قواعد الترجيح عند الأصوليين
الدكتور
إسماعيل محمد علي عبد الرحمن
أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر
والأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود بالرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وأشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين ........ وبعد,
فإن موضوع علم أصول الفقه – عند الجمهور – هو الأدلة الشرعية من حيث ثبوت الأحكام الشرعية بها (1) , هذه الأدلة قد يبدو للناظر فيها للوهلة الأولى أن تعارضا تناقضا واقع بين بعضها ومن ثم يتهمون الشريعة بالعيب والنقص مع عدم صلاحيتها كمنهج للحياة .
ولذا كان أحد أولويات علماء هذه الأمة خاصة الأصوليين منهم والمحدثين رفع هذا التوهم وإزالة هذا التناقض بدفع كل تعارض ورد في نصوص الشرع فأفردوا لذلك بابا تولوا فيه بيان حقيقة التعارض وطرق دفعه ومنها الجمع بين الدليلين المتعارضين وإذا لم يمكن نظروا إلى تاريخيهما فجعلوا المتأخر منهما ناسخا والمتقدم منسوخا وإذا لم يمكن الجمع بينهما ولم يعلم تاريخيهما رجحوا بينهما وفق قواعد وضوابط وشروط لا بد من تحققها حتى يمكن الترجيح بين الأدلة المتعارضة .
ونظرا لأن الترجيح أحد طرق دفع التعارض الواقع في الأدلة وأحد الأبواب الأصولية التي لاغني للأصولي عن دراستها والمتحصن بها ليزداد يقينا بسمو شريعتنا الغراء عن التناقض وليرد به على من يتهمونها بالنقص والعيب فقد رأيت أن أجمع قواعد الترجيح في هذا المبحث الذي سميته (قواعد الترجيح عند الأصوليين ).
وقسمته إلى هذه المقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة على النحو التالي :
المبحث الأول : تعريف الترجيح وأركانه ومحله , وفيه مطالب :
المطلب الأول : تعريف الترجيح .
المطلب الثاني : تعريف التعارض .
__________
(1) - يراجع شرح اللمع 1/109 المستصفى 1/504 الإحكام في أصول الأحكام للامدي1/9,8 البحر المحيط 1/30 ومسلم الثبوت 1/17,16(1/1)
المطلب الثالث : العلاقة بين التعارض والترجيح .
المطلب الرابع : أركان الترجيح وشروطه
المطلب الخامس : محل الترجيح .
المبحث الثاني : حكم الترجيح وتعارض وجوهه والعجز عنه , وفيه مطالب :
المطلب الأول :حكم الترجيح.
المطلب الثاني : تعارض وجوه الترجيح .
المطلب الثالث : العجز عن الترجيح .
المبحث الثالث :أقسام الترجيح , وفيه مطالب :
المطلب الأول : الترجيح باعتبار السند .
المطلب الثاني : الترجيح باعتبار المتن .
المطلب الثالث : الترجيح باعتبار مدلول اللفظ .
المطلب الرابع : الترجيح بأمر خارجي .
الخاتمه: وتتضمن أهمّ نتائج البحث وثماره ، والتي أسأل الله سبحانه وتعالى حُسْنها في شأني كُلّه ، خاصّةً عند لقاء ربّي عَزّ وجَلّ .
وأسأل الله العَلِيّ القدير أنْ يمدّني بمَدَده ، وأنْ يُلْهِمني التوفيق والسداد والرشاد ، وأنْ يَجعله خالصاً لِوجْهه ؛ حتى يَكون حُجّةً لي لا علَيّ ..
وصلى الله على سَيِّدنا محمد وعلى آله وصحْبه وسلَّم .
المبحث الأول
تعريف الترجيح وأركانه ومحله
المطلب الأول
تعريف الترجيح
أوّلاً – تعريف الترجيح لغةً :
الترجيح لغةً : التمييل والتغليب ، مِن :" رجح الميزان يرجَح ويرجُح ويرجِح رجحاناً " أيْ مال ، و" أرجح الميزان " أثقله حتى مال ، و" رجح الشيء بيده " وزنه ونظر ما ثقله (1) .
__________
(1) - يُرَاجَع : لسان العرب 2/445 والصحاح 1/364 وتهذيب الصحاح 1/176 وتاج
العروس 2/141 والقاموس المحيط 1/229 وكشف الأسرار لِلبخاري 4/135(1/2)
وفي ذلك يقول السرخسي - صلى الله عليه وسلم - (1) رحمه الله تعالى :" الترجيح لغةً : إظهار فضل في أحد جانبَي المعادلة وصفاً لا أصلاً ، فيكون عبارةً عن مماثلة يتحقق بها التعارض ثُمّ يظهر في أحد الجانبيْن زيادة على وجه لا تقوم تلك الزيادة بنَفْسها ، ومنه الرجحان في الوزن ؛ فإنّه عبارة عن زيادة بَعْد ثبوت المعادلة بَيْن كفَّي الميزان " (2) ا.هـ .
ثانياً – تعريف الترجيح اصطلاحاً :
عرَّف الأصوليون الترجيحَ تعريفاتٍ عدّةً ، اذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : لِلفخر الرازي (3) رحمه الله تعالى .
عرَّف الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – الترجيح بأنّه : تقوية طريق على آخَر لِيعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخَر (4) .
وقد نَحَا هذا التعريف كوكبة مِن الأصوليين ، منهم :
__________
(1) - السرخسي : هو شمْس الأئمّة أبو بَكْر مُحَمَّد بن أَحْمَد بن أبي سهْل الحنفي رحمه الله تعالى .. مِن مصنَّفاته : المبسوط في الفقه ، أصول السرخسي . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 483 هـ لفوائد البهيّة /158 والجواهر المضيئة 2/28
(2) - أصول السرخسي 2/249.
(3) - فخر الدين الرازي : هو أبو عبد الله محمد بن عُمَر بن الحسين بن الحَسَن بن علِيّ التيمي البكري الطبرستاني الرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالرّيّ سَنَة 544 هـ .. مِن مصنَّفاته : المحصول ، مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بهراة سَنَة 606 هـ . البداية والنهاية 13/55 والفتح المبين 2/50 .
(4) - المحصول 2/443 ، 444(1/3)
تاج الدين الأرموي (1) – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى ليعمل بالأقوى (2) .
والبيضاوي (3) – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لِيعمل بها (4) .
والأصفهاني (5) – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن بما يترجح به على الأخرى فيعلم الأقوى لِيعمل به وتطرح
الأخرى (6) .
__________
(1) - تاج الدين الأرموي : هو أبو الفضايل محمد بن الحسين بن عبد الله الأرموي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، مِن القضاة ، أصْله مِن أرمية ، وُلِد سَنَة 594 هـ ، أخذ عن الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – وكان مِن أكبر تلامذته .. مِن مُصَنَّفاته : الحاصل مِن المحصول . تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 656 هـ .معجم المؤلِّفين 9/244 وأصول الفقه تاريخه ورجاله /248.
(2) - الحاصل 2/967
(3) - القاضي البيضاوي : هو أبو الخير عبد الله بن عُمَر بن محمد بن علِيّ البيضاوي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالمدينة البيضاء بفارس قُرْب شيراز ، وإليها نُسِب مِن مصنفاته : منهاج الوصول إلى عِلْم الأصول ، الإيضاح في أصول الدين .تُوُفِّي رحمه الله تعالى بتبريز سَنَة 685 هـ . البداية والنهاية 13/309 والفتح المبين 2/91.
(4) - المنهاج مع شرحه 2/787
(5) - شمْس الدين الأصفهاني : هو أبو الثناء محمود بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن محمد ابن أبي بَكْر بن علِيّ الأصفهاني الشافعي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بأصفهان سَنَة 674 هـ .. مِن مصنَّفاته : بيان المختصَر ، تشييد القواعد في شرْح تجريد العقائد ، مَطالع الأنظار شرْح طوالع الأنظار ، ناظر العين في المنطق . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 749
هـ . الدرر الكامنة 4/327 والفتح المبين 2/165
(6) - شرح المنهاج 2/787(1/4)
والجاربردي (1) – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لأجْل العمل بالأمارة التي هي أقوى (2) .
وابن السبكي (3) – رحمهما الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية أحد الطريقيْن (4) .
والزركشي (5) – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى بما ليس ظاهراً (6) .
__________
(1) - الجاربردي : هو فخر الدين أحمد بن الحسين بن يوسف الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أخذ عن القاضي البيضاوي رحمه الله تعالى .. مِن مصنّفاته : شرح المنهاج ، شرح أصول البزدوي ، الحاوي الصغير في الفقه .تُوُفِّي رحمه الله تعالى بتبريز سَنَة 746 هـ ودُفِن بها . البدر الطالع 1/47 وشذرات الذهب 6/148 والأعلام 1/107
(2) - السراج الوهاج 2/1029
(3) - تاج الدِّين السُّبكي : هو أبو نصْر عبد الوهاب بن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف ابن موسى السبكي الشافعي رحمه الله تعالى ، الملقَّب بـ" قاضي القضاة " ، وُلِد بالقاهرة سَنَة 727 هـ .. مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر ابن الحاجب ، الإبهاج ، جَمْع الجوامع في أصول الفقه . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 771 هـ . الفتح المبين 2/192 .
(4) - جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/360 ، 361 .
(5) - الزركشي : هو بدْر الدين أبو عبد الله مُحَمَّد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري الزركشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 745 هـ .. مِن مصنَّفاته : البحر المحيط ، تشنيف المسامع . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 794 هـ . الفتح المبين 2/218 .
(6) - البحر المحيط 6/130 .(1/5)
والإسنوي (1) – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لِيعمل بها (2) .
والفتوحي (3) – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن
على الأخرى لِلدليل (4) .
والشنقيطي (5) – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية أحد الدليليْن
المتعارضيْن (6) .
__________
(1) - الإسنوي : هو أبو مُحَمَّد عبد الرحيم بن الحَسَن بن علِيّ بن عُمَر بن علِيّ بن إبراهيم القرشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بإسنا سَنَة 704 هـ . مِن تصانيفه : المبهمات على الروضة ، الأشباه والنظائر ، التمهيد ، نهاية السول . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 772 هـ . الدرر الكامنة 2/354 والفتح المبين 2/193 ، 194
(2) - نهاية السول 3/156 .
(3) - الفتوحي : هو تقيّ الدين أبو البقاء مُحَمَّد بن شهاب الدين بن أَحْمَد بن عبد العزيز بن علِيّ الفتوحي المصري الحنبلي ، الشهير بـ" ابن النجار " رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 898 هـ .. مِن مصنَّفاته : منتهى الإرادات ، الكوكب المنير المسمَّى بـ" مختصر التحرير " . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 979 هـ . شذرات الذهب 8/39 والأعلام 6/233 ومقدمة شرْح الكوكب المنير 1/5 ، 6
(4) - شرح الكوكب المنير 4/616
(5) - الشنقيطي : هو عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي المغربي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أديب .. مِن مصنّفاته : مراقي السعود ، نشر البنود ، شرح الروضة ، روضة النسرين في الصلاة والسلام على سيد المرسلين . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1230 هـ . معجم المؤلفين 6/18
(6) - مذكرة أصول الفقه /317 .(1/6)
وقريب مِن هذا التعريف : تعريف إمام الحرمين (1) رحمه الله تعالى ،
وهو : تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن (2) .
وكذا تعريف الطوفي (3) رحمه الله تعالى ، وهو : تقديم أحد طريقَي الحُكْم لاختصاصه بقوة في الدلالة .
واختار ابن بدران (4) – رحمه الله تعالى – تعريف الطوفي لِلترجيح (5) .
مناقشة هذا التعريف :
وقد نوقش هذا التعريف مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّه جعل التقوية جنساً لِلتعريف ، والتقوية فعل الشارع أو المجتهد حقيقةً أو ما به التقوية مَجازاً ، والترجيح اصطلاحاً ليس كذلك ، وإنما هو نَفْس ما به الترجيح ، ولِذَا كان بَيْن التعريف وجنسه تنافٍ .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
__________
(1) - إمام الحَرَمَيْن : هو ضياء الدين أبو المعالي عبد المَلِك بن عبد الله بن يوسف بن مُحَمَّد الجويني الشافعي رحمه الله تعالى ..مِن مصنَّفاته : البرهان في أصول الفقه ، الأساليب في الخلافيّات ، التحفة ، التلخيص .تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 478 هـ . طبقات الفقهاء الشّافعيّة 2/799 والبداية والنهاية 12/128 والفتح المبين 1/273 - 275
(2) - البرهان 2/1142
(3) - الطوفي : هو نَجْم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري البغدادي الحنبلي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 673 هـ .. مِن مصنَّفاته : مختصر روضة الموفّق ، بغية السائل في أمّهات المسائل . تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببلدة الخليل سَنَة 716 هـ . الدرر الكامنة 2/154 والفتح المبين 2/124
(4) - ابن بدران : هو عبد القادر بن أَحْمَد بن مصطفى بن بدران الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أديب مؤرِّخ مِن مصنَّفاته : نزهة الخاطر ، المدخل في الأصول . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 1346 هـ . الأعلام 4/37 ومعجم المؤلفين 5283
(5) - البلبل /186 وشرح مختصر الروضة 3/676 والمدخل /395(1/7)
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّه ليس المراد مِن التقوية فعل الشارع أو المجتهد حقيقةً ، وإنما المراد بها البيان وإظهار القوة في أحد الدليليْن .
مناقشة هذا الجواب :
وقد رُدّ هذا الجواب : بأنّا سلّمنا أنّ المراد بالتقوية هو البيان وإظهار القوة في أحد الدليليْن ، ولكنّ هذا ليس استعمالاً حقيقيّاً لِلتقوية ، وإنما هو استعمال مَجازيّ ، واستعمال المَجاز لا بُدّ فيه مِن قرينة معيِّنة لِلمراد , وهي غَيْر متحققة هنا (1) .
الوجه الثاني : أنّه غَيْر مانع مِن قيام غَيْر المجتهد بالترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة ، وهو ليس أهلاً لِذلك ، وكيف لا يدخل المجتهد في التعريف وهو مِن أهمّ أركان الترجيح ؟! (2) .
الوجه الثالث ( لِلباحث ) : أنّه استعمل لفظ ( طريق ) وأراد به الدليل ، وهو استعمال مَجازيّ ؛ لأنّ الطريق يَعُمّ الدليل وغَيْره ، ومحلّ الترجيح هو الأدلة الشرعية ..
ولِذَا حاول البعض بل الكثرة ممن قالت بهذا التعريف أنْ يعبِّروا بـ
(الأمارة ) بدلاً مِن ( طريق ) قاصدين بها الدليل الظني ، وهو تعبير أضيَق نطاقاً مِن التعبير الأول ( طريق ) ، لكنّه مع ذلك سيظلّ مستوعباً الدليل وغَيْرَه وليس صريحاً في الدليل ، ولِذَا كان التعريف غَيْر مانع .
الوجه الرابع ( لِلباحث ) : أنّه لَمْ يتعرض لأصْل الترجيح وسببه : وهو التعارض ، الأمر الذي يجعله غَيْر مانع مِن دخول الترجيح بَيْن غَيْر المتعارضيْن .
__________
(1) - يُرَاجَع : التعارض والترجيح عند الأصوليين /280 ، 281 والفائق 4/386 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/81 ، 82
(2) - يُرَاجَع : التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/80 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /279 ، 280(1/8)
وهروباً مِن الوجْهيْن : الأول والرابع مِن مناقشة هذا التعريف عرَّف الصفي الهندي (1) – رحمه الله تعالى – الترجيح بأنّه : شيء يَحصل به تقوية أحد الطريقيْن المتعارضيْن على الآخَر فيعلم أو يظن الأقوى فيعمل به (2) .
ولكنّ هذا التعريف – مع سلامته مِن الوجْهيْن المذْكوريْن – لَمْ يَسْلَمْ
مِن الوجْهيْن الآخَرين : الثاني والثالث .
وقريب مِن تعريف الصفي الهندي – رحمه الله تعالى - تعريف التفتازاني (3)
رحمه الله تعالى ، وهو : بيان الرجحان أي القوة التي لأحد المتعارضيْن على الآخَر (4) .
التعريف الثاني : لِلبزدوي (5) رحمه الله تعالى .
__________
(1) - صفي الدِّين الهندي : هو مُحَمَّد بن عبد الرحيم بن مُحَمَّد الشافعي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بدلهي بالهند سَنَة 644 هـ .. مِن مصنَّفاته : الزبدة في عِلْم الكلام ، نهاية الوصول إلى عِلْم الأصول . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 715 هـ , الدرر الكامنة 4/14 والفتح المبين 2/120 .
(2) - الفائق 4/388
(3) - التفتازاني : هو سعْد الدين مسعود بن عُمَر بن عبد الله التفتازاني رحمه الله تعالى ، العلاّمة الشافعي ، وُلِد بتفتازان سَنَة 712 هـ .. مِن تصانيفه : التلويح في كشْف حقائق التنقيح ، شرْح الأربعين النووية في الحديث . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بسمرقند سَنَة 791 هـ . الدرر الكامنة 1/545 والفتح المبين 2/216
(4) - التلويح 2/216
(5) - فَخْر الإسلام البزدوي : هو علِيّ بن مُحَمَّد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى ابن مجاهد الحنفي رحمه
الله تعالى ، وُلِد سَنَة 400 هـ .. مِن مصنَّفاته : كنْز الوصول إلى معرفة الأصول ، غناء الفقهاء ، شرْح الجامع الصغير والكبير . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 482 هـ . معجم البلدان لِياقوت 2/54 ومفتاح السعادة /12(1/9)
عرَّف البزدوي – رحمه الله تعالى – الترجيح بأنّه : فضْل أحد المِثْلَيْن على الآخَر وصفاً (1) .
واختاره الخبازي (2) والنسفي (3) والكراماستي (4) رحمهم الله تعالى (5) .
مناقشة هذا التعريف :
ويمكن مناقشة هذا التعريف مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ وجود الفضل في أحد المِثْلَيْن ليس كافياً لِلترجيح ، وإنما
لا بُدّ مِن مجتهد يكشف عن هذا الفضل في أحد الدليليْن لِيقدِّمه على الدليل الآخَر
الوجه الثاني : أنّه يَعُمّ كُلّ مِثْلَيْن ، فيشمل الأدلة الشرعية وغَيْرها ، والترجيح لا يكون إلا بَيْن الأدلة الشرعية المتعارضة ، ولِذَا كان التعريف
غَيْر مانع .
__________
(1) - أصول البزدوي مع كشف الأسرار 4/133
(2) - الخبّازي : هو جلال الدين أبو محمد عُمَر بن محمد بن عُمَر الخبّازي الخجندي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 629 هـ .. مِن مصنَّفاته : شَرْح الهداية في الفقه ، المُغْنِي في أصول الفقه . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 691 هـ ، وقيل : سَنَة 671 هـ . شذرات الذهب 5/419 والجواهر المضيَّة 1/398 والفتح المبين 2/82
(3) - النسفي : هو أبو البركات حافظ الدين عبد الله بن أَحْمَد بن محمود النسفي رحمه الله تعالى ، الفقيه الحنفي الأصولي .. مِن مصنَّفاته : تفسير النسفي ، منار الأنوار . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 710 هـ ببلدته أيذج ، وبها دُفِن . الفتح المبين 2/112
(4) - الكراماستي : هو يوسف بن حسين الكراماستي الرومي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ متكلم ، تولى القضاء والتدريس ، وكان ناصراً لِلسُّنَّة محمود السيرة .. مِن مصنَّفاته : الوجيز ، زبدة الوصول ، البيان في شرح التبيان ، شرح الهداية . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقسطنطينيّة سَنَة 899 هـ الفوائد البهيّة /227 وشذرات الذهب 7/365 والفتح المبين 3/58
(5) - المغني /327 والمنار مع جامع الأسرار 4/1121 والوجيز لِلكراماستي /198(1/10)
وهروباً مِن الوجه الثاني مِن المناقشة عرَّف السمرقندي – رحمه الله تعالى
– الترجيح بـ:أنْ يكون لأحد الدليليْن زيادة قوة مع قيام التعارض ظاهراً (1) لكنّ هذا التعريف وإنْ سلم مِن الوجه الثاني مِن المناقشة فإنّه لَمْ يَسْلَمْ مِن الوجه الأول منها .
وقد حاول البخاري (2) – رحمه الله تعالى – أنْ يقيد التعريف بقيود تسلمه مما نوقشت به هذه التعريفات ، فعرَّفه بأنّه : إظهار قوة لأحد الدليليْن المتعارضيْن لو انفردت عنه لا تكون حُجَّةً معارضة .
وقال : ما عرَّفه البزدوي هو معنى الرجحان لا معنى الترجيح (3) .
ونحوه تعريف بعض الحنفية ، وهو : إظهار الزيادة لأحد المتماثليْن على الآخَر بما لا يستقلّ (4) .
لكنّ كليهما غَيْر مانع مِن ترجيح غَيْر المجتهد لِلأدلة حينما نَصَّا على الإظهار ولَمْ يَنُصَّا على المُظْهِر وهو المجتهد .
التعريف الثالث : لابن مفلح (5) رحمه الله تعالى .
عرَّف ابن مفلح – رحمه الله تعالى – الترجيح بأنّه : اقتران الأمارة بما
__________
(1) - ميزان الأصول /730
(2) - علاء الدِّين البخاري : هو عبد العزيز بن أَحْمَد بن مُحَمَّد البخاري رحمه الله تعالى ، الفقيه الحنفي الأصولي .. مِن مصنَّفاته : كشف الأسرار ، غاية التحقيق . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 730 هـ . الفوائد البهيّة /94 والجواهر المضيئة 1/317
(3) - كشف الأسرار لِلبخاري 4/133 ، 134
(4) - التحرير مع التيسير 3/153 ومسلّم الثبوت 2/204
(5) - ابن مفلح : هو شَمْس الدِّين أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن مفلح بن مُحَمَّد بن مفرج المَقْدِسي الحَنْبَلِي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد بِبَيْت المَقْدِس سَنَة 708 هـ , مِن مصنَّفاته : الفروع ، أصول الفقه ، الآداب الشَّرعيّة , تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 763 هـ . الدُّرَر الكامنة 4/26 وشذرات الذَّهَب 6/199 والفتح المُبِين 2/189.(1/11)
تقوى به على مُعارِضها (1) .
ونَحْوه تعريف الآمدي (2) رحمه الله تعالى ، وهو : اقتران أحد الصالحيْن لِلدلالة على المطلوب مع تَعارُضهما بما يوجِب العمل به وإهمال الآخَر (3) .
مناقشة هذا التعريف :
وقد نوقش هذا التعريف مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ جنس التعريف – وهو ( اقتران ) – صفة لِلأدلة ، وهو في ذاته ليس كافياً لِلترجيح ، بل لا بُدّ مِن وجود مَن يميز هذا الاقتران لِيرجِّح بسببه بعض الأدلة على بعض .
الوجه الثاني : أنّ إيجاب العمل بالراجح لا يتحقق ما لَمْ يُعرَف كونه مُرَجّحاً ، وهو دور ، فلا يُقْبَل (4) .
الوجه الثالث ( لِلباحث ) : أنّه غَيْر مانع مِن دخول غَيْر الأدلة في الترجيح ومقصودنا هو الترجيح بَيْن الأدلة الشرعية ، والأمارة والصالح لِلدلالة على المطلوب ليس صريحاً في ذلك ؛ لأنّه يشمل الأدلة الشرعية وغيرها .
التعريف الراجح :
على ضوء ما تقدَّم مِن الوقوف على تعريفات الترجيح عند بعض الأصوليين – والتي لَمْ تسلَم جميعها مِن الاعتراض والمناقشة – أرى أنّ الأَوْلَى أنْ يُعَرَّف الترجيح بأنّه : تقديم المجتهد أحد الدليليْن المتعارضيْن
لاختصاصه بقوة الدلالة .
