الأخوات والبنات مخصوصة منه وكان ذلك مشهورا فيما بين الصحابة ولم يوجد له نكير. وكذا الاحتجاج بالعمومات المخصوص منها مشهور من الصحابة ومن بعدهم بحيث يعد إنكاره من المكابرة فكان إجماعا.
قوله: "وذلك دون خبر الواحد" أي العام المخصوص منه من الكتاب والسنة المتواترة دون خبر الواحد في الدرجة لأن القياس لا يصلح معارضا لخبر الواحد عندنا حتى رجحنا خبر القهقهة على القياس ورجحنا خبر الأكل ناسيا في الصوم على القياس ورجح أبو حنيفة رحمه الله خبر النبيذ على القياس ثم إنه يصلح معارضا للعام المخصوص منه حتى صح تخصيصه به بالإجماع والتخصيص به إنما يكون بطريق المعارضة من حيث الصيغة كما ستعرف وهو معنى قوله حتى صحت معارضته بالقياس فكان هذا العام دون خبر الواحد ضرورة.
قوله: "أما الكرخي" احتج أبو الحسن الكرخي ومن وافقه بأن المخصوص إذا كان مجهولا أوجب تخصيصه جهالة في الباقي لأن أي فرد عين من الباقي لإثبات موجب الكلام فيه يحتمل أن يكون هو المخصوص منه وهذا لأن دليل الخصوص بمنزلة دليل الاستثناء في الحكم وإن فارقه في الصيغة لأنه يبين أنه لم يدخل تحت الجملة كالاستثناء يبين أن المستثنى لم يدخل تحت المستثنى منه, ولهذا عد عامة الأصوليين الاستثناء من باب(1/452)
الخصوص إذا كان مجهولا أوجب جهالة في الباقي لأن الخصوص بمنزلة الاستثناء لأنه يبين أنه لم يدخل تحت الجملة كالاستثناء وإذا كان معلوما احتمل أن يكون معلولا وهو الظاهر لأن دليل الخصوص نص قائم بنفسه فصلح تعليله ولا يدرى أي القدر من الباقي صار مستثنى فيصير بمنزلة جهالة المخصوص ووجه القول الثاني أن دليل الخصوص إذا كان مجهولا فعلى ما قلنا وإن كان معلوما بقي العام موجبا في الباقي لأن دليل الخصوص بمنزلة
ـــــــ
التخصيص ولهذا لا يكون دليل الخصوص إلا مقارنا كالاستثناء حتى لو كان طاريا يكون دليل النسخ لا دليل الخصوص وإذا صار كالاستثناء أوجب جهالته جهالة الباقي كاستثناء المجهول بأنه يوجب جهالة في المستثنى منه بالإجماع حتى لو قال لفلان علي ألف إلا شيئا يتوقف فيه إلى البيان. وإذا صار مجهولا لم يصلح حجة بنفسه كالمجمل بل يجب التوقف فيه إلى تبين المراد وأما إذا كان المخصوص معلوما فكذلك لأنه يحتمل أن يكون معلولا لاستقلاله وإفادته بنفسه إذ هو لا يفتقر في إفادته إلى صدر الكلام وهذا هو الظاهر لأن الأصل في النصوص التعليل والدلائل التي يوجب كونها معلولة لا تفصل بين نص ونص وعلى تقدير التعليل لا يدرى أي قدر من الباقي يصير مخصوصا وهو المراد من قوله مستثنى فيوجب جهالة الباقي أيضا, وصار كما لو خصص منه بعض معلوم وبعض آخر مجهول بخلاف استثناء المعلوم لأن دليل الاستثناء لا يقبل التعليل لعدم استقلاله بنفسه فلا يوجب استثناء المعلوم جهالة الباقي فيبقى على ما كان قبل الاستثناء قطعا كما لو رفع من عشرة خمسة يبقى الباقي خمسة قطعا ولأن العام بعد التخصيص يصير مجازا وجهات المجاز متعددة لأنه اشتمل على جموع كثير, ويمتنع الحمل على الكل لما فيه من تكثر جهات التجوز وليس حمله على إحداها أولى من الحمل على غيرها لعدم دلالة اللفظ عليها فكان مجملا فيجب التوقف فيه أيضا.
قوله: "ووجه القول الثاني" احتج الذين فرقوا بين تخصيص المعلوم والمجهول بأن تخصيص المعلوم بدليل مستقل بمنزلة الاستثناء لأنه يبين أن المراد به ما بعده وأن القدر المخصوص لم يدخل تحته كالاستثناء وقد بينا أن استثناء المجهول يوجب التوقف إلى البيان فكذا تخصيصه أما استثناء المعلوم فلا يوجب خللا في الباقي بوجه(1/453)
الاستثناء على ما قلنا فلا يؤثر في الباقي لأن الاستثناء لا يحتمل التعليل فكذلك هذا.
ووجه القول الآخر أن دليل الخصوص لما كان مستقلا بنفسه حتى لو تراخى كان ناسخا سقط بنفسه إذا كان مجهولا لأن المجهول لا يصلح دليلا بخلاف الاستثناء لأنه وصف قائم بالأول فأوجب جهالة فيه وهذا قائم بنفسه
ـــــــ
فكذلك تخصيصه لا يوجب خللا فيه فيبقى على ما كان قبله قطعيا عند بعضهم وظنيا عند آخرين قالوا ولا معنى لما قال الفريق الأول إنه محتمل للتعليل لأنه إذا كان بمنزلة الاستثناء لم يحتمل التعليل فإن المستثنى معدوم على معنى أنه لم يكن مرادا بالكلام أصلا والعدم لا يعلل ولا لما ادعوا أنه يصير مجازا لأن المجاز ما يكون معدولا عن موضوعه وهذه الصيغة ليست كذلك لأنها تتناول الباقي بعد التخصيص كما تتناوله قبله ولئن سلمنا أنه يصير مجازا لا نسلم أنه يصير مجملا لأنه ظهر بالدليل أنه أريد به ما وراء المخصوص كله لا بعضه وهو ما ذكرنا من احتجاج الصحابة بالعمومات المخصصة فيما وراء صورة التخصيص فيوجب الحكم فيما بقي على سبيل العموم. وقولهم يحتمل أنه أريد به بعض ما وراء المخصوص قلنا هذا الاحتمال لا يستند إلى دليل فلا يعتبر كاحتمال المجاز في الخاص.
قوله: "ووجه القول الآخر" احتج الفريق الثالث بأن التخصيص لا يكون إلا بدليل مستقل متصل يتناول بعض ما يتناوله العام على خلاف موجبه بحيث لو تأخر كان ناسخا فإذا كان مقارنا كان بيانا وإذا كان كذلك لم يتغير به صيغة الكلام الأول إذا كان مجهولا لأن المجهول لا يصلح دليلا فلا يصلح معارضا للدليل كما في النسخ فإنه لو طرأ المجمل على ظاهر ناسخا لم يثبت به النسخ حتى يتبين المراد وقد بينا أن العام موجب الحكم فيما تناوله قطعا بمنزلة الخاص فيما يتناوله, فإذا لم تستقم المعارضة لكون المعارض مجهولا سقط دليل الخصوص وبقي حكم العام على ما كان في جميع ما تناوله. وهذا بخلاف الاستثناء فإنه داخل على صيغة الكلام وصار بمنزلة وصف قائم بالأول لعدم انفصاله عنه وعدم استقلاله بنفسه ألا ترى أنه لا يستقيم بدون أصل الكلام فإن قول القائل إلا زيدا لا يفيد شيئا فإذا كان داخلا على صيغة الكلام واعتبر الاستثناء مع(1/454)
معارض للأول ودليل ما قلنا أن دليل الخصوص يشبه الاستثناء بحكمه لما قلنا إنه تبين أنه لم يدخل في الجملة ألا ترى أنه لا يكون إلا مقارنا, ويشبه الناسخ بصيغته لأنه نص قائم بنفسه فلم يجز إلحاقه بأحدهما بعينه بل وجب اعتباره في كل باب بنظيره.
ـــــــ
المستثنى منه كلاما واحدا أوجب الجهالة في الاستثناء جهالة في المستثنى منه فيصير الأصل مجهولا مجملا فلا يجب العمل به قبل البيان.
قوله: "ودليل ما قلنا" أي ما ذكرنا من المذهب الصحيح من حيث المعقول بعدما ذكرنا من إجماع السلف لأن دليل الخصوص يشبه الاستثناء بحكمه من حيث إنه يبين أن المراد إثبات الحكم فيما وراء المخصوص لا أن يكون المراد رفع الحكم عن المخصوص بعد أن كان ثابتا ثم استوضح ذلك بقوله: "ألا ترى أنه لا يكون إلا مقارنا" يعني شرط فيه المقارنة حتى لو كان طارئا يجعل نسخا لا خصوصا وليس اشتراط المقارنة إلا لتحقق شبهه بالاستثناء من حيث إنه بيان مغير ويشبه الناسخ بصيغته من حيث إنه كلام مستقل بنفسه مفيد للحكم وإن لم يتقدم صيغة العام وحكم الناسخ أنه لا يعمل في الأول إذا كان ما تناوله مجهولا بل يمتنع العمل به ولو كان معلوما يعمل به, وحكم الاستثناء أنه إذا كان مجهولا لا يوجب جهالة المستثنى منه وإذا كان معلوما يبقى الباقي على ما كان قطعا "فلم يجز إلحاقه" أي إلحاق دليل الخصوص "بأحدهما بعينه" أي بالاستثناء عينا من غير اعتبار معنى النسخ فيه ولا بالناسخ عينا من غير اعتبار معنى الاستثناء فيه لأن في الإلحاق بأحدهما عينا إبطال الشبه الآخر. "بل وجب اعتباره" أي اعتبار دليل الخصوص "في كل باب" أي في كل نوع من المخصوص المعلوم والمجهول "بنظيره" في ذلك الباب وهو الناسخ والاستثناء لأن الأصل فيما تردد بين شيئين وأخذ حظا معتبرا من كل واحد منهما أنه يعتبر بهما كالفم لما أخذ حظا من الظاهر وحظا من الباطن اعتبر بهما في مسألة القيء على ما عرف وكصدقة الفطر لما كانت مشتملة على معنى القربة والمؤنة اعتبر كل واحد منهما ولم يكتف بأحدهما, وكذا الكفارة فكذلك ههنا يعتبر دليل الخصوص في المخصوص المعلوم بالاستثناء المعلوم والناسخ والمعلوم وفي المخصوص المجهول بالاستثناء المجهول والناسخ المجهول فهو معنى قوله وجب اعتباره في كل باب بنظيره(1/455)
فقلنا إذا كان دليل الخصوص مجهولا أوجب جهالة في الأول بحكمه إذا اعتبر بالاستثناء وسقط في نفسه بصيغته إذا اعتبر بالناسخ وحكمه قائم بصيغته فصار الدليل مشتبها فلم نبطله بالشك وكذلك إذا كان المخصوص
ـــــــ
ولو قال بنظيريه أو قال فيعتبر في كل باب بهما لكان أحسن ويحتمل أن يكون الضمير في بنظيره راجعا إلى كل باب أي وجب اعتبار دليل الخصوص في كل نوع من المشابهة بنظير ذلك النوع فيعتبر في شبه الاستثناء بحقيقة الاستثناء معلوما كان أو مجهولا ويعتبر في شبه الناسخ بحقيقة الناسخ معلوما كان أو مجهولا وعلى هذا لو قال بنظيريه لا يصح. قوله: "فقلنا إذا كان" هذا شروع من الشيخ في بيان اعتباره بالشبهين في كل باب فقال إذا كان دليل الخصوص مجهولا أي متناولا لمجهول عند السامع أوجب جهالة في الأول وهو المخصوص منه "بحكمه" أي بالنظر إلى حكمه وهو بيان أنه لم يدخل هذا المجهول تحت العام "إذا اعتبر بالاستثناء" أي رد إليه لما بينا أن المستثنى إذا كان مجهولا أوجب جهالة المستثنى منه "وسقط" أي هذا الدليل في نفسه "بصيغته" أي باعتبار صيغته إذا اعتبر بالناسخ لما ذكرنا أن الناسخ إذا كان مجهولا أي متناولا لمجهول لا يعارض الأول بل يسقط بنفسه "وحكمه" أي حكم دليل الخصوص وهو بيان أن المخصوص لم يدخل تحت الجملة "قائم" أي ثابت بصيغته بخلاف الاستثناء فإن حكمه لا يستفاد منه بنفسه وإذا كان حكمه قائما بصيغته لا تتعدى جهالته إلى الأول لانفصاله عنه فبقي الأول على ما كان ويجوز أن يكون معناه وإذا كان حكمه قائما بصيغته وصيغته سقطت باعتبار شبهها بالنسخ فيسقط شبه الاستثناء أيضا لأن ذلك الشبه باعتبار الحكم والحكم قائم بالصيغة فيسقط الكل بسقوط الصيغة فيبقى العام على ما كان فكأنه رجح جهة سقوط دليل الخصوص على جهة ثبوته في تأثيره في العام "فصار الدليل" أي العام "مشتبها" لتردده بين البقاء والزوال فشبه الاستثناء في دليل الخصوص أوجب زواله وشبه النسخ فيه أوجب بقاءه على ما كان "فلم نبطله" أي العام "بالشك" لأن ما كان ثابتا بيقين لا يزال بالشك ولكن تمكنت فيه شبهة جهالة فأورثت زوال اليقين فيوجب العمل دون العلم. ويجوز أن يكون المراد من الدليل دليل الخصوص ويكون الضمير المنصوب في فلم يبطله عائدا إليه أيضا أي فصار دليل الخصوص مشتبها في نفسه لتردده بين الثبوت وعدمه فلا يبطله بالشك وإذا لم نبطل دليل الخصوص بالشك لا يبطل العام بالشك أيضا لأن بطلانه مبني على(1/456)
معلوما لأنه يحتمل أن يكون معلوما وعلى احتمال التعليل يصير مخصوصا من الجملة كأنه لم يدخل لا على سبيل المعارضة للنص فوجب العمل به فيصير قدر ما تناوله النص مجهولا هذا على اعتبار صيغة النص وعلى اعتبار حكمه
ـــــــ
ثبوت دليل الخصوص وبقاءه مبني على عدم ثبوته وفيهما تردد, ويجوز أن يكون المراد منه دليل الخصوص وأن يكون الضمير عائدا إلى العام أي فصار دليل الخصوص مشتبها لما ذكرنا فلا يبطل العام بالشك بمثل هذا الدليل المتردد, والأول هو الوجه والحاصل أنا لا نبطل واحدا منهما بالشك فلا يسقط دليل الخصوص لكونه مجهولا بالشك ولا تخرج صيغة العام من أن تكون حجة بالشك أيضا كالمفقود لا يورث عنه بالشك ولا يرث أيضا بالشك.
