قُرَّةُ العَيْنِ
لِشَرْحِ
وَرَقَاتِ إمَامِ الحَرَمَينِ
للإمَامِ العَلامَةِ الفَقِيهِ الأصُولِيِّ الوَلِيّ الصَّالِحِ
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد بن مُحَمَّد الرُّعَيْنِيّ المَالِكِيّ
الشهير بالحَطَّاب
رحمه الله تعالى
(902-954 هـ)
ضبط نصه وعلق عليه
جلال علي عامر الجهاني
عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضوان الله تعالى عن صحابته الهادين المهديين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
فإن أمتنا المسلمة اليوم وهي تعيش مرحلة من مراحل الضعف في تاريخها الطويل، توجب على المسلمين أن يهبوا إلى العمل الجاد والسير الحاث، لأجل إعلاء رايتها، واستعادة ما سُلبَ منها، وردِّها لمرتبة الريادة والقيادة للبشرية.
ولا شك أن رفع الجهل منها، وبث العلوم فيها من الواجبات الشرعية، وهو مما يوصل إلى الغاية، ويكفي الجهل ذماً كونه من علامات الساعة التي لا تقوم إلا على شرار الخلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ?من أشراط الساعة أن يقلَّ العلم ويظهر الجهل?.
وإن من العلوم المهمة للدعاة والعاملين للإسلام علمَ أصول الفقه، ذلك العلم الذي يجمع بين المنقول والمعقول، ويوجد العقلية الإسلامية النيِّرة التي تسير وفق قواعد منهجية، فلا تضطرب في التفكير ولا تشطح في الفهم، فتكون عائقاً أمام تقدم مسيرة الأمة إلى نهضتها.
ولقد رأيتُ أن من الكتب التي تساعد على ولوج هذا العلم شرح الإمام أبي عبد الله الحطاب، لورقات إمام الحرمين الجويني، رحمهما الله تعالى.
حيث كان سهل العبارة، وملمَّاً بالضروري من هذا الفن، فأحببتُ إخراجه للناس على صورة جيدة، وخصوصاً أنه لم يطبع إلا طبعات قديمة، غيرُ معتنى بها.(1/1)
فقمتُ بنسخ المطبوع، وقارنته بمخطوطة تحصلت عليها من مركز دراسات الجهاد الليبي بطرابلس، وحاولتُ قدر جهدي أن تكون خالية من الأخطاء والتحريفات.
وسرتُ على طريقة الاعتناء بالكتاب، دون ذكر الأخطاء التي كانت في المطبوعة أو الزيادات التي جاءت من المخطوط.
وعزوتُ الأحاديث إلى مصادرها قدر المستطاع1.
ووضعتُ عليها بعض التعليقات المقتضبة حيث رأيتُ ذلك حاجة ملحة في موضعه.
واللهَ أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، إنه من وراء القصد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكتب
جلال الجهاني
عمان/ الأردن
ترجمة مختصرة للإمام الحطاب
رحمه الله تعالى2
هو الإمام العلامة الأصولي الفقيه النحوي الولي الصالح، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حسين الرُّعَيْنيّ، المغربي الأصل، ينحدر من أصل أندلسي، المالكي المذهب، المكي المولد والوفاة.
ولد ليلة الأحد ثامن عشر من شهر رمضان المبارك، سنة اثنين وتسعمائة للهجرة.
نشأ نشأة صالحة، حيث رباه والده الولي الصالح، فقرأ على والده العلوم، ونهل منه الفنون، وكان إمامنا محباً للعلم ومثابراً عليه، محققاً فاضلاً، لا يمل ولا يكل.
ألّف في فنون العلم، فكتب في الفقه وأصوله، والنحو والمواريث، وغير ذلك.
وتوفي رحمه الله يوم الأحد تاسع ربيع الثاني، سنة أربع وخمسين وتسعمائة للهجرة، بمكة المكرمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحبر الفهامة، مفتي المسلمين ببلد الله الأمين، أبو عبد الله محمد ابن سيدنا ومولانا الشيخ العلامة مُحَمَّد الحَطَّاب -نفع الله به آمين-:
[ مقدمة المؤلف ]
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسَّلام على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد..(1/2)
فإنَّ كتابَ الورقات في علم أصول الفقه للشيخ الإمام العلامة، صاحب التصانيف المفيدة، أبي المعالي عبد الملك إمام الحرمين- كتابٌ صَغُرَ حجمُه وكثُر علمُه وعَظُمَ نفعُه وظَهَرَتْ بركته.
وقد شرحه جماعةٌ من العلماء -رضي الله عنهم-، فمنهم مَنْ بَسَطَ الكلام عليه، ومنهم مَنْ اختصر ذلك.
ومن أحسنِ شروحِه شرحُ شيخِ شيوخنا العَلامَةِ المفيد جلال الدين أبي عبد الله محمَّد بن أحمد المَحَلِّي الشافعيّ3، فإنَّه كثيرُ الفوائد والنكت، اشتغلَ به الطلبةُ وانتفعوا به، إلا أنَّه لفرط الإيجاز قَارَبَ أن يكون من جملة الألغاز، فلا يُهْتَدَى لفوائده إلا بتعبٍ وعنايةٍ.
وقد ضَعُفَت الهِمَمُ في هذا الزمان، وكَثُرتْ فيه الهمومُ والأحزان، وقَلَّ فيه المساعدُ من الإخوان، فاستخرتُ اللهَ تعالى في شرح الورقات بعبارة واضحةٍ، مُنَبِّهَةً على نُكَتِ الشرح المذكور وفوائده، بحيث يكون هذا الشرحُ شرحاً للورقات وللشرح المذكور، ويحصل بذلك الانتفاعُ للمبتدئ وغيرِه إن شاء الله تعالى.
ولا أعدِلُ عن عبارة الشرح المذكور إلا لتغييرها بأوضحَ منها، أو لزيادة فائدةٍ، وسَمَّيْتُهُ ?قُرَّةَ العَيْنِ لشَرْحِ وَرَقَاتِ إمَامِ الحَرَمَيْنِ?.
واللهُ سبحانه المسؤول في بلوغ المأمول، وهو حسبي ونعم الوكيل.
[ترجمة الإمام الجويني]4
…
ولنقدم التعريف بالمُصَنِّف على سبيل الاختصار فنقول:
هو الشيخُ الإمامُ، رئيسُ الشافعية، وأحدُ أصحاب الوجوه، وصاحب التصانيف المفيدة، أبو المعالي عَبْدُ الملك ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الجُوَيْني، نسبةً إلى جوين، وهي ناحيةٌ كبيرة من نواحي نيسابور، يلقب بضياء الدين.
ولد في المحرَّم من سنة تسعة عشر وأربعمائة، وتُوُفِّي بقرية من أعمال نَيْسَابُور يقال لها: بُشْتَنِقَان5 ليلة الأربعاء، الخامس والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة ثمانٍ وسبعين وأربعمائة.(1/3)
جَاوَرَ بمكة والمدينة أربع سنين يدرس العلم ويفتي، فَلُقِّبَ بإمام الحرمين، وانتهت إليه رئاسة العلم بنيسابور، وبُنِيَت له المدرسة النظامية6، وله التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها7، تَغَمَّدَهُ الله برحمته، وأعاد علينا من بركاته، آمين.
قال المصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
(بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) أُصَنِّفُ، وكذا ينبغي أن يُجعَلَ متعلَّقَ التَّسميةِ ما جُعِلَت التسمية مبدأً له، فيقدِّر الآكلُ: بسم الله آكل، والقارئُ: بسم الله أقرأ، فهو أولى من تقدير: أبتدىء، لإفادته تَلَبُّسَ الفعل كله بالتسمية، وأبتدئ لا يفيد إلا تلبس الابتداء به.
وتقدير المتعلق متأخراً لأنَّ المقصود الأهم البداءة باسم الله تعالى، ولإفادة الحصر.
وابتدأ المصنِّف بالبسملة اقتداء بالقرآن العظيم، وعملاً بحديث: ?كلُّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدَأُ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر?، رواه الخطيب في كتاب (الجامع) بهذا اللفظ8.
واكتفى بالبسملة عن الحمدلة إما لأنه حَمَدَ بلسانه، وذلك كافٍ، أو لأنَّ المراد بالحمد معناه لغةً، وهو الثناء، والبسملة مُتَضَمِّنَةٌ لذلك، أو لأن المراد بالحمد ذكر الله تعالى.
وفي رواية في مسند الإمام أحمد: ?كل أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله فهو أبتر -أو قال: أقطع -?9 على التردد.
وقد ورد الحديث بروايات متعددة، قال النووي: وهو حديث حسن.
فلما اكتفى بالبسملة عن الحَمْدَلة قال: (هذه وَرَقَاتٌ) قليلة، كما يشعر بذلك جمعُ السلامة، فإن جموع السلامة عند سيبويه من جموع القِلَّة.
وعَبَّر بذلك تسهيلاً على الطالب وتنشيطاً له، كما قال تعالى في فرض صوم شهر رمضان: ?أيَامَاً مَعْدُودَات? فوصف الشهر الكامل بأنَّه أيام معدودات، تسهيلاً على المكلفين وتنشيطاً لهم، وقيل: المراد في الآية بالأيام المعدودات عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، فإن ذلك كان واجباً أول الإسلام ثم نسخ.(1/4)
والإشارة بـ (هذه) إلى حاضرٍ في الخارج إن كان أتى بها بعد التصنيف، وإلا فهي إشارة إلى ما هو حاضرٌ في الذهن.
وهذه الورقات (تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ) جمع فَصْلٍ، وهو اسمٌ لطائفة من المسائل تَشْتَرِكُ في حكمٍ.
وتلك الفصول (من) علم (أصول الفقه) ينتفع به المبتديء وغيره.
[تعريف أصول الفقه]
(وذلك) أي لفظ أصول الفقه له معنيان:
أحدهما: معناه الإضافي، وهو ما يُفْهَمُ من مُفْرَدَيْه عند تقييد الأول بإضافته للثاني.
وثانيهما: معناه اللَّقَبِيّ، وهو العَلَم الذي جُعِل هذا التركيب الإضافي لقباً له، ونُقِل عن معناه الأول إليه، وهذا المعنى الثاني ذكره المصنف بعد هذا في قوله: (وأصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال) إلخ.
والمعنى الأول هو الذي بينه بقوله: (مُؤَلَّفٌ مِنْ جَزْأَيْنِ)، من التأليف، وهو حصول الألفة والتناسب بين الجزأين، فهو أخص من التركيب الذي هو ضَمُّ كلمةٍ إلى أخرى، وقيل: إنهما بمعنى واحد.
وقوله: (مُفْرَدَيْنِ) من الإفراد المقابل للتركيب، لا المقابل للتثنية والجمع، فإن الإفراد يطلق في مقابلة كلٍّ منهما، ولا تصلح إرادة الثاني هنا لأن أحد الجزأين الذين وصفهما بالإفراد لفظ (أصول) وهو جمع، وفي كلامه إشارة لذلك حيث قال:
[ تعريف الأصل]
(فالأصْلُ مَا بُنِىَ عليهِ غَيْرُهُ)، أي فالأصل الذي هو مفرد الجزء الأول، ما بُني عليه غيره، كأصل الجدار أي أساسه، وأصل الشجرة أي طرفها الثابت في الأرض.
وهو أقرب تعريف للأصل؛ فإن الحسَّ يشهد له كما في أصلِ الجدار والشجرة.
فأصول الفقه أدلته التي يبنى عليها.
وهذا أحسن من قولهم: الأصل هو المحتاج إليه، فإن الشجرة محتاجة إلى الثمرة من حيث كمالها، وليست الثمرة أصلاً للشجرة.
ومن قولهم10: الأصل ما منه الشيء، فإن الواحد من العشرة وليست العشرة أصلاً له.(1/5)
ولما عرَّفَ الأصلَ عرَّفَ مقابِلَه وهو الفرعُ على سبيل الاستطراد فقال: (وَالفَرْعُ مَا يُبْنَى على غَيرِهِ) كفروع الشجرة لأصولها، وفروع الفقه لأصوله.
[تعريف الفقه]
(والفِقْهُ) الذي هو الجزء الثاني من لفظ (أصول الفقه) له معنى لغوى وهو الفهم، ومعنى شرعي وهو: (مَعرِفةُ الأحْكَامِ الشَّرْعيّةِ التي طَرِيقُها الاجْتِهَادُ).
كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، وأن الوتر مندوب، هذا على مذهب الشافعي، وأما عند المالكية فسنة مؤكدة، وأن تبييت النية شرط في الصوم، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي وغير واجبة في الحلي المباح، وأن القتل عمداً يوجب القصاص ونحو ذلك من المسائل الخلافية.
بخلاف ما ليس طريقُهُ الاجتهاد، كالعلم بأن الصلوات الخمس واجبة، وأن الزنى محرَّم، والأحكام الاعتقادية كالعلم بالله سبحانه وتعالى وصفاته ونحو ذلك من المسائل القطعية، فلا يسمى معرفة ذلك فقهاً، لأن معرفةَ ذلك يَشتركُ فيها الخاصُّ والعام.
فالفقه بهذا التعريف لا يتناول إلا علم المجتهد، ولا يضرُّ في ذلك عدم اختصاص الوقف على الفقهاء بالمجتهدين، لأن المرجع في ذلك للعرف11، وهذا اصطلاح خاص.
والمراد بالمعرفة هنا العلم بمعنى الظن، وأطلقت المعرفة التي هي بمعنى العلم على الظن؛ لأنَّ المرادَ بذلك ظنُّ المجتهد، الذي هو لقوَّته قريبٌ من العلم.
وخرج بقوله: (الأحكام الشرعية)، الأحكامُ العقلية، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، والحسية كالعلم بأن النار محرقة.
والمراد بالأحكام في قوله: (معرفة الأحكام الشرعية) جميعُ الأحكام، فالألف واللام فيه للاستغراق.(1/6)
والمراد بمعرفة جميع ذلك التهيؤ لذلك، فلا ينافي ذلك قول مالك رضي الله عنه -وهو من أعظم الفقهاء المجتهدين-، في اثنين وثلاثين مسألة من ثمان وأربعين مسألة سئل عنها: لا أدري، لأنه متهيء للعلم بأحكامها بمعاودة النظر، وإطلاق العلم على مثل هذا التهيؤ شائع عرفاً، تقول: فلان يعلم النحو، ولا تريد أن جميع مسائله حاضرة عنده على التفصيل، بل إنه متهيء لذلك.
[أقسام الحكم الشرعي]
ثم بين الأحكام المرادة في قوله الأحكام الشرعية فقال: (وَالأحكَامُ سَبعَةٌ: الوَاجِبُ والمَندُوبُ وَالمُبَاحُ والمَحْظُورُ والمَكْرُوهُ والصَّحِيحُ وَالبَاطِلُ).
فالفقه العلمُ بهذه السبعة، أي معرفة جزئياتها، أي الواجبات والمندوبات والمباحات والمحظورات والمكروهات والأفعال الصحيحة والأفعال الباطلة، كالعلم بأن هذا الفعل مثلاً واجب وهذا مندوب وهذا مباح وهذا محظور وهذا مكروه وهذا صحيح وهذا باطل، وليس المراد العلم بتعريفات هذه الأحكام المذكورة فإن ذلك من علم أصول الفقه لا من علم الفقه.
وإطلاق الأحكام على هذه الأمور فيه تجوُّز؛ لأنها متعلق الأحكام.
والأحكام الشرعية خمسةٌ: الإيجابُ والندبُ والإباحةُ والكراهةُ والتحريمُ.
وجعْلُه الأحكامَ سبعةً اصطلاحٌ له، والذي عليه الجمهور أن الأحكام خمسة لا سبعة كما ذكرناها، لأن الصحيح إما واجب أو غيره، والباطل داخل في المحظور.
وجعل بعضهم الأحكام تسعةً وزاد: الرخصة والعزيمة، وهما راجعان إلى الأحكام الخمسة أيضاً، والله أعلم.