شرح التعريف :
( تقديم ) : كالجنس في التعريف ، تشمل الترجيح وغَيْره ، كما يشمل تقديم المجتهد وغَيْر المجتهد .
__________
(1) - شرح الكوكب المنير 4/616 والمختصر مع بيان المختصر 3/371
(2) - سَيْف الدِّين الآمدي : هو أبو الحَسَن علِيّ بن أبي علِيّ مُحَمَّد بن سالم التغلبي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بآمد سَنَة 551 هـ ، نشأ حنبليّاً ، وتَمَذهَب بمذهب الشّافعيّة .. مِن مصنَّفاته : الإحكام في أصول الأحكام ، منتهى السول في الأصول ، لباب الألباب . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 631 هـ . البداية والنهاية 13/140 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 5/129 والفتح المبين 2/58 .
(3) - الإحكام 4/245
(4) - يُرَاجَع الفائق 4/387(1/12)
( المجتهد ) : قيد أول ، خرج به تقديم غَيْر المجتهد وترجيحه ؛ فلا يُقْبَل لأنّه ليس أهلاً لِذلك .
( أحد الدليليْن ) : قيد ثانٍ ، خرج به تقديم الدليليْن جميعاً ؛ فليس ترجيحاً.
( المتعارضيْن ) : قيد ثالث ، خرج به تقديم أحد الدليليْن غَيْر المتعارضيْن ؛ فإنّ الترجيح لا يقع بَيْنَهُمَا ؛ لأنّ التعارض أصْل لِلترجيح .
( لاختصاصه بقوة الدلالة ) : قيد رابع ، قصد به بيان سبب ترجيح أحد الدليليْن المتعارضيْن ، وهو وجود هذه الصفة أو الميزة ، فإذا انعدمت انعدم الترجيح بانعدامها .
المطلب الثاني
تعريف التعارض
أولا - تعريف التعارض لغةً :
التعارض لغةً : مصدر " تعارض " (1) مِن " المعارضة " ، وهي المقابلة على سبيل الممانعة والمواقعة ، ومنه " اعترض فلان فلاناً " أيْ وقع فيه .. ويقال " لفلان ابن يعارضه " : أي يقابله بالدفع والمنع . ويقال " عارض الكتابَ معارضةً وعراضاً " : قابلَه بكتاب آخَر (2)
ومما تقدّم يكون التعارض لغةً : التقابل والتمانع والمواقعة .
ثانيا - تعريف التعارض اصطلاحاً :
عرّف الأصوليون التعارض بتعريفات عدة ، اذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : تقابل دليليْن على سبيل الممانعة .
وهو تعريف الزركشي رحمه الله تعالى ، واختاره الفتوحي
__________
(1) - يُرَاجَع القاموس الفقهي /247
(2) - يُرَاجَع : تهذيب اللغة 1/463 والصحاح 3/1087 وتاج العروس 5/51 والقاموس المحيط 2/348 والكليات /850(1/13)
والشوكاني (1) رحمهما الله تعالى (2) .
التعريف الثاني : تقابل الحُجّتيْن المتساويتيْن على وجْه يوجِب كُلَّ واحد منهما ضدّ ما توجِبه الأخرى : كالحِلّ والحرمة ، والنفي والإثبات .
وهو تعريف السرخسي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف الثالث : تقابل الحُجّتيْن على السواء لا مزيّة لأحدهما في حُكْمَيْن متضادّيْن .
وهو تعريف البزدوي رحمه الله تعالى (4) .
التعريف الرابع : تقابل دليليْن على وجْه يمنع كُلّ واحد منهما مقتضى صاحبه.
وهو تعريف الإسنوي رحمه الله تعالى (5) .
التعريف الخامس : تدافع الحُجّتيْن .
وهو تعريف ابن عبد الشكور (6) رحمه الله تعالى (7) .
التعريف السادس : اقتضاء كُلّ مِن الدليليْن عدم مقتضى الآخَر .
__________
(1) - الشوكاني : هو مُحَمَّد بن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني اليماني رحمه الله تعالى مجتهِد فقيه مُحَدِّث أصوليّ قارئ مقرئ ، وُلِد بصنعاء سَنَة 1172 هـ ، تَفَقَّه على مذهب الإمام زيْد - رضي الله عنه - ثُمّ اسْتَقَلّ ولم يُقَلِّد وحارَب التقليد .. مِن مصنَّفاته : إرشاد الفحول ، نَيْل الأوطار ، تحفة الذاكرين . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بصنعاء سَنَة 1250 هـ . الأعلام 3/953 والفتح المبين 3/144 ، 145.
(2) - يُرَاجَع : البحر المحيط 6/109 وشرح الكوكب المنير 4/606 وإرشاد الفحول /273
(3) - يُرَاجَع أصول السرخسي 2/12
(4) - أصول البزدوي مع كشف الأسرار 3/162
(5) - نهاية السول 2/207
(6) - ابن عبد الشكور : هو محِبّ الله بن عبد الشكور البهاري الهندي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ .. مِن مصنَّفاته : مُسَلَّم الثبوت ، سُلَّم العلوم في المنطق . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1119 هـ . الفتح المبين 3/122
(7) - مسلّم الثبوت 2/189(1/14)
وهو تعريف ابن الهمام (1) رحمه الله تعالى (2) .
ثالثا – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على تعريف التعارض عند بعض الأصوليين يتضح لنا ما يلي:
1- أنّ التعريفات : الأول والرابع والخامس والسادس لا يمنع كُلّ واحد منهما مِن وقوع التعارض بَيْن القطعي والظني ، وهو غير واقع ؛ لأنهما ليسا في قوة متساوية ، ولِذَا قدّم القطعي على الظني .
2- أنّ تعبير ( الحُجّتيْن ) الوارد في التعريف الثاني والثالث والخامس تعبير واسع يشمل الدليلَ وغَيْرَه ، ولِذَا فالأَوْلَى أنْ يُعَبّر بـ( الدليليْن ) .
3- أنّ الأَوْلَى عندي أنْ يُعَرَّف التعارض بأنّه : تقابل دليليْن متساوييْن على وجْه يقتضي كُلّ واحد منهما خِلاَفَ ما يقتضيه الآخَر .
شرح التعريف المختار :
( تقابُل ) : كالجنس في التعريف ، يشمل كُلّ تقابل ، سواء كان بَيْن دليليْن
أو غَيْرهما .
(دليليْن): قيْد أول ، خرج به تقابل غَيْر الدليليْن ؛ فلا يُسَمَّى " تعارضاً " .
( متساوييْن ) : قيْد ثانٍ ، خرج به تقابل دليليْن غَيْر متساوييْن ؛ فلا يتحقق التعارض ؛ لأنّ الأقوى مقدَّم على الأضعف ، والقطعي مقدَّم على الظني ، ولِذَا لا يتعارضان .
( يقتضي كُلّ واحد منهما خِلاَفَ ما يقتضيه الآخَر ) : قيْد ثالث ، خرج به اتفاق ما يقتضيه الدليلان في الحُكْم ، فلا يكون تعارضاً ، وإنما ترادفاً وموافقة .
المطلب الثالث
العلاقة بَيْن التعارض والترجيح
__________
(1) - ابن الهمام : هو مُحَمَّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ متكلِّم نحويّ ، وُلِد سَنَة 790 هـ .. مِن مصنَّفاته : التحرير ، فتْح القدير ، زاد الفقير في الفقه . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 861 هـ ودُفِن بجوار ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى .
الفتح المبين 3/39
(2) - التحرير مع التيسير 3/136(1/15)
لقد ذهب الكثير من الأصوليين إلى أنّ الترجيح واحد مِن مراحل دفع التعارض وأنّه لا بُدّ منه إذا لَمْ نتمكن مِن الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن أو معرفة تاريخيهما لِنعمل بالمتأخر ناسخاً والمتقدم منسوخاً .
ولَمّا كان الترجيح لا بُدّ فيه مِن طرفيْن متقابليْن أو متعارضيْن حتى نرجِّح بَيْنَهُمَا – سواء كان هذا التقابل في الأدلة أو المذاهب أو الأئمة – فإنّه لا بُدّ له مِن وجود التعارض أو تَوهُّمه .
والعكس ليس كذلك ، أي أنّ التعارض قد لا يحتاج إلى الترجيح ، خاصة إذا كان بَيْن الأدلة وتم دفعه بالجمع بَيْنَهُمَا أو بالعمل بالناسخ وترك المنسوخ .
ولِذَا فإنّ التعارض أساس لِلترجيح وأصْل له لا يوجد إلا به ، فهو مبنيّ عليه ، وأصبح التعارض والترجيح عند الأصوليين لِذلك متقابليْن تماماً كالمنطوق والمفهوم والمطلق والمقيد والعامّ والخاصّ ونحوها .
هذا .. وقد أورد البرزنجي (1) رحمه الله تعالى – وتَبِعه في ذلك أستاذنا فضيلة الدكتور الحفناوي – في هذا المقام مذْهبيْن :
المذهب الأول : أنّ التعارض أصْل لِلترجيح .
وهو ما عليه جمهور الأصوليين .
__________
(1) - البرزنجي : هو محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد بن عبد الرسول البرزنجي المدني الشافعي رحمه الله تعالى ، مفسِّر محدِّث أصوليّ أديب لغويّ بيانيّ صرفيّ ، وُلِد بشهرزور سَنَة 1040 هـ ، ورحل إلى همذان وبغداد ودمشق والقسطنطينية ومصر ، واستقر بالمدينة ودرس بها .. مِن مصنّفاته : خالص التلخيص في مختصر تلخيص المفتاح ، الإشاعة في أشراط الساعة ، مرقاة الصعود في تفسير أوائل العقود ، أنهار السلسبيل في شرح أنوار التنزيل للبيضاوي . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 1103 هـ . معجم المؤلفين 10/108(1/16)
وحُجّتهم : أنّه لولا وجود التعارض بَيْن الأدلة الشرعية لَمَا كانت هناك حاجة إلى الترجيح ، وأنّ الترجيح أحد مراحل دفع التعارض والتخلص منه فدلّ ذلك على أنّ التعارض أصْل لِلترجيح .
المذهب الثاني : أنّ التعارض ليس أصلاً لِلترجيح ؛ فقد يوجد بدونه .
وهو ما عليه بعض العلماء .
وحُجّتهم :
الأولى : أنّ التعارض مِن شروطه تساوي الدليليْن ، والترجيح لا بُدّ وأنْ يكون لأحدهما فضل وزيادة ، ولِذَا كان التعارض تساوي الدليليْن ، والترجيح عدم تساويهما ، وهذا هو التناقض ، والتناقض مردود ، وما أدى إليه كان كذلك .
الثانية : أنّ التعارض هو التناقض ، والتناقض تنأى عنه نصوص الشرع
وأدلته ، والترجيح تفضيل أحد الدليليْن عن الآخَر ، وهو كثير في نصوص الشرع ، ولِذَا كان التعارض والترجيح متباينيْن (1) .
وأرى : أنّ هذا المذهب – الثاني – القائل أنّ التعارض ليس أصلاً لِلترجيح مردود وغَيْر مقبول ؛ لِمَا يلي :
1- أنّه لَمْ يُعرَف له قائل .
2- أنّ حُجّتيْه واهيتان .
أمّا الأولى : فإنّ التناقض يكون إذا رفعنا المتساوييْن بنَفْس التساوي ، أمّا إذا وُجِدت زيادة في أحدهما فإنّها تكون سبباً لِتقديمه وترجيحه على
الآخَر .
وأمّا الثانية : فإنّا نسلِّم أنّ التناقض تنأى عنه نصوص الشرع وأدلته ؛ فليس بَيْنَهَا تعارض حقيقيّ ، والتعارض إنما هو في الظاهر أو في ذهن المجتهد ، ولِذَا كان لا بُدّ مِن إزالة هذا التعارض بوجوه أحدها الترجيح .
3- أنّ الكثرة مِن الأصوليين صرّحوا بقوة العلاقة بَيْن الترجيح والتعارض ..
اذكر منهم :
الآمدي – رحمه الله تعالى – في قوله :" وقولنا " مع تعارضهما " احتراز عن الصالحيْن اللذيْن لا تعارُض بَيْنَهُمَا ؛ فإنّ الترجيح إنما يُطلب عند التعارض لا مع عدمه " (2) ا.هـ .
__________
(1) - يُرَاجَع : التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/97 ، 98 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /285 - 287
(2) - الإحكام 4/246.(1/17)
وصدر الشريعة (1) – رحمه الله تعالى – في قوله :" وإنْ كان العمل بالأقوى
واجباً لكنْ لا يسمَّى هذا " ترجيحاً " ؛ فالترجيح إنما يكون بَعْد المعارضة " (2) ا.هـ .
وعضد الدين والملة (3) – رحمه الله تعالى – في قوله :" بل لا بُدّ مِن اقتران أمْر بما به تقوى على معارضها ، فهذا الاقتران الذي هو سبب الترجيح هو المسمَّى بـ" الترجيح " في مصطلح القوم " (4) ا.هـ .
والبخاري – رحمه الله تعالى – في قوله :" لأنّه لَمّا كان [ الترجيح ] عبارةً عن فضل أحد المِثْلَيْن لا بُدّ مِن المماثلة وقيام التعارض " (5) ا.هـ
والزركشي – رحمه الله تعالى – في قوله :" الشرط الثاني : قبول الأدلةِ التعارضَ في الظاهر " (6) ا.هـ .
والفتوحي – رحمه الله تعالى – في قوله :" وأمّا الترجيح : فهو تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لِدليل ، ولا يكون إلا مع وجود التعارض ، فحيث انتفى التعارض انتفى الترجيح ؛ لأنّه فرعه لا يقع إلا مرتّباً على وجوده " (7) ا.هـ .
المطلب الرابع
... ... أركان الترجيح وشروطه
أوّلاً – أركان الترجيح :
__________
(1) - صدْر الشريعة الأصغر : هو عبد الله بن مسعود بن تاج الشريعة رحمه الله تعالى ، الإمام الحنفيّ الفقيه الأصولي الجدلي .. مِن مصنفاته : كتاب الوقاية ، التوضيح والتنقيح . تُوُفِّي رحمه الله تعالى في شرع آباد ببخارى سَنَة 747 هـ . الفتح المبين 2/161 والفوائد البهيّة /109.
(2) - التوضيح 2/215 .
(3) - عضد الدين الإيجي : هو عبد الرحمن بن أَحْمَد بن عبد الغفار بن أَحْمَد الإيجي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بإيج مِن أعمال شيراز بفارس .. مِن مصنفاته : شرْح مختصر ابن الحاجب في الأصول ، المواقف في أصول الدين . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 756 هـ . الفتح المبين 2/173 والدرر الكامنة 2/322 .
(4) - شرح العضد مع المختصر 2/309 .
(5) - كشف الأسرار 4/133 .
(6) - البحر المحيط 6/132
(7) - شرح الكوكب المنير 4/616(1/18)
بَعْد أنْ وقفنا فيما تقدَّم على تعريف الترجيح عند الأصوليين فإنه يمكن على ضوء التعريف الراجح استخراج أركان الترجيح التي لا بُدّ مِن وجودها لِتحققه ، ولا يتمّ الترجيح بتخلف واحد منها ..
فالترجيح لا بُدّ فيه مِن طرفيْن مرجَّح بَيْنَهُمَا ، وهُمَا : الراجح والمرجوح ، أي الدليلان المتعارضان , ويلزم - كذلك – قائم بعملية الترجيح : وهو المرجِّح .
ثُمّ لا بُدّ مِن اختصاص أحد الدليليْن بقوة ليست في الدليل الآخَر .
ولِذَا فإنّ أركان الترجيح – عندي – محصورة في ثلاثة :
الركن الأول : مرجَّح بَيْنَهُمَا ( الراجح والمرجوح ) .
الركن الثاني : مرجَّح به ، وهو ما اختص به أحد الدليليْن مِن قوة .
الركن الثالث : مرجِّح ، وهو المجتهد .
أمّا اعتبار الترجيح ركناً رابعاً كما ذهب البعض (1) : ففي النَّفْس منه شيء ؛ لأنّ المرجِّح – وهو المجتهد – لا يُعتبَر ركناً في الترجيح إلا إذا رجَّح بَيْن الدليليْن المتعارضيْن .
ثانياً – شروط الترجيح :
لقد اشترط الأصوليون شروطاً لِلترجيح ، حصرتُها – مما وقفتُ عليه
منها – فيما يلي :
الشرط الأول : أنْ يكون بَيْن الأدلة .
مما لا شكّ فيه أنّ الترجيح يجري بَيْن الأدلة ، ولكن محلّ النزاع بَيْن الأصوليين هو جريانه في الدعاوى والمذاهب .
وذكر الزركشي – رحمه الله – أنّ الدعاوى لا يدخلها الترجيح ، وانبنى عليه أنّه لا يجري في المذاهب ؛ لأنّها دعاوى محضة تحتاج إلى دليل .
ورجَّح رحمه الله تعالى دخول المذاهب في الترجيح باعتبار أصولها ونوادرها وبيانها ؛ فإنّ بعضها قد يكون أرجح مِن بعض ، ولِذلك جرى الترجيح في البينات .
كما اختلفوا في جريان الترجيح في العقائد (2) .
__________
(1) - يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/123 ، 124
(2) - يُرَاجَع : البحر المحيط 6/131 ، 132 والمسودة /309 والمدخل /395 ، وسيأتي تفصيل القول في ذلك – بإذن الله تعالى – في المطلب التالي ( محلّ الترجيح ) .(1/19)
الشرط الثاني : تحقق التعارض بَيْن الأدلة .
لا يكفي في الترجيح وجود الأدلة ، بل لا بُدّ مِن تقابلها وتعارضها ، وينبني على ذلك أنّه لا ترجيح بَيْن الأدلة غَيْر المتعارضة أو المتماثلة ، وكذلك لا ترجيح بَيْن القطعيات ؛ لأنّها تفيد علماً يقيناً ، ولا بَيْن قطعيّ وظنِّيّ ؛ لأنّ القطعي أقوى مِن الظني .
الشرط الثالث : أنْ يقوم دليل على الترجيح .
وهذا شرط على طريقة كثير مِن الأصوليين ، لكن الفقهاء يخالفونهم فيه ؛ لأنّهم اشترطوا عدم إمكان العمل بِكُلّ واحد مِن الدليليْن المتعارضيْن فإنْ أمكن العمل بواحد منهما امتنع الترجيح .
وكذلك يمتنع الترجيح إذا عملنا بِكُلّ واحد مِن الدليليْن جمعاً بَيْنَهُمَا ، ولا شك أنّ الإعمال أَوْلَى مِن الترك والتعطيل (1) .
الشرط الرابع : وجود مزية في الدليل الراجح ( المرجَّح به ) .
هذه المزية هي التي بها يقدَّم أحد الدليليْن المتعارضيْن على الآخَر فتثقل كفَّته ، ويصبح مَن تحققت فيه دليلاً راجحاً والثاني مرجوحاً .
والأصوليون مع اتفاقهم على اشتراط هذه المزية في الدليل الراجح وكون المرجَّح به وصفاً تابعاً لكنهم اختلفوا في كون المرجَّح به دليلاً مستقلاًّ عن المرجَّح على مذْهبيْن :
المذهب الأول : لِجمهور الأصوليين والمحدِّثين .
وهؤلاء يرون جواز كون المرجَّح به وصفاً تابعاً كالترجيح لِلدليل المرجّح بقوة السند وأحوال الرواة ونحو ذلك ، كما يجوز عندهم كونه دليلاً مستقلاًّ يصلح لإثبات الحُكْم لولا التعارض ، فالمستقلّ – عندهم – أقوى مِن الوصف ، ولِذَا فهو أَوْلَى بالترجيح .
المذهب الثاني : لِلحنفية .
__________
(1) - يُرَاجَع التعارض والترجيح عند الأصوليين /297(1/20)
ويرون عدم جواز كون المرجَّح به دليلاً مستقلاًّ ، واشترطوا في المرجَّح به أنْ يكون وصفاً تابعاً لِلدليل المرجّح غَيْر مستقلّ بنَفْسه : كالتواتر في المتواتر المرجَّح على خبر الواحد ؛ لأنّ الرجحان وصف ، والمستقلّ ليس وصفاً (1) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ؛ لأنّ المستقلّ أقوى مِن الوصف ، ولِذَا كان جديراً بذاته بالترجيح .
الشرط الخامس : أنْ لا يمكن العمل بِكُلّ واحد منهما .
فإنْ أمكن العمل بِكُلّ واحد منهما ولو مِن وجْه كان العمل به أَوْلَى مِن الترجيح الذي فيه تقديم الراجح على المرجوح وفيه ترْك لِلدليل الثاني ،
والإعمال أَوْلَى مِن الإهمال .
الشرط السادس : أنْ لا يعلم تأخر أحدهما .
فإنْ علِم تاريخ كُلّ مِن الدليليْن المتعارضيْن وكان أحدهما متقدماً والآخَر متأخراً كان المتقدم منسوخاً والمتأخر ناسخاً ، ولا تَعارُض بَيْنَهُمَا حينئذٍ .
الشرط السابع : أنْ يتساوى الدليلان في الثبوت .
ومِن ثَمّ فلا ترجيح بَيْن الكتاب وخبر الواحد ؛ لأنّه لا تَعارُض بَيْنَهُمَا .
الشرط الثامن : التساوي في القوة .
فلا ترجيح بَيْن السُّنَّة المتواترة وسُنَّة الآحاد ؛ لأنّ السُّنَّة المتواترة تقدَّم اتفاقاً.
الشرط التاسع : اتفاق الدليليْن المتعارضيْن في الحُكْم مع اتحاد الوقت والمحلّ والجهة .
__________
(1) - يُرَاجَع : تعارض الأدلة الشرعية /70 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/135 وأصول السرخسي 2/249 والتوضيح والتنقيح مع التلويح 2/214 – 216 وأصول البزدوي 2/135 وتيسير التحرير 3/137 - 154 والتقرير التحبير 3/4 .(1/21)
فلا تَعارُض بَيْن النهي عن البيع – مثلاً – في وقْت النداء مع الإذن به في غيره ، وإذا انتفى التعارض فكذلك الترجيح مِن باب أَوْلَى ؛ لأنّه مبنيّ عليه (1) .
المطلب الخامس
محلّ الترجيح
إنّ محلّ الترجيح أو مورده أو ما يجري فيه مرتبط – فيما أرى – بأصل الترجيح وسببه : وهو التعارض ..
وقد اختلف الأصوليون في جواز تعارض الأدلة الشرعية فمنهم مَن منع تعارُضها مطلقاً . ومنهم مَن أجاز تعارُضها مطلقاً .
والكثرة منهم فرَّقوا بَيْن الأدلة بحسب قوّتها : فمنعوا تعارض الدليليْن القطْعيّيْن ، وكذا الدليل القطعي مع الدليل الظني ، وحصروا التعارض بَيْن الأمارتيْن أو الدليليْن الظنييْن .
وإذا كان محلّ التعارض عند الكثرة مِن الأصوليين هو الدليليْن الظنييْن كان محلّ الترجيح هو الأدلة الظنية .
وفي ذلك يقول الغزالي (2) رحمه الله تعالى :" اعلم أنّ الترجيح إنما يجري بَيْن ظنَّيْن ؛ لأنّ الظنون تتفاوت في القوة ، ولا يُتصور ذلك في معْلوميْن ؛ إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب مِن بعض " (3) ا.هـ .
لكنّ الأصوليين اختلفوا في وقوع الترجيح في أمور ، منها :
1- القطعيات .
2- العقليات .
3- المذاهب .
4- الشهادة .