قوله: "وكذلك إذا كان المخصوص معلوما" أي وكما اعتبر جهة الاستثناء وجهة النسخ في المخصوص المجهول يعتبر كلاهما أيضا في المخصوص المعلوم أو معناه وكما صار العام مشتبها في المخصوص المجهول فكذلك يصير مشتبها في المخصوص المعلوم أيضا فلا نبطله بالشك والاحتمال. وسياق الكلام يدل على هذا الوجه "لأنه" أي لأن دليل الخصوص "يحتمل أن يكون معلوما" وهو الظاهر لما ذكرنا من أن الأصل في النصوص التعليل وهذا نص قائم بنفسه منفصل عن الأول فيكون قابلا للتعليل "وعلى احتمال التعليل يصير مخصوصا" أي يصير ما تناولته العلة التي تضمنها دليل الخصوص مخصوصا من الجملة التي دخلت تحت العام وذلك مجهول فأوجب جهالة الباقي.
قوله: "كأنه لم يدخل لا على سبيل المعارضة" جواب سؤال يرد عليه وهو أن يقال القياس لا يصلح معارضا للنص ولهذا لا يثبت به التخصيص ابتداء وكذا لا يجوز تعليل الناسخ أيضا إذ فيه معارضة القياس النص فكيف جاز اعتبار احتمال التعليل ههنا في مقابلة العام وفيه معارضة القياس النص فقال إنما اعتبر التعليل ههنا لأن القياس إنما يثبت الحكم في غير المنصوص عليه على وفق ما أثبته الأصل الذي يستنبط منه ثم النص وهو دليل الخصوص ههنا عمله على وجه البيان من حيث الحكم على وجه المعارضة فكذلك يكون عمل القياس المستنبط منه فأما الناسخ فإنما يعمل بطريق المعارضة لا على وجه البيان فلو جاز تعليله يلزم منه معارضة القياس النص وهو فاسد وكذا التخصيص ابتداء(1/457)
لا يصح التعليل لأنه شبيه بالاستثناء وهو عدم والعدم لا يعلل فدخلت الشبهة أيضا وقد عرف موجبا فلا يبطل بالاحتمال وهذا بخلاف الناسخ إذا ورد في بعض ما تناوله النص معلوما فإن الحكم فيما بقي لا يتغير لاحتمال التعليل لأن
ـــــــ
بالقياس لا يجوز لأن الأصل الذي استند إليه القياس لا يصلح مبينا لهذا العام لعدم تناوله شيئا من أفراده فكذا القياس المستخرج منه لا يصلح مبينا وإذا لم يصلح مبينا كان معارضا له لا محالة وهو لا يصلح لمعارضة النص.
قوله: "فوجب العمل به" أي بهذا الاحتمال أو بالتعليل لخلوه عن معارضة النص. "فيصير قدر ما تناوله النص" أي العام مجهولا أو يصير قدر ما تناوله النص المخصص مجهولا لجهالة ما دخل تحت علته ويلزم منه جهالة العام أيضا كما إذا كان المخصوص مجهولا "هذا على اعتبار صيغة النص" أي احتمال التعليل ولزوم الجهالة باعتبار صيغة دليل الخصوص التي بها يتحقق شبه النسخ "فأما على اعتبار حكمه" أي بالنظر إلى الحكم فلا يعتبر احتمال التعليل لأن دليل الخصوص شبيه بالاستثناء من حيث الحكم والاستثناء لا يقبل التعليل لأنه عدم إذ بالاستثناء يتبين أن المستثنى لم يدخل تحت الكلام وأن التكلم حصل بما وراءه لا أنه دخل ثم خرج بالاستثناء والعدم لا يقبل التعليل على ما عرف "فدخلت الشبهة" أي في العام باعتبار المخصوص المعلوم كما دخلت باعتبار المخصوص المجهول وهو معنى قوله أيضا لأن باعتبار صيغة دليل الخصوص واحتمال التعليل فيه يخرج العام من أن يكون حجة وباعتبار حكمه يبقى موجبا للحكم قطعا على عكس ما ذكرنا في المخصوص المجهول وقد عرفت موجبا فلا يبطل بالاحتمال والشك ولكن تمكنت فيه شبهة فأوجب العمل دون العلم قوله: "وهذا" أي المخصص المعلوم "بخلاف الناسخ إذا ورد معلوما" أي متناولا لمعلوم "في بعض ما تناوله النص" أي العام فإن الحكم فيما بقي من العام بعد ورود ناسخ معلوم في البعض لا يتغير بسبب احتمال التعليل كما يتغير فيما نحن فيه بسبب هذا الاحتمال لأنه لا يقبل التعليل إلى آخر ما ذكر في الكتاب فكان قوله لاحتمال التعليل داخلا تحت النفي. وليس معناه أن احتمال التعليل ثابت ولكنه لا يؤثر في التغيير كما يدل عليه ظاهر الكلام بل معناه أن احتمال(1/458)
الناسخ إنما يعمل على طريق المعارضة لا على تبين أنه لم يدخل تحت الصيغة فيصير العلة معارضة للنص.
وأما ههنا فإن التعلل يقع على ما وضع له دليل الخصوص وهو أن لا
ـــــــ
التعليل ليس بموجود ليتغير كما في قوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر
أي ليس في تلك المفازة ضب لينجحر لا أن الضب موجود ولكنه لا ينجحر وبما ذكرنا خرج الجواب عما يقال ينبغي أن لا يعلل دليل الخصوص لأنه يشبه الناسخ أو الاستثناء وكلاهما لا يعلل لأن الناسخ إنما لا يعلل احترازا عن معارضة القياس النص ورفع ما ثبت بالنص بالقياس وقد عدم ذلك في دليل الخصوص والاستثناء إنما لا يعلل لعدم استقلاله وكونه عدما وقد تحقق الاستقلال في دليل الخصوص فيثبت التعليل فصار الحاصل أن دليل الخصوص يشابه الناسخ في استقلال الصيغة ولا يشابهه من حيث إنه معارض ويشابه الاستثناء في كونه مبينا ولا يشابهه في عدم الاستقلال وعدم التعليل فيهما باعتبار هذين الوصفين اللذين يفارقهما دليل الخصوص فيهما فيقبل التعليل إلا أنه من حيث كونه عدما يشابه الاستثناء أيضا وذلك مانع من التعليل لكن كونه مستبدا يوجبه فيثبت الاحتمال وذلك كاف كما حققناه.
يوقف عليه فيؤدي إلى الحرج فلا يعتبر أيضا أصلا وإذا ثبت احتمال الإرادة أوجب شبهة فسقط العلم دون العمل إلا أن خبر الواحد كان فوق هذا العام لأن الخبر ثابت بأصله وإنما وقع الشك في طريقه والشبهة في الطريق لا يبطل أصله وههنا أعني في العام إذا خص منه شيء وقعت الشبهة في أصله أنه لم يتناول فصار نظير القياس فإن القياس في أصله شبهة من حيث إنه يحتمل أن لا يكون موجبا وهذا لأن النص الخاص لما كان معلولا يثبت احتمال التعدي إلى ما بقي فصار مخصوصا أيضا فلا يبقى العام عاما, والاحتمال لا يسقط العمل بالأول ولكن يزيل اليقين لأنه دخل في حد التعارض فبقي العام على عمومه كما كان لعدم ظهور الدليل وما كان طريق بقائه عدم الدليل لم يكن ثابتا بيقين, ولهذا يجوز تخصيص العام بالقياس ولم يجز ترك خبر الواحد به. بخلاف الاستثناء(1/459)
يدخل تحت الجملة فلا يصير معارضا للنص فإذا ثبت الاحتمال فلم يخرج عن الدلالة بالشك صار الدليل مشكوكا بأصله فأشبه دليل القياس فاستقام أن يعارضه القياس بخلاف ما ثبت بخبر الواحد لأنه يقين بأصله فلم يصلح أن يعارضه القياس. ونظير هذه الجملة من الفروع أن البيع إذا أضيف إلى حر وعبد
ـــــــ
فإنه ليس له حكم بنفسه وإنما عمله في منع التكلم بقدر المستثنى فكان عدما والعدم لا يعلل فإذا لم يعلل اقتصر على قدره وقدر ما نص عليه معلوم فيبقى ما وراءه معلوما بلا شبهة وبخلاف الناسخ لأن الحكم تقرر بالنص الأول فإذا جاء الناسخ كان إنهاء لذلك الحكم فإذا ورد الناسخ خاصا فباحتمال أن يكون معلولا لم يجز تغيير ذلك الحكم الثابت بالنص لأنه يصير العلة معارضة لما ثبت بالنص وحكم العلة لا يعارض حكم النص بخلاف دليل التخصيص فإنه لا يعمل على سبيل المعارضة حكما بل تبين لنا أن القدر المخصوص لم يكن داخلا فقلنا النص إذا عمل عمله على هذا الوجه تبين لنا أن قدر ما يتعدى إليه العلة لم يكن داخلا تحت النص لا أنه يعمل على سبيل المعارضة.
قوله: "ونظير هذه الجملة" أي نظير الاستثناء المحض والنسخ المحض وما أخذ حظا منهما وهو دليل الخصوص من المسائل أما نظير الاستثناء فما إذا جمع بين حر وعبد أو بين حي وميت أو بين ميتة وذكية أو بين خمر وخل وباعهما بثمن واحد لم يجز البيع أصلا لأن أحدهما وهو الحر أو الميت أو الميتة أو الخمر لم يدخل تحت العقد لأن دخول الشيء في العقد بصفة المالية والتقوم وذلك لا يوجد في هذه الأشياء فلو جاز العقد في العبد أو الحي أو الذكية أو الخل إنما يجوز بحصته من الثمن بأن قسم الثمن على قيمته وقيمة الآخر أن لو كان مالا متقوما والبيع بالحصة لا يجوز ابتداء لمعنى الجهالة كما لو قال بعت منك هذا العبد بما يخصه من الألف إذا قسم على قيمته وقيمة هذا العبد الآخر أو قال بعت منك هذين العبدين إلا هذا بحصته من الألف فإنه لا يجوز للجهالة كذا هنا. وهذا إذا لم يفصل الثمن وهو المراد من قوله بثمن واحد فإن فصله بأن قال بعتهما بألف كل واحد بخمسمائة فكذا الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما العقد جائز في العبد والذكية والخل بما سمي بمقابلته لأن الفساد يقتصر على ما وجد فيه العلة المفسدة وعند تسمية الثمن لكل واحد منهما عدمت العلة المفسدة في ما هو مال(1/460)
بثمن واحد وإلى حي وميت وخمر وخل فهو باطل لأن أحدهما لم يدخل تحت العقد فبقي الآخر وحده ابتداء بحصته, وكذلك إذا قال بعت منك هذين العبدين بألف درهم إلا هذا بحصته من الألف فصارت هذه الجملة نظير
ـــــــ
متقوم منهما لأن أحدهما منفصل عن الآخر في البيع ابتداء وبقاء فوجود المفسد في أحدهما لا يؤثر في العقد على الآخر لأن تأثيره في العقد على الآخر إما باعتبار التبعية وأحدهما ليس بتبع للآخر أو باعتبار أنهما كشيء واحد, وليس كذلك إذ كل واحد منهما منفصل عن الآخر في العقد ألا ترى أنهما لو كانا عبدين وهلك أحدهما قبل القبض بقي العقد في الآخر, وإنما يجعل قبول العقد في أحدهما شرطا لقبول العقد في الآخر إذا صح الإيجاب فيهما لئلا يكون المشتري ملحقا الضرر بالبائع في قبول العقد في أحدهما دون الآخر وذلك ينعدم إذا لم يصح الإيجاب في أحدهما وصار هذا كما إذا اشترى عبدا أو مكاتبا أو مدبرا فالعقد يفسد في المدبر ويبقى صحيحا في العبد كذا هذا وأبو حنيفة رحمه الله يقول لما جمع بينهما في الإيجاب فقد شرط في قبول العقد في كل واحد منهما قبول العقد في الآخر بدليل أن المشتري لا يملك قبول العقد في أحدهما دون الآخر واشتراط قبول العقد في الحر في بيع العبد شرط فاسد والبيع يبطل بالشرط الفاسد وقولهما أن هذا عند صحة الإيجاب قلنا عند صحة الإيجاب فيهما يكون هذا شرطا صحيحا ونحن إنما ندعي الشرط الفاسد وذلك عند فساد الإيجاب لأن هذا الشرط باعتبار جمع البائع بينهما في كلامه لا باعتبار وجود المحلية فيهما. وقوله: "فهو باطل" يوهم أن العقد لا ينعقد في القن أصلا حتى لا يثبت الملك فيه بالقبض كما في الحر والمذكور في الأسرار ومبسوط الإمام السرخسي ومبسوط الإمام خواهر زاده يشير إلى أنه ينعقد فاسدا لأن كل واحد من العوضين مال إلا أن أحدهما مجهول والجهالة توجب الفساد دون البطلان فكان المراد من الباطل الفاسد.
