قاعدة سدّ الذَّرائع في أصول الفقه
( د. مُحَمَّد عبد الكريم بركات (1)
مُقَدِّمَة:
الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيّدنا ونبينا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذا بحث في: (قاعدة سدّ الذَّرائع) وكانت رغبتي شديدة في أنْ أطرق هذا الموضوع؛ لأنَّه أصل معتبر، مشهود له بالصّحة بدلائل القرآن العظيم، والسُّنَّة النَّبويّة، وعمل الصَّحابة، ومصدر فقهي تستقى منه الأحكام، وقد أخذ به الأئمة المجتهدون، وكان أكثرهم أخذاً بهذا المصدر الإمام بن أنس الأصبحيّ، والإمام أحمد بن حنبل الشَّيبانيّ.
وتُعَدُّ (قادة سدّ الذَّرائع) من أهم الموضوعات التي استحوذت على اهتمام الباحثين في أصول الفقه، لِمَا لها من أثر فعَّال على حياة الإنسان وسلوكه.
لذلك آثرت أنْ أكتب في هذه المسألة المهمة بوحدة موضوعيّة، ورؤية واقعيّة حديثة، مستعرضاً فيها أقوال العلماء، ومعتمداً على كتب الحديث الشَّريف، والفقه وأصوله، وما ألَّفه العلماء قديماً وحديثاً قدر الإمكان، سائلاً المولى عزَّ وجلَّ التَّوفيق والسَّداد.
وقد اقتضت طبيعة هذا البحث أنْ يكون من مُقَدِّمَة، وستة مباحث، وخاتمة.
المبحث الأوَّل: تعريف القاعدة الفقهيّة لغة واصطلاحاً.
المبحث الثَّاني: الفرق بين القاعدة الفقهيّة والقاعدة الأصوليّة.
المبحث الثَّالث: تعريف سدّ الذَّرائع لغة واصطلاحاً.
المبحث الرَّابع: أقسام الذَّرائع.
المبحث الخامس: حُجَّيّة سدّ الذَّرائع.
المبحث السَّادس: تطبيقات فقهيّة على قاعدة سدّ الذَّرائع.
الخاتمة: وتضمَّنت أهم النَّتائج التي توصّلت إليها من خلال هذه الدِّراسة.
__________
(1) (() رئيس قسم الدِّراسات الإسلاميّة بكلية التَّربية والآداب والعلوم ـ جامعة صنعاء (صعدة ـ اليمن).(1/1)
والله أسأل أنْ يوفِّقني إلى الصَّواب، ويجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، إنَّه سميع مجيب، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
المبحث الأوَّل: تعريف القاعدة الفقهيّة
[أ] معنى القاعدة في اللُّغة:
القاعدة: الأساس، وهي تُجمع على قواعد، وهي مشتقة من القعود، أي الثَّبات والاستقرار، قال تعالى { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ } [آل عمران: 191]، وهي تعني الأساس وكُلّ ما يرتكز عليه غيره.
وقواعد الشَّيء: أسسه وأصوله، حسيّاً كان ذلك الشَّيء كقواعد البيت، قال تعالى { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } [البقرة: 127]، وقال تعالى { فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ } [النَّحل: 26]، أو معنويّاً كقواعد الدِّين، أي دعائمه.
وقواعد السَّحاب: أصوله المعترضة في آفاق السَّماء، شبهت بقواعد البناء، وقواعد الهودج خشبات أربع معترضة في أسفله (1) .
وعليه فالمعنى اللُّغويّ يدور حول: الاستقرار والثُّبوت. وأقرب تلك المعاني إلى المراد هنا هو الأساس لابتناء الأحكام على القاعدة كابتناء كُلّ شيء على أساسه وقاعدته.
[ب] معنى القاعدة في الاصطلاح:
مَنْ ينظر في معاني العلماء المتقدمين للقاعدة في الاصطلاح يرى أنَّ معانيهم جاءت عامّة مطلقة، ولم يكن من غرضهم ذكر معنى خاص بالقواعد الفقهيّة، إلاَّ أنَّ بعضاً منهم أشار إلى ذلك، فذكر تعريفاً للقواعد الفقهيّة بمعناها الخاص (2) ، كأبي عبد الله المقري المالكيّ، المتوفى سنة 758 هـ.
__________
(1) انظر: القاموس المحيط، ص 281، والمصباح المنير، ص 263، ومختار الصِّحاح، ص 257، ومفردات القرآن للرَّاغب، ص 679، وغريب الحديث للقاسم بن سلام، 3/104.
(2) انظر: القواعد الفقهيّة: د.البا حسين، ص 39-40.(1/2)
وسنستعرض جملة من هذه التَّعريفات لنرى ذلك، ثُمَّ نخلص إلى ذكر التَّعريف المختار للقاعدة الفقهيّة، فقد عُرِّفت بأنَّها:
[1] الأمر الكليّ الذي ينطبق عليه جزئيّات كثيرة تفهم أحكامها منها (1) .
[2] حكم كليّ ينطبق على جميع جزئيّاته لنتعرّف أحكامها منه (2) .
[3] أمر كليّ منطبق على جزئيّات موضوعة (3) .
[4] قضية كُليّة منطبقة على جميع جزئيّاتها (4) .
[5] كُلّ كليّ هو أخص من الأصول، وسائر المعاني العقليّة العامّة، وأعم من العقود، وجملة الضَّوابط الفقهيّة الخاصّة (5) .
وهذه التَّعريفات وإنْ أُطلقت عند البعض على القاعدة الفقهيّة، إلاَّ أنَّها في أصلها تعريفات للقاعدة بمدلولها العام المطلق، ثُمَّ خصَّها بعضهم بالقاعدة الفقهيّة.
لكننا بحاجة إلى تعريف أخص وأدق يضبط القاعدة الفقهيّة، ويميّزها عن غيرها من القواعد الأخرى والضَّوابط. ولعلّنا نصل إلى ذلك حينما نقول: إنَّ القاعدة الفقهيّة هي: حكم كليّ فقهيّ يتعرّف منه على جزئيّات كثيرة في أكثر من باب (6) .
فقيد "فقهيّ" يخرج القواعد غير الفقهيّة في العلوم الأخرى، و"في أكثر من باب" يخرج الضَّابط الفقهيّ لاختصاصه بباب واحد على ما اصطلح عليه المتأخرون.
على أنَّه يحسن التَّنبيه هنا بأنَّ التَّعبير بـ "الكليّة" في القواعد لا يقدح فيها تخلُّف بعض الجزئيّات ولا ينقض عمومها؛ لإمكان حصول ذلك بنص أو ضرورة أو قيد أو علّة مؤثّرة أو نحو ذلك، تخرجها عن الاطراد فتكون مستثناة من هذه القاعدة أو تلك.
__________
(1) الأشباه والنَّظائر: للسُّبكيّ، 1/11.
(2) مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنويّ لابن خطيب الدّهشة، 1/64.
(3) كشّاف القناع، 1/16.
(4) التَّعريفات: للجرجانيّ، ص 171.
(5) قواعد المقري، تحقيق د. أحمد الحميد، 1/212.
(6) انظر: مقدمة قواعد الحصنيّ: د. شعلان، 1/23، ومقدمة قواعد المقري، 1/107.(1/3)
ومِمَّا يزيد الأمر وضوحاً ما ذكره الشَّاطبيّ بقوله: "الأمر الكليّ إذا ثبتت كليّته فتخلَّف بعض الجزئيّات عن مقتضى الكليّ لا يخرجه عن كونه كليّاً، وأيضاً فإنَّ الغالب الأكثري معتبر في الشَّريعة اعتبار العام القطعيّ؛ لأنَّ المختلفات الجزئيّة لا ينتظم منها كليّ يعارض هذا الكليّ الثَّابت... وأيضاً فالجزئيّات المتخلفة قد يكون تخلُّفها لحكم خارج عن مقتضى الكليّ، فلا تكون داخلة تحته أصلاً أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أوْلَى". ثُمَّ يختم كلامه هذا بقوله: "فعلى كلّ تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيّات في صحة وضع الكليّات للمصالح" (1) .