[تعريف الواجب]
ثم شرع في تعريف الأحكام التي ذكرها بذكر لازمِ كلِّ واحدٍ منها فقال:
(فالوَاجِبُ مَا يُثَاب عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ).
أي فالواجب من حيث وصفُه بالوجوب، هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه.(1/7)
فالثواب على الفعل والعقابُ على التركِ أمرٌ لازمٌ للواجب من حيث وصفه بالوجوب، وليس هو حقيقة الواجب، فإنَّ الصَّلاةَ مَثَلاً أَمْرٌ مَعقولٌ متصوَّرٌ في نفسه، وهو غيرُ حصولُ الثَّواب بفعلها والعقاب بتركها.
فالتعريف المذكور ليس تعريفاً بحقيقة الواجب إذ لا يمكن تعريف حقيقته لكثرة أصناف الواجبات واختلاف حقائقها، وإنما المقصود بيانُ الوصفِ الذي اشتركت فيه حتى صحَّ صِدقُ اسمِ الواجِبِ عليها، وذلك هو ما ذكره من الثواب على الفعل والعقاب على الترك.
وكذلك يقال في بقية الأحكام.
فإن قيل: قوله يعاقب على تركه يقتضى لزوم العقاب لكل من ترك واجباً، وليس ذلك بلازم.
فالجواب أنه يكفي في صدق العقاب على الترك وجودُه لواحدٍ من العصاة، مع العفو عن غيره.
أو يقال: المراد بقوله (ويعاقب على تركه)، أي ترتُّبُ العقابِ على تركه، كما عبَّر بذلك غير واحد، وذلك لا ينافي العفو عنه.
وأُورِد على التعريف المذكور أنه غير مانع، لدخول كثير من السنن فيه، فإن الأذان سنة وإذا تركه أهل بلد قوتلوا، وكفي بذلك عقاباً، وكذلك صلاة العيدين عند من يقول بذلك، ومن ترك الوتر ردَّت شهادته ونحو ذلك.
وأجيب بأن المراد عقاب الآخرة، وبأن العقوبة المذكورة ليست على نفس الترك بل على لازمه، وهو الانحلال من الدين، وهو حرام، وردُّ الشهادة ليس عقاباً، وإنما هو عدم أهلية لرتبةٍ شرعيةٍ شرطُها كمالاتٌ تجتمع من أفعال وترك، فدخل فيها الواجب وغيره.
ألا ترى أن العبد إذا ردَّت شهادته لم يكن ذلك عقوبة له، وإنما ذلك لنقصانه عن درجة العدالة ؟!
على أن الصحيح أن الأذان في المصر فرض كفاية، ونص أصحابنا على أنه لا يقاتل مَنْ ترك العيدين.
والسؤالان واردان على حد المحظور، والجواب ما تقدم12.
[تعريف المندوب]
(وَالمَندُوبُ) هو المأخوذ من الندب، وهو الطلب لغةً.
وشرعاً من حيث وصفه بالندب هو (مَا يُثَابُ عَلَى فِعلِهِ وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ).
[ تعريف المباح](1/8)
(وَالمبَاحُ) من حيث وصفُه بالإباحة (مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ)، يريد ولا على تركه، (وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ)، يريد ولا على فعله، أي لا يتعلق بكل من فعله وتركه ثواب ولا عقاب.
ولا بد من زيادة ما ذكرنا لئلا يدخل فيه المكروه والحرام.
[تعريف المحظور]
(والمحظُورُ) من حيث وصفُه بالحظر، أي الحرمة (مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِِهِ) امتثالاً، (وَيُعَاقَبُ عَلى فِعْلِهِ).
وتقدم السؤالان وجوابهما.
[تعريف المكروه]
(وَالمكرُوهُ) من حيث وصفه بالكراهة (مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ) امتثالاً (وَلا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ).
وإنما قيدنا ترتب الثواب على الترك في المحظور والمكروه امتثالاً، لأنَّ المحرمات والمكروهات يخرج الإنسان من عهدتها بمجرد تركها، وإنْ لم يشعر بها فضلاً عن القصد إلى تركها، لكنَّه لا يترتب الثَّوَابُ عَلَى التَّرْكِ إلا إذا قصد به الامتثال.
فإن قيل: وكذلك الواجبات والمندوبات لا يترتب الثواب على فعلها إلا إذا قصد به الامتثال.
فالجواب: أن الأمر كذلك، ولكنَّه لمَّا كان كثيرٌ من الواجبات لا يتأتى الإتيان بها إلا إذا قصد بها الامتثال، وهو كلُّ واجبٍ لا يصح فعله إلا بنية، لم يحتج إلى التقييد بذلك، وإن كان بعض الواجبات تبرأ الذمة بفعلها ولا يترتب الثواب على ذلك إلا إذا قصد الامتثال، كنفقات الزوجات وردِّ المغصوب والودائع وردِّ الديون ونحو ذلك مما يصح بغير نية، والله أعلم.
[تعريف الصحيح]
(وَالصَّحِيحُ) من حيث وصفُه بالصحة اصطلاحاً: (مَا يَتَعلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ) بالذال المعجمة، وهو البلوغ إلى المقصود، كحلِّ الانتفاع في البيع والاستمتاع في النكاح.
وأصلُه من نفوذ السهم أي بلوغه إلى المقصود.
(وَيُعتَدُّ بِهِ) في الشرع، بأن يكون قَد جمع ما يعتبر فيه شرعاً، عقداً كان أو عبادة.
فالنفوذُ من فعلِ المكلَّف، والاعتداد من فعل الشارع، وقيل: إنهما بمعنى واحد.
[تعريف الباطل](1/9)
(وَالبَاطِلُ) من حيث وصفُه بالبطلان: (مَا لا يَتعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَلا يُعتَدُّ بِهِ) بأن لم يستجمع ما يعتبر فيه شرعاً، عقداً كان أو عبادةً.
والعقد في الاصطلاح يوصف بالنفوذ والاعتداد، والعبادات توصف بالاعتداد فقط.
[تعريف العلم]
(والفِقْهُ) بالمعنى الشرعي المتقدم ذكره (أَخَصُّ من العِلْمِ)؛ لصدق العلم على معرفة الفقه والنحو وغيرهما، فكلُّ فقه علم وليس كلُّ علم فقهاً.
وكذا بالمعنى اللغوي، فإن الفقه هو الفهم، والعلم المعرفة، وهي أعم.
(وَالعِلْمُ) في الاصطلاح: (مَعرِفَةُ المعْلُومِ)، أي إدراك ما من شأنه أن يعلم، موجوداً كان أو معدوماً، (عَلَى مَا هُوَ بِهِ) في الواقع، كإدراك الإنسان أي تصوره بأنه حيوان ناطق، وكإدراك أن العالم وهو ما سوى الله تعالى حادث.
وهذا الحد للقاضي أبي بكر الباقلاني، وتبعه المصنِّف.
واعتُرِضَ بأنَّ فيه دوراً، لأنَّ المعلوم مشتقٌ من العلم، فلا يُعرَفُ المعلومُ إلا بعد معرفة العلم، لأنَّ المشتَقَّ مشتملٌ على معنى المشتَقِّ منه مع زيادة.
وبأنَّه غيرُ شامل لعلم الله سبحانه، لأنه لا يسمى معرفةً إجماعاً، لا لغةً ولا اصطلاحاً.
وبأنَّ قولَه: (على ما هو به) زائدٌ لا حاجة إليه، لأن المعرفة لا تكون إلا كذلك13.
[تعريفُ الجهل]
(وَالجَهْلُ تَصُّورُ الشَّيءِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ بِهِ) في الواقع.
وفي بعض النسخ (على خلاف ما هو عليه) كتصور الإنسان بأنه حيوان صاهل، وكإدراك الفلاسفة أن العالم قديم.
فالمرادُ بالتَّصورِ هنا التصوُّرُ المطلق الشامل للتصور الساذج وللتصديق14.
وبعضُهُم وصفَ هذا بالجهل المركب، وجعل الجهل البسيط عدم العلم بالشيء، كعدم علمنا بما تحت الأرضين وبما في بطون البحار، وهذا لا يدخل في تعريف المصنف، فلا يسمى عنده جهلاً.(1/10)
والتعريف الشامل للقسمين أن يقال: الجهل انتفاء العلم بالمقصود، أي ما من شأنِه أن يُقصَدَ فَيُدْرَكَ، إما بأن لم يدرك أصلاً وهو البسيط، أو بأن يُدرَكَ على خلاف ما هو عليه في الواقع، وهو المركب.
وسُمِّيَ مركباً لأنَّ فيه جهلين: جهل بالمدرك، وجهل بأنه جهل به.
[أقسام العلم الحادث]
(وَالعِلْمُ) الحادث وهو علم المخلوق ينقسم إلى قسمين: ضروري ومكتسب.
وأما العلم القديم وهو علم الله سبحانه وتعالى، فلا يوصف بأنه ضروري ولا مكتسب.
فالعلم (الضَّرُورِي) هو (مَا لمْ يَقَعْ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلالٍ) بأن يحصل بمجرد التفات النفس إليه، فيضطَّر الإنسان إلى إدراكه ولا يمكنه دفعه عن نفسه، وذلك (كالعِلْمِ الوَاقِعِ) أي الحاصل (بِإحْدَى الحَوَاسِّ) جمع حاسة بمعنى القوة الحساسة (الخَمْسِ) الظاهرة، احترازاً من الباطنة:
(الّتي هِيَ: السَّمْعُ): وهو قوةٌ مودعةٌ في العصب المفروش في مقعر الصماخ، أي مؤخره، يُدركُ بها الأصَواتُ بطريقِ وُصُولِ الهواءِ المُتَكَيِّفِ بكيفية الصوت إلى الصماخ، بمعنى أن الله سبحانه يخلق الإدراك في النفس عند ذلك.
(وَالبَصَرُ)، وهو قوةٌ مودعة في العَصَبَتينِ المجوَّفَتَينِ اللتين يتلاقيان في الدماغ ثم يتفرقان فيتأديان إلى العينين، يدرك بهما الأضواء والألوان والأشكال وغير ذلك مما يخلق الله إدراكه في النفس عند استعمال العبد تلك القوة.
(وَالشَّمُّ)، وهو قوةٌ مودعة في الزائدتين الناتئتين في مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي، يدرك بها الروائح بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم، يخلق الله سبحانه وتعالى الإدراك عند ذلك.
(وَالذَّوقُ) وهو قوةٌ منبثَّةٌ في العصب المفروش على جِرْمِ اللسان، يُدركُ بها الطُّعوم، بمخالطة القوة اللعابية التي في الفم للمطعوم ووصولها إلى العصب، يخلق الله سبحانه وتعالى الإدراك عند ذلك.(1/11)
(وَاللَّمْسُ)، وهو قوةٌ منبثَّةٌ في جميع البدن، يدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك عند الاتصال والالتماس، يخلق الله سبحانه وتعالى الإدراك عند ذلك.
وفي بعض النسخ تقديم اللمس على الشم والذوق.
وهذه الحواس الخمس الظاهرة هي المقطوع بوجودها، وأما الحواس الباطنة التي أثبتها الفلاسفة فلا يثبتها أهلُ السنة؛ لأنها لم تقم دلائلها على الأصول الإسلامية.
ودلَّ كلام المصنف على أن العلم الحاصل من هذه الحواس غير الإحساس.
ويوجد في بعض النسخ بعد ذكر الحواس الخمس (أَوْ التَّوَاتُرِ)، وهو معطوف على قوله: (بإحدى الحواس الخمس).
والمعنى أن العلم الضروري كالعلم الحاصل بإحدى الحواس الخمس، وكالعلم الحاصل بالتواتر، وذلك كالعلم الحاصل بوجود النبي صلى الله عليه وسلم، وكظهور المعجزات على يديه وعجز الخلق عن معارضته.
ومن العلوم الضرورية العلم الحاصل ببديهة العقل، كالعلم بأن الكلَّ أعظمُ من الجزء، وأنَّ النفي والإثبات لا يجتمعان.
(وَأمَّا العِلْمُ المُكْتَسَبُ فَهُوَ المَوقُوفُ عَلَى النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ)، كالعلم بأن العالم حادث، فإنه موقوف على النظر في العالم ومشاهدة تغيره، فينتقل الذهن من تغيُّره إلى الحكم بحدوثه.
[تعريف النظر]
(وَالنَّظَرُ هُوَ الفِكْرُ في حَالِ المَنْظُورِ فِيهِ)، ليؤدى إلى علمٍ أو ظَنٍّ، بمطلوب تصديقي أو تصوري.
والفِكرُ حَركةُ النفس في المعقولات، بخلاف حركتها في المحسوسات فإنها تسمى تخييلاً.
[تعريف الاستدلال والدليل]
(وَالاسْتِدْلالُ طَلَبُ الدَّلِيلِ) ليؤدي إلى مطلوب تصديقي، فالنظر أعمُّ من الاستدلال، لأنه يكون في التصورات والتصديقات، والاستدلال خاص بالتصديقات.
(وَالدَّلِيلُ) لغةً: (هُوَ المُرْشِدُ إلى المَطْلُوبِ، لأنَّهُ عَلامَةٌ عَلَيْهِ).
وأما اصطلاحاً: فهو ما يمكِنُ التَّوصُلُ بصَحِيحٍ النَّظَرِ فيه إلى مَطْلُوبٍ جُزئي.
[تعريف الظن والشك]15(1/12)
(والظَّنُّ تَجْويزُ أَمْرَينِ أَحدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ) عند المجوِّز -بكسر الواو-.
وقول المصنِّف رحمه الله: إن الظنَّ هو التجويز، فيه مسامحة، فإنَّ الظن ليس هو التَّجويز، وإنما هو الطَّرف الراجح من المجوَّزين -بفتح الواو-، والطَّرفُ المرجوحُ المقابلُ له يقال له وَهْمٌ.
(والشَّكُّ تَجويزُ أَمرَينِ لا مَزِيَّةَ لأحَدِهما عَلَى الآخَر) عند المجوِّز -بكسر الواو-.
والتردد في ثبوت قيام زيد ونفيه على السواء شك، ومع رجحان أحدهما ظَنٌّ للطَّرفِ الرَّاجِحِ، ووَهْمٌ للطَّرف المرجوح.
[تعريف أصول الفقه بالمعنى الاصطلاحي]
(وَ) علم (أُصُول الفِقْهِ) الذي وُضعت فيه هذه الورقات (طُرُقُهُ)، أي طرق الفقه الموصلة إليه، (عَلَى سَبِيلِ الإجْمَالِ)، كالكلام على مطلق الأمر والنهي وفعل النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس والاستصحاب والعام والخاص والمجمل والمبين وغير ذلك، المبحوث عن أوَّلها بأنه للوجوب حقيقة، وعن الثاني بأنه للحُرمة كذلك، وعن البواقي بأنها حُجَجٌ وغير ذلك مما سيأتي.
بخلافِ طُرق الفقه الموصلة إليه على سبيل التعيين والتفصيل، بحيث أنَّ كلَّ طريقٍ توصل إلى مسألة جزئية تدلُّ على حكمها نَصَّاً أو استنباطاً، نحو: ?أقيموا الصلاة?، ?ولا تقربوا الزنى?، وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة كما أخرجه الشيخان16، والإجماع على أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب حيث لا عاصب لها، وقياس الأرز على البُّرِّ في امتناع بيعِ بعضِه ببعض إلا مثلاً بمثل يداً بيد كما رواه مسلم17، واستصحاب العصمة لمن يشك في بقائها، فإن هذه الطرق ليست من أصول الفقه وإن ذكر بعضها في كتبه -يعنى أصول الفقه- تمثيلاً.
(وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلالِ بِهَا) أي بطرق الفقه الإجمالية من حيث تفاصيلها وجزئياتها عند تعارضها، من تقديم الخاص منها على العام، والمقيد على المطلق وغير ذلك.(1/13)
وإنما حصل التعارض فيها لكونها ظنية، إذ لا تعارض بين قاطعين.
وقوله: (وكيفية) بالرفع عطفاً على قوله: (طرقه).
