المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنس والجن ليكلفهم أن يوحدوه ويعبدوه, ويقدسوه ويمجدوه ويشكروه ولا يكفروه, ويطيعوه ولا يعصوه, وأرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ليعزروه ويوقروه ويطيعوه وينصروه; فأمرهم على لسانه بكل بر وإحسان, وزجرهم على لسانه عن كل إثم وطغيان وكذلك أمرهم بالمعاونة على البر والتقوى, ونهاهم عن المعاونة على الإثم والطغوى. وحثهم على الاقتداء والاتباع, كما زجرهم عن الاختلاف والابتداع. وكذلك أمر عباده بكل خير؛ واجب أو مندوب، ووعدهم بالثواب على قليله وكثيره بقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7]. ونهاهم عن كل شر محرم أو مكروه، وتوعدهم بالعقاب على محظور جليله وحقيره بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}، وبقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وكذلك أمرهم بتحصيل مصالح إجابته وطاعته, ودرء مفاسد معصيته ومخالفته؛ إحسانا إليهم, وإنعاما عليهم; لأنه غني عن طاعتهم وعبادتهم. فعرفهم ما فيه رشدهم ومصالحهم ليفعلوه, وما فيه غيهم ومفاسدهم ليجتنبوه, وأخبرهم أن الشيطان عدو لهم ليعادوه ويخالفوه, فرتب مصالح الدارين على طاعته واجتناب معصيته, فأنزل الكتب بالأمر والزجر والوعد والوعيد, ولو شاء الله لأصلحهم بدون ذلك; ولكنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, وما ربك بظلام للعبيد.(1/2)
فصل: في بيان جلب مصالح الدارين و درء مفاسدهما على الظنون
...
فصل: في بيان جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على الظنون
الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون. وللدارين مصالح إذا فاتت فسد أمرهما، ومفاسد إذا تحققت هلك أهلهما، وتحصيل معظم هذه المصالح بتعاطي أسبابها مظنون غير مقطوع به؛ فإن عمال الآخرة لا يقطعون بحسن الخاتمة وإنما يعملون بناء على حسن الظنون، وهم مع ذلك يخافون ألا يقبل منهم ما يعملون، وقد جاء التنزيل بذلك في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، فكذلك أهل الدنيا إنما يتصرفون بناء على حسن الظنون، وإنما اعتمد عليها لأن الغالب صدقها عند قيام أسبابها؛ فإن التجار يسافرون على ظن أنهم يستعملون بما به يرتفقون، والأكارون يحرثون ويزرعون بناء على أنهم مستغلون، والجمالون والبغالون يتصدرون للكراء لعلهم يستأجرون، والملوك يجندون الأجناد ويحصنون البلاد بناء على أنهم بذلك ينتصرون. وكذلك يأخذ الأجناد الحذر والأسلحة على ظن أنهم يغلبون ويسلمون، والشفعاء يشفعون على ظن أنهم يشفعون والعلماء يشتغلون بالعلوم على ظن أنهم ينجحون ويتميزون. وكذلك الناظرون في الأدلة والمجتهدون في تعرف الأحكام، يعتمدون في الأكثر على ظن أنهم يظفرون بما يطلبون، والمرضى يتداوون لعلهم يشفون ويبرءون. ومعظم هذه الظنون صادق موافق غير مخالف ولا كاذب، فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفا من ندور وكذب الظنون، ولا يفعل ذلك إلا الجاهلون.(1/3)
فصل: فيما استثني من تحصيل المصالح و درء المفاسد
...
فصل: فيما استثني من تحصيل المصالح ودرء المفاسد
لما عارضه أو رجح عليه وقد أمر الله تعالى بإقامة مصالح متجانسة وأخرج بعضها عن الأمر، إما لمشقة ملابستها وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها عن الزجر إما لمشقة اجتنابها، وإما لمصلحة تعارضها، ويعبر عن(1/3)
المصالح والمفاسد بالخير والشر، والنفع والضر، والحسنات والسيئات؛ لأن المصالح كلها خيور نافعات حسنات، والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات، وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح، والسيئات في المفاسد.(1/4)
فصل: فيما تعرف به المصالح و المفاسد و في تفاوتهما
...
فصل: فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما
ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن. واتفق الحكماء على ذلك. وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال. وإن اختلف في بعض ذلك فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان، فيتحير العباد عند التساوي ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي. وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما، ويتوقفون عند الحيرة في التساوي والتفاوت؛ فإن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك. فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع فإن تساوت الرتب تخير، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه والتوقف عند الجهل به. والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح ودرء مفاسدهم. وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح، وما يحيد عن(1/4)
ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح والأصلح، والفاسد والأفسد، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة. فمن حرم ذبح الحيوان من الكفرة رام بذلك مصلحة الحيوان فحاد عن الصواب؛ لأنه قدم مصلحة حيوان خسيس على مصلحة حيوان نفيس، ولو خلوا عن الجهل والهوى لقدموا الأحسن على الأخس، ولدفعوا الأقبح بالتزام القبيح. {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ؟ فمن وفقه الله وعصمه أطلعه على دق ذلك وجله، ووفقه للعمل بمقتضى ما أطلعه عليه فقد فاز وقليل ما هم. قال: وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل، وكذلك المجتهدون في الأحكام من وفقه الله وعصمه من الزلل أطلعه الله على الأدلة الراجحة، فأصاب الصواب فأجره على قصده وصوابه، بخلاف من أخطأ الرجحان فإن أجره على قصده واجتهاده، ويعفى عن خطئه وزلله. وأعظم من ذلك الخطأ فيما يتعلق بالأصول. واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظرا لهم من رب الأرباب، كما ذكرنا في هذا الكتاب، فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ، ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن، ولو خير بين فلس ودرهم لاختار الدرهم، ولو خير بين درهم ودينار لاختار الدينار. لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت. واعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود، فإن المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن لا تحصل إلا بنصب مقترن بها، أو سابق، أو لاحق، وأن السعي في تحصيل هذه الأشياء كلها شاق على معظم الخلق لا ينال إلا بكد وتعب، فإذا حصلت اقترن بها من الآفات ما ينكدها وينغصها، فتحصيل هذه الأشياء شاق. أما المآكل والمشارب فيتألم الإنسان بشهوتها، ثم يتألم بالسعي في تحصيلها. ثم يتألم بما يصير إليه الطعام والشراب من النجاسة(1/5)
والأقذار ومعالجة غسله بيده. وأما الملابس فمفاسدها مشقة اكتسابها، وما يقترن بها من آفاتها؛ كالتخرق والتفتق والبلى والاحتراق. وأما المناكح فيتألم المرء بمؤنها ونفقتها وكسوتها وجميع حقوقها. وأما المراكب فمفاسدها مشقة اكتسابها والعناء في القيام بعلفها وسقيها وحفظها وسياستها، وما عساه يلحقها من الآفات، وكذلك الرقيق فيه هذه المفاسد. وأما المساكن فلا تحصل إلا بكد ونصب، وتقترن بها آفاتها من الانهدام والاحتراق والتزلزل والتعيب وسوء الجار، والضيق على من لا يستطيع ضيقها، واتساعها على من يتألم باتساعها، وسوء صقعها في الوخامة والدمامة والبعد من الماء ومجاورة الأتونات والحمامات والمدابغ ذوات الروائح المستخبثات. والاشتهاء كله مفاسد لما فيه من الآلام، فلا تحصل لذة شهوة إلا بتألم الطبع بتلك الشهوة، فإن كانت مؤدية إلى مفسدة عاجلة أو آجلة يعقبها ما ينبني عليها من المفاسد العظام، ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا وعذابا وبيلا. فإن قيل إذا كانت الشهوة ألما ومرارة فالجنة إذن دار الآلام والمرارات لأن فيها ما تشتهي الأنفس؟ قلت ألم الشهوة مختص بدار المحنة. وأما دار الكرامة فإن اللذة تحصل فيها من غير ألم يتقدمها أو يقترن بها، لأن اللذة والألم في ذلك عرضان متلازمان في هذه الدار بحكم العادة المطردة، وتلك الدار قد خرقت فيها العادة كما خرقت في المخاط والبصاق والبول والغائط والتعادي والتحاسد ومساوئ الأخلاق. وكذلك تخرق العادة في وجدان لذتها من غير ألم سابق أو مقارن؛ فيجد أهلها لذة الشراب من غير عطش ولا ظمأ، ولذة الطعام من غير جوع ولا سغب، وكذلك خرق العادات في العقوبات؛ فإن أقل عقوبات الآخرة لا تبقى معه في هذه الدار حياة. وأما في تلك الدار فإن أحدهم لتأتيه أسباب الموت من كل مكان وما هو بميت. وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل، ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة فمنها؛ ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو منقسم إلى متفق(1/6)
عليه ومختلف فيه. فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الاكتساب محصلا لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منها محصلا لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال. فلا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديان والكفر والفسوق والعصيان. ويتفاوت ثواب الآخرة بتفاوت المصالح في الأغلب، ويتفاوت عقابها بتفاوت المفاسد في الأغلب، ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها، فلا نسبة بمصالح الدنيا ومفاسدها إلى مصالح الآخرة ومفاسدها، لأن مصالح الآخرة خلود الجنان ورضا الرحمن، مع النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من نعيم مقيم، ومفاسدها خلود النيران وسخط الديان مع الحجب عن النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من عذاب أليم.
والمصالح ثلاثة أنواع: أحدها مصالح المباحات. الثاني مصالح المندوبات. الثالث: مصالح الواجبات. والمفاسد نوعان: أحدهما: مفاسد المكروهات. الثاني: مفاسد المحرمات. فائدة قدم الأولياء والأصفياء مصالح الآخرة على مصالح هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت المصلحتين ودرءوا مفاسد الآخرة بالتزام مفاسد بعض هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت الرتبتين. وأما أصفياء الأصفياء فإنهم عرفوا أن لذات المعارف والأحوال أشرف اللذات فقدموها على لذات الدارين. ولو عرف الناس كلهم من ذلك ما عرفوه؛ لكانوا أمثالهم فنصبوا ليستريحوا واغتربوا ليقتربوا. فمنهم من تحضره المعارف بغير تكلف، فينشأ عنها الأحوال اللائقة بها بغير تصنع ولا تخلق، ومنهم من يستذكر المعارف لينشأ عنها أحوالها، وشتان ما بين الفريقين. وقد يتكلف المحروم استحضار المعارف فلا تحضره، فسبحان من عرف نفسه لهؤلاء من غير تعب ولا نصب ولا استدلال ولا وصب، بل جاد عليهم وسقاهم خالص وبله وصافي فضله فشغلهم(1/7)
به عما سواه فلا هم لهم سواه ولا مؤنس لهم غيره ولا معتمد لهم إلا عليه، لعلمهم أنه لا ملجأ لهم إلا إليه؛ فرضوا بقضائه وصبروا على بلائه وشكروا لنعمائه، يتسع عليهم ما يضيق على الناس ويضيق عليهم ما يتسع للناس، أدبهم القرآن معلمهم الرحمن وجليسهم الديان وسرابيلهم الإذعان، قد انقطعوا عن الإخوان وتغربوا عن الأوطان، بكاؤهم طويل وفرحهم قليل يردون كل حين موردا لم يتوهموه، وينزلون منزلا لم يفهموه، ويشاهدون ما لم يعرفوه، لا يعرف منازلهم عارف، ولا يصف أحوالهم واصف، إلا من نازلها ولابسها، قد اتصفوا بأخلاق القرآن على حسب الإمكان، وتلك الأخلاق موجبة لرضا الرحمن وسكنى الجنان في الرغد والأمان، مع النظر إلى الديان.(1/8)
فصل: فيما تعرف به مصالح الدارين و مفاسدهما
...
فصل: فيما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما
أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح. وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها، مع أن الله عز وجل لا يجب عليه جلب مصالح الحسن، ولا درء مفاسد القبيح، كما لا يجب عليه خلق ولا رزق ولا تكليف ولا إثابة ولا عقوبة، وإنما يجلب مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طولا منه على عباده وتفضلا، ولو عكس الأمر لم يكن قبيحا إذ لا حجر لأحد عليه.(1/8)
فصل: في بيان مقاصد هذا الكتاب
...
فصل: في بيان مقاصد هذا الكتاب
الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات لسعي العباد في تحصيلها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح العبادات ليكون العباد على خبر منها، وبيان ما يقدم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد على بعض، وما يدخل تحت اكتساب العبيد دون ما لا قدرة لهم عليه ولا سبيل لهم إليه، والشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثا على اجتناب المفاسد وما في بعض الأحكام من المصالح حثا على إتيان المصالح.(1/9)
فصل: في تقسيم اكتساب العباد
...
فصل: في تقسيم اكتساب العباد
اعلم أن اكتساب العباد ضربان: أحدهما ما هو سبب للمصالح وهو أنواع: أحدها: ما هو سبب لمصالح دنيوية. والثاني: ما هو سبب لمصالح أخروية. الثالث ما هو سبب لمصالح دنيوية وأخروية، وكل هذه الاكتسابات مأمور بها، ويتأكد الأمر بها على قدر مراتبها في الحسن والرشاد، ومن هذه الاكتسابات ما هو خير من الثواب كالمعرفة والإيمان، وقد يكون الثواب خيرا من الاكتساب كالنظر إلى وجه الله الكريم ورضاه الذي هو أعلى من كل نعيم سوى النظر إلى وجهه الكريم. الضرب الثاني: من الاكتساب ما هو سبب للمفاسد وهو أنواع: أحدهما: ما هو سبب لمفاسد دنيوية، الثاني ما هو سبب لمفاسد أخروية، الثالث: ما هو سبب لمفاسد دنيوية وأخروية، وكل هذه الاكتسابات منهي عنها، ويتأكد النهي عنها على قدر مراتبها في القبح والفساد.(1/9)
فصل: في بيان حقيقة المصالح و المفاسد
...
فصل: في بيان حقيقة المصالح والمفاسد
المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها. والمفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها، وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية، فأما لذات الدنيا وأسبابها وأفراحها وآلامها وأسبابها، وغمومها وأسبابها، فمعلومة بالعادات، ومن أفضل لذات الدنيا لذات المعارف وبعض الأحوال، ولذات بعض الأفعال في حق الأنبياء والأبدال، فليس من جعلت قرة عينه في الصلاة كمن جعلت الصلاة شاقة عليه، وليس من يرتاح إلى إيتاء الزكاة كمن يبذلها وهو كاره لها، وأما لذات الآخرة وأسبابها وأفراحها وأسبابها، وآلامها وأسبابها وغمومها وأسبابها، فقد دل عليه الوعيد، والزجر والتهديد. وأما اللذات فمثل قوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، وقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}. وأما الأفراح ففي مثل قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}، وقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وفي مثل قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}. وأما الآلام ففي مثل قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} . وأما الغموم ففي مثل قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}. فائدة سعى الناس كلهم في جانب الأفراح واللذات وفي درء الغموم المؤلمات، فمنهم من يطلب الأعلى من ذلك فالأعلى وقليل ما هم. ومنهم من يقتصر على طلب الأدنى، ومنهم الساعون في المتوسطات، والقدر من وراء سعي السعادة وكل متسبب في مطلوبه. فمن بين ظافر وخائب ومغلوب وغالب ورابح وخاسر ومتمكن وحاسر، كلهم يتقلبون وإلى القضاء ينقلبون، فمن طلب لذات المعارف والأحوال في الدنيا ولذة النظر والقرب في الآخرة فهو أفضل الطالبين، لأن مطلوبه أفضل من كل مطلوب، ومن طلب نعيم الجنان وأفراحها ولذاتها(1/10)
فهو في الدرجة الثانية، ومن طلب أفراح هذه الدار ولذاتها في الدرجة الثالثة، ثم يتفاوت هؤلاء الطلاب في رتب مطلوباتهم. فمنهم الأعلون والمتوسطون، فأما طلاب الآخرة فاقتصروا من طلب لذات الدنيا وأفراحها على ما يدفع الحاجة أو الضرورة واشتغلوا بمطالب الآخرة، ولن يصل أحد منهم إلا إلى ما قدر له، وقد غر بعضهم أنهم أدركوا بعض ما طلبوا فظنوا أنهم نالوا ذلك بحزمهم وقواهم فخابوا ونكصوا ووكلوا إلى أنفسهم فهلكوا، ومنهم من واظب أنه لا ينال خيرا إلا بتوفيق الله ولا ينال ضيرا إلا بإرادة الله فهؤلاء لا يزالون في زيادة، لأن الطاعات والمعارف والأحوال إذا دامت أدت إلى أمثالها وإلى أفضل منها. وعلى الجملة فمن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن تقرب إلى الله شبرا تقرب منه ذراعا، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا، ومن مشى إليه هرول إليه ومن نسب شيئا إلى نفسه فقد زل وضل، ومن نسب الأشياء إلى خالقها المنعم بها كان في الزيادة، لأن الله تعالى قال: {لئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}. وأفضل ما تقرب به التذلل لعزة الله والتخضع لعظمته والإيحاش لهيبته، والتبري من الحول والقوة إلا به، وهذا شأن العارفين، وما خرج عنه فهو طريق الجاهلين أو الغافلين، وقد تمت الحكمة وفرغ من القسمة، وسينزل كل أحد في دار قراره حكما وعدلا وحقا، قسطا وفضلا، وما ثبت في القدم لا يخلفه العدم ولا تغيره الهمم، بعد أن جرى به القلم وقضاه العدل الحكم، فأين المهرب وإلى أين المذهب وقد عز المطلب ووقع ما يذهب، فيا خيبة من طلب ما لم تجز به الأقدار ولم تكتبه الأقلام، يا لها من مصيبة ما أعظمها وخيبة ما أفحمها. أين المهرب من الله وأين الذهاب عن الله وأين الفرار من قدرة الله؟ بينا يرى أحدهم قريبا دانيا إذ أصبح بعيدا نائيا، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حفظا ولا رفعا(1/11)
بأي نواحي الأرض نرجو وصالكم وأنتم ملوك ما لمقصدكم نحو والله لن تصل إلى شيء إلا بالله فكيف توصل بغيره.(1/12)
فصل: قي تقسيم المصالح
...
فصل: في تقسيم المصالح
[فصل] المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى مصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد بل لكونها المقصودة من شرعها كقطع السارق وقطع الطريق وقتل الجناة ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم: وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقة، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. وكذلك المفاسد ضربان: أحدهما حقيقي وهو الغموم والآلام، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المفاسد مصالح فنهى الشرع عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد وذلك كالسعي في تحصيل اللذات المحرمات والشبهات المكروهات والترفهات بترك مشاق الواجبات والمندوبات فإنها مصالح نهي عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد الحقيقة وتسميتها مفاسد من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. [فائدة] المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد ويدل عليه قوله عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات". والمكاره مفاسد من جهة كونها مكروهات مؤلمات، والشهوات مصالح من جهة كونها شهوات ملذات مشتهيات، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته، ولذلك شرعت الحدود ووقع التهديد والزجر والوعيد، فإن الإنسان إذا نظر إلى اللذات وإلى ما يترتب عليهما من الحدود والعقوبات العاجلة والآجلة نفر منها بطبعه لرجحان مفاسدها، لكن الأشقياء لا يستحضرون ذكر مفاسدها إذا قصدوها، ولذلك يقدمون عليها، فإن(1/12)
العاقل إذا ذكر ما في قبلة محرمة من التعزير والذم العاجلين والعقاب الآجل، زجره ذلك. وكذلك إذا ذكر اطلاع الرب سبحانه عليه حمله ألم الاستحياء والخجل على ترك المعصية واجتناب لذاتها، وكذلك إذا فكر في المصالح الشاقة من الغموم والآلام دعاه ذلك إلى تركها، فإذا ذكر ما يترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة حمله ذلك على الصبر على مكارهها ومشاقها، ألا ترى أن المريض يصبر على ألم مرارة الدواء، وألم قلع الأضراس المتوجعة وألم قطع الأعضاء المتآكلة؛ لما يتوقع من لذات العافية وفرحاتها. وكذلك إذا ذكر اطلاع الرب عليه ونظره إليه حمله ذلك على الطاعة وتحمل مكارهها ومشاقها، وكذلك ترك الطعام الشهي والشراب الهني لما يتوقع من سوء عاقبة أكله وشربه، ولو شاء الله لما جعل في الطاعات شيئا من المكاره والمشقات، كما فعل بالملائكة، ولما جعل في المعاصي شيئا من اللذات والراحات، ولو فعل ذلك لما قعد أحد عن طاعة ولا أقدم على معصية، ولكن سبق القضاء بشدة الابتلاء، وليس الملائكة كذلك فإنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، إذ لا مشقة عليهم في ذلك ولا ألم. وكذلك أهل الجنة يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس، وكذلك لو شاء الله لم يخلق الأوهام ولا الشكوك ولا التخيلات ولا الظنون في العقائد ولا في غيرها، بل خلق العلم بالأشياء من غير توهم مضلل ولا شك متعب، ولا تخيل مجهل ولا ظن موهم، وليت شعري هل تزول هذه الأشياء في الجنة بحيث لا يبقى لأهلها إلا محض العلوم التي بها يتم نعيمهم وسرورهم وفرحهم وحبورهم، أم يبقى ذلك كما هو في الدنيا؟ ولقد أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولعل هذا يكون من جملة ما أعد الله لهم، فسبحان من لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وإنما نفع الطاعات لأربابها وسوء المخالفات لأصحابها. والقلوب معادن الخواطر والكفر والإيمان والعزوم والإرادات والبغض(1/13)
والحب والطواعية والإباء والمعارف والأقوال، وكذلك استحسان الحسن واستقباح القبيح، وكذلك الظنون الصادقة والكاذبة، وقد قسم لكل قلب من ذلك ما سبقت به الأقدار وجرت به الأقلام، والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، أسعد من أسعد بغير علة، وأشقى من أشقى بغير سبب، وكيف الخلاص مما حق وكتب، وأين المهرب مما حتم ووجب؟ فمثل القلب كمثل نهر تجري فيه المياه على الدوام، فكذلك الخواطر في ورودها على قلوب الأنام لا يذهب خاطرنا به ولا ما ابتنى عليه من العزوم والأحوال والكفر والإيمان والطاعة والعصيان إلا رده خاطر إما من نوعه أو من غير نوعه ثم المياه الجارية منها ما ينفع، ومنها ما يضر، ومنها ما لا يضر ولا ينفع، فكذلك الخواطر الجارية في القلوب والواردة عليها منها ما ينفع ومنها ما يضر ومنها ما لا ينفع ولا يضر والإنسان بعد ذلك مكلف باجتناب العزوم على المفاسد ووسائلها، وبالقصود إلى المصالح وأسبابها ولا تكليف قبل ورود الخواطر، ولا بورود الخواطر ولا بميل الطبع إلى ما وردت به الخواطر، ولا بنفوره عما أتت به الخواطر. والخواطر ضربان: أحدهما ما يرد على القلوب من غير اكتساب كورود المياه على الأنهار. الضرب الثاني: ما يرد على القلوب من الخواطر بالاكتساب، وعلى الاكتساب يترتب المدح والذم والثواب والعقاب.(1/14)
فصل: في الحث على جلب المصالح و درء المفاسد
...
فصل: في الحث على جلب المصالح ودرء المفاسد
لما علم الرب سبحانه أنه قد جبل عباده على الميل إلى الأفراح واللذات، والنفور من الغموم والمؤلمات وأنه قد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات، وعد من عصى هواه وأطاع مولاه بما أعده في الجنان من المثوبة والرضوان، ترغيبا في الطاعات ليتحملوا مكارهها ومشاقها، ويتوعد من عصى مولاه وأطاع هواه بما أعده في النيران من العقوبة والهوان، زجرا عن المخالفات ليجتنبوا ملاذها ورفاهيتها، ومدح الطائعين ترغيبا في الدخول في حمده ومدحته، وذم(1/14)
العاصين تنفيرا من الدخول في لومه ومذمته. وكذلك وضع الحدود والعقوبات العاجلة زجرا عن السيئات. فالواجب على العباد اتباع الرشاد، وتنكب أسباب الفساد، وقضاء الله وقدره من وراء ذلك، فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، ولا خروج لعبد عما حكم له أو عليه من سعادة أو شقاوة.(1/15)
فصل: في بيان أن الأسباب الشرعية بمثابة الأوقات
...
فصل: في بيان أن الأسباب الشرعية بمثابة الأوقات
التكاليف كلها مبنية على الأسباب المعتادة من غير أن تكون الأسباب جالبة للمصالح بأنفسها ولا دارئة للمفاسد بأنفسها، بل الأسباب في الحقيقة مواقيت للأحكام ولمصالح الأحكام، والله هو الجالب للمصالح الدارئ للمفاسد، ولكنه أجرى عادته وطرد سنته بترتيب بعض مخلوقاته على بعض، لتعريف العباد عند وجود الأسباب ما رتب عليها من خير فيطلبوه عند وقوعها ووجودها، وما رتب عليها من شر فيجتنبوه عند قيامها وتحققها وهذا هو الغالب في العادة، وكثير من ينفك عن ذلك، فكم من مرغب لم يرغب، وكم من مرهب لم يرهب، وكم من مزجور لم يزدجر، وكم من مذكر لم يتذكر، وكم من مأمور بالصبر لم يصطبر، ولو شاء الله لقطع كل مسبب عن سببه، وخلق المسببات كلها مجردة عن الأسباب، وكذلك لو شاء لخلق الأسباب كلها مجردة عن المسببات، لكنه قرن الأسباب بالمسببات في مطرد العادات، ليضل بذلك من يشاء ويهدي من يشاء. وكذلك لو شاء لأقام الأجساد بدون الطعام والشراب ولما تحلل شيء من أجزائها حتى يحتاج إلى الخلف والإبدال. فله أن يخلق ألم النار بغير نار ولذة الشراب والطعام والجماع من غير ماء ولا طعام ولا جماع. وكذلك الحكم في جميع الأسباب المؤلمات، واللذات لو شاء لخلقها دون مسبباتها، ولو شاء لخلق مسبباتها دونها وكذلك القوى التي أودعها الله في النبات والحيوان لو شاء لخلق آثارها ابتداء كجذب الغذاء بغير قوة جاذبة، وأمسك الغذاء في حال إمساكه بغير قوة ممسكة، وغذى بغير، قوة مغذية، ودفع بغير قوة دافعة، وصور بغير قوة(1/15)
مصورة، ولما رأى الأغبياء العمي عن الأمور الإلهية ربط المسببات من غير انفكاك في مطرد العادات، اعتقدوا أن المسببات صادرة عن الأسباب، وأن الأسباب أفادتها الوجود؛ فاقتطعوا ذلك عن رب الأرباب ومسبب الأسباب، وأضافوه إلى تلك الأسباب:
ولو أن ليلى أبرزت حسن وجهها ... لهام بها اللوام مثل هيامي
ولكنها أخفت محاسن وجهها ... فضلوا جميعا عن حضور مقامي
وما أشد طمع الناس في معرفة ما لم يضع الله على معرفته سببا، كلما نظروا فيه وحرصوا عليه ازدادوا حيرة وغفلة، فالحزم الإضراب عنه كما فعل السلف الصالح، والبصائر كالأبصار فمن حرص أن يرى ببصره ما وارته الجبال لم ينفعه إطالة تحديقه إلى ذلك مع قيام الساتر. وكذلك تحديق البصائر إلى ما غيبه الله عنها وستره بالأوهام والظنون والاعتقادات الفاسدة كم من اعتقاد جزم المرء به وبالغ في الإنكار على مخالفه ثم تبين له خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه وحسنه. ومن السعادة أن يختار المرء لنفسه المواظبة على أفضل الأعمال فأفضلها بحيث لا يضع بذلك ما هو أولى بالتقديم منه، والسعادة كلها في اتباع الشريعة في كل ورد وصدر، ونبذ الهوى فيما يخالفها؛ فقد قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}، أي فلا يضل في الدنيا عن الصواب ولا يشقى في الآخرة بالعذاب. وقال ابن عباس في قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، الكتاب والسنة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} ما من طاعة يأتي بها الطالب على وجهها إلا أحدثت في قلبه نورا، وكلما كثرت الطاعات تراكمت الأنوار حتى يصير المطيع إلى درجات العارفين الأبرار {الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وهذا مما يعرفه المطيعون المخلصون. فإذا خلت الأعمال عن الإخلاص لم يزدد العاملون إلا ظلمة في القلوب، لأنهم عاصون بترك الإخلاص وإبطال ما أفسده الرياء والتصنع من الأعمال. وعلى الجملة فلو أن الرب سبحانه وتعالى(1/16)
عرف عباده نفسه وأوصافه من غير نظر ولا استدلال لهاموا في جلاله وتحيروا في كماله، لكنه كشف الحجاب بينه وبين السعداء وسدله بينه وبين الأشقياء، فلا يستطيع أحد كشف حجاب سدله الله ولا حفظ ما ضيعه الله وأهمله، جرت المقادير من الأزل واستمرت في الأبد وجفت الأقلام بما قضي على الأنام؛ فلا يتقدم أحد منهم قدر أنملة ولا يتأخر إلا بمقادير سابقة وكتابة لاحقة. فلو تهيأت أسباب السعادة كلها للأشقياء لما سعدوا، ولو تهيأت أسباب الشقاوة كلها للسعداء لما شقوا: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ}، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}.(1/17)
فصل: في بيان ما رتب على الطاعات و المخالفات
...
فصل: في بيان ما رتب على الطاعات والمخالفات
الطاعات ضربان: أحدهما ما هو مصلحة في الآخرة كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف. الضرب الثاني: ما هو مصلحة في الآخرة لباذله وفي الدنيا لآخذيه كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف والصلاة، والخير كله في الطاعات والشر كله في المخالفات؛ ولذلك جاء القرآن بالحث على الطاعات دقها وجلها قليلها وكثيرها جليلها وحقيرها، والزجر عن المخالفات دقها وجلها قليلها وكثيرها جليلها وحقيرها، فأما الحث على الطاعات فبمدحها وبمدح فاعليها، وبما وعدوا عليها من الرضا والمثوبات، وبما رتب عليها في الدنيا من الكفاية والهداية، والتأهل للشهادة والرواية والولاية. وأما الزجر عن المخالفات فبذمها وذم فاعليها، وبما وعدوا عليها من السخط والعقوبات، وبرد الشهادات والولايات والانعزال عن الولايات. وأما ما قرن بالآيات من الصفات فإنه جاء أيضا حاثا على الطاعات، وزجرا عن المخالفات، مثل أن يذكر سعة رحمته ليرجوه فيعملوا بالطاعات، ويذكر شدة نقمته ليخافوه فيجتنبوا المخالفات، ويذكر نظره إليهم، ليستحيوا من اطلاعه عليهم فلا يعصوه، ويذكر تفرده بالضر والنفع، ليتوكلوا عليه ويغوضوا إليه، ويذكر إنعامه عليهم وإحسانه إليهم، ليحبوه ويطيعوه ولا(1/17)
فصل: فيما عرفت حكمته من المشروعات و ما لم تعرف حكمته من المشروعات
...
فصل: فيما عرفت حكمته من المشروعات وما لم تعرف حكمته من المشروعات
المشروعات ضربان: أحدهما ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد. وفي التعبد من الطواعية والإذعان مما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته ما ليس مما ظهرت علته وفهمت حكمته، فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته وفائدته، والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالا للرب وانقيادا إلى طاعته، ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد، ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان، من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب، ودرء مفسدة غير مفسدة العصيان، فيحصل من هذا أن الثواب قد يكون على مجرد الطواعية من غير أن تحصل تلك الطواعية جلب مصلحة أو درء مفسدة، سوى مصلحة أجر الطواعية.(1/18)
فصل: في تفاوت رتب الأعمال بتفاوت رتب المصالح والمفاسد
طلب الشرع لتحصيل أعلى الطاعات، كطلبه لتحصيل أدناها في الحد والحقيقة، كما أن طلبه لدفع أعظم المعاصي كطلبه لدفع أدناها، إذ لا تفاوت بين طلب وطلب، وإنما التفاوت بين المطلوبات من جلب المصالح ودرء المفاسد، لذلك انقسمت الطاعات إلى الفاضل والأفضل، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل، وانقسمت المعاصي إلى الكبير والأكبر لانقسام مفاسدها إلى الرذيل والأرذل.(1/19)
فصل: فيما تتميز به الصغائر من الكبائر
...
فصل: فيما تتميز به الصغائر من الكبائر
إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليها فهي من الكبائر. فمن شتم الرب أو الرسول أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة. وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر. وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم، ويغتنمون أموالهم ويزنون بنسائهم ويخربون ديارهم، فإن تسببه إلى هذه المفاسد أعظم من توليته يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر. وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه، ولو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه تؤخذ منه تمرة بسبب كذبه لم يكن ذلك من الكبائر، وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير كزبيبة وتمرة فهذا مشكل، فيجوز أن يجعل من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة(1/19)
من الخمر من جملة الكبائر وإن لم يتحقق المفسدة فيه، ويجوز أن يضبط ذلك المال بنصاب السرقة. والحكم بغير الحق كبيرة فإن شاهد الزور متسبب متوسل والحاكم مباشر فإذا جعل التسبب كبيرة فالمباشرة أكبر من تلك الكبيرة، ولو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص فسلم الحاكم المشهود عليه إلى الوالي فقتله وكلهم عالمون بأنهم ظالمون فشهادة الزور كبيرة والحكم أكبر منها ومباشرة القتل أكبر من الحكم، والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزة ولا يهتدي إليها إلا من وفقه الله تعالى، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب، ولا يلزم من النص على كون الذنب كبيرة أن يكون مساويا لغيره من الكبائر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن من الكبائر أن يشتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وكيف يشتم الرجل والديه؟ فقال. نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". رواه مسلم في الصحيح. جعل صلى الله عليه وسلم التسبب إلى سبهما من الكبائر، وهذا تنبيه على أن مباشرة سبهما أكبر من التسبب إليه. وفي رواية البخاري: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" جعل اللعن من أكبر الكبائر لفرط قبحه بخلاف السب المطلق. وقد نص الرسول عليه السلام على أن عقوق الوالدين من الكبائر، مع الخلاف في رتب العقوق، ولم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه، فإن ما يحرم في حق الأجانب فهو حرام في حقهما وما يجب للأجانب فهو واجب لهما، ولا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء، وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهما على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو على عضو من أعضائه، وقد ساوى الوالدان(1/20)
الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى. وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن قال. كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن فهو من الكبائر. فتغيير منار الأرض كبيرة لاقتران اللعن به. وكذلك قتل المؤمن كبيرة لأنه اقترن به الوعيد واللعن والحد، والمحاربة والزنا والسرقة والقذف كبائر لاقتران الحدود بها، وعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو اللعن أو الحد أو أكبر من مفسدته فهو كبيرة. [فائدة] فإن قيل الكذب فيما لا يضر ولا ينفع صغيرة فما تقولون فيمن قذف محصنا قذفا لا يسمعه أحد إلا الله تعالى والحفظة؟ مع أنه لم يواجه به المقذوف ولم يغتبه به عند الناس، هل يكون قذفه كبيرة موجبة للحد مع خلوه من مفسدة الأذى؟ قلنا الظاهر أنه ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة ولا يعاقب في الآخرة عقاب المجاهر في وجه المقذوف أو في ملأ من الناس، بل عقاب الكذابين غير المصرين وقد قال الشاعر:
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
شبهه بالذي لم يقل لانتفاء ضرره وأذيته، فإن قيل إذا اغتابه بالقذف لم يتأذ المقذوف مع غيبته، فلم أوجبتم الحد مع انتفاء مفسدة التأذي؟ قلنا لأن ذلك لو بلغه لكان أشد عليه من القذف في الخلوة، ولأنه إذا قذفه على ملأ من الناس احتقروه بذلك وزهدوا في معاملته ومواصلته، وربما أشاعوا ذلك إلى أن يبلغه وليس كذلك قذفه في الخلوة، والإنسان يكره بطبعه أن يهتك عرضه في غيبته وأما قذفه في الخلوة فلا فرق بين إجرائه على لسانه وبين إجرائه على قلبه.(1/21)
فصل: في من ارتكب كبيرة في ظنه يتصورها بتصور الكبائر و ليست في الباطن كبيرة
...
فصل: في من ارتكب كبيرة في ظنه يتصورها بتصور الكبائر وليست في الباطن كبيرة
إن قيل لو أن إنسانا قتل رجلا يعتقد أنه معصوم فظهر أنه يستحق دمه أو وطئ امرأة يعتقد أنها أجنبية وأنه زان بها فإذا هي زوجته، أو أمته أو أكل مالا يعتقد أنه ليتيم ثم تبين أنه ملكه، أو شهد بالزور في ظنه وكانت شهادته(1/21)
موافقة للباطن، أو حكم بباطل ثم ظهر أنه حق، فهل يكون مرتكبا لكبيرة مع كونه لم تتحقق المفسدة؟ قلنا أما في الدنيا فيجري عليه أحكام الفاسقين، وتسقط عدالته لجرأته على رب العالمين، وترد شهادته وروايته، وتبطل بذلك كل ولاية تشترط فيها العدالة، لأن العدالة إنما شرطت في الشهادات والروايات والولايات، لتحصل الثقة بصدقه في أخباره وشهادته وبأدائه الأمانة في ولايته، وقد انخرمت الثقة في ذلك كله لجراءته على ربه بارتكاب ما يعتقده كبيرة، لأن الوازع عن الكذب في أخباره وشهادته، وعن التقصير في ولايته إنما هو خوفه من الجرأة على ربه بارتكاب كبيرة، أو بالإصرار على صغيرة، فإذا حصلت جرأته على ما ذكرته سقطت الثقة، بما يزعه عن الكذب في خبره وشهادته والنصح في ولايته. وأما مفاسد الآخرة وعذابها فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل ولا آكل مالا حراما، لأن عذاب الآخرة مرتب على رتب المفاسد في الغالب كما أن ثوابها مرتب على رتب المصالح في الغالب، ولا يتفاوتان بمجرد الطاعة ولا بمجرد المعصية، مع قطع النظر عن رتب المصالح والمفاسد، ولو كان كذلك لكان أجر التصدق بتمرة كأجر التصدق ببدرة، ولكانت غيبة المؤمنين بنسبتهم إلى الكبائر كغيبتهم بنسبتهم إلى الصغائر، ولكان سب الأنبياء كسب الأولياء، والظاهر أن هذا لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة لأجل جرأته وانتهاكه الحرمة بل يعذب عذابا متوسطا بين الكبيرة والصغيرة بجرأته على الله تعالى بما يعتقد أنه كبيرة، والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك، ولم أقف لأحد من العلماء على ضابط لذلك.(1/22)
فصل: في حكم الإصرار على الصغائر
...
فصل: في حكم الإصرار على الصغائر
فإن قيل قد جعلتم الإصرار على الصغيرة بمثابة ارتكاب الكبيرة، فما حد الإصرار أيثبت بمرتين أم بأكثر من ذلك؟ قلنا إذا تكررت منه الصغيرة تكررا يشعر(1/22)
بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ردت شهادته وروايته بذلك. وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر أصغر الكبائر.(1/23)
فصل: في إتيان المفاسد ظنا أنها من المصالح
...
فصل: في إتيان المفاسد ظنا أنها من المصالح
من أتى ما هو مصلحة في ظنه وهو مفسدة في نفس الأمر كمن أكل مالا يعتقده لنفسه، أو وطئ جاريته يظن أنها في ملكه، أو لبس ثوبا يعتقده لنفسه، أو سكن دارا يعتقدها في ملكه، أو استخدم عبدا يعتقده لنفسه، ثم بان أن وكيله أخرج ذلك عن ملكه فلا إثم عليه لظنه، ولا يتصف فعله بكونه طاعة ولا معصية ولا مباحا، وإنما هو معفو عنه كأفعال الصبيان والمجانين، ويلزم ضمان ما فوته من ذلك لأنه جائز، والجوائز لا تتوقف على المآثم. وكذلك لو وطئ أجنبية يعتقدها زوجته أو أمته فإنه لا يأثم ويلزمه مهر مثلها.(1/23)
فصل: فيمن فعل ما يظنه قربة أو واجبا و هو مفسدة في نفس الأمر
...
فصل: فيمن فعل ما يظنه قربة أو واجبا وهو مفسدة في نفس الأمر
من فعل فعلا يظنه قربة أو مباحا وهو من المفاسد المحرمة في نفس الأمر؛ كالحاكم إذا حكم بما يظنه حقا بناء على الحجج الشرعية، وكالمصلي يصلي على ظن أنه متطهر، أو كمن يصلي على مرتد يعتقده مسلما، وكالشاهد يشهد بحق عرفه بناء على استصحاب بقائه فظهر كذب الظن في ذلك كله، فهذا خطأ معفو عنه كالذي قبله، ولكن يثاب فاعله على قصده دون فعله، إلا من صلى محدثا فإنه يثاب على قصده وعلى ما أتى به في صلاته مما لا تشترط الطهارة فيه. ولو أوجر مضطرا طعاما قاصدا لحفظ حياته وكان الطعام مسموما فقتل المضطر فإنه يثاب على قصده دون إيجاره، وتجب الدية على عاقلته والكفارة في ماله، ونظائر هذا كثيرة، ولو أكل في المخمصة طعاما يجهل كونه مسموما فقتله فلا دية على عاقلته، وفي وجوب الكفارة في ماله اختلاف جار في كل من قتل نفسه.(1/23)
فصل: في بيان تقسيم المصالح و المفاسد
...
فصل: في بيان تقسيم المصالح والمفاسد
المصالح والمفاسد أقسام: أحدها: ما تعرفه الأذكياء والأغبياء الثاني ما يختص بمعرفته الأذكياء، الثالث ما يختص بمعرفته الأولياء، لأن الله تعالى ضمن لمن جاهد في سبيله أن يهديه إلى سبيله فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، ولأن الأولياء يهتمون بمعرفة أحكامه وشرعه فيكون بحثهم عنه أتم واجتهادهم فيه أكمل، مع أن من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم. وكيف يستوي المتقون والفاسقون؟ لا والله لا يستوون في الدرجات ولا في المحيا ولا في الممات. والعلماء ورثة الأنبياء، فينبغي أن يعرضوا عن الجهلة الأغبياء الذين يطعنون في علومهم ويلغون في أقوالهم، ويفهمون غير مقصودهم، كما فعل المشركون في القرآن المبين فقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. فكما جعل لكل نبي عدوا من المجرمين، جعل لكل عالم من المقربين عدوا من المجرمين. فمن صبر من العلماء على عداوة الأغبياء كما صبر الأنبياء، نصر كما نصروا وأجر كما أجروا وظفر كما ظفروا وكيف يفلح من يعادي حزب الله ويسعى في إطفاء نور الله؟ والحسد يحمل على أكثر من ذلك، فإن اليهود لما حسدوا الرسول عليه السلام حملهم حسدهم على أن قاتلوه وعاندوه، مع أنهم جحدوا رسالته وكذبوا مقالته.(1/24)
فصل: في بيان تفاوت رتب المصالح و المفاسد و تساويها
...
فصل: في بيان تفاوت رتب المصالح والمفاسد وتساويها
المصالح والمفاسد في رتب متفاوتة، وعلى رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا، والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة، وقد تستوي مصلحة الفعلين من كل وجه فيوجب الرب تحصيل إحدى المصلحتين نظرا لمن أوجبها له أو عليه، ويجعل أجرها أتم من أجر التي لم يوجبها. فإن درهم النفل مساو لدرهم الزكاة لكنه أوجبه لأنه لو لم يوجبه لتقاعد الأغنياء عن بر الفقراء فيهلك الفقراء، وجعل الأجر(1/24)
عليه أكثر من الأجر على غيره، ترغيبا في التزامه والقيام به، فإنه قد يؤجر على أحد العملين المتماثلين ما لا يؤجر على نظيره، مع أنه لا تفاوت بينهما إلا بتحمل مشقة الإيجاب ووجوب العقاب على الترك ولذلك أمثلة: أحدها: أن حج الفرض وعمرته متساويان بحج النفل وعمرته من كل وجه. الثاني: أن صوم رمضان مساو لصوم شعبان من كل وجه، مع أن صوم رمضان أفضل من صوم شعبان، بل لو وقع صوم رمضان في أقصر الأيام وصوم غيره في أطولها لكان صوم رمضان أفضل مع خفته وقصره من صوم سائر الأيام مع ثقلها وطولها. المثال الثالث: أن الذكر الواجب والمندوب متساويان من كل وجه فإن تكبيرة الإحرام مماثلة لسائر التكبيرات وهي أفضل منها بلا خلاف، وكذلك قراءة حمدلة الفاتحة في الصلاة مساوية لقراءتها في غير الصلاة مع أنها أفضل منها إذا قرئت خارج الصلاة وكذلك الأذكار التي في القرآن إذا قصد بها القراءة شرطت فيها الطهارة عن الجنابة، ولو قصد بها الذكر كالبسملة على الطعام والشراب، والحمدلة عند الفراغ منها، والتسبيحات المذكورة في القرآن، لم يشترط فيها الطهارة عن الجنابة، مع تساوي هذه الأذكار من كل وجه. وكذلك ما فرضه الله في الزكاة قد تساوي مصلحته مصلحة نظيره من الصدقات في سد الخلات ودفع الحاجات وله أمثلة: أحدها إخراج درهمين متساويين أحدهما زكاة والآخر صدقة. الثاني: شاتان متساويتان تصدق بأحدهما وزكى بالأخرى، الثالث إخراج العشر في الزكاة مع عشر آخر من ذلك الجنس، فالزكاة في ذلك كله أفضل من الصدقة مع القطع بالاستواء في دفع الحاجات وسد الخلات، وقد يكون النفل من الصدقات أكمل مصلحة من الفرض في الزكاة وتكون الزكاة أفضل. وله أمثلة. أحدها: أن يتصدق بشاة نفيسة أو بغير نفيس أو حنطة جيدة ويزكي بشاة خسيسة أو بعير رذل أو بحنطة ردية. الثاني: أن يخرج بنت مخاض في الزكاة ويتصدق بحقة أو جذعة. الثالث أن يتصدق بفضة لينة حسنة ويزكي بفضة خشنة ردية من جنس النصاب(1/25)
فإن الجيد من جنس هذه الأجناس أكمل مصلحة وأتم فائدة في باب الصدقات، مع القطع بأن أجره دون أجر ما ذكرناه في الزكاة، ومدار ذلك كله قوله عليه السلام عن ربه عز وجل أنه قال: "ولن يتقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه"، ولا شك أن هذا الحديث معمول به إذا ساوى الفرض النفل كما ذكرناه في درهم الصدقة ودرهم الزكاة، وفي حج الفرض وحج النفل وفي صوم الفرض وصوم النفل، فإنهما متساويان من كل وجه، أما إذا تفاوتا بالقلة والكثرة مثل أن يزكي بخمسة دراهم ويتصدق بعشرة آلاف درهم، وزكى بشاة وتصدق بعشرة آلاف شاة، فيحتمل في مثل هذا أن يكون الفرض أفضل من النفل من غير نظر إلى تفاوت المصلحتين، ويحتمل أن يخص الحديث بالعملين المتساويين في المصلحة كدرهم الزكاة مع درهم الصدقة، وشاة الزكاة مع شاة الصدقة، ولكن فيه مخالفة لظاهر الحديث، وليس ببعيد من تفضل الرب أن يؤجر على أقل العملين المتجانسين، أكبر مما يؤجر على أكثرهما، كما فضل أجر هذه الأمة مع قلة عملها على أجر اليهود والنصارى مع كثرة عملهم، وكما فضل أجر الفرائض على مساويها من النوافل طولا على من يشاء من عباده، وكما أن قيام ليلة القدر موجب لغفران الذنوب مع مساواته لقيام كل ليلة من ليالي رمضان. وكذلك العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر مع التساوي. وكذلك الصلاة في المسجدين أفضل منها في سائر المساجد مع تساويهما في جميع ما شرع فيها، وإذا كانت الحسنة في ليلة القدر أفضل من ثلاثين ألف حسنة في غيرها، مع أن تسبيحها كتسبيح غيرها، وصلاتها كصلاة غيرها، وقراءتها كقراءة غيرها؛ علم أن الله يتفضل على عباده في بعض الأزمان بما لا يتفضل به في غيره مع القطع بالتساوي، وليس ذلك إلا تفضلا من الإله، إذ لا فرق بين وقت ووقت. وكذلك تفضله سبحانه في بعض الأماكن بتضعيف الأجور؛ كما جعل الصلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام مع التساوي بين الصلوات. ومما يدل أيضا(1/26)
على أن الله قد يؤجر على قليل الأعمال ما لا يؤجر على كثيرها ما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثلكم ومثل أهل الكتابين كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط، فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين، فهم أنتم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء ؟، فقال: هل نقصتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا, قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء"، أخرجه البخاري. ويدل هذا الحديث أيضا على أن الثواب ليس على قدر النصب قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وهو من المصالح العامة لكل مجتاز بالطريق بإزالة الشوك والأحجار والأقذار مع مشقة ذلك وخفة النطق بكلمة الإيمان. فإن قيل هل تتفاوت رتب المعارف والإيمان بالفرض والنفل، كما تفاوتت رتب العبادات بالفرض والنفل؟ قلنا نعم فإن الإيمان الأول والتعرف الأول مفروض بالإجماع، واستحضارها بعد ذلك نفل لا يلزم تعاطيه، فيكون تفاوتهما لسبب الفرضية والنفلية لا بتفاوت شرفهما في أنفسهما فإنهما متساويان في الشرف والكمال، إلا ما استثني من وجوب التشهد في الصلاة ونحوه. وأما التفاوت في الأحوال فظاهر فإن مرتبة التعظيم والإجلال أكمل من مرتبة الخوف والرجاء، لأن الإعظام والإجلال صدرا عن ملاحظة الذات والصفات فكان لهما شرفان: أحدهما من مصدرهما، والثاني من تعلقهما. وأما الخوف والرجاء فإن الخوف صدر على ملاحظة العقوبات والرجاء صدر عن ملاحظة المثوبات، وتعلقا بما صدرا عنه فانحطا عن التعظيم والإجلال بمرتبتين، وكذلك رتبة المحبة الصادرة عن ملاحظة الإنعام والأفضال منحطة عن رتبة المحبة الصادرة عن ملاحظة الكمال والجمال، لصدور تلك المحبة عن ملاحظة الأغيار، وصدور محبة الإجلال عن ملاحظة أوصاف(1/27)
الجمال والكمال، والتعظيم والمهابة أفضل من المحبة الصادرة عن معرفة الجلال والجمال لما في المحبة من اللذة بجمال المحبوب، بخلاف المعظم الهائب فإن الهيبة والتعظيم يقتضيان التصاغر والانقباض، ولا حظ للنفس في ذلك فخلص لله وحده. فإن قيل هل يستوي الحاج عن نفسه والمحجوج عنه في مقاصد الحج؟ قلنا: قيل يستويان في براءة الذمة ولا يستويان في الأجر، وأين مجرد بذل الأجرة في مباشرة الحج والقيام بأركانه وشرائطه وسننه وآدابه مع تحمل مشقته، وما يحصل فيه من الخضوع والخشوع والتناوش والاستكانة والتعظيم، وهكذا الأبدال كلها لا تساوي مبدلاتها، فليس التيمم كالوضوء والغسل، وليس صوم الكفارة كإعتاقها ولا إطعامها كصيامها، ولا تساوت الأبدال والمبدلات في المصالح لما في شرط الانتقال إلى أحدهما من فقد الآخر. فإن قيل لو حصل للأجير على الحج تذلل وتمسكن وتناوش وخضوع وخشوع وإجلال وتعظيم ومهابة ومحبة وأنس وفرح وسرور وخوف ورجاء وبكاء واستحياء، فهل يحصل أجر ذلك للمحجوج عنه؟ قلنا: لا فإن الإجارة متعلقة بأركان الحج وواجباته وسننه ولا يحصل فيه من أعمال القلوب إلا النية لوقوف الصحة عليها، ولا يحصل شيء من ذلك للمحجوج عنه، لأن الإجارة لم تتناوله، بل لو استؤجر عليه لم يصح للعجز عنه في الغالب، وعدم الاحتياج إليه بخلاف الحج وسننه.
فإن قيل. ما تقولون في من سد جوعة مسكين في عشرة أيام؟ هل يساوي أجره أجر من سد جوعة عشرة مساكين، مع أن الفرض سد عشر جوعات، والكل عباد الله، والفرض الإحسان إليهم، فأي فرق بين تحصيل هذه المصالح في محل واحد أو في محال متعددة؟ قلنا لا يستويان لأن الجماعة يمكن أن يكون فيهم ولي لله أو أولياء له فيكون إطعامهم أفضل من تكرير إطعام واحد.
وقد حث الرب سبحانه وتعالى على الإحسان إلى الصالحين بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، ومثل هذا لا يتحقق في واحد بعينه،(1/28)
ولأنه يرجى من دعاء الجماعة ما لا يرجى من دعاء الواحد، كما يرجى من دعاء المصلين على الميت إذا بلغوا أربعين ما لا يرجى من دعائهم إذا نقصوا عن ذلك، كما جاء في الحديث، ولمثل هذا أوجب الشافعي رضي الله عنه صرف الزكاة إلى الأصناف، لما فيه من دفع أنواع من المفاسد وجلب أنواع من المصالح، فإن دفع الفقر والمسكنة نوع مخالف لدفع الرق عن المكاتبين، والغرم عن الغارمين، والغربة والانقطاع عن أبناء السبيل.
وكذلك التأليف على الدين عند من يرى أن سهم المؤلفة باق، وكذلك إعانة المجاهدين على الجهاد الذي هو تلو الإيمان برب العالمين.
فإن قيل: قد يترتب الشرع على الفعل اليسير مثل ما يترتب على الفعل الخطير، كما رتب غفران الذنوب على الحج المبرور، ورتب مثل ذلك على موافقة تأمين المصلي تأمين الملائكة، ورتب غفران الذنوب على قيام ليلة القدر، كما رتبه على قيام جميع رمضان، فالجواب أن هذه الطاعات وإن تساوت في التكفير فلا تساوي بينها في الأجور؛ فإن الله سبحانه وتعالى رتب على الحسنات رفع الدرجات وتكفير السيئات، ولا يلزم من التساوي في تكفير السيئات التساوي في رفع الدرجات، وكلامنا في جملة ما يترتب على الفعل من جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك مختلف فيه باختلاف الأعمال. فمن الأعمال ما يكون شريفا بنفسه وفيما رتب عليه من جلب المصالح ودرء المفاسد، فيكون القليل منه أفضل من الكثير من غيره، والخفيف منه أفضل من الشاق من غيره، ولا يكون الثواب على قدر النصب في مثل هذا الباب كما ظن بعض الجهلة، بل ثوابه على قدر خطره في نفسه، كالمعارف العلية والأحوال السنية والكلمات المرضية. فرب عبادة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان وعبادة ثقيلة على الإنسان خفيفة في الميزان بدليل أن التوحيد خفيف على الجنان واللسان وهو أفضل ما أعطيه الإنسان ومن به الرحمن، والتفوه به أفضل كل كلام، بدليل أنه يوجب الجنان ويدرأ غضب الديان، وقد صرح(1/29)
عليه الصلاة السلام بأنه أفضل الأعمال، لما قيل له أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله"، وجعل الجهاد دونه مع أنه أشق منه، وكذلك معرفة التوحيد أفضل المعارف، واعتقاده أفضل الاعتقادات، مع سهولة ذلك وخفته مع تحققه، وقد كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وكانت شاقة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته مع خفتها وقرتها، وكذلك إعطاء الزكاة عن طيب نفس أفضل من إعطائها مع البخل، ومجاهدة النفس.
وكذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة.
وجعل للذي يقرؤه يتعتع فيه وهو عليه شاق أجرين، ومما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات ما روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟" قالوا: بلى قال: "ذكر الله"، قال معاذ بن جبل: ما شيء أنجا من عذاب الله من ذكر الله، رواه الترمذي.
ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه"، أخرجه مسلم في صحيحه. وكذلك قوله عليه السلام فيما رواه أبو هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" ، أخرجاه في الصحيحين.
والحاصل بأن الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف، فإن تساوى العملان من كل وجه كان أكثر الثواب على أكثرهما لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}.(1/30)
فصل: فيما يتفاوت أجره بتفاوت تحمل مشقته
...
فصل: فيما يتفاوت أجره بتفاوت تحمل مشقته
إن قيل: ما ضابط الفعل الشاق الذي يؤجر عليه أكثر مما يؤجر على الخفيف؟ قلت: إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقا فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله سبحانه وتعالى، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق، إذ لا يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس عين المشاق تعظيما ولا توقيرا. ويدل على ذلك أن من تحمل مشقة في خدمة إنسان فإنه يرى ذلك لا لأجل كونه شق عليه وإنما يراه له بسبب تحمل مشقة الخدمة لأجله، وذلك كالاغتسال في الصيف والربيع بالنسبة إلى الاغتسال في شدة برد الشتاء؛ فإن أجرهما سواء لتساويهما في الشرائط والسنن والأركان، ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء لأجل تحمل مشقة البرد، فليس التفاوت في نفس الغسلين وإنما التفاوت فيما لزم عنهما. وكذلك مشاق الوسائل في من يقصد المساجد والحج والغزو من مسافة قريبة، وآخر يقصد هذه العبادات من مسافة بعيدة، فإن ثوابيهما يتفاوتان بتفاوت الوسيلة، ويتساويان من جهة القيام بسنن هذه العبادات وشرائطها وأركانها. فإن الشرع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد، مع تفاوت أجور الوسائل والمقاصد. وكذلك جعل لكل خطوة يخطوها المصلي إلى إقامة الجماعة رفع درجة وحط خطيئة، وجعل أبعدهم ممشى إلى الصلاة أعظم أجرا من أقربهم ممشى إليها، وكذلك جعل للمسافرين إلى الجهاد - بما يلقونه من الظمأ والنصب والمخمصة والنفقة الصغيرة والكبيرة وقطع الأودية وبما ينالونه من الأعداء وبالوطء الغائظ للكفار - أجر عمل صالح، فكذلك تحمل المشاق الناشئة عن العبادة أو عن وسائل العبادة، ويختلف أجر تحمل المشاق بشدة المشاق وخفتها.
فإن قيل قد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مسندا عن عائشة أنها قالت:(1/31)
قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؟ قال: "انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه ثم الحقينا عند كذا وكذا". قال أظنه قال: "غدا ولكنها على قدر نصبك أو قال نفقتك". قلت: هذا مشكوك فيه هل قال: "قدر نصبك أو قال قدر نفقتك" فإن كان الواقع قوله: على قدر نفقتك فلا شك أن ما ينفق في طاعة الله يفرق بين قليله وكثيره، وإن كان الواقع قوله: على قدر نصبك فيجب أن يكون التقدير على قدر تحمل نصبك لما ذكرناه، وقد قيل: إن في بعض كتب الله أنه قال: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي. وقد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة. بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب المريض باستعمال الدواء المر البشع، فإنه ليس غرضه إلا الشفاء، ولو قال قائل كان غرض الطبيب أن يوجده مشقة ألم مرارة الدواء، لما حسن ذلك فيمن يقصد الإصلاح. وكذلك الوالد يقطع من ولده اليد المتآكلة حفظا لمهجته ليس غرضه إيجاده ألم القطع، وإنما غرضه حفظ مهجته مع أنه يفعل ذلك متوجعا متألما لقطع يده. وقد قال عليه السلام فيما حكاه عن ربه عز وجل أنه قال: "وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه" ولا شك أن المشاق من حيث إنها مشاق تسوء المؤمن وغيره، وإنما يهون أمرها لما يبتنى على تحملها من الأجر والثواب، ويكون قليل العمل البدني أفضل من كثيره، وخفيفه أفضل من ثقيله، كتفضيل القصر على الإتمام، وكتفضيل صلاة الصبح مع نقص ركعاتها على سائر الصلوات عند من رآها الصلاة الوسطى، مع أنها أقصر من صلاة العصر على ما جاءت به السنة، والله تعالى يؤتي فضله من يشاء، ولو كان الثواب على قدر النصب مطلقا، لما كان الأمر كذلك، ولما فضلت ركعة الوتر على ركعتي الفجر، ولما فضلت ركعتا الفجر على مثلها من الرواتب. وأما الإبراد بالظهر(1/32)
مع ما فيه من تفويت المبادرة إلى الصلاة فإنه من باب تقديم مصلحة راجحة على مصلحة مرجوحة، فإن المشي إلى الجماعات في شدة الحر يشوش الخشوع الذي هو أفضل أوصاف الصلاة، فقدم الخشوع الذي هو من أفضل أوصاف الصلاة على المبادرة التي لا تدانيه في الرتبة، ولهذا المعنى أمر بالمشي إلى الجماعة بالسكينة والوقار مع ما فيه من تفويت النداء وتكميل الاقتداء بالإمام، لأنه لو أسرع لانزعج وذهب خشوعه؛ فقدم الشرع رعاية الخشوع على المبادرة وعلى الاقتداء في جميع الصلوات، وكذلك تؤخر الصلاة بكل ما يشوش الخشوع كإفراط الظمأ والجوع، وكذلك يؤخرها الحاقن والحاقب، وينبغي أن يؤخر بكل مشوش يؤخر الحاكم الحكم بمثله. وكذلك تؤخر الصلاة إلى آخر الأوقات في حق من يتيقن وجود الماء في أواخر الأوقات؛ لأن فضيلة الصلاة بطهارة الماء أفضل من المبادرة إلى الجماعات، وإنما فضلت لأن اهتمام الشرع بشرائط العبادات أعظم من اهتمامه بالسنن المكملات، ويدل على ذلك أن القادر على الماء لا يتخير بينه وبين التيمم، والقادر على المبادرة إلى الجماعات مخير بين المبادرة والجماعة وبين التأخير والانفراد، ولو كانت مصلحة المبادرة كمصلحة استعمال الماء لتعينت عند القدرة عليها كما يتعين استعمال الماء، وإنما تحمل الصائم مشقة رائحة الخلوف، فقد فضله الشافعي على إزالة الخلوف بالسواك، مستدلا بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولم يوافق الشافعي على ذلك إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله عليه السلام: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وكم من عبادة قد أثنى الشرع عليها وذكر فضيلتها مع أن غيرها أفضل منها، وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فإن السواك نوع من التطهر المشروع لإجلال الرب سبحانه وتعالى، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه، ولأجله شرع السواك(1/33)
وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال إن فضيلة الخلوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه ؟، ويدل أن مصلحة السواك أعظم من مصلحة تحمل مشقة الخلوف قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، ولولا أن مصلحته أتم من مصلحة تحمل مشقة الخلوف لما أسقط إيجابه لمشقته، وهذا يدل على أن مصلحته انتهت إلى رتب الإيجاب. وقد نص على اعتباره بقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، والذي ذكره الشافعي رحمه الله تخصيص للعام لمجرد الاستدلال المذكور المعارض لما ذكرناه، ولا يصح قياسه على دم الشهيد؛ لأن المستاك مناج لربه، فشرع له تطهير فمه بالسواك، وجسد الميت قد صار جيفة غير مناجية، فلا يصح - مع ذلك - الإلحاق.(1/34)
فصل: في تساوي العقوبات العاجلة مع تفاوت المفاسد
...
فصل: في تساوي العقوبات العاجلة مع تفاوت المفاسد
قد تتساوى العقوبات العاجلة مع تفاوت الزلات مع أن الأغلب تفاوت العقوبات بتفاوت المخالفات، فإن من شرب قطرة من الخمر مقتصرا عليها يحد كما يحد من شرب ما أسكره وخبل عقله مع تفاوت المفسدتين، ولم يجعل الوسائل إلى الزنا والسرقة والقتل، مثل الزنا والسرقة والقتل، والفرق بينهما وبين شرب القطرة من الخمر خفة حد السكر وثقل ما عداه من الحدود، مع أن التوسل إلى السرقة والقتل لا يحرك الداعية إليهما، ولا يحث عليهما، بخلاف وسائل الزنا من النظر واللمس وغيرهما، فإنها تؤكد الحث عليه، والدعاة إليه، والقتل في الزواجر. فإن قيل هل يكون وزر من سرق ربع دينار كوزر من سرق ألف دينار لاستوائهما في القطع؟ قلنا: لا، بل يتفاوت وزرهما في الدار الآخرة بتفاوت مفسدة سرقتيهما. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}, {إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}. والقطع الواجب في الألف متعلق بربع دينار من الألف، ولا يلزم من الاستواء في(1/34)
العقوبة العاجلة الاستواء في العقوبة الآجلة، ويجوز أن يجاب بمثل هذا في حدي القطرة والسكرة. لكن الحدود كفارة لأهلها، فقد استويا في الحدين وتكفير الذنبين. وفي السرقتين. استويا في المفسدتين، وهما أخذ ربع دينار، فيكفر الحدان ما يتعلق بربع الدينار من السرقتين، ويبقى الزائد إلى تمام الألف لا مقابل له ولا تكفير. وأما تفاوت حدي زنا البكر والمحصن، ففيه إشكال يسر الله حله.
فإن قيل لم فرق بين الأحرار والعبيد في الحدود مع تساويهم في الجرائم وتحقيق المفاسد؟ قلنا: تعذيب الأماثل على الإساءة أشد من تعذيب الأراذل؛ لأن صدور المعصية منهم مع الإنعام عليهم والإحسان إليهم أقبح من صدورها من الأراذل. ألا ترى إلى قوله، {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}، وإلى قوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}، وإلى قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ, لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ, ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.
وإنما كان كذلك لما يجب على المنعم عليه المفضل من شكر إحسان المنعم المتفضل، فإذا قابل إحسانه بعصيانه، كان ذلك أقبح من عصيان غيره. ولذلك قبحت معصية الوالدين وعقوقهما لما يجب من شكر إنعامهما بتربيتهما، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ولو سب الوزير الملك بمسبة سبه بها السائس لاستحق العذاب الأليم، ولم يسو بينه وبين السائس لأجل الإنعام عليه، والإحسان إليه.
فإن قيل قد سويتم بين الأحرار والعبيد في قطع السرقة وقتل المحاربة؟ قلنا: سوينا بينهما لتعذر تبعيض القطع والقتل.
فإن قيل هل يستوي إثم الذابح، وإثم من قطع أنملة إنسان فسرت إلى نفسه؟ فالجواب أنهما متساويان في الكفارة والدية والقصاص، ويتفاوتان في العقوبة الآجلة؛ لأن جرأة الذابح على انتهاك الحرمة في الذبح أشد من جرأة القاطع على(1/35)
انتهاك الحرمة في القطع، وكذلك لو جرح أحد الجانيين جرحا واحدا وجرح الآخر مائة جراحة، أو قطع أحدهما أنملة واحدة وقطع الآخر جميع الأعضاء والأنامل، فمات المجني عليه بذلك، فإنهما يتفاوتان في عقوبة الآخرة لتفاوتهما في تعدد المعصية وعظم الجرأة، مع تساويهما في الدية والكفارة والقصاص. وكذلك لو ذبح الجاني رجلا أو قطع الجاني الآخر رجلا إربا إربا حتى مات، فإنهما يتساويان في العهدة العاجلة، ويتفاوتان في العقوبة الآجلة لعظم. الجرأة، وتعدد المعصية في أحدهما واتحادها في الآخر، وكذلك قتل المثلة أعظم وزرا من الذبح وقطع الرقبة.
فإن قيل هل يحرم الرب ما لا مفسدة فيه؟ قلنا: نعم، قد يحرم الرب ما لا مفسدة فيه عقوبة لمخالفته وحرمانا لهم أو تعبدا. أما تحريم الحرمات، فكما حرم على اليهود كل ذي ظفر، وكما حرم عليهم الثروب من البقر والغنم، عقوبة لهم لا لمفسدة في ذلك، ولو كان فيه مفسدة لما أحل ذلك لنا مع أنا أكرم عليه منهم. وقد نص على ذلك بقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} ، وبقوله: {بِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}. وأما تحريم التعبد فكتحريم الصيد في الإحرام، والدهن والطيب واللباس، فإنها لم تحرم لصفة قائمة بها تقتضي تحريمها، بل لأمر خارج عن أوصافها، وصار ذلك بمثابة أكل مال الغير، فإنه لم يحرم لصفة قائمة به، وإنما حرم لأمر خارج.(1/36)
فصل: في انقسام المصالح إلى العاجل و الآجل
...
فصل: في انقسام المصالح إلى العاجل والآجل
المصالح ثلاثة أقسام: أحدها واجب التحصيل، فإن عظمت المصلحة وجبت في كل شريعة. القسم الثاني: مندوبة التحصيل، الثالث مباحة التحصيل ثم المصالح ثلاثة أضرب: أحدهما: أخروية وهي متوقعة الحصول، إذ لا يعرف أحد بم يختم له؟ ولو عرف ذلك لم يقطع بالقبول، ولو قطع بالقبول لم يقطع بحصول ثوابها ومصالحها، لجواز ذهابها بالموازنة والمقاصة(1/36)
الضرب الثاني: مصالح دنيوية وهي قسمان أحدهما ناجز الحصول كمصالح المآكل والمشارب والملابس، والمناكح والمساكن والمراكب، وكذلك مصالح المعاملات الناجزة الأعواض وحيازة المباح - كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب. القسم الثاني: متوقع الحصول كالاتجار لتحصيل الأرباح وكذلك الاتجار في أموال اليتامى لما يتوقع فيها من الأرباح. وكذلك تعليمهم الصنائع والعلوم لما يتوقع من مصالحها وفوائدها، وكذلك بناء الدار وزرع الحبوب وغرس الأشجار، وكل ذلك مصالحه متوقعة غير مقطوع بها، وكذلك ما يتوقع من مصالح الانزجار من الحدود والعقوبات الشرعية.
الضرب الثالث: ما يكون له مصلحتان إحداهما عاجلة والأخرى آجلة كالكفارات والعبادات الماليات، فإن مصالحها العاجلة لقابليها، والآجلة لباذليها، فمصالحها العاجلة ناجزة الحصول، والآجلة متوقعة الحصول.(1/37)
فصل: في انقسام المفاسد إلى العاجل و الآجل
...
فصل: في انقسام المفاسد إلى العاجل والآجل
المفاسد ثلاثة أقسام - أحدها: ما يجب درؤه فإن عظمت مفسدته وجب درؤه في كل شريعة وذلك كالكفر والقتل والزنا والغصب وإفساد العقول. القسم الثاني: ما تختلف فيه الشرائع فيحظر في شرع ويباح في آخر تشديدا على من حرم عليه، وتخفيفا على من أبيح له، الثالث: ما تدرؤه الشرائع كراهية له. ثم المفاسد ثلاثة أضرب: أحدها أخروية وهي متوقعة الحصول لا يقطع بتحققها لأنها قد تسقط بالتوبة أو العفو أو الشفاعة أو الموازنة. الضرب الثاني: دنيوية وهي قسمان: أحدهما: ناجز الحصول كالكفر والجهل الواجب الإزالة، وكالجوع والظمأ والعري وضرر الصيال والقتال. القسم الثاني: متوقع الحصول كقتال من يقصدنا من الكفار والبغاة وأهل الصيال. الضرب الثالث: ما يكون له مفسدتان: إحداهما عاجلة والأخرى آجلة، كالكفر، فالعاجلة ناجزة الحصول والآجلة متوقعة الحصول. وأما ما يكون مفسدته عاجلة ومصلحته آجلة فكالصيال على الدماء(1/37)
والأبضاع والأموال، فإن درء مفسدته عاجل حاصل لمن درئت عنه، ومصلحة درئه آجلة لمن درأه.
[فائدة] إذا عظمت المصلحة، أوجبها الرب في كل شريعة. وكذلك إذا عظمت المفسدة، حرمها في كل شريعة، وإن تفاوتت رتب المصالح والمفاسد فقد يقدم الشرع بعض المصالح في بعض الشرائع على غيرها، ويخالف ذلك في بعض الشرائع. وكذلك المفاسد، فالقصاص في شريعة موسى واجب حقا لله كما في حد السرقة والزنا، وهو عندنا حق للعبد مقترن بحق الرب، ورجح فيه حق العبد على حق الرب في شرعنا نظرا للجاني ولولي الدم.
وكذلك حرم في النكاح الزيادة على امرأة واحدة في شرع عيسى نظرا للنساء وكيلا يتضررن بكثرة الضرائر والإماء، وأجازه من غير حصر في شريعة موسى لمن قدر على القيام بالوطء ومؤن النكاح، وأجاز في شرعنا الزيادة على واحدة نظرا للرجال وحرم الزيادة على الأربع نظرا للنساء ورحمة بهن، ووطء الإماء من غير حصر نظرا للرجال.(1/38)
فصل: في تفاوت الأعمال مع تساويها باختلاف الأماكن و الأزمان
...
فصل: في تفاوت الأعمال مع تساويها باختلاف الأماكن والأزمان
اعلم أن الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما، ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه فإن له أن يعاقب بغير كفر ولا عصيان، ويتفضل بغير طاعة وإيمان، وقد صح أنه ينشئ في الجنة أقواما وفي الجنة آخرين. وكذلك من خلقه في الجنان من الحور العين. وتفضيل الأماكن والأزمان ضربان: أحدهما دنيوي كتفضيل الربيع على غيره من الأزمان، وكتفضيل بعض البلدان على بعض بما فيها من الأنهار والثمار وطيب الهواء وموافقة الأهواء. الضرب الثاني: تفضل ديني راجع إلى أن الله يجود على عباده فيهما بتفضيل أجر العاملين كتفضيل صوم رمضان على صوم سائر الشهور وكذلك يوم عاشوراء وعشر(1/38)
ذي الحجة، ويوم الاثنين والخميس وشعبان وستة أيام من شوال، فضلهما راجع إلى جود الله وإحسانه إلى عباده فيها، وكذلك فضل الثلث الأخير من كل ليلة راجع إلى أن الله يعطي فيه من إجابة الدعوات والمغفرة وإعطاء السؤال ونيل المأمول ما لا يعطيه في الثلثين الأولين. وكذلك اختصاص عرفة بالوقوف فيها، ومنى بالرمي فيها، والصفا والمروة بالسعي فيهما، مع القطع بتساوي الأماكن والأزمان، وكذلك تفضيل مكة على سائر البلدان.(1/39)
فصل: في تفضيل مكة على المدينة
...
فصل: في تفضيل مكة على المدينة
إن قيل: قد ذهب مالك رحمه الله إلى تفضيل المدينة على مكة، فما الدليل على تفضيل مكة عليها؟ قلنا معنى ذلك أن الله يجود على عباده في مكة بما لا يجود بمثله في المدينة، وذلك من وجوه: أحدها: وجوب قصدها للحج والعمرة وهذان واجبان لا يقع مثلهما في المدينة، فالإثابة عليهما إثابة على واجب، ولا يجب قصد المدينة بل قصدها بعد موت الرسول عليه السلام بسبب زيارته سنة غير واجبة. الوجه الثاني: إن فضلت المدينة بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، كانت مكة أفضل منها؛ لأنه أقام بها بعد النبوة ثلاث عشرة سنة أو خمس عشرة سنة وأقام بالمدينة عشرا. الوجه الثالث: إن فضلت المدينة بكثرة الطارقين من عباد الله الصالحين، فمكة أفضل منها بكثرة من طرقها من الصالحين والأنبياء والمرسلين، وما من نبي إلا حجها آدم ومن دونه من الأنبياء والأولياء، ولو كان لملك داران فضليان فأوجب على عبيده أن يأتوا إحدى داريه، ووعدهم على ذلك بغفران سيئاتهم ورفع درجاتهم وإسكانهم في قربه وجواره في أفضل دوره، لم يرتب ذو لب أن اهتمامه بهذا المكان أتم من اهتمامه بغيره من بيوته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" . وقال: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، وقال في المدينة، "من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة". الوجه الرابع: أن التقبيل والاستلام ضرب(1/39)
من الاحترام وهما مختصان بالركنين اليمانيين ولم يوجد مثل ذلك في مسجد المدينة على ساكنها أفضل السلام. الوجه الخامس: أن الله أوجب علينا استقبالها في الصلاة حيثما كنا من البلاد والفلوات، فإن قيل إن دلت الصلاة إليها على فضلها فلتكن الصخرة أفضل منها لما وجبت الصلاة إليها؟ فالجواب إن صلاته وصلاة أمته إلى الكعبة أطول زمانا، فإنها قبلتهم إلى القيامة، ولولا أن مصلحتها أكبر لما اختارها لهم على الدوام، وكل فعل نسخ إيجابه إلى غيره كان كل واحد منهما في زمانه أفضل من الآخر أو مثله لقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، وكونه أفضل في زمانه وجه، لا يدل على فضله على ما هو أفضل من وجوه شتى. الوجه السادس: أن الله حرم علينا استدبار الكعبة واستقبالها عند قضاء الحاجات. الوجه السابع: أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض، فلم تحل لأحد من الرسل والأنبياء إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإنها أحلت له ساعة من نهار. الوجه الثامن: أن الله بوأها لإبراهيم الخليل عليه السلام، ولابنه إسماعيل عليه السلام، وجعلها مبوأ ومولدا لسيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. الوجه التاسع: أن الله جعلها حرما آمنا في الجاهلية والإسلام. الوجه العاشر: أن مكة لا تدخل إلا بحج أو عمرة، إما وجوبا أو ندبا، وليس في المدينة مثل ذلك ولا بدل منه. الوجه الحادي عشر: أن الله عز وجل قال في مكة: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، عبر بالمسجد الحرام عن الحرم كله، وهذا من مجاز التعبير بالبعض عن الكل، كما يعبر بالوجه عن الجملة، وبالرأس عن الجملة. الوجه الثاني عشر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لدخول مكة، وهو مسنون ولم ينقل في المدينة مثل ذلك، وفي هذا نظر من جهة أن اغتساله لأجل الحج لا لأجل دخول البلد كما في غسل الإحرام، وقد أثنى الله على البيت في كتابه بما لم يثن على المدينة فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}، وكيف لا نعتقد أن مكانا أوجب الله إتيانه على كل مستطيع أفضل من مكان لا يجب(1/40)
إتيانه، ومن شرف مكة أن الصلاة لا تكره فيها في الأوقات المكروهات لما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. وأما ما رواه من قوله عليه السلام: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك". فهذا حديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن صح فهو من المجاز الذي لا يعرفه كثير من الناس، وهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه، ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر كقوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} وصفها بالطيب الذي هو صفة لهوائها. وكذلك الأرض المقدسة وصفت بالقدس الذي هو وصف لمن حل بها من الأنبياء والأولياء المقدسين من الذنوب والخطايا، وكذلك الوادي المقدس وصف بقدس موسى عليه السلام وبقدس الملائكة الذين حلوا فيه. وكذلك قوله عليه السلام: "أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها"، أراد بمحبة المساجد محبة ما يقع فيها من ذكره وتلاوة كتابه والاعتكاف والصلوات، وأراد ببغض الأسواق ما يقع فيها من الغش والخيانة وسوء المعاملة، مع كون أهلها لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ولا يغضون الأبصار عن المحرمات وكذلك قولهم بلد خائف وآمن وصف بصفة من حل فيه من الخائفين والآمنين، فكذلك وصفه بكونه محبوبا هو وصف بما حصل فيه مما يحبه الله ورسوله، وهو إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاده أهله إلى ما بعث به، فكانت حينئذ واجبة عليه، ومعلوم أن ما كان أحب إلى الله كان أحب إلى رسوله، وكذلك لما هاجر إلى المدينة كانت إقامته بها وإرشاده أهلها أحب إلى الله وإليه صلى الله عليه وسلم من إقامته بغيرها، ومعلوم أن الطاعة التي هي أحب إلى الله من غيرها أحب إلى رسوله من جميع الطاعات، ولا يلزم من قوله أحب البقاع إليك ألا تكون أحب إلى رسوله. كما لا يلزم من قوله أحب البقاع إلى أن تكون أحب(1/41)
البقاع إلى ربه. فالتعبير بالأحب في البلدين دال على أن كل واحد من البلدين أحب إلى الله وإلى رسوله، إذ لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالف ربه في محبة ما أحبه. ويجوز أن يوصف كل واحد من البلدين بحسب ما وقع فيه: من إبلاغ الرسالة، والأمر بالطاعات، والنهي عن المعاصي، وكل ذلك أحب إلى الله ورسوله مما سواه من النوافل، وأحسن من هذا أن يكون المعنى: أخرجتني من أحب البقاع إلي في أمر معاشي فأسكني أحب البقاع إليك في أمر معادي وهذا متجه ظاهر، فإنه لم يزل في زيادة من دينه وتبليغ أمره إلى أن تكامل الوحي وبشره بإكمال دينه وإتمام إنعامه بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}. ومما يدل على أن الأماكن والأزمان يوصفان بصفة ما يقع فيهما قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} فوصفهما بصفة أهلهما. وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} وصفها بالتحريم الواقع فيها وهو تحريم صيدها، وعضد شجرها واختلاء خلائها، وتحريم التقاط لقطتها إلا لمنشد. وكذلك وصف سبحانه وتعالى الأشهر بالتحريم. في قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}. وفي قوله. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}. وقالت العرب. يوم بارد وليل نائم، ونهار صائم، ومنه قول جرير: ونمت وما ليل المطي بنائم
وفي الكتاب. {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وكذلك يوم عصيب، وقمطرير، وثقيل. كل ذلك صفة لما يحصل في تلك الأزمان، وكذلك وصف ليلة القدر بكونها خيرا من ألف شهر، إنما هو وصف للعمل الواقع فيها. وأما فضل الثغور فعائد إلى فضيلة الرباط فيها على نية الجهاد - فيثاب حاضروها على نية الجهاد - وعلى التسبب إليه بالإقامة فيها، وكذلك حراستها ممن يقصدها من الكفار. وأما فضيلة المساجد فليست راجعة إلى أجرامها ولا إلى أعراض قامت بأجرامها، وإنما ترجع فضيلتها إلى مقصودها من إقامة الجماعات والجمعات فيها.(1/42)
وكذلك الاعتكاف فيها، وكذلك منع من البيع والشراء فيها، وإيداع الأماكن والأزمان لهذه الفضائل كإيداع الأنبياء والرسل النبوة والرسالة ليس إلا جودا من الله، ولذلك قالت الرسل لقومهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. وكذلك سائر الأوصاف الشراف لم يضعها الرب سبحانه وتعالى فيمن يشاء من عباده لمعنى اقتضاها واستدعاها، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. وكذلك ما من به من المعارف والأحوال وحسن الأخلاق، لم يكن ذلك إلا فضلا من فضله وجودا من جوده على من يشاء من عباده، فكذلك الأماكن والأزمان أودع الله في بعضها فضلا لا وجود له في غيرها، مع القطع بالتماثل والمساواة، وكذلك الأجسام التي فضلت بأعراضها كالذهب والفضة، وسائر الجواهر النفيسة.(1/43)
فصل: في انقسام جلب المصالح و درء المفاسد إلى فروض كفايات و فروض أعيان
...
فصل: في انقسام جلب المصالح ودرء المفاسد إلى فروض كفايات وفروض أعيان
اعلم أن المصالح ضربان: أحدهما ما يثاب على فعله لعظم المصلحة في فعله، ويعاقب على تركه لعظم المفسدة في تركه وهو ضربان: أحدهما فرض على الكفاية كتعلم الأحكام الشرعية الزائدة على ما يتعين تعلمه على المكلفين إلى نيل رتبة الفتيا، وكجهاد الطلب وجهاد الدفع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإطعام المضطرين، وكسوة العارين وإغاثة المستغيثين، والفتاوى والأحكام بين ذوي الاختصام، والإمامة العظمى والشهادات، وتجهيز الأموات، وإعانة الأئمة والحكام وحفظ القرآن. والثاني: فرض على الأعيان كتعلم ما يتعين تعلمه من أحكام الشريعة، وقراءة الفاتحة، وأركان الصلاة، وغير ذلك من عبادات الأعيان، وكذلك الحج والعمرة والصلوات والزكاة والصيام. واعلم أن المقصود لفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان(1/43)
بتكليفه، والمقصود بتكليف الأعيان حصول المصلحة لكل واحد من المكلفين على حدته، لتظهر طاعته أو معصيته، فلذلك لا يسقط فرض العين إلا بفعل المكلف به، ويسقط فرض الكفاية بفعل القائمين به دون من كلف به في ابتداء الأمر. أما سقوطه عن فاعليه فلأنهم قاموا بتحصيل مصلحته، وأما سقوطه عن الباقين فلتعذر التكليف به والتكليف تارة يسقط بالامتثال، وتارة يسقط بتعذر الامتثال، فإذا خاض في فرض الكفاية من يستقل به ثم لحقه آخرون قبل تحصيل مصلحته، كان ما فعلوه فرضا وإن حصلت الكفاية بغيرهم، لأن مصلحته لم تحصل بعد ذلك، ولذلك أمثلة: أحدها: أن يخرج إلى العدو من يستقل بدفعهم ثم يلحق بهم آخرون قبل انقضاء القتال، فيكتب لهم أجر الفرض، وإن تفاوتت رتبهم في الثواب بقلة العمل وكثرته. المثال الثاني: أن يقوم بغسل الميت أو تكفينه أو الصلاة عليه أو حمله أو دفنه من تحصل به الكفاية، ثم يلحقهم من يشاركهم في ذلك، فيكون له أجر فرض الكفاية على قدر عمله. المثال الثالث: أن يشتغل بعلم الشرع من تحصل به الكفاية الواجبة، ثم يلحق بهم من يشتغل به فيكون مفترضا لأن المصلحة لم تكمل بعد. فإن قيل: لو صلى على الجنازة ثانيا من لم يصل عليها أولا بعد إسقاط فرضها في الحكم لكانت الصلاة الثانية فرضا عند أصحاب الشافعي، فكيف يحكم بأنها فرض مع سقوط الفرض بصلاة السابقين، وليس هذا كاللاحقين في الصلاة، لأن مصلحة الفرض لا تحصل إلا بالتحلل من الصلاة؟ فالجواب: أن جميع مصالح فروض الكفاية إذا أتي بها فقد دخلت في الوجود قطعا ولا يغلب ذلك على الظن، ومصلحة فرض الصلاة على الميت لا يقطع بدخولها في الوجود، لأن مقصودها الأعظم إجابة الدعاء وهو غيب لا اطلاع لنا عليه، فمن الجائز أن يقبل دعاء من تقدم إلى الصلاة فتكون الصلاة الثانية محصلة للمصلحة التي هي إجابة الدعاء، إذ لا يلزم من ههنا من ظهور المصلحة - إذا صلى عليه الأبرار - أن يتحقق في الباطن، بخلاف مصالح فروض الكفاية(1/44)
فإنها تتحقق ظاهرا وباطنا. ولذلك يكرر الدعاء على المطلوب الواحد كدعاء الفاتحة والقنوت وبين السجدتين، وكذلك يكرر التسليم والترحم على الأموات، ولو علمت الإجابة لكان الدعاء عبثا، وكذلك تكرير التسليم عند اللقاء والافتراق مع كونه دعاء بكل سلامة. وكذلك كرر الرسول صلى الله عليه وسلم الاستغفار في اليوم الواحد سبعين مرة أو مائة مرة ولم يكن ذلك لكثرة ما يستغفر منه بل للإلحاح في الاستغفار على تقصير واحد أو تقصيرين والله يحب الملحين في الدعاء.
فإن قيل: كيف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستغفار مع وعده بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قلنا وعد بغفران مبني على استغفاره كما وعد المؤمنون بنعيم الجنان المبني على الطاعات والإيمان. فإن قيل: هلا وجب تكرير صلاة الجنازة إلى أن يغلب على الظن حصول الإجابة؟ قلنا لا تكرر لما في التكرير من المشقة ولا ضابط لغلبة الظن في ذلك. فإن قيل. إذا بعد سقوط الفرض بصلاة الفجرة الذين نبعد إجابة دعائهم فهلا وجب أن يكون المصلون بررة يغلب على الظن قبول دعائهم؟ فالجواب أن البررة لا يتيسرون في أوقات حضور الجنائز ورب فاجر مقبول الدعاء لشدة تضرعه وقيامه بآداب الدعاء، ورب بر مردود الدعاء لتقصيره في القيام بآدابه.(1/45)
الضرب الثاني من المصالح: ما يثاب على فعله و لا يعاقب على تركه
...
الضرب الثاني من المصالح: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه
وهو ضربان: أحدهما سنة على الكفاية كالأذان والإقامة، وتسليم بعض الجماعة على من مروا به من أهل الإسلام، وتشميت العاطس، وما يفعل بالأموات مما ندب إليه.
والثاني سنة على الأعيان كالرواتب، وصيام الأيام الفاضلة، وصلاة العيدين والكسوفين، والتهجد وعيادة المرضى، والاعتكاف والتطوع بالنسكين، والطواف من غير نسك، والصدقات المندوبات، ومصالح هذا دون مصالح الواجب.(1/45)
والمفاسد ضربان: أحدهما ما يعاقب على فعله ويؤجر على تركه إذا نوى بتركه القربة كالتعرض للدماء والأبضاع والأعراض والأموال. والثاني: ما لا يعاقب على فعله وتفوته مصلحة بتركه كالصلاة في الأوقات المكروهات، وغمس اليدين في الإناء قبل غسلهما لمن قام من المنام، وترك السنن المشروعات في الصلوات.(1/46)
فصل: في انقسام المصالح و المفاسد إلى الوسائل و المقاصد
...
فصل: في انقسام المصالح والمفاسد إلى الوسائل والمقاصد
الواجبات والمندوبات ضربان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل، وكذلك المكروهات والمحرمات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني: وسائل، وللوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل، ثم تترتب الوسائل بترتب المصالح والمفاسد، فمن وفقه الله للوقوف على ترتب المصالح عرف فاضلها من مفضولها، ومقدمها من مؤخرها، وقد يختلف العلماء في بعض رتب المصالح فيختلفون في تقديمها عند تعذر الجمع، وكذلك من وفقه الله لمعرفة رتب المفاسد فإنه يدرأ أعظمها بأخفها عند تزاحمها، وقد يختلف العلماء في بعض رتب المفاسد فيختلفون فيما يدرأ منها عند تعذر دفع جميعها، والشريعة طافحة بما ذكرناه وسنذكر أمثلة ذلك إن شاء الله تعالى.(1/46)
فصل: في بيان رتب المصالح
...
فصل: في بيان رتب المصالح
وهي ضربان: أحدهما مصلحة أوجبها الله عز وجل نظرا لعباده، وهي متفاوتة الرتب منقسمة إلى الفاضل والأفضل والمتوسط بينهما. فأفضل المصالح ما كان شريفا في نفسه، دافعا لأقبح المفاسد، جالبا لأرجح المصالح، وقد سئل عليه السلام أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله", قيل: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله", قيل: ثم أي؟ قال: "حج مبرور". جعل الإيمان أفضل الأعمال لجلبه لأحسن المصالح، ودرئه لأقبح المفاسد، مع شرفه في نفسه وشرف متعلقه، ومصالحه ضربان: أحدهما عاجلة وهي إجراء أحكام الإسلام، وصيانة(1/46)
فصل: في بيان رتب المفاسد
...
فصل: في بيان رتب المفاسد
وهي ضربان: ضرب حرم الله قربانه، وضرب كره الله إتيانه، والمفاسد ما حرم الله قربانه رتبتان إحداهما: رتبة الكبائر وهي منقسمة إلى الكبير والأكبر والمتوسط بينهما، فالأكبر أعظم الكبائر مفسدة. وكذلك الأنقص فالأنقص، ولا تزال مفاسد الكبائر تتناقص إلى أن تنتهي إلى مفسدة لو نقصت لوقعت في أعظم رتب مفاسد الصغائر وهي الرتبة الثانية. ثم لا تزال مفاسد الصغائر تتناقص إلى أن تنتهي إلى مفسدة لو فاتت لانتهت إلى أعلى رتب مفاسد المكروهات وهي الضرب الثاني من رتب المفاسد، ولا تزال تتناقص مفاسد المكروهات إلى أن تنتهي إلى حد لو زال لوقعت في المباح. وقد أبان صلى الله عليه وسلم من تفاوت الكبائر ثلاث مراتب، إذ سئل عليه السلام أي الذنوب أكبر؟ فقال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"، قيل ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قيل. ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" جعل الكفر أكبر الكبائر مع قبحه في نفسه، لجلبه لأقبح المفاسد ودرئه لأحسن المصالح,(1/48)
فإنه يجلب مفاسد الكفر ويدرأ مصالح الإيمان. ومفاسده ضربان: أحدهما عاجل وهو إراقة الدماء وسلب الأموال وإرقاق الحرم والأطفال. الضرب الثاني: آجل وهو خلود النيران مع سخط الديان. وأما درؤه لأحسن المصالح فإنه يدرأ في الدنيا عن المشركين التوحيد والإيمان وعن الإسلام والأمن من القتل والسبي واغتنام الأموال، ويدرأ في الآخرة نعيم الجنان ورضا الرحمن. وجعل قتل الأولاد تاليا لاتخاذ الأنداد، لما فيه من الإفساد وقطع الأرحام والخروج من حيز العدالة إلى حيز الفسوق والعصيان، مع التعرض لعقاب الآخرة، وتغريم الدية والكفارة، والانعزال عن الولاية التي تشترط فيها العدالة وجعل الزنا بحليلة جاره تلو قتل الأولاد لما في ذلك من مفاسد الزنا كاختلاف المياه واشتباه الأنساب وحصول العار، وأذية الجار، والتعرض لحد الدنيا أو لعقاب الآخرة، والانتقال من حيز العدالة إلى حيز الفسوق والعصيان والانعزال عن جميع الولايات.
فصل: تنقسم المصالح والمفاسد إلى نفيس وخسيس، ودقيق وجل، وكثر وقل، وجلي وخفي، وآجل أخروي وعاجل دنيوي، والدنيوي ينقسم إلى متوقع وواقع، ومختلف فيه ومتفق عليه، وكذلك ترجيح بعض المصالح على بعض، وترجيح بعض المصالح على بعض، وترجيح بعض المفاسد على بعض، ينقسم إلى المتفق عليه والمختلف فيه، فالسعيد من فعل ما اتفق على صلاحه، وترك ما اتفق على فساده، وأسعد منه من ضم إلى ذلك فعل ما اختلف في صلاحه، وترك ما اختلف في فساده.
فإن الاحتياط لحيازة المصالح بالفعل ولاجتناب المفاسد بالترك، وقليل من يفعل ذلك. وقد يعبر عن القليل بالمعدوم. فمن المصالح والمفاسد ما يشترك في معرفته الخاصة والعامة، ومنها ما ينفرد بمعرفته خاصة الخاصة، ولا يقف على الخفي من ذلك كله إلا من وفقه الله بنور يقذفه في قلبه، وهذا جار في مصالح الدارين ومفاسدهما، وفي مثله طال الخلاف والنزاع بين(1/49)
الناس في علوم الشرائع والطبائع، وتدبير المسالك والمهالك، وغير ذلك من الولايات والنيات وجميع التصرفات، ولأجل الاختلاف في ذلك منع الشرع من نصب الخليفتين لما يقع بينهما من الاختلافات في المصالح والأصلح والمفاسد والأفسد، لأنه لو جوز نصبهما لتعطل تحصيل ما خفي من المصالح واجتناب ما خفي من المفاسد، وكذلك ترجيح الخفي. وأما نصب القضاء مع اختلافهم في الأحكام فيجوز لأن مصالح القضاء خاصة، ومصالح الخلافة عامة، ويتعذر نصب قاض واحد لجميع الناس ولا شك أن نصب القضاة والولاة من الوسائل إلى جلب المصالح العامة والخاصة. وأما نصب أعوان القضاة والولاة فمن وسائل الوسائل. وكذلك الرسائل الإلهية وسائل إلى تحصيل مقاصد الشرائع وهي من أفضل الوسائل وكذلك تحمل الشهادات وسيلة إلى أدائها، وأداؤها وسيلة إلى الحكم بها والحكم بها وسيلة إلى جلب المصالح ودرء المفاسد.(1/50)
فصل: فيما يخفى من المصالح و المفاسد من غير تعبد
...
فصل: فيما يخفى من المصالح والمفاسد من غير تعبد
الأفعال ضربان: أحدهما ما خفيت عنا مصالحه ومفاسده فلا نقدم عليه حتى تظهر مصلحته المجردة عن المفسدة أو الراجحة عليها، وهذا الذي جاءت الشريعة بمدح الأناة فيه إلى أن يظهر رشده وصلاحه. الضرب الثاني ما ظهرت لنا مصلحته، وله حالان: أحدهما ألا تعارض مصلحته مفسدته ولا مصلحة أخرى، فالأولى تعجيله، والثانية أن تعارض مصلحته مصلحة هي أرجح منه مع الخلو عن المفسدة، فيؤخر عنه رجاء إلى تحصيله، وإن عارضته مفسدة تساويه قدمت مصلحة التعجيل لما ذكرنا فيما خلا عن المعارض، والضابط أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد يسعى في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية عن المصالح يسعى في درئها، وإن التبس الحال احتطنا للمصالح بتقدير وجودها وفعلناها، وللمفاسد بتقدير وجودها وتركناها. وإن دار الفعل بين الوجوب والندب بنينا على أنه واجب وأتينا به، وهذا فيما لا تشترط النية فيه كدفع الصائل(1/50)
عن النفس فإنه محبوب على قول وواجب على آخر. وأما ما تشترط فيه النية ففيه نظر من جهة حزم النية، وإن دار بين الندب والإباحة بنينا على أنه مندوب وأتينا به، وإن دار بين الحرام والمكروه بنينا على أنه حرام واجتنبناه، وإن دار بين المكروه والمباح بنينا على أنه مكروه وتركناه. وقد جاءت الشريعة بمدح السرعة في أمور كالذبح والنحر وضرب الرقاب في القصاص، لما في السرعة في ذلك من تهوين الموت، وقد كتب الله الإحسان على كل شيء، وأمر بإحسان القتلة والذبحة، وكذلك أيضا قصاص الأطراف تحمد فيه السرعة. ولو صيل على مسلم في نفس أو بضع أو مال بحيث لو اقتصرنا في الدفع عنه لتحققت المفسدة، فإن السرعة في هذا وأمثاله واجب لا يسع تركها. وكذلك السرعة في القتال ومكافحة الأبطال، وقد مدح الله المسارعة في الخيرات وأثنى على المسارعين فيها، وقال موسى عليه السلام {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. وقد جعل لمن قتل الوزغ بضربة واحدة مائة حسنة، ولمن قتله بضربتين سبعين حسنة، لما في الضربة الواحدة من المسارعة إلى إزهاق روحه ودفع ضرره وإحسان قتلته.
قاعدة في الموازنة بين المصالح والمفاسد: إذا تعارضت المصلحتان وتعذر جمعهما فإن علم رجحان إحداهما قدمت، وإن لم يعلم رجحان، فإن غلب التساوي فقد يظهر لبعض العلماء رجحان إحداهما فيقدمها ويظن آخر رجحان مقابلها فيقدمه، فإن صوبنا المجتهدين فقد حصل لكل واحد منهما مصلحة لم يحصلها الآخر، وإن حصرنا الصواب في أحدهما فالذي صار إلى المصلحة الراجحة مصيب للحق والذي صار إلى المصلحة المرجوحة مخطئ معفو عنه، إذا بذل جهده في اجتهاده، وكذلك إذا تعارضت المفسدة والمصلحة. فإن قيل: كيف تصوبون المختلفين، مع أن بعضهم قد أصاب المرجوح الذي لو اطلع عليه لما جاز له الاعتماد عليه. قلنا: ترك الرجحان رخصة على خلاف القواعد وفي الرخص تترك المصالح الراجحة إلى المصالح المرجوحة للعذر دفعا للمشاق، ولو قلنا بوجوب الاستدراك(1/51)
لأدى إلى مشقة عظيمة عامة بخلاف من أخطأ النص والإجماع، والأقيسة الجلية أو القواعد الكلية، فإن خطأ ذلك لا يقع إلا نادرا، فمن له أهلية الاجتهاد فيجب استدراكه لندرته وقلته. والحاصل أن الشرع يجعل المصلحة المرجوحة عند تعذر الوصول إلى الراجحة أو عند مشقة الوصول إلى الراجحة، بدلا من المصلحة الراجحة، كما يبدل الوضوء بالتيمم، والصيام بالإعتاق، والإطعام بالصيام، والعرفان بالاعتقاد في حق العوام، والفاتحة بالأذكار، وجهة السفر في صلاة النافلة بالقبلة، وجهة المقاتلة في الجهاد بالقبلة.
[فائدة] الحكمة في اللغة المنع، قال الشاعر:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي امنعوهم. وفي الشرع عبارة عن ترك المأمورات أو فعل المنهيات. وحاصله المنع من ترك المصالح الخالصة أو الراجحة، والمنع من فعل المفاسد الخالصة أو الراجحة، والوعظ وهو الأمر بجلب المصالح، الخالصة أو الراجحة أو النهي عن ارتكاب المفاسد الخالصة أو الراجحة، والذي يسميه الجهلة البطلة سياسة هو فعل المفاسد الراجحة أو ترك المصالح الراجحة على المفاسد. ففي تضمين المكوس والخمور والأبضاع مصالح مرجوحة مغمورة بمفاسد الدنيا والآخرة: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}، وبمثل هذا يفتنون الأشقياء أنفسهم بإيثار المفاسد الراجحة على المصالح قضاء للذات الأفراح العاجلة، ويتركون المصالح الراجحة للذات خسيسة أو أفراح دنيئة، ولا يبالون بما رتب عليها من المفاسد العاجلة أو الآجلة. وذلك كشرب الخمور والأنبذة للذة إطرابها، والزنا أو اللواط، وأذية الأعداء المحرمة، وقتل من أغضبهم وسب من غاضبهم، وغصب الأموال والتكبر والتجبر، وكذلك يهربون من الآلام والغموم العاجلة التي أمرنا بتحملها لما في تحملها من المصالح العاجلة، ولا يبالون بما يلتزمون من تحمل أعظم المفسدتين تحصيلا للذات أدناهما، وكذلك يتركون أعظم(1/52)
المصلحتين تحصيلا للذات أدناهما. أسكرتهم اللذات والشهوات فنسوا الممات وما بعده من الآفات فويل لمن ترك سياسة الرحمن، واتبع سياسة الشيطان، وارتكب الفسوق والعصيان، أولئك أهل البغي والضلال.
والجهل مفسدة وهو ثلاثة أقسام: أحدها ما يجب إزالته كالجهل بما يجب تعلمه من الأصول والفروع. القسم الثاني: ما لا تجب إزالته ببعض أحكام الفروع. القسم الثالث: ما اختلف في إزالته.
والعرفان مصلحة وهو ثلاثة أقسام: أحدها ما يجب تحصيله من علوم الأصول والفروع. القسم الثاني: ما لا يجب تحصيله ولا حد له. القسم الثالث: ما اختلف في وجوب تحصيله
من الأصول والفروع.(1/53)
فصل: في اجتماع المصالح المجردة عن المفاسد
...
فصل: في اجتماع المصالح المجردة عن المفاسد
إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة، فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل، لقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} . وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، وقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}، فإذا استوت مع تعذر الجمع تخيرنا، وقد يقرع، وقد يختلف في التساوي والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين المصالح الواجبات والمندوبات، ولبيان الأفضل وتقديم الفاضل على المفضول أمثلة: أحدها: تقديم العرفان بالله وصفاته على الإيمان بتلك، ويقوم الاعتقاد في حق العامة مقام العرفان، ويقوم الإيمان المبني على العرفان لتعذر وصول العامة إلى العرفان وما يتبعه من الإيمان، وعلى ذلك الإيمان بالرسل وبما جاءوا به من الشرائع والأخبار وعذاب الفجار وثواب الأبرار، والعرفان متقدم على ذلك لشرفه في نفسه لتعلقه بالديان، ولأنه شرط في صحة عبادة الرحمن، وهو أيضا مقدم بالزمان إلا على النص الدال عليه المفضي إليه، وليس يقدم النظر إلا بالزمان، وإنما تأخر الإيمان بالكتب والرسل، إذ لا يمكن أن يؤمن بالرسول والرسالة(1/53)
من لا يعرف المرسل، فقد تأخر لقصور رتبته عن رتبة الإيمان. والعرفان لكونه تعلق بمخلوق، ولتعذر تحصيله قبل تحصيل الاعتقاد والإيمان والعرفان، ولفضل الإيمان تأخرت الواجبات عند ابتداء الإسلام ترغيبا فيه، فإنها لو وجبت في الابتداء لنفروا من الإيمان لثقل تكاليفه.
ولذلك أمثلة أحدها. أن الله أخر إيجاب الصلاة إلى ليلة الإسراء لأنه لو أوجبها في ابتداء الإسلام لنفروا من ثقلها عليهم.
المثال الثاني: الصيام لو وجب في ابتداء الإسلام لنفروا من الدخول في الإسلام. المثال الثالث: تأخير وجوب الزكاة إلى ما بعد الهجرة لأنها لو وجبت في الابتداء لكان إيجابها أشد تنفيرا لغلبة الضنة بالأموال.
المثال الرابع: الجهاد لو وجب في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام؛ لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين.
المثال الخامس: القتال في الشهر الحرام لو أجل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم لذلك، وكذلك القتال في البلد الحرام.
المثال السادس: القصر على أربع نسوة، لو ثبت في ابتداء الإسلام لنفرت الكفار من الدخول فيه، وكذلك القصر على ثلاث طلقات؛ فتأخرت هذه الواجبات تأليفا على الإسلام الذي هو أفضل من كل واجب، ومصلحته تربو على جميع المصالح. ولمثل هذا قر الشرع من أسلم منهم على الأنكحة المعقودة على خلاف شرائط الإسلام، وكذلك أسقط عن المجانين ما يتلفونه من أنفس المؤمنين وأموالهم لأنه لو ألزمهم بذلك لنفروا من الدخول في الإسلام. وكذلك بني على الإسلام غفران جميع الذنوب لأن عهدها لو بقيت بعد الإسلام لنفروا، وكذلك قال جماعة قد زنوا فأكثروا من الزنا ومن غيره من الكبائر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إن ما تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية، وقال في(1/54)
غيرهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، وإنما أمرهم في ابتداء الإسلام بإفشاء السلام. وإطعام الطعام، وصلة الأرحام، والصدق والعفاف، لأن ذلك كان ملائما لطباعهم حاثا على الدخول في الإسلام، وكذلك ألف صلى الله عليه وسلم جماعة على الإسلام بما دفعه لهم من الأموال، وامتنع من قتل جماعة من المنافقين قد عرف بنفاقهم خوفا أن يتحدث الناس بأنه أخذ في قتل أصحابه فينفروا من الدخول في الإسلام، فهذه كلها مصالح أخرت، لما في تقديمها من المفاسد المذكورة.
المثال الثاني من تقديم الفاضل على المفضول: تقديم بعض الفرائض على بعض، كتقديم الصلاة الوسطى على سائر الصلوات.
المثال الثالث: تقديم كل فريضة على نوعها من النوافل كتقديم فرائض الطهارات على نوافلها، وفرائض الصلوات على نوافلها، وفرائض الصدقات على نوافلها، وتقديم فرائض الصيام على نوافله، وكتقديم فرض الحج والعمرة على نوافلهما، مع أنهما لا يقعان إلا واجبين، لأنهما يجبان بالشروع، ولكن ليس ما أوجبه الإنسان على نفسه في رتبة ما أوجبه الله عليه، ويدل على تقديم المفروضات على نوعها من المندوبات ما ذكرناه من الكتاب، وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه عز وجل أنه قال: "ولن يتقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه".
المثال الرابع: تقديم فرائض الصلوات ونوافلها على مفروضات الأعمال ونوافلها لقوله عليه السلام: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، هذا مذهب الشافعي رحمه الله وفيه إشكال، لأن رسول الله عليه السلام سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله"، قيل ثم ماذا؟ قال: "جهاد في سبيل الله"، قيل ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"، ويبعد أن تكون صلاة الصبح أفضل من حجة مبرورة، وركعتا الفجر أفضل من حجة التطوع. وقد جعل رسول الله(1/55)
صلى الله عليه وسلم الجهاد تلو الإيمان، وجعل الحج في الرتبة الثالثة، فإن قدمت الصلاة عليهما كان ذلك مخالفا للحديث، وإن تأخرت عنهما لم يستقم كون الصلاة أفضل الأعمال البدنية، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يجعل الحج المفروض أفضل من صلاة مفروضة ويجعل استغراق الصلاة لأزمان تتسع للحج أفضل من الحج، لأن الإقبال على الله بالصلاة في زمن يتسع للحج أكمل وأتم من الإقبال عليه بأفعال الحج فيكون جمعا بين الحديثين وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "بر الوالدين"، وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لأول وقتها", وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "حج مبرور"، وهذا جواب لسؤال السائل فيختص بما يليق بالسائل من الأعمال، لأنهم ما كانوا يسألون عن الأفضل إلا ليتقربوا به إلى ذي الجلال، فكأن السائل قال: أي الأعمال أفضل لي؟ فقال: "بر الوالدين" لمن له والدان يشتغل ببرهما، وقال لمن يقدر على الجهاد لما سأله عن أفضل الأعمال بالنسبة إليه: "الجهاد في سبيل الله"، وقال لمن يعجز عن الحج والجهاد: "الصلاة على أول وقتها" ، ويجب التنزيل على مثل هذا لئلا يتناقض الكلام في التفضيل.
المثال الخامس: تقديم المبدلات على أبدالها؛ كتقديم الاستنجاء بالماء على الاستجمار بالأحجار، وكتقديم الطهارة بالماء على الطهارة بالتراب، وكتقديم العتق في كفارة القتل والظهار وإفساد الصيام على صوم شهرين متتابعين؛ فإن مصلحة البدل قاصرة عن مصلحة المبدل منه.
المثال السادس: تقديم ما شرع فيه الجماعة من الصلوات على ما لم تشرع فيه، إذا كان مخصوصا بأوقات كالعيدين والكسوفين، لأنها أشبهت الفرائض في وصفين: أحدهما: شرعية الجماعات. والثاني: تقدير الأوقات.
المثال السابع: تقديم بعض الرواتب على بعض؛ كتقديم الوتر وسنة الفجر على(1/56)
سائر الرواتب، وهل يقدم الوتر على سنة الفجر أو بالعكس؟ فيه اختلاف، والأصح تقديم الوتر.