المبحث الثَّاني: الفرق بين القاعدة الفقهيّة والقاعدة الأصوليّة
لكُلّ من علم "الفقه" وعلم "أصول الفقه" قواعده، على الرَّغم أنَّهما علمان مرتبطان ببعضهما ارتباط الأصل بالفرع، ومع ذلك يمكن القول بأنَّ لكُلّ منهما ما يميّزه في استقلاله عن الآخر، وذلك من حيث موضوع كُلّ منهما، واستمداده، وفائدته، والغاية من دراسته وتطبيقه. وعند عقد موازنة عامّة بين القواعد الأصوليّة والقواعد الفقهيّة يتبيَّن لنا عدّة أمور، قد تُعَدُّ فوارق رئيسيّة بين المصطلحين:
[1] القواعد الأصوليّة متعلّقة بالأدلة الشَّرعيّة الإجماليّة، أمَّا القواعد الفقهيّة فمتعلّقة بأفعال المكلّفين.
يقول ابن تيمية ـ بعد أنْ تكلَّم عن الأدلة النَّافية لتحريم العقود والشُّروط والمثبتة لحلّها ـ: "فهي بأصول الفقه ـ التي هي الأدلة العامّة ـ أشبه منها بقواعد الفقه ـ التي هي الأحكام العامّة" (2) .
فمثلاً القاعدة الأصوليّة: "الأمر للوجوب" أو "النَّهيّ للتَّحريم" تتعلّقان بكُلّ دليل في الشَّريعة فيه أمر أو نهي.
__________
(1) الموافقات، 2/83-85.
(2) انظر: مجموع الفتاوى، 29/167.(1/4)
والقاعدة الفقهيّة: "المشقة تجلب التَّيسير" تتعلّق بكُلّ فعل من أفعال المكلَّف طلب منه أداؤه وشقّ عليه فعله على الوجه المطلوب.
[2] القواعد الأصوليّة مستمدّة من: علم الكلام، والعربيّة، وتصوُّر الأحكام الشَّرعيّة. أمَّا القواعد الفقهيّة فإنَّها مستمدة من الأدلة الشَّرعيّة أو المسائل الفرعيّة المتشابهة وأحكامها.
يقول القرافيّ: "إنَّ الشَّريعة المُحَمَّديّة زاد الله منارها شرفاً وعلواً اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:
أحدهما: المُسمَّى بأصول الفقه، وهو غالب أمره ليس فيه إلاَّ قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربيّة خاصّة، وما يعرض لتلك الألفاظ.
والثَّاني: قواعد كليّة فقهيّة جليلة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشَّرع وحكمه، لكُلّ قاعدة من الفروع في الشَّريعة ما لا يُحصى" (1) .
[3] القواعد الأصوليّة وجودها سابق على الفروع؛ لأنَّها القيود التي أخذ بها الفقيه عند الاستنباط، ولأنَّ الفروع مبنيّة على الأصول. أمَّا القواعد الفقهيّة فمتأخرة الوجود عن الفروع؛ لأنَّها جمع لأشتاتها، وربط لمعانيها (2) .
[4] القواعد الأصوليّة لا يتوقَّف استنتاجها والتَّعرُّف عليها على كُلّ قاعدة فقهيّة، بخلاف القاعدة الفقهيّة، فإنَّه يتوقّف استنتاجها على القاعدة الأصوليّة (3) .
[5] القواعد الأصوليّة يستفيد منها المجتهد خاصّة، حيث يستعملها عند استنباط الأحكام الشَّرعيّة الفرعيّة من الأدلة. أمَّا القواعد الفقهيّة فيمكن أنْ يستفيد منها: الفقيه، والمفتي، والمتعلم، حيث يرجع إليها بدلاً من الرُّجوع إلى حكم كلّ فرع على حدة (4) .
__________
(1) انظر: الفروق، 1/2-3، و2/110.
(2) انظر: الإمام مالك: لأبي زهرة، ص 218، والقواعد الفقهيّة للنّدويّ، ص 69.
(3) انظر: مقدمة قواعد الحصنيّ: د. شعلان، 1/23.
(4) انظر: النَّظريّات الفقهيّة: د. مُحَمَّد الزُّحيليّ، ص 201.(1/5)
[6] تتصف القواعد الأصوليّة بالعموم والشُّمول لجميع فروعها، وعدم تخلُّف شيء عنها، كما تتصف بالثَّبات والاستقرار، فلا تتغيّر ولا تتبدّل، ولا تزداد أو تتجدّد فروعها بمرور الزَّمن لانقطاع مصدر التَّشريع الذي تستمد منه، وهو الأدلة. أمَّا القواعد الفقهيّة فإنَّها وإنْ كانت عامّة شاملة إلاَّ أنَّها قد تعترضها بعض المستثنيّات، وتتغيّر بتغيُّر الأحكام المبنية على الأعراف والمصالح ونحوها، وتزداد فروعها بحسب النَّوازل المتجددة في كُلّ عصر ومكان.
ومع هذا فإنَّه قد يقع التَّداخل بين القواعد الأصوليّة والقواعد الفقهيّة، ويُقال بالاشتراك بينها، وذلك يرجع إلى اختلاف النَّظر إلى القاعدة.
فإذا نظرنا إليها بحسبان أنَّ موضوعها دليل شرعيّ يساعد على استنباط الأحكام من الأدلة التَّفصيليّة كانت قاعدة أصوليّة، وإذا نظرنا إليها بحسبان متعلّقها ـ وهو كونها فعلاً للمكلَّف ـ كانت قاعدة فقهيّة، كالعرف إذا فُسِّر بالإجماع العلميّ أو المصلحة المرسلة كانت قاعدة أصوليّة، وإذا فُسِّر بالقول الذي غلب في معنى معيَّن أو بالفعل الذي غلب الإتيان به كانت قاعدة فقهيّة (1) .
"ومجرّد وجود الفروع الفقهيّة للقاعدة الأصوليّة لا يضفي عليها صفة القاعدة الفقهيّة؛ لأنَّه ما من قاعدة إلاَّ ولها فروع فقهيّة، كما يُعْرَف ذلك من كتب تخريج الفروع على الأصول" (2) .
المبحث الثَّالث: تعريف سدّ الذَّرائع لغة واصطلاحاً
[أ] الذَّرائع في اللُّغة:
جمع ذريعة، والذَّريعة لغة: الوسيلة والطَّريق إلى الشَّيء (3) .
[ب] الذَّرائع اصطلاحاً:
__________
(1) انظر: القواعد الفقهيّة: د. النّدويّ، ص 70-71.
(2) مثل: كتاب الزّنجانيّ، والإسنويّ، وابن اللحام، وغيرهم. انظر: القواعد الفقهيّة للنّدويّ، ص 467، وانظر أيضاً قول السّبكيّ في الأشباه والنَّظائر، 2/77 (مسائل أصوليّة يتخرَّج عليها فروع فقهيّة).
(3) لسان العرب، 6/96، والقاموس المحيط، 3/24.(1/6)
بمعناها العام هي: "الوسيلة التي تكون طريقاً إلى الشَّيء" (1) ، سواء أكان هذا الشيء قولاً أو فعلاً بصرف النَّظر عن كونه مفسدة أو مصلحة,
والذَّرائع عند المازريّ هي: "منع ما يجوز لئلا يتطرّق إلى ما لا يجوز" (2) .
والمراد بـ "سدّ الذَّرائع": "منع الوسائل المؤدية إلى المفاسد، فما يؤدي إلى محظور فهو محظور".
فالزِّنا حرام، والنَّظر إلى عورة المرأة وسيلة إلى الزِّنا، فكلاهما حرام، وقضاء القاضي بعلمه ممنوع، لئلا يكون ذريعة إلى حكمه بالباطل، ويقول: حكمت بعلمي، وشهادة العدو على عدوه لا تصح لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشّهادة الباطلة، والجمع بين السَّلف والبيع ممنوع، لئلا يكون اقترانهما ذريعة إلى الرِّبا.
فالشَّارع حينما ينهى عن شيء ينهى عن كُلّ ما يوصل إليه، فحينما نهى عن التَّباغض والتَّباعد نهى عن كُلّ ما يؤدي إليهما، فنهى عن أنْ يبيع الرَّجل على بيع أخيه، أو يسُوم على سوم أخيه، أو يخطب على خطبة أخيه.