وكيفية الاستدلال بالطرق المذكورة تجر إلى الكلام على صفات مَنْ يستدِلُّ بها، وهو المجتهد.
فهذه الثلاثة -أعني طرقَ الفقه الإجمالية وكيفيةَ الاستدلال بها وصفات من يستدل بها- هي الفَنُّ المسمى بهذا اللقب، أعني أصول الفقه، المشعر بمدحه بابتناء الفقه عليه، وهو المعنى الثاني الذي تقدمت الإشارة إليه.
[أبواب أصول الفقه]
(وَ) قوله (أَبْوَابُ أُصُولِ الفِقْهِ) مُبْتدأٌ، خبرُهُ (أَقْسَامُ الكَلامِ وَالأمْرُ والنَّهْيُ وَالعَامُ وَالخَاصُّ)، ويذكرُ فيه المطلق والمقيد، (وَالمجمَلُ وَالمبيَّنُ وَالظَّاهِرُ)، وفي بعض النسخ (وَالمؤوَّلُ) وسيأتي، (وَالأَفْعَالُ) أي أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، (وَالنَّاسِخُ وَالمنْسُوخُ وَالتَّعَارُضُ وَالإجْمَاعُ وَالأخْبَارُ) جمع خَبَر، (وَالقِيَاسُ وَالحَظْرُ وَالإبَاحَةُ وَتَرْتِيبُ الأدِلَّةِ وَصِفَةُ المُفْتِي وَالمُسْتَفْتِي وَأَحْكَامُ المجُتهِدِينَ).
فهذه جملة الأبواب، وسيأتي الكلام عليها مفصَّلاً إن شاء الله تعالى18.
[باب أقسام الكلام]
(فَأمَّا أقْسَامُ الكَلامِ) فلها حيثيات:
فأوَّلُها من حيث ما يتركب منه: (فَأقَلُّ مَا يَتَرَكَّبُ) منه (الكَلامُ اسمَانِ)، نحو: الله أحد.
* (أَوْ اسْمٌ وَفِعْلٌ) نحو: قام زيد.
* (أَوْ فِعْلٌ وَحَرْفٌ) نحو: ما قام، أثبته بعضهم، ولا يعدُّ الضمير في قام الراجع إلى زيد مثلاً كلمةً لعدم ظهوره، والجمهور على عدة كلمة.
* (أَوْ اسْمٌ وَحَرْفٌ) وذلك في النداء، نحو: يا زيد، وأكثر النحاة قالوا: إنما كان نحو يا زيد كلاماً؛ لأنَّ تقديره أدعوا زيداً، أو أنادي زيداً، ولكنَّ غرضَ المصنِّف رحمه الله وغيره من الأصوليين بيانُ أقسام الجملة ومعرفة المفرد من المركب، فلذلك لم يأخذوا فيه بالتحقيق الذي يسلكه النحويون.(1/14)
(والكَلامُ) في الاصطلاح (يَنْقَسِمُ) من حيثية أخرى (إلى:)
* (أَمْرٍ) وهو ما يدلُّ على طلب الفعل، نحو: قُمْ.
* (وَنَهْيٍ) وهو ما يدلُّ على طلب الترك نحو: لا تقم.
* (وَخَبَرٍ) وهو ما يحتمل الصدق والكذب، نحو: جاء زيد، وما جاء زيد.
* (وَاسْتِخْبَارٍ) وهو الاستفهام، نحو: هل قام زيد ؟ فيقال: نعم أو لا.
(وَيَنْقَسِمُ) الكلام أيضاً (إلى:)
* (تَمَنٍّ) وهو طلب ما لا طمع فيه، أو ما فيه عسر: فالأول نحو: ليت الشباب يعود يوماً، والثاني: نحو قول منقطع الرجاء: ليتَ لي مالاً فأحجُّ به، ويمتنعُ التَّمني في الواجب نحو: ليتَ غداً يجيء، إلا أن يكون المطلوب مجيئه الآن فيدخل في القسم الأول.
* والحاصلُ أن التمني يكون في الممتنع والممكن الذي فيه عسر.
* (وَعَرْضٍ) بسكون الراء، وهو الطلبُ برفق نحو: ألا تنزِل عندنا، ونحوه التحضيض إلا أنه طلب بحثٍّ.
* (وَقَسَمٍ) بفتح القاف والسين، وهو الحلف، نحو: والله لأفعلنّ كذا.
(وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَنْقَسِمُ) الكلام أيضاً (إلى: حَقِيقَةٍ ومجاز).
(فَالحَقِيقَةُ) في اللغة: ما يجب حفظه وحمايته.
وفي الاصطلاح: (مَا بَقِِيَ في الاسْتِعَمَالِ عَلَى مَوْضُوعِهِ) أي على معناه الذي وضع له في اللغة.
(وَقِيلَ: مَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا اصْطُلِحَ عَلَيهِ مِنْ المُخَاطَبَةِ) التي وقع التخاطب بها وإن لم يبق على موضوعه الذي وضع له في اللغة، كالصلاة المستعملة في لسان أهل الشرع للهيئة المخصوصة، فإنه لم يبقَ على موضوعه اللُّغوي وهو الدعاء بخير، وكالدَّابَّة الموضوعة في العرف لذوات الأربع كالحمار فإنه لم يبق على موضوعه اللغوي وهو كل ما يدب على الأرض.
(وَالمجَازُ) في اللغة: مكان الجواز.
وفي الاصطلاح: (مَا تُجُوِّزَ) أي تُعُدِّيَ بِهِ (عَنْ مَوْضُوعِهِ)، وهذا على القول الأول في تعريف الحقيقة، وعلى القول الثاني: هو ما استعمل في غير ما اصطلح عليه من المخاطبة19.(1/15)
(وَالحَقِيقَةُ إمَّا لُغَوِيَّةٌ) وهي التي وضعها واضع اللغة، كالأسد للحيوان المفترس.
(وَإمَّا شَرْعِيَّةٌ) وهي التي وضعها الشارع، كالصلاة للعبادة المخصوصة.
(وَإمَّا عُرْفِيَّةٌ) وهي التي وضعها أهل العرف العام، كالدابة لذوات الربع، وهي في اللغة كل ما يدب على وجه الأرض، أو أهل العرف الخاص كالفاعل للاسم المعروف عند النحاة.
وهذا التقسيم إنما يتمشى على القول الثاني في تعريف الحقيقة دون الأول، فإنه مبنى على نفي ما عدا الحقيقة اللغوية، فالألفاظ الشرعية كالصلاة والحج ونحوهما، والعرفية كالدابة مجازٌ عندهم.
وفي إثبات المصنف للحقيقة الشرعية والعرفية دليلٌ على اختيار القول الثاني، وهو الراجحُ، وإن اقتضى تقديمه للقول الأول على ترجيحه.
وجعل المصنف الحقيقة والمجاز من أقسام الكلام مع أنهما من أقسام المفردات، إشارةٌ إلى أن المفرد لا يظهر اتصافه بالحقيقة والمجاز إلا بعد الاستعمال لا قبله، والله أعلم.
(وَالمجَازُ إمَّا أنْ يَكُونَ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ نَقْلٍ أَو اسْتِعَارَةٍ.
فَالمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ مِثْلُ قَولِه تَعَالى: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ?)، فالكاف زائدة لئلا يلزم إثباتُ مثلٍ له تعالى؛ لأنها إن لم تكن زائدة فهي بمعنى مثل، فيقتضى ظاهر اللفظ نفي مثل مثل الباري، وفي ذلك إثبات مثل له وهو محال عقلاً، وضدُّ المقصود من الآية، فإن المقصود منها نفي المثل، فالكاف مزيدة للتأكيد، وقال جماعة: ليست الكاف زائدة والمراد بالمثل الذات كما في قولهم: مِثلُك لا يفعل كذا، لقصد المبالغة في نفي ذلك الفعل عنه، لأنه إذا انتفي عمن يماثله ويناسبه كان نفيه عنه أولى.(1/16)
وقال الشيخ سعد الدين20: القول بأن الكاف زائدة أخذ بالظاهر، والأحسن ألا تكون زائدة وتكون نفياً للمثل بطريق الكناية التي هي أبلغ، لأنَّ الله سبحانه موجودٌ قطعاً، فنفي مثل المثل مستلزم لنفي المثل، ضرورةَ أنه لو وجد له مثل لكان هو تعالى مثلاً لمثله، فلا يصح نفي مثل المثل، فهو من باب نفي الشيء بنفي لازمه، كما يقال: ليس لأخي زيد أخ، فأخي زيد ملزوم، وأخي لازمه، لأنه لا بدَّ لأخي من أخ هو زيد، فنفيتَ اللازم، وهو أخو أخي زيد، والمراد نفي ملزومه وهو أخو زيد، إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ وهو زيد.
(والمجاز بالنقصان مثل قوله تعالى: واسئل القرية) أي أهل القرية، ويسمى هذا النوع مجازَ الإضمار، وشرطُه أن يكون في المظهَر دليلٌ على المحذوف، كالقرينة العقلية هنا الدالة على أن الأبنية لا تُسأل لكونها جماداً.
فإن قيل: حدُّ المجاز لا يصدق على المجاز بالزيادة والنقصان؛ لأنه لم يستعمل اللفظ في غير موضوعه.
فالجواب: أنَّه منه، حيث استعمل نفي مثل المثل في نفي المثل وسؤال القرية في سؤال أهلها، فقد تجوز في اللفظ وتعدّى به عن معناه إلى معنى آخر.
وقال صاحبُ التلخيص21: إنه مجاز من حيث أن الكلمة نقلت عن إعرابها الأصلي إلى نوع آخر من الإعراب، فالحكم الأصلي لـ(مثله) النصب؛ لأنه خبر ليس، وقد تغير بالجر بسبب زيادة الكاف، والحكم الأصلي لـ(القرية) الجر، وقد تغير إلى النصب بسبب حذف المضاف.
(والمجاز بالنقل) أي بنقل اللفظ عن معناه إلى معنى آخر لمناسبةٍ بين معنى المنقول عنه والمنقول إليه، (كالغائط فيما يخرج من الإنسان )، فإنه نقل إليه عن معناه الحقيقي وهو المكان المطمئن من الأرض، لأن الذي يقضى الحاجة يقصد ذلك المكان طلباً للستر، فسموا الفضلة التي تخرج من الإنسان باسم المكان الذي يلازم ذلك، واشتهر ذلك حتى صار لا يتبادر في العرف من اللفظ إلا ذلك المعنى، وهو حقيقة عرفية مجاز بالنسبة إلى معناه اللغوي.(1/17)
فقول من قال: إن تسميته مجازاً مبني على قول من أنكر الحقيقة العرفية ليس بظاهر؛ إذ لا منافاة بين كونه حقيقة عرفية ومجازاً لغوياً كما عرفت.
(والمجاز بالاستعارة كقوله تعالى: ?جداراً يريد أن ينقضّ?) أي يسقط، فشبه ميله إلى السقوط بإرادة السقوط التي هي من صفة الحي دون الجماد، فإن الإرادة منه ممتنعة عادة.
والمجاز المبني على التشبيه يسمى استعارة.
وعبارة المصنف توهم أن النقل قسم من المجاز ومقابل للأقسام وليس كذلك، فإن النقل يعمُّ جميع أقسام المجاز، فإنَّ معناه تحويل اللفظ عن معناه الموضوع له إلى معنى آخر.
فقوله: ?ليس كمثله شيء? منقول من الدلالة على نفي مثل المثل إلى نفي المثل.
وقوله: ?واسأل القرية? منقول من الدلالة على سؤال القرية إلى سؤال أهل القرية.
ولفظ الغائط منقول من الدلالة على المكان المطمئن المعيّن إلى فضلة الإنسان.
وقوله: ?جداراً يريد أن ينقض? منقول من الدلالة على الإرادة الحقيقية التي هي إرادة الحي إلى صورة تشبه صورة الإرادة الحقيقية.
فالمجازُ كلُّه نقلُ اللفظ من موضعه الأول إلى معنى آخر، لكنه قد يكون مع بقاء اللفظ على صورته من غير تغيير وهذا المجاز العارض في الألفاظ المفردة، كنقل لفظ الأسد من الحيوان المفترس إلى الرجل الشجاع، ونقل لفظ الغائط من المكان المطمئن إلى فضلة الإنسان، وقد يكون مع تغيير يعرض للفظ بزيادة أو نقصان، وهو المجاز الذي يعرض للألفاظ المركبة.
ويسمى المجاز الواقع في الألفاظ المفردة مجازاً لغوياً، والمجاز الواقع في التركيب مجازاً عقلياً، وهو إسناد الفعل إلى غير ما هو له في الظاهر، والله أعلم.
[ باب الأمر]
ولما انقضى كلامه على أقسام الكلام أتبع ذلك بالكلام على الأمر فقال:
(والأمر استدعاء الفعل بالقول لمن هو دونه على سبيل الوجوب)، بأن لا يجوز له الترك.
فقوله: (استدعاء الفعل) يخرج به النهي لأنه استدعاء الترك.(1/18)
وقوله: (بالقول) يخرج به الطلب بالإشارة والكتابة والقرائن المفهمة.
وقوله: (لمن هو دونه) يخرج به الطلب من المساوي والأعلى، فلا يسمى ذلك أمراً، بل يسمى الأول التماساً، والثاني دعاء وسؤالاً.
وهذا قول جماعة من الأصوليين، والمختار أنه لا يعتبر في الأمر العلو، وهو أن يكون الطالب أعلى رتبة من المطلوب، ولا الاستعلاء وهو أن يكون الطلب على سبيل التعاظم.
والفرق بين العلو والاستعلاء أن العلو كون الآمر في نفسه أعلى درجة من المأمور، والاستعلاء أن يجعل نفسه عالياً بتكبر أو غيره وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك، فالعلو من صفات الآمر والاستعلاء من صفات كلامه.
وقوله: (على سبيل الوجوب) يخرج الآمر على سبيل الندب بأن يجوِّز الترك.
واقتضى كلام المصنف أن المندوب ليس مأموراً به، وفيه خلاف مبني على أن لفظ الأمر حقيقة في الوجوب أوفي القدر المشترك بين الإيجاب والندب وهو طلب الفعل ؟ وقيل: إنه حقيقة في الندب، وقيل غير ذلك.
(وصيغته) أي صيغة الأمر الدالة عليه (افعل).
وليس المراد هذا الوزن بخصوصه، بل كون اللفظ دالاً على الأمر بهيئته نحو: اضرب وأكرم واستخرج و ?لينفق?، و?ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق?.
(وهي) أي صيغة الأمر (عند الإطلاق والتجرد عن القرينة) الصارفة عن الوجوب (تحمل عليه) أي على الوجوب، نحو: ?أقيموا الصلاة?.
(إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب) نحو: ?فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً? لأن المقام يقتضى عدم الوجوب، فإن الكتابة من المعاملات.
(أو الإباحة) نحو: ?وإذا حللتم فاصطادوا?، فإن الاصطياد أحد وجوه التكسب وهو مباح، وقد أجمعوا على عدم وجوب الكتابة والاصطياد.
وظاهر كلامه أن الاستثناء في قوله: (إلا ما دل الدليل) منقطع؛ لأن الدليل هو القرينة، ويمكن أن يكون متصلاً.(1/19)
وتختص القرينة بما كان متصلاً بالصيغة، والدليل بما كان منفصلاً عنها؛ لأن ما كانت القرينة فيه منفصلة داخل في المجرَّد عن القرينة.
مثال القرينة المتصلة قوله تعالى: ?فالآن باشروهن?، بعد قوله تعالى: ?أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم?.
ومثال القرينة المنفصلة قوله تعالى: ?وأشهدوا إذا تبايعتم?، والقرينة أن النبي صلى الله عليه وسلم باع ولم يشهد، فعلم أن الأمر للندب.
