فقه التدرُّج في التشريع الإسلامي فهماً وتطبيقاً
( د. معاوية أحمد سيد أحمد (1)
مقدمة:
إنَّ الحمد لله رب العالمين، خالق السموات والأرض، أحمده تعالى وأستعينه وأستغفره، وأعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأصلي وأسلم على أشرف الأنام ومبدد الظلام، محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه الكرام، أهل التقوى والإيمان، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد،،،
فإنَّ الله تعالى قد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
فهدى الله تعالى على يديه خلقاً كثيراً، كانوا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وتقيم شرع الله في أرضه، فكانت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ثم تبدَّل الحال مرة أخرى وساءت الفعال، وجاءت ظلمات الضلال تجر أذيالها في تيه وكبرياء، وما ذلك إلاَّ لأنَّ الناس خالفوا منهج رسولهم الكريم، وبدلوا منهج القرآن العظيم، بمناهج الضلال والانحلال، ونسوا اليوم الآخر يوم المآل.
ولكن ما زال هناك بقية ممن تمسكوا بهذا الدين والتزموا بمنهجه، وقد عرفوا أن من واجبهم انتشال المسلمين من هذا الانحطاط، والخروج بهم إلى هدى الإسلام مرة أخرى.
وسلكوا في ذلك مناهج عديدة واختطوا سبلاً كثيرة، وكل يدعي أن طريقته في الدعوة هي التي ستعيد مجد الإسلام الغابر.
__________
(1) (() أستاذ مشارك، أمين الشؤون العلمية بجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية (السُّودان ـ أم درمان).(1/1)
ولكن ومع ذلك فما زال المجتمع المسلم وفي كثير من أطرافه يعاني من أمراض الانحلال والتفكك، بالرغم من كثرة الدعاة فيه. والمتأمل للمجتمع اليوم يعلم يقيناً أن المجتمع لا يشكو من قلة الدعاة، أو قلة الوعاظ والمتحدثين في فروع الفقه والدين، وإنما يشكو من قلة فقه الدعوة عند الدعاة الملقي على عاتقهم إصلاح المجتمع.
إنَّ الدعاة لا بُدَّ من أنْ يستلهموا منهج الدعوة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد غير أمة كاملة، وكان يبعث أصحابه إلى بعض القبائل لنشر الإسلام، وكثيراً ما كان الواحد منهم يبعث وحده، ولكن ومع ذلك يستطيع أن يخرج الناس من الضلال إلى الهدى، ويهدم جدران الكفر والشرك، لأنهم أولاً صدقوا الله ثم فقهوا هذا الدين وطريق دعوته، فهدى الله بهم الناس إلى الكتاب المنير، وأجرى على يديهم التغيير (1) .
والدعاة اليوم أحوج لمثل هذا الفقه، لأنَّ الدعوة إلى الله ليست حفظاً لنصوص القرآن والسنة ثم إلزام المجتمع بها، ولكن الدعوة إلى الله علم واسع يحتاج إلى فهم دقيق لأحكام الدين وواقع المجتمع.
ولقد وفقني الله تعالى لأكتب في أصل مهم من أصول الدعوة، وهو فقه التدرُّج.
إنَّ الأمم لا تتغيَّر بين يوم وليلة من منهج إلى منهج، ولكن هذا التغيير يحتاج إلى جهد جهيد ووقت مديد.
إنَّ هذا الأصل أضاعه كثير من الدعاة اليوم، ورغبوا في أنْ يغيروا المجتمع في أيام معدودات، فلم يستطيعوا ذلك؛ لأن طبائع الناس لا تقبل مثل هذا التغيير الذي يتم بين عشية وضحاها، إذ يصعب عليهم ترك حياة ألفوها واعتادوا عليها فجأة.
وإنني أسأل الله تعالى التوفيق في أنْ أبيِّن بعضاً من معالم هذا الأصل العظيم الذي يُعَدُّ أحد مناهج الإسلام في تغيير المجتمع.