فالأصل في اعتبار سدّ الذَّرائع هو النَّظر إلى مآلات الأفعال، فيأخذ الفعل حكماً يتفق مع ما يؤول إليه، سواء أكان يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أو لا يقصده، فإذا كان الفعل يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإنْ كان لا يؤدي إلاَّ إلى شرّ فهو منهي عنه.
وإنَّ النَّظرة إلى هذه المآلات ـ كما ترى ـ لا يلتفت فيها إلى نية الفاعل؛ بل إلى نتيجة الفعل وثمرته، وبحسب النَّتيجة يُحْمَد الفعل أو يُذَم (3) .
المبحث الرَّابع: أقسام الذَّرائع
قسَّم الشَّاطبيّ الذَّرائع بحسبان ما يترتّب عليها من ضرر أو فساد إلى أربعة أقسام (4) :
__________
(1) إعلام الموقعين، 3/117.
(2) مقاصد الشَّريعة: للفاسيّ، ص 154.
(3) أصول الفقه: لأبي زهرة، ص 288.
(4) انظر: الموافقات، 2/358.(1/7)
الأوَّل: ما يكون أداؤه إلى المفسدة يقيناً، كحفر بئر خلف باب الدَّار في طريق مظلم بحيث يقع الدَّاخل فيه، وشبه ذلك (1) ، فهذا ممنوع. وإذا فعله يكون متعديّاً بفعله، ويضمن ضمان المتعدي في الجملة، إمَّا لتقصيره في إدراك الأمور على وجهها أو لقصد الإضرار نفسه.
والثَّاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً، كحفر بئر في مكان غير مطروق لا يؤدي غالباً إلى وقوع أحد فيه، وبيع الأغذية التي لا تضرّ غالباً، ونحو ذلك (2) ، وهذا باقٍ على أصله من الإذن فيه؛ لأنَّ الشَّارع أناط الأحكام بغلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة، إذ ليس في الأشياء مصلحة محضة ولا مضرّة محضة، فالعمل باقٍ على أصل المشروعيّة.
والثَّالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً ـ أي راجحاً ـ فيرجح على الظَّنّ إفضاؤه إلى الفساد، كحفر بئر في مكان لا يمرّ فيه النَّاس ليلاً، وكبيع العنب لخمّار، وكبيع السِّلاح لأهل الحرب، ونحو ذلك (3) . فهذا الظَّنّ الرَّاجح يلحق بالعلم اليقينيّ، لأمور:
[أ] أنَّ الظَّنّ في الأحكام الشَّرعيّة العمليّة يجري مجرى العلم القطعيّ.
[ب] ورد في الشَّرع ما يدلُّ على الأخذ بسدّ الذَّرائع ـ كما سيأتي ـ؛ لأنَّ معنى سدّ الذَّرائع هو الاحتياط لدفع الفساد، والاحتياط يوجب الأخذ بغلبة الظَّنّ.
[ج] أنَّ جواز هذا القسم فيه تعاون على الفساد والعدوان المنهي عنه.
__________
(1) وكالخلوة بشابة أجنبيّة، ومصاحبة أهل الدّعارة والفجور، فهذا حرام يجب منعه لأدائه القطعيّ إلى المفسدة.
(2) وكبيع مبيد للحشرات قاتل للإنسان، وكشف المرأة المسنة أو الدَّميمة وجهها للأجانب، وهذا مباح لندرة أدائه إلى الضَّرر مع قيام المصلحة، وأصل الإذن العام.
(3) وكشف الشَّابة الجميلة وجهها للأجانب، وهذا شبيه بالحرام يجب منعه لرجحان أدائه إلى المفسدة.(1/8)
والرَّابع: أنْ يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً، ولكن كثرته لم تبلغ غلبة الظََّنّ الغالب للمفسدة، ولا العلم اليقينيّ، كبيوع الآجال التي تتخذ ذريعة للرِّبا، وهذا موضع نظر والتباس، وذلك كعقد السَّلَم يقصد به عاقده لربا قد استتر بالبيع، كأنَّه يدفع ثمناً قليلاً لا يتناسب مع ثمن المبيع وقت الأداء قاصداً بذلك الرِّبا، فإنَّ تأديته إلى الفساد كثيرة، وإنْ لم تبلغ الظَّنّ الرَّاجح، ولا العلم.
وهذا القسم موضع اختلاف العلماء أيؤخذ به فيبطل التَّصرُّف ويحرم الفعل ترجيحاً لجانب الفساد، أم لا يؤخذ به فلا يفسد العقد، ولا يحرم الفعل أخذاً بالأصل، وهو الإذن بالفعل؟
لقد رجَّح أبو حنيفة والشَّافعيّ ـ رحمهما الله تعالى ـ جانب الإذن، ولم يحرما الفعل، ولم يفسدا التَّصرُّف، وذلك للأسباب الآتية:
[أ] لأنَّ الفساد ليس غالباً، فلا يرجح جانبه.
[ب] ولأنَّ أساس التَّحريم أو البطلان هو أنَّه ذريعة إلى باطل فاسد حرام، ومع عدم الغالبيّة والقطعيّة لا يكون العقد أو الفعل ذريعة للبطلان، فلا موجب للتَّحريم.
[ج] ولأنَّ الأصل هو الإذن، ولا يعدل عنه إلاَّ بقيام دليل على الضَّرر فيه، وما دام الأمر ليس غلبة الظَّنّ فإنَّ أصل الأذن باقٍ.
وأمَّا الإمامان مالك وأحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ فقد قرَّرا أنَّ الفعل يحرم، والعقد يبطل للاحتياط، وذلك لأنَّه بكثرة الضَّرر مع أصل الإذن فقد وجد أصلان:
أحدهما: الإذن الأصليّ.
والثَّاني: ما في الفعل أو العقد من كثرة الإضرار بالغير وإيلامه، ويرجّح الضَّرر لكثرة المفاسد، إذ دفع المضار مقدَّم على جلب المصالح (1) .
__________
(1) أصول الفقه: لأبي زهرة، ص 291 فما بعدها.(1/9)
يقول القرافيّ (1) : "وقسم قد اختلف فيه العلماء يسلم أم لا؟ كبيوع الآجال عندنا، كمَنْ باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهرها، ثُمَّ اشتراها بخمسة قبل الشَّهر. فمالك يقول: إنَّه أخرج من يده خمسة الآن، ثُمَّ اشتراها بخمسة الآن، وأخذ عشرة آخر الشَّهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل بإظهار صورة البيع، لذلك يكون باطلاً. والشَّافعي يقول: ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيجوز ذلك. وهذه البيوع يُقال: إنَّها تصل إلى ألف مسألة اختص بها مالك، وخالفه فيها الشَّافعيّ. ولذلك اختلف في النَّظر إلى النِّساء، أيحرم لأنَّه يؤدِّي إلى الزِّنا أم لا يحرم؟ وحكم القاضي يعلمه أيحرم لأنَّه وسيلة للقضاء بالباطل من قضاة السُّوء أو لا يحرم؟ كذلك اختلف في تضمين الصُّنَّاع؛ لأنَّهم يؤثِّرون في السَّلع بصناعتهم، فتتغيّر السِّلع فلا يعرف أربابها فيضمون سدّاً لذَّريعة الأخذ أم لا يضمون لأنَّهم أجراء، وأصل الإجارة على الأمانة؟
وكذلك تضمين حملة الطَّعام لئلا تمتد أيديهم إليه.
وهو كثير في هذه المسائل، فنحن قلنا بسدّ الذَّرائع، ولم يقل بها الشَّافعيّ، وليس سدّ الذَّرائع خاصّاً بمالك؛ بل قال به هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه".
وقد بنى الشَّاطبيّ (2) قاعدة سدّ الذَّرائع على قصد الشَّارع إلى النَّظر في مآلات الأفعال سواء أكانت موافقة أو مخالفة؛ لأنَّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصَّادرة عن المكلّفين بالإقدام أو الإحجام إلاَّ بعد النَّظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل.
__________
(1) الفروق، 3/266 فما بعدها.