(ولا تقتضي) صيغة الأمر العارية عمَّا يدلُّ على التقييد بالتكرار أو بالمرة (التكرار على الصحيح) ولا المرة، لكن المرَّةُ ضرورية؛ لأن ما قصد من تحصيل المأمور به لا يتحقق إلا بها، والأصل براءة الذمة مما زاد عليها (إلا ما دلَّ الدليل على قصد التكرار) فيعمل به، كالأمر بالصلوات الخمس وصوم رمضان.
ومقابل الصحيح أنه يقتضى التكرار، فيستوعب المأمور بالفعل المطلوب ما يمكنه من عمره حيثُ لا بيان لأمد المأمور به، لانتفاء مرجح بعضه على بعض.
وقيل: يقتضى المرة22، وقيل: بالوقف.
واتفق القائلون بأنه لا يقتضي التكرار على أنه إذا عُلَِّقَ على علة محققة نحو: إن زنى فاجلدوه، أنه يقتضى التكرار.
(ولا تقتضى) صيغة الأمر (الفور)، يريد ولا التراخي، إلا بدليل فيهما، لأنَّ الغرض إيجادُ الفعل من غير اختصاص بالزمن الأول والثاني.
وقيل: يقتضى الفور23.
وكل من قال بأنها تقتضى التكرار قال إنها تقتضى الفور.
(والأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم) ذلك (الفعل كالأمر بالصلاة) فإنه (أمر بالطهارة)، فإن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة (المؤدية إليها).
(وإذا فعل) بالبناء للمفعول والضمير للمأمور به (يخرج المأمور عن العهدة) أي عهدة الأمر ويتصف الفعل بالإجزاء.
وفي بعض النسخ: وإذا فعله المأمور يخرج عن العهدة، والمعنى أن المكلف إذا أمر بفعل شيء ففعل ذلك الفعل المأمور به كما أمر به، فإنه يحكم بخروجه عن عهدة ذلك الأمر، ويتصف الفعل بالإجزاء، وهذا هو المختار.(1/20)
وقال قوم: إنه يحكم بالإجزاء بخطاب متجدد.
(الذي يدخل في الأمر والنهي وما لا يدخل)
هذه ترجمة معناها: بيانُ من يتناوله خطاب التكليف بالأمر والنهي ومن لا يتناوله.
وقال: (ما لا يدخل) تنبيهاً على أن من لم يدخل في خطاب التكليف ليس في حكم ذوى العقول.
(يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون) المكلفون، وهم العاقلون البالغون غير الساهين.
ويدخل الإناث في خطاب الذكور بحكم التبع.
(و) أما (الساهي والصبي والمجنون) فهم (غير داخلين في الخطاب) لانتفاء التكليف عنهم، لأنَّ شرط الخطاب الفهم، وهم غير فاهمين للخطاب.
ويؤمر الساهي بعد ذهاب السهو بجبر خلل السهو، كقضاء ما فاته من الصلاة، وضمان ما أتلفه من المال؛ لوجود سبب ذلك وهو الإتلاف، ودخول الوقت.
(والكفار مخاطبون بفروع الشريعة) على الصحيح (وبما لا تصح إلا به وهو الإسلام) اتفاقاً24.
وقوله: (لقوله تعالى: ?ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين?) حجةٌ للقول الصحيح.
وقيل: إنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة لعدم صحتها منهم قبل الإسلام وعدم مؤاخذتهم بها بعده.
وأجيب: بأن فائدة خطابهم بها عقابهم عليها، وعدم صحتها في حال الكفر لتوقفها على النية المتوقفة على الإسلام.
وأما عدم المؤاخذة بها بعد الإسلام فترغيباً لهم في الإسلام25.
(والأمر) النفسي (بالشيء نهي عن ضده)، بمعنى أن تعلق الأمر بالشيء هو عين تعلُّقه بالكفِّ عن ضدِّه، واحداً كان الضد، كضدِّ السكون الذي هو التحرك، أو أكثر كضد القيام الذي هو القعود والاتكاء والاستلقاء.
فالطلب له تعلُّق واحد بأمرين هما: فعل الشيء والكف عن ضده، فباعتبار الأول هو أمر، وباعتبار الثاني هو نهي.
وقيل: إن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده ولكن يتضمنه.
وقيل: ليس عينه ولا يتضمنه، وعزاه صاحب جمع الجوامع للمصنِّف.
وأما مَفْهوما الأمر والنهي فلا نزاع في تغايرهما، وكذا لا نزاع في أن الأمر اللفظي ليس عين النهي اللفظي، والأصح أنه لايتضمنه.(1/21)
وقيل: يتضمنه، فإذا قال اسكن فكأنه قال: لا تتحرك؛ لأنه لا يتحقق السكون إلا بالكف عن التحرك.
(و) أما (النهي) النفسي (عن الشيء) فقيل: إنه (أمر بضده)، فإن كان واحداً فواضح، وإن كان كثيراً كان أمراً بواحد من غير تعيين.
وقيل: إن النهي النفسي ليس أمراً بالضد قطعاً.
وأما النهي اللفظي فليس عين الأمر اللفظي قطعاً، ولا يتضمنه على الأصح.
وقيل: يتضمنه، فإذا قال: لا تتحرك فكأنه قال: اسكن، لأنه لا يتحقق ترك التحرك إلا بالسكون.
(والنهي استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب) على وزان ماتقدم في الأمر.
إلا أنه يقال هنا: قوله: (استدعاء الترك) مخرج للأمر.
وقوله هنا: (على سبيل الوجوب) أي بأن لا يجوز له الفعل، مخرجٌ للنهي على سبيل الكراهة، بأن يجوز له الفعل.
ولا يعتبر فيه أيضاً علو ولا استعلاء، إلا أن النهي المطلق مقتضٍ للفور والتكرار، فيجب الانتهاء في الحال، واستمرار الكف في جميع الأزمان، لأن الترك المطلق إنما يصدق بذلك.
(ويدل) النهي المطلق شرعاً (على فساد المنهي عنه) شرعاً على الأصح عند المالكية والشافعية، وسواء كان المنهي عنه عبادة كصوم يوم العيد أو عقداً كالبيوع المنهي عنها.
واحترزنا بـ (المطلق) عمَّا إذا اقترن به ما يقتضى عدم الفساد كما في صور البيوع المنهي عنها، وسقطت هذه المسألة من نسخة المحلي.
(وترد صيغة الأمر والمراد به) أي بالأمر (الإباحة) كما تقدم، (أو التهديد) نحو: ?اعملوا ما شئتم?، (أو التسوية) نحو: ?اصبروا أولا تصبروا?، (أو التكوين) نحو: ?كونوا قردة خاسئين?.
[باب العام]
(وأما العام فهو ما عم شيئين فصاعداً)، أي من غير حصر.
وهو مأخوذ (من قوله: عممت زيداً وعمراً بالعطاء وعممت جميع الناس بالعطاء) أي شملتهم، ففي العام شمول.
وفي بعض النسخ: (مثل عممت زيداً وعمراً)، ولا يصح ذلك لأن عممت زيداً وعمراً ليس من العام الذي يريد بيانه.(1/22)
وقوله: (ما عم شيئين فصاعداً) جنس يشتمل على المثنى كرجلين، وأسماء العدد كثلاثة وأربعة، ونحو ذلك.
وقولنا: (من غير حصر) فصل مخرج للمثنى ولأسماء العدد، فإنها تتناول شيئين فصاعداً لكنها تنتهي إلى غاية محصورة.
(وألفاظه) أي صيغ العموم الموضوعة له (أربعة) أي أربعة أنواع:
النوع الأول: (الاسم الواحد المعرف بالألف واللام) التي ليست للعهد ولا للحقيقة، فإنه يفيد العموم بدليل جواز الاستثناء منه نحو: ?إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا?.
(و) النوع الثاني (اسم الجمع)، أي الدال على جماعة (المعرف باللام) التي ليست للعهد نحو: ?اقتلوا المشركين?.
(و) النوع الثالث (الأسماء المبهمة كمن فيمن يعقل) نحو: مَنْ دخلَ دارى فهو آمن، (وما فيما لا يعقل) نحو: مَا جاءني قبلته، (وأي في الجميع) أي من يعقل ومن لا يعقل نحو: أيُّ عبيدي جاءك فأحسن إليه، وأي الأشياء أردته أعطيتك، (وأين في المكان) نحو: أين تجلس أجلس، (ومتى في الزمان) نحو: متى تقم أقم، (وما في الاستفهام) نحو: ما عندك ؟ (و) في (الجزاء) أي المجازاة نحو: ما تفعل تُجْزَ به.
وفي نسخة: (والخبر) بدل الجزاء نحو قولك: علمتُ ما علمتَ -بتاء المتكلم في الأول وتاء الخطاب في الثاني-، جواباً لمن قال لك: ما علمتَ ؟
(وغيره) أي غير ما ذكر، كالخبر على النسخة الأولى والجزاء على النسخة الثانية.
(و) النوع الرابع (لا في النَّكِرَاتِ) أي الداخلة على النكرات، فإن بنيت النكرة معها على الفتح نحو: لا رجلَ في الدار فهي نص في العموم، وإن لم تبن فهي ظاهرة في العموم نحو: لا رجلٌ في الدار26.
(والعموم من صفات النطق) أي اللفظ، والنطق مصدر بمعنى منطوق به.
(ولا يجوز دعوى العموم في غيره) أي في غير اللفظ (من الفعل وما يجرى مجراه) أي مجرى الفعل.(1/23)
فالفعل كجمعه عليه الصلاة والسلام بين الصلاتين في السفر كما رواه البخاري27، فلا يدل على عموم الجمع في السفر الطويل والقصير، فإنه إنما وقع في واحد منهما.
والذي يجري مجرى الفعل كالقضايا المعينة، مثل قضائه صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار، رواه النسائي عن الحسن مرسلاً28، فلا يعم كل جار لاحتمال خصوصية في ذلك الجار.
[باب الخاص]
(والخاص يقابل العام) فيقال في تعريفه: هو ما لا يتناول شيئين فصاعداً من غير حصر، بل إنما يتناول شيئاً محصوراً: إما واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، نحو: رجل ورجلين وثلاثة رجال.
(والتخصيص تمييز بعض الجملة) أي إخراج بعض الجمل التي يتناولها اللفظ العام، كإخراج المعاهدين من قوله تعالى: ?اقتلوا المشركين?.
(وهو) أي المُخصِّصُ -بكسر الصاد- المفهوم من التخصيص (ينقسم إلى:
متصل) وهو ما لا يستقل بنفسه، بل يكون مذكوراً مع العام.
(ومنفصل) وهو ما يستقل بنفسه ولا يكون مذكوراً مع العام، بل يكون مفرداً.
(فالمتصل) ثلاثة أجزاء على ما ذكر المصنف:
أحدها: (الاستثناء)، نحو: قام القوم إلا زيداً.
(و) ثانيها (التقييد بالشرط)، نحو: أكرم بني تميم إن جاءوك، أي الجائين منهم.
(و) ثالثها (التقييد بالصفة)، نحو: أكرم بني تميم الفقهاء.
[تعريف الاستثناء]
(والاستثناء) الحقيقي، أي المتصل هو: (إخراج ما لولاه) أي لولا الاستثناء (لدخل في الكلام)، نحو المثال السابق.
والاستثناء المتصل هو: ما يكون فيه المستثنى بعض المسثنى منه.
واحترزنا به عن المنفصل، وهو: ما لا يكون فيه المستثنى بعض المستثنى منه، نحو: قام القوم إلا حماراً، فليس من المخصصات وإن كان المصنف سيذكره على سبيل الاستطراد.
ولابد في الاستثناء المنقطع أن يكون بين المستثنى والمستثنى منه ملابسة كما مثلنا، فلا يقال: قام القوم إلا ثعباناً.(1/24)
(وإنما يصح) الاستثناء (بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء) ولو واحداً، فلو استغرق المستثنى منه لم يصح وكان لغواً، فلو قال: له عليَّ عشرة إلا تسعة صح ولزمه واحد، ولو قال: إلا عشرة، لم يصح ولزمته العشرة.
(ومن شرطه) أي الاستثناء (أن يكون متصلاً بالكلام) بالنطق أو في حكم المتصل، فلا يضر قطعه بسعال وتنفس ونحوهما مما لا يعد فاصلاً في العرف، فإن لم يتصل بالكلام المستثنى منه لم يصح، فلو قال: جاء القوم، ثم قال بعد أن مضى ما يعد فاصلاً في العرف: إلا زيداً لم يصح.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يصح الاستثناء المنفصل بشهر، وقيل بسنة، وقيل أبداً29.
(ويجوز تقديم الاستثناء) أي المستثنى (عن المستثنى منه)، نحو: ما قام إلا زيداً أحدٌ.
(ويجوز الاستثناء من الجنس) وهو المتصل المعدود في المخصصات المتصلة كما تقدم، (ومن غيره) وهو المنقطع كما تقدم.
[التخصيص بالشرط]
(والشرط) وهو الثاني من المخصصات المتصلة، (يجوز أن يتأخر عن المشروط) في اللفظ كما تقدم، (ويجوز أن يتقدم عن المشروط) في اللفظ نحو: إن جاءوك بني تميم فأكرمهم، وأما في الوجود الخارجي فيجب أن يتقدم الشرط على المشروط أو يقارنه.
[التخصيص بالصفة]
(و) التقييد بالصفة، وهو الثالث من المخصصات المتصلة، يكون فيه (المقيد بالصفة) أصلاً (ويحمل عليه المطلق) فيقيده بقيده، (كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع) كما في كفارة الظهار، فيحمل المطلق على المقيد احتياطاً.
ثم شرع يتكلم عن القسم الثاني من المخصص، أعنى المنفصل فقال:
[التخصيص بالمخصص المنفصل]
(ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب) على الأصح نحو: ?والمطلقات يتربصن بأنفسهن أربعة قروء? الشامل لأولات الأحمال، فخص بقوله: ?وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن?.(1/25)
ونحو قوله: ?ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن? الشامل للكتابيات، لأنَّ أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى: ?وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله?، إلى قوله تعالى: ?لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون?، خُصَّ بقوله تعالى: ?والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم?، أي حل لكم، والمراد هنا بالمحصنات الحرائر.
(و) يجوز (تخصيص الكتاب بالسنة) سواء كانت متواترة أو خبر آحاد، وفاقاً للجمهور، كتخصيص قوله تعالى: ?يوصيكم الله في أولادكم? الآية الشامل للمولود الكافر لحديث: ?لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم?30.
(و) يجوز (تخصيص السنة بالكتاب) كتخصيص حديث الصحيحين ?لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ?31، بقوله: ?فلم تجدوا ماء فتيمموا? وإن وردت السنة بالتيمم أيضاً بعد نزول الآية.
(و) يجوز (تخصيص السنة بالسنة) كتخصيص حديث الصحيحين ?فيما سقت السماء العشر?32، بحديثهما: ?ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة?33.
(و) يجوز (تخصيص النطق بالقياس، ونعنى بالنطق قول الله تعالى وقول الرسول صلى الله عليه وسلم) لأن القياس يستند إلى نص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك هو المخصص.
مثال تخصيص الكتاب بالقياس قوله تعالى: ?الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة?، خُصَّ عمومه الشامل للأمة بقوله تعالى: ?فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب?، وخص عمومه أيضاً بالعبد المقيس على الأمة.
[باب المجمل والمبين]
(والمجمل) في اللغة: مِنْ أَجْمَلْتَ الشَّيءَ إذا جَمَعْتَهُ، وضدُّه المفصل.
وفي الاصطلاح هو: (ما افتقر إلى البيان)، أي هو اللفظ الذي يتوقف فهم المقصود منه على أمر خارج عنه: إما قرينة حال، أو لفظ آخر، أو دليل منفصل.(1/26)
فاللفظ المشترك مجمل؛ لأنه يفتقر إلى ما يبين المراد من معنييه أو من معانيه، نحو قوله تعالى: ?ثلاثة قروء? فإنه يحتمل الأطهار والحيضات، لاشتراك القُرْء بين الطهر والحيض.