__________
(1) انظر قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي ورجوعه إلى قومه ودعوتهم إلى الإسلام، وقصة إسلام أبي ذر الغفاري ودعوته إلى قومه، كتب السيرة.(1/2)
تعريف التدرُّج وعلاقته بفهم الواقع
تعريف التدرُّج:
التدرُّج في اللُّغة يعني الاقتراب شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، جاء في المعجم الوسيط: "وتدرج مضارع درجه، وتدرج إليه تقدم شيئاً فشيئاً وتدرج فيه تصعد درجة درجة" (1) .
ومنه الاستدراج .. واستدرجه أي قربه وأدناه على وجه التدريج، جاء في "لسان العرب": "ودرجه إلى كذا واستدرجه بمعنى، أي أدناه منه على التدريج" (2) .
وقد ورد الاستدراج في القرآن الكريم في قوله تعالى: (3) . قال صاحب "اللسان": (قال بعضهم: معناه سنأخذهم قليلاً قليلاًً ولا نباغتهم) (4) .
وعلى هذا فإنَّ التدرُّج في الدين يعني الدخول فيه شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً، واستدراج الناس إليه درجة درجة.
وأما كلمة التدرُّج عندما تطلق في التشريع الإسلامي فيراد بها: نزول الشرائع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - متدرجة متفرقة، فكثير من أحكام القرآن لم تنزل جملة واحدة، بل كان الحكم يأخذ أطواراً عديدة حتى يصل إلى طوره الأخير، كإيجاب الصلاة وتحريم الربا والخمر.
فهم الواقع في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - :
لقد أنزل الله تعالى هذا القرآن وشرع أحكام الإسلام لمصلحة البشر، فكان من مقاصد الشريعة الإسلامية رعاية مصالح النَّاس.
لذا كانت بعض أحكام الشريعة الإسلامية التفصيلية والجزئية متغيرة بتغيُّر الزمان والمكان والحال، وأما الأصول العامة للإسلام فثابتة ولا تقبل التغيير.
__________
(1) المعجم الوسيط مادة (درج)، طبعة دار إحياء التراث الإسلامي، 1/277.
(2) لسان العرب، مادة (درج)، 2/1352.
(3) سورة القلم، الآية (44).
(4) راجع: كتاب أصول التشريع الإسلامي: للأستاذ علي حسب الله، ط/5، ص 296 وما بعدها.(1/3)
والمتأمل لعدد من الأحكام في القرآن يجد أنها تتغير بتغيُّر الحال والواقع، فمن أمثلة ذلك أنَّ أكل الميتة محرم، ولكن التحريم في حق من لم يكن مضطراً، فإذا اضطر المكلف إلى أكلها كأن انقطع في صحراء ولم يجد قوتاً، كان أكله لها جائزاً، وهذا ثابت بنص القرآن في قوله تعالى (1) .
فلم يكن حكم القرآن ثابتاً في كل الأحوال بل تغيَّر بحسب حال المكلف وواقعه (2) .
والمتأمل لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد أنَّ عدداً من الأحكام قد تغيرت بتغيُّر الزمان والمكان والحال.
فمن ذلك أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة عند بداية الدعوة كان يستطيع أنْ يأمر المسلمين بتحطيم الأصنام التي توجد حول الكعبة حتى يغير هذا المنكر ولا يجد أهل مكة من المشركين ما يعبدونه، ولكنه لم يفعل ذلك، لأنه كان يمكن أنْ يترتب عليه في ذلك الوقت ما هو أكبر منه، فقد يثير هذا الفعل أئمة الكفر ويطلبون الثأر لآلهتهم وقد يقومون بقتل المسلمين انتقاماً لذلك، الذين لم تكن لهم في ذلك الوقت قوة ولا منعة.
__________
(1) سورة النحل، الآية (115).