(2) الموافقات، 4/195.(1/10)
فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإنْ أُطلق القول في الأوَّل بالمشروعيّة فربما أدَّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعيّة.
وكذلك إذا أطلق القول في الثَّاني بعدم المشروعيّة وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلاَّ أنَّه عذب المذاق، محمود الغيب، جارٍ على مقاصد الشَّريعة.
وقال أبو إسحاق أيضاً: "إنَّ سدّ الذَّرائع أصل شرعيّ قطعيّ متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفاصيله. وقد عمل به السَّلف بناء على ما تكرَّر من التَّواتر المعنويّ في نوازل متعددة دلّت على عمومات معنويّة، وإنْ كانت النَّوازل خاصّة ولكنها كثيرة".
وقد شرح هذه الجملة الخضر بن الحسين فقال: "يريد الشَّاطبيّ أنَّ السَّلف جرى في تفصيل بعض الأحكام على أصل سدّ الذَّرائع ومستندهم في تحقيق هذا الأصل ما ورد في الكتاب والسُّنَّة من الأحكام العائدة إلى هذا الأصل، وهذه الأحكام وإنْ كان كُلّ واحد منها متعلقاً بنازلة خاصّة، قد بلغت من الكثرة مبلغ ما يدلُّ على قصد الشَّارع إلى سد ذرائع الفساد، فتكون هذه الأحكام الكثيرة بمنزلة قول عام يرد في القرآن أو السُّنَّة مصرّحاً لبناء الأحكام على سدّ الذَّرائع" (1) .
ومثَّل لها ابن القيم بتسعة وتسعين مثالاً (2) ، وقال: "إنَّ سدّ الذَّرائع ربع التَّكليف؛ لأنَّه إمَّا أمر أو نهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثَّاني: وسيلة إلى المقصود. والنَّهي نوعان: أحدهما: المنهي عنه مفسدة بنفسه، والثَّاني: وسيلة إلى المفسدة. فصار سدّ الذَّرائع المفضية إلى الحرام ربع الدِّين.
__________
(1) رسائل الإصلاح، 3/57، نقلاً عن: مقاصد الشَّريعة الإسلاميّة لعلال الفاسيّ، ص 156.
(2) إعلام الموقعين، 3/137.(1/11)
وزعم بعض المعاصرين مِمَنْ ألَّفوا في مقاصد الشَّريعة أنَّ "لمبحث سدّ الذَّرائع تعلُّقاً قويّاً بمبحث التَّحليل" (1) .
والواقع ـ كما قال ابن القيم (2) ـ أنَّ تجويز الحيل يناقض سدّ الذَّرائع مناقضة ظاهرة، فالشَّارع يسد الطَّريق إلى المفاسد بكُلّ ممكن، والمحتال يفتح الطَّريق إليها بكُلّ حيلة، فأين مَنْ يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرَّم مِمَنْ يعمل الحيلة في التَّوصُّل إليه؟
والفرق بين الذَّريعة والحيلة أنَّ الأولى لا يلزم أنْ تكون مقصودة، والحيلة لا بُدَّ من قصدها للتَّخلُّص من المحرَّم.
ثُمَّ إنَّ الحيلة تجري في العقود خاصّة، بينما الذَّريعة تعم العقود وغيرها، وتشمل الأفعال والتّروك ـ كما أوضحنا ـ.
وبعد أنْ قال القرطبيّ أنَّ سدّ الذَّرائع مذهب مالك وأصحابه، وحكى مخالفة أكثر النَّاس في القول به كأصل من الأصول قال: إنَّ المخالفين عملوا به في أكثر فروعهم تفصيلاً، وزعم أنَّ ما يفضي إلى الوقوع في المحظور قطعاً ليس من هذا الباب؛ بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلاَّ باجتنابه، فيحرم فعله، قياساً على قولهم: كُلّ ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب. أمَّا الذي لا يقطع بإفضائه إلى الحرام فإمَّا أنْ يفضي إليه غالباً أو ينفكّ عنه غالباً أو يتساوى فيه الأمران، وهذا ما يُسمَّى بالذَّرائع عند المالكيّة، فلا بُدَّ من مراعاة الأوَّل، أمَّا الثَّاني والثَّالث فهما موطن الخلاف.
__________
(1) مقاصد الشَّريعة: للفاسيّ، ص 157.
(2) إعلام الموقعين، 3/137.(1/12)
وقد بالغ الإمام مالك في سدّ الذَّريعة حتَّى كرّه بعض المندوبات لئلا يعتقد في وجوبها أو سننها، وذلك شأنه في كراهة كُلّ النَّوافل التي تتخذ على طريقة الورد في أيام معلومات، ومن ذلك أنَّه كره صيام السِّتة أيام من شهر شوال، لئلا يعتقد العامّة أنَّها كصيام رمضان واجبة، وأوَّل الحديث: (مَنْ صام رمضان وأتبعه بستة من شوال فذلك صيام الدَّهر) (1) ، على أنَّ المقصود بشوال طول السَّنة أي ما يقابل رمضان، فاستحب صيام النَّافلة دون تحديد يوم أو أيّام معيّنة من السَّنة.
وهذا الحديث مروي من طرق عدّة تؤكِّد استحباب صوم ستة من شوال بعد صيام رمضان، وأنَّه لا ينبغي التَّكاسل والتَّهاون في صومها.
ولكن نُقِلَ عن مالك كراهة صومها (2) ، حتَّى لا يظن وجوبها. قال مالك في الموطأ: "ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني عن أحد من السَّلَف، وإنَّ أهل العلم يكرهون ذلك مخافة بدعته، وأنْ يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم أو هم يعلمون ذلك" (3) .
ولكن الأثر الوارد في صوم هذه الأيام يؤكِّد استحباب صومها، وعدم اعتقاد حُرْمة صومها، قال الشَّافعيّ: "هذا الحديث الصَّحيح الصَّريح، إذا ثبتت السُّنَّة فلا تُترك لترك بعض النَّاس أو أكثرهم أوكُلّهم لها، وقوله: قد يظن وجوبها، ينتقص يوم عرفة وعاشوراء، وغيرهما من الصَّوم المندوب" (4) .
ويقول صاحب "تحفة الأحوذيّ": "قول مَنْ قال بكراهة صوم هذه السُّنَّة باطل مخالف لأحاديث الباب، ولذلك قال عامّة المشايخ الحنفيّة: لا بأس به" (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النَّوويّ، 8/56.
(2) انظر: الاعتصام، 2/211، وحاشية الدّسوقيّ، 1/488-489.
(3) الموطأ، ص 211.
(4) شرح مسلم: للنَّوويّ، 8/56، وانظر: المحلى، 7/17-18.
(5) التّحفة، 3/467.(1/13)
وقال ابن الهمام: "صوم ستة من شوال عن أبي حنيفة، وأبي يوسف كراهته، وعامة المشايخ لم يروا به بأساً" (1) .
وما خشي منه مالك وقع، لذلك يجب التَّرك أحياناً لبيان استحبابها، والعمل بها أحياناً، والتَّنبيه على أنَّها مستحبة غير واجبة.
يقول بعض المحدثين: "إنَّ الذي خشي منه مالك قد وقع بالعجم، فصاروا يتركون المسحرين على عاداتهم والبواقين وشعائر رمضان إلى آخر السِّتة أيام، فحينئذ يظهرون شعائر العيد" (2) .
المبحث الخامس: حُجِّيَّة سدّ الذَّرائع
لقد اتّضح من عرض أقسام سدّ الذَّرائع أنَّ الفقهاء جميعاً يحتجون ويأخذون بمبدأ سدّ الذَّرائع، إلاَّ أنَّهم اختلفوا في مدى الأخذ به كثرة وقلّة، وأكثر الفقهاء أخذاً بمبدأ سدّ الذَّرائع هم المالكيّة والحنابلة، حتَّى يكاد يُنسب إليهم وحدهم القول بالأخذ به.
وقد ثبت العمل والأخذ بمبدأ سدّ الذَّرائع، وإعطائها حكم ما تؤول إليه، والاحتجاج بها بأدلة من القرآن الكريم، والسُّنَّة النَّبويّة، وعمل الصَّحابة.