(والبيان) يطلق على التبيين الذي هو قول المبيّن، وعلى ما حصل به التبيين وهو الدليل، وعلى متعلَّق التبيين ومحله وهو المدلول.
والمصنِّف عرَّفه بالنظر إلى المعنى الأول بقوله: (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي) أي الظهور والوضوح.
وأورد عليه أمران: أحدهما: أنه لا يشتمل التبيين ابتداء قبل تقرير الإشكال؛ لأنه ليس فيه إخراج من حيز الإشكال.
والثاني: أن التبيين أمر معنوي، والمعاني لا توصف بالاستقرار في الحيز، فذكر الحيز فيه تجوّز، وهو مجتنب في الرسم.
وأجيب بأن المراد من قوله: (إخراج الشيء من حيز الإشكال) ذِكرُه وجعلُه واضحاً.
والمراد بالحيز مظنة الإشكال ومحله، والله أعلم.
[تعريف النص]
(والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً) كـ (زيداً) في: رأيت زيداً.
(وقيل) في تعريف النص هو: (ما تأويله تنزيله) أي يفهم معناه بمجرد نزوله ولا يحتاج إلى تأويله، نحو: ?فصيام ثلاثة أيام? فإنه يفهم معناه بمجرد نزوله ولا يتوقف فهمه على تأويله.
(وهو) أي النص (مشتق من منصة العروس وهو الكرسي) الذي تجلس عليه لتظهر للناظرين.
وفي قوله: (مشتق من منصة العروس) مسامحة؛ لأن المصدر لا يشتق من غيره على الصحيح، بل يشتق غيره منه، فالمنصة مشتقة من النص، فالنص لغة الرفع، فإذا ظهرت دلالة اللفظ على معناه كان ذلك في معنى رفعه على غيره، فقوله: (مشتق من منصة العروس) لم يرد به الاشتقاق الاصطلاحي، وإنما أراد اشتراكهما في المادة.
والنص عند الفقهاء يطلق على معنى آخر وهو ما دل على حكم شرعي من كتاب أو سنة، سواء كانت دلالته نصاً أو ظاهراً.
[تعريف الظاهر والمؤول](1/27)
(والظاهر ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر)، كالأسد في نحو: رأيتُ اليوم أسداً، فإنه ظاهر في الحيوان المفترس، لأنه المعنى الحقيقي، ومحتمل للرجل الشجاع.
والظاهر في الحقيقة هو الاحتمال الراجح، فإن حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح يسمى اللفظ مؤولاً، وإنما يؤول بالدليل، كما قال: (ويؤول الظاهر بالدليل)، أي يحمل على الاحتمال المرجوح (ويسمى) حينئذ (الظاهر بالدليل) أي كما يسمى مؤولاً كما في قوله تعالى: ?والسماء بنيناها بأيدٍ?، فإن ظاهره جمع يد، وهو محال في حق الله تعالى، فصُرِف عنه إلى معنى القوة بالدليل العقلي القاطع.
[باب](الأفعال)
هذه ترجمة، والمراد بها بيان حكم أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال المصنف:
(فعل صاحب الشريعة) يعنى النبي صلى الله عليه وسلم (لا يخلو: إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك)، والقربة والطاعة بمعنى واحد.
فإن كان على وجه القربة والطاعة (فإن دل دليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص)، كالوصال في الصوم، فإن الصحابة لما أرادوا الوصال نهاهم صلى الله عليه وسلم عنه وقال: ?لست كهيئتكم? متفق عليه.
(وإن لم يدل) دليل على الاختصاص به كالتهجد، (لا يخصّ به لأن الله تعالى يقول: ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة?)، أي قدوة صالحة، والأسوة بكسر الهمزة وضمها لغتان قرئ بهما في السبعة، وهو اسم وضع موضع المصدر أي اقتداء حسن، والظرفية هنا مجازية مثل قوله تعالى: ?لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين?.
وإذا لم يختص ذلك الفعل به صلى الله عليه وسلم فيعم الأمة جميعها.
ثم إن علم حكم ذلك الفعل من وجوب أو ندب فواضح، وإن لم يعلم حكمه (فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا) في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حقنا؛ لأنه الأحوط، وبه قال مالك رضي الله عنه وبعض أصحابه.
(ومن أصحابنا من قال يحمل على الندب) لأنه المحقق.
(ومنهم من قال يتوقف عنه) لتعارض الأدلة في ذلك.(1/28)
(فإن كان) فعل صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم (على وجه غير القربة والطاعة) كالقيام والقعود والأكل والشرب والنوم (فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا) وهذا في أصل الفعل، وأما في صفة الفعل فقال بعض المالكية: يحمل على الندب، ويؤيده ما ورد عن كثير من السلف من الإقتداء بهم في ذلك.
وقال بعضهم: يحمل على الإباحة أيضاً.
وعلم مما ذكره المصنف انحصار أفعاله صلى الله عليه وسلم في الوجوب والندب والإباحة، فلا يقع منه صلى الله عليه وسلم محرَّم لأنه معصوم، ولا مكروه ولا خلاف الأولى، ولقلَّة وقوعِ ذلك من المتقي من أمته، فكيف منه صلى الله عليه وسلم ؟
[باب الإقرار]
(وإقرار صاحب الشريعة) صلى الله عليه وسلم (على القول الصادر من أحد) بحضرته (هو)، أي ذلك القول (قول صاحب الشريعة)، أي كقوله.
كإقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه على قوله، إعطاء سلب القتيل لقاتله متفق عليه.
(وإقراره) أي صاحب الشريعة (على الفعل) الصادر من أحد بحضرته (كفعله) أي صاحب الشريعة.
كإقراره صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على أكل الضب، متفق عليه34، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن أن يقرَّ على منكر.
(وما فعل في وقته) أي زمنه صلى الله عليه وسلم (في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه حكم ما فعل في مجلسه).
كعلمه صلى الله عليه وسلم بحلف أبى بكر الصديق رضي الله عنه إنه لا يأكل الطعام في وقت غيظه، ثم أكل لما رأى ذلك خيراً، كما يؤخذ من حديث مسلم في الأطعمة35.
[باب النسخ]
(وأما النسخ فمعناه لغة الإزالة)، يقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته ورفعته بانبساط ضوئها.
والإزالة والرفع بمعنى واحد.
(وقيل: معناه النقل، من قولهم: نسخت ما في هذا الكتاب أي نقلته).
وفي الاستدلال بهذا على أن النسخ بمعنى النقل نظر، فإن نسخ الكتاب ليس هو نقلاً لما في الأصل في الحقيقة، وإنما هو إيجاد مثل ما كان في الأصل في مكان آخر، فتأمله.(1/29)
وليس هذا باختلاف قول، وإنما هو بيان لما يطلق عليه النسخ في اللغة، فذكر أنه يطلق على معنيين: على الإزالة، وعلى النقل، وذكر بعضهم أنه يطلق على معنى ثالث وهو التغيير، كما في قولهم: نسخت الريح آثار الديار، أي غيرتها، والظاهر أنه يرجع إلى المعنى الأول وهو الإزالة فإنها أعم.
واختلف في استعماله في المعنيين اللذين ذكرهما المصنف فقيل: إنه حقيقة فيهما، فيكون مشتركاً بينهما، وقيل إنه حقيقةٌ في الإزالة مجازٌ في النقل.
وذكر بعضهم قولاً ثالثاً: إنه حقيقة في النقل مجاز في الإزالة، وهو بعيد.
(وحده) أي معناه الاصطلاحي الشرعي: (هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه)، أي لو الخطاب الثاني، (لكان) الحكم (ثابتاً، مع تراخيه)، أي الخطاب الثاني (عنه)، أي الخطاب المتقدم.
وهذا الذي ذكره رحمه الله حدٌ للناسخ، ولكنه يؤخذ منه حد النسخ وأنه: رفعُ الحكمِ الثابتِ بخطابٍ متقدمٍ، بخطاب آخر، لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه.
ونعني (برفع الحكم) رفع تعلقه بفعل المكلف، فقولنا: (رفع الحكم) جنس يشمل النسخ وغيره كما سيأتي بيانه.
وقولنا: (الثابت بخطاب) فصل يخرج به رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية، أي عدم التكليف بشيء، فإنه ليس بنسخ، إذ لو كان نسخاً كانت الشريعة كلها نسخاً، فإن الفرائض كلها كالصلاة والزكاة والصوم والحج رفع للبراءة الأصلية.
وقولنا: (بخطاب آخر) فصل ثان يخرج به رفع الحكم بالجنون والموت.
وقولنا: (على وجه لولاه لكان ثابتاً) فصل ثالث يخرج به ما لو كان الخطاب مُغَيَّا بغايةٍ أو مُعَللاً بمعنى، وخرج الخطاب الثاني ببلوغ الغاية أو زوال المعنى فإن ذلك لا يكون نسخاً له، لأنه لو لم يرد الخطاب الثاني الدال على ذلك لم يكن الحكم ثابتاً لبلوغ الغاية وزوال العلة.(1/30)
مثال ذلك: قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع?، فتحريم البيع مُغَيَّا بقضاء الجمعة، فلا يقال: إن قوله تعالى: ?فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله? ناسخٌ للأول، بل هو مبيّن لغاية التحريم.
وكذا قوله تعالى: ?وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرماً?، فلا يقال: إنه منسوخ بقوله تعالى: ?وإذا حللتم فاصطادوا?، لأنَّ التحريم لأجل الإحرام، وقد زال.
وقولنا: (مع تراخيه) فصل رابع يخرج به ما كان متصلاً بالخطاب من صفة أو شرط أو استثناء، فإنَّ ذلك تخصيص كما تقدم، وليس ذلك نسخاً.
[أنواع النسخ]
(ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم) أي يجوز نسخُ رسمِ الآية في المصحف وتلاوتها على أنه قرآن، مع بقاء حكمها والتكليف به، نحو: آية الرجم وهي: ?الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة?، قال عمر رضي الله عنه: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، وذكرها، ثم قال: فإنا قد قرأناها، رواه مالك في الموطأ36، قال مالك: الشيخ والشيخة الثيب والثيبة.
ورواه غير مالك بلفظ ?الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم?، وأصل الحديث متفق عليه من غير ذكره لفظها.
والمراد بالثيب المحصن وضده البكر، والله أعلم.
(و) يجوز (نسخ الحكم وبقاء الرسم) نحو قوله تعالى ?والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج? نُسخت بالآية التي قبلها، أعني قوله تعالى: ?يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً?، وهو كثير.
(و) يجوز (نسخ الحكم والرسم معاً) نحو حديث مسلم: ?كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات?37، أي ثم نسخت تلاوة ذلك وبقى حكمه كآية الشيخ والشيخة، قاله الشافعي وغيره.(1/31)
وقال المالكية وغيرهم: تحرم المصة الواحدة ولا حجة في حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأن ظاهره متروك؛ لأنَّ فيه: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا فيما يقرأ من القرآن، وذلك يقتضي وقوع النسخ بعد موته صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت كونه قرآناً، ولا يحتج بأنه خبر واحد؛ لأن الخبر الواحد إذا توجه إليه قادح توقف عن العمل به؛ وهذا لما لم يجئ إلا بالآحاد مع أن العادة تقتضى مجيئه متواتراً، كان ذلك ريبة فيه وقادحاً، ولأنه لا يحتج بالقراءة الشاذة على الصحيح لأنها ليست بقرآن وناقلها لم ينقلها على أنها حديث، بل على أنها قرآن، وذلك خطأ، والخبر إذا وقع فيه الخطأ لم يحتج به، والله أعلم.
(و) يجوز (النسخ إلى بدل) كما في نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة.
(وإلى غير بدل) كما في نسخ قوله تعالى: ?إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة?.
(و) يجوز النسخ (إلى ما هو أغلظ) كما في نسخ التخيير بين صوم رمضان والفدية بالطعام إلى تعيين الصوم.
(و) يجوز النسخ (إلى ما هو أخف)، كما في قوله تعالى ?إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين?.
(ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب) كما في آيتي العدة وآيتي المصابرة.
(ونسخ السنة بالكتاب) كما في نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة الفعلية في حديث الصحيحين38 بقوله تعالى: ?فولّ وجهك شطر المسجد الحرام?.
(ونسخ السنة بالسنة) كما في حديث مسلم: ?كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها?39، ومراد المصنف بذلك ما عدا نسخ السنة المتواترة بالآحاد، فإنه سيصرح بعدم جوازه، ويأتي أن الصحيحَ جوازه.
وسكت عن التصريح ببيان حكم نسخ الكتاب بالسنة، لأنَّ كلامه الآتي يقتضي أنه يجوز بالسنة المتواترة ولا يجوز بالآحاد.
وقد اختلف في جواز ذلك ووقوعه، وقال في جمع الجوامع: "الصحيح أنه يجوز نسخ القرآن بالقرآن أو بالسنة"، أي سواء كانت متواترة أو آحاداً، ثم قال: "والحق أنه لم يقع إلا بالمتواترة".(1/32)
وقال الشارح40 في شرحه لجمع الجوامع: "وقيل: وقع بالآحاد في حديث الترمذي وغيره ?لا وصية لوارث?، فإنه ناسخ لقوله تعالى: ?كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين?، قلنا: لا نسلم عدم تواتر ذلك ونحوه للمجتهدين الحاكمين بالنسخ لقربهم من زمان النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى.
ويوجد في بعض نسخ الورقات: (ولا يجوز نسخ الكتاب بالسنة)، ويريد غير المتواترة، بدليل ما سيأتي، واختار القول بالمنع، وتقدّم أنه يجوِّز تخصيص الكتاب بالسنة، فكأنه رأى أن التخصيص أهون من النسخ.
(ويجوز نسخ المتواتر) من كتاب أو سنة (بالمتواتر) منهما.
(ونسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر، ولا يجوز نسخ المتواتر) كالقرآن والسنة المتواترة (بالآحاد)؛ لأنه دونه في القوة، وقد تقدَّم أن الصحيح الجواز، لأنَّ محلَّ النسخ هو الحكم، والدلالة عليه بالمتواتر ظنية، فهو كالآحاد، والله أعلم.
[باب التعارض والترجيح]
(فصل) في بيان ما يفعل (في التعارض) بين الأدلة.
وهو تَفَاعُلٌ مِنْ: عَرَضَ الشَّيءُ يَعْرِضُ، كأنَّ كلاً من النصين عرض للآخر حين خالفه.
(إذا تعارض نطقان) أي نصان من قول الله سبحانه وتعالى ومن قول رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أحدهما من قول الله تعالى والآخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فلا يخلو إما أن يكونا عامين أو خاصين أو أحدهما عاماً والآخر خاصاً أوكل واحد منهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه).
(فإن كانا عامين: فإن أمكن الجمع بينهما جمع)، وذلك بأن يحمل كل منهما على حال، إذ لا يمكن الجمع بينهما مع إجراء كل منهما على عمومه؛ لأنَّ ذلك محالٌ، لأنه يفضى إلى الجمع بين النقيضين، فإطلاق الجمع بينهما مجاز عن تخصيص كل واحد منهما بحال.(1/33)
مثاله حديث مسلم: ?ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها?41، وحديث الصحيحين: ?خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون بعدهم قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا?42، فحُمِلَ الأول على ما إذا كان مَن له الشهادة غير عالم بها، والثاني على ما إذا كان عالماً، وحمل بعضهم الأول على ما كان في حق الله كالطلاق والعتاق، والثاني على غير ذلك.
(وإن لم يكن الجمع بينهما) أي بين النصين (يتوقف فيهما) عن العمل بهما (إن لم يعلم التاريخ)، أي إلى أن يظهر مرجِّحٌ لأحدهما.
مثاله قوله تعالى: ?أو ما ملكت أيمانكم?، وقوله تعالى: ?وأن تجمعوا بين الأختين?، فالأول يجوِّز جمعَ الأختين بملك اليمين، والثاني يحرِّم ذلك، فتوقف فيهما عثمان رضي الله عنه لما سئل عنهما فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، ثم حكم الفقهاء بالتحريم لدليل آخر، وهو أن الأصل في الأبضاع التحريم.