قوله: "فصارت هذه الجملة" أي المسائل التي ذكرناها نظير الاستثناء من حيث إن الحر والميت والميتة والخمر لم يدخل في العقد أصلا وإن العقد ورد على العبد والذكية والخل ابتداء بالحصة كما أن المستثنى لم يدخل تحت المستثنى منه وإن الكلام صار(1/461)
الاستثناء, وإذا باع عبدين فمات أحدهما قبل التسليم أو استحق أو وجد مدبرا أو مكاتبا صح البيع في الباقي لأن الآخر دخل في البيع, وكذلك المدبر والمكاتب يدخلان في البيع وإنما امتنع الحكم صيانة لحقهما فصار الآخر باقيا في العقد
ـــــــ
تكلما بالباقي بعد الثنيا وأما نظير النسخ فهو ما إذا باع عبدين فمات أحدهما قبل التسليم أو استحق أو وجد أحدهما مدبرا أو مكاتبا أو باع جاريتين فوجدت إحداهما أم ولد صح البيع في الباقي سواء سمى لكل واحد منهما ثمنا أو لم يسم عندنا خلافا لزفر رحمه الله فيما إذا وجد مكاتبا أو مدبرا أو أم ولد قال لأن الإيجاب فيهم فاسد لما ثبت لهم من حق العتق وقد جعل ذلك شرطا لقبول العقد في القن منهما فيفسد العقد كله كما في مسألة الحر. وجه قولنا أن كل واحد منهما دخل في العقد لأن دخول الآدمي في العقد باعتبار الرق والتقوم وذلك موجود فيهما ثم استحق أحدهما نفسه فكان بمنزلة ما لو استحقه غيره بأن باع عبدين فاستحق أحدهما وهناك البيع جائز في الآخر سواء سمى لكل واحد منهما ثمنا أو لم يسم يوضحه أن البيع في المدبر ليس بفاسد على الإطلاق بدليل جواز بيع المدبر من نفسه وبدليل أن القاضي إذا قضى بجواز بيع المدبر ينفذ قضاؤه وكذا المكاتب فإن بيعه من نفسه جائز ولو باعه من غيره برضاه جاز في أصح الروايتين وكذا بيع أم الولد من نفسها جائز ولو قضى القاضي بجواز بيع أم الولد نفذ قضاؤه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وإذا ثبت أن المحل قابل للبيع حتى نفذ قضاء القاضي فيه وقضاء القاضي في غير محله لا ينفذ عرفنا أنهم دخلوا في العقد ثم خرجوا بعد تناول الإيجاب إياهم ضرورة عدم الحكم وهو ثبوت الملك للمشتري صيانة لحق العتق عليهم فكان هذا بمنزلة النسخ لأنهم خرجوا بعد الدخول وبقي العقد صحيحا في الآخر لأن الجهالة بأمر عارض إذ الثمن كله كان معلوما وقت البيع وجهالة الثمن بأمر عارض لا يوجب الفساد كما إذا هلك أحد العبدين قبل التسليم يبطل البيع في الهالك ويبقى في الحي بحصته من الثمن كذا ههنا.
"فإن قيل" ما الفائدة في دخولهم ثم خروجهم "قلنا" الفائدة تصحيح كلام العاقل مع رعاية حقهم وانعقاد العقد في حق الآخر.(1/462)
بحصته فصار هذا من قسم دليل النسخ, ونظير دليل الخصوص مسألة خيار الشرط قال في الزيادات في رجل باع عبدين بألف درهم على أنه بالخيار
ـــــــ
قوله: "ونظير دليل الخصوص مسألة خيار الشرط" إضافة الخيار إلى الشرط إضافة الشيء إلى سببه كزكاة المال وحج البيت أي الخيار الذي يثبت بسبب الشرط ويقال شرط الخيار أيضا وهو من قبيل إضافة الشيء إلى مسببه كمال الزكاة ووقت الصلاة أي الشرط الذي يوجب الخيار ويثبته واعلم أن شرط الخيار يمنع ثبوت الحكم ولا يمنع السبب عن الانعقاد بخلاف سائر الشروط فإنها تمنع السبب والحكم جميعا على ما يعرف من بعد إن شاء الله تعالى.
ثم إنه يشبه دليل الخصوص لاجتماع شبه الاستثناء وشبه النسخ فيه كاجتماعهما في دليل الخصوص فمن حيث إنه يمنع الحكم عن الثبوت أصلا كان شبيها بالاستثناء في الحكم ومن حيث إنه لا يمنع السبب عن الانعقاد بل يرفعه بعد الثبوت بالفسخ كان نظيرا للناسخ في حق السبب فإذا اجتمع فيه الجهتان وجب العمل بهما في المسائل كما وجب العمل بشبهي دليل الخصوص في العام.
قوله: "إذا باع عبدين" هذه المسألة على أربعة أوجه أحدها أن لا يعين الذي فيه الخيار ولا يفصل الثمن بأن قال بعت هذين العبدين بألف على أني بالخيار في أحدهما ثلاثة أيام وفي هذا الوجه يفسد البيع إما لجهالة المبيع لأنه إذا شرط الخيار في أحدهما بغير عينه لزم العقد في الآخر وهو مجهول والملك لا يثبت في المجهول ابتداء وإما لجهالة الثمن لأن حكم العقد لو ثبت في الذي لا خيار فيه يثبت بحصته من الثمن ابتداء لما بينا أنه في حق الحكم بمنزلة الاستثناء وهي مجهولة وجهالة الثمن يمنع صحة العقد وصار كما لو قال هذين العبدين بألف إلا أحدهما بما يخصه من الألف إذا قسم على قيمتهما وذلك باطل كذا هذا. والثاني أن يفصل الثمن ولا يعين الذي فيه الخيار بأن قال بعتهما بألف كل واحد منهما بخمسمائة على أني بالخيار في أحدهما ثلاثة أيام وهو فاسد أيضا لجهالة المبيع لأن البيع يلزم فيما لا خيار فيه وهو مجهول لا يمكن إلزام البيع فيه وصار كما لو قال بعت هذين العبدين بألف إلا أحدهما بخمسمائة والثالث أن(1/463)
في أحدهما إن البيع لا يصح حتى يعين الذي فيه الخيار ويسمي ثمنه...
ـــــــ
يعين الذي فيه الخيار ولا يفصل الثمن بأن قال بعتهما بألف على أني بالخيار في هذا بعته ثلاثة أيام وحكمه الفساد أيضا لجهالة الثمن لما ذكرنا في الوجه الأول وصار كأنه قال بعتهما بألف إلا هذا بما يخصه من الألف فيبقى ثمن الثاني مجهولا كذا ذكر في عامة الكتب وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في هذا الوجه أنه يصح العقد في الذي ليس فيه خيار ولو فسخ في أحدهما تبقى في الآخر على الصحة لأن العقد فيهما منعقد إذ الإيجاب تناولهما جميعا وهما محلان للبيع والتسمية صحت جملة إلا أن الخيار عارض العقد في الحكم فمنع ثبوت الحكم في أحدهما فعمل الإيجاب في الآخر ووجبت حصته من الثمن بعد أن صحت تسمية جملة الثمن فكانت الجهالة عارضة فلا تمنع الجواز كما في القن والمدبر إلا أن الشيخ الإمام صاحب الكتاب أجاب عنه في شرح التقويم فقال البيع فاسد في هذا الوجه أيضا لأن الخيار وإن دخل على الحكم لكن العقد إنما ينعقد لحكمه وحكم العقد انعدم في الذي شرط فيه الخيار بنص قائم وهو الخيار وذلك النص قائم من كل وجه فأوجب إعدام الحكم من كل وجه فصار الإيجاب قاصرا عنه في حق الحكم من كل وجه لا لضرورة أوجبت ذلك فجعل الإيجاب كأن لم يكن في حق الحكم كما في بيع الحر جعل كأن لم يكن لعدم المحلية فيبقى الإيجاب في حق الآخر بحصته من الثمن وذلك لا يجوز, بخلاف المدبر مع القن لأن الإيجاب تناولهما وإنما امتنع الحكم ضرورة صيانة حقه لا بنص قائم منع ثبوت الحكم فيه. وما ثبت ضرورة لا يظهر حكمه في غير موضع الضرورة فبقي الإيجاب متناولا له فيما وراء هذه الضرورة وذكر في نسخة أخرى الفرق بين المدبر والقن وبين هذا الفصل بهذه العبارة وهي أن المدبر داخل في العقد والحكم جميعا لأنه قابل له بقضاء القاضي كما ذكرنا ولكنه يخرج بعدما دخل فتصير الجهالة حادثة في الزمان الثاني فلا تمنع وفي مسألتنا الجهالة في ابتداء العقد لأن الحكم لم يثبت في الذي فيه الخيار فيصير الثمن مجهولا من الابتداء فيمنع صحة وكان القياس أن لا يدخل في العقد أصلا لأن الشرط يمنع السبب إلا أن القياس ترك لما عرف فالحاصل أن المانع فيما نحن فيه مقترن بالعقد لفظا ومعنى فأثر المفسد, وفي بيع القن مع المدبر المانع مقترن بالعقد معنى لا لفظا فلم يؤثر المفسد.(1/464)
فأما إذا أجمل الثمن ولم يعين الذي فيه الخيار أو عين أحدهما ولم يعين الآخر لم يجر البيع لأن الخيار لا يمنع الدخول في الإيجاب ويمنع الدخول في الحكم فصار في السبب نظير دليل النسخ وفي الحكم نظير الاستثناء فقيل لا بد من إعلام الثمن والمبيع لجواز البيع بمنزلة الحر والعبد وإذا وجد التعيين
ـــــــ
وإلى الأوجه الثلاثة التي بيناها أشار الشيخ بقوله فأما إذا أجمل الثمن ولم يعين الذي فيه الخيار أو عين أحدهما يعني الثمن أو المبيع ولم يعين الآخر والوجه الرابع أن يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن بأن قال بعت منك هذين العبدين بألف درهم كل واحد بخمسمائة على أني بالخيار ثلاثة أيام في هذا بعينه ويصح العقد في هذا الوجه ويلزم في الذي لا خيار فيه بما سمي من الثمن لزوال الجهالة بالكلية. ثم في الفصول الثلاثة عملنا بشبه الاستثناء فلم نجوز البيع عند عدم التعيين وإعلام الحصة كما ذكرنا وفي الفصل الرابع عملنا بشبه الناسخ فجوزنا البيع ولم نجعل قبول العقد في الذي جعل فيه الخيار شرطا فاسدا في الذي لزم العقد فيه كما جعلناه في بيع الحر والعبد عند تفصيل الثمن على قول أبي حنيفة رحمه الله لأنا إنما جعلناه هناك شرطا فاسدا لأن الحر وما شاكله من الميتة والخمر لم يدخل في العقد أصلا لعدم المحلية فلم يكن اشتراط القبول فيه من مقتضيات العقد لأنه اشتراط قبول غير المبيع للانعقاد في المبيع فكان شرطا فاسدا فأما الذي شرط فيه الخيار فداخل تحت العقد لأن الشرط لم يؤثر في السبب فلا يمنعه من الانعقاد في حقه فكان اشتراط القبول فيه اشتراطه في المبيع لا في غير المبيع فكان شرطا صحيحا لا فاسدا فلا يمنع صحة العقد.
"فإن قيل" فهلا عملتم بالشبهين جميعا في كل مسألة كما فعلتم في دليل الخصوص والعمل بشبه الناسخ يوجب جواز البيع وإن لم يكن من فيه الخيار معلوما والثمن مفصلا؟
"قلنا" لأن العمل بهما لا يمكن في بعض الوجوه بخلاف دليل الخصوص أما في الوجهين الأولين فلأن العمل بهما يؤدي إلى سقوط شرط الخيار ولزوم العقد في العبدين لأن دليل النسخ إذا كان مجهولا سقط بنفسه وإذا سقط شرط الخيار ههنا لكونه مجهولا لزم العقد في العبدين كما لو لم يوجد الخيار أصلا وهذا خلاف مقصود المتعاقدين فلا(1/465)
وإعلام الحصة صح البيع ولم يعتبر الذي شرط فيه الخيار شرطا فاسدا في الآخر بخلاف الحر والعبد وما شاكل ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله إنه يعتبر شرطا فاسدا في الآخر لا محالة فيفسد به البيع والله أعلم.
ـــــــ
يجوز ولأنا لو عملنا بهما فالجواب لا يختلف أيضا لأن شبه الاستثناء يوجب فساد العقد وشبه النسخ يوجب انعقاده في العبدين ولم يكن منعقدا فلا ينعقد بالشك. وكذا الجواب في الوجه الثالث أيضا لأن العمل بشبه النسخ فيه يوجب لزوم العقد في الذي لا خيار فيه وكون الجهالة في الثمن طارئة غير مانعة كما اختاره القاضي الإمام رحمه الله وشبه الاستثناء يوجب الفساد فلا يثبت الجواز بالشك أيضا وأما الوجه الرابع فشبه الاستثناء يوجب الجواز أيضا لأنه استثناء معلوم كما أن شبه النسخ يوجب ذلك فكان في القول بالجواز فيه عمل بالشبهين أيضا ثم حاصل ما ذكر في الكتاب أنه شبه أولا خيار الشرط بدليل الخصوص ثم ذكر على سبيل الاستئناف مسألة الزيادات مع أوجهها الأربعة توضيحا ثم أقام الدليل على مجموع ما ذكر فبين وجه التشبيه بذكر تحقق الشبهين في خيار الشرط ثم بنى الأوجه الأربعة على الشبهين فقوله فقيل لا بد من كذا بيان تفرع الأوجه الثلاثة على شبه الاستثناء. وقوله وإذا وجد التعين في آخر الباب بيان تفرع الوجه الرابع على شبه النسخ قوله: "فقيل لا بد" من كذا بمنزلة الحر والعبد تقديره لا بد من إعلام الثمن والمبيع للجواز فإذا لم يوجد إعلام الثمن والمبيع أو لم يوجد واحد منهما لم يجز البيع كما لا يجوز بيع الحر والعبد الذي هو من أشباه الاستثناء عند عدم الإعلام بالاتفاق فيكون إلحاق الأوجه الثلاثة بالحر والعبد في عدم الجواز فيناسب الدليل المدلول أو تقديره فقيل لا بد من الإعلام للجواز كما لا بد منه لجواز بيع الحر والعبد عندهما فإذا لم يوجد الإعلام لم يثبت الجواز والله أعلم.(1/466)
المجلد الثاني
باب ألفاظ العموم
*
...
بسم الله الرحمن الرحيم
"باب ألفاظ العموم"
ألفاظ العموم قسمان: عام بصيغته ومعناه, وعام بمعناه دون صيغته. أما العام بصيغته ومعناه فهو صيغة كل جمع مثل الرجال والنساء والمسلمين
ـــــــ
"باب ألفاظ العموم"
قد مر في أول الكتاب أن العام ما ينتظم جمعا من المسميات لفظا أو معنى. ولما كان الانتظام بطريقين كانت الألفاظ الدالة على العموم قسمين ضرورة: قسم يدل عليه بمعناه دون صيغته, وقسم يدل عليه بصيغته ومعناه. والمراد أن يكون هذا اللفظ موضوعا لمطلق الجمع من غير تعرض لعدد معلوم بل يتناول الثلاثة فصاعدا وله صيغة تثنية وفرد من لفظه كرجال أو من غير لفظه كنساء ولهذا جمعهما الشيخ في إيراد النظائر. ثم الجمع على قسمين: جمع قلة: وهو ما يدل على العشرة فما دونها إلى الثلاثة وأمثلته أفعال وأفعل وأفعلة وفعلة كأثواب وأفلس وأجربة وغلمة. وقيل: جمع السلامة بالواو والنون والألف والتاء للتقليل أيضا. وقال بعض الأصوليين: هو بعيد لا سيما فيما ليس فيه جمع مبني للتكثير.