أوّلاً: من القرآن الكريم:
[1] قوله تعالى { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108]. فنهى سبحانه عن سبّ آلهة المشركين، مع كون السَّبّ غيظاً وحمية لله وإهانة للأوثان والأصنام وما يُعْبَد من دون الله تعالى، لأنَّه ذريعة إلى سبّ الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتَّنبيه؛ بل كالتَّصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز (3) .
__________
(1) فتح القدير، 2/78.
(2) الاعتصام، 1/211.
(3) إعلام الموقعين، 3/118، وإغاثة اللّهفان، 1/497.(1/14)
[2] قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 104]، وكان النَّهي لأنَّ اليهود اتّخذوا من كلمة { رَاعِنَا } وسيلة لشتم النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونعته بالرُّعونة (1) ، فنهى الله تعالى المؤمنين عن استخدامها حتَّى لا يكون ذلك مشابهة لليهود في أقوالهم وخطابهم، مع أنَّها في الأصل مباحة لِمَا تؤدي إليه من المحظور، وذلك سدّاً للذَّريعة (2) .
[3] قوله تعالى { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } [النُّور: 31]، فمنعهنَّ من الضَّرب بالأرجل ـ وإنْ كان جائزاً في نفسه ـ لئلا يكون سبباً إلى سمع الرِّجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشَّهوة منهم إليهنَّ (3) .
[4] قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } [النُّور: 58]، أمر الله تعالى مماليك المؤمنين ومَنْ لم يبلغ منهم الحُلُم أنْ يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثَّلاثة لئلا يكون دخولهم هجماً بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطّلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنُّوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها ـ وإنْ أمكن في تركه هذه المفسدة ـ لندورها وقلّة الإفضاء إليها، فجعلت كالمقدمة (4) .
__________
(1) يقال: رجل أرعن: أي متفرِّق الحُجَج، وليس عقله مجتمعاً. انظر: تفسير القرطبيّ، 2/41.
(2) إعلام الموقعين، 3/119.
(3) إعلام الموقعين، 3/118، وإغاثة اللّهفان، 1/501.
(4) إعلام الموقعين، 3/118 فما بعدها.(1/15)
[5] قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النِّساء: 25]، نهى سبحانه عن نكاح الأَمَة على القادر على نكاح الحُرَّة إذا لم يخش العنت؛ لأنَّ ذلك ذريعة إلى استرقاق ولده، حتَّى لوكانت الأَمَة من الآيسات من الحبل والولادة لم تحلّ له سدّاً للذَّريعة.
يقول ابن القيم: "ولهذا منع الإمام أحمد الأسير والتَّاجر أنْ يتزوَّج في دار الحرب خشية تعريض ولده للرِّق، وعلَّله بعلّة أخرى وهي أنَّه قد لا يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته" (1) .
ثانياً: من السُّنَّة النَّبويّة:
[أ] أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - امتنع عن قتل المشركين ـ مع كونه مصلحة ـ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تنفير النَّاس عنه، وقولهم: إنَّ مُحَمَّداً يقتل أصحابه، فإنَّ هذا القول يوجب النُّفور عن الإسلام مِمَنْ دخل فيه ومَنْ لم يدخل فيه، ومفسدة التَّنفير أكثر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التَّأليف أعظم من مصلحة القتل (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين، 3/130.
(2) المرجع السَّابق نفسع، 3/120.(1/16)
[ب] أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قطع يد السَّارق في الغزو، حتَّى لا يكون ذلك ذريعة إلى إلحاق المحدود بالمشركين، قال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تقطع الأيدي في الغزو) (1) .
وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "أنْ لا يجلدنَّ أمير جيش ولا سرية ولا رجلٌ من المسلمين حداً وهو غازٍ، حتَّى يقطع الدَّرب قافلاً، لئلا تلحقه حمية الشَّيطان فيلحق بالكفار" (2) .
وقد نقل ابن قدامة إجماع الصَّحابة على ذلك (3) .
[ج] أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى الدَّائن أو المقرض عن أخذ الهدية من المدين، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدَّيْن لأجل الهدية فيكون ربا، فإنَّه يعود إليه ماله وأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض (4) .
عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَنْ شفع لأخيه بشفاعة فأهدى لههدية عليه فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الرِّبا) (5) .
__________
(1) أخرجه التّرمذيّ في سننه، باب ما جاء أنْ لا تقطع الأيدي في الغزو، برقم 1450، 3/5.
(2) أخرجه التّرمذيّ في سننه، باب ما جاء أنْ لا تقطع الأيدي في الغزو، برقم 1450، 3/5.
(3) المغني، 9/299.
(4) إعلام الموقعين، 3/122، وأصول الفقه: لأبي زهرة، ص 289.
(5) أخرجه أبو داود في سننه، باب في الهدية لقضاء الحاجة، برقم 3541، 3/292.(1/17)
[د] أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاحتكار، وقال: (مَنْ احتكر فهو خاطئ) (1) ، فإنَّ الاحتكار ذريعة إلى أنْ يضيَّق على النَّاس أقواتهم، وكما أنَّ الاحتكار حرام لذلك؛ فالاستيراد واجب في الضَّائقات، لأنَّه ذريعة إلى التَّوسعة (2) ، ولذا يقول - صلى الله عليه وسلم - : (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون) (3) .
[هـ] نهى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن شراء الرَّجل صدقته ولو رآها تُباع في السُّوق (4) ، سدّاً لذَّريعة العود فيما خرج عنه لله تعالى ـ ولو بعِوَض ـ، وقد يكون ذلك ذريعة إلى التَّحايل على الفقير بأنْ يدفع إليه صدقة ماله ثُمَّ يستردها بطريق الشِّراء بغبن فاحش، وقد يكون ذلك بالشَّرط (5) .
[و] نهى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن البيع والابتياع في المسجد (6) ، لئلا يكون ذريعة للانشغال بتجارة الدُّنيا بدلاً من تجارة الآخرة.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 1605، وأبو داود في سننه، باب النَّهي عن الحكرة، برقم 3447، 3/271، والتّرمذيّ في سننه، باب ما جاء في الاحتكار، برقم 1267، 3/567.
(2) إعلام الموقعين، 3/132، وأصول الفقه: لأبي زهرة، ص 289.
(3) أخرجه ابن ماجه في سننه، برقم 2153، والحاكم في مستدركه، 2/11، والجالب: هو الذي يجلب السِّلع ويبيعها بربح يسير.
(4) أخرجه البخاريّ في صحيحه، باب هل يشتري صدقته؟، برقم 1392 و1393، 2/627 وما بعدها.
(5) إعلام الموقعين، 3/204 فما بعدها، وأصول الفقه: لأبي زهرة، ص 289.
(6) أخرجه التّرمذيّ في سننه "تحفة الأحوذي"، باب النَّهي عن البيع في المسجد، برقم 1321، 2/271.(1/18)
[ح] وكذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن نشدان الضَّالة في المسجد، لِمَا في ذلك من المناداة ورفع الصَّوت وإزعاج المصلين عمَّا هم فيه من ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، وطلب المغفرة. ولذا جاء في الحديث: (مَنْ سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك، فإنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا) (1) .
[ط] وكذلك ترك النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بناء الكعبة على قواعد إبراهيم - عليه السلام - ، حيث قال لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: (ألم تري أنَّ قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟)، قالت: فقلتُ: يا رسول الله أفلا تردّها على قواعد إبراهيم؟، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لولا حدثان قومك بالكفر، لفعلتُ) (2) .
فأراد النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ترك ما فيه مصلحة ـ وهو نقض الكعبة وردّها إلى أصلها ـ من أجل ما يترتَّب على ذلك من مفسدة راجحة، وهو فتنة النَّاس وارتدادهم إلى الكفر.
يقول النَّوويّ: "على ولي الأمر ـ بناءً على هذا الحديث ـ أنْ يفكِّر في مصالح رعيته، وأنْ يجتنب ما يخاف منه تولُّد ضرر عليهم في دين أو دنيا، إلاَّ الأمور الشَّرعيّة كأخذ الزَّكاة" (3) .