المثال الثامن: تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلوات، لأن إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من أداء الصلاة، والجمع بين المصلحتين ممكن بأن ينقذ الغريق ثم يقضي الصلاة، ومعلوم أن ما فاته من مصلحة أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك. وكذلك لو رأى الصائم في رمضان غريقا لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر، أو رأى مصولا عليه لا يمكن تخليصه إلا بالتقوي بالفطر، فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضا من باب الجمع بين المصالح، لأن في النفوس حقا لله عز وجل وحقا لصاحب النفس، فقدم ذلك على فوات أداء الصوم دون أصله.
المثال التاسع: تقديم صلاة الجنازة على صلاة العيدين والكسوفين وإن خيف فواتهما لتأكد تعجيلها، وتقدم على الجمعة إن اتسع وقت الجمعة، فإن خفنا تغير الميت قدمناه على الجمعة وإن فاتت الجمعة، لأن حرمته آكد من أداء الجمعة، وهذا من باب تقديم حق العبد والرب على محض حق العبد، مع أن الجمع بين المصلحتين ممكن بأن يدفن الميت ثم تقضى الصلاة.
ولو قدمنا الجمعة لسقطت حرمة الميت لا إلى بدل، وإن لم يخف تغير الميت فقولان، ولو اجتمعت الجمعة مع الكسوف خطب للجمعة وذكر فيها الكسوف، فإن قدمنا الكسوف على العيد صلى الكسوف وعقبه بالعيد، لأن صلاة العيد أهم من الخطبتين، ثم خطب خطبتين للعيد والكسوف.
المثال العاشر: إذا ضاق وقت الفريضة بحيث لا يتسع لغيرها، فذكر صلاة نسيها قبل الشروع في الصلاة المؤداة أو في أثنائها فليؤد الأداء ويقضي الفائتة بعد خروج الوقت، لأنه لو قدم المقضية على المؤداة لفاتت رتبة الأداء في الصلاتين جميعا فتفوت مصلحة الأداء في الصلاتين، ولا شك أن تحصيل المصلحة في إحدى الصلاتين أولى من تفويتها في الصلاتين، ولا يتم قول المخالف ما لم يبين أن فضيلة(1/57)
تقديم المقضية تزكى على ما ذكرناه من فضيلة الأداء في إحدى الصلاتين وهذا من باب تقديم الأفضل فالأفضل من حقوق الله عز وجل.
المثال الحادي عشر: إذا ضاق عن الجمع بين الأذان والإقامة والراتبة والفريضة بحيث لا يتسع إلا للفريضة، فإنا نقدم الفريضة لكمال مصلحة أدائها على مصلحة الأذان والإقامة والسنة الراتبة، وإن كانت الرواتب والفرائض قابلة للقضاء، فإن فضيلة أداء الفرائض أتم من فضيلة أداء النوافل، فقدمنا أفضل الأداءين على الآخر، وهذا من باب الجمع بين المصلحتين.
المثال الثاني عشر: إذا ضاق على المحرم وقت عشاء الآخرة بحيث لا يتسع إلا لأربع ركعات لو اشتغل بها لفاته إتيان عرفة، فقد قيل يدع الصلاة ويذهب إلى عرفة لأن أداء فرض الحج أفضل من أداء فرض الصلاة إذ جعله صلى الله عليه وسلم تلو الجهاد وجعل الجهاد تلو الإيمان، وقيل يشتغل بأداء الصلاة، لأن أداء الصلاة أفضل من أداء الحج لقوله عليه السلام: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، والأصح أنه يجمع بين المصلحتين فيصلي صلاة الخوف وهو ذاهب إلى عرفة، فيكون جامعا بين المصلحتين على حسب الإمكان، لأن مشقة فوات الحج عظيمة، فإذا جاز أن يصلي صلاة الخوف لأجل حفظ مال يسير، فجوازه لحفظ أداء الحج أولى
المثال الثالث عشر: تقديم الكفارات على التطوعات.
المثال الرابع عشر: النفقات التي ليست من العبادات المفتقرات إلى النيات، فيقدم المرء نفسه على نفقة آبائه وأولاده وزوجاته، ويقدم نفقة زوجاته على نفقة آبائه وأولاده، لأنها من تتمة حاجاته، وتقدم نفقة القريب على نفقة الرقيق في بعض الصور لأنها صدقة وصلة، وتقدم نفقة الرقيق على القريب وذلك مثل أن يكون الرقيق مضطرا يخشى هلاكه والقريب محتاجا لا يخشى هلاكه، وتقدم نفقة الرقيق على نفقة البهائم والأنعام، لأن حرمته آكد ومصلحته(1/58)
أعظم، ولذلك جاز بيع الحيوان حفظا لروح الإنسان وإن ملك حيوانا يؤكل وحيوانا لا يؤكل ولم يجد إلا نفقة أحدهما وتعذر بيعهما احتمل أن يقدم نفقة ما لا يؤكل على نفقة ما يؤكل ويذبح المأكول، واحتمل أن يسوي بينهما، فإن كان المأكول يساوي ألفا وغير المأكول يساوي درهما، ففي هذا نظر واحتمال.
المثال الخامس عشر: إذا اجتمع مضطران فإن كان معه ما يدفع ضرورتهما لزمه الجمع بين الضرورتين تحصيلا للمصلحتين، وإن وجد ما يكفي ضرورة أحدهما، فإن تساويا في الضرورة والقرابة والجوار والصلاح احتمل أن يتخير بينهما، واحتمل أن يقسمه عليهما، وإن كان أحدهما أولى، مثل أن يكون والدا أو والدة، أو قريبا أو زوجة، أو وليا من أولياء الله تعالى، أو إماما مقسطا أو حاكما عدلا، قدم الفاضل على المفضول، لما في ذلك من المصالح الظاهرة، فإن قيل لو وجد المكلف مضطرين متساويين ومعه رغيف لو أطعمه لأحدهما لعاش يوما ولو أطعم كل واحد منهما نصفه لعاش نصف يوم، فهل يجوز أن يطعمه أحدهما أم يجب فضه عليها، فالمختار أن تخصيص أحدهما غير جائز لما ذكرته من أن أحدهما قد يكون وليا لله تعالى، ولأن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والإنصاف، والعدل التسوية، فدفعه إليهما عدل وإنصاف وإحسان مندرج في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ}. وكذلك لو وجد محتاجين فإنه يندب إلى فض الرغيف عليهما، وألا يخص أحدهما به لما ذكرته، ولأن تخصيص أحدهما موغر لصدر الآخر مؤذ له.
وكذلك لو كان له ولدان لا يقدر إلا على قوت أحدهما فإنه يفضه عليهما تسوية بينهما، فإن قيل إذا كان نصف الرغيف شبعا لأحد ولديه سادا لنصف جوعة الآخر فكيف يفضه عليهما؟ قلت يفضه عليهما بحيث يسد من جوعة أحدهما ما يسد من جوعة الآخر، فإذا كان ثلث الرغيف سادا لنصف جوعة أحدهما، وثلثاه سادا لنصف جوعة الآخر فليوزعه عليهما كذلك، لأن هذا هو(1/59)
الإنصاف، كما أنه يجب عليه مع القدرة إشباع كل واحد منهما مع اختلاف مقدار كليهما، فكذلك هذا، لأن الغرض الأعظم إنما هو كفاية البدن في التغذية. وكذلك يجب أن يطعم الكبير الرغيب أكثر مما يطعم الصغير الزهيد، ولمثل هذا يعطى الراجل سهما واحدا من الغنائم ويعطى الفارس ثلاثة أسهم، دفعا لحاجتيهما، فإن الراجل يأخذ سهما لحاجته، والفارس يأخذ أقوى الأسهم لحاجته والسهم الثاني لفرسه والسهم الثالث لسائس فرسه، فيسوى بينهما في المال الذي أخذ بسبب القتال. فإن قيل لم قسم مال المصالح على الحاجات دون الفضائل؟ قلنا ذهب عمر رضي الله عنه إلى قسمته على الفضائل ترغيبا للناس في الفضائل الدينية، وخالفه أبو بكر رضي الله عنه في ذلك لما التمس منه تفضيل السابقين على اللاحقين فقال: إنما أسلموا لله وأجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ. ومعنى هذا أني لا أعطيهم على إسلامهم وفضائلهم التي يتقربون بها إلى الله شيئا من الدنيا، لأنهم فعلوها لله، وقد ضمن الله لهم أجرها في الآخرة، وإنما الدنيا بلاغ ودفع للحاجات، فأضع الدنيا حيث وضعها الله من دفع الحاجات وسد الخلات، والآخرة موضوعة للجزاء على الفضائل فأضعها حيث وضعها الله، ولا أعطي أحدا على سعيها شيئا من متاع الدنيا، وبذلك قال الشافعي رحمه الله. فإن قيل فهلا قسمت الغنائم كذلك إذا كان الفارس لا عيال له والراجل له عيال كثير؟ قلنا لما حصل ذلك بكسب الغانمين وسعيهم فضلوا على قدر عنائهم فيه
ولا شك أن عناء الفرسان في القتال أكمل من عناء الرجالة. فإن قيل هلا قدر الشافعي رحمه الله تعالى نفقات الزوجات بالحاجات كنفقة الآباء والأمهات والبنين والبنات ولم قدرها بالأمداد؟ قلنا لما كانت النفقة عوضا عن البضع قدرها لأن الأصل في الأعواض التقدير، وله قول إنها مقدرة بالمعروف لنفقة الأقارب، وعملا بقوله عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"،(1/60)
ولم تكن هند عارفة بكون المعروف مدين في حق الغني ومدا في حق الفقير ومدا ونصفا في حق المتوسط، وقد نص الله على أن الكسوة بالمعروف في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. وكذلك السكنى وماعون الدار يرجع فيها إلى العرف من غير تقدير، والغالب في كل ما ورد في الشرع إلى المعروف أنه غير مقدر، وأنه يرجع فيه إلى ما عرف في الشرع، أو إلى ما يتعارفه الناس، ولا فائدة في تقدير الحب فإن ما يضم إليه من مؤنة إصلاحه مجهول، والمجهول إذا ضم إلى المعلوم صار الجميع مجهولا، ولم يعهد في السلف ولا في الخلف أن أحدا أنفق الحب على زوجته مع مؤنته، بل المعهود منهم الإنفاق على ما جرت به العادة. والذي قاله الشافعي مؤد إلى أن يموت كل واحد ونفقة زوجته في ذمته، لأن المعاوضة عن الحب الذي أوجبه بما يطعمه الرجل زوجته من الخبز واللحم وغيرهما ربا لا يصح في الشرع، ولا يجوز أن يكون عوضا، ولو جاز أن يكون عوضا لم يبر من النفقة لأنه لم يتعاقد عليه الزوجان، وما بلغنا أن أحدا أطعم زوجته على العادة ثم أوصى بأن توفى نفقتها حبا من ماله، ولا حكم بذلك حاكم على أحد من الأزواج بعد موته، وليست النفقة في مقابلة ملك البضع وإنما هي في مقابلة التمكين، والبضع مقابل بالصداق فتكون نفقة المرأة كنفقة العبد المشترى، فإن الثمن في مقابلة رقبته، والنفقة جارية بسبب ذلك الملك.(1/61)
فصل: في بيان العدل
...
فصل: في بيان العدل
تقدير النفقات بالحاجات مع تفاوتها عدل وتسوية، من جهة أنه سوى بين المنفق عليهم في دفع حاجاتهم لا في مقادير ما وصل إليهم لأن دفع الحاجات هو المقصود الأعظم في النفقات وغيرها من أموال المصالح. فإن قيل: إذا كان العدل في اللغة هو التسوية، والقاضي لا يسوي بين الخصوم في قبول قولهم، بل يقبل قول المدعى عليه مع يمينه ولا يقبل قول المدعي إلا بعد نكول المدعى عليه. وكذلك وظف البينة على المدعي وهذا تفاوت لا تسوية فيه. قلنا معنى التسوية(1/61)
في الحكم وجميع الولايات أنه يسوي بين المدعين في العمل بالظاهر في توظيف البينة على المدعين، والأيمان على المنكرين، ورد الأيمان على المدعين عند نكول المنكرين. وكذلك التسوية بين من يقبل قوله من المدعين فيما وظف عليهم كالولي في القسامة، والزوج في اللعان، والأمناء في قبول قولهم في التلف، والمدعين في قبول قولهم في الرد. وحاصل هذا كله التسوية في الأحكام عند التساوي في الأسباب. واعلم أن لما ذكرناه من العدل واجتناب إيغار الصدور، يجب على الحكام التسوية بين الخصوم في الإعراض والإقبال وغير ذلك، لأن تقديم أحد الخصمين موجب لإيغار صدر الآخر وحقده، ولا يجري ذلك في حق المسلم والكافر، لأن جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته وأوجبت بغضه وإذلاله، كما يظهر بالغبار وإظهار الصغار، فإن قيل لو خطب إلى الولي إحدى ابنتيه فهل يتخير في تزويج أيتهما شاء أو يبدأ بإحداهما؟ قلنا. إن تساويا في الصلاح والتوقان إلى النكاح تخير بينهما وقد يقرع، وإن تساويا في الصلاح - واختلفا في التوقان قدم أتوقهما، وإن خف توقان الصالحة وزاد توقان الطالحة ففي هذا نظر واحتمال، والذي أراه تقديم الطالحة درءا لما يتوقع من فجورها. وأما الصالحة فيزعها صلاحها عن الفجور. وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه منه خيفة أن يكب في النار على وجهه، لأن تقى المتقي يزعه عن العصيان، وفجور الفاجر يوقعه في الإثم والعدوان.
المثال السادس عشر: من تقديم الفاضل على المفضول: إذا كان له عبدان أحدهما بر تقي والآخر فاجر شقي، قدم إعتاق البر التقي على إعتاق الفاجر الشقي، لأن الإحسان إلى الأبرار أفضل من الإحسان إلى الفجار. وكذلك لو كان أحد العبدين قريبا والآخر أجنبيا، قدم القريب على الأجنبي لاشتمال عتقه على مصلحة الإعتاق وصلة الرحم، فإن كان الأجنبي في غاية الصلاح في تقديم عتقه على عتق القريب الفاسق نظر. وقد قال الأصحاب إذا اشترى عبدا(1/62)
للإعتاق فليشتر المكدود والمجهود، فإن إعتاقه أفضل من إعتاق المرفه لأن ما يدفعه عنه من ذل الرق وصعوبة الجهد والكد أفضل مما يدفعه من مجرد ذل الرق، وكذلك لو اشترى عبدا للقنية ليدفع عنه الكد والجهد لأثيب على ذلك لما فيه من رفع المفسدة عن العبد. وكم في هذا وأمثاله من مثقال ذرة من الخير.
المثال السابع عشر: إذا وجد من يصول على بضع محرم، ومن يصول على عضو محرم أو نفس محرمة أو مال محرم، فإن أمكن الجمع بين حفظ البضع والعضو والمال والنفس، جمع بين صون النفس والعضو والبضع والمال لمصالحها، وإن تعذر الجمع بينها، قدم الدفع عن النفس على الدفع عن العضو، وقدم الدفع عن العضو على الدفع عن البضع وقدم الدفع عن البضع على الدفع عن المال، وقدم الدفع عن المال الخطير على الدفع عن المال الحقير، إلا أن يكون صاحب الخطير غنيا وصاحب الحقير فقيرا لا مال له سواه ففي هذا نظر وتأمل، وتفاوت هذه المصالح ظاهر، وإنما قدم الدفع عن العضو على الدفع عن البضع لأن قطع العضو سبب مفض إلى فوات النفس، فكان صون النفس مقدما على صون البضع، لأن ما يفوت بفوات الأرواح أعظم مما يفوت بفوات الأبضاع.
المثال الثامن عشر: تقديم الدفع عن الإنسان على الدفع عن الحيوان المحترم، ولك أن تجعل هذا كله من باب تحمل أخف المفسدتين دفعا لأعظمهما. فنقول: مفسدة فوات الأعضاء والأرواح أعظم من مفسدة فوات الأبضاع ومفسدة فوات الأبضاع أعظم من مفسدة فوات الأموال، ومفسدة فوات الأموال النفيسة أعظم من مفسدة فوات الأموال الخسيسة، ومفسدة هلاك الإنسان أعظم من مفسدة هلاك الحيوان.
المثال التاسع عشر: إذا شغر الزمان عن من له الولاية العظمى، وحضر اثنان يصلحان للولاية، لم يجز الجمع بينهما، لما يؤدي إليه من الفساد باختلاف الآراء:(1/63)
فتتعطل المصالح بسبب ذلك، لأن أحدهما يرى ما لا يرى الآخر من جلب المصالح ودرء المفاسد، فيختل أمر الأمة فيما يتعلق بالمصالح والمفاسد، وإنما تنصب الولاة في كل ولاية عامة أو خاصة للقيام بجلب مصالح المولى عليهم، وبدرء المفاسد عنه، بدليل قول موسى لأخيه هارون عليه السلام: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}. فإن كانا متساويين من كل وجه تخيرنا بينهما، ويحتمل أن يقرع بينهما دفعا لتأذي من يؤخر منهما، وإن كان أحدهما أصلح تعينت ولاية الأصلح؛ لما قدمناه من تقديم أصلح المصالح فأصلحها، وأفضلها فأفضلها إلا أن يكون الأصلح بغيضا للناس أو محتقرا عندهم، ويكون الصالح محببا إليهم عظيما في أعينهم، فيقدم الصالح على الأصلح، لأن الإقبال عليه موجب للمسارعة إلى طواعيته وامتثال أمره في جلب المصالح ودرء المفاسد، فيصير حينئذ أرجح ممن ينفر منه لتقاعد أعوانه عن المسارعة إلى ما يأمر به من جلب المصالح ودرء المفاسد، فيصير الصالح بهذا السبب أصلح.
المثال العشرون: إذا اجتمع اثنان يصلحان لولاية الأحكام، فإن تساويا من كل وجه ولينا كل واحد منهما قطرا إن شغرت الأقطار، وإن كانت مشحونة بالقضاة والحكام تخيرنا بينهما أو ولينا كل واحد منهما جانبا من جوانب البلد، أو أقرعنا بينهما كما ذكرنا في الإمام.
المثال الحادي والعشرون: إذا اجتمع جماعة يصلحون للقيام بالأيتام، قدم الحاكم أقومهم بذلك وأعرفهم بمصالح الأيتام، وأشدهم شفقة ومرحمة، فإن تساووا من كل وجه تخير. ويجوز أن يولي كل واحد منهم بعض الولاية ما لم يكن بينهما تنازع واختلاف يؤدي إلى تعطيل مصالحها، وتعطيل درء مفاسدها، لأن الولاية كلما ضاقت قوي الوالي على القيام بجلب مصالحها ودرء مفاسدها، وكلما اتسعت عجز الوالي عن القيام بذلك.
المثال الثاني والعشرون: إذا اجتمع جماعة يصلحون للأذان فإن تساووا أقرعنا(1/64)
بينهم في قوله عليه السلام: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه"، فإن تفاوتوا في الثقة والأمانة والعفة عن النظر إلى حرم الناس ومعرفة المواقيت وحسن الصوت، قدمنا الأفضل فالأفضل، لأن المصلحة فيه أعظم، وقد قال عليه السلام: "من ولي من أمر المؤمنين شيئا ثم لم يجهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام". وفي رواية "لم يدخل الجنة معهم".
المثال الثالث والعشرون: لا يقدم في ولاية الحرب إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد الحروب والقتال مع النجدة والشجاعة وحسن السيرة في الاتباع، فإن استووا فإن كانت الجهة واحدة تخير الإمام، وله أن يقرع بينهم كي لا يجد بعضهم على الإمام بتقديم غيره عليه، وإن تعددت الجهات صرف بكل واحد منهم إلى الجهة التي تليق به. والضابط في الولايات كلها أنا لا نقدم فيها إلا أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها، فيقدم في الأقوم بأركانها وشرائطها، على الأقوم بسننها وآدابها، فيقدم في الإقامة الفقيه على القارئ، والأفقه على الأقرأ؛ لأن الفقيه أعرف باختلال الأركان والشرائط، وبما يطرأ على الصلاة من المفسدات.
وكذلك يقدم الورع على غيره، لأن ورعه يحثه على إكمال الشرائط والسنن والأركان، ويكون أقوم إذا بمصلحة الصلاة. وقدم بعض الأصحاب بنظافة الثياب، لأن الغالب أن المتنزه من الأقذار التي ليست بأنجاس أنه يتنزه عن النجاسات؛ فيكون أقوم بشرط الصلاة. وكذلك يقدم البصير على الأعمى عند بعضهم لأنه يرى من النجاسات ما لا يراه الأعمى؛ فيكون أشد تحرزا من النجاسات التي اجتنابها شرط في صحة الصلاة.
وأما غض الأعمى عن المحرمات فليس غضه شرطا في صحة الصلاة، وأما غسل الموتى وتكفينهم وحملهم ودفنهم فيقدم فيه الأقارب لأن حنوهم على ميتهم يحملهم على أكمل القيام بمقاصد هذه الواجبات وكذلك يقدم الآباء على الأولاد، لأن حنو الآباء أكمل من حنو الأولاد. وكذلك يقدم القريب(1/65)
في الصلاة على الأموات على جميع أهل الولايات؛ لأن من الصلاة الشفاعة للميت، والقريب لفرط شفقته وشدة حزنه عليه يبالغ في الدعاء له ما لا يفعله الأجانب. وكذلك تقدم الأمهات على الآباء في الحضانة لمعرفتهن بها وفرط حنوهن على الأطفال، وإذا استوى النساء في درجات الحضانة فقد يقرع بينهن وقد يتخير والقرعة أولى.
ويقدم الآباء على الأمهات في النظر في مصالح أموال المجانين والأطفال. وفي التأديب وارتياد الحرف والصناعات، لأنهم أقوم بذلك وأعرف به من الأمهات. وكذلك يقدم في ولاية النكاح الأقارب على الموالي والحكام
ويقدم من الأقارب أرفقهم بالمولى عليه كالآباء والأجداد، وإذا اجتمع أولياء النكاح في درجة واحدة كالإخوة والأعمام، فالأولى للمرأة أن تأذن لأسنهم وأعلمهم وأفضلهم، ولا تعدل إلى غيره لما في ذلك من كسر قلبه، ولما في توليته من مصلحتها، فإن أذنت الجميع جاز لتساويهم في تحصيل المصلحة المقصودة من النكاح، فإذا أذنت لهم فالأفضل لهم أن يقدموا أفضلهم لما ذكرناه، فإن لم يقدموا أحدهم وتنازعوا أيهم يتولى العقد أقرع بينهم لتساويهم.
والإنسان يأنف من تقديم نظيره عليه ولا يأنف من تقديم من هو خير منه عليه. وكذلك قلنا الأفضل أن يفوض العقد إلى أفضلهم، ويقدم الجد على الأوصياء والأئمة والحكام، ويقدم الأوصياء على الحكام، وإنما قدمنا الأقرب من ذوي الأنساب لأن شفقته على المبالغة في جلب المصالح ودرء المفاسد. ويجب على الأئمة في تفريق مال المصالح أن يصرفوه في تحصيل أعلاها مصلحة فأعلاها، وفي درء أعظمها مفسدة فأعظمها.(1/66)
فصل: فيما لا تشترط فيه العدالة من الولايات
...
فصل: فيما لا تشترط فيه العدالة من الولايات
العدالة شرط في بعض الولايات، وإنما شرطت لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية. ولا تشترط العدالة في ولاية القريب على الأموات في(1/66)
التجهيز والدفن والتكفين والحمل والتقدم في الصلاة، لأن فرط شفقة القريب ومرحمته تحثه على المبالغة في الغسل والتكفين والدعاء في الصلاة.
وكذلك انكساره بالحزن على التضرع في دعاء الصلاة فتكون العدالة في هذا الباب من التتمات والتكملات.
وكذلك ولاية النكاح لا تشترط فيها العدالة على قول لأن العدالة إنما شرطت في الولايات لتزع الولي عن التقصير والخيانة، وطبع الولي في النكاح يزعه عن التقصير والخيانة في حق وليته، لأنه لو وضعها في غير كفء كان ذلك عارا عليه وعليهم، وطبعه يزعه عما يدخله على نفسه ووليته من الأضرار والعار.
وكذلك لو كان الولي مستورا صح النكاح في ظاهر الحكم اعتمادا على العدالة الظاهرة مع قوة الوازع، ولو كان شهود النكاح مستورين صح النكاح في الحكم على الأصح، لغلبة الأنكحة في البوادي والقرى حيث لا يوجد العدول لمسيس الحاجة في ذلك. وللتعليل بقوة الوازع فيما ذكرناه قبل الإقرار من المسلم والكافر والبر والفاجر؛ ولأن طباعهم تزعهم عن الكذب في الإقرار المضر بهم في حقوقهم، كالدماء والأبضاع والأموال، ولا تقبل الشهادة إلا من عدل، لأن الفاسق لا يزعه طبعه عن الكذب، فشرطت العدالة في الشاهد لتكون وازعة عن الكذب في الإقرار. وكذلك يقبل إقرار العبد بما يوجب الحدود والقصاص لأن طبعه يزعه عن الكذب على السيد بما يوجب قتله أو قطعه أو جلده. واختلف في اشتراط العدالة في ولاية الآباء على الأطفال، فمنهم من ألحقها بولاية النكاح لما ذكرناه من الطبع الوازع عن التقصير والإضرار، ومنهم من فرق بينهما بأن الإضرار في ولاية النكاح يدخل على الولي والمولى عليه والطبع وازع عنها. وأما في ولاية المال فإن طبعه يزعه عن الإضرار بالطفل لأجل غيره ولا يزعه عن ذلك في حق نفسه، فإن طبعه يحثه على تقديم نفسه(1/67)
على أولاده وأحفاده، فتشترط العدالة فيه لتكون وازعة عن التقصير بالنسبة إليه وإلى غيره، ولذلك ردت شهادته لنفسه اتفاقا لقوة الداعي، واختلف في شهادته لوالديه وأولاده. وأما الوصي فتشترط فيه العدالة لضعف الوازع على التقصير والخيانة بخلاف الأب. وأما الإمامة العظمى ففي اشتراط العدالة فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاة والولاة والسعاة وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وبذل ما يعطونه. وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق لما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان. ولما كان تصرف القضاة أعم من تصرف الأوصياء وأخص من تصرف الأئمة اختلف في إلحاقهم بالأئمة، فمنهم من ألحقهم بالأئمة لأن تصرفهم أعم من تصرف الأوصياء، ومنهم من ألحقهم بالأوصياء لأن تصرفهم أخص من تصرف الأئمة.
والمشاق في الشرع ثلاثة أقسام. أحدها: مشقة عامة مؤثرة في الرخص والتحقيقات كما ذكرنا في تعطيل تصرفات الولاة. القسم الثاني: مشقة خاصة كما ذكرناه في تصرفات الأوصياء. القسم الثالث: مشقة بين المشقتين كما ذكرناه في تصرف القضاة.(1/68)
فصل: في تنفيذ تصرفات البغاة و أئمة الجور لما وافق الحق لضرورة عامة
...
فصل: في تنفيذ تصرفات البغاة وأئمة الجور لما وافق الحق لضرورة عامة
وقد ينفذ التصرف العام من غير ولاية كما في تصرف الأئمة البغاة فإنه ينفذ مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة الرعايا، وإذا نفذ ذلك مع ندرة البغي فأولى أن ينفذ تصرف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وإنه لا انفكاك للناس عنهم، وأما أخذهم الزكاة، فإن صرفوها في مصارفها أجزأت لما ذكرناه، وإن صرفوها في غير مصارفها لم(1/68)
يبرأ الأغنياء منها على المختار لما في إجزائها من تضرر الفقراء بخلاف سائر المصالح التي لا معارض لها، فإنها إنما نفذت لتمحصها. وأما ههنا فالقول بإجزاء أخذها نافع للأغنياء مضر للفقراء، ودفع المفسدة عن الفقراء أولى من دفع المفسدة عن الأغنياء، وإن شئت قلت لأن مصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء، لأنهم يتضررون بعدم نصيبهم من الزكاة ما لا يتضرر به الأغنياء من تثنية الزكاة، ولمثل هذا يتخير الساعي في الأحظ للفقراء؛ إذا كان في المال أربع حقاق وخمس بنات لبون، ولا تخير الولاة فيما يصنعون إلا نادرا وهو إذا تساوى تحصيل المصلحتين، أو دفع المفسدتين من كل وجه؛ فإن كانت المصلحة في التعزير وجب، وإن كانت في العفو والإغضاء وجب.(1/69)
فصل: في تقيد العزل بالأصلح للمسلمين فالأصلح
...
فصل: في تقيد العزل بالأصلح للمسلمين فالأصلح
إذا أراد الإمام عزل الحاكم فإن أرابه منه شيء عزله لما في إبقاء المريب من المفسدة إذ لا يصلح في تقرير المريب على ولاية عامة ولا خاصة، لما يخشى من خيانته فيها، وإن لم تكن ريبة فله أحوال:
أحدها: أن يعزله بمن هو دونه، ولا يجوز عزله لما فيه من تفويت المسلمين المصلحة الحاصلة من جهة فضله على غيره وليس للإمام تفويت المصالح من غير معارض.
الحال الثانية: أن يعزله بمن هو أفضل منه فينفذ عزله تقديما للأصلح على الصالح لما فيه من تحصيل المصلحة الراجحة للمسلمين.
الحال الثالثة: أن يعزله بمن يساويه؛ فقد أجاز بعضهم ذلك لما ذكرناه من التخير عند تساوي المصالح، وكما يتخير بينهما في ابتداء الولاية، وقال آخرون لا يجوز لما فيه من كسر العزل وعاره بخلاف ابتداء الولاية.
فإن قيل ينبغي أن يجوز لما فيه من النفع للمولى؟ قلنا حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود، ودفع الضرر أولى من جلب النفع، وهذا معروف بالعادة(1/69)
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من ولي من أمر المسلمين شيئا ثم لم يجهد لهم وينصح لم يدخل الجنة معهم". ولما اتهم خالد بن الوليد بأنه قتل مالك بن نويرة ليتزوج بامرأته حتى قال الشاعر:
وجرت منايا مالك بن نويرة ... عقيلته الحسناء أيام خالد
حرض عمر على أن يعزله أبو بكر وقال قتل رجلا من المسلمين ونزى على امرأته، فامتنع أبو بكر من عزله لأنه كان أصلح في القيام لقتال أهل الردة من غيره، وهو أصوب مما رآه عمر لأن تلك الريبة لم تكن قادحة في كونه أقوم بالحرب من غيره، فلما تولى عمر عزله عن حرب الشام، وولى أبا عبيدة بن الجراح، فوصل كتاب العزل إلى أبي عبيدة والناس صفوف للقتال، فلم يخبر خالدا حتى انقشعت الحرب لعلمه بتقدمه في مكان الحرب، وترتيب القتال، ولو أخبره بذلك لتشوش أمر المسلمين، وإنما لم يخبره لأنه أذن له في ذلك، أو رأى أنه لا ينعزل حتى يقف على الكتاب.(1/70)
فصل: في تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة
...
فصل: في تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة
لا يتصرف في أموال المصالح العامة إلا الأئمة ونوابهم، فإذا تعذر قيامهم بذلك، وأمكن القيام بها ممن يصلح لذلك من الآحاد بأن وجد شيئا من مال المصالح، فليصرف إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العدل أن يصرفه فيه، بأن يقدم الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح، فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها فأهمها، ويصرف ما وجده من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها، لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها، ولأثم أئمة الجور بذلك وضمنوه، فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها. وإن وجد أموالا مغصوبة، فإن عرف مالكيها فليردها عليهم، وإن لم يعرفها فإن تعذرت معرفتهم بحيث يئس من معرفتهم صرفها في المصالح العامة أولاها فأولاها، وإنما قلنا ذلك لأن الله قال: {وَتَعَاوَنُوا(1/70)
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} , وهذا بر وتقوى. وقال صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما كان في عون أخيه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة"، فإذا جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف، مع كون المصلحة خاصة، فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى، ولا سيما غلبة الظلمة للحقوق. ولا شك أن القيام بهذه المصالح أتم من ترك هذه الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها، ويصرفونها إلى غير مستحقها. ويحتمل أن يجب ذلك على من ظفر به كمن وجد اللقطة في مضيعة، وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده إذا ظفر به إن كان من جنسه، وأن يأخذه ويبيعه إن كان من غير جنسه، مع أن هذه مصلحة خاصة فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى. وقد خير بعض أصحاب الشافعي واجد ذلك بين أن يصرفه في مصارفه، وبين أن يحفظه إلى أن يلي المسلمين من هو أهل يصرف ذلك في مصارفه، وينبغي أن يتقيد بما ذكره بعض الأصحاب بوقت يتوقع فيه ظهور إمام عدل. وأما في مثل هذا الزمان المأيوس فيه من ذلك فيتعين على واجده أن يصرفه على الفور في مصارفه، لما في إبقائه من التغرير به وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه، ولا سيما إن كانت الحاجة ماسة إليه بحيث يجب على الإمام تعجيلها.(1/71)
فصل: فيما يجوز أخذه من مال بيت المال
...
فصل: فيما يجوز أخذه من مال بيت المال
إن قال قائل: إذا دفع الظلمة مما بأيديهم من الأموال إلى إنسان شيئا فهل يجوز له أخذه منهم أم لا؟ قيل له: إن علم المبذول له أن ما يدفع له مغصوب فله حالان: الأولى: أن يكون ممن يقتدى به ولو أخذ لفسد ظن الناس فيه بحيث لا يقتدون به ولا يقبلون فتياه، فلا يجوز له أخذه لما في أخذه من فساد اعتقاد الناس في صدقه ودينه، لا يقبلون له فتيا، فيكون قد ضيع على الناس مصالح الفتيان. ولا شك أن حفظ تلك المصالح العامة الدائمة أولى من أخذ المغصوب ليرده على(1/71)
صاحبه. وكذلك الشهود والحكام ما لم يصرحوا بأنهم أخذوه للرد على مالكه.
الحالة الثانية: ألا يكون المبذول له كذلك، فإن أخذه لنفسه حرم عليه، وإن أخذه ليرده إلى مالكه جاز ذلك، وإن جهل مالكه بحث عنه إلى أن يعرفه، فإن تعذرت معرفته صرفه في المصالح العامة أهمها فأهمها، وأصلحها فأصلحها، فإن لم يعرف تلك المصالح دفعه إلى من يعرفها، فإن لم يجد من يعرفها تربص بها إلى أن يجده فيتعرفها منه، أو يدفعها إليه ليصرفها في مصالحها إن كان عدلا، وإن كان المال الذي يبذلونه مأخوذا بحق، فإن كان المال لمصالح خاصة كالزكاة لأربابها والخمس لأربابه، والفيء للأجناد على قول، فإن كان المبذول له من أهل ذلك المال الخاص فإن أعطي قدر حقه فليأخذه، وإن أعطي زائدا على حقه فليأخذ قدر حقه ويكون حكم الزائد على حقه ما ذكرناه في المال المغصوب، وإن كان ذلك من الأموال العامة فليأخذه إن لم تفت بأخذه مصلحة الفتيا، وليصرفه في المصارف العامة أصلحها فأصلحها، وإن لم يكن من أهل ذلك فعل ما ذكرنا في المال المغصوب، وإن بذل له المال من جهة مجهولة فإن يئس من معرفة مستحقه فقد صار باليأس للمصالح العامة فليأخذه ويصرفه فيها، وإن توقع معرفة مستحقيه فليأخذه بنية البحث عن مستحقيه، فإن تعذرت معرفتهم بعد البحث التام صار كمال المصالح العامة.(1/72)
فصل: في معاملة من أقر بأن أكثر ما في يده حرام
...
فصل: في معاملة من أقر بأن أكثر ما في يده حرام
فإن قيل: ما تقولون في معاملة من اعترف بأن أكثر ماله حرام، هل تجوز أم لا؟ قلنا: إن غلب الحرام عليه بحيث يندر الخلاص منه لم تجز معاملته، مثل أن يقر إنسان أن في يده ألف دينار كلها حرام إلا دينارا واحدا، فهذا لا تجوز معاملته، لندرة الوقوع في الحلال، كما لا يجوز الاصطياد إذا اختلطت حمامة برية بألف حمامة بلدية، وإن عومل بأكثر من الدينار أو اصطياد أكثر من حمامة فلا شك في تحريم ذلك، وإن غلب الحلال بأن اختلط درهم حرام بألف(1/72)
درهم حلال جازت المعاملة كما لو اختلطت أخته من الرضاع بألف امرأة أجنبية، أو اختلطت ألف حمامة برية بحمامة بلدية فإن المعاملة صحيحة جائزة لندرة الوقوع في الحرام. وكذلك الاصطياد، وبين هاتين الرتبتين من قلة الحرام وكثرته مراتب محرمة، ومكروهة، ومباحة، وضابطها أن الكراهة تشتد بكثرة الحرام وتخف بكثرة الحلال، فاشتباه أحد الدينارين بآخر سبب تحريم بين، واشتباه دينار حلال بألف دينار حرام سبب تحريم بين، وبينهما أمور مشتبهات مبنية على قلة الحرام وكثرته بالنسبة إلى الحلال فكلما كثر الحرام تأكدت الشبهة، وكلما قل خفت الشبهة إلى أن يساوي الحلال الحرام فتستوي الشبهات، وسنذكر هذا في موضعه مستقصى إن شاء الله تعالى.
قاعدة: في تعذر العدالة في الولايات:
إذا تعذرت العدالة في الولاية العامة والخاصة بحيث لا يوجد عدل، ولينا أقلهم فسوقا وله أمثلة: - أحدها: إذا تعذر في الأئمة فيقدم أقلهم فسوقا عند الإمكان، فإذا كان الأقل فسوقا يفرط في عشر المصالح العامة مثلا وغيره يفرط في خمسها لم تجز تولية من يفرط في الخمس فما زاد عليه، ويجوز تولية من يفرط في العشر، وإنما جوزنا ذلك لأن حفظ تسعة الأعشار بتضييع العشر أصلح للأيتام ولأهل الإسلام من تضييع الجميع، ومن تضييع الخمس أيضا، فيكون هذا من باب دفع أشد المفسدتين بأخفهما، ولو تولى الأموال العامة محجور عليه بالتبذير نفذت تصرفاته العامة إذا وافقت الحق للضرورة، ولا ينفذ تصرفه لنفسه، إذ لا موجب لإنقاذه مع خصوص مصلحته، ولو ابتلي الناس بتولية امرأة أو صبي مميز يرجع إلى رأي العقلاء فهل ينفذ تصرفهما العام فيما يوافق الحق كتجنيد الأجناد وتولية القضاة والولاة؟ ففي ذلك وقفة.
ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله جلبا للمصالح العامة ودفعا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد(1/73)
الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد. المثال الثاني: الحكام إذا تفاوتوا في الفسوق قدمنا أقلهم فسوقا، لأنا لو قدمنا غيره لفات مع المصالح ما لنا عنه مندوحة، ولا يجوز تفويت مصالح الإسلام إلا عند تعذر القيام بها، ولو لم يجوز هذا وأمثاله لضاعت أموال الأيتام كلها، وأموال المصالح بأسرها. وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. ولو فاتت العدالة في شهود الحكام ففي هذا وقفة، من جهة أن مصلحة المدعي معارضة بمفسدة المدعى عليه، والمختار أنه لا يقبل، لأن الأصل عدم الحقوق المتعلقة بالذمم والأبدان، والظاهر مما في الأيدي لأربابها.
المثال الثالث: إذا تعذرت العدالة في ولاية الأيتام فيختص بها أقلهم فسوقا فأقلهم، لأن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، فإذا كان مال اليتيم ألفا وأقل ولاية فسوقا يخون في مائة من الألف ويحفظ الباقي لم يجز أن يدفع إلى من يخون في مائتين فما زاد عليها.
المثال الرابع: فوات العدالة في المؤذنين والأئمة يقدم فيها الفاسق على الأفسق تحصيلا للمصالح على حسب الإمكان.
المثال الخامس: إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم فسوقا، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتضرع للأموال، قدمنا المتضرع للأموال على المتضرع للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه قدمنا المتضرع للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها. فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ قلنا: نعم دفعا لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءا للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعا لمفسدة الأبضاع وهي معصية. وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعا لمفسدة(1/74)
الدماء وهي معصية، ولكن قد يجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصية بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربو على مصلحة تفويت المفسدة كما، تبذل الأموال في فدى الأسرى الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة.
المثال السادس: إذا لم تجد المرأة وليا ولا حاكما فهل لها أن تحكم أجنبيا يزوجها؟ أو تفوض إليه التزويج من غير تحكيم؟ فيه اختلاف، ومبنى هذه المسائل كلها على الضرورات ومسيس الحاجات، وقد يجوز في حال الاضطرار ما لا يجوز في حال الاختيار، كما يجوز لمن ظفر بمال غريمه الجاحد لدينه أن يأخذ من ماله مثل حقه، فإن كان من غير جنسه فله أن يأخذه ويبيعه. وكذلك مسألة هروب الجمال وتركه الجمال، كذلك الالتقاط وتخيير الملتقط في التمليك بعد التعريف المعتبر، وكذلك أكل المضطر الطعام بغير إذن ربه.(1/75)
فصل: في تقديم المفضول على الفاضل بالزمان إذا اتسع وقت الفاضل
...
فصل: في تقديم المفضول على الفاضل بالزمان إذا اتسع وقت الفاضل
قد يتقدم المفضول على الفاضل بالزمان عند اتساع وقت الفاضل، كتقديم الأذان والإقامة والسنن الرواتب على الفرائض في أوائل الأوقات. ومثل ذلك: تقديم المفضول الذي يخاف فوته على الفاضل الذي لا يخشى فوته؛ كتقديم حمدلة العاطس وتشميته في أثناء الأذان، وفي أثناء قراءة القرآن، وكتقديم السلام ورده المسنون على توالي كلمات الأذان وقراءة القرآن، فإن تعين رد السلام كان تقديمه على القراءة من باب تقديم الفرض على النفل، وإن وقع الأذان في الصلاة، فإن كان المصلي في الفاتحة لم يجبه لئلا ينقطع ولاء الفاتحة، فإن كان في غير الفاتحة ففي إجابته قولان؛ لأن مصلحة الإجابة قد عارضتها مصلحة موالاة أذكار الصلاة وقراءتها.(1/75)
فصل: في تساوي المصالح مع تعذر جمعها
...
فصل: في تساوي المصالح مع تعذر جمعها
إذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير للتنازع بين(1/75)
فصل: في الإقراع عند تساوي الحقوق
...
فصل: في الإقراع عند تساوي الحقوق
وإنما شرعت القرعة عند تساوي الحقوق دفعا للضغائن والأحقاد، وللرضاء بما جرت به الأقدار، وقضاه الملك الجبار، فمن ذلك الإقراع بين الخلفاء عند تساويهم في مقاصد الخلافة، ومن ذلك الإقراع بين الأئمة عند تساويهم في مقاصد الإمامة، ومن ذلك تقارعهم على الأذان عند تساوي المؤذنين، ومن ذلك الإقراع في الصف الأول عند تزاحم المتسابقين، ومن ذلك الإقراع في تغسيل الأموات عند تساوي الأولياء في الصفات، ومن ذلك الإقراع بين الحاضنات إذا كن في رتبة واحدة، ومن ذلك الإقراع بين الأولياء إذا أذنت لهم المرأة وكلهم في درجة واحدة، ومن ذلك الإقراع في السفر بين الزوجات؛ لما في تخير الزوج من إيغار صدورهن وإيحاش قلوبهن. وكذلك لو أراد البداءة بإحداهن في القسم، ومن ذلك الإقراع في زفافهن، ومن ذلك الإقراع بين العبيد(1/77)
في الإعتاق إذا زادوا على الثلث، ومن ذلك الإقراع في استيفاء القصاص من قتل جماعة دفعة واحدة، ولا يتخير الحاكم بين أولياء القتلى إذا طلبوا القصاص دفعا لإيغار صدورهم، وإذا تساوت السهام في قسمة الدور والأراضي لم يتخير القاسم بل يقرع بين الشركاء لتساوي حقوقهم ولا يتخير في التقدم لما فيه من إيغار الصدور، ولو حضر الحاكم خصوم لا مزية لبعضهم على بعض أقرع بينهم لئلا يوغر صدورهم، وإن ترجح بعضهم على بعض كالمرأة والمقيم والمسافر قدم المرأة على الرجال لأنها عورة، وقدم المسافر على المقيم لئلا يتضرر بفوت الرفاق، ولا وجه للإقراع عند تعارض البينتين ولا عند تعارض الخبرين، إذ لا يفيد ثقة بأحد الخبرين ولا بإحدى الشهادتين، ومن ذلك الإقراع في التقاط اللقطاء، ولو تساوى اثنان يصلحان للولاية أو الإمامة أو الأحكام احتمل أن يقرع بينهما، واحتمل أن يتخير بينهما من يفوض إليه ذلك. فكل هذه الحقوق متساوية المصالح ولكن الشرع أقرع ليعين بعضها دفعا للضغائن والأحقاد المؤدية إلى التباغض والتحاسد والعناد، فإن من يتولى الأمر في ذلك إذا قدم بغير قرعة أدى ذلك إلى مقته وبغضته، وإلى أن يحسد المتأخر المتقدم؛ فشرعت القرعة دفعا لهذا الفساد والعناد، لا لأن إحدى المصلحتين رجحت على الأخرى، ولا يمكن مثل ذلك في تعارض البينتين، فإن القرعة لا ترجح الثقة بإحدى الشهادتين إذ لا تزيد بيانا، والترجيح في كل باب إنما يقع بالزيادة في مقاصد ذلك الباب.(1/78)
فصل: فيما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساده أو بإفساد بعضه أو بإفساد صفة من صفاته
...
فصل: فيما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساده أو بإفساد بعضه أو بإفساد صفة من صفاته
فأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بفساده فكإفساد الأطعمة والأشربة والأدوية لأجل الشفاء والاغتذاء وإبقاء المكلفين لعبادة رب العالمين، وكإحراق الأحطاب وإبلاء الثياب والبسط والفرش وآلات الصنائع بالاستعمال. وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه فكقطع اليد المتآكلة حفظا للروح(1/78)
إذا كان الغالب السلامة فإنه يجوز قطعها، وإن كان إفسادا لها لما فيه من تحصيل المصلحة الراجحة وهو حفظ الروح. وكذلك حفظ بعض الأموال بتفويت بعضها؛ كتعييب أموال اليتامى والمجانين والسفهاء، وأموال المصالح إذا خيف عليها الغصب، فإن حفظها قد صار بتعييبها فأشبه ما يفوت من ماليتها من أجور حارسها وحانوتها. وقد فعل الخضر عليه السلام مثل ذلك لما خاف على السفينة الغصب فخرقها ليزهد غاصبها في أخذها، وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد صفة من صفاته فكقطع الخفين أسفل من الكعبين في الإحرام؛ فإن حرمة الإحرام آكد من حرمة سلامة الخفين. وأما إتلاف أموال الكفار بالتحريق والتخريب وقطع الأشجار فإنه جائز لإخزائهم وإرغامهم، بدليل قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}، ومثله قتل خيولهم وإبلهم، إذا كانت تحتهم في حال القتال. وكذلك قتل أطفالهم إذا تترسوا بهم، لأنه أشد إخزاء لهم من تحريق ديارهم وقطع أشجارهم.(1/79)
فصل: في اجتماع المفاسد المجردة عن المصالح
...
فصل: في اجتماع المفاسد المجردة عن المصالح
إذا اجتمعت المفاسد المحضة فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد والأرذل فالأرذل، فإن تساوت فقد يتوقف وقد يتخير وقد يختلف في التساوي والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين مفاسد المحرمات والمكروهات، ولاجتماع المفاسد أمثلة: أحدها: أن يكره على قتل مسلم بحيث لو امتنع منه قتل، فيلزمه أن يدرأ مفسدة القتل بالصبر على القتل، لأن صبره على القتل أقل مفسدة من إقدامه عليه، وإن قدر على دفع المكروه بسبب من الأسباب لزمه ذلك لقدرته على درء المفسدة، وإنما قدم درء القتل بالصبر لإجماع العلماء على تحريم القتل واختلافهم في الاستسلام للقتل، فوجب تقديم درء المفسدة للجمع على وجوب درئها، على درء المفسدة المختلف في وجوب درئها وكذلك لو أكره على الزنا واللواط فإن الصبر مختلف في جوازه ولا خلاف(1/79)
في تحريم الزنا واللواط. وكذلك لو أكره بالقتل على شهادة زور أو على حكم بباطل فإن كان المكره على الشهادة به أو الحكم به قتلا أو قطع عضو وإحلال بضع محرم لم تجز الشهادة ولا الحكم؛ لأن الاستسلام للقتل أولى من التسبب إلى قتل مسلم بغير ذنب، أو قطع عضو بغير جرم، أو إتيان بضع محرم وإن كانت الشهادة أو الحكم بمال لزمه إتلافه بالشهادة أو بالحكم حفظا لمهجته كما يلزم حفظهما بأكل مال الغير. وكذلك من أكره على شرب الخمر، أو غص ولم يجد ما يسيغ به الغصة سوى الخمر، فإنه يلزمه ذلك؛ لأن حفظ الحياة أعظم في نظر الشرع من رعاية المحرمات المذكورات.
المثال الثاني: إذا اضطر إلى أكل مال الغير أكله، لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس، وفوات النفس أعظم من إتلاف مال الغير ببدل، وهذا من قاعدة الجمع بين إحدى المصلحتين وبذل المصلحة الأخرى، وهو كثير في الشرع وله أمثلة: أحدها إذا وجد عادم الماء ما يكفيه لطهارة الحدث أو الخبث، فإنه يطهر به الخبث ويتيمم عن الحدث.
المثال الثالث: إذا وجد المحرم ما يكفيه لطهارة الحدث أو لغسل الطيب العالق به، فإنه يغسل به الطيب تحصيلا لمصلحة التنزه منه في حال الإحرام، ويتيمم عن الحدث، تحصيلا لمصلحة بدل طهارة الحدث، ولو عكس لفاتت إحدى المصلحتين من غير بدل.
المثال الرابع: إذا عتق بعض عبد سرى العتق إلى نصيب شريكه تحصيلا لمصلحة تكميل العتق، وتجب القيمة تحصيلا لبدل ملك شريكه.
المثال الخامس: إذا عتق الواقف أو الموقوف عليه ثم قلنا لا ملك له لم ينفذ عتقه، وإن ملكناه فإن كان المعتق هو الواقف كان إعتاقه كإعتاق الراهن.
وإن كان المعتق هو الموقوف عليه نفذ إعتاقه على الأصح تحصيلا لمصلحة تكميل العتق، ويلزم قيمة نصيب شريكه ليشتري بها ما يوقف بدله تحصيلا(1/80)
لمصلحة بدل الوقف، فكان تحصيل إحدى المصلحتين في هذه المسائل مع بدل الأخرى، أولى من تحصيل إحدى المصلحتين وتعطيل بدل الأخرى. وكذلك لو اضطر إلى أكل النجاسات وجب عليه أكلها، لأن مفسدة فوات النفس والأعضاء أعظم من مفسدة أكل النجاسات.
المثال السادس: إذا وجد المضطر إنسانا ميتا أكل لحمه لأن المفسدة في أكل لحم ميت الإنسان، أقل من المفسدة في فوت حياة الإنسان.
المثال السابع: لو وجد المضطر من يحل قتله كالحربي والزاني المحصن وقاطع الطريق الذي تحتم قتله واللائط والمصر، على ترك الصلاة، جاز له ذبحهم وأكلهم إذا لا حرمة لحياتهم لأنها مستحقة الإزالة، فكانت المفسدة في زوالها أقل من المفسدة في فوات حياة المعصوم، ولك أن تقول في هذا وما شابهه جاز ذلك تحصلا لأعلى المصلحتين أو دفعا لأعظم المفسدتين.
فتقول: جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهرا يقوم مقامها، لأن مصلحة العافية والسلامة أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها، ومثله قطع السلعة التي يخشى على النفس من بقائها.
فإن قيل: قد أجزتم قلع الضرس إذا اشتد ألمه ولم تجوزوا قطع العضو إذا اشتد ألمه؟ قلنا الفرق بينهما من وجهين أحدهما: أن قطع العضو مفوت لأصل الانتفاع به، وقلع الضرس مفوت لتكميل الانتفاع فإن غيره من الأضراس والأسنان يقوم مقامه. والثاني: أن قلع الضرس لا سراية له إلى الروح بخلاف قطع العضو. فإن قيل: لم التزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدين؟ قلنا: التزم ذلك دفعا لمفاسد عظيمة وهي قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكة لا يعرفهم أهل الحديبية وفي قتلهم معرة عظيمة على المؤمنين، فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين، مع أن الله عز وجل علم(1/81)
أن في تأخير القتال مصلحة عظيمة وهي إسلام جماعة من الكافرين وكذلك قال: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي في ملته التي هي أفضل رحمته وكذلك قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي لو تفرق بين المؤمنين والكافرين وتميز بعضهم من بعض لعذبنا الذين كفروا بالقتل والسبي منهم عذابا أليما. ولتساوي المفاسد أمثلة: أحدها إذا وقع رجل على طفل من بين الأطفال إن أقام على أحدهم قتله، وإن انفتل إلى آخر من جيرانه قتله، فقد قيل ليس في هذه المسألة حكم شرعي وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها ولم ترد الشريعة بالتخيير بين هاتين المفسدتين، فلو كان بعضهم مسلما وبعضهم كافرا فهل يلزمه الانفتال إلى الكافر، لأن قتله أخف مفسدة من قتل الطفل المحكوم بإسلامه؟ فالأظهر عندي أنه يلزمه لأنا نجوز قتل أولاد الكفار عند التترس بهم حيث لا يجوز مثل ذلك في أطفال المسلمين.
المثال الثاني: إذا اغتلم البحر بحيث علم ركبان السفينة أنهم لا يخلصون إلا بتغريق شطر الركبان لتخف بهم السفينة، فلا يجوز إلقاء أحد منهم في البحر بقرعة ولا بغير قرعة، لأنهم مستوون في العصمة، وقتل من لا ذنب له محرم، ولو كان في السفينة مال أو حيوان محترم لوجب إلقاء المال ثم الحيوان المحترم. لأن المفسدة في فوات الأموال والحيوانات المحترمة أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس.
المثال الثالث: إذا أكره إنسان على إفساد درهم من درهمين لرجل أو رجلين تخير في إفساد أيهما شاء.
المثال الرابع: لو أكره بالقتل على إتلاف حيوان محترم من حيوانين يتخير بينهما.
المثال الخامس: لو أكره على شرب قدح خمر من قدحين تخير أيضا.
المثال السادس: لو وجد حربيين في المخمصة فإن تساويا تخير في أكل أيهما(1/82)
شاء وإن تفاوتا بأن كان أحدهما أجنبيا والآخر أبا أو ابنا أو أما أو جده كره أن يأكل قريبه ويدع الأجنبي، كما يكره أن يقتله في الجهاد، ولو وجد صبيا أو مجنونا مع بالغ كافر أكل الكافر بعد ذبحه وكف عن الصبي والمجنون لما في أكلهما من إضاعة ماليتهما على المسلمين، ولأن الكافر الحقيقي أقبح من الكافر الحكمي.
المثال السابع: لو وجد كافرين قويين أيدين في حال المبارزة تخير في قتل أيهما شاء، إلا أن يكون أحدهما أعرف بمكايد القتال والحروب، وأضر على أهل الإسلام، فإنه يقدم قتله على قتل الآخر لعظم مفسدة بقائه، بل لو كان ضعيفا وهو أعرف بمكايد الحروب والقتال، قدم قتله على قتل القوي، لما في إبقائه من عموم المفسدة.
المثال الثامن: لو قصد المسلمين عدوان، أحدهما من المشرق والآخر من المغرب، فتعذر دفعهما جميعا، دفعنا أضرهما أو أكثرهما عددا ونجدة ونكاية في أهل الإسلام، إلا أن تكون الضعيفة أقرب إلينا من القوية ونتمكن من دفعهما قبل أن تغشانا الفئة القوية فنبدأ بها، ولو تكافأ العدوان من كل وجه من القرب والبعد وغيرهما تخيرنا في ذلك عند تعذر الجمع.(1/83)
فصل: في اجتماع المصالح مع المفاسد
...
فصل: في اجتماع المصالح مع المفاسد
إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالا لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}. حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما.
أما منفعة الخمر فبالتجارة ونحوها، وأما منفعة الميسر فبما يأخذه القامر من المقمور(1/83)
وأما مفسدة الخمر فبإزالتها العقول، وما تحدثه من العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وأما مفسدة القمار فبإيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه مفاسد عظيمة لا نسبة إلى المنافع المذكورة إليها. وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد.
فنبدأ بأمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد من رجحان مصالحهما على مفاسدهما وهذه المصالح أقسام: أحدهما ما يباح. والثاني: ما يجب لعظم مصلحته، والثالث ما يستحب لزيادة مصلحته على مصلحة المباح، والرابع مختلف فيه.
المثال الأول: التلفظ بكلمة الكفر مفسدة محرمة لكنه جائز بالحكاية والإكراه، إذا كان قلب المكره مطمئنا بالإيمان، لأن حفظ المهج والأرواح أكمل مصلحة من مفسدة التلفظ بكلمة لا يعتقدها الجنان، ولو صبر عليها لكان أفضل لما فيه من اعتزاز الدين وإجلال رب العالمين، والتغرير بالأرواح في إعزاز الدين جائز، وأبعد من أوجب التلفظ بها.
المثال الثاني: ما يكفر به من الأفعال المناقضة للتعظيم والإجلال إذا فعله بالإكراه، ولا يتصور الإكراه على الكفر بالجنان، ولا على جحد ما يجب الإيمان به؛ إذ لا اطلاع للمكره على ما يشتمل عليه الجنان من كفر وإيمان وجحد وعرفان.
المثال الثالث: استعمال الماء المشمس مفسدة مكروهة، فإن لم يجد غيره وجب استعماله لأن تحصيل مصلحة الواجب، أولى من دفع مفسدة المكروه، لأن تحمل مشقة المكروه، أولى من تحمل مفسدة تفويت الواجب.
فإن قيل هلا حرمتم استعمال الماء المشمس لما فيه من الأضرار بإفساد(1/84)
الأجساد، والرب سبحانه وتعالى لا يحب الفساد ولا أهل الفساد؟ قلنا أسباب الضرر أقسام: - أحدها ما لا يختلف مسببه عنه، إلا أن يقع معجزة لنبي أو كرامة لولي؛ كالإلقاء في النار وشرب السموم المذففة، والأسباب الموجبة، فهذا ما لا يجوز الإقدام عليه في حال اختيار ولا في حال إكراه؛ إذ لا يجوز للإنسان قتل نفسه بالإكراه، ولو أصابه مرض لا يطيقه لفرط ألمه لم يجز قتل نفسه، كما لا يجوز الإقدام على الزنا واللواط بشيء من أسباب الإكراه، ولو وقع بركبان السفينة نار لا يرجى الخلاص منها فعجزوا عن الصبر على تحملها مع العلم بأنه لا نجاة لهم من آلامها إلا بالإلقاء في الماء المغرق؛ فالأصح أنه لا يلزمهم الصبر على ذلك، إذ استوت مدتا الحياة في الإحراق والإغراق، لأن إقامتهم في النار سبب مهلك لا انفكاك عنه. وكذلك إغراق أنفسهم في الماء لا انفكاك عنه، وإنما يجب الصبر على شدة الآلام إذا تضمن الصبر على شدتها بقاء الحياة، وههنا لا يفيد الصبر على ألم النار شيئا من الحياة فتبقى مفسدة لا فائدة لها.
القسم الثاني: ما يغلب ترتب مسببه عليه وقد ينفك عنه نادرا فهذا أيضا لا يجوز الإقدام عليه؛ لأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أكبر الأحوال.
القسم الثالث: ما لا يترتب مسببه إلا نادرا، فهذا لا يحرم الإقدام عليه لغلبة السلامة من أذيته وهذا كالماء المشمس في الأواني المعدنية في البلاد الحارة، فإنه يكره استعماله مع وجدان غيره، خوفا من وقوع نادر ضرره، فإن لم يجد غيره تعين استعماله لغلبة السلامة من شره؛ إذ لا يجوز تعطيل المصالح الغالبة لوقوع المفاسد النادرة، ومن وقف الكراهة على استعمال فيه على قصد استعماله فقد غلط، لأن ما يؤثر بطبعه الذي جبله الله عليه لا يقف تأثيره على قصد القاصدين؛ فإن الخبز يشبع، والماء يروي، والسقمونيا تسهل، والسم يقتل، والفروة تدفئ، ولا يقف شيء من ذلك على قصد القاصدين.
المثال الرابع: من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان(1/85)
مصالحها على مفاسدها الصلاة مع الأحداث الثلاثة، مفسدة يجب اتقاؤها عند الإمكان، فإن تعذر اتقاؤها فللمكلف حالان: إحداهما: أن يتمكن من إبدالها بالتيمم فيجب جبرا لما فات من مصالحها عند تعذرها. الحالة الثانية: أن يعجز عن بدلها فالأصح أنه يصلي على حسب حاله؛ لأن المصالح الحاصلة من مقاصد الصلاة، أكمل من المفسدة الحاصلة من استصحاب الأحداث في الصلاة.
المثال الخامس: الصلاة مع الأنجاس مفسدة يجب اتقاؤها في الصلاة لأن المصلي جليس الرب مناج له، فمن إجلال الرب ألا يناجى إلا على أشرف الأحوال، فإن شق الاجتناب بعذر غالب كفضلة الاستجمار ودم البراغيث وطين الشوارع ودم القروح والبثرات جازت صلاته رفقا بالعباد، وإن تعذر الاجتناب بحيث لا تمكن الطهارة صحت الصلاة على الأصح، لأن تحصيل مقاصد الصلاة العظمى أولى من رعاية الطهارة التي هي بمثابة التتمات والتكملات، وقد اختلف العلماء في اشتراطها في الصلاة.
المثال السادس: الصلاة مع تجدد الحدث والخبث مفسدة محرمة، فإن تعذرت الطهارة من أحدهما وشقت من الآخر كصلاة المستحاضة، ومن به سلس البول والمذي والودي وذرب المعدة، جازت الصلاة معها؛ لأن رعاية مقاصد الصلاة أولى من تحصيل مصلحة الطهارتين، أو من دفع مفسدة الحدث والخبث.
المثال السابع: الصلاة إلى غير القبلة مفسدة محرمة، فإن تعذر استقبال القبلة بصلب أو عجز أو إكراه، وجب الصلاة على الأصح إلى الجهة التي حول وجهه إليها لئلا تفوت مقاصد الصلاة وسائر شرائطها بفوات شرط من شرائطها لا نسبة لمصلحته إلى شيء من مصالح مقاصدها، وإن اشتد الخوف بحيث لا يتمكن الغازي من استقبال القبلة سقط استقبالها وصار استقبال جهة المقاتل بدلا من القبلة، وهذا جمع بين مصلحتي الجهاد والصلاة. وكذلك السفر المباح يصير صوبه بدلا من جهة القبلة في حق المتنفل، لما ذكرناه من أن تحصيل مقاصد(1/86)
الصلاة أولى من رعاية شرط من شروطها، ولو منعنا التنفل في الأسفار لامتنع أكثر الناس من التنفل في السفر ولامتنع الأبرار من الأسفار حرصا على إقامة النافلة.
المثال الثامن: صلاة العريان مفسدة محرمة لما فيها من قبح الهيئة لا لأن المصلي مستتر من ربه، فمن عدم السترة صلى عريانا على الأصح؛ لئلا تفوت مقاصد الصلاة حفظا للسترة التي اختلف العلماء في اشتراطها في الصلاة، وهي من التوابع.
المثال التاسع: نبش الأموات مفسدة محرمة، لما فيه من انتهاك حرمتهم، لكنه واجب إذا دفنوا بغير غسل أو وجهوا إلى غير القبلة؛ لأن مصلحة غسلهم وتوجيههم إلى القبلة أعظم من توقيرهم بترك نبشهم، فإن جيفوا وسال صديدهم لم ينبشوا لإفراط قبح نبشهم، ولو ابتلعوا جواهر مغصوبة شقت أجوافهم، فإن كانت الجواهر لمستقل فالأولى ألا يستخرجها إلى أن تتجرد عظامهم عن لحومهم حفظا لحرمتهم، وإن كانت لغير مستقل كالمحجور عليه وأموال المصالح والأوقاف العامة استخرجها حفظا على المحجور عليه وصرفا لها في جهات استحقاقها، وإن دفنوا في أرض مغصوبة جاز نقلهم، لأن حرمة مال الحي آكد من حرمة الميت، والأولى بمالك الأرض ألا ينقلهم، فإن أبى فالأولى أن يتركهم إلى أن تتجرد عظامهم عن لحومهم وتتفرق أوصالهم.
وكذلك شق جوف المرأة على الجنين المرجو حياته، لأن حفظ حياته أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمه، وإذا اختلط قتلى الكافرين بقتلى المسلمين وجب تغسيل الجميع وتكفينهم وحملهم، نظرا لإقامة مصلحة ذلك في حق المسلمين، ولا يصلى على الجميع، بل ينوى الصلاة على المسلمين خاصة، فتجهيز المسلمين مصلحة مقصودة، وتجهيز الكافرين وسيلة إلى تحصيل المصلحة المقصودة للمسلمين.
المثال العاشر: ذبح الحيوان المأكول للتغذية مفسدة في حق الحيوان لكنه(1/87)
جاز تقديما لمصلحة بقاء الإنسان على مصلحة بقاء الحيوان. وكذلك ذبح من يباح دمه من المسلمين والكفار كالزاني المحصن، ومن تحتم قتله في قطع الطريق، والمصر على ترك الصلاة، جائز في حال الاضطرار، حفظا لحياة الإنسان المعصوم الواجبة الحفظ، والإبقاء بإزالة حياة واجبة الإزالة والإفناء.
المثال الحادي عشر: قتل الصيد الوحشي المأكول بغير الذبح مفسدة محرمة، لكنه جاز بالحرج عند تعذر الذبح لمصلحة تغذية الأجساد.
المثال الثاني عشر: ذبح صيد الحرم، أو الصيد في الإحرام مفسدة محرمة، لكنه جائز في حال الضرورة، تقديما لحرمة الإنسان على حرمة الحيوان، وهذا من باب تقديم حق العبد على حق الرب. وكذلك أكل أموال المسلمين بغير إذن منهم مفسدة، لكنه جائز عند الضرورات ومسيس الحاجات. وكذلك جواز أكل النجاسات والميتات من الناس والخنازير والضباع والسباع للضرورة، وهذا من المصالح الواجبات، لأن حفظ الأرواح أكمل مصلحة من اجتناب النجاسات، ولو وجد المضطر المحرم صيدا وميتة وطعام أجنبي، فهل يتخير، أو يتعين أكل الميتة أو الصيد أو مال الغير، فيه اختلاف، مأخذه أي هذه المفاسد أخف وأيها أعظم.
المثال الثالث عشر: ترك الصلاة وصوم رمضان وتأخير الزكاة وحقوق الناس الواجبات من غير عذر شرعي مفسدة محرمة، لكنه جائز بالإكراه؛ فإن حفظ النفوس أولى مما يترك بالإكراه، مع أن تداركه ممكن، فيكون جمعا بين هذه الحقوق وبين حفظ الأرواح.
المثال الرابع عشر: شرب الخمر مفسدة محرمة، لكنه جائز بالإكراه لأن حفظ النفوس والأطراف أولى من حفظ العقول في زمن قليل، ولأن فوات النفوس والأطراف دائم، وزوال العقول يرتفع عن قريب بالصحو.
المثال الخامس عشر: شهادة الزور مفسدة كبيرة فإن أكره عليها بالقتل أو(1/88)
بما يؤدي إلى القتل كقطع عضو، فإن كان المشهود به يتضمن قتل نفس معصومة أو زنا أو لواطا لم يجز، لقبح الكذب وقبح التسبب إلى القتل والزنا واللواط، وإن كانت الشهادة بغير ذلك جازت لأن حرمة نفس الشاهد أعظم من حرمة ما أكره على الشهادة به، والإكراه على الحكم كالإكراه على شهادة الزور.
المثال السادس عشر: هجرة المسلم محرمة لما فيها من المفسدة، لكنها جازت في ثلاثة أيام دفعا للمشقة عن المحرج الغضبان.
المثال السابع عشر: الحجر على المرء المستقل في تصرفه في منافع نفسه مفسدة، لكنه ثبت على النساء في النكاح دفعا لمشقة مباشرته عنهن، فإن المرأة تستحي ويشتد خجلها من العقد على نفسها أو غيرها ولا سيما المستحيات الخضرات. وكذلك إجبار النساء على النكاح مفسدة، لأنه أحد الرقين، لكنه جاز في حق الأبكار الأصاغر، لما فيه من المبادرة إلى تحصيل الأكفاء، إذ لا يتفق حصول الأكفاء في جميع الأوقات.
المثال الثامن عشر: الحجر على المرضى فيما زاد على الثلث مفسدة في حقهم، لكنه ثبت، نظرا لمصلحة الورثة في سلامة الثلثين لهم، كما ثبت تقديم حقه في الثلث على حقوقهم.
المثال التاسع عشر: الحجر على المفلس مفسدة في حقه لكنه ثبت تقديما لمصلحة الغرماء على مفسدة الحجر، وإن شئت قلت تقديما لمصلحة غرمائه على مصلحته في الإطلاق، بخلاف الإنفاق عليه وعلى أهله إلى يوم قضاء الدين، فإن مصلحته بالكسوة والإنفاق ومصلحة من يلزمه مصلحته مقدمة على مصالح غرمائه. فإن قيل: كيف يكون الحجر عليه مفسدة في حقه مع ما فيه من إبراء ذمته الذي هو مهم في الشرع والطبع؟ قلنا: المقصود الأعظم توفير الحقوق للغرماء وبراءة ذمته تبعا لذلك، وأما حجر التبذير فإنه واجب لرجحان مصلحة الحجر على مفسدة الإطلاق، والحجر على الصبيان والمجانين مصلحة محضة(1/89)
لا تعارضها مفسدة، إذ لا يأتي منهم التصرف. وفي الحجر على الصبي المميز في البيع ونحوه اختلاف بين العلماء. وكذلك الحجر على السفيه ثابت لمصلحته، لأن إطلاقه مفسدة في حقه، لكنه تجوز وصيته لأنها مصلحة في حقه لا تعارضها مفسدة. وكذلك وصية الصبي المميز على القول المختار، فإنها مصلحة له في أخراه لا تعارضها مفسدة في دنياه ولا في أخراه.
المثال العشرون: الحجر على العبيد مفسدة في حقهم مصلحة في حق السادة، لشرف الحرية.
المثال الحادي والعشرون: بيع العبد في جنايته مفسدة في حق السيد مصلحة في حق المجني عليه، وقد خالف فيها بعض أهل الظاهر، وخلافهم ظاهر.
المثال الثاني والعشرون: وضع اليد بغير إذن المالك مفسدة موجبة للضمان، إلا في حق الحكام ونواب الحكام، إذا غلطوا بذلك في معرض التصرف بالأحكام، أو النيابة عن الحكام. لأن التغريم يكثر ويشق عليهم ويزهدهم في ولاية الأموال، ويجوز التقاط الأموال لمصالح أربابها. وكذلك أخذ الحكام إياها لحفظها، وهذا واجب على الحكام. وكذلك الأمانة الشرعية، مثل من طيرت إليه الريح ثوبا. والالتقاط محبوب أو واجب فيه اختلاف، والالتقاط للتعريف والتملك جائز لمصلحة المالك والملتقط، وظفر المستحق بجنس حقه وبغير جنسه عند تعذر أخذه ممن هو عليه جائز، وهذا من المصالح المباحة إلا في حق المجانين والأيتام والأموال العامة لأهل الإسلام.
المثال الثالث والعشرون: إتلاف مال الغير مفسدة في حقه مضمون ببذله، إلا في قتال البغاة والصوال والممتنعين من أداء الحقوق بالقتال
المثال الرابع والعشرون: القتل بغير حق مع الجهل بكونه مستحق مفسدة موجبة للضمان على القاتل أو على عاقلته، إلا أن يكون جلادا، لما في تغريمه من تكرر الغرم الداعي إلى ترك القيام بمصلحة إقامة الحدود والقصاص.(1/90)
المثال الخامس والعشرون: قتل المسلم مفسدة محرمة، لكنه يجوز بالزنا بغير الإحصان، وبقطع الطريق والبغي والصيال.
المثال السادس والعشرون: تقديم عاقلة الحاكم الدية فيما يخطئ به الحاكم في معرض الأحكام، ومصالح الإسلام مضرة على عاقلته، فتجب على بيت المال دون العاقلة على قول، لما في تغريم عاقلته من تكرير تحميل العقل وكذلك ما يفسده الإمام ويفوته من الأموال بسبب تصرفاته لأهل الإسلام، هل يغرمه أو يجب في بيت المال؟ فيه القولان.
المثال السابع والعشرون: تصحيح ولاية الفاسق مفسدة، لما يغلب عليه من الخيانة في الولاية، لكنها صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق؛ لما في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة، ونحن لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ينفذ من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين، فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد، إذ لا يترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل، والذي أراه في ذلك أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق مع عدم ولايتهم لضرورة الرعية، كما نصحح تصرفات إمام البغاة مع عدم أمانته؛ لأن ما ثبت للضرورة تقدر بقدرها، والضرورة في خصوص تصرفاته، فلا نحكم بصحة الولاية فيما عدا ذلك، بخلاف الإمام العادل فإن ولايته قائمة في كل ما هو مفوض إلى الأئمة.
المثال الثامن والعشرون: تولي الآحاد لما يختص بالأئمة مفسدة، لكنه يجوز في الأموال إذا كان الإمام جائرا يضع الحق في غير مستحقه، فيجوز لمن ظفر بشيء من ذلك الحق أن يدفعه إلى مستحقيه تحصيلا لمصلحة ذلك الحق الذي لو دفع إلى الإمام الجائر لضاع، ولكان دفعه إليه إعانة على العصيان، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
المثال التاسع والعشرون: نكاح الأحرار الإماء مفسدة محرمة(1/91)
لما فيه من تعريض الأولاد للإرقاق، لكنه جائز عند خوف العنت وفقد الطول، دفعا لمفسدة وقوع التائق في الزنا الموجب في الدنيا للعار وفي الآخرة لعذاب النار.
فإن قيل: كيف يحرم تحصيل مصلحة ناجزة محققة لتوقع مفسدة ممهلة؟ قلنا لما غلب وقوع هذه المفسدة جعل الشرع المتوقع كالواقع، فإن العلوق غالب كثير، والشرع قد يحتاط لما يكثر وقوعه احتياطه لما تحقق وقوعه. ألا ترى أن من أثبت أن أباه مات فإنه يلزمه حصر الورثة فيه، وإن أثبت نفي الزوجات والآباء والأمهات لم ينفعه الإثبات، وإن كان الأصل عدم من سوى الأصول والزوجات، وذلك احتياط لما يتوهم وجوده من الورثة.
فإن قيل لو طلب هذا الأمين من التركة درهما واحدا وهي عشرة آلاف، فهل يدفع إليه شيء قبل الحصر أم لا؟ قلنا نعم يدفع إليه ما يقطع بأنه يستحقه إذا كان عدد الورثة لا ينتهي إلى مثل عدد التركة في العادة، كما يدفع إلى ذوي الفروض فروضهم عائلة، إذ من المحال في العادة أن ينتهي عدد الورثة إلى ألف أو ألفين فما النظر بعشرة الآلاف.
فإن قيل: إذا تزوج الأمة حر مجبوب الذكر والأنثيين فليجز ذلك مع أمن العنت ووجدان الطول إذ لا يتوقع له ولد فيرق؟ قلت: إن ألحقنا به النسب جاز كغير المجبوب وإن لم يلحق به النسب فالذي أراه جواز ذلك إذ لا مانع منه.
المثال الثلاثون: تزوج الضرات بعقد أو عقود مفسدة؛ لما فيه من الإضرار بالزوجات، لكنه جاز أن تضر كل واحدة منهن بثلاث نظرا لمصالح الرجال وتحصيلا لمقاصد النكاح، فإن خيف من الجور عليهن استحب الاقتصار على واحدة أو سرية، دفعا لما يتوقع من مفسدة الجور، وحرمت الزيادة على الأربع نظرا للنساء ودفعا لمظان جور الرجال على الأزواج، كما جاز كسر المرأة بثلاث طلقات ولم تجز الزيادة عليها نظرا لمصالح النساء وزجرا للرجال عن تكثير مفسدة الطلاق.(1/92)
المثال الحادي والثلاثون: التقرير على الأنكحة الفاسدة مفسدة إلا في تقرير الكفار على الأنكحة الفاسدة إذا أسلموا، فإنه واجب، لأنا لو أفسدناها لزهد الكفار في الإسلام خوفا من بطلان أنكحتهم فتقاعدوا عن الإسلام، والترغيب في الإسلام بتقريرهم على أنكحتهم أولى من التنفير من الإسلام بإفساد أنكحتهم، إذ لا مفسدة أقبح من تفويت الإسلام والسعي في تفويته. وكذلك لا يقتص منهم بمن قتلوه من المسلمين ولا يغرمون ما أتلفوا على المسلمين من الأموال؛ لأنا لو ألزمناهم ذلك لتقاعدوا عن الإسلام.
المثال الثاني والثلاثون: التقرير على الكفر مفسدة عظيمة لأنه أعظم المفاسد وفي تقرير المرتد ثلاثة أيام قولان. أحدهما: لا يقرر لوجوب إزالة المفاسد على الفور والكفر من أعظم المفاسد. والثاني: يقرر نظرا له كما تجوز مصالحة أهل الحرب على التقرير أربعة أشهر ولا تجوز الزيادة عليها، لما في ذلك من تقرير أعظم المفاسد وأنكر المنكرات. فإن خيف على أهل الإسلام جاز التقرير بالصلح عشر سنين رعاية لمصالح المسلمين، وتوقعا في هذه المدة لإسلام بعض الكافرين. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين فدخل منهم خلق كثير في الإسلام، ولا تجوز الزيادة عليها لأن الكفر أنكر المنكرات، فلا يجوز التقرير عليه إلا بقدر ما جاءت به السنة. وكذلك لا تخلى كل سنة من غزوة، وواجب الإمام القتال على الدوام، والاستمرار عند الإمكان، والذي ذكره ظاهر لأن إزالة المفاسد واجبة عند الإمكان، فما الظن بإزالة أعظم المفاسد وهو الكفر بالملك الديان.
فإن قيل: كيف قررتم الكوافر على كفرهن على الدوام؟ قلنا لأنهن قد صرن مالا من أموال المسلمين مع قرب رجوعهن إلى الإسلام.
المثال الثالث والثلاثون: وجوب إجارة مستجير الكفار إلى أن يسمع كلام الله، لعله إذا سمعه أن يقبل عليه ويميل إليه.(1/93)
المثال الرابع والثلاثون: وجوب إجارة رسل الكفار مع كفرهم، لمصلحة ما يتعلق بالرسالة من المصالح الخاصة والعامة.
المثال الخامس والثلاثون: التقرير بالجزية، وهو مختص بأهل الكتابين لإيمانهم بالكتب السماوية التي يوافق أعظم أحكامها أحكام الإسلام فخف كفرهم لإيمانهم بتلك الأحكام، بخلاف من جحدها فإنه كذب الله سبحانه وتعالى في معظم أحكامه وكلامه، فكان كفره أغلظ، بخلاف من آمن بالأكثر وكفر بالأقل، ولا تؤخذ الجزية عوضا عن تقريرهم على الكفر، إذ ليس من إجلال الرب أن تؤخذ الأعواض على التقرير على سبه وشتمه ونسبته إلى ما لا يليق بعظمته، ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد، وإنما الجزية مأخوذة عوضا عن حقن دمائهم وصيانة أموالهم وحرمهم وأطفالهم، مع الذب عنهم إن كانوا في ديارنا، وليست مأخوذة عن سكنى دار الإسلام إذ يجوز عقد الذمة مع تقريرهم في ديارهم. [فائدة] إن قيل الجزية للأجناد على قول وللمصالح على قول، وقد رأينا جماعة من أهل العلم والصلاح لا يتورعون عنها ولا يخرجون من الخلاف منها مع ظهوره؟ فالجواب أن الجند قد أكلوا من أموال المصالح التي يستحقها أهل العلم والورع وغيرهم ممن يجب تقديمه أكثرها، فيؤخذ من الجزية ما يكون قصاصا ببعض ما أخذوه فأكلوه.
المثال السادس والثلاثون: التقرير على المعاصي كلها مفسدة لكن يجوز التقرير عليها عند العجز عن إنكارها باليد واللسان، ومن قدر على إنكارها مع الخوف على نفسه كان إنكاره مندوبا إليه ومحثوثا عليه، لأن المخاطرة بالنفوس في إعزاز الدين مأمور بها كما يعذر بها في قتال المشركين، وقتال البغاة المتأولين، وقتال مانعي الحقوق بحيث لا يمكن تخليصها منهم إلا بالقتال وقد قال عليه السلام: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". جعلها أفضل الجهاد لأن قائلها(1/94)
قد جاد بنفسه كل الجود، بخلاف من يلاقي قرنه من القتال، فإنه يجوز أن يقهره ويقتله فلا يكون بذله نفسه مع تجويز سلامتها، كبذل المنكر نفسه مع يأسه من السلامة.
المثال السابع والثلاثون: انهزام المسلمين من الكافرين مفسدة، لكنه جائز إذا زاد الكافرون على ضعف المسلمين مع التقارب في الصفات تخفيفا عنهم لما في ذلك من المشقة، ودفعا لمفسدة غلبة الكافرين لفرط كثرتهم على المسلمين. وكذلك التحرف للقتال، والتحيز إلى فئة مقاتلة بنية أن يقاتل المتحيز معهم، لأنهما وإن كانا إدبارا إلا أنهما نوع من الإقبال على القتال.
المثال الثامن والثلاثون: قتل الكفار من النساء والمجانين والأطفال مفسدة، لكنه يجوز إذا تترس بهم الكفار بحيث لا يمكن دفعهم إلا بقتلهم.
المثال التاسع والثلاثون: قتل من لا ذنب له من المسلمين مفسدة إلا إذا تترس بهم الكفار وخيف من ذلك اصطلام المسلمين، ففي جواز قتلهم خلاف، لأن قتل عشرة من المسلمين أقل مفسدة من قتل جميع المسلمين.
المثال الأربعون: التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة لكنه واجب إذا علم أنه يقتل من غير نكاية في الكفار، لأن التغرير بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام وقد صار الثبوت ههنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.
المثال الحادي والأربعون: الإرقاق مفسدة، ولكنه من آثار الكفر فثبت في نساء الكفار وأطفالهم ومجانينهم، زجرا عن الكفر وتقديما لمصالح المسلمين. وكذلك إذ اختار الإمام إرقاق المكلفين من الرجال أما إرقاق الرجال فمن آثار الكفر. وأما إرقاق النساء والصبيان فليس عقوبة لهم بذنب غيرهم وإنما هو عقوبة بالنسبة إلى الآباء والأمهات، وهي بالنسبة إلى النساء والصبيان مصيبة من مصائب الدنيا، كما يصابون بالأمراض والأسقام من غير إجرام.(1/95)
المثال الثاني والأربعون: قتل الممتنعين من أداء الحقوق بغير عذر إذا امتنعوا من أدائها بالقتال، دفعا لمفسدة المعصية، وتحصيلا لمصلحة الحقوق التي امتنعوا من أدائها.
المثال الثالث والأربعون: قتل المرتد مفسدة في حقه، لكنه جاز دفعا لمفسدة الكفر.
المثال الرابع والأربعون: الكذب مفسدة محرمة إلا أن يكون فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة، فيجوز تارة ويجب أخرى وله أمثلة:
أحدها: أن يكذب لزوجته لإصلاحها وحسن عشرتها فيجوز لأن قبح الكذب الذي لا يضر ولا ينفع يسير، فإذا تضمن مصلحة تربو على قبحه أبيح الإقدام عليه تحصيلا لتلك المصلحة. وكذلك الكذب للإصلاح بين الناس وهو أولى بالجواز لعموم مصلحته. الثاني: أن يختبئ عنده معصوم من ظالم يريد قطع يده فيسأله عنه فيقول ما رأيته فهذا الكذب أفضل من الصدق، لوجوبه من جهة أن مصلحة حفظ العضو أعظم من مصلحة الصدق الذي لا يضر ولا ينفع، فما الظن بالصدق الضار؟ وأولى من ذلك إذا اختبأ عنده معصوم ممن يريد قتله. الثالث: أن يسأل الظالم القاصد لأخذ الوديعة المستودع عن الوديعة فيجب عليه أن ينكرها، لأن حفظ الودائع واجب وإنكارها ههنا حفظ لها، ولو أخبره بها لضمنها وإنكارها إحسان. الرابع: أن تختبئ عنده امرأة أو غلام يقصدان بالفاحشة، فيسأله القاصد عنهما فيجب عليه أن ينكرهما الخامس: أن يكره على الشرك الذي هو أقبح الكذب أو على نوع من أنواع الكفر فيجوز له أن يتلفظ به حفظا لنفسه، لأن مفسدة لفظ الشرك من غير اعتقاد، دون مفسدة فوات الأرواح، والتحقيق في هذه الصور وأمثالها أن الكذب يصير مأذونا فيه ويثاب على المصلحة التي تضمنها على قدر رتبة تلك المصلحة من الوجوب في حفظ الأموال والأبضاع والأرواح، ولو صدق في هذه(1/96)
المواطن لأثم إثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد، وتتفاوت الرتب له، ثم التسبب إلى المفاسد بتفاوت رتب تلك المفاسد.
المثال الخامس والأربعون: من ترجيح المصالح على المفاسد: الغيبة مفسدة محرمة، لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحة واجبة التحصيل، أو جائزة التحصيل، ولها أحوال: أحدها: أن يشاور في مصاهرة إنسان فذكره بما يكره كما قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما خطبها أبو جهم ومعاوية: "أبا جهم ضراب للنساء، وإن معاوية صعلوك لا مال له" فذكرهما بما يكرهانه نصحا لها ودفعا لضيق عيشها مع معاوية وتعريضا لضرب أبي الجهم. فهذا جائز، والذي يظهر لي أنه واجب لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصح لكل مسلم.
الحالة الثانية: القدح في الرواة واجب، لما فيه من دفع إثبات الشرع بقول من لا يجوز إثبات الشرع به، لما على الناس في ذلك من الضرر في التحريم والتحليل وغيرهما من الأحكام. وكذلك كل خبر يجوز الشرع الاعتماد عليه والرجوع إليه.
الحالة الثالثة: جرح الشهود عند الحكام فيه مفسدة هتك أستارهم، لكنه واجب لأن المصلحة في حفظ الحقوق من الدماء والأموال والأعراض والأبضاع والأنساب وسائر الحقوق أعم وأعظم، فإن علم منه ذنبين أحدهما أكبر من الآخر لم يجز أن يجرحه بالأكبر لأنه مستغنى عنه، وإن استويا تخير ولا يجمع بينهما.
المثال السادس والأربعون: النميمة مفسدة محرمة، لكنها جائزة أو مأمور بها إذا اشتملت على مصلحة للمنموم إليه، مثاله: إذا نقل إلى مسلم أن فلانا عزم على قتله في ليلة كذا وكذا، أو على أخذ ماله في يوم كذا وكذا، أو على التعرض لأهله في وقت كذا وكذا، فهذا جائز بل واجب لأنه توسل إلى دفع هذه(1/97)
المفاسد عن المسلم، وإن شئت قلت لأنه تسبب إلى تحصيل مصالح أضداد هذه المفاسد. ويدل على ذلك كله قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} الآية. وكذلك ما نقله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين.
المثال السابع والأربعون: هتك الأعراض مفسدة كبيرة، لكنه يجوز في الشهادة على الزاني بالزنا لإقامة حد الله تعالى، وعلى القاتل بالقتل لإقامة القصاص، وعلى القاذف بالقذف لإقامة الحد للمقذوف، وعلى الغاصب بالغصب لتغريم الأموال والمنافع. وكذلك الشهادة على السراق وقطاع الطريق بما صنعوه من أخذ الأموال وإراقة الدماء، لإقامة حقوق الله تعالى وحقوق عباده؛ فهذا كله صدق مضر بالمشهود عليه هاتك لستره، لكنه جاز لما فيه من مصالح إقامة حقوق الله وحقوق عباده. وكذلك الشهادة بالكفر والسرقة وغير ذلك من المعاصي الموجبة للعقوبات الشرعية والغرامات المالية، كل ذلك صدق مضر بالمشهود عليه نافع للمشهود له. وكذلك الحكم بما يضر المحكوم عليه وينفع المحكوم له. وكذلك إقامة الحكام على إقامة هذه الأحكام، وكذلك تولية الولاة الذين يضرون قوما وينفعون آخرين. وقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "ولعل الله أن يؤخرك حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون".
المثال الثامن والأربعون: كشف العورات والنظر إليها مفسدتان محرمتان على الناظر والمنظور إليه، لما في ذلك من هتك الأستار، ويجوزان لما يتضمنانه من مصلحة الختان أو المداواة أو الشهادات على العيوب أو النظر إلى فرج الزانيين، لإقامة حدود الله، إن كان الناظر أهلا للشهادة بالزنا وكمل العدد، وإن لم يكن كذلك لم يجز لأنه مفسدة لا يبنى عليه مصلحة.
المثال التاسع والأربعون: الرمي بالزنا مفسدة لما فيه من، الإيلام بتحمل العار، لكنه يباح في بعض الصور ويجب في بعضها، لما يتضمنه من المصالح، وله أمثلة.(1/98)
أحدها: قذف الرجل زوجته إذا تحقق زناها شفاء لصدره لما أدخلته عليه من ضرر إفساد فراشه وإرغام غيرته.
الثاني: وجوب قذفها إذا أتت بولد يلحقه في ظاهر الحكم وهو يعلم أنه ليس منه، فيلزمه أن يقذفها لنفيه، لأنه لو ترك نفيه لخالط بناته وأخواته وجميع محارمه، وورثه ولزمته نفقته ولتولى أنكحة بناته إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالنسب، فيلزمه نفيه درءا لهذه المفاسد وتحصيلا لأضدادها من المصالح، ولو أتت به خفية بحيث لا يلحق به في الحكم لم يجب نفيه، والأولى به الستر والكف عن القذف. الثالث: جرح الشاهد والراوي بالزنا، وهو واجب دفعا عن المشهود عنه، سواء كان المشهود به قليلا أو كثيرا.
[فائدة] إذا قذف امرأة عند الحاكم، فإن الحاكم يبعث إليها ليعلمها بقذفه، نصحا لها حتى تعفو أو تستوفي حقها، وهذا ضار بالقاذف نافع للمقذوف، وفي وجوبه اختلاف، والمختار وجوبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" لم يكن هذا حرصا منه صلى الله عليه وسلم على رجمها وإنما كان إعلاما بما يمكن من ثبوت حقها بسبب هتك عرضها.
المثال الخمسون: من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها، قطع يد السارق إفساد لها، لكنه زاجر حافظ لجميع الأموال، فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق.
المثال الحادي والخمسون: قطع أعضاء الجاني حفظا لأعضاء الناس.
المثال الثاني والخمسون: جرح الجاني حفظا للسلامة من الجراح
المثال الثالث والخمسون: قتل الجاني مفسدة بتفويت حياته لكنه جاز لما فيه من حفظ حياة الناس على العموم ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}.
المثال الرابع والخمسون: التمثيل بالجناة إذا مثلوا بالمجني عليه مفسدة في حقهم، لكنه مصلحة زاجرة عن التمثيل في الجناية.(1/99)
المثال الخامس والخمسون: حد القاذف صيانة للأعراض.
المثال السادس والخمسون: جلد الزاني ونفيه حفظا للفروج والأنساب ودفعا للعار.
المثال السابع والخمسون: الرجم في حق الزاني الثيب مبالغة في حفظ ما ذكرناه.
المثال الثامن والخمسون: حد الشرب حفظا للعقول عن الطيش والاختلال.
المثال التاسع والخمسون: حدود قطاع الطريق حفظا للنفوس والأطراف والأموال.
المثال الستون: دفع الصول - ولو بالقتل - عن النفوس والأبضاع والأموال.
المثال الحادي والستون: التعزيرات دفعا لمفاسد المعاصي والمخالفات وهي إما حفظا لحقوق الله تعالى، أو لحقوق عباده، أو للحقين جميعا.
المثال الثاني والستون: الحبس وهو مفسدة في حق المحبوس، لكنه جاز لمصالح ترجح على مفسدته وهي أنواع: منها حبس الجاني عند غيبة المستحق حفظا لمحل القصاص، ومنها حبس الممتنع من دفع الحق إلى مستحقه إلجاء إليه وحملا عليه، ومنها حبس التعزير ردعا عن المعاصي، ومنها حبس كل ممتنع من تصرف واجب لا تدخله النيابة: كحبس من أسلم على أختين وامتنع من تعيين إحداهما، والمقر بأحد عينين وامتنع من تعيينها دفعا لمفسدة المبطل بالحق، ومنها حبس من امتنع من أداء حقوق الله التي لا تدخلها النيابة كالممتنع من صيام رمضان.
فإن قيل: إذا امتنع من أداء درهم واحد مع القدرة على أدائه ومع عجزكم عن دفعه إلى خصمه، فإنكم تخلدون عليه الحبس إلى أن يؤديه. والتخليد هنا في الحبس عذاب كبير على جرم صغير؟ قلنا الأمر كذلك وإنما عاقبنا بعذاب صغير على جرم صغير، فإنه عاص في كل ساعة بامتناعه من أداء الحق، فتقابل كل ساعة من ساعات امتناعه بساعة من ساعات حبسه، وللحاكم زجره وتعزيره إذا لم ينجع الحبس فيه، ويفعل ذلك مرات إلى أن يؤدي الحق إلى مستحقه. فإن قيل؛ وإذا شهد مستوران ظاهرهما العدالة فلم تحبسون المدعى عليه إلى أن يزكيا، مع أن الأصل براءته مما ادعى عليه؟ وكذلك لم يحولون بين الحق والمدعى عليه بشهادة(1/100)
المستورين؟ قلنا لأن الظن المستفاد من شهادة المستورين أقوى من الظن المستفاد من أصل براءة المدعى عليه من الحق.
فإن قيل: لم تحبسون مدعي الإعسار بالحق مع أن الأصل عدم الغنى؟ قلنا له أحوال: أحدها أن نعرف له مالا بمقدار الحق أو أكثر منه، فنحبسه بناء على أن الأصل بقاء ذلك، وقد انتسخ فكرة القديم بالغنى الذي عهدنا.
فإن قيل: إذا طالت المدة وكان ضعيفا عن الكسب فالظاهر أنه ينفق مما عهدناه على نفسه وعياله، فإذا مضت مدة تستوعب نفقتها الغنى الذي عهدناه فينبغي أن لا يحبس لمضارعة هذا الظاهر لاستمرار غناه؟ قلنا جواب هذا السؤال مشكل جدا ولعل الله أن ييسر حله، فإن ما ذكروه ظاهر فيمن قرب عهده بالغنى دون من مضت عليه مدة تستوعب نفقتها أضعاف غناه، مع أن الأصل عدم اكتساب غير ما في يده، وليس تقدير الإنفاق من كسبه بأولى من تقديره مما في يده.
الحالة الثانية: لا يعرف له غنى ولا فقر وفيه مذاهب: أحدها: لا يحبس لأن الأصل فقره فإن الله خلق عباده فقراء لا يملكون شيئا. والثاني: نحبسه لأن الغالب في الناس أنهم يملكون ما فوق كفايتهم، والفقراء الذين لا يملكون ذلك بالنسبة إلى هؤلاء قليل، وهذا مشكل جدا إذا كان الحق كثيرا عزيزا كالألف والألفين، إذ ليست الغلبة متحققة في الغنى المتسع فكيف نحبس الغريم على عشرة آلاف وليس الغالب في الناس من يملك عشرة آلاف ولا ضابط لمقدار الغالب من ذلك، فكيف يخلد من هذا شأنه في الحبس على ما لا يعرف قدره ولا يمكنه الانفصال منه؟ ويحتمل أن يقال إذا أدى قدرا يخرج به عن الغلبة وجب إطلاقه، وهذا قريب المذهب. الثالث: إن لزمه الدين باختياره فالقول قوله لأن الغالب في الناس أنهم لا يلتزمون ما لا يقدرون عليه وهذا بعيد، فإن الفقراء يلتزمون الأجور والمهور والأثمان مع عجزهم عنها.
الحالة الثالثة: من أحوال مدعي الإعسار أن يعهد له مال ناقص عن مقدار(1/101)
الحق الذي لزمه فيحبس عليه وفي حبسه على ما رواه الخلاف المذكور في الحال الثانية إن كان المدعي به نزرا يسيرا، وإن كان كثيرا ففيه قولان: أحدهما: يطلق الأصل. والثاني: يفرق بين ما التزمه وبين ما لزمه بغير اختياره ولا يجيء المذهب الثالث إذ لا غلبة.
الحال الرابعة: إن ثبت عسره فلا يجوز حبسه حتى يثبت يساره، لأن الأصل بقاء عسرته، وأنه إن اكتسب شيئا صرفه في نفقته ونفقة من يلزمه نفقته.
فإن قيل: تخلدون مجهول الحال في الحبس إلى أن يموت؟ قلنا المختار أنه لا يخلد ويجب على الحاكم أن يبعث عدلين يسألان عن أمره في اليسار والإعسار، فإذا غلب على ظنهما فقره شهدا بذلك ووجب إطلاقه؛ إذ لا يليق بالشريعة السهلة السمحة أن يخلد المسلم في الحبس بظن ضعيف، وإنما يخلد في الحبس من ظهر عناده وإصراره على الباطل إلى أن يفيء إلى الحق. وأما المحبوس على القصاص فإنه يخلد في الحبس إلى أن يموت؛ حفظا لحق مستحق القصاص إلى أن يقدم الغائب أو يبلغ الصبي، إذ لا مندوحة عن ذلك إلا بحبسه الذي هو أخف عليه من قتله أو قطع يده.
المثال الثالث والستون: من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها:
قتال البغاة دفعا لمفسدة البغي والمخالفة، ولا يشترط في درء المفاسد أن يكون ملابسها أو المتسبب إليها عاصيا. وكذلك لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون المأمور والمنهي عاصيين، بل يشترط فيه أن يكون أحدهما ملابسا لمفسدة واجبة الدفع، والآخر تاركا لمصلحة واجبة التحصيل. ولذلك أمثلة: أحدها أمر الجاهل بمعروف لا يعرف إيجابه.
المثال الثاني: نهيه عن منكر لا يعرف تحريمه.
المثال الثالث: قتال أهل البغي، مع أنه لا إثم عليهم في بغيهم لتأويلهم.
المثال الرابع: ضرب الصبيان على ترك الصلاة والصيام، وغير ذلك من المصالح.(1/102)
فإن قيل: إذا كان الصبي لا يصلحه إلا الضرب المبرح فهل يجوز ضربه تحصيلا لمصلحة تأديبه؟ قلنا لا يجوز ذلك، بل يجوز أن يضربه ضربا غير مبرح؛ لأن الضرب الذي لا يبرح مفسدة، وإنما جاز لكونه وسيلة إلى مصلحة التأديب، فإذا لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد؛ لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد.
فإن قيل: إذا كان المعزر البالغ لا يرتدع عن معصيته إلا بتعزير مبرح فهل يلحق بالصبي؟ قلنا: لا يلحق به بل نعزره تعزيرا غير مبرح ونحبسه مدة يرجى فيها صلاحه. وكذلك إذا منعنا من الزيادة على عشرة أسواط في التعزير، وكان ذلك لا يردع المعزر فانضم إليه الحبس مدة يرجى في مثلها حصول الارتداع.
المثال الخامس: قتل الصبيان والمجانين إذا صالوا على الدماء والأبضاع، ولم يمكن دفعهم إلا بقتلهم.
المثال السادس: حد الحنفي على شرب النبيذ، مع الجزم بعدالته، وأنه ليس بعاص، دفعا لمفسدة شرب المسكر.
فإن قيل: هلا حددتم بالوطء في النكاح المختلف في صحته، كما حددتم الحنفي بشرب النبيذ المختلف في حل شربه؟ قلنا: الفرق بينهما أن مفسدة الزنا لا تتحقق في النكاح المختلف فيه؛ فإنه يوجب المهر والعدة، ويلحق النسب، ويثبت حرمة المصاهرة، بخلاف الزنا فإنه يقطع الأنساب، ولا يوجب مهرا ولا عدة، والمفسدة في شرب النبيذ مثلها في شرب الخمر من غير فرق.
المثال السابع: إذا وكل وكيلا في القصاص، ثم عفا ولم يعلم الوكيل، أو أخبره فاسق بالعفو فلم يصدقه، وأراد الاقتصاص، فللفاسق أن يدفعه بالقتل إذا لم يمكن دفعه إلا به دفعا لمفسدة القتل من غير حق.
المثال الثامن: إذا وكل وكيلا في بيع جاريته فباعها، فأراد الموكل وطأها ظنا أن الوكيل لم يبعها، فأخبره المشتري أنه اشتراها، فلم يصدقه، فللمشتري أن يدفعه(1/103)
عنها ولو بالقتل، مع أنه لا إثم عليه دفعا لمفسدة الوطء بغير حق، وإن وطئها في الحال لم يكن زانيا ولا آثما.
المثال التاسع: ضرب البهائم في التعليم والرياضة دفعا لمفسدة الشراس والجماح وكذلك ضربها حملا على الإسراع لمس الحاجة إليه على الكر والفر والقتال.
وأما ما رجحت مفسدته على مصلحته فكقطع اليد المتآكلة حفظا للروح إذا كان الغالب السلامة بقطعها. وأما ما تكافأت فيه المصلحة والمفسدة، فقد يتخير فيه وقد يمتنع كما ذكرناه، وهذا كقطع اليد المتآكلة عند استواء الخوف في قطعها وإبقائها، وكل شيء يمثل به في هذا الكتاب من أمثلة المصالح والمفاسد، فمنه ما هو مجمع عليه وهو الأكثر، ومنه ما هو مختلف فيه.
[فائدة في تنويع العقوبات الشرعية] حدود الشرع: قتل، وجلد، وتغريب ورجم، وقطع أعضاء، وأيد وأرجل، وجرح، وصلب وتعزير بضرب أو حبس أو توبيخ، أو جمع بين بعض ذلك على حسب الصلاح.(1/104)
فصل: في بيان الوسائل إلى المصالح
...
فصل: في بيان الوسائل إلى المصالح
يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى المقاصد أفضل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه، والتوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته، والتوسل بالسعي إلى الجهاد أفضل من التوسل بالسعي إلى الجمعات، والتوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات في الصلوات المكتوبات، والتوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبات أفضل من التوسل بالسعي إلى المندوبات التي شرعت فيها الجماعات كالعيدين والكسوفين، وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة، كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها، فتبليغ رسالات الله من أفضل الوسائل، لأدائه إلى جلب كل صلاح دعت إليه الرسل، وإلى درء كل فاسد زجرت عنه الرسل، والإنذار وسيلة(1/104)
إلى درء مفاسد الكفر والعصيان، والتبشير وسيلة إلى جلب مصالح الطاعة والإيمان. وكذلك المدح والذم، وكذلك الأمر بالمعروف وسيلة إلى تحصيل ذلك المعروف المأمور به، رتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة مصلحة الفعل المأمور به في باب المصالح، فالأمر بالإيمان أفضل أنواع الأمر بالمعروف. وكذلك الأمر بالفرائض أفضل من الأمر بالنوافل، والأمر بإماطة الأذى عن الطريق من أدنى مراتب الأمر بالمعروف، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"؛ فمن قدر على الجمع بين الأمر بمعروفين في وقت واحد، لزمه ذلك، لما ذكرناه من وجوب الجمع بين المصلحتين، وإن تعذر الجمع بينهما أمر بأفضلهما؛ لما ذكرناه من تقديم أعلى المصلحتين على أدناهما، مثال الجمع بين الأمر بمعروفين فما زاد، أن يرى جماعة قد تركوا الصلاة المفروضة حتى ضاق وقتها بغير عذر فيقول لهم بكلمة صلوا أو قوموا إلى الصلاة، فإن أمر كل واحد منهم واجب على الفور. وكذلك تعليم ما يجب تعليمه، وتفهيم ما يجب تفهيمه، يختلف باختلاف رتبه وهذان قسمان:
أحدهما: وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه، كتعريف التوحيد وصفات الإله؛ فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد والتوسل إليه من أفضل الوسائل.
القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة كتعليم أحكام الشرع، فإنه وسيلة إلى العلم بالأحكام التي هي وسيلة إلى إقامه الطاعات، التي هي وسائل إلى المثوبة والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد. ويدل على فضل التوسل إلى الجهاد قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}. وإنما أثيبوا على الظمأ والنصب وليسا من فعلهم، لأنهم تسببوا إليهما بسفرهم وسعيهم. وعلى الحقيقة فالتأهب للجهاد بالسفر إليه، وإعداد الكراع والسلاح والخيل، وسيلة(1/105)
إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين، وغير ذلك من مقاصد الجهاد، فالمقصود ما شرع الجهاد لأجله، والجهاد وسيلة إليه، وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى مقاصده، فالاستعداد له من باب وسائل الوسائل. ويدل على فضل التوسل إلى الجمعات والجماعات قوله صلى الله عليه وسلم: "من تطهر في بيته، ثم راح إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فروض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة". وتتفاوت الحسنات المكتوبة والسيئات المحطوطة، بتفاوت رتب الصلاة التي يمشي إليها، وقد جاء في التنزيل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}. وتتفاوت رتب تلك الأعشار بتفاوت رتب الحسنات في أنفسها، فمن تصدق بتمرة فله عشر حسنات، ومن تصدق ببدرة فله عشر حسنات، لا نسبة لشرف حسنات التمرة إليها. وكذلك الولايات تختلف رتبها باختلاف ما تجلبه من المصالح وتدرؤه من المفاسد، فالولاية العظمى أفضل من كل ولاية، لعموم جلبها المنافع، ودرئها المفاسد، وتليها ولاية القضاء لأنها أعم من سائر الولايات، والولاية على الجهاد أفضل من الولاية على الحج، لأن فضيلة الجهاد أكمل من فضيلة الحج، وتختلف رتب الولايات بخصوص منافعها وعمومها فيما وراء ذلك من جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا شك بأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد فمن فاتته الجمعات والجماعات أو الغزوات سقط عنه السعي إليها، لأنه استفاد الوجوب من وجوبهن. وكذلك تسقط وسائل المندوبات بسقوطهن لأنها استفادت الندب منهن، فمن نسي صلاة من صلاتين مكتوبتين لزمه قضاؤهما، فيقضي إحداهما: لأنها المفروضة، ويقضي. الثانية: فإنها وسيلة إلى تحصيل مصلحة المفروضة، فإن ذكر في الثانية أن الأولى هي المفروضة سقط وجوبها بسقوط المتوسل إليه، وهل تبطل أو تبقى نفلا؟ فيه خلاف مبني على أن من نوى صلاة مخصوصة فلم تحصل له فهل تبطل أو تبقى نفلا؟ فيه قولان، وإن ذكر في الأولى أنها فرضه استمر عليها وسقطت الثانية، وإن ذكر أن فرضه(1/106)
الثانية سقط وجوب الأولى وفي بقائها نفلا خلاف. فإن قيل: كيف صحت النية مع التردد في وجوب كل واحدة من الصلاتين؟ قلنا: صحت لأن الأصل وجوب كل واحدة منهما في ذمته فصحت لذلك نيته، لظنه بقاءها في ذمته، فأشبه من وجبت عليه صلاة معينة فشك في أدائها، فإنها تجزئه مع شكه، لاستناد نيته إلى أن الأصل بقاؤها في ذمته، وقد استثنى في سقوط الوسائل بسقوط المقاصد، أن الناسك الذي لا شعر على رأسه مأمور بإمرار الموسى على رأسه، مع أن إمرار الموسى على رأسه وسيلة إلى إزالة الشعر فيما ظهر لنا، فإن ثبت أن الإمرار مقصود في نفسه لا لكونه وسيلة، كان هذا من قاعدة من أمر بأمرين فقدر على أحدهما وعجز عن الآخر.(1/107)
فصل: في بيان وسائل المفاسد
...
فصل: في بيان وسائل المفاسد
يختلف وزن وسائل المخالفات باختلاف رذائل المقاصد ومفاسدها، فالوسيلة إلى أرذل المقاصد أرذل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى الجهل بذات الله وصفاته، أرذل من التوسل إلى الجهل بأحكامه، والتوسل إلى القتل أرذل من التوسل إلى الزنا، والتوسل إلى الزنا أقبح من التوسل إلى أكل بالباطل، والإعانة على القتل بالإمساك أقبح من الدلالة عليه، وكذلك مناولة آلة القتل أقبح من الدلالة عليه، والنظر إلى الأجنبية محرم لكونه وسيلة إلى الزنا، والخلوة بها أقبح من النظر إليها، وعناقها في الخلوة أقبح من الخلوة بها، والجلوس بين رجليها بغير حائل أقبح من ذلك كله، لقوة أدائه إلى المفسدة المقصودة بالتحريم. وهكذا تختلف رتب الوسائل باختلاف قوة أدائها إلى المفاسد، فإن الشهوة تشتد بالعناق بحيث لا تطاق، وليس كذلك النظر، والتفسير أقبح من ذلك كله لقوة أدائه إلى الزنا، وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المفسدة كان إثمها أعظم من إثم ما نقص عنها، والبيع الشاغل عن الجمعة حرام لا لأنه بيع، بل لكونه شاغلا عن الجمعة، فإن رتبت مصلحة التصرف والطاعات على مصلحة الجمعة قدم(1/107)
ذلك التصرف على الجمعة. لفضل مصلحته على مصلحة أداء الجمعة، فيقدم إنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، على صلاة الجمعة. وكذلك يقدم الدفع عن النفوس والأبضاع على صلاة الجمعة من غير تخيير بين هذه الواجبات وبين الجمعة، بخلاف الأعذار الخفيفة المسقطة لوجوب الجمعة فإنها تخيير بين الظهر والجمعة. ولو تصرف ببيع أو هبة أو غير ذلك من التصرفات وهو ذاهب إلى الجمعة تصرفا لا يشغله عن الجمعة لم يحرم ذلك، لخروجه عن كونه وسيلة إلى ترك الجمعة. وكذا النهي عن المنكر وسيلة إلى دفع مفسدة ذلك المنكر المنهي عنه، ورتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة درء مفسدة الفعل المنهي عنه في باب المفاسد، ثم تترتب رتبه على رتب المفاسد إلى أن تنتهي إلى أصغر الصغائر، فالنهي عن الكفر بالله أفضل من كل نهي في باب النهي عن المنكر.