(فإن علم التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر) كما في آيتي عدة الوفاة، وآيتي المصابرة.
والمراد بالمتأخر المتأخر في النزول لا في التلاوة والله أعلم.
(وكذا إذا كانا) أي النصان (خاصين)، أي وإن أمكن الجمع بينهما جمع كما في حديث ?أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وغسل رجليه?43 وهذا مشهور في الصحيحين وغيرهما، وحديث ?أنه توضأ ورش الماء على قدميه وهما في النعلين? رواه النسائي والبيهقي وغيرهما44، فجمع بينهما في حال التجديد لما في بعض الطرق: ?إن هذا وضوء من لم يحدث?45.
وقيل: المراد بالوضوء في حديث الغسل الوضوء الشرعي، وفي حديث الرش اللغوي وهو النظافة.
وقيل: إنه غسلهما في النعلين وسمي ذلك رشاً مجازاً.
وإن لم يمكن الجمع بينهما ولم يعلم التاريخ توقف فيهما إلى ظهور مرجح لأحدهما.(1/34)
مثاله ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض، فقال: ?ما فوق الإزار?، رواه أبو داود46، وجاء أنه قال: ?اصنعوا كل شيء إلا النكاح? أي الوطء، رواه مسلم47، ومن جملة ذلك الاستمتاع بما تحت الإزار، فتعارض فيه الحديثان فرجح بعضهم التحريم احتياطاً، وبعضهم الحل؛ لأنه الأصل في المنكوحة، والأول هو المشهور عندنا وعند الشافعية، وقال أبو حنيفة وجماعة من العلماء بالثاني.
ووقع في كلام الشرح بعد ذكر الحديث الثاني: "ومن جملة ذلك الوطء في ما فوق الإزار فيتعارض فيه الحديثان"، والظاهر أنه سهو، فإن ما فوق الإزار يجوز الاستمتاع به باتفاق العلماء، قال النووي في شرح مسلم: بل حكى جماعة كثيرة الإجماع عليه.
وإن علم التاريخ نسخ المتقدم بالمتأخر كما تقدم في حديث زيارة القبور.
(وإن كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً فيخصص العام بالخاص)، كحديث الصحيحين: ?فيما سقت السماء العشر?، وحديثهما ?ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة?48، فيخص الأول بالثاني، سواء وَرَدَا معاً أو تقدَّم أحدهما على الآخر أو جهل التاريخ.
(وإن كان أحدهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر) إن أمكن ذلك، وإلا احتيج إلى التاريخ.
مثال ما يمكن فيه التخصيص حديث أبى داود وغيره: ?إذا بلغ الماء قلتين فإنه لا ينجس?49، مع حديث ابن ماجه وغيره ?الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه?50، فالأول خاص في القلتين عام في المتغير وغيره، والثاني خاص في المتغير عام في القلتين وما دونهما.
فيخص عموم الأول بخصوص الثاني، فيحكم بأن ماء القلتين لا ينجس بالتغيير، وخص عموم الثاني بخصوص الأول فيحكم بأن ما دون القلتين ينجس وإن لم يتغير هذا مذهب الشافعية، ورجَّح المالكية الثاني لأنه نصٌ والأول إنما يعارضه بمفهومه، والقصد التمثيل.(1/35)
ومثال ما لا يمكن تخصيص عموم كل منهما بخصوص الآخر حديث البخاري ?من بدل دينه فاقتلوه?51، وحديث الصحيحين ?أنه صلى الله عليه وسلم نهي عن قتل النساء?52، فالأول عام في الرجال والنساء خاص بأهل الردة، والثاني خاص في النساء عام في الحربيات والمرتدات، فيتعارضان في المرتدة هل تقتل أم لا ؟ فيطلب الترجيح.
وقد رجح بقاء عموم الأول وتخصيص الثاني بالحربيات بحديث وَرَدَ في قتل المرتدة53، والله أعلم.
[باب الإجماع]
(وأما الإجماع) فهو ثالث الأدلة الشرعية الأربعة: أعني الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وهو لغةً العزمُ، كما في قوله تعالى: ?فأجمعوا أمركم?.
وأما في الاصطلاح: (فهو اتفاق علماء العصر) من أمة محمد صلى الله عليه وسلم (على حكم الحادثة).
فلا يُعتبَرُ وفاقَ العوام معهم على المعروف.
والعصرُ الزَّمَانُ.
(ونعنى بالعلماء الفقهاء)، يعنى المجتهدين، فلا يعتبر موافقة الأصوليين معهم.
(ونعنى بالحادثة الحادثة الشرعية) لأنها محل نظر الفقهاء، بخلاف غير الشرعية كاللغوية مثلاً فإنها محل نظر علماء اللغة.
(وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ?لا تجتمع أمتي على ضلاله?) رواه الترمذي وغيره54.
(والشرع ورد بعصمة هذه الأمة) لهذا الحديث وغيره.
(والإجماع حجة على العصر الثاني) ومن بعده.
(و) الإجماع حجة (في أي عصر كان)، سواء كان في عصر الصحابة أوفي عصر من بعده.
(ولا يشترط) في حجية الإجماع (انقراض العصر) بأن يموت أهله (على الصحيح)، لسكوت أدلة حجية الإجماع عن ذلك، فلو اجتمع المجتهدون في عصر على حكم لم يكن له ولا لغيره مخالفته.
وقيل: يشترط في حجيته انقراض المجتهدين؛ لجواز أن يطرأ لبعضهم ما يخالف اجتهاده فيرجع.
وأجيب: بأنا نمنع رجوعه للإجماع قبله.(1/36)
(فإن قلنا انقراض العصر شرط فيعتبر) في انعقاد الإجماع (قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار من أهل الاجتهاد) فإن خالفهم، لم ينعقد إجماعهم السابق، (فلهم) على هذا القول (أن يرجعوا عن ذلك الحكم) الذي أجمعوا عليه.
وعلى القول الصحيح لا يقدح في إجماعهم مخالفة من ولد في عصرهم ولا يجوز لهم الرجوع.
(والإجماع يصح بقولهم) أي بقول المجتهدين في حكم من الأحكام: إنه حلال أو حرام أو واجب أو مندوب أو غير ذلك وهذا هو الإجماع القولي.
(و) يصح أيضاً (بفعلهم)، فإن فعلوا فعلاً فيَدُلُّ فعلهم على جوازه وإلا كانوا مجمعين على الضلالة، وقد تقدم أنهم معصومون من ذلك.
قالوا: ولا يكاد يتحقق ذلك، فإنَّ الأمة متى فعلت شيئاً فلابد من متكلم بحكم ذلك الشيء.
وقد قيل: إن إجماعهم على إثبات القرآن في المصاحف إجماع فعلى وليس كذلك؛ لتقدم المشورة فيه بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وقيل: مثال الإجماع الفعلي إجماع الأمة على الختان، وهو مشروع بالإجماع الفعلي، أما وجوبه وسنيته مأخوذ من أقوالهم، وذلك أمر مختلف فيه.
(و) يصح الإجماع أيضاً (بقول البعض وبفعل البعض وانتشار ذلك) القول أو الفعل (وسكوت الباقين) من المجتهدين عنه مع علمهم به من غير إنكار، ويسمى ذلك بالإجماع السكوتي.
وظاهر كلام المصنف أنه إجماع، وفيه خلاف: فقيل: إنه إجماع، وقيل: إنه حجة وليس بإجماع، وقيل: ليس بإجماع ولا حجة55.
[حكم قول الصحابي]
(وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره) من الصحابة اتفاقاً ولا على غيره من غير الصحابة (على القول الجديد).
وفي القديم: هو حجة، وهو قول مالك رضي الله تعالى عنه56، لحديث: ?أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم? رواه ابن ماجه57.
وذكر الواحد لا مفهوم له فإن الخلاف جار فيما لم يجمعوا عليه.
(باب) يذكر فيه الكلام على الأخبار
وهكذا يوجد في بعض النسخ، وأكثر النسخ على سقوط لفظ الباب والاكتفاء بقوله:(1/37)
(وأما الأخبار) بفتح الهمزة، فهيَ جمعُ خبر، فيذكر تعريف الخبر أولاً ثم أقسامه.
(فالخبر ما يدخله الصدق والكذب)، بمعنى أنه محتمل لهما لا أنهما يدخلانه جميعاً، واحتماله لهما بالنظر إلى ذاته أي من حيث إنه خبر، كقولك: قام زيد، فالصدق مطابقته للواقع، والكذب عدم مطابقته للواقع.
وقد يقطع بصدق الخبر أو بكذبه بأمر خارجي، فالأول كخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، والثاني كقولك: الضدان يجتمعان لاستحالة ذلك عقلاً، فلا يخرجه القطع بصدقه ولا كذبه عن كونه خبراً.
(والخبر ينقسم إلى قسمين: آحاد ومتواتر).
(فالمتواتر) هو (ما يوجب العلم، وهو أن يروى جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم) وهكذا (إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه، ويكون في الأصل عن مشاهدة أو سماع لا عن اجتهاد).
كالإخبار عن مشاهدة مكة، وسماع خبر الله تعالى من النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف الإخبار عن أمر يجتهد فيه كإخبار الفلاسفة بقدم العالم.
(والآحاد) هو ما لا يبلغ إلى حد التواتر (هو الذي يوجب العمل) بمقتضاه (ولا يوجب العلم) لاحتمال الخطأ فيه، ولو بالسهو والنسيان.
(وينقسم) أي خبر الآحاد (إلى مرسل ومسند).
(فالمسند ما اتصل إسناده) بأن ذكر في السند رواته كلهم.
(والمرسل ما لم يتصل إسناده) بأن سقط بعض رواته من السند.
(فإن كان) المرسل (من مراسيل غير الصحابة) كأن يقول التابعي أومن بعده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فليس ذلك) المرسل (حجة) عند الشافعي؛ لاحتمال أن يكون الساقط مجروحاً، (إلا مراسيل سعد بن المسيب) بفتح المثناة التحتية وكسرها، وهو من كبار التابعين رضي الله عنهم، فإذا أسقط الصحابي وعزا الأحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم فإن مراسيله حجة، (فإنها فتشت) أي فتش عنها (فوجدت مسانيد)، أي رواها الصحابي الذي أسقطه (عن النبي) صلى الله عليه وسلم، وهو في الغالب صهره أبو زوجته، أي أبا هريرة رضي الله عنه.(1/38)
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه وجماعة من العلماء: المرسل حجة؛ لأنَّ الثقة لا يرسل الحديث إلا حيث يجزم بعدالة الراوي58.
وأما مراسيل الصحابة فحجَّةٌ؛ لأنهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي والصحابة كلهم عدول59، فإذا قال الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محمول على أنه سمعه من صحابي آخر فله حكم المسند.
وقولنا: (غالباً)، لأنه قد وجدت أحاديث رواها الصحابة عن التابعين، خلافاً لمن أنكر ذلك.
وهذا فيما علم أن الصحابي لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا لم يعلم ذلك وقال الصحابي: قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهو محمولٌ على أنَّه سمعه منه صلى الله عليه وسلم.
(والعنعنة) مصدَرُ عَنْعَنَ الحديثَ إذا رواه بكلمة "عن"، فقال: حدثنا فلان عن فلان، و(تدخل على الأسانيد) أي على الأحاديث المسندة فلا يخرجها عن حكم الإسناد إلى حكم الإرسال، فيكون الحديث المروي بها مسنداً لاتصال سنده في الظاهر لا مرسلاً.
(وإذا قرأ الشيخ) على الرواة وهم يسمعون فإنه (يجوز للراوي أن يقول حدثني) فلان (أو أخبرني).
(وإذا قرأ هو) أي الراوي (على الشيخ فيقول) الراوي: (أخبرني، ولا يقول حدثني)؛ لأنه لم يحدثه.
ومنهم من أجاز ذلك، وهو قول مالك رضي الله عنه وسفيان ومعظم الحجازيين، وعليه عُرْف أهل الحديث؛ لأنَّ القصدَ الإعلامُ بالرواية عن الشيخ.
وهذا إذا أطلق، وأما إذا قال: حدثني قراءةً عليه، فلا خلاف في جواز ذلك والله أعلم.
(وإن أجازه الشيخ من غير قراءة) من الشيخ عليه ولا منه على الشيخ (فيقول) الراوي: (أجازني أو أخبرني إجازة)، وفُهِمَ منه جواز الرواية بالإجازة وهو الصحيح، والله أعلم.
…
[باب القياس]
(وأما القياس) فهو الرابع من الأدلة الشرعية60.
وهو في اللغة: بمعنى التقدير، نحو: قِسْتُ الثَّوبَ، وبمعنى التشبيه نحو قولهم: يُقَاس المرء بالمرء.(1/39)
وأما في الاصطلاح: (فهو رد الفرع إلى الأصل بعلة تجمعهما في الحكم).
ومعنى ردِّ الفرع إلى الأصل جعلُه راجعاً إليه ومساوياً له في الحكم، كقياس الأرز على البُر في الربا، للعلِّة الجامعةِ بينهما، وهي الاقتيات والادخار للقوت عند المالكية، وكونه مطعوماً عند الشافعية.
[أقسام القياس]
(وهو) أي القياس (ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى قياس عله، وقياس دلالة، وقياس شبه).
(فقياس العلة) وهو القسم الأول: (ما كانت العلة فيه موجبة للحكم) أي مقتضية له، بمعنى أنه لا يحسن عقلاً تخلف الحكم عنها، ولو تخلف عنها لم يلزم منه محال، كما هو شأن العلل الشرعية.
وليس المرادُ الإيجابَ العقلي، بمعنى أنه يستحيل عقلاً تخلف الحكم عنها، وذلك كقياس تحريم ضرب الوالدين على التأفيف بجامع الإيذاء، فإنه لا يحسن في العقل إباحة الضرب مع تحريم التأفيف.
وقد اختلف في هذا النوع، فمنهم من جعل الدلالة فيه على الحكم قياسية، ومنهم من ذهب إلى أنها غير قياسية، وأنها من دلالة اللفظ على الحكم.
(و) القسم الثاني من أقسام القياس (قياس الدلالة وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر).
(وهو أن تكون العلة دالة على الحكم ولا تكون موجبة للحكم)، أي مقتضية له كما في القسم الأول.
وهذا النوع غالب أنواع الأقيسة، وهو ما يكون الحكم فيه لعلة مستنبطة لجواز أن يترتب الحكم عليها في الفروع ويجوز أن يتخلف.
وهذا النوع أضعف من الأول، فإنَّ العلَّةَ فيه دالة على الحكم وليست ظاهرة فيه ظهوراً لا يحسن معه تخلف الحكم.
وذلك كقياس مال الصبي على مال البالغ في وجوب الزكاة فيه، بجامع أنه مالٌ نامٍٍ.
ويجوز أن يقال: لا يجب في مال الصبي، كما قال أبو حنيفة61.
(و) القسم الثالث من أقسام القياس (قياس الشبه، وهو الفرع المتردد بين أصلين، فيلحق بأكثرهما شبهاً).(1/40)
كالعبد المقتول، فإنَّه مترددٌ في الضَّمانِ بين الإنسان الحرّ من حيث إنه آدمي، وبين البهيمة من حيث إنه مال، وهو بالمال أكثر شبهاً من الحر، بدليل أنه يباع ويورث ويوقف وتضمن أجزاؤه بما نقص من قيمته، فيلحق به وتضمن قيمته وإن زادت على دية الحر.
وهذا النوع أضعف من الذي قبله ولذلك اختلف في قبوله، (ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله) والله أعلم.
[أركان القياس]
وأركانُ القياسِ أربعةٌ: الفََرعُ والأصلُ والعِلَّةُ وحُكْمُ الأصْلِ المقيس عليه، ولكل واحد منها شروط.