(2) وهكذا جميع الأحكام التي شُرِعَ فيها التخفيف في أحوال خاصة تقتضي التخفيف وتسمَّى عند الأصوليين: "الرخصة".(1/4)
ولكن عندما جاء الوقت المناسب وتغيَّر الحال، وكان ذلك عند فتح مكة حطم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه جميع الأصنام التي كانت حول الكعبة، لأن الواقع الذي كان موجوداً في بداية الدعوة قد تغير فتغير الحكم تبعاً له، يقول الأستاذ مصطفى مشهور: (... ألم يكن في استطاعته - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة أن يأمر بعض من آمن معه أن يحطموا بعض الأصنام التي حول الكعبة من قبيل إزالة المنكر، أو أن يقتلوا أحداً من أئمة الكفر للنيل من شوكتهم وقوتهم؟! لم يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء من ذلك في تلك المرحلة، لأن مثل هذه الأعمال الجزئية من شأنها أن تثير حفيظة أهل الشرك عبدة الأصنام فيجدُّوا في البحث عن المؤمنين في كل مكان ليبطشوا بهم ويقضوا عليهم وهم ما زالوا بنية لينة ، ثم يقوم أهل الشرك بإقامة أصنام جديدة أكثر عدداً مما حطم، ولكن حينما جاء الوقت المناسب حطمت جميع الأصنام ولم تقم لها قائمة بعد ذلك الوقت، ، ولم يعترض معترض، وكان ذلك في غزوة الفتح، وفي العام السابق لها مباشرة كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يطوفون البيت الحرام وحوله الأصنام وكفار قريش خارج مكة ، ولم يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتحطيمها، ولكن تم ذلك في وقته المناسب، ) (1) .
__________
(1) طريق الدعوة: مصطفى مشهور، طبعة دار القرآن الكريم، ص 53-54.(1/5)
ومن ذلك أيضاً قضية الجهاد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في بداية الدعوة في مكة لم يكونوا مأمورين بالقتال بل كانوا مأمورين بالدفع بالتي هي أحسن والصفح والهجر، وهذا باتفاق العلماء يقول الإمام القرطبي: "ولا خلاف في أن القتال كان محظوراً قبل الهجرة بقوله تعالى: (1) ، وقوله تعالى (2) ، وقوله تعالى (3) وقوله (4) وما كان مثله مما نزل بمكة ، فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال" (5) .
وذلك لأنَّ واقع المسلمين في ذلك الوقت لم يكن يمكنهم من الجهاد؛ فقد كانوا قلة في العدد، ولم يكن لهم من الرجال والعتاد والسلاح ما يواجهون به قوة الكفر في مكة يومئذٍ، ولكن عندما هاجر المسلمون إلى المدينة وأصبح لهم دار ودولة ومنعة وأنصار، فرض القتال لتغيُّر الحال الذي كانوا عليه في مكة، فمن ضعف انتقلوا إلى قوة، ومن قلة إلى كثرة وأنصار، فكان الواقع مناسباً لأمر القتال، يقول ابن كثير: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات نصيب، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليتشفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمروا بالجهاد إلا بالمدينة لما صار لهم دار ومنعة وأنصار" (6) .
فهم الواقع وإنكار المنكر:
__________
(1) سورة المؤمنون، الآية (96)، وسورة فصلت، الآية (34).
(2) سورة المائدة، الآية (13).
(3) سورة المزمل، الآية (10).
(4) سورة الغاشية، الآية (22).
(5) الجامع لأحكام القرآن: للإمام القرطبي، الطبعة الثانية، 2/347.
(6) تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، طبعة عالم الكتب، بيروت، 1/525.(1/6)
إنَّ من أهم الأصول التي شرعها الإسلام لإصلاح المجتمع وتقويم الناس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وصف الله تعالى أمة الإسلام بالخيرية لأن من أبرز صفاتها أنها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر فقال: (1) .
وأمر كذلك أن تكون من المسلمين طائفة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر فقال: (2) .
لأنَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصلح الناس بعضهم بعضاً، ويذكر بعضهم بعضاً بأحكام الدين وتعاليمه.