فمن قدر على الجمع بين درء أعظم الفعلين مفسدة ودرء أدناهما مفسدة جمع بينهما لما ذكرناه من وجوب الجمع بين ردء المفاسد، مثل أن ينهى عن منكرين متفاوتين أو متساويين فما زاد، بكلمة واحدة. مثال المتفاوتين أن يرى إنسانا يقتل رجلا وآخر يسلب مال إنسان، فيقول لهما كفا عما تصنعان.
ومثال المتساويين أن يرى اثنين قد اجتمعا على قتل إنسان أو سلب ماله فيقول لهما كفا عن قتله أو سلبه. وكذلك يقول للجماعة كفوا عما تصنعون، وإن قدر على دفع المنكرين دفعة واحدة لزمه ذلك، وإن قدر على دفع أحدهما دفع الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل سواء قدر على دفع ذلك بيده أو بلسانه، مثل أن يتمكن الغازي من قتل واحد من المشركين بسهم ومن قتل عشرة برمية واحدة تنفذ في جميعهم، فإنه يقدم رمي العشرة على رمي الواحد، إلا أن يكون الواحد بطلا عظيم النكاية في الإسلام، حسن التدبير في الحروب: فيبدأ برميه دفعا لمفسدة بقائه، لأنها أعظم من مفسدة بقاء العشرة. وكذلك لو قدر على أن يفتح فوهة نهر على ألف من الكفار لا نجاة لهم منها وقدر على(1/108)
قتل مائة بشيء من آلات القتال لكان فتح فوهة النهر أولى من قتل المائة لما فيه من عظم المصلحة، وإن كان فتح الفوهة أخف من قتل المائة بالسلاح. وكذلك تتفاوت كراهة المنكر بالقلوب عند العجز عن إنكاره باليد واللسان بتفاوت رتبه، فتكون كراهة الأقبح أعظم من كراهة ما دونه.
فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يجديان ولا يفيدان شيئا، أو غلب على ظنه، سقط الوجوب لأنه وسيلة ويبقى الاستحباب، والوسائل تسقط بسقوط المقاصد، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه. وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم، كلما رأوهم، مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم. وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فيزداد فسوقا إلى فسوقه، وفجورا إلى فجوره، فمن أتى شيئا مختلفا في تحريمه معتقدا تحريمه وجب الإنكار عليه لانتهاك الحرمة، وذلك مثل اللعب بالشطرنج، وإن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا تنقض الأحكام بمثله لبطلانه في الشرع، إذ لا ينقض إلا لكونه باطلا، وذلك كمن يطأ جارية بالإباحة معتقدا لمذهب عطاء فيجب الإنكار عليه، وإن لم يعتقد تحريما ولا تحليلا أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ ولا إنكار، ولا يخفى أن وسائل المكروه مكروهة، والمندوب مندوبة، والمباح مباحة. وكذلك ولاية المظالم تختلف باختلاف رتبها في المفاسد فالولاية على القتل والقطع والصلب بغير حق أقبح من الولاية على الضرب بغير حق. وكذلك الولاية على المكوس وغصب الأموال، وتضمين الخمور والأبضاع، وكذلك الإعانة على إثم وعدوان وفسوق وعصيان، وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة(1/109)
وله أمثلة منها ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح لباذليه ومنها أن يريد الظالم قتل إنسان مصادرة على ماله ويغلب على ظنه أنه يقتله إن لم يدفع إليه ماله، فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكا لنفسه، ومنها أن يكره امرأة على الزنا ولا يتركها إلا بافتداء بمالها أو بمال غيرها فيلزمها ذلك عند إمكانه. وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان وإنما هو إعانة على درء المفاسد فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعا لا مقصودا.(1/110)
فصل: في اختلاف الآثام باختلاف المفاسد
...
فصل: في اختلاف الآثام باختلاف المفاسد
يختلف إثم المفاسد باختلافها في الصغر والكبر، وباختلاف ما تفوته من المنافع والمصالح، فيختلف الإثم في قطع الأعضاء وقتل النفوس وإزالة منافع الأعضاء باختلاف المنافع، فليس إثم من قطع الخنصر والبنصر من الرجل كإثم من قطع الخنصر والبنصر من اليد، لما فوته من منافعها الدينية والدنيوية، وسواء قطع ذلك من نفسه أو من غيره، وليس الإثم في قطع الأذن كالإثم في قطع اللسان، لما سنذكره من منافع اللسان إن شاء الله تعالى، وليس من قتل فاسقا ظالما من فساق المسلمين بمثابة من قتل إماما عدلا، أو حاكما مقسطا، أو وليا منصفا، لما فوته على المسلمين من العدل والإنصاف. وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} لما عمت المفسدة في قتل نفس جعل إثمها كإثم من قتل الناس جميعا لما فوته على الناس من مصالح ولما عمت المفسدة في إنقاذ ولاة العدل والإقساط والإنصاف من المهالك، جعل أجر منقذها كأجر منقذ الناس من أسباب الهلاك جميعا لعموم ما سعى فيه من المصالح، وكذلك جناية الإنسان على أعضاء نفسه يتفاوت إثمها بتفاوت منافع ما جنى عليه، وبتفاوت ما فوته على الناس من عدله(1/110)
وإقساطه وبره وإنصافه ونصرته للدين، وليس لأحد أن يتلف ذلك من نفسه، لأن الحق في ذلك كله مشترك بينه وبين ربه، وليس قطع العالم أو الحاكم أو المفتي أو الإمام الأعظم لسان نفسه كقطع من لا ينتفع بلسانه. وكذلك قطع البطل الشديد النكاية في الجهاد يد نفسه أو رجل نفسه أعظم من قطع الضعيف الذي لا أثر له في الجهاد يد نفسه أو رجل نفسه، ولا يلزم من تساوي الأعضاء في الأبدال تساوي تفويتها في الآثام. وكذلك فقء العينين أشد إثما من صلم الأذنين، وكذلك قطع الرجلين أعظم وزرا من قطع أصابعهما، وكذلك قطع الإبهام والسبابة من إحدى اليدين أعظم وزرا من قطع الخنصر والبنصر منهما. والمدار في هذا كله على رتب تفويت المصالح وتحقيق المفاسد. فكل عضو كانت منفعته أتم كانت الجناية عليه أعظم وزرا، فليست الجناية على العقل واللسان كالجناية على الخناصر والآذان.(1/111)
فصل: فيما يؤجر على قصده دون فعله
...
فصل: فيما يؤجر على قصده دون فعله
وتختلف الأجور باختلاف رتب المصالح؛ فإذا تحققت الأسباب والشرائط والأركان في الباطن، فإن ثبت في الظاهر ما يوافق الباطن من تحقق الأسباب والشرائط والأركان، فقد حصل مقصود الشرع ظاهرا أو باطنا من جلب المصالح ودرء المفاسد، وترتب عليه ثواب الآخرة، وإن كذب الظن بأن ثبت في الظاهر ما يخالف الباطن، أثيب المكلف على قصد العمل بالحق، ولا يثاب على عمله لأنه خطأ ولا ثواب على الخطأ، لأنه مفسدة ولا ثواب على المفاسد.
ولذلك أمثلة أحدها ما ينتفع به الإنسان من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمساكن المراكب، فإنه لا يقطع بحل شيء من ذلك، فإن صدق ظنه فغلب حصلت المصلحة المقصودة من إباحة ذلك، وإن كذب ظنه، لزمه ضمان ما انتفع به من ذلك، أو تلف عنده.
المثال الثاني: ما ينفقه المكلف من الأموال في القربات: كالزكاة والكفارات(1/111)
والأوقاف والصدقات وعمارة الربط والمدارس والمساجد والضحايا والهدايا والوصايا وجميع ما يتقرب به إلى الله من الأموال، فإنه لا يقطع بحل شيء من ذلك، فإن وافق ظاهره باطنه أثيب متعاطيه على قصده وفعله، لأنه هم بحسنة وعملها، فكتب له بذلك عشر حسنات بسبب ما حصله من مصالح تلك القربات. وإن اختلف ظنه في ذلك أو في شيء منه، أثيب على قصده ونيته دون فعله؛ لأن فعله خطأ معفو عنه، لا يترتب عليه ثواب ولا يلحق به عقاب إذ لا يتقرب إلى الرب بشيء من أنواع المفاسد والشرور. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه عز وجل: "والخير كله في يديك، والشر ليس إليك": أي والشر ليس قربة ولا وسيلة إليك؛ إذ لا يتقرب إلى الله إلا بأنواع المصالح والخيور، ولا يتقرب إليه بشيء من أنواع المفاسد والشرور، بخلاف ظلمة الملوك الذين يتقرب إليهم بالشرور، كغصب الأموال وقتل النفوس، وظلمهم العباد، وإفشاء الفساد وإظهار العناد، وتخريب البلاد، ولا يتقرب إلى رب الأرباب إلا بالحق والرشاد.
فإن قيل: الجهاد إفساد، وتفويت النفوس والأطراف والأموال، وهو مع ذلك قربة إلى الله؟ قلنا: لا يتقرب به من جهة كونه إفسادا، وإنما يتقرب من جهة كونه وسيلة إلى درء المفاسد وجلب الصلاح، كما أن قطع اليد المتآكلة وسيلة إلى حفظ الأرواح، وليس مقصودا من جهة كونه إفسادا لليد. وكذلك الفصد والحجامة وشرب الأدوية المرة البشعة، وكذلك ما يتحمله الناس من المشاق التي هي وسائل المصالح.
المثال الثالث: أن يقضي المكلف دينه بمال يعتقد أنه ملكه، أو ينفقه على من تلزمه نفقته من زوجه وأقاربه ورقيقه ودوابه، وذلك المال في الباطن ملك لغيره، فيثاب على قصده ونيته، ولا يثاب على إنفاقه، لأنه مفسدة ولا يثاب على المفاسد.
المثال الرابع: إذا اعتكف المكلف في مكان يظنه مسجدا، فإن كان مسجدا في الباطن أثيب على قصده واعتكافه، لأنه هم بحسنة وعملها، وإن لم يكن مسجدا في الباطن(1/112)
أثيب على قصده دون اعتكافه، لأن اعتكافه إفساد لمنافع لا يستحقها وتلزمه أجرتها.
المثال الخامس: أن يقتل الحاكم من يجوز قتله في ظاهر الشرع، أو يرجمه أو يحده، أو يسلم المرأة إلى من ثبت أنه زوجها، فإن كذب الظن في ذلك كله فإنه يؤجر على قصده، ولا يؤجر على فعله، لأنه معاونة على مفاسد عظيمة من قتل نفس معصومة، وحد نفس بريئة مظلومة أو رجمها، وتسليم امرأة أجنبية إلى من يزني بها، والإعانة على المفاسد أقصى غاياتها أن يعفى عنها، أما أن تكون سببا للثواب فلا. وكذلك كل من ساعده وعاونه على تنفيذ أحكامه. وإن صدق ظنه في ذلك فقد أعان على إقامة الحق، فيثاب على نيته وفعله، لأنه هم بحسنات وعملها. وكذلك كل من ساعده وعاونه من أتباعه وأنصاره على تنفيذ أحكامه. وقد أمرنا بالمعاونة على البر والتقوى، ونهينا عن المعاونة على الإثم والعدوان. ولو علم الشاهد والحاكم ومباشر القتل والرجم أن القتيل مظلوم، وأن المرأة أجنبية، كان إثم المباشر أعظم من إثم الحاكم إذا لم يخبر الحاكم، وإثم الحاكم أعظم من إثم الشاهد، لأن المباشر قد حقق المفاسد، والحاكم سبب لمباشرته، والشاهد سبب لحكم الحاكم.
فإن قيل: لو صلى المكلف صلاة معتقدا لاجتماع أركانها وشرائطها، ثم ظهر أنه صلى محدثا، أو صلى قبل الوقت، أو أن إمامه كان كافرا أو امرأة، أو صلى على غير القبلة، فهل يبطل جميع ما باشره من أفعال الصلاة وأقوالها وخضوعها وخشوعها أم لا؟ فالجواب: أن ما لا يشترط فيه صحة الطهارة ولا الوقت، كالتسبيح والتهليل، والدعاء والتشهد والتسليم، والصلاة والتسليم على سيد المرسلين، والدعاء لنفسه وللمؤمنين، والخضوع والخشوع، وملاحظة معاني الأذكار والقراءة، والخوف والرجاء، والمهابة والإجلال، فإن هذا كله صحيح يثاب كما لو فعله في غير الصلاة. وأما ما يقف على الطهارة وعلى دخول الوقت، فلا يثاب عليه، لأنه خطأ محرم لو شعر به. وأما قراءة القرآن في صلاة الجنب ففي الثواب عليها(1/113)
نظر مأخذه النظر في تعذر الجهة، كما في الصلاة في الدار المغصوبة. فإن قيل: قد قال عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر"، فهذه كان بمثابته؟ قلنا: لا يثاب المجتهد على خطئه وإنما ثوابه على اجتهاده وقصده فكذلك ههنا، وإذ أصاب المجتهد فله أجر على قصده وأجر على إصابته، كما ذكرناه فيما إذا وافق الظاهر الباطن في جلب المصالح ودرء المفاسد. فإن قيل: لو فعل المكلف ما هو مفسدة في ظنه واعتقاده، وليس بمفسدة في نفس الأمر، فهل يعاقب عليه عقاب من عصى الله بتحقيق المفسدة؟ فالجواب ألا يعاقب إلا على جرأته ومخالفته دون تحقيقه المفسدة، لأن الأوزار تختلف باختلاف صغر المفاسد وكبرها، وإنما قلنا إن المفاسد لا يثاب عليها، إذ لا تعظيم فيها للرب ولا مصلحة فيها لعباده، بل هي ضارة للعباد كما ذكرناها في رجم من لا يجوز رجمه، وقتل من لا يجوز قتله، وأخذ ما لا يجوز أخذه، وتسليم من لا يجوز تسليمه؛ كتسليم الجارية والزوجة بما بعث في الظاهر من البيع والنكاح على خلاف الباطن.
فصل فيما يتعلق به الثواب والعقاب من الأفعال
لا يثاب الإنسان ولا يعاقب إلا على كسبه وإكسابه. ولا يكون إلا بمباشرة أو بسبب قريب أو بعيد: قال الله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، أي ليس له إلا جزاء سعيه، وقال: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، ولأن الغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته واجتناب معصيته، وذلك مختص بفاعليه، إذ لا يكون معظم المحرمات منتهكا لها بانتهاك غيره، ولا منتهك المحرمات معظما لها بتعظيم غيره، فكذلك لا تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات، ولا في الطاعات البدنيات، إلا ما استثنى من الطاعات كالحج والعمرة والصوم والصدقات رحمة للعاجزين بتحصيل ثواب هذه القربات، وللنائبين عنهم بالتسبب إلى إنالة ثواب هذه الطاعات. وأما قوله(1/114)
عليه الصلاة والسلام: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" ، ومعناه انقطع أجر عمله أو ثواب عمله فهذا على وفق القاعدة لأن هذه المستثنيات من كسبه، فإن العلم المنتفع به من كسبه فجعل له ثواب التسبب إلى تعليم هذا العلم. وكذلك الصدقة الجارية تحمل على الوقف وعلى الوصية بمنافع داره وثمار بستانه على الدوام، فإن ذلك من كسبه، لتسببه إليه، فكان له أجر التسبب، وليس الدعاء مخصوصا بالولد، بل الدعاء شفاعة جائزة من الأقارب والأجانب، وليست مستثناة من هذه، لأن ثواب الدعاء للداعي والمدعو به حاصل للمدعو له، فإن طلب له المغفرة والرحمة كانت المغفرة والرحمة مخصوصين بالمدعو له، وثواب الدعاء للداعي، كما لو شفع إنسان لفقير في كسوة أو في العفو عن زلة، كانت للشافع ثواب الشفاعة في العفو والكسوة، وكانت مصلحة العفو والكسوة للفقير.
وقد ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور على مصيبته، وهذا خطأ صريح فإن المصائب ليست من كسبه بمباشرة ولا تسبب، فمن قتل ولده أو غصب ماله أو أصيب ببلاء في جسده، فليست هذه المصائب من كسبه ولا تسببه حتى يؤجر عليها، بل إن صبر عليها كان له أجر الصابرين وإن رضي بها كان له أجر الراضين ولا يؤجر على نفس المصيبة، لأنها ليست من عمله، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، كيف والمصائب الدنيوية عقوبات على الذنوب، والعقوبة ليست ثوابا، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وقوله عليه السلام: "ما من مؤمن يشاك شوكة فما دونها إلا قص به من سيئاته"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصيب المؤمن من وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته". فيحمل قوله عليه السلام: "من عزى مصابا فله مثل أجره"، على تقدير فله مثل أجر صبره.(1/115)
لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}. هذا في المصائب التي لا تسبب له إليها. وأما ما تسبب إليه فإن كان من السيئات كتب عليه وأخذ به في الدنيا والآخرة، فإن من جرح إنسانا فسرى الجراح إلى نفسه كان وزر القتل وقصاصه وديته عليه، ولو ألقى على إنسان حجرا ثم مات الملقي قبل وصول الحجر على الملقى عليه فهلك بذلك الحجر بعد موت الملقي، فإنه يأثم إثم القاتلين العامدين، ويجب عليه ما يجب عليهم، مع كون القتل وقع بعد خروجه عن التكليف، لأنه لما كان القتل مسببا عن إلقائه، قدر كأنه قتله عند ابتداء إلقائه
وإن كان ما يتسبب إليه من الحسنات أجر عليه ومثاله: التسبب للقتل في سبيل الله تعالى بالجراح أو الرمي كما لو رمى سهما في كافر فأصابه السهم بعد موت الرامي فقتله كان له سلبه وأجر قتله. وكذلك إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل بسبب أمره ونهيه فهذا متسبب إلى قتل نفسه لله عز وجل، فيكون حكمه حكم من قتل الكفرة أو الفجرة، ولا يثاب على القتل، لأن القتل ليس من كسبه، وإنما يثاب عليه لأنه تسبب إليه بأمره ونهيه. وكذلك تسبب الغازي إلى قتل نفسه لحضوره المعركة.
فإن قيل: القتل معصية من القاتل الكافر، فكيف يتمنى الإنسان الشهادة مع أن تسببها معصية؟ فالجواب أنه ما يتمنى القتل من جهة أنه قتل وإنما تمنى أن يثبت في القتال، فإن أتى القتل على نفسه فكان ثوابه على تعرضه للقتل لا على نفس القتل الذي ليس من كسبه، وعلى هذا يجعل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ}، أي تمنون القتل في سبيل الله من قبل أن تلقوا أسبابه في يوم أحد، ويجوز أن يتمنى الإنسان القتل من جهة كونه سببا لنيل منازل الشهداء، لا من جهة كونه قتلا ومعصية، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك، وموتا في بلد رسولك. وأما قتل أهل البغي فإنه خطأ من البغاة، ولا يثاب المقطوع على خطأ غيره، وكذا الثواب على دفع مفسدة البغي بالقتال.(1/116)
فصل: فيما يثاب عليه من حسن الصفات و ما لا يثاب عليه
...
فصل: فيما يثاب عليه من حسن الصفات وما لا يثاب عليه
كل صفة جبلية لا كسب للمرء فيها، كحسن الصور، واعتدال القامات وحسن الأخلاق، والشجاعة والجود، والحياء والغيرة، والنخوة وشدة البطش، ونفوذ الحواس، ووفور العقول، فهذا لا ثواب عليه مع فضله وشرفه لأنه ليس بكسب لمن اتصف به، وإنما الثواب والعقاب على ثمراته المكتسبة، فمن أجاب هذه الصفات إلى ما دعت إليه الشريعة كان مثابا على إجابته جامعا لصفتين حسناوين إحداهما: جبلية، والأخرى كسبية، ومن لم يجب إلى ذلك كان وصفه حسنا وفعله قبيحا، وأما ما يصدر عن هذه الأوصاف من آثارها المكتسبة فإن لم يقصد بها وجه الله فلا ثواب عليها، وإن قصد بها الرياء والتسميع أثم بذلك، وإن قصد بها وجه الله تعالى أجر وفاز بخير الدارين ومدحهما.(1/117)
فصل: فيما يعاقب من قبح الصفات و ما لا يعاقب عليه
...
فصل: فيما يعاقب من قبح الصفات وما لا يعاقب عليه
كل صفة قبيحة جبلية لا كسب للإنسان فيها فلا أجر عليها ولا وزر، كقبح الصورة، ودمامة الخلق، وشناعة الأعضاء، ونقص العقول والحواس، وسوء الأخلاق كالقحة والجبن والشح والبخل، والميل إلى كل رذيلة، والنفور عن كل فضيلة، والقسوة والعجلة فيما لم يتبين غيه من رشده، وغير ذلك من الصفات القباح. فمن أجاب هذه الصفات إلى ما تقتضيه مما يخالف الشرع كان معاقبا على قبح إجابته، لا على قبح أوصافه، ومن خالفها ووافق الشرع في قهرها والعمل بخلاف مقتضاها كان مثابا على مخالفته غير معاقب على قبح صفاته، هذا إن قصد به وجه الله فإنه يؤجر على عمله وعلى مجاهدة نفسه، وإن قصد به الرياء أو التسميع أثم، وإن قصد به التجمل بذلك من غير رياء ولا سمعة، فلا أجر؛ لأنه لم يقصد وجه الله، ولا وزر لأنه لم يعص، وقد جوز الشرع التجمل والتزين بقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}. ولا أعرف في الوجود شيئا أكثر تقلبا في الأوصاف والأحوال من القلوب، لكثرة ما يرد عليها من الخواطر والقصور، والكراهة والمحبة،(1/117)
والكفر والإيمان، والخضوع والخشوع، والخوف والرجاء، والأفراح والأحزان، والانقباض والانبساط، والارتفاع والانحطاط، والظنون والأوهام، والشكوك والعرفان، والنفور والإقبال، والمسألة والملال، والخسران والندم، واستقباح الحسن واستحسان القبيح، ولكثرة تقلبها كان عليه السلام يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، وكانت يمينه: "لا، و مقلب القلوب"، وسمي القلب قلبا لتقلبه من حال إلى حال، ولا عقاب على الخواطر، ولا على حديث النفس لغلبتها على الناس، ولا على ميل الطبع إلى الحسنات والسيئات، إذ لا تكليف بما يشق اجتنابه مشقة فادحة، ولا بما يطاق فعله ولا تركه. ومبدأ التكليف العزوم والقصود، فالعزم على الحسنات حسن، وعلى السيئات قبيح، وعلى المباح مأذون.(1/118)
فصل: فيما يثاب عليه من العلوم
...
فصل: فيما يثاب عليه من العلوم
كل العلوم شريفة، وتختلف رتب شرفها باختلاف رتب متعلقاتها، فما تعلق بالإله وأوصافه كان أشرف العلوم؛ لأن متعلقه أشرف من كل شريف.
والعلوم أقسام: أحدها: الضروريات ولا ثواب عليها، لأنها ليست من كسب العالم بها. الثاني: النظريات، ويثاب الإنسان عليها لقدرته على تحصيلها بالتسبب إليها.
الثالث: علوم يمنحها الأنبياء والأولياء بأن يخلقها الله فيهم من غير ضرورة ولا نظر وهي ضربان: أحدهما: أشرف من الآخر وهو العلم بما يتعلق بالذات والصفات وله شرف عظيم ولا ثواب عليه في نفسه، ولا على الأحوال الناشئة عنه، فإن حدث عنها أمر مكتسب كان الثواب عليه دونها وكفى به شرفا في نفسه وهي كالمحامد التي يلتمسها الرسول عليه السلام بين يدي شفاعته لأمته، فكم من شرف عظيم لا ثواب عليه لأنه خير من الثواب فإن النظر إلى الله أشرف من كل شريف وأفضل من كل نعيم روحاني أو جثماني، وقد جعل زيادة على الأجور، لأنه أعظم من أن يقابل به عمل من الأعمال أو حال من الأحوال، وكذلك(1/118)
رضوان الله من أفضل ما أعطيته ولا ثواب عليه.
الضرب الثاني: علوم إلهامية، يكشف بها عما في القلوب، فيرى أحدهم بعينيه من الغائبات ما لم تجر العادة بسماع مثله. وكذلك شمه ومسه ولمسه وكذلك يدرك بقلبه علوما متعلقة بالأكوان، وقد رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، ومنهم من يرى الملائكة والشياطين والبلاد النائية، بل ينظر إلى ما تحت الثرى، ومنهم من يرى السموات وأفلاكها وكواكبها وشمسها وقمرها على ما هي عليه، ومنهم من يرى اللوح المحفوظ ويقرأ ما فيه. وكذلك يسمع أحدهم صرير الأقلام وأصوات الملائكة والجان، ويفهم أحدهم منطق الطير، فسبحان من أعزهم وأدناهم، وأذل آخرين وأقصاهم، ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.(1/119)
فصل: فيما يثاب عليه العالم و الحاكم و ما لا يثابان عليه
...
فصل: فيما يثاب عليه العالم والحاكم وما لا يثابان عليه
إن قيل: على أي شيء يثاب العالم والحاكم؟ قلنا: إن تعلما العلم للرياء والسمعة أثما ما لم يتوبا، فإن أفتى أحدهما وحكم للرياء والسمعة كانا مأثومين أيضا لريائهما، فإن أفتى أحدهما وحكم الآخر مخلصين لله أثيب كل واحد منهما على ما فعله خالصا لله، وإن تعلما مخلصين لله أجرا على تعلمهما، فإن عزما على أن يعملا بما أمرا به في الفتيا والحكم أثيبا على عزمهما، فإن أمضيا ما عزما عليه، أثيبا على عزمهما وفعلهما، وإن رجعا عما عزما عليه، أثيبا على عزمهما وأثما برجوعهما، وكذلك الإفادة والتدريس وعلم الحديث، وكل علم يتقرب به إلى الله عز وجل.(1/119)
فصل: فيما يثاب عليه المتناظران و ما لا يثابان عليه
...
فصل: فيما يثاب عليه المتناظران وما لا يثابان عليه
إن قيل: هل يثاب المتناظران على المناظرة أم لا؟ قلنا إن قصد كل واحد بمناظرته إرشاد خصمه إلى ما ظهر له من الحق فهما مأجوران على قصدهما وتناظرهما، لأنهما متسببان إلى إظهار الحق، وإن قصد كل واحد منهما أن يظهر على خصمه ويغلبه، سواء أكان الحق معه أو مع خصمه فهما آثمان، وإن قصد أحدهما الإرشاد وقصد الآخر العناد، أجر قاصد الإرشاد، وأثم قاصد العناد.(1/119)
فصل: في تفضيل الحكام على المفتين و الأئمة على الحكام
...
فصل: في تفضيل الحكام على المفتين والأئمة على الحكام
إن قيل: هل يتساوى أجر الحاكم والمفتي القائمين بوظائف الحكم والفتيا أم لا؟ فالجواب إن أجر الحاكم أعظم لأنه يفتي ويلزم فله أجران: أحدهما: على فتياه والآخر على إلزامه، هذا إذا استوت الواقعة التي فيها الفتيا والحكم، وتختلف أجورهما باختلاف ما يجلبانه من المصالح ويدرآنه، من المفاسد، وتصدي الحاكم للحكم أفضل من تصدي المفتي للفتيا، وأجر الإمام الأعظم أفضل من أجر المفتي والحاكم، لأن ما يجلبه من المصالح ويدرأه من المفاسد أتم وأعم؛ وكذلك جاء في الحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل"، فبدأ به لعلو مرتبته. وأجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات فإن الولاة المقسطين أعظم أجرا وأجل قدرا من غيرهم لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فيا له من كلام يسير وأجر كبير. وأما ولاة السوء وقضاة الجور فمن أعظم الناس وزرا وأحطهم درجة عند الله، لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام،(1/120)
وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك الكلمة من مصالح المسلمين، فيا لها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة.
مثال ذلك: أن يأمر بقتال طائفة من المسلمين أو يأخذ أموالهم أو يتمكسهم أو يتضمن البغايا والخمور وغير ذلك من المحرمات المغضبات لرب الأرضين والسموات. وإذا أمر العادل بإبطال هذه المحرمات التي أمر بها الجائر أثيب على ردء هذه المحرمات التي أمر بها الجائر أثيب على درء هذه المفاسد المذكورات، على حسب قلتها وكثرتها وعمومها وشمولها، فيا له من سعي راجح وإنجاز رابح.
وقد قال سيد المرسلين: "المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يدي ربي يمين" وعلى الجملة فالعادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجرا من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام، لأنهم يقومون بجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل فإذا أمر الإمام بجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة، كان له أجر بحسب ما دعا إليه من المصالح العامة، وزجر عنه من المفاسد ولو كان ذلك بكلمة واحدة لأجر عليها بعدد متعلقاتها كما ذكرنا. وكذلك أجر أعوانه على جلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا أمر الإمام بالجهاد كان متسببا إلى تحصيل مصالحه بأمره الأجناد بمباشرة القتال، ولمباشرة القتال أجر الإمام متوسل إلى مصالح الجهاد، والمقاتل مباشر، لكن الظاهر أن أجر الإمام أفضل من أجر الواحد من المجاهدين، فإذا كانوا ألفا كان لكل واحد أجر مباشرته على حسب ما باشر، وللإمام أجر تسببه إلى قتال الألف، فقد صدر منه ألف تسبب، وألف تسبب أفضل من مباشرة واحدة، لأن بتلك التسميات حصلت مصالح القتال ولو فرض أنه أمر واحدا بالقتال فقاتل وحصل المصلحة المأمور بها فلا شك أن المباشر أفضل من الآخر. وليس أمر الحاكم لأحد أعوانه كذلك. فالحاكم متصد لسماع الدعوى وجوابها(1/121)
وسماع البينة واستزكائها ثم الحكم بعد ذلك، فقد صدر منه طاعات متعددة ولم يصدر من آحاد أعوانه سوى طاعة واحدة. وأما المفتون فيثابون على تصديهم للفتاوى، وتتفاوت أجورهم بتفاوت تلك الفتاوى وكثرتها، وعمومها وخصوصها.(1/122)
فصل: فيمن جمع بين الجور و العدل في ولايته
...
فصل: فيمن جمع بين الجور والعدل في ولايته
إن قيل: إذا جار الأئمة والحكام وعدلوا فهل يقوم عدلهم بجورهم؟
فالجواب: إن ما فوتوه من الأموال مضمون عليهم في الدين، إن فنيت حسناتهم طرح عليهم من سيئات من ظلموه، ثم طرحوا في الجحيم. والتقدير: أخذ في الآخرة من ثواب حسناتهم. فإن فنيت حسناتهم طرح من ثواب حسناتهم، فإن فنيت حسناتهم طرح عليهم من عقوبات - سيئات - من ظلموه بقدر ظلمه. وكذلك الحكم في الدماء والأبضاع والأعراض، وفيما أخروه من الحقوق التي يجب تقديمها، أو قدموه من الحقوق التي يجب تأخيرها، فقد قال رب العالمين: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} الآية. فإن قيل لو مات المكلف وعليه دين لم يأثم بسببه ولا بمطله، فهل يؤخذ من حسناته في الآخرة بمقدار ما عليه من الدين؟ قلنا: نعم، يؤخذ من ثواب حسناته بمقدار ما عليه من الدين وإن فنيت حسناته، كما تؤخذ أمواله ومساكنه وعبيده وإماؤه في الدين، وإن لم يكن آثما بسبب الدين لا بمطله فإن فنيت حسناته في الآخرة لم يطرح عليه من السيئات لأنه غير عاص ولا آثم، ولا يتعجبن متعجب منه، ذلك عدل من الله في الدنيا والآخرة.
فإن قيل: فما حكم ما يفضل عليه من الديون بعد فناء حسناته؟ قلت: الأمر في ذلك إلى الله إن شاء عوض رب الدين من عنده، وإن شاء لم يعوضه، وهذا موقوف على صحة الخبر فيه، ولا يؤخذ من ثواب الإيمان المندوب نظر وهو داخل في عموم الحديث.(1/122)
فصل: فيما يثاب عليه الشهود و ما لا يثابون
...
فصل: فيما يثاب عليه الشهود وما لا يثابون
تحمل الشهادة توسل إلى أدائها وأداؤها توسل إلى الحكم بها، والحكم بها توسل إلى تحصيل مصالح الحكم بالحق ودرء مفاسد الحكم بالجور. فمن شهد بالحكم الموافق لما في نفس الأمر مبتغيا بذلك وجه الله، كتب له أجر الإعانة على استيفاء تلك الحقوق التي تثبت بشهادته والمصالح التي حصل بها، ولذلك كتب له أجر ما درأه من المفاسد بشهادته على اختلاف رتبها، وكان عند الله من الذين. تعاونوا على البر والتقوى، وكتب له أجران: أحدهما على ما أعان عليه من الحق، والآخر على إخلاصه لله.
وإن شهد بالحق رياء وسمعة أثم على ريائه، دون معاونته على إرجاع الحق إلى مستحقيه.
وإن شهد بالباطل وهو يعلم أنه باطل، فهذا شاهد زور مرتكب لكبيرة. وإن بنى شهادته على الأسباب الشرعية وكان المشهود به باطلا في نفس الأمر، أثيب على قصده ولا يثاب على شهادته؛ لأنها إعانة على باطل.
وإن شهد بالأجرة وجوزنا ذلك، فهذا عقد معاوضة، إن سامح ببعض العوض أجر عليه، وإلا فلا.(1/123)
فصل: في بيان الإخلاص في العبادات و أنواع الطاعات
...
فصل: في بيان الإخلاص في العبادات وأنواع الطاعات
الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصا لله وحده لا يريد بها تعظيما من الناس ولا توقيرا، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي، وله رتب: منها أن يفعلها خوفا من عذاب ومنها أن يفعلها تعظيما لله ومهابة وانقيادا وإجابة، ولا يخطر له عرض من الأعراض، بل يعبد مولاه كأنه يراه وإذا رآه غابت عنه الأكوان كلها وانقطعت الأعراض بأسرها وأمر العابد أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يقدر على تقدير نظره إلى الله، فليقدر أن الله ناظر إليه، ومطلع عليه فإن ذلك يحمله على الاستحياء منه والخوف والمهابة وهذا معلوم بالعادات(1/123)
أن النظر إلى العظماء يوجب مهابتهم وإجلالهم والأدب معهم إلى أقصى الغايات، فما الظن بالنظر إلى رب السموات؟ وكذلك لو قدر إنسان في نفسه أن عظيما من العظماء ناظر إليه، ومطلع عليه، لم يتصور لأن يأتي برذيلة، وأنه يتزين له بملابسة كل فضيلة، فسبحان الله ما جمع هذا الحديث من الأدب مع الله في عياداته وطاعاته.(1/124)
فصل: في بيان الرياء في العبادات و أنواع الطاعات
...
فصل: في بيان الرياء في العبادات وأنواع الطاعات
الرياء إظهار عمل العبادة لينال مظهرها عرضا دنيويا إما بجلب نفع دنيوي، أو لدفع ضرر دنيوي، أو تعظيم أو إجلال، فمن اقترن بعبادته شيء من ذلك أبطلها لأنه جعل عبادة الله وطاعته وسيلة إلى نيل أعراض خسيسة دنية، فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فهذا هو الرياء الخالص. وأما رياء الشرك فهو أن يفعل العبادة لأجل الله ولأجل ما ذكر من أغراض المرائين وهو محبط للعمل أيضا، قال تعالى: "من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكه" وفي رواية: تركته لشريكي.(1/124)
فصل: في بيان التسميع في العبادات و أنواع الطاعات
...
فصل: في بيان التسميع في العبادات وأنواع الطاعات
وهو ضربان. أحدهما تسميع الصادقين وهو أن يعمل الطاعة خالصة لله، ثم يظهرها ويسمع الناس بها ليعظموه ويوقروه وينفعوه ولا يؤذوه. وهذا محرم وقد جاء في الحديث الصحيح: "من سمع سمع الله به. ومن راءى راءى الله به، وهذا تسميع الصادقين".
الضرب الثاني: تسميع الكاذبين وهو أن يقول صليت ولم يصل، وزكيت ولم يزك، وصمت ولم يصم، وحججت ولم يحج، وغزوت ولم يغز. فهذا أشد ذنبا من الأول لأنه زاد على إثم التسميع إثم الكذب، فأتى بذلك معصيتين قبيحتين، بخلاف الأول فإنه آثم إثم التسميع وحده.
وجاء في الحديث الصحيح: "المتسمع بما لم يعط كلابس ثوبي زور". وكذلك(1/124)
فصل: في بيان أن الإعانة على الأديان وطاعة الرحمن ليست شركا في عبادة الديان و طاعة الرحمن
...
فصل: في بيان أن الإعانة على الأديان وطاعة الرحمن ليست شركا في عبادة الديان وطاعة الرحمن
إن قيل: هل يكون انتظار الإمام المسبوق ليدركه في الركوع شركا في العبادة أم لا؟ قلت: ظن بعض العلماء ذلك وليس كما ظن، بل هو جمع بين قربتين لما فيه من الإعانة على إدراك الركوع وهي قربة أخرى، والإعانة على الطاعات من أفضل الوسائل عند الله، ورتب تلك المعونات عند الله على قدر رتب المعان عليه من القربات. والإعانة على معرفة الله ومعرفة ذاته وصفاته أفضل الإعانات. وكذلك الإعانة على معرفة شرعه، وكذلك المعونة بالفتاوى والتعليم والتفهيم، والإعانة على الفرائض أفضل من الإعانة على النوافل، وإذا كانت الصلاة أفضل القربات البدنيات كان الإعانة عليها من أفضل الإعانات فإذا أعان المصلي بماء الطهارة أو ستر العورة أو دله على القبلة، كان مأجورا على ذلك كله. وليس لأحد(1/127)
أن يقول هذا شرك في العبادة بين الخالق والمخلوق. فإن الإعانة على الخير والطاعة لو كانت رياء وشركا، لكان تبليغ الرسالة وتعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رياء وشركا، وهذا لا يقوله أحد، لأن الرياء والشرك أن يقصد بإظهار عمله ما لا قربة به إلى الله من نيل أعواض نفسه الدنية وهو قد أعان على القرب إلى الله وأرشد عباده إليه، ولو كان هذا شركا لكان الأذان وتعليم القرآن شركين وقد جاء في الحديث الصحيح: أن رجلا صلى منفردا فقال عليه السلام: "من يتجر على هذا ؟" وروي: "من يتصدق على هذا؟" فقام رجل فصلى وراءه ليفيده فضيلة الاقتداء، ولم يجعله عليه السلام رياء ولا شركا لما فيه من إفادة الجماعة المقربة إلى الله تعالى. وإذا أحس الإمام بداخل وهو راكع فالمستحب أن ينتظره لينيله فضيلة إدراك الركوع، ولا يكون ذلك شركا ولا رياء، لأنه عليه السلام جعل مثله صدقة واتجارا، وأمر به في جميع الصلوات، فكيف يكون رياء وشركا وهذا شأنه في الشريعة؟ ولا وجه لكراهية ذلك، ومن أبطل الصلاة به فقد أبعد، فليت شعري ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف هل كان شركا ورياء، أو عملا صالحا لله تعالى؟!(1/128)
فصل: في تفاوت فضل الإسرار و الإعلان بالطاعات
...
فصل: في تفاوت فضل الإسرار والإعلان بالطاعات
إن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب: إن الطاعات ثلاثة أضرب: أحدها ما شرع مجهورا به كالأذان والإقامة والتكبير، والجهر بالقراءة في الصلاة، والخطب الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الجمعة والجماعات والأعياد، والجهاد، وعيادة المرضى، وتشييع الأموات، فهذا لا يمكن إخفاؤه. فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية إخلاصه، فيأتي به مخلصا كما شرع، فيحصل على أجر ذلك الفعل وعلى أجر المجاهد، لما فيه من المصلحة المتعدية.
الثاني: ما يكون إسراره خيرا من إعلانه كإسرار القراءة في الصلاة وإسرار(1/128)
أذكارها، فهذا إسراره خير من إعلانه.
الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء أو عرف ذلك من عادته، كان الإخفاء أفضل من الإبداء، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، ومن أمن الرياء فله حالان: إحداهما ألا يكون ممن يقتدى به - فإخفاؤها أفضل، إذ لا يأمن من الرياء عند الإظهار، وإن كان ممن يقتدى به كان الإبداء أولى لما فيه من سد خلة الفقراء مع مصلحة الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء عليهم وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء.
[قاعدة في بيان الحقوق الخالصة والمركبة] جلب المصالح ودرء المفاسد ضربان: أحدهما ما يتعلق بحقوق الخالق كالطاعة والإيمان، وترك الكفر والعصيان وحقوق الله ثلاثة أقسام: أحدها ما هو خالص لله كالمعارف والأحوال المبنية عليها، والإيمان بما يجب الإيمان به، كالإيمان بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبما تضمنته الشرائع من الأحكام، وبالحشر والنشر والثواب والعقاب.
الثاني: ما يتركب من حقوق الله وحقوق عباده، كالزكاة والصدقات والكفارات والأموال المندوبات، والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف، فهذه قربة إلى الله من وجه، ونفع لعباده من وجه، والغرض الأظهر منها نفع عباده وإصلاحهم بما وجب من ذلك، أو ندب إليه، فإنه قربة لباذليه ورفق لآخذيه.
الثالث: ما يتركب من حقوق الله وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم وحقوق المكلف والعباد، أو يشتمل على الحقوق الثلاثة.
ولذلك أمثلة: أحدها الأذان فيه الحقوق الثلاثة أما حق الله تعالى فالتكبيرات والشهادة بالوحدانية. وأما حق الرسول صلى الله عليه وسلم فالشهادة له بالرسالة، وأما حق العباد فبالإرشاد إلى تعريف دخول الأوقات في حق النساء والمنفردين، والدعاء إلى الجماعات في حق المقتدي. وكذلك الإقامة، حق الله منها التكبيرات(1/129)
والشهادة بالوحدانية، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم الشهادة له بالرسالة، وحق العباد إعلامهم بقيام الصلاة وحضور الإمام. فإن قيل: هل الأذان أفضل من الإقامة لاشتماله على هذه الفوائد؟ قلنا: ذهب بعضهم إلى أنه أفضل لهذه الفوائد، ولأن عمله أكثر من عمل الإمام، فإن الإمام لم يرد في صلاته شيئا سوى الجهر بالأذكار المعروفة وبانتقاله من ركن إلى ركن، ومنهم من فضل الإمامة لتسبب فضل الإمام إلى إفادة فضل الجماعة لنفسه وللحاضرين. وصلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بخمس وعشرين درجة، أو سبع وعشرين درجة على ما جاءت به السنة، ولا يوجد مثل هذا في الأذان. فإن قيل: هل يؤجر المؤتم على إفادته الإمام فضل الجماعة؟ قلنا: نعم لقوله عليه السلام: "من يتصدق على هذا ؟".
[فائدة]: مقصود الجماعة ضربان: أحدهما: الاقتداء والثاني: الاجتماع على الاقتداء، وإنما شرع الاجتماع على الاقتداء لأن الاجتماع على التعظيم تعظيم ثان، ألا ترى أن الخدم والأجناد إذا اجتمعوا وكثروا كان اجتماعهم أوقر في النفوس وأعظم في الصدور، ولو سار الملك وهم متفرقون، أو جلس وهم متباعدون لم يحصل من التوقير والتعظيم ما يحصل من اجتماعهم. وكذلك اختلف الناس في التباعد المانع من الاجتماع.
المثال الثاني: الصلاة وفيها الحقوق الثلاثة أما حق الله فالنيات والتكبيرات والتسبيحات والتحيات والقيام والقعود والركوع والسجود. وكذلك توابعها من التورك والافتراش والكف عن الكلام وكثير الأفعال. وأما حق الرسول صلى الله عليه وسلم فأضرب - أحدها: التسليم عليه في آخر الصلاة مع الترحم والتبرك. الثاني: الصلاة عليه في التشهد الأخير، وفي الأول خلاف.
الثالث: الشهادة له بالرسالة. وأما حق المكلف على نفسه فكدعائه في الفاتحة بالهداية والإعانة على العبادة في الفاتحة. وكذلك دعاء القنوت، وكذلك التسليم على عباد الله الصالحين، وكذلك الصلاة على آل الرسول عليه السلام.(1/130)
وكذلك التسليمات الأخريات على الحاضرين، ولما اشتملت الصلاة على هذه الحقوق كانت من أفضل عمل العاملين.
الرابع: الجهاد وفيه الحقوق الثلاثة: أما حق الله فكمحو الكفر وإزالته من قلوب الكافرين ومن ألسنتهم، وكتخريب كنائسهم وكسر صلبانهم وأوثانهم. وأما حق الرسول عليه السلام وحق المسلمين فالذب عن أنفسهم وأموالهم وحرمهم وأطفالهم - وما يحصل لهم من الأخماس. وأما حقه على نفسه فكدفعه عن نفسه وحرمه وأطفاله وما يأخذ من سهام الغنيمة وأسلاب المشركين.
الخامس: كفارة الظهار فيها حق محض لله وهو الصيام، وفيها حق للمظاهر وهو تحليل الوطء، وفيها حق الأرقاء بالإعتاق، وللمساكين بالإطعام عند العجز عن الصيام.
الضرب الثاني: فيما يتعلق بحقوق المخلوقين من جلب مصالح ودرء مفاسد وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: حقوق المكلف على نفسه كتقديمه نفسه بالكساء والمساكن والنفقات، وكذلك حقوقه في النوم والإفطار، وترك الترهب.
الثاني: حقوق بعض المكلفين على بعض، وضابطها جلب كل مصلحة واجبة أو مندوبة، ودرء كل مفسدة محرمة أو مكروهة. وهي منقسمة إلى فرض عين وفرض كفاية، وسنة عين وسنة كفاية، ومنها ما اختلف في وجوبه وندبه في كونه فرض كفاية أو فرض عين. والشريعة طافحة بذلك ويدل على ذلك جميعا قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}، وهذا أمر بالمصالح وأسبابها، ونهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها. والآيات الآمرة بالإصلاح والزاجرة عن الإفساد كثيرة، وهي مشتملة على(1/131)
الأمر المتعلق بحقوق الله وحقوق عباده، وعن النهي على الإفساد المتعلق بحقوق الله وحقوق عباده. فمن الأدلة المشتملة على الأمر قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}، وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وقوله عليه السلام: "كل معروف صدقة"، وقوله: "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" وقوله: "من يسر على معسر يسر الله عليه، ومن ستر مسلما ستر الله عليه"، وقوله: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، وقوله: "في كل كبدة رطبة أجر"، "وأمر برد الخيط من الغلول". وكذلك قوله عليه السلام: "تصدقوا ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة"، وقوله: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط وجهك إليه". وفي رواية: "ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"، وقوله: "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" ، وأتم منه قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}، وهذا حث على جلب المصالح ودرئها، دقها وجلها، قليلها وكثيرها. ومن الأدلة المشتملة على النهي عن الإفساد قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} ، وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، وقوله: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}، وقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً}، وقوله تعالى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وأعم منه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}. وهذا زجر عن المفاسد كلها، قليلها وكثيرها، لأن أسبابها من جملة الشرور. وقد نص عليه السلام على النهي عن غصب قضيب من أراك، وقال: "إياكم ومحراب الذنوب". والكتاب والسنة يشتملان على الأمر بالمصالح كلها دقها وجلها، وعلى النهي عن المفاسد كلها، دقها وجلها. فمنه يدل بالوعد والوعيد، إذ لا يعد(1/132)
الثواب إلا على فعل مأمور، ولا يوعد بالعقاب إلا على منهي عنه، ولو لم يكن في مخالفة الرب إلا ذل المعصية في الدنيا، وخجلة الوقوف بين يديه في العقبى، مع العفو بعد ذلك زاجرا كافيا، فكيف بمن يعاقب بعد ذلك بالعذاب وحرمان الثواب؟ ولحقوق بعض المكلفين على بعض أمثلة كثيرة: منها التسليم عند القدوم، وتشميت العاطس، وعيادة المرضى، ومنها الإعانة على البر والتقوى وعلى كل مباح، ومنها ما يجب على الإنسان من حقوق المعاملات، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف سعي في جلب مصالح المأمور به، والنهي عن المنكر، سعي في درء مفاسد المنهى عنه، وهذا هو النصح لكل مسلم، وقد بايع صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، ومنها تحمل الشهادة وأداؤها عند الحكام، ومنها حكم الحكام والأئمة والولاة بإنصاف المظلومين من الظالمين، وتوفير الحقوق على المستحقين العاجزين، وصرف الدعاء عن رب العالمين على ما ذكره عمر أمير المؤمنين، إذ قال في أول خطبة خطبها: أيها الناس إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء. وقال أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: أيها الناس إن قويكم عندنا لضعيف حتى نأخذ الحق منه، وإن ضعيفكم عندنا لقوي حتى نأخذ له الحق ومعنى صرف الدعاء عن الله أن ينصف المظلومين من الظالمين ولا يحوجهم أن يسألوا الله ذلك. وكذلك أن يدفع حاجات الناس وضروراتهم بحيث لا يحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين، فما أفصح هذه الكلمة وما أجمعها لمعظم حقوق المسلمين، ومن ذلك حفظ أموال الأيتام والمجانين والعاجزين والغائبين ومنها التقاط الأموال الضائعة والأطفال المهملين، ومنها الضحايا والهدايا ومنها اصطناع المعروف كله دقه وجله، ومنها إنظار المعسرين وإبراء المقترين، ومنها حقوق نكاح النساء على الأولياء، وحقوق كل واحد من الزوجين على صاحبه، ومنها القسم بين المتنازعين، ومنها الرأفة والرحمة إلا في استيفاء(1/133)
العقوبات المشروعات، ومنها الإحسان إلى الرقيق بأن لا يكلفه ما لا يطيق، وأن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، وأن يكرم من يستحق الإكرام من العبيد والإماء، ولا يفرق بين الوالدة وولدها، ولا بين الأخت وأختها، وعلى الأرقاء القيام بحقوق ساداتهم التي حث الشرع عليها وندب إليها، ومنها ستر الفضائح والكف عن إظهار القبائح، ومنها الكف عن الشتم والظلم، ومنها جرح الشهود وتعديلهم وتفطير الصائمين وإبرار المقسمين، ومنها كسوة العراة وفك العناة، ومنها القرض والضمان والحجر بالإفلاس على المرضى فيما زاد على الثلث، ومنها إعانة القضاة والولاة وأئمة المسلمين على ما تولوه من القيام بتحصيل الرشاد ودفع الفساد وحفظ البلاد وتجنيد الأجناد ومنع المفسدين والمعاندين. ومنها نصح المستنصحين بل نصح جميع المسلمين، ومنها بر الوالدين وإسعاف القاصدين، ومنها الإنكار على الناس باليد، فإن عجز عن ذلك فباللسان، أو يكره ذلك بقلبه إن عجز عن اليد واللسان، وذلك أضعف الإيمان، ومنها الإنفاق على الأقارب كالآباء والأمهات، والبنين والبنات، والأجداد والجدات، إذ كانوا عاجزين، ومنها حضانة الأطفال وتربيتهم وتأديبهم وتعليمهم حسن الكلام، والصلاة والصيام إذا صلحوا لذلك، والسعي في مصالح العاجلة والآجلة، والمبالغة في حفظ أموالهم ودفع الأذى عنهم وجلب الأصلح فالأصلح لهم، ودرء الأفسد فالأفسد عنهم، وإذا وجب هذا في حق الأصاغر والأطفال فما الظن بما يلزم القيام به من مصالح المسلمين؛ ومنها حسن الصحبة وكرم العشرة، وكف الأذى وبذل الندى، وإكرام الضيفان والإحسان إلى الجيران، وصلة الأرحام وإطعام الطعام وإفشاء السلام، ومنها العدل في الأقوال والأفعال، والإحسان والإجمال، ومنها الوفاء بالعقود والعهود، وإنجاز الوعود، وإكرام الوفود، ومنها الإصلاح بين الناس إذا اقتتلوا واختلفوا وامتنعوا من الحقوق الواجبة، أو بغوا على الأئمة أو اجترءوا على الأئمة. ومنها(1/134)
إرشاد الحيارى، وتزويج الأيامى وود الأصدقاء، وإكرام الأرقاء والبشاشة عند اللقاء، ومنها أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وبلغ من ذلك أن يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، ومنها أن ينزل الناس منازلهم كتعظيم الأنبياء، وإكرام الأتقياء، واحترام الأولياء، وتوقير العلماء، ورحمة الضعفاء، ومنها أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن لا يبيع على بيعه، ولا يسوم على سومه، ولا يشتري على شرائه ولا يخطب على خطبته، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه، ولا يظلمه ولا يشتمه، ولا يبرمه، ولا يخجله ولا يرحله ولا يعجله، ولا يحقره ولا يخفره؛ ومنها الإيفاء إذا وفى، والإغضاء إذا استوفى، ومنها أن يسامح بحقه، وأن يعفو عما يستحقه على الناس من قصاص أو حد أو تعزير، وأن يغض بصره عن العورات، ويجيب الدعوات، ويقيل العثرات، ويغفر الزلات، ويسد الخلات. وأن يتصدق على الناس بماله وجاهه وجميع ما يقدر عليه من المعروف والمبرات، ومنها ألا يحاسدهم ولا يقاطعهم ولا يدابرهم ولا يتكبر عليهم ولا يسيء إليهم، وأن يترك اعتيابهم وهمزهم ولمزهم، والطعن في أعراضهم والقدح في أنسابهم، وأن لا يتلقى الركبان، ولا يحتكر احتكارا يزيد في الأثمان، وأن لا ينجش ولا يبخس ولا ينقص. ومن أمثلة حقوق بعض المكلفين على بعض أن ينظر المعسر، ويتجاوز عن الموسر ويوسع على المقتر، ولا يماطل بالحقوق، وأن يجانب العقوق، ولا يخاتل ولا يماحل ولا يجاحد بالباطل، ولا يقطع كلام قائل، ومنها ألا يؤخر الزكاة إذا وجبت، ولا الديون إذ طلبت، ولا الأحكام إذا أمكنت، ولا الشهادة إذا تعينت، ولا الفتيا إذا تبينت وألا يؤخر حقوق الناس إلا بعذر شرعي وطبعي. مثال ذلك: أن يؤخر الزكاة لحضور جار أو قريب أو لمن هو أشد ضرورة من الحاضرين، وإلى حضور نائب أمير المؤمنين فيما يجب دفعه إلى الأئمة المقسطين. وكذلك الديون لا يجب دفعها إلا عند التمكن من إحضارها فإن كان بها لم يجب دفعها حتى يشهد على(1/135)
مستحقها إقباضها، دفعا لضرر إنكار المستحق أو من ورثته. وكذلك الشهادة على الشهادة، وكذلك تأخير إنكاح الكفء إذا التمسته المرأة مع قرب المسافة. وكذلك تأخير ما يتعين من الشهادات إذا كان الشاهد مشغولا بأكل أو شرب أو صلاة، وكذلك دفع الأمانة إلى أربابها مع الاشتغال بالأكل والشرب أو صلاة النافلة أو الاستحمام، وقد يختلف في إيجاب بعض الحقوق كوضع الأجذاع وقسمة التعديل عن الامتناع. وإنما أتيت بهذه الألفاظ في هذا الكتاب التي أكثرها مترادفات، وفي المعاني متلاقيات حرصا على البيان، والتقرير في الجنان، كما تكررت المواعظ والقصص والأمر والزجر، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب وغير ذلك في القرآن، ولا شك أن في التكرير والإكثار من التقرير في القلوب ما ليس الإيجاز والاختصار؛ ومن نظر إلى تكرير مواعظ القرآن ووصاياه ألقاها كذلك، وإنما كررها الإله لما علم فيها من إصلاح العباد وهذا هو الغالب المعتاد. ولو قلت في حق العباد هو أن يجلب إليهم كل خير، ويدفع عنهم كل ضير، لكان ذلك جامعا عاما ولكن لا يحصل به من البيان ما يحصل بالتكرير وتنويع الأنواع. وكذلك لو قلت في حق الإله هو أن يطيعوه ولا يعصوه لكان مختصرا عاما ولكن لا يفيد ما يفيده الإطناب والإسهاب. وكذلك لو قلت في بعض حقوق المرء على نفسه هو أن ينفعها في دينها ودنياها ولا يضرها في أولاها وأخراها، لكان ذلك شاملا لجميع حقوق المرء، وقد يظن بعض الجهلة الأغبياء أن الإيجاز والاختصار أولى من الإسهاب والإكثار، وهو مخطئ في ظنه لما ذكرنا من التكرير الواقع في القرآن والعادة شاهدة بخطئه في ظنه، وما دلت العادة عليه، وأرشد القرآن إليه، أولى مما وقع للأغبياء الجاهلين الذين لا يعرفون عادة الله ولا يفهمون كتاب الله، وفقنا الله لاتباع كتابه وفهم خطابه.
وقد نظرت في القرآن فوجدته ينقسم إلى أقسام: أحدها الثناء على الإله(1/136)
والثاني: الأحكام، والثالث: توابع الأحكام ومؤكداتها وهي أنواع:
أحدها: مدح الأفعال وذمها ترغيبا في ممدوحها، وتزهيدا في مذمومها وهذا ضرب من التأكيد.
النوع الثاني: مدح الفاعلين ترغيبا للعباد في الدخول في مدحة رب العالمين التي هي زين للطائعين.
النوع الثالث: ذم الغافلين تنفيرا من الدخول في مذمة الله التي هي شين للعاصين. وقد قال بعضهم لسيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: "يا محمد اعطني فإن مدحي زين وهجوي شين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذلك رب العالمين". النوع الرابع: الوعد بأنواع الثواب الآجل ترغيبا في تحصيل مصالح الطاعات.
النوع الخامس: الوعيد بأنواع العقاب الآجل تنفيرا من المعاصي والمخالفات.
النوع السادس: الوعد بأنواع الثواب العاجل، فإن النفوس قد جبلت على حب العاجلة وذلك كقوله تعالى: {مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}. وكذلك بيان ما في الفعل من المصلحة العاجلة كقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، وكقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، فإن في مصلحة الفعل حثا عليه وترغيبا فيه.
النوع السابع: الوعيد بأنواع العقاب العاجل، فإن النفوس قد جبلت على الخوف من المكروه الآجل وذلك كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، وكقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وكقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. وكذلك بيان ما في الفعل من المفسدة العاجلة كقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}(1/137)
وكقوله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، فإن في بيان مفسدة الفعل زجرا عنه وتزهيدا فيه.
النوع الثامن: الأمثال وهي ضربان: أحدهما ما ذكر ترغيبا في الخيور وله مثالان. أحدهما قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، ذكر ذلك ترغيبا في النفقات وحثا على التبرعات.
المثال الثاني في مثل قوله تعالى: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، ذكر ذلك ترغيبا في كلمة التوحيد.
الضرب الثاني من الأمثال: ما ذكر تنفيرا من الشرور وله مثالان. أحدهما قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}، ذكره تنفيرا من النفاق. الثاني قوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}، ذكره تنفيرا من كلمة الكفر.
النوع التاسع: قصص المرسلين وما فيها من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين، ذكره ترغيبا في اتباع المرسلين، وتنفيرا من عصيان النبيين، وكذلك اللوم والتقريع والتوبيخ على بعض الأفعال.
النوع العاشر: تمننه علينا بما خلقه لأجلنا لنشكره على إحسانه إلينا وإنعامه علينا، وله أمثلة: أحدها قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، ذكر ذلك لنشكره على هذه النعم الجسام التي لا يكاد أحد يذكرها إلا عند اختلالها أو فقدها، ثم صرح بالسبب فقال: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
المثال الثاني قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}.(1/138)
المثال الثالث قوله: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وأعم من ذلك كله قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}، وكل شيء ذكره تمننا علينا كان ذلك مقتضيا لأمرين، أحدهما: شكره على ذلك كما ذكرناه. والثاني: إباحته لنا، إذ لا يصح التمنن علينا بما نهينا عنه، وقد تمنن علينا في كتابه بالمآكل والمشارب، والملابس والمناكح، والمراكب والفواكه، والتجمل والتزين والتحلي بالجواهر، فذكر تمننه بالضروريات والحاجيات، والتتمات والتكملات، وهو كثير في القرآن، فمنه ما هو جالب للمصالح كقوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، ومنه ما هو دارئ للمفاسد كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}. ومن مدح الإله نفسه ما لا يخرج مخرج المدح بل يخرج مخرج تأكيد الأحكام كقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، ذكر ذلك ترغيبا في الطاعات، وتنفيرا من المعاصي والمخالفات، وكقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، فإنا إذا تأملنا نظره إلينا واطلاعه علينا استحيينا منه أن يرانا حيث نهانا، أو يفقدنا حيث اقتضانا. وكذلك قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، لم يذكر ذلك تمدحا بسمعه، وإنما ذكره تهديدا لقائليه بخلاف قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، إنما يتحقق الترغيب والترهيب بصفة السمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة دون الحياة والكلام، فإنهما لا يذكران إلا تمدحا، أما الحياة ففي مثل قوله: هو الحي القيوم لا إله إلا هو. وفي مثل قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وأما الكلام ففي قوله: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} يريد بمن يأمر بالعدل: نفسه سبحانه وتعالى. فإن قيل كيف يتمدح بالحياة ولا يصح تمدح غيره بها لاشتراك الحيوانات فيها ؟. قلنا: إنما يتمدح بحياة يختص بها بأزليتها وأبديتها وكونها غير مستفادة من أحد، ولا شريك له في ذلك، فلما انفردت(1/139)
به الصفات عن كل حياة، صح التمدح بها لاختصاصها بما ذكرناه، ولأنها تذكر تفرقة بينه وبين الأصنام التي هي أموات غير أحياء، وإنما تمدح بالكلام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، وهو لأنه قابل به الأبكم الذي لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه، فقابل الأمر بالعدل بالبكم الذي هو الخرس المانع من الكلام وهذه الأحكام كلها والأنواع بأسرها شاهدة لما ذكرته من أن التأكيد والتكرير أنفع وأنجع من ذكر الشيء مرة واحدة، فإن ما ذكرناه من توابع الأمر يتنزل منزلة تكريره. والله يسمع من يشاء من عباده، فطوبى لمن فهم خطابه، وتبع كتابه، وقبل نصائحه، فمن أفضل منائحه تفهم كتابه، وتعقل خطابه، ليتقرب بذلك إليه شكرا على ما أولاه من إبلائه ومنحه وإعطائه، وشكره هو طاعته واجتناب معصيته، ومن جملة شكره الثناء عليه والانقطاع إليه، وقد يقع في هذا الكتاب من التكرير ما يدخل في بابين من المصالح فيذكر في أحد البابين لأجل النوع الذي يليق بذلك الباب ويكرر في الباب الآخر لأجل النوع الآخر المتعلق بالباب الآخر، فما وقع من هذا كان تكريره في بابين لأجل أن فيه دلالتين على معنيين مختلفين، فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض، وقد أوحى بذلك عليه السلام في حجة الوداع وصية مؤكدة بقوله: "دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا" ، وإنما شبهه بذلك لأنه كان عندهم في أعلى غايات الاحترام، ثم أمر بتبليغ ذلك عنه بقوله: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب"، ثم اعتذر إلى ربه بقوله: "اللهم هل بلغت ؟" فقالوا: نعم. فقال: "اللهم اشهد" أي اشهد عليهم باعترافهم أني بلغتهم. واعلم أن حقوق العباد ضربان: أحدهما حقوقهم في حياتهم. والثاني حقوقهم بعد مماتهم من أنواع إكرامهم وغسلهم وحملهم وتكفينهم ودفنهم وتوجيههم إلى القبلة والصلاة عليهم والدعاء لهم والزيارة والاستغفار، وما يفعل بهم مما ندب إليه ولم يوجبه(1/140)
الشرع كالغسلة الثانية والثالثة إلى السابعة، وكإحسان الأكفان وإحسان الحمل والمبالغة في الدعاء، وحسن الوضع في القبر وحسن الدفن، ولا تسقط حقوق الميت بإسقاطه، فلو أوصى بألا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن لم يلتفت إليه، لأن هذا من الحقوق التي لا تقبل الإسقاط لما فيها من حق الله عز وجل.
[فائدة] ما من حق للعباد يسقط بإسقاطهم أو لا يسقط بإسقاطهم إلا وفيه حق لله، وهو حق الإجابة والطاعة، سواء كان الحق مما يباح بالإجابة أو لا يباح بها، وإذا سقط حق الآدمي بالعفو فهل يعزر من عليه الحق لانتهاك الحرمة؟ فيه اختلاف والمختار أنه لا يسقط إغلاقا لباب الجرأة على الله عز وجل.
القسم الثالث من أقسام الضرب الثاني من جلب المصالح ودرء المفاسد
حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك أن ينفق عليها نفقة مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وألا يحملها ما لا تطيق ولا يجمع بينها وبين ما يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو جرح، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها وألا يذبح أولادها بمرأى منها، وأن يفردها ويحسن مباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها، وأن لا يحذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه، والحقوق كلها ضربان: أحدهما مقاصد. والثاني وسائل ووسائل وسائل، وهذه الحقوق كلها منقسمة إلى ما له سبب وإلى ما ليس له سبب فأما ما لا سبب له فكالمعارف والحج والاعتكاف والطواف، وأما ما له سبب فكالصلاة والزكاة والمعاملات والحقوق الماليات.
فإن قيل: هلا كان دخول أشهر الحج سببا لوجوبه كما كان دخول وقت الصلاة سببا لوجوبها؟ قلنا قد يجب الحج قبل دخول وقته على من بعدت داره وفي هذا بحث، ولا يتعلق حظر ولا إيجاب ولا كراهة ولا استحباب إلا بفعل داخل تحت قدرة المكلف واختياره، والتكاليف مقيدة بالحياة.(1/141)
فصل: في انقسام الحقوق إلى المتفاوت و المتساوي و المختلف فيه
...
فصل: في انقسام الحقوق إلى المتفاوت والمتساوي والمختلف فيه
اعلم أن حقوق الرب وحقوق عباده أقسام: أحدها متساوي، والثاني متفاوت، والثالث مختلف في تساويه وتفاوته؛ وسأذكر لذلك أمثلة في فصول ترشد إلى نظائرها.(1/142)
الفصل الأول: في تقديم حقوق الله بعضها على بعض عند تعذر جمعها و عند تيسره لتفاوت مصالحها
...
الفصل الأول: في تقديم حقوق الله بعضها على بعض عند تعذر جمعها وعند تيسره لتفاوت مصالحها
وله أمثلة: منها تقديم الصلوات المفروضات على الصلوات المندوبات، ومنها تقديم الطاعات الواجبات في أواخر الأوقات على الطاعات المندوبات، ومنها تأخير الظهر للإبراد، ومنها تقديم الصلاة المقضية على الصلاة المؤداة إذا اتسع وقت المؤداة، ومنها تقديم الصلاة المؤداة على الصلاة المقضية إذا ضاق وقت المؤداة عند الشافعي رحمه الله، لئلا تفوت مصلحة الأداء في الصلاتين. ومنها الترتيب في الصلوات الفائتات، ومنها تقديم النوافل المؤقتة التي شرعت فيها الجماعة كالعيدين والكسوفين على الرواتب، ومنها تقديم الرواتب على النوافل المبتدآت، ومنها تقديم الوتر وركعتي الفجر على سائر الرواتب، والأصح تقديم الوتر على ركعتي الفجر، ومنها تقديم الزكاة على سائر الصدقات المندوبات، ومنها تقديم الصوم الواجب على المندوب، ومنها تقديم فرض الحج والعمرة على مندوبيهما، ومنها تقديم الإفراد على القران عند قوم، وتقديم التمتع على الإفراد عند قوم، وتقديم القران عليهما عند آخرين، ومنها التقديم في جمع عرفة، ومنها التأخير في جمع مزدلفة، ومنها رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، ومنها رمي سائر الجمرات بعد الزوال. ومنها تأخير العشاء على قول، ومنها الإتمام في سفر لا تبلغ مسيرته ثلاثة أيام، ومنها تأخير الصيام في حق من يضره الصيام، وفي تقديم ترتيب أركان الصلاة على الاقتداء في حق المزحوم قولان، ومنها تقديم الكفارات على الوصايا المندوبات عند ضيق التركات(1/142)
ومنها أن المسافر إذا عرف أنه يجد الماء في آخر الوقت فتأخير الصلاة أفضل من المبادرة إليها بالتيمم، وهاتان فضيلتان لا يمكن الجمع بينهما، وإنما قدمنا التأخير لأنه راجع إلى رعاية الشروط وما رجع إلى رعاية الشروط والأركان أولى مما رجع إلى السنن والآداب، ويدل على ذلك أن المبادر مخير بين المبادرة وتركها والقادر على الماء لا يتخير بينه وبين التيمم لشرفه وعلو رتبته، ولو ظن وجود الماء في آخر الوقت فقولان: أحدهما يؤخر لما ذكرناه. والثاني لا يؤخر لأن المبادرة فضيلة محققة فلا يؤخرها لفضيلة مظنونة، وإن لم يظن ذلك فلا خلاف عند المراوزة أن المبادرة أولى إذ لا معارض لها، والمبادرة إلى الصلاة في الانفراد أفضل من انتظار الجماعة في آخر الوقت، لأن الجماعة ليست شرطا والذي قالوه ظاهر السنة. وقد قال بعض العراقيين في انتظار الجماعة قولين، ومنها أن من أراد التبرع بماء الطهارة على أفضل القربات قدم غسل الميت على غسل الجنب والحائض لأنه آخر عهد الميت، والجنب والحائض يصبران إلى طهارة الماء، ويقدم غسل النجاسة على غسل الحيض والجنابة وهو قريب من الجمع بين الحقوق، لأن غسل النجاسة لا بدل له وغسل الحيض والجنابة له بدل وهو التيمم. وفي تقديم غسل الميت على غسل النجاسة وجهان: أحدهما: يقدم غسل الميت لأنه آخر عهده. والثاني: يقدم غسل النجاسة إذ لا بدل له وييمم الميت وفي غسل الحيض والجنابة أوجه ثالثها التسوية بينهما فتقرع بينهما، فإن طلب أحدهما القسمة والآخر القرعة فمن يجاب؟ وجهان ومنها تقديم غسل الجمعة والغسل من غسل الميت على سائر الأغسال المندوبات، وأيهما أفضل فيه قولان، ومنها أن العري عذر في ترك الجماعة غير مانع للصحة، والانفراد فيه أفضل من الاجتماع على الجديد، ويقدم ستر السوأتين على ستر الفخذين عند العجز، فإن لم يجد إلا ما يكفي أحدهما ففي المقدم منهما اختلاف، ولا خلاف في تقديم ستر النساء على ستر الرجال دفعا لأعظم المفسدتين، ولو انحل إزار المصلي أو كشف الريح سوأته، فإن تعذر رده بطلت(1/143)
صلاته لندرته وعظم المفسدة، وإن رده قريبا لم تبطل، وإن تكشف أو تحرف عن القبلة أو لاقى نجاسة يابسة فإن تعمد بطلت صلاته، وإن لم يتعمد لم تبطل إلا أن يطول الزمان.(1/144)
الفصل الثاني: فيما يتساوى من حقوق الرب فيتخير فيه العبد
...
الفصل الثاني: فيما يتساوى من حقوق الرب فيتخير فيه العبد
وله أمثلة: منها أنه إذا كان عليه صوم أيام من رمضانين فإنه يتخير بينهما، ومنها أنه إذا كان على الشيخ الفاني فدية من رمضانين فما زاد فإنه يتخير بينهما. وكذلك لو اجتمع عليه زكاة إبل وبقر وغنم وذهب وفضة فإنه يتخير في تقديم أيتها شاء، ومنها أنه إذا لزمه حج أو عمرة بنذر واحد أو بنذور مختلفة فإنه يبدأ بأيهما شاء، متخير بين العمر والحجج، ويرتب العمر على الحجج.(1/144)
الفصل الثالث: فيما اختلف في تفاوته وتساويه من حقوق الإله لاختلاف في تساوي مصلحته و تفاوتها
...
الفصل الثالث: فيما اختلف في تفاوته وتساويه من حقوق الإله لاختلاف في تساوي مصلحته وتفاوتها
وله أمثلة: منها أن العاري هل يصلي قاعدا موميا بالركوع والسجود محافظة على ستر العورة، أو يصلي قائما متما لركوعه وسجوده وقيامه لأنها أركان عظيمة الوقوع في الصلاة فكانت المحافظة عليها أولى من المحافظة على ستر العورة الذي هو شرط مختلف في اشتراطه بين العلماء، أو يتخير بينهما لاستوائهما؟ فيه خلاف والمختار إتمام الركوع والسجود والقيام، ومنها أن من حبس في حبس لا يقدر فيه على مكان طاهر فهل يسجد على النجاسة إتماما للسجود أو يقاربها من غير أن يمسها أو يتخير، فيه الأوجه الماضية، فإن كانت النجاسة رطبة فقد قطع بعضهم بأنه لا يضع جبهته على النجاسة فيستصحب النجاسة في جميع صلاته، ومنها أنه إذ لم يكن له إلا ثوب واحد نجس فهل يصلي عاريا توقيا للنجاسة أو مستترا توقيا لكشف العورة، أو يتخير؟ فيه الأوجه الثلاثة. ومنها أنه إذا كان معه ثوب(1/144)
الفصل الرابع: فيما يقدم من حقوق بعض العباد على بعض لترجح التقديم على التأخير في جلب المصالح و درء المفاسد
...
الفصل الرابع: فيما يقدم من حقوق بعض العباد على بعض لترجح التقديم على التأخير في جلب المصالح ودرء المفاسد
وله أمثلة: منها تقديم نفقة المرء وكسوته وسكناه على نفقة زوجته وأصوله وفصوله وكسوتهم وسكناهم، ومنها تقديم نفقة زوجه وكسوتها وسكناها على نفقة أصوله وفصوله وكسوتهم وسكناهم، ومنها بيع ماله ومسكنه وعبيده وإمائه في نفقة هؤلاء وكسوتهم وسكناهم، ومنها تقديم غرمائه عليه في جميع أمواله في قضاء ديونهم، ومنها تقديمه على غرمائه بنفقته ونفقة عياله وكسوته وكسوة عياله من حين يحجز عليه إلى يوم وفاء دينه. ومنها تقديم المضطر عليه بالطعام والشراب إن لم يكن مضطرا إليهما. ومنها تقديم المرأة على الرجل والمسافر على المقيم في المخاصمات عند الحكام، ومنها تقدم الأفاضل على الأراذل في الولايات، ومنها تقديم الأفضل على الفاضل في المناصب الدينيات، ومنها تقديم ذوي الضرورات على ذوي الحاجات فيما ينفق من الأموال العامة. وكذلك التقديم بالحاجة الماسة على ما دونها من الحاجات، وكذلك التقديم بالسبق في الفتاوى والحكومات، وكذلك التقديم في القصاص بالسبق إلى الجنايات، بأن يبدأ بقصاص الأول فالأول من القتلى أو الجرحى أو مقطوعي الأعضاء، وتقديم القاتل بسلب القتيل على سائر الغزاة. وكذلك التقديم بالسبق إلى المساجد ومقاعد الأسواق واكتساب المباحات، وكذلك تقديم أحد الزوجين على الآخر بالفسخ بعيوب النكاح، وكذلك تقديم حق المرأة على الرجل في الفسخ بالإعسار وفي الطلاق بالإيلاء، وكذلك التقديم بالفسوخ في المعاوضات.(1/145)
الفصل الخامس: فيما يتساوى من حقوق العباد فيتخير فيه المكلف جمعا بين المصلحتين و دفعا للضررين
...
الفصل الخامس: فيما يتساوى من حقوق العباد فيتخير فيه المكلف جمعا بين المصلحتين ودفعا للضررين
وله أمثلة: منها النفقات على الزوجات والعبيد والأولاد والآباء والأجداد إذا وسعتهم النفقات، ومنها إذن المرأة لأوليائها في النكاح والإنكاح عند التساوي في الدرجات، ومنها التسوية بين الزوجات في القسم والنفقات، وكذلك تسوية الحكام بين الخصوم في المحاكمات. وكذلك تسوية الشركاء في طلب القسمة وفي الإجبار عليها في المثليات، وكذلك ما يقبل قسمة التعديل في المقومات، وكذلك التسوية بين البائع والمشتري في الإجبار على قبض العوضين. وكذلك تسوية الحكام في قسمة مال المحجوز عليه بالفلس، وكذلك التسوية بين الشركاء في حق الشفعة، وكذلك التسوية بين السابقين إلى شيء من المباحات.(1/146)
الفصل السادس: فيما يتقدم من حقوق الرب على حقوق عباده إحسانا إليهم في أخراهم
...
الفصل السادس: فيما يتقدم من حقوق الرب على حقوق عباده إحسانا إليهم في أخراهم
وله أمثلة: منها تقديم الصلوات المفروضات عند ضيق الأوقات على الرفاهية والشراب والطعام وسائر التصرفات، وليس تقديم إنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى على الصلوات من هذا الباب وإنما هو من باب تقديم حق الله وحق العباد على الصلوات، ومنها تحمل المشقات في العبادات فإنها مقدمة على قضاء الأوطار والراحات، ومنها تقديم الزكاة على الحاجات، ومنها بذل النفوس والأموال في قتال الكفار مع تعريض النفوس والأعضاء للفوات، ومنها تقديم سراية العتق على صرف الأموال في قضاء الأوطار ودفع الحاجات، وهذا على الحقيقة حق لله وحق للعبد، لكن غلب فيه حق الله إذ لا يسقط بإسقاط العبد، ولا يجوز له تأخيره تغليبا لحق الله عز وجل، ومنها التغرير بالنفوس والأعضاء في قتال من يجب قتاله، فمن يمتنع من أداء حق يجب أداؤه بالمحاربة(1/146)
كقتال البغاة ومانعي الزكاة، ومنها تحريم الوطء في الصوم والحج والعمرة والاعتكاف، ومنها تحريم وطء الحيض في جميع الأحوال إلا في حال إلجاء أو إكراه، ومنها تحريم وطء المتحيرة في جميع الأوقات وتضعيف الصوم عليها حتى يبلغ شهرين فما زاد. وكذلك الصلوات في جميع الأوقات، وكذلك غسل العصائب عند أوقات الصلوات، ومنها تحريم لباس المخيط وتحريم ستر رءوس الرجال ووجوه النساء في الإحرام، وكذلك تحريم قلم الأظفار وإبانة الشعر والطيب والإدهان في الإحرام والتلذذ بالنساء، وتحريم أكل الصيد والاصطياد، ومنها تحريم النكاح والإنكاح في الإحرام، ومنها تحريم الطعام والشراب والجماع على الصوام، ومنها تزكية الشهود فإن الغالب عليها حق الله إذ لا تسقط بإسقاط المشهود عليه، ومنها الأنساب فإنها حق لله ولعباده ولا تسقط بإسقاط مسقطيها، ومنها تحليف المدعى عليه فإن الغالب عليه حق الله، فلو رضي المدعي بأن يجعل القول قول المدعى عليه من غير نكول لم يسمع ذلك منه، ومنها دفع الغرر عن البياعات فإنه اعتبر للحقين، والغالب عليه حق الله بدليل أنه لا يسقط بإسقاط عصبات المزني بها لأن الشرع لو فوض استيفاءه إليهم لما استوفوه خوفا من العار والشنار، بخلاف استيفاء القصاص وحد القذف فإنهما حقان لله ولعباده، غلب عليهما حق العبد بالاستيفاء والإسقاط شفاء لغليل المقذوف والمجني عليه إن كان حيا ولورثته إن كان ميتا، ومن ذلك حد السرقة وجب صيانة للأموال، ولم يفوض إلى المسروق منه لغلبة الرحمة على الملاك أن يقطعوا السارق بسرقة ربع دينار ونظائر هذا كثيرة.(1/147)
الفصل السابع: فيما يتقدم من حقوق العباد على حقوق الرب رفقا بهم في دنياهم
...
الفصل السابع: فيما يتقدم من حقوق العباد على حقوق الرب رفقا بهم في دنياهم
وله أمثلة: منها التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه حفظا للنفوس والأعضاء، ليقوم المكلف بعد ذلك بوظائف الطاعات والعبادات، ومنها ترك الصلاة والصيام وكل حق يجب لله على الفور بالإلجاء والإكراه، ومنها الأعذار(1/147)
المجوزة لقطع الصلوات، ومنها الأعذار المجوزة لترك الجماعات والجمعات، ومنها الأعذار المجوزة لترك الجهاد، ومنها الانهزام يوم الزحف وهو جائز إذا أربى عدد الكفرة على عدد الإسلام مع التقارب في الصفات، وليس منها وجوب الفرار من الكفار في حق من علم أنه لو ثبت لقتل من غير نكاية في الكفار، فإن ثبوته لا جدوى له إلا كسر قلوب المسلمين وشفاء صدور الكافرين، ومنها التحلل بالإحصار بالعدو وفي الإحصار بغيره من الأعذار خلاف بين العلماء، ومنها تأخير الصيام بالأمراض والأسفار، ومنها قصر الصلوات الثلاث في السفر، ومنها جمع التقديم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالأسفار والأمطار، ومنها الشرب في أواني الذهب والفضة عند الحاجة ولبس الحرير عند الحكة وفي حال الاضراب.(1/148)
الفصل الثامن: فيما اختلف فيه من تقديم حقوق الله على حقوق عباده
...
الفصل الثامن: فيما اختلف فيه من تقديم حقوق الله على حقوق عباده
وله أمثلة: أحدها إذا مات وعليه ديون وزكوات فإن كانت نصب الزكوات باقية قدمت الزكوات لأن تعلقها بالنصب يشبه تعلق الديون بالرهون، وإن كانت تالفة فمن العلماء من قدم الديون نظرا إلى رجحان المصلحة في حقوق العباد، ومنهم من سوى بينهما لتكافؤ المصلحتين عنده، ومنهم من قدم الزكوات نظرا إلى رجحان المصلحة في حقوق الله وهذا هو المختار لوجهين: أحدهما قوله عليه السلام: "فدين الله أحق بالقضاء"؛ فجعل دين الله أحق بالقضاء من ديون العباد. والثاني: أن الزكوات فيها حق لله وحق للفقراء والمساكين فكانوا أحق بالتقديم، فلا يجوز تقديم واحد على حقين، ولا سيما إذا كان الدين لغني، إذ لا نسبة لحقه إلى حق الفقراء مع ضرورتهم وخصاصتهم، وإذا كان في الكفارة عتق كان أولى بالتقديم لاهتمام الشرع به وكثرة تشوقه إليه، فإنه يكمل مبعضه فيمن أعتق بعض عبده، ويسري إلى أنصباء الشركاء.
فإن قيل: لو وجبت الكفارة في الغلاء الشديد والخوف على النفوس فهل(1/148)
يقدم الطعام فيها على العتق والكسوة أم لا؟ قلنا: أما الكفارة المرتبة فلا يجوز تغيير ترتيبها بل يقدم فيها ما قدمه الله، ويؤخر فيها ما أخره الله، وأما كفارة الأيمان وكفارة الحلق في الحج فيقدم فيها الطعام والنسك على الصيام، وكذلك يقدم الطعام في الكفارة على الإعتاق ولا سيما إذا كان الرقيق عاجزا عن الاكتساب مع غلاء الأسعار، فإن إعتاقه يضر به وبالمساكين، لأنه مسقط لنفقته على مولاه، ومانع للمساكين من الارتفاق بالطعام مع سوء الحال وغلاء الأسعار.
المثال الثاني: اجتماع الحج والديون على الميت فمنهم من يقدم الحج لورود النص في تقديمه بقوله عليه السلام: "فدين الله أحق بالقضاء" ومنهم من يقدم الدين، ومنهم من يسوي بينهما إن وجد من يحج بالحصة.
المثال الثالث: إذ اجتمع حق سراية العتق مع الديون ففيه نفس الأقوال، والمختار تقديم سراية العتق، لما ذكرناه في اجتماع الديون والزكوات.(1/149)
فصل: فيما يثاب عليه من الطاعات
...
فصل: فيما يثاب عليه من الطاعات
الواجبات أقسام: أحدها ما تميز لله بصورته فهذا يثاب عليه مهما قصد إليه وإن لم ينو به القربة كالمعرفة والإيمان والأذان والتسبيح والتقديس وقراءة القرآن. القسم الثاني: ما لم يتميز من الطاعات لله بصورته لكنه شرع قربة لله عز وجل، فهذا لا يثاب عليه إلا بنيتين: إحداهما: نية إيجاد الفعل. والثانية: نية التقرب به إلى الله عز وجل، فإن تجرد عن نية التقرب أثيب على أجزائه التي لا تقف على نية القربة كالتسبيحات والتكبيرات والتهليلات الواقعة في الصلوات الفاسدة.
القسم الثالث: ما شرع للمصالح الدنيوية ولا تتعلق به المصالح الأخروية إلا تبعا كإقباض الحقوق الواجبة، وفروض الكفايات التي تتعلق بها المصالح الدنيوية من الحرث والزرع، والنسج والغزل، والصنائع التي يتوقف عليها بقاء العالم، ودفع ما يجب دفعه وقطع ما يجب قطعه، فهذا لا يؤجر عليه إذا قصد إليه إلا أن ينوي به القربة إلى الله عز وجل، فإن الله لا يقبل من الأعمال(1/149)
إلا ما أريد به وجهه، وإنما الأعمال بالنيات. فكم من مقيم لصور الطاعات ولا أجر له عليها، وكذلك لا يثاب على ترك العصيان إلا إذا قصد بذلك طاعة الديان، فحينئذ يثاب عليه، بل لو قصد الإنسان القربة بوسيلة ليست بقربة لا يثاب على قصده دون فعله، كمن قصد نوم بعض الليل ليتقوى به على قيام بقيته، وكمن قصد الأكل ليتقوى به على الجهاد وغيره من الطاعات، ولو نذر ذلك لم يلزمه، ولو قصد المعصية بما ليس بمعصية لعوقب على قصده دون فعله، مثل أن يقصد وطء جارية أو أكل طعام يظنهما لغيره، فوطئ وأكل مع كونهما ملكا له، فإنه يعاقب على قصده دون فعله.
[قاعدة في الجوابر والزواجر.] الجوابر مشروعة لجلب ما فات من المصالح، والزواجر مشروعة لدرء المفاسد، والغرض من الجوابر جبر ما فات من مصالح حقوق الله وحقوق عباده، ولا يشترط في ذلك أن يكون من وجب عليه الجبر آثما، وكذلك شرع الجبر مع الخطأ والعمد والجهل والعلم والذكر والنسيان، وعلى المجانين والصبيان، بخلاف الزواجر فإن معظمها لا يجب إلا على عاص زجرا له عن المعصية، وقد تجب الزواجر دفعا للمفاسد من غير إثم ولا عدوان، كما في حد الحنفي إذا شرب النبيذ، ورياضة البهائم، وتأديب الصبيان استصلاحا لهم. وقد اختلف في بعض الكفارات هل هي زواجر أم جوابر فمنهم من جعلها زواجر عن العصيان لأن تفويت الأموال وتحميل المشاق رادع زاجر عن الإثم والعدوان، والظاهر أنها جوابر لأنها عبادات وقربات لا تصح إلا بالنيات، وليس التقرب إلى الله زاجرا، بخلاف الحدود والتعزيرات فإنها ليست بقربات إذ ليست فعلا للمزجور، وإنما يفعلها الأئمة ونوابهم. والجوابر تقع في العبادات والأموال والنفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح. والجوابر تقع في العبادات وغيرها وهي أنواع كثيرة. فأما الجوابر المتعلقة بالعبادات فمنها جبر الطهارة بالماء بالطهارة بالتراب، ومنها جبر ما فات(1/150)
بالسهو من ترتيب الصلاة والكف عن الأفعال المفسدة بالسجود، ومنها التشهد الأول والقنوت بالسجود، ومنها جبر ما فات من القبلة وقت المسابقة بجهة المقاتلة، ومنها جبر القبلة بصوب السفر في حق النوافل، ومنها صلاة الجماعة لمن صلى منفردا فإنها جابرة لما فات من فضيلة الجماعة في صلاة الانفراد، ومنها جبر ما بين السنتين من التفاوت في الزكاة بشاتين أو عشرين درهما، وهذا جبر خارج عن قياس الجبر بالقيم، ومنها جبر الصوم في حق الشيخ الكبير بمد من الطعام، وكذلك جبر المرضع والحامل بالفدية لما فاتهما من أداء الصيام، ومنها جبر تأخير قضاء صوم رمضان إلى رمضان آخر عن كل يوم بمد من طعام، ومنها جبر مناهي النسك بالدماء والطعام والصيام. ومنها نقص التمتع والقران بالدم ثم بالصيام، ومنها جبر الرمي وترك الإحرام من المواقيت بالتخيير بين النسك والطعام وصيام ثلاثة أيام. ومنها جبر الصيد المأكول البري في الحرم أو الإحرام بالمثل والطعام والصيام، ومنها جبر الصيد المملوك لمالكه بقيمته وللرب بالمثل أو الطعام أو الصيام، وهذا متلف واحد جبر ببدلين مختلفين، ومنها جبر أشجار الحرم بالنعم والتخير بينها وبين الإطعام والصيام. واعلم أن الصلاة لا تجبر إلا بعمل بدني، والأموال لا تجبر إلا بجابر مالي والنسكان يجبران تارة بعمل بدني وتارة يجبران بجابر مالي فالبدني كالصيام في التمتع والقران وبعض محضورات الإحرام، والمال كذبح النسك والإطعام وإتلاف الصيد، يخير بالهدي أو الطعام أو الصيام، والصوم تارة يجبر بمثله في حق من مات وعليه صيام وتارة يجبر بالمال كما ذكرناه في حق الشيخ الكبير.
وأما الجوابر المتعلقة بالأموال فالأصل رد الحقوق بأعيانها عند الإمكان فإذا ردها كاملة الأوصاف برئ من عهدتها، وإن ردها ناقصة الأوصاف جبر أوصافها بالقيمة، لأن الأوصاف ليست من ذوات الأمثال، وإن ردها ناقصة(1/151)
القيمة موفرة الأوصاف لم يضمن ما نقص قيمتها بانخفاض الأسواق خلافا لأبي ثور، لأنه لم يفت شيئا من أجزائها ولا من أوصافها.
مثاله: إذا غصب حنطة تساوي مائة فردها وهي تساوي عشرة، أو غصب ثوبا يساوي عشرة فرده وهو يساوي خمسة لانحطاط الأسعار لأن الغاية رغبات الناس وهي غير متقومة في الشرع، والصفات والمنافع لا يمكن رد أعيانها فتضمن الصفات عند الفوات بما نقص من قيم الأعيان. وتضمن المنافع بأجور الأمثال إذا تعذر رد الأعيان.
ولها حالان: أحدهما أن تكون من ذوات الأمثال فتجبر بما يماثلها في المالية وجميع الأوصاف الخلقية كضمان البر بالبر، والزيت بالزيت، والسمسم بالسمسم، والشيرج بالشيرج، وإنما يجب جبرها لقيامها من جميع الوجوه وجميع الأعراض؛ فإن الأعيان إذا تساوت في قدر المالية وفي الأوصاف الخلقية فقد حصل الجبر بما يقصده العقلاء من المالية والأوصاف وجميع الأعراض، ولا مبالاة بتفاوت العين إذ لا يتعلق به غرض عاقل بعد الفوات ولا يعدل ذلك إلا في صورتين: إحداهما إذا أدى إلى نقص المالية مثل أن يشرب المضطرون ماء مغصوبا في مظان فقد الماء وغلاء ثمنه وارتفاع قيمته فإنهم يضمنونه إذا حضروا بقيمته في محل عزته كي لا تضيع على مالكه قيمته وماليته، وكذلك نظائره.
المثال الثاني: جبر لبن المصراة بالتمر فإنه مثلي خارج عن جبر الأعيان بالقيم والأمثال، وإنما نحكم بذلك لأنا لا نعلم ما اختلط من لبن البائع بلبن المشتري فتولى الشرع تقديره، إذ لا سبيل لنا إلى تقديره، وجعله بالتمر لموافقته للبن في الاقتيات ولعزة التقدير عند العرب.
فإن قيل: لو جبر المال المقطوع بحله بمثله من مال أكثره حرام فقد فات وصف مقصود في الشرع وعند أولي الألباب، فهل يجبر المستحق على أخذه مع(1/152)
التفاوت الظاهر بين الحلال المحض وبين ما تمكنت بشبهة الحرام؟ قلنا: في هذا نظر واحتمال وظاهر حكمهم أنه يجبر على أخذه كما يجبر رب الدين على أخذ مال اعترف بأنه حرام، وفي هذا أيضا بعد وإشكال.
الحال الثانية: من تعذر رد الأعيان أن تكون العين من ذوات القيم كالشاة والبعير والعبد والفرس فيجبر كل واحد منهما بما يماثله في القيمة والمالية لتعذر جبره بما يماثله في سائر الصفات، فإن أتلفه متلف ليس في يده بأن أحرق دارا ليست في يده، أو قتل عبدا في يد سيده، أو أتلف دابة في يد راكبها فإنه يجبر ذلك بقيمته وقت إتلافه لأنها هي التي فوتها. وإن فات شيء من ذلك تحت يده الضامنة بتفديته أو بتفويته أو بتفويت غيره أو بآفة سماوية فإنه يخير عند الشافعي رحمه الله بقيمته أكبر ما كانت من حين وضع يده إلى حين الفوات تحت يده، لأنه مطالب برده في كل زمان، فلذلك وجب عليه أقصى قيمة. وقال بعض العلماء: يجبر كل شيء بمثله من حيث الخلقة وإن تفاوتت أوصافه، وهذا إن شرط التساوي في المالية فقريب، وإن لم يشترط ذلك فقد أبعد عن الحق ونأى عن الصواب، فإن جبره بأكثر من قيمته ظلم لغاصبه، وجبره بدون قيمته ظلم لمالكه بما نقص من ماليته، ولا يجوز القياس على جبر الصيد بالمثل من النعم، فإن ذلك تعبد حائد عن قواعد الجبر.
وأما صفات الأموال فليست من ذوات الأمثال، والطريق إلى جبرها إذا فاتت بسبب مضمن أو فاتت تحت الأيدي الضامنة أن تقوم العين على أوصاف كمالها، ثم تقوم على أوصاف نقصانها فيجبر التفاوت بين الصفتين بما بين القيمتين مثل إن غصب شابة حسنة فصارت عنده عجوزا شوهاء فيجبر ما فات من صفة شبابها ونضارتها بما بين قيمتيها، وكذلك لو عيب شيئا من الأموال فإنه يجبره بما بين قيمته سليما ومعيبا، وكذلك لو هدم دارا فإنه يجبر تأليفها بما بين قيمتها في حالتي البناء والانهدام، لأن تأليفها ليس من ذوات الأمثال.(1/153)
وقد نص الشافعي رحمه الله على أن الغاصب لو حفر الأرض فنقصت بحفر لزمه أن يرد التراب إلى حفره ليسوي الأرض كما كانت. وهذا قضاء بأن تأليف بعض التراب إلى بعض وتسوية الحفر من ذوات الأمثال، فإنه لو كان من ذوات القيم لأوجب عليه أرش النقصان، وعلى هذا لو رفع خشبة من جدار أو حجرا من بين أحجار ثم ردهما إلى مكانيهما أجزأه ذلك لأنه محصل لمثل الغرض الأول من غير تفاوت، فأشبه تسوية الحفر وطم الآبار تنزيلا لتماثل التأليفات منزلة تماثل المثليات. وعلى هذا لو نقض قصرا مبنيا بالأحجار من غير طين ولا جيار وأمكن أن يرد كل حجر في مكانه من غير تفاوت لم يلزمه سوى ذلك كما لا يلزمه شيء إذا سوى الحفر وطم الآبار وقد ذكر بعض الأصحاب أن الشريك إذا هدم الجدار المشترك أجبر على إعادته، فإن أراد بذلك ما لا يساوي تأليفه فهو صواب، وإن أراد بذلك وجوب الإعادة مع تفاوت التأليف فهو خارج عن قياس الشرع، وإبدال المتلفات لأدائه إلى إبدال الفائت بدونه أو بأفضل منه.
فإن قيل: لو زادت قيمة المتلف بصفة ترغب بمثلها العصاة وتزيد بها القيم عندهم كالكبش النطاح والديك المهراش والغلام الفاتن بحسن صورته وحركته فإن لهؤلاء قيمة زائدة عند أهل الفساد على القيمة المعتبرة عند أهل الصلاح؟ قلنا: لا نظر إلى ذلك لفساد الغرض المتعلق به، كما لا نظر إلى قيمة الزمر والكوبة والصور المحرمة، وإنما العبرة بقيمة ذلك عند أهل الرشد والصلاح كما في كسر الأوثان والصلبان. وأما جبر الأروش في المعاملات فحكمه حكم جبر الصفات يقوم العرض صحيحا ومعيبا ويحسب ما بين القيمتين منسوبا إلى الثمن.
وأما المنافع فضربان: أحدهما منفعة محرمة كمنافع الملاهي والفروج المحرمة واللمس والمس والتقبيل والضم المحرم فلا جبر لهذه المنافع احتقارا لها، كما لا تجبر الأعيان النجسة لحقارتها، فإن استوفى شيئا منها بغير مطاوعة من ذي المنفعة(1/154)
فلا يجبر شيء منها إلا مهر المزني بها كرها أو شبهة، ولا يجبر مثل ذلك في اللواط لأنه لم يتقوم قط فأشبه القبل والعناق.
الضرب الثاني: أن تكون المنفعة مباحة متقومة فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة والفوات تحت الأيدي المبطلة والتفويت بالانتفاع، لأن الشرع قد قومها ونزلها منزلة الأموال فلا فرق بين جبرها بالعقود وجبرها بالتفويت والإتلاف، لأن المنافع هي الغرض الأظهر من جميع الأموال، فمن غصب قرية أو دارا قيمتها في كل سنة ألف درهم وبقيت في يده سبعين سنة ينتفع بها منافع تساوي أضعاف قيمتها ولم تلزمه قيمتها لكان ذلك بعيدا من العدل والإنصاف الذي لم ترد شريعة بمثله ولا بما يقاربه، وهذا كله في منافع الأعيان المملوكة.
وأما منافع الأحرار فيجبر استيفاؤها في العقود الصحيحة والفاسدة وفي غير العقود، وهل تجبر بحبس الحر من غير استيفاء لها؟ فيه خلاف من جهة أن الحر على منافعه فلا يتصور فواتها في يد غيره.
وأما الأبضاع فإنها تجبر في العقود الفاسدة والصحيحة وفي وطء الشبهة ووطء الإكراه بمهور الأمثال، ولا تجبر منافع الأبضاع إلا بعقد صحيح أو فاسد أو تفويت بشبهة أو إكراه، ولا تجبر بالفوات تحت الأيدي العادية، والفرق بين منافع الأبضاع وسائر المنافع الفائتة تحت الأيدي العادية أن القليل من المنافع يجبر بقليل الأجر وحقيرها، وضمان الأبضاع بمهور الأمثال يتحقق بمجرد إيلاج الحشفة في الفرج. فلو جبر بالفوات تحت الأيدي لجبر بما لا يمكن ضبطه من الأموال. فإذا كان مهر المثل مائة ومدة الإيلاج لحظة لطيفة، فأمسكها يوما يشتمل على ألفي لحظة للزمه في اليوم الواحد ألفا دينار بل ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف أو عشرة آلاف، إذ لا يمكن أن يأتي في اليوم الواحد بعشرة آلاف إيلاجة وذلك بعيد من مقاصد الشرع.
وأما النفوس فإنها خارجة عن قيام جبر الأموال والمنافع والأوصاف إذ(1/155)
لا تجبر بأمثالها ولا تختلف جوابرها باختلاف الأوصاف في الحسن والقبح والفضائل والرذائل، وإنما تختلف باختلاف الأديان والذكورة والأنوثة: فيجبر المسلم بمائة من الإبل والمسلمة بخمسين من الإبل، ويجبر اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم، وتجبر اليهودية والنصرانية بسدس دية المسلم، ويجبر المجوسي بثمانمائة درهم والمجوسية بأربعمائة درهم ولا عبرة في جبر الأموال بالأديان فيجبر العبد المجوسي الذي يساوي ألفا بألف، ويجبر العبد المسلم الذي يساوي مائة بمائة، لأن المجبور هو المالية دون الأديان.
وأما الجراح فضربان: أحدهما ما يصل إلى العظام في الوجه أو الرأس وأرشه مقدر لا يزيد ولا ينقص بسبب طوله ولا قصره ولا ضيقه ولا اتساعه وهذا بخلاف الأموال.
الضرب الثاني: ما تجب فيه الحكومة من الجراح وهو على قياس الإتلاف يجبر بأرش النقص من المجني عليه لو كان عبدا سليما ومجنيا عليه وبحسب ما بينهما ولكن بالنسبة إلى الدية دون القيمة. وأما أعضاء بني آدم فإنها تجبر بالدية تارة وبمقدر ينسب إلى الدية تارة، ولو وقع مثله في الدواب لم يجبر بمقدر وجبر بما ينقص من قيمة السالم من الجناية. ولو وجب في الإنسان ديات ثم مات بسرايتها لعادت الديات إلى دية واحدة، ولو فرض مثل ذلك في أعضاء الحيوان ثم مات بالسراية لجبر بقيمته يوم موته ولم يسقط شيئا من أروش أعضائه، لأن الغالب على جنايات الأناس التعبد الذي لا يوقف على معناه، والحكومات وإن كانت على وفق القياس من وجه فهي على خلاف القياس من جهة نسبتها إلى الديات. وقد سوى الشرع بين أرش إبهام اليد اليمنى وخنصرها مع ما بينهما من التفاوت في المنفعة، وكذلك سوى بين أرش إبهام الرجل اليمنى وخنصرها مع التفاوت الظاهر، وكذلك سوى بين أرش أصابع اليدين وأرش أصابع الرجلين مع بقاء معظم منافع الرجلين وفوات معظم منافع اليدين، وأعظم من(1/156)
ذلك في مجانبة القياس التسوية بين أرش إبهام اليد اليمنى وسبابتها وبين أرش خنصر الرجل اليسرى وبنصرها، وكذلك التسوية بين أرش إبهام اليد اليمنى وأرش خنصر الرجل اليسرى، وأعجب منه التسوية بين دية الأذنين ودية اللسان مع تفاوت النفعين، وكذلك التسوية بين دية الشم والعقل ودية البصر والشم، وكذلك التسوية بين الأذنين والرجلين وبينهما وبين اليدين، وكذلك التسوية بين ديات الأسنان والأصابع مع تفاوتهما في المنافع، وكذلك التسوية بين موضحتين إحداهما مستوعبة لجميع الرأس والأخرى بقدر رأس الإبرة، وكذلك التسوية بين الهاشمتين والمنقلتين مع تفاوتهما في الهشم ونقل العظام، وليس ذلك إلا تعبدا لا يقف العباد على معناه. وكذلك خولف القصاص في التماثل الواقع بين الجابر والمجبور في غير الإناس فإن الإنسان يجبر بالإبل وليست من جنسه ولا من جنس أعضائه كما يجبر جزاء الصيد بما ليس من جنسه ولا من جنس أعضائه، والعبد متردد بين البعير والإنسان فتجبر أعضاؤه عند بعض العلماء بما نقص من قيمته نظرا إلى ماليته كما تجبر أعضاء البعير بمثل ذلك، والأصح عند الشافعي رحمه الله أن نسبة أروش جراحة العبد إلى قيمته كنسبة أروش جراح الحر إلى ديته.
وأما الزواجر فنوعان. أحدهما ما هو زاجر عن الإصرار على ذنب حاضر أو مفسدة ملابسة لا إثم على فاعلها وهو ما قصد به دفع المفسدة الموجودة ويسقط باندفاعها.
النوع الثاني: ما يقع زاجرا عن مثل ذنب ماض منصرم أو عن مثل مفسدة ماضية منصرمة ولا يسقط إلا بالاستيفاء وهو ضربان:
أحدهما ما يجب إعلام مستحقه به ليبرأ منه أو يستوفيه وذلك كالقصاص في النفوس والأطراف وكحد القذف فإنه يلزم من وجب عليه أن يعرف مستحقه ليستوفيه أو يعفو عنه.(1/157)
الضرب الثاني: ما الأولى بالمتسبب إليه ستره، كحد الزنا والخمر والسرقة.
والجرائم المزجور عنها ضربان: أحدهما ما يجب زجرها على مرتكبها كالكفارات الزاجرة عن إفساد الصوم وإفساد الحج وإفساد الاعتكاف والطهارة.
الضرب الثاني: ما لا يجب زجرها على فاعلها وهو ثلاثة أضرب:
أحدها ما يجب على الأئمة استيفاؤه إذا ثبت عندهم بالحجج الشرعية كحد الشرب والسرقة والمحاربة والزنا
الضرب الثاني: ما يتخير فيه مستوفيه بين استيفائه وبين العفو عنه والعفو أفضل كالقصاص في النفوس والأعضاء، وكحد القذف عند الشافعي رحمه الله.
الضرب الثالث: التعزيرات المفوضات إلى الأئمة الحكام، فإن كانت للجنايات على حقوق الناس لم يجز للأئمة والحكام وإسقاطها إذا طلبها مستحقها وإن كانت لله فاستيفاؤها مبني على الأصلح فإن كان الأصلح استيفاءها وجب استيفاؤها، وإن كان الأصلح درأها وجب درؤها.
فأما الزواجر عن الإضرار فله أمثلة. أحدها قتل تارك الصلاة حثا عليها فإن أتى بها تركناه.
المثال الثاني: الزجر عن مفسدة البغاة فإن رجعوا إلى الطاعة كففنا عن قتلهم وقتالهم وهذا زجر عن مفسدة لا إثم فيه.
المثال الثالث: ضرب الصبيان على ترك الصلاة فإن صلوا تركناهم وهو أيضا زجر عن مفسدة لا إثم فيها.
المثال الرابع: تحريم المطلقة ثلاثا على من طلقها زجرا له عن تكرير أذيتها بالطلاق، وهذا زجر عما ليست مفسدته محرمة.
المثال الخامس: قتال الممتنعين من أداء الحقوق كالممتنعين عن أداء الزكاة وغيرها بالحرب، فإن أدوا الحقوق سقط قتالهم.
المثال السادس: زجر الناظر إلى الحرم في الدور برمي عينه، فإن انكف سقط رميها.(1/158)
المثال السابع: قتال الصوال ما داموا مقبلين على الصيال، فإن انكفوا حرم قتلهم وقتالهم. المثال الثامن: قتال المشركين إلى أن يسلموا.
المثال التاسع: قتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية.
المثال العاشر: ضرب الرجل امرأته الناشزة إلى أن ترجع عن النشوز.
المثال الحادي عشر: قتال الفئتين المقتتلتين عصبية أو على الدنيا إلى أن تفيء إلى أمر الله. المثال الثاني عشر: قتال الداخل إلى الدور عند عدم المغيث إلى أن يولي خارجا.
المثال الثالث عشر: حبس الممتنعين من أداء الحقوق إلى أن يبذلوها.
المثال الرابع عشر: قتال الخوارج إلى أن يرجعوا إلى رأي الجماعة والله أعلم.
وأما الزواجر عما تصرم من الجرائم التي لا تسقط عقوبتها إلا باستيفائها أو بعفو مستحقها فله أمثلة:
أحدها: أن يقذف رجلا محصنا قذفا موجبا للحد فيجب عليه إعلامه ليستوفيه أو يعفو عنه، وإن أقر بذلك عند الحكام فهل يجب على الحاكم إعلام مستحقه به؟ فيه خلاف. والمختار إيجابه لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، لم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم حرصا منه على إقامة حد الزنا وإنما ذكر ذلك نصحا للمقذوفة حتى إذا كانت عفيفة تخيرت بين حد القذف والعفو عنه، وإن اعترفت بالزنا رجمها.
المثال الثاني: القصاص في النفوس والأطراف يجب على الجاني إعلام مستحقه به ليستوفيه أو يعفو عنه، وإن وقع ذلك عند الحاكم فينبغي أن يخرج على الخلاف في وجوب الإعلام.
المثال الثالث: إذا سرق مال إنسان سرقة موجبة للقطع لم يجب عليه الإعلام(1/159)
بالسرقة بل يخبر مالك السرقة بأن له عليه مالا بقدر المسروق إن كان تالفا ليستوفيه أو يبرئه ولا يتعرض لذكر السرقة لأن زاجرها حد من حدود الله، فالأولى بمرتكبها أن يسترها على نفسه، وإن كان المسروق باقيا رده، أو وكل من يرده من غير اعتراف بسرقة، ولا يوكل مع القدرة على الرد بنفسه، إذ ليس له رد المغصوب إلى غير مالكه إلا إلى الحاكم وأمثاله ممن يجوز له انتزاع المغصوب من الغاصب.
المثال الرابع: حد قطع الطريق إن محصناه لله فهو كحد السرقة يجبر بالمال لمستحقه ولا يذكر سببه سترا على نفسه، وإن جعلنا فيه مع تحتمه حقا للآدمي وجب إعلامه به ليستوفيه أو يتركه فيستوفيه الإمام. وأما ما الأولى بالتسبب إليه ستر سببه على نفسه، فحكمه حكم الزنا والشرب والسرقة والأولى بفاعلها سترها على نفسه، وإن أظهرها للأئمة ليستوفوها جاز ذلك، وإن كان معلنا بكبيرة لما يبتنى على إظهارها من إقامة شعار الدين وزجر المفسدين عن الفساد، ويكره للمذنب المجرم أن يكشف عيوبه ويجهر بذنوبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "وكل أمتي معافى إلا المجاهر الذي يبيت يعصي ربه ثم يصبح يقول: فعلت كذا كذا فيفضح نفسه بعد أن ستره ربه".