[ي] وأخبر النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ (من أكبر الكبائر شتم الرَّجل والديه)، قالوا: وهل يشتم الرَّجل والديه؟ قال: (نعم، يسبّ أبا الرَّجل فيسبّ أباه، ويسبّ أُمّه فيسبّ أُمّه) (4) .
قال ابن القيم في "إعلامه": "وهو صريح في اعتبار سدّ الذَّرائع، وطلب الشَّرع لسدّها" (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النَّوويّ، 5/45.
(2) أخرجه البخاريّ في صحيحه بشرح العسقلانيّ، 8/170.
(3) شرح النَّوويّ لصحيح مسلم، 9/89.
(4) أخرجه البخاريّ في صحيحه بشرح العسقلانيّ، 10/388، ومسلم في صحيحه بشرح النَّوويّ، 2/83.
(5) 4/329.(1/19)
[ك] ولمَّا جاءت السَّيّدة صفية ـ رضي الله تعالى عنها ـ تزوره - صلى الله عليه وسلم - ـ وهو معتكف ـ قام معها ليوصلها إلى بيتها، فرآهما رجلان من الأنصار، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (على رِسْلكما، إنَّها صفية بنت حُيي)، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: (إنَّ الشَّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم، وإنَّي خشيتُ أنْ يقذف في قلوبكما شرّاً) (1) .
فسدّ - صلى الله عليه وسلم - الذَّريعة إلى ظنّهما السُّوء بإعلامهما أنَّها صفية (2) .
[ل] ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - النِّساء إذا صلين مع الرَّجال أنْ يرفعن رؤوسهنَّ قبل الرِّجال، لئلا يكون ذلك ذريعة منهنَّ إلى رؤية عورات الرِّجال من وراء الأزر، ولذا قالت أسماء بنت أبي بكر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مَنْ كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتَّى يرفع الرِّجال رؤسهم) كراهة أنْ يرين من عورات الرِّجال (3) .
[م] ونهيه - صلى الله عليه وسلم - هجر المسجد الذي يلي المصلي ويذهب إلى غيره؛ لأنَّ ذلك ذريعة إلى إيحاش صدر الإمام إلاَّ إذا رُمِيَ الإمام ببدعة أو أعلن فجوراً فلا بأس بتخطيه إلى غيره (4) ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (ليُصلِّ أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتخطاه إلى غيره) (5) .
__________
(1) أخرجه البخاريّ بشرح النَّوويّ، 2/715، ومسلم في صحيحه بشرح النَّوويّ، 4/1712.
(2) إغاثة اللّهفان، 1/497.
(3) أخرجه أبو داود في سننه، باب رفع النِّساء إذا كُن مع الرِّجال رؤوسهنَّ من السَّجدة، برقم 851، 1/225.
(4) المغني، 2/4.
(5) أخرجه بقية بن مخلد من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، على ما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين، 3/127.(1/20)
[ن] ونهيه - صلى الله عليه وسلم - الرَّجل أنْ يخرج من المسجد بعد الأذان حتَّى يصلي، وما ذلك إلاَّ سدّاً لذَّريعة اشتغاله عن الصَّلاة جماعة، كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - لرجل رآه قد خرج بعد الأذان: "أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم" (1) .
[س] ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الجُحر، وما ذاك إلاَّ لأنَّه قد يكون ذريعة إلى خروج حيوان يؤذيه، وقد يكون من مساكن الجنّ فيؤذيهم بالبول، فربما آذوه (2) . عن عبد الله بن سرجس أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يُبال في الجُحر، قال: قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجُحر؟ قال: كان يقال: إنَّها مساكن الجنّ (3) .
[ع] أمره - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بعدم الدُّخول إلى ديار المشركين الذين أُرسل عليهم عذاب ـ مثل قوم ثمود ـ إلاَّ إذا كانوا باكين، خشية أنْ يصيبهم مثل ما أصابهم، فجعل - صلى الله عليه وسلم - الدُّخول من غير بكاء وتأثُّر وخوف من العاقبة نفسها ذريعة إلى إصابة المكروه. قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب الحِجْر: (لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلاَّ أنْ تكونوا باكين، فإنْ لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أنْ يصيبكم مثل ما أصابهم) (4) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، باب الخروج من المسجد بعد الأذان، برقم 536، 1/147.
(2) إعلام الموقعين، 3/126.
(3) أخرجه أبو داود في سننه، باب النَّهي عن البول في الجُحر، برقم 29، 1/8.
(4) أخرجه البخاريّ في صحيح بشرح العسقلانيّ، 8/381، ومسلم في صحيحه بشرح النَّوويّ، 18/111.(1/21)
[ف] نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أنْ يقول الرَّجل لغلامه وجاريته: عبدي وأَمَتي، ولكن يقول: فتاي وفتاتي، ونهى - صلى الله عليه وسلم - أنْ يقول لغلامه: وضيء ربك، أطعم ربك، وذلك سدّاً لذَّريعة التَّشبُّه بالشِّرك في اللَّفظ، والمعنى حماية لجانب التَّوحيد، وسدّاً لذَّريعة الشِّرك (1) .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يقولنَّ أحدكم عبدي وأَمَتي، ولا يقولنَّ المملوك: ربّي وربّتي، وليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك: سيّدي وسيّدتي، فإنَّكم المملوكون، والرَّبُّ الله عزَّ وجلَّ) (2) .
[ص] أنَّه - صلى الله عليه وسلم - حرَّم الخلوة بالمرأة الأجنبيّة ولو في إقراء القرآن، والسَّفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين، سدّاً لذَّريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطِّباع (3) .
ثالثاً: من عمل الصَّحابة:
[1] قضاؤهم بقتل الجماعة بالواحد، وإنْ كان أصل القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التَّعاون على سفك الدِّماء (4) .
لذا قضى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقتل الاثنين بالواحد، وذلك في المرأة التي اشتركت مع خليلها في قتل ابن زوجها، فكتب إليه عامله يعلى بن أُمية يسأله رَأْيه في المسألة! فتوقَّف أوَّلاً، ثُمَّ استشار الصَّحابة، فقال له عليّ ـ كرَّم الله وجهه ـ: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو أنَّ نفراً اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضواً، وهذا عضواً، أكنت قاطعهم؟ قال: نعم، قال: وذلك مثله، فكتب إلى عامله: أنْ اقتلهما، فلو اشترك فيه أهل صنعاء كُلّهم لقتلتهم" (5) .
__________
(1) إعلام الموقعين، 3/129 فما بعدها.
(2) أخرجه أبو داود في سننه، باب لا يقول المملوك: ربّي وربّتي، برقم 4975، 4/294.
(3) إعلام الموقعين، 3/120.
(4) إغاثة اللّهفان، 1/505، وإعلام الموقعين، 1/189، 3/123.
(5) أخرجه البخاريّ في صحيحه بشرح العسقلانيّ، 12/226، ومالك في موطئه، 2/871.(1/22)
[2] قضاؤهم بتوريث المطلقة ثلاثاً في مرض الموت، كي لا يتخذ هذا الطَّلاق ذريعة لحرمان الزَّوجة من الميراث وإلحاق الضَّرر بها (1) .
فقد رُوِيَ ذلك عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين عزم على توريث تماضر بنت الأصبع الكلبيّة من عبد الرَّحمن بن عوف، وكان طلّقها في مرضه فبتّها، واشتهر ذلك في الصَّحابة، فلم ينكر حتَّى عبد الرَّحمن بن عوف نفسه، فقد رُوى عروة عن عثمان - رضي الله عنه - أنَّه قال لعبد الرَّحمن: لئن مت لأورثنَّها منك، قال: قد علمت ذلك، ولولا ما نقل من خلاف ابن الزَّبير لكان إجماعاً" (2) .
[3] اتّفاق الصَّحابة على جمع عثمان - رضي الله عنه - للمصحف على حرف واحد من الأحرف السَّبعة، لئلا يكون ذريعة إلى اختلافهم في القرآن (3) أو ضياعه بموت حُفَّاظ القرآن، ولم يعلم منه مخالف على ذلك فصار إجماعاً (4) .
وكان جمع القرآن الأوَّل أيّام أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - بعد مقتل أهل اليمامة حتَّى استحرَّ القتل بالقُرَّاء، فأشار عمر - رضي الله عنه - على أبي بكر بجمعه، وأمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمعه (5) .