(ومن شرط الفرع أن يكون مناسباً للأصل) في الأمر الذي يجمع بينهما للحكم، بأن تكون علَّةُ الفرع مماثلة لعلَّةِ الأصل:
في عينها: كقياس النبيذ على الخمر لعلة الإسكار،
أو في جنسها: كقياس وجوب القصاص في الأطراف على القصاص في النفس بجامع الجناية.
وقد يقال بأنه يستغنى عن هذا الشرط بقوله في حد القياس: رد الفرع إلى الأصل لعلة تجمعهما في الحكم.
(ومن شرط الأصل أن يكون) حكمه (ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين)، بأن يتفقا على عِلَّةِ حكمِه ليكون القياس حجة على الخصم.
فإن كان حكم الأصل متفقاً عليه بينهما ولكن لعلتين مختلفتين لم يصح القياس.
فإن لم يكن خصم فالشرط ثبوت حكم الأصل بدليلٍ يقول به القايس.
(ومن شرط العلة أن تطَّرد في معلولاتها) بحيث كلما وجدت الأوصاف المعبر بها عنها في صورةٍ، وجد الحكم، (فلا تنتقض لفظاً) بأن تصدق الأوصاف المعبر بها عنها في صورة لا يوجد الحكم معها، (ولا معنى) بأن يوجد المعنى المعلل به ولا يوجد الحكم، فمتى انقضت العلة لفظاً أو معنى فسد القياس.
مثال الأول: أن يقال في القتل بمُثقَّل إنه قتلُ عمدٍ عدوان، فيجب به القصاص كالقتل بالمحدَّد، فينتقض ذلك بقتل الوالد ولده فإنه لا يوجب القصاص مع أنه قتل عمد عدوان62.(1/41)
ومثال الثاني أن يقال: تجب الزكاة في المواشي لدفع حاجة الفقير، فيقال: ينتقض ذلك بوجود ذلك المعنى وهو دفع حاجة الفقير في الجواهر.
والمرجع في الانتقاض لفظاً ومعنى إلى وجود العلة بدون الحكم، وإنما غاير بينهما لأن العلة في الأول لما كانت مُركّبة من أوصاف متعددة نظر فيها إلى جانب اللفظ، ولما كانت في الثاني أمراً واحداً نظر فيها إلى المعنى وكأنه مجرد اصطلاح والله أعلم.
(ومن شرط الحكم أن يكون مثل العلة)، أي تابعاً لها (في النفي والإثبات)، أي في الوجود والعدم.
(فإن وجدت العلة وجد الحكم) وإن انتفت انتفى، وهذا إن كان الحكم معللاً بعلة واحدة كتحريم الخمر فإنه معلل بالإسكار، فمتى وجد الإسكار وجد الحكم ومتى انتفي انتفى.
وأما إذا كان الحكم معللاً بِعِلَلٍ فإنه لا يلزم من انتفاء بعض تلك العلل انتفاء الحكم، كالقتل فإنه يجب بسبب الردة والزنى بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة المماثلة وترك الصلاة وغير ذلك والله أعلم.
[تعريف العلة]
(والعلة هي الجالبة للحكم)، أي الوصف المناسب لترتب الحكم عليه، كرفع حاجة الفقير فإنه وصف مناسب لإيجاب الزكاة.
(والحكم هو المجلوب للعلة) أي هو الأمر الذي يصح ترتبه على العلة.
ولما فرغ من ذكر الدلائل الشرعية المتفق عليها شرع يذكر الدلائل المختلف فيها63، فمنها أن يقال: إن الأصل في الأشياء الحرمة أو الإباحة فقال:
[فصل في الحظر والإباحة]
(وأما الحظر) أي الحرمة (والإباحة، فمن الناس من يقول: إن الأشياء) بعد البعثة (على الحظر)، أي مستمرة على الحرمة؛ لأنها الأصل فيها، (إلا ما أباحته الشريعة).
والاستثناء منقطع، فإن ما أباحته الشريعة الأصل فيه أيضاً الحرمة عنده.
(فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة يتمسك بالأصل) وهو الحظر.
(ومن الناس من يقول بضده)، أي بضد هذا القول، (وهو أن الأصل في الأشياء) بعد البعثة (أنها على الإباحة إلا ما حظره الشرع) أي حرَّمَه.(1/42)
والصحيح التفصيل: وهو أنَّ أصلَ المضار التحريم، والمنافع الحل، قال الله تعالى: ?خلق لكم ما في الأرض جميعاً? ذكره في معرض الامتنان، ولا يمتن إلا بجائز.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه وغيره: ?لا ضرر ولا ضرار?64، أي في ديننا، أي لا يجوز ذلك.
وهذا حكم الأشياء بعد البعثة، وأما قبل البعثة فليس هناك حكم شرعي يتعلق بشيء لانتفاء الرسول المبين للأحكام65.
[فصل في الاستصحاب]
ومن الأدلة المختلف فيها الاستصحاب، ولما كان الاستصحاب له معنيان أحدهما متفق على قبوله أشار إليه بقوله:
(ومعنى استصحاب الحال الذي يحتج به) عند عدم الدليل الشرعي كما سيأتي (أن يستصحب الأصل)، أي العدم الأصلي (عند عدم الدليل الشرعي)، إذا لم يجده المجتهد بعد البحث عنه بقدر طاقته.
كأن لم يجد دليلاً على وجوب صوم رجب فيقول: لا يجب؛ لاستصحاب الأصل، أي العدم الأصلي.
وعلى وجوب صلاة زائدة على الخمس فإن الأصل عدمه.
وأما الاستصحاب بالمعنى الثاني المختلف فيه وهو ثبوت أمر في الزمان الثاني لثبوته في الأول، فهو حجة عند المالكية والشافعية دون الحنفية.
ولما فرغ من ذكر الأدلة شرع في بيان الترجيح بينها فقال:
[فصل في ترتيب الأدلة]
(وأما الأدلة فيقدم الجلي) منها (على الخفي)، وذلك كالظاهر على المؤول، واللفظ في معناه الحقيقي على معناه المجازى.
(و) يقدم الدليل (الموجب للعلم على) الدليل (الموجب للظن)، فيقدّم المتواتر على الآحاد، إلا أن يكون الأول عاماً فيخصُّ به كما تقدم في تخصيص الكتاب بالسنة.
ويقدم (النطق) أي النص من كتاب أو سنة (على القياس)، إلا أن يكون النطق عاماً فيخص بالقياس كما تقدم66.
(و) يقدم (القياس الجلي) كقياس العلة (على) القياس (الخفي) كقياس الشبه.(1/43)
(فإن وجد في النطق) أي النص من كتاب أو سنة (ما يفسر الأصل) أي العدم الأصلي الذي يعبر عنه باستصحاب الحال كما تقدم فواضح أنه يعمل بالنطق ويترك الأصل، وكذا إن وجد إجماع أو قياس.
(وإلا) أي وإن لم يوجد شيء من ذلك (فيستصحب الحال) أي العدم الأصلي فيعمل به كما تقدم.
ولما فرغ من الكلام عن الأدلة شرع يتكلم على الاجتهاد فذكر شروط المجتهد فقال:
[فصل في الاجتهاد والتقليد]
(ومن شرط المفتى) وهو المجتهد (أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً خلافاً ومذهباً).
مراده بالأصل دلائل الفقه المذكورة في علم أصول الفقه67، وفي إدخالها في الفقه كما تقتضيه عبارته مسامحة.
ويحتمل أن يريد بالأصل أمهات المسائل التي هي كالقواعد ويتفرع عليها غيرها، لكن يفوته التنبيه على معرفة أصول الفقه إلا أن يدخل ذلك في قوله كامل الأدلة.
ومراده بالفروع المسائل المدونة في كتب الفقه.
ومراده بالخلاف المسائل المختلف فيها بين العلماء.
وبالمذهب ما يستقر عليه رأيه، هذا إن حمل على المجتهد المطلق، وإن حمل على المجتهد المقيد فمراده بالمذهب ما يستقر عليه رأي إمامه.
وفائدة معرفة الخلاف ليذهب إلى قول منه، ولا يخرج منه بإحداث قول آخر، لأن فيه خرقاً لإجماع من قبله، حيث لم يذهبوا إلى ذلك القول.
(و) من شرط المفتي أيضاً (أن يكون كامل الأدلة في الاجتهاد).
ويحتمل أن يريد بكمال الأدلة صحة الذهن وجودة الفهم بعده، فيكون ما بعده شرطاً آخراً، ويحتمل أن يريد بكمال الأدلة ما ذكره بعده فيكون تفسيراً له، أعني قوله: (عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام) من النحو والفقه ومعرفة الرجال الراوين للحديث، ليأخذ برواية المقبول منه دون المجروح.
وإذا أخذ الأحاديث من الكتب التي التزم مصنفوها تخريج الصحيح كالموطأ والبخاري ومسلم لم يحتَج إلى معرفة الرجال.
(وتفسير الآيات الواردة في الأحكام والأخبار الواردة فيها) ليوافق ذلك في اجتهاده ولا يخالفه.(1/44)
والمراد من ذلك معرفة ما يتعلق بفقه تلك الآيات وفقه تلك الأخبار دون معرفة القصص.
ولا يشترط أن يكون حافظاً للقرآن ولا لآيات الأحكام منه ولا محيطاً بالأحاديث والآثار الواردة في الأحكام.
قال الشافعي رضي الله عنه: لا تجتمع السنن كلها عند أحد، فالمراد أن يكون عالماً بجملة من الأحاديث الواردة في الأحكام المشهورة عند أهل العلم وعالماً بفقهها، ولا يشترط أن يعرف الأحاديث الغريبة ولا تفسير غريب الحديث، وإن كان معرفة ذلك تزيده تمكيناً.
(ومن شروط المستفتى أن يكون من أهل التقليد)، أي ليس من أهل الاجتهاد لكونه لم يجتمع فيه شروطه، (فيقلد المفتي) أي المجتهد (في الفتوى).
وأشار بذلك إلى مسألتين:
إحداهما: أنه لا يجوز تقليد كل أحد، بل إنما يقلد المجتهد إن وجده.
والثاني: أنه إنما يقلده في الفتوى، ولا يقلده في الأفعال، فلو رأى الجاهلُ العالمَ يفعل فعلاً لم يجز له تقليده فيه حتى يسأله، إذ لعلَّه فعله لأمر لم يظهر له، أي المقلد.
وعُلِمَ منه أن من كان من أهل الاجتهاد لم يجز له أن يقلد غيره كما نبه عليه بقوله: (وليس للعالم) أي المجتهد (أن يقلد) غيره، لتمكنه من الاجتهاد، هذا هو الصحيح، وقيل: يجوز.
(والتقليد قبول قول القائل بلا حجة) يذكرها.
(فعلى هذا قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم) فيما يذكره من الأحكام (لا يسمى تقليداً)، لأنه يجب الأخذ بقوله فيما يذكره من الأحكام، وإن لم يذكر دليل ذلك الحكم، لأنه قد قام الدليل على قبول قوله، أعني المعجزة الدالة على رسالته.
(ومنهم من قال التقليد قبول قول القائل وأنت لا تدرى من أين قاله) أي لا تعلم مأخذ ذلك القول عند قائله.
(فإن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بالقياس) أي يجتهد ولا يقتصر على الوحي (فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليداً)، لاحتمال أن يكون قاله عن اجتهاد.(1/45)
وإن قلنا: إنه لا يجتهد وإنما يقول عن وحي لقوله تعالى: ?وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى? فلا يسمى قبول قوله تقليداً لإسناده إلى الوحي.
وهذه المسألة فيها خلاف، أعني مسألة اجتهاده صلى الله عليه وسلم والصحيح جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم ووقوعه منه، وهو الذي رجحه ابن الحاجب.
وقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز في الآراء والحروب.
والصواب أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يخطئ.
[تعريف الاجتهاد]
ولما ذكر أن الاجتهاد يجب على من اجتمعت فيه شروطه عرفه بقوله: (وأما الاجتهاد فهو بذل الوسع) أي تمام الطاقة (في بلوغ الغرض) المقصود من العلم لتحصيله، بأن يبذل تمام طاقته في النظر في الأدلة الشرعية ليحصل الظن بالحكم الشرعي.
(فالمجتهد إن كان كامل الأدلة في الاجتهاد) الذي تقدم ذكره فهو المجتهد المطلق، ودونه مجتهد المذهب وهو المتمكن من أن يخرج الدليل منصوصاً زائداً على نصوص إمامه، ودونه مجتهد الفتوى وهو المجتهد المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من تخريج ترجيح قول آخر.
فإن اجتهد كل واحد من هؤلاء (في الفروع فأصاب فله أجران) أجر على اجتهاده وأجر على إصابته.
(وإن اجتهد) في الفروع (وأخطأ فله أجر واحد) على اجتهاده، وسيأتي دليل ذلك، ولا إثم عليه لخطئه على الصحيح، إلا أن يُقَصِّرَ في اجتهاده فيأثم لتقصيره وفاقاً.
(ومنهم) أي من علمائنا (من قال: كل مجتهد في الفروع) التي لا قاطع فيها (مصيب)، بناءاً على أنَّ حُكْمَ الله في حَقِّهِ وَحَقِّ من قلده ما أداه إليه اجتهاده.
وهذا قول الشيخ أبى الحسن والقاضي أبى بكر الباقلاني من المالكية وغيرهما، والمنقول عن مالك أن المصيب واحد.
وأما الفروع التي فيها قاطع من نص أو إجماع فالمصيب فيها واحد وفاقاً، فإن أخطأ فيها المجتهد لعدم وقوعها عليه لم يأثم على الأصح.(1/46)
(ولا يجوز) أن يقال: (كل مجتهد في الأصول الكلامية) أي العقائد الدينية (مصيب؛ لأن ذلك يؤدى إلى تصويب أهل الضلالة) من النصارى القائلين بالتثليث، (والمجوس) القائلين (بالأصلين) للعالم النور والظلمة، (والكفار) في نفيهم التوحيد وبعثة الرسل والميعاد في الآخرة68.
وهو من عطف العام على الخاص، وكذلك قوله: (والملحدين) إن أريد بالإلحاد معناه اللغوي وهو مطلق الميل عن الحق، وإن أريد بالملحد اصطلاحاً وهو من يدعي أنه من أهل ملة الإسلام ويصدر عنه من ينافيه كالمعتزلة ونحوهم في نفيهم صفات الله تعالى كالكلام وخلق الله لأفعال العباد وكونه مرئياً في الآخرة وغير ذلك - فليس من عطف العام على الخاص.
(ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً قوله صلى الله عليه وسلم: ?من اجتهد وأصاب له أجران ومن اجتهد وأخطأ له أجر واحد?)، رواه الشيخان ولفظ البخاري: ?إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد?، ذكره في كتاب الاعتصام، ولفظ مسلم مثله إلا أنه قال: ?فاجتهد ثم أصاب? إلى آخره، ذكره في كتاب القضاء69.
(ووجه الدليل) من الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ المجتهد تارة وصوبه أخرى).
فإن قيل: قوله في الحديث ?من اجتهد? أعمُّ من أن يكون كامل الأدلة في اجتهاده أو لا، والمصنِّف خصَّه بكونه كامل الأدلة.
فالجواب والله أعلم: أن من لم يكن كامل الأدلة فيما اجتهد فليس من أهل الاجتهاد وفرضه التقليد، فهو معتد باجتهاده فيكون آثماً غير مأجور، والله أعلم.
ووقع الحديث المذكور في رواية عند الحاكم بلفظ: ?إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد فإن أصاب فله عشرة أجور?، وقال: صحيح الإسناد70.
وهذا ما يسره الله سبحانه وتعالى في جمعه في شرح الورقات، جعل الله ذلك خالصاً لوجهه الكريم، ونفع به في الحياة بعد الممات، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.(1/47)
ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، أعوذ بك اللهمَّ من شَرِّ هؤلاء الأربع.