__________
(1) - يُرَاجَع شروط الترجيح في : البحر المحيط 6/131 – 137 وإرشاد الفحول /273 وأدلة التشريع المتعارضة /70 ، 71 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /296 ، 297 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/128 - 135
(2) - الغزالي : هو زيْن الدين أبو حامد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزالي الشافعي رحمه الله تعالى ، حُجّة الإسلام ، فقيه أصوليّ صوفيّ حكيم متكلِّم ، وُلِد بالطابران بخراسان سَنَة 450 هـ . مِن مصنَّفاته : إحياء علوم الدين ، المستصفى ، الوجيز ، مكاشفة القلوب ، كيمياء السعادة . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 505 هـ . الأعلام 7/247 وطبقات الشّافعيّة 1/249 – 264 .
(3) - المستصفى /375(1/22)
ونفصل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
1- الترجيح في القطعيات :
اختلف الأصوليون في الترجيح في الأدلة القطعية – تبعاً لاختلافهم في تعارضها – على مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح في القطعيات .
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين ، واختاره إمام الحرمين والغزالي والبيضاوي وابن الحاجب والآمدي والصفي الهندي وابن السبكي والزركشي والطوفي رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّ الترجيح لا بُدّ وأنْ يكون موجِباً لِتقوية أحد الطريقيْن المتعارضيْن على الآخَر ، والمعلوم المقطوع به غَيْر قابل لِلزيادة والنقصان ، وإذا كان كذلك فلا يُطلب فيه الترجيح (2) .
الدليل الثاني : أنّ الترجيح إنما هو فرع لِلتعارض ، ولا يتطرق إلى الدليل إلا بَعْد تحقُّق التعارض ، والتعارض غَيْر واقع بَيْن الأدلة القطعية ، فكذلك الترجيح بَيْنَهَا (3) .
الدليل الثالث : أنّ الترجيح إنما يكون بَيْن متعارضيْن ، وهو غَيْر متصور في القطعي ؛ لأنّه إمّا أنْ يعارضه قطعيّ أو يعارضه ظنِّيّ ، وهو محال ..
أمّا معارضة القطعي لِلقطعي : فيلزم منها إمّا العمل بهما ، وهو جمْعبَيْن النقيضيْن في الإثبات ، أو امتناع العمل بهما ، وهو جمْع بَيْن النقيضيْن في النفي ، أو العمل بأحدهما دون الآخَر ، وهو ترجيح بلا مرجِّح .
__________
(1) - يُرَاجَع : البرهان 2/1143 ، 1144 والمستصفى /375 والمنخول /427 ونفائس الأصول 8/3672 والمنهاج مع شرحه 2/788 والمختصر مع بيانه 3/371 ، 373 والإحكام لِلآمدي 4/247 والفائق 4/392 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/361 والبحر المحيط 6/132 والبلبل /187 ونهاية السول 3/156 ومناهج العقول 3/156 والإبهاج /224 والسراج الوهاج 2/1031 والحاصل 2/969 وتيسير الوصول 6/192
(2) - الإحكام لِلآمدي 4/247 بتصرف .
(3) - يُرَاجَع : الفائق 4/392 والمدخل /396 وإرشاد الفحول /274(1/23)
وأمّا معارضة القطعي لِلظني : فلامتناع ترجُّح الظني على القطعي ، وامتناع طلب الترجيح في القطعي ، كيف وأنّ الدليل القطعي لا يكون في مقابلته دليل صحيح ؟! فلَمْ يبقَ سوى الطرق الظنية (1) .
المذهب الثاني : جواز الترجيح بَيْن الأدلة القطعية .
وهو ما عليه بعض الحنفية .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ التعارض حقيقةً ليس واقعاً في أدلة الشرع قطعيّةً كانت أم ظنِّيَّةً ، وإنما هو تعارُض ظاهريّ أو في ذهن المجتهد ، ولِذَا فإنّه يجوز تعارُض الأدلة القطعية كما جاز تعارض الأدلة الظنية ، وإذا جاز تعارُض الأدلة القطعية جاز الترجيح بَيْنَهَا (2) .
والراجح عندي : أنّنا إنْ نظرنا إلى التعارض الحقيقي في نصوص الشرع فلا تعارُض بَيْنَهَا قطعيّةً كانت أم ظنِّيّةً ، وإنْ نظرنا إلى الظاهر أو إلى ما يقع في ذهن المجتهد فإنّ الأدلة القطعية تستوي في ذلك مع الأدلة الظنية ، لكنْ لا يلزم مِن وجود التعارض وقوع الترجيح ؛ لأنّ الترجيح مرحلة ثالثة لِرفع التعارض بَعْد النسخ وإمكان الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن ، والتعارض الواقع بَيْن القطعيات غالباً ما يُدفَع بواحدة مِن المرْحلتيْن ..
__________
(1) - الإحكام لِلآمدي 4/247 ، 248 بتصرف وشرح المنهاج 2/788 ، 789
(2) - يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 3/153 ومسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/189(1/24)
وفي ذلك يقول الشيخ المطيعي (1) رحمه الله تعالى :" فتبيَّن بهذا أنّ الصحيح مِن مذهب الشافعية موافق لِمَا عليه الحنفية ، وأنّ القول بـ" الفَرْق بَيْن
القطعي فلا يجوز وبين الظني فيجوز " خلاف الصحيح " (2) ا.هـ .
ويقول :" وأنّ الحقّ أنْ لا تَعارُض في الواقع ونَفْس الأمر ، لا فَرْق في ذلك بَيْن القطعي والظني ، وأنّهما يتعارضان في ظنّ المجتهد ؛ بناءً على ما قدّمناه مِن جهل التاريخ ونَحْوه ، وهذا لا فَرْق فيه بَيْن القطعي والظني أيضاً " (3) ا.هـ .
الترجيح بَيْن القطعي والظني :
والترجيح بَيْن الدليل القطعي والدليل الظني يجري فيه الخلاف السابق فعند غَيْر الحنفية لا ترجيح بَيْنَهُمَا ؛ لأنّ التعارض لا يقع بَيْنَهُمَا ، وإنما يقدَّم الدليل القطعي على الظني ؛ لِقوّته .
وفي ذلك يقول الأصفهاني رحمه الله تعالى :" ولا تعارُض – أيضاً – بَيْن قطعيّ وظنِّيّ ؛ لانتفاء الظن بأحد الطرفيْن عند القطع بالطرف الآخَر ، بل التعارض إنما يقع بَيْن الظنيْن " (4) ا.هـ .
الترجيح بَيْن علّتيْن قطعيتيْن :
قاس الغزالي الترجيح بَيْن علّتيْن قطعيتيْن على الترجيح بَيْن نصّيْن قطْعيّيْن
؛ فكما أنّه لا يجوز الترجيح بَيْن النصيْن القطعييْن فكذلك لا يجوز بَيْن العلتيْن القطعيتيْن ..
__________
(1) - المطيعي : هو الشيخ محمد بخيت بن حسين المطيعي المصري الحنفي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمطيعة مِن أعمال أسيوط سَنَة 1271 هـ ، وتعلَّم بالأزهر ، وعمل بالقضاء الشرعي ، وعُيِّن مفتياً لِلديار المصرية ( 1333 – 1339 هـ ) .. مِن مصنَّفاته : البدر الساطع ، القول المفيد في عِلْم التجويد ، نهاية السول ، سلم الوصول , تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 1354 هـ .الفتح المبين 3/181 – 187 والأعلام 6/274 .
(2) - سلم الوصول 4/434 .
(3) - سلم الوصول 4/435 .
(4) - شرح المنهاج 2/789 .(1/25)
وفي ذلك يقول رحمه الله تعالى :" وكما لا يجوز التعارض والترجيح بَيْن نصَّيْن قاطعيْن فكذلك في علتيْن قاطعتيْن ؛ فلا يجوز أنْ ينصب الله تعالى علّةً قاطعةً لِلتحريم في موضع وعلّةً قاطعةً لِلتحليل في موضع
وتدور بَيْنَهُمَا مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس ؛ لأنّه يؤدي إلى أنْ يجتمع قاطِع على التحريم وقاطِع على التحليل في فرع واحد في حقّ مجتهد واحد ، وهو محال " (1) ا.هـ .
وذهب بعض الحنابلة إلى أنّه لا يصحّ الترجيح بَيْن العلّتيْن إلا أنْ تكون كُلّ واحدة منهما طريقاً لِلحُكْم لو انفردت ؛ لأنّه لا يصحّ ترجيح طريق على ما ليس بطريق .
وفي " المسودة " أنّ الترجيح يقع بَيْن العلّتيْن إذا أمكن كوْنه طريقاً قَبْل ثبوت كونه طريقاً ، أمّا مع العلم بفساده فلا (2) .
2- الترجيح في العقليّات :
اختلف الأصوليون في جواز الترجيح في العقليات على مذاهب :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح في العقليات .
وهو المشهور ، ونقله إمام الحرمين – رحمه الله - عن إطلاق الأئمة وحكاه الغزالي – رحمه الله تعالى – في " المنخول " عن الأستاذ (3) ، وقال : هذا إشارة منه إلى أنّها معارف ، ولا ترجيح في المعارف .
المذهب الثاني : جواز الترجيح في العقليات .
__________
(1) - المستصفى /375 .
(2) - يُرَاجَع : المسودة /383 وشرح الكوكب المنير 4/625 .
(3) - أبو إسحاق الاسفراييني : هو ركْن الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الاسفراييني رحمه الله تعالى ، الفقيه الشافعي ، وُلِد باسفرايين . مِن مصنَّفاته : الجامع في أصول الدِّين والرَّدّ على المُلحِدين . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بنيسابور سَنَة 418 هـ .طبقات الفقهاء الشّافعيّة 1/312 - 314 والفتح المبين 1/240 ، 241 .(1/26)
وهو اختيار الغزالي رحمه الله تعالى ؛ لأنّ العقائد عنده ليست علوماً ، والثقة بها مختلفة (1) .
المذهب الثالث : عدم جواز الترجيح في القطعي مِن العقليات .
وهو اختيار إمام الحرمين والفخر الرازي وتاج الدين الأرموي والصفي الهندي رحمهم الله تعالى (2) .
وفي ذلك يقول إمام الحرمين رحمه الله تعالى :" أطلق الأئمة القول بأنّ المعقولات لا ترجيح فيها ، وهذا سديد لا ننكره ، ولكنّا أوضحنا في الديانات أنّ العوامّ لا يكلَّفون بلوغَ الغايات ودَرْكَ حقائق العلوم في المعتقدات ، وإنما يكلَّفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به ... ، وإذا كان كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى ؛ فإنّ عقودهم ليست علوماً ، ومأخذها كمأخذ الظنون في حقّ مَن يعلم أنّه ظانّ " (3) ا.هـ .
ويقول الصفي الهندي رحمه الله تعالى :" المشهور أنّ العقليات لا يتطرق الترجيح إليها ، وهو غَيْر جارٍ على إطلاقه ؛ فإنّه يجري في الظني والتقليدي إنّ جُوِّز ذلك فيه ... ، نعم القطعي منها لا يقبل ، لكنه غَيْر مختصّ بها " (4) ا.هـ .
ويقول الأرموي رحمه الله تعالى :" لا ترجيح في العقليات ، وفيه تفصيل ؛ لأنّه إنْ أريد بالعقليات ( اليقينيات ) فكذلك ، وإن أريد به ما يعمّ التقليد فليس كذلك " (5) ا.هـ .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الثالث ؛ لأنّه جمع بَيْن المذْهبيْن المتقدميْن ؛ لأنّ الأول نفى الترجيح فيها مطلقاً ، والثاني جوَّزه مطلقاً ، أمّا الثالث فكان وسطاً بَيْنَهُمَا حينما نفاه في القطعيات وجوَّزه في غَيْرها ، ولأنّ العامة مكلَّفون بالاعتقاد لا بالعلم .
__________
(1) - يُرَاجَع : البرهان 2/1144 والمنخول /427 والإبهاج 3/224 وشرح تنقيح الفصول /420 والبحر المحيط 6/132 ، 133 والحاصل 2/969 .
(2) - يُرَاجَع : البرهان 2/1144 والمحصول 5/534 والحاصل 2/969 والفائق 4/393
(3) - البرهان 2/1144 بتصرف .
(4) - الفائق 4/393 بتصرف .
(5) - الحاصل 2/969(1/27)
3- الترجيح في المذاهب :
اختلف الأصوليون في جواز الترجيح في المذاهب الفقهية على مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح في المذاهب .
نقله إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – عن الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - ، واختاره الغزالي - رحمه الله تعالى - وبعض الحنابلة (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، اذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ المذاهب بَعْد استقرارها أصبح تعويل الناس عليها في طلب الأحكام حتى صارت كالشرائع والمِلَل المختلفة ، وحيث إنّ الترجيح لا يجري في الشرائع فكذلك المذاهب .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ تعويل الناس على المذاهب في طلب الأحكام لا يُخْرِجها عن كوْنها ظنِّيّةً ، والظنيات تَقبل الترجيح .
الوجه الثاني : أنّا لا نسلِّم أنّ المذاهب صارت كالشرائع والمِلَل المختلفة حتى تأخذ حُكْمَهَا في عدم جريان الترجيح فيها .
الوجه الثالث : سلَّمْنَا جدلاً أنّها صارت كالشرائع ، لكنْ لا نسلِّم أنّ الشرائع لا تَقبل الترجيح ؛ باعتبار ما اشتملت عليه مِن المصالح والمحاسن وإنْ كان طريق جميعها قاطعاً .
الدليل الثاني : أنّ الترجيح لو كان جارياً في المذاهب لاضطرب الناس ولَمَا استقر أحد على مذهب ، فلِذلك لَمْ يكن لِلترجيح فيه مدخل كالبينات .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ اللازم منه مستلزِم ، وكُلّ مَن ظهر له رجحان مذهب وجب عليه الدخول فيه ، كما يجب على المجتهدِ الأخذُ بأرجح الدليليْن .
__________
(1) - يُرَاجَع : البرهان 2/1145 والمنخول /427 والمسودة /309 وشرح مختصر الروضة 3/679(1/28)
الدليل الثالث : أنّ كُلّ مذهب مِن المذاهب قد يصيب في بعض المسائل ويخطئ في بعضها ، ولِذَا فالمذهبان لا يَقبلان الترجيح ؛ لأنّه قد يفضي إلى الترجيح بَيْن الخطأ والصواب في بعض الصور أو بَيْن خطأيْن أو صوابيْن ، والترجيح لا يدخل فيه الخطأ اتفاقاً ، فدلّ ذلك على عدم جواز الترجيح في المذاهب (1) .
المذهب الثاني : جواز الترجيح في المذاهب .
هذا المذهب نسبه الفتوحي إلى القاضي عبد الجبار (2) رحمهما الله تعالى ،
وأورده المجد بن تيمية (3) والزركشي – رحمهما الله تعالى – لِلقاضي عبد الجبار عن بعض أصحابهم ( المعتزلة ) ، واختاره إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – وليس على إطلاقه ، وإنما استثناءً مِن المذهب السابق ، واختاره الزركشي – رحمه الله تعالى – أيضاً (4) .
__________
(1) - شرح الكوكب المنير 4/622 – 624 بتصرف .
(2) - القاضي عبد الجبار : هو أبو الحَسَن عبد الجبار بن أَحْمَد الهمداني رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُتَكَلِّم معتزليّ ، وُلِد سَنَة 359 هـ .. مِن تصانيفه : تفسير القرآن ، طبقات المعتزلة . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالرّيّ سَنَة 415 هـ .سِيَر أعلام النبلاء 11/54 ومعجم المؤلِّفين 5/78 .
(3) - المجد بن تيمية : هو أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحرّاني الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ،
وُلِد سَنَة 590 هـ .. مِن مصنَّفاته : الأحكام الكبرى ، منتهى الغاية شرْح الهداية ، أرجوزة في عِلْم القراءات ، المسوَّدة ( وقد زاد فيها ولده عبد الحليم ، وحفيده أحمد ) . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بحران سَنَة 652 هـ . شذرات الذهب 2/257 والفتح المبين 2/70 ، 71 ، 86 ، 134 .
(4) - يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/622 وشرح مختصر الروضة 3/683 ، 684 والمسودة /309 والبرهان 2/1145 والبحر المحيط 6/131 .(1/29)
واحتجّ أصحاب هذا المذهب : بأنّ المذاهب آراء وأحكام مستندة إلى الأدلة الشرعية ، ولِذَا فإنّها تتفاوت في القوة والضعف تبعاً لِقوة الدليل وضَعْفه ، وإذا جاز الترجيح بَيْن الأدلة الشرعية جاز كذلك الترجيح بَيْن ما بُنِي عليها وأُخِذ منها : وهي أحكام المذاهب .
مناقشة هذا الدليل ( لِلباحث ) :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنّ هناك فَرْقاً بَيْن الترجيح بَيْن الأحكام المذهبية والترجيح بَيْن المذاهب الفقهية ..
أمّا الأولى ( وهي ما بُنِي عليه دليلكم ) : فإنّ الترجيح فيها جائز ؛ لأنّنا في الحقيقة لا نرجِّح بَيْن المذاهب ، وإنما بَيْن أحكام في المذاهب .
وأمّا الثانية ( وهي الترجيح بَيْن المذاهب ) : فهي التي يجب التوقف فيها ، ومنعها الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - في المذهب الأول .
والأَوْلَى عندي : أنْ نفرِّق بَيْن الترجيح بَيْن المذاهب وبَيْن الترجيح بَيْن أحكام المذاهب ..
أمّا الأول : فلا يجوز ؛ لأنّه يفتح باب العصبية كما رأيْنَا مِن ترجيح إمام الحرمين الجويني – رحمه الله تعالى – مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - على غَيْره (1) .
وأمّا الثاني : فهو الأَوْلَى بمحلّ النزاع ، والأَوْلَى كذلك عندي بجواز الترجيح .
__________
(1) - يُرَاجَع البرهان 2/1146 - 1156(1/30)
وهذا المعنى الذي ذهبتُ إليه يُعَدّ جمعاً بَيْن المذْهبيْن أخذتُه وبنيتُه على كلام الفتوحي رحمه الله تعالى :" وهذا الوجه يشير قائله فيه إلى أنّ النزاع لفظيّ ، وهو أنّ مَن نفى الترجيح فإنما أراد لا يصحّ ترجيح مجموع مذهب على مذهب آخَر ؛ لِمَا ذُكِر ، ومَن أثبت الترجيح بَيْنَهُمَا أثبته باعتبار مسائلها الجزئية ، وهو صحيح ؛ إذ يصحّ أنْ يقال : مذهب مالك (1) في أنّ الماء المستعمَل في رفع الحدث طهور أَرْجَح مِن مذهب الشافعي وأحمد في أنه غَيْر طهور ، وكذا في غَيْرها مِن المسائل " (2) ا.هـ .
4- الترجيح في الشهادة :
اختلف الأصوليون في جريان الترجيح في الشهادة على مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح في الشهادة .
وهو اختيار الغزالي والفتوحي وابن عبد الشكور رحمهم الله تعالى (3) .
وفي ذلك يقول الأول رحمه الله تعالى :" أهْل الإجماع لَمْ يرجِّحوا في الشهادة ، وقد رجَّحوا في الرواية ، وسببه : أنّ باب الشهادة مبنيّ على التعبد ، حتى لو أتى عشرة بلفظ الأخبار دون الشهادة لَمْ تُقبَل شهادة مائة امرأة ولا مائة عبْد على باقة بقل " (4) ا.هـ .
المذهب الثاني : جواز الترجيح في الشهادة .
وهو منسوب إلى الإمام مالك - رضي الله عنه - ، واختاره الآمدي رحمه الله تعالى .
__________
(1) - الإمام مالك : هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني - رضي الله عنه - ، إمام دار الهجرة ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد بالمدينة سَنَة 93 هـ .. مِن مصنَّفاته : الموطَّأ . تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 179 هـ . الأعلام 3/824 والفتح المبين 1/117 - 123
(2) - شرح الكوكب المنير 4/624 ويُرَاجَع المدخل /395
(3) - يُرَاجَع : المستصفى /376 وشرح الكوكب المنير 4/621 وشرح العضد 2/310 والإبهاج 3/209 وتيسير التحرير 3/153 ومسلَّم الثبوت 2/204
(4) - المستصفى /376(1/31)
وفي ذلك يقول الفخر الرازي رحمه الله تعالى :" وأمّا فضل الشهادة : فعند مالك – رحمه الله – يَحصل الترجيح فيها بكثرة الشهود " (1) ا.هـ .
ويقول الآمدي رحمه الله تعالى :" وأمّا المعقول : فلا نسلِّم امتناع
الترجيح في باب الشهادة ، بل عندنا يقدَّم قول الأربعة على قول الاثنين على رأي لنا " (2) ا.هـ .
والأَوْلَى عندي : عدم جواز الترجيح في الشهادة ، وهو ما عليه المذهب الأول ؛ لأنّ باب الشهادة مبنيّ على التعبد ، كما أنّ جريان الترجيح بَيْنَهَا يفتح باب الزيادة بَيْن الطرفيْن المتعارضيْن ؛ كُلٌّ يريد أنْ يدعم حُجَّتَه بكثرة الشهود ، فيزيد عليه الثاني وهَلُمّ جَرَّا ، الأمر الذي يؤدي إلى تعطيل المصالح وتطويل التقاضي والفصل بَيْن المتنازعين .
المبحث الثاني
حكم الترجيح وتعارض وجوهه
المطلب الأول
حُكْم الترجيح
الكثرة مِن الأصوليين تحدَّثوا عن حُكْم العمل بالدليل الراجح ، منهم : الجويني وابن الحاجب والآمدي والصفي الهندي والقرافي وابن السبكي – رحمهم الله تعالى - وبعض المعاصرين (3) .
وقلة منهم جمعوا بَيْن حُكْم الترجيح وحُكْم العمل بالدليل الراجح ، منهم : الغزالي والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (4) .
ومنهم مَن عبَّر عن حُكْم الترجيح وأراد به حُكْم العمل به : كالبرزنجي رحمه الله تعالى (5) .
__________
(1) - المحصول 5/4540 ، 541
(2) - الإحكام 4/247
(3) - يُرَاجَع : البرهان 2/1142 والمختصر مع بيان المختصر 3/371 والإحكام لِلآمدي 4/246 والفائق 4/389 وشرح تنقيح الفصول /420 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/361 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /290 وأدلة التشريع المتعارضة /65
(4) - يُرَاجَع : المستصفى /374 ، 375 وشرح الكوكب المنير 4/618 ، 619 وإرشاد الفحول /273
(5) - يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/144(1/32)
واتجاه القلة – عندي – هو الأوجه ؛ لِتعرضه لِحُكْم الترجيح ذاته أوّلاً ومِن ثَمّ حُكْم العمل به بَعْد ذلك ..
ولِذَا فإنّي أقسِّم الحديث في هذا المطلب إلى ما يلي :
1- حُكْم الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة .
2- حُكْم العمل بالدليل الراجح .
ونفصِّل القول في كُلّ واحد منهما فيما يلي ..
أوّلاً – حُكْم الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة :
إذا وقع تعارض بين الأدلة الشرعية وجب على المجتهدين والفقهاء المتبحرين إزالة هذا التعارض ولَمّا كان هذا الواجب – وهو إزالة أو دفع التعارض بَيْن الأدلة الشرعية لا يتحقق إلا بمراحل منها الترجيح بَيْن هذه الأدلة - كان الترجيح لِذلك واجباً ؛ مِن باب ( ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب ) .
وفي ذلك يقول الشيرازي (1) رحمه الله تعالى :" إذا تعارض خبران ننظر فيهما : فإنْ أمكن الجمع بَيْنَهُمَا وترتيب أحدهما على الآخَر وجب الجمع واستعمال الخبريْن ، وإنْ لَمْ يمكن الجمع بَيْنَهُمَا وأمكن نسخ أحدهما الآخَرَ فعلى ما بيّنه في باب الأدلة التي يجوز التخصيص بها والتي لا يجوز ، وإنْ لَمْ يمكن ذلك وجب الرجوع إلى وجْه مِن وجوه الترجيح التي نذكرها " (2) ا.هـ .