وجمع كثرة: وهو ما سواها من الجموع, ثم عامة الأصوليين على أن جمع القلة إذا كان منكرا ليس بعام لكونه ظاهرا في العشرة فما دونها. وإنما اختلفوا في جمع الكثرة إذا كان منكرا فكأن الشيخ رحمه الله بقوله فهو صيغة كل جمع رد قول العامة واختار أن الكل عام سواء كان جمع قلة أو كثرة إلا أنه إن ثبت في اللغة جمع القلة يكون العموم في موضوعه وهو الثلاثة فصاعدا إلى العشرة. وفي غيره يكون العموم من الثلاثة إلى أن يشمل الكل. إذ ليس من شرط العموم عند المصنف الاستغراق إلى ما عرف.
قوله: "مثل: الرجال والنساء" اللام في هذه النظائر لتحسين الكلام كما في قوله:(2/3)
والمسلمات والمشركين والمشركات وما أشبه ذلك أما صيغته فموضوعة للجمع وأما معناه فكذلك وذلك شامل لكل ما ينطلق عليه وأدنى الجمع ثلاثة ذكر ذلك محمد صريحا في كتاب السير في الأنفال وفي غيرها فصار هذا الاسم عاما متناولا جميع ما ينطلق عليه غير أن الثلاثة أقل ما يتناوله فصار أولى , ولهذا قلنا في رجل قال إن اشتريت عبيدا فهو كذا أو إن تزوجت نساء أن
ـــــــ
ولقد أمر على اللئيم يسبني . والمراد منها الجموع المنكرة لا المعرفة باللام والإضافة فإن الكلام في الجمع المعرف يأتي بعده , ولهذا ذكرت هذه النظائر في "التقويم" "والميزان" "وأصول الفقه" لأبي اليسر بلفظ التنكير فقبل كقولنا رجال ونساء ومسلمون ومسلمات
قوله: "أما صيغته فموضوعة للجمع" أي صيغة هذا العام الذي نحن بصدده فموضوعة للجمع ; لأن واضع اللغة ما وضع هذه الألفاظ أعني ألفاظ الجموع إلا لأعداد مجتمعة ألا ترى أنه يقال للواحد رجل وللاثنين رجلان وللثلاثة والألف رجال . وأما معناه فلا إشكال فيه ; لأنه يدل على أعداد مجتمعة . قال شمس الأئمة وهو عام بمعناه ; لأنه شامل لكل ما تناوله عند الإطلاق
قوله: "وذلك شامل" أي إلمام بصيغته ومعناه شامل لجميع ما ينطلق عليه هذا الاسم عند الإطلاق إن أمكن العمل به وإلا فينطلق على الثلاثة ; لأن الثلاثة أقل ما ينطلق هذا اللفظ عليه فصار أولى من غيره بعد انتفاء الكل ; لأنه ثابت بيقين وفيما زاد عليه شك واحتمال . وحاصله أن الجمع المنكر عام عندنا أي متناول للكل عند عدم المانع وعند وجوده محمول على أخص الخصوص وعند بعض من شرط الاستغراق في العموم ليس بعام بل يحمل على أخص الخصوص وإن أمكن العمل بالعموم ; لأن رجالا في الجموع كرجل في الوحدان فكما أن رجلا حقيقة في كل فرد على سبيل البدل كذلك رجال حقيقة لكل جمع على البدل , ولهذا يصح نعته بأي عدد شاء فيكون حقيقة في القدر المشترك بين المجموع وهو مطلق الجمعية . ولنا أن إطلاقه يصح على الكل بطريق الحقيقة وعلى ما دونه أيضا باعتبار معنى الجمعية والحمل على ما دونه إدخال له في حيز الإجمال إذ ليس من أقسام الجموع ما يمكن حمله عليه لاستواء الكل في معنى الجمعية فلم يبق إلا أن يحمل على الثلاثة للتيقن أو على الكل والكلمة موضوعة للشمول والعموم فيكون حملها على الكل أقرب إلى تحقيق العموم وأعم فائدة فكان أولى
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولأنه ينطلق على الأقل وهو الثلاثة عند تعذر العمل بالكل(2/4)
ذلك يقع على الثلاثة فصاعدا لما قلنا والكلمة عامة لكل قسم يتناوله وقد يصير هذا النوع مجازا عن الجنس إذا دخله لام المعرفة لأن لام المعرفة للعهد ولا عهد في أقسام الجموع فجعل للجنس ليستقيم تعريفه وفيه معنى الجمع أيضا ; لأن كل جنس يتضمن الجمع فكان فيه عمل بالوصفين ولو عمل على حقيقته بطل حكم اللام أصلا فصار الجنس أولى قال الله تعالى {لا يَحِلُّ لَكَ
ـــــــ
قلنا إذا قال إن اشتريت عبيدا فكذا أنه يقع على الثلاثة فصاعدا لما قلنا . ولا يقال إن قوله لما قلنا وقع مكررا من حيث المعنى ; لأن قوله , ولهذا قلنا تعليل لهذا الحكم المذكور فلا يصح تعليله بعد ذلك; لأن مثل هذا في كلام المتقدمين كثير وقد ذكرنا أن اهتمامهم كان في تصحيح المقاصد وهي المعاني فلذلك لم يتعمقوا في الألفاظ
قوله: "والكلمة" أي هذه الكلمة التي ذكرناها وهي صيغة الجمع . عامة أي شاملة لكل قسم من أقسام الجموع الذي يتناول هذه الكلمة إياه وإنما ذكر هذا ليشير به إلى أنه كما يتناول الكل والثلاثة يتناول ما بينهما أيضا بخلاف اسم الجنس فإنه يتناول الأعلى والأدنى ولا يتناول ما بينهما . والفرق أن اسم الجنس إنما يتناول باعتبار معنى الفردية ; لأنه اسم فرد وهو موجود في الأدنى والأعلى تحقيقا وتقديرا دون ما بينهما وهذا اللفظ إنما يتناول باعتبار معنى الجمعية وهو موجود في الأعلى والأدنى وفيما بينهما من أقسام الجموع . قال صدر الإسلام أبو اليسر إذا حلف لا يتزوج نساء فتزوج ثنتين لا يحنث في يمينه ولو تزوج ثلاثا يحنث ; لأن الثلاثة متيقن فينصرف اليمين إليه ولو نوى أكثر من الثلاث صحت نيته حتى لو تزوج ثلاثا لا يحنث في يمينه ; لأن هذه اللفظة يتناول ما زاد على الثلاث كما يتناول الثلاث إلا أن مطلقه كان ينصرف إلى ثلاث ; لأنه أقل فإذا نوى الأكثر فقد نوى محتمل كلامه فصحت نيته
قوله: "لأن لام المعرفة للعهد" أي لام التعريف للمعهود مثل أن يقول الرجل رأيت رجلا ثم كلمت الرجل أي ذلك الرجل بعينه . "ولا عهد" أي لا معهود في أقسام الجموع ليمكن تعريفه باللام حتى لو كان معهودا يمكن صرفه إليه يصرف إليه كمن قال لآخر إنك تريد أن تتزوج هذه النسوة الأربع فقال والله لا أتزوج النساء ينصرف كلامه إليهن خاصة كذا ذكر صدر الإسلام . "فجعل" أي هذا الاسم للجنس ليمكن تعريفه باللام إذ الجنس معهود في الذهن . "وفيه معنى الجمع" أي في جعله الجنس رعاية معنى الجمع أيضا ; لأن الجنس يتضمن الجمع إما في الخارج أو في الوهم إذا هو من الكليات والكلي ما لا يمنع مفهومه عن الشركة ولذلك جعلوا الشمس جنسا والقمر كذلك وجمعوهما على(2/5)
النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} وقال أصحابنا فيمن قال إن تزوجت النساء أو أشتريت العبيد فامرأته طالق أن ذلك يقع على الواحد فصاعدا لما قلنا إنه صار عبارة عن الجنس فسقطت حقيقة الجمع واسم الجنس يقع على الواحد على أنه كل الجنس ألا ترى أنه لولا غيره لكان كلا فإن آدم صلوات الله عليه كان كل الجنس للرجال وحواء رضي الله عنها وحدها كانت كل الجنس للنساء فلا يسقط هذه الحقيقة بالمزاحمة فصار الواحد للجنس مثل الثلاثة للجمع فكما كان اسم الجمع واقعا على الثلاثة فصاعدا كان اسم الجنس واقعا على الواحد فصاعدا وكان كمن حلف لا يشرب الماء أنه يقع على القليل على احتمال الكل .
ـــــــ
شموس وأقمار وإذا كان كذلك كان في جعله جنسا عمل بالوصفين أي بالمعنيين وهما الجمعية والتعريف . ولو حمل هذا اللفظ على حقيقة بعد دخول اللام فيه . لبطل حكم اللام وهو التعريف أصلا أي بالكلية لما ذكر . فصار الجنس أي حمله على الجنس وجعله مجازا فيه أولى من إبقائه على حقيقته . إن ذلك أي قوله النساء والعبيد يقع على الواحد فصاعدا حتى إذا اشترى عبدا واحدا أو تزوج امرأة واحدة حنث ولا يتوقف الحنث على شراء ثلاثة من العبيد أو تزوج ثلاث من النساء كما توقف فيما إذا كان منكرا . ومعنى قوله فصاعدا أنه يحنث بشراء عبدين وثلاثة وأربعة وألف أيضا كما يحنث في المنكر بشراء أربعة وخمسة وعشرة وألف أيضا لكنه إذا نوى شراء عبدين أو أكثر حتى لا يحنث بما دون ذلك لا يعمل نيته بخلاف المسألة الأولى فإنه يصح فيها نية ما فوق الثلاثة كما بينا .
قوله "واسم الجنس يقع على الواحد" جواب عن سؤال وهو أن يقال لما صار عبارة عن الجنس وكان اللام لتعريفه ينبغي أن لا يحنث بالمرأة الواحدة ولا بالعبد الواحد ; لأنهما ليسا بجنسين تامين ; لأن الجنس التام كل نساء العالم وكل عبيد الدنيا . فأجاب وقال الواحد يصلح جنسا كاملا كالكل ; لأن أفراد الجنس لو عدمت ولم تبق إلا هذه الواحدة كانت كلا وكان الاسم لها حقيقة ألا ترى أن حواء كانت جنسا كاملا وآدم عليه السلام كان جنسا كاملا وكان اسم الإنس له حقيقة وإنما لم يبق الكمال بانضمام أمثالها إليها لا لنقصان في نفسها فثبت أن البعض من الجنس صالح في ذاته لهذا الاسم حقيقة وإنما صار بعضا بمزاحمة أمثاله لا لنقصان في نفسه وإذا كان كذلك ساوى البعض الكل في الدخول تحت الاسم فيتأدى به حكم الكل إلا بدليل يرجح حقيقة الكل على الأدنى كذلك في شرح التقويم .(2/6)
وأما العام بمعناه دون صيغته فأنواع منها ما هو فرد وضع للجمع مثل الرهط والقوم ونحو ذلك مثل الطائفة والجماعة فصيغته رهط وقوم مثل زيد وعمرو ومعناهما الجمع ولما كان فردا بصيغته جمعا بمعناه كان اسما للثلاثة فصاعدا إلا الطائفة فإنها اسم للواحد فصاعدا كذلك قال ابن عباس رضي الله
ـــــــ
قوله :"فصار الواحد للجنس مثل الثلاثة للجمع" لما ذكر من الدليل إلا أن بينهما فرقا وهو أن اسم الجمع إنما يقع على الثلاثة إذا تعذر العمل بالكل وعند عدم التعذر يقع على الكل فأما اسم الجنس فيقع على الواحد وإن لم يتعذر العمل بالكل وإنما ينصرف إلى الكل بدليل ; لأن اسم الجنس اسم فرد والواحد فرد حقيقة وحكما والكل فرد حكما فكان الأولى بالاعتبار واسم الجمع موضوع لمعنى الجمعية والكل في هذا المعنى أكمل من الثلاثة فكان أولى وقد بينا لام التعريف في باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار وسنبينه بعد أيضا إن شاء الله تعالى .
قوله :"ما هو فرد وضع للجمع" أي لفظه فرد من حيث إنه يثنى ويجمع فيقال رهط ورهطان وأرهط وأرهاط وقوم وقومان وأقوام ولكنه وضع للجمع مثل الأول . والرهط اسم لما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة كذا في الصحاح . والقوم اسم لجماعة الرجال خاصة ; لأنهم القوام على النساء قال زهير1 :
وما أدري ولست أخال أدري
...
أقوم آل حصن أم نساء
وهو في الأصل جمع قائم كصائم وصوم وزائر وزور . أو هو تسمية بالمصدر كذا في المطلع وغيره فبالنظر إلى الأصل كان من القسم الأول وبالنظر إلى الاستعمال وجمعه على أقوام كان من هذا القبيل . وجمع الشيخ بين جمع القلة وهو الرهط وبين جمع الكثرة وهو القوم كما جمع في القسم الأول .
قوله "مثل الطائفة والجماعة" إنما أوردهما بعد ما ذكر نظائر هذا القسم دفعا لوهم من توهم أنهما عامان صيغة ومعنى إذ التاء علامة الجمع كالواو في مسلمون فبين أنهما من هذا القسم لا من الأول ; لأن كل واحد منهما يثنى ويجمع يقال طائفة وطائفتان وطوائف وجماعة وجماعتان وجماعات . كان اسما للثلاثة فصاعدا مثل العام صيغة ومعنى .
قوله "إلا الطائفة" اتفقوا أن الطائفة هي النفر اليسير . ثم قال الحسن هي اسم للعشرة . وقال الزهري لثلاثة . وقال عطاء للاثنين . وقال ابن عباس . ومحمد بن كعب هي
ـــــــ
1 ديوان زهير بن أبي سلمي ص 12(2/7)
عنه في قول الله تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} "سورة التوبة :122"أنه يقع على الواحد فصاعدا ; لأنه نعت فرد صار جنسا بعلامة الجماعة .