وأما الشهود على هذه الجرائم فإن تعلق بها حقوق للعباد لزمهم أن يشهدوا بها وأن يعرفوا بها أربابها، وإن كانت زواجرها حقا محضا لله فإن كانت المصلحة في إقامة الشهادة بها فيشهدوا بها، مثل أن يطلعوا من إنسان على تكرر الزنا والسرقة والإدمان على شرب الخمور وإتيان الذكور، فالأولى أن يشهدوا عليه دفعا لهذه المفاسد، وإن كانت المصلحة في الستر عليه مثل زلة من هذه الزلات تقع ندرة من ذوي الهيئات ثم يقلع عنها ويتوب منها فالأولى أن لا يشهدوا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لضرار في حق ماعز: "هلا سترته بثوبك يا ضرار؟" وجاء في حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" وصح أنه صلى الله عليه وسلم(1/160)
قال: "ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة".
فإن قيل: إذا علم الشهود أن الزاني قد تاب من الزنا فصلحت حاله بحيث يجوز لهم تزكيته فهل لهم أن يشهدوا عليه بالزنا بعد ذلك؟ قلنا: إن أسقطنا الحد بالتوبة لم تجز الشهادة، وإن بقينا الحد مع التوبة جازت الشهادة، والأولى كتمانها. فإن قيل: ما معنى قول الفقهاء وجب عليه التعزير والحد والقصاص؟ قلنا: هو مجاز عن وجوب تمكينه من استيفاء العقوبات لإجماع العلماء على أنه لا يجب على الجاني أن يقتل نفسه، ولا على الجارح أن يجرح نفسه ولا على الزاني أن يجلد نفسه ولا أن يرجمها، وكذلك المعزر، وقد صرح الرب بإيجاب أداء الأمانات إلى أهلها، وأداؤها عبارة عن تمكين أهلها من قبضها وأخذها، فكذلك وجوب العقوبات على ذوي الجرائم.
والحقوق في الشرع ضربان: أحدهما ما يجب التمكين من قبضه وأخذه كأمانات الرب وأمانات عباده، فأما أمانات الرب فكاستئمانه الآباء والأوصياء على اليتامى، وكاستئمانه من أطارت إليه الريح ثوبا لغيره وكاستئمانه من كانت في يده أمانة لإنسان فمات ربها وانتقلت إلى ورثته مع بقائها في يد الأمين، فإنها تكون أمانة في يده لورثته فيجب أن يعلم بها أربابها إن لم يكونوا علموا بها، ثم لا يجب عليه بعد الإعلام بها إلا التمكين من قبضها. وأما أمانات الناس فكالودائع ولا يجب فيها إلا التمكين من قبضها.
الضرب الثاني من الحقوق: ما تكون مؤنة إقباضه على مقبضه كالأثمان والعواري والغصوب، وقد اختلف فيما يجب على الجناة فقال بعضهم: يجب عليهم التمكين كما في الأمانات الشرعية، وقال آخرون: يجب عليهم الإقباض والتسليم كما في العواري والغصوب والديون والأثمان، وتظهر فائدة هذا الخلاف في أجرة الجلاد والمستوفي للقصاص.
فإن أوجبنا التمكين لم يلزم الجاني أجرة المستوفي، وإن أوجبنا التسليم وجب(1/161)
أجرة المستوفي على الجاني كما تجب أجرة الكيال والوزان على من عليه الدين.
[فائدة] سجدتا السهو جبر من وجه وزجر للشيطان عن الوسواس في الصلاة من وجه؛ لما في السجدتين من ترغيمه، فإن الإنسان إذا سجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار. فإن قيل: محرمات الحج تسع من تعمدها زجر عنها بالكفارة إلا النكاح والإنكاح فإنه يزجر عنهما بالتعزير دون التكفير فما الفرق بينهما؟
فالجواب أن الناكح والمنكح لم يحصلا على غرضهما من المحرم الذي ارتكباه بخلاف من ارتكب سائر المحظورات فإنه يحصل على الأغراض التي حرمت لأجلها، فإن الغرض المقصود من الطيب والدهن واللباس وستر الرأس والاستمتاع بالجماع وبما دون الجماع، وأكل الصيد وحلق الشعر وتقليم الأظفار حاصل لمن تعاطى ذلك، فزجر بالكفارة فطاما له عن السعي في تحصيل هذه اللذات، والنكاح والإنكاح كلام لا يترتب عليه شيء من الأغراض ولا يصح وما جازت مباشرته من هذه المحظورات لعذر كانت الكفارة جبرا لا زجرا عند من جعل الكفارة زواجر، ومن لم يجعلها زواجر جعلها جوابر لما نقص من العبادات، ومهما جاز الإقدام على شيء من هذه المحظورات وجب كأكل المحرم المضطر الصيد فليست كفارة زاجرة بل هي جابرة لا غير، إذ لا زجر عما أوجبه الله تعالى أو أذن فيه، وإنما الزجر عن المفاسد المحققات.
فإن قيل: كيف زجر الحنفي بالحد عن شرب النبيذ مع إباحته؟ قلنا: ليس بمباح وإنما يخطئ في شربه، وقد عفا الشرع عن المفاسد الواقعة من المخطئين الجاهلين دون العامدين العارفين.
فإن قيل: إذا قلنا بتصويب المجتهدين فهلا كان شرب الحنفي مباحا؟ قلنا: من صوب المجتهدين شرط في ذلك أن يكون مذهب الخصم مستندا إلى دليل ينقض الحكم المستند به إليه.(1/162)
فإن قيل: ما مفاسد الجرائم التي شرعت عنها الزواجر؟ قلنا: أما القصاص في الأرواح فزاجر عن إزهاق النفوس وقطع الحياة وهي من أعلى المفاسد. وأما القصاص في الأعضاء ومنافعها فزاجر عن تفويت الانتفاع بالأعضاء في الطاعات والعبادات والمعاملات والأغراض التي خلقت هذه المنافع والأطراف لأجلها، والقصاص مشتمل على حق لله وحق للعبد، ولذلك لا يباح بالإباحة لما فيه من حق الله، ولا يؤخذ فيه عضو خسيس بعضو نفيس، وإن أذن المجني عليه وغلب فيه حق العبد فسقط بإسقاطه لأن الغالب من المجني عليه ومن ورثته استيفاؤه فلا يؤدي تفويضه إليهم إلى تحقق المفاسد لأنها تندفع بتشفيهم في الغالب.
وأما حد الزنا فزاجر عن مفاسد الزنا وعن مفاسد ما فيه، من مفاسد اختلاط المياه واشتباه الأنساب وإرغام أنف العصبات والأقارب، ولم يفوضه الشرع إلى من تأذى به من أولياء المزني بها، لأنه لو فوضه إليهم لما استوفوه غالبا خوفا من العار والافتضاح.
وأما حد السرقة فزاجر عن مفسدة تفويت الأموال التي يتوسل بها إلى مصالح الدنيا والدين، ويتقرب بها إلى رب العالمين. ولم يفوض الشرع استيفاءه إلى المسروق منه لغلبة الرقة في معظم الناس على السارقين، فلو فوض إليهم لما استوفوه رقة وحنوا وشفقة على السارقين.
فإن قيل: كيف تقطع يد ديتها خمسون من الإبل أو خمسمائة دينار بربع دينار أو بعشرة دراهم كما قال أبو حنيفة رحمه الله؟ قلنا: ليس الزجر عما أخذ وإنما الزجر عن تكرير ما لا يتناهى من السرقة المفوتة للأموال الكثيرة التي لا ضابط لها ولو شرط الشرع في نصاب السرقة مالا خطيرا لضاعت أموال الفقراء الناقصة عن نصاب الخطير، وفي ذلك مفسدة عامة للفقراء.
وأما حد الخمر فزاجر عن شرب كثير المفسدة للعقل الذي هو أشرف(1/163)
المخلوقات والله لا يحب الفساد في شيء حقير، فما الظن بإفساد العقل الذي هو أخطر من كل خطير؟ ولذلك أوجب الحد في شرب اليسير منه لكونه وسيلة إلى شرب الكثير.
فإن قيل: هلا وجب الحد في إزالة عقله بغير سكر كالبنج وغيره؟
فالجواب: أن إفساد العقل بذلك في غاية الندور إذ ليس فيه تفريح ولا إطراب يحثان على تعاطيه، بخلاف الخمر والنبيذ فإن ما فيهما من التفريح والإطراب حاث على شربهما فغلبت لذلك مفسدتهما فوجب الحد لغلبة المفسدة، ولم تجب في البنج ونحوه لندرة الإفساد به.
وأما حد قطع الطريق فزاجر عن أخذ الأموال بالقطع وعن الجناية على النفوس والأعضاء بالقصاص، وإنما تحتم كما تحتم حد الزنا من جهة أنهم ضموا إلى جناياتهم إخافة السبيل في حق كل مجتاز بها، بخلاف من قتل إنسانا أو سرق ماله في خفية.
وأما حد القذف فزاجر عن هتك الأعراض بالتعبير بالزنا واللواط وهو مشتمل على حق الله عز وجل إذ لا يباح بالإباحة، وعلى حق الآدمي للآدمي لدرء تغيره بالقذف، وقد غلب بعض العلماء فيه حق الله عز وجل فلم يسقطه بإسقاط المقذوف، وغلب الشافعي رحمه الله فيه حق الآدمي فأسقطه بإسقاطه كالقصاص، ولم أقف على المفسدة المقتضية لرجم الثيب الزاني وقد قيل فيها ما لا أرتضيه. وكذلك المفسدة المقتضية لجعل الربا من الكبائر لم أقف فيها على ما يعتمد على مثله، فإن كونه مطعوما أو قيمة للأشياء أو مقدرا لا يقتضي مفسدة عظيمة تكون من الكبائر لأجلها، ولا يصح التعليل بأنه لشرفه حرم فيه ربا الفضل، وربا النساء، فإن من باع ألف دينار بدرهم واحد صح بيعه، ومن باع كر شعير بألف كر حنطة، أو باع مد شعير بألف مد من حنطة، أو باع مدا من حنطة بمثله، أو دينارا بمثله، أو درهما بمثله وأجل ذلك لحظة فإن البيع(1/164)
يفسد مع أنه لا يلوح في مثل هذه الصور معنى يصار إليه ولا يعتمد.
وأما التعزيرات فزواجر عن ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات، وهي متفاوتة بتفاوت الذنوب في القبح والإيذاء، وقد قدرها بعض العلماء بعشرة سياط لقوله عليه السلام: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله"، وقدرها بعضهم بما نقص عن أدنى الحدود، وقدرها آخرون بغير ذلك.
فإن قيل: يعزر في اليمين الغموس مع إيجاد الكفارة أم لا؟ قلنا يعزر لجرأته على ربه، والكفارة ما وجبت لكون الحالف مجترئا وإنما وجبت بسبب مخالفة موجب اليمين وإن كان مباحا أو مندوبا بدليل أنها تجب حيث لا عصيان.
فإن قيل: كيف يزدجر الجلد القوي الذي عم فساده وعظم عناده بعشرة أسواط؟ قلنا: يضم إليه الحبس الطويل الذي يرجى الازدجار بمثله وللإمام صلبه مبالغة في زجره.
فإن قيل من آذى مسلما بشيء من ضروب الأذى فقد عصى الله بمخالفته وآذى المسلم بانتهاك حرمته، فإذا عفا المستحق عن عقوبة ذلك الأذى أو عن حده فهل تسقط عقوبة الله في مخالفته؟ قلنا هذا مما اختلف فيه. فمنهم من أسقط عقوبته تبعا لسقوط حق الآدمي، ومنهم من أوجبها زجرا عن الجرأة على انتهاك حرمة الله تعالى. وأما كفارة قتل الخطأ فوجبت جبرا لما فوت من حق الله تعالى، كما وجبت الدية جبرا لما فات من حق العبد، وكذلك وجب القصاص في قتل العمد زجرا عن تفويت حق العبد وتحصيلا لاستمرار الحياة بدليل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، والتقدير ولكم في خوف القصاص حياة، فإن الجاني إذا عرف أنه يقتل إذا جنى خاف القصاص فكف عن القتل فاستمرت حياته وحياة المجني عليه، ووجبت الكفارة عند الشافعي زجرا عن تفويت حق الرب.(1/165)
فصل: فيما يشترط فيه التماثل من الزواجر و ما لا يشترط
...
فصل: فيما يشترط فيه التماثل من الزواجر وما لا يشترط
الأصل في القصاص التماثل إلا أن يؤدي اعتباره إلى إغلاق باب القصاص قطعا أو غالبا وله أمثلة:
أحدها: التساوي في أجرام الأعضاء كالأيدي والأرجل والأنف والشفاه والجفون وسمك اللحم في الجراح، لو شرط التساوي بين أجرامهما لما وجب القصاص إلا في أندر الصور، بل يؤخذ أعظم العضوين بأدناهما. وكذلك تفاوت الجراح في سمك ما على العظم من الجلد واللحم، بخلاف التساوي في مساحات الجراحات على الرءوس والأبدان، فإنا نأخذ مساحتها في الطول والصغر والكبر لأن اعتبار ذلك لا يؤدي إلى إغلاق باب القصاص، ولا نظر إلى التفاوت في سمك اللحم المجلل للرأس لأنه لو اعتبر تساويه لأغلق باب القصاص في الجراح.
المثال الثاني: منافع الأعضاء كبطش اليدين ومشي الرجلين وبصر العينين وسمع الأذنين وذوق اللسان، لو شرط فيها التساوي على حيالها لما وجب فيها قصاص. المثال الثالث: التساوي في العقول، إذا أوجبنا القصاص فيها لو اعتبر التساوي لسقط القصاص فيها، ولا وقوف لنا على تساوي العقول بل يؤخذ أتم العقول بأقلها، وأنفذ الأبصار بأضعفها، وكذلك القول في الشم والذوق والمشي والبطش وسائر منافع الأعضاء.
المثال الرابع: قتل الجماعة بالواحد وقطع أيدي الجماعة بقطع يد الواحد، لو اعتبرنا فيها التساوي لسقط القصاص في كثير من الأحوال بتواطؤ الجمع على القتل والقطع، والاجتماع على القطع في ذلك أندر من الاجتماع على القتل فلذلك خالف فيه أبو حنيفة كما خالف بعض العلماء في قتل الجماعة بالواحد. وكذلك القول في الحياة التي لم يبق بها إلا صبابة يسيرة فإنا نأخذ بها الحياة الطويلة المرجوة الدوام فيقتل الشاب الأيد في عنفوان شبابه بالشيخ الهرم الذي نضب عمره(1/166)
وانقضى دهره، وكذلك يؤخذ الشباب في عنفوان شبابه بقتله من أنفذت مقاتله ويئس بحيث لا يبقى منها إلا ساعة أو ساعتين. وكذلك لا نظر إلى التفاوت في الصنائع فتؤخذ يد الصانع الماهر في صناعته بيد الأخرق الذي لا يعرف شيئا مثل أن تؤخذ يد ابن البواب بيد من لا يعرف من الكتابة شيئا، وكذلك تؤخذ يد أحذق الناس في الرماية وغيرها من الصنائع بيد من لا يحسن الرماية ولا شيئا من تلك الصنائع.(1/167)
فصل: في بيان متعلقات حقوق الله عز و جل و محالها
...
فصل: في بيان متعلقات حقوق الله عز وجل ومحالها
مبتدأ التكاليف كلها ومحلها أو مصدرها القلوب، وأول واجب يجب - بعد النظر - معرفة الله ومعرفة صفاته، وهي شرط في جميع عباداته وطاعاته، والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد، ولنفع العباد في الآجل والمعاد إما بالتسبب أو بالمباشرة، وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" ، أي إذا صلحت بالمعارف ومحاسن الأحوال والأعمال صلح الجسد كله بالطاعة والإذعان، وإذا فسدت بالجهالات ومساوئ الأحوال والأعمال فسد الجسد كله بالفسوق والعصيان.
وطاعة الأبدان بالأقوال والأعمال نافعة بجلبها لمصالح الدارين أو إحداهما وبدرئها لمفاسد الدارين أو إحداهما، والأحوال ناشئة عن المعارف والقصود ناشئة عن المعارف والأحوال، والأعمال والأقوال ناشئان عن القصود الناشئة عن المعارف والأحوال، وأحكام الله كلها مصالح لعباده، فطوبى لمن قبل نصح ربه، وتاب عن ذنبه.
[قاعدة] في بيان متعلقات الأحكام، للأحكام تعلق بالقلوب والأبدان والجوارح والحواس، والأموال، والأماكن والأزمان، والطاعات(1/167)
كلها بدنية، وإنما قسمت إلى البدنية والمالية لتعلق بعضها بالأموال، والمتعلق بالمالي تارة يكون بالأقوال كالأوقاف والوصايا، وتارة يكون بالأفعال كإقباض الفقراء الزكاة والكفارات، وتارة يكون بالإسقاط كالإعتاق في الكفارات.
فنبدأ بما يتعلق بالقلوب من حقوق الله عز وجل وحقوق عباده. فأما حقوق الله فإنها منقسمة إلى المقاصد والوسائل: فأما المقاصد فكمعرفة ذاته وصفاته، أما الوسائل فكمعرفة أحكامه فإنها ليست مقصودة لعينها وإنما مقصودة للعمل بها، وكذلك الأحوال قسمان أحدهما مقصود في نفسه كالمهابة والإجلال، والثاني وسيلة إلى غيره كالخوف والرجاء، فإن الخوف وازع عن المخالفات لما رتب عليها من العقوبات، والرجاء حاث على الطاعات لما رتب عليها من المثوبات.
وأما حقوق العباد المتعلقة بالقلوب، فكلها وسائل كالنيات، والحقوق كلها إما فعل للحسنات، وإما كف عن السيئات، فنبدأ من حقوق الله المتعلقة بالقلوب ما كان من الحسنات دون أضدادها، فإنا إذا ذكرناها دلت على أن أضدادها من السيئات فلا حاجة إلى التطويل بذكرها، والحقوق المتعلقة بالقلوب أنواع.
النوع الأول: معرفة ذات الله سبحانه وتعالى وما يجب لها من الأزلية والأبدية والأحدية وانتفاء الجوهرية والعرضية والجسمية والاستغناء عن الموجب والموجد والتوجد بذلك عن سائر الذوات.
النوع الثاني: معرفة حياته بالأزلية والأبدية والأحدية والاستغناء عن الموجب والموجد، والتوحد بذلك عن غيرها من الحياة.
النوع الثالث: معرفة علمه بالأزلية والأبدية والأحدية والاستغناء عن(1/168)
الموجب والموجد، والتعلق بكل واجب وجائز ومستحيل، والتوحد بذلك عن سائر العلوم.
النوع الرابع: معرفة إرادته بالأزلية والأبدية والأحدية والاستغناء عن الموجب والموجد، والتعلق بما تتعلق به القدرة والتوحد بذلك عن سائر الإرادات.
النوع الخامس: معرفة قدرته على الممكنات بالأزلية والأبدية والأحدية والاستغناء عن الموجب والموجد، والتوحد بذلك عن سائر القدور.
النوع السادس: معرفة سمعه بالأزلية والأبدية والأحدية والاستغناء عن الموجب والموجد والتعلق بكل مسموع قديم أو حادث، والتوحد بذلك من بين سائر الأسماع.
النوع السابع: معرفة بصره بالأزلية والأبدية والأحدية والاستغناء عن الموجب والموجد، والتعلق بكل موجود قديم أو حادث، والتوحد بذلك على سائر الأبصار.
النوع الثامن: معرفة كلامه بالأزلية والأبدية والتعلق بجميع ما يتعلق به العلم، والتوحد بذلك عن سائر أنواع الكلام. فهذه الصفات كلها قائمة بذات الله، وهي منقسمة إلى ما يتعلق بغيره حكما كالحياة، وإلى ما يتعلق بغيره كالعلم والسمع والبصر، وإلى ما يتعلق بغيره تأثيرا كالقدرة، وإلى ما يتعلق بغيره من غير كشف ولا تأثير كالكلام، وأعمها تعلقا العلم والكلام، وأخصها السمع، ومتوسطها البصر.
النوع التاسع: معرفة ما يجب سلبه عن ذاته من كل عيب ونقص، ومن كل صفة لا كمال فيها ولا نقصان.
النوع العاشر: معرفة تفرده بالإلهية والاختراع.
النوع الحادي عشر: معرفة صفاته الفعلية الصادرة من قدرته الخارجة عن ذاته(1/169)
وهي منقسمة إلى الجواهر والأعراض، فالأعراض أنواع كالخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإغناء والإقناء والإماتة والإحياء، والإعادة والإفناء.
النوع الثاني عشر: معرفة ما له أن يفعله وأن لا يفعله كإرسال الرسل وإنزال الكتب، والتكليف والجزاء بالثواب والعقاب.
النوع الثالث عشر: معرفة حسن أفعاله كلها خيرها وشرها نفعها وضرها قليلها وكثيرها، وأنه لا حق لأحد عليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، له حق وليس عليه حق ومهما قال فالحسن الجميل. وكذلك لو عذب أهل السماوات والأرضين وأقصاهم لكان عادلا في ذلك كله. ولو أثابهم وأدناهم لكان منعما متفضلا بذلك كله.
النوع الرابع عشر: اعتقاد جميع ما ذكرناه في حق العامة، وهو قائم مقام العلم في حق الخاصة، لما في تعرف ذلك من المشقة الظاهرة للعامة، فإن الله كلف الخاصة أن يعرفوه بالأزلية والأبدية والتفرد بالإلهية وأنه حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم صادق في أخباره، وكلف العامة أن يعتقدوا ذلك لعسر وقوفهم على أدلة معرفته فاجتزى منهم باعتقاد ذلك. وأما كونه عالما بعلم قادرا بقدرة فإنه مما يلتبس، وقد اختلف الناس فيه لالتباسه، وكذلك القول في قدم كلامه وفي أن ما وصف به نفسه من الوجه واليدين والعينين صفات معنوية قائمة بذاته أو هي متأولة بما يرجع إلى الصفات فيعبر بالوجه عن الذات، وباليدين عن القدرة، وبالعينين عن العلم. وكذلك اختلف الناس أهي جهة أم لا جهة له مما يطول النزاع فيه ويعسر الوقوف على أدلته، وقد تردد أصحاب الأشعري رحمهم الله في القدم والبقاء أهما من صفات السلب أم من صفات الذات؟ وقد كثرت مقالات الأشعري حتى جمعها ابن فورك في مجلدين وكل ذلك مما لا يمكن تصويب للمجتهدين فيه بل الحق مع واحد منهم، والباقون مخطئون خطأ معفوا عنه لمشقة الخروج منه والانفكاك عنه، ولا سيما قول معتقد الجهة فإن اعتقاد موجود(1/170)
ليس بمتحرك ولا ساكن ولا منفصل عن العالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه لا يهتدي إليه أحد بأصل الخلقة في العادة، ولا يهتدي إليه أحد إلا بعد الوقوف على أدلة صعبة المدرك عسرة الفهم فلأجل هذه المشقة عفا الله عنها في حق العادي. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يلزم أحدا ممن أسلم على البحث عن ذلك بل كان يقرهم على ما يعلم أنه لا انفكاك لهم عنه، وما زال الخلفاء الراشدون والعلماء المهتدون يقرون على ذلك مع علمهم بأن العامة لم يقفوا على الحق فيه ولم يهتدوا إليه، وأجروا عليهم أحكام الإسلام من جواز المناكحات والتوارث والصلاة عليهم إذا ماتوا وتغسيلهم وتكفينهم وحملهم ودفنهم في مقابر المسلمين، ولولا أن الله قد سامحهم بذلك وعفا عنه لعسر الانفصال منه ولما أجريت عليهم أحكام المسلمين بإجماع المسلمين، ومن زعم أن الإله يحل في شيء من أجساد الناس أو غيرهم فهو كافر لأن الشرع إنما عفا عن المجسمة لغلبة التجسم على الناس فإنهم لا يفهمون موجودا في غير جهة بخلاف الحلول فإنه لا يعم الابتلاء به ولا يخطر على قلب عاقل ولا يعفى عنه، ولا عبرة بقول من أوجب النظر عند البلوغ على جميع المكلفين فإن معظم الناس مهملون لذلك غير واقفين عليه ولا مهتدين إليه، ومع ذلك لم يفسقهم أحد من السلف الصالحين كالصحابة والتابعين، والأصح أن النظر لا يجب على المكلفين إلا أن يكونوا شاكين فيما يجب اعتقاده فيلزمهم البحث عنه والنظر فيه إلى أن يعتقدوه أو يعرفوه، وكيف نكفر العامة الذين لا يعرفون أن كلام الله معنى قديم قائم بنفسه متجه مع القضاء بكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وخبرا واستخبارا ونداء ومسموعا مع أنه ليس بصوت وأن اعتقاد مثل هذا لصعب جدا على المعتقدين الذاهبين إلى أنه من القواطع، المكفرين لجاحديه. وكذلك كيف نكفر العامي بجهله أن النبوة عبارة عن كون النبي مخبرا عن الله فلا ترجع النبوة إلى صفة وجودية بل تكون عبارة عن نسبة تعلق الخطاب به، والقول لا يوجب صفة(1/171)
ثبوتية للمقول له ولا للمقول فيه أو عن كون النبوات عبارة عن إخباره عن الله فترجع إلى صفة ثبوتية قائمة به، فعلى الأول يكون فعيلا بمعنى مفعول وعلى الثاني يكون فعيلا بمعنى فاعل، وقد رجع الأشعري رحمه الله عند موته عن تكفير أهل القبلة لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات، وقد اختلف في عبارات والمشار إليه واحد، وقد مثل ما ذكره رحمه الله بمن كتب إلى عبيده يأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء فاختلفوا في صفاته مع اتفاقهم على أنه سيدهم فقال بعضهم: هو أكحل العينين، وقال آخرون أزرق العينين، وقال: بعضهم هو أدعج العينين وقال بعضهم هو ربعة، وقال آخرون بل هو طوال. وكذلك اختلفوا في لونه أبيض أو أسود أو أسمر أو أحمر فلا يجوز أن يقال إن اختلافهم في صفته اختلاف في كونه سيدهم المستحق لطاعتهم وعبادتهم، فكذلك لا يكون اختلاف المسلمين في صفات الإله اختلافا في كونه خالقهم وسيدهم المستحق لطاعتهم وعبادتهم. وكذلك اختلف قوم في صفات أبيهم مع اتفاقهم على أنه أصلهم الذي خلقوا من مائه ولا يكون اختلافهم في أوصافه اختلافا في كونهم نشئوا عنه وخلقوا منه.
فإن قيل: يلزم من الاختلاف في كونه سبحانه في جهة أن يكون حادثا؟ قلنا: لازم المذهب ليس بمذهب، لأن المجسمة جازمون بأنه في جهة وجازمون بأنه قديم أزلي ليس بمحدث فلا يجوز أن ينسب إلى مذهب من يصرح بخلافه وإن كان لازما من قوله. والعجب أن الأشعرية اختلفوا في كثير من الصفات كالقدم والبقاء والوجه واليدين والعينين. وفي الأحوال كالعالمية والقادرية وفي تعدد الكلام واتحاده ومع ذلك لم يكفر بعضهم بعضا، واختلفوا في تكفير نفاة الصفات مع اتفاقهم على كونه حيا قادرا سميعا بصيرا متكلما، فاتفقوا على كماله بذلك واختلفوا في تعليله بالصفات المذكورة.
[فائدة] اتفق المسلمون على أن الله موصوف بكل كمال، بريء من كل نقصان(1/172)
لكنهم اختلفوا في بعض الأوصاف فاعتقد بعضهم أنها كمال فأثبتها له، واعتقد آخرون أنها نقصان فنفوها عنه، ولذلك أمثلة:
أحدها: قول المعتزلة إن الإنسان خالق لأفعاله لأن الله لو خلقها ثم سبه عليها ولامه لما فعلها مع أنه لم يفعلها، وعذبه عليها مع أنه لم يوجدها، لكان ظالما والظلم نقصان وكيف يصح أن يفعل شيئا ثم يلوم غيره عليه ويقول له كيف فعلته ولم فعلته؟ ؟ وأهل السنة يقولون: إن الله خالق لأفعال الإنسان لأن الإنسان لو خلقها لما قدر الإله على خلقها ونفي القدرة عيب ونقصان، وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم بدليل تعذيبه للبهائم والمجانين والأطفال لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، والقول بالتحسين والتقبيح باطل، فرأوا أن يكون كماله في خلق أفعال العباد ورأوا تعذيبهم على ما لم يخلقوه جائزا من أفعاله غير قبيح.
المثال الثاني: اختلاف المجسمة مع المنزهة لو كان جسما لكان حادثا ولفاته كمال الأزلية.
المثال الثالث: إيجاب المعتزلي على الله سبحانه أن يثيب الطائعين كي لا يظلمهم والظلم نقصان، وقول الأشعري ليس ذلك بنقص إذ لا يجب عليه حق ولو وجب عليه حق لغيره لكان في قيده، والتقيد بالأغيار نقصان.
المثال الرابع: قول المعتزلة بأن الله يريد الطاعات وإن لم تقع، لأن إرادتها كمال ويكره المعاصي وإن وقعت لأن إرادتها نقصان، وقول الأشعري لو أراد ما لا يقع لكان ذلك نقصا في إرادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به، ولو كره المعاصي مع وقوعها لكان ذلك كلالا في كراهيته وذلك نقصان.
المثال الخامس: إيجاب المعتزلة على الله رعاية الصلاح لعباده لما في تركه من النقصان، وقول الأشعري لا يلزم ذلك لأن الإلزام نقصان وكمال الإله أن يكون في قيد المتألهين.(1/173)
النوع الخامس عشر: من الحقوق المتعلقة بالقلوب: تصديق القلب بجميع ما ذكرناه من الاعتقاد والعرفان.
النوع السادس عشر: النظر في تعريف ذلك أو اعتقاده وهو واجب وجوب الوسائل. النوع السابع عشر: معرفة ما أمر بفعله من طاعته بأركانها وشرائطها وسننها وآدابها، وموانعها ومبطلاتها، وأوقاتها ومقدمها ومؤخرها، ومضيقها وموسعها، ومعينها ومخيرها ومؤداها ومقضيها.
النوع الثامن عشر: معرفة ما زجر عن فعله من معاصيه ليجتنب لما فيه من المفاسد، قال الله تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}.
النوع التاسع عشر: معرفة أحكام تصرفات العباد ومعاملاتهم صحيحها وفاسدها وبيان المحللات والمحرمات والمكروهات والواجبات والمندوبات والولايات ولواحقها وغير ذلك.
النوع العشرون: معرفة أدلة أحكامه من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع أمته والأقيسة الصحيحة، والاستدلالات المستقيمة، والعبارات القويمة.
النوع الحادي والعشرون: معرفة ما يتوقف عليه فهم خطابه وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم من اللغة العربية.
النوع الثاني والعشرون: النظر في معرفة ما التبس من أحكامه وأدلتها ومتعلقاتها
النوع الثالث والعشرون: الظنون المعتبرة في معرفة الأحكام وأسبابها وسائر متعلقاتها، ولا يشترط فيها العلم إذ لو شرط فيها العلم لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية، ولا يكفي فيما يتعلق بأوصاف الإله إلا العلم أو الاعتقاد، والفرق بينهما أن الظان مجوز بخلاف مظنونه، وإذا ظن صفة من صفات الإله فإنه يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز تجويز النقص على الإله، لأن الظن لا يمنع من تجويز نقيض المظنون، بخلاف الأحكام فإنه لو ظن الحلال حراما(1/174)
والحرام حلالا لم يكن ذلك تجويز نقص على الرب سبحانه وتعالى، لأنه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصا فدار تجويزه بين أمرين، كل واحد منهما كمال، بخلاف الصفات فإن كمالها شرف وضده نقصان، ولا يشترط في المعارف والاعتقادات الواجبة الاستمرار والدوام لما في ذلك من المشقة والضرر العام والمقصود بالشرائع إرفاق العباد بل يكفي في ذلك الإيمان الحكمي مع عزوب الإيمان الحقيقي ما لم يطرأ ضد يناقض المعارف والاعتقاد، والعرفان أفضل من الاعتقاد، وحكم العرفان أفضل من حكم الاعتقاد.
النوع الرابع والعشرون: الأحوال الناشئة عن معرفة الصفات. اعلم أن الخوف ناشئ عن معرفة شدة النقمة، والرجاء ناشئ عن معرفة سعة الرحمة، والتوكل ناشئ عن معرفة تفرد الرب بالضر والنفع والخفض والرفع. والمحبة تنشأ تارة عن معرفة الإحسان والإنعام، وتارة عن معرفة الجلال والجمال، والمهابة ناشئة عن معرفة كمال الذات والصفات، وكل واحدة من هذه الأحوال حاثة على الطاعة التي تناسبها، فالخوف حاث على ترك المعاصي والمخالفات، والرجاء حاث على الإكثار من المندوبات وعلى كثير من الواجبات لما يرجى على ذلك من المثوبات، والتوكل حاث على الإجمال في الطلب والدعاء، والابتهال زاجر عن الوقوف مع الأسباب، والمحبة حاثة على طاعة مثل طاعة الهائبين المجلين المعظمين المستحيين، وهو أكمل من طاعة المحبين، ولا يمكن اكتساب هذه الأحوال في العادة إلا باستحضار المعارف التي هي منشأ لهذه الأحوال.
النوع الخامس والعشرون؛ القصود والنيات والعزوم على الطاعات فيما يستقبل من الأوقات، فيجب على المكلف أن يعزم على الطاعات قبل وجوبها ووجوب أسبابها، فإذا حضرت العبادات وجبت فيها القصود إلى اكتسابها والنية بالتقرب بها إلى رب السموات.
واعلم أن الإيمان والنيات والإخلاص ينقسم إلى حقيقي وحكمي، فالإيمان(1/175)
الحكمي شرط في العبادات من أولها إلى آخرها، والنية الحقيقية مشروطة في أول العبادات دون استمرارها، والحكمية كافية في استمرارها، وكذلك إخلاص العبادة شرط في أولها، والحكمي كاف في دوامها، ولو وجب الإيمان الحقيقي في جميع الأوقات، والنية الحقيقية في استمرار العبادات لحصلت المشقة في استحضار الإيمان والنيات، ولم يشترط الإيمان الحقيقي في ابتداء العبادة لأن استحضار النية شاق عسير ولأن نية القربة تتضمن الإيمان، والإيمان لا يتضمن نية القربات، والغرض من النيات تمييز العبادات عن العادات، أو تمييز رتب العبادات أثناء تمييز العبادات عن العادات فله أمثلة:
أحدها: الغسل فإنه مردد بين ما يفعل قربة إلى الله كالغسل عن الأحداث، وغيرها يفعل لأغراض العباد من التبرد والتنظيف والاستحمام والمداواة وإزالات الأوضار والأقذار، فلما تردد بين هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب عما يفعل لأغراض العباد.
المثال الثاني: دفع الأموال مردد بين أن يفعل هبة أو هدية أو وديعة، وبين أن يفعل قربة إلى الله كالزكاة والصدقات والكفارات، فلما تردد بين هذه الأغراض، وجب أن تميز النية لما يفعل لله عما يفعل لغير الله.
المثال الثالث: الإمساك عن المفطرات تارة يفعل لغرض الإمساك عن المفطرات وتارة يفعل قربة إلى رب الأرضين والسموات، فوجب فيه النية لتصرفه عن أغراض العباد إلى التقرب إلى المعبود.
المثال الرابع: حضور المساجد قد يكون للصلوات أو الراحات أو للقربة بالحضور فيها زيارة للرب سبحانه وتعالى. لما تردد بين هذه الجهات وجب أن يميز الحضور في المسجد زيارة لرب الأرباب عما يفعل لغير ذلك من الأغراض.
المثال الخامس: الضحايا والهدايا لما كان ذبح الذبائح في الغالب لغير الله(1/176)
من ضيافة الضيفان وتغذية الأبدان، ونادر أحواله أن يفعل تقربا إلى الملك الديان شرطت فيه النية تمييزا لذبح القربة عن الذبح للاقتيات والضيافات، لأن تطهر الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالمياه من الأحداث، تارة يكون لله وتارة يكون لغير الله فتميزه الطهارة الواقعة لله عن الطهارة الواقعة لغيره.
المثال السادس: الحج لما كانت أفعاله مرددة بين العبادات والعادات وجب فيه النية تمييزا للعبادات عن العادات. وأما مثال تمييز رتب العبادات فكالصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، والنفل ينقسم إلى راتب وغير راتب، والفرض ينقسم إلى منذور وغير منذور، وغير المنذور ينقسم إلى ظهر وعصر ومغرب وعشاء وصبح، وإلى قضاء وأداء فيجب في النفل أن يميز الراتب عن غيره بالنية وكذلك تميز صلاة الاستسقاء عن صلاة العيد. وكذلك في الفرض تميز الظهر عن العصر، والمنذورة عن المفروضة بأصل الشرع، وكذلك في العبادة المالية تميز الصدقة الواجبة عن النافلة، والزكاة عن المنذورة والنافلة. وكذلك يميز صوم النذر عن صوم النفل، وصوم الكفارة عنهما، وصوم رمضان عما سواه، ويميز الحج عن العمرة تميزا لبعض راتب العبادات عن بعض. ولا يكفيه مجرد نية القربة دون تعيين الرتبة، فإن أطلق نية الصوم والصلاة حمل على أقلها، لأنه لم ينو التقرب بما زاد على رتبتها، فإذا نوى الراتبة لم يكفه ذلك حتى يعينها بتعين الصلاة التي شرعت لها بأن يضيفها إلى الصلاة التابعة لها، وإذا نوى العيد أو الكسوف أو الاستسقاء فلا بد من إضافتها إلى أسبابها لتمييز رتبتها عن رتب الرواتب، وإن نوى الفرائض فلا بد من تمييزها بالإضافة إلى أوقاتها وأسبابها، وليست الأوقات والأسباب قربة ولا صفة للقربة وإنما تذكر في النية لتبيين المرتبة، وإن نوى الكفارة ولم يذكر سببها أجزأته لأن رتبتها متساوية لا تفاوت فيها، إذ العتق في كفارة القتل مثل العتق في كفارة الظهار وكفارة الجماع في رمضان. وقد خالف أبو حنيفة رحمه الله في ذلك وجعل إضافة الكفارات إلى أسبابها(1/177)
كإضافة الصلاة إلى أوقاتها، والأول أوجه لما ذكرنا من تساوي الرتب، وليست الأوقات والأسباب من العبادات حتى يجب ذكرها لا سيما أسباب الكفارات فإن معظمها جنايات، فإذا لم تكن الأسباب قربة ولا دالة على تفاوت رتبة فلا حاجة إلى قصدها لأن العتق بنية الكفارة قد يميز عن العتق المندوب برتبته، بخلاف رتب الصلاة فإنها مختلفة، ولذلك شرع بعضها ما لم يشرع في بعض كالجهر والإسرار والتطويل والتقصير، ولو تساوت مقاصد الصلاة تساوت مقاصد العتق لما اختلفت أحكام الصلاة وأوصافها، وعندي وقفة في صلاتي العيدين لأنهما مستويان في جميع الصفات فينبغي أن تلحق بالكفارات فيكفيه أن ينوي صلاة العيدين من غير تعرض لصلاة فطر أو أضحى، بخلاف صلاة الكسوف والخسوف فإنهما يختلفان بالجهر والإسرار، فإن كانت العبادة غير ملتبسة بالعادة كالإيمان والتعظيم والإجلال والخوف والرجاء والتوكل والحياء والمحبة والمهابة، فهذه متعلقة بالله عز وجل قربة في أنفسها متميزة لله بصورتها لا تفتقر إلى قصد تمييزها وبجعلها قربة متميزة، فلا حاجة في هذا النوع إلى نية تصرفه إلى الله عز وجل وكذلك التسبيح والتقديس والتهليل والتكبير والثناء على الله عز وجل بما لا يشارك فيه والأذان وقراءة القرآن فإنه لا يحتاج إلى نية، إذ لا تردد بين العبادة والعادة ولا بين رتب العبادة كما ذكرناه، ولا حاجة إلى التعليل بأن النية لو افتقرت إلى نية لأدى ذلك إلى التسلسل لأن انصرافها بصورتها إلى الرب سبحانه وتعالى مميز لها فلا تحتاج إلى مميز، ولأن النية لا رتب لها في نفسها، ومثل هذا نقول في الكلام إن كان صريحا لم يفتقر إلى نية لأنه بصراحته منصرف إلى ما دل عليه، وإن كان كناية افتقر إلى نية مميزة لتردده، وكذلك نقول في المعاملات إن امتاز المقصود عن غيره فلا حاجة إلى ما يميزه، فمن استأجر عمامة أو ثوبا أو قدوما أو سيفا أو بساطا لم يحتج إلى ذكر منفعة لأن صورته منصرفة إلى منفعته مميزة لها فلا حاجة إلى مميز، وإن كانت المنفعة مرددة كالدابة تكترى للعمل(1/178)
والركوب، والأرض تكترى للزرع والغرس والبناء فلا بد من تمييز المنفعة باللفظ، وكذلك إن كان في البلد نقد غالب حمل العقد عليه لامتيازه بغلبته وإن كان في البلد نقود مختلفة لا غالب فيها فلا بد من تمييز باللفظ، وكذلك الحقوق المتعينة لا يفتقر أداؤها إلى نية بل تصح وتبرى من غير نية لتعينها لمستحقها، وإن ترددت مثل أن يقبض المدين مالا لرب الدين من جنس حقه فإنه مردد بين الوديعة والهبة والعارية والإباحة وقضاء الدين فلا بد من نية تميز إقباض الدين عن سائر أنواع الإقباض. وكذلك كل من جاز له الشراء لنفسه ولغيره فإنه لا ينصرف إلى غيره إلا بنية تميزه عن الشراء لنفسه. وكذلك لو ملك التصرف بأسباب مختلفة كالوكيل والوصي فإنه يملك الشراء لنفسه ولغيره بنية فلو أطلق الشراء عن النية لانصرف إلى نفسه لأنه الغالب من أفعاله، ولا ينصرف إلى يتيمه إلا بنية وليس المقصود من نية التصرف التقرب إلى المستحق، بخلاف نية العبادات فإن القصد بتمييزها التقرب إلى المعبود بذلك المقصود، وكذلك ما تشترط فيه النية من التصرفات ليس الغرض منها إلا مجرد التمييز دون التقرب.
فإن قيل: لم أثيب ناوي القربة على مجرد نيته من غير عمل ولا يثاب على أكثر الأعمال إلا إذا نواه؟
فالجواب: ما ذكرناه من أن النية منصرفة إلى الله تعالى بنفسها، والفعل المردد بين العادة والعبادة غير منصرف إلى الله فلذلك لا يثاب عليه.
فإذا قيل: لم أثيب على النية ثواب حسنة واحدة، وإن اتصل بها الفعل أثيب بعشر مع كون النية متصلة إلى الله بنفسها؟
فالجواب: أن الفعل المنوي، به تتحقق المصالح المطلوبة من العبادات فلذلك كان أجره أعظم وثوابه أوفر.(1/179)
[فائدة] هل يشترط أن يستحضر إضافة النية إلى الله أو يكفيه استلزامه القربة للإضافة إلى الله؟ فيه اختلاف.
[فائدة] الذي ينوى من العبادات ضربان: أحدهما ما هو مقصود في نفسه فيوجه النية إلى التقرب به إلى الله عز وجل.
الضرب الثاني: ما يكون المقصود به غيره وهو ضربان: أحدهما ما لا يكون مقصودا في نفسه كالتيمم فهذا ينوي به استباحة ما يحرمه الحدث ويدل على أنه غير مقصود في نفسه أنه لا يشرع تحديده، وإن نوى أداء التيمم أو فريضة التيمم فوجهان. أحدهما لا يصح لأنه غير مقصود والثاني: يصح كما يصح مثله في سائر العبادات. الضرب الثاني: ما كان مقصودا في نفسه كطهارة الأحداث بالماء، فهذا يخير بين أن ينويه في نفسه كسائر العبادات، وبين أن ينوي مقصوده، وله حالان. أحدهما: أن ينوي رفع شيء يحرمه ذلك الحدث. والثانية: أن ينوي استباحة شيء مما يحرمه ذلك الحدث، وإنما كفارة ذلك في حصول العبادة لأن الحدث لا يرتفع إلا بطهارة وهي قربة.
فإن قيل الصلاة والتيمم ممتازان بصورتيهما عن العادات وعن غيرهما من العبادات فلم افتقر إلى النية - مع تمييزهما؟ قلنا. أما التيمم فإنه افتقر إلى النية - لأنه خارج عما يفعل عبادة أو عادة، وليس مسح الوجه بالتراب نوعا من التعظيم في مطرد العادات بل صورته كصورة اللعب والعبث الذي لا فائدة فيه، فلذلك افتقر إلى نية تصرفه عن اللعب والعبث إلى العبادة إذ لا تعظيم في صورته، والعبادات كلها إجلال وتعظيم. وأما الصلاة فإنما وجبت النية فيها لوجوب ترتيبها، وإذا بطل أولها بطل ما ابتنى عليه فلم تجب النية فيها لتمييزها عن العادة، وإنما وجبت لتمييز رتب العبادة، فإن مرتبة التكبير في النافلة المطلقة دون مرتبته في النوافل المرتبة والمؤقتة، ورتب العبادة في النوافل المؤقتة دون(1/180)
رتب المفروضة والمنذورة، فإذا وقع مرددا بين هذه الجهات، فقد تردد بين رتب مختلفة فلا يعتقد به في رتبة عليا وحمل على أدنى الرتب، وكان ما بعده من أفعال الصلاة مبنيا على رتبته وهو مردد والمبني على المردد مثله في التردد، بل رتبة التكبير في النفل المطلق أعلى من رتبته خارج الصلاة، ولا بد أن ينوي به أصل الصلاة وإلا وقع مرددا بين رتبة تكبير الصلاة ورتبة التكبير الخارج عن الصلاة.(1/181)
فصل: في وقت النية المشروطة في العبادة
...
فصل: في وقت النية المشروطة في العبادة
إذا كان الغرض بالنيات التمييز كما ذكرنا وجب أن تقترن النية بأول العبادة ليقع أولها مميزا ثم يبتنى عليه ما بعده، إلا أن يشق مقارنتها إياها كما في نية الصوم، وقد اختلف في نية تقديم الزكاة، لما في التوكيل في إخراجها من مصلحة الإخلاص ودفع إخجال الفقير من باذلها، فإن تأخرت النية عن أول العبادة لم يجز ذلك إلا في صوم التطوع لأن ما مضى يقع مرددا بين العبادة والعادة، أو بين رتب العبادة، وإن تقدمت النية فإن استمرت إلى أن شرع في العبادة أجزأه ما اقترن منها بالعبادة وإن انقطعت النية قبل الشروع في العبادة لم تصح العبادة لترددها، فإن قرب انقطاعها أجزأت عند بعض العلماء وفيه بعد، لأنها إذا انقطعت وقع ابتداء العبادة مرددا فإن اكتفى بالنية السابقة فلا فرق بين بعيدها وقريبها لتحقق ترددها ابتداء العبادة مع القرب والبعد، وينبغي أن يستصحب ذكر النية في الوضوء إلى آخره لأنه أقرب إلى مقصود النيات، ولا يفعل مثل ذلك في الصلاة، لأن قلبه مشغول عن ذكر النية بملاحظة معنى الأذكار والقراءة والدعاء، فكان الاشتغال بالأهم في الصلاة أولى من ملاحظة النية وذكرها.
فإن قيل: هل يشترط أن ينوي الاقتداء في صلاة الجمعة كما ينوي سائر الصلاة؟ فالذي أراه أنه لا يشترط لأن الاقتداء شرط في صلاة الجمعة فلا يفرد بالنية كسائر الشرائط والأركان.
[فائدة] يكفي في العبادات نية فردة لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات"،(1/181)
وقد قال الشافعي رحمه الله في الصلاة: ينوي مع التكبير لا قبله ولا بعده. واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال لا بد من استمرار النية من أول التكبير إلى آخره، وهذا مخالف للنية في جميع العبادات مع ما فيه من العسر الموجب للوسواس، والمختار أنه تجزئ نية فردة مقرونة بالتكبير كما تجزئ في الصوم والزكاة والكفارات والاعتكاف والحج والعمرة نية فردة، وليس قول الشافعي مع التكبير لا قبله ولا بعده نصا في بسط النية على التكبير، لأن اسم الشيء يطلق على ابتدائه وعلى انتهائه كما يطلق لفظ الصلاة على أول أجزائها وعلى آخر أجزائها كما في حديث جبريل عليه السلام، فكذلك يطلق لفظ التكبير على أول أجزائه وهو الهمزة، وقال بعض أصحابنا: لا يتصور بسط النية لأنها عرض فرد لا يتصور فيه البسط، وإنما يبسط العلم بالنية وهذا لا يصح لأن العلم عرض لا يتصور الغرض منه كما لا يتصور بسط الغرض من النية وإنما المعنى. يبسطها تكريرها بتوالي أمثالها.(1/182)
فصل: في قطع النية في أثناء العبادة
...
فصل: في قطع النية في أثناء العبادة
إذا قطع نية العبادة في أثناء الصلاة بطلت صلاته لانقطاع النية المستصحبة كما يبطل الإيمان المستصحب بطريان ضد من أضداده. ولو قطع نية الحج أو العمرة لم يبطل حجه ولا عمرته، وإن قطع نية الصيام بطل على الأصح، فأحكام النية في الصلاة أغلظ من أحكامها في النسك، ولو شك هل نوى شيئا من هذه العبادات أو لم ينو لم يحكم بانعقاده لأن الأصل عدم نيته، ولو تردد أيستمر على شيء من هذه العبادات أم يخرج منها لم يخرج بذلك من صومه ولا من نسكه وتبطل صلاته، ولو تردد في أصل النية ثم تذكر في أثناء العبادة أنه نوى في أولها صح صومه ونسكه. وأما الصلاة فإن فعل في حال شكه ركنا لا يزاد مثله في الصلاة كالركوع والسجود بطلت صلاته لأنه زاد فيها متعمدا ركنا لا يعتد به لفوات النية الحكمية فيه، فصار كما لو تعمد زيادته من غير نسيان، وإن لم(1/182)
يأت بركن لا يزاد مثله في الصلاة فإن قصر زمان الشك لم تبطل صلاته كما لا تبطل بالكلام القليل والفعل اليسير في حال النسيان، وإن طال زمن التردد ففي البطلان وجهان كالوجهين في البطلان بالكلام الكثير والفعل الكثير في حال النسيان والفرق بينهما أن النسيان اليسير غالب والكلام اليسير نادر، وقد فرق في الأعذار بين غالبها ونادرها، وإن أتى في حال الشك بركن يزاد مثله في الصلاة كالفاتحة والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم يعتد به لخلوه عن النية الحكمية والحقيقية، ويلزمه إعادته إن قصر زمان الشك وإن طال فوجهان والفرق في تغليظ أحكام النية بين الصلاة وغيرها أن المصلي مناج لربه مقبل عليه، ولذلك نهي عن الالتفات فيها والإعراض عن الله عز وجل لما فيه من سوء الأدب، وزجر عن الفعل الكثير والكلام الكثير وأمر باستقبال جهة واحدة لأنه أكمل في الإقبال على مناجاة ذي الجلال وقد قال: "أنا جليس من ذكرني" فكان تردده في الخروج عن المجالسة تركا للإقبال على ذي الجلال وسوء أدب، فلذلك أبطل تردده في قطع نية الصلاة. فإن من أمره بعض الكبراء بمناجاته ومجالسته فجالسه وناجاه ثم عزم على قطع مجالسته أو مناجاته أو تردد في قطعها فإنه يعد ذلك - إذا اطلع عليه - من سوء أدب المناجاة والمجالسة، وليس سائر العبادات بمثابة الصلاة في المجالسة والمناجاة، والفرق بين النسك والصيام أن الناسك لا يخرج من نسكه بأقوى المفسدات وهو الجماع، فكذلك لم تؤثر فيه قواعد النيات فجاز أن ينوي إحراما كإحرام غيره، وجاز أن يبهم إحرامه ثم يصرفه إلى أحد النسكين أو إليهما، وجاز أن ينوي النفل فيقع عن الفرض أو ينوي الحج عن غيره فيقع عن نفسه ولو أبطله الشرع بمثل ذلك لعظمت المشقة في قضائه بخلاف الصلاة والصيام.
فإن قيل: هل تصح العبادة بنية تقع في أثنائها؟ قلنا: نعم وله صور: أحدها:(1/183)
أن ينوي المتنفل ركعة واحدة ثم ينوي أن يزيد عليها ركعة أو أكثر فتصح الركعة الأولى بالنية الأولى وصح ما زاد عليها بالنية الثانية، وليس هذا كتفريق النية على الصلاة لأن المفرق ينوي ما لا يكون صلاة مفردة وههنا قد نوى بالنية الأولى الركعة الأولى وهي صلاة على حيالها ونوى الزيادة بنية ثانية وهي صلاة أيضا على حيالها، وليس كمن نوى تكبيرة أو قومة أو نوى من الظهر ركعة على انفرادها فإن الركعة المنفردة لا تكون ظهرا.
الصورة الثانية: إذا نوى الاقتصار في الصلاة على الأركان والشرائط ثم نوى التطويل المشروع أو السنن المشروعة فإن ذلك يجزئه لاشتمال النية الأولى على الأركان والشرائط، والثانية على السنن النابعة، فإنها وإن لم تكن صلاة مستقلة فقد ثبت للتابع ما لا يثبت للمتبوع، أو يكون ذلك من رخص النوافل كما رخص للمسافر في صلاتها إلى غير القبلة توسعة لتكثير النوافل، وكذلك لو نوى التسليم بعد انقضاء التشهد ثم بدا له أن يطول في الأدعية والأذكار.
الصورة الثالثة: إذا نوى المسافر القصر ثم نوى الإتمام فإن الركعتين الأولتين يجزئانه بالنية الأولى والركعتان الأخريان يجزئانه بالنية الثانية لأن المقصود بالنيتين تمييز رتبة الظهر عن غيرها، وقد تحقق ذلك بالنيتين.
الصورة الرابعة: إذا اقترن بصلاة القاصر ما يوجب الإتمام أو طرأ عليها ما يوجب إتمامها وهو لا يشعر به في أثناء الصلاة فإنه يتم الصلاة بالنية الثانية وقد قال بعض أصحابنا تجزئه بالنية الأولى، وقد جعل القصر معلقا على شرط أن لا يطرأ ما يوجب الإتمام وهذا لا يصح في حق من لا يشعر بهذا الحكم ولم يخطر بباله مع أنه حكمه الإتمام.
الصورة الخامسة: إذا مات الأجير في الحج قبل إتمامه الحج وجوزنا البناء عليه فاستأجرنا من يبني عليه وقد وقع ما تقدم بنية الأجير الأول وما تأخر(1/184)
بنية الأجير الثاني فيؤدى الحج بنيتين من شخصين: إحداهما في ابتدائه والثانية في انتهائه.
فإن قيل: النية قصد ولا بد للقصد من مقصود مكتسب يتعلق به القصد، فأي كسب مقصود للإمام إذا نوى الإمامة فإن صلاته مع القوم لا تزيد على صلاته وحده؟ وكذلك إذا أحرم الناسك بالعمرة والحج مع اتحاد الفعل بخلاف ما لو أدخل الحج على العمرة فإن أفعال الحج تزيد على أفعال العمرة.
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: لو أدخل العمرة على الحج لم تصح على قول إذ لا ينوي بهذه المسائل مشكلة ولا يصح أن يقال نوى الأحكام لأن الأحكام ليست من كسبه ولا من صفات كسبه، والنيات لا تتعلق إلا بكسب أو صفة تابعة للكسب، ومن المشكل قول الشافعي ومالك رحمهما الله: إن الحج والعمرة ينعقدان بمجرد نية الإحرام من غير قول ولا فعل، فإن أريد بالإحرام أفعال الحج لم يصح لأنه لم يتلبس بشيء منها في وقت النية ولأن محظورات الحج لا تتقدم عليه كما لا تتقدم محظورات العبادة عليها، وإن أريد به الانفكاك عن محظورات الإحرام لم يصح لأنه إن نوى الإحرام مع ملابسته لمحظورات سوى الجماع لصح إحرامه وإن كان الكف عنهما هو الإحرام لما صح مع ملابستها كما لا يصح الصيام مع ملابسته الأكل والشرب، وإن كان الإحرام هو الكف عن الجماع لما صح إحرام من يجهل وجوب الكف عن الجماع لأن الجهل به يمنع من توجه النية، إذ لا يصح قصد ما يجهل حقيقته، وشرط ابن خيران التلبية متجه لأن التلبية في الحج كتكبيرة الإحرام في الصلاة وشرط بعض العلماء التلبية أو سوق الهدي.(1/185)
فصل: في تردد النية مع ترجح أحد الطرفين
...
فصل: في تردد النية مع ترجح أحد الطرفين
النية قصد لا يتصور توجهه إلا إلى معلوم أو مظنون فلا تتعلق بمشكوك فيه. وكذلك لا تتعلق بالموهوم ولا بد أن يكون جزمها مستندا إلى علم أو اعتقاد أو ظن،(1/185)
فإذا نوى ما يتردد فيه فإن كان تحققه راجحا صحت نيته مثل أن ينوي الزكاة عن مال شك في هلاكه أو ينوي الصيام ليلة الثلاثين من رمضان فتصح نيته لأن ما نواه ثابت محقق باستصحاب الأصل، وإن كان عدم ما نواه راجحا بالاستصحاب لم تصح نيته لأنها لا تتحقق إلا مع علم أو ظن كما لو أخرج الزكاة عن مال شك هل ملكه أم لا، وكما لو نوى الصيام ليلة الثلاثين من شعبان.
فإن قيل: كيف يصح صوم المستحاضة المتحيرة وصلاتها مع عدم رجحان الطهارة على الحيض والحيض على الطهارة؟ قلنا: هذا مما استثني للضرورة بخلاف ما سنذكره إن شاء الله في مسألة السبيكة لأنه يقدر على تمييز الذهب من الفضة فيزول الشك، ولا قدرة للمستحاضة على مثل ذلك، ولو نوى الصيام معلقا على مشيئة الله تعالى، فإن جزم النية واعتقد أن ما جزمه موقوف التحقق على مشيئة الله فهذه نية صحيحة لجزمها وقد أضاف إليها الاعتراف بوقوف عبادته على مشيئة الله، وذلك إتيان بطاعتين، وإن تشكك بالفعل لم تصح نيته لتردده، وذلك مثل أن يقول إن شاء الله وقع مني الصوم ولا يجزم بذلك فهذا لا يصح تردده وشكه.(1/186)
فصل: في تفريق النيات على الطاعات
...
فصل: في تفريق النيات على الطاعات
تفريق النية على الطاعة يختلف باختلاف الطاعات، والطاعات أقسام: أحدهما: طاعة متحدة وهي التي يفسد أولها بفساد آخرها كالصلاة والصيام، فلا يجوز تفريق النية على أبعاضها، مثاله في الصيام أن ينوي إمساك الساعة الأولى وحدها ثم ينوي إمساك الساعة الثانية وكذلك يفرد كل إمساك بنية تختص بها إلى آخر النهار، فإن صومه لا يصح. وكذلك لو فرق نية الصلاة على أركانها وأبعاضها مثل أن أفرد التكبير بنية والقيام بنية ثانية والركوع ثالثة وكذلك إلى انقضاء الصلاة، فإن صلاته لا تصح لأن ما نواه من هذه المفردات ليس بجزء من الصلاة على حياله.
القسم الثاني: طاعة متعددة كالزكاة والصدقات وقراءة القرآن فهذا يجوز(1/186)
أن يفرد أبعاضه بالنية وأن يجمعه في نية واحدة، فلو فرق النية على أحد جزئي الجملة في القراءة مثل أن قال بسم الله، أو قال فالذين آمنوا، فالذي أراه أنه لا يثاب على ذلك، ولا يثاب إلا إذا فرق النية على الجمل المفيدة، إذ لا قيمة في الإتيان بأحد جزئي الجملة وجمل القرآن أحدها ما لا يذكر إلا قرآنا كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} فهذا يحرم على الجنب قراءته.
الضرب الثاني: ما يغلب عليه كونه ذكرا ليس بقرآن كقوله بسم الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، فهذا لا يحرم على الجنب قراءته إلا أن ينوي القراءة لغلبة الذكر عليه.
القسم الثالث: ما اختلف في اتحاده كالوضوء والغسل فمن رآهما متحدين منع من تفريق النية على أجزائهما، ومن رآهما متعددين جوز تفريق النية على أبعاضها.
النوع السادس والعشرين من أعمال القلوب التوبة ولها ثلاثة أركان
أحدهما: الندم على المعصية والمخالفة. والثاني: العزم على أن لا يعود إلى مثل تلك المعصية في الاستقبال. والثالث: إقلاع عن تلك المعصية في الحال، فهذه التوبة مركبة من ثلاثة أركان: العزم، والندم، والإقلاع، وقد تكون التوبة مجرد الندم في حق من عجز عن العزم والإقلاع فلا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه، كما لا يسقط ما قدر عليه من الأركان في الصلاة بما عجز عنه، وذلك كتوبة الأعمى عن النظر المحرم، وتوبة المجبوب عن الزنا وهذا مبني على قاعدة مستفادة من قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، أي إذا أمرتكم بمأمور فأتوا من ذلك المأمور ما استطعتموه، أي ما قدرتم عليه، فالأعمى والمجبوب قادران على الندم عاجزان عن العزم والإقلاع.
ويستحب للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب منه أن يجدد الندم على فعله، والعزم على ترك العود إلى مثله، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأستغفر الله(1/187)
وأتوب إليه مائة مرة"، لا يعني بذلك أنه يذنب في كل يوم مائة مرة، بل معناه تجديد التوبة وتكريرها عن ذنب واحد صغير، وذكره صلى الله عليه وسلم إياه في اليوم مائة مرة يدل على استعظامه له مع صغره، وذلك يدل على فرط تعظيمه وإجلاله لربه، فشتان بين من لا ينسى الصغير الحقير من الذنوب حتى يجدد التوبة منه في كل يوم مائة مرة إجلالا لربه وبين من ينسى عظيم ذنوبه ولا تمر على باله احتقارا لذنوبه وجهلا بعظمة ربه، وقد ذم الله من وعظ بآيات ربه فأعرض عن سماع الموعظة ونسي ما قدمت يداه، والعارف الموقن إذا ذكر الصغيرة خجل منها وندم عليها وتألم لها، وعزم على أن لا يعود إلى مثلها إجلالا لربه وفرقا من ذنبه، والتوبة واجبة على الفور فمن أخرها زمانا صار عاصيا بتأخيرها، وكذلك يتكرر عصيانه بتكرر الأزمنة المتسعة لها، فيحتاج إلى توبة من تأخيرها وهذا جار في تأخير كل ما يجب تقديمه من الطاعات.
فإن قيل: كيف تتصور التوبة مع ملاحظة توحد الله بالأفعال خيرها وشرها مع أن الندم على فعل الأغيار لا يتصور؟ قلنا: من رأى للآدمي كسبا خصص الندم والعزم بكسبه دون صنع ربه، ومن لا يرى الكسب خصص التوبة بحال الغفلة عن التوحد، وهذا مشكل جدا من جهة أنه يتوب على ما يظنه فعلا له وليس بفعل له في نفس الأمر.
النوع السابع والعشرون: الإخلاص وهو أن يقصد بطاعته وجه الله ولا يريد بها سواه، فإن قصد بها سواه كان مرائيا، سواء قصد الناس على انفرادهم أو قصد الرب والناس جميعا.
النوع الثامن والعشرون: الرضا بالقضاء: فإن كان المقضي به طاعة فليرض بالقضاء والمقضي به جميعا، وإن كان معصية فليرض بالقضاء ولا يرضى بالمقضي به بل يكرهه، وإن لم يكن طاعة ولا معصية فليرض بالقضاء ولا يتسخط بالمقضي به وإن رضي به كان أفضل.
النوع التاسع والعشرون: التفكير في ملكوت السموات والأرض وجميع(1/188)
مخلوقات الله، ليستدل بذلك على قدرته وحكمته ونفوذ إرادته. وكذلك التفكر في آيات كتابه وفي فهم شرائعه وأحكامه، وكذلك تدبر آيات كتابه وكذلك التفكر في الحشر والنشر والثواب والعقاب، ليكون المتفكر بين الخوف والرجاء، ليعمل بطاعته رجاء لثوابه، وبتجنب معصيته.
وأفعال القلوب كثيرة: منها حسن الظن بالله، ومنها الحزن على ما فات من طاعته، ومنها الفرح بفضله ورحمته، ومنها محبة الطاعة والإيمان، وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، ومنها الحب في الله والبغض في الله كحب الأنبياء وبغض العصاة والأشقياء، ومنها الصبر على البليات والطاعات، وعن المعاصي والمخالفات، ومنها التذلل والتخضع والتخشع والتذكر والتيقظ، وغبطة الأبرار على برهم، والأخيار على خيرهم، والأتقياء على تقواهم، ومنها الكف عن أضداد هذه المأمورات، ومنها الشوق إلى لقاء الله، ومنها أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وأن يكره لهم مثل ما يكره لنفسه، ومنها مجاهدة النفس والشيطان إذا دعوا إلى المخالفات والعصيان، ومنها ذكرها ذم اللذات وذكر الوقوف بين يدي رب السموات، ومنها السرور بطاعة الله والاغتمام بمعصية الله فنعم من سرته حسنته وساءته سيئته كما قال عليه السلام، ومنها الإيمان بجميع ما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به من السابق واللاحق، ومنها إضمار النصيحة لكل مسلم، ومنها استحضار المخلوقات عند نزوع النفس إلى اتباع الشهوات. ومنها أن يقدر إذا عبد ربه كأنه يراه لتقع العبادة على أكمل الأحوال، فإن عجز عن ذلك فليقدر أن الله ناظر إليه، ومطلع عليه، وهذا هو إحسان العبادات، ومنها تفريغ القلب من الأكوان الحادثات شغلا برب الأرض والسموات، وهذا هو المعبر عنه بالفناء عند أهل الصفوة والصفاء، وحقيقته غفلة عن كل شيء للشغل برب كل شيء، ومنها الزهد في كل ما يمكن الاستغناء عنه من متاع الدنيا إلا ما استثناه الشرع بالحث عليه والندب إليه كالنكاح، والزهد في الشيء خلو(1/189)
القلب من التعلق به مع الرغبة عنه، والفراغ منه، ولا يشترط خلو اليد منه ولا انقطاع الملك عنه، فإن سيد المرسلين وقدوة الزاهدين مات عن فدك والعوالي ونصف وادي القرى وسهامه من خيبر، وملك سليمان الأرض كلها وكان شغلهما بالله مانعا لهما من التعلق بكل ما ملكا.(1/190)
فصل: فيما تتعلق به الأحكام من الأبدان
...
فصل: فيما تتعلق به الأحكام من الأبدان
وهو قسمان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل. فالمقاصد: كالقيام في الصلاة والطواف، والاعتكاف والسعي، والتعريف، والمبيت بمزدلفة وبمنى والأغسال الواجبات والمندوبات. والوسائل: كالمشي إلى الجماعات والجمعات وجميع العبادات والطاعات وإلى تغيير المذكرات والمشي إلى عيادة المرضى وزيارة الأموات، ومن المحرمات لبس المخيط في الإحرام والتضمخ والأدهان.(1/190)
فصل: فيما يتعلق به الأحكام من الجوارح
...
فصل: فيما يتعلق به الأحكام من الجوارح
كالألسن والشفاه والأفواه والبطون والأنوف والعيون والآذان والوجوه والأيدي والأرجل والركب والأصابع والأنامل والفروج وغيرها. فأما اللسان فيتعلق به من الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات ما لا يتعلق بغيره من الجوارح والأركان، بل يتعلق به من ذلك ما يتعلق بالجنان كالإكراه على الكبائر كلها والصغائر بأسرها، والأمر بكل منكر والنهي عن كل معروف، والقذف وتكذيب من لا يجوز تكذيبه وتصديق من لا يجوز تصديقه، والكفر وشهادة الزور، والحكم بالباطل والسحر، والهجو، وكل كلمة محرمة: كالغيبة والنميمة والطعن في الأنساب والتفاخر بالأحساب والنياحة. وكذلك يتعلق به الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتصديق من يجب تصديقه وتكذيب من يجب تكذيبه، والأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، والشهادة بالحق، والحكم بالقسط وأمر الأئمة بما يأمرون به وتعليم العلوم الشرعية، والعبادات المرضية، والفتاوى(1/190)
فصل: فيما تتعلق به الأحكام من الحواس
...
فصل: فيما تتعلق به الأحكام من الحواس
وهي خمس: إحداها حاسة البصر، ويتعلق بها الأحكام الخمسة: أما الإيجاب: فكإيجاب الحراسة في سبيل الله وحراسة الأجير ما استؤجر على حراسته وحراسة كل أمين ما استؤجر على حراسته، وكنظر الشهود إلى ما يجب النظر إليه لإثبات الحقوق وإسقاطها في الدعاوى والمخاصمات.
وأما الاستحباب: فكالنظر إلى الكعبة وإلى المصاحف وكتب العلم للقراءة وإلى الخاطبين في الخطب المشروعات والخاطبين السائلين والمجيبين، وإلى المصنوعات كلها للتفكر في القدرة ونفوذ الإرادة وبديع الحكمة، وكذلك النظر إلى منازل الهالكين للاتعاظ والاعتبار.
وأما التحريم: فكتحريم النظر إلى السوآت والعورات والصور المشتهاة كالمرد والأجنبيات.
وأما الكراهة: فككراهة نظر الإنسان إلى سوأته وسوأة جاريته وزوجته. وأما الإباحة: فكالنظر إلى كل ما خرج عن الأحكام الأربعة: كالنظر إلى الزوجة والمملوك والمناظر الحسنة من الديار والأشجار والأنهار.
الثانية حاسة السمع: ويتعلق بها الأحكام الخمسة.
أما الإيجاب: فكالاستماع إلى كل ما يجب استماعه كاستماع الخطب الواجب(1/197)
استماعها واستماع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكاستماع ما يجب تعلمه من الفتاوى والأحكام، وكذلك استماع الحكام للدعاوى والبينات والأقارير والشهادات.
وأما الاستحباب: فكاستماع القرآن والأذان والثناء على الله بما هو أهله والإصغاء إلى الخطب المندوبة كخطبة الكسوفين والعيدين.
وأما التحريم فكاستماع كلمة الكفر والقذف والتسميع إلى حديث قوم هم له كارهون، وكاستماع الملاهي المحرمات وأصوات النساء الفاتنات.
وأما الكراهة: فكاستماع الملاهي المكروهات ونحوها من كل كلمة كرهتها الشريعة. ولا يخفى أمثلة المباح كاستماع كل كلمة مباحة أو صوت مطرب مباح كأصوات الأطيار الطيبة، ونشد الأشعار المطربة.
الثالثة حاسة الشم ويتعلق به الأحكام الخمسة:
أما الإيجاب: فكإيجاب ما يجب على الحاكم شمه أو على الشهود بأمره إياهم فيما يختلف فيه الخصوم عند التنازع في روائح المشموم، لأجل الرد بالعيب أو لمنع الرد إذا حدث عند المشتري.
وأما الاستحباب: فكاستحباب شم ما في شمه شفاء من الأمراض والأسقام. وأما الطيب المحبوب للجماعات والجمعات والأعياد والتحليل للإحرام ففيه مصلحتان: إحداهما للمتطيب، والثانية لمن يقاربه ويدانيه من الناس.
وأما التحريم: فكتحريم شم الطيب في حال الإحرام وتحريم اشتمام طيب النساء الأجنبيات الحسان.
وأما الكراهة: فككراهة شم الأدهان المضرة بالأمزجة والحواس والأبدان.
وأما الإباحة فكإباحة ما يباح شمه من أنواع الطيب والأزهار، ولو شم طيبا لا يملكه كشم الإمام الطيب الذي يختص بالمسلمين إذا لم يتصرف في جرمه فلا بأس به، وقد تورع عنه بعض الأكابر، وقال وهل ينتفع من الطيب إلا(1/198)
بريحه وفي كونه ورعا نظر من جهة أن شمه لا يؤثر فيه نقضا ولا عيبا فيكون إدراك الشم له بمثابة النظر إليه، بخلاف وضع اليد عليه، ولو نظر الإنسان إلى بساتين الناس وغرفهم ودورهم لم يمنع من ذلك إلا إذا خشى الافتتان بالنظر إلى أموال الأغنياء، فقد قال رب العالمين لسيد المرسلين: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وكذلك لو مس جدار إنسان لم يمنع من مسه، ولو استند إلى جدار إنسان لجاز كما لو جاز مطيبا أو جالسه متطيب، فإن ذلك مأذون بحكم العرف ولو منعه من الاستناد إلى جداره فقد اختلفوا فيه إذا كان الاستناد لا يؤثر في الجدار ألبتة، ولا ينبغي أن يطرد في ذلك شم ريح المتطيب، وكذلك مما لا أعده ورعا أكل طعام حلال محض حمله ظالم ولا سيما الطعام الذي ندب الشرع إليه كطعام الولائم، لأن ما كان حلالا بوصفه وسببه فلا وجه لاجتنابه إلا بالوسواس والأوهام التي لا لفتة للشرع إلى مثلها.
الرابعة حاسة الذوق: فلا يذاق بها مكروه ولا حرام ويذاق بها الطعام المندوب إلى أكله وذوقه كطعام الولائم لما في ذوقه من جبر قلوب الإخوان. وكذلك يجب الذوق على الحاكم والشاهد عند اختلاف الخصوم في مطعم المبيع.
الخامسة حاسة اللمس ويتعلق بها الأحكام الخمسة:
أما الإيجاب: فكإيجاب لمس المصلي بالجباه.
وأما الاستحباب: فكاستحباب لمس المصلي بالأنوف والأكف ولمس أركان البيت وتقبيل الحجر وتقبيل الوالدين وأكابر الأولياء والعلماء، وكذا لمس المصافحة والمعانقة في لقاء الإخوان.
وأما التحريم: فكلمس عورات الأجانب، وكذلك لمس ما خرج عن العورة من أبدان النساء الأجنبيات والمرد الحسان عند مخافة الافتتان، وكذلك التلامس بين الزوجين المحرمين بشهوة في حال الإحرام.
وأما الكراهة: فككراهة لمس الفروج بالأيمان، وكذلك لمس السرية(1/199)
والمملوكة وتقبيلهما عند الخوف على فساد الصيام، وقد اختلف في تحريم ذلك. وأما الإباحة: فعام لكل ما جوز الشرع لمسه من الزوجات والمملوكات وسائر الأعيان ومعظم ما يتعلق بالحواس وسائل إلى ما يبتنى عليها من المصالح والمفاسد، بخلاف ما يتعلق بالقلوب والجوارح والأركان فإن معظمه مقاصد إلى جلب المصالح ودرء المفاسد.(1/200)
فصل: فيما تتعلق به الطاعات من الأموال
...
فصل: فيما تتعلق به الطاعات من الأموال
أما بعد: فإن الله عز وجل جعل الأموال والمنافع وسائل إلى مصالح دنيوية وأخروية، ولم يسو بين عباده فيها ابتلاء وامتحانا لمن قدر عليه رزقه، واتخذ الأغنياء الفقراء سخريا في القيام بمصالحهم كالحرث والزرع والحصد والطحن والخبز والعجن والنساجة والخياطة وبناء المساكن وحمل ونقل الأثقال وحراسة الأموال وغير ذلك من المنافع. وكذلك تمنن على عباده بما أباحه من البيع والشراء، وبما جوزه من الإجارات والجعالات والوكالات تحصيلا للمنافع التي لا تحصى كثرة فإن البيع لو لم يشرعه الشرع لفاتت مصالح الخلق فيما يرجع إلى أقواتهم ولباسهم ومساكنهم ومزارعهم ومغارسهم وسواتر عوراتهم وما يتقربون به إلى عالم خفياتهم، ولا عبرة بالهبات والوصايا والصدقات لأنها نادرة لا يجود مستحقها إلا نادرا. وكذلك الإجارات لو لم يجوزها الشرع لفاتت مصالحها من الانتفاع بالمساكن والمراكب والمزارعة والحراثة والسقي والحصاد والتنقية والنقل والطحن والعجن والخبز ولا عبرة بالعواري وبذل المنافع كالخدمة نحوها فإنها لا تقع إلا نادرا لضنة أربابها مع ما فيها من مشقة المنة على من بذلت له، ولتعطل الحج والغزو والأسفار إلا على من يملك رقبة الظهر والأدوات والآلات ولكان الإنسان جمالا بغالا سائسا لدوابه حمالا لأمتعته ضاربا لأخبيته، ولتعطلت المداواة والفصد والحجامة والحلق والدلك وجبر الفك، ولتعطلت إقامة الحدود لافتقار المرء إلى أن يكون كاتبا حاسبا فلاحا(1/200)
حصادا حطابا صانعا دباغا خياطا حشاشا زبالا بناء نبالا رماحا قواسا حراثا لأمواله حمالا لأعداله وأثقاله، وكذلك الجعالة لو لم تجز لفات على الملاك ما يحصل لهم من رد المفقود من أموالها كالعبد الآبق، والفرس العائر، والجمل الشارد فشرعت الجعالة رفقا بالفاقد والواجد، وكذلك الوكالة لو لم تشرع لتضرر من يبتذل ولا يعرف التصرف بما يفوته من مصلحة ذلك التصرف، ولتضرر الوكيل بما يفوته من الثواب إن كان متبرعا أو من الجعل إن كان غير متبرع، وقد حرم الله أخذ الأموال إلا بأسباب نصبها، ومعظمها حقوق تتعلق بالدماء والأبضاع والأعراض والأموال كما ذكرناه ولا يجوز أخذ شيء منها إلا بحقه ولا صرفه إلا لمستحقه وأوجب لنفسه حقوقا في الأموال على خلقه ليعود بها على المحتاجين، ويدفع بها ضرورة المضطرين وذلك في الزكاة والكفارات والمنذورات وندب إلى الصدقات والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف والضيافات.(1/201)
فصل: فيما يتعلق بالأماكن من الطاعات
...
فصل: فيما يتعلق بالأماكن من الطاعات
يتعلق بالأماكن قربات مالية وبدنية: فأما المالية فمنها ما يتعلق بالحرم كالهدايا ودماء القربات كدم التمتع والقران ومنها ما تختص تفرقته ببلدان الأموال ندبا ووجوبا كتفرقة الزكاة على أهل بلدان الأموال، ومنها ما يتعين لأهل بلد الباذل على الأظهر وهو زكاة الفطر من رمضان، ومنها ما ينذر من الذبح والتفرقة على أهل البلدان.
وأما البدنية فأنواع أحدها الذبح والنحر المتعينان في الحرم من النسائك المختصة بأهله.
النوع الثاني: الاعتكاف ولا يصح إلا في المساجد الثلاثة عند بعض العلماء وعند الجمهور يصح في جميع المساجد.
النوع الثالث: ما يتعلق بالمناسك كالطواف ومحله المسجد الحرام ولو طاف(1/201)
خارجا عنه لم يجزه ولو وسع لأجزأ فيه الطواف كالسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والرمي بمنى إلى الجمرات الثلاث.
النوع الرابع: ما يختص بدار الإقامة كالجمعات والجماعات، وما يختص فضله بالبيوت كصلوات النوافل فيها.
النوع الخامس: ما يختص بالمسجدين من فضيلة الصلوات المكتوبات.
النوع السادس: ما يختص بالمساجد من فضيلة الجماعات.
النوع السابع: ما يختص بالمساجد الثلاث من شد الرحال إليها للقربات والزيارات.(1/202)
فصل: فيما يتعلق بالأزمان من الطاعات
...
فصل: فيما يتعلق بالأزمان من الطاعات
وهي أنواع: أحدها صلاة الكسوف والخسوف، وهما مختصتان بزمن الكسوف والخسوف.
النوع الثاني: الصلوات المكتوبات وهي مختصة الأداء بالأوقات المعروفة جائزة القضاء بعد خروج وقت الأداء.
النوع الثالث: الجمعات وهي مختصة بوقت الظهر لا تقبل القضاء.
النوع الرابع: الصيام الواجب وهو مخصوص بشهر رمضان قابل للقضاء.
النوع الخامس: الصيام المندوب المعين الأوقات، كصيام الاثنين والخميس، والأيام البيض، وعاشر ذي الحجة وعاشر المحرم.
النوع السادس: الضحايا وهي مؤقتة بيوم العيد وبأيام التشريق، ولا تقبل القضاء إلا أن تكون منذورة.
النوع السابع: الحج وهو مؤقت عند بعضهم بشوال وذي القعدة وذي الحجة، وعند آخرين بالشهرين المذكورين وعشر من ذي الحجة وعند الشافعي رحمه الله بالشهرين المذكورين وتسع ليال من ذي الحجة.
النوع الثامن: العمرة ولا وقت لها خلافا لبعض العلماء.(1/202)
النوع التاسع: الصلوات والأوقات كلها قابلة لها إلا الأوقات الخمسة المكروهات.
النوع العاشر: صوم التطوع والأوقات كلها قابلة له إلا رمضان والعيدين وأيام التشريق، وأكثر اختصاص العبادات بالأماكن والأزمان مما لا يعرف معناه كما ذكرناه.(1/203)
فصل: في تنويع العبادات
...
فصل: في تنويع العبادات
وهي أنواع: أحدها الأقوال: كالتكبيرات والتحميدات والتسبيحات والتهليلات والتسليمات والدعوات، وحمدلة العاطسين وتشميتهم، والتحيات وردها، والخطب المشروعات والأمر بالواجبات والمندوبات والنهي عن المحرمات والمكروهات، والسؤال عما يجب السؤال عنه، والفتيا والحكم والشهادات، والإقامة والأذان وقراءة القرآن، والبسملة على الطعام والشراب، والنحر والذبح، وقراءة القرآن عند فزع الشياطين وهمزاتهم.
النوع الثاني: الأفعال المجردة كالجهاد في سبيل الله وإنقاذ الغرقى والهلكى ودفع الصوال والأغسال، وكذلك تجهيز الأموات وإكرامهم بما أمر الله سبحانه وتعالى من الأفعال الواجبات والمندوبات.
النوع الثالث: الكف كالصيام الذي هو كف مجرد عن المفطرات.
النوع الرابع: ما يشتمل على الفعل والكف وهو أنواع: أحدها الاعتكاف وهو مكث في بيت من بيوت الله مع الكف عن المباشرة والجماع، ومنها الحج والطواف والسعي والتعريف والإحرام والكف عن المحرمات المعروفات وهو: الطيب والدهن وإزالة الشعر وقص الأظفار، والجماع والمباشرة بشهوة النكاح والإنكاح، وقتل الصيد وأكل ما صاده أو صيد له وستر وجوه النساء ورءوس الرجال ولبس الرجال الخفاف.
النوع الخامس: الصلاة وهي مشتملة على أفعالها الظاهرة والباطنة وعلى(1/203)
الأقوال وعلى الكف عن كلام الناس وكثرة الأفعال المتوالية وعن الالتفات بالقلوب والأبدان، والصلاة عند الشافعي رحمه الله أفضل العبادات البدنيات لاشتمالها على ما ذكرناه من الأفعال والأقوال والخضوع والخشوع وترك الالتفات الظاهر. وكذلك الباطن عما أمر بالإقبال عليه فإن المصلي مأمور إذا قرأ القرآن أن يلاحظ معانيه، وإن كان في آية وعد رجاه، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}. وإذا كانت آيات الصفات تأمل تلك الصفة فإن كانت مشعرة بالتوكل فليعزم عليه، وإن كانت موجبة للحياء فليستحي منه، وإن كانت موجبة للتعظيم فليعظمه، وإن كانت موجبة للحب فليحبه، وإن كانت حاثة على طاعة فليعزم على إتيانها، وإن كانت زاجرة عن معصية فليعزم على اجتنابها، ولا يشتغل عن معنى ذكر من الأذكار بمعنى غيره وإن كان أفضل منه لأنه سوء أدب ولكل مقام مقال يليق به ولا يتعداه، وكذلك لا يشتغل عن معنى من معاني القرآن باستحضار معنى غيره وإن كان أفضل منه، ولذلك تكره قراءة القرآن في الركوع والسجود، ويكره التسبيح في القعود مكان الدعاء، وإذا دعا فليتأدب في الدعاء بالتضرع والإخفاء لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فالتفات الجنان عما ذكرناه إعراض عن الرب سبحانه وتعالى بأفضل أجزاء الإنسان، وليس الالتفات بالأركان كالالتفات بالجنان لأن الالتفات بالجنان مفوت لهذه المصالح التي هي أعم العبادات ورأس الطاعات وعنها تصلح الأجساد وتستقيم الأبدان فمن صلى على هذا الوجه كانت صلاته كاملة ناهية عن الفحشاء والمنكر وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {إِِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، فيكون الألف فيها واللام للكمال، وما أجدر مثل هذه الصلاة أن تنهي عن الفحشاء والمنكر، إن من اتصف بهذه الأحوال والملاحظات كان إذا تحلل من الصلاة قريب العهد بذكر هذه الصفات والأحوال الزاجرة عن الفحشاء والمنكر.(1/204)
النوع السادس: إسقاط الحقوق كالاعتكاف في الكفارات والإبراء من الديون والعفو عن الإساءات، ويتفاوت شرف الإسقاط بتفاوت المسقط في الشرف، فالعفو عن القصاص أفضل من العفو عن حد القذف، والعفو عن حد القذف أفضل من العفو عن التعذير، والإبراء من الدينار أفضل من الإبراء من الدرهم. وكذلك يتفاوت شرف التمليك بتفاوت شرف المملك، وإخراج بنت مخاض في الصدقة أفضل من إخراج الشاة، وإخراج بنت اللبون أفضل من إخراج بنت مخاض, وإخراج الحقة أفضل من إخراج بنت اللبون، وإخراج الجذعة أفضل من إخراج الحقة، وإخراج الثنية أفضل من إخراج الجذعة، وكذلك إخراج جزرات المال وخياره أفضل مما دون ذلك.
والعبادات منقسمة إلى الأداء والقضاء، والمضيق وقته والموسع زمانه، وإلى المخير والمرتب، وإلى ما يقبل التقديم، ولا يقبل التأخير، وإلى ما يقبل التأخير ولا يقبل التقديم، وإلى ما لا يقبلهما، وإلى ما يجب على الفور، وإلى ما يجب على التراخي، وإلى ما يقبل التداخل وما لا يقبله، وإلى ما اختلف فيه، وإلى ما عزيمته أفضل من رخصته، وإلى ما رخصته أفضل من عزيمته، وإلى ما يقضى في جميع الأوقات، وإلى ما لا يقضى إلا في مثل وقته، وإلى ما يقبل الأداء والقضاء، وإلى ما يتعذر وقت قضائه مع قبوله للتأخير، وإلى ما يكون قضاؤه متراخيا، وإلى ما يجب قضاؤه على الفور، وإلى ما يدخله الشرط من العبادات، وإلى ما لا يقبل التعليق على الشرط، ولكل حكم من هذه الأحكام حكمة تختص به: منها ما عرفناه، ومنها ما جهلناه كما في الأوقات وعدد الركعات والسجدات والقعدات، ومقادير نصب الزكاة ومقادير الديات وأروش الجنايات والكفارات والزكاة، وتعين لفظ التكبير في إحرام الصلاة عند الشافعي رحمه الله، وكذلك تعين لفظ الشهادة في أداء الشهادات وتقدير الحدود وكذلك العدد مع القطع ببراءة الأرحام. وكذلك تحريم نكاح بعض الأقارب(1/205)
وكذلك تحريم الرضاع، وكذلك حضور عرفة ومزدلفة ورمي الجمار، وكذلك توقيت الوقوف بعرفة وتعيين سائر الأوقات، وكذلك مسح الخفاف والعصائب والعمائم والجبائر فإن الحدث لم يؤثر فيها. وكذلك الوضوء والغسل فإن أسبابهما لا تناسبهما بل هي شبيهة بالأوقات، وكذلك إبدالهما بالتيمم بالتراب، وكذلك تفاوت الأوقات في الطول والقصر، وكذلك اعتبار الإحصان في رجم المحصنين والمحصنات، وكذلك وجوب الوضوء بلمس النساء ومس الفروج، وكذلك وجوب الغسل من خروج المني والتقاء الختانين، وأبعد من ذلك الغسل من الولادة، ويجوز أن تكون هذه الأحكام كلها لا مصالح فيها ظاهرة ولا باطنة سوى مجرى الثواب على الطاعة والامتثال، ولكنه خلاف قول الأكثرين.
فأما الأداء فما فعل في وقته شرعا. وأما المضيق وقته فما كان فيه بمقدار العمل كالصيام، فإن وقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وأما الموسع زمانه فكالظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح فإن المصلي مخير بين أن يقدمها في أوائل أوقاتها، وبين أن يوسطها، أو يؤخرها بحيث يقع التحلل منها قبل انقضاء أوقاتها، وأذان كل صلاة مؤقت بوقتها لا يقدم على وقتها إلا أذان الصبح فإنه يقدم على وقتها ليتأهب الناس بالطهارات وقضاء الحاجات لإدراك فضيلة أول وقتها وكالأضحية في وقتها وصلاة الضحى.
وأما المخير فله أمثلة: أحدها ما لا تلزمه الطهارة بالماء لاحتياجه إلى ثمنه فإنه مخير بين شراء الماء للطهارة وبين الصلاة بالتيمم.
المثال الثاني: تخير المتوضئ بين المرة والمرتين والثلاث وكذلك التخير في غسل النجاسات.
المثال الثالث: التخير بين الاستنجاء بالماء والاستجمار بالأحجار والعزيمة أفضل.
المثال الرابع: التخير بين تقديم الصلوات في أوائل الأوقات وبين تأخيرها، وتقديمها أفضل إلا لانتظار الجماعة على قول، أو لتيقن وجود الماء في آخر(1/206)
الوقت، أو للإبراد على المذهب أو في العشاء الآخرة على قول.
المثال الخامس: التخيير في تخفيف الصلاة على الجماعات وتطويلها، وتخفيفها أفضل إلا أن يؤثر التطويل.
المثال السادس: التخيير في القصر والإتمام فيما دون ثلاثة أيام، والعزيمة أفضل خروجا من خلاف العلماء.
المثال السابع: التخير في الصلوات في مسيرة ثلاثة أيام فما زاد والقصر أفضل فيما دون ثلاثة أيام، وكذلك فيما بعدها على الأصح.
المثال الثامن: التخير بين جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء في الأسفار والعزيمة أفضل إلا بعرفة ومزدلفة فإن جمع التقديم بعرفة أولى، وجمع التأخير بمزدلفة أفضل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك والخلفاء الراشدون بعده وعليه درج الناس، وكان الأغلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره تفريق الصلوات على أوقاتها.
المثال التاسع: التخير في الخطب بين التطويل والتقصير، والتقصير أفضل.
المثال العاشر: يتخير المعذور الذي لا تلزمه الجمعة بينها وبين الظهر، والجمعة أفضل.
المثال الحادي عشر: من عنده ثلاثون من البقر فإنه يخير بين المسنة والتبيع والمسنة أفضل.
المثال الثاني عشر: من عنده خمس من الإبل فإنه مخير بين شاة وبنت المخاض وابن لبون وبنت لبون وحق وحقة وجذع وجذعة وثني وثنية، وكذلك الحكم في كل سن مع ما فوقه.
المثال الثالث عشر: من عنده مائتان من الإبل فإنه مخير بين أربع حقاق وخمس بنات لبون أو تلزمه الحقاق أو يختار الساعي الأصلح للفقراء؟ فيه خلاف.
المثال الرابع عشر: التخير بين إخراج الجيد والأجود في الزكاة، والأجود أفضل لما فيه من إيثار الفقراء.(1/207)
المثال الخامس عشر: التخير في الجبران بين الشاتين والعشرين درهما، وأنفعهما للفقراء أفضل.
المثال السادس عشر: التخير في الجبر بين السن الأعلى والأدنى وخيرهما للفقراء أفضل.
المثال السابع عشر: التخير بين تعجيل زكاة الضال المغصوب والدين المؤجل، وبين التأخير إلى الحضور والتمكن من قبضه والتعجيل أفضل لما فيه من إرفاق الفقراء.
المثال الثامن عشر: التخير في تقديم الزكاة على أحد سنى وجوبها.
المثال التاسع عشر: التخير بين تقديم الكفارات بعد وجوبها وبين تأخيرها، وتقديمها أفضل. المثال العشرون: يتخير المعتكف في المساجد، وفي المسجد الجامع أفضل.
المثال الحادي والعشرون: التخير بين التمتع والإفراد والقران والإبهام.
المثال الثاني والعشرون: التخير بين المشي والركوب في الحج والعمرة، والمشي أفضل على القديم، والركوب أفضل على الجديد لإعانته على مقاصد النسكين.
المثال الثالث والعشرون: التخير بين الصيام بعرفة وبين الإفطار، والإفطار أفضل لأنه أعون على أذكار عرفة.
المثال الرابع والعشرون: التخير في التضحية بين الإبل والبقر وسبع من الغنم، والبعير أفضل من البقر، والبقر أفضل من الشاة، وسبع من الإبل أفضل من سبع من البقر: وسبع من البقر أفضل من سبع من الغنم، وسبع من الغنم أفضل من البدنة، ولا يدل التخيير بين الأشياء الواجبات والمندوبات على التساوي في المصالح والفضائل لما ذكرناه في هذه الأمثلة من تقديم الجمعة على الظهر، وتقديم الاستنجاء على الاستجمار، وتقديم الجذعة على الشاة.(1/208)
المثال الخامس والعشرون: بدل جزاء الصيد، وهو مخير بين المثل والطعام والصيام.
المثال السادس والعشرون: كفارة الحلق في العمرة أو الحج وهي مخيرة بين النسك والإطعام والصيام.
المثال السابع والعشرون: كفارة اليمين وهو مخير بين التحرير والكسوة والإطعام، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فهذه كفارة مخيرة مرتبة.
المثال الثامن والعشرون: يخير من ثبت له فسخ عقد بين الفسخ والإمضاء وفعله ما هو الأغبط للمفسوخ عليه.
المثال التاسع والعشرون: تخير الشفيع بين الأخذ والعفو، والعفو أفضل إلا أن يكون المشتري نادما مغبونا.
المثال الثلاثون: تخير الولي المجبر بين الأكفاء المتساوين.
المثال الحادي والثلاثون: تخير المرأة في تقديم بعض الأولياء عند اتحاد الدرجة، وتخصيص الإذن: بالأسن أولى وأفضل.
المثال الثاني والثلاثون: تخير الرجال في السفر بالنساء أو الإقامة بهن وفعل الأرفق أفضل.
المثال الثالث والثلاثون: تخير الرجال في تعيين المساكن، وتعيين الأرفق بالنساء أفضل.
المثال الرابع والثلاثون: تخير الرجال بين الجماع وتركه، وفعل الأصلح للزوجين أفضل.
فإن قيل: لم خير الرجل في الاستمتاع وأجبرت المرأة؟ قلنا: لو خيرت النساء لعجز الرجال عن إجابتهن إذ لا تطاوعهم القوى على إجابتهن، ولا يتأتى لهم ذلك في كثير من الأحوال لضعف القوى وعدم الاستنشار والمرأة يمكنها التمكن في كل وقت وحين.(1/209)
فإن قيل: لم جعل الطلاق بيد الرجال دون النساء؟ قلنا: لوفور عقول الرجال ومعرفتهم بما هو الأصلح من الطلاق والتلاق والاتصال والافتراق. فإن قيل لم جوز للرجال الطلاق مع ما فيه من كسر النساء وأذيتهن؟ لأن الرجل قد يكره المرأة ويسوءها لسوء أخلاقها أو لدمامة خلقها أو لسبب من الأسباب، فلو ألزم بإمساكها فيما بقي من عمره بحيث لا يقدر على دفع ذلك الضرر لعظم الإضرار بالرجال.
فإن قيل: فهلا شرع الطلاق مرة واحدة كي لا يتكرر على النساء كسر الطلاق مع ما فيه من شدة البلاء وشماتة الأعداء؟ قلنا: لو جوز الشرع الطلاق من غير حصر لعظم الإضرار بالنساء، ولو قصر على مرة واحدة لتضرر الرجال، فإن الندم يلحق المطلق بعد انقضاء العدة في كثير من الأحوال فقصر الطلاق على الثلاث لأن الثلاث قد عرفت في مواطن الشريعة كإحداد النساء على الموتى والتهاجر بين أهل الإسلام.
فإن قيل: لم فضل الرجال على النساء بتحذيرهن والحكم عليهن والإلزام بالسفر والمقام؟ وفضل النساء على الرجال بإيجاب النفقة والكسوة والإسكان مع استوائهم في نيل المراد وقضاء الأوطار، قلنا: لما جعل للرجال التحكم عليهن في التحذير والتسفير والإلزام بالتمكين، جعل لهن ذلك جبرا لما جعل عليهن من أحكام الرجال في الانفصال والاتصال ولزوم المساكن وتعيين الديار والمواطن، فأوجب الله لكل واحد منهما ما يليق بحاله إذ لا قدرة للنساء في الغالب على اكتساب الكسوة والنفقة وتحصيل المساكن، وماعون الدار ولا يليق بالرجال الكاملة أديانهم وعقولهم أن تحكم عليهم النساء لنقصان عقولهن وأديانهن وفي ذلك كسر لنخوة الرجال مع غلبة المفاسد فيما يحكم به النساء على الرجال وقد قال عليه السلام: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
فإن قيل: لم اعتبرت المساكن بحال النساء والنفقات والكسي بحال الرجال قلنا: المرأة تتعير بالمسكن الخسيس الذي لا يناسب حالها لأنه مشاهد لا يخفى(1/210)
على أوليائها وأعدائها، بخلاف الكسوة والطعام فإنهما لا يشاهدان في أغلب الأحوال فكان تضررها بالمسكن الخسيس أعظم من تضررها بأكل الرديء ولبس الخسيس.
المثال الخامس والثلاثون: من أمثلة التخير: إذا زاد العدو على ضعف المسلمين فالغزاة مخيرون بين الثبوت والانهزام إذا لم يخش الاصطلام.
المثال السادس والثلاثون: تخير الأئمة والقضاة بين جلب المصالح المتساوية ودرء المفاسد المتساوية، وكذلك تخير الآحاد عند تماثل المصالح والمفاسد.
وأما المراتب فلها أمثلة: أحدها ترتيب التيمم على طهارة الماء.
المثال الثاني: ترتيب كفارة الظهار والجماع في صوم رمضان، والصوم فيها مرتب على التحرير، والإطعام مرتب على الصيام وكذلك كفارة الجماع في الحج البقرة بعد البدنة، والشاة بعد البقرة، ثم الطعام والصيام.
المثال الثالث: كفارة التمتع والقران، والصوم فيها مرتب على النسك
المثال الرابع: ترتيب السعي على الطواف في النسكين.
المثال الخامس: ترتيب طواف الإفاضة على التعريف
المثال السادس: ترتيب السنن الرواتب بعد الصلاة على التحلل من الصلوات.
المثال السابع: ترتيب أركان الصلاة، وفي ترتيب أركان الوضوء خلاف.
وأما ما يقبل التقديم ولا يقبل التأخير فصلاة العصر والعشاء، فإن العصر يقبل التقديم إلى وقت الظهر، والعشاء إلى وقت المغرب، ولا يقبلان التأخير عن وقتهما.
وأما ما يقبل التأخير ولا يقبل التقديم فله أمثلة: أحدها الظهر لا يقدم على وقتها، ويقبل التأخير إلى وقت العصر.
المثال الثاني: المغرب لا تقبل التقديم على وقتها وتقبل التأخير إلى وقت العشاء.
المثال الثالث: الصوم لا يقبل التقديم على وقته، ويقبل التأخير إلى الأوقات القابلة للصيام.(1/211)
المثال الرابع: السنن الرواتب قبل الصلاة تقبل التأخير ولا تقبل التقديم على أوقات الصلوات.
المثال الخامس: السنن الرواتب بعد الصلوات لا تقبل التقديم على التقديم على الصلوات وتقبل التأخير.
وأما ما لا يقبل التقديم ولا التأخير فكصلاة الصبح لا تقبل التقديم على وقتها ولا التأخير عنه بل تقبل القضاء.
وأما ما يجب على الفور فكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكزكاة الأنعام والنقدين عند تمام الحول والتمكن من الأداء. وكذلك زكاة المعشرات وكذلك زكاة الركاز عند وجدانه وفي زكاة المعادن خلاف وكذلك الحكم بين الخصوم ويجب سلوك أقرب الطرق فيه دفعا لعظم أحد الخصمين على الفور، وكذلك يجب بيان أحكام الشرع على المفتي على الفور عند تحقق الحاجة إليها، وكذلك العقوبات كلها شرعت على الفور تحصيلا لمصالح الردع والزجر فإنها لو أخرت لم يؤمن من ملابسة جرائمها.
فمن ذلك قتال أهل البغي وضرب الصبيان وقتل المجانين والصبيان دفعا لمفاسد الصيال إذا لم يندفعوا إلا بالقتل.
وكذلك حد الحنفي على شرب النبيذ ودفع المجانين والصبيان على الزنا والقتل والعقوبات ولو بالقتل، وإذا اجتمعت الحدود قدم أخفها لأنه أقرب إلى استيفائها على الفور لأن الأشق لو قدم طال الانتظار إلى البرء، وإذا قدم الأخف لم يطل ولأن حفظ محل الحقوق واجب، فلو قدم الأشق لكان تغريرا بضياع محل الحق، وإنما وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الفور لأن الغرض بالنهي زوال المفسدة، فلو أخر النهي عنها لتحققت المفسدة والمعصية، وكذلك يجب على الفور الأمر بالمعروف كي لا تتأخر مصلحته عن الوقت الذي وجب فيه، وكذلك الزكاة إنما وجبت على الفور(1/212)
لأن الغرض منها سد الخلات ودفع الحاجات والضرورات وهي محققة على الفور. وفي تأخيرها إضرار بالمستحقين مع أن الفقراء تتعلق أطماعهم بها ويتشوفون إليها فهم طالبون لها بلسان الحال دون لسان المقال، بخلاف الكفارات والمندوبات التي لا شعور لهم فإنهم لا يتشوفون إلى ما لا شعور لهم به. وكذلك لو كان على المكلف دين فإنه لا يلزمه المبادرة إلى أدائه مع علم صاحبه به ولا تجب المبادرة إليه إلا إذا طلبه بلسان المقال، وإن ظهرت قرائن تشعر بالطلب بلسان الحال ففي وجوب المبادرة تردد واحتمال، وإنما وجب الحكم بين الخصوم على الفور لأن أحد الخصمين ظالم مبطل وظلمه مفسدة، ولو تأخر الحكم لتحققت المفسدة. وكذلك يجب أداء الشهادة على الفور وكذلك الفتيا عند مسيس الحاجة إليها كما ذكرناه دفعا للمفسدة عن المستفتي. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عما مسته الحاجة إليه بادر بالجواب، وإن لم يكن عنده علم صبر حتى ينزل الوحي بجواب الواقعة، وكذلك المفتون بعده إذا سئلوا عما لا يعلمون صبروا حتى يجتهدوا في حكم الواقعة، فإن كان الجواب مما يجب على الفور فالاجتهاد في معرفة الحكم واجب وكل واجب على التراخي فإنه يصير واجبا على الفور إذا ضاق وقته، ومن ترك الصلاة عمدا ففي وجوب قضائها على الفور خلاف لأن وقتها لما ضاق صارت على الفور. وكذلك من أفسد الحج وجب قضاؤه على الفور لأنه صار على الفور لما أحرم به، فإن قيل هلا وجب الحج على الفور؟ قلنا لأن المقصود الأعظم منه ثواب الآخرة وهو متراخ بخلاف الزكاة فإن المقصود منها دفع الحاجات وهي متحققة على الفور.
وأما ما يجب على التراخي فكالحج، والعمرة والنذور المطلقة، والكفارات.
وأما ما يقبل التداخل فله أمثلة: أحدها العمرة تدخل في الحج.
المثال الثاني: في الوضوء إذا تعددت أسبابه أو تكرر السبب الواحد.(1/213)
المثال الثالث: الغسل إذا تعددت أسبابه أو تكرر السبب الواحد.
المثال الرابع: سجود السهو يتداخل مع تعدد أسبابه، ولا تداخل في جزاء الصيد لأنه غرامة متلفة.
المثال الخامس: الحدود المتداخلة المتماثلة إذا لم يتخلل بين أسبابها حد وكذلك العدد إذا كانت لرجل واحد.
وأما ما لا يقبل التداخل كالصلوات، والزكوات والصدقات، وديون العباد والحج، والعمرة، فلا يتداخل فيها، فمن أحرم بحجتين أو عمرتين أو أدخل حجا على حج أو عمرة على عمرة، أو نوى الصلاة عن ظهرين انعقد له حج واحد وعمرة واحدة، ولم تنعقد صلاته، ولو جامع في كل يوم من أيام رمضان لزمه ثلاثون كفارة لتعدد العبادات التي وقعت عليها الجنايات، وخالف أبو حنيفة رحمه الله في ذلك فأوجب كفارة واحدة، ولو وقع ذلك في رمضانين ففيه في التداخل روايتان.
وأما ما اختلف فيه فكالكفارات، ودخول الوضوء في الغسل، والمختار أن لا تداخل في الكفارات لأن التداخل على خلاف الأصل، والأصل تعدد الأحكام بتعدد الأسباب، وأولى الواجبات بالتداخل الحدود لأنها أسباب مهلكة والزجر يحصل بالواحد منها، ألا ترى إيلاج الحشفة في الفرج موجبة للحد ولو تعدد الحد بالإيلاجات الواقعة بعد الإيلاجة الأولى لوجبت عليه حدود متعددة، فإن قيل لم كررتم الحد إذا تخلل بين الرتبتين؟ والقطع إذا تخلل بين السرقتين؟ قلنا لما علمنا أن الحد الأول يزجره حين أقدم على الجريمة ثانيا، جددنا عليه الحد إصلاحا له بالزجر وفطاما له عن المعاودة، إذ لا يمكن إهماله بغير زاجر فإن إهماله مؤد إلى تكثير جرائم وتفويت مصلحة الزجر. وأما دخول العمرة في الحج فإنه بعيد من قواعد العبادات فيقتصر فيه على حد وروده، وشرط التداخل التماثل: فلا يدخل جلد في قطع ولا(1/214)
رجم، وقد يقع التداخل في حقوق العباد وذلك في العدد إذا كانت العدتان لشخص واحد، وإن كانا شخصين ففي التداخل خلاف بين العلماء. وكذلك تدخل ديات الأطراف في دية النفس إذا فاتت قبل الاندمال لأن الجراحات قد صارت قتلا، ولو قتله أجنبي لزمه دية لنفسه ووجبت دية الأطراف على قاطعها، ولو قتله قاطع الأطراف فقد نص الشافعي رحمه الله على التداخل وفيه إشكال من قبل أن السراية قد انقطعت بالقتل فأشبه ما لو انقطعت بالاندمال، وقد خالف ابن شريح الشافعي في ذلك وقوله متجه.
وأما ما عزيمته أفضل من رخصته فكالاستنجاء بالماء فإنه أفضل من الاستجمار بالأحجار. وكذلك الصلاة بطهارة الماء أفضل منها بطهارة التراب. وكذلك قراءة القرآن والطواف وسجود التلاوة والشكر بطهارة الماء أفضل منها بطهارة التراب. وكذلك صوم المسافر والمريض في شهر رمضان أفضل من الترخص بتأخيره. وأما ما رخصته أفضل من عزيمته فكقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أيام فإن نقص عنها كانت العزيمة أفضل خروجا من خلاف العلماء. وقد أطلق بعض أكابر أصحاب الشافعي رحمه الله أن الخروج من الخلاف حيث وقع أفضل من التورط فيه وليس كما أطلق، بل الخلاف على أقسام.
القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.
القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب فالفعل أفضل كقراءة البسملة في الفاتحة فإنها مكروهة عند مالك واجبة عند الشافعي وكذلك رفع اليدين في التكبيرات فإن أبا حنيفة لا يراه من السنن، وكذلك مالك في إحدى الروايتين عنه، وهو عند الشافعي سنة للاتفاق على صحة الأحاديث وكثرتها فيه. وكذلك صلاة الكسوف على الهيئة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها سنة عند الشافعي، وأبو حنيفة لا يراها والسنة أن يفعل ما خالف(1/215)
فيه أبو حنيفة وغيره من ذلك وأمثاله. وكذلك المشي أمام الجنازة مختلف فيه بين العلماء ولا يترك المشي أمامها لاختلافهم والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب فلا نظر إليه ولا التفات عليه إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلا شرعا، ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله.
وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذرا من كون الصواب مع الخصم والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات.
وأما الإبراد بالظهر فقد قال بعض الأصحاب إنه رخصة وليس بصحيح فإن الإبراد سنة فقدمت على المبادرة إلى الصلاة لما ذكرناه. وأما ما يقضى في جميع الأوقات فكالضحايا والهدايا المنذورات. وأما ما لا يقضى إلا في مثل وقته فهو كالحج، وأما ما يقبل الأداء والقضاء فكالحج والصوم والصلاة. وأما ما يقبل الأداء ولا يقبل القضاء فكالعمرة والجمعات، والأصح أن الرواتب والأعياد قابلة للقضاء، ولو فات القارن الحج فهل يحكم بفوات العمرة تبعا للحج؟ فيه خلاف.
وأما ما لا يوصف بقضاء ولا أداء من النوافل المبتدآت التي لا أسباب لها كالصيام، والصلاة التي لا أسباب لها ولا أوقات، وكذا الجهاد لا يتصور قضاؤه لأنه ليس له وقت مضروب يزيد ولا ينقص، وكذلك الحكم والفتيا لا يوصفان بقضاء ولا أداء، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك افتتاح الصلاة، وكذلك الأذكار المشروعات في غير الصلاة.
وأما ما يتقدر وقت قضائه مع قبوله للتأخير، فكصوم رمضان لا يجوز تأخيره إلى دخول رمضان ثان، مع جواز قضائه مع رمضان آخر.(1/216)
وأما ما يكون قضاؤه متراخيا فكصلاة النائم والناسي.
وأما ما يجب قضاؤه على الفور، فكالحج والعمرة إذا فسدا أو فاتتا.
وأما ما يدخله الشرط من العبادات فالنذر قابل للتعليق على الشرائط مع اختلاف أنواع المنذورات ولو شرط المحرم التحلل بالمرض أو لأمر مهم ففي صحة الشرط خلاف، وكذلك يجوز الاستثناء في الاعتكاف والخروج منه بكل عرض معتبر عاجل أو آجل، ولو شرع في صوم منذور بنية أن يتحلل منه لعرض صحيح لا يبيح مثله الإفطار جاز عند العراقيين أن يخرج منه ويقضيه.