__________
(1) إعلام الموقعين، 3/123.
(2) المغني، 6/373، والمحلى، 15/218. قال الحاكم: "حديث صحيح"، وقال التّرمذيّ: "حسن". انظر: تلخيص التَّحبير، 3/209.
(3) إعلام الموقعين، 3/137.
(4) الفتاوى الكبرى، 3/225 فما بعدها.
(5) أخرجه البخاريّ في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، برقم 4701، 4/1907. وانظر: البرهان في علوم القرآن، 1/136، والإتقان، 1/59.(1/23)
ثُمَّ كان الجمع الثَّاني في أيّام عثمان - رضي الله عنه - حين خاف اختلاف النَّاس في القراءة، فجمعهم على القراءات الثَّابتة المعروفة عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأحرق ما سواها (1) ، وأمر بنسخ المصحف منه خمساً وزعت على الأقطار الإسلاميّة في ذلك الوقت.
وغير ذلك من الأمثلة التي تستندُّ إلى سدّ الذَّرائع، وتُعَدُّ مبدأ من مبادئ إبطال الحيل والتَّلاعب في الشَّريعة الإسلاميّة.
قال الإمام القرافيّ: "ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعاً له، فمتى كان الفعل السَّالم من المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا ذلك الفعل" (2) .
المبحث السَّادس: تطبيقيّات فقهيّة على قاعدة سدّ الذَّرائع
المسألة الأولى: حكم خِطبة الرَّجل على خِطبة أخيه، وبيعه على بيع أخيه:
يرى جمهور العلماء حُرْمة خِطبة الرَّجل على خِطبة أخيه، وبيعه على بيع أخيه. واستدلوا على ذلك بالآتي:
[1] ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يبع الرَّجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خِطبة أخيه، إلاَّ أنْ يأذن له) (3) .
[2] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيّ (نهى أنْ يخطب الرَّجل على خِطبة أخيه أويبيع على بيع أخيه) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاريّ في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، برقم 4702، 4/1908. وانظر: المراجع السَّابقة.
(2) تنقيح الفصول، ص 144.
(3) أخرجه البخاريّ في صحيحه، برقم 75، 7/36، ومسلم في صحيحه، برقم 1412، ص 605.
(4) أخرجه البخاريّ في صحيحه، برقم 389، 3/146-147، ومسلم في صحيحه، برقم 1412، ص 605.(1/24)
ومحل الاستدلال بهذا الحديث هو نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن خطبة الرَّجل على خطبة أخيه، وبيعه على بيعه، والنَّهي يقتضي التَّحريم حيث لا صارف له، وتعليل ذلك بأنَّه ذريعة تفضي إلى وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين، فسدَّ الشَّارع هذا الباب (1) .
قال ابن القيم: "ومن ذلك: نهيه عن الذَّرائع التي توجب الاختلاف، والتَّفرُّق، والعداوة والبغضاء، كخِطبة الرَّجل على خِطبة أخيه... سدّاً لذَّريعة الفتنة والفُرقة" (2) .
المسألة الثَّانية: حكم وصف المرأةُ المرأةَ لزوجها:
أجمع العلماء على حُرْمة أنْ تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها، مستندين في ذلك بنهيه - صلى الله عليه وسلم - أنْ تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها حتَّى كأنَّه ينظر إليها (3) .
ولا يخفى أنَّ ذلك سدّاً للذَّريعة، وحماية من مفسدة وقوعها في قلبه، وميله
إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم مِمَنْ أحبّ غيره بالوصف قبل الرُّؤية (4) .
المسألة الثَّالثة: حكم بيع السِّلاح في الفتنة:
ذهب أكثر أهل العلم إلى حُرْمة بيع السِّلاح في الفتنة، لِمَا فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، واحتجوا بحديث نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع السِّلاح في الفتنة (5) .
ولا ريب أنَّ هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم مَنْ لم يسدّ الذَّرائع أنْ يجوّز هذا البيع كما صرّحوا به، ومن المعلوم أنَّ هذا البيع يتضمَّن الإعانة على الإثم والعدوان.
__________
(1) انظر: إعلام الموقعين، 3/193.
(2) إغاثة اللّهفان، 1/507 فما بعدها.
(3) أخرجه البخاريّ في صحيحه، 5/2007، والإمام أحمد في مسنده، 1/464.
(4) إعلام الموقعين، 3/196، وإغاثة اللّهفان، 1/498.
(5) أخرجه البيهقيّ في سننه الكبرى، برقم 10561، 5/327.(1/25)
وفي معنى هذا كُلّ بيع أو إجارة أو معاوصة تعين على معصية الله تعالى، كبيع السِّلاح للكُفّار والبغاة، وقُطَّاع الطَّريق، وبيع الرَّقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره أو دكانه أو خانه لمَنْ يقيم فيها سوق المعصية، ونحو ذلك مِمَّا هو إعانة على ما يبغضه الله تعالى ويسخطه (1) .
ومن هذا عصر العنب لمَنْ يتخذه خمراً، وقد لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو والمعتصر معاً (2) .
ويلزم مَنْ لم يسدّ الذَّرائع أنْ لا يلعن العاصر، وأنْ يجوز له أنْ يعصر العنب لكُلّ واحد.
قال ابن القيم: "القصد غير معتبر في العقد، والذَّرائع غير معتيرة، ونحن مطالبون في الظَّواهر والله يتولَّى السَّرائر، وقد صرَّحوا بهذا، ولا ريب في التَّنافي بين هذا وبين سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (3) .
ووجه الدَّلالة هو نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، والنَّهي يقتضي التَّحريم، وذلك سدّاً للذَّريعة، لأنَّ بيع السِّلاح إلى أهل الحرب ذريعة تقتضي ـ غالباً ـ إلى استعماله في قتال المسلمين، فجاءت الشَّريعة بسدها.
المسألة الرَّابعة: حكم البول في الماء الرَّاكد:
يرى العلماء أنَّه لا يجوز البول في الماء الدَّائم قلّ أو كَثُر، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
__________
(1) إعلام الموقعين، 3/207.
(2) ولفظه: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمرة عشرة...)، أخرجه التّرمذيّ في سننه، 3/589.
(3) إعلام الموقعين، 3/147-207.(1/26)
وقد دلَّل على ذلك ابن القيم حيث قال: "أنَّه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الدَّائم (1) ، وما ذاك إلاَّ أنَّ تواتر البول فيه ذريعة إلى تنجيسه، وعلى هذا فلا فرق بين القليل والكثير، وبول الواحد والعدد، وهذا أوْلَى من تفسيره بما دون القلتين أو بما يمكن نزحه، فإنَّ الشَّارع الحكيم لا يأذن للنَّاس أنْ يبولوا في المياه الدَّائمة إذا جاوزت القلتين أو لم يمكن نزحها، فإنَّ في ذلك من إفساد مياه النَّاس ومواردهم ما لا تأتي به شريعة، فحكمة شريعته اقتضت المنع من البول فيه، قلّ أو كَثُرَ سدّاً لذَّريعة إفساده" (2) .
المسألة الخامسة: حكم الجمع بين المرأة وعمّتها أو المرأة وخالتها:
اتّفق العلماء على حُرْمة الجمع بين المرأة وعمّتها أو المرأة وخالتها (3) ، واستدلوا على ذلك بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ لأنَّه مدعاة إلى قطيعة الرَّحم.
يقول ابن القيم (4) : "وحرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمع بين المرأة وعمّتها وبين المرأة وخالتها، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرَّحم. وبهذه العلّة بعينها علَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنَّكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) (5) .
المسألة السَّادسة: حكم التَّفريق بين الأولاد في المضاجع:
__________
(1) أخرجه البخاريّ في صحيحه، باب الماء الدَّائم، برقم 232، 1/171، ومسلم في صحيحه، برقم 282، ص 168، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، ولفظه: (لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدَّائم ثُمَّ يغتسل منه).
(2) إعلام الموقعين، 3/201.