ومن ذلك كلمة من وهي تحتمل الخصوص والعموم قال الله تعالى {وَمِنْهُمْ
ـــــــ
اسم للواحد وهو قول أكثر أهل العلم ; لأنه لبعض الشيء يقال طائفة من الليل وطائفة من المال وطائفة من الناس وأقل الأبعاض في الأناسي واحد . ولأنها نعت من طاف يطوف وأقل من يطوف واحد إلا أنها صارت للجنس بعلامة الجماعة وهي التاء فإنها علامة التأنيث وإنما تدخل في الاسم للتأنيث أو لشبه التأنيث , والمراد بشبه التأنيث أن يكون فرعا لغيره ولم تدخل التاء في الطائفة للتأنيث بلا شبهة فيكون داخلة لشبه التأنيث وهو معنى الجمعية إذ الجمع فرع على الواحد كما دخلت في نحو عصبة وزمرة وإذا صارت جنسا بعلامة الجماعة كانت بمنزلة اسم الجنس الداخل عليه ; لام التعريف فيتناول الواحد فصاعدا . أو يقال ولما كانت نعت فرد في أصلها وانضمت إليها علامة الجماعة يراعى فيها المعنيان كما يراعى في صيغة الجمع إذا اتصل بها دليل الفردية كما قلنا في قوله لا أتزوج النساء وذكر في الكشاف الطائفة الفرقة التي يمكن أن يكون حلقة وأقلها ثلاثة وأربعة وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء وعن ابن عباس في تفسيرها أربعة إلى أربعين رجلا . وفي الصحاح الطائفة من الشيء قطعة منه وقوله تعالى . {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قال ابن عباس الواحد فما فوقه .
قوله "ومن ذلك" أي ومن العام بمعناه دون صيغته "كلمة من" وهي مختصة بأولي العقول وتستعمل في الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث حتى لو قال ومن دخل من مماليكي الدار فهو حر يتناول العبيد والإماء . ولفظها مذكر موحد ويحمل على اللفظ كثيرا وقد يحمل على المعنى أيضا وهي تستعمل في الاستفهام والشرط والخبر . وتعم في الأولين لا محالة تقول في الاستفهام من في هذه الدار أو في هذه القرية فقال زيد وبكر وخالد ويعد من فيها إلى أن يأتي على آخرهم ويقول في الشرط من زارني فله درهم فكل من زاره استحق العطاء . وأما في الخبر فقد تكون عامة وقد تكون خاصة قال الله تعالى {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} "سورة الأنبياء:82" وتقول زارني من اشتقت إليه وزرت من أكرمني وتريد واحدا بعينه وهو معنى قوله وهي تحتمل العموم أي في الشرط والاستفهام وبعض محال الخبر .
"والخصوص" أي في بعض مواضع الخبر لكنها في الشرط والاستفهام تعم عموم الانفراد وفي الخبر تعم عموم الاشتمال حتى لو قال من زارني فأعطه درهما يستحق كل من زاره العطية ولو قال أعط من في هذه الدار درهما استحق الكل درهما وإنما يتعمم(2/8)
مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} "سورة يونس :42 "{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} "سورة يونس :43"وأصلها العموم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقال أصحابنا رحمهم الله فيمن قال لعبده من شاء من عبيدي العتق فهو حر فشاءوا جميعا عتقوا فأما إذا قال من شئت من عبيدي عتقه فأعتقه فقال أبو يوسف
ـــــــ
عموم الانفراد في الشرط ; لأن الحكم في الشرط يتعلق بكل واحد من آحاد الجنس ; لأن بالناس حاجة إلى تعليق الحكم بكل واحد لو قال إن فعل فلان فله كذا وإن فعل فلان فله كذا حتى أحصوا الكل لطال الكلام ولوقعوا في الحرج وربما لا يمكنهم ذلك فأقيم كلمة من مقام ذلك فيتناول كل واحد منهم بانفراده .
وكذلك في الاستفهام إذا قيل أزيد في الدار أم عمر وأم محمد أم أحمد يطول الأمر فأقيم كلمة من مقام ذلك فتعم عموم الانفراد .
قوله :"قال الله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} " نظير العموم قوله عز اسمه . {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} "يونس :43" نظير الخصوص وهو بظاهره يصلح نظيرا للخصوص لإفراد صلته وهي ينظر إلا أن أهل التفسير قالوا المراد منه العموم أيضا كما في الأول لكن أفرد صلته في الثاني وجمع في الأول نظرا إلى اللفظ والمعنى كما في قوله تعالى . {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة : 112" وقالوا معناهما ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكن لا يعون ولا يقبلون ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون.
قوله :"وأصلها العموم" أي تستعمل في العموم أكثر مما تستعمل في الخصوص ; لأن موضوعها الأصلي العموم.
قوله: "من شئت من عبيدي" إذا قال من شئت من عبيدي عتقه فأعتقه قال أبو حنيفة رحمه الله له أن يعتقهم إلا واحدا منهم فإن أعتقهم واحدا بعد واحد عتقوا إلا الآخر وإن أعتقهم جملة عتقوا إلا واحدا منهم والخيار فيه إلى المولى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يعتقهم جميعا . وجه قولهما أن كلمة من عامة للذي يعقل وحرف من كما يكون للتبعيض يكون للجملة قال الله تعالى . {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} الأحقاف :31", {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} "المؤمنون :91". ويكون لتمييز الجنس أي للبيان يقال سيف من حديد وخاتم من فضة وقال تعالى . {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} "الحج :30". وههنا المراد بحرف من تمييز عبيده من غيرهم ; لأنه لو قال من شئت ولم(2/9)
ومحمد رحمهم الله للمأمور أن يعتقهم جميعا ; لأن كلمة من عامة وكلمة من لتمييز عبيده من غيرهم مثل قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} وقال أبو حنيفة رحمه الله يعتقهم إلا واحدا منهم ; لأن المولى جمع بين كلمة العموم والتبعيض فصار الأمر متناولا بعضا عاما وإذا قصر عن الكل بواحد كان عملا بهما وهذا حقيقة التبعيض وكذلك قوله ومن شاء من
ـــــــ
يقل من عبيدي كان كلاما مختلا فقال من عبيدي ليميز مماليكه عن مماليك غيره في إيجاب العتق فيتناولهم جميعا كما في قوله من شاء من عبيدي عتقه فهو حر وصار كما إذا خالع امرأته على ما في يدها من الدراهم كان الخلع واقعا على جميع ما في يدها من الدراهم ولم يعمل من في التبعيض لما علمت في التمييز بين الدراهم والدنانير . وقد يكون المشيئة مضافة إلى خاص , والمراد التعميم قال تعالى :
{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} "النور :62". {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} "الأحزاب :51".
والمراد الجميع والرجل تقول لغيره خذ من مالي ما شئت . كل من طعامي ما شئت ويوجب إباحة الكل فهذا كذلك . وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن المتكلم جمع بين كلمة العموم والتبعيض فوجب العمل بحقيقتهما إذ الكلام محمول على حقيقته ما أمكن لكن العموم هو الأصل ; لأنه أضاف الفعل إليه فوجب القول بالعموم إلا بقدر ما يقع به العمل بالتبعيض وذلك أن تنقص عن الكل واحد ليصير عاما بتناوله الأكثر ويثبت العمل بالتبعيض ; لأن التسعة من العشرة بعضها وقد أدخلت كلمة التبعيض في العبيد دون غيره فوجب أن تعمل في التبعيض فيه لا في غيره . فصار حقيقة ذلك ما قاله أبو حنيفة رحمه الله وهو معنى قول الشيخ وهذا حقيقة التبعيض . وإنما حملت على التمييز والبيان في قوله من شاء من عبيدي ; لأنه لما أكد العموم بإضافة المشيئة إلى عام صار ذلك دليلا على أنه لم يرد بهذه الكلمة التبعيض فحملت على التمييز وههنا أضيفت إلى خاص وهو المخاطب فلا يدل على تأكد العموم فلا يترك التبعيض . وكذلك في قوله تعالى . {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} "الحج :30". قد قام دليل العموم وهو أن الرجس واجب الاجتناب عقلا فلا يمكن الحمل على التبعيض . وقد اقترن بقوله تعالى . {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} "النو :62" . وقوله عز اسمه . {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} "الأحزاب" :51. دليل العموم أيضا وهو قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} "النور :62". وقوله جل ذكره . {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} "الأحزاب :51". وكذلك ترك التبعيض في قوله خذ من مالي ما شئت وكل من طعامي ما شئت بدلالة الحال ; لأن من جاد بطعامه أو ماله لم يظن به(2/10)
عبيدي عتقه فهو حر يتناول البعض إلا أنه موصوف بصفة عامة فسقط بها الخصوص وهذه الكلمة تحتمل الخصوص ; لأنها وضعت مبهمة في ذوات من يعقل مثاله ما قال في السير الكبير من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من
ـــــــ
أن يضن باللقمة أو الدراهم وليس كذلك العتاق ; لأنه قد يسمح ببعضه ويضن ببعضه فلذلك وجب القول بالأمرين كذا في جامعي شمس الأئمة والمصنف .
قوله "يتناول البعض" أي كلمة من في هذه المسألة يتناول البعض أيضا لدخول حرف التبعيض في العبيد كما في المتنازع إلا أن البعض الداخل تحت الشرط نكرة ; لأنه لا يعلم ما دخلت تحت الشرط وقد وصفت بصفة عامة وهي المشيئة ; لأن في الصلة معنى الصفة ; لأنها مع الموصول في حكم اسم موصوف ألا ترى أن معنى قوله عليه السلام . "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" . الشخص الداخل دار أبي سفيان آمن فتعم ضرورة عموم الصفة . "وسقط بها" أي بسبب هذه الصفة الخصوص أي التبعيض فأما البعض في المتنازع فلم يوصف بصفة عامة إذ المشيئة فيه أسندت إلى المخاطب فيبقى معنى الخصوص معتبرا فيه مع صفة العموم فيتناول بعضا عاما . ونظيره لو قيل من سرق من الناس فأقطعه يفهم وجوب القطع للسراق كلهم ولو قيل اقطع من السراق من شئت لم يوجب اللفظ استيعاب الجميع بالقطع .
ولا يقال إن المفعولية صفة كالفاعلية , ولهذا يوصف بها فيقال عمرو مضروب كما يقال زيد ضارب وشيء معلوم كما يقال رجل عالم وهذه الكلمة قد صارت موصوفة بالمفعولية أي بالمشيئية كما أن الأولى صارت موصوفة بالفاعلية فلتتعمم بعموم هذه الصفة أيضا . لأنا نقول حقيقة الصفة معنى يقوم بالموصوف وذلك المعنى الذي تسميه وصفا إنما تقوم بالفاعل إلا بالمفعول إذ الضرب قائم بالضارب والعلم قائم بالعالم لا بالمضروب والمعلوم وإنما للمفعول تعلق بذلك المعنى باعتبار التأثر فلا يؤثر ذلك في العموم. قال شمس الإسلام الأوزجندي في جواب هذا السؤال أن الوصف للتعريف والتعريف إنما يحصل بالمذكور ومعنى المفعولية ليست بمذكور ولو صار مذكورا إنما يصير مذكورا بطريق الاقتضاء فلا يحصل به التعميم . على أنا لا نسلم أنها وصفت بالمفعولية بل الموصوف بها العتق في قوله عتقه فلا يرد هذا السؤال .
قوله "وهذه الكلمة" لما بين عموم هذه الكلمة شرع في بيان احتمال خصوصها فقال وهذه الكلمة أي كلمة من تحتمل الخصوص ; لأنها وضعت مبهمة في ذوات من يعقل فيقع لإبهامها على الفرد والجمع كما أن النكرة تصلح لإبهامها أن تقع على كل شخص على سبيل البدل . معنى الإبهام فيها أنها تذكر مرة للعموم وأخرى للخصوص(2/11)
النفل كذا فدخل واحد فله النفل وإن دخل اثنان معا فصاعدا بطل النفل لأن الأول اسم للفرد السابق فلما قرنه بهذه الكلمة دل ذلك على الخصوص فتعين به احتمال الخصوص وسقط العموم فلم يجب النفل إلا لواحد متقدم ولم يوجد .وقسم آخر وهي كلمة كل وهي للإحاطة على سبيل الأفراد قال الله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} "آل عمران :185" و "الأنبياء "35" و "العنكبوت :57"ومعنى الإفراد أن يعتبر كل مسمى منفردا ليس معه غيره وهذا معنى ثبت
ـــــــ
وليست للعموم في كل الأحوال كرجال ونساء ولا للخصوص في كل الأحوال كزيد وعمرو فصارت مبهمة كذا ذكر في "الشروح" وهو ضعيف . بل معنى الإبهام فيها وفي أمثالها أنها تقع على كل نفس وشيء لا على معين وأنها لا تفهم بذواتها وإنما تفهم بصلاتها الداخلة عليها فيصير مع صلتها ككلمة واحدة . وهي وضعت لذوات من يعقل لا غير عليه إجماع أهل اللغة حتى لو قيل من في الدار فجوابه زيد أبو بكر أو خالد ولو قيل فرس أو شاة كان مخطئا في الجواب . مثاله احتمال هذه الكلمة الخصوص . الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه غيره من جنسه وهو صريح في هذا المعنى وكلمة من تحتمل الخصوص كما بينا وإن كان أصلها العموم فلما جمعها في كلامه حمل المحتمل على الصريح فسقط العموم عن هذه الكلمة لتعذر العمل به فلهذا لا يستحق النفل إلا واحد دخل سابقا على الجماعة فإذا دخله اثنان سقط النفل لفوات الوحدة وكذا إذا دخل بعده واحد لفوات السبق .
قوله "وقسم آخر" أي من أقسام العام بمعناه دون صيغته كلمة كل . وكأنها مأخوذة من الإكليل الذي هو محيط بجوانب الرأس فلذلك يوجب الإحاطة ولكن على سبيل الإفراد كأنه ليس معه غيره فإذا قال لرجلين لكما علي ألف درهم يجب عليه الألف لهما ولو قال لكل واحد منكما علي ألف درهم يلزم عليه لكل واحد منهما ألف . وهي من الأسماء اللازمة الإضافة , ولهذا لا يدخل إلا على الأسماء إذ الإضافة من خصائص الاسم فإن أضيفت إلى معرفة توجب إحاطة الأجزاء وإن أضيفت إلى نكرة توجب إحاطة الإفراد فيصح قول الرجل كل التفاح حامض أي جميع أجزائه كذلك ولا يصح كل تفاح حامض لحلاوة بعض منه . وإذا ضمنت معنى الشرط يؤتى بفعل بعد الاسم المضاف إليه كل صفة له ليصلح للشرطية إذ الاسم لا يصلح لذلك ; لأنه لا بد للشرط من أن يكون مترددا وذلك في الأفعال دون الأسماء .