ويقول الغزالي رحمه الله :" أمّا المقدمة الأولى : ففي بيان ترتيب الأدلة : فنقول : يجب على المجتهد في كُلّ مسألة أنْ يرد نظره إلى النفي الأصلي قَبْل ورود الشرع ثُمّ يبحث عن الأدلة السمعية المغيّرة ... ، فإنْ تَعارض قياسان أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره ، فإنْ تَساويَا عنده
__________
(1) - أبو إسحاق الشيرازي : هو إبراهيم بن علِيّ بن يوسف بن عبد الله الشيرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 393 هـ .. مِن مصنَّفاته : التنبيه ، اللُّمَع ، التبصرة في الأصول . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 476 هـ . طبقات الشّافعيّة الكبرى 3/88 ووفيات الأعيان 1/5 .
(2) - شرح اللمع 2/391 .(1/33)
توقَّف على رأي وتخيَّر على رأي آخَر كما سبق " (1) ا.هـ .
ويقول الشوكاني رحمه الله تعالى :" وإذا ثبت أنّ المعتبَر في الأحكام الشرعية الأدلةُ الظنيةُ فقد تتعارض في الظاهر بحسب جلائها وخفائها ، فوجب الترجيح بَيْنَهُمَا والعمل بالأقوى " (2) ا.هـ .
ومما تقدَّم يتضح أنّ الترجيح واجب في حقّ المجتهد ، لكن هذه النتيجة ليست مسلَّمةً أو متفَقاً عليها ، وإنما هناك مَن أَنكر الترجيح أو منعه ..
ولِذَا فإنّه يمكن حصر مذاهب الأصوليين في حُكْم الترجيح في مذْهبيْن :
المذهب الأول : وجوب الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة .
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين .
المذهب الثاني : منع الترجيح مطلقاً .
أورده الفتوحي – رحمه الله تعالى – نسبةً إلى قوم ، وحكاه القاضي أبو بكر الباقلاني (3) عن الملقب بـ" البصري " وهو جُعْل (4) .
وقد بنيتُ حصري لِهذيْن المذْهبيْن لأقوال بعض الأصوليين في هذا المقام .
منهم :
__________
(1) - المستصفى /374 ، 375 بتصرف .
(2) - إرشاد الفحول /273 .
(3) - القاضي أبو بَكْر الباقلاني : هو مُحَمَّد بن الطيب بن مُحَمَّد بن جعفر بن القاسم الباقلاّني المالكي رحمه الله تعالى .. مِن تصانيفه : التمهيد ، المقنع في أصول الفقه ، إعجاز القرآن ، المقدمات في أصول الديانات . تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 403 هـ . وفيات الأعيان 4/269 ، 270 وشذرات الذهب 3/168 والفتح المبين 1/233 – 235 .
(4) - جُعْل البصري : هو أبو عبد الله الحسين بن عَلِيّ البصري الحنفي الملقب بـ" جُعْل البصري " رحمه الله تعالى ، فقيه متكلِّم ، وُلِد سَنَة 293 هـ ، تتلمذ على الجبائي والكرخي رحمهم الله تعالى .. مِن مصنَّفاته : الإيمان ، الإقرار ، نقْض كلام ابن الراوندي . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 369 هـ . شذرات الذهب 3/68 وأصول الفقه تاريخه ورجاله /131 ، 132 والجواهر المضية 4/63 .(1/34)
إمام الحرمين الجويني – رحمه الله – في قوله :" ولا ينكر القول به على
الجملة مذكور ، وقَبِله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن الملقب بـ" البصري " – وهو جُعْل – أنّه أنكر القول بالترجيح ، ولَمْ أرَ ذلك في شيء مِن مصنفاته مع بحثي عنها " (1) ا.هـ .
والفتوحي – رحمه الله تعالى – في قوله :" فالترجيح فِعْل المرجِّح الناظر في الدليل ، وهو تقديم إحدى الأمارتيْن الصالحتيْن لِلإفضاء إلى معرفة الحُكْم ؛ لاختصاص تلك الأمارة بقوة في الدلالة ... ، وذكر أبو محمد البغدادي عن قوم منع الترجيح مطلقاً " (2) .
والراجح عندي : وجوب الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة في حقّ المجتهد ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول ..
أمّا منع الترجيح مطلقاً : فإنّي أقول به في حقّ العامِّيّ الذي لا يملك قدراً مِن العلم يؤهله إلى ذلك ، ولا أعتقد أنّ أصحاب المذهب الثاني قصدوا ما قصدتُه .
أمّا مَن كان مِن أهل العلم ولَمْ يَبلغ درجة الاجتهاد : فأرى أنّ الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة في حقه جائز .
ومما تقدَّم أرى حصر حُكْم الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة في ثلاثة أحكام:
الحُكْم الأول : الوجوب في حقّ المجتهد .
الحُكْم الثاني : الجواز في حقّ العالِم الذي لَمْ يَبلغ درجة الاجتهاد .
الحُكْم الثالث : الحرمة في حقّ العامِّيّ الذي ليس مِن أهل العلم .
ثانياً – حُكْم العمل بالدليل الراجح :
اختلف الأصوليون في حُكْم العمل بالدليل الراجح على مذاهب :
المذهب الأول : وجوب العمل بالدليل الراجح ، مظنوناً كان أو معلوماً .
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين ، واختاره الشيرازي والغزالي والفخر الرازي وابن الحاجب والآمدي والصفي الهندي والزركشي والأصفهاني وابن السبكي رحمهم الله تعالى .
واستدلّوا لِذلك بأدلة ، اذكر منها ما يلي :
__________
(1) - البرهان 2/1142 .
(2) - شرح الكوكب المنير 4/618 .(1/35)
الدليل الأول : إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل بالترجيح ..
فقد رجَّحوا خبر السيدة عائشة (1) – رضي الله عنها – في التقاء الختانيْن (2) على خبر أبي هريرة - رضي الله عنه - (3) { الْمَاءُ مِنَ الْمَاء } (4) .
__________
(1) - السَّيِّدَة عائشة : هي أمّ عبد الله الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق السيدة عائشة بنت أبي بَكْر عبد الله ابن عثمان ، أُمّ المؤمِنين ، وُلِدَت قَبْل الهجرة بتِسْع سنوات ، تَزَوَّجَها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد الهجرة .. تُوُفِّيَت رضي الله عنها بالمدينة سَنَة 58 هـ . الإصابة 9/359 وشذرات الذهب 1/61 - 63
(2) - أَخْرَجَه ابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها : باب ما جاء في وجوب الغُسْل إذا التقى الختانان برقم ( 600 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23767 ) .
(3) - أبو هُرَيْرَة : هو الصّحابيّ الجليل عبد الرحمن بن صخْر الدّوسيّ - رضي الله عنه - ، أسلَم أول سَنَة سبْع عام خَيْبَر وشَهِدَهَا مع رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولازَمَه يَدُور معه حيث دار ، ولِذا حَفِظ عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يُلْحَق به في كثْرته ، ورَوَى عنه أَكْثَر مِن ثمانمائة رَجُل .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 58 هـ . طبقات ابن سعْد 2/362 والاستيعاب لابن عبد البر 4/1768 - 1772 والإصابة 4/202
(4) - أَخْرَجَه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/54(1/36)
وقدَّموا خبر مَن روى مِن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصبِح جُنُباً وهو صائم (1) , على خبر أبي هريرة - رضي الله عنه - { مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً فَلاَ صَوْم لَه } (2) , (3) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّه مُعارَض بالنص مِن الكتاب والسُّنَّة ..
أمّا الكتاب : فقوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا يَأُولِى الأَبْصَر} (4) ، وهو أمر بالاعتبار مطلقاً مِن غَيْر تفصيل بَيْن راجح ومرجوح ، فكِلاَ الدليليْن داخل في النص وخاضع لِلنظر والاعتبار ، ومِن ثَمّ العمل بهما .
وأمّا السُّنَّة : فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى
__________
(1) - أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب الصيام : باب صحّة صَوْم مَنْ طَلع عليه الفجر وهو جُنُب برقم ( 1864 ) وأبو داود في كِتَاب الصوم : باب فِيمَنْ أَصْبَح جُنُباً في شَهْر رمضان برقم ( 2040 ) وأَحْمَد في باقِي مُسْنَد الأنصار برقم ( 22933 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة والسيدة أمّ سلمة رضي الله عنهما .
(2) - أَخْرَجه الإمام أَحْمَد في باقِي مُسْنَد المُكْثِرين برقم ( 7083 ) .
(3) - يُرَاجَع : شرح اللمع 2/391 والمستصفى /376 والمنخول /426 والمحصول 5/529 ، 530 والفائق 4/398 – 404 وبيان المختصر 3/372 ، 373 ولباب المحصول 2/742 ومنهاج الوصول مع نهاية السول 3/155 ، 156 =والإبهاج 3/209 ومسلَّم الثبوت 2/204 ومناهج العقول 3/155 وإرشاد الفحول /273 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/415 .
(4) - سورة الحشر مِن الآية 2 .(1/37)
السَّرَائِر } (1) .
والدليلان المتعارضان كلاهما ظاهر ، فلا يجوز الحُكْم بواحد منهما دون الآخَر ، ولِذَا كان العمل بالدليل المرجوح جائزاً .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة بوجْهيْن :
__________
(1) - قال الحافظ ابن حجر :" هذا الحديث اسْتَنْكَره المزني فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه ، وقال النسائي في سننه :" باب الحُكْم بالظاهر " ثُمّ أَوْرَد حديث أمّ سلمة الذي قَبْلَه ، وقد ثبت في تخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي سبب وقوع الوهم من الفقهاء في جعلهم هذا حديثاً مرفوعاً وأنّ الشافعي قال في كلام له :" وقد أمر الله نبيَّه أنْ يحكم بالظاهر والله متولي السرائر " ، وكذا قال ابن عبد البَرّ في " التمهيد " :" أجمعوا أنّ أحكام الدنيا على الظاهر ، وأنّ أمر السرائر إلى الله " ، وأغرب إسماعيل ابن عليّ بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه " إدارة الأحكام " فقال :" إنّ هذا الحديث ورد في قصّة سنان والحضرمي اللذيْن اختصما في الأرض ، فقال المقضيّ عليه :" قَضَيْتَ عَلَيَّ وَالْحَقُّ لِي" فقال - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِر } ، وفي الباب حديث عمر :" إِنَّمَا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُم " أخرجه البخاري ، وحديث أبي سعيد رفعه { إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاس } ، وهو في الصحيح في قصة الذهب الذي بعث به عَلِيّ ، وحديث أُمّ سلمة الذي قَبْله ، وحديث ابن عباس الذي بَعْده " .. تلخيص الحبير 4/191 .(1/38)
الأول : أنّ الأمر بالاعتبار في الآية الكريمة لا ينافي القول بوجوب العمل بالترجيح ، وإنما غايته الأمر بالنظر والاعتبار ؛ فإنّ إيجاب أحد الأمْريْن لا ينافي إيجاب غَيْره .
الثاني : أنّا لا نسلِّم أنّ المرجوح ظاهر حتى نحكم به كما الراجح ؛ لأنّ الظاهر هو ما ترجَّح أحد طرفيْه على الآخَر ، وفي تعارُض الدليليْن نرى أنّ المرجوح مخالِف لِلراجح وغَيْر مساوٍ له في القوة ، وإذا كان كذلك فلا يكون المرجوح ظاهراً فيه .
الوجه الثاني : أنّ الترجيح غَيْر معتبَر في البينات ؛ فلا تقدَّم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين ، والأمارات الظنية المتعارضة لا تزيد على البينات المتعارضة ، فلا يجوز الترجيح بَيْنَهَا كالبينات .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة بوجْهيْن :
الأول : أنّا لا نسلِّم عدم اعتبار الترجيح في البينات ؛ بل هناك مِن العلماء مَن قدَّم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين .
الثاني : سلَّمنا عدم اعتبار الترجيح في البينات إرجاعاً إلى ما كان متبَعاً في ذلك مِن إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ، وقد أُلِف منهم اعتبار ذلك في باب تعارض الأدلة دون باب البينات (1) .
__________
(1) - يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/246 ، 247 والمستصفى /376 والفائق 4/390 وبيان المختصر 3/372 ، 373 وشرح المنهاج 2/788 والإبهاج 3/209 وأدلة التشريع المتعارضة /67 68 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /291 ، 292 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/148 ، 149 .(1/39)
الدليل الثاني : أنّ العرف جرى على العمل بالراجح وترك المرجوح ، ولِذَا يُعَدّ التارك لِلراجح والآخذ بالمرجوح سفيهاً ، والعرف في الشرع معتبَر بمقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَناً فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَن } (1) ، ولذا كان العمل بالراجح واجباً ، وهو المدعى .
الدليل الثالث : أنّ العمل بالدليليْن المتعارضيْن ممتنع ؛ لأنّه جمْع بَيْن
المتناقضيْن ، وترْكهما معاً ممتنع ؛ لأنّه مدعاة لِلتحلل مِن أحكام الشرع ، فلم يَبْقَ إلا العمل بواحد منهما ، فإنْ عمل بالمرجوح وترك الراجح كان تقديماً لِلضعيف على الأقوى دلالةً ، وهو غَيْر جائز ، فتَعيَّن العمل بالراجح وترْك المرجوح (2) .
الدليل الرابع : أنّ الأولين ومَن تَبِعهم أطبقوا على ترجيح دليل على آخَر ، وكانوا - رضي الله عنهم - إذا جلسوا يشتورون ( مِن المشاورة ) تعلَّق معظم كلامهم في وجوه الرأي بالترجيح ، وهذا أُثْبِت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك الأحكام ، فدلّ ذلك على أنّ الترجيح مقطوع به ويجب العمل بالدليل الراجح (3) .
المذهب الثاني : جواز العمل بالمرجَّح المظنون ، ولا يجب إلا بما رجح قطعاً .
وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى .
أدلة هذا المذهب :
استدل الباقلاني – رحمه الله تعالى – على أنّ الترجيح بالمظنون لا يجب العمل به بأدلة ، اذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ العمل بالمظنون فيه عرضة لِلخطأ والغلط ، وكلاهما
__________
(1) - أَخْرَجَه الإمام أحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 3418 ) والحاكم في المستدرك 3/83 والطبراني في الأوسط 4/58 عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .
(2) - يُرَاجَع : الفائق 4/391 والمَراجع الثلاثة الأخيرة المتقدمة وإرشاد الفحول /274
(3) - البرهان 2/1142 ، 1143 بتصرف والمحصول 2/444(1/40)
مطلوب الابتعاد عنه وتركه ، وما كان سبباً فيه يأخذ حُكْمه ، ولِذَا فلا يجوز العمل بالمظنون ، وترك العمل بذلك في الظنون المستقلة لإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ، فيبقى في غَيْرها على أصله ، ولِذَا جاز العمل بالمرجَّح المظنون ، ولا يجب إلا فيما رجح قطعاً .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّكم سلّمتم بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - في العمل بالظنون المستقلة بأنفسها ، فكيف تنفونه على الظنون غَيْر المستقلة بنفسها - وكلاهما مظنون - وقد انعقد الإجماع على وجوب العمل بالظن الذي لا يستقلّ كما انعقد على المستقلّ (1) ؟!
الدليل الثاني : أنّا لو قلنا " إنّ كُلّ مجتهد مصيب " فإنّ الترجيح لا يتحقق في المظنون ، بخلاف المقطوع ؛ فإنّ الحقّ واحد ، ولِذَا لا يجب العمل بالمظنون الراجح (2) .
مناقشة هذا الدليل ( لِلباحث ) :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنّكم بنيتم دليلكم على قاعدة ( كُلّ مجتهد مصيب ) ، وهي غَيْر مسلَّمة عندنا ، وإذا كان كُلّ مجتهد ليس مصيباً كان الترجيح متحققاً حينئذٍ في المظنون كما المقطوع ؛ لأنّ الحقّ واحد .
الدليل الثالث : أنّ الترجيح بالبينات في الحكومات لا يجوز ؛ فإنّه لا يترجح بينة على بينة بعد استقلال كُلّ واحدة لو انفردت ، ولِذَا لا يجب العمل بالمظنون الراجح .
مناقشة هذا الدليل :
وقد ناقش إمام الحرمين الجويني – رحمه الله تعالى – هذا الدليل مِن وجْهيْن:
الوجه الأول : أنّ نفي الترجيح بالبينات في الحكومات ليس مسلَّماً عند الجميع ؛ فقد رجَّح مالك - رضي الله عنه - وطوائف مِن علماء السلف البينة على البينة ، وليس مِن الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع .
__________
(1) - يُرَاجَع : الفائق 4/389 والبحر المحيط 6/130 ، 131 وشرح الكوكب المنير 4/619 ، 620
(2) - يُرَاجَع الفائق 4/389 ، 390(1/41)
الوجه الثاني : أنّ المجتهد إذا ظن أنْ لا ترجيح في البينة ورآها مستندةً إلى توقيفات تعبدية فإنّ هذا لا يعارض ما ثبت قطعاً تواتراً في الترجيح والعمل به ، وليس متعلق مثبِتي الترجيح تجويزاً ظنِّيّاً فينتقض بشيء أو يقاس على شيء (1) .
المذهب الثالث : التخيير بَيْن العمل وعدمه إنْ رجح أحدهما بالظن ، ولا يجب إلا بما رجح قطعاً .
هذا المذهب نسبه ابن السبكي إلى أبي عبد الله البصري رحمهم الله تعالى (2) ، وأورد إمام الحرمين وكذا الزركشي – رحمهما الله تعالى – أنّ القاضي حكاه عن البصري الملقب
بـ" جُعْل " (3) ، وذكر الغزالي – رحمه الله تعالى – أنّ القاضي عزاه إلى أبي الحسين البصري (4) بالرمز (5) ..
وأوردته الكثرة بصيغة التجهيل والتضعيف ، منهم :
الفخر الرازي - رحمه الله تعالى – في قوله :" الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح ، وأنكره بعضهم وقال : عند التعارض يلزم التخيير أو الوقف " (6) ا.هـ .
__________
(1) - البرهان 2/1143 بتصرف .
(2) - يُرَاجَع جمع الجوامع مع شرح المحلي مع حاشية البناني 2/361
(3) - يُرَاجَع : البرهان 2/1142 والبحر المحيط 6/130 .
(4) - أبو الحسين البصري : هو مُحَمَّد بن عَلِيّ بن الطَّيِّب البصري رحمه الله تعالى ، أحد أئمة المعتزلة ، وُلِد بالبصرة ورَحَل لِبغداد ..مِن مصنفاته : المعتمد ، تَصَفُّح الأدلّة ، غرر الأدلّة . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 436 هـ. شذرات الذهب 3/259 والنجوم الزاهرة 5/38 .
(5) - المنخول /426 .
(6) - يُرَاجَع : المحصول 5/529 ونهاية السول 3/156 .(1/42)
والقرافي (1) – رحمه الله تعالى – في قوله :" الأكثرون اتفقوا على التمسك به ، وأنكره بعضهم وقال : يلزم التخيير أو التوقف " (2) ا.هـ .
والأصفهاني – رحمه الله تعالى – في قوله :" وأنكره بعضهم وقال : عند التعارض لا نرجِّح ، بل يلزم التخيير أو التوقف " (3) ا.هـ .
تحقيق هذا المذهب :
بعد الوقوف على توثيقات نسبة هذا المذهب يتضح أنّ الكثرة لَمْ تنسبه إلى أحد ، وقلة نسبته إلى البصري بحكاية القاضي أبي بكر الباقلاني التي نقلها إمام الحرمين والغزالي والزركشي وابن السبكي – رحمهم الله تعالى – مع تضارب المراد ، كما يتضح أنّ الكثرة ممن أوردوا هذا المذهب نصوا على أنّه منكِر لِلترجيح ، وعند التعارض يلزم التخيير أو التوقف ، وقلة منهم خفَّفوا حدة نسبة إنكار الترجيح ، منهم ابن السبكي – رحمهما الله تعالى – الذي نُسِب إليه القول بوجوب العمل بما رجح قطعاً ، أمّا ما رجح بالظن كان له التخيير بَيْن العمل وعدمه .
وبناءً على ما تقدَّم إنْ حمَلْنا مذهب البصري على ما أورده ابن السبكي كان قريباً مِن مذهب الباقلاني رحمهم الله تعالى ؛ لاتفاقهما في وجوب العمل بما رجح قطعاً .
وإنْ حمَلناه على ما أوردته الكثرة : فإنّه مردود وغَيْر مقبول .
__________
(1) - القرافي : هو أبو العباس أَحْمَد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يَلِّين الصنهاجي البهنسي المصري المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالبهنسا .. مِن مصنَّفاته : التنقيح في أصول الفقه ، شرْح التهذيب . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدير الطين سَنَة 684 هـ . الفتح المبين 2/90 .
(2) - شرح تنقيح الفصول /420 .
(3) - شرح المنهاج 2/788 .(1/43)
وفي ذلك يقول إمام الحرمين رحمه الله تعالى :" ولا ينكر القول به على الجملة مذكور ، وقَبِله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن الملقب بـ" البصري " – وهو جُعْل – أنّه أنكر القول بالترجيح ، ولَمْ أرَ ذلك في شيء مِن مصنفاته مع بحثي عنها " (1) ا.هـ .
كما أنّ تضارُب المحكي عن القاضي الباقلاني في نسبته إلى البصري مرّةً وإلى أبي عبد الله مرّةً وإلى أبي الحسين مرّةً أخرى تقوِّي ضَعْف هذا المذهب .
ثالثا - تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليين وأدلتهم في حُكْم العمل بالدليل الراجح يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ كثيراً مِن الأصوليين حصر النزاع بَيْن مذْهبيْن ، مع اتفاقهم في نسبة المذهب الأول إلى جمهور الأصوليين وعامّتهم ، واختلافهم في نسبة المذهب الثاني : فمنهم مَن نسبه إلى الباقلاني رحمه الله تعالى ، ومنهم مَن أورده مقابل مذهب الجمهور بصيغة " وأنكره قوم " .
2- أنّ إنكار الترجيح ليس مذهباً لِلباقلاني رحمه الله تعالى ، وليس مذهباً لِلبصري الذي نفاه عنه الجويني رحمهما الله تعالى ..
وقد أوَّلتُ مذهب البصري لِيكون قريباً مِن مذهب الباقلاني رحمهما الله
تعالى ، وبذا حصرتُ مذاهب الأصوليين في حُكْم العمل بالدليل الراجح في مذْهبيْن .
3- أنّ المذهب الأول – القائل بوجوب العمل بالدليل الراجح – يكفيه قوّةً
وترجيحاً إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل به ، كما أنّ أدلته سلمت جميعها مِن المناقشة والاعتراض ، كما أنّ أدلة المذهب الثاني لَمْ تَسلم جميعها مِن الاعتراض والمناقشة .
ولِذَا كان المذهب الأول – القائل بوجوب العمل بالدليل الراجح – هو الأَوْلَى بالقبول والاختيار .
__________
(1) - البرهان 2/1142(1/44)
وفي ذلك يقول ابن رشيق المالكي (1) رحمه الله تعالى :" المقدمة الثالثة : في دليل وجوب الترجيح واتباع الأرجح في الأخبار والعلل ، ودليل ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على طلب الأرجح والأوقع في النَّفْس في الرواية " (2) ا.هـ .
المطلب الثاني
تعارُض وجوه الترجيح
إذا تعارض دليلان ووُجِد مع كُلّ واحد منهما مرجِّح كان الترجيحان متعارضيْن، ونحتاج إلى مخلص بترجيح أحدهما على الآخَر ؛ دفعاً لِلتعارض الواقع بَيْنَهُمَا .
هذه المسألة انفرد بها الحنفية دون غَيْرهم ؛ لأنّ غَيْرهم لَمْ يُفرِدوها ، وإنما
مارَسوها عمليّاً عند دراستهم لِترجيحات الأخبار .