وقد ظن بعض الناس أنه يكفي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون المرء عالماً بالحكم وأدلته، وأنه يكفي في الفتوى أن يكون المفتي فقيهاً وعالماً بالأحكام التفصيلية وأدلتها، ولكن هناك أصل عظيم فات على الكثيرين، وهو فهم ومعرفة واقع المجتمع، فان أمر الفتوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبط به ارتباطاً كاملاً، والفقه أوسع وأعمق من مجرد فهم الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية، ولكن هو إدراك بصير يربط ويؤلف بين أحكام الله في شرعه بعضها ببعض، ولا يكتفي بالنظر إلى السطوح دون الأعماق، بل ينفذ إلى بواطن الأمور ويعرف أحوالها، ويزداد هذا الإدراك عمقاً بالخوض في معترك الحياة وفهم أحوال المجتمع، وعند ذلك يتحصل للمفتي الفقه الكامل ويستطيع أن يصلح به في المجتمع (3) .
وقد كان هذا هو حال الأئمة الأعلام ومن تبعهم من القائمين بأمر الإسلام، فقد كانوا يقتحمون معترك الحياة ويخالطون المجتمع ويفقهون واقعه، لذلك لم يكونوا يخرجون الفتوى إلا بحسب ما يقتضيه الواقع والحال، فكان كلامهم مسموعاً وحكمهم متبوعاً.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية (110).
(2) سورة آل عمران، الآية (104).
(3) راجع كتاب: فقه الدعوة.. ملامح وآفاق: الأستاذ/عمر عبيد حسنة، كتاب الأُمَّة.(1/7)
بل قد كان بعضهم يأمر تلاميذه بالخوض مع الناس في الحياة لمعرفة واقعهم، كالإمام أبى حنيفة - رضي الله عنه - فقد أوصى أحد تلاميذه وهو يوسف بن خالد السمني فقال له ـ وكان يوسف بن خالد ذاهباً إلى البصرة ـ: "إذا دخلت البصرة استقبلك الناس وزاروك، وعرفوا حقك، فأنزل كل رجل منزلته، وأكرم أهل الشرف، وعظم أهل العلم، ووقر الشيوخ، ولاطف الأحداث وتقرب من العامة، ودار الفجار، واصحب الأخيار، ولا تتهاون بسلطان ولا تحقرنَّ أحداً" (1) .
وقد وصى أبو حنيفة تلميذه بهذه الوصية حتى يجعله يجمع بين فهم الدين وفهم الواقع، وبهذا يكون فقهياً حقاً.
وهكذا كان أبو حنيفة نفسه، كان ملماً بواقع الناس وحالهم، فقد قيل عنه: "كان أبو حنيفة يناظر أصحابه في المقاييس فينتصفون منه ويعارضونه، حتى إذا قال استحسن لم يلحقه أحد منهم، لكثرة ما يورد في الاستحسان من مسائل فيذعنون جميعاً ويسلمون له" (2) .
وعلَّق الإمام أبو زهرة على ذلك بقوله: "وما ذاك إلاَّ لإدراكه لدقيق المسائل، وصلتها بالناس ومعاملاتهم وأغراضهم، فإن استحسن فإنما يأخذ مادته من دراسته لأحوالهم مع دراسات أصول الشرع الشريف ومصادره" (3) .
فحفظ الكتب وما تحويه من مسائل لا تؤهل المفتي ليكون فقهياً كما يجب. ولكن الفقيه الحق هو الذي يربط بين حفظ الكتب وما فيها من فقه وبين واقع الناس وحالهم.
__________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة، طبعة دار الفكر العربي، ص 358.
(2) أبو حنيفة حياته وعمره وفقهه وآراؤه الفقهية: محمد أبو زهرة، طبعة دار الفكر العربي، ص 75.
(3) المصدر السابق، ص 75.(1/8)
يقول الدكتور/يوسف القرضاوي: "فقه الأوراق هذا ـ إنْ صحَّت التسمية ـ ليس فقهاً وليس اجتهاداً حقيقياً، الفقه الحق والاجتهاد الحق هو الذي ينطلق من معايشة الناس ومعرفة ما هم فيه، والفقيه الحق هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع كما يقول ابن القيم" (1) .