قوله "وهذا معنى" أي الإحاطة على سبيل الإفراد معنى ثبت بكلمة كل فيما أضيفت هذه الكلمة إليه . يعني أثر عمومه يظهر في المضاف إليه فإن أضيفت إلى معرفة(2/12)
بهذه الكلمة لغة فيما أضيفت إليه كأنها صلة حتى لم تستعمل مفردة وهي تحتمل الخصوص أيضا وهي مثل كلمة ومن إلا أنها عند العموم تخالفها في إيجاب الأفراد فإذا دخلت على النكرة أوجبت العموم مثل قول الرجل كل امرأة تزوجها فهي طالق ولا تصحب الأفعال إلا بصلة فإذا وصلت أوجبت عموم الأفعال مثل قول الله سبحانه وتعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
ـــــــ
يوجب العموم فيها بإحاطة أجزائها لا في غيرها وإن أضيفت إلى نكرة توجب العموم فيها بإحاطة إفرادها لا في غيرها فلو قال كل عبد دخل الدار فهو حر يثبت العموم في العبيد دون الإماء ولو قال لعبده أعط كل رجل من هؤلاء درهما يوجب العموم فيهم دون غيرهم وكذا لو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق يوجب العموم في المرأة لا في التزوج حتى لو تزوج امرأة مرتين لا تطلق في المرة الثانية . ثم ثبت العموم بهذا اللفظ في المضاف إليه ولم يظهر أثر العموم في ذاته كما في قولك رجال ونساء وقوم ورهط كان مشابها للحرف من حيث إن كل واحد دل على معنى في غيره ولذلك لم تنفك هذه الكلمة عن الإضافة كما أن الحرف لا ينفك عن اسم أو فعل يصحبه فهذا معنى قوله كأنها صلة أي حرف حيث لم تستعمل مفردة أي بدون المضاف إليه أو بدل فلا يقال كل جاءوا وإنما يقال كل القوم جاءوا أو كل جاءوا.
قوله "وهي تحتمل الخصوص" مثل كلمة من حتى لو قيل كل من دخل منكم هذا الحصن أولا فله كذا فدخله جماعة على الولاء كان النفل للأول لا لغيره كما سيأتي بيانه.
"ولا تصحب الأفعال" أي لا تدخل عليها إلا بصلة ; لأنها لازمة الإضافة وهي من خصائص الأسماء فلا تدخل على الأفعال .
"فإذا وصلت" أي دخلتها الصلة وهي كلمة ما . "أوجبت عموم الأفعال" ; لأنها توجب عموم ما دخلت عليه . وكلمة ما هذه للجزاء ضمت إلى كل فصارت أداة لتكرار الفعل ونصب كل على الظرف والعامل فيه الجواب كذا في "عين المعاني" وغيره . ورأيت في كتاب "بيان حقائق حروف المعاني" أن ما مع الفعل الذي بعده بمنزلة الاسم الذي يقع بعد كل وكل مضاف إلى ذلك الاسم في التقدير فإذا قلت كلما تأتني أكرمك معناه كل إتيان يحصل منك لي أكرمك والمصدر في مثل هذا الموقع يراد به وقت وقوع الفعل تقول أقوم ههنا ما دام زيد جالسا أي دوام زيد جالسا وتريد بالدوام وقت الدوام . فإذا ثبت هذا قلنا إذا قال لامرأته كلما دخلت الدار فأنت طالق معناه وقت تدخلين فيها فكل مضاف إلى وقت الدخول والوقت ظرف فكان كل ظرفا أيضا ; لأن حكمه حكم ما أضيف إليه أبدا والعامل فيه الفعل الذي هو الجزاء وهو أكرمك في المثال المذكور وما هو في معنى الفعل مثل فأنت طالق في المثال الآخر.(2/13)
بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} النساء :56" وعلى هذا مسائل أصحابنا وبيان ما قلنا من الفرق بين كلمة كل ومن فيما قاله محمد في السير الكبير من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا فدخل جماعة بطل النفل ولو قال كل من دخل منكم هذا الحصن إلا فله كذا فدخل عشرة معا وجب لكل رجل منهم النفل كاملا على حياله لما قلنا إنه يوجب الإحاطة على سبيل الأفراد
ـــــــ
قوله "وقوله تعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} " قال العلامة إمام الأئمة مولانا حافظ الملة والدين أسكنه الله بحبوحة جنانه التبديل تغيير الصفة كما يقال بدلت القميص قباء وقال تعالى . {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} "إبراهيم :48". أي تسوى غيطانها بآكامها فلا يلزم تعذيب غير المجرم والنضيج إذا أعيد نيا لا يكون غيره فكانت الغيرية المذكورة في الآية راجعة إلى الصفة لا إلى الذات.
"وعلى هذا مسائل أصحابنا" أي على أن كلمة كل توجب العموم في النكرات وكلما توجبه في الأفعال بنيت مسائل أصحابنا فإذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فهي تعم الأعيان دون الأفعال فإذا تزوج امرأة مرتين لا يحنث في المرة الثانية . ولو قال كلما تزوجت امرأة فكذا فتزوج امرأة مرتين يحنث في كل مرة . وكذا الحكم في قوله كل عبد أشتريه فهو حر وكلما اشتريت عبدا فعلي كذا فاشتري عبدا وباعه ثم اشتراه يحنث في المرة الثانية في اليمين الثانية . وفي جنس هذه المسائل كثرة.
قوله "وبيان ما قلنا من الفرق إلى آخره" ذكره في شرح السير الكبير لشمس الأئمة ولو قال كل من يدخل منكم هذا الحصن أولا فله رأس فدخل خمسة معا فلكل واحد منهم رأس ; لأن كلمة كل تجمع الأسماء على أن يتناول كل واحد منهم على الانفراد فعند ذكره يجعل كل واحد من الداخلين كأن اللفظ تناوله خاصة وكأنه ليس معه غيره فيكون لكل واحد منهم رأس ولو دخلوا متواترين كان للأول النفل خاصة ; لأن كل الداخل أولا هو فإن من دخل بعده ليس بأول حين سبقه غيره بالدخول وفي الفصل الأول لم يسبق كل واحد منهم غيره بالدخول وعلى اعتبار إفراد كل واحد منهم كما هو موجب كلمة كل يكون كل واحد منهم أول داخل . وهذا بخلاف قوله من دخل منكم أولا فله كذا فإن هناك إذا دخل الخمسة معا لم يكن لهم شيء ; لأن كلمة من توجب عموم الجنس ولا توجب إفراد كل واحد من الداخلين كأنه ليس معه غيره وعلى اعتبار معنى العموم ليس فيهم أول فأما كلمة كل فتوجب تناول كل واحد على الانفراد كأنه ليس معه غيره ثم كلمة كل قد توجب العموم أيضا ولكن لو حملناها على معنى العموم لم تبق لها فائدة ; لأن ذلك ثابت بقوله من دخل ولا بد من أن تكون لها زيادة فائدة وليس ذلك إلا ما(2/14)
فاعتبر كل واحد منهم على حياله وهو أول في حق من تخلف من الناس وفي كلمة من وجب اعتبار جماعتهم وذلك ينافي الأولية ولو دخل العشرة فرادى في مسألة كل كان النفل للأول ; لأنه هو الأول من كل وجه وهي تحتمل الخصوص فسقط عنها الإحاطة وصارت للخصوص وقسم آخر كلمة "الجميع" وهي عامة مثل "كل" إلا أنها توجب الاجتماع دون الانفراد فصارت بهذا المعنى مخالفة للقسمين الأول ولذلك صارت مؤكدة لكلمة "كل" وبيان ذلك في قول محمد في "السير الكبير" جميع من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة منهم أن لهم نفلا واحدا بينهم جميعا بالشركة ويصير النفل واجبا لأول جماعة يدخل فإن دخلوا فرادى كان للأول ; لأن الجميع يحتمل أن يستعار بمعنى
ـــــــ
قلنا :"وهو أنها توجب الإحاطة في كل داخل لم يسبقه غيره على أن يتناول كل واحد منهم على الانفراد".
والحيال الحذاء يقال قعد حياله وبحياله أي بإزائه وأصله الواو فمعنى قوله وجب لكل رجل النفل كاملا على حياله وجب النفل لكل واحد بمقابلته وقوله فاعتبر واحد منهم على حياله أي بانفراده ; لأن من قعد بإزاء آخر متفرد في نفسه غير تابع له فاستعير للانفراد.
قوله "وهي عامة مثل" كلمة "كل" من حيث إنها توجب الإحاطة كهي إلا أنها توجب الإحاطة على وجه الاجتماع وتلك توجبها على وجه الانفراد. فصارت بهذا المعنى وهو أنها توجب الإحاطة على سبيل الاجتماع مخالفة للقسمين الأولين يعني كلمة "من" وكلمة "كل" وذلك ; لأن كلمة "كل" توجب الإحاطة على سبيل الإفراد كما بينا وكلمة "من" توجب الاجتماع والعموم ولا توجب الإحاطة قصدا وكلمة الجميع تخالفهما ; لأنها توجب الإحاطة بصفة الاجتماع قصدا . ولذلك أي ولكونها موجبة للإحاطة مثل كلمة "كل" صارت مؤكدة لكلمة "كل" فيقال جاءني القوم كلهم أجمعون.
"وبيان ذلك" أي أنها توجب الاجتماع ما إذا قال الإمام جميع من دخل هذا الحصن أولا فله رأس فدخله عشرة معا فالنفل الواحد بينهم بالسوية ; لأن ما لحق بكلمة من ههنا يدل على الاجتماع دون الإفراد فيصير باعتباره جميع الداخلين كشخص واحد في أنهم أول فلهم رأس واحد وكلمة كل تقتضي الإحاطة على سبيل الإفراد فيجعل باعتبارها كأن كل واحد من الداخلين تناوله الإيجاب خاصة كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله في شرح السير الكبير .(2/15)
الكل.وقسم آخر كلمة ما وهي عامة في ذوات ما لا يعقل وصفات من يعقل تقول ما في الدار جوابه شاة أو فرس وتقول ما زيد وجوابه عاقل أو عالم وقال
ـــــــ
قوله "لأن الجميع يحتمل أن يستعار بمعنى الكل" من حيث إن كل واحد منهما يوجب الإحاطة والعموم فيعمل به عند تعذر العمل بالحقيقة وقد قام الدليل على أن الواحد يستحق النفل كالجميع ; لأن هذا التنفيل للتشجيع وإظهار الجلادة في قتال العدو وبدليل قوله أولا فلما استحقه الجماعة بالدخول أولا فالواحد الداخل أولا أولى ; لأن الجرأة والجلادة فيه أقوى . ألا ترى أنه لو قال لرجل بعينه لست أطمع في أن تدخل أولا لكن إن دخلت ثانيا فلك كذا فدخل أولا يستحق النفل استحسانا ; لأنا نتيقن أنه صنع ما طلب الإمام منه زيادة في إظهار القوة والجلادة فإن بما تقدم من قول الإمام لست أطمع في أن تدخل أولا يتبين أنه لم يكن مراده أن شرط عليه الدخول ثانيا وإنما مراده التحريض على إظهار الجد في القتال وقد أتى به على أقوى الوجوه فكذلك ههنا
"فإن قيل" فهلا جعلت كلمة "من" بمعنى كلمة "كل" بطريق الاستعارة فيما إذا دخله جماعة فيكون لكل واحد منهم نفل كما في كلمة "كل" أو بمعنى كلمة الجميع فيكون للكل نفل واحد كما في كلمة الجميع
"قلنا" ; لأنه لا يمكن وذلك لأن كلمة من لا تدل على الإحاطة ولا على الاجتماع والانفراد قصدا وإنما ثبت العموم فيها ضرورة إبهامها كعموم النكرة في موضع النفي وإذا كان كذلك لا يكون له اشتراك مع كل واحد منهما في المعنى الخاص الموضوع لكل واحد منهما وهو الإحاطة بصفة الانفراد والإحاطة بصفة الاجتماع فلا يجوز الاستعارة
"فإن قيل" في هذه الاستعارة جمع بين الحقيقة والمجاز إذ لو دخل فيه جمع استحقوا نفلا واحدا عملا بحقيقته ولو دخل واحد يستحقه أيضا عملا بمجازه
"قلنا" ليس المراد كليهما بل المراد أحدهما ; لأن الشرط وهو الدخول أولا لا يوجد إلا في واحد أو أكثر من واحد فإن وجد في أكثر من واحد يعمل بحقيقته وإن وجد في واحد يعمل بمجازه ويتبين أنه هو المراد من الأصل وإنما يلزم الجمع بينهما إن لو تصور اجتماعهما بأن دخل جماعة أولا واستحقوا النفل ودخل واحد أولا أيضا واستحق النفل وذلك غير ممكن فلا يكون فيه جمع بينهما كذا قيل . ولقائل أن يقول عدم جواز الجمع بالنظر إلى الإرادة لا بالنظر إلى الوقوع وفي الإرادة الجمع متصور بل متحقق فلا يجوز فإن كلمة من يتناول كلمة ما عامة وهي تستعمل في ذوات ما لا يعقل وفي صفات من يعقل فإذا قيل ما في الدار يستقيم في الجواب فرس أو شاة أو ثوب ولا يستقيم في الجواب رجل وامرأة كذا ذكر عامة الأصوليين.(2/16)
أصحابنا فيمن قال لأمته إن كان ما في بطنك غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية لم تعتق ; لأن الشرط أن يكون جميع ما في البطن غلاما قال الله تعالى {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} البقرة :284" وكذلك كلمة الذي
ـــــــ
ورأيت في نسخة من أصول الفقه أن أهل اللغة اتفقوا على أن كلمة من مختصة بالعقلاء لكنهم اختلفوا في كلمة ما فمنهم من يقول إنها زائدة على معنى من يصلح لما يعقل ولما لا يعقل ومنهم من يقول إنها تختص بما لا يعقل كاختصاص من بمن يعقل . وذكر صاحب المفتاح فيه أن ما للسؤال عن الجنس تقول ما عندك بمعنى أي أجناس الأشياء عندك وجوابه إنسان أو فرس أو كتاب أو طعام . أو عن الوصف تقول ما زيد وما عمرو وجوابه الكريم أو الفاضل . قال ولكون ما للسؤال عن الجنس وللسؤال عن الوصف وقع بين فرعون وبين موسى ما وقع ; لأن فرعون لما كان جاهلا بالله معتقدا أن لا موجود مستقلا بنفسه سوى الأجسام اعتقاد كل جاهل لا نظير له ثم سمع موسى قال {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "الشعراء :16"سأل بما عن الجنس سؤال مثله فقال {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} "الشعراء :23" كأنه قال أي أجناس الأجسام وهو ولما كان موسى عليه السلام عالما بالله أجاب عن الوصف تنبيها على النظر المؤدي إلى العلم بحقيقته الممتازة عن حقائق الممكنات فلما لم يتطابق السؤال والجواب عند فرعون الجاهل عجب من حوله من جماعة الجهلة فقال لهم {أَلا تَسْتَمِعُونَ} "الشعراء :25"ثم استهزأ بموسى وجنده فقال {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} "الشعراء :27"وحين لم يرهم موسى يفطنون لما نبههم عليه في الكرتين من فساد مسألتهم الحمقاء واستماع جوابه الحكيم عليهم غلظ في الثالثة فقال
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} "الشعراء :28" .