(3) أخرجه البخاريّ في صحيحه برقم 5109، ومسلم في صحيحه برقم 1418، ص 602، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، ولفظه: (لا يجمع بين المرأة وعمّتها، ولا بين المرأة وخالتها).
(4) إغاثة اللّهفان، 1/502.
(5) أخرجه الطَّبرانيّ في المعجم الكبير، من طريق معتمر بن سليمان بن الفضل، برقم 11931، 11/337.(1/27)
ذهب أهل العلم إلى وجوب التَّفريق بين الأولاد في المضاجع، مستدلين في ذلك إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أمر أنْ يُفرَّق الأولاد في المضاجع (1) ، وأنْ لا يترك الذَّكَر ينام مع الأنثى في فراش واحد؛ لأنَّ ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشَّيطان بينهما المواصلة المحرَّمة بوساطة اتّخاذ الفراش، ولا سيما مع الطّول، والرَّجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر، وهذا أيضاً من ألطف سدّ الذَّرائع (2) .
المسألة السَّابعة: حكم التَّداوي بالخمر:
وقد اتّفق العلماء على إباحة الحرام للمضطر ولم يختلف منهم أحد، وإنَّما اختلفوا في التَّداوي بالخمر، فمنهم مَنْ منعه، ومنهم مَنْ أباحه.
والظَّاهر أنَّ المنع هو الرَّاجح، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَّداوي بالخمر (3) .
يقول ابن القيم: "وإنْ كانت مصلحة التَّداوي راجحة على مفسدة ملابستها، سدّاً لذَّريعة قربانها واقتنائها ومحبة النُّفوس لها، فحسم عليها المادة حتَّى في تناولها على وجه التَّداوي، وهذا أبلغ سدّ الذَّرائع".
المسألة الثَّامنة: حكم الزَّواج بلا ولي، وزواج المتعة والتَّحليل:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 2/187، وأبو داود في سننه، باب متى يؤمر الغلام بالصَّلاة، برقم 495، 1/133.
(2) إعلام الموقعين، 3/197.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 4/317، وقد روى مسلم في صحيحه، ص 886، برقم 1984، عن طارق بن سويد الجعفيّ أنَّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنَّما أصنعها للدَّواء، فقال: (إنَّه ليس بدواء، ولكنه داء).(1/28)
ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ الزَّواج لا ينعقد إلاَّ بولي، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نكاح إلاَّ بولي) (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (أيَّما امرأة نكحت بلا ولي فنكاحها باطل) (2) .
يقول ابن القيم معللاً لهذا البطلان: "إنَّه - صلى الله عليه وسلم - أبطل أنواعاً من النِّكاح الذي يتراضى به الزَّوجان سدّاً لذَّريعة الزِّنا، فمنها النِّكاح بلا ولي، فإنَّه أبطله سدّاً لذَّريعة الزِّنا، فإنَّ الزَّاني لا يعجز أنْ يقول للمرأة: أنكحيني نفسك بعشرة دراهم ويشهد عليها رجلين من أصحابه أوغيرهم، فمنعها من ذلك سدّاً لذَّريعة الزِّنا.
ومن هذا تحريم نكاح التَّحليل (3) الذي لا رغبة للنُّفس في إمساك المرأة واتّخاذها زوجة؛ بل له وطر فيما يقتضيه بمنزلة الزِّنا في الحقيقة وإنْ اختلفت الصُّورة.
__________
(1) أخرجه الدّارقطنيّ في سننه، 3/226، وأبو داود في سننه، باب في الولي، برقم 2085، 2/229.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، برقم 24417، 6/66، وأبو داود في سننه، باب في الولي، برقم 2083، 2/229، ولفظه: (بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ثلاث مرات). وانظر: سبل السَّلام: للصَّنعانيّ، 3/227.
(3) أخرجه أبو داود في سننه، باب في التَّحليل، برقم 2076، 2/227، وابن ماجه في سننه، برقم 1934، 1/622. وانظر: سبل السَّلام، 3/246.(1/29)
ومن ذلك تحريم نكاح المتعة (1) الذي يعقد فيه المتمتع على المرأة مدّة يقضي وطره منها فيها، فحرَّم هذه الأنواع كُلّها سدّاً لذَّريعة السِّفاح ولم يبح إلاَّ عقداً مؤبداً يقصد فيه كُلّ من الزَّوجين المقام مع صاحبه، ويكون بإذن الولي وحضور الشَّاهدين أو ما يقوم مقامهما من الإعلان، فإذا تدبّرت حكمة الشَّريعة وتأمّلته ـ حقّ التَّأمُّل ـ رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سدّ الذَّرائع، وهي من محاسن الشَّريعة وكمالها" (2) .
وكذلك قضاء القاضي لأصوله أو فروعه أو زوجته مِمَنْ لا تجوز شهادته لهم يصح عند جمهور العلماء سدّاً للذَّريعة؛ لأنَّه متهم في محاباته لهم، مِمَّا يؤدي قضاؤه لهم غالباً للجور على خصومهم، فسدّاً لذَّريعة المحاباة امتنع قضاؤه لهم.
وشهادة أحد الزَّوجين للآخر إنَّها في الأصل جائزة، وتدخل في عموم قوله تعالى { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } [البقرة: 282].
ولكن جمهور العلماء قالوا بعدم قبول شهدة أحد الزَّوجين لمصلحة الآخر.
ودليلهم لعدم القبول سدّ الذَّرائع؛ لأنَّ كلاُ منهما متهم في شهادته للآخر بجلب الخير لنفسه، لأنَّ المنافع بينهما متصلة، ولأنَّ كلاً منهما يرث الآخر، فصارت شهادة أحدهما للآخر كأنَّهما شهادة لنفسه ضمناً.
وتحريم النَّظر إلى النِّساء الأجنبيات أو الخلوة بهنَّ أو السَّفر معهنَّ؛ لأنَّه يؤدي إلى الزِّنا، وذريعة إلى الشَّرّ (3) .
الخاتمة:
لقد تمّ هذا البحث بعون من الله تعالى وتوفيقه، وقادني في نهايته إلى نتائج موضوعيّة، من أهمها:
__________
(1) أخرجه البخاريّ في صحيحه، برقم 5203، 5/2102، ومسلم في صحيحه، برقم 1406، ص 600.
(2) إعلام الموقعين، 3/204، وزاد المعاد، 3/344 فما بعدها، وإغاثة اللّهفان، 1/503.
(3) أصول الفقه: مُحَمَّد أبوزهرة، ص 280 فما بعدها.(1/30)
[1] الرَّاجح أنَّ قاعدة سدّ الذَّرائع من أحكام القواعد التَّشريعة الكليّة، ويبتني عليها أحكاماً شرعيّة، لتحقيق المصالح والمنافع أو لدفع المضارّ والمساوئ.
[2] اعتبار سدّ الذَّرائع مصدراً من مصادر التَّشريع من أهم الدَّلائل على استيعاب الشَّريعة الإسلاميّة لمصالح النَّاس في كُلّ زمان ومكان، رعاية للمقاصد الشَّرعيّة والمصالح المشروعة.
[3] أنَّ قاعدة سدّ الذَّرائع تعمل فيما لا نص قطعيّ فيه، ولا تدخل في أحكام العبادات والمقدرات، لأنَّها تعبُّديّة، ولا مجال للاجتهاد فيها.
[4] الشَّارع الحكيم لا يقرّ إفساد أحكامه وتعطيل مقاصد، إذا استعملت الذَّرائع لغير ما شرعت له، ويتوسّل بها إلى خلاف مقاصدها الحقيقيّة.
[5] ولا تنكر جهود علماء الشَّريعة ـ المتقدمين منهم والمتأخرين ـ الذين قعَّدوا لهذه القاعدة العظيمة، من خلال اطّلاعهم على الدّراسات الشَّرعيّة في هذا المجال، والذين أغنوا مباحثه بالأمثلة الكثيرة من سدّ الذَّرائع في القديم والحديث.
وإلى هنا انتهى ما أردتُ جمعه في هذا الموضوع. وأرجو أنْ أكون قد وُفِّقت إلى ذلك، فإنْ يكن صواباً فمن فضل الله تعالى وتوفيقه، وإنْ كانت الأخرى فمن نفسي وتقصيري.
.. والله من وراء القصد ..(1/31)