فالفقيه الحق هو الذي ينفذ إلى أعماق المجتمع وينظر فيها نظر المتأمل المتفحص، حتى يمكنه ذلك من علاج علله وأمراضه، فإنَّ الطبيب الذي يريد علاج أحد المرضى يجب عليه أولاً أنْ يعرف علة المريض وسببها وعلاجها وكيفيته قبل أنْ يبدأ في ذلك عملياً، وإلا فسوف يضر بالمريض بدلاً من علاجه، ولذلك لا يجوز إنكار المنكر إذا كان الإنكار يؤدي إلى ما هو أضر وأفسد.
يقول الإمام ابن القيم: "فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإنْ كان الله يبغضه ويمقت
أهله" (2) .
__________
(1) فقه الدعوة ملامح وآفاق: عمر عبيد حسنة، كتاب الأُمَّة، 2/188.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين: لابن القيم، طبعة دار الجيل، 34.(1/9)
فالناهي عن المنكر يجب عليه أولاً أنْ ينظر إلى حال من أراد نهيه ثم يرجح بين المصالح والمفاسد، فإذا كانت المصلحة تأتي بالنهي فَلْيَنْهَ، وإذا ترجح في ظنه أنَّ النهي عن هذا المنكر سيأتي بما هو أكبر فلا يجوز أن ينهى عنه، يقول الإمام ابن القيم: "فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع أو مكاء وتصدية (1) ، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة فهو المراد وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت عليه من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع" (2) .
ويقول الإمام ابن القيم كذلك حاكياً عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ونور ضريحه ـ يقول: مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه ذلك وقلت له: إنَّما حرم الله الخمر لأنَّها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال فدعهم" (3) .
وعلق الدكتور/يوسف القرضاوي على قصة ابن تيمية هذه بقوله: "وهذا هو الفرق بين الفقيه الحرفي أو ما سميته فقيه الأوراق وبين فقيه الحياة وفقيه الميدان والمعركة، الأول أنكر المنكر الذي رآه دون اعتبار للمقصد والدافع والثاني نظر إلى الواقع في ضوء المقاصد فقال ما قال" (4) .
__________
(1) المكاء: التصفير بالفم أو التشبيك بالأصابع أو النفخ فيها، والتصدية: التصفيق باليد.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، 3/5.
(3) المصدر السابق، 3/5.
(4) فقه الدعوة ملامح وآفاق، ص 188.(1/10)
فالحاصل أنَّ الداعية إلى الله يجب أنْ يكون عالماً بواقع المجتمع، حتى يكون علاجه قوياً ومؤثراً.
وإذا نظرنا إلى واقع المجتمعات اليوم نجد أنَّ الشر والفساد قد انتشر فيها، ولا سبيل إلى العلاج إلا بالتدرُّج، وهو طريقة القرآن التي عالج بها المجتمع الجاهلي فجعل الأُمَّة التي تعبد الأصنام، وتتخبط في الظلمات خير أمة تأمر بالإسلام، وتدعو إلى الخير.
وفهم الواقع من أهم دعائم التدرُّج، لأنَّ المصلح إذا لم يفقه واقع المجتمع فلن يستطيع أنْ يحدد كيف يتدرَّج ومن أين يبدأ التدرُّج وما هو الذي يعالجه التدرُّج، والذي لا يعالجه، ولا يؤثر فيه.
القرآن والتدرُّج
مسلك القرآن في التشريع:
لقد كان من أبرز خصائص التشريع الإسلامي أنَّه جاء متدرجاً بحسب الأحوال والوقائع ولم ينزل جملة واحدة، وذلك مراعاة لواقع المجتمع الذي أراد معالجته وإخراجه من الظلمات إلى النور.
يقول الأستاذ/ مصطفى شلبي: "ومن هنا كان من خصائصه أنَّه جاء متدرجاً مع الزمن والأحوال ، فلم ينزل دفعة واحدة كغيره من التشريعات السماوية السابقة ، ولم يصدر في وقت واحد كما هو متبع في التشريعات الوضعية" (1) .
فقد جاء القرآن إلى الجزيرة العربية وكانت في ذلك الوقت تذخر بكل أنواع الفساد، كعبادة الأوثان والأصنام، وقتل الأولاد خشية الفقر وأكل الأموال بالباطل، وارتكاب الفواحش، كالزنى وشرب الخمر.