وأما ما لا يقبل التعليق على الشرط فكالصوم والصلاة الواجبين بأصل الشرع. ومن الطاعات ما يعتبر بوقت فعله لا بوقت وجوبه فكطهارة الصلاة واستقبال القبلة والتستر في الصلاة، وإتمام أركانها كالقيام والقعود والركوع والسجود فإنها معتبرة بوقت فعلها لا بوقت وجوبها، فإذا قدر في وقت وجوبها على إكمالها بأركانها وشروطها أو طهارتها ثم عجز ذلك فإنه يقضيها ناقصة وتجزئه، وكذلك العدالة تعتبر بوقت أداء الشهادة لا بوقت تحملها، ومن الطاعات ما يعتبر بوقت وجوبه كمن وجبت عليه صلاة في الحضر فقضاها في السفر فإنه يتم، وكمن وجب عليه الحد بكرا ثم صار محصنا فإنه يحد حد الأبكار وكذلك لو وجب عليه الحد وهو محصن ثم صار رقيقا فإنه يحد حد الإحصان. وكذلك القصاص يعتبر التكافؤ فيه بوقت وجوبه دون وقت استيفائه. ومن الطاعات ما اختلف في اعتباره بوقت وجوبه أو بوقت أدائه كالكفارات وكفائتة السفر إذا قضاها في الحضر أو السفر.(1/217)
المجلد الثاني
فصل: فيما يفوت من المصالح أو يتحقق من المفاسد مع النسيان
...
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل: فيما يفوت من المصالح أو يتحقق من المفاسد مع النسيان.
النسيان غالب على الإنسان، ولا إثم على النسيان، فمن نسي مأمورا به لم يسقط بنسيانه مع إمكان التدارك؛ لأن غرض الشرع تحصيل مصلحته، فمن نسي صلاة أو صوما أو حجا أو عمرة أو قصاصا أو شيئا من حقوق الله - تعالى - أو حقوق عباده، فإن كان مما لا يقبل التدارك كالجهاد والجمعات، وصلاة الكسوف والرواتب - على قول - وصلاة الجنازة في بعض، وإسكان من يجب إسكانه من الزوجات والآباء والأمهات والرقيق؛ سقط وجوبه بفواته، وإن كان مما يقبل التدارك من حقوق الله، أو حقوق عباده، كالصلاة والزكاة والصيام والنذور والديون والكفارات ونفقات الزوجات، وجب تداركه على الفور إن كان واجبا على الفور، وإن كان على التراخي فهو باق على تراخيه، والأولى تعجيله؛ لأنه مسارعة في الخيرات.
ولمن نسي التحريم حالان: إحداهما أن يكون من محرمات العبادة كالكلام، والفعل الكثير في الصلاة، وارتكاب محظورات الحج، ومنهيات الصيام، والاعتكاف مع نسيان العبادة التي هو ملابسها، فإن كان منهي العبادة من قبيل الإتلاف كقتل الصيد في الإحرام، وحلق الشعر، وقلم الأظفار، لم تسقط كفارته؛ لأنها وجبت جابرة، والجوابر لا تسقط بالنسيان، وإن لم يكن منهي العبادة إتلافا سقط إثمه من غير بدل. ولو صلى ناسيا لطهارة الحدث لم تصح؛ لأنه نسي مأمورا به، ولو صلى ناسيا لنجاسة لا يعفى عن مثلها في حال الاختيار ففي(2/2)
عذره قولان مأخذهما أن الطهارة عن النجس من جملة المأمورات كالطهارة عن الحدث، وأن استصحاب النجاسة في الصلاة من قبيل المنهيات، وإنما وجب تدارك المأمورات إذا ذكرت؛ لأن الغرض تحصيل مصلحتها وهي ممكنة التدارك بعد الذكر، والغرض من المنهي دفع المفاسد، فإذا وقع المنهي وتحققت مفسدته لم يمكن رفعا بعد وقوعها.
الحال الثانية: أن لا يختص تحريمها بالعبادة فيسقط إثمه ويجب الضمان، كمن باع جاريته ثم نسي بيعها فوطئها، أو أبان زوجته ثم نسي إبانتها فوطئها، أو أعتق أمته ثم نسي عتقها فوطئها، أو باعها، أو باع طعاما ثم نسي بيعه فأكله، فلا إثم عليه في ذلك كله، ولا ينفذ تصرفه، ويلزمه ضمان ما أتلفه من منافع البضع وغيره؛ لأن الضمان من الجوابر، والجوابر لا تسقط بالنسيان. ولو حلف بالله على شيء أو بطلاق أو إعتاق ثم فعل ما حلف عليه ناسيا لحلفه ففيه قولان بين العلماء والمختار حنثه، وبه قال الأئمة الثلاثة؛ لأن اللفظ لم يغلب في عرف الاستعمال على حال الذكر فيتقيد بها.
[فائدة]: الغالب من النسيان ما يقصر أمده ولا يستمر على طول الزمان إلا ما ندر منه، فمن أتى بمحظور الصلاة مع النسيان فإن قصر زمانه عفي عنه اتفاقا، وإن طال زمانه ففيه مذهبان: أحدهما يعفى عنه؛ لأنه ينتهك الحرمة به. والثاني: لا يعفى عنه؛ لأن الشرع قد فرق في الأعذار بين غالبها ونادرها، فعفا عن غالبها لما في اجتنابه من المشقة الغالبة، وآخذ بنادرها؛ لانتفاء المشقة الغالبة، فإنا نفرق بين دم البراغيث والبثرات، وبين غيرهما من النجاسات النادرات، وكذلك نفرق بين فضلة الاستجمار لغلبة الابتلاء بها، وبين غيرها من النجاسات.(2/3)
فصل: في مناسبة العلل لأحكامها و زوال الأحكام بزوال أسبابها
...
فصل: في مناسبة العلل لأحكامها وزوال الأحكام بزوال أسبابها
فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبا لمصالحها، والجنايات مناسبة لإيجاب العقوبات درءا لمفاسدها، والنجاسات مناسبة لوجوب اجتنابها، ولا مناسبة(2/3)
بين طهارة الأحداث وأسبابها، إذ كيف يناسب خروج المني من الفرج أو إيلاج أحد الفرجين في الآخر أو خروج الحيض والنفاس لغسل جميع أعضاء البدن، ولا مناسبة بين المس واللمس وخروج الخارج من إحدى السبيلين لإيجاب تطهير الأربعة مع العفو عن نجاسة محل الخروج، ولا للمسح على العمائم والعصائب والجبائر والخفاف، وكذلك لا مناسبة؛ لأسباب الحدث الأصغر والأكبر لإيجاب مسح الوجه واليدين بالتراب، بل ذلك تعبد من رب الأرباب ومالك الرقاب الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وما أشبه هذه الأسباب بالتوقيت. والأصل أن تزول الأحكام بزوال عللها فإذا تنجس الماء القليل ثم بلغ قلتين زالت نجاسته؛ لزوال علتها، وهي القلة، ولو تغير الكثير ثم أزيل تغيره طهر؛ لزوال علة نجاسته، وهي التغير، فإذا انقلب العصير خمرا زالت طهارته، فإذا انقلب الخمر خلا زالت نجاستها، وكذلك الصبا والسفه والإغماء والنوم والجنون أسباب لزوال التكاليف ونفوذ التصرف، فإذا زالت حصل التكليف، ونفذ التصرف، وكلما عاد النوم أو الإغماء أو الجنون زال التكليف بزوال علته، وكذلك يثبت التصرف بحصول الملك ويزول بزواله، وكذلك أحكام الحدث الأصغر والأكبر، وكذلك حكم السهو والغفلة والذكر والنسيان، وكذلك وجوب العصمة بالإيمان، وزوالها بالكفر، وكذلك تزول ولاية الأب والوصي والحاكم بفسوقهم، فإن عادوا إلى العدالة عاد الأب إلى ولايته دون الوصي والحاكم؛ لأن فسوق الأب مانع، وفسوق الوصي والحاكم قاطع. وكذلك موانع ولاية النكاح في حق الأولياء ترفع الولاية بزوالها وتعود بارتفاعها، وقد شرع الرمل في الطواف لإيهام المشركين قوة المؤمنين، وقد زال ذلك والرمل مشروع إلى يوم الدين. ومثل هذا لا يقاس عليه؛ لأن القياس فرع لفهم المعنى، ويجوز أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع مع زوال السبب تذكيرا لنعمة(2/4)
الأمن بعد الخوف لنشكر عليها، فقد أمرنا الله بذكر نعمه في غير موضع من كتابه وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها.
[فائدة]: إذا خلف العلة علة موجبة حكم الأولى استمر الحكم، كما لو بلغ الصبي سفيها أو مغمى عليه أو مجنونا.(2/5)
فصل: فيما يتدارك إذا فات بعذر و ما لا يتدارك مع قيام العذر
...
فصل: فيما يتدارك إذا فات بعذر وما لا يتدارك مع قيام العذر
والضابط أن اختلال الشرائط والأركان إذا وقع لضرورة أو حاجة فإن لم يختص وجوبه بالصلاة كالستر فإن كان في قوم يعمهم العري فلا قضاء عليه؛ لما فيه من المشقة، وإن ندر العري في بعض الجهات فإن أمرناه بإتمام الركوع والسجود لم يقض على الأصح، وإن أمرناه بالإيماء وجب القضاء على الأصح، وإن اختص وجوبه بالصلاة في الأركان والطهارتين كان العذر عاما؛ لعدم الماء في الأسفار، والقعود في الصلاة بالأمراض، فلا قضاء لما فيه من المشقة العامة، وإن ندر فإن كان مما يدوم إذا وقع كالاستحاضة وسلس البول واسترخاء الاست والاضطجاع في الصلاة بالمرض فلا قضاء، وإن كان للعذر النادر بدل كتيمم المسافر خوفا من البرد، وتيمم صاحب الجبيرة، وكالتيمم بانقطاع الماء في الحضر ففي القضاء لندرة هذا قولان، وإن لم يكن بدل كمن فقد الماء والتراب فالمذهب وجوب القضاء إلا في صلاة المحارب إذا اشتد الخوف والتحم القتال، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الصلاة لا تسقط إلا بسقوط التكليف أو الحيض، وقال أبو حنيفة رحمه الله كل صلاة لا يجب قضاؤها فلا يجب أداؤها لاختلاله، وهو قول الشافعي، إلا أن الشافعي لا يحرم الأداء خلافا لأبي حنيفة فإنه حرمه لاختلاله، وقال المزني كل صلاة وجب أداؤها فلا يجب قضاؤها وبنى على ذلك.
[قاعدة]: وهي أن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه فإنه يأتي بما قدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه لقوله - سبحانه وتعالى:(2/5)
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وبهذا قال أهل الظاهر. واستثنى بعض الظاهرية صلاة المحدث لقوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور"، وقال أهل الظاهر وبعض العلماء: من تعمد ترك الصلاة أو الصيام يلزمه القضاء؛ لأن القضاء ورد في الناسي والنائم، وهما معذوران وليس المتعمد في معنى المعذور، ولما قالوه وجه حسن، وذلك أن الصلاة ليست عقوبة من العقوبات حتى يقال إذا وجبت على المعذور فوجوبها على غيره أولى؛ لأن الصلاة إكرام من الله - تعالى - للعبد، وقد سماه جليسا له وأقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا، ولا يستقيم مع هذا أن يقال إذا أكرم المعذور بالمجالسة والتقريب كان العاصي الذي لا عذر له أولى بالإكرام والتقريب، وما هذا إلا بمثابة من يرتب الكرامة على أسباب الإهانة فيقول إذا كففت عن عقوبة الإعفاء كان الكف عن حد الزناة وقطاع الطريق وشربة الخمر والجناة على النفوس والأطراف أولى، وهذا قطع للمناسبة من الأسباب ومسبباتها.(2/6)
فصل: في بيان تخفيفات الشرع
...
فصل: في بيان تخفيفات الشرع
وهي أنواع: منها تخفيف الإسقاط كإسقاط الجمعات والصوم والحج والعمرة بأعذار معروفات، ومنها تخفيف التنقيص كقصر الصلاة، وتنقيص ما عجز عنه المريض من أفعال الصلوات كتنقيص الركوع والسجود وغيرهما إلى القدر الميسور من ذلك.
ومنها تخفيف الأبدال كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، وإبدال القيام في الصلاة بالقعود، والقعود بالاضطجاع، والاضطجاع بالإيماء، وإبدال العتق بالصوم، وكإبدال بعض واجبات الحج والعمرة بالكفارات عند قيام الأعذار ومنها تخفيف التقديم كتقديم العصر إلى الظهر. والعشاء إلى المغرب في السفر والمطر، وكتقديم الزكاة على حولها والكفارة على حنثها.
ومنها تخفيف التأخير كتأخير الظهر إلى العصر، والمغرب إلى العشاء ورمضان إلى ما بعده.(2/6)
ومنها تخفيف الترخيص، كصلاة المتيمم مع الحدث، وصلاة المستجمر مع فضلة النجو، وكأكل النجاسات للمداواة، وشرب الخمر للغصة، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، ويعبر عن هذا بالإطلاق مع قيام المانع، أو بالإباحة مع قيام الحاظر.(2/7)
فصل: في المشاق الموجبة للتخفيفات الشرعية
...
فصل: في المشاق الموجبة للتخفيفات الشرعية
المشاق ضربان: أحدهما مشقة لا تنفك العبادة عنها كمشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد، ولا سيما صلاة الفجر، وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، وكمشقة الحج التي لا انفكاك عنها غالبا، وكمشقة الاجتهاد في طلب العلم والرحلة فيه، وكذلك المشقة في رجم الزناة، وإقامة الحدود على الجناة، ولا سيما في حق الآباء والأمهات والبنين والبنات، فإن في ذلك مشقة عظيمة على مقيم هذه العقوبات بما يجده من الرقة والمرحمة بها للسراق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب البنين والبنات، ولمثل هذا قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} وقال عليه الصلاة والسلام: "لو أن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - سرقت لقطعت يدها"، وهو صلى الله عليه وسلم أولى بتحمل هذه المشاق من غيره؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - وصفه في كتابه العزيز بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها؛ لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات في جميع الأوقات أو في غالب الأوقات، ولفات ما رتب عليها من المثوبات الباقيات ما دامت الأرض والسموات.
الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالبا، وهي أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأطراف فهذه مشقة موجبة للتخفيف والترخيص؛ لأن حفظ المهج(2/7)
والأطراف لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات ثم تفوت أمثالها.
النوع الثاني: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع أو سوء مزاج خفيف، فهذا لافتة إليه ولا تعريج عليه؛ لأن تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع مثل هذه المشقة التي لا يؤبه لها.
النوع الثالث: مشاق واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفة والشدة فما دنا منها من المشقة العليا أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا لم يوجب التخفيف إلا عند أهل الظاهر، كالحمى الخفيفة ووجع الضرس اليسير وما وقع بين هاتين الرتبتين مختلف فيه، ومنهم من يلحقه بالعليا، ومنهم من يلحقه بالدنيا، فكلما قارب العليا كان أولى بالتخفيف، وكلما قارب الدنيا كان أولى بعدم التخفيف، وقد توسط مشاق بين الرتبتين بحيث لا تدنو من أحدهما فقد يتوقف فيها، وقد يرجح بعضها بأمر خارج عنها، وذلك كابتلاع الدقيق في الصوم، وابتلاع غبار الطريق، وغربلة الدقيق لا أثر له لشدة مشقة التحرز منها ولا يعفى عما عداها مما تخف المشقة في الاحتراز عنه وفي ما بينهما كابتلاع ماء المضمضة مع الغلبة اختلاق لوقوعه بين الرتبتين. ولما كانت المبالغة مستندة إلى تقصيره بفعله ما نهى عنه ألحقها بعضهم بما تيسر الاحتراز عنه وأبطل بها الصوم، وألحقها بعضهم بالمضمضة لوقوعها عن الغلبة، وتختلف المشاق باختلاف العبادات في اهتمام الشرع فما اشتد اهتمامه به شرط في تخفيفه المشاق الشديدة أو العامة، وما لم يهتم به خففه بالمشاق الخفيفة، وقد تخفف مشاقه مع شرفه وعلو مرتبته لتكرر مشاقه كي لا يؤدي إلى المشاق العامة الكثيرة الوقوع.
مثاله: ترخيص الشرع في الصلاة التي من أفضل الأعمال تقام مع الخبث الذي يشق الاحتراز منه، ومع الحدث في حق المتيمم والمستحاضة, ومن كان(2/8)
عذره كعذر المستحاضة. وكذلك المشاق في الحج ثلاثة أقسام: منها ما يعظم فيمنع وجوب الحج، ومنها ما يخف ولا يمنع الوجوب، ومنها ما يتوسط فيتردد فيه، وما قرب منه إلى المشقة العليا كان أولى بمنع الوجوب، وما قرب منه إلى المشقة الدنيا كان أولى بألا يمنع الوجوب. ولا تختص المشاق بالعبادات بل تجري في المعاملات.
مثاله: الغرر في البيوع، وهو أيضا ثلاثة أقسام: أحدها ما يعسر اجتنابه كبيع الفستق والبندق والرمان والبطيخ في قشورها فيعفى عنه.
القسم الثاني: ما لا يعسر اجتنابه فلا يعفى عنه.
القسم الثالث: ما يقع بين الرتبتين وفيه اختلاف، منهم من يلحقه بما عظمت مشقته، لارتفاعه عما خفت مشقته، ومنهم من يلحقه بما خفت مشقته لانحطاطه عما عظمت مشقته، إلا أنه تارة يعظم الغرر فيه فلا يعفى عنه على الأصح كبيع الجوز الأخضر في قشرته، وتارة يخف العسر فيه لمسيس الحاجة إلى بيعه فيكون الأصح جوازه كبيع الباقلاء الأخضر في قشرته. فأما الصلاة فينتقل فيها القائم إلى القعود بالمرض الذي يشوش على الخشوع والأذكار ولا يشترط فيها الضرورة ولا العجز عن تصوير القيام اتفاقا، ويشترط في الانتقال من القعود إلى الاضطجاع عذرا أشق من عذر الانتقال من القيام إلى القعود؛ لأن الاضطجاع مناف لتعظيم العبادات ولا سيما والمصلي مناج ربه، وقد قال - سبحانه -: "أنا جليس من ذكرني".
وأما الأعذار في ترك الجماعات والجمعات فخفيفة؛ لأن الجماعات سنة والجمعات بدل. وأما الصوم فالأعذار فيه خفيفة كالسفر والمرض الذي يشق الصوم معه لمشقة الصوم على المسافر، وهذان عذران خفيفان، وما كان أشد منهما كالخوف على الأطراف والأرواح كان أولى بجواز الفطر.
وأما الحج: فالأعذار في إباحة محظوراته خفيفة إذ يجوز لبس المخيط فيه(2/9)
بالتأذي بالحر والبرد، ويجوز حلق الرأس فيه بالتأذي من المرض والقمل، وكذلك الطيب والدهن وقلم الأظفار.
وأما التيمم فقد جوزه الشافعي رحمه الله تارة بأعذار خفيفة، ومنعه تارة على قول بأعذار أثقل منها، والأعذار عنده رتب متفاوتة في المشقة.
الرتبة الأولى: مشقة عظيمة فادحة كالخوف على النفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء فيباح بها التيمم.
الرتبة الثانية: مشقة دون هذه المشقة في الرتبة كالخوف من حدوث المرض المخوف، فهذا ملحق بالرتبة العليا على الأصح.
الرتبة الثالثة: خوف إبطاء البرء وشدة الضنى ففي إلحاقه بالرتبة الثانية خلاف، والأصح الإلحاق.
الرتبة الرابعة: خوف الشين إن كان باطنا لم يكن عذرا، وإن كان ظاهرا ففيه خلاف والمختار الإباحة، فهذه الأعذار كلها كما ذكرناه في إباحة الفطر في الصوم وفي إباحة القعود في الصلاة ويدل على ذلك صور جوز فيها الشافعي التيمم بمشاق خفيفة دون هذه المشاق.
أحدها: إذا بيع منه الماء بأكثر من ثمن المثل بشيء يسير فإنه لا يلزمه شراؤه، ولا شك أن ضرر الغبن بدانق دون ضرر المشقة بظهور الشين، وإبطاء البرء، وشدة الضنى، ولا سيما إذا ظهر الشين في وجوه النساء اللاتي نفاقهن في جمالهن، مع أن ضرر الشين يدوم إلى الممات، وضرر الغبن بالدانق ينصرم في الحال، وقد خالف مالك في ذلك، وخلافه متجه.
الصورة الثانية: إذا وهب منه ثمن الماء، وهو درهم مثلا فإنه لا يلزمه قبوله، وله أن يتيمم دفعا لتضرره بالمنة بالدرهم، ولا شك أن تضرره بالشين والمرض المخوف وشدة الضنى وبطء البرء دوامها أعظم من تضرره بذلك مع تصرمه.
الصورة الثالثة: إذا كان معه ثمن الماء، ولكنه محتاج إليه في نفقة سفره(2/10)
في ذهابه وإيابه، فإنه يتيمم، كي لا ينقطع عن سفره ويكون سفره سفر نزهة غير مهم في أمر الدين وتضرره لانقطاعه عن هذا السفر دون تضرره بما ذكرناه من المرض المخوف، وشدة الضنى، وبطء البرء، وظهور الشين، مع أن سفر النزهة من روعات النفوس التي لا يقصدها معظم العقلاء، بخلاف التضرر بما ذكرناه فإنه مقصود الدفع لكل عاقل.
ونظير هذا التشديد في باب التيمم، ما ذكره الشافعي ومالك - رحمهما الله في أن التحلل من الحج مختص بحصر العدو، وقد خولفوا في ذلك؛ لأن الآية دالة على جواز الخروج من الحج بالأعذار، فإن الإحصار عند المعتبر من أهل اللغة موضوع لإحصار الأعذار، والحصر موضوع لحصر الأعداء بدليل قوله: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} وقال بعض أهل اللغة هما لغتان في حصر الأعداء، فإن قيل إن قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الآية نزلت بالحديبية ولم يكن إحصار عذر وإنما كان إحصار عدو؟ قلنا: فإنها دلت على إحصار العذر بمنطوقها، وعلى إحصار العدو بمفهومها فتناولت الأمرين جميعا، ونبهت على أن التحلل بحصر الأعذار أولى من التحلل بحصر الأعداء.
فإن قيل: قد قرن بها ما يدل على أنها نزلت في حصر الأعداء، وهو قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فالأمن إنما يستعمل في زوال الخوف من الأعداء دون زوال الأمراض والأعذار؟ فالجواب أن الآية لما دلت على أن التحلل بالحصر أولى يرجع الأمر إلى ما دلت عليه الآية بطريق الأولى لا بطريق اللفظ، وإن جعلنا حصر وأحصر لغتين دل أحصر على الأمرين، ورجع لفظ الأمن إلى أحدهما دون الآخر، والذي ذكره مالك والشافعي لا نظير له في الشريعة السمحة التي قال الله - تعالى - فيها: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقال فيها: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، فإن من انكسرت رجله وتعذر عليه أن يعود إلى الحج والعمرة يبقى(2/11)
في بقية عمره حاسر الرأس متجردا من اللباس محرما عليه النكاح والإنكاح، وأكل الصيود والتطيب والأدهان، وقلم الأظفار وحلق الشعر ولبس الخفاف والسراويلات، , وهذا بعيد من رحمة الشرع ورفقه ولطفه بعباده.
الصورة الرابعة: أن أصحابنا قالوا لا يلزمه طلب الماء من فرسخ ولا من نصف فرسخ لما فيه من المشقة، ولا شك أن هذه المشقة أخف مما ذكرناه من المرض المخوف، وبطء البرء، وشدة الضنى، وظهور الشين، وكذلك قالوا لا يطلبه مع الخوف على ماله، ولم يفرقوا بين المال القليل والكثير، قالوا: بل يطلبه من مكان لو استغاث منه برفقته لأغاثوه مع ما هم عليه من اشتغالهم.
وأما المنة فجعلوها ثلاثة أقسام: أحدها أن يوهب منه ثمن الماء والدلو والرشاء فيجوز له التيمم لعظم المنة فيها.
القسم الثاني: أن يوهب منه الماء أو يعار الدلو والرشاء أو يقرض ثمن الماء مع القدرة على الوفاء فلا يجوز له التيمم لخفة مشقة المنة بمثل ذلك.
القسم الثالث: هل يجب عليه استيهاب الماء أو استعارة الدلو والرشاء فيه، فإن قيل: المشاق تنقسم إلى ما هو في أعلى مراتب الشدة، وإلى ما هو في أدناها، وإلى ما يتوسط بينهما، فكيف تعرف المشاق المتوسطة المبيحة التي لا ضابط لها، مع أن الشرع قد ربط التخفيفات بالشديد والأشد والشاق والأشق، مع أن معرفة الشديد والشاق متعذرة؛ لعدم الضابط؟ قلنا: لا وجه لضبط هذا وأمثاله إلا بالتقريب فإن ما لا يحد ضابطه لا يجوز تعطيله، ويجب تقريبه، فالأولى في ضابط مشاق العبادات أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تلك العبادة، فإن كانت مثلها أو أزيد ثبتت الرخصة بها، ولن يعلم التماثل إلا بالزيادة، إذ ليس في قدرة البشر الوقوف على تساوي المشاق، فإذا زادت إحدى المشقتين على الأخرى علمنا أنهما قد استويا فما اشتملت عليه المشقة الدنيا منهما وكان ثبوت التخفيف والترخيص بسبب الزيادة أو؛ لأمثال ذلك. أن التأذي بالقمل(2/12)
مبيح للحلق في حق الناسك فينبغي أن يعتبر تأذيه بالأمراض بمثل مشقة القمل، كذلك سائر المشاق المبيحة للبس والطيب والدهن وغير ذلك من المحظورات، وكذلك ينبغي أن تقرب المشاق المبيحة للتيمم بأدنى مشقة أبيح بمثلها التيمم، وفي هذا إشكال، فإن مشقة الزيادة اليسيرة على ثمن المثل، ومشقة الانقطاع من سفر النزهة خفيفة لا ينبغي أن يعتبر بها الأمراض. وأما المبيح للفطر فينبغي أن تقرب مشقته بمشقة الصيام في الحضر، فإذا شق الصوم مشقة تربى على مشقة الصوم في الحضر فليجز الإفطار بذلك، ولهذا نظائر كثيرة.: منها مقادير الأغرار في المعاملات، ومنها توقان الجائع إلى الطعام وقد حضرت الصلاة، ومنها التأذي بالرياح الباردة في الليلة المظلمة، وكذلك التأذي بالمشي في الوحل، ومنها غصب الحكام المانع من الإقدام على الحكام، فإن المراتب في ذلك كله مختلفة، ولا ضابط لمتوسطاتها إلا بالتقريب. وقد ضبط غصب الحاكم بما يمنع من استيفاء النظر وكل هذه تقريبات يرجع في أمثالها إلى ظنون المكلفين، ولا ينهى الحاكم الغضبان عن الحكم بما هو معلوم له إذ لا حاجة به إلى النظر فيه مثاله أن يدعي إنسان على إنسان بدرهم معلوم فينكره فلا يكره للحاكم الحكم بينهما إذ لا يحتاج في هذه المسألة إلى نظر واعتبار بل حكمه في حال رضاه، فإن قيل قد تقرر في الشرع أن ما لا يمكن ضبطه لا يجب الحمل على أقله كمن باع عبدا، وشرط أنه كاتب أو نجار أو رام أو بان فإن الشرط يحمل على أقل رتبة الكتابة والتجارة والخياطة والبناء، وكذلك من أسلم في شيء ووصفه بصفات لكل واحدة منهن رتب عالية، ورتب دانية، ورتب متوسطة. فإنه يحمل على أدناهن، إذ لا ضبط لما زاد عليها، فإذا وصف الجارية بإشراق اللون، أو بالكحل، أو بالبياض حمل على أقل رتب ذلك، وكذلك سائر الصفات، فهلا قلتم بالحمل ههنا على أدنى رتب المشاق لعسر ضبط رتب المشاق الزائدة على أدناهن؟ قلنا: لا يجوز تفويت مصالح العبادات مع عظمها وشرفها بمثل هذه المشاق مع خفتها وسهولة تحملها، بل تحمل هذه(2/13)
المشاق لا وزن له في تحصيل مصالح العبادات؛ لأن مصالح العبادات باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين مع ما يبتنى عليها من رضا رب العالمين، ولذلك كان اجتناب الترخص في معظم هذه المشاق أولى؛ لأن تحمل المشاق فيها أعظم أجرا من تعاطيه بغير مشقة؛ لما ذكرناه من فضل تحمل المشاق؛ لأجل الله. وإنما حملنا في المعاملات على الأقل تحصيلا لمقاصد المعاملات ومصالحها، فإن الحمل على الأعلى يؤدي في السلم إلى عزة الوجود، وهي مبطلة للسلم، والحمل في الصفات المشروطة في البيوع على الأعلى يؤدي إلى كثرة التنازع والاختلاف، والحمل على ما بينهما لا ضابط له، ولا وقوف عليه؛ فتعذر تجويزه؛ لعدم الاطلاع عليه.(2/14)
فصل: في الاحتياط في جلب المصالح و درء المفاسد
...
فصل: في الاحتياط في جلب المصالح ودرء المفاسد
المصالح التي أمر الشرع بتحصيلها ضربان: أحدهما مصالح الإيجاب. والثاني: مصالح الندب. والمفاسد التي أمر الشرع بدرئها ضربان: أحدهما: مفاسد الكراهة. الثاني: مفاسد التحريم. والشرع يحتاط لدرء مفاسد الكراهة والتحريم، كما يحتاط لجلب مصالح الندب والإيجاب، والاحتياط ضربان:
أحدهما: ما يندب إليه، ويعبر عنه بالورع، كغسل اليدين ثلاثا إذا قام من النوم قبل إدخالهما الإناء، وكالخروج من خلاف العلماء عند تقارب المأخذ، وكإصلاح الحكام بين الخصوم في مسائل الخلاف، وكاجتناب كل مفسدة موهمة، وفعل كل مصلحة موهمة؛ فمن شك في عقد من العقود، أو في شرط من شروطه، أو في ركن من أركانه، فليعده بشروطه وأركانه، وكذلك من فرغ من عبادة، ثم شك في شيء من أركانها، أو شرائطها بعد زمن طويل، فالورع أن يعيدها، فلو شك في إبراء من دين، أو تعزير، أو حد، أو قصاص؛ فليبرئ من ذلك ليحصل على جزاء المحسنين، ويبرأ خصمه بيقين، وإن شك في إعتاق، أو نكاح قبل الدخول، فليجدد النكاح والإعتاق، وإن شك أطلق قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل انقضاء العدة، فليجدد رجعة ونكاحا، وإن كان بعد انقضائها، فليجدد النكاح، وإن(2/14)
شك أطلق واحدة أو اثنتين، فإن أراد بقاء النكاح مع الورع، فليطلق طلقة معلقة على نفي الطلقة الثانية، بأن يقول إن لم أكن طلقتها فهي طالق كي لا يقع عليه طلقتان، وإن شك في الطلقة أرجعية هي أم خلع فليرتجع، وليجدد النكاح؛ لأنها إن تكن رجعية، فقد تلافاها بالرجعة، وإن كانت خلعا، فقد تلافاها، وإن شك في حال المال المخرج في الزكاة، أو الكفارة، أو الديون، فليعد ذلك، ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، فالورع أن يحدث، ثم يتطهر، فإن تطهر من غير حدث، فالمختار أن الورع لا يحصل بذلك؛ لعجزه عن جزم نية رفع الحدث؛ لأن بقاء الطهارة يمنعه من الجزم، كما أن بقاء شعبان يمنع من جزم نية صوم شهر رمضان ليلة الثلاثين من شعبان، وهذا هو الجاري على أصول مذهب الشافعي، رحمه الله، من جهة أن استصحاب الأصل قد منع الجزم والإجزاء في مسائل شتى، ولا فرق بينهما وبين هذا، ولو التبس عليه المني بالمذي فليجامع ثم يغتسل لجزم النية، فإن اغتسل من غير جنابة فينبغي أن لا يجزئه إلا في أعضاء الوضوء، لا أن استصحاب الطهارة فيما عدا الوضوء مانع من جزم نية الغسل فيها، ونظائر هذا كثيرة، وضابطه أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
الضرب الثاني: ما يجب من الاحتياط لكونه وسيلة إلى تحصيل ما تحقق تحريمه، فإذا دارت المصلحة بين الإيجاب والندب، والاحتياط، حملها على الإيجاب؛ لما في ذلك من تحقق براءة الذمة، فإن كانت عند الله واجبة فقد حصل مصلحتها، وإن كانت مندوبة فقد حصل على مصلحة الندب وعلى ثواب نية الجواب، فإن من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإذا دارت المفسدة بين الكراهة والتحريم فالاحتياط حملها على التحريم، فإن كانت مفسدة التحريم محققة، فقد فاز باجتنابها، وإن كانت منفية فقد اندفعت مفسدة المكروهة، وأثيب على قصد اجتناب المحرم، فإن اجتناب المحرم أفضل من اجتناب المكروه، كما أن فعل الواجب أفضل من فعل المندوب، والاحتياط لتحصيل مصلحة الواجب له أمثلة:(2/15)
أحدها: أن من نسي صلاة من خمس لا يعرف عينها، فإنه يلزمه الخمس ليتوسل بالأربع إلى تحصيل الواجبة.
المثال الثاني: أن من نسي ركوعا أوسجودا أو ركنا من أركان الصلاة ولم يعرف محله، فإنه يلزمه البناء على اليقين احتياطا لتحصيل مصلحة الواجب والبناء على اليقين تقدير أشق الأمرين والاتيان بالأشق منهما، فإذا شق أترك الركن من الركعة الأولى أم من الثانية بني على أنه من الأولى لأنه الأشق
المثال الثالث: يجب على الخنثى المشكل أن يستتر في الصلاة كالتستر للنساء احتياطا؛ لتحصيل مصلحة واجب السترة.
المثال الرابع: إذا اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار فإنا نغسل الجميع ونكفنهم وندفنهم، توسلا إلى إقامة حقوق المسلمين من الغسل والدفن والتكفين. وكذلك إذا تعارضت شهادتان في كفر الميت وإسلامه، فإنا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في قبور المسلمين، وفي اختلاط المسلمين بالكافرين لا نصلي على الكافرين. بل نخص المؤمنين بنية الصلاة عليهم لتحريم الصلاة على الكافرين، ولا يمكن الاختلاط عند تعارض النيات إلا بالصلاة.
المثال الخامس: أن من لزمته زكاة من زكاتين لا يعرف عينها مثل أن لزمته زكاة لا يدري أبقرة هي، أم بعير أم دينار، أم درهم أم حنطة، أم شعير فإنه يأتي بالزكاة ليخرج عما وجب عليه، وفي هذا نظر، فإن الأصل عدم كل واحدة منهما، بخلاف نسيان صلاة من خمس فإن الأصل في كل واحدة منهن الوجوب.
المثال السادس: إذا شك الناسك هل هو مفرد أو متمتع أو قارن وكان ذلك قبل الطواف، فإنه يجعل نفسه قارنا ليبرأ بيقين؛ لأنه إن كان قبل ذلك قارن لم تضره نية القران، وإن كان متمتعا فقد أدخل الحج على العمرة فيبرأ من الحج بكل حال.
المثال السابع: إذا شكت المرأة هل الواجب عليها عدة وفاة أو عدة طلاق فإنه(2/16)
يلزمها الإتيان بالعدتين لتخرج عما عليها بيقين.
المثال الثامن: إذا مات زوج الأمة وسيدها وشكت في السابق منهما، فإنه يلزمها الاستبراء وعدة الوفاة لتبرأ بيقين.
المثال التاسع: وجوب الغسل لكل صلاة على المتحيرة لتبرأ عما عليها بيقين؛ لأنها إن كانت حائضا فلا طهارة عليها، وإن كانت قد طهرت من الحيض فوظيفتها الغسل وقد أتت به.
المثال العاشر: وجوب الصلاة على المستحاضة المتحيرة في جميع الأوقات لاحتمال طهرها في كل واحدة منها.
المثال الحادي عشر: يجب على المستحاضة صوم شهر رمضان مع صوم شهر آخر، وقضاء يومين بستة من ثمانية عشر يوما لتبرأ عما عليها بيقين، وهذا مشكل من جهة أن الشافعي قدر لها أكثر الحيض وأقل الطهر، وذلك في غاية الندور، ورد المعتادة إلى العبادة من غير زيادة مع جواز أن يكون حيضها قد صار إلى خمسة عشر، فأي فرق بين رد المعتادة إلى العادة من غير زيادة بناء على أن الأصل عدم تغير العادة، وبين رد هذا إلى غالب العادات لندرة دوران العادة على أكثر الحيض وأقل الطهر. فإن قيل كيف تجزم المستحاضة نية الصوم والصلاة مع أنها ما من وقت تنوي فيه الصوم والصلاة إلا، وهي يجوز أن تكون فيه طاهرة، وأن تكون حائضا، ولا يتصور مع هذا التردد جزم؟ قلنا: لما كان وقت الطهر أكثر من وقت الحيض غالبا جاز استناد الجزم إلى هذه الغلبة، وللاحتياط لدرء مفسدة المحرم أمثلة:
أحدها: إذا اشتبه إناء طاهر بإناء نجس، أو ثوب طاهر بثوب نجس، وتعذر معرفة الطاهر منهما، فإنه يجب اجتنابهما درءا لمفسدة النجس منهما.
المثال الثاني: إذا اشتبهت أخته من الرضاع بأجنبية فإنهما يحرمان عليه احتياطا؛ لدرء مفسدة نكاح الأخت.(2/17)
المثال الثالث: إذا اختلط درهم حلال بدرهم حرام، وجب اجتنابهما دفعا لمفسدة الحرام.
المثال الرابع: إذا اختلط حمام بر بحمام بلد مملوك مع استوائهما فإنه يحرم الاصطياد منه درءا لمفسدة اصطياد المملوك على الاختيار.
المثال الخامس: نكاح الخنثى المشكل باطل درءا لمفسدة المرأة بالمرأة أو الرجل بالرجل.
المثال السادس: إذا قطع رجل أو امرأة ذكر خنثى مشكل وشفريه وأنثييه فإنا لا نوجب القصاص على واحد منهما درءا لمفسدة أخذ الزائد بالأصلي.
المثال السابع: إذا قال إذا كان هذا الطائر غرابا فامرأتي طالق، وإن لم يكن غرابا فأمتي حرة فطار الغراب وتعذرت معرفته، فإنا نحرم عليه الأمة والمطلقة درءا لمفسدة تحريم إحداهما. وكذلك إذا قال إذا كان هذا الطائر غرابا فأمتي حرة، وإن لم يكن غرابا فعبدي حر فإنه يمنع من التصرف فيهما درءا لمفسدة التصرف في الحر منهما.
المثال الثامن: تحريم وطء المستحاضة المتحيرة عند كثير من الأصحاب درءا لما يتوهم من مفسدة الوطء في الحيض، وقد جوزه بعضهم نظرا لحق الزوج في البضع، وأنه ليس تقدير الحيض بأولى من تقدير الطهر؛ ولما فيه من الضرر الدائم ولا سيما في حق الزوجين الشابين، فإن قيل الصلاة مع الحيض حرام، ومع الطهر واجبة فلم قدمتم الاحتياط لتحصيل مصالح الصلاة على الاحتياط لدرء مفسدة الصلاة في الحيض؟ قلنا: إن الطهارة شرط من شروط الصلاة فلا تهمل المصالح الحاصلة من أركان الصلاة وسائر شرائطها بفوات شرط واحد، فإن مصالح الصلاة خطيرة عظيمة لا تدانيها مصلحة الطهر من الحيض؛ لأن الطهر منه كالتتمة والتكملة لمقاصد الصلاة، فلا تقدم التتمات والتكملات على مقاصد الصلاة على ما سنذكره إن شاء الله - تعالى - في مقاصد(2/18)
الصلاة، كيف وكل ركن من أركان الصلاة وكل شرط من شروطها مقصود مهم لا يسقط ميسوره بمعسوره. وكذلك يصلي من لا يجد ماء ولا ترابا ولا سترة، ولا يتمكن من القبلة ولا من الركوع، ولا من السجود على حسب حاله.
المثال التاسع: لا يقتدي الرجل بالخنثى، , ولا الخنثى بالخنثى دفعا لمفسدة اقتداء الذكور بالإناث.
المثال العاشر: الاحتياط لمن يوجد ويتوقع وجوده كتحريم نكاح الأمة خوفا من إرقاق الولد الذي يتوقع وجوده، والرق من أعظم المفاسد.
فإن قيل: فكيف أجزتموه مع العنت وفقد مهر الحرة؟ قلت: دفع مفسدة الزنا عمن تحقق وجوده أولى من دفع مفسدة الرق عمن يتوهم وجوده، ولو تحقق وجوده لكان حق أبيه في درء مفسدة الزنا أولى من حقه في دفع مفسدة الرق؛ لأن مفاسد الزنا عاجلة وآجلة ومفاسد الرق عاجلة لا غير، إذ لا يأثم أحد بكونه رقيقا، ويأثم بكونه زانيا، بل العبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه فله أجران.
المثال الحادي عشر: الشهادة بحصر الورثة ولها حالان: أحدهما: أن تكون احتياطا لما تحقق وجوده كالآباء والأمهات والأجداد والجدات، فإذا أقام الوارث بينة بأن الميت أخوه من أبويه لم يدفع إليه شيئا؛ لأن الأصل بقاء أبويهما، وكذلك أجدادهما وجداتهما.
الحال الثانية: الشهادة بنفي الزوجين والإخوة والأخوات، وأمثال ذلك فإنا لا ندفع شيئا من الميراث إلا بالحصر في الوارث المذكور، وإن كان الأصل عدم الأزواج والزوجات والإخوة والأخوات، فهذا احتياط لمن لم يتحقق وجوده، ولكن وجوده كثير غالب، وللاحتياط لتحصيل مصلحة المندوب أمثلة:
منها: أن من نسي ركعتين من السنن الرواتب، ولم يعلم أهي سنة الفجر أم(2/19)
سنة الظهر فإنا نأتي بالسنتين لنحصل على المنسية لمن نسي صلاة من صلاتين مفروضتين.
ومنها من شك هل غسل في الوضوء ثلاثا أو اثنتين فإنه يأتي بالثالثة احتياطا للمندوب.
وللاحتياط لدفع مفسدة المكروه أمثلة: منها أن لا تقوم الخنثى عن يمين الإمام.
ومنها: ألا تتقدم الخنثى على الرجال. ومنها أنه يكره للرجال أن يصلوا وراء الخنثى في الصفوف وفي صف فيه خنثى.
[فائدة]: قد يتعذر الورع على الحاكم في مسائل الخلاف كما إذا كان ليتيم على يتيم حق مختلف في وجوبه فلا يمكن الصلح بينهما، إذ لا تجوز المسامحة بمال أحدهما، وعلى الحاكم التوسط في الخلاف، وكذلك حكم الأب والوصي.(2/20)
فصل: فيما يقتضيه النهي من الفساد و لا يقتضيه
...
فصل: فيما يقتضيه النهي من الفساد ولا يقتضيه
للنهي أحوال: الأولى أن ينهى عن الشيء لاختلال ركن من أركانه أو شرط من شرائطه: كالنهي عن الصلاة في المزبلة والمجزرة، وكالنهي عن صوم يومي العيدين. وكنهي المحرم عن النكاح والإنكاح، وكذا النهي عن بيع الحر، وعن بيع الملاقح، وبيع المضامين، فهذا كله محمول على فساد المنهي عنه.
الحال الثانية: النهي لاقتران مفسدته وله أمثلة: أحدها: التطهر بالماء المغصوب ليس النهي عنه لعينه، وإنما النهي عن استمرار غصبه، وكذلك التطهر بما يخاف منه التلف؛ لشدة حر أو برد فإنه لم ينه عنه لعينه، وإنما النهي عما اقترن به من خوف التلف.
المثال الثاني: الصلاة في الدار المغصوبة ليس النهي عنها لعينها، وإنما المراد بالنهي عما اقترن بها من الغصب، فالنهي متعلق بالصلاة من جهة اللفظ وبالغصب من جهة المعنى، وهو من المجاز العرفي لقولهم لا أرينك ههنا، وكقوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، النهي عن الموت باللفظ، وعما يقترن به(2/20)
من الكفر في المعنى. ومثله قوله: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}، النهي عن الصد للشيطان في اللفظ، للمكلفين في المعنى.
المثال الثاني: النهي عن البيع وقت النداء مع توفر أركانه وشرائطه ليس نهيا عنه في نفسه، وإنما هو نهي عن التقاعد والتشاغل عن الجمعة.
المثال الرابع: النهي عن البيع على بيع الأخ مع توفر الشرائط والأركان، ليس النهي من جهة المعنى عن البيع، وإنما هو نهي عن الإضرار المقترن بالبيع، وليس النهي عن النجش والسوم على السوم، والخطبة على الخطبة من هذا القبيل؛ لأنها مناه منفصلة عن البيع.
المثال الخامس: بيع الحاضر للبادي ليس منهيا عنه لعينه، وإنما النهي عن الإضرار بالناس.
الحالة الثالثة: ما يتردد بين هذين النوعين كصوم يوم الشك وأيام التشريق، والصلاة في الأوقات المكروهات، وفيه خلاف مأخذه أن النهي عنه هل هو لعينه أو لأمر يقترن به.
الحال الرابعة: أن ينهى عما لا يعلم أنه لاختلال الشرائط والأركان أو لأمر مجاوز فهذا أيضا مقتض للفساد حملا للفظ على الحقيقة، ومثاله نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجزئ فيه الصاعان.
الحال الخامسة: أن ينهى عن الشيء لفوات فضيلة في العبادة فلا يقتضي الفساد كالنهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، فإنه ينهى عن ذلك؛ لما فيه من تشويش الخشوع، ولو ترك الخشوع عمدا لصحت الصلاة. وأما نهي الحاكم عن الحكم في حال الغضب الشديد فاحتياط للحكم، فإذا وقع الحكم بشرائطه وأركانه صح لحصول مقاصده.(2/21)
فصل: في بيان جلب المصالح و درء المفاسد على الظنون
...
فصل: في بيان جلب المصالح ودرء المفاسد على الظنون
لما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليها مصالح الدنيا والآخرة؛ لأن كذبها(2/21)
نادر ولا يجوز تعطيل مصالح صدقها الغالب خوفا من وقوع مفاسد كذبها النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنية على الظنون كما ذكرناه، ولا يجوز العمل بكل ظن، والظنون المعتبرة أقسام:
أحدها: ظن في أدنى الرتب. والثاني: ظن في أعلاها، والثالث ظنون متوسطات. فإن قيل: لم ثبتت أحكام الشرع بالظنون المستفادة من أخبار الآحاد ولم ثبتت الحقوق عند الحكام بمثل ذلك؟ بل شرط في أكثرها العدد والذكورة وجعلت في رتب متفاوتة فأعلاها ما شرط فيه أربع شهادات وأدناها ما شرط فيه شاهد واحد كالشهادة على هلال رمضان وفوقه؟
المثال الرابع: أن يدعي بحد القذف فلا يحل له النكول كي لا يكون عونا على جلده، وإسقاط عدالته، والعزل عن ولايته التي يجب عليه المضي فيها.
المثال الخامس: أن يدعي على الولي المجبر أنه زوج ابنته فلا يحل له النكول كي لا يكون عونا على تسليم ابنته إلى من يزني بها، وكذلك ولي اليتيم حيث تشرع اليمين في حقه في التصرفات المالية لا يجوز له النكول كي لا يكون ذلك عونا على أخذ أموال اليتامى ظلما، ويلحق بذلك إذا لاعن الرجل امرأته كاذبا ولا يحل لها النكول عن اللعان، كي لا يكون عونا على جلدها أو رجمها وفضيحة أهلها، وأما يمين المدعي فإن كانت كاذبة لم تحل فضلا عن أن تجب، وإن كانت صادقة فللحق المدعي حالان. أحدهما: أن يكون مما يباح بالإباحة، فالأولى بالمدعي إذا نكل أن يبيح الحق أو يبرأ منه دفعا لمفسدة إضرار خصمه على الباطل.
الحال الثانية: أن يكون الحق مما لا يباح بالإباحة، ويعلم المدعي أن الحق يؤخذ منه إذا نكل عن اليمين، فيلزمه أن يحلف حفظا لما يحرم بذله وله أمثلة.
أحدها: أن تدعي الزوجة البينونة فتعرض اليمين على الزوج فينكر وينكل، فيلزمها الحلف حفظا لبضعها من الزنا وتوابعه من الخلوة وغيرها، فإن نكلت(2/22)
عن اليمين فسلمت إليه فراودها عن نفسها لزمها منعه بالتدرج إن قدرت، فإن لم تقدر عليه وقدرت على قتله في أول الأمر لزمها ذلك.
المثال الثاني: أن تدعي الأمة أن سيدها أعتقها فينكر وينكل فيلزمها الحلف حفظا لبضعها، ولما يتعلق بحريتها من حقوق الله وحقوق عباده.
المثال الثالث: أن يدعي العبد أن سيده أعتقه فينكر وينكل فيلزم العبد الحلف حفظا لحريته؛ ولما يتعلق بها من حقوق الله، وحقوق عباده كالجمعة والجهاد وغير ذلك.
المثال الرابع: أن يدعي الجاني عفو الولي فينكر وينكل فيلزم الجاني الحلف حفظا لنفسه أو لأطرافه.
المثال الخامس: أن يدعي القاذف عفو المقذوف فينكر وينكل فيلزم المقذوف الحلف حفظا لجسده من ثمانين جلدة، ولو نكل الولي عن أيمان القسامة فإن أوجبنا بها القصاص وجب اليمين بها وإلا فلا.
فإن قيل: هل يأمر الحاكم من عليه اليمين بالحلف، أم يعرضه عليه من غير طلب؟ قلنا: بل يعرضه عليه من غير طلب؛ لأنه لا يدري أصادق هو أم كاذب، ولو أمره وقال له احلف فلا بأس بذلك عندي بناء على الظاهر، فإن الشرع لا يعرض اليمين إلا على من ظهر صدقه وترجح جانبه. وقد جوز الشافعي رحمه الله لمن باع عبدا كان ملكه إذا خاصمه المشتري في قدم عيب يمكن حدوثه، أن يحلف أنه باعه وما به عيب بناء على أن الأصل عدم حدوث العيب في الزمن الماضي.
فإن قيل هل يجوز للمدعي مطالبة المدعى عليه باليمين مع علمه بكذبه فيها وفجوره؟ والقاعدة تحريم طلب ما لا يحل، ولا سيما هذه اليمين الموجبة لغضب الله، إذ صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف يمينا كاذبا يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان".
قلنا: يجوز ذلك استثناء من قاعدة تحريم طلب ما لا يحل الإقدام عليه لوجهين:(2/23)
أحدهما: أنا لو لم نجوز ذلك لبطلت فائدة الأيمان وضاعت بذلك حقوق كثيرة.
الوجه الثاني: أن ذلك لو حرم لجاز للحاكم أن يأذن له في تحليف خصمه؛ لأنه مصادق أن خصمه كاذب في إنكاره ويمينه جميعا، ولا يجوز للحاكم أن يأذن؛ لأحد في طلب ما اعترف بأنه معصية فيكون هذا مستثنى، كما جعلت اليمين على نية المستحلف من استثناء قاعدة كون اليمين على نية الحالفين، وكون مقاصد الألفاظ على نية اللافظين، والشرع يستثني من القواعد ما لا تداني مصلحته هذه المصلحة العامة، فما الظن بهذه المصلحة ؟(2/24)
فصل: فيما يجب على الغريم إذا ادعى إلى الحاكم
...
فصل: فيما يجب على الغريم إذا ادعى إلى الحاكم
إذا دعا الحاكم أحدا من الخصوم لزمته الإجابة من مسافة العدو فما دونها إذا لا تتم مصالح الأحكام وإنصاف المظلومين من الظالمين إلا بذلك، وإن دعاه خصمه إلى الحاكم فإن لم يكن عليه حق لم تلزمه الإجابة وإن كان عليه حق فللحق حالان:
أحدهما: أن يتوقف القيام به على حكم الحاكم، فإن كان قادرا عليه لزمه أداؤه، ولا يحل المطال به إلا بعذر شرعي، ولا تلزمه الإجابة إلى الحضور عند الحاكم، وإن كان معسرا به لم تلزمه إجابته إلى الحضور عند الحاكم، فإن علم عسرته لم تحل له مطالبته بالحق ولا بالحضور إلى الحاكم، وإن جهل عسرته فينبغي أن يخرج جواز إحضاره إلى الحاكم على الخلاف في حبس المعسر المجهول اليسار. وكذلك لو دعاه الحاكم مع علم المدعو بأنه يحكم عليه بالباطل بناء على الحجة الظاهرة، فإنه يجوز بينه وبين الله أن يمتنع من إتيان الحاكم، ولا سيما فيما يتعلق بالدماء والفروج والحدود وسائر العقوبات الشرعية.
الحال الثانية: أن يتوقف القيام بالحق على حكم الحاكم كضرب أجل للعنين فيتخير الزوج بين أن يطلق ولا تلزمه الإجابة إلى الحاكم، وبين أن يجيب الحاكم، وليس له الامتناع منها، وكذلك القسمة التي تتوقف على الحكم يتخير فيها المدعى(2/24)
عليه بين أن يملك حصته لغيره وبين الحضور عند الحاكم، وليس له الامتناع منهما. وكذلك الفسوخ الموقوفة على الحضور عند الحاكم ولو دعا خصمه إلى التحاكم في مختلف في ثبوته فإن كان المدعى عليه معتقدا ثبوته فهو على ما مضى، وإن اعتقد انتفاءه لم تلزمه إجابة خصمه، وإن دعاه الحاكم لزمته الإجابة، وإن طولب بدين أو حق واجب على الفور لزمه أداؤه، ولا يحل له أن يقول لخصمه لا أدفعه إلا بالحاكم؛ لأنه مطل والمطل بالحقوق المقدور عليها محظور؛ لقوله عليه السلام: "مطل الغني ظلم"، وكثيرا ما يصدر هذا من العامة مع الجهل بتحريمه، وإثمه أعظم من إثم المطال المجرد؛ لما فيه من تعطيل المدعي بانطلاقه إلى الحاكم ومثوله بين يديه، وبما يغرمه لأعوان الحاكم على الإحضار.
وأما النفقات: فإن كانت للأقارب وجبت الإجابة إلى الحضور عند الحاكم ليقدرها، وإن كانت للرقيق أو للزوجات يتخير بين تمليك الرقيق وإبانة الزوجة، وبين الإجابة إلى الحضور عند الحاكم.
[فائدة]: إذا لزم المدعى عليه إحضار العين لتقوم عليها البينة فأحضرت فإن ثبت الحق كانت مؤنة الإحضار على المدعي، وإن لم يثبت كانت مؤنة الإحضار والرد على المدعى عليه؛ لأنه مبطل في ظاهر الشرع، ولا يجب أجرة تعطيل المدعى عليه في مدة الإحضار؛ لأنه حق للحاكم لا تتم مصالح الأحكام إلا به.
[فائدة]: من ادعى عليه الحق مسندا إلى سبب كالبيع والإجارة والنكاح والجناية الموجبة للقصاص والحد والتعزير فنفاه أو نفى سببه قبل منه، وليس للحاكم إلزامه بنفي سببه؛ لأن الأسباب قد تتحقق ويسقط حقوقها ومواجبها بعد ثبوتها، فلا يلزمه أن يحلف ما باع لاحتمال أن يتحقق البيع ثم تقع الإقالة بعده، أو الفسخ أو الإبراء من الثمن، فلو كلف أن يحلف على نفي البيع لتضرر، فإنه إن صدق ألزم بموجب البيع، وإن كذب فقد حلف بالله كاذبا كذبا لا تدعوا الحاجة إليه، إذ له عنه مندوحة بنفي الاستحقاق الذي هو مقصود الخصم وكذلك(2/25)
الإجارة قد يتعقبها من الفسخ، أو الإبراء، أو الإقالة ما يقطع استحقاقها، وكذلك النكاح قد يرتفع بالإبانة والفسوخ، فلو اعترف به لألزم بحكمه وموجبه، وفيه إضرار به، وكذلك الجناية الموجبة للقصاص والحد والتعزير قد يقع بعدها عفو أو صلح يسقط موجبها، فإذا حلف على نفي الاستحقاق فقد نفى المقصود بالدعوى وسلم من هذه المؤاخذات، ولو ألزم الحلف على نفي السبب مع تحققه لحملناه على الحلف كاذبا مع أن كذبه غير محتاج إليه، وإن أقر بالسبب خوفا من الكذب تضرر بإلزامه حقا قد سقط، فكان الجمع بين حقه في ذلك، وبين حق الخصم في الإجابة لنفي الحق دفعا بين حقيهما من غير تعريض واحد منهما لضرر دينه أو حقه، ولا يخفى ما في هذا من الإنصاف الذي يبنى القضاء على أمثاله.
[فائدة] إن قيل كيف جعلتم القول قول المدعى عليه مع أن كذب كل واحد منهما ممكن؟ قلنا: جعلنا القول قوله لظهور صدقه فإن الأصل براءة ذمته من الحقوق، وبراءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات، وبراءته من الانتساب إلى شخص معين، ومن الأقوال كلها والأفعال بأسرها، وكذلك الأصل عدم إسقاط ما ثبت للمدعي من الحقوق وعدم نقلها. فيدخل في هذا جميع العقود والتصرفات حتى الكفر والإيمان، وكذلك الظاهر أن ما في يده مختص به فجعلنا عليه لرجحان جانبه بما ذكرناه فقوينا الظن المستند إلى ما ذكرناه بالظن المستفاد من اليمين، فإن نكل زال الظن المستفاد من براءة ذمته وجسده ويده؛ لأن الطبع وازع عن النكول الموجب لحلف المدعي بما يضر الإنسان في ذمته وجسده ويده فرجح بذلك جانب المدعي فعرضت اليمين عليه ليحصل لنا الظن المستفاد من النكول، وقد جعل بعض العلماء الظن المستفاد من النكول موجب للحكم لقوته وشدة ظهوره، فإذا قامت البينة العادلة قدمت على ذلك؛ لأن الظن المستفاد منها أقوى(2/26)
وأظهر من الظن المستفاد من تحليف أحد الخصمين. فإن قيل: قد أمر الأئمة والحكام بالعدل، وهو التسوية بين المستحقين والمتخاصمين وقد فاوتم بينهم فقدمتم قول المدعى عليه؟ قلنا: أما الحاكم فيسوي بين الخصوم من وجهين. أحدهما التسوية بينهم في الإقبال والإعراض والنظر والمجلس.
الوجه الثاني: التسوية بينهم في العمل بالظنون فيجعل القول قول كل مدع مع يمينه إلا ما استثناه الشرع كالقسامة واللعان، فيسوي فيه بين الأزواج، وكذلك يسوي بين النساء في درء الحدود باللعان، وكذلك يسوي بين الخصوم في تحليف كل مدع بعد النكول، وكذلك إذا تناكلا ولم يحلف واحد منهما فيسوي بينهما في صرفهما.
وأما الإمام فيلزمه مثل ما لزم الحاكم من ذلك، ويلزمه أن يقدم الضرورات على الحاجات في حق جميع الناس. وأن يسوي بينهم في تقديم أضرهم فأضرهم وأمسهم حاجة فأمسهم، والتسوية بينهم ليست من مقادير ما يدفع إليهم الإمام، بل التسوية بينهم أن يدفع إلى كل واحد منهم ما يدفع به حاجته من غير نظر إلى تفاوت مقاديره فيتساووا في اندفاع الحاجات، وكذلك يسوي بين الناس في نصب القضاة والولاة ودفع المضرات، ولا يخلي كل قطر من الولاة والحكام، ولا يخلي الثغور من كفايتها من الكراع والسلاح والأجناد الذين يرجى من مثلهم كف الفساد ودرء الكفار وعرامة الفجار، إلى غير ذلك مما يتصرف به الأئمة. وإذا قسم الإمام الأموال فليقدم الأفضل فالأفضل منهم في تسليم نصيبه إليه كي لا تنكسر قلوب الفضلاء بتأخيرهم، إلا أن يكون المفضول أعظم ضرورة وأمس حاجة فيبدأ به قبل الفاضل؛ لأن الفاضل إذا عرف ضرورة المضطر رق له، وهان عليه تقديمه.
فإن قيل: لم جعلتم القول قول بعض المدعين مع يمينه ابتداء؟ قلنا: فعلنا ذلك(2/27)
إما لترجح جانبه، أو لإقامة مصلحة عامة، أو لدفع ضرورة خاصة. فأما ترجح جانبه فله مثالان:
أحدهما: دعوى القتل مع اللوث، فإن اللوث قد رجح جانبه بالظن المستفاد من اللوث فانتقلت اليمين إلى جانبه، ثم أكدنا الظن بتحليفه خمسين يمينا؛ لما في ذلك من بعد الجرأة على الله بخمسين كاذبة، فأوجبنا الدية لما ظهر لنا من صدقه، وفي إيجاب القول بمثل هذا الظن خلاف بين العلماء.
المثال الثاني: قذف الرجل زوجته، فإن صدقه فيه ظاهر؛ لأن الغالب في الزوج نفي الفواحش عن امرأته، وأنه يتعير بظهور زناها، ولولا صدقه في هذه الواقعة لما أقدم على ذلك، فلما ظهر صدقه ضممنا إلى هذا الظهور الظهور المستفاد من أيمان اللعان، وأكدنا ذلك بدعائه على نفسه باللعن الذي لا يقدم عليه غالبا إلا صادق في قوله، فإذا تم لعانه فقد اختلف العلماء في حد المرأة بهذه الحجة، فذهب إلى أنها لا تحد لضعف هذه الحجة ورأي الشافعي رحمه الله أنها تحد بهذه الحجة عملا بقوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} حملا للعذاب على الجلد المذكور في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وفرق الشافعي رحمه الله بين هذا وبين القود بالقسامة؛ لأن المرأة قادرة على درء الحد باللعان، بخلاف القصاص فإن المقتص منه لا يقدر على درئه. وأما قبول قول المدعي لإقامة مصلحة عامة فله أمثلة:
أحدها: قبول قول الأمناء في تلف الأمانة لو لم يشرع لزهد الأمناء في قبول الأمانات ولفاتت المصالح المبنية على حفظ الأمانات.
المثال الثاني: قبول قول الحكام فيما يدعونه من الجرح والتعديل، وغيرها من الأحكام لو لم يقبل لفاتت مصالح تلك الأحكام لرغبة الحكام عن ولاية الأحكام.(2/28)
المثال الثالث: قبول قول المدعي رد الأمانة على مستحقها وللأمين في ذلك حالان: أحدهما أن يكون أمينا من قبل الشرع كالوصي يدعي رد المال على اليتيم، وكذلك من كانت عنده أمانة شرعية فادعى ردها على مالكها الذي لم يأتمنه عليها فلا يقبل قوله في ذلك لتيسر الإشهاد على الرد فإذا فرط في الإشهاد لم نخالف القواعد والأصول؛ لأجل تفريطه. وأما ما يقبل في قول المدعي لرفع ضرورة خاصة: فكالغاصب يدعي تلف المغصوب فالقول قوله مع يمينه؛ لأنا لو رددنا قوله لأدى إلى أن نخلده في الحبس إلى موته، ويجب طرد هذا في كل يد ضامنة كيد المستعير والمستام.(2/29)
فصل: فيما يقدح في الظنون من التهم و ما لا يقدح فيها
...
فصل: فيما يقدح في الظنون من التهم وما لا يقدح فيها
التهم ثلاثة أضرب. أحدها تهمة قوية كحكم الحاكم لنفسه، وشهادة الشاهد لنفسه، فهذه تهمة موجبة لرد الحكم والشهادة؛ لأن قوة الداعي الطبعي قادحة في الظن المستفاد من الوازع الشرعي قدحا ظاهرا لا يبقى معه إلا ظن ضعيف لا يصلح للاعتماد عليه، ولا لاستناد الحكم إليه.
الضرب الثاني: تهمة ضعيفة كشهادة الأخ لأخيه، والصديق لصديقه والرفيق لرفيقه، والعتيق لمعتقه، فلا أثر لهذه التهمة، وقد خالف مالك رحمه الله في الصديق الملاصق، ولا تصلح تهمة الصداقة للقدح في الوازع الشرعي، وقد وقع الاتفاق على أن الشهادة لا ترد بكل تهمة.
الضرب الثالث: تهمة مختلفة في رد الشهادة والحكم بها ولها رتب.
أحدها: تهمة قوية، وهي تهمة شهادة الوالد لأولاده وأحفاده، أو لآبائه وأجداده فالأصح أنها موجبة للرد لقوة التهمة، وعن أحمد - رحمه الله تعالى - روايات، ثالثها: رد شهادة الأب وقبول شهادة الابن؛ لقوة تهمة الأب لفرط شفقته وحنوه على الولد.(2/29)
الرتبة الثانية: تهمة شهادة العدو على عدوه، وهي موجبة للرد لقوة التهمة، وخالف فيها بعض العلماء.
الرتبة الثالثة: تهمة أحد الزوجين إذا شهد للآخر وفيها أقوال، ثالثها: رد شهادة الزوجة دون الزوج؛ لأن تهمتها أقوى من تهمة الزوج؛ لأن ما ثبت له من الحق متعلق لكسوتها ونفقتها وسائر حقوقها.
الرتبة الرابعة: تهمة القاضي إذا حكم بعلمه، والأصح أنها لا توجب الرد إذ كان الحاكم ظاهر التقوى والورع.
الرتبة الخامسة: تهمة الحاكم في إقراره بالحكم، وهي موجبة للرد عند مالك رحمه الله، غير موجبة له عند الشافعي رحمه الله؛ لأن من ملك الإنشاء ملك الإقرار، والحاكم مالك لإنشاء الحكم، فملك الإقرار به، وقول مالك رحمه الله متجه إذا منعنا الحكم بالعلم.
الرتبة السادسة: تهمة حكم الحاكم مانعة من نفوذ حكمه؛ لأولاده وأحفاده وعلى أعدائه وأضداده، فإن سمع البينة وفوض الحكم إلى غيره فوجهان. وقال الإمام رحمه الله الأصح أنه لا يحكم بعلمه هاهنا، وإن جوزنا الحكم بالعلم. وإن حكم بالبينة فوجهان، وإنما ردت الشهادة بالتهم من جهة أنها مضعفة للظن المستفاد من الشهادة، موجبة لانحطاطه عن الظن الذي لا يعارضه تهمة، ولأن داعي الطبع أقوى من داعي الشرع، ويدل على ذلك رد شهادة أعدل الناس لنفسه ورد حكم أقسط الناس لنفسه.
فإن قيل: لم رجعتم في الجرح والتعديل إلى علم الحاكم؟ قلنا: لو لم نرجع إليه في التفسيق لنفذنا حكمه بشهادة من أقر بأنه لا يصلح للشهادة، وإقراره بفسق الشاهد يقتضي إبطال كل حكم ينبني على شهادته. وأما التعديل فإنه مسند في أصله إلى علمه، فإنه لا تقبل التزكية إلا ممن عرف بالعدالة، وكذلك تزكية المزكي ومزكي المزكي إلى أن يستند ذلك إلى علمه.(2/30)
فإن قيل: لم حرمتم على الحاكم ألا يحكم بخلاف علمه؟ قلنا: لأنه لو حكم بخلاف علمه لكان قاطعا ببطلان حكمه، والحكم على الباطل محرم في كل ملة، فإنه إذا رأى رجلا قتل رجلا فادعى الولي القتل على غير القاتل فأقر المدعى عليه بالقتل، أو قامت به بينة عادلة، فلا يجوز له قتل غير القاتل لعلمه بكذب المقر والبينة، فلو حكم بذلك لكان حكما بغير حجة شرعية، بل هو أقبح من الحكم بغير حجة شرعية؛ لأنه إذا حكم بغير حجة شرعية جاز أن يكون ما حكم به حقا موافقا للباطل. وأما هاهنا فإنه ظالم باطنا وظاهرا ويجب عليه القصاص.
[فائدة]: إذا زكيت البينة عند الحاكم ثم شهدت بحق آخر فإنها تقبل إذا قرب الزمان استصحابا لعدالتهم، وإن بعد الزمان فقد اختلف فيه، فمنهم من قبل الشهادة؛ لأن الأصل بقاء العدالة، وكما يحكم ببقاء عدالة الوصي والحاكم والإمام عند طول الزمان، ومنهم من لا يقبلها؛ لأن الغالب على الإنسان تغير الأحوال، وهذا مطرد في العدول المرتبين عند الحكام، والفرق أنا لو اعتبرنا ذلك في الأوصياء والأئمة والحكام لأدى ذلك إلى ضرر عظيم من تعطيل المصالح العامة والخاصة، بخلاف ما ذكرناه من إعادة تزكية الشهود، فإنه ليس من اعتباره ضرر عام، واختلف القائلون بهذا في طول الزمان فقدره العراقيون من ثلاثة أيام، وفيه بعد، وقدره آخرون بمدة تتغير فيها الأحوال في الغالب، وهذا أقرب.
[فائدة] لا ترد شهادة أهل الأهواء؛ لأن الثقة حاصلة بشهادتهم حصولها بشهادة أهل السنة، ومدار قبول الشهادة والرواية على الثقة بالصدق وذلك متحقق في أهل الأهواء تحققه في أهل السنة، والأصح أنهم لا يكفرون ببدعهم، وكذلك تقبل شهادة الحنفي إذا حددناه في شرب النبيذ؛ لأن الثقة بقولهم لم تنخرم بشربه لاعتقاده إباحته، وإنما ردت شهادة الخطابية؛ لأنهم يشهدون بناء على إخبار بعضهم بعضا فلا تحصل الثقة بشهادتهم لاحتمال بنائها على ما ذكرناه.
[فائدة]: إذا شهد على أبيه أنه طلق ضرة أمه ثلاثا فهذه شهادة تنفع أمه(2/31)
وتضر أباه وفي قبولها قولان، والمختار أنها تقبل لضعف التهمة، فإن طبعه يزعه عن نفع أمه بما يضر أباه. وكذلك لو شهد لأحد ابنيه على الآخر؛ لأن الوازع الطبعي قد تعارض وظهر الصدق لضعف التهمة المتعارضة، ولو شهد؛ لأعدائه على آبائه وأبنائه فهذه شهادة متأكدة؛ لأن الظاهر عليها الوازع الطبعي والشرعي؛ لأن طبعه يحثه على نفع أبنائه وآبائه، وعلى ضر خصومه وأعدائه فمنعه وازع الشرع من نفع آبائه وأبنائه وضر أضداده وأعدائه.
[فائدة]: إذا شهد الفاسق المستخفي بفسقه الذي يتعير بنسبته إليه فردت شهادته فأعادها بعد العدالة لم تقبل؛ لأن له غرضا طبعيا في نفي الكذب عن شهادته، وإن لم يكن الفاسق كذلك فأعاد الشهادة فوجهان. فإن تهمته ضعيفة لضعف غرضه، ولو شهد لمكاتبه أو على عدوه فردت شهادته فأعادها بعد العتق والصداقة فوجهان لضعف التهمة.
فإن قيل: متى يحكم بشهادة الفاسق إذا تاب مع كونه مدعيا للتوبة، فإن ركنيها، وهما الندم والعزم من أعمال القلوب؟ قلنا: القاعدة أن ما لا يعلم إلا من جهة الإنسان، فإنا نقبل قوله فيه، فإذا أخبر المكلف عن نيته فيما تعتبر فيه النية، أو أخبر الكافر عن إسلامه، أو المؤمن عن ردته، أو أخبرت المرأة عن حيضها أو أخبر الكتابي عن نيته أو المدين عن دفع دينه، فإنا نقبل ذلك كله وتجري عليه أحكامه؛ لأنا لو لم نقبله لتعطلت مصالح هذا الباب؛ لتعذر إقامة الحجج عليها، ولذلك قبلنا قول المرأة في الإجهاض. وأما التائب فلا يقبل قوله مع توبته حتى نحكم بعدالته، ولا بد أن تمضي مدة طويلة يعلم في مثلها صدقه بملازمته للمروءة واجتناب الكبائر وتنكب الإصرار على الصغائر، فإذا انتهى إلى حد يغلب على الظن عدالته، كما يغلب على الظن عدالة غيره من العدول قبلنا شهادته لإفادتها الظن الذي يفيده قول غيره من العدول، وقد اختلف في مقدار هذه المدة، فقدرها بعضهم بستة(2/32)
أشهر وذلك تحكم، والمختار أن ذلك يختلف باختلاف ما ظهر من التائبين من التلهف والتأسف، والتندم، والإقبال على الطاعات، وحفظ المروآت، والتباعد عن المعاصي والمخالفات، ويدل على ذلك قوله تعالى - في القذفة: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فشرط في قبول الشهادة بعد التوبة الإصلاح، وليس هذا شرطا في التوبة في نفس الأمر، فإن التوبة إذا تحققت بنيت عليها الأحكام في الباطن، وأما في الظاهر فلا بد من اختباره واستبرائه حتى يظهر صدقه في دعواه التوبة، فتعود إليه في الباطن كل ولاية تشترط فيها العدالة، ولا يعود شيء من ذلك في الظاهر إلا بعد استبرائه.
فإن قيل: كيف قال الشافعي رحمه الله توبة القاذف في إكذابه نفسه، مع أن الإكذاب ليس ركنا من أركان التوبة؟ قلنا: قد خفي هذا على كثير من أصحاب الشافعي حتى تأولوه بتأويل لا يصح، والذي ذكره رحمه الله ظاهر عائد إلى الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه، فإنا إنما فسقناه لكونه كاذبا في الظاهر، فلو لم يكذب نفسه لكان مصرا على الذنب الذي شرط الإقلاع عنه، فإذا أكذب نفسه، فقد أقلع عن الذنب الذي فسقناه؛ لأجله.
فإن قيل: إن كان كاذبا فهو فاسق، وإن كان صادقا فهو عاص؛ إذ لا يجوز تعيير من تحقق زناه بالقذف فكيف ينفعه تكذيبه نفسه مع كونه عاصيا بكل حال؟ قلنا: ليس قذفه، وهو صادق كبيرة موجبة لرد شهادته بل ذلك من الصغائر التي لا تحرم الشهادات ولا الروايات.
فإن قيل: إذا كان صادقا فكيف يجوز له أن يكذب نفسه فيما هو صادق فيه؟ قلنا الكذب للحاجة جائز في الشرع، كما يجوز كذب الرجل لزوجته، وفي الإصلاح بين المختصمين، وفي هذا الكذب مصالح.
أحدها: الستر على المقذوف، وتقليل أذيته وفضيحته عند الناس.(2/33)
الثانية: قبول شهادة القاذف بعد الاستبراء.
الثالثة: عوده إلى الولايات التي تشترط فيها العدالة؛ كنظره في أموال أولاده وإنكاحه لمولياته.
الرابعة: تعرضه للولايات الشرعية والمناصب الدينية.
[فائدة] بحث الحاكم عن الشهود عند الريبة والتهمة حق واجب في حقوق الله وحقوق عباده، فإن بحث على حسب إمكانه فلم تزل الريبة والتهمة لزمه القضاء؛ لأنه بذل ما في وسعه، وهذا مشكل عند قيام الشك مع تساوي الطرفين، عند غلبة كذب الشهود على ظنه.
فإن قيل: إذا شهد الوالد لولده أو العدو على عدوه أو الفاسق بما يعلمونه من الحق، والحاكم لا يشعر بالولادة والفسوق والعداوة فهل يأثم الشهود بذلك؟ قلت: هذا مختلف فيه والمختار جوازه؛ لأنهم لم يحملوا الحاكم على باطل، وإنما حملوه على إيصال الحق للمستحق، وإنما ردت شهادة هؤلاء للتهم؛ لأن التهمة مانعة للحاكم من جهة قدحها في ظنه، وههنا لا إثم على الحاكم لتوفر ظنه، ولا على الخصم؛ لأخذ حقه، ولا على الشاهد لمعونته.
فإن قيل: ما تقولون فيمن له حق على إنسان فاستعان على أخذه ببعض الولاة والقضاة فساعداه عليه بغير حجة شرعية، فهل يجوز له أن يستعين بالوالي والقاضي على ذلك مع كون الوالي والقاضي آثمين في أخذهما الحق بغير حجة شرعية؟ قلت: أما الوالي والقاضي فآثمان. وأما المستعين بهما فينبغي أن ينظر فيه إلى الحق المستعان عليه وله رتب.
أحدها: أن يكون الحق جارية استحل غاصبها بضعها فلا أرى بأسا بالاستعانة بالوالي والقاضي، وإن عصيا، بل ذلك واجب عند القدرة عليه؛ لأن مفسدة معصية الوالي والقاضي دون مفسدة الغصب والزنا، وكذلك لو غصب إنسان على زوجته فاستعان على تخليصها بالوالي والقاضي فلا إثم عليه مع كون القاضي(2/34)
والوالي عاصيين؛ لأن مفسدة بقائها مع من يزني بها أعظم من مفسدة مساعدة الوالي والقاضي بغير حجة شرعية. وكذلك لو استعان بالآحاد وأعانوه بمجرد دعواه فإنهم يأثمون بذلك ولا يأثم المستعين بهم؛ لأن مفسدة مخالفتهم الشرع في مثل هذا دون المفسدتين المذكورتين.
الرتبة الثانية: إذا استعان بالولاة أو بالقضاة أو بالآحاد على رد المغصوب من غاصبه أو المجحود من جاحده فأعانوه على تخليص ذلك من غير حجة شرعية مثل أن غصب إنسان دابته وثيابه وسلاحه ومنزله وماعونه أو جحده ذلك من غير غصب فاستعان بهم فأعانوه فإنهم يأثمون على إعانته بغير حجة شرعية ولا إثم عليه في ذلك؛ لأن مفسدة بقاء ذلك بيد للغاصب والجاحد أعظم من مفسدة عصيانهم؛ لأن الذي صدر منهم مجرد معصية لا مفسدة فيها، والذي صدر من الغاصب والجاحد عصيان مع تحقق المفسدة، وقد يجوز إجابة العاصي على معصيته لا من جهة كونها معصية بل لما تضمنته الإعانة من المصلحة كما ذكرناه في فداء الأسرى.
الرتبة الثالثة: أن يكون الحق حقيرا ككسرة أو ثمرة فهذا لا تجوز الاستعانة على تخليصه بغير حجة شرعية؛ لأن معصية مفسدة المساعد عليه تربى على مفسدة فواته.
[فائدة] الغرض من نصب القضاة إنصاف المظلومين من الظالمين، وتوفير الحقوق على المستحقين، والنظر لمن يتعذر نظره لنفسه كالصبيان والمجانين والمبذرين والغائبين، فلذلك كان سلوك أقرب الطرق في القضاء واجبا على الفور؛ لما فيه من إيصال الحقوق إلى المستحقين ودرء المفسدة عن الظالمين والمبطلين، وقد تقدم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على الفور، وأحد الخصمين ههنا ظالم أو مبطل وتجب إزالة الظلم والباطل على الفور وإن لم يكن آثما بجهله؛ لأن الغرض إنما هو دفع المفاسد سواء كان مرتكبا آثما أو غير آثم. وكذلك يجب القضاء على الغائب لما في تأخيره إلى حضوره من استمرار المفسدة؛ لأن الدعوة إن كانت بطلاق تضررت المرأة ببقائها في قيود نكاح(2/35)
مرتفع، ولم تتمكن من التزوج ولا مما يتمكن منه الخليات، وإن كانت بعتاق تضررت الأمة والعبد بإجراء أحكام الرق عليهما إلى حضور الغائب، وإن كانت الدعوى بعين تضرر ربها بالحيلولة بينه وبينها، وإن كانت بدين تضرر ربه بتأخير قبضه وعدم الارتفاق به، ولا فرق بين الغائب والحاضر في إقامة الحجج، فإن الظن المستفاد في إقامة الحجج على الغائب كالظن المستفاد من إقامتها على الحاضر.
فإن قيل: الحاضر يناضل عن نفسه بالمعارضات، والجرح بخلاف الغائب. قلنا: لا يجوز ترك ما وجب ظهوره بحجة شرعية لاحتمال الأصل وعدمه، والحاكم يناضل عن الغائب على حسب الإمكان، ولذلك يحلف المدعي، ولا يجوز إهمال الحجج الشرعية لمجرد الأوهام والظنون الضعيفة؛ لما ذكرناه من تقديم الظن القوي على الظن الضعيف في سائر الأحكام.
فإن قيل: ما المعنى بالظالم والمبطل في هذا الباب؟ قلنا: أما الظالم فهو ظالم بأنه عاص لله بجحوده وإنكاره ومنع الحق من مستحقه، فيجب على الحاكم سلوك أقرب الطرق في دفع هذه المفسدة عن المستحق، ولا سيما إذا تعلقت الدعاوى بالأبضاع؛ ولأن مطل الغني بالحقوق التي يقدر على دفعها ظلم، ولا تجوز الإعانة على الظلم، وقد قال عليه السلام: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وأراد بنصر الظالم أن يزعه عن الظلم ويكفه عنه كما فسره عليه السلام. وأما المبطل فهو الذي يجحد ما يجهل وجوبه من الحقوق الواجبة في نفس الأمر فهذا لا إثم عليه، ولكنه يجب إيصال الحق إلى مستحقه على الفور، وإن لم يكن المستحق عليه آثما دفعا لمفسدة تأخر الحق عن مستحقه ولا سيما إذا ادعت الزوجة الطلاق والأمة العتاق فأنكرهما، وكان وكيله قد طلق الزوجة وأعتق الأمة، وهو لا يشعر. وكذلك إذا أخرج وكيله شيئا من الأعيان والمنافع عن ملكه فأنكره ظنا أن الوكيل ما تصرف فيه. وكذلك لو زوجه أبوه امرأة في صغره فادعت عليه حقوق النكاح في كبره فأنكرها بناء على جهله بالنكاح فيجب(2/36)
سلوك أقرب الطرق في إيصالها وفي حقوق النكاح فوجوبها على الصحة، فإن المطل بالحق بعد طلبه مفسدة محرمة على من علمها.
[فائدة] الظن المستفاد من إخبار أكابر الصحابة آكد من الظن المستفاد من غيرهم من عدول الأزمان بعدهم، ولا تشترط المساواة بينهم وبين عدول سائر القرون، فإن ذلك يؤدي إلى إغلاق باب الشهادة والرواية، بل الموجب لقبول شهادة الصحابة إنما هو مساواتهم إيانا في حفظ المروءة، والانكفاف عن الكبائر، وعن الإصرار على الصغائر والزيادة مؤكدة ليست شرطا في القبول. وكذلك القول في العدالة المشروطة في القضاة والخلفاء والولاة، إذ لو شرطت الزيادة على ذلك لفاتت المصالح المتعلقة بالقضاة والخلفاء وغيرهما من الولاة، بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة بل قدمنا أمثل الفسقة فأمثلهم، وأصلحهم للقيام بذلك فأصلحهم، بناء على أنا إذا أمرنا أتينا منه بما قدرنا عليه ويسقط عنا ما عجزنا عنه، ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، وقد قال شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فعلق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة، فكذلك المصالح كلها.
ولمثل هذا قلنا: إذا عم الحرام بحيث لا يوجد حلال فلا يجب على الناس الصبر إلى تحقق الضرورة، لما يؤدي إليه من الضرر العام.
[فائدة]: إنما شرط العدد في الشهادة؛ لأن الخبر الصادر من اثنين آكد ظنا وأقوى حسبانا من الخبر المستفاد من قول الواحد، وكلما كثر المخبرون كثر الظن بكثرة عددهم إلى أن ينتهي خبرهم إلى الاعتقاد، فإن تكرر بعد حصول الاعتقاد انتهى إلى إفادة العلم، وهذا معلوم باطراد العادات فيما يندرج فيه من الخبر المتواتر، ويجب على هذا أن تتوارد الشهادتان على شيء متحد. فإذا شهد واحد على قتل أو قبض أو غصب أو قذف أو بيع أو إجارة في يوم الأحد، وشهد آخر(2/37)
على وقوع ذلك يوم الاثنين لم يثبت؛ لأن الشهادتين لم يتعلقا بشيء واحد حتى يتأكد الظن، ومن خالف في ذلك فقد أخطأ؛ لأن الشهادتين لم يتواردا على شيء واحد، فإن حكم بذلك كان حكما بشاهد واحد، ولا سيما في القتل والإتلاف، فإن الشهادتين متكاذبتان فلو حكم بذلك لكان حكما بالشك، وإن اختلف تاريخ الإقرار. فإن كان الإقرار بشيئين مختلفين لم يحكم بالشهادة إذ لم يقم في كل واحد من الإقرارين إلا شاهد واحد، وإن كان الإقرار بشيء واحد فالأصح ثبوت المقر به، وفيه إشكال من جهة أن الشهادتين لم تتواردا على إقرار واحد، فإن إقرار يوم الأحد لم يشهد به إلا واحدا وكذلك إقرار يوم الاثنين لم يشهد به إلا واحدا فلم تتوارد الشهادتان على إقرار واحد، فيتأكد الظن بانضمام إحدى الشهادتين إلى الأخرى، ولكن لما اتحد المقر به وقع القرار عليه، وهذا لا يزيل الإشكال؛ لأن الشاهدين لم يشهدا بالمقر به حتى يقال تواردت الشهادتان عليه، وإنما شهدا بلفظ، وليس لفظه عين المشهود به، فإن الخبر يغاير المخبر. وقد يكون المقر كاذبا في إقراره وبحثه قول من منع الثبوت بمثل هذا.
[فائدة] ليس قول الحاكم يثبت عندي حكما به إلا أن يقول الحاكم إذا أطلقت لفظ الثبوت فإنما أعني به الحكم بالحق الذي يثبت عندي، فإن لم يفعل ذلك، فمن قضى بأن لفظ الثبوت إخبار عن الحكم كلفظ القضاء والحكم فقد أخطأ؛ لأن اللفظة المترددة بين أمرين إذا صدرت من حكم أو غيره لم يجب حملها على أحد الأمرين إلا أن تكون ظاهرة فيه لا يفهم منه عند الإطلاق غيرها. ولفظ الثبوت قد يعبر به بعض الناس عن الحكم ويعبر به الأكثرون عن غير الحكم، فمن أين لمن لم يقض بأن مطلق هذه اللفظة إنما أطلقها بإزاء الحكم، وحمل المجمل على أحد محتمليه المتساويين غير جائز فما الظن بحمله على الاحتمال المرجوح، ولا وقفة عندي في نقض حكم من يحكم بأن الإثبات(2/38)
حكم، لمخالفته القاعدة المجمع عليها من غير دليل في منع حمل اللفظة على أحد معنييها المتساويين، أو على المعنى المرجوح، والقوم يسمعون ألفاظا لم يعرفوا معانيها ولا مأخذها فيختارون بلا علم. بل لا يفهمون حقيقة الخلاف في ذلك.
[فائدة]: لا يتغير حكم الباطن بحكم الحاكم في فسخ ولا عقد، ولا في غيرهما إلا أن يقع الحكم في مجتهد فيه، ففي تغير الباطن فيه خلاف يفرق في أن له بين الحكم على العامي، والحكم على المجتهد، إذ ليس اجتهاد الحاكم أولى من اجتهاد المحكوم عليه.
[فائدة] قد أقام الشافعي رحمه الله قول الحاكم: ثبت عندي مقام قول اثنين، وقد يكون كل واحد منهما أوثق منه وأعدل، ويغلب الظن بقول أحدهما أكثر مما يغلب بقوله، وذلك؛ لأجل الحاجة.
مثاله: إذا جعلنا الثبوت نقلا للشهادة فإنا نقيم قول الحاكم: ثبت عندي مقام قول شهود الواقعة.
[فائدة] إذا ادعى رجل رق إنسان يستسخره استسخار العبد وينطاع انطياع العبد، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إذا كان بالغا، وإن صغيرا فقد جعله الشافعي كالثبوت، وهذا مشكل؛ لأن الأصل في الثبات الملك، والأصل والغالب في الناس الحرية، وإنما جعل القول قول البالغ؛ لأن الأصل والغلبة الدالين على حريته لا يعارضهما مجرد الاستسخار فضلا عن أن يرجح عليهما، وهي موجودان في حق الصبي وجودهما في حق البالغ فعلى هذا لا ينبغي للحاكم أن يلتفت إلى قول المدعي؛ لرجحان جانب الصبا بالأصل والغلبة على مجرد استسخاره، وإن لم يثبت عند الحاكم استسخار لم يجز الحكم بجعل الصبي كالثوب، إذ لا معارض لرجحان جانبه بالأصل والغلبة، فكيف نحكم له بمجرد دعواه مع رجحان جانب المدعى عليه مع وجهين لا معارض لواحد منهما ؟،. والعجب ممن لا يجعل القول قول الصبي بعد البلوغ مع الرجحان(2/39)
المذكور؛ لأن من جعله كالثوب يحتج بأنه لا عبرة بقوله، فإذا صار قوله معتبرا فكيف نجزم برقه مع ظهور صدقه وكذب غريمه في دعواه، وهذا مما لا أتوقف فيه، والمسألة مشكلة، وكذلك إقامة قول الحاكم وحده مقام قول شاهدين، بل مقام قول أربعة شهود، وليست المسألة مشكلة إجماعية، فإن من جعل الثبوت حكما نفذ قول الحاكم؛ لأنه إنشاء يقدر عليه، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإقرار ومالك يختلف في إقرار الحاكم إذا منع القضاء بعلمه؛ لأن التهمة موجودة في قوله حكمت مثلها في غير ذلك من أحكامه، ولا شك أن إنشاء تصرف في حق من حقوقه فإنه يملك الإقرار به، ويملك المجبر الإقرار به ويملك المجبر بتزويج المجبرة لظهور صدقه ولتعلق حقه؛ بخلاف إقرار الأخ المأذون له في النكاح. ولو ملك إنشاء تصرف بالتوكيل ثم اختلف الموكل والوكيل في إنشائه فيه خلاف، إذ الأصل عدم الإنشاء وليس الحق عليه، وهذا ظاهر.
[فائدة] الظن المستفاد ممن يخبر عن الواقعة عن سماع أو مشاهدة أقوى من الظن المستفاد ممن يخبر بذلك عمن شهد الواقعة، أجرى الله العادة بذلك، فإن العدل إذا قال أخبرني فلان العدل أنه رأى فلانا قتل فلانا فإنا نظن صدقه في ذلك ظنا منحطا عن الظن المستفاد ممن يخبر أنه رآه قتله. ولهذا لا تقبل شهادة بشهود الفرع إلا عند تعذر حضور شهود الأصل أو عند المشقة في حضورهم، إذ لا يجتزئ بالظن الضعيف مع التمكن من الظن القوي في باب الشهادة إذا وجد النصاب، بخلاف مثله في الرواية؛ لأن التوسع في باب الرواية مقصود بخلاف الشهادات.
[فائدة]: إذا أمر القاضي أو الوالي بما هو محبوب للمأمور به أنه ليس بواجب عليه كي لا يغره بأنه واجب، فإنه إذا علم بندبه فقد لا تسخو به نفسه.
[فائدة] لو حكم الحاكم في محل يسوغ فيه الاجتهاد، ثم تغير اجتهاده فحكم بما أدى إليه اجتهاده ثانيا، كان ذلك قطعا لما حكم به أولا، ولا يبطل الأول بذلك بل(2/40)
ينقطع من حين تغير الاجتهاد، ويبقى الأول على ما كان عليه، كما تنتقض الطهارة عند الناقض وتنقطع أحكامها حينئذ، ولا تبطل فيما تقدم على الناقض. وكذلك فسخ المعاملات، فقولنا انتقضت الوضوء وانفسخ البيع وانتقض العهد، كل ذلك من مجاز الحذف أصله انتقض أحكام الوضوء المبنية عليه، وانفسخت أحكام البيع المبنية عليه. وانتقضت أحكام العهد المبنية عليه؛ لأن الوضوء والبيع والعهد حقائق قد دخلت في الوجود لا يمكن نقضها ولا رفعها.(2/41)
فصل: في بيان أدلة الأحكام و هي ضربان
...
فصل: في بيان أدلة الأحكام وهي ضربان
أحدهما: ما يدل على شرعيتها. والثاني: ما يدل على وقوعها مستندة إلى أسبابها: فالأسباب مثبتة، والأدلة مظهرة.
فأما أدلة شرعية الأحكام: فالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح، والاستدلال المعتبر.
وأما أدلة وقوعها ووقوع أسبابها وشرائطها وموانعها وأوقاتها وإحلالها فضربان، أحدهما: ما يتحقق، ويعلم أسباب وقوعه كالعلم بطلوع الفجر الذي هو سبب لصلاة الصبح وتوابعها من الأذان والإقامة والسنة المقدمة على الصلاة وكالعلم بزوال الشمس الذي هو سبب لوجود الظهر وتوابعها، وكذلك مصير ظل الشمس مثله، وغروب الشمس، ومغيب الشفق الأحمر وهي أسباب لوجوب العصر والمغرب والعشاء وتوابعها، وكذلك الأسباب المرتبات كالقتل والقطع، وكذلك المسموعات كالطلاق والعتاق وعقود المعاوضات.
الضرب الثاني: ما يظن تحقق أسبابها ووقوعه بظنون متفاوتة في القوة والضعف، وهي أنواع: منها إقرار المقرين، ثم شهادة أربع من المعدلين، ثم شهادة رجلين من المؤمنين، ثم شهادة رجل وامرأتين من الصالحين، ثم شهادة عدل واحد مع اليمين.
ومنها شهادة أربع نسوة بما يخفى غالبا على الرجال المعدلين.(2/41)
ومنها الأيمان الواقعة بعد نكول الناكلين.
ومنها أيمان القسامة مع اللوث على القائلين.
ومنها أيمان اللعان على القاذفين.
وأما يمين المدعى عليه وأيمان لعان النساء فدافعة للمدعى به غير موجبة له. ومنها خبر الواحد في دخول الأوقات وتعريف جهات القبلة، وتعريف ما وقع في الأواني من النجاسات.
ومنها: تقويم المقومين، ومسح الماسحين، وقسمة القاسمين، وخرص الخارصين. ومنها استلحاق المستلحقين، وقيافة القائفين، والانتساب عند عدم القيافة إلى الوالدين.
ومنها زفاف العروس إلى بعلها مع إخبارها بأنها زوجته أو مع إخبار غيرها من النساء، ومنها إخبار المرأة عن حيضها وطهرها، ومنها إخبار المكلف عما في يده أنه ملكه، ومنها إخباره عن تحقق ما لا يعلم إلا من جهته كالثبات في الديون، وإخبار المأذون والولي عما يعاملان به للمولى عليه، ومنها وصف اللقطة، وتبيين عفاصها ووكائها فإنه مجوز لدفعها، ومنها دلالة الأيدي على استحقاق المستحقين. ومنها دلالة الأيدي والتصرف إلى إملاك المالكين
ومنها وصف اللقطة دلالة الاستفاضة على استحقاق ما استفاضت.
ومنها دلالة الدار على إسلام اللقيط، ومنها دلالة وصف الأبنية وأشكالها على استحقاق المستحقين. ومنها دلالة الاستطراق على اشتراك أهل المحلة فيما يستطرقون فيه إذا كان مفسدا من أحد طرفيه. ومنها دلالة الأجنحة والميازيب والقنى والجداول والسواقي والأنهار على استحقاق ما اتصلت بملكه.
ومنها معاملة من يجهل رشده وحريته، وأكل طعامه والحكم له وعليه بناء على أن الغالب في الناس الحرية. ولو توقفت المعاملات على إثبات الرشد والحرية لما عاملنا كثيرا من التجار الواردين، ولا من أهل الأسواق المقيمين، ولا(2/42)
من أهل الصناع المتربصين لاستعمال المستعملين كالحاكة والأساكفة والخياطين والنجارين، ولما جاز لسائل وفقير وعالم أن يتناولوا الزكاة والصدقة إلا ممن ثبت رشده وحريته عندهم من الباذلين، ولا يخفى ما في هذا من العسر الشديد المؤدي إلى تعطيل المعاملات والمحاكمات والتبرعات، وذلك على خلاف إجماع المسلمين. وهذا ما غلب فيه الظاهر على استصحاب الأصل المقطوع به، فإنا نقطع أن كل أحد إن كان تحت الحجر إذ هو صغير، وقد زال حجر الصبي بالبلوغ، فاحتمل بعد زواله أن يخلفه الرشد، وجاز أن يخلفه حجر السفه، وليس أحدهما أولى من الآخر، فيحجر على من قرب عهده بالبلوغ للشك في الرشد، بل لقلة العفة على من قرب عهده ببلوغه، فإذا انتهى إلى حد يغلب فيه الرشد عند الناس حكم برشده لغلبة الرشد عليه، ولما ذكرته من إجماع المسلمين على معاملة المجهولين البالغين إلى حدود الرشد في الغالب. ومنها استصحاب الأصول كمن لزمه طهارة أو صلاة أو زكاة أو حج أو عمرة أو دين لآدمي ثم شك في أداء ركن من أركانه أو شرط من شرائطه فإنه يلزمه القيام به؛ لأن الأصل بقاؤه في عهدته، ولو شك هل لزمه شيء من ذلك أو لزمه دين في ذمته، أو عين في ذمته، أو شك في عتق أمته أو طلاق زوجته، أو شك في نذر أو شيء مما ذكرناه فلا يلزمه شيء من ذلك؛ لأن الأصل براءة ذمته، فإن الله خلق عباده كلهم أبرياء الذمم والأجساد من حقوقه وحقوق العباد إلى أن تتحقق أسباب وجوبها فهذه أدلة مفيدة لظنون متفاوتة في قوتها وضعفها أثبت ضعيفها لمسيس الحاجة إليه فاكتفى في الاستفاضة في السيب إلى الإبانة إذ لا سبيل إلى معرفته، ولو ثبتت الاستفاضة لانسد باب إثبات الأنساب، وإنما اكتفى في الأموال ومنافع الأموال بالشاهد واليمين؛ لكثرة التصرف بينهما والارتفاق في الظعن والإقامة، فلو شرط فيهما عدد الشهود لتعذر ذلك في كثير من الأحوال، إذ لا يتيسر العدد في كل مكان من الحضر أو السفر واكتفى في النساء(2/43)
المجردات فيما لا يطلع عليه الرجال إذ لو لم نكتف بهن لغلب ضياع ذلك الحق وفواته، وقد ذهب بعض العلماء إلى شرط الأربعة في القتل؛ لأنه أعظم من الزنا، وليس الأمر كما ظنه بل الغرض من كثرة العدد في الزنا ستر الأعراض، ودفع العار عن العشائر والقبائل فضيق الشرع طريق إثباته دفعا لمفاسده إذ لا يتيسر حضور أربعة من العدول يشاهدون زنا الزانين، ولا عار على القاتلين، ولا على عشائرهم في الغالب بل قد يتبجج كثير من الناس بقتل الأعداء وتتمدح به عشائرهم. وذلك كثير مشهور في أسفار العرب والناس كلهم حراس على كتم الفواحش كالزنا واللواط، وقد عيب على امرئ القيس ذكره مقدم الزنا في بعض قصائده ولا يتصور كذب العلم وإخلافه، والظن يتصور الكذب والإخلاف. إلا أن الصدق والوفاق غالب عليه، ولذلك اعتبره الشرع واتبعه العقلاء في التصرفات الدنيوية، فإن الصدق الظن المستفاد مع جميع الأدلة المذكورة، فقد حصل مقصود الشرع من جلب المصالح ودرء المفاسد ظاهرا وباطنا، وإن كذب الظن فقد فاتت المصالح وتحققت المفاسد ولم يحصل مقصود الشرع من ذلك، ويعفى عن كذبه في حق العاملين به لجهلهم بكذبه، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها وطاقتها.
فإن قيل: ما تقولون إذا تعارضت الأدلة؟ قلنا: أما أدلة نصب الشريعة ووضع الأحكام فالأصح أن المجتهد لا يتخير بين الدليلين بل يتوقف إلى أن يظهر له ترجح من نسخ وغيره، فإن بذل جهده فلم يظفر بمرجح، ورجع حينئذ إلى القياس، وإذا ليس أحد الدليلين بأولى من الآخر، ولا يتصور تعارض علمين، ولا تعارض ظنين؛ لأن ذلك مؤد إلى الجمع بين النفي والإثبات في شيء واحد في زمن واحد، وإنما يقع التعارض بين أدلتها التي ذكرناها، فتعارض الشهادتان والخبران والأصلان والظاهران. وكذلك يتعارض الأصل والظاهر، وتعارضت الأدلة المفيدة للظنون، فإن كان التعارض بين ظاهرين كشهادتين متناقضتين أو خبرين متناقضين فإن كانا متساويين من كل وجه وجب التوقيف؛(2/44)
لانتفاء الظن الذي هو مستند الأحكام، إذ لا يجوز الحكم في الشرع إلا بعلم أو اعتقاد، فإذا تعارض دليلان ظنيان فإن وجدنا من أنفسنا الظن المستند إلى أن أحد الدليلين حكمنا به. وإن وجدنا الشك والتردد على سواء وجب التوقف، وإنما يجب الظن عند التعارض بين أحدهما؛ لأن الظن المستفاد منه عند انفراده أقوى من الظن المستفاد من معارضه في حال الانفراد.
مثال ذلك اليد: ظاهرة في استحقاق ذي اليد، والبينة والإقرار واليمين المردودة مرجحة؛ لقوة إفادتها الظن، فإذا تعارضت بينتان ولم نجد ظنا لتساويهما من كل وجه، فقد اختلف في ذلك، والأصح ما ذكرناه من سقوطهما، فإن القرع بينهما لا يفيد رجحان أحدهما بالقرعة، وإذا لم يرجح أحدهما حكمنا بالشك، والحكم بالشك غير جائز، والقرعة في الشرع لتعيين أحد المتساويين، وههنا لا يعين رجحانه، والشك بعد وجودها مثله قبل وجودها، إذ لم يفد رجحانا في الظن، ولا بيانا فيه، ومن قسم بين المتداعيين فقد خالف موجب البينتين في نصف ما شهدت به؛ لأن كل واحدة منهما شاهدة بالجميع، ولا يجوز أن يجعل تعارض البينتين المتساويتين كاجتماع اليدين على العينين؛ لأن كل واحدة من اليدين مفيدة للظن غير مكذبة لصاحبتهما، والبينتان ههنا متكاذبتان لا يحصل من واحدة منهما ظن، والبينة ما فيه بيان. فإذا لم يكن في كل واحدة منهما بيان كان الحكم بغير بينة على خلاف الشرع، ومن ذهب إلى وقف البينتين إلى إصلاح الخصمين فما أبعد، ولكنه يؤدي إلى تعطيل الحكم إلى اتفاق الاصطلاح.(2/45)
فصل: في بيان تعارض أصل و ظاهر
...
فصل: في بيان تعارض أصل وظاهر
وقد يتعارض أصل وظاهر، ويختلف العلماء في ترجيح أحدهما لا من جهة كونه استصحابا بل لمرجح ينضم إليه من خارج، ولذلك أمثلة:(2/45)
أحدها: طين الشارع في البلدان في نجاسته قولان: أحدهما أنه نجس لغلبة النجاسة عليه. والثاني: أنه طاهر؛ لأن الأصل طهارته.
المثال الثاني: المقبرة القديمة المشكوك في نبشها في تحريم الصلاة فيها قولان: أحدهما: التحريم؛ لأن الغالب على القبور النبش، والثاني: يجوز؛ لأن الأصل الطهارة.
المثال الثالث: في الصلاة في ثياب من يغلب عليه النجاسة بمخامرة النجاسة من المسلمين والمشركين قولان: أحدهما: لا يجوز لغلبة النجاسة عليها. والثاني: يجوز؛ لأن الأصل الطهارة.
المثال الرابع: إذا اختلف الزوجان في النفقة مع اجتماعهما وتلازمهما ومشاهدة ما ينقله الزوج إلى مسكنهما من الأطعمة والأشربة. فالشافعي يجعل القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم قبضها كسائر الديون، ومالك يجعل القول قول الزوج؛ لأنه الغالب في العادة، وقوله ظاهر، والفرق بين النفقة وسائر الديون أن العادة الغالبة مثيرة للظن بصدق الزوج بخلاف الاستصحاب في الديون فإنه لا معارض له، ولو حصل له معارض كالشاهد واليمين لأسقطناه، مع أن الظن المستفاد من الشاهد واليمين أضعف من الظن المستفاد من العادة المطردة في إنفاق الأزواج على نسائهم مع المخالطة الدائمة، نعم لو اختلفنا في نفقة يوم أو يومين لم يبعد ما قاله الشافعي رحمه الله.
المثال الخامس: ما إذا ادعى الجاني شلل عضو المجني عليه، وادعى المجني عليه سلامته فقولان: أحدهما القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته والثاني: القول قول المجني عليه؛ لأن الظاهر الغالب من أعضاء الناس السلامة، وكذلك إذا اختلف الجاني والمجني عليه في وجود عضو من أعضاء المجني عليه فإن الظاهر وجوده للغلبة، والأصل براءة ذمة الجاني في ذمة ذلك العضو المختلف فيه ومن قصاصه.(2/46)
فصل: في بيان الأصلين
...
فصل: في بيان الأصلين
وقد يتعارض أصلان ويختلف العلماء فيهما ولذلك مثالان:
أحدهما: إذا قد ملفوفا نصفين فزعم الولي أنه حي وطلب القصاص وزعم القاد أنه ميت، فعلى قول: القول قول القاد؛ لأن الأصل براءة ذمته من الدية وبدنه من القصاص. وعلى قول، قول الولي؛ لأن الأصل بقاء حياة المقدود، وقيل إن كان ملفوفا في ثياب الأحياء فالقول قول الأولياء، وإن كان ملفوفا في ثياب الأموات فالقول قول الأجنياء.
المثال الثاني: إذا غاب العبد وانقطعت أخباره ففي وجوب فطرته قولان: أحدهما: تجب؛ لأن الأصل بقاء حياته. والثاني: لا تجب؛ لأن الأصل براءة ذمة السيد عن فطرته.(2/47)
فصل: في تعارض ظاهرين
...
فصل: في تعارض ظاهرين
قد يتعارض ظاهران، ويختلف العلماء فيهما ولذلك مثالان:
أحدهما: إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فادعاه كل واحد منهما أو ادعى أحدهما الاشتراك في الجميع فإن الشافعي رحمه الله يسوي بينهما نظرا إلى الظاهر المستفاد من اليد، وبعض العلماء يخص كل واحد منهما بما يليق به نظرا إلى الظاهر المستفاد من العادة الغالبة، وهذا مذهب ظاهر متجه، فإذا كان الزوج جنديا فادعى أنه شريك المرأة في مغازلها وحقاقها ومقانعها، وادعت المرأة أنها شريكته في خيله وسلاحه وأقبيته ومناطقه وجبته وخوذته وبرديته فإنا نجد في أنفسنا ظنا لا يمكننا دفعه أن ما يختص بالأجناد للزوج، وما يختص بالنساء للمرأة. وكذلك لو كان الزوج فقيها فنازعته في كتب الفقه، أو مقرئا فنازعته في كتب القراءة، أو طبيبا فنازعته في كتب الطب، أو محدثا فنازعته في كتب الحديث، أو حجاما فنازعته في آلة الحجامة، أو نساجا فنازعته في آلة النسج، أو بيطارا فنازعته في آلة البيطرة، ونازعها هؤلاء فيما يختص بالنساء من(2/47)
المكاحل والمغازل والحقاق، فإن كل واحد يجد في نفسه ظنا لا يمكنه دفعه عن نفسه بأن ما يختص بالأزواج المذكورين لهم، وما يختص بالنساء لهن، وما أبعد المشاركة بين الجندي وامرأته في حقيهما.
المثال الثاني: إذا تأمل الناس الهلال فشهد برؤيته عدلان منهم، ولم يتفوه غيرهما برؤيته، فقد اختلف العلماء فيه، فسمع الشافعي رحمه الله شهادتهما وظهور صدقهما بما ثبت من عدالتهما الوازعة عن الكذب، ورأى بعض العلماء رد شهادتهما؛ لأن العادة تكذبهما، فإن العادة أن الجمع الكثير إذا رأوا الهلال شهروه وتفوهوا برؤيته، فإذا لم يتفوه برؤيته إلا الشاهدان دل الظاهر المستفاد من العادة على كذبهما أو على ضعف الظن المستفاد من قولهما، فهذه كلها من الدلائل على ثبوت الأحكام ولا يكذب شيء من هذه الدلائل إلا نادرا، فلذلك اعتمد الشرع عليها كي لا تفوت مصالح كثيرة غالبة خوفا من وقوع مفاسد قليلة نادرة.
[فائدة] قد ذكرنا أنه يحكم بمجرد الظهور أو بمجرد الاستصحاب، ولا نجتزي في بعض الصور بمجرد الظهور ولا بمجرد الاستصحاب حتى نضم إليهما ظنا مستفادا من سبب آخر. ولذلك أمثلة:
أحدها لن نجمع بين ظنين مستفادين ظاهرين كتحليف المدعى عليه فيما هو في يده، فإن يده دالة على صدقه، وكذلك يمينه ظاهرة في الدلالة على صدقه، إذ الغالب ممن يعرف الرب - سبحانه وتعالى - أنه لا يتجرأ على الحلف به كاذبا.
المثال الثاني: تحليف المدعي بعد نكول خصمه حتى نضم إليه الظن المستفاد من يمينه.
المثال الثالث: لا نجتزي بالظن المستفاد من استصحاب الأصل حتى ينضم إليه ظن مستفاد من ظاهر كتحليف المدعى عليه بحق يتعلق بذمته أو ببدنه؛ فإن الأصل براءته منهما، ولا نكتفي بالظن المستفاد منه حتى نضم إليه المستفاد من يمينه.(2/48)
المثال الرابع: من اشتبه عليه إناء طاهر بإناء نجس، أو ثوب طاهر بثوب نجس فأراد استعمال أحدهما بناء على الاستصحاب لم يجز، فإنا لا نحكم بالظن المستفاد من الاستصحاب حتى نضم إليه الظن المستفاد من الاجتهاد، ونكتفي في القبلة بالظن المستفاد من الاجتهاد؛ لتعذر ضم الاستصحاب إليه، إذ ليس في الجهات جهة يقال: الأصل وجوب القبلة فيها. وكذلك الاجتهاد في أحكام الشرع نكتفي فيه بمجرد الظن المستفاد من الاجتهاد؛ لتعذر الاستصحاب. ولو أثبته ماء وبول فلا اجتهاد إذ لا نقنع في هذا الباب بمجرد الظن المستفاد من الاجتهاد وفيه وجه، والفارق تعذر ذلك في القبلة والأحكام، وتيسره في الاجتهاد بين الماء الطاهر والنجس. وأما الاجتهاد في دخول رمضان ودخول أوقات الصلاة فإنه مستفاد من مجرد الظاهر دون أصل يستصحب.