قوله "كذلك كلمة الذي" أي ومثل كلمة ما كلمة الذي في العموم . في مسائل أصحابنا . قال شمس الأئمة رحمه الله بعد ذكر من وما ونظيرها بين الكلمتين كلمة الذي فإنها مبهمة مستعملة فيما يعقل وفيما لا يعقل وفيها معنى العموم على نحو ما في الكلمتين حتى إذا قال إن كان الذي في بطنك غلاما كان بمنزلة قوله إن كان ما في بطنك غلاما وكذا حكم الألف واللام بمعنى الذي حتى لو قال لعبيده الضارب منكم زيدا حر أو قال لنسوته الضاربة منكن زيدا طالق فالذي ضرب منهم يعتق وكذا التي ضربت تطلق ; لأن الألف واللام بمعنى الذي والتي معروف في كلام العرب كذا في كتاب بيان حقائق وحروف المعاني .(2/17)
في مسائل أصحابنا وهذه في احتمال الخصوص مثل من كلمة وعلى هذا يخرج قول الرجل لامرأته طلقي نفسك من الثلاث ما شئت أن على قولهما تطلق نفسها ثلاثا وعند أبي حنيفة رحمه الله واحدة أو اثنين لما قلنا في الفصل الأول ويجوز أن يستعار كلمة ما بمعنى من وهذه كلمات موضوعة غير معلولة .
ـــــــ
قوله "وهذه" أي كلمة ما في احتمال الخصوص مثل كلمة من ; لأنها وضعت مبهمة كهي فلإبهامها تقع على الواحد وعلى أكثر منه "وعلى هذا" أي وعلى احتمال الخصوص عند أبي حنيفة وعلى احتمال العموم عندهما تخرج المسألة المذكورة . فعلى قولهما تجري هذه الكلمة على عمومها وتجعل كلمة من لتمييز هذا العدد من الأعداد أي أوقعي من هذا العدد ما شئت لا من الأعداد التي فوقه ويصح هذا التمييز وإن كان ما فوقه من الأعداد في الطلاق غير مشروع ; لأنه تصرف في اللفظ فلا تعتمد على وجوده شرعا كما في قوله أنت طالق ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين يقع واحدة ويصح الاستثناء نظرا إلى اللفظ كذا هنا .
وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يجعل حرف من للتبعيض كما في قوله أعتق من عبيدي من شئت وكلمة ما يحتمل الخصوص وقد عارضها حرف التبعيض فتحمل على الخصوص وهو التبعيض ثم يعمل بالعموم فيه بقدر الإمكان ليحصل العمل بحقيقة الكلمتين كما في تلك المسألة .
قوله "ويجوز أن يستعار كلمة ما بمعنى من" يعني ما بينا من معنى الكلمتين بيان الحقيقة فأما كلمة "ما" فقد تستعمل بمعنى كلمة "من" مجازا كقولهم سبحان ما سبح الرعد بحمده وسبحان ما سخركن لنا . وقوله تعالى {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} "الشمس :5" أي ومن بناها في قول بعض المفسرين . وعند بعضهم أوثرت كلمة "ما" على "من" لإرادة معنى الوصفية فكأنه قيل والقادر العظيم الذي بناها . وقد استعملت كلمة "من" بمعنى "ما" أيضا كما في قوله تعالى . {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} النور :45" وقوله عز اسمه . {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} النحل :70". إلا أن الشيخ خص ; لأنه في بيان كلمة "ما" ولأن الأول أكثر .
وقد قيل اختير لفظ من في هذه المواضع ; لأنه تعالى لما قال . {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} النور :45 ". دخل فيه العقلاء وغيرهم فحسن تغليب العقلاء على غيرهم وكذا الخلق فعل من يعقل فناسب كلمة "من" أو معناه ومن يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم(2/18)
وقسم آخر النكرة إذا اتصل بها دليل العموم ; لأن النكرة تحتمل ذلك إذا اتصل بها دليله مثل ما قلنا في كلمة كل ودلائل عمومها ضروب وبيان ذلك أن النكرة في النفي تعم وفي الإثبات تخص ; لأن النفي دليل العموم وذلك
ـــــــ
فكيف بما لا علم له . أو الكلام مبني على زعم الكفار فلذلك قيل من في هذه المواضع دون "ما" .
قوله "وهذه كلمات موضوعة غير معلولة" العام معنى لا صيغة قسمان قسم ثبت عمومه بالوضع وقسم ثبت عمومه بعارض يلحق به فقوله وهذه كلمات موضوعة إشارة إلى أن الألفاظ المذكورة كقوم ورهط ومن وما وكل وجميع من القسم الأول دون الثاني .
ثم شرع في بيان القسم الثاني فقال "وقسم آخر أي من العام معنى لا صيغة النكرة إذا اتصل بها دليل العموم" ; لأنها تحتمل العموم كما قلنا في كلمة كل فإنها إذا دخلت على النكرة أوجبت عمومها وإن كانت النكرة في ذاتها خاصة إذ هي اسم وضع لفرد من أفراد الجملة "وبيان ذلك" أي بيان عمومها عند اتصال دليل العموم بها أنها في النفي تعم سواء دخل حرف النفي على نفسها كقولك لا رجل في الدار أو على الفعل الواقع عليها كقولك ما رأيت رجلا وفي الوجهين يثبت العموم فيها ضرورة واقتضاء لا لمعنى في نفس الصيغة إذ هي لا يتناول في النفي والإثبات إلا واحدا . وذلك ; لأنه لما نفى رؤية رجل منكر فقد نفى رؤية جميع الرجال ; لأنه نفى رؤية هذه الحقيقة وهي موجودة في جميع الأفراد فكان من ضرورته انتفاء رؤية جميع الأفراد لئلا يلزم الجمع بين النقيضين إذ لو كان رأى رجلا واحدا لا ينتفي رؤية تلك الحقيقة . ولهذا لو قال لعبده لا تضرب اليوم أحدا من الناس عد مخالفا عند العقلاء أجمع بضرب واحد وكذا لو قال ما أكلت اليوم شيئا فمن أراد تكذيبه قال بل أكلت شيئا ولو لم يفد الأول العموم لما صح هذا التكذيب ; لأن الإيجاب الجزئي لا يناقض السلب الجزئي . ويؤيد ما ذكرنا أن اليهود لما قالت {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} "الأنعام :91"رد الله تعالى قولهم بقوله عز اسمه :
{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} الأنعام "91" . ولم يفد الكلام الأول العموم لما كان هذا ردا له . ولأن النصوص والإجماع تدل على كلمة أن لا إله إلا الله كلمة توحيد وإنما صح ذلك أن لو كان نفي النكرة موجبا للعموم
"فإن قيل" قد يصح الإضراب عنه بإثبات التثنية والجمع مثل أن يقول ما رأيت رجلا بل رأيت رجلين أو رجالا كذا نقل عن سيبويه ولو كان موجبا للعموم لما صح كما لو قيل ما رأيت رجلا بل رأيت رجالا(2/19)
ضروري لا لمعنى في صيغة الاسم وذلك أنك إذا قلت ما جاءني رجل فقد نفيت مجيء رجل واحد نكرة ومن ضرورة نفيه نفي الجملة ليصح عدمه بخلاف الإثبات ; لأن مجيء رجل واحد لا يوجب مجيء غيره ضرورة فهذا ضرب من دلائل العموم . وضرب آخر إذا دخل لام التعريف فيما لا يحتمل التعريف.
ـــــــ
"قلنا" نحن لا نسلم صحة ذلك . ولئن سلمنا فنقول بقرينة الإضراب يفهم المراد نفي صفة الوحدة لا نفي نفس الحقيقة كما لو قال ما رأيت رجلا كوفيا يدل على انتفاء رؤية هذه الحقيقة الموصوفة لا مطلق الحقيقة كذا هذا .
وذكر بعضهم أن النكرة تعم في موضع الشرط كما تعم في موضع النفي يقال من يأتني بمال أجازه لا يختص هذا بمال دون مال وذلك ; لأنها إنما عمت في النفي ; لأنها ليست مختصة بمعين في قولك رأيت رجلا والنفي لا اختصاص له ; لأنه نقيض الإثبات فإذا انضم النفي إلى التنكير اقتضى اجتماعهما العموم فكذا الشرط لا اختصاص له بل مقتضاه العموم فالنكرة الواقعة في موضعه تعم أيضا ولما كانت المعرفة خلاف النكرة كان الفرق في عمومها للأجزاء وعدمه في حالتي الإثبات والنفي على عكس ما ذكرنا في النكرة فإنه إذا قال والله لا أشتري هذا العبد اليوم فاشتراه إلا جزءا منه لا يحنث ولو قال والله لأشترين هذا العبد اليوم فاشتراه إلا جزءا منه يحنث . ثم قيل النكرة في الإثبات أنما تخص إذا كانت اسما غير مصدر فإن كانت مصدرا فهي تحتمل العموم فإنه تعالى قال . {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} الفرقان :14" . وصف الثبور بالكثرة وكذا لو قال أنت طالق طلاقا ونوى الثلاث يصح فعلم أن المصدر المنكر يحتمل العموم في الإثبات ألا ترى أنه لو قال رأيت رجلا كثيرا لا يصح ; لأنه اسم .
قوله "وضرب آخر" أي من دلائل العموم لام التعريف . اعلم أن أهل الأصول قد اختلفوا في اسم الجنس إذا دخلته لام التعريف لا للعهد فقال بعضهم إن ذلك ينبئ عن أن هذا الجنس مراد ولا يدل على الاستغراق بل هو يحتاج إلى دليل وإليه ذهب بعض مشايخنا المتأخرين وهو قول أبي علي الفسوي من أئمة اللغة . قال القاضي الإمام أبو زيد اللام إذا دخلت على الفرد أو الجمع يصير للجنس إلا أن اسم الجنس يتناول الكل بطريق الحقيقة والأدنى بطريق الحقيقة أيضا لكن عند الإطلاق ينصرف إلى الأدنى وهو الواحد وهو مذهب المصنف أيضا قالوا هذا اللفظ يتناول بحقيقة الأدنى كما يتناول الكل وكل فرد يصلح أن يكون كلا كما بينا فلما ساوى البعض الكل في الدخول ترجح البعض بالتيقن وانصرف مطلق اللفظ إليه واحتمل الكل بدليله . واستدلوا على ذلك بقوله والله لا أشرب الماء ولا أتزوج النساء ولا أشتري العبيد فإن هذه الأيمان تقع على الأدنى ولا تنصرف إلى(2/20)
بعينه لمعنى العهد وذلك مثل قول الله تعالى {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} "العصر :1-2"أي هذا الجنس وكذلك قول الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} "المائدة :38" {والزانية والزاني} "النور :2"
ـــــــ
الكل إلا بالنية . قالوا ولا يقال ذلك باعتبار تعذر صرفها إلى الكل ; لأنه إذ قال لامرأته أنت الطلاق تطلق واحدة وقد أمكن صرفه إلى الكل ولم ينصرف إليه بدون النية أيضا فعلم أن موجبه تناول الأدنى على احتمال الأعلى . وذهب جمهور الأصوليين وعامة مشايخنا وعامة أهل اللغة إلى أن موجبه العموم والاستغراق ; لأن العلماء أجمعوا على إجراء قوله تعالى . {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "المائدة :38". وقوله عز اسمه . {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} "النور :2". على العموم واستدلوا باستغراقهما من غير نكير . وكذلك استدلوا بالجموع المعرفة باللام وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم استدلالا شائعا ولم ينكر عليهم أحد . وكذا أريد من قوله تعالى . {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} "ق :10". {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} "النحل:8". {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} "يونس :67". {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} البقرة :21". {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} . كل الجنس لا فرد مخصوص .
ونص الزجاج1 أن الإنسان في قوله تعالى . {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} . بمنزلة قوله الناس . وكذا يقال الفرس أعدى من الحمار والأسد أقوى من الذئب ويراد به كل الجنس إلا الفرد . وقد انعقد عليه إجماع أهل اللغة أيضا فإن بعضهم سماها لام التجنيس وبعضهم سماها لام الاستغراق حتى قال أهل السنة بأجمعهم إن اللام في قوله تعالى . {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الفاتحة :1". لاستغراق الجنس فقالوا معناه جميع المحامد لله تعالى فكان القول بأنه يقع على الأدنى ولا ينصرف الأعلى إلا بدليل مخالف للإجماع . ولأن هذه اللام للتعريف لغة والتعريف يحصل تمييز المسمى عن أغياره وهو تارة يكون تمييز الشخص عن سائر الأشخاص المشاركة له في الدخول تحت النوع ولم يحصل هذا التعريف إلا بعد سبق عهد بهذا الشخص ذكرا أو مشاهدة . وتارة يكون تمييز النوع عن سائر الأنواع المساوية له في دخوله تحت الجنس كما يقال ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا فإن اسم الأسد واقع على كمال نوعه لا على شخص من أشخاصه لانعدام سبق العهد وهذا النوع من التعريف أبلغ من التعريف للشخص لبقاء الاشتراك لكل فرد من أفراد النوع
ـــــــ
1 هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج النحوي اللغوي المفسر توفي سنة 311ه أنظر معجم الأدباء 1/130-151(2/21)
................................................