__________
(1) - ابن رشيق المالكي : هو أبو عَلِيّ الحسين بن عتيق بن الحسين بن رشيق المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 549 هـ ، كان فقيهاً بمذهب الإمام مالك - رضي الله عنه - حتى أصبح شيخَ المالكية في وقْته .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 632 هـ .الديباج المذهب 1/333 ، 334
(2) - لباب المحصول 2/742(1/45)
مثاله : رواية ابن عباس (1) – رضي الله عنهما – في نكاح أم المؤمنين السيدة ميمونة بنت الحارث (2) – رضي الله عنها – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهو مُحْرِم (3) مع رواية أبي رافع - رضي الله عنه - (4) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهُمَا حلالان (5) ..
__________
(1) - ابن عباس : هو حَبْر الأُمَّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عمّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، دعا له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل } .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالطّائف سَنَة 68 هـ .الإصابة 2/330 وشذرات الذهب 1/75
(2) - السَّيِّدَة ميمونة : هي أمّ المؤمِنين السيدة ميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها ، وقيل : كان اسمها " برّة " فغَيَّره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، تَزَوَّجها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَة 7 هـ ، روت ستّةً وأربعين حديثاً ..تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها بسرخس سَنَة 51 هـ . أسد الغابة 7/271 والإصابة 4/411
(3) - أَخْرَجَه البخاري في كتاب الحجّ : باب تزويج المُحْرِم برقم ( 1706 ) ومسلم في كتاب النكاح : باب تحريم نكاح المُحْرِم وكراهة خطبته برقم ( 2527 ) والترمذي في كتاب الحجّ عن رسول الله : باب ما جاء في الرخصة في ذلك برقم ( 771 ) .
(4) - أبو رافع : هو الصحابي الجليل أسلم القبطي - رضي الله عنه - ، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، روى عنه ابنه عبيد الله وحفيده الفضل بن عبيد الله وعمرو بن الشريد رحمهم الله تعالى .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 40 هـ حلية الأولياء 1/183 – 185 وسير أعلام النبلاء 2/16 ، 17.
(5) - أَخْرَجَه الدارمي في كتاب المناسك : باب في تزويج المُحْرِم برقم ( 1755 ) والإمام أحمد في مسند القبائل برقم ( 25942 ) .(1/46)
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى بيَّنَت أنّ نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلسيدة ميمونة – رضي الله عنها – كان في حالة الإحرام ، وأنّ الرواية الثانية أثبتت عكس ذلك ، وهنا تعارض الحُكْم في الروايتيْن ، ولا بُدّ مِن الترجيح بَيْنَهُمَا.
وجْه الترجيح لِكُلّ رواية منهما : أنّ رواية ابن عباس – رضي الله عنهما – قد رجحت بفقهه وضبطه ، ورواية أبي رافع - رضي الله عنه - قد رجحت لِلمباشرة حيث قال :" كُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا " ، وهذا تعارُض بَيْن الترجيحيْن ..
ولِذَا رجحت رواية ابن عباس – رضي الله عنهما – بأنّ الإخبار بالإحرام لا يكون إلا عن معاينة الهيئة الإحرامية ، فيكون العلم به أقوى .
كما رجحت رواية أبي رافع - رضي الله عنه - بموافقة صاحبة الواقعة ؛ حيث قالت رضي الله عنها :" تَزَوَّجَنِي وَنَحْنُ حَلاَلاَن " ، وصاحِب الواقعة أَعْرَف بحاله ، وهذا تعارُض ثانٍ بَيْن الترجيحيْن .
ولِذلك ذهب الحنفية إلى الجمع بَيْن الروايتيْن : فيُحمل قولها :" تَزَوَّجَنِي " مَجازاً عن الدخول لِعلاقة السببية العادية ؛ جمعاً بَيْن الحديثيْن .
وذهب غَيْر الحنفية إلى ترجيح ما رواه أبو رافع - رضي الله عنه - ؛ لأنّ صاحب القصة الواقعة أَعْرَف بحاله (1) .
تقديم الترجيح بالذات على الترجيح بالحال :
قدَّم الحنفيةُ الترجيحَ بالذات على الترجيح بالحال ؛ لِوجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ الحال يقوم بالغَيْر ، وما يقوم بالغير فله حُكْم العدم بالنظر إلى ما يقوم بنَفْسه .
الوجه الثاني : أنّ الذات أسبق وجوداً مِن الحال ، فيقع الترجيح به أوّلاً ، فلا يتغير بما يحدث بَعْد : كاجتهاد أمضى حُكْمَه .
__________
(1) - يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 3/168 وفواتح الرحموت مع مسلَّم الثبوت 2/209 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /399 .(1/47)
مثاله : صوم واجب - كصوم شهر رمضان أو نذر معيَّن – ولَمْ يبيِّت النية مِن الليل ونواها قبل نصف اليوم ، وحينئذٍ يكون بعضه منويّاً بعد النية وبعضه لا وهو ما قَبْلها ..
وَجْه التعارض : أنّ فقدان النية في بعض الأجزاء مفسِد لها ، ولِذَا يفسد الكل ..
وأنّ وجود النية وتحققها في الأكثر يجعله صحيحاً ، فكذلك الكل .
وقد رجَّح الحنفيةُ الصحةَ ؛ لأنّ للأكثر حُكْم الكل ، والترجيح بالكثرة
ترجيح بالوصف الذاتي .
ورجَّح الشافعيةُ الفسادَ ؛ لأنّ العبادة تقتضي النيةَ في الكل .
واعتبر الحنفية ترجيح الشافعية ترجيحاً بوصف عارِض : وهو وصْف العبادة ، ولِذَا فإنّهم قدَّموا الترجيح بالذات على الترجيح بالعرَض (1) .
المطلب الثالث
العجز عن الترجيح
إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح ولَمْ يجد دليلاً مِن موضع آخَر : فهل يتخير بَيْنَهُمَا أو يتوقف أو يتساقطا ؟
لِلأصوليين في ذلك سبعة مذاهب :
المذهب الأول : التخيير بَيْنَهُمَا .
وهو ما عليه الجبائي وابنه هاشم رحمهما الله تعالى ، ومنقول عن القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى .
المذهب الثاني : تساقطهما ، ويطلب الحُكْم مِن موضع آخَر ، ويرجع إلى العموم أو البراءة الأصلية .
__________
(1) - يُرَاجَع : التنقيح مع التوضيح 2/240 وكشف الأسرار لِلبخاري 4/164 ، 165 وتيسير التحرير 3/168 ومسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/209 ، 210 وأدلة التشريع المتعارضة /288 ، 289 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /396(1/48)
وهو قول ابن كج (1) رحمه الله تعالى ، ونُسِب إلى أهل الظاهر ، وأنكر ابن حزم – رحمه الله تعالى – هذه النسبة ، ونسبه الهندي – رحمه الله تعالى - إلى الفقهاء .
المذهب الثالث : الوقف .
حكاه الغزالي – رحمه الله تعالى – وغَيْره .
المذهب الرابع : الأخذ بالأغلظ .
حكاه الماوردي (2) والروياني (3) رحمهما الله تعالى .
المذهب الخامس : التخيير إنْ وقع في الواجبات ، والتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية إنْ وقع بَيْن حُكْمَيْن متنافييْن .
أورده الغزالي والهندي والزركشي والشوكاني رحمهم الله تعالى .
__________
(1) - ابن كج : هو القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن يوسف بن كج الدينوري الشافعي رحمه الله تعالى ، مِن فقهاء الشافعية ، صحب أبا الحسين القطان ، وكان يُضْرَب به المَثَل في حفظه لِمذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .. مِن مصنّفاته : التجريد . تُوُفِّي – رحمه الله تعالى – مقتولاً على يد العيارين بالدينور سَنَة 405 هـ . وفيات الأعيان 7/65 وشذرات الذهب 3/177 ، 178 .
(2) - الماوردي : هو القاضي أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد الماوردي [ نسبةً إلى بيع ماء الورد ] البصري الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالبصرة سَنَة 364 هـ ، وكان يميل إلى مذهب الاعتزال .. مِن مصنَّفاته : الحاوي الكبير ، أدب الدنيا والدِّين ، الإقناع في الفقه ، الأحكام السلطانية .تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 450 هـ . طبقات الشافعية الكبرى 5/267 - 269 والفتح المبين 1/252 ، 253
(3) - الروياني : هو فخر الإسلام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني الطبري الشافعي رحمه الله ، فقيه أصوليّ ، وُلِد ببخارى سَنَة 415 هـ ، تولى قضاء طبرستان .. مِن مصنّفاته : بحر الذهب ، الكافي ، حلية المؤمن, تُوُفِّي رحمه الله تعالى مقتولاً على يد الملاحدة سَنَة 502 هـ . سير أعلام النبلاء 12/60 والنجوم الزاهرة 5/197 وشذرات الذهب 4/4(1/49)
المذهب السادس : تقليد عالِم أكبر منه ، ويصير كالعامِّيّ لِعجزه .
حكاه إمام الحرمين رحمه الله تعالى .
المذهب السابع : أنّه كالحُكْم قَبْل ورود الشرع ، فتجيء فيه الأقوال المشهورة.
حكاه الكيا الطبري (1) رحمه الله تعالى (2) .
والراجح عندي : ما عليه المذهب الخامس مِن التخيير بَيْنَهُمَا إنْ وقع التعارض في الواجبات ، والتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية إنْ وقع بَيْن حُكْمَيْن متنافييْن .
المبحث الثالث
أقسام الترجيح
تمهيد في أقسام الترجيح :
ينقسم الترجيح بين الأدلة المتعارضة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول :الترجيح بين دليلين منقولين.
القسم الثاني: الترجيح بين دليلين معقولين متعارضين .
وفيه يكون الترجيح بين القياسين المتعارضين بما يعود إلى أصله أو فرعه أو مدلوله وترجيح العلة الظاهرة على الخفية وتقديم الضروريات من مقاصد الشريعة على غيرها.
القسم الثالث: الترجيح بين دليلين متعارضين أحدهما منقول والآخر معقول.
وفيه يرجح الدليل المنقول على المعقول هذا إذا كان المنقول دالا على المطلوب بمنطوقه وإن دل عليه لا بمنطوقه فالترجيح بحسب ما يقع للمجتهد. (3)
__________
(1) - الكيا الهراسي : هو أبو الحَسَن عماد الدين علِيّ بن محمد بن علِيّ الطبري الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مفسِّر مُحَدِّث .. مِن مصنَّفاته : شفاء المسترشدين ، أحكام القرآن . تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 504 هـ .طبقات الشّافعيّة /231 وشذرات الذهب 4/8 .
(2) - يُرَاجَع : المستصفى /364 – 367 والفائق 4/370 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/359 والبحر المحيط 6/115
= ، 116 وإرشاد الفحول /275 .
(3) - يُرَاجَع : التعارض والترجيح في :المستصفى 2/392_398 والمحصول 2/434_470 والإبهاج 3/212_262 والمختصر في أصول الفقه /168_171 وشرح التوضيح مع التلويح 2/116,115 والتعارض والترجيح لأستاذنا فضيلة د/الحفناوي .(1/50)
والقسم الأول هو الذي استحوذ على الجانب الأكبر من البحث والدراسة عند الأصوليين ولذا سنكتفي بإيجاز أقسامه فيما يلي :
أقسام الترجيح بين دليلين منقولين :
ينقسم الترجيح الواقع بين دليلين منقولين إلى أربعة أقسام :
الأول: السند .
الثاني: المتن .
الثالث: مدلول اللفظ .
الرابع: الأمر الخارجي . (1) ونفصل القول في كل واحد منها في المطالب التالية :
المطلب الأول
الترجيح باعتبار السند
الترجيح باعتبار السند يرجع إلى ثلاثة أمور:
1-الراوي 2- الرواية 3- المروي عنه
أولا :الترجيح العائد إلى الراوي :
لقد تعددت وجوه الترجيح العائد إلى الراوي ومن أشهرها :
1- الترجيح بكثرة الرواة .
2- الترجيح بعلو الإسناد .
3- الترجيح بعلم الراوي .
4- الترجيح بعدالة الراوي وورعه .
5- الترجيح بذكاء الراوي وضبطه .
6- الترجيح بشهرة الراوي .
7- الترجيح بأكابر الصحابة - رضي الله عنهم -
8- الترجيح بتقدم الإسلام .
9- الترجيح بالتحمل حالة البلوغ .
10- الترجيح بكثرة المزكين .
11- الترجيح بصاحب القصة .
12- الترجيح بالمشافهة لما سمع (2) .
وأكتفي في هذا المقام بإيراد بعض الأمثلة التطبيقية .
المثال الأول :الترجيح بكثرة الرواة .
ما رُوِي عن ابن عُمَر (3) عن أبيه – رضي الله عنهما – قال :" رَأَيْتُ رَسُولَ
__________
(1) - يراجع : مختصر المنتهى مع بيان المختصر 3/ 274 والإحكام للآمدي 4/ 251 والتلويح 2/ 235 وشرح الكوكب المنير 4/ 627 وإرشاد الفحول / 276 .
(2) - يراجع بيان المختصر 3/ 376ـ380 .
(3) - ابن عُمَر : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب القرشي العدوي رضي الله عنهما ، أحد الأعلام في العِلْم والعمل .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمكة سَنَة 74 هـ , الطبقات الكبرى 4/142 – 187 والتاريخ الكبير 5/125 وتذكرة الحُفّاظ 1/37(1/51)
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ،
وبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ، وَلاَ يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْن " (1) .
وهذه الرواية معارَضة برواية البراء بن عازب - رضي الله عنه - (2) قال :" رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ يَرْفَعُ يَدَيْه " (3) ورواية ابن مسعود - رضي الله عنه - (4) :"أنّ النَّبِيَّ
__________
(1) - أَخْرَجَه النسائي في كتاب التطبيق : باب تَرْك ذلك بَيْن السّجدتيْن برقم ( 1132 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب رفع اليديْن في الصلاة برقم ( 619 ) وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها : باب رفع اليديْن إذا ركع وإذا رفع رأسه مِن الركوع برقم ( 848 ) .
(2) - البراء بن عازب : هو الصحابي الجليل أبو عمارة البراء بن عازب بن الحارث الأوسي الأنصاري - رضي الله عنه - ، استصغره النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فرَدّه ، غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 72 هـ الطبقات الكبرى 4/364 – 369 والإصابة 1/278 .
(3) - أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب مَن لَمْ يَذكر الرفع عند الركوع برقم ( 640 ) والإمام أحمد في أول مسند الكوفيين برقم ( 17756 ) والدارقطني في سننه 1/293
(4) - ابن مسعود : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرَّحْمن عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي المدني - رضي الله عنه - ، أوّل مَن جَهَر بالقرآن في مكة ، شَهِد المَشاهد كُلّها مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، كان صاحِبَ سِرّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ووسادِه وسواكِه ونَعْلَيْه وطهوره في السَّفَر تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 32 هـ ودُفِن بالبقيع , المُنْتَظِم 5/29 والبداية والنهاية 5/336(1/52)
كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ ثُمَّ لاَ يَعُود " (1) , (2) .
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى أثبتت لِلنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة مواضع لِرفع اليديْن في الصلاة : عند تكبيرة الإحرام ، وقَبْل الركوع ، وبَعْده ..
والروايتان الأخيرتان أثبتتا موضعاً واحداً عند تكبيرة الإحرام .
وهنا تعارض الخبران ؛ لِعدم اتفاقهما في عدد مرات رفع اليديْن في الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بُدّ مِن رفع هذا التعارض .
وجْه الترجيح بَيْن الخبريْن : رجَّح الجمهورُ الخبرَ الأولَ ؛ لأنّه أكثر رواةً مِن الخبريْن الأخيريْن ؛ فقد رواه جمع مِن الصحابة - رضي الله عنهم - بلغ ثلاثةً وثلاثين صحابيّاً ، وقيل : ثلاثة وأربعون ، وقيل : خمسون (3) .
أثر الترجيح بكثرة الرواة في هذا الفرع :
إنّ الجمهور الذين رجّحوا بكثرة الرواة قالوا : يُسَنّ رفع اليديْن في ثلاثة مواضع : عند تكبيرة الإحرام ، وقَبْل الركوع ، وبَعْده .
ولِلشافعي - رضي الله عنه - : إذا قام مِن التشهد الأول ؛ لِحديث ابن عمر – رضي الله
عنهما – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه كان يفعله (4) .
__________
(1) - أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء أنّ النبي لَمْ يَرفع إلا في أول مرة برقم ( 238 ) والنسائي في كتاب التطبيق : باب الرخصة في ذلك برقم ( 1048 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب مَن لَمْ يَذكر الرفع عند الركوع برقم ( 639 ) .
(2) - يُرَاجَع : البحر المحيط 6/150 وشرح الكوكب المنير 4/629 – 632 والإبهاج 3/219
(3) - يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/632 وفتح الباري 1/182 ، 183 والبحر المحيط 6/150 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /312
(4) - أَخْرَجَه البخاري .. يُرَاجَع شرح النووي على صحيح مسلم 4/95 .(1/53)
أمّا الذين لَمْ يرجّحوا بكثرة الرواة – وهم الحنفية – فإنّهم يرون ندب رفع اليديْن عند تكبيرة الإحرام فقط (1) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ، وهو ندب رفع اليديْن في المواضع الثلاثة ؛ لِكثرة رواة الخبر الذي نص على ذلك ، ويزاد الموضع الرابع عند القيام إلى الثلاثة .
المثال الثاني : الترجيح بكثرة المزكين .
ما روته السيدة بُسْرَة بنت صفوان (2) – رضي الله عنها – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ } (3)
__________
(1) - أَخْرَجَه مسلم في كتاب الصيام : باب وجوب صوم رمضان لِرؤية الهلال والفطر لِرؤية الهلال برقم ( 1797 ) وأبو
داود في كتاب الصوم : باب الشهر يكون تسعاً وعشرين يوماً برقم ( 1976 ) وأحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 4258 ) .
(2) - بُسْرَة بنت صفوان : هي الصحابية الجليلة أُمّ معاوية السيدة بُسْرَة بنت صفوان بن نوفل بن أسد القرشية الأسدية رضي الله عنها ، بِنْت أخي ورقة بن نوفل - رضي الله عنه - ، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لها سابقة قديمة وهجرة ، وقيل : كانت مِن المبايعات .
الإصابة 4/252 .
(3) - أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب الوضوء مِن مسّ الذَّكَر برقم ( 77 ) والنسائي في كتاب الغُسْل والتيمم : باب الوضوء مِن مسّ الذَّكَر برقم ( 443 ) وأحمد في مسند القبائل برقم ( 26030 ) .(1/54)
فإنّه معارَض برواية قيس بن طلق (1) عن أبيه (2) - رضي الله عنه - قال :" كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا بِرَجُلٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ ، فَقَال : { إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْك } (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى أوجبت الوضوء مِن مسّ الذَّكَر ، والرواية الثانية لَمْ تنقض الوضوء مِن مسّه ، فالحُكْمان متعارضان .
__________
(1) - قيس بن طلق : هو قيس بن طلق بن عَلِيّ الحنفي رحمه الله تعالى ، ضعَّفه أحمد ويحيى في إحدى الروايتيْن عنه ، ووثَّقه العجلي .. وقال ابن أبي حاتم :" سألتُ أبي وأبا زرعة عنه فقالا : ليس ممن تقوم به حُجَّة " . وقال ابن القطّان : يقتضي أنْ يكون خبره حسناً لا صحيحاً . ميزان الاعتدال 3/397 والإصابة 5/563
(2) - طلق : هو الصحابي الجليل أبو عَلِيّ طلق بن عَلِيّ بن المنذر الحنفي السحيمي - رضي الله عنه - ، له صحبة ووفادة ورواية ، سكن البصرة وتُوُفِّي بها .. الطبقات الكبرى 5/552 وأسد الغابة 1/1220 والإصابة 2/232 ، 233
(3) - أَخْرَجَه النسائي في كتاب الطهارة : باب تَرْك الوضوء مِن ذلك برقم ( 165 ) وأحمد في أول مسند المدنيين أجمعين برقم ( 15693 ) .(1/55)
وَجْه الترجيح : أنّ رواية بُسْرَة – رضي الله عنها – كَثُر المزكّون لها فقد روى هذا الحديث مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد (1) عن عروة بن الزبير (2) ، وكل واحد منهم متفق على عدالته ..أمّا رواية طلق - رضي الله عنه - : فقد قَلّ المزكّون لها ، إضافةً إلى نكارة سندها (3) .
ولِذَا رجّحت رواية بسرة على رواية طلق رضي الله عنهما .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في نقض الوضوء مِن مس الذَّكَر على قوْليْن :
القول الأول : أنّه لا ينقض الوضوء .
وهو ما عليه الحنفية ؛ عملاً برواية طلق - رضي الله عنه - وترجيحاً لها ؛ لأنّهم لا يرجِّحون بكثرة الرواة .
القول الثاني : أنّه ينقض الوضوء .
وهو ما عليه الجمهور خِلاَف الحنفية ؛ عملاً برواية بسرة - رضي الله
عنها – وترجيحاً لها بكثرة المزكّين كما تقدَّم .
__________
(1) - عبد الله بن أبي بكر : هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني رحمه الله تعالى ، شيخ الإمام مالك والسفيانيْن - رضي الله عنهم - ، روى عن أنس - رضي الله عنه - وجماعة ، وكان كثيرَ العلم .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 135 هـ . شذرات الذهب 1/192
(2) - عروة بن الزبير : هو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوّام القرشي الأسدي المدني رحمه الله تعالى ، مِن التابعين ، أحد فقهاء المدينة السبعة ، وُلِد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ، تفقَّه على أبيه وخالته السيدة عائشة وكثير مِن علماء الصحابة - رضي الله عنهم - ، وكان يقرأ ربع القرآن كُلّ يوم في المصحف ويقوم به في الليل .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى صائماً سَنَة 94 هـ . تذكرة الحُفّاظ 1/62 ،63 وسِيَر أعلام النبلاء 4/423 – 433 وشذرات الذهب 1/103 ، 104 .
(3) - يُرَاجَع : إحكام الفصول /737 والإبهاج 3/222 والتحقيق في أحاديث الخلاف /176 – 180 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/171 ، 172 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /319(1/56)
والراجح عندي : نقض الوضوء مِن مس الذَّكَر ؛ ترجيحاً لِرواية بسرة على رواية طلق رضي الله عنهما ؛ لِكثرة المزكّين لها ، ولِكثرة رواتها ؛
فقد رُوِيَت عن سبعة عشر صحابيّاً ، أمّا رواية طلق : فقد رواها واحد (1) .
المثال الثالث : الترجيح برواية متقدم الإسلام .
ما روته السيدة عائشة – رضي الله عنها – قالت :" كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْت " (2) ..
وفي رواية :" كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ (3) الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِم " (4) ..
__________
(1) - يُرَاجَع : رحمة الأُمّة /11 وبدائع الصنائع 1/30 والتاج والإكليل 1/299 والمهذب 1/24 والمغني لابن قدامة 1/116 وسبل السلام 1/67 ، 68
(2) - أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحجّ : باب الطِّيب لِلمُحْرِم عند الإحرام برقم ( 2042 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب إباحة الطِّيب عند الإحرام برقم ( 2637 ) وأبو داود في كتاب المناسك : باب الطِّيب عند الإحرام برقم ( 1483 ) .
(3) - الوبيص : البريق واللمعان .. يُرَاجَع لسان العرب 7/104
(4) - أَخْرَجَه البخاري في كتاب الغسل : باب مَن تطيَّب ثُمّ اغتسل وبقي أثر الطِّيب برقم ( 263 ) ومسلم في كتاب الحجّ : باب الطِّيب لِلمُحْرِم عند الإحرام برقم ( 2048 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب إباحة الطِّيب عند الإحرام برقم ( 2645 ) .(1/57)
فإنّه معارَض بما رواه يعلى بن أمية - رضي الله عنه - (1) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل متضمخ بطِيب فقال :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيب؟"فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه الوحي ثُمّ سُرِّي عنه فقال{ أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفا } فالتمس الرجلَ فجيء به ، فقال{ أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي
الْعُمْرَةِ كُلَّ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّك (2) }..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت تطيُّب النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبْل إحرامه والرواية الثانية تفيد حرمة ذلك ، فالحُكْم فيهما متعارض .