فإن قيل: هل يبنى إنكار المنكر على الظنون كما ذكرتموه؟ قلنا: نعم الإنكار مبني على الظنون كغيره، فإنا لو رأينا إنسانا يسلب ثياب إنسان لوجب علينا الإنكار عليه بناء على الظن المستفاد من ظاهر يد المسلوب. وكذلك لو رأيناه يجر امرأة إلى منزله يزعم أنها زوجته أو أمته وهي تنكر ذلك لوجب علينا الإنكار عليه؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه. وكذلك لو رأيناه يقتل إنسانا يزعم أنه كافر حربي دخل إلى دار الإسلام بغير أمان وهو يكذبه في ذلك لوجب علينا الإنكار؛ لأن الله خلق عباده حنفاء، والدار دالة على إسلام أهلها لغلبة المسلمين عليها، فإذا أصابت ظنوننا في ذلك فقد قمنا بالمصالح التي أوجب الله علينا القيام بها وأجرنا عليها إذا قصدنا بذلك وجه الله - تعالى -. وإن اختلفت ظنوننا أثبنا على قصودنا وكنا معذورين في ذلك كما عذر موسى عليه السلام في إنكاره على الخضر خرق السفينة وقتل الغلام وبالغ في إنكاره بقسمه بالله في قوليه: {قَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}. ولو اطلع موسى على ما في خرق السفينة من المصلحة، وعلى ما في قتل الغلام من المصلحة، وعلى ما في ترك السفينة من(2/49)
مفسدة غصبها، وعلى ما في إبقاء الغلام من كفر أبويه وطغيانهما لما أنكر عليه ولساعده في ذلك وصوب رأيه، لما في ذلك من القربة إلى الله - عز وجل -، ولو وقع مثل ذلك في زماننا هذا لكان حكمه كذلك. وله أمثلة كثيرة:
منها: أن تكون السفينة ليتيم يخاف عليها الوصي أن تغصب وعلم الوصي أنه لو خرقها لزهد الغاصب عن غصبها، فإنه يلزمه خرقها حفظا للأكثر بتفويت الأقل، فإن حفظ الكثير الخطير بتفويت القليل الحقير من أحسن التصرفات وقد قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
ومنها: لو هرب من الإمام من تحتم قتله فأمر الإمام من يلحقه ليقتله فاستغاث بنا لنمنعه من قتله فإغاثته واجبة علينا إذا لم نعلم بالواقعة، بل لو لم يندفع الهام بقتله إلا بالقتل لقتلناه. ولو اطلعنا على الباطن لساعدنا على ذلك، وكان الأجر في مساعدته؛ لأن ذلك هو الواجب عند الله - عز وجل –
فإن قيل: كيف جوز الشرع اللعان من الجانبين مع العلم بأن أحدهما كاذب في أيمانه ولعانه؟ قلنا: إنما جوز ذلك؛ لأن مع كل واحد منهما ظاهرا يقتضي تصديقه، فإن الظاهر من حال الزوج الصدق في قذفها إذ الغالب أن الأزواج لا يقذفون أزواجهم، والظاهر من حال المرأة الصدق؛ لأن الأصل عدم زناها.
ومثل ذلك: ما لو قال رجل إن كان هذا الطائر غرابا فزوجتي طالق أو عبدي حر أو أمتي حرة؛ وقال آخر إن لم يكن غرابا فزوجتي طالق أو عبدي حر أو أمتي حرة، ولم نعلم حال الطائر فإنا نقر كل واحد منهما على ما كان عليه قبل التعليق؛ لأن الأصل في حق كل واحد منهما ملكه البضع ورقبة الرقيق فأشبه اللعان، ولو انتقل رقيق أحدهما إلى الآخر لقطعنا بالحجر عليه فيهما؛ لتحقق المفسدة في حقه، وإنما عمل بالظنون في موارد الشرع ومصادره؛ لأن كذب الظنون نادر وصدقها غالب؛ فلو ترك العمل بها خوفا من وقوع نادر كذبها لتعطلت مصالح كثيرة غالبة خوفا من وقوع مفاسد قليلة نادرة، وذلك على خلاف(2/50)
حكمة الإله الذي شرع الشرائع لأجلها. ولقد هدى الله أولي الألباب إلى مثل هذا قبل تنزيل الكتاب، فإن معظم تصرفهم في متاجرهم وصنائعهم، وإقامتهم وأسفارهم وسائر تقلباتهم مبني على أغلب المصالح مع تجويز أندر المفاسد، فإن المسافر مع تجويزه لتلفه وتلف ماله في السفر يبتني سفره على السلامة الغالبة في ذلك، وإن كان عطب نفسه وماله نادرا لغلبة السلامة عليه وندرة الهلاك بالنسبة إليه، ولو قعد المرء في بيته مهملا لمصالح دينه وديناه خوفا من أنه لو خرج لكدمه بعير أو رفسه بغل أو ندسه حمار أو قتله جبار مع ندرة هذه الأسباب لألحقه العقلاء بالحمقى والنوكى والمجانين، ولو كان له جبار يطلبه أو عدو يرهبه أو كلب عقور يقصده ليعضه فخرج على هؤلاء مغررا بنفسه لعده العقلاء من الحمقى والنوكى وللامته الشرائع. وكذلك لو قعد عن القتال عن أهله وماله وحريمه وأطفاله، وإحراز دينه لعد جبنه على ذلك من أقبح القبائح لما فوت به من عظيم المصالح، وإن كان التغرير بالنفوس والأطراف قبيحا من غير مصالح يحوزها ومفاسد يجوزها، لعد العقلاء ذلك قبيحا منه، وقد بينا أن الله قد فطر عباده على معرفة معظم المصالح الدنيوية ليحصلوها، وعلى معرفة معظم المفاسد الدنيوية ليتركوها، ولو استقرى ذلك لم يخرج عما ركزه الله في الطباع من ذلك إلا اليسير القليل، فمعظم ما تحث عليه الطبائع قد حثت عليه الشرائع وما اتفق على الصواب إلا أولو الألباب.
فإن قيل: قد كثر في كلام العلماء أن يقولوا ما وجب بيقين فلا يبرأ منه إلا بيقين، فالجواب عنه من وجهين أحدهما: أن اليقين مستعار للظن المعتبر شرعا.
الوجه الثاني: نقول إن الله - تعالى - أوجب علينا في الأقوال والأفعال ما نظن أنه الواجب فإذا كان المتيقن هو المظنون فالمكلف يتيقن أن الذي يأتي به مظنون له وأن الله - تعالى - لم يكلفه إلا ما يظنه، وإن قطعه بالحكم عند ظنه ليس قطعه بمتعلق ظنه بل هو قطع بوجود ظنه، وفرق بين الظن وبين القطع بوجود(2/51)
المظنون. فعلى هذا من ظن الكعبة في جهة فإنه يقطع بوجوب استقبال تلك الجهة، ولا يقطع بكون الكعبة فيها، والورع ترك ما يريب المكلف إلى ما لا يريبه وهو المعبر عنه بالاحتياط فإذا اشتبه عليه إناء طاهر بإناء نجس فإن لم يكن معه سواهما وجب عليه الاجتهاد، فإذا أداه الاجتهاد إلى طهارة أحدهما وجب عليه استعماله إن لم يقدر على إناء طاهر بيقين، كمن تعذرت عليه معرفة القبلة فإنه يلزمه الاجتهاد والبناء عليه. وإن كان معه إناء طاهر بيقين جاز له أن يجتهد بين الإناءين، فإن أداه الاجتهاد إلى اليقين تخير في التطهر بأي الماءين شاء، وإن أداه الاجتهاد إلى الظن فالأصح أنه يجب له استعماله لما ذكرناه من أن الطاهر بالظن كالطاهر باليقين. وكما لو لبس ثوبا طاهرا بالظن مع القدرة على ثوب طاهر بيقين، وفيه وجه أنه لا يجوز الاعتماد على الاجتهاد مع وجود ماء طاهر لظاهر قوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وفي العمل بعموم هذا الحديث إشكال؛ لأنك إذا حملته على الواجبات لصيغة الأمر فخرجت منه المندوبات. وإن حملته على المندوبات كان تحكما، وإن حملته عليهما جمعت بين المجاز والحقيقة أو بين المشتركات، والحمل على الواجبات أولى من جهة أن الغالب على صيغة الأمر الإيجاب، والغالب على العموم التخصيص، وكان الحمل على ما حمل عليه من صيغة الإيجاب أولى من الحمل على العموم مع غلبة تخصيصه.
ومثله قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}، وإنما ذم الله العمل بالظن في كل موضع يشترط فيه العلم أو الاعتقاد الجازم كمعرفة الإله ومعرفة صفاته، والفرق بينهما ظاهر، والحاصل أن معظم مصالح الذنوب والواجبات والمباح مبني على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية. ولو شك المصلي في فرائض الصلاة أو في أعداد ركعاتها وجب البناء على اليقين ههنا، وليس المعنى باليقين إلا الاعتقاد دون العلم، ويدل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين معتقدا أنه كمل الصلاة، ولو كان العلم شرطا لما سلم مع انتفاء العلم، ولو شك الإمام في(2/52)
أعداد الركعات فسبح له الجماعة تنبيها على أنه أكمل الصلاة، فإن كانوا عددا تحيل العادة وقوع النسيان من جميعهم بنى الإمام على قولهم لعلمه.
فإن قيل: ماذا تقولون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وفي قوله عليه السلام: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". قلنا: أما الآية فلم ينه فيها عن كل ظن، وإنما نهى عن بعضه وهو أن نبني على الظن ما لا يجوز بناؤه عليه، مثل أن يظن بإنسان أنه زنى أو سرق أو قطع الطريق أو قتل نفسا أو أخذ مالا أو ثلب عرضا فأراد أن يؤاخذه بذلك من غير حجة شرعية يستند إليها ظنه. وأراد أن يشهد عليه بذلك على ظنه المذكور فهذا هو الإثم، وتقدير الآية اجتنبوا كثيرا من اتباع الظن إن بعض الظن إثم، ويجب تقدير هذا؛ لأن النهي عن الظن مع قيام أسبابه المثيرة له لا يصح؛ لأنه تكليف لاجتناب ما لا يطاق اجتنابه، إذ لا يمكن الظان دفعه عن نفسه مع قيام أسبابه، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها. وأما الحديث فإن التقدير فيه: إياكم واتباع بعض الظن، وإنما قدر ذلك لإجماع المسلمين على وجوب اتباع الظن فيما ذكرناه. وكذلك جواز اتباعه فيما أوردناه، واتباع هذه الظنون المذكورة سبب لعلاج الدنيا والآخرة، وإن ظنا هذه عاقبته خير من علم لا يجلب خيرا ولا يدفع ضيرا، فأكرم به من ظن موجب لرضا الرحمن وسكنى الجنان، وربما كان كثيرا من العلوم مؤديا إلى سخط الديان وخلود النيران، وقد شاهدنا كثيرا من أرباب هذه العلوم قد فارقوا الإسلام ونبذوا الإيمان وذموا علم الشرائع ومدحوا علم الطبائع {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}. فالسعادة كل السعادة اتباع القرآن، والتمسك بشريعة الإسلام وسنة النبي عليه السلام، ومن خالف ذلك فقد بعد من الله بقدر ما خالف منه فمن شاء فليقل، ومن شاء فليستكثر، وسيعلم المغرور إذا انقشع الغبار أفرس تحته أم حمار؟ وما مثل هؤلاء في هذا الزمان إلا كمثل المنافقين في ابتداء الإسلام.(2/53)
فصل: في حكم كذب الظنون
...
فصل: في حكم كذب الظنون
وله أمثلة: منها إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم ظهر له كذب ظنه ففي الإعادة قولان.
ومنها: أنه إذا شك في طهارة الحدث فصلى بالاستصحاب ثم ظهر كذب ظنه لزمته الإعادة لاهتمام الشرع بطهارة الحدث.
ومنها: أنه إذا رأى المتيمم المسافر ركبا فظن أن معهم ماء فأخلف ظنه بطل تيممه.
ومنها: أنه إذا ظن المتيمم فقد الماء فصلى بالتيمم ثم ظهر أن في بعض قماشه ماء أو وجد بئرا حيث يلزمه الطلب لزمته الإعادة للصلاة.
ومنها: أنه إذا صلى بالنجاسة ناسيا على استصحاب الطهارة ثم أخلف ظنه وجبت الإعادة على الجديد.
ومنها: أنه إذا صلى بما يظن طهارته ثم بان أنه نجس لزمته الإعادة ولا وجه للخلاف في ذلك.
ومنها: أنه إذا صلى فريضة على ظن دخول وقتها بأن أخبره بدخول الوقت مخبر ثم أخلف ظنه وجبت الإعادة.
ومنها: أنه إذا رأى المسلمون أشباحا في الليل فخافوهم فصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان أنها أنعام فقولان:
أحدهما: لا تجب الإعادة؛ لأن الله علق الصلاة بمجرد الخوف وقد تحقق. والثاني: تجب الإعادة لكذب الظن وانتفاء الضرر.
ومنها: أنه إذا صلى خلف من يظنه مسلما أو ذكرا فأخلف ظنه لزمته الإعادة لندرة ذلك، وكذلك الخنثى المشكل على الأظهر؛ لأن الكفر والأنوثة لا يخفيان غالبا، وكذلك الخنوثة من جهة أن الخنوثة خلقة للعادة والدواعي متوفرة على إشاعة مثلها وكذلك لا يوجد خنثى مشكل في بلد من البلدان إلا كان مشهورا عند الناس.(2/54)
ومنها: أنه إذا شرع في صلاة الكسوف معتقدا بقاءه فأخلف ظنه بطلت صلاته، ولا يخرج على الخلاف في بقائها نفلا، إذ ليس لنا نفل على صورة الكسوف فيندرج في نيته.
ومنها: أنه إذا أدى الزكاة من مال يظن حله فأخلف ظنه، لم تسقط الزكاة بذلك. وكذلك لو أدى دينا أو عينا ظانا وجوب أدائها عليه فأخلف ظنه فإنه يرجع بذلك.
ومنها: أنه إذا عجل الزكاة على ظن بقاء الفقر إلى الحول فأخلف ظنه باستغناء الفقير لم تسقط الزكاة بذلك، وله الرجوع باطنا لخروج المقبوض عن كونه زكاة.
ومنهما أنه إذا دفع الزكاة إلى من يظن سبب استحقاقه كالفقر والغرم والكتابة فأخلف ظنه لم تسقط الزكاة عنه، وله استرجاع ما دفعه.
ومنها أنه إذا أكمل الصائمون عدة شعبان على ظن بقائه ثم كذب ظنهم في النهار، وجب القضاء، وفي إمساك ما بقي من النهار قولان.
ومنها: أنه إذا تسحر الصائم ظانا بقاء الليل فأخلف ظنه لزمه القضاء، وإن صدق ظنه أو لم يتحقق صدقه فلا قضاء عليه؛ لأن الأصل بقاء الليل، وإن أكل ظانا دخول الليل فأخلف ظنه لزمه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، وإن أكل في النهار أو جامع لظن أنه مفطر فكذب ظنه لم يبطل صومه.
ومنها: إذا اجتهد الأسير في الصوم فصام بناء على ظنه المستفاد من اجتهاده فأخلف ظنه، فإن وقع صومه بعد الشهر أجزأه، وإن وقع قبل الشهر فقولان، وإن قلنا لا يجزئه ففي انعقاده وجهان.
ومنها: أنه إذا اعتكف في مسجد ثم بان أنه مغصوب أو مملوك بطل اعتكافه.
ومنها: أنه إذا أكمل الحجاج ذا القعدة ووقفوا في التاسع بناء على ظنهم بالعاشر فإن كانوا شرذمة قليلة وجب القضاء، وإن كانوا جميع الحاج لم يجب القضاء لما فيه من المشقة العامة، وإذا تبين أنهم وقفوا في الثامن فوجهان لندرة ذلك.(2/55)
ومنها: أنه من نذر هديا معينا أو صدقة معينة ظنا أنه يملك ذلك ثم كذب ظنه في ذلك كله فإنه يبطل نذره، ولو أعتق عبده ظنا أنه حي أو جعل بعيره هدية أو أضحية ظنا أنه حي فكذب ظنه بطل ذلك، ولو نذر صوم يوم معين ظانا أنه يقبل الصوم فكذب ظنه بطل نذره.
ومنها: أنه إذا أوقع شيئا من المعاوضات أو التبرعات أو الأوقاف أو الهبات أو الوصايا أو الهدايا ظنا أنه يملكه فكذب ظنه بطل تصرفه، ولو شرط عقدا في عقد فأتى بالعقد المشروط ظانا وجوبه عليه ثم أخلف ظنه في وجوبه صح تصرفه على الأصح لوجوب أركانه وشرائطه، بخلاف ما لو قضى دينا يظن وجوبه فأخلف ظنه، فإن قضاء الدين إسقاط يستدعي ثبوتا، فلم يجد حقيقته، بخلاف العقد الذي ظن وجوبه، فإن حقيقته قد وجدت بأركانها وشرائطها، وغلط القاضي في ذلك فألحق العقد بالدين.
ومنها: أنه إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي فظهر أنه ميت وأنه قد ورثه ففي صحة بيعه قولان، ولو باع مال أبيه ظانا أنه له، فظهر أنه باعه بعد أن ورثه من أبيه صح بيعه لجزمه بالرضا.
ومنها: أنه إذا توكل في تصرف ظانا بقاء وكالته ثم كذب ظنه بأن مات الموكل أو أزال الملك عما وكله فيه بطل، وإن عزله فقولان، ولو مات الإمام فتصرف الحكام بعده على ظن أنه حي؛ نفذ تصرفهم؛ لأن الإمام استنابهم عن المسلمين دون نفسه، ولو مات الحاكم، ففي انعزال نوابه لموته خلاف مأخذه أنهم نوابه أو نواب المسلمين.
ومنها أنه إذا وكل في إعتاق عبد فأعتقه ظانا أنه عبد الموكل، فإذا هو عبده نفذ عتقه.
ومنها: ما لو ضيف بطعام يظنه للمضيف فكذب ظنه لزمه العزم، ولا يرجع به على الأصح.(2/56)
ومنها: أنه إذا أعتق أو كاتب أو دبر ثم اختلف ظنه في الملك بطل تصرفه.
ومنها: أنه إذا تزوج امرأة يظنها خلية من الموانع وكذب ظنه، أو ظن أن الذي زوجها وليها فكذب ظنه بطل نكاحه، ولو أنفق عليها ظانا بقاء زوجيتهما فكذب ظنه بأن طلقها وكيله فعلمت بذلك أو فسخت النكاح في غيبته أو ارتدت فانفسخ النكاح، أو انفسخ بمصاهرة أو برضاع أو بغير ذلك من الأسباب رجع بما أنفقه. وكذلك لو طلقها أو آلى منها أو ظاهر ظانا بقاء نكاحها فكذب ظنه بطل الطلاق والإيلاء والظهار. وكذلك لو ارتجعها ظانا بقاء عدتها فكذب ظنه بطلت رجعته، ولو طلق امرأة يظنها أجنبية فإذا هي زوجته أو أعتق عبدا يظنه لغيره فإذا هو عبده، نفذ طلاقه وعتقه، ولو وطئ أمة يظنها مملوكته أو حرة يظنها زوجته فأخلف ظنه وجبت العدة ومهر المثل.
ومنها أنه إذا قتل الحاكم أو الإمام رجلا قصاصا أو حدا أو رجما في زنا أو جلدا في حد فمات المحدود من الجلد فأخلف الظن، وجب الضمان ولا يطالب به الجلاد. وهل يتعلق بعاقلة الإمام والحاكم أو ببيت المال؟ فيه خلاف ولو حكم الحاكم بالشهادة من ظن أنه أهل للشهادة أو بإقرار من ظن أنه أهل للإقرار أو ولى على الأيتام من ظن أهليته لذلك ثم أخلف ظنه بطل حكمه بذلك كله. وكذلك لو حكم بعلمه ثم تبين أن الجلد قد أسقط قبل حكمه بطل حكمه، ولو اجتهد المجتهد في حكم شرعي ثم بان كذب ظنه، فإن تبين ذلك بظن يساويه أو ترجح عليه أدنى رجحان، فإن تعلق به حكم ينقض حكمه وبنى على اجتهاده الثاني فيما عدا الأحكام المبنية على الاجتهاد الأول، وإن تباعد المأخذان بحيث تبعد إصابته في الظن الأول نقض حكمه، مثل أن يكون اجتهاده الأول مخالفا لنص أو إجماع أو قياس جلي، أو للقواعد الكلية فإنه ينقض حكمه، وإن لم يتعلق به حكم بنى على ما أدى إليه اجتهاده ثانيا، إلا أن يستوي الظنان فيجب التوقف على الأصح.(2/57)
فصل: في بيان مصالح المعاملات و التصرفات
...
فصل: في بيان مصالح المعاملات والتصرفات
اعلم أن الله - تعالى - خلق الخلق وأحوج بعضهم إلى بعض لتقوم كل طائفة بمصالح غيرها، فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر، والأصاغر بمصالح الأكابر، والأغنياء بمصالح الفقراء، والفقراء بمصالح الأغنياء، والنظراء بمصالح النظراء، والنساء بمصالح الرجال، والرجال بمصالح النساء، والرقيق بمصالح السادات، والسادات بمصالح الأرقاء، وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين أو أحدهما أو إلى دفع مفاسدهما أو أحدهما. أما احتياج الأصاغر إلى الأكابر فهو أنواع:
أحدها: الاحتياج إلى الإمام الأعظم ثم إلى الولاة القائمين بمصالح المسلمين، ثم إلى القضاة القائمين بإنصاف المظلومين من الظالمين وحفظ الحقوق على الغائبين، وعلى الأطفال والمجانين، ثم إلى الآباء والأمهات القائمين بمصالح البنين والبنات، ثم بأولياء النكاح، ثم بالأمانات الشرعية، ولولا نصب الإمام الأعظم لفاتت المصالح الشاملة، وتحققت المفاسد العامة ولاستولى القوي على الضعيف، والدنيء على الشريف، وكذلك ولاة الإمام فإنه لا يتم إلا بالاستعانة بهم للقيام بمصالح المسلمين، وكذلك الحكام لو لم ينصبوا لفاتت حقوق المسلمين ولضاعت أموال الغيب والصبيان والمجانين، وكذلك لو لم تفوض التربية إلى الآباء والأمهات لضاع البنون والبنات. وكذلك لو لم يفوض الإنكاح إلى الرجال لاستحيا معظم النساء من مباشرة العقد، ولتضررن بالخجل والاستحياء، ولا سيما المستحسنات الخفرات، وكذلك الأمانات الشرعية لو لم تشرع لضاعت الأموال التي استأمنهم الشرع عليها ولتضرر مالكوها، وكذلك اللقطاء لو لم يشرع التقاطهم لفاتت على أربابها وسنذكر إن شاء الله فوائد كل ولاية.(2/58)
وأما احتياج الأكابر إلى الأصاغر فنوعان: أحدهما: الاحتياج إلى المعاونة والمساعدة على القيام بمصالح الولايات. ولو تجويزها لقاتت مقاصد الولايات من جلب المصالح ودرء المفاسد.
النوع الثاني: القيام الأجسام الخاصة بهم وكذلك بالمنافع كالاستيداع والخياطة والكتابة والحراثة والنساجة والنجارة والتجارة والبناء والطب والمساحة والقسمة، وغير ذلك من أنواع ما يحتاج العباد إليه من المنافع، كالوكالة والإعارة والجعالة والسفادة والحلب وكراء الجمال والخيل والبغال والحمير والأنعام، وغير ذلك مما تمس الحاجة إليه أو تدعو إليه الضرورات لو لم يأذن الشرع في هذا بعوض أو بغير عوض، لأدى إلى هلاك العالم، إذ لا يتم نظامه إلا بما ذكرته، ولذلك قال - سبحانه وتعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}، أي لتسخر الأغنياء الفقراء فيما يحتاجون إليه من المنافع المذكورة وغيرها، فإنه لو لم يبح ذلك لاحتاج كل واحد أن يكون حراثا زراعا ساقيا باذرا حاصدا دائسا منقيا طحانا عجانا خبازا طباخا، ولاحتاج في آلات ذلك إلى أن يكون حدادا لآلاته نجارا لها، وكذلك كل ما يتوقف عليه من جلب الحديد والأخشاب واستصناعها، وكذلك اللباس يفتقر قطنه وكتانه إلى ما يفتقر إليه الزرع ثم إلى غزله ونسجه أو جزه إن كان من الأصواف والأوبار والأشعار، ثم إلى غزله ونسجه. وكذلك المساكن لو لم تجز إجارتها لكان أكثر الناس مطروحين على الطرقات متعرضين للآفات وظهور العورات، ولانكشاف أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم وأخواتهم، وكذلك كل حرفة من الحرف وصنعة من الصنائع لو لم تجز الإجارة فيها لتعطلت جميع مصالحها المبنية عليها لندرة التبرع بها، ولا سيما الدلاك والحلاق والحشاش والقمام لولا اضطرار الفقر إليه لما باشروه ولا أكبوا عليه، ولكن الله أحوجهم إلى ذلك فلا مسوءة لاضطرارهم إليه. ومن حكمته - سبحانه وتعالى - أن وفر دواعي(2/59)
كل قوم على القيام بنوع من المصالح فزين لكل أمة عملهم وحببه إليهم ليصيروا بذلك إلى ما قضى لهم وعليهم. ولو نظر الناظرون في جل هذه المصالح ودقها، لعجزوا عن شكرها، بل لو عدوها لما أحصوا عدها، ولا قدر شيء منها إلا عند فقده وعدمه، فنسأل الله ألا يخلينا من فضله وكرمه، فلو فقد أحدنا بيتا يأويه، أو ثوبا يواريه أو مدفئا يدفئه، لما أطاق الصبر عليه، ولكننا لما غمرتنا النعم نسيناها. وكذلك احتاج النظراء إلى النظراء في المعاملات على المنافع والأعيان، وإباحتهما بالمعاوضات، والعواري والإباحات كالمآكل والمشارب والملابس والمراكب والأدوية وغير ذلك لو لم يبح الشرع فيه التمليك بالبيع وغيره لهلك العالم؛ لأن التبرع به نادر.
ومن هذه المعاملات: ما أجمع المسلمون على أنه فرض كفاية، ومنها ما أجمعوا على أنه ندب، ومنها ما أجمعوا على إباحته كالتتمات والتكملات من لبس الناعمات، وأكل الطيبات، وشرب اللذيذات، وسكنى القصور العاليات، والغرف المرتفعات. وعلى الجملة فمصالح الدنيا والآخرة ثلاثة أقسام كل قسم منها في منازل متفاوتات. فأما مصالح الدنيا فتنقسم إلى الضرورات والحاجات والتتمات والتكملات. فالضرورات: كالمآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والمراكب الجوالب للأقوات وغيرها مما تمس إليه الضرورات، وأقل المجزئ من ذلك ضروري، وما كان في ذلك في أعلا المراتب كالمآكل الطيبات والملابس الناعمات، والغرف العاليات، والقصور الواسعات، والمراكب النفيسات ونكاح الحسناوات، والسراري الفائقات، فهو من التتمات والتكملات، وما توسط بينهما فهو من الحاجات.
وأما مصالح الآخرة ففعل الواجبات واجتناب المحرمات من الضروريات وفعل السنن المؤكدات الفاضلات من الحاجات، وما عدا ذلك من المندوبات التابعة للفرائض والمستقلات فهي من التتمات والتكملات. وفاضل كل قسم(2/60)
من الأقسام الثلاثة مقدم على مفضوله، فيقدم ما اشتدت الضرورة إليه على ما مست الحاجة إليه.
فإن قيل: قد ساوى الشرع في القسمة العامة على تفاوت الحاجات دون الفضائل والمناقب فهلا كانت قسمة القضاء والقدر كذلك؟
فالجواب من وجهين: أحدهما أن قسمة القدر لو كانت كقسمة الشرع لأدى إلى أن يعجز الناس عن قيام كل واحد منهم بما ذكرناه من المصالح المذكورة، وأدى ذلك إلى هلاك العالم وتعطيل مصالح الدنيا والآخرة.
الوجه الثاني: أن الغرض بقسمة القدر أن ينظر الغني إلى من دونه امتحانا لشكره، وينظر الفقير إلى الغني اختبارا لصبره، وقد نص القرآن على هذا بقوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} والغرض بالقسمة الشرعية إنما هي دفع الحاجات والضرورات فسوى بينهم في ذلك.
وأما قيام الرجال والنساء بالمصالح بالإعفاف من الطرفين من الوقوع في الحرام وبقضاء الأوطار وبسكون بعضهم إلى بعض، وعودة بعضهم بعضا، وبرحمة بعضهم بعضا حتى يصير أحدهما للآخر كالحميم الشفيق، أو الأخ الشقيق، يفضي كل واحد منهما إلى الآخر بما لا يقضى به إلى ولد ولا والد ولا صديق، وكذلك بما يجب للنساء على الرجال من المآكل والملابس والمساكن، وما يجب للرجال على النساء من لزوم البيوت والطواعية إذا دعاها من غير عذر شرعي، ونقلها إلى أي البلاد شاء، وإلى أي الأوطان أراد، وتوريث كل واحد منهما من صاحبه، وبما يندب إلى واحد منهما زائد عما يجب عليه.
وأما انتفاع الرقيق بالسادات فبما أوجبه الله عليهم من المآكل والمشارب والمساكن.
وأما انتفاع السادات بالرقيق فبخدمتهم في كل ما أوجب الشرع خدمتهم فيه، ويزيد الإناث على ذلك بالاستمتاع والانتفاع.(2/61)
فصل: في بيان أقسام العبادات و المعاملات
...
فصل: في بيان أقسام العبادات والمعاملات
اعلم أن من أنعم الله عليه وأحسن إليه وفقه لطاعته ونيل مثوبته، ومن خذله أبعده بمعصيته وعقوبته، فمصالح الآخرة الحصول على الثواب، والنجاة من العقاب، ومفاسدها الحصول على العقاب وفوات الثواب، ويعبر عن ذلك كله بالمصالح الآجلة، والمقصود من العبادات كلها إجلال الإله وتعظيمه ومهابته والتوكل عليه والتفويض إليه. وكفى بمعرفته ومعرفة صفاته شرفا، والآخرة وهي أفضل من كل ثواب يقع عليها ما عدا النظر إلى وجهه الكريم.
وأما مصالح الدنيا فما تدع إليه الضروريات أو الحاجات والتتمات والتكملات.
وأما مفاسدها ففوات ذلك بالحصول على أضداده، ويعبر عن ذلك كله بالمصالح العاجلة، وقد ندب الرب إلى الإكثار من المصالح الأخروية على قدر الاستطاعات، وندب إلى الاقتصار في المصالح الدنيوية على ما تمس إليه الضرورات والحاجات، فرغب الأغنياء الأشقياء في تكثير ما أمر بتقليله وفي تقليل ما أمر بتكثيره فسخط عليهم وأشقاهم، وأبعدهم وأقصاهم وقد قال في أكثرهم: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ورغب الأنبياء في الاقتصار على الكفاف من الأعراض الدنيوية، وفي الإكثار من التسبب في المصالح الأخروية، فقربهم الرب إليه وأزلفهم لديه فرضي عنهم وأرضاهم، وأسعدهم وتولاهم، فيا شقوة من آثر الخسيس الفاني على النفيس الباقي، ويا غبطة من أرضى مولاه وآثر أخراه على أولاه فلمثل ذلك فليعمل العاملون، وفيه فليتنافس المتنافسون.
[فائدة] التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم والله غني عن عبادة الكل، ولا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين بل لو كانوا كلهم على أفجر قلب رجل واحد منهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئا، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل واحد منهم لم يزد ذلك في ملكه شيئا،(2/62)
ولم يبلغوا ضره فيضروه ولا نفعه فينفعوه، وكل ضال إلا من هداه الله، وجائع إلا من أطعمه الله، وعار إلا من كساه، وإنما سبق علمه - سبحانه وتعالى - بترتيب بعض الحادثات على بعض من غير أن يكون مقدمها موجبا لمؤخرها ولا منشئا له بل هو المتحد بترتيب المسببات على أسبابها، وبالعقوبات على المخالفات، وبالمثوبات على الطاعات من غير أن يوجد شيء منها مما ترتب عليه، بل الكل مستند إليه، ولو عاقب من غير كفر وعصيان لكان عدلا مقسطا، ولو أثاب من غير طاعة، وإيمان لكان متفضلا، وقد أجرى أحكامه في الدنيا على أسباب ربط بها ليعرف العباد بالأسباب أحكامها ليسارعوا بذلك إلى طاعته واجتناب معصيته إذا وقفوا على الأسباب، فأمر المكلفين كلهم ونهاهم، ودعاهم إلى طاعته واجتناب معصيته واقتضاهم، مع علمه بأن أكثرهم يعصونه ولا يطيعونه، ويخالفونه ولا يوافقونه لسبق علمه في ذلك فيهم ونفوذ إرادته وقضائه عليهم.
فإن قيل: إذا علم منهم ذلك فلم وجه الخطاب إليهم مع علمه أنهم لا يطيعون ولا يمتثلون، وكيف يطلب منهم ما يخالف علمه فيهم، وهم لا يقدرون على تبديل علمه، ولا على تغيير حكمه، فعلى هذا قد كلفهم بما لا يطيقون؛ لأن ما علم أنه لا يكون فواجب ألا يكون، وما علم أن يكون فواجب حتم أن يكون. قلنا: أحسن ما قيل في ذلك أن توجه الخطاب إلى الأشقياء الذين لا يمتثلون ما أمروا به، ولا يجتنبون ما نهوا عنه، ليس طلبا على الحقيقة، وإنما هو علامة وضعت على شقاوتهم، وأمارة نصبت على تعذيبهم، إذ لا يبعد في كلام العرب أن يعبر بصيغة الأمر والنهي عن الخبر كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً}، وكقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وكقوله: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} وكقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}، ولا استبعاد في تعذيب(2/63)
من لم يذنب ولم يخالف ما سنذكره في إيلام المجانين والبهائم والصبيان إن شاء الله - تعالى -. وكما روي في الحديث الصحيح: "إن الله عز وجل ينشئ في الجنة أقواما"، وكذلك الحكم في الحور العين، وكذلك الحكم في أطفال المسلمين، وليس بدعا من إحسانه المبتدأ من غير عمل، فإنه قد أحسن إلى الملائكة المقربين، وإلى النبيين والمرسلين، وكذلك أحسن إلى الفجار والأبرار في هذه الدار، وكذلك إلى الحيوانات من الوحوش والبهائم والأنعام، وقد يكلف بالطاعة ولا يثيب عليها كما كلف الملائكة المقربين، ولا اعتراض على رب العالمين الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ومن اعترض زاد شقاؤه، واشتد بلاؤه، وعظم عناؤه. ويجاب على اعتراضه أن الربوبية ليست مقيدة بمصالح العبودية، ولا حجر للعباد على ربهم حتى لا يفعل إلا ما يصلحهم، بل القدرة الأزلية مطلقة لا تتقيد بما يصلح العباد ولا بما يعمر البلاد، ولا بما يوجب الرشاد، وقد شاهدنا ما يبتلى به من لا ذنب له ولا تكليف عليه كالصبيان والمجانين والبهائم من الآلام والأوصاب والجوع والظمأ والغرق والحرق، مع أنا نعلم أن الرب لا ينتفع بذلك ولا يتضرر بفقده، وكذلك لا ينتفع المبتلى بذلك بل ينتفع بفقده.
فإن قال بعض الأشقياء: إنما ذلك ليثيبهم عليه؟ قلنا له: قد ضللت عن سواء السبيل، أما كان في قدرة رب العالمين أن يحسن إليهم إلا عوضا عن تعذيبهم؟ فإن قال: لا يقدر على ذلك، فلا يخفى ما في قبح هذا الكلام. وإن قال: إنه يقدر على ذلك قيل له فلماذا أضر بهؤلاء المساكين؟ فإن قال الشقي: إنما فعل ذلك ليدفع ضرر منته. فجوابه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان قادرا على ألا يخلق لمنته ضررا.
الوجه الثاني: أن منة رب العالمين شرفا في الدنيا والآخرة ولا خروج(2/64)
لأحد منها ولا انفكاك له عنها، وكيف نخرج عنها وهو الخالق لذواتنا وجميع صفاتنا وأرزاقنا.
الوجه الثالث: إن قدر في منة الرب ضرر - تعالى الله عن ذلك - فمفسدة ذلك الضرر أخف من المفاسد المذكورة بما لا يتناهى، فإنا لو فرضنا مبتلى ملقى على المزابل مجذوما مقطوع اليدين والرجلين فأتاه إنسان غني يقدر على ألف قنطار من المال فقلع عينه ثم أطعمه لقمة فقيل له لم قلعت عين هذا الضعيف المسكين؟ قال إنما قلعتها ثم أطعمه هذه اللقمة، فقيل له: أكنت قادرا على إطعامه من غير أن تقلع عينه؟ فقال نعم: كنت قادرا على ذلك فقيل: له فلم قلعتها مع سعة غناك وقدرتك على أن لا تقلعها؟ فقال؛ لأحسن إليه بدفع تمنني عليه، لقطع العقلاء بقبح ما أتاه ولعدوه من أسخف الناس عقلا، وأفسدهم عملا، وأفشلهم رأيا، فإن اعتبروا الغائب بالشاهد كان هذا مكذبا لهم لقبحه في الشاهد، وحسن صدوره من الرب. وإن لم يعتبروا الغائب بالشاهد لم يجز لهم إلحاق الغائب بالشاهد مع ظهور الفارق، فإن هذا قبيح في الشاهد حسن في الغائب. وقد قال الشافعي رحمه الله: القدرية إذا سلموا العلم خصموا، ومعناه إذا سلموا أن الله عالم بما يقع في العالم من المفاسد فلم يزلها مع قدرته على إزالتها فهذا قبيح في الشاهد ممن قدر على إزالته، ولا يقبح من الرب لموافقتهم على أنه قادر عليه، وقد مثل ذلك برجل له عبد مفسد مقيد يعلم مالكه أنه لو أطلقه لأفسد أملاك سيده وأمواله، ولزنا بإمائه وبناته ونسائه، ولقتل أولاده وأحباءه، فأطلقه ففعل ذلك كله وهو ينظر إليه قادرا على دفعه من غير عسر فلم يدفعه، فإن هذا قبيح عند جميع العقلاء في مطرد العادات، ولم يلحقوا الغائب فيه بالشاهد. فإن الله أقدر العاصين على عصيانهم، والمفسدين على إفسادهم، مع أنه عالم بما يصدر منهم من المعاصي والفساد، وهو مطلع عليهم ناظر إليهم لا يغير شيئا من ذلك مع قدرته على(2/65)
تغييره، وقد اتفقنا على أن هذا حسن من الله - عز وجل - فإذا انقطع الغائب عن الشاهد في هذه الصورة فكيف يلحق به فيما سواها، فيقول بعد هذا إنما نصبت الأسباب الشرعية لجلب المصالح ودرء المفاسد في حق بعض المكلفين دون بعض، وهم الذين علم الله - عز وجل - أنهم يأتمرون بأوامره، ويزدجرون بزواجره.
واعلم أن مصالح الآخرة لا تتم إلا بمعظم مصالح الدنيا كالمآكل والمشارب والمناكح وكثير من المنافع، فلذلك انقسمت الشريعة إلى العبادات المحضة في طلب المصالح الأخروية، وإلى العبادات المتعلقة بمصالح الدنيا والآخرة، وإلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا كالزكاة، وإلى ما يغلب عليه مصالح الأخرى كالصلاة، وكذلك انقسمت المعاملات إلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا كالبياعات والإجارات، وإلى ما يغلب عليه مصالح الآخرة كالإجارة بالطاعات على الطاعات، وإلى ما يجتمع فيه المصلحتان. أما مصالح الأخرى فلباذليه، وأما المصالح الدنيا فلآخذيه وقابليه، وإلى ما يتخير باذلوه بين أن يجعلوه لدنياهم أو أخراهم، أو أن يشركوا فيه بين دنياهم وأخراهم.
وأما العبادات فأنواع. أحدها: المعارف المختصة بالله - تعالى -، وكذلك الأحوال المبنية عليها.
النوع الثاني: الأقوال المختصة بالله - تعالى - كالتسبيح والتقديس والتحميد والتهليل والتكبير وسائر المدائح التي بها يمدح الإله.
النوع الثالث: الأفعال المختصة بالله كالحج في العمرة والركوع والسجود والصيام والطواف المجرد والاعتكاف.
النوع الرابع: ما يغلب عليه حق الله وفيه حق للعباد كالصلوات المفروضات والمندوبات.
النوع الخامس: ما يشتمل على الحقين ويغلب عليه حق العباد كالزكاة والكفارات وستر العورات، وقد يجتمع الحقان في الدماء، والأبضاع والأعراض والأنساب.(2/66)
وأما الأموال فحق الله - تعالى - فيها تابع لحقوق العباد بدليل أنها تباح بإباحتهم ويتصرف فيها بإذنهم، وفي الجهاد الحقان جميعا.
وأما المعاملات فأنواع. أحدها: ما وضع لإفادة المصالح العاجلة كالبيوع والإجارات وتدخله المصالح الآجلة بالمباحات والمسامحات.
النوع الثاني: ما يكون مصلحة عوضية آجلة كالاستئجار للحج والعمرة بتعليم القرآن، وكالاستئجار للأذان بالحج أو العمرة أو بتعليم القرآن وكالاستئجار بالحج أو بالعمرة على الصيام، وكالاستئجار على بناء المساجد بالحج أو الأذان أو تعليم القرآن.
النوع الثالث: ما تكون إحدى مصلحتيه عاجلة والثانية آجلة كالقرض، مصلحته للمقترض عاجلة وللمقرض آجلة إذا قصد به وجه الله، وكذلك ضمان إحضار ما يجب إحضاره مصلحته العاجلة للمضمون، والآجلة للضامن إذا قصد به القربة إلى الله تعالى.
النوع الرابع: ما تكون إحدى مصلحتيه عاجلة والأخرى يتخير باذلها بين تعجيلها وتأجيلها، أو ما تأجل بعضها دون بعض كضمان الديون مصلحته العاجلة للمضمون له. وأما الآجلة، فإن ضمن ذلك بعوض كان كالقرض، وإن ضمنه مجانا أثيب عليه إن قصد به وجه الله. وكذلك إن شرط الرجوع بالبعض دون البعض، وكذلك الحكم في قبول الودائع والأمانات والوكالات مصلحتها العاجلة للمالك والموكل والمودع وفي الآجل للقابل إن قصد به وجه الله.
النوع الخامس: ما تكون مصلحته الآجلة لباذليه، والعاجلة لقابليه كالأوقاف والهبات والعواري والوصايا والهدايا. ومن ذلك المسامحة ببعض الأعواض، مصلحتها العاجلة للمسامح القابل، والآجلة للمسامح الباذل.
وأما الولايات، فإن كانت في إحدى الصلوات المكتوبات فمصلحتها الآجلة مشتركة بين الأئمة والمقتدين، إذ لا تتم إلا بالفريقين، وذلك واجب في الجمعات(2/67)
مؤكدة في غيرها من الصلوات. وأما الصلاة على الأموات ففائدتها للمصلي والمصلى عليه آجلة، وإن كانت الولاية عليه في غير الصلاة فإن كانت في الحضانة فمصلحتها للمحضون في العاجل والحاضن في الآجل. وإن كانت في ولاية النكاح فمصلحتها العاجلة لها، ويثاب عليها الولي إذا قصد القربة في الآجل، وكذلك المولى عليه إذا كان تائقا إلى النكاح قاصدا للعفاف فإن النكاح للتائق أفضل من التنفل في العبادات، والولي معين عليه وثواب الإعانة على قدر فضل المعان عليه، وإن كانت الولاية في الحجر فهو ضربان. أحدهما: أن يكون الحجر لمصلحة المحجور عليه كالحجر على السفهاء والصبيان والمجانين فمصلحة الحاجر فيه آجلة ومصلحة المحجور عليه عاجلة.
الضرب الثاني: أن يكون الحجر لمصلحة غير المحجور عليه كحجر الرق والفلس والمرض. أما حجر الرق فمصلحته العاجلة للسادات، والعبد إذا أدى حق الله، وحق مواليه كان له أجره مرتين. وأما حجر الفلس فمصلحته العاجلة للغرماء ومصلحته الآجلة للحاكم، وفيه مصلحة للمحجور عليه من جهة براءة ذمته.
وأما الشهادات، فإن كانت بحقوق الله الخاصة به فالقيام بها من المصالح الآجلة، وإن كانت بحقوق العباد كانت مصالحها العاجلة للمشهود له والآجلة للشاهد إذا قصد بذلك وجه الله، وإعانة أخيه المؤمن على حفظ حقه. والحكم كالشهادة في ذلك، وكذلك تصرف الإمام إن تصرف في حقوق الله المحضة، كانت مصالح تصرفه آجلة، وإن تصرف في حقوق العباد كانت مصالح العباد عاجلة ومصالح الإمام آجلة، وإن تصرف لإقامة الحقين حصل المحكوم له على الفوائد العاجلة وحصل الإمام على الأجرين.
وأما الالتقاط، فمصلحته العاجلة للقيط ومصلحته الآجلة للملتقط.
وأما اللقطة، فإن قصد الملتقط الحفظ والتعريف كانت المصلحة للمالك في العاجل وللملتقط في الآجل، وإن التقط للتعريف والتمليك كانت المصلحة(2/68)
العاجلة للمالك وللملتقط مع ما يرجى للملتقط من الأجر في الآجل.
وإن كانت الولاية على القسمة فإن قسمها مجانا كانت الفائدة العاجلة للمقتسمين والآجلة للقاسمين، لما فيها من إعانة المقتسمين، وإن كانت بعوض لا مسامحة فيه كانت عاجلة للقاسمين والمقتسمين، وإن سامح القاسم في الأجرة كان له أجر المسامحين.(2/69)
قاعدة في بيان حقائق التصرفات
...
قاعدة في بيان حقائق التصرفات
الإنسان مكلف بعبادة الديان باكتساب في القلوب والحواس والأركان ما دامت حياته، ولم تتم حياته إلا بدفع ضروراته وحاجاته من المآكل والمشارب والملابس والمناكح، وغير ذلك من المنافع، ولم يتأت ذلك إلا بإباحته التصرفات الدافعة للضرورات والحاجات. والتصرفات أنواع: نقل، وإسقاط وقبض، وإذن ورهن، وخلط وتملك، واختصاص، وإتلاف، وتأديب خاص وعام، فنذكر كل نوع في باب إن شاء الله - تعالى -.(2/69)
الباب الأول: في نقل الحق من مستحق إلى مستحق.
...
الباب الأول: في نقل الحق من مستحق إلى مستحق.
وهو ضربان: الضرب الأول: في النقل بعوض وهو أنواع.
الأول: البيع وهو نقل ملك كل واحد من المتبايعين إلى صاحبه إن كان العوضان عينا، وإن كان دينا فهو مقابله التزام دين بالتزام دين إلى أن يتفق التقابض فينتقل ملك البائع إلى المشتري وملك المشتري إلى البائع. وإن كان المبيع عينا والثمن دينا كان التزام الدين في نقل مقابله ملك العين فإذا قبض الدين انتقل الملك إلى البائع.
النوع الثاني: الإجارة وهي بيع المنافع بعين أو دين أو منافع، وتتعلق المنافع والحقوق تارة بالذمم وتارة بالأعيان.
النوع الثالث: المساقاة والمزارعة التابعة لها وهي: التزام أعمال الفلاحة بجزء شائع من الغلة المعمول على تحصيلها.
النوع الرابع: القرض وهو تعاقد على الإجارة بجزء شائع من الأرباح.(2/69)
الباب الثاني: في إسقاط الحقوق و هي ضربان
...
الباب الثاني: في إسقاط الحقوق وهي ضربان
أحدهما: إسقاط بغير عوض فمنه الإبراء الذي يسقط الدين من الذمة ولا ينقله إلى المدين، ومنه إسقاط القصاص بالعفو فإن العفو يسقط القصاص عن الجاني، ولا ينقله إليه، وكذلك اللعان يسقط حد القذف عن الزوج ولا ينقله إليه، وكذلك العفو عن التعزير وعن حد القذف، وكذلك إسقاط حق النكاح والاستمتاع بالطلاق فإنه يسقط الملك عن الرقاب، ولا ينقله إلى الرقيق، وكذلك وقف المساجد يسقط ملكها ولا ينقله.(2/70)
الضرب الثاني: الإسقاط بالأعواض كإسقاط حق الزوج من البضع بالخلع أو بالطلاق على مال، وكالصلح عن الدين فإنه يسقطه عن المدين ولا ينقله إليه، وكذلك العتق على مال، وبيع العبد من نفسه فإنه يسقط الملك، ولا ينقله إلى الرقيق، وكذلك الصلح عن القصاص في النفوس والأطراف فإنه يسقط القصاص عن الجاني ولا ينقله إليه، فيقع بهذه التصرفات النقل في أحد الجانبين والإسقاط من الآخر.
وأما مقابلة الإسقاط عند تساوي الديون في باب التقاص فلا نقل فيه من الجانبين ولا من أحدهما، وإنما هو سقوط في مقابلة سقوط إذا لم يشترط الرضا أو إسقاط في مقابلة إسقاط ما لها عليه في ذمته، ولا يقابل إسقاط حد القذف بشيء من الأعواض على الأصح.(2/71)
الباب الثالث: في القبض و هو ثلاثة أضرب
...
الباب الثالث: في القبض وهو ثلاثة أضرب
أحدها: قبض بمجرد إذن الشرع دون إذن المستحق وهو أنواع: فمنها اللقطة ومال اللقيط وقبض المغصوب من الغاصب للولاة والحكام وفي الآحاد خلاف ومنها قبض الحاكم أموال الغيب التي لا حافظ لها، ومن ذلك قبض أموال المجانين والمحجور عليهم بسفه أو صغر، وحفظ أموال الغيب والمحبوسين الذين لا يتمكنون من حفظ أموالهم، ومنها من طيرت الريح ثوبا إلى حجره أو داره، ومنها المودع إذا مات المودع الوديعة عنده، ومنها قبض المضطر من طعام الأجانب ما تدفع به ضرورته. وكذلك سرقة أموال أهل الحرب، وكذلك قبض الإنسان حقه إذا ظفر به، بجنسه أو بغير جنسه.
الضرب الثاني: ما يتوقف جواز قبضه على إذن مستحقه كقبض المبيع وقبض المتساوم عليه، والقبض بالبيع الفاسد، وقبض الرهون، والهبات والصدقات، والعواري، وقبض جميع الأمانات.(2/71)
الضرب الثالث: قبض بغير إذن من الشرع ولا من المستحق، فإن كان القابض عالما بتحريمه فهو قبض المغصوب وهو مضمن الأعيان والمنافع والصفات، وإن كان جاهلا مثل أن يقبض مالا يعتقده لنفسه فإذا هو لغيره فلا إثم عليه ولا إباحة فيه، وتضمن به العين والمنافع والصفات.(2/72)
الباب الرابع: في الإقباض و هو أنواع
...
الباب الرابع: في الإقباض وهو أنواع
أحدها: المناولة فيما جرت العادة بمناولته كالحلي والجواهر.
النوع الثاني: ما لا يمكن نقله كالعقار، وإقباضه بتمكين القابض من المقبض مع إزالة يد المقبض وتمكن القابض من القبض.
النوع الثالث: ما جرت العادة بنقله وهو ضربان: أحدهما ما يستحق كيله أو وزنه، فقبضه بكيل مكيله ووزن موزونه: ثم نقله بعد تقديره.
الضرب الثاني: ما جرت العادة بنقله من غير كيل ولا وزن كالمتاع والنحاس والرصاص ونحوها فقبضه بنقله إلى مكان لا يختص ببائعه، ولا تكفي فيه التخلية على الأصح.
النوع الرابع: الثمار على الأشجار إذا أينعت وبدا صلاحها والأصح أن تخليتها قبض لها.
النوع الخامس: ما يقبضه الوالد لولده أو حفيده ويقبضه من نفسه عن ولده لنفسه ومن نفسه لولده.
النوع السادس: إذا كان للمدين حق في يد رب الدين فأمره أن يقبضه من يده لنفسه ففيه خلاف.
[فائدة] إذا كان المقبوض غائبا فلا بد أن يمضي زمان يمكن المضي إليه فيه، ولو كان ما يستحق قبضه بيد القابض وهو غائب عنه فلا بد من مضي الزمان، وفي اشتراط الرؤية خلاف فإن شرطناها ففي اشتراط نقله خلاف.(2/72)
الباب الخامس: في التزام الحقوق من غير قبول و هي أنواع
...
الباب الخامس: في التزام الحقوق من غير قبول وهي أنواع
أحدها: بنذر في الذمم أو الأعيان. الثاني: التزام الديون بالضمان. الثالث: ضمان الدرك. الرابع: ضمان الوجه. الخامس: ضمان إحضار ما يجب إحضاره من الأعيان المضمونات.(2/73)
الباب السادس: الخلط و الشركة ضربان
...
الباب السادس: الخلط والشركة ضربان
أحدهما: شركة شياع. والثاني: شركة فيما لا يتميز من ذوات الأمثال.(2/73)
الباب السابع: إنشاء الملك فيما ليس بمملوك و هو أنواع
...
الباب السابع: إنشاء الملك فيما ليس بمملوك وهو أنواع
أحدهما: إرقاق الكفار بالقهر والأسر. الثاني: التمليك بإحياء الموات. الثالث: التمليك بالاصطياد. الرابع: تملك المباحات بالحيازة كالمعادن والحشيش والحطب والأحجار وسائر الجواهر التي في المعادن والبحار.(2/73)
الباب الثامن: الاختصاص بالمنافع و هي أنواع
...
الباب الثامن: الاختصاص بالمنافع وهي أنواع
أحدها: الاختصاص بإحياء الموات بالتحجر والإقطاع. الثاني: الاختصاص بالسبق إلى بعض المباحات. الثالث: الاختصاص بالسبق إلى مقاعد الأسواق. الرابع: الاختصاص بمقاعد المساجد للصلاة والعزلة والاعتكاف. الخامس: الاختصاص بالسبق إلى المدارس والربط والأوقاف. السادس: الاختصاص بمواقع النسك كالمطاف والمسعى وعرفة والمزدلفة ومنى وبرمي الجمار. السابع: الاختصاص بالخانات المسبلة في الطرقات. الثامن: الاختصاص بالكلاب والمحترم من الخمور.(2/73)
الباب التاسع: في الإذن و هو ضربان
...
الباب التاسع: في الإذن وهو ضربان
أحدها: ما ترجع فائدته إلى المأذون له، فإن كان من المنافع فهو العواري، وإن كان من الأعيان فهو المنائح والضيافات، والأصح أن القرض إذن في الإتلاف بشرط الضمان فلا يفتقر إلى القبول بالقول.
الضرب الثاني: ما ترجع فائدته إلى الآذن، فإن كان من الاستصناع كالحلق(2/73)
الباب العاشر: الإتلاف و هو أضرب
...
الباب العاشر: الإتلاف وهو أضرب
أحدها: إتلاف لإصلاح الأجساد وحفظ الأرواح، كإتلاف الأطعمة والأشربة والأدوية، وذبح الحيوان المباح حفظا للأمزجة والأرواح، ويلحق به قطع الأعضاء المتآكلة حفظا للأرواح، فإن إفساد هذه الأشياء جائز للإصلاح.
الضرب الثاني: إتلاف الدفع وهو أنواع. أحدها: القتل والقطع والجرح؛ لدفع ضرر الصيال على الأرواح والأبضاع والأموال.
الثاني: قتل الحيوانات المؤذية كالحية والعقرب والسباع والضباع.
الثالث: قتل الكفار دفعا لمفسدة الكفر في قتال الطلب، ودفعا لمفسدتي الكفر والإضرار بالمسلمين في قتال الدفع.
الرابع: قتل البغاة دفعا لبغيهم وخروجهم عن الطاعة.
الخامس: إتلاف لدفع المعصية كقتال الظلمة دفعا لظلمهم وعصيانهم، وكذلك تخريب ديار الكفار وقطع أشجارهم وتحريقها، وإتلاف ملابسهم وتمزيقها، وهي نوع من الجهاد.
السادس: إتلاف ما يعصى الله به كالملاهي والصلبان والأوثان.
السابع: إتلاف الزجر كرمي الزناة والقصاص من الجناة، وقطع السراق والمحاربين؛ زجرا عن السرقة والمحاربة والجناية وصونا لهم.(2/74)
الباب الحادي عشر: التأديب و الزجر و هو أضرب
...
الباب الحادي عشر: التأديب والزجر وهو أضرب
أحدها: ما قدره الشرع كحد الزنا والقذف فلا يزاد عليه ولا ينقص منه.(2/74)
فصل: في تصرف الولاة و نوابهم
...
فصل: في تصرف الولاة ونوابهم
يتصرف الولاة ونوابهم بما ذكرنا من التصرفات بما هو الأصلح للمولى عليه درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح إلا أن يؤدي إلى مشقة شديدة، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم مثل أن يبيعوا درهما بدرهم، أو مكيلة زبيب بمثلها لقول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وإن كان هذا في حقوق اليتامى فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة؛ لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة، وكل تصرف جر فسادا أو دفع صلاحا فهو منهي عنه كإضاعة المال بغير فائدة، وإضرار الأمزجة لغير عائدة، والأكل على الشبع منهي عنه؛ لما فيه من إتلاف الأموال، وإفساد الأمزجة، وقد يؤدي إلى تفويت الأرواح، ولو وقعت مثل قصة الخضر عليه السلام في زماننا هذا لجاز تعييب المال حفظا لأصله ولأوجبت الولاية ذلك في حق المولى عليه حفظا للأكثر بتفويت الأقل فإن الشرع يحصل الأصلح بتفويت المصالح، كما يدرأ الأفسد بارتكاب المفاسد، وما لا فساد فيه ولا صلاح فلا يتصرف فيه الولاة على المولى عليه إذا أمكن الانفكاك عنه.
[فوائد] الأولى: العدالة شرط في كل ولاية لتكون العدالة وازعة عن التقصير في جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يشترط ذلك في ولاية النكاح على الأصح؛(2/75)
لأن الوازع الطبعي يزع عن التقصير في حق المولى عليه. ولم تشترط الولاية في قبول الإقرار؛ لأن الطبع يزع عن الكذب فيما يضر بنفسه أو ماله، والوازع الطبيعي أقوى من الوازع الشرعي.
الفائدة الثانية: يشترط في الأنكحة ما لا يشترط في سائر العقود من الألفاظ والأولياء والشهود تمييزا للنكاح عن السفاح ودرءا للتهمة عن الافتضاح.
الفائدة الثالثة: كل شيء عسر اجتنابه في العقود فإن الشرع يسمح في تحمله كبيع الفستق في قشره وما لا تدعو إليه الحاجة فإنه لا يؤثر في العقود، ولا يشترط في الأنكحة رؤية المنكوحة، وإن كان الغرض يختلف بذلك اختلافا ظاهرا لما في شرط ذلك من الضرر على النساء والأولياء، ولذلك تقدرت مدة النكاح بعمر أقصر الزوجين عمرا، ولم يشترط أن تكون مدة معلومة، كما يشترط في الإجارة والمساقاة والمزارعة، وليس النكاح نقلا من كل وجه إذ يثبت للزوج من حقوق الاستمتاع ما لم يكن ثابتا للمرأة فهو كالنقل من وجه، وإنشاء تمليك من وجه، ولا يتصرف الزوج في إزالته إلا بالإسقاط دون النقل فيما أنشأه المولى من حق الاستمتاع الذي لم يكن ثابتا للمرأة.(2/76)
فصل: فيما يسري من التصرفات و له أمثلة
...
فصل: فيما يسري من التصرفات وله أمثلة
أحدها: أن يعتق من عبده جزءا معينا أو شائعا فيسري إلى سائره لما في تحصيل العتق من المصالح المختصة بالأحرار.
المثال الثاني: أن يعتق من العبد المشترك جزءا معينا أو شائعا فيسري العتق إلى بقيته، ولا يسري العتق من شخص إلى شخص إلا إعتاق الأمة فإنه يسري إلى جنينها، ولو أعتق الجنين يسري إلى أمه على الأصح.
المثال الثالث: إذا طلق من امرأته جزءا معينا أو شائعا سرى الطلاق إلى بقيتها احتياطا للأبضاع بخلاف الأوقاف والصدقات، فإن التصرف فيها مقصور على محله.(2/76)
المثال الرابع: العفو عن بعض القصاص في النفس ممن يستحق بعضه أو كله، فإنه يسري إلى جميعه؛ لأنه يسقط بالشبهات، وخالف بعض العلماء في عفو الشريك في ذلك.
المثال الخامس: العفو عن بعض المأخوذ بالشفعة مسقط لها؛ لأنها تثبت على خلاف الأصل ودفعا للتضرر بتفريق المأخوذ.(2/77)
قاعدة في ألفاظ التصرفات
...
قاعدة في ألفاظ التصرفات
لا يتعين للعقود لفظ إلا النكاح، فإنه يتعين له لفظ التزويج أو النكاح؛ لأن جميع الألفاظ لا تستقل بالدلالة على مقاصد النكاح، فإن لفظ البيع والهبة يدل على نقل الملك في الرقبة، ثم المنافع والثمار بعد ذلك مستفادة من الملك غير معقود عليها، ولفظ الإجارة يدل على تمليك المنفعة المقدرة، والنكاح مؤجل بموت أقصر الزوجين عمرا أو بالعمرين إن مات الزوجان معا، وجميع ألفاظ العقود لا تدل على خصائص النكاح، وإن نوى جميع ذلك لم يصح؛ لأن الشهادة شرط في صحة النكاح، ولا اطلاع للشهود على النيات.(2/77)
قاعدة فيما تحمل عليه ألفاظ التصرفات
...
قاعدة فيما تحمل عليه ألفاظ التصرفات
من أقر بشيء من التصرفات كالبيع والإجارة والرهن والوكالة والسلم والطلاق والعتاق والنكاح والزكاة والكفارات والنذور والهدي، وعين أو حلف على شيء من ذلك، أو علق عليه طلاقا، أو عتاقا، أو نذرا، فإن إقراره ويمينه وتعليقه محمول على الصحيح من ذلك دون الفاسد لظهوره فيه، فإن تأول شيئا من ذلك فإن كان لفظه محتملا لما نواه قبل تأويله في الفساد دون الحكم؛ لأن المفتي أسير المستفتي، والحاكم أسير الحجج الشرعية والظواهر، وإن لم يحتمله لفظه لم يقبل تأويله في الفتيا إلا أن يقصد وضع اللفظ على المعنى الذي أراده فلا ينفعه على الأصح. وإن أقر بسرقة وجب المال؛ لأن لفظ السرقة صريح في أخذه بغير حق، ولا يجب القطع بذكر السرقة لاختلاف العلماء فيه ولخفاء شرائط البيع(2/77)
قاعدة في بيان الوقت الذي يثبت فيه أحكام الأسباب من المعاملات
...
قاعدة في بيان الوقت الذي يثبت فيه أحكام الأسباب من المعاملات
للأسباب مع أحكامها أحوال: أحدها ما تقترن أحكامه بأسبابه كالأفعال. الثانية: ما يتقدم أحكامه على أسبابه. الثالثة: ما اختلف في وقت ترتيب أحكامه على أسبابه وهو منقسم إلى ما يتعجل أحكامه، وإلى ما يتأخر عنه بعض أحكامه.
فأما الأفعال فتقترن أحكامها بها ولذلك أمثلة: أحدها حيازة المباح بالاستيلاء على الحشيش والحطب، والمعادن، والمياه، والصيود كالأخذ بالأيدي أو بالشباك، أو الإثبات بالرمي بالسهام، أو بالطعن بالرماح.
المثال الثاني: قتل الكفار فإنه يقترن به استحقاق الأسلاب.
المثال الثالث: الخمر والزنا وقطع الطريق تترتب عليها حدودها، والتفسيق وما يترتب على التفسيق.
المثال الرابع: ما يتعلق عليه طلاق أو إعتاق كالأكل والشرب ودخول الدار فإن أحكامه تترتب عليه مقرونة به.
وأما ما يتقدم أحكامه على أسبابه. فله أمثلة: أحدها إذا تلف المبيع قبل القبض، فإن البيع ينفسخ بالتلف قبيل التلف؛ لتعذر اقترانه به ووقوعه بعده؛ لأن الانفساخ انقلاب الملكين إلى باذليهما، ولا يتصور انقلاب الملكين بعد تلف المبيع؛ لأنه خرج عن أن يكون مملوكا فيتعين انقلابه إلى ملك البائع قبيل تلفه، وكذلك تجب مؤنة تجهيزه وتكفينه على بائعه.
المثال الثاني: قتل الخطأ وله حكمان: أحدهما ما يقترن به وهو وجوب الكفارة. الثاني: ما يتقدم عليه، وهو وجوب الدية؛ لتكون موروثة عنه على فرائض الله - تعالى - فتقضى منها ديونه وتنفذ وصاياه؛ لأنه أحق ببدل نفسه من ورثته، فإن الأبدال في الشرع حقوق لمن يختص بالمبدل وهو أخص بنفسه من ورثته، ويدل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الضحاك بن(2/81)
قيس أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها؛ ولأنها تورث على فرائض الله - تعالى -، ويدخل فيه الحجبان اللذان هما من خصائص الميراث، ولا يقدر مثل ذلك في الكفارة إذ لا حاجة إلى مخالفة الأصول بغير سبب.
المثال الثالث: إذا قال لغيره: أعتق عبدك مجانا أو بعوض سماه فأعتقه عنه، فإنه يملكه قبل عتقه ثم يعتق بعد ذلك، وغلط من قال: يقع العتق والملك معا؛ لأنه جمع بين النفي والإثبات، فإن الملك اختصاص والعتق قاطع لكل اختصاص.
المثال الرابع: إذا حكمنا بزوال ملك البائع في مدة الخيار فأعتق العبد المبيع فإنه يملكه بالاعتقاق ملكا متقدما على الإعتاق، كي لا يقع الإعتاق في غير ملك المعتق، ولو أجاز البائع فأعتق المشتري وقلنا ببقاء ملك البائع كان إعتاقه كإعتاق البائع فيما ذكرناه.
وأما ما اختلف في وقت ترتيب أحكامه على أسبابه، فهو الأسباب القولية. وهو منقسم إلى ما يستقل به المتكلم، وإلى ما لا يتم إلا بالجواب، فأما ما يستقل به المتكلم فكالإبراء، وطلاق الثلاث قبل الدخول، والعتاق والرجعة، والأصح أن أحكام هذه الألفاظ تقترن بآخر حرف من حروفها، فتقترن الحرية بالراء من قوله أنت حر، والطلاق بالقاف من قوله أنت طالق، والإبراء بالميم من قوله أبرأتك من درهم، ولو قال خصمه أبرئني من درهم فقال أبرأتك اقترنت البراءة بالكاف من قوله أبرأتك، وكذلك الرجعة، تعود أحكام النكاح مع آخر حرف من حروفها، وهذا اختيار الأشعري والحذاق من أصحاب الشافعي، وهذا مطرد في جميع الألفاظ كالأمر والنهي وغيرهما، فإذا قال اقعد كان أمرا مع الدال من قوله اقعد، وإذا قال لا تقعد كان نهيا مع الدال من قوله لا تقعد، وكذلك الأقارير والشهادات وأحكام الحكام. وقال بعض أصحاب الشافعي لا تقترن هذه بشيء من هذه الألفاظ بل تقع عقيبها من غير تخلل زمان، ويدل(2/82)
على الاقتران أن من سمع حرفا من آخر حروف الكلمة فإنه يحكم على مطلقها بموجبها عند آخر حرف من حروفها. وأما ما يفتقر إلى الجواب فكالمعاوضات وغيرها من المحاورات، والأصح اقتران أحكامها بآخر حرف من حروفها. فإذا قال بعتك هذه الدار بألف اقترنت صحة البيع بالتاء من قوله قبلت على الأصح، ولو قال بعنيها بألف فقال بعتك انعقد البيع مع الكاف على الأصح. وكذلك لو قال زوجتك ابنتي فقال قبلت انعقد النكاح مع التاء من قوله قبلت، إن قلنا لا يفتقر إلى أن يقول قبلت نكاحها، وإن قلنا يفتقر إلى ذلك انعقد مع الألف من نكاحها. ولو قال لزوجته أنت طالق إن شئت فقالت شئت، وقع الطلاق مع التاء من قولها شئت، ولو قال أجرتك دار بدرهم فقال قبلت انعقدت الإجارة مع قوله قبلت، ولو قال أجرني دارك بدرهم فقال أجرتك انعقدت الإجارة مع قوله أجرتك.
وأما ما يتعجل أحكامه ويتأخر عنه بعض أحكامه فله أمثلة:
أحدها: البيع ويقترن الانعقاد والصحة بآخر حروفه على الأصح، ويتراخى لزومه إلى الإجازة والافتراق، وانقضاء خيار الشرط، وفي اقتران الملك به أقوال. أحدها: يقترن به. والثاني: يتراخى إلى لزومه. والثالث: أن اقترانه به موقوف، فإن أجيز العقد تبينا اقترانه، , وإن فسخ أو انفسخ تبينا أنه لم يقترن.
المثال الثاني: عقد الهبة، ويقترن صحتها وانعقادها بآخر حروفها على الأصح، ويتراخى لزومها إلى قبضها.
المثال الثالث: الرهن ويقترن انعقاده بآخر حروفه على الأصح، ويتراخى لزومه على إقباضه.
المثال الرابع: الطلاق الرجعي ويقترن وقوعه وتنقيصه للعدد وتحريمه للاستمتاع وتمكينه للرجعة بالقاف من قوله طالق ويتراخى قطعه النكاح إلى انقضاء العدة. وأما الرجعة فيقترن بها جميع أحكامها. وأما الوصية فللشافعي(2/83)
رحمه الله قول: إن الملك يحصل فيها بالقبول، وهو على وفق ما ذكرناه وهو بعيد، وللشافعي قولان آخران: أحدهما يحصل الملك بموت الموصى فيقع بين الإيجاب والقبول. والثاني وهو الظاهر أن الملك موقوف فإن قيل تبين أن الملك حصل بالموت بين الإيجاب والقبول، وإن رد تبين أن الملك لم يحصل، وهذا مما خالفت فيه الوصايا سائر التصرفات.
المثال الخامس: قتل الخطأ يتقدم وجوب ديته ويتراخى طلب ثلثها إلى انقضاء السنة الأولى، والثلث الثاني إلى انقضاء السنة الثانية، والثالث إلى الثالثة، وكذلك الأعواض المؤجلة يقترن وجوبها بأسبابها ويتراخى طلبها إلى انقضاء آجالها.
[فائدة] اعلم أن الأسباب منقسمة إلى ما يناسب أحكامه وهو الأكثر، وإلى ما لا يناسبها، وهو التعبد. وفي الأشباه اختلاف.
مثال ما لا يناسب أحكامه: وجوب غسل الأطراف في الوضوء بالمس واللمس وخروج الخارج من السبيلين، فإن كل واحد من هذه الأسباب لا تعقل مناسبته لغسل الأطراف، إذ كيف يعفى عن محل النجاسة ويجب غسل ما لم تصبه النجاسة؟
مثال ما يناسب أحكامه: وجوب غسل النجاسة، وجوب عقاب الجناة زجرا لهم عن الجنايات، ووجوب اشتراط العدالة في الولاة لتحملهم عدالتهم على إقامة مصالح الولايات، وكذلك إيجاب الغنائم للغانمين، فإن القتال يناسب إيجابها لهم؛ لأنهم حصلوها بقتالهم وتسببوا إليها برماحهم وسهامهم، وكذلك جعل الأسلاب للقاتلين المخاطرين لقوة تسببهم إلى تحصيلها ترغيبا لهم في المخاطرة بقتل المشتركين. وكذلك إيجاب الفيء لسيد المرسلين وخاتم النبيين لما نصره الله به من الرعب في قلوب الكافرين، وقد جعله الشافعي رحمه الله على أحد قوليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأجناد المسلمين؛ لأنهم قاموا مقامه في إرعاب الكافرين. وكذلك إيجاب الأسلاب(2/84)
للمثخنين دون الذابحين بعد الإثخان كما وقع في قصة ابني عفراء وابن مسعود رضي الله عنهم فإنهما أثخنا أبا جهل وذبحه ابن مسعود بعد ذلك؛ لأن السلب إنما استحقه القاتل؛ لأنه كفى مئونته ودفع شره عن المسلمين، وذلك مختص بالمثخنين دون الذابحين بعد الإثخان، وكذلك تخصيص قبول الروايات والشهادات بالمعدلين لاختصاصهم بظهور صدقهم والثقة بأقوالهم بين كافة المسلمين. وكذلك تخصيص المعاملات والمناكحات دفعا للضرورات والحاجات، فمن الأسباب ما يبنى عليه حكم واحد، ومنها ما يبنى عليه حكمان، إلى أن ينتهي السبب الواحد إلى قريب من ستين حكما أو أكثر.
فلما له من الأسباب حكم واحد أمثلة أحدها: ملك الصيد بالحيازة، المثال الثاني: وجوب الحكم بالشهادة. المثال الثالث: وجوب الحكم بالإقرار، المثال الرابع: وجوب الحكم إذا حلف المدعي بعد نكول المدعى عليه. المثال الخامس: تنجيس الماء بمصادفة النجاسة مع القلة أو عند تغير أحد أوصافه، وللنجاسة أحكام كثيرة، وكذلك حصول الطهارة عند الغسل المشروع وللطهارة أحكام كثيرة. المثال السادس: وجوب الطاعة عند أمر الإمام أو الحاكم أو السيد أو الوالد. المثال السابع: تخير القاتل بعد تمام الإيجاب في قريب الزمان دون بعيده. المثال الثامن: إتلاف الأموال خطأ موجب للضمان. المثال التاسع: قتل المحرم الصيد موجب للتخير بين الجزاء والصوم والإطعام وذلك حكم واحد.
المثال العاشر: أهلية الإمامة والقضاء موجبة لتولية الإمام والقضاة.
المثال الحادي عشر: الطيب والأدهان موجبان للتخير بين الخصال الثلاث.
المثال الثاني عشر: حلق الرأس موجب للتخير بين الصيام والصدقة والنسك.
المثال الثالث عشر: ملك خمس من الإبل موجب للخيار بين الشاة وبين بنت مخاض أو لبون والحقة والجذعة والثنية.
ولما له من الأسباب حكمان أمثلة. أحدها قتل الخطأ وهو معفو عنه وله(2/85)
حكمان: أحدهما وجوب الكفارة. والثاني: وجوب الضمان.
المثال الثاني: الحنث في اليمين إذا كان مباحا أو واجبا أو مندوبا فله حكمان أحدهما: التخير بين الخصال الثلاث، والثاني ترتيب الصيام، وإن كان الحنث محرما فإن كان كبيرة أوجب التحريم والتفسيق والتفكير المذكور، وإن كان الحنث صغيرة أوجب التحريم والتخيير والترتيب.
المثال الثالث: التمتع موجب لحكمين أحدهما الهدي، والثاني الصيام عند العجز. وأما السب والضرب فإنهما موجبان للتحريم والتعزير ما لم ينتهيا إلى حد الكبائر، فإن انتهيا إلى حد الكبائر حصل التحريم والتفسيق والتعزير.
ولما له من الأسباب ثلاثة أحكام أمثلة - أحدها إتلاف الأموال عمدا وأحكامه التحريم والتعزير وإيجاب الضمان، المثال الثاني: القذف وأحكامه التحريم والتفسيق والجلد، المثال الثالث: زنا الثيب وأحكامه التحريم والتفسيق والرجم، المثال الرابع: شرب الخمر وأحكامه التحريم والتفسيق والحد.
المثال الخامس: شرب النبيذ وهو موجب للتحريم والتفسيق والحد على من يعتقد تحريمه، وأما من لا يعتقد تحريمه فهو موجب لحده من غير تحريم ولا تفسيق.
المثال السادس: الظهار وهو موجب للتحريم والتفسيق والكفارة المرتبة. وأما قتل العمد فهو موجب للتحريم والتفسيق والتخيير بين الدية والقصاص، وزاد الشافعي رحمه الله الكفارة فله على مذهبه أربعة أحكام.
وأما ماله من الأسباب أربعة أحكام فكزنا البكر وهو موجب للتحريم والتفسيق والجلد والتغريب.
وأما الحدث الأصغر فسبب لتحريم الصلاة والطواف وسجدة الشكر والسهو والتلاوة ومس المصحف، ويزيد عليه حدث الجنابة وهو الحدث الأوسط بتحريم الصوم والوطء والطلاق.(2/86)
وأما الوطء فله أحكام كثيرة منها الأحكام السبعة في الجنابة، ومنها العشرة في الحيض، ومنها أحكامه في الصوم وهي التحريم والتفسيق والإفساد، وإيجاب الكفارة المرتبة، ومنها أحكامه في الاعتكاف الواجب، وهي التحريم والإفساد والتعزير، وأما التفسيق فإن وقع الجماع في المسجد كان فسقا. وإن كان خارج المسجد فإن وقع في وقت ملابسة الحاجة فليس بمفسق؛ لأجل الاختلاف في إباحة ذلك، وإن وقع وراء ذلك ففيه وقفة.
ومنها: أحكامه في الحج والعمرة وهي التحريم والتفسيق والكفارة، وإفساد الصحة دون الانعقاد، وأما المضي في الفاسد ففيه نظر من جهة أنه واجب بالإحرام لا بالجماع، ومنها تحليل المرأة لمطلقها، ومنها تقرير المهر المسمى في النكاح الصحيح، وإيجابه لمهر المثل في النكاح الفاسد وفي الوطء بالشبهة، ووطء النكاح، وكذلك إيجابه الاستبراء في المملوكة إذا ملكت، وبعد زوال ملكها، وكذلك إيجابه للتحريم والتفسيق والجلد والتغريب. وكذلك إيجابه لإلحاق الأولاد في ظاهر الحكم في الحرائر والإماء المشتركات، وكذلك إلحاقه النسب إذا وقع بالشبهة في العزبات الخليات، ومنها التحصين في حق الزوجين فيما يرجع إلى حق الزنا، ومنها حصول الفيئة به في الإيلاء وحصول العود به في الظهار عند بعض العلماء، ومنها قطعه للعدة إذا وقع في أثنائها بشبهة وحصل منه الحمل، ومنها تحريمه أم الزوجة وجداتها وبنت الزوجة وبناتها وتفسيقه، وإيجابه الحد في كل واحدة منهن، ومنها تحريمه الجمع بين الأختين وتفسيقه، وإيجابه الحد على من علمه. ومنها تحريمه وتفسيقه إذا وقع بشبهة الشركة، وإيجابه لبعض المهر، ومنها تحريمه وطء الزوج في عدة النكاح إذا وقعت في أثناء النكاح، وإيجابه التعزير، وكل موضع حرمناه على الزوج، فالتمكين منه حرام على النساء إذا علمن موجب للتعزير إن وقع بشبهة كالوطء في الجارية المملوكة، والحد إن خلا عن الشبهة: إما بالرجم أو بالجلد والتغريب، وإن وقعت الشبهة من أحد الجانبين دون الآخر، فإن تعلقت(2/87)
بالنساء فلهن مهور أمثالهن، ولا حد عليهن ولا تحريم، وإن تعلقت بالرجل تعلق بالنساء ما يتعلق بالزناة، ولا مهر للنساء وعليهن العدد.(2/88)
فصل: في تقسيم الموانع
...
فصل: في تقسيم الموانع
موانع صحة العبادات والمعاملات قسمان، أحدهما ما يمنع الصحة في الابتداء أو الدوام وله أمثلة: إحداها: الكفر وهو مانع من ابتداء العبادة ودوامها.
المثال الثاني: الردة تمنع صحة النكاح ابتداء ودواما إن وقعت قبل الدخول وإن وقعت بعد الدخول ودامت حتى انقضت العدة فإنها تقطع الدوام.
المثال الثالث: الحدث يمنع ابتداء الصلاة والطواف ودوامهما. المثال الرابع: المحرمية تمنع من ابتداء النكاح واستمراره. المثال الخامس: الرضاع يمنع من ابتداء النكاح ودوامه.
القسم الثاني: ما يمنع الابتداء ولا يمنع الدوام وله أمثلة. أحدها: الإحرام فإنه يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع الدوام. المثال الثاني: العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع الدوام. المثال الثالث: وجود الطول يمنع ابتداء نكاح الأمة ولا يمنع الدوام، المثال الرابع: أمن العنت يمنع الابتداء في نكاح الأمة ولا يمنع الدوام. المثال الخامس: توقيت النكاح مانع من ابتدائه ولا يمنع استدامته، إذا قال أنت طالق غدا أو بعد شهر، خلافا لمالك رحمه الله فإنه ألحقه بالابتداء. المثال السادس: رؤية الماء مانعة من ابتداء الصلاة بالتيمم، وغير مانعة في الدوام عند الشافعي رحمه الله المثال السابع: وجدان الرقبة في صوم الظهار وكفارة القتل. والرقبة مانعة من ابتداء الصوم وغير مانعة من دوامه.(2/88)
فصل: في الشرط
...
فصل: في الشرط
الشرط في الاصطلاح ما يتوقف عليه الحكم وليس بعلة الحكم ولا يجزئ لعلته، وأما في اللفظ فأكثر ما يعبر بلفظ الشرط عن الأسباب أو عن أسباب الأسباب فأما التعبير بلفظ الشرط عن الأسباب فله أمثلة. أحدها قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ(2/88)
قاعدة في بيان الشبهات المأمور باجتنابها
...
قاعدة في بيان الشبهات المأمور باجتنابها
قال عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وهذا حث منه عليه السلام على ترك المشتبهات.
اعلم أن التحليل والتحريم والإباحة والندب والإيجاب والكراهة ليس لها متعلق إلا أفعال العباد المقدور عليها أو على التسبب لها، ولا يطلب الشرع من الأفعال والتروك إلا ما يقدر المكلف عليه كما لا يجده إلا في مقدور عليه، فليس(2/89)
وصف الأفعال بالتحليل والتحريم والكراهة والندب والإيجاب وصفا حقيقيا قائما بالأفعال إذ لا يقوم عرض بعرض، ولا يقع التكليف إلا بالأعراض، وإنما هو عبارة عن تعلق الشرع بالأفعال، وكذلك الوصف بالسببية والشرطية والمانعية والرق والحرية والملك والاختصاص، فالمملوك ما ثبت له أحكام الملك، والحر من ثبتت له أحكام الحرية، والرقيق من ثبتت له أحكام الرق، والوقف ما ثبتت له أحكام الوقف، بخلاف المسلم والكافر والبر والفاجر فإن الإسلام والكفر والبر والفجور أوصاف حقيقية قائمة بالمحل، وإطلاق أسمائها على النائم والمجنون والغافل عنها إنما هو من مجاز تسمية الشيء بما كان عليه، والوصف بها في حال الغفلة عنها كالوصف بالرق والحرية، وإحرام الأحكام عليها من باب إعطاء المعدوم حكم الموجود على ما سنذكره عقيب هذه القاعدة إن شاء الله
ثم الأفعال التي تتعلق بها الأحكام ضربان - أحدهما ما هو حسن في ذاته وثمراته كمعرفة الإله وصفاته والإيمان بذلك، فإنه أحسن ما كلفه الإنسان، وهو أفضل من ثمراته التي هي خلود الجنان والزحزحة عن النيران.
الضرب الثاني: ما هو قبيح في ذاته وثمراته كالجهل بما يجب من العرفان والإيمان، وثمراته خلود النيران وحرمان الجنان، وجزاؤه مثله في القبح قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}.
ومن الأفعال ما هو حقيقته وذاته ولكنه ينهى عنه مرة لقبح ثمراته ويؤمر به تارة لحسن ثمراته ويباح تارة لمصالح تتقاربه في الإقدام عليه والإحجام عنه وله أمثلة - أحدها القتل وهو ثلاثة أقسام باعتبار ثمراته لا باعتبار ذاته لأن ذاته فساد وإتلاف.
القسم الأول: قتل من يجب قتله من الكافرين والمسلمين وهو حسن لحسن ثمراته، أما قتل الكافر فلما فيه من محو الكفر الذي هو من أفسد المفاسد(2/90)
وإبداله بالإيمان الذي هو أصلح المصالح، وأما قتل الجاني، فلما فيه من حفظ الأرواح بزجر الجناة عن الجنايات.
القسم الثاني: تحريم المسلمين وهو مماثل في ذاته لقتل الكافرين والمسلمين المحاربين، ولكنه حرم لقبح ثمراته.
القسم الثالث: قتل من يجوز قتله بالقصاص من الجناة، فإنه حسن لثمراته.
المثال الثاني: الأكل متحد في ذاته وحقيقته، وإنما قبح لأسبابه أو لثمراته، فأكل الميتة والدم ولحم الخنزير مساو في حقيقته وذاته لأكل البر والشعير ولكنه حرم لقبح أسبابه وثمراته.
المثال الثالث: الوطء متحد في حقيقته وذاته لكنه يحرم تارة لقبح ثمراته ويحل تارة لحسن ثمراته، وقد يجمع الفعل الواحد مفاسد كثيرة فيترتب عليه أحكامها وزواجرها، وكفاراتها. مثاله، إذا زنا بأمه في جوف الكعبة وهما صائمان في رمضان، فقد أتى بكبائر يتعلق به أحكامها لو تفرقت. فإنه بالنظر إلى انتهاك حرمة الكعبة مرتكب لكبيرة موجبة للتحريم وللتفسيق والتعزير، وبالنظر إلى إيقاع الزنا بأمه مرتكب لكبيرة عظيمة وهي أن عقوق الأم وعقوق الوالدين من الكبائر الموجبة للتعزير، وبالنظر إلى كونه مفسدا للعمرة مرتكبا لكبيرة مفسقة موجبة لكفارة مرتبة، وبالنظر إلى كونه زانيا مرتكبا لكبيرة مفسقة موجبة للرجم إن كان محصنا، والجلد والتغريب إن كان بكرا.
وكذلك قد يجمع الفعل الواحد مصالح شتى من غير أن يخبر الإمام بظهور الزنا والربا واستلاب الأموال وقتل الرجال وتعطيل الصلوات والزكاة وانتهاك الحرمات واتباع الشهوات فيأمر بتغيير ذلك كله بكلمة واحدة يثاب على تسببه إلى تغير كل واحدة من هذه المفاسد بكلمة كما يثاب عليها إذا تسبب إلى إزالة كل واحدة منهن على حدتها.(2/91)
وأسباب التحريم والتحليل ضربان: أحدهما قائم بالمحل الذي يتعلق به فعل المكلف، والثاني خارج عن المحل، فأما القائم بالمحل من أسباب التحريم فهو كل صفة قائمة بالمحل موجبة للتحريم كصفة الخمر فإنها محرمة، لما قام بشربها من الشدة المطربة المفسدة للعقول، وكالميتة حرمت لما قام بها من الاستقذار، وكلحم الخنزير يحرم لصفة قائمة به، وكالسموم القاتلة حرمت لما قام بها من الصفة القاتلة، وكذلك الصفات النسبية كالأمومة والجدودة والبنوة والأخوة والعمومة والخؤولة واللعان المحرم للنكاح.
وأما القائم بالمحل من أسباب التحليل فهو كل صفة قائمة بالمحل موجبة للتحليل، كصفة البر والشعير والرطب والعنب والإبل والبقر والغنم.
وأما الخارج عن المحل فضربان: أحدهما الأسباب الباطلة كالغصب والقمار والحرية المانعة من البيع فهذه أسباب خارجة عن المحل موجبة لتحريم الفعل المتعلق به.
الضرب الثاني: الأسباب الصحيحة كالبيع الصحيح والإجارة الصحيحة والمعاملات المحكوم بصحتها شرعا إما بنص أو إجماع فهذا حلال بسببه، فما كان في هذه الأعيان حلالا بوصفه وسببه فهو حلال بين كما لو باع النعم أو البر أو الشعير أو الرطب أو العنب بيعا صحيحا متفقا على صحته أو منصوصا عليها، وما كان من هذه الأعيان حرام بوصفه وسببه فهو حرام بين كالخمر ولحم الخنزير يغصبان من ذمي، وما كان من هذه الأعيان متفقا على وصفه القائم به مختلفا في سببه الخارج عنه، أو كان متفقا على سببه الخارج عنه مختلفا في وصفه القائم به، فإنك تنظر إلى مأخذ تحليله وتحريمه بالنظر إلى وصفه القائم به وإلى سببه الخارج عنه، فإن كانت أدلتهما متفاوتة، فما رجح دليل تحريمه كان حراما، وما رجح دليل تحليله كان حلالا، وإن تقاربت أدلته كان مشتبها وكان اجتنابه من ترك الشبهات، فإنه أشبه المحلل من جهة قيام دليل تحليله، وأشبه المحرم من جهة قيام دليل تحريمه فمن ترك مثل هذا فقد استبرأ لدينه(2/92)
وعرضه، وإذا تقاربت الأدلة فما كان أقرب إلى أدلة التحريم تأكد اجتنابه واشتدت كراهته، وما كان أقرب إلى أدلة التحليل خف الورع في اجتنابه وإن كافأ دليل التحليل دليل التحريم حرم الإقدام ولم يتخير على الأصح، وكل حكم استند إلى دليل لو حكم به الحاكم لنقض حكمه فذلك دال على البطلان، لأنا إنما حكمنا بنقضه لبطلان دليله، وما بطل دليله كان باطلا في نفسه. وقد أطلق الفقهاء أن اختلاف العلماء شبهة وليس ذلك على إطلاقه، إذ ليس عين الخلاف شبهة بدليل أن خلاف عطاء في جواز وطء الجواري بالإباحة خلاف محقق، ومع ذلك لا يدرأ الحد، وإنما الشبهة الدارئة للحد ففي مأخذ الخلاف وأدلته المتقاربة كالخلاف في النكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح المتعة، فإن الأدلة فيه متقاربة لا يبعد كل واحد من المجتهدين إصابة خصمه عند الله عز وجل فنذكر لذلك أمثلة:
أحدها: أكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير لو اشتري بعقد غير مختلف في صحته لو وقع فيما يحل بصفته لكان الخلاف في صفته قائما، وصفته ما قام به من نابه ومخلبه.
المثال الثاني: أكل البر والشعير والرطب والعنب والإبل والبقر والغنم إذا اشتريت ببيع مختلف في صحته كبيع الفضولي وبيع الغائب والبيع وقت النداء لكان الخلاف في سببه قائما موجبا للورع في مباشرته، ويختلف الورع في مباشرته، ويختلف الورع في هذين المثالين باختلاف رتب أدلتهما.
المثال الثالث: نكاح المخلوقة من ماء الزاني إذا عقد عليها عقد لو عقد على أجنبية لكان صحيحا بالنص أو الإجماع فهذا مما يشتد التورع في نكاحها للاختلاف في كون صفتها مقتضية للتحريم، وقد يلتبس ما حل بوصفه وسببه بما حرم بوصفه وسببه وله حالان.
أحدهما: أن تلتبس عين واحدة بأخرى كما إذا اختلطت أخته من الرضاع بأجنبية فالإقدام على تزويج إحداهما أو وطئها بملك اليمين حرام بين.(2/93)
الحال الثانية: أن تختلط أخته من الرضاع بأهل بلد لا ينحصرون فأيما امرأة تزوجها من أهل تلك البلدة أو نكحها بملك اليمين فوطؤها حلال بين، وبين هاتين الرتبتين أعداد كثيرة، فإذا جاوز العدد مائتين مثلا كان النكاح جائزا، وإذا زاد كان أولى بالجواز، وإذا نقصت رتب العدد على أهل البلدة كانت رتب الورع مرتبة على رتب النقص، ولو اختلطت حمامة مباحة بحمامة مملوكة لكان كاختلاط الأختين ولا اختلطت حمامة مملوكة بحمام مباح لا ينحصر كان كاختلاط الأخت بأهل بلدة لا ينحصرون، ولو اختلط حمام مباح لا ينحصر بحمام مملوك لا ينحصر فقد اختلف فيه لأن نسبة ما لا ينحصر إلى نسبة ما ينحصر كنسبة المنحصر إلى ما لا ينحصر.
[فائدة] ما كان حراما بوصفه وسببه أو بأحدهما فلا يأتيه التحليل إلا من جهة الضرورة أو الإكراه، وما كان حلالا بوصفه فلا يأتيه التحريم إلا من جهة سببه، وما كان حلالا بسببه لا يأتيه التحريم إلا من جهة وصفه، فلو عقد على الخمر والخنزير عقد متفق على صحة مثله لم يأته التحريم إلا من قبل وصفه.
[فائدة] إذا أكل برا مغصوبا أو شاة مغصوبة صح أن يقال أكل حراما لكونه حراما بسببه، وصح أن يقال ما أكل حراما لأنه حلال بصفته، وإن أكل برا مشتركا بغير إذن شريكه صح أن يقال أكل حراما وحلالا لأن نصيبه حلال له بملكه وصفته، ونصيب شريكه حرام عليه بسببه دون صفته، ولا شك أن هذا لا يأثم إثم من أكل طعاما كله مغصوب لكمال المفسدة في المغصوب ونقصها في المشترك، فإن المشترك حرم تحريم الوسائل وهذا حرم تحريم المقاصد، فلو أكل المحرم الصيد لأكل ما هو حلال بصفته حرام بسببه، وإن ذبح المحرم الصيد فإن حرمنا تذكيته كان أكلا لما حرم بصفته وسببه، وإن أبحنا ذكاته كان أكلا لما حرم بسببه الذي هو حرام دون صفته.
[فائدة] ما يحرم بوصفه لا يحل إلا لضرورة أو إكراه، وما حل بصفته(2/94)
لا يحرم إلا بفساد سببه، ولا يتصور فيما حل بالنسبة القائمة به كالأمهات والأخوات أن تحل بسبب من الأسباب ولا بضرورة ولا إكراه، وهذا ككفر الجنان لا يحل بسبب من الأسباب، بخلاف كفر اللسان فإنه يباح بالإكراه.
فإن قيل: لو وطئ واحدة من هؤلاء بسبقه فهل يوصف وطؤه بالتحليل والتحريم؟ قلنا: لا يوصف بشيء من الأحكام الخمسة لأنه خطأ معفو عنه فصار كأفعال المجانين والصبيان، وكذلك القول في النسيان.(2/95)
فصل: في التقدير على خلاف التحقيق
...
فصل: في التقدير على خلاف التحقيق
التقدير إعطاء المعدوم حكم الموجود، أو الموجود حكم المعدوم، فأما إعطاء المعدوم حكم الموجود فله أمثلة.
أحدها: إيمان الصبيان في وقت الطفولة فإنهم لم يتصفوا به حقيقة وإنما قدر وجوده وأجري على ذلك الموجود المقدر أحكام الإيمان، وكذلك تقدير الإيمان في حق البالغين إذا غفلوا عنه أو زال إدراكهم بنوم أو إغماء أو جنون.
المثال الثاني: تقدير الكفر في أولاد الكفار مع أنهم لا يتعقلون إيمانا ولا كفرا وتجري عليهم في الدنيا أحكام آبائهم.
المثال الثالث: العدالة مقدرة في العدول إذا غفلوا عنها وزوال إدراكهم بنوم أو إغماء أو جنون.
المثال الرابع: الفسق يقدر في الفاسق مع غفلته عنه أو مع زوال الإدراك.
المثال الخامس: الإخلاص والرياء فإنهما يقدران مع زوالهما، ومن مات على شيء من هذه التقديرات بعثه الله على ما مات عليه فمن غفل عند الموت من المؤمنين عن إيمانه، ومن الكافرين عن كفره، ومن المخلصين عن إخلاصه، ومن المرائين عن ريائه، ومن العدول والفسقة عن عدالته وفسقه ومن المصرين والمقلعين عن إصراره وإقلاعه، لقي الله بذلك المقدر في حقه لقوله عليه السلام: "يبعث كل عبد على ما مات عليه"(2/95)
المثال السادس: تقدير النيات في العبادات مع عزوبها والغفلة عنها.
المثال السابع: تقدير العلوم للعلماء مع غيبتها عنهم، فيقدر الفقه في الفقيه مع غفلته عنه، وكذلك الشعر في الشاعر، والطب في الطبيب وعلم الحديث في المحدث.
وأما نبوة الأنبياء فقد جعل النبي بمعنى المنبئ عن الله فإنه يقدرها في حال سكوت النبي عن الإنباء وتحققها في حال ملابسة الإنباء، ومن جعل النبي بمعنى المنبئ المخبر كانت النبوة عبارة عن تعلق إنباء الله به وليس ذلك وصفا حقيقيا، فإن متعلق الخطاب لا يستفيد صفة حقيقية من تعلق الخطاب.
المثال الثامن: تقدير الصداقة في الأصدقاء والعداوة في الأعداء والحسد في الحساد مع الغفلة عنها وفي حال النوم والغشي.
فإن قيل: ما معنى وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} فالجواب أن الحسد الحكمي لا يضر المحسود لغفلة الحاسد عنه، والحسد الحقيقي هو الحاث على أذية المحسود، فقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} صالح للحسد الحكمي والحقيقي قال: {إِذَا حَسَدَ} تخصيصا للحسد الحقيقي الذي هو مظنة الأذى بالاستعاذة فإن الحكمي لا ضرر فيه.
المثال التاسع: صوم المتطوع من أول النهار إذا نواه قبل الزوال على رأي من يراه صائما من أول النهار.
المثال العاشر: إذ باع سارقا فقطع في يد المشتري ففي تقدير القطع في يد البائع مذهبان، فإن قدر قطعه في يد البائع ثبت الرد للمشتري وإلا فلا.
المثال الحادي عشر: إذا باع عبدا مرتدا فقتل بالردة في يد المشتري ففي تقدير القتل في يد البائع وجهان، فإن قدرناه في يد البائع بطل البيع ورجع بجميع الثمن وإلا فلا.
المثال الثاني عشر: الذمم وهي تقدير أمر الإنسان يصلح للالتزام والإلزام من غير تحقق له.(2/96)
المثال الثالث عشر: الديون فإنها تقدر موجودة في الذمم من غير تحقق لها ولا لمحلها، ويدل على تقديرها وجوب الزكاة فيها، ولو لم يقدر وجودها لما وجبت الزكاة في معدوم، ولا يقال إنما وجبت الزكاة فيها لأنها تفضى إلى الوجود بقبضها، فإن الدين إذا كان على غني ملي وفي مقر حاضر يدفعه متى طولب به ومضت عليه أحوال على هذه الصفة ثم تعذر أخذه بعد ذلك بموت المدين معسرا فإن مالكه يطالب بزكاة ما مضى وإن لم يفض أمره إلى التحقق والوجود.
المثال الرابع عشر: تقدير الذهب والفضة في عروض التجارة، فإنه لو ملك نصابا من الذهب أو الفضة ستة أشهر ثم اشترى بها عروضا للتجارة ومضى على العروض ستة أشهر فإن الزكاة تلزمه تقديرا لبقاء الذهب والفضة في العروض، وكذلك لو اشترى العرض للتجارة بما لا زكاة فيه فإنا نقدر نقد البلد في النصاب.
المثال الخامس عشر: تقدير الملك في المملوكات فإنه ليس أمرا حقيقيا قائما بالمملوك؛ وإنما هو مقدر فيه لتجرى عليه أحكامه، وكذلك الرق والحرية مقدران في الأحرار وليسا بصفة حقيقية للأحرار والعبيد، وإنما رجع الملك والرق والحرية إلى تعلق أحكام مخصوصة بهذه المحال، وكذلك الزوجية في الزوجين أمر مقدر يتعلق به أحكام خاصة.
وأما إعطاء الموجود حكم المعدوم فله مثالان - أحدهما وجود الماء يحتاج إليه المسافر لعطشه أو لقضاء دينه، أو لنفقة ذهابه وإيابه، أو لزيادة ثمنه على ثمن مثله، أو بهبة ثمنه منه، فإنه يقدر معدوما مع وجوده.
المثال الثاني: وجود المكفر الرقبة مع احتياجه إليها واعتماده عليها فإنها تقدر معدومة لينتقل إلى بدلها.
ومن التقديرات: إعطاء المتأخر حكم المتقدم كمن رمى سهما أو دهور حجرا ثم مات فأصابا بعد موته شيئا فأفسداه فإنه يلزمه ضمانه تقديرا(2/97)
لإفساده قبيل موته. وكذلك لو حفر بئرا في محل عدوانا فوقع فيها إنسان بعد موته وجب ضمانه، فإن كانت له تركة صرفت في ذلك، فإن أتلفها الورثة لزمهم ضمانها وتصرف في ذلك، وإن لم يخلف شيئا بقيت الظلامة إلى القيامة.
ومن التقديرات: إعطاء الآثار والصفات حكم الأعيان الموجودات كالمفلس إذا قصر الثوب المبيع فهل يكون قصره كصبغه فيه قولان: فإن جعلناه كصبغه كان ذلك تقديرا للمعدوم موجودا، واعلم أنه لا يعرى شيء من العقود والمعاوضات من جواز إيراده على معدوم، فإن البيع قد يكون مقابلة عين بعين، وقد يكون مقابلة عين بدين، وقد يقابل الدين بالدين ثم ينفع التقابض في المجلس وكلاهما عند العقد معدوم.
وأما الإجارة فإن قوبلت المنفعة بمنفعة كان العوضان معدومين، وإن قوبلت بعين كانت المنافع معدومة.
وأما السلم فمقابلة معدوم بموجود إن كان رأس المال عينا، أو بدين يقبض في المجلس إن كان رأس السلم دينا.
وأما القرض فمقابلة موجود بمعدوم.
وأما الوكالة فإذن في معدوم.
وأما المضاربة فعمل العامل فيها معدوم وكذلك الأرباح.
وأما المساقاة والمزارعة المتفق عليهما فمقابلة معدوم بمعدوم، فإن عمل الفلاح معدوم ونصيبه من الثمر والزرع معدوم، فإن وقعت المساقاة على الثمر بعد وجوده في الصحة خلاف.
وأما الجعالة فإن عين الجعل كان مقابلة معلوم بمعدوم، وإن لم يعينه كان مقابلة معدوم بمعدوم كذا.
وأما الوقف فهو تمليك لمنافع معدومة وفوائد معقودة تارة لموجود وتارة(2/98)
لمفقود، وتمليك المفقود أعظم أحوال الوقف، فإن المستحقين الموجودين وقت الوقف إذا انقرضوا صارت الغلات والمنافع المعدومة مستحقة بالوقف إلى يوم القيامة، فالأغلب عليه تمليك المعدوم للمعدوم إذ لا تتم مصلحته إلا لذلك، ومصلحته في العاجل للموقوف عليهم، وفي الآجل للموقفين جارية عليهم إلى يوم الدين.
وأما الرهن فلا يصح إلا على دين معلوم، وهل يشترط فيه أن يكون عينا أو يجوز على الدين كما يجوز على العين؟ فيه خلاف يجري في هبة الديون.
وأما الوصية فتصح بالموجود والمعدوم للموجودين والمعدومين.
وأما العوارى فهي إباحة للمنافع وهي معدومة.
وأما تمليك الملتقط اللقطة بعد انقضاء الحول فهو مقابلة موجود بمعدوم وأما الودائع فحفظها معدوم في ابتدائها ثم يوجد شيئا فشيئا.
وأما النكاح فإن كان تفويضا كان ذلك تمليكا لمنافع البضع وإباحة لأمر معدوم، وإن كان بصداق معين كان ذلك تمليكا لمعدوم بموجود، وإن كان الصداق في الذمة كان تمليكا لمعدوم بمعدوم، وكذلك ما يجب عليه من النفقة والكسوة والسكنى مله معدوم مقدر في ذمته قبل تسليمه كسائر الديون وأما ما يجب على المرأة من التمكين والطواعية ولزوم المسكن فكله معدوم.
وأما ضمان الديون فالتزام لمعدوم، فإن قيل: إذا كان المضمون مائتين فهل يثبت في ذمة الضامن فيصير للمالك أربعمائة يزكيها بعشرة دراهم؟ قلنا: المختار أن المائتين لا تثبت في ذمة الضامن، وإنما تستحق مطالبته وإبراؤه؛ويحتمل أن تثبت المائتين في ذمته، ولا يثبت لها جميع أحكام الديون.
وأما الحوالة فتتعلق بدين في مقابلة دين، وهي معاوضة على رأي، وقبض مقدر على رأي، والأظهر أنها من الأحكام المركبة فيثبت لها حكم القبض. من وجه، وحكم المعاوضة من وجه.(2/99)
وأما الصلح فلا يخرج عن كونه بيعا أو إجارة أو إبراء أو هبة، والعجب ممن يعتقد أن المعاوضة على المعدوم على خلاف الأصل مع أن الشريعة طافحة بها في جميع التصرفات، بل الأمر والنهي والإباحة لا تتعلق إلا بكسب معدوم، وكذلك معظم النذور والوعود لا تتعلق إلا بمعدوم.(2/100)
قاعدة فيما يقبل من التأويل و ما لا يقبل
...
قاعدة فيما يقبل من التأويل وما لا يقبل
من ذكر لفظا ظاهرا مع الأدلة على شيء ثم تأوله لم يقبل تأويله في الظاهر إلا في صورة يكون إقراره فيها مبنيا على ظنه، فإقرار المرأة بنفي الرجعة، وإقرار المشتري في الخصام بأن المبيع ملك البائع، فإن تأويلهما مقبول ولا نحكم عليهما بظاهر إقرارهما، إذا تأولاه لأن رجوعهما لا يناقضه من جهة أن إقرارهما لا محل له إلا ظنهما، وليس تكذيب الظن بمناقض لتحقق الظن، فكأنه قال أظن كذا وكذا ثم كذب ظني. وكذلك قول السيد لمكاتبه إذا أدى النجوم اذهب فأنت حر ثم ظهرت النجوم مستحقة، فإنه لا يعتق إذا تأول قوله بأنه بناه على أنه عتق بأداء النجوم، ونحوه إذا شهد أنه لا وارث له سوى فلان ثم ظهر له وارث آخر فإن شهادته لا تبطل إلا في الحصر، لأنه أسند شهادته بذلك إلى ظاهر ويبقى الحصر فيما وراء ذلك ولذلك نظائر أخر.
وأما قبوله في الباطن فله أحوال: إحداها أن يكون اللفظ قابلا لتأويله من جهة اللغة فيقبل منه في الفتيا ولا يقبل في الحكم، فلو طلق بصحيح اللفظ ثم قال أردت بذلك طلاقا من وثاق لم يقبل في الحكم ولا يسع امرأته أن تصدقه في ذلك كما لا يسع الحكم تسليمها لأنهما متعبدان في العمل بالظاهر، وإن صدقته لم يعتبر تصديقها لما لله في تحريم الأبضاع من الحق، وكذا لو قال لأمته أنت حرة ثم قال أردت حرية النفس والأخلاق لم يقبل ولا يسعها أن تسلم نفسها إليه ولا أن تدع الحقوق الواجبة لله على الحرائر، وكذلك العبد لا يسعه تصديقه ولا يسقط عنه ما يجب لله من الحقوق على الأحرار، كالجمعة والجهاد وغير ذلك(2/100)
مما يكلف به الأحرار، لأن إقراره بالحرية يتضمن وجوب ذلك عليه، ومن أقر بحق لغيره ثم رجع عنه لم يقبل رجوعه إلا أن يصدقه المستحق، ولا عبرة بما ذكره في الحاوي في مثل هذا.
الحال الثانية: أن ينوي ما لا يحتمله لفظه من جهة اللغة مثل أن ينوي بالطلاق والعتاق الأمر بالأكل والشرب فلا يقبل منه ظاهرا ولا باطنا ويلزم بصريح لفظه في الطلاق والعتاق وغيرهما.
الحال الثالثة: أن ينوي وضع اللفظ اللغوي على ما لا يحتمله في اللغة ففيه خلاف يعبر عنه بالوضع الخاص كمن يعبر بالألفين عن الألف في مسألة السر والعلانية.
الحال الرابعة: أن ينوي ما يحتمله لفظه في اللغة احتمالا ظاهرا لكنه لا يقبل منه لا ظاهرا ولا باطنا، بل يكون وجوده كعدمه ويجري اللفظ على مقتضاه في اللغة. مثاله: إذا حلف المدعى عليه متأولا ليمينه أو معلقا لها على المشيئة وهو مبطل لذلك، ولا عبرة بنيته لما تؤدي إليه من إبطال فائدة الأيمان، فإنها إنما شرعت ليهاب الخصم الإقدام عليها خوفا من الله عز وجل، فلو صح تأويله واعتبرت نيته بطلت هذه الفائدة وفات بسببها حقوق كثيرة واستحلت بذلك الأموال والأبضاع، فإذا حلف ما طلقها أو ما أعتقها أو ما بعته أو ما قتلته وما قذفته وتأول يمينه بما يصح في اللغة مبطلا في ذلك كله لانتهكت حرمة الأبضاع والدماء والأعراض والأموال، ولبيع الأحرار ولزني بالنساء، فلما جر اعتبار تأويله هذا الفساد العظيم سقط تأويله فاستثني هذا من قاعدة النية التي يحتملها اللفظ، ولو ادعى عليه بحق وهو معسر به فقال المدعى عليه لا يستحقه علي وتأول يمينه بأنه لا يستحقه علي الآن صح تأويله ولا يؤاخذ بيمينه لأن اعتبار تأويله ههنا لا يؤدي إلى شيء من المفاسد التي ذكرناها بل خصمه ظالم بمطالبته إن كان عالما بعسره أو مخطئ بمطالبته إن كان جاهلا بعسره فلا تغير القواعد لخطأ المخطئين ولا لظلم الظالمين، بخلاف التأويل بغير حق، لأنه لو كان(2/101)
معتبرا لكان مؤديا إلى المفاسد التي ذكرنا وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "اليمين على نية المستحلف يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك"، يريد بالمستحلف الحاكم وبالصاحب الخصم. وكذلك اليمين في اللعان إذا تأولها أحد الزوجين لم يصح تأويله ولا تعتبر نيته لما يؤدي إليه من إبطال حق القذف في الرجل وإبطال حد الزنا في حق المرأة. وكذلك يمين المدعين في أيمان القسامة وفي رد الودائع وتلفها.(2/102)
فصل: فيمن أطلق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه
...