ونسأل الله العظيم بجاه نبيه الكريم أن يصلحَ فسادَ قلوبنا ويوفقنا لما يرضيه عنا، ويغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ووالديهم وإخوانهم وأصحابنا وأحبابنا وجميع المسلمين بمنه وكرمه، آمين71.
1 بالنسبة لصحيح الإمام البخاري، فقد استخدمتُ في العزو إليه شرحه فتح الباري للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى.
2 انظر في ترجمة هذا الإمام مقدمة الدكتور أحمد سحنون، لكتاب "تحرير المقالة في شرح نظائر الرسالة"، من مؤلفات الإمام الحطاب، ص 87-125، فقد ذكر الكثير من جوانب حياة هذا الإمام، وذكر مصنفاته، المطبوع منها والمخطوط.
3 هو الإمام جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد المَحَلِّي، الفقيه الشافعي، ولد سنة 790 هـ، وتوفي سنة 864 هـ، من تصانيفه: الأنوار المضية في مدح خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم، وشرح جمع الجوامع للتاج الدين السبكي، وتفسير القرآن إلى سورة الإسراء، وأكمله الإمام السيوطي، وغيرها، انظر هدية المؤلفين لإسماعيل باشا (6/202).
4 انظر ترجمة إمام الحرمين رحمه الله تعالى في طبقات الشافعية الكبرى، للإمام تاج الدين السبكي (5/165)، فقد استوفى ترجمته بما لا تجده في مكان آخر، ورد على من حاول انتقاص هذا الإمام الجليل.
5 جاءت في الأصل: بنشقال، وهو تحريف، والصواب ما أثبته من طبقات الشافعية (5/181).
6 المدرسة النظامية تنسب إلى نظام الملك، وهو الوزير الكبير العالم العادل، ناصر السنة أبو علي الحسن ابن علي بن إسحاق الطوسي الشافعي، ولد سنة 408 هـ، واستشهد في العاشر من رمضان سنة 485هـ على أيدي الباطنية الإسماعيلية، وهم طائفة كافرة مارقة عن الدين، وانظر لزاماً طبقات الشافعية الكبرى (4/309).(1/48)
7 منها كتاب (البرهان في أصول الفقه) وهو من أهم كتب الأصول، وقد طبع بتحقيق الدكتور عبد العظيم ديب، في مجلدين، وله أيضاً في العقائد كتاب (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) و(العقيدة النظامية)، وغيرها.
8 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69)، وهذا الحديث بهذا اللفظ واه جداً، انظر جزء: الاستعاذة والحسبلة ممن صحح حديث البسملة، لخاتمة الحفاظ السيد أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله، وأما بلفظ "الحمد لله" فهو حسن كما سيذكر المصنف بعد قليل.
9 انظر المسند (2/359).
10 أي: وأحسن من قولهم.
11 أي في ألفاظ الوقف.
12 لكن الصحيح أن يقال في حد الواجب: هو ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً، والمندوب: ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم، والحرام: ما طلب الشارع تركه طلباً جازماً، والمكروه: ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم، والمباح ما استوى فيه طلب الفعل والترك.
13 انظر الكلام حول حدِّ العلم في المحصول للإمام الرازي (1/83)، والبرهان للإمام الجويني (1/97)، واعلم أن العلم يصعب حده كما قال الإمام الغزالي في المستصفى (1/24)، والسبيل إلى معرفته يكون بالتقسيم والتقريب، والله أعلم.
14 التصور هو إدراك الشيء المفرد دون أي علاقة، مثل: إدراك الكرسي، وإدراك زيد. والتصديقُ هو إدراك النسبة بين تصورين، كإدراك أن زيداً موجود، وأن الفاعل مرفوع، قال صاحب السُّلَّم (من متون علم المنطق):
إدراكُ مفردٍ تَصَوُّرَاً عُلِم……وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْدِيقٍ وُسِم
15 يجب التنبه إلى الفرق بين القطع والظن والشك، حتى لا تختلط الأمور على طالب العلم، لأنه لا يجوز أن نجعل الظني في منزلة القطعي، ولا القطعي في منزلة الظني، ومن لم يفهم هذا يقع في أخطاء كبيرة.
16 فتح الباري (1/578)، وصحيح مسلم (2/966).
17 والبخاري أيضاً، انظر: فتح الباري (4/378)، وصحيح مسلم (3/1211).(1/49)
18 وهناك مباحث متممة لعلم الأصول تجدها في الكتب المطولة، وإنما اقتصر هنا على المباحث الضرورية من علم الأصول.
19 وهو واقع في اللغة والقرآن، وذهب شذوذ من الناس إلى نفيه من اللغة والقرآن، وهو خطأ قطعاً، وانظر في ذلك كتاب " المجاز في اللغة والقرآن بين المثبتين والنافين "، للدكتور عبد العظيم المطعني، فقد بحث هذه المسألة بتحقيق بالغ، فجزاه الله خيراً، والكتاب مطبوع في جزأين، تلزم مطالعته لطالب العلم.
20 هو الإمام العلامة الأصولي المتكلم الفقيه الأديب سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله الهروي الخراساني، الشهير بالتِّفْتازاني، ولد سنة 722هـ، وتوفي بسمرقند في المحرم سنة 792هـ، من تصانيفه: "التلويح في كشف حقائق التنقيح" مطبوع، و"شرح العقائد النسفية" مطبوع، وغيرها كثير، انظر هدية العارفين (6/429).
21 هو الشيخ الإمام جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القَزْويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق، المتوفى سنة 739 هـ، له عدة مصنفات نافعة، ومن أشهرها في علوم العربية "تلخيص المفتاح في المعاني والبيان" وهو متن مشهور، عليه شروح عديدة وحواش، انظر كشف الظنون (1/473).
22 قال الإمام القرافي في شرح التنقيح ص 130 ما نصه: "وهو عنده -أي الإمام مالك- للتكرار، قاله ابن القصار من استقراء كلامه" ثم قال أيضاً: " ويدل على التكرار أنه لو لم يكن للتكرار لامتنع ورود النسخ عليه بعد الفعل، ولأنه ضد النهي، وهو للتكرار، لأن العرب تحمل الشيء على ضده، كما تحمله على مثله" انتهى.
23 وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، قال الإمام القرافي في شرح التنقيح ص 128 ما نصه: "وهو عنده -أي الإمام مالك- للفور، وعند الحنفية، خلافاً لأصحابنا المغاربة" انتهى.(1/50)
24 يعلم من هذا أن القائل بأن النصارى واليهود وغيرهم من الكفار غير مطالبين بالدخول في الإسلام أنه كافر مرتد والعياذ بالله تعالى، وذلك لإجماع المسلمين قاطبة على أن رسالة الإسلام شاملة لكل الناس عرباً وعجماً، أبيض وأسود، وكذا للجن، قال تعالى: ?ليكون للعالمين نذيراً?، وللإمام تقي الدين السبكي رسالة في عموم الرسالة، مطبوعة ضمن فتاواه، انظرها فهي مفيدة.
25 ولقوله تعالى: ?قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف?.
26 وللإمام القرافي رحمه الله كتاب "العقد المنظوم في الخصوص والعموم"، استقرأ فيه كثيراً من مباحث العام والخاص، واستوعب ألفاظ العموم، وهو نفيس جداً في بابه، تلزم مطالعته لطالب العلم.
27 انظر فتح الباري (2/579).
28 انظر سنن النسائي (7/321).
29 الصحيح أن المنقول عن ابن عباس رضي الله عنه الاستثناء من اليمين بالله تعالى، وليس الاستثناء من الكلام.
30 انظر فتح الباري (12/50)، وصحيح مسلم (3/1233)، ورواه غيرهما.
31 انظر فتح الباري (12/329)، وصحيح مسلم (1/204).
32 انظر فتح الباري (3/347)، وصحيح مسلم (2/675).
33 انظر فتح الباري (3/310)، وصحيح مسلم (2/674).
34 انظر فتح الباري (9/534)، وصحيح مسلم (2/1543).
35 انظر صحيح مسلم: (3/1628).
تنبيه: لم يتعرض المصنف ولا الشارح رحمهما الله تعالى إلى مسألة مهمة، وهي أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل شيء، لا يدل على حرمة المتروك، إلا إذا كانت هناك قرينة تدل على الحرمة، وعندها لا يسمى هذا تركاً وإنما يسمى كفَّاً، فعدم فعله صلى الله عليه وسلم لا يفيد إلا جواز الترك، وانظر لزاماً رسالة شيخنا الإمام سيدي أبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله المسماة: حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، وهي مطبوعة ونفيسة.
36 انظر الموطأ (2/824).
37 انظر صحيح مسلم (2/1075)، ورواه أيضاً مالك والشافعي وغيرهما.
38 انظر فتح الباري 08/173)، وصحيح مسلم (1/375).(1/51)
39 انظر صحيح مسلم (2/672)، لكنه رواه بلفظ ?نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها?. بحذف (كنت).
40 الإمام جلال الدين المحلي، شارح الورقات.
41 انظر صحيح مسلم (3/1344).
42 انظر فتح الباري (5/259)، وصحيح مسلم (4/1963).
43 انظر فتح الباري (1/294)، وصحيح مسلم (1/213).
44 انظر سنن البيهقي (1/72)، وسنن النسائي (1/85).
45 انظر سنن النسائي (1/85).
46 انظر سنن أبي داود (1/55).
47 انظر صحيح مسلم (1/246).
48 تقدم تخريجهما.
49 انظر سنن أبي داود (1/17)، والترمذي (1/97).
50 انظر سنن ابن ماجة (1/174).
51 انظر فتح الباري (12/176).
52 انظر فتح الباري (6/148)، وصحيح مسلم (3/1364).
53 انظر فتح الباري (12/268)، وسنن الدارقطني (4/216-217).
54 انظر سنن الترمذي (4/465-466)، ويعد هذا الحديث من الأحاديث المتواتر معنوياً، كما قال سيدي الإمام عبد الله بن الصديق الغماري في "الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج" ص180، وما بعدها.
55 فائدة: الراجح في مذهبنا أن إجماع أهل المدينة حجة فيما طريقه النقل، وليس هو بحجة عند الجمهور، واعتبره بعضهم مرجحاً عند التعارض، ودليلنا على حجيته أن إجماعهم فيما من شأنه النقل مثل التواتر، ولذلك نرد خبر الواحد إذا خالف عمل أهل المدينة، وانظر تفصيل ذلك في إحكام الفصول للإمام الباجي، ومقدمة القاضي عياض لترتيب المدارك، والجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة للمشاط، والله أعلم.
56 اختلف علماؤنا في تحرير مذهب الإمام مالك في حجية قول الصحابي، والراجح -والله أعلم- أنه حجة إذا لم يخالفه أحد غيره، من الصحابة، وليس بحجة إذا خالفه غيره، انظر إحكام الفصول ص360، والمنهاج ص 23 كلاهما للإمام الباجي، ونشر البنود للشنقيطي، والله أعلم.
57 هذا الحديث بهذا اللفظ لا يصح، بل نص العديد من الحفاظ على بطلانه، انظر: الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج، ص 205.(1/52)
58 ولهذا الخلاف أثر كبير في الفقه الإسلامي، فيجب الانتباه إليه عند البحث في أدلة المجتهدين.
فائدة: واشترط الإمام مالك رحمه الله في قبول الحديث أن يكون راويه فقيهاً، وذلك بسبب أن الرواة كانوا يروون الحديث بالمعنى ولا يأتون في أحيان كثيرة باللفظ، فيدخل الخطأ في الفهم فيؤثر ذلك في الاستنباط، انظر شرح التنقيح للإمام القرافي ص 369.
59 فلا يجوز لأحد أن يطعن فيهم، وقد نص علماؤنا على أن الطاعن في جل الصحابة رضوان الله عليهم مرتد، انظر شرح الإمام الحطاب لمختصر سيدي خليل (6/284).
60 وشذ الظاهرية فأنكروا حجية القياس على العلل المستنبطة، ورأيهم هذا ساقط جداً، لأنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فمن أنكر حجية القياس فقد خرق الإجماع، ولذا حكم الإمام أبو الوليد ابن رشد الجد بسقوط عدالة منكري القياس، كما في فتاواه، وانظر لزاماً كتاب: "أقيسة النبي صلى الله عليه وسلم" لناصح الدين ابن الحنبلي رحمه الله، فهو مهم.
61 وهذا النوع من القياس داخل في العبادات، خلافاً لما يراه بعض المعاصرين من حرمة القياس في العبادات، هكذا بإطلاق!! على أن الأصل في الأحكام الشرعية عندنا أنها معقولة المعنى، كما نص على ذلك الإمام المقَّري في قواعده وابن عبد البر في التمهيد، فتنبه لذلك، والله أعلم.
62 المعتمد في المذهب المالكي أن الوالد يقتل بولده إن كان قتله عمداً، فلا ينتقض القياس في المذهب.
63 فائدة: اعلم أن الاقتصار على هذه الأدلة هو مذهب السادة الشافعية، أما مذهبنا -المالكية- فزاد على ذلك: إجماع أهل المدينة، والاستحسان، ومراعاة الخلاف، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، والأخذ بالأخف، والأخذ بالعوائد، انظر تفصيل ذلك في شرح تنقيح الفصول للإمام القرافي، والجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة للإمام المشاط، والله أعلم.(1/53)
64 رواه ابن ماجه في سننه (2/784)، ومالك في الموطأ (2/745)، وغيرهما، وهو حديث صحيح، انظر الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج ص 241.
65 فلا يكون عليهم تكليف، وبالتالي لا عقاب عليهم، لقوله تعالى: ?وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا?، مع قوله تعالى: ?لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم?، وهؤلاء يسمون بأهل الفترة.
66 ومذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى تقديم القياس على خبر الواحد، قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى في شرح التنقيح ص 387، ما نصه: "وهو -أي القياس- مقدم على خبر الواحد عند مالك رحمه الله، لأن الخبر إنما ورد لتحصيل الحكم، والقياس متضمن للحكمة، فيقدم على الخبر"، واختلف أصوليو المذهب في هذا المسألة على قولين، والله أعلم.
67 فاعجب أخي الكريم من أناس يزعمون الاجتهاد وهم لا يتقنون مسائل هذا الفن، بل ولا درسوها حق الدراسة، ثم تراهم يزعمون اتباع الحديث الشريف، وهم ليسوا بحفاظ له ولا عالمين بعلله وخفاياه، فيخطّئون الأئمة ويخالفونهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإن قال قائل: فما فائدة دراسة هذا العلم ثم عدم الاجتهاد في مسائل الفقه، والاجتهاد هو ثمرة هذا العلم؟
فالجواب: أنه لو لم يكن لدراسة علم الأصول فائدة إلا معرفة أوجه الاستدلال عند المجتهدين لكفى ذلك!! على أنه لا حجر على من اجتمعت فيه شروط الاجتهاد مع شهادة العلماء له من الخوض فيه، لكن ليس لكل من هب ودبَّ كما هو مشاهد في حق كثير من الناس، والله أعلم.
68 فكل من أتى بقول مخالف للقواطع اليقينية في العقائد لم يعذر بجهل، وإنما يعتبر ضالاً أو كافراً مرتداً، وانظر تفصيل ذلك في مباحث الردة من كتب الفقه، والله أعلم.
69 انظر فتح الباري (13/318)، وصحيح مسلم (3/193).
70 انظر مستدرك الحاكم (4/88)، لكن بلفظ مختلف عما هنا، والله أعلم.(1/54)
71 قال خادم العلم والعلماء جلال الجهاني: انتهيتُ من خدمة هذا الكتاب، والتعليق عليه، ليلة السبت الرابع من شهر رجب عام 1414هـ، ونسأل الله الهداية والتوفيق وأن يفرج عن أمتنا ما تواجهه من محن وشدائد، آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملاحظة: ثم أعدتُ النظر فيه مرة أخرى، بمهجري بمدينة ليدن بالمملكة الهولندية، وانتهيت من ذلك ليلة الخميس التاسع من شهر ذي القعدة سنة 1422هـ، والله الموفق.
??
??
??
??
10(1/55)