__________
(1) - يَعْلَى بن أميّة : هو الصحابي الجليل أبو خَلَف يَعْلَى بن أميّة بن هَمّام التميمي المكّي - رضي الله عنه - ، أَسْلَم يَوْم الفتح ، شَهِد الطائف وتبوك ، كان عاملاً لِعُمَر - رضي الله عنه - على نجران ، وعلى اليَمَن لِعُثْمَان - رضي الله عنه - ، كان معروفاً بالسخاء والكرم . تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 47 هـ . سِيَر أعلام النُّبَلاَء 3/100 - 101 وتهذيب الكمال 22/378 - 380
(2) - أَخْرَجَه البخاري في كتاب المغازي : باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان برقم ( 3984 ) ومسلم في كتاب الحجّ : باب ما يباح لِلمُحْرِم بحجّ أو عمرة برقم ( 2019 ) وأحمد في مسند الشاميين برقم ( 17269 ) .(1/58)
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول روته السيدة عائشة رضي الله عنها ، والخبر الثاني رواه يعلى بن أمية - رضي الله عنه - ، ولا شكّ أنّ السيدة عائشة – رضي الله عنها – متقدمة الإسلام ، ولكن الجمهور لَمْ يرجِّحوا روايتها لِذلك ، وإنما لأنّه ثبت أنّ روايتها كانت في حُجَّة الوداع سَنَة عشر ، ورواية يعلى - رضي الله عنه - كانت بالجعرانة سَنَة ثمان ، وحيث تَيَقَّنَّا المتأخر مِن المتقدم كان المتأخر ناسخاً ، وهو ما عليه الجمهور .
الأثر الفقهي :
اتفق الجمهور على أنّ التطيب في البدن والثياب قَبْل الإحرام سُنَّة حتى وإنْ بقي أثره بَعْد الإحرام استناداً إلى ترجيح رواية السيدة عائشة رضي الله عنها .
وذهب الإمام مالك - رضي الله عنه - إلى المنع مِن ذلك ، وهو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما ؛ ترجيحاً لِرواية يعلى - رضي الله عنه - (1) .
والأَوْلَى عندي : ما عليه الجمهور ؛ لِقوة حُجّتهم ووجْهتهم .
ثانيا : الترجيح العائد إلى الرواية :
لقد تعددت وجوه الترجيح العائد إلى الرواية ومن أشهرها :
1- ترجيح المسند على المرسل .
2- ترجيح المسند بالاتفاق .
3- ترجيح المسند إلى كتاب من كتب المحدثين .
4- ترجيح المسند إلى كتاب موثوق بصحته .
5- ترجيح المتواتر على غيره .
6- ترجيح الأعلى سندا .
7- ترجيح المسند المعنعن .
8- ترجيح قراءة الشيخ .
9- ترجيح المتفق على رفعه .
10- ترجيح الغير مختلف روايته (2) .
__________
(1) - يُرَاجَع : المغني لابن قدامة 3/120 والمبسوط 4/3 والهداية 1/137 وبداية المجتهد 1/329 وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية /103 ، 104.ويراجع الترجيح العائد إلى وقت الرواية في : المحصول 2/ 457 ـ 459 والبحر المحيط 6/ 157 ـ 163 والإبهاج 3/ 227 واللمع /47 والفائق 4/ 418 ونهاية السول 3/ 163 ـ 173 والمنهاج مع شرحه 2/ 800، 801 وغاية الوصول / 143 وأصول الفقه للشيخ زهير 4/ 423 , 424 .
(2) - يراجع بيان المختصر 3/ 381, 382 . ...(1/59)
وأكتفي في هذا المقام بإيراد مثالين تطبيقيين :
المثال الأول : ترجيح المسند على المرسل .
ما روى عكرمة (1) عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنّ بَرِيرَة (2) – رضي الله عنها – أُعْتِقَتْ ، وكان زوجها عبْداً أسود يقال له " مغيث " - رضي الله عنه - (3) كان لِبني فلان " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَ مَاءٍ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى
__________
(1) - عكرمة : هو أبو عبد الله عكرمة البربري المدني الهاشمي رحمه الله تعالى ، مولى ابن عباس رضي الله عنهما ، تعلَّم عليه وحمل عِلْمَه .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 107 هـ . تذكرة الحفّاظ 1/95 ، 96
(2) - بَرِيرَة : هي الصحابية الجليلة السيدة بَرِيرَة مولاة السيدة عائشة رضي الله عنهما ، كانت مولاةً لِقوم مِن الأنصار – وقيل : لآل عتبة بن أبي لهب ، وقيل : لِبني هلال – فاشترتها السيدة عائشة وأعتقتها ، وكانت تخدمها قَبْل أنْ تشتريها . سير أعلام النبلاء 2/297 – 304 والإصابة 4/251 ، 252
(3) - مغيث : زَوْج بَرِيرة رضي الله عنهما ، وهو مَوْلَى أبي أحمد بن جحش الأسدي ، خَيَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَة – رضي الله
عنها – فاختارت فراقَه ، وكان يحبّها ، وكان يمشي في طُرُق المدينة وهو يبكي ، واستشفع إليها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت :"
= أَتَأْمُر ؟ " قال { لاَ ، بَلْ أَشْفَع } قالت :" لاَ أُرِيدُه " . الطبقات الكبرى 8/260 والإصابة 3/451 ، 452(1/60)
لِحْيَتِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { يَا عَبَّاسُ (1) .. أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَبُغْضِ بَرِيرَةِ مُغِيثا } " (2) .. فإنّه معارَض بما رواه الأسود بن يزيد (3) – رحمه الله تعالى – عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنّ بريرة – رضي الله عنها – أُعْتِقَتْ ، فخيَّرَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان زَوْجُهَا حُرّاً (4) ..
__________
(1) - العباس : هو الصحابي الجليل أبو الفضل العباس بن عبْد المطلب بن هاشِم بن عبْد مناف القرشي - رضي الله عنه - ، عَمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وُلِد قَبْل عام الفيل بثلاث سنوات .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 32 هـ عَنْ 86 سَنَةً ، ودُفِن بالبقيع . الطبقات الكبرى 4/5 - 32 وسير أعلام النبلاء 2/78 - 100
(2) - أَخْرَجَه البخاري في كتاب الطلاق : باب شفاعة النبي في زوج بريرة برقم ( 4875 ) والنسائي في كتاب آداب القضاة : باب شفاعة الحاكم لِلخصوم قَبْل فَصْل الحُكْم برقم ( 5322 ) وأبو داود في كتاب الطلاق : باب في المملوكة تُعْتَق وهي تَحْت حُرّ أو عبْد برقم ( 1904 ) .
(3) - الأسود بن يزيد : هو أبو عمرو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي رحمه الله تعالى ، كان مخضرماً ، أدرك الجاهلية والإسلامية ، حدّث عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - ، ولازم ابنَ مسعود - رضي الله عنه - ، وكان يختم القرآن في كُلّ ليْلتيْن ، وكان يصلّي كُلّ يوم سبعمائة ركعة ، وحَجّ ثمانين حجّةً وعمرةً لَمْ يَجمع بَيْنَهُمَا .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 75 هـ . تذكرة الحفّاظ 1/50 ، 51 وسير أعلام النبلاء 4/53 وشذرات الذهب 1/82
(4) - أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الرضاع : باب ما جاء في المرأة تُعتق ولها زوْج برقم ( 1075 ) وأبو داود في كتاب الطلاق : باب مَن قال : كان حُرّاً برقم ( 1908 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23021 ) .(1/61)
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت أنّ مغيثاً زوج بَرِيرة – رضي الله عنهما – كان عبداً ، والرواية الثانية تُثبت له الحرية ، فَهُمَا متعارضان
وَجْه الترجيح : أنّ رواية عكرمة – رحمه الله تعالى – خبر مسند ، ورواية الأسود بن يزيد – رحمه الله تعالى – خبر مرسل ؛ لأنّ النص على أنّه كان حُرّاً إنما هو مِن قول الأسود بن يزيد رحمه الله تعالى ، ولِذَا رجّحْنا المسند على المرسل (1) .
المثال الثاني : ترجيح المتفق على رفعه .
__________
(1) - يُرَاجَع إحكام الفصول /744 و يُرَاجَع الترجيح العائد للرواية في : المنخول /431 وإحكام الفصول /743 والمحصول 2/458 والعدة 3/1032 والواضح 5/86 والإحكام لِلآمدي 4/255 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/311 وبيان المختصر 3/381 والفائق 4/414 والبحر المحيط 6/162 والإبهاج 3/241 ونهاية السول 3/172 ومناهج العقول 3/171 وفواتح الرحموت 2/208 والبلبل /187 وإرشاد الفحول /278 وأدلة التشريع المتعارضة /135 .(1/62)
ما رواه عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (1) أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب } (2) ؛ فإنّه معارَض بما رواه جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { كُلُّ صَلاَةٍ لاَ يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الإِمَام } (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب قراءة الفاتحة في الصلاة مطلقاً ، والخبر الثاني لَمْ يوجبها وراء الإمام ، فالحُكْم فيهما متعارض ؛ لاختلافهما
وَجْه الترجيح : رجَّح الكثير مِن العلماء خبر عُبادة - رضي الله عنه - ؛ لاتفاقهم على رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أمّا خبر جابر - رضي الله عنه - فإنّه موقوف (4) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في حُكْم قراءة الفاتحة في حقّ المأموم على قوْليْن :
القول الأول : عدم وجوب قراءتها .
__________
(1) - عبادة بن الصامت : هو الصحابي الجليل أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه - ، شَهِد العَقَبة الأُولى والثانية ، وكان أحد النقباء ، وشَهِد المَشاهد كُلّها ، وهو أول مَن تَوَلَّى قضاء فلسطين .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالرملة سَنَة 34 هـ . أسد الغابة 3/160 والإصابة 4/37 .
(2) - أَخْرَجَه مسلِم في كتاب الصلاة : باب وجوب قراءة الفاتحة في كُلّ ركعة برقم ( 595 ) والترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء أنَّه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب برقم ( 230 ) والنسائي في كتاب الافتتاح : باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة برقم ( 901 ) .
(3) - أَخْرَجَه الدارقطني في سُنَنِه .. يُرَاجَع نصب الراية 2/18
(4) - يُرَاجَع : الإبهاج 3/225 ، 226 والبحر المحيط 6/159 وشرح الكوكب المنير 4/652 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /328 – 330(1/63)
وهو ما عليه جمهور الحنفية والمالكية والحنابلة ، وهو قول الزهري (1)
والثوري وابن المبارك (2) رحمهم الله تعالى .
__________
(1) - الزهري : هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب . من بني زهرة من قريش , تابعي من كبار الحفاظ والفقهاء , مدني سكن الشام , هو أول من دون الأحاديث , ودون معها فقه الصحابة أخذ عن بعض الصحابة وأخذ عنه مالك بن أنس وطبقته . تذكرة الحفاظ 1/ 102 وتهذيب التهذيب 9 / 445 ـ 451 .
(2) - ابن المبارك : هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم المروزي رحمه الله تعالى ، الإمام الحافظ العلاّمة ، شيخ الإسلام فخر المجاهدين قدوة الزاهدين ، وُلِد سَنَة 118 هـ ، أَفْنَى عمره في الأسفار حاجّاً ومجاهداً وتاجراً .. قال رحمه الله تعالى : حملتُ عن أربعة آلاف شيخ ، فرويتُ عن ألف منهم . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بهيت سَنَة 181 هـ . تذكرة الحفّاظ 1/274 – 279 وسير أعلام النبلاء 8/378 – 421 وشذرات الذهب 1/295(1/64)
واحتجّوا لِذلك : بقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} (1) قال أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه - (2) :" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الإِمَام " ، وإمامهم كان رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالظاهر أَنّه كان بأمره . وقال الإمام أحمد - رضي الله عنه - : أجمع الناس على أنّ هذه الآية في الصلاة . واحتجّوا بحديث جابر - رضي الله عنه - المتقدم ، وحديث { مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَة } (3) .
القول الثاني : وجوب قراءتها .
__________
(1) - سورة الأعراف الآية 204
(2) - أُبَيّ بن كعب : هو الصحابي الجليل أُبَيّ بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي النجاري - رضي الله عنه - ، أقرأ الصحابة وسيد القراء ، شهد بدراً والمَشاهد كُلَّهَا .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 19 هـ ، وقيل : سَنَة 22 هـ . ولَمّا مات قال عُمَر - رضي الله عنه - :" الْيَوْمَ مَاتَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِين " . تذكرة الحفّاظ 1/16 ، 17
(3) - أَخْرَجَه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها : باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا برقم ( 840 ) والبيهقي في السنن الكبرى 2/160 والدارقطني 1/323 عن جابر - رضي الله عنه - .(1/65)
وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - والليث (1) والأوزاعي (2) وأبي ثور (3) رحمهم الله تعالى . واحتجّوا لِذلك : بحديث عُبادة - رضي الله عنه - المتقدم .
القول الثالث : استحباب قراءتها .
__________
(1) - اللَّيْث : هو اللَّيْث بن سَعْد بن عَبْد الرَّحْمَن رحمه الله تعالى ، وُلِد في مِصْر سَنَة 94 هـ .. قال عنه الإمام الشافعي : كان اللَّيْث أَفْقَه مِن مالك ، إلا أنّه ضَيَّعه أصحابه . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 175 هـ , طبقات ابن سعد 7/517 وشذرات الذهب 1/285
(2) - الأوزاعي : هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي رحمه الله تعالى ، مِن تابِعي التابعين وأئمّة الفقه والعِلْم والحديث ، كان أهْل الشام والمغرب على مذْهبه .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببيروت سَنَة 157 هـ . وفيات الأعيان 2/310 وشذرات الذهب 1/241
(3) - أبو ثور : هو إبراهيم بن خالد بن اليمان الكلبي البغدادي رحمه الله تعالى ، حَدَّث عن الإمام الشافعي وسفيان بن عيينة وغيْرهما ، كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً ، صنَّف الكتب وفرَّع على السُّنَن وذَبّ عنها .. مِن مصنَّفاته : مبسوط في الفقه على ترتيب كُتُب الإمام الشافعي . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 240 هـ . تذكرة الحُفّاظ 2/512 ، 513 وسِيَر أعلام النبلاء 12/72 ، 73 وشذرات الذهب 2/93(1/66)
وهو محكيّ عن الأصم (1) والحسن بن صالح (2) رحمهما الله تعالى .
والراجح عندي : وجوب قراءتها على المأموم في الصلاة السرية ؛ لأن الأمر بالاستماع الوارد في الآية الكريمة واقع في جواب الشرط الذي هو القراءة ، وأكّد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - { فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } (3) .
أمّا في الصلاة الجهرية : فإنْ كان لِلإمام سكتة استحب لِلإمام قراءة الفاتحة فيها ، وإنْ لَمْ يكن له سكتة فلا تجب عليه قراءتها .. ولِذَا يُستحبّ لِلإمام أنْ يسكت بَعْد الفاتحة سكوتاً يمكن المأموم مِن قراءة الفاتحة فيها ؛
__________
(1) - حاتم الأصمّ : هو أبو عَبْد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف الأصمّ البلخي رحمه الله تعالى ، كان يقال له " لقمان هذه الأُمَّة " .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى برباط رأس سروند سَنَة 237 هـ . شذرات الذهب 1/87 ، 88 ووفيات الأعيان 2/26 – 29 .
(2) - الحسن بن صالح : هو أبو عبد الله الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ الهمداني الثوري رحمه الله تعالى ، فقيه الكوفة وعابِدها ، حافظ متقن ، كان هو وأُمّه وأخوه يقسمون الليل ثلاثة أجزاء ، فماتت أُمّه فقَسمَا الليل سَهْمَيْن ، فمات أخوه فقام الحسنُ الليلَ كُلَّه .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 167 هـ . سير أعلام النبلاء 1/361 – 372 وشذرات الذهب 1/262 ، 263 .
(3) - أَخْرَجَه النسائي في كتاب الافتتاح : باب تأويل قوله عَزّ وجَلّ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} برقم ( 912 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب الإمام يصلّي مِن قعود برقم ( 511 ) وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها : باب إذا قرأ الإمام فأنصِتوا برقم ( 837 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .(1/67)
لِمَا روى سمرة - رضي الله عنه - (1) أنّه حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَكْتَتَيْن : سكتة إذا كبَّر
، وسكتة إذا فرغ مِن قراءة {الْمَغْضِوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين} (2) , (3) .
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن (4) رحمه الله تعالى :" لِلإمام سكتتان ، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب : إذا افتتح الصلاة ، وإذا قال {وَلا الضَّالِّين} " (5) .
ثالثا : الترجيح العائد إلى المروي عنه .
لقد تعددت وجوه الترجيح العائدة إلى المروي عنه ومن أشهرها :
1- الترجيح بالسماع وله صور منها :
__________
(1) - سمرة : هو الصحابي الجليل أبو سليمان سمرة بن جندب بن هلال الفزاري - رضي الله عنه - ، مِن علماء الصحابة - رضي الله عنهم - ، كان مِن
حلفاء الأنصار ، وكان عظيم الأمانة صدوقاً ، وكان شديداً على الخوارج .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 60 هـ . سير أعلام النبلاء 3
= /183 – 186 والإصابة 2/79
(2) - أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب السكتة عند الافتتاح برقم ( 660 ) وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها : باب في سَكْتَتَيِ الإمام برقم ( 836 ) وأحمد في أول مسند البصريين برقم ( 19362 ) .
(3) - يُرَاجَع : المغني لابن قدامة 1/329 وبدائع الصنائع 1/110 ، 111 والتاج والإكليل 1/514 ومغني المحتاج 1/257 ، 258 ورحمة الأُمّة /33
(4) - أبو سلمة بن عبد الرحمن : هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني رحمه الله تعالى ، حافظ ثقة ، وُلِد سَنَة بضع وعشرين مِن الهجرة ، روى عن أبيه وكثير مِن الصحابة - رضي الله عنهم - ، وروى عنه الشعبي والزهري ومحمد التميمي وغَيْرهم .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 94 هـ . سير أعلام النبلاء 4/287 – 292 وشذرات الذهب 1/105
(5) - يُرَاجَع الكافي 1/133(1/68)
الترجيح بالسماع على احتماله , الترجيح بالسماع على الكتاب , الترجيح بالسماع على السكوت , الترجيح بالسماع من غير حجاب , الترجيح بالسماع بعد إسلامه .
2- الترجيح بالحضور .
3- الترجيح بورود صيغة فيه .
4- الترجيح بما خطره أعظم .
5- ترجيح ما لا تعم به البلوى .
6- ترجيح ما لم يثبت إنكار لرواته .
وأكتفي في هذا المقام بإيراد مثالين تطبيقيين
المثال الأول : الترجيح بالسماع من غير حجاب .
رواية القاسم بن محمد (1) – رحمه الله تعالى – عن السيدة عائشة –
رضي الله عنها – أنّ بريرة عُتقت وكان زوجها عبداً (2) ؛ فإنّها معارَضة برواية الأسود – رحمه الله تعالى – عن السيدة عائشة – رضي الله عنها – أنّها عُتقت وكان زوجها حُرّاً (3) .
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت أنّ زوج بَرِيرة – رضي الله عنهما – عندما عُتقت كان عبداً ، والرواية الأخرى تُثبت أنّه كان حُرّاً ، فالخبران متعارضان .
__________
(1) - القاسم بن محمد : هو أبو عبد الرحمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدّيق القرشي التيمي المدني رحمه الله تعالى ، سمع مِن عمّته السيدة عائشة وبعض الصحابة - رضي الله عنهم - ، وكان أعلم أهل زمانه بالسُّنَّة فقيهاً ثقةً ورعاً كثير الحديث .. تُوُفِّي رحمه الله
تعالى سَنَة 106 هـ . تذكرة الحُفّاظ 1/96 ، 97 وشذرات الذهب 1/135
(2) - أَخْرَجَه مسلم في كتاب العتق : باب الولاء لِمَن أعتق برقم ( 2765 ) والنسائي في كتاب الطلاق : باب خيار المرأة تُعتق وزوْجها مملوك برقم ( 3400 ) والإمام أحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23695 ) .
(3) - سبق تخريجه .(1/69)
وَجْه الترجيح : أنّ القاسم بن محمد – رحمه الله تعالى – راوي الخبر الأول ابن أخي السيدة عائشة رضي الله عنها ، فكان يدخل على عمّته وسمع منها شفاهاً مِن غَيْر حجاب ، فتُقدَّم روايته على رواية الأسود رحمه الله تعالى ؛ لِسماعه مع الحجاب ، ولأنّ الرواية الأولى تحقَّق فيها زيادة تيقُّن عين المسموع منه (1) .
المثال الثاني : الترجيح بما لا تعم به البلوى .
ما رُوِي عن ابن عمر رضي الله عنهما " كُنَّا نُخَابِرُ (2) أَرْبَعِينَ عَاماً لاَ نَرَى بِهِ بَأْساً ، حَتَّى أَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ (3) فَأَخْبَرَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ
__________
(1) - يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/257 والبحر المحيط 6/161 ، 162 وشرح الكوكب المنير 4/639 640 ومختصر التحرير /257 وإرشاد الفحول /278 ويراجع الترجيح العائد إلى المروي في : يُرَاجَع : الواضح 5/83 وبيان المختصر 3/382 وشرح العضد مع مختصر المنتهى 2/311 والفائق 4/414 وشرح مختصر الروضة 3/729 والبحر المحيط 6/162 والتحرير مع التيسير 3/65 وشرح الكوكب المنير 4/653 ومختصر التحرير /258 ومسلّم الثبوت 2/208 .
(2) - المخابرة : هي مزارعة الأرض على الثلث أو الربع .. التعريفات /264
(3) - رافع بن خديج : هو الصحابي الجليل أبو عبد الله رافع بن خَدِيج بن رافع الأنصاري الأوسي - رضي الله عنه - استصغره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -
يوْم بدْر فرَدّه ، وأجازه يوْم أُحُد ، وشَهِد الخندق وغيْرها .. تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 74 هـ . الإصابة 1/495 ، 496 والاستيعاب 1/495 وشذرات الذهب 1/82(1/70)
الْمُخَابَرَةِ ، فَانْتَهَيْنَا " (1) , (2) .
ومثاله أيضاً : الجهر بالبسملة ، ورفع اليديْن عند الهَوْي إلى الركوع والرفع منه.
ومما تقدَّم يكون الحديث الذي تعمّ به البلوى – كما ذهب الكيا الهراسي رحمه الله تعالى – الخبر الذي اشتهر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الكرّات – كالجهر بالبسملة – وكان الناقل منفرداً (3) .
وجمهور الأصوليين على قبول خبر الواحد فيما تعمّ به البلوى ، والحنفية يردّونه ولا يَقبلونه (4) .
المطلب الثاني
الترجيح باعتبار المتن
لقد تعددت وجوه الترجيح العائدة إلى المتن عند الأصوليين ومن أشهرها:
1- ترجيح الخاص .
2- ترجيح العام الذي لم يخصص .
3- ترجيح العام المطلق على العام الوارد على سبب .
4- ترجيح العام الذي لزمه التخصيص .
5- ترجيح الخاص من وجه .
6- ترجيح الأقل تخصيصا .
7- ترجيح المقيد .
8- ترجيح النهي على الأمر .
9- ترجيح الأمر على الإباحة .