فصل: فيمن أطلق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه
إذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو أيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤخذ بشيء من ذلك لأنه لم يلتزم مقتضاه، ولم يقصد إليه وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك لأنه لم يرده. فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون، وإن قصد العربي بنطق شيء من هذه الكلم مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه، فإن كان لا يعرف معانيها مثل أن قال العربي لزوجته أنت طالق للسنة أو للبدعة وهي حامل بمعنى اللفظين، أو نطق بلفظ الخلع أو غيره أو الرجعة أو النكاح أو الإعتاق وهو لا يعرف معناه مع كونه عربيا فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصد إلى اللفظ الدال عليه، وكثيرا ما يخالع الجهال من الذين لا يعرفون مدلول اللفظ للخلع ويحكمون بصحته للجهل بهذه القاعدة.
[فائدة] اللفظ محمول على ما يدل عليه ظاهره في اللغة أو عرف الشرع أو عرف الاستعمال، ولا يحمل على الاحتمال الخفي ما لا يقصد أو يقترن به دليل، فمن حلف بالقرآن لم تنعقد يمينه عند النعمان لأنه ظاهر في هذه الألفاظ في عرف الاستعمال، ولا سيما في حق النساء والجهال الذين لا يعرفون كلام النفس ولا يخطر لهم ببال، وخالف الشافعي ومالك في قولهما بعد ولا سيما فيمن حلف بالمصحف عند أصحاب(2/102)
مالك، فإنه لا يخطر بباله الكلام القديم ولا التجوز بالمصحف عنه بل الحلف به كالحلف بالكعبة.
[فائدة] تعليق التصرف على المشيئة ضربان: أحدهما أن يجزم بما علقه تعلق ما جزم به على المشيئة فهذا مفوض إلى مشيئة الله فيما جزم به، فيصح تصرفه لأنه جزم به ولم يشك، وإنما اعترف بأن ما جزم به لا يتم إلا بمشيئة الله وهذا التصرف نافذ لا إشكال فيه.
الضرب الثاني: أن لا يجزم بالتصرف بل يعلقه على المشيئة مترددا في إيقاعه وتحققه فهذا تصرف غير نافذ لأنه لم يجزم ولم يقصد إليه، فإذا أطلق العامي ذلك واستثنى فيه احتمل أن يطلقه شاكا، واحتمل أن يطلقه جازما مفوضا، فعندي فيه وقفة في وجوب استفصاله عن مراده، والذي يظهر لي أن الأغلب على الناس هو الجزم، والشك نادر، فإن تعليق التفويض أغلب من تعليق الترديد.(2/103)
فصل: فيما أثبت على خلاف الظاهر و له أمثلة
...
فصل: فيما أثبت على خلاف الظاهر وله أمثلة
أحدها: إذا ادعى البر التقي الصدوق الموثوق بعدالته وصدقه على الفاجر المعروف بغصب الأموال وإنكارها أنه غصبه درهما واحدا وأنكر المدعى عليه فالقول قول المدعى عليه مع ظهور صدق المدعي وبعد صدق المدعى عليه.
المثال الثاني: لو ادعى هذا الفاجر على هذا التقي وطلب يمينه حلفناه مع أن الظاهر كذبه في دعواه.
المثال الثالث: إذا أتت الزوجة بالولد لدون أربع سنين من حين طلقها الزوج بعد انقضاء عدتها بالأقراء فإنه يلحقه مع أن الغالب الظاهر أن الولد لا يتأخر إلى هذه المدة.
فإن قيل: إنما لحقه لأن الأصل عدم الزنا وعدم الوطء بالشبهة والإكراه، قلنا وقوع الزنا أغلب من تأخر الحمل إلى أربع سنين إلا ساعة واحدة وكذلك الإكراه والوطء بالشبهة ولا يلزم على ذلك حد الزنا فإن الحدود تسقط(2/103)
بالشبهات، بخلاف إلحاق الأنساب فإن فيه مفاسد عظيمة منها جريان التوارث ومنها نظر الولد إلى محارم الزوج، ومنها إيجاب النفقة والكسوة والسكنى، ومنها الإنكاح والحضانة.
المثال الرابع: إذا أتت بولد لستة أشهر من حين تزوجها فإن الولد يلحقه مع ندرة الولادة بهذه المدة.
المثال الخامس: لو زنى بها إنسان ثم تزوجت وأتت بولد لتسعة أشهر من حين الزنا ولستة أشهر من النكاح والزوج ينكر الوطء فإنا نلحقه بالزوج مع ظهور صدقه بالأصل والغلبة ومع ظهور كونه من الزاني بوضعه على تسعة أشهر، لكن الزوج يمكن أن يدفع هذا عن نفسه باللعان، وإنما المشكل أن يلزم بضرر لا يمكن دفعه عن نفسه.
المثال السادس: لو وطئ أمته ثم استبرأها بقرء ثم أتت بتسعة أشهر من حين الوطء فإنه لا يلحقه عند الشافعي وهذا مشكل من جهة أن الأمة فراش حقيقي، وهذه مدة غالبة فكيف لا يلحقه الولد لفراش حقيقي مع غلبة المدة، ويلحق بإمكان الوطء في الزوجة مع قلة المدة أو ندرة الولادة في مثلها؟ وقد خالف بعض أصحابه في ذلك وهو متجه.
[فائدة] قد يظن بعض الأغبياء أن الولد لا يلحق إلا لستة أشهر وهو خطأ لأن الولد يلحق بدون ذلك فلو جنى على الحامل فأجهضت جنينا ميتا لدون ستة أشهر فإنه يلحق بأبويه وتثبت الغرة لهما، وكذلك لو أجهضته بغير جناية لكان مؤنة تكفينه وتجهيزه على أبيه وإنما يتقيد بالأشهر الولد الكامل دون الناقص.
المثال السابع: إذا قال له علي مال عظيم فإن الشافعي يقبل تفسيره بأقل ما يتمول وهذه خلاف ظاهر اللفظ، وعلل الشافعي مذهبه بأن العظيم لا ضابط له لأنه يختلف باختلاف همم الناس، فقد يرى الفقير المدقع الدينار عظيما بالنسبة(2/104)
إليه والغني المكثر قد لا يرى المئين عظيمة بالنسبة إلى غنائه، فلما لم يكن للعظمة ضابط يرجع إليه رجع الشافعي إلى ما يحتمله اللفظ في اللغة حملا للعظمة على الصفة بكونه حلالا أو خالصا من الشبهة ولا يخفى ما في هذا من مخالفة الظاهر، ومن العلماء من حمل ذلك على النصاب الزكوي وهو بعيد أيضا من جهة أن العظمة نسبية ولم يستعمل الشرع لفظها في نصب الزكاة، وكيف يحمل قول فقير يعتقد أن الدينار عظيم على عشرين دينارا ويحمل قول الخليفة الذي يعتقد أن المئين حقيرة والقنطار عظيم على عشرين دينارا والمخرج من هذا صعب.
المثال الثامن: إذا قال لرجل أنت أزنى الناس أو قال أنت أزنى من زيد فظاهر هذا اللفظ أن زناه أكثر من زنا زيد وأكثر من زنا سائر الناس وقال الشافعي: لا حد عليه حتى يقول أنت أزنى زناة الناس، وفلان زان وأنت أزنى منه وفي هذا بعد من جهة أن المجاز قد غلب على هذا اللفظ، فيقال فلان أشجع الناس، وأسخى الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس، والناس كلهم يفهمون من هذا اللفظ أنه أشجع شجعان الناس، وأسخى أسخياء الناس، وأعلم علماء الناس، وأحسن حسان الناس، والتعيير الذي وجب الحد لأجله حاصل بهذا اللفظ فوق حصوله بقوله أنت زان.
المثال التاسع: أن القرآن يطلق على الألفاظ المتداولة الدالة على الكلام القديم، ويطلق على الكلام القديم الذي هو مدلول الألفاظ، واستعماله في الألفاظ أظهر وأغلب من استعماله في مدلولها، فإذا حلف بالقرآن فقد حمله أبو حنيفة على الألفاظ فلم يحكم بانعقاد يمينه، وحمله الشافعي ومالك على الكلام القديم وهو خلاف الظاهر من استعمال اللفظ وأبعد من ذلك تحنيث الحالف بالمصحف إذا خالف موجب يمينه.
المثال العاشر: إذا قال لامرأته إذا رأيت الهلال فأنت طالق فرآه غيرها طلقت عند الشافعي حملا للرؤية على العرفان، وهذا على خلاف الوضع وعرف(2/105)
الاستعمال، وخالفه أبو حنيفة في ذلك، واستدل الشافعي بصحة قول الناس رأينا الهلال، وإن لم يروه كلهم: وجوابه أن قول الناس: رأينا الهلال من مجاز نسبة فعل البعض إلى الكل، كقول امرئ القيس: وإن تقتلونا نقتلكم معناه وإن تقتلوا بعضنا نقتلكم، وكذلك قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} ، وإنما قتله بعضهم وادارءوا فيه، وكذلك وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فنسب المعاهدة إلى الجماعة مع تفرده صلى الله عليه بها، فليس ما استدل به الشافعي بمجاز لمحل النزاع، فإن مجاز محل النزاع لا يشهد لما ذكره الشافعي، فإنه علقه على نفس رؤيتها وهي واحدة لا ينسب إليها ما وجد في غيرها، فاستدل بنوع من المجاز على نوع آخر لا يناسبه ولا يوافقه.
المثال الحادي عشر: لو ادعى السوقة على الخليفة أو على عظيم من الملوك أنه استأجره لكنس داره وسياسة دوابه، فإن الشافعي يقبله وهذا في غاية البعد ومخالفة الظاهر، وخالفه بعض أصحابه في ذلك وخلافه متجه لظهور كذب المدعي. والقاعدة في الأخبار من الدعاوى والشهادات والأقارير وغيرها أن ما كذبه العقل أو جوزه وأحالته العادة فهو مردود. وأما ما أبعدته العادة من غير إحالة فله رتب في البعد والقرب قد يختلف فيها، فما كان أبعد وقوعا فهو أولى بالرد، وما كان أقرب وقوعا فهو أولى بالقبول، وبينهما رتب متفاوتة.
المثال الثاني عشر: إذا ادعى الصدوق اللهجة أنه أدى ما عليه من دين أو عين إلى ربه وهو فاجر كذاب فأنكره لم يقبل قوله.
المثال الثالث عشر: إذا تعاشر الزوجان على الدوام مدة عشرين سنة فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا ولم يكسها شيئا فالقول قولها عند الشافعي مع مخالفة هذا الظاهر في العادة.
المثال الرابع عشر: قول أبي حنيفة إذا قال لامرأة بحضرة الحاكم إن تزوجتك(2/106)
فأنت طالق ثم قبل نكاحها من الحاكم بإذنها، فإن الطلاق يقع عقيب النكاح ولو أتت بولد لستة أشهر لحقه، وهذا خروج عن العادة بالكلية وهو أبعد من قوله في المشرقي والمغربية، إلا أنه يوجب اللعان على الزوج وفيه إشكال إذ لا يجب الأيمان في الشرع على من يقطع بصدقه.(2/107)
فصل: في تنزيل دلالة العادات و قرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق و غيرهما و له أمثلة
...
فصل: في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق وغيرهما وله أمثلة
أحدها: التوكيل في البيع المطلق فإنه يتقيد بثمن المثل وغالب نقد بلد البيع تنزيلا للغلبة منزلة صريح اللفظ، كأنه قال للوكيل بع هذا بثمن مثله من نقد هذا البلد إن كان له نقد واحد، أو من غالب نقد هذا البلد إن كان له نقود، ويدل على هذا أن الرجل إذا قال لوكيله: بع داري هذه فباعها بجوزة فعند أهل العرف أن هذا غير مراد ولا داخل تحت لفظه، وكذلك لو وكله في بيع جارية تساوي ألفا فباعها بتمرة، فإن العقلاء يقطعون بأن ذلك غير مندرج في لفظه لاطراد العرف بخلافه.
المثال الثاني: حمل الإذن في النكاح على الكفء ومهر المثل هو المتبادر إلى الأفهام، بدليل أنه إذا قال من هو أشرف الناس وأفضلهم وأغناهم لوكيله وكلتك في تزويج ابنتي، فزوجها بعبد فاسق مشوه الخلق على نصف درهم فإن أهل العرف يقطعون بأن ذلك غير مراد باللفظ، لأن اللفظ قد صار عندهم مقيدا بالكفء ومهر المثل، ولا شك أن هذا طارئ على أصل الوضع.
المثال الثالث: إذا وكله في إجارة داره سنة، وأجرة مثلها ألف فأجرها بنصف درهم فإن الإجارة لا تصح لما ذكرناه في البيع، ولو قال لامرأته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فإن الإعطاء يتقيد بالفور للعرف في ذلك. وكذلك، إذا قال لامرأته إن شئت فأنت طالق فإن المشيئة تتقيد بالفور(2/107)
للعرف في ذلك تنزيلا للاقتضاء العرفي منزلة الاقتضاء اللفظي، والعرف في هذين دون العرف في التقييد بالقيمة ونقد البلد في البيع والإجارة.
المثال الرابع: إذا باع ثمرة قد بدا صلاحها فإنه يجب إبقاؤها إلى أوان جدادها، والتمكين من سقيها بمائها لأن هذين مشروطان بالعرف فصار كما لو شرطاهما بلفظه.
فإن قيل: لو باع ماشية وشرط سقيها أو علفها على البائع أو شرط إبقاءها في ملك البائع مدة فإن ذلك لا يصح فلم صح هذا الاشتراط ههنا؟
قلنا لأن الحاجة ماسة إليه وحاملة عليه فكان من المستثنيات عن القواعد تحصيلا لمصالح هذا العقد.
المثال الخامس: حمل الودائع والأمانات على حرز المثل فلا تحفظ الجواهر والذهب والفضة بإحراز الثياب والأحطاب تنزيلا للعرف منزلة تصريحه بحفظها في حرز مثلها.
المثال السادس: حمل الصناعات على صناعة المثل في محلها، فإذا استأجر الخياط لخياطة الكرباس الغليظ والبز الرفيع كالديبقي فإنه يحمل في كل واحدة منهما على مثله في العادة، فلو خاط الديبقي خياطة الكرابيس لم يستحق شيئا تنزيلا للفظ منزلة التصريح بخياطة المثل. وكذلك الاستئجار على الأبنية يحمل في كل مبنى على البناء اللائق بمثله من حسن النظم والتأليف وغيرهما. وكذلك الاستئجار على الطبخ والخبز يحمل على إنضاج المثل دون ما تجاوزه أو قصر عنه، فإذا ترك الخبز في التنور على ما جرت العادة في مثله فاتفق أنه احترق لم يلزمه الضمان تنزيلا لمقتضى العرف منزلة صريح اللفظ، ولو صرح له ذلك بلفظه لم يلزمه ضمان لأنه أتلفه بإذنه، فكذلك الإتلاف بالإذن العرفي منزل منزلة الإتلاف بالإذن اللفظي. وكذلك حمل إجارة الدواب على اليسير المعتاد والمنازل المعتادة، وكذلك دخول حمل الأمتعة والبسط وأواني(2/108)
الطعام والشراب في الإجارة على الدواب إذا استؤجرت للركوب في الأسفار لإطراد العرف بذلك، بخلاف ما لو استؤجرت للتردد في القرى والأمصار. وكذلك دخول ماء الآبار والأنهار في عقود الإجارات وإن لم تشترط لاطراد العرف بتبعيته، وكذلك حمل إجارة الخدمة على ما يليق بالمستأجر المخدوم في رتبته ومنصبه وقدر حاله واختلف في وجوب الحبر على الناسخ، والخيط على الخياط لاضطراب العرف فيه. وكذلك ما يستثنى من المنافع بحكم العرف كأوقات الصلاة، وأوقات الأكل والشرب، وقضاء الحاجات والليل فإنه مستثنى من مدة الاستئجار للخدمة، إلا الأوقات التي جرت العادة بالاستخدام فيها فإن الألفاظ منزلة عليها كأنه صرح بها من جهة أن دلالة العرف عليها كدلالة اللفظ، ونظير ذلك في العبادة خروج المعتكف من معتكفه في أوقات قضاء الحاجات، حتى كأنه قال أعتكف شهرا إلا أوقات قضاء الحاجات. وإذا وقعت الإجارة على مدة معينة كان عمل الأجير محمولا على المتوسط في العرف من غير خروج على العادة في التباطؤ والإسراع.
المثال السابع: توزيع القيمة على الأعيان المبيعة في الصفقة الواحدة وعلى المنافع المختلفة المستحقة بإجارة واحدة. مثاله في البيوع: إذا اشترى جارية تساوي ألفا وأخرى تساوي خمسمائة بتسعمائة فإنا نقابل التي تساوي ألفا بستمائة والتي تساوي خمسمائة بثلاثمائة، ومثاله في الإجارة إجارة منازل مكة فإن الشهر منها في أيام الموسم يساوي عشرة، وبقية السنة تساوي عشرة فيقابل شهر الموسم بنصف الأجرة، وبقية السنة بما بقي منها، فإن أهل العرف يبذلون أشرف الثمن في أشرف المثمن، وأرذله في أرذله ويقابلون النفيس بالنفيس والخسيس بالخسيس، وكذلك في الإجارات. ولا يشك عاقل أن من اشترى خرزة ودرة بألف في أنه بذل في الدرة أكثر الثمن وفي الخرزة أقله، وأن من استأجر دارا خسيسة مع دار نفيسة أو استأجر دابة فارهة مع دابة بطيئة أو استأجر سيفا قاطعا وسيفا كالا،(2/109)
أنه بذل أكثر الأجرة في أكثر ذلك منفعة وأقل الأجرة في أقل ذلك منفعة. ولهذه القاعدة امتنعت مسألة مد عجوة، ومسألة المراطلة، وكذلك أخذ الشقص بما يخصه من الثمن بناء على هذه القاعدة، وجاز لمن اشترى عبدين بثمن أن يوزع الثمن على قيمتهما ثم يخبر أنه اشترى كل واحد منهما بما يقتضيه التوزيع على القيمة. وأما ما ذكره بعض العلماء في مسألة مد عجوة من مقابله الربوي بمثله من الربوي فبعيد إذ لا يخطر ما ذكره على بال أحد من المتعاقدين، بخلاف الحمل على التوزيع فإنه غالب مفهوم.
فإن قيل: وضع العقود على أن يكون العوض في مقابلة المقصود، وأن تتوزع أجزاء العوض على أجزاء المقصود، فإذا مات الأجير في أثناء الحج فهلا تسقط جميع أجرته لأنه لم يحصل شيئا من مقصود المحجوج عنه؟
قلنا: إن جوزنا البناء على ما فعله الأجير فقد حصل الأجير أجرة المقصود، وإن لم نجوز ذلك ففيه قولان
أحدهما: لا يستحق شيئا وهو القياس، إذ لم يحصل شيئا من مقصود المستأجر، لأن مقصوده براءة الذمة من الحج، ولم تبرأ الذمة من شيء من أركان الحج، بخلاف غيره من الإيجارات فيمن استأجر لبناء حائط فبنى شطره، أو لطحن حنطة فطحن بعضها، أو لخياطة ثوب فخاط بعضه، أو لكتابة مصحف فكتب بعضه فإنه قد حصل بعض مقصود المستأجر - والأجير في الحج لم يحصل شيئا من مقصود المستأجر - وإن أتى بمعظم أركان الحج. فيشبه ما لو رد عامل الجعالة العبد الآبق من مسيرة شهر إلى باب دار الجاعل فهرب منه قبل تسليمه إلى الجاعل، فإنه لا يستحق شيئا اتفاقا لأنه لم يحصل شيئا من مقصود الجاعل.
القول الثاني: أن الأجرة توزع على أعمال الحج فيستحق منها بقدر ما عمل، ويسقط منها بقدر ما ترك، قياسا على سائر الأعمال، وفيه بعد لأن سائر الأعمال إنما يقسط عليها لاشتمالها على تحصيل بعض المقصود، وهذه الأعمال لم تحصل(2/110)
شيئا من المقصود، والعقود مبنية على مراعاة المقصود دون صور الأعواض، وفي هذا القول نظر إلى مصلحة الأجير لكنه بعيد من الأقيسة.
المثال الثامن: استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأنهم لا يعملون إلا بالأجرة إذا استصنعهم مستصنع من غير تسمية أجرة كالدلال والحلاق والفاصد والحجام والنجار والحمال والقصار، فالأصح أنهم يستحقون من الأجرة ما جرت به العادة، لدلالة العرف على ذلك.
المثال التاسع: تقديم الطعام إلى الضيفان إذا أكمل وضعه بين أيديهم ودخل الوقت الذي جرت العادة بأكلهم فيه فإنه يباح الإقدام عليه تنزيلا للدلالة العرفية منزلة اللفظية، ولا يجوز لأحد منهم أن يطعم السنور ولا السائل ما لم يعلم من باذل الطعام الرضا بذلك، ولا يجوز للأراذل أن يأكلوا مما بين أيدي الأماثل من الأطعمة النفيسة المخصوصة بالأماثل، إذ لا دلالة على ذلك بلفظ ولا عرف زاجر عن ذلك.
فإن قيل: إذا أكل الضيف فوق شبعه فهل يحرم عليه من جهة أن العرف إنما هو الإذن في مقدار الشبع؟ قلت: ينبغي أن لا يحرم عليه لكونه على خلاف الإذن إذ لا يتقيد الإذن بالعرف بذلك، وإنما يحرم عليه لأنه مضيع لما أفسده من الطعام لغير فائدة.
فإن قيل: هل يكون هذا إذنا في معلوم أو مجهول، لأن ما قد يأكله كل واحد من الضيفان مجهول للآذن؟ قلنا: لا يشترط في الإباحة أن يكون المباح معلوما للمبيح فلو أباح الأكل من ثمار بستانه، أو منح شاة أو ناقة أو أعار دابة ولم يقيد مدة الانتفاع، أو أعطاه نخلة يرتفق بثمارها على الدوام جاز ذلك، وهذا مستثنى من الرضا بالمجهولات لمسيس الحاجة إليه.
فإن قيل: لو كان أحد الضيفان يأكل أكلة مثل عشرة أنفس، ورب الطعام لا يشعر بكثرة أكله، فهل يجوز له أن يأكل قدر شبعه؟ قلت لا يجوز له أن يتناول(2/111)
فوق مايقتضيه العرف في مقدار الأكل لانتفاء الإذن اللفظي والعرفي فيما جاوز ذلك، وكذلك لو كان الطعام كثيرا فأكل لقما كبارا مسرعا في مضغها وابتلاعها حتى أكل أكثر الطعام ويحرم أصحابه لم يجز له ذلك لعدم الإذن العرفي واللفظي فيه، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن القران في التمر من غير إذن.
فإن قيل: فما حكم مسألة القران؟
قلت لها أحوال: إحداها أن يكون الطعام كثيرا يفضل عن شبع الجميع فلكل واحد أن يأكل كيف شاء من إفراد أو قران.
الحال الثانية: أن يكون الطعام قليلا سعوها 1 فهذه مسألة النهي في حق الضيفان وأما صاحب الطعام فله الإفراد والقران، وإن كان قرانه مخالفا للمروءة وأدب المؤاكلة.
الحال الثالثة: أن يكون الطعام قليلا مشتركا بين الآكلين فهذا أيضا في معنى النهي عن قران الضيفان.
المثال العاشر: دخول الحمامات والقياسير والخانات إذا افتتحت أبوابها في الأوقات التي جرت العادة في الارتفاق بها فيها فإنه جائز، إقامة للعرف المطرد مقام صريح الإذن، ولا يجوز لداخل الحمام أن يقيم فيه أكثر مما جرت به العادة، ولا أن يستعمل من الماء أكثر مما جرت به العادة، إذ ليس فيه إذن لفظي ولا عرفي، والأصل في الأموال التحريم ما لم يتحقق السبب المبيح.
المثال الحادي عشر: الدخول إلى دور القضاة والولاة في الأوقات التي جرت العادة: بالدخول فيها بعد فتح أبوابها للحكومات والخصومات وكذلك الجلوس فيها على حصرها وبسطها إلى انقضاء حاجة الداخل إليها، فإذا أراد أن يقيم إلى قضاء حاجته إقامة طويلة أو أراد من لا حاجة له الدخول للتنزه أو للوقوف على ما يجري للخصوم، فالأظهر جوازه لجريان العادة بمثله.
المثال الثاني عشر: الدخول إلى المدارس للإذن العرفي فيه، ولا يجوز
__________
1 هكذا بالأصل.(2/112)
الدخول إلى الكنائس بغير إذن لانتفاء الإذن العرفي واللفظي، فإنهم يكرهون دخول المسلمين إليها.
المثال الثالث عشر: دخول الدور بإخبار الصبيان عن إذن رب الدار في الدخول جائز على الأظهر لما اقترن به من بعد جرأتهم على مالك الدار، وكذلك حمل الهدايا مع الصبيان وإخبارهم بأن مالكها قد أهداها فإنه يجوز أخذها والارتفاق بها فلو أذن في الدخول فاسق أو حمل الهدية فاسق فالذي أراه أنه يجوز الإقدام قولا واحدا لأن قوله مقبول في الشرع معتبر وجرأته أبعد من جرأة الصبيان، ولا وقفة عندي في المستور، وعلى هذا عمل الناس من غير إنكار واستثني ذلك لما على المالك من المشقة في مباشرة ذلك بنفسه، وأصول هذه الشريعة مبنية على أن الأشياء إذا ضاقت اتسعت.
المثال الرابع عشر: التقاط كل مال حقير جرت العادة أن مالكه لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه، فإنه يجوز تملكه والارتفاق به لاطراد العادات ببذله.
المثال الخامس عشر: الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز إقامة للإذن العرفي مقام الإذن اللفظي. فلو أورد ألفا من الإبل إلى جدول ضعيف فيه ماء يسير، فلا أرى جواز ذلك فيما زاد على المعتاد لأنه لا يقتضيه إذن لفظي ولا عرفي، ولو كان الجدول أو النهر لمن لا يعتبر إذنه كاليتيم والأوقاف العامة أو سقط من يتيم أو من وقف على المساجد ما لو كان لمالك يعبر إذنه لأبيح، فعندي في هذا وقفة لأن صريح إذن المستحق لا يؤثر ههنا، فكيف يؤثر ما قام مقامه من العرف المعتاد ؟
المثال السادس عشر: حمل الألفاظ الحقيقية العربية على مجازها إذا علمت كلفظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة، وحمل لفظ الأخبار على الإنشاء، واستعمال الماضي في ألفاظ المعاملات: كبعت وأجرت وضمنت ووكلت ووهبت وأقرضت ووقفت وتصدقت، وحمل المستقبل على إنشاء الشهادات(2/113)
كأشهد بكذا. وكذلك الدعوى في قوله ادعى عليه بكذا لأن أشهد مردد بين الحال والاستقبال، وهو منصرف إلى الحال بعرف الاستعمال وكذلك قوله أنت حر وأنت طالق، وضعه أن يكون خبرا عن أمر محقق ثابت من غير اللفظ، فصار بالعرف بإنشاء للحرية والطلاق بحيث لا يثبتان إلا مع آخر حروف الكلمة على قول الأكثرين، أو عقيبه على قول آخرين.
المثال السابع عشر: حمل أوقاف المدارس فيما يستحقه أربابها على التفاوت بقدر رتبتهم في الفقه والتفقه والإعادة والتدريس. وكذلك تقديم العمارة مستفاد من الغلة حتى ينزل لفظ الواقف عليه كما ينزل الموكل على المبيع بثمن المثل من غالب نقد البلد وكذلك وقت التدريس محمول على البكور لاطراد العرف بذلك، فلو أراد المدرس أن يذكر الدرس في الليل أو وقت الزوال أو وقت المغرب منع من ذلك.
المثال الثامن عشر: وجوب الإثابة في سباب الأراذل للأماثل بناء على العرف الغالب فيه.
المثال التاسع عشر: اندراج الأبنية والأشجار في بيع الدار ولو لم يصرح البائع بذلك بناء على العرف الغالب فيه واندراجهما في بيع الأرض، والساحة والعرصة أبعد لأنهما قد يفردان عن الملك في الساحات والأراضي والعراص، بخلاف الأبنية والديار.
المثال العشرون: دخول ثياب العبد والأمة في بيعهما عند من رآه لاطراد العرف بذلك.
المثال الحادي والعشرون: التوكيل في أداء الديون يجب على الوكيل الإشهاد على الأداء بحكم العرف.
المثال الثاني والعشرون: الاعتماد في كون الركاز جاهليا أو غير جاهلي على العلامات المختصة بإحدى الملتين: فما وجدت عليه علامات الإسلام كان لقطة واجبة(2/114)
التعريف، وما كان عليه علامة الجاهلية كان ركازا يجب فيه الخمس، وما خلا من العلامتين واحتمل أن يكون لكل واحدة من الطائفتين، فالنص أنه لقطة، وجعله بعضهم كالركاز لعموم قوله عليه السلام: "وفي الركاز الخمس".
المثال الثالث والعشرين: إذن الإمام للجلاد في جلد الحدود والتعزيرات فإنه يحمل على حزب بين حزبين لسقوط بين سقوطين في زمن بين زمانين وإذا أمر الإمام بالرجم تعين الرجم بالأحجار المعتادة فلا يجوز بالصخور ولا بالحصيات الصغار ولا يجلد عريان وإن كان أصل الوضع يدل على ذلك فإن معنى جلده ضرب جلده، كما يقال رأسه إذا ضرب رأسه، وركبه إذا ضرب ركبته إلا أنه صار بعرف الاستعمال محمولا على الحائل خلافا لمالك في تجريد الرجال، ويدل عليه قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} مع انعقاد الإجماع على أن المرأة لا تتجرد فيستعمل اللفظ فيهما استعمالا واحدا، فكأنه قيل فاضربوا جلد كل واحد منهما فوق ثوبه.
وأما إشارة الأخرس المفهمة فهي كصريح المقال إن فهمها جميع الناس، كما لو قيل له كم طلقت امرأتك، فأشار بأصابعه الثلاث، وكم أخذت من الدراهم؟ فأشار بأصابعه الخمس.
وإن كانت مما يفهمه الناس نزلت منزلة الظواهر، وإن كانت مما يتردد فيه نزلت منزلة الكنايات، وكذلك من اعتقل لسانه بمرض أو غيره فقيل له لفلان عليك ألف فأشار برأسه - أي نعم - أو أشار برأسه إلى فوق أي لا شيء له - وكذا لو قيل له قتلت زيدا؟ وكذلك كتابته تقوم مقام إشارته
وأما كتابة غيره من القادرين على النطق ففي إقامتها مقام كلامه قولان.(2/115)
فصل: في حمل الألفاظ على ظنون مستفادة من العادات لمسيس الحاجات إلى ذلك و له أمثلة
...
فصل: في حمل الألفاظ على ظنون مستفادة من العادات لمسيس الحاجات إلى ذلك وله أمثلة
أحدها: إزفاف العروس إلى زوجها مع كونه لا يعرفها فإنه يجوز له وطؤها(2/115)
لأن زفافها شاهد على أنها امرأته لبعد التدليس في ذلك في العادات.
المثال الثاني: الأكل من الهدي المنحور المشعر بالفلاة جائز على المختار لدلالة النحر والإشعار القائمين مقام صريح اللفظ على البذل والإطلاق.
المثال الثالث: الدخول إلى الأزقة والدروب المشتركة جائز للإذن العرفي المطرد فيه، فلو منعه بعض المستحقين امتنع من الدخول، ولو كان فيهم يتيم أو مجنون ففي هذا نظر، ولو استند لجدار إنسان فإن كان استناده مما يؤثر فيه اختلالا أو ميلا أو سقوطا لم يجز لعدم الإذن اللفظي والعرفي، وإن كان الجدار مما لا يؤثر فيه الاستناد إليه ألبتة جاز الاستناد إليه للإذن العرفي، فإن منعه مالكه من الاستناد إليه فقد اختلف في مثل هذا من جهة أنه عناد محض فيصير بمثابة قوله لا تنظر إلى حسن داري، ولا إلى نضارة أشجاري، ولا إلى رونق أثوابي ولا إلى كثر أصحابي.
المثال الرابع: طرق باب الدار والإيقاد من السرج والمصابيح كل ذلك جائز للإذن العرفي.
المثال الخامس: صدقة التطوع يكفي فيها المناولة لأن قرينة حال الفقير تشهد على أنها صدقة، ولا وجه لقول من شرط فيها اللفظ لأنه خلاف ما درج عليه السلف والخلف.
المثال السادس: المعاطاة في المحقرات قائمة مقام الإيجاب والقبول لمن جلس في الأسواق للبيع والشراء لأنها دالة على الرضا بالمعاوضة دلالة صريح الألفاظ، وكذلك الطائف بالمحقرات.
المثال السابع: إتلاف المشتري المبيع ووطء المشتري الجارية المبيعة بحضرة البائع فإنه يتنزل منزلة الإمضاء بصريح اللفظ، ولو وطئها البائع لكان فسخا لدلالته عليه، فإن الغالب من المسلم لا يقدم على الفجور مع إمكان الوطء الحلال.(2/116)
المثال الثامن: سكوت الأبكار إذا استؤذن في النكاح فإنه يدل ظاهرا على الرضا به، إذ لو كرهته لصرحت بالمنع، إذ لا تستحي من المنع استحياءها من الإذن.
المثال التاسع: الاعتماد في المعاملات والضيافات والتبرعات على بذل الباذل لأن دلالتها على ملكه واختصاصه ظاهرة في العرف المطرد.
المثال العاشر: معاملة مجهول الحرية والرشد، وسماع دعواه وإقراره وأكل طعامه وقبول هديته، وإباحته والدخول في منزله بناء على أن الغالب في الناس الحرية والإطلاق.
المثال الحادي عشر: الاعتماد على قول المقومين العارفين بالصفات النفيسة الموجبة لارتفاع القيمة، وبالصفات الخسيسة الموجبة لانحطاط القيمة لغلبة الإصابة على تقويمهم، وكذلك الاعتماد على قول الخارصين لغلبة إصابتهم في ذلك حتى لا يكادون يخطئون.
المثال الثاني عشر: اعتماد المنتسب على ميل طبعه إلى أحد المتداعين في الانتساب وهذا من أضعف الظنون، ولذلك كان في آخر رتب الإلحاق عند عدم القائف.
المثال الثالث عشر: الاعتماد على كيل الكائلين ووزن الوازنين ومساحة الماسحين لغلبة الإصابة في ذلك.
المثال الرابع عشر: الاعتماد في رفع اللقطة على وصف من يصف وكاءها وعفاصها وقدرها لظهور دلالته على صدقه بأنها ملكه.
المثال الخامس عشر: الاعتماد على أمارات الطهارة والنجاسة وجهة القبلة.
المثال السادس عشر: حبس المدعى عليه بشهادة مستورين إلى أن يعدلا لأن الغالب من المستورين العدالة.
المثال السابع عشر: حمل الدعاوى بالأسباب والتصرفات والعقود - على صحيحها دون فاسدها لغلبة صحيحها وندرة فاسدها.(2/117)
المثال الثامن عشر: سماع الشهادات بالإقرار مع إهمال الشاهد ذكر أهلية المقر للإقرار لغلبة الرشد والاختيار على المقرين المتصرفين.
المثال التاسع عشر: دلالة الاتصال على الاختصاص فإذا حال جدار بين أرضين، فإذا كانتا لمستحقين خاصين كان الجدار بينهما لأن اتصاله بملكيهما يدل على أنه لهما، ولو كان حائلا بين الشارع وبين ملك، أو بين موات وبين ملك، اختص به المالك لأن الطرق والموات لا تحوط عليها في العادة بخلاف الملكية.
المثال العشرون: دلالة أوضاع الأبنية على اختصاص أحد المتجاورين كما لو كان بين ملكين جدار متصل بأبنية أحد الملكين اتصال تداخل وترصيف، فإنه يختص به ذو الترصيف، لأن معه دلالتين: أحدهما الاتصال، والثاني التداخل والترصيف، ولو تداخل من أحد طرفيه في ملك أحدهما ومن الطرف الآخر في ملك الآخر اشتركا فيه لتساويه في الدلالتين.
المثال الحادي والعشرون: الأبواب المشرعة في الدروب المنسدة دالة على الاشتراك في الدروب إلى حد كل باب منها فيكون الأول شريكا من أول الدرب إلى بابه الأول، ويكون الثاني شريكا من أول الدرب إلى بابه الثاني وكذلك الثالث أو الرابع إلى أن يصير الذي في صدر الدرب شريكا من أول الدرب إلى آخر الأبواب، ويختص بما وراء آخر الأبواب إلى صدر الدرب على المذهب.
المثال الثاني والعشرون: وجود الأجنحة المشرعة المطلة على ملك الجار وعلى الدروب المشتركة فإنها دالة على أنها وضعت باستحقاق. وكذلك القنوات المدفونة تحت الأملاك، والجداول والأنهار الجارية في أملاك الناس دالة على استحقاقها لأرباب المياه، لأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق.(2/118)
المثال الثالث والعشرون: دلالة الأيدي على الاستحقاق لأنه الغالب. فإن قيل: هذا ظاهر في بعض المنقولات كثياب الإنسان الذي هو لابسها وعدد الدواب المشدود عليها، والبر الذي في أيدي التجار. وأما ما اطردت العادة بإيجاره وخروجه عن يد مالكه إلى يد مستأجره وكالأراضي والدواب والقياسير والحمامات فإن الغالب فيها الخروج من يد مالكها؟ قلت: جوابه مشكل واعلم أن البينات مقدمة على هذه الدلالات، لأن الظن المستفاد من البينات أقوى من الظن المستفاد من هذه الجهات، والاقرار مقدم على البينة لأن الظن المستفاد منه أقوى من الظن المستفاد من شهادة الشاهد، لأن وازع المقر عن الكذب طبعي ووازع الشاهد شرعي. والوازع الطبعي أقوى من الوازع الشرعي، ولذلك يقبل الإقرار من كل مسلم وكافر وبر وفاجر لقيام الوازع الطبعي. ولكان كا الوازع عن الكذب مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه، وعلى من يتلقى منه لكونه فرعه، ولما كان الوازع الشرعي عاما بالنسبة إلى جميع الناس كان حجة عامة فإن خوف الله يزع الشاهد عن الكذب في حق كل واحد فكان قوله حجة عامة لكل أحد، ولما كان وازع الإقرار عن الكذب مختصا بالمقر قصر عليه فهو خاص قوي، والشهادة عامة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار، قوية بالنسبة إلى الأيدي وإلى ما ذكرنا من الدلالات، وقد أجرى الله تعالى العادة بأن الظنون لا تقع إلا بأسباب تثيرها وتحركها فمن أسبابها استحضار الأصول، ومن أسبابها اطراد العادات فيما ذكرناه ومن أسبابها كثرة الوقوع من غير اطراد، ولا يتصور في الظنون تعارض كما لا يتصور في العلوم، وإنما يقع التعارض بين أسباب الظنون، وإذا تعارض، وإذا تعارضت أسباب الظنون فإن حصل الشك لم يحكم بشيء، وإن، وإن وجدنا الظن في أحد الطرفين حكمنا به، لأن ذهاب مقابله يدل على ضعفه، فمهما تعارضا سببا ظن، فإن كل واحد منهما(2/119)
مكذبا للآخر تساقطا كتعارض الخبرين والشهادتين، وإن لم يكذب كل واحد منهما صاحبه عمل بهما على حسب الإمكان كدابة عليها راكبان فإنه يحكم بها لهما، لأن كل واحد من اليدين لا تكذب الأخرى وكذلك الدار فيها ساكنان، والخشبة لها حاملان، والحبل يتجاذبه اثنان والجدار المتصل بملكين فهذا يحكم به لهما، إذ لا تكاذب بينهما.
[فائدة] اليد عبارة عن القرب والاتصال، وللقرب والاتصال مراتب بعضها أقوى من بعض في الدلالة أعلاها: ما اشتد اتصاله بالإنسان كثيابه التي هو لابسها وعمامته ومنطقته وخاتمه وسراويله ونعله الذي في رجله ودراهمه التي في كمه أو جيبه أو يده، فهذا الاتصال أقوى الأيدي لاحتوائه عليها ودنوه منها. الرتبة الثانية: البساط الذي هو جالس عليه أو البغل الذي هو راكب عليه فهذا في الرتبة الثانية. الرتبة الثالثة: الدابة التي هو سائقها أو قائدها، فإن يده في ذلك أضعف من يد راكبها. الرتبة الرابعة: الدار التي هو ساكنها، ودلالتها دون دلالة الراكب والسائق والقائد لأنه غير مسئول على جميعها ويقدم أقوى اليدين على أضعفهما، فلو كان اثنان في دار فتنازعا في الدار وفي ما هما لابسانه جعلت الدار بينهما بأيمانهما لاستوائهما في الاتصال وجعل القول قول كل واحد منهما في ما هو لباسه المختص به لقوة القرب والاتصال، ولو اختلف الراكبان في مركوبهما حلفا وجعل بينهما لاستوائهما، ولو اختلف الراكب مع القائد أو السائق قدم الراكب عليهما بيمينه.(2/120)
فصل: في الحمل على الغالب و الأغلب في العادات و لذلك أمثلة
...
فصل: في الحمل على الغالب والأغلب في العادات ولذلك أمثلة
منها: أن من أتلف متقوما فإنه يلزمه ضمانه بقيمته من نقد البلد، أو من غالبه إن كان فيه نقود، أو من أغلبه إن كان فيه نقود بعضها أغلب من بعض، ومنها: أن من ملك خمسا من الإبل فإنه يلزمه شاة من شياه البلد. ومنها: وجوب الفطرة من غالب قوت البلد، ومنها: أن من ملك التصرف القولي بأسباب مختلفة(2/120)
ثم صدر منه تصرف صالح للاستناد إلى كل واحد من تلك الأسباب فإنه يحمل على أغلبها. فمن هذا تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتيا والحكم والأمانة العظمى، فإنه إمام الأئمة، فإذا صدر منه تصرف حمل على أغلب تصرفاته وهو الفتيا ما لم يدل دليل على خلافه، وله أمثلة: أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان لما شكت إليه إمساك أبي سفيان وشحه: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" احتمل أن يكون فتيا، واحتمل أن يكون حكما، فمنهم من جعله حكما والأصح أنه فتيا، لأن فتياه صلى الله عليه وسلم أغلب من أحكامه، ولأنه لم يستوف شروط القضاء.
المثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله سلبه" محمول على الفتيا لأنه أغلب تصرفه بالقضاء وبالإمامة العظمى.
المثال الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" حمله أبو حنيفة رحمه الله على التصرف بالإمامة العظمى، لأنه لا يجوز إلا بإذن الإمام وحمله الشافعي رحمه الله على التصرف بالفتيا لأنه الغالب عليه، وقال يكفي في ذلك إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يحمل على غالب التصرف تصرف الوكيل والمضارب، والوصي، والولي العام والخاص، إذا اشتروا شيئا بثمن مثله مما يصح شراؤه لأنفسهم وللمولى عليهم فإنه يقع لهم، لأن الغالب من تصرفاتهم التصرف لأنفسهم فقصر عليهم إلا أن ينووا به من تحت ولايتهم، وإن اشتروه مطلقا بعين مال المولى عليهم تعين للمولى عليهم إذ لا تردد فيه.
[قاعدة] كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل فلا يصح بيع حر ولا أم ولد، ولا نكاح محرم، ولا محرم، ولا إجارة على عمل محرم، فإن شرط نفي الخيار في البيع صح على قول مختار لأن لزومه هو المقصود والخيار دخيل عليه.(2/121)
قاعدة في اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها
...
قاعدة في اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها
اعلم أن الله تعالى شرع في كل تصرف من التصرفات ما يحصل مقاصده ويوفر مصالحه؛ فشرع في باب ما يحصل مصالحه العامة والخاصة، فإن عمت المصلحة جميع التصرفات شرعت تلك المصلحة في كل تصرف، وإن اختصت ببعض التصرفات شرعت فيما اختصت به دون ما لم تختص به، بل قد يشترط في بعض الأبواب ما يكون مبطلا في غيره نظرا إلى مصلحة البابين، كما يشترط استقصاء أوصاف المحكوم له والمحكوم عليه أن ينتهي إلى عزة وجوده المشارك في تلك الأوصاف، كي لا يقع الحكم على مبهم. ولو وقع مثل ذلك في السلم لأفسده لأنه مؤد إلى تعذر تحصيل مقصوده، ولذلك شرط التوقيت في الإجارة والمساقاة والمزارعة، ولو وقع التوقيت في النكاح لأفسده لمنافاته لمقصوده، وكذلك شرط في العقود اللازمة على المنافع أن يكون أجلها معلوما وجعل أجل النكاح مقدرا لعمر أقصر الزوجين عمرا. فمن ذلك أن الشرع منع من بيع المعدوم وإجارته وهبته لما في ذلك من الغرر وعدم الحاجة، وجوز عقود المنافع مع عدمها إذ لا يتصور وجودها حال العقد، ولا تحصل منافعها إلا كذلك وقد جوز الشافعي رحمه الله إجارة المنافع بالمنافع، وإن كانتا معدومتين، كما جوزت الشريعة عقد النكاح بتعليم القرآن، وهو مقابلة منفعة التعليم بمنفعة البضع، والتقدير زوجتكها بتعليم ما معك من القرآن أو بتلقين ما معك من القرآن، وكما أنكح شعيب ابنته من موسى برعي عشر حجج مقابل منافع البضع بالرعي، كما قابل صلى الله عليه وسلم منافع البضع بتعليم القرآن.
وكذلك جوز الشرع القراض على عمل معدوم مجهول وجزء من الربح معدوم مجهول، إذ لا تحصل فائدة القراض من الطرفين ومصلحته غالبا إلا كذلك، لكنه شرط في ذلك غلبة الوجود في العوضين كما شرط في الإجارة، وكذلك جوزت المساقاة على ثمر مجهول معدوم، وعلى عمل معلوم معدوم، إذ لا حاجة إلى جهالة(2/122)
العمل في المساقاة والمزارعة وإذ لا حاجة إلى جهل الجعل في الجعالة، لكن يشترط في عوض المساقاة غلبة الوجود، ولا يشترط ذلك في عمل الجعالة لتعذره. وإن كانت الثمرة موجودة جازت المساقاة على الأصح، لانتفاء الغرس وموافقة ذلك لقواعد العقود. ونظير تجويز المساقاة على ثمار مجهولة معدومة بأعمال معلومة: الإجارة على الرضاع؛ فإن اللبن فيه معدوم مجهول كالثمار والحبوب في المساقاة والمزارعة والأجرة في ذلك معلومة إذ لا حاجة أن تكون مجهولة كما في عمل المساقاة، ولا وجه لقول من شرط الحضانة في الإجارة على الرضاع ليكون الرضاع تابعا كما يتبع الماء الإجارة على المزارعة، وهذا لا يصح لأن المقصود الأعظم من الرضاع إنما هو اللبن دون الحضانة، ويدل على ذلك أن الله علق إيتاء الأجرة على مجرد الرضاع بقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. وكذلك دخول مياه الأنهار والعيون والآبار في الإجارة على زرع الحبوب أو غرس الأشجار، وكذلك دخول المياه المذكورة في إجارة الأرحية والديار، إذ لا يتم مقاصد هذه الإجارة إلا بذلك، لأنه في الديار يكمل الانتفاع وفي الأرحية والمزارع والمغارس محصل لأصل الانتفاع. وكذلك جوزت الجعالة على عمل مجهول مع عمل مجهول لأن مصلحة رد الضائع لا تحصل في الغالب إلا كذلك، وشرط في الجعل ما شرط في الأجرة إذ لا تدعو الحاجة إلى مخالفة الأصول فيه إلا مسألة العلج وهو الكافر الغليظ الشديد إذا دل المسلمين على عورات حصون المشركين يجعل من مال المشركين، فإنه يصح مع أنه مجهول غير مملوك ولا مقدور على تسليمه لماس الحاجة إلى ذلك في إقامة مصالح الجهالة، وكذلك شرطت الرؤية في المبيع والمأجور والموهوب دفعا للغرر، ولم تشترط في النكاح مع أن جمال المرأة من أكمل المقاصد لما في اشتراطها فيه من الضرر على النساء والأولياء وإرغام أنف النخوة والحياء. ومن أجاز بيع الغائب على الصفة خيره إذا رأى المبيع بين الفسخ والإمضاء ولا يجري مثله في النكاح لما فيه من الضرر(2/123)
العظيم على النساء والأولياء، ولا يشترط وصف المرأة كما يشترط وصف المبيع الغائب لما في وصفها من والابتذال والامتهان مع أن الزوج قادر على أن يرسل إليها من يشاهدها ويخبره بأوصافها. وقد ندب الشارع الخاطب إلى رؤيتها ليعلم ما يقدر عليه فيرغب في النكاح ويكون على بصيرة من الإحجام أو الإقدام وإنما جوز ذلك ليرجو رجاء ظاهرا أن يجاب إلى خطبته دون من يعلم أنه لا يجاب، أو يغلب على ظنه أنه لا يجاب، وإن استوى الأمران ففي هذا احتمال من جهة أن النظر لا يحمل إلا عند غلبة الظن بالسبب المجوز، وإن عجز الرؤية أرسل إليها من يشاهدها ويقدم الرؤية والإرسال على الخطبة، كي لا يشاهدها بعد الخطبة فلا تعجبه فيتركها ويكسرها ويكسر أولياءها بزهده فيهم.
فإن قيل: لم لا يشرط الذوق في المذوقات مع كونه مقصودا، وهلا شرط اختبار الدواب المستأجرة بالركوب والتسيير. قلنا لم يشترط ذلك لأن رؤية الأوصاف الظاهرة من المبيع والمأجور تدل على ما يظن من أوصافه دلالة ظاهرة، فاكتفى برؤية ما ظهر عن معرفة ما بطن، ولو شرط ذوق المطعوم لتلف أكثره بذوق الذائقين، لأنه قد يذوقه فلا يعجبه، أو يذوقه التذاذا بطعمه من غير رغبة في شرائه، وكذلك شرع في الوقف ما يتم مصالحه كتمليك المعدوم من المنافع والغلات لموجود منهم: كالوقف على الفقراء والحجاج والغزاة، ولمعدوم منهم: كالوقف على أولاد الأولاد بعد الأولاد وكالوقف على من سيوجد من الفقراء والمساكين إلى يوم الدين لأن مصلحة هذه الصدقة الجارية إلى يوم المعاد لا تحصل إلا بما ذكرناه، وكذلك إخراج المنافع إلى غير مالك: كالوقف على بناء القناطر والمساجد ومصالحهما، وإنما خولفت القواعد لأن المقصود منه المنافع والغلات وهي باقية إلى يوم الدين، فلما عظمت مصلحة خولفت القواعد في أمره تحصيلا لمصلحته.(2/124)
ومن ذلك الوصايا خولفت فيها القواعد تحصيلا لمصالحها نظرا إلى الأموات إذا انقطعت حسناتهم لافتقارهم إلى رفع درجاتهم وتكفير سيئاتهم بحسناتهم فجاز فيها تراخي القبول عن الإيجاب، لأن شرط القبول الاتصال بالإيجاب فإن تأخر تأخرا يشعر بالإضراب عن القبول بطل سلطان القبول لأن الإيجاب موجب لسلطان القبول للقابل في المدة التي يعد فيها مجيبا للموجب غير مضرب عن جوابه، وهذا معتبر باتصال الكلام حتى لو فرق الفاتحة تفريقا يعد به مضربا عن القراءة انقطع ولاء الفاتحة وكذلك اتصال الاستثناء والشرط بكلام المستثني والشارط، وإذا جوزنا المعاملة بالكتابة جاز أن يتراخى القبول بعد وصول الخبر بزمان لا يعد بالتأخير في مثله مضربا عن الإيجاب. وإنما جاز ذلك في الوصية تحصيلا لمقاصدها وكذلك جاز فيها أيضا أن يتراخى القبول عن بلوغ الخبر. وكذلك جاز فيها أن يوصي بما لا يملك حال الوصية، وجاز فيها أيضا الوقف فيما زاد على الثلث على الأصح مع أن الشافعي رحمه الله لا يرى وقف العقود، ومما تختص به الوصية أن إيجابها لا يبطل بموجبها فإنه لو بطل لفات جميع مقاصدها.
[فائدة] إذا مات الموجب بين الإيجاب والقبول بطل إيجابه بخلاف الوصية إذ لا يتم مقصودها إلا كذلك بخلاف سائر العقود. وكذلك لو أغمي على الموجب أو جن بطل إيجابه إلا في الوصايا فإنها لم تبطل بالموت، فالأولى أن تبطل بما دونه والله أعلم.
ومن ذلك جواز التصرفات ولزومها، والتصرفات أنواع.
أحدها: ما لا يتم مصالحه ومقاصده إلا بلزومه من طرفيه كالبيع والإجارة والأنكحة والأوقاف والضمان والهبات. وأما البيع والإجارة فلو كانا جائزين لما وثق كل واحد من المتعاقدين بالانتفاع بما صار إليه ولبطلت فائدة شرعيتهما إذ لا يأمن من فسخ صاحبه، لكن دخل في البيع خيار المجلس على خلاف(2/125)
قاعدته لأن الحاجة تمس إليه فجاز مع قصر مدته، وقد لا يتحقق العاقد في مدة المجلس أنه غابن أو مغبون، فشرع خيار الشرط مقدرا بثلاثة أيام تكميلا للغرض من شرعية الخيار، ولو شرط أحد المتعاقدين خيار المجلس لسقط على المختار لأن سقوطه موافق لمقاصد العقد بخلاف ما لو شرط نفي الملك والقبض لأنهما مراغمان لمقصود العقد. وفي ثبوت خيار المجلس في الإجارة المقدرة بالمدة خلاف لأدائه إلى تفويت بعض المعقود عليه. وكذلك يثبت الخيار في البيع لأسباب تغض من مقاصد الخيار كخيار الخلف وخيار العيب وخيار التدليس، وكذلك في الإجارة. وأما النكاح فلا تحصل مقاصده إلا بلزومه ولا يثبت فيه خيار مجلس ولا خيار شرط لما في ذلك من الضرر على الزوجين في أن يرد كل واحد منهما رد السلع مع أن الغالب في النكاح أن لا يقع إلا بعد البحث وصحة الرغبة، ولا يفسخ إلا بعيوب خمسة قادحة في مقاصده ويقع بالطلاق عند الإيلاء. وأما قطعه بالإعسار فهل هو قطع فسخ أو قطع طلاق فيه قولان، وقد رأى بعض العلماء أن لا يفسخ بالإعسار، لأن اليسار ليس من المقاصد الأصلية. وأما الأوقاف فلا يحصل مقصودها الذي هو جريان أجرها في الحياة وبعد الممات إلا بلزومها، وأما الضمان فلا يحصل مقصوده إلا بلزومه ولا خيار فيه في الوقف بحال. وأما الهبات فالأصل فيها اللزوم ليحصل المتهب على مقاصدها لكن شرع فيها الجواز إلى الإقباض نظرا للواهب والمتهب، كما شرع خيار المجلس في البيع، فإن الواهب قد يرى المصلحة في فسخ الهبة وصرف الموهوب فيما هو أهم منها، وقد يرى المتهب أن لا يتحمل منه الواهب، واستثنى الشرع رجوع الآباء والأمهات في الهبات بعد الإقباض تخصيصا لشرف الولادة كما أوجب لهؤلاء من الحقوق ما لم يوجبه لغيرهم، وحرم الرجوع في الهبات بعد لزومها على سواهم حتى شبه العائد في(2/126)
هبته بالكلب يعود في قيئه زجرا عن العود فيها لما فيه من أذية المتهب بإزالة ملكه مع تحمله ضيم منة الأجانب.
النوع الثاني من التصرفات: ما يكون مصلحته في جوازه من طرفيه كالشركة والوكالة والجعالة والوصية والقراض والعواري والودائع.
أما الوكالة فلو لزمت من جانب الوكيل لأدى إلى أن يزهد الوكلاء في الوكالة خوف لزومها فيتعطل عليها هذا النوع من البر، ولو لزمت من جانب الموكل لتضرر لأنه قد يحتاج إلى الانتفاع بما وكل فيه لجهات أخر كالأكل والشرب واللبس أو العتق أو السكنى أو الوقف وغير ذلك من أنواع البر المتعلق بالأموات، والشركة وكالة لأنها إن كانت من أحد الجانبين فالتعليل ما ذكرناه، وإن كانت من الجانبين فإن لزمت فقد فات على كل واحد منهما المقصودان المذكوران.
وأما الجعالة فلو لزمت لكان في لزومها من الضرر ما ذكرناه في الوكالة وأما الوصية فلو لزمت لزهد الناس في الوصايا.
وأما القراض فلو لزم على التأبيد عظم الضرر فيه من الجانبين وفاتت الأغراض التي ذكرناها في الوكالة، وإن لزم إلى مدة لا يحصل فيها الربح في مثل تلك المدة فلا يحصل مقصود العقد، فإن قيل هلا لزم إلى مدة يحصل فيها الأرباح غالبا، قلنا ليس لتلك الأرباح ضابط يعتمد على مثله. أما العواري فلو لزمت لزهد الناس فيها، فإن المعير قد يحتاج إليها لما من الأغراض والمستعير قد يزهد فيها دفعا لمنة المعير.
وأما الودائع فلو لزمت لتضرر المودع والمستودع، ولزهد المستودعون في قبول الودائع، وقد اختلف الشافعي رحمه الله في المسابقة والمناضلة فألحقهما على قول بالإجارات، وألحقهما على قول بالجعالات.
النوع الثالث من التصرفات: ما تكون مصلحته في جوازه من أحد طرفيه ولزومه من الطرف الآخر كالرهن والكتابة وعقد الجزية، وإجارة المشرك(2/127)
المستجير لسماع كلام الله تعالى. وأما الرهن فإن مقصوده التوثق ولا يحصل إلا بلزومه على الراهن وهو حق من حقوق المرتهن فله إسقاط توثقه به كما تسقط وثيقة الضمان بإبراء الضامن وهو محسن بإسقاطهما. وأما الكتابة فمقصودها الأعظم حصول العتق فلو جازت من قبل السيد لأدى ذلك إلى أن يفسخها متى شاء بعد أن يكدح العبد في تحصيل معظم النجوم وذلك مبطل لتحصيل مقصود الكتابة، وجازت من قبل العبد إذ لا يلزمه السعي في تحصيل حريته. وأما عقد الجزية فإنه جائز من جهة الكافرين لازم من جهة المسلمين تحصيلا لمصالحه ولو جاز من جهة المسلمين لامتنع الكافرون منه لعدم الثقة به لكن يجوز فسخه بأسباب تطرأ منهم وذلك غير منفرد من الدخول فيه. وأما إجارة المشرك المستجير لسماع كلام الله تعالى فإنها جائزة من جهة المستجيرين لازمة من جهة المسلمين إذ لا تتم مصلحتها إلا بلزومها من قبلنا فإنها لو لم تلزم لفات مقصودها وهو معرفة المستجير لدعوة الإسلام والدخول فيه بعد الاطلاع عليه. فإن قيل لم منعتم الزيادة على العشر في أموال الكفار وقلتم لا تؤخذ في السنة إلا مرة واحدة؟ قلنا لأنا لو خالفنا ذلك لزهدوا في التجارة إلى بلادنا وانقطع ارتفاق المسلمين بالعشور وبما يجلبونه مما يحتاج إليه من أموال التجارة والأقوات وغير ذلك.
[فائدة] العفو عن القصاص والعقوبات لازم لا يقبل الجواز. وكذلك الإبراء عن الديون. وأما الولايات فإن تعين المتولي ولم يوجد من يقوم مقامه فإنها لازمة في حقه لا يقبل العزل ولا الانعزال إلى أن يوجد من يقوم مقامه فينفذ العزل والانعزال، فلو عزل الإمام أو الحاكم أنفسهما وليس في الوجود من يصلح لذلك لم ينفذ عزلهما أنفسهما لوجوب المضي عليهما. وكذلك الوصي إذا لم يجد حاكما يوثق به فينبغي أن لا ينفذ عزل نفسه ولو نفذ عزل نفسه لصار المال بيده أمانة شرعية، إذ لا يجوز تسليمه إلى الظلمة والفجرة، لأن التسلم إلى الظلمة والفجرة كالإلقاء في مضيعة.(2/128)
[فائدة] القسمة المجبر عليها لازمة إذ لا يحصل مقصودها إلا بلزومها وكذلك قسمة التراضي لازمة سواء جعلت بيعا أم إقرارا لأن مقصودها زوال ضرر الشركة لما على كل واحد من الشريكين من امتناع الانتفاع بنصيبه إلا بإذن شريكه، إذ لا يجوز لأحد الشريكين أكل ما يؤكل ولا شرب ما يشرب، ولا ركوب ما يركب، ولا لبس ما يلبس، ولا سكنى ما يسكن إلا بإذن شريكه, وكذلك التصدق والهدية والإيداع والضيافة لا يرتفع هذا الحجر إلا بلزوم القسمة.(2/129)
فائدة في اختلاف مصالح الأركان و الشرائط
...
فائدة في اختلاف مصالح الأركان والشرائط
كل تصرف جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة فقد شرع الله من الأركان والشرائط ما يحصل تلك المصالح المقصودة الجلب بشرعه، أو يدرئ المفاسد المقصودة الدرء بوضعه، فإن اشتركت للتصرفات في مصالح الشرائط والأركان كانت تلك الشرائط والأركان مشروعة في جميعها، وإن اختص بعض التصرفات بشيء من الشروط أو الأركان اختص ذلك التصرف بهما. وقد يشترط في أحد التصرفين ما يكون مفسدا في التصرف الآخر لتقاربهما في جلب مصالحهما ودرء مفاسدهما: فالإيمان شرط في كل عبادة، والطهارة شرط في كل صلاة وطواف، وكذلك السترة واستقبال القبلة، ولا يشترط ذلك في حج ولا صوم ولا زكاة ولا قراءة ولا ذكر الله ولا تعريف ولا سعي ولا اعتكاف ولا رمي، وكذلك يشترط في بعض التصرفات: كالبيع والإجارة الوجود والقدرة على التسليم وانتفاء الأغرار السهلة الاجتناب، ولا يشترط ذلك في قراض ولا بيع ولا مساقاة ولا مزارعة ولا جعالة ولا إجارة ولا إرضاع ولا في مياه العيون والآبار والجداول والأنهار التابعة للإجارة على المزارعة وغرس الأشجار، فإن ذلك لو شرط لفاتت مصالح هذه التصرفات ومقاصدها ولا يخشى ما في فوات هذه المصالح من المفسدة والإضرار، ولا سيما فيما يتعلق بالرضاع ومياه الآبار والأنهار. ويشترط في الوكالة أن يكون الموكل مالكا للتصرف الذي يوكل فيه إذ لا يملك(2/129)
الفرع ما لم يملكه الأصل ويستثنى من ذلك إذن المرأة في النكاح وإذن الأعمى في البيع والشراء وإذن المضارب للعامل في التصرف في عروض التجارة التي لا يملكها المالك ولا العامل لمسيس الحاجة إلى ذلك، فإن ذلك لو منع لفاتت مصالح التزويج والبيع والشراء في حق العميان، وكذلك أرباح القراض. ولا شك أن المصالح التي خولفت القواعد لأجلها: منها ما هو ضروري لا بد منه، ومنها ما تمس إليه الحاجة المتأكدة. ولو شهد الوصي ليتيم بحق يتصرف فيه الوصي لم تقبل شهادته لجرها إليه جواز التصرف فيما شهد به، وكذلك لو حكم الحاكم لموكله أو لولده الطفل لم ينفذ حكمه، ولو حكم للأيتام بحق لنفذ حكمه في محل تصرفه على الأصح لعموم الحاجة إليه، وكذلك يشترط في الحكم للغائب وعلى الغائب المبالغة في وصفه بحيث يعز وجود مثله ونظيره دفعا للإبهام عن الأحكام، فإن الإبهام في المحكوم به والمحكوم له والمحكوم عليه مبطل للدعاوى والشهادات والأحكام، ولو وصف المسلم فيه بما يعز وجوده لبطل السلم لمنافاة عزة الوجود للمقصود من السلم. وكذلك يشترط الإطلاق في المضاربة لمنافاة التأجيل لمقصودها، ولا يشترط في النكاح لمنافاته لمقصوده، ولا يشترط التأقيت في المضاربة، ويشترط في الإجارة والمساقاة والمزارعة، ولو شرط في النكاح لأبطله لمنافاته لمقاصد النكاح.
فأحكام الإله كلها مضبوطة بالحكم محالة على الأسباب والشرائط التي شرعها، كما أن تدبيره وتصرفه في خلقه مشروط بالحكم المبينة المخلوقة مع كونه الفاعل للأسباب على الأسباب والمسببات، ولو شاء لاقتطع الأسباب عن المسببات ودل بينهما من التلازم، فكما شرع للتحريم والتحليل والكراهة والندب للإيجاب أسبابا وشروطا، وكذلك وضع لتدبيره وتصرفه في خلقه أسبابا، وشروطا فجعل للجوع أسبابا، وللشبع أسبابا، وللسقم أسبابا وللموت أسبابا، والحياة أسبابا، وللغنى أسبابا، وللقرب أسبابا، وللبعد أسبابا، وللعز أسبابا، وللذل(2/130)
أسبابا، وللضحك أسبابا، وللبكاء أسبابا، وللنشاط أسبابا، وللكسل أسبابا، وللحركات أسبابا، وللنصح أسبابا، وللغش أسبابا، وللصدق أسبابا، وللسعادة أسبابا، وللشقاوة أسبابا وللغموم أسبابا، وللذات أسبابا، وللآلام أسبابا، وللصحة أسبابا، وللخوف أسبابا، وللغضب أسبابا، وللأمن أسبابا، وللراحات أسبابا، وللنصب أسبابا، وللعرفان أسبابا، وللاعتقادات الصحيحة أسبابا، وللفاسدة أسبابا، وللشك أسبابا، ولليقين أسبابا، وللظنون أسبابا، وللأوهام أسبابا. كل ذلك قد نصبه الإله مع الاستغناء عنه وهو المنفرد بخلق الأسباب ومسبباتها، فلا يوجد سبب مسببا إذ لا موجود غيره، ولا مدبر إلا هو، يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد من غير فائدة تعود إليه، ولا نفع يحصل له، وهو بعد خلق المخلوقات كما كان قبل أن يخلقها لا يفيده شيء غنى ولا عزا ولا شرفا، بل هو الآن على ما عليه كان من أوصاف الجلال، ونعوت الكمال، والاستغناء عن الأكوان.(2/131)
قاعدة فيما يوجب الضمان و القصاص
...
قاعدة فيما يوجب الضمان والقصاص
يجب الضمان بأربعة أشياء: اليد والمباشرة، والتسبب، والشرط. فأما اليد فالغصوب والأيدي الضامنة من غير غصب، وأما المباشرة فهي إيجاد علة الهلاك، وتنقسم إلى القوي والضعيف والمتوسط: فأما القوي فكالذبح والإحراق والإغراق وإيجاد السموم المذففة والحبس مع المنع من الطعام والشراب. وأما الضعيف فظن المغرور بنكاح الأمة إذا أحبلها ظانا أنها حرة يضمن ما فات من حرية الولد بظنه فتلزمه قيمته عند الولادة يرجع بها على من غره لأنه تسبب غاره ههنا أقوى من مباشرته بظنه، وتلزمه قيمته حال ولادته وهذا مخالف للقواعد في كون المتلف إنما يضمن بقيمته حال إتلافه دون ما قبلها وما بعدها، وإنما خرج هذا عن القاعدة، إذ لا قيمة له يوم الإحبال فإنه نطفة قذرة لكنه كانت أجزاؤه دم أمة، وإن كان تكونه حيوانا(2/131)
بالقوى التي أودعها الله في رحم أمه صار كالثمرة المخلوقة من الشجر كسبا من أكساب أمه لأنه إنما صلح وصار حيوانا بالقوى التي في رحمها فيشبه ما صنعته بيدها، فذلك قدر الإتلاف متأخرا إلى حين الوضع، وكأنه رقيق فوت حريته حال الوضع، ولهذا جعل الولد تابعا لأمه في الملك والرق والحرية وأما المتوسط فكالجراحات السارية، وقد تتردد صور بين الضعيف والمتوسط كغرز الإبرة فيختلف فيها. وأما التسبب فإيجاد علة المباشرة وهو منقسم إلى قوي وضعيف ومردد بينهما وله أمثلة:
أحدها: الإكراه وهو موجب للقصاص والضمان على المكره لأنه ملجئ المكره إلى المباشرة، فإن طبعه يحثه على درء المكروه عنه، وقد جعل المكره شريكا للتسبب الذي هو المكره لتولد مباشرته عن الإكراه. الثاني: إذا شهد بالزنا على إنسان فقتل بشهادته أو رجم في الحد بشهادته فإنه يلزمه الضمان والقصاص لأن الشاهد ولد في الحاكم وفي ولي الدم الداعية إلى القتل، لأن الحاكم يخاف من عذاب الآخرة وإن ترك الحكم، ومن عار الدنيا إذ ينسب إلى الفسوق والجور، وكذلك الولي ولد فيه الشاهد داعية طبيعية تحثه على استيفاء القصاص، والوازع الشرعي دون الوازع الطبعي. والثالث إذا حكم الحاكم بالقتل جائرا في حكمه لزمه القصاص، لأنه ولد في الولي داعية استيفاء القصاص، ولو أمر السلطان العادل العالم بأحكام الشرع بقتل رجل بغير حق فقتله الجلاد جاهلا بذلك فإن الضمان يجب على الإمام دون الجلاد، وإن كان الجلاد مختارا غير ملجئ، لأنه ولد فيه داعية القتل، إذ الغالب من أمره أن لا يكون إلا بحق، فالجلاد وإن كان مختارا فلا إثم عليه ولا قصاص لأنه يعتقد أنه مطيع لله. وكذلك لا إثم على الحاكم إذا لم يعلم بشهادة الزور بخلاف المكره فإنه أثم إذ ليس على الحاكم إذا لم يعلم بشهادة الزور بخلاف المكره فإنه أثم إذا ليس له أن يفدي نفسه المظلومة بنفس معصومة إذ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، فإذا كان الإمام جائرا ظالما لم يجز للجلاد امتثال أمره(2/132)
إلا إذا علم أو غلب على ظنه أنه غالب في أمره بالقطع والقتل وغيرهما من العقوبات، لأنه بمثابة فاسق من الرعية أكره على قتل مسلم، وإن أكره الإمام على القتل بغير حق فهو كغيره من المكرهين وإن لم يكره ولكن عهد منه أنه يسطو بمن خالفه سطوة يكون مثلها لو هدد بها إكراها ففي إلحاقه بالإكراه خلاف والمختار أنه إكراه إذا أثار خوفا كالخوف الذي يثيره التهديد. وأما الشرط ففي إيجاد ما يتوقف عليه الإتلاف وليس بمباشرة ولا تسبب كالممسك مع المباشر أو المتسبب لأنه لم يصدر منه شيء من أجزاء القتل وإنما هو ممكن للقاتل من القتل، وقد خالفنا مالك في ذلك مبالغة في صيانة الدماء. واستدلالا بقول عمر رضي الله عنه في قتيل قتله جماعة: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، ولا حجة في هذا الأثر ونحن قائلون بموجبه لأن معناه لو تمالأ على قتله أهل صنعاء لقتلهم به، والتمالؤ على القتل إنما يكون بالاشتراك فيه، والممسك وإن كان ذنبه عظيما فما كل ذنب يصلح لإراقة الدم وقد يتردد في أسباب منها تقديم الطعام المسموم إلى الضيف إذا أكله فمات بسمه فهذا التقديم لا إلجاء فيه، لأن الضيف مختار في الأكل غير مضطر إليه وداعية الأكل مخلوقة فيه غير متولدة من المضيف، فلهذا اختلف في كونه سببا. وكذلك لو ضيف إنسانا بطعام مغصوب وجب الضمان على الغاصب والآكل ولا رجوع للآكل على الأصح لأنه غير ملجئ وقد وقع التردد في مسائل دائرة بين الشرط والسبب كشهودي الإحصان مع شهودي الزنا، وقد حصل من ذلك أن الإتلاف يقع بالظنون والأيدي والأقوال والأفعال، ويجري الضمان في عمدها وخطئها لأنه من الجوابر، ولا تجري العقوبة والقصاص إلا في عمدها لأنهما من الزواجر. أما العمد فلا بد من قصاص، أحدهما القصد إلى الفعل والثاني القصد إلى المجني عليه، ولا بد أن يكون الفعل المقصود إليه مما يقصد به التلف قطعا كالذبح أو غالبا كالقطع والجرح، وإذا تحققت هذه(2/133)
الأركان الثلاثة كان القتل عمدا موجبا للعقوبة الشرعية. وإذا وجد القصد إلى الفعل وإلى الشخص، وكان الفعل مما لا يقتل غالبا فهذا القتل يقال له عمد الخطأ لأن فيه عمدين: أحدهما إلى الفعل، والثاني إلى الشخص، وجعل خطأ بالنسبة إلى الفعل الذي لا يقتل غالبا، ويقال له أيضا شبه العمد، لأنه أشبه العمد في القصدين، وقد يقع الخطأ بعد فوات القصدين لمن زلق فوقع على إنسان فقتله، أو على مال فأتلفه.
[فائدة] إذا شهد اثنان بالزور على تصرف ثم رجعا، فإن كان ذلك التصرف مما لا يمكن تداركه، كالوقف والعتاق والطلاق لزمهما الضمان، وإن كان مما يمكن تداركه، كالأملاك والأقارير وجب الضمان على الأصح، فإن تمكن الموقف عليه من الوقف والمشهود عليه بالعتق من العبد، والمشهود عليه بالطلاق من المرأة لعدم من يعرف الشهادة بذلك يسقط الضمان لرجوع الحقوق إلى مستحقها.(2/134)
قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته و من لا تجوز طاعته
...
قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته ومن لا تجوز طاعته
لا طاعة لأحد المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته كالرسل والعلماء والأئمة والقضاة والولاة والآباء والأمهات والسادات والأزواج والمستأجرين في الإجارات على الأعمال والصناعات، ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل لما فيه من المفسدة الموبقة في الدارين أو في أحدهما، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنسانا على أمر يبيحه الإكراه فلا إثم على مطيعه، وقد تجب طاعته لا لكونه آمرا بل لدفع مفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بضع، ولو أمر الإمام أو الحاكم إنسانا بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه فهل له فعله نظرا إلى رأي الآمر أو يمتنع نظرا إلى رأي المأمور، فيه خلاف، وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به، فإن كان مما ينقض حكمه به فلا سمع ولا طاعة، وكذلك لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون في الشرع. وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح(2/134)
الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه، وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا بأولى من البعض، إذ ليس لأحد منهم إنعام بشيء مما ذكرته في حق الإله، وكذلك لا حكم إلا له فأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والإجماع والأقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة، فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة، ولا أن يقلد أحدا لم يؤمر بتقليده: كالمجتهد في تقليد المجتهد أو في تقليد الصحابة وفي هذه المسائل اختلاف بين العلماء، ويرد على من خالف في ذلك قوله عز وجل: {إِِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}. ويستثنى من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدي إلى الحكم، ومن قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟ فيه خلاف، والمختار التفصيل، فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم؛ فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه، فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره، ولو كان ذلك باطلا لأنكروه وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير، بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه، ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل.
ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده، وقد(2/135)
رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم في خلاف ما وظن نفسه عليه تعجب غاية التعجب من استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحدا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته.
[فائدة] اختلف العلماء في تقليد الحاكم المجتهد لمجتهد آخر فأجازه بعضهم لأن الظاهر من المجتهدين أنهم أصابوا الحق، فلا فرق بين مجتهد ومجتهد فإذا جاز للمجتهد أن يعتمد على ظنه المستفاد من الشرع فلم لا يجوز له الاعتماد على ظن المجتهد المعتمد على أدلة الشرع، ولا سيما إذا كان المقلد أنبل وأفضل في معرفة الأدلة الشرعية، ومنعه الشافعي وغيره، وقالوا ثقة بما يجده من نفسه من الظن المستفاد ومن أدلة الشرع أقوى مما يستفيده من غيره ولا سيما إن كان هو أفضل الجماعة، وخير أبو حنيفة في تقليد من شاء من المجتهدين لأن كل واحد منهم على حق وصواب، وهذا ظاهر متجه إذا قلنا كل مجتهد مصيب.(2/136)
قاعدة في الشبهات الدارئة للحدود
...
قاعدة في الشبهات الدارئة للحدود
الشبهات دارئة للحدود وهي ثلاثة: إحداها في الفاعل وهو ظن حل الوطء إذا وطئ امرأة يظنها زوجته أو مملوكته الثانية: شبهة في الموطوءة كوطء الشركاء الجارية المشتركة، الثالثة: في السبب المبيح للوطء كالنكاح المختلف في صحته. فأما الشبهة الأولى فدرأت عن الواطئ الحد لأنه غير آثم، والنسب لاحق به، والعدة واجبة على الموطوءة، والمهر واجب عليه. وأما الشبهة الثانية فدرأت الحد لأن ما فيها من ملكه يقتضي الإباحة، وما فيها من ملك غيره يقتضي التحريم، فلا تكون المفسدة فيه كمفسدة الزنا المحض، بل لو أكل الإنسان رغيفا مشتركا بينه وبين غيره لم يأثم بأكل نصيبه مثل إثمه بأكل نصيب شريكه بل يأثم به إثم الوسائل، وكذلك لو قتل أحد الأولياء الجاني بغير إذن شركائه أثم ولم يقتص منه، ولا يأثم إثم من قتل من لا شريك له في قتله. وكذلك الوسائل إلى المصالح لا يثاب عليها مثل ثواب المصالح، فإن صلاة من فاتته صلاة من صلاتين لزمه أداؤهما، ولا يثاب على الوسيلة منهما مثل ثواب الواجبة منهما، ولذلك فعلهما بتيمم واحد على الأصح. وأما الشبهة الثالثة فليس اختلاف العلماء هو الشبهة، ولذلك لم يلتفت إلى خلاف عطاء في إباحة الجواز، وإنما الشبهة التعارض بين أدلة التحريم والتحليل، فإن الحلال ما قام دليل تحليله، والحرام ما قام دليل تحريمه، وليس أحدهما أولى من الآخر، كما أن ملك أحد الشريكين يقتضي التحليل وملك الآخر يقتضي التحريم، وإنما غلب درء الحدود مع تحقق الشبهة لأن المصلحة العظمى في استيفاء الإنسان لعبادة الديان، والحدود أسباب محظرة فلا تثبت إلا عند كمال المفسدة وتمحضها، وخالف الظاهرة في شبهة لا تدفع التحريم كوطء أحد الشريكين ظنا منهم أن الزنا عبارة عن الوطء المحرم، وليس كما ظنوا لأن العرب وصفوا اسم الزنا لمن وطئ بضعا لا حق له فيه، واستعمال الزنا في وطء يملك بعضه يكون تجوزا أو اشتراكا(2/137)
وكلاهما على خلاف الأصل، ومثل درء الحد بوطء أحد الشريكين درء القطع بسرقة أحد الشريكين.(2/138)
قاعدة من المستثنيات من القواعد الشرعية
...
قاعدة من المستثنيات من القواعد الشرعية
اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد في الدارين أو في أحدهما تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق، ويعبر عن ذلك كله بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصدقات.
أما في العبادات فله أمثلة: أحدها تغير أحد أوصاف الماء بشيء سالب لطهوريته استثنى من ذلك ما يشق حفظ الماء منه، المثال الثاني: تلاقي النجاسة والماء القليل موجب لنجاسته استثنى من ذلك غسالة النجاسة ما دامت على المحل لأنها لو لم تستثن ما ظهر محل نجس إلا بقلتين، فإذا انفصل فالأصح بقاء طهارته، المثال الثالث: استعمال الماء في الحدث سالب لطهورته إذا انفصل على الأصح يسلبها ما دام على المحل لما ذكرناه في النجاسة، وقالوا لو انغمس الجنب في ماء قليل ناويا رفع الحدث لم يسلب طهوريته حتى ينفصل عنه، وكان ينبغي أن يقال إذا طهر جسده فينبغي أن تسلب طهوريته وإن لم ينفصل، إذ لا حاجة إلى الحكم ببقاء طهوريته بعد تطهير المحل. ولو قيل إنما طهر الجسد من الحدث بالمقدار الذي لاقاه من الماء دون ما وراء ذلك فكان لا ينبغي أن لا يثبت حكم الاستعمال إلا للقدر المطهر ثم ينسب بالمقدار المطهر إلى بقية الماء فإن كان بحيث يغيره لو خالفه زالت طهوريته، وإن كان بحيث لا يخالفه فلا وجه لزوال طهوريته لما كان بعيدا. المثال الرابع: استعمال أواني الذهب والفضة حرام على النساء والرجال لكنه يباح عند الحاجة(2/138)
وفقد الآنية المباحة. المثال الخامس: إيقاع الطهارة على غير محل الحدث أو ما اتصل بمحل الحدث عبث لكنه جاز على الخفاف والعصائب والجبائر لمس الحاجة إلى لبس الخف، وللضرورة إلى وضع العصائب والجبائر كي لا يعتاد المكلف ترك المسح فيثقلا عليه عند إمكانهما الغسل. المثال السادس: الصلاة مع الحدث محظورة لكنها جازت للتيمم عند فقد الماء شرعا وحسا عند الأمراض التي يخشى منها على النفوس والأعضاء أو المشاق الشديدة وكذلك يجوز عند فقد الماء والتراب إقامة لمصالح الصلاة التي لا تدانيها مصالح الطهارة.
المثال السابع: الحدث مانع من ابتداء الطهارة قاطع لأحكامها بعد انعقادها لكنه غير مانع في حق المستحاضة ومن عذره دائم كسلس البول وسلس المذي وذرب المعدة، لأن ما يفوت من مصالح أركان الصلاة وشرائطها أعظم مما يفوت من مصالح الطهارة.
المثال الثامن: الجمادات كلها طاهرة لأن أوصافها مستطابة غير مستقذرة واستثني منها الخمر عند جمهور العلماء تغليظا لأمرها، والحيوانات كلها طاهرة واستثني منها الكلب والخنزير وفروعهما عند الشافعي تغليظا لأمرهما وتنفيرا من مخالطتهما، لأن الكلب يروع الضيف وابن السبيل، والخنزير أسوأ حالا منه لوجوب قتله بكل حال، ولا يجوز اقتناء الكلاب إلا لحاجة ماسة كحفظ الزرع والمواشي واكتساب الصيود. المثال التاسع: الميتات كلها نجسة لأن الميت مظنة العيافة والاستقذار، واستثني من ذلك الآدمي لكرامته والسمك والجراد، وما يستحيل من الطعام كدود الخل والتفاح لمسيس الحاجة إلى ذلك. وكذلك إذا ذكي الحيوان فوجد في جوفه جنين ميت ولو وجد حيا فقصر في ذبحه حتى مات نجس وحرم، واختلف في ميتة ما ليس له نفس سائلة.
المثال العاشر: الأصل في الطهارات أن يتبع الأوصاف المستطابة، وفي النجاسة أن يتبع الأوصاف المستخبثة. وكذلك إذا صار العصير خمرا تنجس(2/139)
للاستخباث الشرعي. وكذلك إذا صار خلا للتطيب الشرعي والحسي وكذلك ألبان الحيوان المأكول لما تبدلت أوصافها إلى الاستطابة طهرت فكذا المخاط والبصاق والدمع والعرق واللعاب، وكذلك الحيوان المخلوق من النجاسات، وكذلك الثمار المسقية بالمياه النجسة طاهرة محللة لاستحالتها إلى صفات مستطابة. وكذلك بيض الحيوان المأكول والمسك والإنفحة واختلف العلماء في رماد النجاسات فمن طهره استدل بتبديل أوصافه المستخبثة بالأوصاف المستطابة، وكما تطهر النجاسات باستحالة أوصافها فكذلك تطهر الأعيان التي أصابتها نجاسة بإزالة النجاسة، وإذا دبغ الجلد فلا بد من إزالة فضلاته وتغير صفاته، فمنهم من غلب عليه الإزالة، ومنهم من غلب عليه الاستحالة، ومنهم من قال: هر مركب منهما. المثال الحادي عشر: المقصود بالتطهر من الأحداث والأخباث، تعظيم الإله وإجلاله من أن يناجى أو يتلى كتابه أو يمكث في بيوته مع وجود الأحداث والأخباث، وقد ذكرنا المستثنى من الأحداث. وأما المستثنى من الأخباث فكل نجاسة يعم الابتلاء بها كفضلة الاستجمار ودم البراغيث والبثرات وطين الشارع المحكوم بنجاسته فإنه يعفى عن قليله ولا يعفى عن كثيره لندرته بالنسبة إلى قليله ولتفاحشه وإذا كانت الخراجة نضاخة فحكمها حكم دم الاستحاضة وأما تفاحش كثرته كالنجاسة تعم جميع الجسد والمصلى فإنه يعفى عنها في الصلاة إذا لم يجد ما يزيلها ولم يمكنه التحول عنها، لأن مصلحة ما يفوت من أركان الصلاة وشرائطها أعظم من مصلحة ما يفوت من طهارة الأخباث. المثال الثاني عشر: ستر العورات والسوآت واجب وهو من أفضل المروآت وأجمل العادات ولا سيما في النساء الأجنبيات، لكنه يجوز للضرورات والحاجات.
أما الحاجات فكنظر كل واحد من الزوجين إلى صاحبه، وكذلك نظر المالك إلى أمته التي تحل له ونظرها إليه، وكذلك نظر الشهود لتحمل الشهادات، ونظر الأطباء لحاجة المداواة، والنظر إلى الزوجة المرغوب في نكاحها قبل العقد(2/140)
عليها إن كانت ممن ترجى إجابتها. وكذلك يجوز النظر لإقامة شعائر الدين كالختان وإقامة الحد على الزناة، وإذا تحقق الناظر إلى الزانيين من إيلاج الحشفة في الفرج حرم عليه النظر بعد ذلك، إذ لا حاجة إليه، وكذلك لو وقف الشاهد على العيب أو الطبيب على الداء فلا يحل له النظر بعد ذلك. لأنه لا حاجة إليه لذلك، لأن ما أحل إلا لضرورة أو حاجة يقدر بقدرها ويزال بزوالها.
وأما الضرورات فكقطع السلع المهلكات ومداواة الجراحات المتلفات، ويشترط في النظر إلى السوآت لقبحها من شدة الحاجة ما لا يشترط في النظر إلى سائر العورات، وكذلك يشترط في النظر إلى سوأة النساء من الضرورة والحاجة ما لا يشترط في النظر إلى سوأة الرجال، لما في النظر إلى سوآتهن من خوف الافتتان، وكذلك ليس النظر إلى ما قارب الركبتين من الفخذين كالنظر إلى الأليتين، المثال الثالث عشر: يجب التوجه في الصلوات إلى أفضل الجهات لكنه جاز تركه في نوافل الأسفار تحصيلا لمصالح، وجعل صوب السفر بدلا من القبلة لأنه هو الذي مست الحاجة إليه، كما جعلت جهة محاربة الكفار بدلا من جهة القبلة لأنها هي التي مست الحاجة إليها وحثت الضرورة عليها، المثال الرابع عشر: تنقيص أركان الصلاة ممنوع واستثني من ذلك الفاتحة وقيامها في حق المسبوق جبرا لها بشرف الاقتداء.
المثال الخامس عشر: الزيادة على قعدات الصلاة وسجداتها مبطل لها إلا في حق المقتدي إذا اقتدى بالإمام بعد رفع رأسه من الركوع فإنه يأتي بسجدتين وقعدة بينهما، ولو أدرك ذلك في آخر الصلاة لزاد على ذلك أركان التشهد وتطويل القعود، ولو قرأ المسبوق بعض الفاتحة فرجع الإمام قبل إتمامه فالمختار إلحاقه بالمسبوق بجميع قراءة القيام. المثال السادس عشر: مساوقة الإمام المأموم في أركان الصلاة جائزة إلا في الإحرام عند الشافعي إذ به الانعقاد وقال أبو حنيفة الأفضل أن يساوق فيه ليكون مقتديا من أول الصلاة إلى(2/141)
آخرها. المثال السابع عشر: مخالفة المؤتم الإمام بالمسابقة إلى الأركان إن كثرت أفسدت الصلاة إلا مع الغفلة والنسيان فمسابقته بركنين مبطلة مع العمد، وفي المسابقة بركن واحد خلاف، ولو سابق إلى الأركان واجتمع مع الإمام في كل ركن منها لم تبطل صلاته على المذهب. والتخلف كالتقدم إلا ما استثني في صلاة عسفان. وفي التأخر بأوائل الأركان، وإذا شرع الإمام في الانتقال إلى ركن من الأركان فالسنة أن لا يتابعه المأموم حتى يلابس الركن الذي انتقل إليه فحينئذ يشرع في متابعته، والانتظار في قومات الصلاة غير مشروع وفي الانتظار في الركوع قولان. المثال الثامن عشر: الفعل الكثير المتوالي مبطل للصلاة إلا في حال النسيان وفي حال التحام القتال. المثال التاسع عشر: التخلف بأركان كثيرة والانتظار في القيام ممنوع إلا في التخلف للحراسة في صلاة عسفان، وفي الانتظار في صلاة ذات الرقاع تقديما لمصالح الجهاد على مصالح الاقتداء وعلى التحقيق هذا جمع بين مصالح الاقتداء ومصالح الجهاد، فإن الحراسة والانتظار ضرب من الجهاد، وكذلك الجمع في صلاة شدة الخوف بين الجهاد وبين الإتيان بما قدر عليه من الأركان. المثال العشرون: لبس الذهب والتحلي به محرم على الرجال إلا لضرورة وحاجة ماسة، وكذلك الفضة إلا الخاتم وآلات الحرب، وكذلك الحرير لا يجوز للرجال إلا لضرورة أو حاجة ماسة. ويجوز لبس الحرير والتحلي بالذهب والفضة للنساء تحبيبا لهن إلى الرجال، فإن حبهن حاث على إيلادهن من يباهي به الرسول الأنبياء وينتفع به الوالد إن عاش بما جرت به العادة من الانتفاع بالأولاد والأحفاد، وإن مات كان فرطا لأبويه وأجرا وذخرا ووقاية من النار بحيث لا تصيبه إلا تحلة القسم، المثال الحادي والعشرون: تجليل الدواب بالجلود النجسة جائز إلا جلد كلب أو خنزير، المثال الثاني والعشرون: الصلاة واجبة على الأموات لافتقارهم إلى رفع وتكفير السيئات إلا الأطفال لا يدعى لهم بتكفير السيئات، لكن يدعى لهم برفع الدرجات لافتقارهم إليها، وقد روى مالك عن(2/142)
سعيد بن المسيب أنه سمع أنسا يدعو لصبي في الصلاة عليه: أن يعيذه الله من عذاب القبر، وليس هذا ببعيد إذ يجوز أن يبتلى في قبره كما يبتلى في الدنيا، وإن لم يكن له ذنب فيجوز أن يكون هذا رأيا من أنس، ويجوز أن يكون أخذ ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصلى على الشهداء فإنهم قد غفرت لهم الزلات لأن أول قطرة تقطر من دم الشهيد يكفر بها كل ذنب إلا الدين. فإن قيل: هلا صلي عليهم لرفع الدرجات كما صلي على الأطفال؟ قلنا: لو صلي عليهم لم يعرف أنهم قد استغنوا عن الشفاعات، فتركت الصلاة عليهم ترغيبا للناس في الجهاد. فإن قيل: لم ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المدين مع افتقاره إليها قلنا؟ تركها تنفيرا من الديون، لما في العجز عن أدائها من مضرة أربابها، ولأن المدين إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن كثرة استعاذته من المأثم والمغرم فقال: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف". فإن قيل: قد صلى الصحابة على سيد الأولين والآخرين مع أن الله أخبره أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قلنا: كما أمروا بالصلاة عليه قبل موته أمروا بمثل ذلك بعد موته. فإن قيل: الدعاء شفاعة للمدعو له فكيف يشفع؟ قلنا ليست الصلاة عليه شفاعة له، ولكن قد أمرنا بأن نكافئ من أسدى إلينا المعروف وإن عجزنا عن مكافأته أن ندعو له بدلا من مكافأته، ولا معروف أكمل مما أسداه إلينا صلى الله عليه وسلم فنحن ندعو الله عز وجل أن يكافئه عنا لعجزنا عن مكافأته، المثال الثالث والعشرون: تكفين الأموات على الهيئة المعتادة - إكراما لهم - واجب. وكذلك تطهرهم من النجاسات، استثني من ذلك الشهداء فإنهم يدفنون في ثيابهم بكلومهم ودمائهم ليقدموا على الله عز وجل على وجه يوجب العطف عليهم والرحمة لهم، وهذا معلوم بالعادة أن العبد إذا ناضل عن سيده فقتل لأجل مناضلته ثم أحضر إليه ملفوفا في ثيابه مخضبا بدمائه فإنه يعطف عليه ويرحمه ويود مكافأته على صنيعته، لأنه بذل في طاعته أنفس الأشياء عنده وأحبها إليه،(2/143)
وكذلك لو رأى عبده مجندلا بالفلاة تأكله السباع والطير لكان عطفه عليه أكثر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حمزة رضي الله عنه لما قتل بأحد: "لولا أن تكون سنة لتركته حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير وكذلك يحشر الشهداء يوم القيامة وجراحاتهم تنعب دما"، ويقارب هذا المعنى المحرم إذا مات فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا. المثال الرابع والعشرون: الحول معتبر في زكاة النعم والنقدين إلا في النتاج كما أنه معتبر في زكاة التجارة إلا في الأرباح لأنهما نشئا عن النصاب الذي وجبت فيه الزكاة فتبعاه في الحول. المثال الخامس والعشرون: إذا نقص المال عن النصاب في أثناء الحول لم ينعقد الحول، وإن نقص في أثناء الحول انقطع الحول إلا في زكاة التجارة على قول معتبر وفيه إشكال. المثال السادس والعشرون: إذا قلنا بملك الفقراء الزكاة بحول الحول فنفقة نصيبهم على المزكي، وهذا مستثنى من إيجاب نفقة الملك على المالك، وللمالك إبدال ما ملكوه من الزكاة بمثله أو أفضل منه، وهذا مستثنى من التصرف في الملك بغير إذن المالك، لكنه جاز رفقا بأرباب الأموال فيما لا ضرر فيه على الفقراء، إذ لا يجوز إبداله إلا بمثله وأفضل منه، المثال السابع والعشرون: إذا بدل المالك النصاب الزكوي في أثناء الحول بجنسه أو بغير جنسه انقطع الحول إلا في زكاة التجارة، فإن قيمة العروض فيها تبدل بالقيمة القائمة بأثمانها ولا ينقطع الحول بذلك تقديرا لاستمرارها كي لا يتضرر الفقراء بذلك، المثال الثامن والعشرون: جبران الأسنان مستثنى من قياس الجبران فإن إبدالها يتقدر بقيمتها من نقد البلد من غير تخيير، وإنما استثني ذلك لعسر إحضار المقومين إلى أهل البوادي، ولم يجب فيها ذهب لعزته في البوادي، والتقدير بالخرص على خلاف الأصل لأن الخطأ يكثر فيه، بخلاف الميزان والزرع والكيل والتقويم، وأضبط هذه التقديرات الوزن لقلة التفاوت فيما بين الوزنين، وأبعدها الخرص، لكنه جاز في الزكاة والمساقاة لمسيس الحاجة العامة، فإن الرطب والعنب إذا بدا صلاحهما ووجبت الزكاة فيهما خرص على(2/144)
المالكين وضمنوا مقدار الزكاة بالخرص، لأنهم لو منعوا من التصرف فيه بالأكل والبيع والشراء لتضرر الملاك والناس بمنعهم من ذلك إلى أن ييبس ويقدر بالمكيال، وكذلك حكم الخرص في المساقاة لئلا يمتنع على الشركاء الأكل والتصرف، وإذا امتنع عليهم امتنع على كافة الناس وذلك حزر عام دون عموم ضرر الزكاة، فإن الشريكين ههنا يتصرفان فيه بالرضا وإن لم يخرص، والفقراء يتعذر رضاهم لأنهم لا يتعينون، المثال التاسع والعشرون من أمثلة مستثنيات العبادات: لا زكاة فيما نقص من النعم عن النصاب إلا في الخلطة عند الشافعي رحمه الله، ولو تخالط أربعون رجلا بأربعين شاة أو ثمانون رجلا بأربعين شاة لأوجب الشافعي رحمه الله الزكاة على من يملك شاة أو نصف شاة مع كونه مالا نزرا لا يحتمل المواساة. فإن قيل: إنما اعتبرت النصب ليكون المال محتملا للمواساة فهلا أوجبتم الزكاة على من يملك من الجواهر والخيل والحمير والبغال والقرى والبساتين والدور والدكاكين ما يساوي مائة ألف دينار لاحتمال ماله للمواساة؟ وكيف لا يجب على هذا الزكاة وهي واجبة على الضعيف ذي العيال في خمس من الإبل أو في جزء من بعير في صورة الخلطة؟ قلت إن اشتملت قراه وبساتينه على الأموال الزكوية من النخل والكرم والزرع كانت زكاتها مجزية عن زكاة رقابها، وإن لم يكن فيها مال زكوي، فإن ثمار بساتينها تباع بالنقود في الغالب، وكذلك تؤجر أراضيها بالنقود في الغالب فإن بقيت نقودها حتى حال عليها الحول قامت زكاة النقود مقام زكاة رقابها، وإن اتجر في نقدها قامت زكاة التجارة مقام زكاة النقد، وكذلك القول في إيجار الدور والدكاكين. وكذلك البغال والحمير، واختلف العلماء في زكاة الخيل. وأما الجواهر في الغالب أنها لا تقتنى بل يتجر فيها ولا يدخرها إلا القليل من الناس، وأما اقتناء الملوك لها، فإن كانت لبيت مال المسلمين فلا زكاة في بيت المال، والملوك فقراء وليسوا بأغنياء بسبب ما حازوه من بيت المال لأنفسهم ظلما وعدوانا، ولا زكاة في مال بيت المال إذ لا يتعين مستحقوه، وإن كان(2/145)
مما اشتروه لأنفسهم: فإن اشتروه بعين مال بيت المال لم يملكوه، وإن اشتروا في ذمتهم ونقدوا ثمنه من مال بيت المال كانت أثمانه دينا عليهم. وفي وجوب الزكاة على المدين خلاف بين العلماء وقد خالف بعض العلماء في الجواهر المستخرجة من البحار، المثال الثلاثون: لا يثبت شيء من الشريعة إلا بشاهدين عدلين، وتثبت أوقات الصلاة بخبر العدل الواحد، ولا يثبت شوال إلا بعدلين على المذهب، وإنما ثبت رمضان بعدل واحد، لأنه حق الله عز وجل يبعد في العادة الكذب فيه فيصير كالإخبار عن الشرعيات واحتياطا لهذه العبادة العظيمة التي هي ركن من أركان الإسلام، بخلاف الحج فإنه لا يقع إلا نادرا، فلا تخالف قواعد النيات لأجله مع ندرته. المثال الحادي والثلاثون: لا تصح النيابة في شيء من العبادات كالعرفان والإيمان والصلاة والتسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد والأذان وقراءة القرآن، لأن الغرض بها تعظيم الإله، وليس المنيب معظما بتعظيم النيابة، واستثني من ذلك الحج والعمرة في حق العاجزين إما بالموت أو بالهرم أو مرض لا يرجى زواله، ولم يستثن من الصلاة إلا ركعتا الطواف في نسك النيابة لأنها تابعة للنسك، وقد يجوز بالتبعية ما لا يجوز بالأصالة، وكذلك الصيام على الأصح، وقد ألحق الاعتكاف بالصيام، وفيه بعد إذ لا نص فيه، ولا مجال للقياس في مثل ذلك. المثال الثاني والثلاثون: من نوى التنفل بعبادة من العبادات لم ينقلب تنفله فرضا إلا في النسكين. المثال الثالث والثلاثون: من استناب في عمل يقبل النيابة فعمله ناويا به مستنيبه وقع لمستنيبه إلا في النسكين فإن الضرورة المستأخرة في النسكين على الذمة إذا نوى النسكين أو أحدهما عن مستنيبه. المثال الرابع والثلاثون: إبهام النية بين عبادتين بدنيتين لا تصح إلا في النسكين. فإن إبهامه الإحرام يصح ثم يصرفه المحرم إلى من يشاء من النسكين أو أحدهما، ويصح إبهام الزكاة والكفارات، فإن الغالب عليهما المالية كالديون، المثال الخامس والثلاثون: من علق إحرامه(2/146)
بالعبادة على إحرام غيره مثل أن قال صليت صلاة كصلاة فلان لم يصح إلا في النسكين، فإذا علق إحرامه على ما أحرم به غيره فإن إحرامه ينعقد بما أحرم به غيره وإن كان غير شاعر به، المثال السادس والثلاثون: خروج وقت العبادة المقدر يجعلها قضاء خطأ كان خروجه أم عمدا إلا في جمع التأخير، وفي غلط يوم عرفة فإنها تكون أداء: أما في الجمع فلعذر السفر. وأما في العيد فلرتبة فوات الأداء، وأما في الحج فللضرر العام مع فوات رتبة الأداء. المثال السابع والثلاثون: من أفسد العبادة بطل انعقادها ووصفها إلا في النسكين إذا أفسدهما بالجماع فإنه يبطل وصفهما وهو الصحة ولا يبطل انعقادهما، فيلزمه أن يأتي بما كان يلزمه الإتيان به قبل الإفساد، وليس إمساك الصائم إذا أفسد صومه من شهر رمضان كذلك، لأن مفسدة النسك مستمرة في عبادة يلزمه كفارات محظوراتها إذا ارتكبها، ولو جامع الممسك في رمضان بعد الإفساد لما لزمه كفارة جماعه، لأنه ليس في صوم منعقد إنما هو متشبه بالصائمين، المثال الثامن والثلاثون: فوات العبادات موجب لقضائها غير ناقل لعبادة أخرى إلا الحج، فإن من فاته لزمه الإتيان بعمل عمرة ثم القضاء في العام المقبل. المثال التاسع والثلاثون: ليس للعبادات كلها إلا تحليل واحد، أما الصلاة فيخرج منها بالتسليم. وأما الصوم فلا يتوقف خروجه منه على فعله ولا على اختياره بل ينتهي بانتهاء النهار، وأما الاعتكاف فيخرج منه تارة بانتهاء مدته كالصوم وتارة بالخروج من المسجد بغير عذر، بخلاف الحج فإنه يخرج منه خروج أحدهما بالتحلل الأول، والثاني بالتحلل الثاني.
المثال الأربعون: ترتفع أحكام العبادات بموت العابد إلا في النسكين فإن المحرم إذا مات لم يجز تخمير رأسه ولا ستر بدنه بالمخيط ولا تطييبه وليس هذا استثناء على الحقيقة، فإن تكليفه قد انقطع بموته، وإنما ذلك تكليف لمن يتولاه من الأحياء. وفي ارتفاع الإحداد بموت المعتدة خلاف.(2/147)
المثال الحادي والأربعون: الانتفاع بملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة منهي عنه إلا ركوب الهدي المنذور للفقراء، ودرء الفاضل عن ولده، وكذلك قدر الزكاة من النعم فإن الانتفاع به جائز، وإن جعلناه ملكا للفقراء.
المثال الثاني والأربعون: من نذر قربة لزمه القيام بما نذر إلا نذر اللجاج فإنه لما جعل الملتزم بالنذر حاثا على الفعل أو زاجرا عنه أشبه اليمين فيتخير على قول بين القيام بما نذره، وبين الكفارة، وتتعين الكفارة على قول آخر، لقوله عليه السلام: "كفارة النذر كفارة اليمين".
المثال الثالث والأربعون: من نذر أن يحج ماشيا فحج راكبا أو أن يحج راكبا فحج ماشيا فقد بناه بعض أصحاب الشافعي على أن الأفضل هو المشي أو الركوب وبرأه بالأفضل منهما، وقال آخرون لا يبرأ من الفاضل منهما عن المفضول، لأنهما جنسان مختلفان، وهذا هو المختار لأن المشي لا يجانس الركوب.(2/148)
و أما ما خالف القياس في المعاوضات و غيرها من التصرفات فله أمثلة
...
وأما ما خالف القياس في المعاوضات وغيرها من التصرفات فله أمثلة
أحدها: أن الرضا شرط في جميع التصرفات إلا أن يتعدد رضا المتصرف والعامل ورضا نائبهما فإن الحاكم يتصرف فيما لزمه من التصرفات القابلة للنيابة مع غيبته أو امتناعه على كره منهم إيصالا للحق إلى مستحقه ونفعا للممتنع ببراءته من الحق، وقد فعل ذلك عمر رضي الله عنه بأسيفع جهينة، ولا بد لهذا الرضا من لفظ يدل عليه سواء كان مما يستقل به الإنسان كالطلاق والعتاق والعفو والإبراء، أما ما لا يستقل به: كالبيع والإجارة فإن لم يقم مقام اللفظ عرف تعين اللفظ، إلا فيمن خرس لسانه وتعذر بيانه فإن إشارته تقوم مقام لفظه للحاجة إلى ذلك، إذ لا مندوحة عنه ولا خلاص منه. وفي إقامة الكتابة مقام اللفظ في حق الناطق اختلاف، وإن حصل عرف دال على ما يدل عليه اللفظ كالمعاطاة في محقرات البياعات واستعمال الصناع، وتقديم الطعام إلى الضيفان، ففي إقامة العرف مقام اللفظ خلاف، لاشتراكهما في الدلالة على الرضا على المقصود.(2/148)
فإن حصل العلم أو الاعتقاد أو ظن قوي يربى على الظن الذي ذكرناه أقيم ذلك مقام اللفظ لقوة دلالة العرف وإطراده، وكذلك كدخول الحمامات والقياسير والحانات ودور القضاة والولايات في الأوقات التي اطردت العادة فيها بالجلوس للخصومات والحكومات وقد ذكرنا لذلك نظائر، وإن لم يحصل عرف ولا كتابة تعين اللفظ كما في الأنكحة. فإن قيل هل يستقل أحد بالتملك والتمليك، وهل يقوم أحد مقام اثنين أم لا؟ قلنا: نعم وله أمثلة. أحدها: الأب يستقل ببيع مال ابنه من نفسه وببيع مال نفسه من ابنه. وكذلك في الإجارة وسائر المعاوضات يستقل بتمليك مال ابنه من نفسه وبتمليك مال ابنه لنفسه، وإذا فعل ذلك هل يفتقر إلى إيجاب وقبول فيه وجهان: أحدهما نعم ليأتي بصورة العقد، والثاني لا، لتحقق الرضا فإذا أتى بأحد شقي العقد أتى بما يدل على الرضا من الجانبين، وكذلك الجد لقوة الولاية، وإن زوج الجد بنت ابنه ابن ابنه ففيه خلاف، مأخذه إن تولي الأب لطرفي البيع كان لكثرة وقوعه أو لقوة الولاية. المثال الثاني: استقلال الشفيع بأخذ الشقص المشفوع به ببذل الثمن وهذا استقلال بالتملك والتمليك. المثال الثالث: إذا ظفر الإنسان بجنس حقه بمال من ظلمه فإنه يستقل بأخذه، فإن الشارع أقامه مقام القابض والمقبض لمسيس الحاجة، ولو كان بغير جنس حقه جاز له أخذه وبيعه ثم استيفاء حقه من ثمنه، فقد قام في قبضه مقام قابض ومقبض، وقام في بيعه مقام وكيل وموكل، وقام في أخذ حقه مقام قابض ومقبض فهذه ثلاث تصرفات أقامه الشرع في كل واحدة مقام اثنين. المثال الرابع: المضطر في المخمصة إذا وجد طعام أجنبي أكله بقيمته، وقد أقامه الشرع مقام مقرض ومقترض لضرورته. المثال الخامس: استقلال الملتقط بتمليك اللقطة إقامة له مقام مقترض ومقرض. المثال السادس: استقلال القاتل بملك سلب القتيل، واستقلال السارق بملك ما سرقه من دار الحرب، إذ لا حرمة لأموالهم حتى يشترط فيها رضاهم. وكذلك استقلال الجند بتمليك الغنيمة، وكذلك استقلالهم بأكل أقواتهم من مال الغنيمة(2/149)
وعلف دوابهم ما داموا في دار الحرب. المثال السابع: استقلال كل فاسخ باسترداد ما بذله وبتمليك ما استبدله. المثال الثامن: استقلال الإمام بإرقاق رجال المشركين.