ـــــــ
في التسمية في تعريف الشخص وانقطاع ذلك في النوع واختصاصه بالاسم من بين سائر الأنواع . ولهذا قال أهل الأصول بأجمعهم أو المبرزون منهم إن صرف اللفظ الممكن صرفه إلى الجنس والمعهود إلى الجنس أولى وهو اختيار ابن السراج من أئمة النحو ; لأن جعل حرف التعريف علامة لما كمل تعريفه أولى من جعله علامة لما ضعف في بابه ووهي في نفسه . نوضح ما ذكرنا أنه لما وجب صرف اللام إلى الجنس ليحصل التعريف ولن يحصل التعريف إلا بالاستغراق وجب الصرف إليه ; لأن ما دونه لا يتعرف به فإنه إذا قيل جاءني حصل العلم للسامع بكونه آدميا ذكرا جاوز حد الصغر وكذا إذا قيل جاءني رجال عرف جنسهم ونوعهم واجتماعهم في المجيء وبقيت الذوات مجهولة فإذا دخلت فيه اللام لا يحصل تعريف الذات إلا وأن يصرف إلى كل الجنس حتى يعلم أن كل واحد من الجنس مراد بهذا اللفظ فأما متى صرف إلى مطلق الجنس فلم تصر الذوات معلومة وما وراءها معلوم بدون اللام فكان الحمل عليه إلغاء لفائدة اللام وصار وجودها كعدمها وذلك إبطال وضع اللغة فثبت بما ذكرنا أن العهد إذا انعدم لا بد من الصرف إلى الجميع ليحصل التعريف . وقولهم الواحد كل الجنس مسلم ولكن عند عدم من يزاحمه فعند وجوده هو البعض حقيقة فمن المحال أن يكون كلا للجنس الذي هو بعض منه وإن كان عند خروجه من أن يكون بعضا جاز أن يكون كلا .
فأما الجواب عن مسائل الأيمان فنقول إنما عدلنا عن الكل بدلالة الحال ; لأن إنسانا إنما يمنع نفسه باليمين عما يدعوه إليه نفسه ويمكنه الإقدام عليه وتزوج نساء العالم وشراء عبيد الدنيا وشرب مياهها جميعا غير ممكن فعرفنا أن البعض هو المراد فصرفنا اليمين إلى الواحد للتيقن وصار كأنه قال لا أشرب قطرة من الماء ولا أتزوج واحدة من النساء والدليل عليه ما ذكر محمد رحمه الله في الجامع لو قال إن كلمت بني آدم فامرأته طالق ثلاثا فكلم رجلا واحدا حنث ; لأن يمينه أنما يقع على هذا ثم قال ألا ترى أنه لا يقدر أن يكلم بني آدم كلهم فإذا كان الأمر على هذا فإنما يقع يمينه على من كلم منهم فهذا تصريح من محمد أنه أنما يقع على الواحد لتعذر الحمل على الكل .
وهذا هو الجواب في مسألة الطلاق أيضا ; لأن إيقاع جميع جنس الطلاق لا يدخل في ملك أحد فلا يمكنه إيقاع جميع هذا الجنس فصار قائلا أنت طالق بعضا من الطلاق أي بعضا من هذا الجنس من الفعل الممتاز عن الأفعال الأخر وذلك البعض مجهول القدر والواحد متيقن فانصرف إليه كذا في طريقة الشيخ أبي المعين "والميزان" وغيرهما .
"فإن قيل" لو كان الاسم الداخل عليه اللام للاستغراق لصح نعته باسم الجمع فيقال جاءني الرجل الطوال كما يقال جاءني الرجال الطوال(2/22)
ومثاله قول علمائنا رحمهم الله المرأة التي أتزوج طالق وأصل ذلك أن لام المعرفة للعهد وهو أن تذكر شيئا ثم تعاوده فيكون ذلك معهودا قال الله {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} "المزمل :15-16"أي هذا الذي ذكرنا فيكون الثاني هو الأول ومثاله قول علمائنا فيمن أقر بألف مقيدا بصك ثم أقر به كذلك أن الثاني هو الأول وإذا كان
ـــــــ
"قلنا" يجوز ذلك أيضا فإنه يقال أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض كذا ذكره صاحب القواطع إلا أن الأحسن أن ينعت باللفظ الفرد مراعاة للصورة ومحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف . واعلم أن اسم الجنس المعرف باللام إن كان عاما عند الشيخ كما هو مذهب الجمهور ينبغي أن يكون متنا ولا للكل عند الإطلاق محتملا لما دونه إلى الأدنى كما هو موجب سائر ألفاظ العموم فإنها يتناول الكل ويحمل على الأدنى التعذر . وإن لم يكن عاما كما هو مذهب البعض لا يصح منه عد لام التعريف من دلائل العموم . ولا يصح أن يقال يجوز أن يكون عاما ولكن موجب العام عنده تناوله للأدنى على احتمال الأعلى ; لأن ذلك مذهب أرباب الخصوص وليس هو منهم . ويجوز أن تكون دلالة العام عنده على مطلق الجمع لا على الاستغراق ودلالة اسم الجنس على مطلق الجنس أيضا لا على الاستغراق إلا أن العام عند عدم المانع يتناول الكل لعدم المزاحم مع كونه أشد مناسبة للعموم والجنس يقع على الأدنى لوجود حقيقة معنى الجنس فيه مع رعاية الفردية حقيقة وحكما كما قرع سمعك غير مرة . وفي الجملة لم يتضح لي حقيقة معنى كلام الشيخ في هذه المسألة ولا غرو إذ هو كان رحمه الله في أعلى طبقات أهل التحقيق . متغلغلا في مضايق مسالك التدقيق . فأين نحن من العثور على مقصوده ومرامه والوقوف على حقائق نكته وأسرار كلامه . فلذلك اخترنا قول الجمهور والله أعلم .
قوله "قول علمائنا" أي مثال ما ذكرنا أن النكرة تصير للجنس بدخول اللام قول علمائنا في قول الرجل المرأة التي أتزوج طالق وقد تزوج امرأة بعده أنها تطلق . وفي الكلام حذف واختصار كما ترى . واحترز بقوله علمائنا عن قول الشافعي فإن عنده لا تطلق على ما عرف . وبيانه أن اللام في قخوله المرأة للجنس لا للعهد فيقع على الأدنى وهي الواحدة ثم هي مجهولة منكرة إذ اللام ليست لتعريفها ولا يصح إضافة الطلاق إلى مجهولة إلا أنها قد تتعين ويتعرف بالوصف وقد وصف بالتزوج فيتعين بهذا الوصف فكان ما يحصل به التعين الذي لا بد لوقوع الطلاق منه في معنى الشرط لتوقف صيرورتها معلومة(2/23)
كل واحد منهما نكرة كان الثاني غير الأول عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يتحد المجلس فيصير دلالة على معنى العهد عند أبي يوسف ومحمد يحمل الثاني على الأول وإن اختلف المجلس لدلالة العادة على معنى العهد وذلك معنى قول ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}
ـــــــ
عليه وهو يصلح شرطا لما عرف في مسألة إضافة الطلاق إلى التزوج وهو وصف عام فيتعمم الحكم به وصار كما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق . بخلاف ما إذا قال هذه المرأة التي أتزوج طالق فتزوجها حيث لا تطلق ; لأنه عرفها بأبلغ جهات التعريف فلا يحصل بالوصف تعريف فلم يكن في معنى الشرط بل يكون مجرد وصف فبقي إيقاعها للحال فبطل .
ونظيره قوله العبد الذي أشتريه فهو حر فاشتراه يعتق ولو قال هذا العبد والمسألة بحالها لا يعتق . وكذا لو قال لنسائه المرأة التي تدخل منكن الدار طالق فدخلت واحدة منهن تطلق ولا تطلق قبل الدخول ولو قال هذه المرأة التي تدخل هذه الدار طالق طلقت للحال دخلت أو لم تدخل .
"وأصل ذلك" أي أصل ما ذكرنا أن النكرة بدخول اللام تصير للجنس . "ومثاله" أي مثال أن تذكر شيئا ثم تعاوده . "إذا أقر بألف مقيد بصك ثم أقر به كذلك" أي مقيدا بذلك الصك بأن أدار صكا على الشهود وأقر بما فيه عند كل فريق منهم كان الثاني هو الأول فلا يلزمه إلا الألف بالاتفاق . "وإذا كان كل واحد منهما" أي من الإقرارين نكرة أي غير مقيد بصك بأن أقر بألف مطلقا بحضرة شاهدين ثم أقر بألف مطلقا بحضرة شاهدين آخرين والمجلس واحد كان الثاني عين الأول أيضا بالاتفاق وإن كان المجلس مختلفا فكذلك عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله كان الثاني غير الأول حتى يلزمه ألفان . وجه قولهما أن العرف جار في تكرار الإقرار لتأكيد الحق بالزيادة في الشهود فيكون الثاني تكرارا للأول بدلالة العرف فلا يلزم المال بالشك وصار كما إذا أقر ثانيا بألف عند القاضي أو أقر بألف وأشهد واحدا ثم بألف وأشهد آخر وكرره في مجلس واحد بخلاف قوله أنت طالق أنت طالق ; لأنه إيقاع فلا يتصور فيه تكرار . وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه أقر بألف منكر مرتين والنكرة إذا كررت كانت الثانية غير الأولى فصار هذا بمنزلة ما لو كتب لكل واحد صكا على حدة وأشهد على كل صك شاهدين . وهذا بخلاف ما لو أشهد على كل إقرار شاهدا واحدا ; لأن بالشاهد الواحد لا يصير المال مستحكما ففائدة إعادته استحكام المال بإتمام الحجة . وكذا لو أقر به ثانيا بين يدي القاضي ; لأن فائدة الإعادة(2/24)
"الشرح :5" لن يغلب عسر واحد يسرين ; لأن العسر أعيد معرفة واليسر أعيد نكرة إن صحت هذه الحكاية عنه
ـــــــ
إسقاط مؤنة الإثبات بالبينة على المدعي مع أن المدعي ادعى ذلك الألف فإعادته تحصل معرفا . وبخلاف ما إذا أراد الصك على الشهود ; لأن الإقرار هناك صار معرفا بالمال الثابت في الصك والمنكر أو المعرف إذا أعيد معرفا كان الثاني عين الأول . فأما إذا كان الإقراران في مجلس واحد في القياس على قول أبي حنيفة يلزمه مالان ولكنه استحسن فقال للمجلس تأثير في جمع الكلمات المتفرقة وجعلها في حكم كلام واحد فباعتباره يكون الثاني معرفا من وجه ألا ترى أن الأقارير بالزنا في مجلس واحد جعل في حكم إقرار واحد بخلاف ما إذا اختلف المجلس فكذلك ههنا . وعلى هذا الخلاف لو أقر بألف في مجلس وأشهد شاهدين ثم بألفين وأشهد شاهدين في مجلس آخر أو بألفين ثم بألف عند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه المالان وعندهما يدخل الأقل في الأكثر فعليه أكثر المالين فقط كذا في المبسوط .
قوله "وذلك معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما" أن المنكر إذا كرر منكرا كان الثاني غير الأول . هو معنى قول ابن عباس في قوله تعالى . {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} "الشرح :5-6" لن يغلب عسر يسرين . وكذا نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى أصحابه ذات يوم فرحا مستبشرا وهو يضحك ويقول : "لن يغلب عسر يسرين لن يغلب عسر يسرين" . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزول هذه الآية : "والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر لطلبه حتى يدخل عليه ولن يغلب عسر يسرين " . وذلك ; لأن العسر أعيد معرفا باللام فكان الثاني عين الأول واليسر أعيد منكرا فكان الثاني غير الأول . وأصله أن المعرفة إذا أعيدت معرفة أو نكرة أو النكرة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى ; لأن المعرفة مستغرقة للجنس والنكرة متناولة لبعض الجنس فيكون داخلا في الكل لا محالة مقدما كان أو مؤخرا والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى ; لأن كل واحدة منهما متناولة للبعض فلا يلزم أن يكون الثانية عين الأولى ولأن الثانية لو انصرفت إلى الأولى لتعينت ضرب تعين بأن لا يشاركها غيرها فيه فلا يبقى نكرة والأمر بخلافه . مثال الأول العسر المذكور في الآية . ومثال الثاني يقول الشاعر :
صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم أخوان
...
عسى الأيام أن يرجعن يوما كالذي كانوا .
ومثال الثالث قوله تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}(2/25)
-------------------------------------------------------
ـــــــ
"المزمل :15-16" ومثال الرابع اليسر المذكور في الآية . وعلى هذا الأصل يخرج قول الرجل لامرأته أنت طالق نصف تطليقة وثلث تطليقة وسدس تطليقة فإنه يقع عليها ثلاث تطليقات ; لأنه أضاف كل جزء إلى تطليقة نكرة فكانت غير الأولى فصار كأنه قال أنت طالق نصف تطليقة وثلث تطليقة أخرى وسدس تطليقة أخرى . ولو قال أنت طالق نصف تطليقة وثلثها وسدسها يقع عليها تطليقة واحدة ; لأنها أعيدت معرفة فكانت عين الأولى فصار كأنه قال نصف تطليقة وثلث تلك التطليقة وسدس تلك التطليقة . وكذلك لو قال جاءني اليوم نساء حسان أو رأيت اليوم نساء حسانا أو عبيدا حسانا ثم قال إن تزوجت نساء فكذا أو قال إن اشتريت عبيدا فكذا فتزوج ثلثا من غيرهن أو اشترى ثلثه من غيرهم يحنث . ولو قال إن تزوجت النساء أو اشتريت العبيد فتزوج غيرهن أو اشترط غيرهم لا يحنث كذا في كتاب بيان تحقيق حروف المعاني ثم في قوله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} إنما أدخلت الفاء في الأول جوابا لتعيير المشركين إياه بالفقر دون الثاني ; لأنه وعد عام لجميع المومنين على سبيل الاستئناف . قال صاحب "الكشاف" يجوز أن يكون الأولى عدة بأن العسر الذي أنتم فيه مردود بيسر لا محالة والثانية عدة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنما كان العسر واحدا ; لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو ; لأن حكمه حكم زيد في قولك إن مع زيد مالا إن مع زيد مالا وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل واحد فهو هو أيضا وإما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس فإذا كان الكلام الثاني مستأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأول . ويجوز أن يراد باليسرين ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء . وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة . والتنكير في " يسرا " للتفخيم كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيما وأي يسر . وعن العتبي1 أو القتبي قال كنت يوما مغموما بالبادية فألقي في روعي قول من قال :
أرى الموت لمن أصبح مغموما له روح .فسمعت بالليل هاتفا من السماء يقول :
ألا يا أيها المرء الذي الهم به برح وقد ... أنشدت بيتا لم تزل في فكره تسبح
ـــــــ
1 لعله محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية البصري أبو عبدالرحمن العتبي المتوفي سنة 228ه وهو أخباري وأديب وشاعر أنظروفيات الأعيان 4/398-400 .(2/26)