10- ترجيح النهي على الإباحة .
11- ترجيح الحظر على الندب .
12- ترجيح الندب على الإباحة .
13- ترجيح الخبر .
وأكتفي في هذا المقام بمثالين تطبيقيين
المثال الأول : ترجيح الأمر على النهي .
__________
(1) - أَخْرَجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور : باب ذِكْر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض برقم ( 3856 ) وابن ماجة في كتاب الأحكام : باب المُزَارَعة بالثلث والربع برقم ( 2441 ) وأحمد في مُسْنَد بني هاشم برقم ( 1983 ) .
(2) - يُرَاجَع : روضة الناظر /124 والتمهيد لِلكلوذاني 3/86
(3) - يُرَاجَع البحر المحيط 4/347 ، 348
(4) - يُرَاجَع : البرهان 1/665 والتحصيل 2/143 والعدة 3/885 والتمهيد لِلكلوذاني 3/86 والمسودة /238 وشرح مختصر الروضة 2/233 وأصول السرخسي 1/368 والتوضيح مع التنقيح وه92/19 والواضح 4/389 وتيسير التحرير 3/112 وكشف الأسرار لِلبخاري 3/35(1/71)
ما رواه نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهم - قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الشَّهْرُ
تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ , فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَه (1) }
مع ما رواه عَمّار بن ياسر (2) – رضي الله عنهما – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِم } (3) ..
__________
(1) - أَخْرَجَه مسلم في كتاب الصيام : باب وجوب صوم رمضان لِرؤية الهلال والفطر لِرؤية الهلال برقم ( 1797 ) وأبو داود في كتاب الصوم : باب الشهر يكون تسعاً وعشرين يوماً برقم ( 1976 ) وأحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 4258 ) .
(2) - عمّار بن ياسر : هو الصحابي الجليل أبو اليقظان عمّار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس ابن الحصين المذحجي العبسي رضي الله عنهما ، مِن السابقين إلى الإسلام ، وُلِد سَنَة 57 قَبْل الهجرة لقّبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بـ" الطَّيِّب المطيّب " .. أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه تَقتله الفئة الباغية ، فقُتِل في موقعة صفين سَنَة 37 هـ . أسد الغابة 4/143 والأعلام 2/807 والفتح المبين 1/79 – 81.
(3) - أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الصوم عن رسول الله : باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك برقم ( 622 ) والنسائي في كتاب الصيام : باب صيام يوم الشك برقم ( 2159 ) وأبو داود في كتاب الصوم : باب كراهية صوم يوم الشك برقم ( 1987 ) موقوفاً على عمّار بن ياسر رضي الله عنهما .(1/72)
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول يوجِب الصيام بَعْد التاسع والعشرين ، وهو يوم الشك ، ولذا قال نافع رحمه الله تعالى :" فكان عبد الله - رضي الله عنه - إذا مضى مِن شعبان تسع وعشرون يبعث مَن ينظر : فإنْ رأى فذاك ، وإنْ لم يرَ أصبح مفطِراً " (1) ؛ لأنّ معنى التقدير له أنْ يصبح صائماً .. والخبر الثاني حرَّم صيام يوم الشك .
فالحُكْمان متعارضان ، ولذا وجب الترجيح بينهما .
وَجْه الترجيح : رجَّح الجمهور الخبرَ الثانيَ ؛ لأنّه نهي وحظر ، كما
أنّ هناك روايةً صريحةً في إكمال العدة ثلاثين يوماً : وهي رواية ابن عباس رضي الله عنهما { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِين } (2) ، وحينئذٍ يكون هذا مفسراً ، وخبر النهي عن صوم بوم الشك مجملاً ، ولا تعارُض بينهما ؛ لِحمل المجمل على المفسر (3) .
المثال الثاني : ترجيح العام المطلق على العام الوارد على سبب .
__________
(1) - أَخْرَجَه الإمام أحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 4258 ) وأبو نعيم في المسند المستخرج 3/147 والدارقطني في سُنَنِه 2/161
(2) - أَخْرَجَه النسائي في كتاب الصيام : باب ذِكْر الاختلاف على عمرو بن دينار برقم ( 2095 ) وأبو داود في كتاب الصوم : باب مَن قال : فإنْ غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين برقم ( 1982 ) وأحمد في مسند بني هاشم برقم ( 1881 ) .
(3) - يُرَاجَع : البحر المحيط 6/172 وأدلة التشريع المتعارضة /106 ، 107(1/73)
قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (1) ؛ فإنّه معارَض بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء (2) .
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب قتل كُلّ مَن بدَّل دينَه ، وهو عامّ في كُلّ مَن بدَّل دينَه : رجلاً كان أم امرأة ، والخبر الثاني حرَّم قتل النساء ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول الحُكْم فيه عامّ مطلق ، والخبر الثاني عامّ وارد على سبب ؛ لأنّ المنهيّ عن قتلها هي المرأة الحربية التي تقاتل أو تكون في صفوف المقاتلين غير المسلمين ، ولذا رجح العامّ المطلق ، وتُقتَل المرأة المرتدّة ؛ لأنّها داخلة في عموم الحُكْم (3) .
الأثر الفقهي :
اختلف العلماء في حُكْم قتل المرأة المرتدّة على أقوال ثلاثة :
القول الأول : وجوب قتل المرأة المرتدّة .
وهو قول الجمهور ؛ عملاً بعموم الخبر الأول .
القول الثاني : أنّها لا تُقتَل ، وتُحبَس حتى تسلِم .
وهو قول الحنفية ، ورُوِي عن عبد الله بن عباس وعطاء والثوري - رضي الله عنهم - إعمالاً لِلخبر الثاني .
القول الثالث : أنّها تُسْتَرَقّ ولا تُقتَل .
__________
(1) - أَخْرَجه البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب لا يعذّب بعذاب الله برقم ( 2794 ) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء في المرتَدّ برقم ( 1378 ) والنسائي في كتاب تحريم الدم : باب الحُكْم في المرتَدّ برقم ( 3991 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) - أَخْرَجَه البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب قتْل الصبيان في الحرب برقم ( 2791 ) ومُسْلِم في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب تحريم قتْل النساء والصبيان في الحرب برقم ( 3279 ) والترمذي في كتاب السَّيْر عن رسول الله : باب ما جاء في النهي عن قتْل النساء والصبيان برقم ( 1494 ) ، كُلّهم عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .
(3) - يُرَاجَع : العدة 3/1035 وشرح الورقات مع حاشية النفحات /123 ، 124(1/74)
وهو قول عَلِيّ والحسن وقتادة - رضي الله عنهم - ؛ لاسترقاق أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - نساءَ بني حنيفة .
والأَوْلى عندي : ما عليه أصحاب القول الأول القائل بوجوب قتل المرأة المرتدّة (1) .
المطلب الثالث
الترجيح باعتبار مدلول اللفظ
لقد تعددت وجوه الترجيح باعتبار مدلول اللفظ عند الأصوليين ومن أشهرها ما يلي :
1- ترجيح المنطوق.
2- ترجيح اللفظ الفصيح .
3- ترجيح مفهوم الموافقة .
4- ترجيح ما يجمع النطق والدليل .
5- ترجيح ما يتوقف عليه ضرورة صدق المتكلم .
6- ترجيح دلالة الاقتضاء .
7- ترجيح دلالة المطابقة .
8- ترجيح النص على الظاهر .
9- ترجيح المفسر على النص .
10- ترجيح المحكم على المفسر .
11- ترجيح الدال على المراد من وجهين .
12- ترجيح ما اشتمل على زيادة أو ألفاظ متغايرة .
13- ترجيح الحقيقة على المجاز .
14- ترجيح إحدى الحقيقتين .
15- ترجيح الصريح على الكناية .
16- ترجيح الناقل عن البراءة الأصلية .
17- ترجيح المثبت للحكم .
18- ترجيح الحكم الواضح . (2)
وأكتفي في هذا المقام ببعض الأمثلة التطبيقية
المثال الأول: الترجيح بالمنطوق .
__________
(1) - يُرَاجَع : روضة الطالبين 7/295 وفتح الباري 1/280 وبداية المجتهد 2/318 وبلوغ المرام /316 - 319
(2) - يراجع : اللمع /47 والتيصرة / 297 والمحصول 2/461ـ464 والبحر المحيط 6/ 165ـ168 شرح الكوكب المنير 4/677ـ703 وشرح تنقيح الفصول /424 , 425 والإبهاج 3/155 ـ 232 وإرشاد الفحول /278 , 279 وغاية الوصول / 143 وأصول الفقه للشيخ زهير 4/425 ـ 427 وأدلة التشريع المتعارضة / 149ـ152 والتعارض والترجيح عند الأصوليين / 337ـ356 .(1/75)
قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاة } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيق (2) }
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب الزكاة في كُلّ أربعين شاة شاةً ويدخل فيه مال اليتيم والصبي ، والخبر الثاني – عند الحنفية – يدلّ على عدم وجوب الزكاة في أموال الصبي واليتيم ؛ لأنّ رفع القلم يستلزم عدم وجوب الزكاة في أموالهم ، فالحُكْم فيهما متعارض .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول دلّ منطوقه على وجوب الزكاة في كُلّ أربعين شاة شاةً سواء أكانت لِصبيّ أو بالغ أو مِلْكاً لِيتيم أم غيره ، وأنّ الخبر الثاني دلّ بمفهومه على عدم وجوب الزكاة في مال الصبي واليتيم ، ولذا رجح ما دلّ على الحُكْم بمنطوقه – وهو الخبر الأول – على ما دلّ على الحُكْم بمفهومه وهو الخبر الثاني ، وكانت الزكاة واجبةً في مال الصبي واليتيم (3) .
الأثر الفقهي :
اختلف العلماء في حُكْم الزكاة في مال الصبي واليتيم على قوْليْن :
__________
(1) - أَخْرَجه الترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في زكاة الإبل والغَنَم برقم ( 564 ) وأبو داود في كتاب الزكاة : باب في زكاة السائمة برقم ( 1340 ) وابن ماجة في كتاب الزكاة : باب صدقة الغَنَم برقم ( 1795 ) .
(2) - أَخْرَجه الترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء فيمَن لا يجب عليه الحدّ عن عَلِيّ كَرَّم الله وجْهه برقم (
1343 ) ، والنسائي في كتاب الطلاق : باب مَن لا يقع طلاقه من الأزواج برقم ( 3378 ) وأبو داود في كتاب الحدود :
= باب في المجنون يَسْرِق أو يصيب حَدّاً برقم ( 3822 ) كلاهما عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(3) - يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/186 ، 187(1/76)
القول الأول : وجوبها في مالهما ، ويخرجها الولي مِن مالهما .
وهو قول الأئمة مالك والشافعي وأحمد - رضي الله عنهم - ، ورُوِي عن جماعة مِن أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا لِذلك : بحديث { مَنْ وَلِيَ يَتِيماً لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلاَ يَتْرُكْهُ
حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَة } (1) .. وفي رواية { ابْتَغُوا فِي مَالِ الْيَتَامَى لاَ تَأْكُلْهَا الصَّدَقَة } (2) وإنّما تأكله الصدقة بإخراجها ..
القول الثاني : لا زكاة في مالهما .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
واحتجّ الحنفية : بقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (3) وهُمَا ليسا مِن أهل التطهير؛ إذ لا ذنْب لهما وحديث { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَث} (4) .
القول الثالث : تجب الزكاة في مالهما ، ولا تخرج حتى يبلغ الصبي .
__________
(1) - أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في زكاة مال اليتيم برقم ( 580 ) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
(2) - أَخْرَجَه البيهقي في سُنَنِه الكبرى 4/107 عن يوسف بن ماهك رحمه الله تعالى .
(3) - سورة التوبة مِن الآية 103
(4) - سبق تخريجه .(1/77)
وهو محكيّ عن ابن مسعود والثوري (1) والأوزاعي (2) - رضي الله عنهم - (3) .
والقول الأول – عندي – هو الراجح ؛ لأنّ الزكاة متعلقة بالمال المزكَّى الذي أعطى الله تعالى لِلفقراء حقّاً فيه ، والقول بعدم وجوبها في مال الصبي واليتيم مع تحقُّق النِّصَاب وحولان الحوْل يفتح باباً لِلتهرب مِن الزكاة .
وهذا القول الراجح يتفق مع ترجيح منطوق الحديث الأول .
المثال الثاني : ترجيح المفسر على النص .
قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَة } (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْمُسْتَحَاضَةُ
__________
(1) - سفيان الثوري : هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 96 هـ ، لُقِّب بـ" أمير المؤمِنين في الحديث " ..مِن مصنَّفاته : مسنَد الثوري . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالبصرة سَنَة 161 هـ . الطّبقات الكبرى لابن سعد 6/371 وطبقات الحُفّاظ 1/95
(2) - الأوزاعي : هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي رحمه الله تعالى ، مِن تابِعي التابعين وأئمّة الفقه والعِلْم والحديث ، كان أهْل الشام والمغرب على مذْهبه .. تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببيروت سَنَة 157 هـ . وفيات الأعيان 2/310 وشذرات الذهب 1/241
(3) - يُرَاجَع : بدائع الصنائع 2/814 – 816 وبداية المجتهد 1/321 والمهذب مع المجموع 5/296 297 والمغني لابن قدامة 3/622 وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 2/412 – 415 ورحمة الأمة /74
(4) - أَخْرَجَه ابن حبّان والبخاري والترمذي ومسلم عن السيدة عائشة – رضي الله عنها - بروايات متقاربة .. يُرَاجَع الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/89 .(1/78)
تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلاَة } (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب على المستحاضة أنْ تتوضأ لِكُلّ صلاة ، والخبر الثاني أوجب عليها الوضوء لِوقت كُلّ صلاة حتى ولو تعددت الصلاة في هذا الوقت ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مسوق في مفهومه ، فكان نصّاً ، ولكنّه
يحتمل التأويل بحمل اللام على أنّها لِلتوقيت ، والخبر الثاني لا يحتمل
التأويل ، فيكون مفسراً ، وما لا يحتمل التأويل مرجَّح على ما لا يحتمله ، ولذا رجَّحْنَا المفسر على النص (2) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في وضوء المستحاضة على قوْليْن :
القول الأول : الوضوء لِكُلّ صلاة .
نسبه ابن رشد (3) – رحمه الله تعالى – إلى أكثر فقهاء الأمصار ، واختاره الإمام مالك - رضي الله عنه - في أحد قوْليْه ، ورواية ثانية عند الحنابلة .
__________
(1) - قال الزيلعي :" غريب جدّاً " ا.هـ .. نصب الراية 1/204 وقال الحافظ ابن حجر :" لم أجده هكذا ، وإنّما في حديث أُمّ سلمة أنّ امرأةً سألَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المستحاضة فقال { تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وتَسْتَثْفِرُ بِثَوْبٍ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَة } ..الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/89 .
(2) - يُرَاجَع : كشف الأسرار لِلبخاري 1/134 والتلويح 1/236 وعلم أصول الفقه لِلشيخ عبد الوهاب خلاّف /169
(3) - ابن رشد : هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي الوليد الغرناطي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أديب أصوليّ حكيم ، وُلِد بقرطبة سَنَة 520 هـ . مِنْ مصنَّفاته : مختصر المستصفى ، بداية المجتهِد ونهاية المقتصِد . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمراكش سَنَة 595 هـ ونُقِلَت جثّته إلى قرطبة . النجوم الزاهرة 6/54 والفتح المبين 2/38 ، 39 .(1/79)
واحتجّوا : بحديث السيدة فاطمة بنت أبي حبيش (1) رضي الله عنها : " إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَة ؟ " فقال لها - صلى الله عليه وسلم - { لاَ ؛ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ ، وَإِذَا
أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي } (2) ..
وفي بعض روايات هذا الحديث { وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَة } (3) .
واستدلّوا أيضاً : بحديث { الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَة } (4) .
وعلى هذا القول يجب على المستحاضة أنْ تتوضأ لِكُلّ صلاة ، فرضاً كانت أم نفلاً .
القول الثاني : الوضوء لِوقت كُلّ صلاة .
وهو ما عليه الحنفية والشافعية والحنابلة .
__________
(1) - السيدة فاطمة بنت أبي حبيش : هي الصحابية الجليلة أُمّ مُحَمَّد السيدة فاطمة بنت أبي حبيش قيس ابن المطلب الأسدية
= القرشية رضي الله عنها ، كانت مِن المهاجرات ، روى عنها عروة بن الزبير وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وغيرهم رحمهم الله تعالى .. الطبقات الكبرى 8/245 والاستيعاب 1/612 والإصابة 8/61 .
(2) - أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحيض : باب المستحاضة وغُسْلها وصَلاتها برقم ( 501 ) والترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء في المستحاضة برقم ( 116 ) والنسائي في كتاب الطهارة : باب ذِكْر الأقراء برقم ( 212 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها
(3) - أَخْرَجَه البخاري في كتاب الوضوء : باب غَسْل الدم برقم ( 221 ) وابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها : باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدّت أيام أقرائها برقم ( 616 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23016 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(4) - سبق تخريجه .(1/80)
واحتجّوا : بحديث السيدة حمنة بنت جحش (1) رضي الله عنها : فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلاَة (2) .
واحتجّوا أيضاً:بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - {الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلاَة} (3) , (4)
وعلى هذا القول على المستحاضة أنْ تتوضأ لِدخول وقت الصلاة ثم تصلّي بهذا الوضوء ما شاءت داخل الوقت مِن نفل أو قضاء أو نذر إضافةً إلى الفرض الذي دخل وقته .
والراجح عندي : أنْ تتوضأ المستحاضة لِوقت كُلّ صلاة ، وهو ما عليه أصحاب القول الأول ؛ ترجيحاً لِلخبر المفسَّر.
المثال الثالث : ترجيح ما اشتمل على زيادة أو ألفاظ متغايرة .
ما روته السيدة عائشة – رضي الله عنها – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبِّر في
__________
(1) - السيدة حمنة بنت جحش : هي الصحابية الجليلة السيدة حمنة بنت جحش بن رئاب بن يعمر الأسدية رضي الله عنها ، أخت أُمّ المؤمنين السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها ، شهدت أُحُداً فكانت تسقي العطشى وتَحمل الجرحى وتداويهم ، روى عنها ابنها عمران بن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم - .. الطبقات الكبرى 3/116 والاستيعاب 1/585 والإصابة 7/586.
(2) - سبق تخريجه .
(3) - سبق تخريجه .
(4) - يُرَاجَع : بداية المجتهد 1/69 ، 70 وبدائع الصنائع 1/143 والمنهاج مع مغني المحتاج 1/111 وشرح الزركشي 1/422 ، 423 والكافي في فقه أهل المدينة المالكي 1/189 والإنصاف 1/377 ـ379(1/81)
الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً (1) مع ما رواه أبو موسى الأشعري (2) وحذيفة بن اليمان (3) - رضي الله عنهم - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبِّر أربعاً تكبيرَه على الجنائز (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول حصر تكبيرات صلاة العيد في سبع في الأولى وخمس في الثانية ، والخبر الثاني حصرها في أربع فقط ، فالحُكْمان متعارضان.
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مشتمل على زيادة لم ينفها الخبر الثاني ، ولذا كان أَوْلى بالترجيح والتقديم (5) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في عدد تكبيرات العيديْن بَعْد تكبيرة الإحرام - التي اتفقوا عليها – على أقوال ثلاثة :
القول الأول : ثلاث في الأولى ، وثلاث في الثانية .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - ، وهو مرويّ عن عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وحذيفة - رضي الله عنهم - .
__________
(1) - أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب التكبير في العيديْن برقم ( 970 ) .
(2) - أبو موسى : هو الصحابي الجليل عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري التميمي - رضي الله عنه - ، مِن فقهاء الصحابة وقرّائهم ..تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 44 هـ ، وقيل : سَنَة 50 هـ . الطبقات الكبرى 4/105 - 115 وسير أعلام النبلاء 2/380 - 402
(3) - حذيفة بن اليمان : هو الصحابي الجليل حذيفة بن حسيل بن جابر بن عمرو بن ربيعة العبسي رضي الله عنهما ، صاحِب سِرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصاحِب السِّرّ المكنون في تمييز المنافقين ، وأَعْلَم الصّحابة بالفِتَن وحوادث آخِر الزمان .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدائن سَنَة 36 هـ . أسد الغابة 1/390 والفتح المبين 1/82 ، 83
(4) - أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب التكبير في العيديْن برقم ( 973 ) وأحمد في أول مسند الكوفيين برقم
( 18901 ) .
(5) - يُرَاجَع : الواضح 5/91 والعدة 3/1037 – 1039 والفائق 4/430 ، 431(1/82)
وحُجّتهم : رواية أبي موسى وحذيفة – رضي الله عنهما – المتقدمة .
القول الثاني : ستّ في الأولى ، وخمس في الثانية .
وهو قول الإماميْن مالك وأحمد رضي الله عنهما .
القول الثالث : سبع في الأولى ، وخمس في الثانية .
وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
وكلاهما محتجّ برواية السيدة عائشة – رضي الله عنها – المتقدمة ، وبما رُوِي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنّه قال :" شَهِدْتُ الأَضْحَى وَالْفِطْرَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَكَبَّرَ فِي الأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، وَفِي الآخِرَةِ خَمْساً قَبْلَ الْقِرَاءَة " (1) , (2) .
والأَوْلى عندي : الإتيان بسبع تكبيرات في الأولى - خلاف تكبيرة الإحرام - وخمس في الثانية بَعْد تكبيرة القيام في صلاة العيديْن ، وهو ما عليه القول الثالث القريب مِن القول الثاني ؛ لأنّ كلاهما متفق على عدد تكبيرات الركعة الثانية بَعْد تكبيرة القيام ..
واختلفا في بيان " سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَة " في الركعة الأولى : هل تدخل فيها تكبيرة الإحرام ولذا تصبح التكبيرات بدونها ستّاً في الأولى - وهو ما عليه القول الثاني – أم لا تدخل فيها ولذا يصبح عدد التكبيرات سبعاً بدونها وهو ما عليه القول الثالث ؟
وحيث إنّ القول الثاني لم يدخِل تكبيرة القيام في العدد في الركعة الثانية كان عليهم أن لا يُدخِلوا تكبيرة الإحرام في العدد في الركعة الأولى .
المطلب الرابع
الترجيح لأمر خارجي
لقد تعددت وحوه الترجيح العائد إلى أمر خارجي عند الأصوليين ومن أشهرها ما يلي :
__________
(1) - أَخْرَجَه الإمام مالك في كتاب النداء لِلصلاة : باب ما جاء في التكبير والقراءة في صلاة العيديْن برقم ( 390 ) .
(2) - يُرَاجَع : بدائع الصنائع 2/700 والاختيار 1/86 ومغني المحتاج مع المنهاج 1/310 ، 311 وبداية المجتهد 1/277 ، 278 وحاشية الدسوقي 1/397 والمغني لابن قدامة 2/380 ، 381 ورحمة الأمة /62(1/83)
1- الترجيح بكثرة الأدلة .
2- الترجيح بموافقة دليل آخر .
3- الترجيح بالعمل وله صور :
الأولى : الترجيح بعمل أهل المدينة .
الثانية : الترجيح بما وافق عمل الخلفاء الأربعة .
الثالثة : الترجيح بما وافق عمل أو قول الشيخين أبي بكر وعمر .
الرابعة : الترجيح بما وافق أقضية الصحابة .
الخامسة : الترجيح بما وافق عمل أكثر السلف .
4- ترجيح ما ينفي النقص عن الصحابة . (1)
وأكتفي في هذا المقام بمثالين تطبيقيين لترجيح ما وافق ظاهر الكتاب وآخر لما وافق السنة .
مثال ما وافق الكتاب .
حديث السيدة عائشة رضي الله عنها :" كَانَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ (2) ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَس (3) " (4) .