المثال الثاني: من أمثلة ما خالف القياس في المعاوضات وغيرها من التصرفات
الرضا بالمجهول والإبراء من المجهول لا يصحان، إذ لا يتصور توجه الرضا والإبراء مع الجهالة بالرضا والمبرأ منه، كما لا يتصور توجه الإرادة إلا إلى معلوم أو مظنون: فمن أبرأ مما لا يعلم جنسه أو قدره برئ المبرأ من القدر المعلوم منه ولا يبرأ من المجهول على الأصح، ومن برأه من المجهول كان هذا مستثنى من قاعدة الرضا، ولأجل قاعدة اعتبار نهي الشرع عن بيع الغرر إلى ما يشق الاحتراز منه مشقة عظيمة وإلى ما لا يشق الاحتراز منه إلا مشقة خفيفة وإلى ما بين الرتبتين من المشاق عفا الشرع عن بيع ما اشتدت مشقته: كالبندق والفستق والبطيخ والرمان والبيض وأساس الدار المدفون في الأرض وباطن الصبر من الطعام، وباطن ما في الأواني من المائعات، واجتزأ فيه بالرضا فيما علمه المكلف من الأوصاف ولم يشترط الرضا فيما وراء ذلك لما فيه من المشقة. وأما ما خفت مشقته: كبيع عبد من عبدين، وثوب من ثوبين، وكبيع الثمار قبل بدو صلاحها فهذا لا يصح العقد معه إذ لا يعسر اجتنابه. وأما ما يقع بين الرتبتين: كبيع الغائب والجوز واللوز في قشريهما والمسك في فأرته والحنطة في سنبلها واللبن في ضرعه فهذا مختلف فيه، فكلما خفت المشقة في اجتنابه كان أولى بأن لا يحتمل في العقد لاضطراب الرضا فيه، وكلما عظمت المشقة في اجتنابه كان أولى بأن لا يحتمل في العقد لاطراد الرضا فيه وكلما عظمت المشقة في احتماله كان أولى بتحمله. والغرر تارة يكون في الصفات: كبيع الغائب المستقصى الأوصاف فإن الغرر باق فيه لأن كل صفة ذكرها مرددة بين الرتبة العليا والرتبة الدنيا والرتب المتوسطات بين ذلك، وتتفاوت القيم بتفاوت(2/150)
هذه الصفات، وتارة يكون الغرر في تعيين المبيع كبيع عبد من عبدين فهذا غرر لا حاجة إلى تحمله، ويستثنى منه بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان فإنه على غرر من تعين الصاع مشبه ما لو أشار إلى صاعين متفرقين فقال بعتك أحد هذين الصاعين، وإلا أن في بيع صاع من صاعين غرر لا تمس الحاجة إليه إذ لا يمكنه إيقاع المبيع على عين أحد الصاعين، ولا يمكن إيقاع البيع على صاع معين من الصبرة، ولو شرط فصل الصاع من الصبرة، لو وقع العقد عليه معينا لأدى إلى مشقة ظاهرة في فصله من الصبرة، وقد لا ينفع البيع بعد فصله أو يتفق ثم يفسخ البيع في مجلس العقد فيؤدي إلى مشقة في الفصل وإلى مشقة في الرد إلى الصبرة، فإن قيل لو باع صبرة مجهولة الصيعان واستثنى منها صاعا فهل يصح هذا البيع؟ قلنا لا يصح لأن المبيع غير مقدر بالكيل ولا بتخمين العيان، فإن العيان لا يخمن المقادير إلا بعد الانفصال، فلما تعذر التقدير الحقيقي والتخميني في هذه الصفقة حكم ببطلانها، لأن الجهل بتقديرها وتخمينها غرر لا تمس الحاجة إليه، وربما وقع الغرر في حصول المقصود عليه مع تحقق وجوده كالفرس العاثر والعبد الآبق والجمل الشارد فهذا غرر عظيم في المقصود وأوصافه. ولا يصح بيع الجمل لأنه مجهول المالية إذ لا ثقة بحياته ولا بشيء من صفاته ولا ببقائه وسلامته، ولأن الجمل يتزايد من ملك البائع تزايدا لا ضبط له، فيشبه ما لو باع عبدا وشرط نفقته على البائع في مدة مجهولة، وربما وقع الغرر في سلامة المبيع كبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وله علتان: إحداهما أنه لا ثقة بسلامته لكثرة الحوائج، والثانية اغتذاؤه من ملك البائع بما يمتصه ويجتذبه من شجراته إلى أن يبدو صلاحه. فإن قيل فلم جاز بيعه بعد بدو صلاحه مع أنه يمتد بما يمصه من ملك البائع إلى أوان جذاذه؟ قلنا: هذا نزر يسير بالنسبة إلى ما قبل بدو الصلاح مع مسيس الحاجة إلى أكله وبيعه بعد بدو صلاحه، ولو لم يجز ذلك لتعذر على الناس أكل الثمار الرطبة، وذلك ضرر عام لم ترد الشريعة بمثله، وقد يكون الغرر في مقدار المبيع: كما لو باع(2/151)
صبرة على أرض غير مستوية فقد نزله بعضهم على بيع الغائب وجعل الجهل بالمقدار كالجهل بالوصف، ومنهم من أبطل العقد ههنا لعظم الغرر فإن الجهل بالوصف والموصوف أعظم من الجهل بالوصف على حياله، المثال الثالث: الإقباض يختلف باختلاف المقبوض، فإن كان عقارا فتخليته من التمكن من أخذه قبض له، وإن كان قليلا أو موزونا فقبضه بكيله أو وزنه ثم نقله، وإن كان غير مكيل ولا موزون فالأصح أن قبضه بنقله إلى موضع عام أو موضع يختص به المشتري، واستثني من ذلك الثمار على الأشجار فإن الأصح أن قبضها بتخليتها لما ذكرناه من الحاجة العامة إلى بيعه ليأكلها الناس رطبة، المثال الرابع: إذا شرط في البيع قطع الملك بطل البيع إلا إذا شرط قطعه بالعتق فإنه يصح على الأصح لشدة اهتمام الشرع بالعتق، ولذلك كمل مبعضه وسراه إلى أنصباء الشركاء، ويكون الغرض من هذا البيع حصول ثمرات العتق للمشتري في الدنيا بالولاء، وفي الآخرة بالإعتاق من النار، ويكون الثواب ثواب التسبب إلى مثل هذه الفضيلة فإنه تسبب إلى تحصيل مصلحة الحرية في الدنيا والآخرة وإلى تحصيل إعتاق المشتري من النار، ولو شرط قطع الملك بالوقف ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن الوقف قربة كالعتق، ولأن ما يحصل من فعله إلى يوم القيامة يربى على مصلحة العتق، والثاني لا يصح لأن الشرع لم يكمل مبعضه ولم يسره إلى أنصباء الشركاء، المثال الخامس: لا يدخل في البيع إلا ما تناوله الاسم، وقد اختلف في الاستثناء من هذه القاعدة، ولذلك أمثلة. أحدها: يثاب العبد للعرف في ذلك، وهذا لا يصح لأن العرف دال على إطلاقه والمسامحة به لا على تمليكه. المثال الثاني: إذا قال بعت هذه الأرض أو هذه الساحة أو رهنتكها وفيها بناء أو غراس، ففي دخولهما في البيع والرهن اختلاف، والقياس أن لا يدخلا لأن الاسم لا يتناولهما. المثال الثالث: مفتاح الدار وفي دخوله في البيع والإجارة اختلاف. المثال الرابع: حجر الرحا إذا كان الأسفل منهما مبنيا وفي دخولهما في البيع مذاهب. ثالثهما(2/152)
التفرقة بين الأعلى والأسفل، ولو باع نخلا عليها طلع مؤبر لم يدخل في البيع لأن اسم النخلة لا يتناوله، وإن كان غير مؤبر فالقياس أنه لا يدخل لخروجه عن اسم النخلة، لكن الشافعي نقله إلى المشتري مع خروجه عن اسم النخلة لاستتاره، كما نقل حمل الجارية والبهيمة إلى المشتري لاستتارهما، وعملا بقوله عليه السلام: "من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع"، ومفهوم هذا أن ما لم يؤبر فهو للمشتري، ولا يدخل في البيع ما كان مدفونا في الأرض من الحجارة والكنوز والأحطاب والأخشاب لأنه ليس جزءا منها ولا داخلا في اسمها ولا متصلا بها اتصال الأبنية. فإن قيل فما تقولون فيمن اشترى دارا أو أرضا فوجد فيها شيئا من ذلك فماذا يجب عليه؟ قلنا: ينظر فيما وجده. فإن أمكن أن يكون من كانت الدار تحت يده هو الدافن أخبره به، فإن ذكر أنه دافنه دفعه إليه لاشتمال يده عليه، وإن لم يمكن أن يكون هو الدافن له سأل من أمكن أن يكون هو الدافن له، فإن لم يعرفه ويئس من معرفته كان ذلك مالا ضائعا يصرفه الواجد في المصالح العامة إن لم يجد إماما عادلا، وإن وجد إماما عادلا صرفه إليه.
المثال السادس: من أمثلة ما خالف القياس في المعارضات وغيرها من التصرفات
من جمع في التصرف بين ما يصح وما لا يصح بطل تصرفه فيما لا يصح، وفيما يصح خلاف، واستثني من ذلك أمثلة أحدها: إذا أوصى بما زاد على الثلث وقلنا ببطلان وصيته فإنها تصح من الثلث ولا يخرج على الخلاف في البيع والإجارة ونحوهما. المثال الثاني: إذا قال لامرأته وأجنبية أنتما طالقان طلقت امرأته ولا تطلق الأجنبية. المثال الثالث: إذا قال لعبده وأجنبي أنتما حران فإنه يعتق عبده دون الأجنبي.
المثال السابع: إذا باع عينين ثم وجد بأحدهما عيبا فأراد أن يفردهما بالرد قبل تلف إحداهما أو بعد تلفها فهل له ذلك فيه خلاف، فإن قلنا يرد قوم التالف(2/153)
والباقي بما يخصهما من الثمن ورد الباقي مع قيمة التالف، واستثني من ذلك المصراة فإنه يردها ويرد بدل قيمة اللبن صاعا من التمر، لأن اللبن الذي تناوله البيع قد اختلط بما حدث على ملك المشتري من اللبن بحيث لا يعرف قدر كل واحد منهما، فقدر الشافعي البدل قطعا للنزاع والخصام وجعله من التمر لمشاركته اللبن في كونه قوتا، المثال الثامن: لا يباع المال الربوي المكيل إلا بالكيل ولا يباع رطبه بيابسه إلا في العرايا، فإن الشرع قدره بالخرص، وقد جوز بيع رطبه بيابسه في دون خمسة أوسق لمسيس الحاجة إلى مثل ذلك.
المثال التاسع: لا تجوز المعاملة على ما جهلت أوصافه لاختلاف رتب الأوصاف في النفاسة والخساسة وزيادة المالية ونقصانها بسبب ذلك، واستثنى من ذلك السلم لمسيس الحاجة إليه وترك كل وصف من أوصافه على أدنى رتبه ولم يسمح بالزيادة على أدنى الأوصاف إذ لا ضابط لها. وكذلك جوز الشارع شرط الصفات التي تتعلق بها الأغراض في الثمن والمثمن، إذ لا يمكن مشاهدتها مع مسيس الحاجة إليها، وترك كل وصف منها على أدنى رتبه لما ذكرناه في السلم، فإذا شرط في العبد أنه كاتب أو حاسب أو رام أو بان أو نجار أو قصار، حمل على أقل ما يقع عليه كاتب أو حاسب أورام أوبان أونجار أوقصار.
المثال العاشر: الحلول شرط في صحة المعاملة على الأموال الربوية والقبض في العوضين شرط في استمرار العقد، واستثني من ذلك القرض الواقع في الأموال الربوية لمسيس الحاجة إليه، المثال الحادي عشر: الميت لا يملك لانتفاء حاجته إلى الملك إلا أنه يملك في الموتة الأولى في الإرث عن أبيه أو ابنه لأنه صائر إلى الاحتياج إلى الملك فثبت له الملك بالإرث دفعا لما سيصير إليه من الحاجات. وأما الموتة الثانية: فإن لم يكن على الميت دين ولا أوصى بشيء انقطع ملكه بموته لانتفاء الحاجة في الحال والمآل، وإن كان عليه دين أو أوصى بشيء فهل يبقى ملكه بعد موته لاحتياجه إلى قضاء دينه وتنفيذ(2/154)
وصيته أو ينتقل الملك إلى ورثته بعد موته وتتعلق الديون به، أو يكون موقوفا فإن برئ من الديون وردت الوصايا تبين أنهم ملكوه، وإن أديت الديون وقبلت الوصايا تبين أنهم لم يملكوه؟ فيه أقوال، فإن قلنا: إنهم يملكوه كان تصرفهم فيه كتصرف السيد في رقبة العبد الجاني، وكتصرف الراهن في المرهون فيه خلاف يجري مثله في تعليق حق الزكاة بمقدارها من النصاب، والأولى أن يجعل التعلق بالتركة كتعلق الرهن نظرا للميت فإنه أحق بماله من ورثته، فكان الحجر على ورثته أقرب إلى أداء ديونه وتنفيذ وصاياه.
والتوثق المتعلق بالأعيان أقسام:
منها التوثق في الزكاة، ومنها التوثق في حبس المبيع على قول، ومنها توثق جناية العبد، ومنها توثق الرهن، ومنها توثق البائع بالبيع في صورة الفلس، ومنها توثق الغرماء بالحجر على المفلس، ومنها التوثق بالحجر على البائع إذا أوجبنا البداءة بتسليم الثمن على المشتري وهذا حجر بعيد، ومنها التوثق بضمان الديون وضمان الوجوه وضمان إحضار ما يجب إحضاره من الأعيان المضمونة وضمان العهدة، ومنها التوثق للصداق، ومنها التوثق للبضع، ومنها التوثق بحبس الجناة إلى حضور الغيب وإفاقة المجانين وبلوغ الصبيان. ومنها التوثق بحبس من يحبس على الحقوق، ومنها التوثق بالإشهاد الواجب على أداء الديون، ومنها التوثق بالحيلولة بين المدعى عليه وبين العين إذا شهد بها شاهدان مستوران. وكذلك حبس المدعي إذا شهد عليه مستوران بالدين أو بشيء يتعلق ببدنه، كالحد والقصاص والتعزير، أو بالرق والزوجية إلى أن تزكي البينة أو يخرج مع حد الحاكم في المسارعة إلى استزكاء المستورين.
المثال الثاني عشر: لا يجوز توكيل الإنسان ولا إذنه فيما سيملكه إذ لا ينفذ فيما لا سلطان له عليه إلا في المضاربة، فإن إذن المالك في بيع ما سيملكه من العروض نافذ إذ لا تتم مصالح هذا العقد إلا بذلك، إذ لا مندوحة عنه ولا(2/155)
خلاص منه، المثال الثالث عشر: من لا يملك تصرفا لا يملك الإذن فيه ويستثنى من ذلك المرأة فإنها لا تملك النكاح وتملك الإذن فيه. وكذلك الأعمى لا يملك البيع والإجارة على العين ويملك الإذن فيهما. وأما إيجارة نفسه وشراؤها من سيدها وكتابته عليها فجائز لعلمه بالمعقود عليه، ومن لا يملك الإنشاء لا يملك الإقرار بما لا يملكه من الإنشاءات وقد استثني منه المرأة لا تملك إنشاء النكاح وتملك الإقرار به وكذلك لا يملك مجهول الحرية إنشاء الرق على نفسه ويملك الإقرار به ولا يصح الإبراء مما لا يملكه، الإنسان ويصح مما ملكه وإن وجد سبب ملكه ووجوبه ولم يملك ففي صحة الإبراء منه قولان، ووجه الصحة تقدير الملك والوجوب عند التسبب، وحكم الضمان في ذلك حكم الإبراء.
المثال الرابع عشر: لا يجتمع العوضان، إنما جوزت لمصالح المتعاقدين فلا يختص أحدهما، وكذلك لا تصح الإجارة على الطاعات كالإيمان والجهاد والصلاة، لأنها لو صحت لاجتمع الأجر والأجرة لواحد، وإنما جازت الإجارة في الأذان لأن الأجرة مقابلة لما فيه من مجرد الإعلام بدخول الأوقات ولما فيه من الأذكار التي يختص أجرها بالمؤذن. وأما المسابقة والنضال فإن الغالب فيهما يفوز بالغلب وأخذ السبق، لأن الحصول عليها حاث على تعلم أسباب الجهاد الذي هو تلو الإيمان، فإن كان السبق من واحد جاز ذلك لما ذكرناه، وإن كان من المتسابقين والمتناضلين فلا بد من إدخال محلل بينهما تمييزا لصورة المسابقة والمناضلة عن صورة القمار، كما شرط في النكاح الولي والشهود تمييزا لصورة النكاح عن صورة السفاح، المثال الخامس عشر: إيجار المأجور بعد قبضه جائز من أن المنافع لم تقبض، ولكن أقام الشرع قبض محلها مقام قبضها في نفسها للحاجة إلى ذلك، ولو تلفت العين في أثناء المدة لانفسخ العقد فيما بقي لفوات بعض المعقود عليه قبل قبضه، المثال السادس عشر: إيجار عمر رضي الله عنه أرض السواد بأجرة مؤبدة معدومة مجهولة المقدار لما في ذلك من المصلحة(2/156)
العامة المؤبدة، ولو أجرها ذرية مستأجريها بأجرة مجهولة لم يجز على الأصح إذ يجوز للمصالح العامة ما لا يجوز للخاصة، وقال ابن شريح ما يؤخذ منه ثمن، وهو أيضا خارج عن القياس، ولكن الذي ذكره الشافعي أبعد من القياس، لأن الجهالة واقعة في العوض والمعوض، وعلى قول ابن شريح تختص الجهالة بالثمن دون المثمن، لكنه خالف النقل في أن عمر أخرجها من الكفار. والإجارة لا تنفسخ بموت المؤجر، وفي مذهب الشافعي إشكال من جهة حكمه بالوقف على أرباب الأيدي بمجرد الرواية من غير بينة قامت على ذلك، ولا إقرار من ذي اليد، فإن الأيدي لا تزال في الشرع بمجرد الأخبار الصحيحة، وإنما تزال ببينة أو بإقرار، ومثل هذا الإشكال وارد عن مالك في أراضي مصر.
المثال السابع عشر: لا يجوز تقطيع المنافع في الإجارة إلا عند مسيس الحاجة، فإذا استأجر لبعض الأعمال يوما خرجت أوقات الأكل والشرب والصلاة وقضاء الحاجات عن ذلك لمسيس الحاجة إلى هذا التقطيع، وكذلك لو استأجره للخدمة أو لبعض الأعمال شهرا أو سنة أو جمعة خرجت هذه الأوقات مع الليالي عن الاستحقاق، فإن ذلك لو منع لأدى إلى ضرر عظيم. ولو قال استأجرتك من أول النهار إلى الظهر ومن العصر إلى المغرب لما صحت الإجارة، إذ لا حاجة إلى التقطيع، وكذلك الاستئجار للحمل والنقل والركوب تنقطع فيه المنافع في المراحل والمنازل الخارجة عن الاستحقاق ومطرد العادات. وقد أجاز بعض العلماء الإجارة في الحال وعلى الحول القابل لأن المنافع لا تكون في حال العقد إلا معدومة، ولا فرق بين المنافع المتعقبة العقد وبين المنافع المستقبلة، والشافعي رحمه الله يجعل المنافع المستقبلة للعقد المتحد تابعة لما يتعقب العقد من المنافع، ويجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع، ويجاب عنه بأن القليل يتبع الكثير في العقود، ولا يجوز أن يجعل معظم المقصود تابعا لأقله فلو أجره عشر سنين لكان ما يستقبل من مقصود العقد تابعا لما يتعقب العقد من المنفعة التافهة.(2/157)
[فائدة] كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب ويقطع المنفعة لزمه ذلك، ولو أدخل أوقات قضاء الحاجات في الإجارة مع الجهل بحال الأجير في قضاء الحاجة لم يصح، ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب وأن يقتصر في الفرائض على الأركان صح ووجب الوفاء بذلك لأن تلك الأوقات إنما خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشرط، فإذا صرح بخلاف ذلك مما يجوزه الشرع ويمكن الوفاء به جاز، كما لو أدخل بعض الليل في الإجارة بالنص عليه، ولو شرط عليه أن يعمل شهرا الليل والنهار بحيث لا ينام ليلا ولا نهارا فالذي أراه بطلان هذه الإجارة لتعذر الوفاء به، فإن النوم يغلب بحيث لا يتمكن الأجير من العمل، فكان ذلك غررا لا تمس الحاجة إليه، بخلاف ما لو شرط ذلك في ليلة أو ليلتين، المثال الثامن عشر: أكل الوصي الفقير من مال اليتيم بالمعروف إن جعلناه قرضا فقد اتحد المقرض والمقترض لأنه مقترض لنفسه ومقرض عن اليتيم، وإن لم نجعله قرضا فقد قبض من نفسه لنفسه، ولا يأخذ أكثر من أجرة مثله، لأن ذلك مقيد بالمعروف، لأن الله تعالى قيد ذلك بالمعروف. المثال التاسع عشر: المخالطة في الطعام جائزة من المطلقين، لأن كل واحد من المخالطين باذل للآخرين ما يأكلونه وإن كان مجهولا، إذ لا يشترط العلم في الإباحة، فإن المنائح والعواري وثمار البساتين جائزة مع الجهل بقدر ما يتناوله المباح له من ذلك، وكذلك ما يأكله الضيفان كما ذكرناه. وأما مخالطة الأوصياء وأولياء اليتامى في مثل ذلك فيجوز أن يكون ذلك إباحة في مقابلة إباحة، فإن الإباحة في مال اليتيم هي التي لا مقابل لها، بخلاف هذه الإباحة ويجوز أن تكون مخالطة المحجور عليهم ومخالطة المطلقين من باب المعاوضة، فيكون ما يأكله كل واحد منهم من نصيب غيره في مقابلة ما بذله من نصيب نفسه، وإن تفاوت المتقابلان، ولا يجوز للوصي أن يخالط اليتيم بحيث يقطع بأنه أكل من(2/158)
ماله أكثر مما بذله، ولذلك قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي يعرف المفسد لما يتناوله من تفاوت المقابلة، والأولى بالولي والوصي أن يخالطا اليتيم بما يعلمان أن اليتيم يأكل بقدر ماله أو أكثر منه. فإن قيل لو كانت المخالطة من باب المقابلة لأدى ذلك إلى الربا للجهل بالمماثلة، ولأن معظم الأطعمة خارج عن حال كمال المأكول، فيجاب عن ذلك بأن هذا رخصة من المستثنيات للحاجات العامة فلا يتقاعد عن رخصة العرايا في الجهل بالمماثلة وخروج الرطب عن حال الكمال، بل لو علمت المفاضلة ههنا بين المخالطين لجاز في مخالطة غير الأيتام، وكذلك في الأيتام، إذا كان ما يأكل اليتيم أكثر من ماله للحاجة إلى ذلك، المثال العشرون: لا يصح قبض الصبي والمجنون لشيء من الأعيان والديون سواء كان المقبوض لهما أو لغيرهما، ويستثنى من ذلك ما مست الحاجة إليه ودعت إليه الضرورة، كثياب الصبي والمجنون وما يدفع إليهما من الطعام والشراب ليأكلاه، وكذلك إرضاع الصبي لما استؤجرت المرأة على رضاعة فلا يصح قبضها فيما وراء ذلك. وقد أجاز الشافعي رحمه الله الخلع على الإرضاع ومن طعام الصبي عشر سنين إذا وصف الطعام بصفات السلم، فإن سلمت الطعام إلى الولي ثم سلمه إليها لتطعمه الصبي برئت ذمتها، وإن أذن لها في إطعامه إياه فهذا مما لا تمس الحاجة العامة ولا الضرورة الخاصة إليه، فلا وجه لمخالفة القاعدة فيه لندرته وسهولة الانفكاك منه والانفصال عنه. ولو قال لإنسان ادفع ديني عليك إلى صبي أو مجنون أو ألقه ففعل لم يبرأ من الدين، إذ لا براء منه إلا بقبض صحيح، ولو وثب صبي أو مجنون فقتلا قاتل أبيهما ففي وقوعه قصاص خلاف، لأن الغرض بالقصاص تفويت نفس الجاني وإزالة حياته بسبب مضمن وقد تحقق ذلك. المثال الحادي والعشرون: لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيها حلال جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد واستيلاء أهل(2/159)
الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولا يقطع الناس عن الحرف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام.
قال الإمام رحمه الله: ولا يتبسط في هذه الأموال كما يتبسط في المال الحلال بل يقتصر على ما تمس إليه الحاجة دون أكل الطيبات وشرب المستلذات ولبس الناعمات التي هي بمنازل التتمات، وصور هذه المسألة أن يجهل المستحقين بحيث يتوقع أن يعرفهم في المستقبل، ولو يئسنا من معرفتهم لما تصورت هذه المسألة لأنه يصير حينئذ للمصالح العامة، وإنما جاز تناول ذلك قبل اليأس من معرفة المستحقين، لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة، ولو دعت ضرورة واحد إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد، وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء نفوس، مع أن النفس الواحدة قد لا يكون لها قدر عند الله، ولا يخلو العالم من الأولياء والصديقين والصالحين، بل إقامة هؤلاء أرجح من دفع الضرورة عن واحد قد يكون وليا لله، وقد يكون عدوا لله، وقد جوز الشرع أكل اللقطة بعد التعريف ولم يشترط الضرورة. ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك. ومثل ذلك أن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة. ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة، ولعلمنا أن الله أمر بكل خير دقه وجله، وزجر عن كل شر دقه وجله، فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ(2/160)
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وهذا ظاهر في الخير الخالص والشر المحض. وإنما الإشكال إذا لم يعرف خير الخيرين وشر الشرين أو يعرف ترجيح المصلحة على المفسدة أو ترجيح المفسدة على المصلحة أو جهلنا المصلحة والمفسدة، ومن المصالح والمفاسد ما لا يعرف إلا كل ذي فهم سليم وطبع مستقيم يعرف بهما دق المصالح والمفاسد وجلهما، وأرجحهما من مرجوحهما، وتفاوت الناس في ذلك على قدر تفاوتهم فيما ذكرته، وقد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه الأخرق المفضول ولكنه قليل. وأجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإن الألف واللام في العدل والإحسان للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دق العدل وجله شيء إلا اندرج في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ولا يبقى من دق الإحسان وجله شيء إلا اندرج في أمره بالإحسان، والعدل هو التسوية والإنصاف، والإحسان: إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة وكذلك الألف واللام في الفحشاء والمنكر والبغي عامة مستغرقة لأنواع الفواحش ولما يذكر من الأقوال والأعمال. وأفرد البغي - وهو ظلم الناس - بالذكر مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به، فإن العرب إذا اهتموا أتوا بمسميات العام. ولهذا أفرد البغي وهو الظلم مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به، كما أفرد إيتاء ذي القربى بالذكر مع اندراجه بالعدل والإحسان.
[فائدة] الإحسان لا يخلو عن جلب نفع أو دفع ضرر أو عنهما. وتارة يكون في الدنيا، وتارة يكون في العقبى: أما في العقبى فتعليم العلم والفتيا والإعانة على جميع الطاعات وعلى دفع المعاصي والمخالفات، فيدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان. وأما في الدنيا فبالإرفاق الدنيوية ودفع المضار الدنيوية، وكذلك إسقاط الحقوق والعفو عن المظالم. قال بعض العلماء ينبغي أن لا يعفى عن(2/161)
الظالم كي لا يجترئ على المظالم وهو بعيد من القواعد، لأن الغالب ممن يعفى عنه أنه يستحي ويرتدع عن الظلم ولا سيما عن ظلم المعافى وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: "بأنه لا يجزي بالسيئة السيئة". ولكن يعفو ويصفح، مع أن الجرأة عليه أقبح من كل جرأة، ولأن العفو لا يؤدي إلى الجرأة غالبا إذ لا يعفو من الناس إلا القليل، وقد مدح الله العافين عن الناس وهو عفو يحب العفو، وقد رغب في العفو بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وقال في القصاص: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}. قال بعضهم لو أرخص بعض الناس في السعر على الناس وسامحهم في البيع وساهلهم في الثمن من ذلك لما يؤدي إليه من كساد أهل سوقه، وهذا أيضا بعيد فإن الذين يسامحون من المشترين أكثر من الكاسدين من أهل السوقة فلا ترجح مصالح خاصة على مصالح عامة، وقد قال عليه السلام: "رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى". المثال الثاني والعشرون: الكتابة وهي خارجة عن القياس، فإنها في الحقيقة هي بيع ملك السيد وهو الرقبة بما يملكه من اكتساب العبد، لكن الشرع قدر الأكساب خارجة عن ملك السيد. وجعل الأعمال الواقعة بينه وبين السيد كالمعاملة الواقعة بين السيد وبين الأجنبي تحصيلا لمصالح العتق. ولكن مذهب الشافعي رحمه الله مشكل من جهة أنه شرط في الكتابة التنجيم بنجمين. ولو كاتبه على ثمن درهم وأجله مثلا بشهر لم يصح عند الشافعي مع كونه أقرب إلى تحصيل العتق، وهذا لا يلائم أوضاع العقود لأن كل ما كان أقرب إلى تحصيل المقصود من العقود كان أولى بالجواز لقربه إلى تحصيل المقصود، وقد خولف في ذلك ومنع أيضا من الكتابة الحالة مع كونها مقتضية لتعجيل تحصيل المقصود، وقد علل ذلك بعجز المكاتب عن النجوم الحالة، وقد رد ذلك بالبيع من المفلس. وأجيب عنه بأنه يملك المبيع فيكون موسرا به، وهذا لا يستقيم، فإنه لو اشترى ما يساوي درهما واحدا بمائة درهم حالة فإن البيع يصح مع عجزه عن معظم الثمن. وكذلك(2/162)
لو تبايع اثنان عينا غائبة والمشتري معسر، وهما في برية ومسافة بعيدة فإن المشتري عاجز عن تسليم الثمن في الحال، والبيع مع ذلك صحيح.
المثال الثالث والعشرون: اعلم أن الله قسم أموال المصالح العامة على قدر الحاجات والضرورات، وقسم الغنائم أيضا على قدر الحاجات: فجعل للراجل سهما واحدا لأن له حاجة واحدة، وجعل للفارس ثلاثة أسهم لأن له ثلاث حاجات: حاجة لنفسه وحاجة للفرس، وحاجة لسائس فرسه. وكذلك مواريث البنين والبنات والإخوة والأخوات على قدر الحاجات: فجعل للإناث من هؤلاء سهما واحدا، وجعل للذكر سهمين، لأن للذكر في الغالب حاجة لنفسه وحاجة لزوجته، وللأنثى في الغالب حاجة واحدة لأنها مكفولة في الغالب، والرجل كافل في الغالب، لكن خولف هذا القياس في الإخوة من الأم: فسوى فيهم بين ذكورهم وإناثهم من جهة إدلائهم بالأم، وسوى بين الأب والأم: فجعل لكل واحد منهما السدس مع وجود الأولاد، وفضل الأب مع الأم مع فقدهم، وقدم الأبناء على الآباء في التعصيب لأن الابن بضعة من الأب وبعض له، فكان بعض الميت أحق بماله من أبيه لأنه أقرب إليه، ويقدم الآباء على الإخوة والأخوات، لأنهن بضعة من الأموات، لكن خولف القياس فيما إذا مات عن مائة وخمسين درهما وعن مائة بنت وأخت واحدة من أبويه، فإن الأخت تفوز بالثلث وهو أضعاف ما يحصل للبنات مع قربهن، إذ يحصل لكل بنت درهم واحد، ويحصل للأخت خمسون درهما مع كون البنت بضعة للميت وبعضا له، والأخت بضعة من الجد مع بعده، وهذا موغل في البعد عن القياس. وكذلك خولف القياس في الإخوة مع الجد لأن كل واحد منهما يدلي بالأب والأخ أولى بالأب المدلى به، والجد ليس كذلك، ولهذا جعل الشافعي الأخ في باب الولاء مقدما على الجد على قول، لكنه بضعة من المدلى به، ولولا إجماع الصحابة على أن الأخ لا يقدم على الجد في الإرث(2/163)
لقال بتقديم الأخ كما قال به في الولاء. المثال الرابع والعشرون: الأحداث المطلقون مستقلون في التصرف في منافع أموالهم وأجسادهم، واستثني من ذلك تزويج المرأة نفسها لما في مباشرتها ذلك من المشقة والخجل والاستحياء، ولا سيما في حق المحضرات بحضرة شهود النكاح، وكذلك إجبار الأب البكر المستقلة مخالف لقاعدة التصرف في منافع الحر بغير اختيار، لكنه جاز للآباء والأجداد، لما فيهم من الاستصلاح وتحصيل مقاصد النكاح.
المثال الخامس والعشرون: قول الرجل لزوجته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق ففعلت فإنها تطلق: وهو مشكل لأنه إن حمل الإعطاء على الإقباض من غير تمليك فينبغي أن تطلق ولا يستحق شيئا كما لو قال إن أقبضتني ألفا فأنت طالق وإن أراد إعطاء التمليك فكيف يصح التمليك بمجرد الفعل، فإن قيل قد قام تعليق الطلاق على الإعطاء من الإيجاب، قلنا فكيف يصح أن يكون الإيجاب بالفعل، وقاعدة الشافعي أن العقود لا تنعقد إلا بالأفعال، ولو قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فأعطته ألفا من غير النقد الغالب، وقع الطلاق ووجب الإبدال بألف من الغالب، وهذا في غاية الإشكال، لأن الطلاق إن علق على غير الغالب لم يجب إبداله، كما لو نص عليه، وإن علق على الغالب فينبغي أن لا يقع الطلاق بغير الغالب، لأن الشرط لم يوجد، المثال السادس والعشرون: لا يجوز إسقاط شيء من حقوق المولى عليه مجانا ويستثنى بعد ذلك عفو الولي المجبر عن نصف الصداق قبل الدخول لما في المسامحة من وليها، المثال السابع والعشرون: من أتلف شيئا عمدا بغير حق لزمه الضمان جبرا لما فات من الحق ويستثنى من ذلك صور. إحداها: ما أتلفه الكفار على المسلمين من النفوس والأموال فإنهم لا يضمنون لما في تضمينه من التنفير عن الإسلام، وإتلافهم إياه محرم لأنهم مخاطبون بفروع الإسلام. الصورة الثانية: ما يتلفه المرتدون في حال القتال، وفي تضمنه مع تحريمه اختلاف من جهة أن التضمين منفر من الإسلام، ولكن الردة(2/164)
لا تعم عموم الكفر الأصلي. الصورة الثالثة ما يتلفه البغاة على أهل العدل في حال القتال فإنهم لا يضمنونه على قول لما فيه من التنفير عن الطاعة والإذعان، وعلى قول يضمنون لانحطاط رتبة التنفير عن الإسلام، ولا يتصف إتلافهم بتحليل ولا تحريم ولا إباحة لأنه خطأ معفو عنه. الصورة الرابعة: ما يتلفه العبيد على السادة فإنهم لا يضمنونه مع تحريم إتلافهم وفي هذا إشكال، لأن إيجاب ما يتلفه العبيد في ذمتهم لا يمنع منه شرع ولا عقل، ولا فرق بين السادة وغيرهم في ذلك، وكذلك قولهم لا يثبت للسيد دين في ذمة عبده لا وجه له. وأما ما يتلفه العبد على غير سيده فإنه يتعلق برقبته خلافا لأهل الظاهر، وهذا مشكل من جهة لأن السيد لم يتلف شيئا ولا تسبب إلى إتلافه والذي تقتضيه القواعد أن يبث في ذمة العبد ولا يتعلق برقبته، ولا وجه لقول من قال إنما وقع التعلق برقبته، لتفريط السيد في حفظه فصار كالبهيمة إذا قصر صاحبها في حفظها فأتلفت شيئا، لأن التعلق بالرقبة في عبيد الصبيان والمجانين ثابت مع أنه لا ينسب إليهم تقصير بسبب ولا مباشرة ولا شرط، والتقصير في حفظ الدابة لا يختص بمالكها بل يعم من قصر في ضبطها وحفظها من مالك أو غالب أو مودع أو مستعير أو مستأجر. الصورة الخامسة: أن الإمام والحاكم إذا أتلفا شيئا من النفوس أو الأموال في تصرفهما للمصالح فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم والإمام ودون عواقلهما على قول الشافعي، لأنهما لما تصرفا للمسلمين صار كأن المسلمين هم المتلفون ولأن ذلك يكثر في حقهما فيتضرران به ويتضرر عواقلهما. الصورة السادسة: أن الجلاد إذا قتل بالحد أو القصاص من لا يجوز قتله في نفس الأمر فإنه لا يطالب بشيء من ضمان ذلك مع كونه غير ملجئ إلى الإتلاف، ومن وضع يده خطأ على مال غيره لزمه ضمانه إلا الحكام وأمناء الحكام فيما يتعلق بعهدة ما باعوه، لأن ذلك لو شرط لزهد الناس في البيع بطريق الحكم ونيابة الحكم، المثال الثامن والعشرون: إهدار الضمان مع التسبب وقد ذكرنا أن الضمان يجب تارة بالمباشرة،(2/165)
وتارة بالتسبب واستثني من ذلك صور يشق الاحتراز منها وتدعو الحاجة إلى التسبب إليها. إحداها: إرسال البهائم للرعي بالنهار فإنه لا يضمن ما تتلفه لما في تضمنه من الضرر العام. الصورة الثانية: إذا أوقد في داره نارا على الاقتصاد المعتاد فطار منها شرر فأتلف شيئا بالإحراق فإنه لا يضمن لما ذكرناه. الصورة الثالثة: إذا سقى بستانه على الاقتصاد في مثله فسرى إلى جاره فأفسد له شيئا فلا ضمان عليه. الصورة الرابعة: إذا ساق دابته على الاقتصاد في الأسواق فأثارت غبارا أو شيئا من الأوحال والإيذاء فأفسد ذلك شيئا فلا ضمان، إلا أن يزيد على الاقتصاد في السوق. ولو ساق في الأسواق إبلا غير مقطورة أو ركب دابة نزقة لا يؤثر فيها كبح اللجام لزمه الضمان لخروج ذلك عن المعتاد، ولو بالت أو راثت في الطريق فتلف بذلك إنسان أو غيره فلا ضمان، وإن أوقفها فزاد انتشار بولها وروثها بسبب وقفها فإن كان الطريق واسعا لم يضمن، وإن كان ضيقا لزمه الضمان، المثال التاسع والعشرون: الأصل في الضمان أن يضمن المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته، فإن تعذر المثل رجع إلى القيمة جبرا للمالية، ولو شرب المضطر ماء لأجنبي له قيمة خطيرة حيث شربه ضمنه لمستحقه بقيمته إذا رجع إلى المصر إذ لا قيمة لمثله في الأمصار، وإن كانت له قيمة فهي خسيسة. المثال الثلاثون: الذكاة واجبة في الحيوان المأكول تقليلا لما فيه من الدم النجس واستثني من ذلك ما لا يقدر على ذكاته من الوحوش والطيور وشوارد الأنعام فإن جرحها يقوم مقام ذكاتها لتعذر ذكاتها، وكذلك لو سقط بعير في بئر يتعذر رفعه منه، وأمكن طعنه في بعض مقاتله حل بذلك، وهذا وأمثاله داخل في قول الشافعي: بنيت الأصول على أن الأشياء إذا ضاقت اتسعت يريد؛ بالأصول قواعد الشريعة، وبالاتساع الترخيص الخارج عن الأقيسة واطراد القواعد، وعبر بالضيق عن المشقة.
[فائدة] إذا سقط الصيد وفيه حياة مستقرة: فإن كان بحيث لو سعى إليه عدوا لأدرك ذكاته فلم يفعل ذلك حرم، وإن لم يمكن ذلك حل وإن بقي على حياة(2/166)
مستقرة، ولا يلزمه أن يجهد نفسه ليدرك ذكاته، بل يعدو إليه عدوا كعدو الصيادين. المثال الحادي والثلاثون: إذا ظهر في نصيب أحد المقتسمين حق معين لإنسان كبيت من دار يطلب القسمة لخروجها عن حقيقتها، فإن القسمة إفراد ما يستحق كل واحد من المقتسمين ولا يحق له ههنا، ولو خرج ذلك في قسمة الغنائم وعسر إبطالها لكثرتهم لم يحكم ببطلانها، وعوض من وقع المستحق في نصيبه من سهم المصالح العامة لما في نقض القسمة مع كثرة الجند من العسر، ولو كان الجند قليلا كعشرة مثلا فينبغي أن تبطل القسمة إذ لا عسر في إعادتها. المثال الثاني والثلاثون: من ملك شيئا ثم أعرض عنه وتركه لغيره لم يزل ملكه عنه إلا الغنائم إذا ترك حقه من الغنيمة فإنه يسقط حقه ويبطل ملكه، لأن مقصود الجهاد الأعظم إنما هو إعلاء كلمة الدين، وملك الغنائم تابع لذلك غير مقصود، فإذا أعرض عنه سقط لأنه غير مقصود، وليتمحص الجهاد لنصرة الدين وإعلاء كلمة رب العالمين. المثال الثالث والثلاثون: لا يجوز تعطيل الإنسان عن منافعه وأشغاله واستثني من ذلك تعطيل المدعى عليه إذا استدعاه الحاكم بطلب خصمه لإحضاره لما فيه من المصلحة العامة، وكذلك تعطيل الشهود إذا استحضروا لما تعين عليهم أداؤه، وكذلك استحضارهم لما لا يتم إلا بالشهادة كالنكاح، لأنها حقوق واجبة فصار كتعطيلهم فيما لا يثمر من حقوق الله إلا بالتعليل: كالغزوات والجمعات وتغيير المنكرات. المثال الرابع والثلاثون: لا يستوفي أحد حق نفسه بالضرب واستثني من ذلك العبد والأمة إذا استغنى من خدمة السيد والقيام بحقوقه ولم يرتدعا بالوعظ والكلام، وكذلك المرأة الناشزة على زوجها، وهو أن يضربها لاستيفاء حقه، والضرب في هذا كله غير مبرح، ويختلف باختلاف المضروب في الضعف والقوة. المثال الخامس والثلاثون: من قدر على استيفاء حق له مضبوط معين فله استيفاؤه: كانتزاع المغصوب من غاصبه، والمسروق من سارقه، ويستثنى من ذلك القصاص فإنه لا يستوفى إلا بحضرة(2/167)
الإمام لأن الانفراد باستيفائه محرك للفتن، ولو انفرد بحيث لا يرى فينبغي أن لا يمنع منه، ولا سيما إذا عجز عن إثباته. وكذلك لا يستوفى حد القذف إلا بحضرة الإمام، ولا ينفرد مستحقه باستيفائه لأنه غير مضبوط في شدة وقعه وإيلامه. وكذلك التعزير لا يفوض إلى مستحقه إلا أن يضبطه الإمام بالحبس في مكان معلوم في مدة معلومة فيجوز له أن يتولاه المستحق. وكذلك لا يجوز تفويض الحد والتعزير إلى عدو المحدود والمعزر: لما يخشى ذلك من مجاوزة الشرع في شدة الضرب. وكذلك لا يفوض إلى الآباء والأبناء لاتهامهم في تخفيفه عن القدر المشروع، ولو فوض الإمام قطع السرقة إلى السارق، أو وكل المجني عليه الجاني في قطع عضو القصاص فوجهان: أحدهما: يجوز لحصول المقصود باستيفائه. والثاني لا يجوز لأن الاستيفاء لغيره أزجر له كما قالت الزباء لما مصت السم من خاتمها: بيدي لا بيدك يا عمرو. ولو أوجر رجلا سما مدففا فقتله فأمره ولي القصاص بأن يشرب مثل ذلك السم، فينبغي أن يخرج على الوجهين، وقد قدمنا نظائر كثيرة لما خالف القواعد والأقيسة لما فيه من جلب المصالح العامة والخاصة، والشريعة كلها مصالح من رب الأرباب لعباده فيا خيبة من لم يقبل نصحه في الدنيا والآخرة.
ارض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه
وكفى بالإنسان شرفا أن يتزين بطاعة مولاه فيما أمره ونهاه. وكفى به شرا أن يؤثر هواه على طاعة مولاه {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.(2/168)
فصل: في الأذكار
...
فصل: في الأذكار
ينبغي للإنسان أن يختار من الأذكار أفضلها، ومن الأقوال والأفعال أشرفها، ويأتي بالأفضل في أحيانه التي شرع فيها. ويأتي بالمفضول في وقته الذي ضرب له، وإذا جمع بين الدعاء والثناء كما في ثناء الفاتحة ودعائها(2/168)
وكذلك دعاء السجود بعد التسبيح والثناء، وقد نهى عن بعض القرآن في بعض الأوقات، كما نهى عن القرآن في الركوع والسجود، وعن الثناء في القعود بين السجدتين، وعن الصلاة في بعض الأماكن والأزمان، وعن الصوم في بعض الأيام. أما النهي عن العبادة المؤدية إلى الملالة والسآمة فلأنه يؤدي إما إلى استثقالها وكراهيتها لثقلها، أو لأنه يؤدي إلى أن لا يفهم أقوالها، فيذهب إلى أن يستغفر لذنبه فيسب نفسه، وينبغي أن لا يلابسها وقلبه ساه عنها، ولا لاه عن المقصود منها. فإن قيل أيما أفضل قراءة تبت أم سورة الكافرون أو الاشتغال بالباقيات الصالحات وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، مع أن الباقيات الصالحات متعلقة بالله وهي ثناء عليه، وتبت متعلقة بأبي لهب وبالكفار، والقول يشرف بشرف متعلقه. فالجواب ما ذكرناه من أنه قد تكون القراءة أفضل من بعض الأذكار كالقراءة في قيام الصلاة، وقد تكون الأذكار أفضل من القراءة في بعض الأطوار، بل تكره القراءة في بعض الأحوال: كالقراءة في الركوع والسجود والقعود، وكذلك يكون الثناء أفضل من القراءة والأذكار في بعض الأطوار كدعاء القنوت والدعاء بين السجدتين. فإذا كان الوقت قابلا للأذكار وقراءة القرآن بحيث لو أتى بأحدهما لم ينه عنه فهل تكون قراءة ما يتعلق من القرآن بغير الإله أولى من الأذكار لحرمة القرآن، ولذلك لا يجوز للجنب قراءته ويأتي من الأذكار بما شاء، أو تكون الأذكار لتعلقها بالإله أولى مما يتعلق بغير الإله؟ فالذي أراه أن الأذكار أولى نظرا إلى شرف متعلقها وهو المقصود من الكلام. وأما ما يشتمل من القرآن على الأذكار والثناء: كآية الكرسي وسورة الإخلاص وغيرهما من الآيات المشتملة على التمجيد والتحميد والثناء الخاص والعام فينبغي أن يكون أفضل من الأذكار إلا أن يحكي بالأذكار لفظ القرآن ومعناه فحينئذ الشرفان فيكون أفضل.(2/169)
واعلم أن المعارف والعبادات مقاصد ووسائل إلى ثواب الآخرة، والنظر إلى الله تعالى من أعلى مقاصد الآخرة، وكذلك رضوانه وتسليمه على عباده من أعلى المقاصد، والتسليم في الدنيا وسيلة إلى حصول السلامة، وكذلك الشفاعات والدعوات والخوف وسيلة إلى الكف عن العصيان، والرجاء وسيلة إلى الطاعات وحسن الظن بالرحمن، والتوكل مقصود من كل وجه، ووسيلة من وجه، والحب والإجلال مقصودان، والمقصود وسائل إلى كل مطلوب من الوسائل والمقاصد، والأكل والشرب وسيلة إلى تحصيل الاغتذاء والارتواء والشفاء، والحياء وسيلة إلى الكف عن القبائح، والغضب وسيلة إلى دفع الضيم، وشهوة الجماع وسيلة إليه، وهو وسيلة إلى كثرة النسل، كما أن شهوة الطعام والشراب وسيلة إلى الأكل والشرب اللذين هما وسيلتان إلى الاغتذاء والارتواء، وبذل المال في القربات وسيلة إلى مصالح المبذول له العاجلة، وإلى مصالح الباذل الآجلة، وإنما فضل الذكر على سائر الأعمال لأنه مقصود في نفسه ووسيلة إلى حصول الأحوال الناشئة عنه التي تنشأ عنها الاستقامة في الأقوال والأعمال، وأفضل الأذكار ما صدر عن استحضار صفات الكمال ونعوت الجلال، ودونهما ذكر الإنعام والإفضال الذي هو وسيلة إلى الحب والشكر، وذكر الثواب والعقاب اللذين هما وسيلتان إلى ترك العصيان ليسا بمقصودين إلا للحث على الطاعة والإيمان، وذكر الجنان أفضل من ذكر اللسان لأنه منشأ الأحوال، وقد يحضر ذكر الصفات الموجبة للأحوال من غير قصد ولا تكلف استحضار، وذلك غالب من الأنبياء والأولياء، وغلبته على الأنبياء أكثر منها على الأولياء، ولما عسر ذلك في حق عامة الخلق سقط عنهم في الصلاة وفي سائر الأوقات، لأنه لو لم يسقط عنهم لما صحت صلاتهم ولا أجيبت دعواتهم، ولما كانت مصلحته أعظم المصالح اقتضى عظم مصالحه أن يجب، لكنه لما تعذر على أعظم الخلق سقط رفقا بهم ورحمة. وأما من قدر وتمكن منه(2/170)
فيجوز أن يجب عليه تحصيلا لمصالحه، ويجوز أن يسقط عنه كما يسقط عن غيره.
[فائدة] الأذكار المشروعة أفضل من الأذكار المخترعة، وكذلك الاقتصار على الدعوات الصحيحة المشروعة أولى من الدعوات المجموعات وإن كانت جائزة. وكذلك التعبير عن معاني القرآن بما جاء فيه من الكلمات أولى من التعبير عن ذلك بالمراجعات إلا أن يكون الغرض البيان، وكذلك لا يطلق على الإله من المرادفات إلا ما أطلقه على نفسه وأوصى في كتابه أو سنة نبيه. وكذلك لا يعبر عن طاعاته وعباداته إلا بما سماها به: كالفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء والجمعات، وكذلك الحج والعمرة والاعتكاف، وكذلك لا يقال حظرت عليكم أمهاتكم، ولا يقال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبيح والمباح له بدل قوله المحلل والمحلل له، بل الأدب التعبير عن المعاني بما عبر العظماء عنها موافقة لهم وإجلالا لهم، وكذلك تنزيه القلوب والألسنة التي جرى فيها ذكر الإله عن أن يذكر بها سواه إلا بقدر ما تدعو الحاجة إليه وتحث الضرورة عليه.(2/171)
فصل: في السؤال
...
فصل: في السؤال
يشرف السؤال بشرف المسئول عنه: فالسؤال عن الله وصفاته أفضل من كل سؤال لأنه وسيلة إلى معرفة ذاته وصفاته قال الله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ثم السؤال عما تمس لضرورة أو الحاجة إليه من أحكامه، وكذلك السؤال عما يلابسه المكلف من مجهول الأقوال والأعمال، ثم السؤال عن معرفة مصالح ما يعزم عليه، فإن كان من المصالح المقدمة قدم، وإن كان من المصالح المؤخرة أخر، وإن جهل أهو من المصالح المقدمة أم المؤخرة فلا يقدم حتى يعلم الأصلح من تقديمه وتأخيره. وأما سؤال الشيء وطلبه: فإن كان المطلوب محرما فسؤاله حرام، وإن كان مكروها فسؤاله مكروه، وإن كان واجبا فسؤاله واجب، وإن كان مندوبا فسؤاله ندب، وأما طلب المباح: فإن كان مما لا يتأذى المطلوب منه ببذله ولا رده فلا بأس به كالسؤال عن الطريق وعن اسم الرفيق، وإن كان مما يتأذى(2/171)
ببذله المسئول منه ويخجل إذا رده فهذا مكروه، وإن كان السائل قادرا على تحصيله بغير مسألة من جهة أن يخجل المسئول أن يرده فيتأذى بمشقة الخجل ويستحي إذا منعه: إما لبخله، وإما لحاجته، وإن كان عاجزا عن تحصيله مع مسيس الحاجة إليه فلا بأس بسؤاله، كما سأل موسى والخضر عليهما السلام الضيافة من أهل قرية لئام فلم يضيفوهما. فإن قيل قد قال عليه السلام في حديث قبيصة: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يقضيها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن يا قبيصة من المسألة سحتا يأكلها صاحبها" فجعل ما عدا ذلك سحتا. قلنا ذلك محمول على أن يسأل الزكاة من ليس أهلا لها، وذلك من الطلب المحرم، وقد سأل جماعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فلم ينكر عليهم الرسول ولا أحد من الصحابة والتابعين، ولكن يجاب عن ذلك بأنها وقائع أحوال، ولعل الرسول والصحابة شاهدوا من ضعف السؤال وقرائن الأحوال ما يجوز لهم السؤال، فلو كانوا ممن تظهر منهم القدرة على كسب الكفاية لصحة أجسامهم وقوة أبدانهم ولم ينكروا عليه لحصل الغرض، وقد يسأل الكريم الأريحي ما هو محتاج إليه فيتأذى بمنعه وبذله، وهذا معروف عند أهل الكرم والمروآت، وكيف يفلح من عود نفسه السؤال مع ما جاء فيه من الوعيد والإنكار، ومما يكره السؤال عنه سؤال ما لا حاجة إليه من الفضول. وأما السؤال عن عورات الناس لغير مصلحة شرعية فمحرم داخل في قوله: {وَلا تَجَسَّسُوا}. وإن كثيرا من أهل المروآت ليعز عليهم أن يسألوا عن الطرقات مع أنه لا يضر.(2/172)
فصل: في البدع
...
فصل: في البدع
البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى:(2/172)
بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة، وللبدع الواجبة أمثلة.
أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. المثال الثاني: حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة. المثال الثالث: تدوين أصول الفقه. المثال الرابع: الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم، وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على القدر المتعين، ولا يتأتى حفظ الشريعة إلا بما ذكرناه.
وللبدع المحرمة أمثلة. منها: مذهب القدرية، ومنها مذهب الجبرية، ومنها مذهب المرجئة، ومنها مذهب المجسمة، والرد على هؤلاء من البدع الواجبة.
وللبدع المندوبة أمثلة. منها: إحداث الربط والمدارس وبناء القناطر، ومنها كل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها: صلاة التراويح، ومنها الكلام في دقائق التصوف، ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل للاستدلال على المسائل إذا قصد بذلك وجه الله سبحانه.
وللبدع المكروهة أمثلة. منها: زخرفة المساجد، ومنها تزويق المصاحف، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي، فالأصح أنه من البدع المحرمة.
والبدع المباحة أمثلة. منها: المصافحة عقيب الصبح والعصر، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام. وقد يختلف في بعض ذلك، فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة،(2/173)
ويجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بعده، وذلك كالاستعاذة في الصلاة والبسملة.(2/174)
فصل: في الاقتصاد في المصالح و الخيور
...
فصل: في الاقتصاد في المصالح والخيور
الاقتصاد رتبة بين رتبتين، ومنزلة بين منزلتين، والمنازل ثلاثة: التقصير في جلب المصالح، والإسراف في جلبها، والاقتصاد بينهما. قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} وقال حذيفة: الحسنة بين السيئتين، ومعناه أن التقصير سيئة، والإسراف سيئة، والحسنة ما توسط بين الإسراف والتقصير، وخير الأمور أوسطها، فلا يكلف الإنسان نفسه من الخيور والطاعات إلا ما يطيق المداومة عليه ولا يؤدي إلى الملالة والسآمة، وقال عليه السلام في قيام الليل: "ليصل أحدكم نشاطه فإذا وجد كسلا أو فتورا فليقعد - أو قال فليرقد" - ومن تكلف من العبادة ما لا يطيقه، فقد تسبب إلى تبغيض عبادة الله، ومن قصر عما يطيقه، فقد ضيع حظه مما ندبه الله إليه وحثه عليه، قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنطع في الدين وقد هلك المتنطعون، وأنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص التزامه قيام الليل، وصيام النهار، واجتناب النساء وقال له: "أرغبت عن سنتي؟" فقال: بل سنتك أبغي، قال: "فإني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" وقد نهى الله عثمان بن مظعون وأصحابه عما عزموا عليه: من سرد الصوم وقيام الليل والاختصاء، وكانوا قد حرموا على أنفسهم الفطر والنوم ظنا أنه قربة إلى ربهم، فنهاهم عن ذلك لأنه غلو في الدين واعتداء عما شرع فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} والتقدير ولا تحرموا تناول ما أحل الله لكم من الأكل والشرب والنوم والنكاح ولا تعتدوا بالاختصاء، إن الله لا يحب المختصين، أو لا يحب المعتدين بالاختصاء(2/174)
وغيره، وقال بعض المفسرين ولا تعتدوا بما التزمتموه: أي ولا تعتدوا الاقتصاد إلى السرف، وإنما عزموا على ذلك تحبيبا إلى الله عز وجل، فأخبرهم أنه لا يحب من اعتدى حدوده، وما رسمه من الاقتصاد في أمور الدين.
وللاقتصاد أمثلة: في استعمال مياه الطهارة فلا يستعمل من الماء إلا قدر الإسباغ، ولا ينقص من ذلك عن المد في الوضوء والصاع في الغسل، لأنه قد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وللمتوضئ والمغتسل في ذلك ثلاثة أحوال: إحداها أن يكون معتدل الخلق كاعتدال خلق النبي صلى الله عليه وسلم فيقتدي به في اجتناب التنقيص عن المد والصاع.
الحال الثانية أن يكون ضئيلا لطيف الخلق بحيث يعادل جسده بعض جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستحب له أن يستعمل من الماء ما تكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحال الثالثة أن يكون متفاحش الخلق في الطول والعرض وعظم البطن وفخامة الأعضاء فيستحب أن لا ينقص عن مقدار تكون نسبته إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مفردا ومثنيا ومثلثا، وقال: "وهذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم، فمن زاد أو نقص فقد أساء وظلم". ولفظه في سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم أدخل إصبعيه السبابتين في أذنه ومسح إبهامه على ظاهر أذنيه وبالسبابتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: "هكذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم - أو ظلم وأساء" - وأخرجه النسائي وابن ماجه؛ ولا شك أن من نقص عن المرة فقد أساء ومن زاد على الثلاث فإن كان قاصدا للقربة بالزيادة على الثلاث(2/175)
فقد أساء لتقربه إلى الرب بما ليس بقربة، وإن قصد به تبردا أو تنظفا بالماء الحار أو تداويا، فإن لم يفرق بين أعضاء الوضوء فلا بأس بذلك وإن فرق بينها فقد أساء بتفريق الوضوء لا بمجرد الزيادة. ومنها الاقتصاد في المواعظ: كان صلى الله عليه وسلم يتحول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم، والمواعظ إذا كثرت لم تؤثر في القلوب فيسقط بالإكثار فائدة الوعظ. ومنها الاقتصاد في قيام الليل، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السرف فيه، وقال: "خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا". ومنها الاقتصاد في العقوبات والحدود والتعزيرات فيعاقب كل واحد من الجناة على حسب قوته وضعفه، وكذلك رجم الزناة لا يرجم بحصيات ولا بصخرات وإنما يضرب بحجر لطيف يرجم بمثله في العادة، وكذلك الاقتصاد في الضرب لا يبالغ فيه إلى سفح الدم، ولا يضرب ضربا لا أثر له في الزجر والردع، بل يكون ضربه بين ضربين، وكذلك يكون سوط الضرب بين سوطين، ليس بحديد يقطع الجلود ولا ببال لا يحصل المقصود، وكذلك الزمن يكون بين زمانين كزمني الربيع والخريف دون زمني الحر الشديد والبرد الشديد، وهذا الاقتصاد في الضرب والسوط جار في ضرب الرقيق والصبيان والبهائم والنسوان عند التأديب والرياضة والنشوز. ومنها الاقتصاد في الدعاء، لأن الغالب على أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وغيرها اختيار الأدعية، فنقل عنه صلى الله عليه وسلم دعوات مختصرات جامعات، وعلة ذلك أن الله أمرنا بالتضرع والخفية في الدعاء، ولا يحضر ذلك غالبا إلا بالتكلف، وإذا أطال الدعاء عزب التضرع والإخفاء وذهب أدب الدعاء، وقد استحب الشافعي أن يكون دعاء التشهد دون قدر التشهد. ومنها الجهر بالكلام لا يخافت فيه بحيث لا يسمعه حاضروه، ولا يرفعه فوق حد أسماعهم، لأن رفعه فوق أسماعهم فضول لا حاجة إليه، ولذلك شرع إخفاء الدعاء فإن الله يسمع الخفي كما يسمع الجلي(2/176)
فرفع الصوت في مناجاة الرب فضول لا حاجة إليه. ومنها الأكل والشرب لا يتجاوز فيهما حد الشبع والري، ولا يقتصر منهما على ما يضعفه ويضنيه ويقعده عن العبادات والتصرفات، وقد قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. ومنها إمكان السير إلى الحج والعمرة لا تزاد فيه شدة الإسراع المضنية للأجساد ولا التباطؤ الخارج عن المعتاد. ومنها زيارة الإخوان لا يكثر منها بحيث يملونه ويستثقلونه، ولا يقل منها بحيث يشتاقونه ويعتبونه. ومنها مخالطة النساء لا يكثر بحيث تغلب عليه أخلاقهن، ولا يقللها بحيث يتأذين بذلك. ومنها دراسة العلوم لا يكثر منها بحيث يؤدي إلى السآمة والكراهة، ولا يقللها بحيث يعد مقصرا فيها. ومنها السؤال عما تدعوا الحاجة إليه إلى السؤال عنه من أمور الدنيا لا يكثر منه إلا لضرورة أو حاجة ماسة. وكذلك المزاح والضحك واللعب. وكذلك المدح المباح لا يكثر منه ولا يتقاعد عن اليسير منه عند مسيس الحاجة ترغيبا للممدوح في الإكثار مما مدح به أو تذكيرا له بنعمة الله عليه ليشكرها وليذكرها بشرط الأمن على الممدوح من الفتنة. وكذلك الهجاء الذي تمس الحاجة إليه لا ينبغي أن يكثر منه إلا حيث أمر به في الشهادات والروايات والمشورات، ولا تكاد تجد مداحا إلا رذلا، ولا هجاء إلا نذلا، إذ الأغلب على المداحين الهجائين الكذب والتغرير، ومدحك نفسك أقبح من مدحك غيرك، فإن غلط الإنسان في حق نفسه أكثر من غلطه في حق غيره، فإن حبك الشيء يعمي ويصم، ولا شيء أحب إلى الإنسان من نفسه، ولذلك يرى عيوب غيره ولا يرى عيوب نفسه، ويعذر به نفسه بما لا يعذر به غيره، وقد قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}.(2/177)
مبحث: قد يمدح المرء نفسه إذا دعت الحاجة
...
مبحث: قد يمدح المرء نفسه إذا دعت الحاجة
ولا يمدح المرء نفسه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك مثل أن يكون خاطبا إلى قوم فيرغبهم في نكاحه، أو فيعرف أهليته الولايات الشرعية والمناصب الدينية ليقوم بما فرض الله عليه عينا أو كفاية كقول يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وقد يمدح المرء نفسه ليقتدى به فيما مدح به نفسه كقول عثمان رضي الله عنه ما تعنيت منذ أسلمت، ولا تمنيت، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مختص بالأقوياء الذين يأمنون التسميع ويقتدى بأمثالهم. وعلى الجملة فالأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة إلا بما فيه جلب مصلحة عاجلة أو آجلة أو درء مفسدة عاجلة أو آجلة، مع الاقتصاد المتوسط بين الغلو والتقصير، فلا يأتي في طهارته إلا بما يكمل طهارته، لأن الزائد عليه عبث لا حاجة إليه. وكذلك لا يرفع صوته في الكلام إلا بمقدار ما يبلغ سامعيه إلا أن يكون في وعظ أو زجر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب اشتد غضبه وعلا صوته حتى كأنه منذر جيش، وكان يرفع صوته بالتلبية تذكيرا للناس بها حتى يلبوا، ولذلك شرع رفع الصوت في الأذان لكثرة السامعين وخفضه في الإقامة لقلة الحاضرين، ولهذا المعنى قال ربنا عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} أنه إذا سمع الدعاء الخفي فلا حاجة إلى رفع الصوت لأنه لا فائدة فيه، ولذلك قال ربنا عز وجل: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فقال بعض المفسرين أراد الذين يعتدون برفع أصواتهم في الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالذكر: "أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا دون رءوس رحالكم" وقال آخرون لا يحب المعتدين في الدعاء ولا في غيره. ونقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جهر في أدعية ولكن كان جهره تعليما لأصحابه دون النوع من الدعاء، والحاجة ماسة إلا التعليم فيكون للجاهر بذلك أجران أحدهما: أجر(2/178)
الدعاء. والثاني: أجر التعليم. وكذلك الكلام لا ينبغي لك أن تتكلم إلا بما يجر مصلحة أو يدرأ مفسدة، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" فإن قيل فما تقولون في المزاح؟ قلنا: إنما يجوز المزاح لما فيه من الاسترواح إما للمازح أو للممزوح معه وإما لهما. وأما المزاح المؤذي المغير للقلوب الموجس للنفوس فإنه لا ينفك عن تحريم أو كراهة، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح جبرا للممزوح معه وإيناسا وبسطا، كقوله لأخي أنس بن مالك: "يا أبا عمير ما فعل النغير" وشرط المزاح المباح أن يكون بالصدق دون الكذب. وأما ما يفعله الناس من أخذ المتاع على سبيل المزاح فهذا محظور لما فيه من ترويع صاحب المتاع وقد جاء في الحديث: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا جادا" جعله لاعبا من جهة أنه أخذه بنية رده، جادا من جهة أنه روع أخاه المسلم بفقد متاعه، وعلى الجملة فلا ينبغي لعاقل أن يخطر بقلبه ولا يجري على جوارحه إلا ما يوجب صلاحا أو يدرأ فسادا، فإن سنح له غير ذلك فليدرأ ما استطاع.
والطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد بصلاحها وتفسد بفسادها تطهيرها من كل ما يباعد عن الله وتزيينها بكل ما يقرب إليه ويزلفه لديه من الأحوال والأقوال والأعمال وحسن الآمال ولزوم الإقبال عليه والإصغاء إليه والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال على حسب الإمكان من غير أداء إلى السآمة والملال، ومعرفة ذلك هي الملقبة بعلم الحقيقة، وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال والعزوم والنيات، وغير ذلك مما ذكرناه من أعمال القلوب، فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدق الشريعة، ولا ينكر شيئا منهما إلا كافر أو فاجر، وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم ولا يقاربهم في شيء من الصفات وهم شر من قطاع الطريق(2/179)
لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى وقد اعتمدوا على كلمات قبيحات يطلقونها على الله ويسيئون الأدب على الأنبياء والرسل وأتباع الأنبياء من العلماء الأتقياء، وينهون من يصحبهم عن السماع من الفقهاء، لعلمهم بأن الفقهاء ينهون عن صحبتهم وعن سلوك طريقهم.
واعلم أن الأصول أنواع أحدها. الخوف وهو ناشئ عن معرفة شدة الانتقام. النوع الثاني: الرجاء وهو ناشئ عن معرفة الرحمة والإنعام. النوع الثالث: التوكل وهو ناشئ عن معرفة تفرد الرب بالضر والنفع والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والإكثار والإقلال. النوع الرابع: المحبة ولها سببان أحدهما: معرفة إحسانه وعنها تنشأ محبة الإنعام والإفضال، فإن القلوب مجبولة على حب من أنعم عليها وأحسن إليها فما الظن بمحبة من الإنعام كله منه والإحسان كله صادر عنه. السبب الثاني: معرفة جماله وعنها تنشأ محبة الجلال وينبغي أن يكون كل واحد من المحبين أفضل من كل محبة إذ لا إفضال كإفضاله، ولا جمال كجماله. النوع الخامس: الحياء وهو ناشئ عن معرفة نظره إلينا واطلاعه علينا فمن حضرته هذه المعرفة استحيا من نظره إلينا واطلاعه علينا، فلم يأت إلا بما يقربه إليه ويزلفه لديه، ولا يأتي بما يبعده منه وينحيه عنه. النوع السادس والسابع: المهابة والإجلال ومنشؤهما معرفة جلاله وكماله فينبغي أن تكون مهابته وإجلاله، أعظم من كل مهابة وإجلال إذ لا إجلال كإجلاله ولا كمال ككماله. النوع الثامن: الفناء الناشئ عن الاستغراق ببعض هذه الأحوال وحقيقة الفناء غفلة وغيبة، وفراغ القلب عن الأكوان إلا عن السبب المفني، فمن فقد معرفة من هذه المعارف فقد ما يبتنى عليها من الأحوال، وما يناسب تلك الأحوال من الأقوال والأعمال، ومن دامت معارفه بهذه الصفات دامت له الأحوال الناشئة عنها والمستفادة منها، وتتفاوت رتب القوم بتفاوت دوام المعارف والأحوال المبنية عليها، وكذلك تتفاوت رتبهم بشرف الأحوال الناشئة(2/180)
عن المعارف المذكورة، فمراتب الخائفين والراجين دون مراتب المحبين لتعلق أسباب الخوف والرجاء بالمخوف من الشرور، والمرجو من الخيور وتتعلق المحبة بالإله، ثم المحبة الناشئة عن معرفة الجمال أفضل من المحبة الناشئة عن معرفة الإنعام والإفضال، لأن محبة الجمال نشأت عن جمال الإله، ومحبة الإنعام والإفضال نشأت عما صدر منه من إنعامه وإفضاله، والتعظيم والإجلال أفضل من الكل، لأنهما نشآ عن معرفة الجلال والجمال فنشآ عن جلال الله وكماله وتعلقاته فلهما شرف من وجهين اثنين، ومن أطلعه الله على أوصاف غير هذه الأوصاف، فنشأت عنها أحوال تناسبها غير هذه الأحوال لا يمكنهم العبارة عنها، إذ لم توضع عبارة عليها ولا الإشارة إليها، فإن دلالة الإشارة دون دلالة العبارة، فإن للأكابر علوما خارجة عن العلم الضروري النظري وهم فيها متفاوتون ولحضور هذه المعارف المذكورة في القلوب رتب أعلاها أن تبدأ القلوب من غير سعي في استحضارها واكتسابها، فيصدر عنها الأحوال الناشئة لها، ثم تدوم بدوامها وتنقطع بانقطاعها، وهذا ثابت للنبيين والمرسلين في أغلب الأحوال والقليل من الأبدال. الرتبة الثانية: أن يستحضرها العبد باستجلابها واستذكارها حتى تحضر وينشأ عنها أحوالها اللائقة بها ويختلف الناس في ذلك: فمنهم من تستمر عليه هذه المعارف، فتستمر به الأحوال الناشئة عنها، وهذا دأب الأولياء، ومنهم من تنقطع عنهم هذه المعارف والأحوال على الفور من استحضارها وهذا حال مثلنا وأمثالنا، ومنهم من يقع انقطاعها بين هاتين الرتبتين وهم يتفاوتون في سرعة الانقطاع وبطئه. الرتبة الثالثة: من لا تحضره هذه المعارف والأحوال الناشئة عنها إلا بسبب خارج، ولهم رتب. أحدها: من تحضره المعارف وأحوالها عند سماع القرآن، وهؤلاء أفضل أهل السماع. الرتبة الثانية: من تحضره المعارف والأحوال عند سماع الوعظ والتذكير، وهؤلاء في الرتبة الثانية. الرتبة الثالثة: من تحضره هذه المعارف والأحوال عند سماع الحداء والنشيد، وهذا في الرتبة الثالثة لارتياح النفوس(2/181)
والتذاذها بسماع الم تزن من الأشعار والنشيد، وفي هذا نقص من جهة ما فيه من حظ النفس. الرتبة الرابعة: من تحضره هذه المعارف والأحوال المبنية عليها عند سماع المطربات المختلف في تحليلها كسماع الدف والشبابات، فهذا إن اعتقد تحريم ذلك فهو مسيء بسماعه محسن بما يحصل له من المعارف والأحوال، وإن اعتقد إباحتها تقليدا لمن قال بها من العلماء فهو تارك للورع باستماعها محسن بما حضره من المعارف والأحوال الناشئة عنها. الرتبة الخامسة: من تحضره هذه المعارف والأحوال عند سماع المطربات المحرمة عند جمهور العلماء كسماع الأوتار والمزمار فهذا مرتكب لمحرم ملتذ النفس بسبب محرم، فإن حضره معرفة وحال تناسب تلك المعرفة، كان مازجا للخير بالشر، والنفع بالضر، مرتكبا لحسنات وسيئات ولعل حسناته لا تفي بسيئاته فإن انضم إلى ذلك نظر إلى مطرب لا يحل النظر إليه، فقد زادت شقوته ومعصيته.
فهذه رتب من تحضرهم المعارف والأحوال بسبب ما يستمعونه، فالمستمعون بالقرآن أفضل هؤلاء لأن سببهم أفضل الأسباب، ويليهم من يستمع الوعظ والتذكير إذ ليس فيه غرض للنفوس حاصل من الأوزان، ويليهم من يستمع الحداء والأشعار، لما فيه من حظ النفوس بلذة سماع موزون الكلام، فإنه يلتذ به المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وليس لذة النفوس بذلك من أمر الدين في شيء، ويليهم من يسمع المطربات المختلف في تحريمها للاختلاف في قبح سببه، ويليهم من يسمع ما ذهب الجمهور إلى تحريمه، لأنه أسوأ حالا ممن تقدمه، وعلى الجملة: فالسماع بالحداء ونشيد الأشعار بدعة لا بأس بسماع بعضها. وأما سماع المطربات المحرمات فغلط من الجهلة المتشيعين المتشبهين المجترئين على رب العالمين، ولو كان ذلك قربة كما زعموه لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويعرفوه لأتباعهم وأشياعهم، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء ولا من أكابر الأولياء، ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء، وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ(2/182)
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} ولو كان السماع بالملاهي المطربات من الدين، لبينه رسول رب العالمين، وقد قال عليه السلام: "والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه".
واعلم أن السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم، وهم أقسام. أحدها العارفون بالله، ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب، عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخلوقات وظهرت آثاره عليه من الحزن والبكاء وتغيير اللون. والخوف على أقسام أحدها: خوف العقاب، والثاني خوف فوات الثواب، والثالث خوف فوات الحظ من الأنس والقرب بالملك الوهاب، وهذا من أفضل الخائفين وأفضل السامعين، فمثل هذا لا يتصنع في السماع، ولا يصدر عنه إلا ما غلب عليه من آثار الخوف لأن الخوف وازع عن التصنع والرياء، وهذا إذا سمع القرآن كان تأثيره فيه أشد من تأثير النشيد والغناء.
والقسم الثاني: من غلب عليه الرجاء فهذا يؤثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات؛ فإن كان رجاؤه للأنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين، وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في الرتبة الثانية، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني.
القسم الثالث: من غلب عليه الحب وهو قسمان: أحدهما من أحب الله لإنعامه عليه وإحسانه إليه فهذا يؤثر فيه سماع الإنعام والإفضال والإحسان والإكرام. والقسم الثاني: من غلب عليه حب الله لشرف ذاته وكمال صفاته فهذا يؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات، ويشتد تأثيره فيه عند ذكر الإقصاء والإبعاد، وهو أفضل من الذي قبله، لأن سبب حبه أفضل الأسباب.
القسم الرابع: من غلب عليه التعظيم والإجلال فهذا أفضل من الأقسام الثلاثة إذ لا حظ له في سماعه لنفسه، فإن النفس تتضاءل وتتصاغر للتعظيم(2/183)
والإجلال، فلا حظ لنفسه في هذا السماع بخلاف من تقدم ذكره من الأقسام فإنهم واقفون مع ربهم من وجه، ومع أنفسهم من وجه أو وجوه وشتان بين ما خلص لله، وبين ما شاركته فيه النفوس، فإن المحب ملتذ بجمال محبوبه وهو حظ نفسه، والهائب ليس كذلك. وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه، فالسماع من الأولياء، أشد تأثيرا من السماع من الجهلة الأغبياء، والسماع من الأنبياء أشد تأثيرا من السماع من الأولياء والسماع من رب الأرض والسماء أشد تأثيرا من السماع من الأنبياء لأن كلام المهيب أشد تأثيرا في الهائب من كلام غيره، كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرا في المحب من كلام غيره. ولهذا لم يشتغل الأنبياء والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على كلام ربهم لشدة تأثيره في أحوالهم، ولقد غلط كثير من الناس في سماع النشيد وطيب نغمات الغناء من جهة أن أصوات الملاهي وطيب النشيد وطيب نغمات الغناء فيها حظ للنفوس، وإذا سمع أحدهم شيئا مما يحرك التذت نفسه بأصوات الملاهي ونغمات الغناء وذكره النشيد والغناء بما يقتضيه حاله: من الحب والخوف والرجاء فتثور فيه تلك الأحوال فتلتذ النفوس من وجه مؤثره، ويؤثر السماع ما يشتمل عليه الغناء من الحب والخوف والرجاء فيحصل الأمران: لذة نفسه، والتعلق بأوصاف ربه فيظن أن الكل متعلق بالله وهو غالط.
القسم الخامس: من يغلب عليه هوى مباح، كمن يعشق زوجته وأسريته فهذا يهيجه السماع ويؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فيطرب لذلك، فسماع هذا لا بأس به.
القسم السادس: من يغلب عليه هوى محرم، كهوى المرد ومن لا تحل له من النساء، فهذا يهيجه السماع إلى السعي في الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام. القسم السابع: من قال لأحد: في نفسي شيء مما ذكرتموه في الأقسام الستة فما حكم السماع في حقي؟ قلنا هو مكروه، من وجه أن الغالب على العامة إنما هو الأهواء(2/184)
الفاسدة، فربما هاجه السماع على صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأسباب خبيثة انطووا عليها ويراءون الحاضرين بأن سماعهم للأسباب المذكورة في الأقسام الستة وهذا جمع بين المعصية وبين إيهام كونه من الأولياء، وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكر المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس بهم فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين، وهذا مراء بأمر غير محرم.
واعلم أنه ليس من أدب السماع أن يشبه غلب المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء أدب، لأن الخمر أم الخبائث فلا يشبه ما أحبه الله بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته، لأن تشبيه النفيس بالخسيس سوء أدب لا شك فيه، وكذلك التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات. ولقد كره بعضهم: أنتم روحي ومعكم راحتي، وبعضهم: فأنت السمع والبصر، لأنه شبه ما لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما. ولهم ألفاظ يطلقونها يستعظمها سامعها منها: التجلي وهو عبارة عن العلم والعرفان، وكذلك المشاهدة، ومنها الذوق وهو عبارة عن وجدان لذة الأحوال ووقع التعظيم والإجلال، ومنها: الحجاب وهو عبارة عن الجهل والغفلة والنسيان، ومنها: قولهم قال لي ربي، وإنما ذلك عبارة عن القول بلسان الحال دون لسان المقال. كما قالت العرب: امتلأ الحوض، وقال قطني، كذلك قوله: إذا قالت الإشباع للبطن ألحق. ومنها قولهم القلب بيت الرب، ومعناه القلب بيت معرفة الرب، شبهوا حلول المعارف بالقلوب بحلول الأشخاص في البيوت، ومنها: البيتوتة عند الرب سبحانه في قوله عليه السلام: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" تجوز بالمبيت عن التقرب، وبالإطعام والسقي عن التقوية بما يقوم مقام الطعام والشراب من السرور والتقريب، ومنها القرب وهو عبارة عن الأسباب الموجبة لتقريب الإله، ومنها البعد وهو(2/185)
عبارة عن الأسباب الموجبة للإبعاد، ومنها المجالسة وهو عبارة عن لذة يخلقها الرب سبحانه وتعالى مجانسة للذة الأنس بمجالسة الأكابر.
وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه، وقد قال عليه السلام: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك. وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله عز وجل ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما ادعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين اثنتين: إحداهما لذة المعارف والأحوال المتعلقة بذي الجلال. والثانية: لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات النفس التي ليست من الدين ولا متعلقة بأمور الدين، فلما عظمت عندهم اللذتان غلطوا فظنوا أن مجموع اللذة إنما حصل بالمعارف والأحوال، وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين بشيء. وقد حرم بعض العلماء التصفيق لقوله عليه السلام: "إنما التصفيق للنساء" ولعن عليه السلام المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء، ومن هاب الإله وأدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيق والرقص إلا من غبي جاهل، ولا يصدران من عاقل فاضل، ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة، ولم يفعل ذلك أحد الأنبياء ولا معتبر من أتباع الأنبياء، وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء، وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئا من ذلك، ومن فعل ذلك أو اعتقد أنه غرض من أغراض نفسه وليس بقربة إلى ربه، فإن كان ممن يقتدى به ويعتقد أنه ما فعل ذلك إلا لكونه(2/186)
قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات، وإنما هو من أقبح الرعونات.
وأما الصياح والتغاشي والتباكي تصنعا ورياء فإن كان حال لا تقتضيه فقد أثم من وجهين: أحدهما: إيهامه الحال التامة الموجبة لذلك. والثاني: تصنعه به ورياؤه، وإن كان عن حال تقتضيه أثم إثم ريائه لا غير، وكذلك نتف الشعور وضرب الصدور، وتمزيق الثياب محرم لما فيه من إضاعة المال، وأي ثمرة لضرب الصدور ونتف الشعور وشق الجيوب إلا رعونات صادرة عن النفوس.
[فائدة] اعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات حال يختص بها، فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حالة الراجين، وسماعه سماع الراجين، ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين، وسماعه سماع الخائفين، ومن حاله حال المحبة إذا ذكر حال المحبوب أو ذكر به كانت حاله حال المحبين، وسماعه سماع المحبين، ومن كانت حاله حال المعظمين الهائبين فذكر العظمة أو ذكر بها كانت حاله حال المعظمين، وسماعه سماع الهائبين المعظمين، ومن كانت حاله حال التوكل فذكر تفرد الرب بالضر والنفع، والخفض والرفع، والتقرب والإبعاد، والإشقاء والإسعاد، فذكر ذلك أو ذكر به في السماع كانت حاله حال المتوكلين المفوضين، وسماعه سماعهم، وقد ينتقل كثير من الناس في السماع بين هذه الأحوال فينتقل من حال إلى حال على حسب الإمكان بحسب اختلاف التذكير، وقد يغلب الحال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حال الأول عليه.
ومن أعمال القلوب: الخضوع والخشوع. وكلاهما ذل في القلوب والرضا والصبر والتوبة والزهد
فأما الرضا: فهو سكون النفس إلى سابق القضاء من غير نكير على القاضي بما قضى، وأما الصبر فهو حبس النفس عن الجزع، والرضا جزء منه لأنه(2/187)
سكون بما جرت به المقادير، ولا يشترط أن يرضى بالمقضي به إلا إذا كان المقضي به خيرا، فإن كان المقضى به معصية فليرض بالقضاء وليكره المقضي به، لأن القضاء حكم الله والمقضي هو المحكوم به. وهذا كالمريض إذا وصف الطبيب الدواء المر أو قطع اليد المتآكلة فإنه يرضى لوصف الطبيب وقضائه وإن كره المقضي به من مرارة الدواء وألم القطع. وأما التوبة فأقسام: أحدها: التوبة من ترك الواجبات وفعل المحرمات. القسم الثاني: التوبة من ارتكاب المكروهات. القسم الثالث: التوبة من الشبهات. القسم الرابع: التوبة من ملابسة المباحات إلا ما تدعو إليه الضرورات أو تمس إليه الحاجات. القسم الخامس: التوبة من رؤية التوبة ورؤية جميع ما يتقرب به إلى ذي الجلال ومعنى ذلك ترك الاعتماد والاستناد إلى شيء من المعارف والأحوال والأقوال والأعمال، إذ لا ينجي شيء من ذلك صاحبه؛ فإنه لا اعتماد في النجاة إلا على ذي الجلال، وقد قال عليه السلام: "لن ينجي أحدكم عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
وأما الزهد فأقسام: أحدها: الزهد في الحرام. القسم الثاني: الزهد في المكروهات. القسم الثالث: الزهد في الشبهات. القسم الرابع: الزهد في المباحات إلا ما تدعو إليه الضرورات أو تمس إليه الحاجات. القسم الخامس: الزهد في رؤية الزهد والاعتماد عليه. والفرق بين التوبة والزهد وإن كانا من أعمال القلوب: أن التوبة ذات أركان ثلاثة: أحدها: الندم على ما فات من الطاعات. والركن الثاني: العزم على أن لا يعود إلى تلك المعصية. الركن الثالث: الإقلاع عن المعصية المتوب عنها في الحال. ويتحقق الزهد بقطع تعلق القلب عما ذكرناه من المحرمات والمكروهات والمباحات، وليس الزهد عبارة عن خلو اليد من المال، وإنما الزهد خلو القلب عن التعلق به، فليس الغنى بمناف للزهد، فإن قيل أيما أفضل حال الأغنياء أم حال الفقراء؟ فالجواب أن الناس أقسام: أحدها: من يستقيم على الغنى وتفسد(2/188)
أحواله بالفقر، فلا خلاف أن غنى هذا خير له من فقره. القسم الثاني: من يستقيم على الفقر ويفسده الغنى ويحمله على الطغيان فلا خلاف أن هذا فقره خير من غناه. القسم الثالث: من إذا افتقر قام بجميع وظائف الفقر كالرضا والصبر، وإن استغنى قام بجميع وظائف الغنى من البذل والإحسان وشكر الملك الديان، فقد اختلف في أي حالي هذا أفضل فذهب قوم: إلى أن الفقر لهذا أفضل. وقال آخرون: غناه أفضل وهو المختار، لاستعاذته صلى الله عليه وسلم، من الفقر، ولا يجوز حمله على فقر النفس لأنه خلاف للظاهر بغير دليل، وقد يستدل لهؤلاء لأن الرسول عليه السلام كان أغلب أحواله الفقر إلى أن أغناه الله عز وجل بحصون خيبر وفدك والعوالي وأموال بني النضير. والجواب عن ذلك أن الأنبياء والأولياء لا يأتي عليهم يوم إلا كان أفضل من الذي قبله، فإن من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان أمسه خيرا من يومه فهو ملعون أي مطرود مغبون، وقد ختم آخر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بالغنى ولم يخرجه غناه عما كان يتعاطاه في أيام فقره من البذل والإيثار والتقلل حتى أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير، وكيف لا يكون كذلك وهو عليه السلام يقول: "ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك" أراد بالفضل ما فضل عن الحاجة الماسة كما فعل صلى الله عليه وسلم، فمن سلك من الأغنياء هذا الطريق فبذل الفضل كله مقتصرا على عيش مثل عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا امتراء بأن غنى هذا خير من فقره. ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة أنه قال: "أتى فقراء المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب ذوو الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم يعتقون ولا نجد ما نعتق، ويتصدقون ولا نجد ما نتصدق، وينفقون ولا نجد ما ننفق؟ فقال: "ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه أدركتم به من كان قبلكم وفتم به من بعدكم ؟" قالوا: بلى، قال: "تسبحون الله تعالى وتحمدونه وتكبرونه على إثر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة" فلما صنعوا(2/189)
ذلك سمع الأغنياء بذلك فقالوا مثل ما قالوا، فذهب الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد قالوا مثل ما قلنا؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام" وقوله عليه السلام: "اطلعت على الجنة فرأيت أكثرها الفقراء واطلعت على النار فرأيت أكثرها النساء" فإن ذلك محمول على الغالب من أحوال الأغنياء والفقراء، إذ لا يتصف من الأغنياء بما ذكرناه من أن يعيش عيش الفقراء ويتقرب إلى الله تعالى بما فضل من عيشه مقدما فضل البذل فأفضله، إلا الشذوذ النادرون الذين لا يكادون يوجدون، الصابرون على الفقر وقليل ما هم، والراضون أقل من ذلك القليل. ويحقق هذا أنه عليه السلام كان قبل الغنى قائما بوظائف الفقراء فلما أغناه الله قام بوظائف الفقراء والأغنياء، فكان غنيا فقيرا صبورا شكورا راضيا بعيش الفقراء جوادا بأفضل جود الأغنياء.
ومن أعمال القلوب احتقار ما حقره الله من الدنيا وأسبابها، وتعظيم ما عظمه الله من الفقر والذل والمسكنة والخضوع والخشوع والغربة وعدم الجاه والمال: لأن الغنى بالمعارف والأحوال أفضل وألذ من الغنى بالجاه والأموال، والبذل لله عز وجل، والفقر غنى، والغربة لأجله استيطان. لأن العبد إذا كان عند سيده فهو في أفضل الأوطان، وإن عظم ونأى بجانبه فأعظم به من خسران.
ومن أعمال القلوب أن نكثر من ذكر الله بقلوبنا فإنه من المثمر للأحوال عند ذي الجلال من ذكر اللسان، وأن نختار من المعارف أفضلها فأفضلها، ومن الأحوال أكملها فأكملها، وأن نحفظ الأوقات فلا نصرف شيئا إلا في أفضل القربات اللائقة بتلك الأوقات، فقد يكون الاشتغال بالمفضول في بعض الأوقات أولى من الاشتغال بالفاضل في غيرها كالاشتغال بالدعاء فإنه أفضل من الاشتغال بالذكر في غير أوانه كالدعاء بين السجدتين فالاشتغال به أفضل من الاشتغال(2/190)
بالتسبيح والثناء، كذلك قراءة القرآن في الركوع والسجود والقعود فإن الله شرع لكل وقت طاعة هي فيه أفضل من غيرها فيه، وإنما يشتغل بالأفضل فالأفضل إذا كان صالحا لهما جميعا، والهداية لأفضل الأعمال والأحوال والأقوال في أوقاتها المضروبة لها أفضل ما من به الإله سبحانه وتعالى.(2/191)
فصل: في معرفة الفضائل
...
فصل: في معرفة الفضائل
الفضائل بالمعارف والأحوال وما يتبعهما من الأقوال والأعمال، ولقد نال الأنبياء من ذلك أفضل منال، فورث عنهم العارفون بعض المعارف والأحوال، وورث عنهم العارفون التقرب بالأقوال والأعمال، وورث عنهم الفقهاء التقرب بمعرفة الأحكام المتعلقة بالجوارح والأبدان، وورث عنهم أهل الطريقة الأحكام المتعلقة بالبواطن، وورث عنهم الزهاد الترك والإقلال، واختص الأنبياء بمعارف لا تدرك بنظر العقول لا بضرورتها، واختصوا بالأحوال المبنية على تلك المعارف، ولعل بعض الأولياء والأبدال ورثوا أشياء من ذلك، وكذلك اختص الأنبياء بالمعجزات والكرامات، وشاركهم الأولياء في بعض الكرامات. والمعارف والأحوال غير الكرامات وخرق العادات، لتعلق المعارف بالله وتعلق الكرامات بخرق العادات في بعض المخلوقات. وفرق فيما تعلق برب الأرض والسموات. وفيما تعلق بفك اطراد العادات من النظر إلى رب الأرباب ومالك الرقاب من النظر إلى من هو ستر وحجاب بين القلوب وبين الملك الوهاب، وكفى بالغفلة عن الله عقابا.
ارض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه
وفقنا الله للإقبال عليه والإصغاء، إليه، ولما لم يدان الأنبياء أحد في شيء مما ذكرناه من المعارف والأحوال، وكذلك في الأعمال، لم يدانهم في أدائها أحد، لأن ركعة من الأنبياء أفضل من ركعات كثيرة من غيرهم لكمالها في القيام بوظائف آدابها: من التعظيم والإجلال والخضوع والخشوع حتى كأنهم(2/191)
ينظرون إلى ربهم، وكذلك قيام ليلة منهم أفضل من قيام ليال كثيرة من غيرهم لما في عبادات الأنبياء من كمال التعظيم والإجلال وما في عبادة غيرهم من النقص والإخلال، وكذلك أحوالهم ومعارفهم في حضورهم بغير استحضار ودوامها على مر الليالي والأيام.(2/192)
فصل: في تعريف ما يظهر من معارف الأولياء و أحوالهم
...
فصل: في تعريف ما يظهر من معارف الأولياء وأحوالهم
للأحوال آثار تظهر على الجوارح والأبدان، فإذا أردت معرفة مراتب الرجال فانظر إلى ما يظهر عليهم من الآثار، ويغلب عليهم من الأقوال والأعمال، فمن غلب عليه آثار الخوف كالبكاء والاقشعرار عند ذكر الوعيد فهو من الخائفين، ومن غلب عليه السرور والاستبشار عند ذكر الوعد فاعلم أنه من الراجين ومن غلبا عليه عند ذكرهما فهو من الخائفين الراجين، ومن غلب عليه الهشاشة والبشاشة عند ذكر الجمال فهو من المحبين، الراجين، ومن غلب عليه الانقباض والذل عند ذكر العظمة والجلال فهو من الهائبين المعظمين، ومن غلب عليه الانقطاع عن الأسباب عند نزول النوازل وحلول المصائب فهو من المتوكلين، ومن غلب عليه من هؤلاء أفضل المعارف والأحوال فهو الأفضل، ومن غلب عليه الخوف والرجاء فهو الأسفل، ومن غلب عليه محبة الإجلال فهو أفضل ممن غلب عليه محبة الإنعام والإفضال، وغلبة الخوف خير من غلبة الرجاء. وكان الأنبياء يتصفون بهذه الأحوال في مظانها وعند تحقق أسبابها وقد يغلب الحال على الضعيف من الأولياء فيفقد لبه لعظمة ربه، وقد يضحك أحدهم طمعا في قرب ربه وإسعاده، ويبكي أحدهم خوفا من طرده وإبعاده. فكل من هؤلاء إذا ذكر نفسه بهذه الصفات في خلوة نشأ عن تذكره بهذه الأحوال، فسبحان من أنعم عليهم وأحسن إليهم بما وصلوا إليه وقدموا عليه، فإذا غلب الحال على أحدهم خرج عن الإدراك والإحساس، فلو ضرب وجه أحدهم بالسيف لما أحس به، وقد كان أحد هؤلاء في الزمن القديم لينشر بالمناشر فلا يبالي بذلك، ولمثل هذه لما تهدد فرعون السحرة(2/192)
بالقطع والصلب قالوا: لا ضير، فيحتمل أن حالاتهم اقتضت ذلك، ويحتمل أنهم قالوا ذلك صبرا على البلاء في ذات الله، يدل عليه قولهم: ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين.(2/193)
فصل: في بيان أحوال الناس
...
فصل: في بيان أحوال الناس
معظم الناس خاسرون، وأقلهم رابحون، فمن أراد أن ينظر في خسره وربحه فليعرض نفسه على الكتاب والسنة فإن وافقهما فهو الرابح إن صدق ظنه في موافقتهما، وإن كذب ظنه فيا حسرة عليه، وقد أخبر الله بخسران الخاسرين وربح الرابحين، وأقسم بالعصر إن الإنسان لفي خسر إلا من اجتمع فيه أربعة أوصاف: أحدها: الإيمان. والثاني: العمل الصالح والثالث: التواصي بالحق. والرابع: التواصي بالصبر. وقد روي أن الصحابة كانوا إذا اجتمعوا لم يفترقوا حتى يقرءوها، واختلف في العصر فقيل: هي الصلاة الوسطى، صلاة العصر، وقيل: العصر آخر النهار، وقيل: العصر الدهر، واختلف في الصالحات فقيل: هي الفرائض، وقيل هي الأعمال الصالحات، واختلف في الحق فقيل: هو الله، والتقدير تواصوا بطاعة الحق وقيل: الإسلام، وقيل القرآن والتقدير تواصوا باتباع الحق كقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وأما الصبر فيحتمل أن يراد به الصبر على الطاعات فيدخل الصبر عن المعصية وعلى الطاعة، ويحتمل الصبر على المصائب والبليات، ويحتمل على البليات والطاعات، وعن المعاصي والمخالفات واجتماع هذه الخصال في الإنسان عزيز نادر في هذا الزمان، وكيف يتحقق الإنسان أنه جامع لهذه الصفات التي أقسم الله على خسران من خرج عنها وبعد منها مع علمه بقبح أقواله وسوء أعماله، فكم من عاص يظن أنه مطيع، ومن بعيد يظن أنه قريب، ومن مخالف يعتقد أنه موافق، ومن منتهك يعتقد أنه متنسك، ومن مدبر يعتقد أنه مقبل، ومن هارب يعتقد أنه طالب، ومن جاهل يعتقد أنه عارف، ومن آمن يعتقد أنه خائف، ومن مراء يعتقد أنه مخلص، ومن ضال يعتقد أنه(2/193)
مهتد، ومن عم يعتقد أنه مبصر، ومن راغب يعتقد أنه زاهد ؟، وكم من عمل يعتمد عليه المرائي وهو وبال عليه ؟، وكم من طاعة يهلك بها المتسمع وهي مردودة إليه ؟، والشرع ميزان يوزن به الرجال، وبه يتيقن الربح من الخسران، فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله، وتختلف مراتب الرجحان، ومن نقص في ميزان الشرع فأولئك أهل الخسران، وتتفاوت خفتهم في الميزان، وأخسها مراتب الكفارة، ولا تزال المراتب تتناقص حتى تنتهي إلى منزلة مرتكب أصغر الصغائر، فإذا رأيت إنسانا يطير في الهواء ويمشي على الماء أو يخبر بالمغيبات، ويخالف الشرع بارتكاب المحرمات بغير سبب محلل، أو يترك الواجبات بغير سبب مجوز، فاعلم أنه شيطان نصبه الله فتنة للجهلة وليس ذلك ببعيد من الأسباب التي وصفها الله للضلال، فإن الدجال يحيي ويميت فتنة لأهل الضلال، وكذلك يأتي الخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، وكذلك يظهر للناس أنه معه جنة ونار فناره جنة، وجنته نار، وكذلك من يأكل الحيات ويدخل النيران فإنه مرتكب الحرام بأكل الحيات، وفاتن الناس بدخول النيران ليقتدوا به في ضلالته ويتابعوه على جهالته.(2/194)
فصل: في معرفة تفضيل بعض الموجودات الحادثات على بعض الجواهر و الأجسام
...
فصل: في معرفة تفضيل بعض الموجودات الحادثات على بعض الجواهر والأجسام
الأجسام كلها متساوية من جهة ذواتها، وإنما يفضل بعضها على بعض بصفاتها وأعراضها وأنسابها إلى الأوصاف الشريفة والأفعال النفيسة.
والفضائل ضربان: أحدهما فضائل الجمادات كفضل الجوهر على الذهب وفضل الذهب على الفضة، وفضل الفضة على الحديد، وفضل الأنوار على الظلمات، وفضل الشفاف على غير الشفاف، وفضل اللطيف على الكثيف، والنير على المظلم، والحسن على القبيح.
الضرب الثاني فضائل الخيرات وهي أقسام: أحدها: حسن الصورة.(2/194)
والثاني: قوى الأجسام، كالقوى الحادثة والممسكة والدافعة والغاذية، والقوى على الجهاد والقتال وحمل الأعباء والأثقال. الثالث: الصفات الداعية إلى الخيور، والوازعة عن الشرور: كالغيرة والنخوة والحياء والشجاعة والحلم والأناة والسخاء. الرابع: العقول. الخامس: الحواس. السادس: العلوم المكتسبة وهي أقسام: أحدها: معرفة وجود الإله وصفاته الذاتية والسلبية والعقلية. الثاني: معرفة إرسال الرسل وإنزال الكتب وتنبيه الأنبياء. الثالث: معرفة ما شرعه الله من الأحكام الخمسة وأسبابها وشرائعها وتوابعها. السابع: الأحوال الناشئة عما ذكره من المعارف. الثامن: القيام بطاعة الله في كل ما أمر به ونهى عنه. التاسع: ما رتبه الله على هذه المعارف والأحوال والطاعات من لذات الآخرة وأفراحها بالنعيم الروحاني: كلذة الأمن من عذاب الله، والأنس بقربه وجواره، وسماعه وكلامه، وتبشيره بالرضا الدائم، وكذلك النظر إلى وجهه الكريم مع الخلاص من عذابه الأليم. فهذه فضائل بعضها أفضل من بعض فمن اتصف بأفضلها كان من أفضل البرية، ولا شك أن معرفة الله ومعرفة صفاته ولذات رضاه والنظر إلى وجهه الكريم أفضل مما عداهن، وأفضل الملائكة من قام به أفضل هذه الصفات، فإن تساوى اثنان من الملائكة في ذلك لم يفضل أحدهما على الآخر وإن فضل البشر على الملك بشيء من ذلك كان أفضل منه، وإن فضل الملك على البشر بشيء من ذلك كان أفضل منه، والفضل منحصر في أوصاف الكمال، والكمال إنما يكون بالمعارف والطاعات والأحوال. أما بالأفراح واللذات فإنه أحسن إلى أجساد الأنبياء والأولياء بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأحسن إلى أرواحهم بالمعارف الكاملة والأحوال المتوالية، وأذاقهم لذة النظر إليه وسرور رضاه عنهم وكرامة تسليمه عليهم فمن أين للملائكة مثل هذا ؟
واعلم أن الأجساد مساكن الأرواح وللساكن والمسكن أحوال: إحداها: أن يكون الساكن أشرف من المسكن. الثانية: أن يكون المسكن أشرف من الساكن(2/195)
الثالث: يتساويا في الشرف فلا يفضل أحدهما على الآخر وإذا كان الشرف للساكن فلا مبالاة بخساسة المسكن، وإذا كان الشرف للمسكن فلا يتشرف به الساكن والأجساد مساكن الأرواح، وقد اختلف الناس في التفضيل الواقع بين البشر والملك: فإن فاضل بينهما مفضل من جهة تفاوت الأجساد التي هي مساكن الأرواح فلا شك أن الملائكة أفضل وأشرف من أجساد البشر المركبة من الأخلاط المستقذرة، وإن فاضل بين أرواح البشر وأرواح الملائكة مع قطع النظر إلى الأجساد، فأرواح الأنبياء أفضل من أرواح الملائكة، لأنهم فضلوا عليهم من وجوه: أحدها الإرسال ورسل الملائكة قليل، ولأن رسول الملائكة يأتي إلى نبي واحد، ورسول الأمم يأتي إلى أمم وإلى أمة واحدة فيهديهم الله على يديه فيكون له أجر تبليغه، ومثل أجر كل من اهتدى على يديه، وليس مثل هذا الملك. الثاني: القيام بالجهاد في سبيل الله. الثالث: الصبر على المصائب الدنيا ومحنها والله يحب الصابرين. الرابع: الرضا بمر القضاء وحلوه. الخامس: نفع العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجلب المنافع ودفع المكاره، وليس للملائكة شيء مثل هذا السادس: ما أعده في الآخرة لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولم يثبت مثل هذا للملائكة. السابع: ما أعده الله لهم في الآخرة من النعيم الروحاني كالأنس والرضا والنظر إلى وجهه الكريم، وليس للملائكة مثل هذا. فإن قيل الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، والأنبياء يفترون وينامون؟ قلت إذا فترت الأنبياء عن التسبيح فقد يأتون في حال فتورهم من الثناء على الله ومن الطاعات والعبادات بما هو أفضل من التسبيح، والنوم مختص بأجسادهم، وقلوبهم متيقظة غير نائمة وسيساوونهم في الآخرة في إلهام التسبيح كما يلهمون النفس.
الوجه الثامن: وهو مختص بآدم عليه السلام أن الله عرفه من أسماء كل شيء ومنافعه ما لا يعرفون.(2/196)
الوجه التاسع: وهو أيضا مختص به أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، ولا شك أن المسجود له أفضل وأشرف من الساجدين.
وعلى الجملة فما يفضل الملائكة على الأنبياء إلا هجام يبنى التفضيل على خيالات توهمها، وأوهام فاسدة اعتمدها ولم يتقرر بالخيالات والتوهمات من أمور يعلم الله خلافها، بل قد يرى الإنسان اثنين فيظن أن أحدهما أفضل من الآخر، لما يرى من طاعته الظاهرة، والآخر أفضل منه بدرجات كثيرة لما اشتمل عليه من المعارف والأحوال، والقليل من أعمال الأعرف خير من الكثير من أعمال العارف، وأين الثناء من المستحضرين لأوصاف الجلال وتعرف الكمال من ثناء المسبحين بألسنتهم الغافلين بقلوبهم. ليس التكحل في العينين كالكحل ليس استجلاب الأحوال باستذكارها المعارف كمن تحضره المعارف بغير سعي ولا اكتساب، ولا عبرة بفضل أجساد الملائكة على أجساد الأنبياء، لأن الأجساد مساكن ولا شرف بالمساكن، وإنما الشرف بالأوصاف القائمة بالساكن، والاعتبار إنما هو بالساكنين دون المساكن، فإن الأنبياء قد سكنوا بطون أمهاتهم مع القطع بأنهم أفضل من أمهاتهم. "نفس عصام سودت عصاما" فروح المسيح عليه السلام أفضل من جسد مريم، وكذلك روح إبراهيم عليه السلام أفضل من جسد أمه. وأما من كفر من أولاد المؤمنات فهم شر البرية، ومساكنهم خير منهم، فإذا حملت مؤمنة بكافر كان جسدها خيرا من روحه، إذ قام بروحه أخس الصفات وهو الكفر برب الأرضين والسموات. فإن قيل أين محل الأرواح من الأجساد؟ قلنا في كل جسد روحان: إحداهما: روح اليقظة، وهي الروح التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظا، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ورأت تلك الروح المنامات إذا فارقت الجسد، فإن رأتها في السموات صحت الرؤيا فلا سبيل للشياطين إلى السموات، وإن رأتها دون السماء كان من إلقاء الشياطين وتحريفهم، فإذا رجعت هذه الروح إلى الإنسان يستيقظ الإنسان كما كان.(2/197)
الروح الثانية: روح الحياة وهي الروح التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حيا، فإذا فارقته مات الجسد فإذا رجعت إليه حيي. وهاتان الروحان في باطن الإنسان لا يعرف باطن مقرهما إلا من أطلعه الله على ذلك، فهما كجنينين في بطن امرأة واحدة، وقد يكون في بطن الإنسان روح ثالثة وهي روح الشيطان ومقرها الصدور بدليل قوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} وجاء في الحديث الصحيح: "إن المتثائب إذا قال هاه هاه ضحك الشيطان في جوفه" وجاء في الحديث: "إن للملك لمة وإن للشيطان لمة" وقال بعض المتكلمين: الذي يظهر أن الروح بقرب القلب، ولا يبعد عندي أن يكون الروح في القلب، ويجوز أن يحضر الملك في باطن الإنسان حيث يحل الروحان، ويحضر الشيطان. ويجوز في كل واحدة من الأرواح أن تكون جوهرا فردا يقوم به ما يليق به من الصفات الخسيسة والنفيسة، ويجوز أن تكون كل واحدة منهن جسما لطيفا حيا سميعا بصيرا عليما قديرا مريدا متكلما، فتكون حيوانا كاملا في داخل حيوان ناقص، ويجوز أن تكون الأرواح كلها نورانية لطيفة شفافة، ويجوز أن يخص ذلك بأرواح المؤمنين والملائكة، دون أرواح الجن والشياطين. فإن قيل: إذا أتى جبريل النبي عليه السلام في صورة دحية فأين تكون روحه؟ في الجسد الذي يتشبه بجسد دحية، أم في الجسد الذي خلق عليه ستمائة جناح؟ فإن كانت في الجسد الأعظم فما الذي أتى إلى الرسول جبريل لا من جهة روحه ولا من جهة جسده، وإن كانت في الجسد المشبه دحية فهل يموت الجسد الذي له ستمائة جناح كما تموت الأجساد إذا فارقتها الأرواح أم يبقى حيا خاليا من الروح المنتقلة من الجسد المشبه بجسد دحية؟ قلت: لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته، لأن موت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، وإنما هو بعبادة مطردة أجراها الله في أرواح بني آدم فيبقى ذلك الجسد حيا لا ينقص معارفه ولا طاعته شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني(2/198)
كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف الطيور الخضر، تأكل تلك الطيور من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش.
وقالت طائفة: الأرواح باقية في القبور، ولذلك سلم عليه السلام عليهم وأمرنا بالتسليم عليهم، وقال: "سلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين" وأهل الدار في عرف الناس من سكن الدار أو كان بفنائها، وقد أمرنا بالاستعاذة من عذاب القبر، ومر بقبرين فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير" وهذا يدل على أن الأرواح في القبور دون أفنيتها وهو المختار. ولذلك قال عليه السلام في المؤمن: "ويفسح له في قبره ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون" وقيل إن الأنبياء ترفع أجسادهم ولم يثبت ذلك، وزعمت طائفة أن أرواح الكفار ببئر باليمن وظاهر السنة يرد عليهم فإنه عليه السلام أمر بالتعوذ من عذاب القبر، وقال: "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب الموتى في قبورهم" والأرواح كلها تنتقل يوم القيامة إلى أجساد غير أجسادها، لأن ضرس الكافر مثل أحد، وغلظ جسده مسيرة ثلاثة أيام، ومقعده كما بين مكة والمدينة، وأجساد المؤمنين على هيئة جسد آدم ستون ذراعا في السماء فما الديار الديار ولا الخيام الخيام.
[فائدة] إن قيل أيهما أفضل النبوة أم الإرسال؟ فنقول النبوة أفضل لأن النبوة إخبار عما يستحقه الرب من صفات الجمال ونعوت الكمال وهي متعلقة بالله من طرفيها، والإرسال دونها، أمر بالإبلاغ إلى العباد فهو متعلق بالله من أحد طرفيه وبالعباد من الطرف الآخر، ولا شك أن ما يتعلق من طرفيه أفضل مما يتعلق به من أحد طرفيه، والنبوة سابقة على الإرسال فإن قول الله لموسى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} مقدم على قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} فجميع ما تحدث به قبل قوله: اذهب إلى فرعون نبوة، وما أمره بعد ذلك من التبليغ فهو إرسال.(2/199)
والحاصل أن النبوة راجعة إلى التعريف بالإله وبما يجب له، والإرسال إلى أمر الرسول بأن يبلغ عنه إلى عباده أو إلى بعض عباده ما أوجبه عليهم من معرفته وطاعته واجتناب معصيته، وكذلك الرسول عليه السلام لما قال له جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} كان هذا نبوة، وكان ابتداء الرسالة حين جاء جبريل: بـ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}.
[فائدة]: إذا استوى اثنان في حال من الأحوال فهما في التفضل سيان، وإن تفاوتا في ذلك بطول الزمان وقصره كان من طال زمانه أفضل ممن قصر زمانه عند اتحاد الحال، فإن تفاوتا في الأحوال: فإن كانت إحدى الحالتين أشرف وأطول زمانا، فلا شك أن صاحبها أشرف وأفضل، مثاله الخائف مع الهائب، فإن الهيبة أفضل من الخوف، فإذا طال زمان الهيبة وقصر زمن الخوف فقد فضلته من وجهين اثنين، وإن استوى الزمان كان الهائب أفضل وكذلك إن قصر زمان الهيبة عن زمن الخوف كان الهيبة أفضل لعلو رتبتها وشرفها ألا ترى أن وزن دينار من الجوهر أفضل من الدينار، والدينار أفضل من الدرهمين والعشرة لشرف وصفه على وصف الفضة، والدرهم أفضل من مائة درهم من النحاس لشرف وصفه، وبهذا الميزان يعرف تفاوت الرجال وكذلك تعرف مراتب الطائعين بملابسة بعضهم لأفضل الطاعات وبملابسة الآخرين لأدنى الطاعات وإن استووا في الطاعات لم يجز التفضل في باب الطاعات، وإن كثرت طاعات أحدهم وقلت معارف الآخر وأحواله يقدم شرف المعارف والأحوال على شرف الأعمال والأقوال، ولهذا جاء في الحديث: "ما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة ولكن بأمر وقر في صدره" وقال عليه السلام لما استعظم بعضهم طاعاته: "إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأشدكم له خشية" لفضل المعرفة وشدة الخشية على كثرة الأعمال والله أعلم.(2/200)