__________
(1) - يراجع : شرح تنقيح الفصول 420 ـ 424 والمنهاج مع شرحه 2/792 ـ 809 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/792 وما بعدها والبحر المحيط 5/ 137 ـ 178 والفائق 4/394 ـ 450 والسراج الوهاج 5/1036 وما بعدها وشرح الكوكب المنير 4/ 634 ـ 709 والتحرير مع التيسير 3/ 169 وما بعدها والمستصفى / 378 وما بعدها والعدة 3/ 1052 وما بعدها وإرشاد الفحول / 80 والتعارض والترجيح عند الأصوليين / 300 .
(2) - المروط أكسية من صوف أو خز كان يؤتزر بها . مختار الصحاح / 621 , 622 .
(3) - الغلس : ظُلْمَة آخِر الليل إذا اختلطت بضوء .. المعجم الوسيط 2/658
(4) - أَخْرَجَه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة : باب وقت الفجر برقم ( 544 ) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها برقم ( 1021 ) والترمذي في كتاب الصلاة عن رسول الله : باب ما جاء في التغليس بالفجر برقم ( 141 ) .(1/84)
مع حديث رافع بن خَدِيج - رضي الله عنه - { أَسْفِرُوا (1) بِالْفَجْرِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْر } (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول حدَّد صلاة الفجر وقت الغلس ، والخبر الثاني حدّد وقتها في الإسفار ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول المعجِّل بصلاة الفجر وقت الغلس موافق لِظاهر القرآن في قوله تعالى {حَفِظُوا عَلَى الصَّلَوَت} (3) ، ومِن المحافظة عليها إيقاعها في أول الوقت ، وكذلك قوله تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُم} (4) ، والخبر الثاني ليس له ما يوافقه مِن ظاهر الكتاب ، ولذا كان الخبر الأول هو الأَوْلى بالترجيح (5)
الأثر الفقهي :
اتفق الفقهاء على أنّ أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق ، وآخِره
طلوع الشمس ، إلا ما رُوِي عن ابن القاسم (6) وعن بعض أصحاب الشافعي أنّ آخِر وقتها الإسفار .
واختلفوا في وقتها المختار على قوْليْن :
__________
(1) - أسْفَر : مِن " سفر سفوراً " وضح وانكشف ، يقال " سَفَر الصبح " أضاء وأشرق ، ويقال " أَسْفَر بالصلاة " صلاّها في إسفار الصبح .. المعجم الوسيط 1/432 ، 433
(2) - أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الصلاة عن رسول الله : باب ما جاء في الإسفار بالفجر برقم ( 142 ) وأحمد في مسند الشاميين برقم ( 16641 ) .
(3) - سورة البقرة مِن الآية 238 .
(4) - سورة آل عمران مِن الآية 133 .
(5) - يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/695 ، 696 وأدلة التشريع المتعارضة /158 ، 159 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/235 ، 236 .
(6) - ابن القاسم : هو أبو عبْد الله عبْد الرحمن بن القاسم بن خالِد العتقي المصري رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 132 هـ ، صَحِب الإمامَ مالِكَ - رضي الله عنه - عشرين سَنَة .. مِنْ مصنَّفاته : المُدَوَّنة في فروع المالكية . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمِصْر سَنَة 191 هـ . طبقات الفقهاء /155 وشذرات الذهب 1/329 .(1/85)
القول الأول : الإسفار بها أفضل .
وهو قول الإمام أبي حنيفة وأصحاب الرأي والثوري - رضي الله عنه - .
واحتجّوا : بحديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - المتقدم .
القول الثاني : التغليس بها أفضل .
وهو ما عليه أكثر العلماء ، واختاره الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا : بحديث السيدة عائشة – رضي الله عنها – المتقدم (1) .
والأَوْلى عندي : التغليس بصلاة الصبح والتعجيل بها ؛ لأنّ ذلك موافق لِظاهر نصوص القرآن التي ترغِّب في المسارعة بالخيرات وفعل الطاعات ، إضافةً إلى نصوص السُّنَّة التي ترغِّب في أداء الصلوات في أول وقتها ، ومنها في صلاة الصبح ما رواه أنس - رضي الله عنه - أنّه - صلى الله عليه وسلم - أسفر بالصبح مرّةً ثُمّ كانت صَلاته بَعْدُ بغلس حتى مات (2) , (3) .
مثال ما وافق السنة .
__________
(1) - يُرَاجَع : بداية المجتهد 1/115 ، 116 والاختيار 1/38 ونهاية المحتاج 1/371 ومغني المحتاج 1/234 والمغني لابن قدامة 1/385 ، 386 .
(2) - يُرَاجَع : بداية المجتهد 1/115 ، 116 والاختيار 1/38 ونهاية المحتاج 1/371 ومغني المحتاج 1/234 والمغني لابن قدامة 1/385 ، 386
(3) - يُرَاجَع سبل السلام 1/231 .(1/86)
قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْل } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا } (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول حرَّم النكاح بغير وليّ ، والخبر الثاني أجاز لِلمرأة أنْ تنكح نفسها ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مقوّى بقوله - صلى الله عليه وسلم - { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِل } (3) ، ولذا كان أَوْلى بالترجيح مِن الخبر الثاني (4) .
الخاتمة
الحمد لله الذي وفقنا لدراسة هذا الباب الأصولي المتعلق بقواعد الترجيح عند الأصوليين ويمكن في ختام هذا البحث حصر ثماره وفق ما رجحناه فيما يلي :
__________
(1) - أَخْرَجَه الترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1020 ) وأبو داود في كتاب النكاح : باب في الوليّ برقم ( 1785 ) وابن ماجة في كتاب النكاح : باب لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1871 ) ، كُلّهم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .
(2) - أَخْرَجَه مسلم في كتاب النكاح : باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت برقم ( 2545 ) والترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء في استئمار البكر والثيب برقم ( 1026 ) والنسائي في كتاب النكاح : باب استئذان البكر في نفسها برقم ( 3208 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(3) - أَخْرَجه الترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1021 ) وابن ماجة في كتاب النكاح : باب لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1869 ) وأحمد في باقي مُسْنَد الأنصار برقم ( 23236 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(4) - يُرَاجَع : التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/236 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /376(1/87)
1- أن قواعد الترجيح لا بد للأصولي والمجتهد من معرفتها وحفظها وتصديقها لرفع التعارض الظاهري الواقع بين الأدلة الشرعية وليحقق العمل بالراجح من الأدلة ومن ثم نبطل اتهام الشريعة بالنقص و التناقض ونغلق باب الهروب من الأحكام وترك العمل بها بحجة التعارض الذي يجب على المجتهد دفعه بطرق الترجيح واحد منها .
2- أن الترجيح لغةً : التغليب والتمييل ، مِن " رجح الميزان " ..
واصطلاحاً : تقديم المجتهد أحد الدليليْن المتعارضيْن لاختصاصه بقوة الدلالة .
وأن التعارض لغة : التقابل والتمانع والمواقعة .
واصطلاحا : تقابل دليليْن متساوييْن على وجْه يقتضي كُلّ واحد منهما خِلاَفَ ما يقتضيه الآخَر .
3- أن التعارض أصل للترجيح وأساس له لا يوجد إلا به وأركانه : مرجِّح ، ومرجَّح به ، ومرجح بينهما .
4- شروط الترجيح : أنْ يكون بَيْن الأدلة ، وتحقُّق التعارض بينها ، وقيام دليل على الترجيح ، ووجود مزية في الدليل الراجح ، وأنْ لا يمكن العمل بِكُلّ واحد منهما ، وأنْ لا يعلم تأخُّر أحدهما ، وأنْ يتساوى الدليلان في الثبوت والقوة ، واتحادهما في الحُكْم مع اتحاد الوقت والمحلّ والجهة .
5- أن محل الترجيح هو الأدلة الظنية واختلفوا في وقوعه في القطعيات والعقليات والمذاهب والشهادة .
6- أن الترجيح بين الأدلة المتعارضة واجب في حق المجتهدين
وجائز في حق العالم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد أما العامي فيحرم عليه ذلك لأنه ليس من أهل العلم .
7- ينقسم الترجيح بين الأدلة المتعارضة إلى ثلاثة أقسام :
الأول : الترجيح بين دليلين منقولين .
الثاني : الترجيح بين دليلين معقولين .
الثالث : الترجيح بين دليلين أحدهما منقول والآخر معقول .
وينقسم الأول إلى أربعة أقسام :
السند والمتن ومدلول اللفظ والأمر الخارجي .
8- أن الترجيح باعتبار السند ينقسم إلى ثلاثة أمور :
الراوي والرواية والمروي عنه .(1/88)
الترجيح العائد إلى الراوي : إمّا أنْ يكون بكثرة الرواة ، أو بعلوّ الإسناد ، أو بعلم الراوي ، أو بعدالته وورعه ، أو بذكائه وضبطه ، أو بشهرته .
الترجيح العائد إلى الرواية له وجوه ، منها : ترجيح المسند ، والمسند بالاتفاق ، والمسند إلى كتاب مِن كتب المحدّثين ، ومرسل التابعي والمتواتر ، والمسند عنعنةً ، والمسند إلى كتاب موثوق بصحّته ، والأعلى سنداً .
الترجيح العائد إلى المرويّ عنه له وجوه ، منها : الترجيح بالسماع على احتماله ، وبالسماع على السكوت ، وبالسماع على الكتاب ، ومِن غير حجاب ، وبَعْد إسلامه ، وبالحضور ، وبورود صيغة فيه ، وما خطره أعظم ، وما لا تعمّ به البلوى .
9- الترجيح العائد إلى المتن له وجوه ، منها : ترجيح الخاصّ ، والعامّ الذي لزمه التخصيص ، والعام الذي لم يخصص , والخاصّ مِن وجْه ، والنهي على الأمر ، والأمر على الإباحة .
10- الترجيح باعتبار مدلول اللفظ له وجوه منها : المنطوق , مفهوم الموافقة , دلالة الاقتضاء , والنص على الظاهر.
11- الترجيح لأمر خارجي له وجوه منها : كثرة الأدلة , موافقة دليل آخر , العمل .
12- أن الترجيح كان عظيم الأثر في كثير من الأحكام الفقهية التي استنبطها المجتهدون تأكد ذلك من خلال بعض الأمثلة التطبيقية منها :
? ندب رفع اليدين في ثلاثة مواضع في الصلاة ترجيحا بكثرة الرواة .
? نقض الوضوء من مس الذكر ترجيحا بكثرة المزكين .
? وجوب قتل المرأة المرتدة ترجيحا للعام الذي لم يخصص .
? وجوب الزكاة في مال الصبي اليتيم ترجيحا للمنطوق .
? وضوء المستحاضة لوقت كل صلاة ترجيحا للمفسر .
وختاما ...
فإني قد حاولت أن أجمع قواعد الترجيح عند الأصوليين في هذا البحث وحمدا لله تعالى أن غايتي قد تحققت غير أنه كعمل بشري لم ولن يخلو من زلات وهفوات وسقطات .(1/89)
ولذا فإني أرجو أساتذتي وشيوخي الكرام وزملائي الأفاضل غض الطرف عنها فهم أهل لذلك على ألا يحرموني من نصائحهم الرشيدة وتوجيهاتهم السديدة , فاقبله اللهم خالصا لوجهك وذخرا لي ولوالدي ولأصحاب الحقوق علي .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أهمّ المراجع
أوّلاً : القرآن الكريم
1- القرآن الكريم .
ثانياً : الحديث الشريف وعلومه
2- اختلاف الحديث لِلإمام الشافعي .. دار الكتب الثقافية – بيروت .
3- التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
4- تلخيص الحبير لِلحافظ ابن حَجَر العسقلاني .. المدينة المنوّرة
1964 م .
5- سُبُل السلام لِلصنعاني .. دار الريان – القاهرة .
6- سُنَن ابن ماجة .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
7- سُنَن أبي داود .. دار الحديث – حمص 1969 م .
8- سُنَن الترمذي .. دار الفكر – بيروت .
9- سُنَن الدارقطني .. دار المحاسن – القاهرة .
10- سُنَن الدارمي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
11- السُّنَن الكبرى لِلبيهقي .. حيدر آباد – الهند 1355 هـ .
12- سُنَن النسائي .. دار الفكر – بيروت .
13- شَرْح صحيح مُسْلِم لِلنووي .. دار إحياء التراث العربي –
بيروت.
14- صحيح البخاري .. دار الشعب – القاهرة .
15- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لِلحافظ ابن حجر العسقلاني ..
دار المعرفة – بيروت ...
16- المُسْتَدْرَك لِلحاكم .. دار الكتاب العربي – بيروت .
17- مُسْنَد الإمام أَحْمَد .. دار صادر – بيروت .
18- المُعْجَم الأوسط لِلطبراني .. دار الحرميْن - القاهرة 1415 هـ
19- الموطأ لِلإمام مالك .. دار إحياء التراث – بيروت 1400 هـ .
20- نَصْب الراية لِلزيلعي .. دار الحديث - مصر 1357 هـ .
ثالثاً : أصول الفقه
21- الإبهاج في شرح المنهاج لِلسبكي وولده .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
22- أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء لِلدكتور(1/90)
مصطفى الخن .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
23- إحكام الفصول لِلباجي ..دار الغرب الإسلامي- بيروت1982 م .
24- الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي .. دار الكتاب العربي –
القاهرة .
25- أدلة التشريع المتعارضة لِبدران أبو العينين .. مكتبة شباب
الجامعة الإسكندرية .
26- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ مِن عِلْم الأصول لِلشوكاني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
27- أصول البزدوي ( كنز الوصول إلى معرفة الأصول ) .. دار
الكتاب العربي – بيروت 1411 هـ .
28- أصول السرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
29- أصول الفقه لأستاذنا فضيلة الشيخ محمد أبو النور زهير ..
المكتبة الفيصلية .. مكة المكرمة .
30- البحر المحيط للزركشي .. أوقاف الكويت 1413 هـ .
31- البرهان لإمام الحرميْن الجويني .. دار الأنصار – القاهرة
1400 هـ .
32- البلبل في أصول الفقه لِلطوفي.. مكتبة الإمام الشافعي – الرياض.
33- بيان المختصر لِلأصفهاني .. جامعة أُمّ القُرَى - مكة المكرمة
1406 هـ .
34- التحرير لابن الهمام ( مع تيسير التحرير ) .. مكتبة الحلبي –
القاهرة 1350 هـ .
35- التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية لِلبرزنجي .. دار الكتب
العلمية - بيروت .
36- التعارض والترجيح عند الأصوليين وأثرهما في الفقه الإسلامي
لأستاذنا فضيلة الدكتور محمد الحفناوي..دار الوفاء المنصورة .
37- التقرير والتحبير لابن أمير الحاج .. دار الفكر – بيروت .
38- التلويح لِلتفتازاني ( مع التوضيح ) .. دار الكتب العلمية – بيروت
39- التنقيح لِصَدْر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
40- التوضيح شرح التنقيح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
41- تيسير التحرير لأمير بادشاه..مكتبة الحلبي- القاهرة 1350 هـ .
42- تيسير الوصول إلى منهاج الأصول لابن إمام الكاملية .. مكتبة
الفاروق الحديثة – القاهرة .
43- جامع الأسرار في شرح المنار لِلكاكي .. دار الباز – مكة
المكرمة .(1/91)
44- جَمْع الجوامع لابن السبكي ( مع حاشية البناني ) .. مكتبة
الحلبي- القاهرة .
45- حاشية البناني مع شَرْح المحلِّي..مكتبة الحلبي-القاهرة 1356 هـ .
46- حاشية النفحات على الورقات لِلجاوي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
47- الحاصل مِن المحصول لِتاج الدين الأرموي .. بنغازي – ليبيا .
48- السراج الوهاج في شرح المنهاج لِلجاربردي .. دار المعراج
الدولية - الرياض .
49- سلم الوصول لِشرح نهاية السول لِلشيخ محمد بخيت المطيعي ..
مكتبة عالم الكتب – بيروت .
50- شَرْح تنقيح الفصول لِلقرافي .. المكتبة الأزهرية لِلتراث – القاهرة
1414 هـ .
51- شَرْح العضد على مختصر ابن الحاجب .. مكتبة الكليات
الأزهرية- القاهرة 1403 هـ .
52- شَرْح الكوكب المنير لِلفتوحي .. جامعة أُمّ القُرَى – مكة المكرمة
1400 هـ .
53- شَرْح اللمع لِلشيرازي .. مكتبة البخاري – بريدة .
54- شَرْح مختصر الروضة لِلطّوفي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
55- شَرْح المنهاج لِلأصفهاني .. مكتبة الرشد – الرياض 1401 هـ .
56- شرح الورقات لِلمحلِّي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
57- العدة في أصول الفقه لِلقاضي أبي يَعْلَى .. ط الرياض بالسعودية .
58- الفائق لِصفي الدين الهندي .. دار الاتحاد الأخوي – القاهرة .
59- فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت لِلأنصاري .. المطبعة
الأميرية - بولاق .
60- كَشْف الأسرار على أصول فَخْر الإسلام البزدوي لِعلاء الدين
البخاري .. دار الكتاب العربي – بيروت 1411 هـ .
61- لباب المحصول لابن رشيق .. دار البحوث والدراسات الإسلامية
دُبَيّ .
62- المحصول في عِلم الأصول لِلفخر الرازي .. دار الكتب العلمية
بيروت .
63- مختصر التحرير في أصول الفقه لِلفتوحي ( ابن النجار ) .. دار
الزاحم – الرياض .
64- مختصر المنتهى لابن الحاجب .. مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة
65- المدخل إلى مذهب الإمام أَحْمَد بن حنبل لابن بدران الدمشقي ..(1/92)
مؤسسة الرسالة – بيروت .
66- مذكرة أصول الفقه لِلشنقيطي .. المكتبة السلفية – المدينة المنورة
67- مراقي السعود لِلشنقيطي .. مطبعة المدني – القاهرة .
68- المستصفى مِن عِلم الأصول لِلإمام الغزالي .. مكتبة الباز - مكة
المكرمة .
69- المُسَوَّدة في أصول الفقه لآل تيمية .. دار الكتاب العربي – بيروت
70- المغني لِلخبازي .. جامعة أُمّ القُرَى – مكة المكرمة .
71- المنار لِلنسفي ( مع كشف الأسرار ) .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
72- مناهج العقول لِلبدخشي ( مطبوع مع نهاية السول ) .. دار الكتب
العِلْميّة - بيروت 1409 هـ .
73- المنخول لِلغزالي .. دار الفكر - بيروت .
74- منهاج الوصول إلى عِلْم الأصول لِلبيضاوي ( مطبوع مع شرح
المنهاج ) .. مكتبة الرشد – الرياض .
75- ميزان الأصول لِلسمرقندي .. مكتبة الدوحة الحديثة – قطر
1404 هـ .
76- نفائس الأصول في شرح المحصول لِلقرافي .. دار الباز – مكة
المكرمة .
77- نهاية السول في شَرْح منهاج الوصول لِلإسنوي .. مكتبة صبيح -
القاهرة .
78- الواضح في أصول الفقه لابن عقيل .. مؤسسة الرسالة - بيروت
79- الوجيز في أصول الفقه لِلكراماستي .. دار الهدى لِلطباعة –
القاهرة .
80- الورقات لإمام الحرمين الجويني ( مع حاشية النفحات ) .. مكتبة
صبيح – القاهرة .
رابعاً : الفقه وقواعده
81- الاختيار لِلموصلي .. دار الدعوة – مصر .
82- بدائع الصنائع لِعلاء الدين الكاساني .. دار الكتاب العربي -
بيروت 1982 م .
83- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد .. دار المعرفة – بيروت
1401 هـ .
84- التاج والإكليل لِلعبدري .. دار الفكر – بيروت .
85- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير .. دار الفكر - بيروت .
86- رحمة الأُمَّة في اختلاف الأئمة لِمحمد الدمشقي العثماني الشافعي
مكتبة الحلبي – القاهرة .
87- روضة الطالبين وعمدة المتقين لِلنووي .. المكتب الإسلامي -
بيروت 1405 هـ .(1/93)
88- القاموس الفقهي لِسعدي أبو حبيب .. دار الفكر – بيروت .
89- الكافي لابن قدامة .. المكتب الإسلامي – بيروت .
90- المبسوط لِلسرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
91- المجموع لِلنووي .. دار الفكر - بيروت .
92- المُغْنِي لابن قدامة المقدسي .. دار الفكر – بيروت .
93- مُغْنِي المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لِلخطيب
الشربيني.. دار الفكر ببيروت – مكتبة الحلبي بالقاهرة .
94- المُهَذَّب في فِقْه الإمام الشافعي لِلشيرازي .. دار الفكر – بيروت .
95- الهداية شرح البداية لِلمرغيناني .. المكتبة الإسلامية – بيروت .
خامسا : اللغة والمعاجم ونَحْوها
96- تاج العروس لِلزبيدي .. المطبعة الخيرية .
97- تهذيب الصحاح لِلزنجاني .. دار المعارف – القاهرة .
98- تهذيب اللغة لِلأزهري .. الدار المصرية لِلتأليف – القاهرة .
99- الصحاح لِلجوهري .. دار الكتاب العربي - بيروت .
100- القاموس المحيط لِلفيروذآبادي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
101- الكُلِّيّات لأبي البقاء الكفوي .. مؤسسة الرسالة – بيروت
1412 هـ .
102- لسان العرب لابن منظور .. دار إحياء التراث - بيروت .
103- المعجم الوسيط .. مجمع اللغة العربية ( الطبعة الثانية ) .
سادسا : السيرة والتراجم والتاريخ وغَيْرها
104- الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عُمَر بن عَبْد البرّ .. دار
الجيل - بيروت .
105- أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الجزري .. مكتبة الحياة –
بيروت .
106- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حَجَر العسقلاني .. مكتبة المثنى
بغداد .
107- أصول الفقه .. تاريخه ورجاله لِلدكتور شعبان محمد إسماعيل ..
دار المريخ – الرياض .
108- الأعلام لِلزركلي .. دار العِلْم لِلملايين – بيروت 1384 هـ .
109- البداية والنهاية لابن كثير .. مكتبة المعارف – بيروت 1985 م
110- التاريخ الكبير لِلإمام البخاري .. دار الكتب العلمية - بيروت .(1/94)
111- تذكرة الحفّاظ لِلذهبي .. دار إحياء التراث – بيروت .
112- تهذيب الكَمَال لأَبِي الحَجّاج المِزِّي .. مؤسَّسَة الرِّسَالة - بيروت
1400 هـ .
113- الجواهر المضية في طبقات الحنفيّة لِعبد القادر بن مُحَمَّد القرشي
الحنفي .. دار هجر - القاهرة .
114- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نُعَيّم الأصبهاني .. دار
الكتب العلميّة - بيروت .
115- الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حَجَر العسقلاني ..
حيدرآباد - الهند .
116- الديباج المُذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون
المالكي .. دار التراث - القاهرة .
117- سِيَر أعلام النبلاء لِلذهبي ..مؤسسة الرسالة–بيروت 1413 هـ .
118- شذرات الذهب في أخبار مَنْ ذهب لابن العماد الحنبلي .. دار
المسيرة - بيروت .
119- طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة .. عالم الكتب - بيروت .
120- طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي .. دار إحياء الكتب العربية
القاهرة .
121- الطبقات الكبرى لابن سعْد .. دار الفكر - بيروت .
122- الفتح المُبِين في طبقات الأصوليّين لِلشيخ عبد الله المراغي ..
عَبْد الحميد حنفي - القاهرة .
123- معجم البلدان لِلحموي .. دار صادر – بيروت .
124- معجم المؤلِّفين لِعُمَر رضا كحالة .. دار إحياء التراث العربي -
بيروت .
125- ميزان الاعتدال في نقد الرجال لِلذهبي .. مكتبة الحلبي – القاهرة
126- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان .. دار صادر –
بيروت .(1/95)