__________
(1) المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي: مصطفى شلبي، طبعة دار النهضة، ص 75.(1/11)
فلذلك لم ينزل عليهم بالأحكام التي تقوم وتصلح تلك الحياة جملة واحدة، لأن ذلك لا يعالج مثل هذا المجتمع الذي تأصل فيه الضلال والفساد. بل سلك مسلكاً حكيماً أخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى؛ وهو التدرُّج بهم في تشريع هذه الأحكام التي تصلح من حالهم، يقول الدكتور/يوسف حامد العالم: "إنَّ القرآن الكريم له مسلك خاص تفرد به في معالجة الأمراض الاجتماعية الخطيرة، وذلك باتباع سنة التدرُّج في تقرير الأحكام وتأكيدها" (1) .
ويمكن تلخيص هذا المسلك في أسلوبين عالج بهما القرآن العادات السيئة التي تأصلت في المجتمع:
فالأسلوب الأول: هو تأجيل العلاج حتى يستقر الإيمان في قلوب المسلمين بحيث يمكن الاستعانة بقوة الإيمان كدافع قوي يسهل عملية التخلص من العادات السيئة المستحكمة، وتعلم عادات جديدة بدلاً منها.
وأما الأسلوب الثاني: فهو عبارة عن التهيئة المتدرجة لنفوس المسلمين للتخلص من هذه العادات ، ومثاله الخمر (2) .
إنَّ التدرُّج في التشريع من أبرز الحكم لنزول القرآن منجماً، وما ذاك إلاَّ لإخراج الناس إلى الإسلام بدون أنْ يثقل عليهم أو ينفرهم، لكي يبلغ بهم المنزلة التي يريدها الله تعالى وهي الالتزام بمنهج الإسلام كاملاً شاملاً لكل الحياة.
أنواع التدرُّج:
وإذا نظرنا إلى التدرُّج التشريعي في الصدر الأول للإسلام نجده نوعين:
النوع الأول: وهو التدرُّج في الأحكام جملة.
والنوع الثاني: التدرُّج في تشريع الحكم الواحد.
__________
(1) حكمة التشريع الإسلامي في تحريم الربا: د. يوسف حامد العالم، ص 12.
(2) انظر كتاب: القرآن وعلم النفس: الدكتور محمد عثمان تجاني، طبعة دار الشروق، 1982م.(1/12)
فمثال النوع الأول: تشريع الصلاة في ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة، ثم تشريع الآذان والقتال وبعض أحكام النكاح كالصداق والوليمة في السنة الأولى من الهجرة، وفي السنة الثانية شرع الصوم وصلاة العيدين ونحر الأضاحي والزكاة، وحولت فيها القبلة وأحلت الغنائم للمجاهدين، وشرع قصر الصلاة في السفر والخوف في السنة الرابعة، وفيها أيضاً شرعت عقوبة الزِّنى وأنزل الله أحكام التيمم والقذف وفرض الحج، وهكذا إلى اكتمال التشريع (1) .
وأما النوع الثاني فمثل تحريم الخمر والربا، وفرض الصيام والصلاة فقد كان الحكم يأخذ أطواراً وأحكاماً مختلفة حتى يصل إلى غايته (2) .
وسيأتي تفصيل ذلك في أمثلة التدرُّج لاحقاً...
أمثلة التدرُّج في العهد النبوي
التدرُّج في بناء الدولة الإسلامية:
لقد اتخذت الدعوة الإسلامية، وبناء الدولة الإسلامية أطواراً متعددة، اختلفت أحكام كل طور عن الطور الآخر بحسب ما يقتضيه واقع كل طور وحال المسلمين فيه، من قوة أو ضعف. فتدرجت الدعوة إلى الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية.
إنَّ أول هذه الأطوار والمراحل مرحلة الدعوة السرية، وقد كانت مدتها ثلاث سنوات (3) ، ثم بعد أنْ أصبح المسلمون كثرة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجهر بالدعوة وذلك امتثالاً لأمر الله تعالى:
(4) .
وقد أُمِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بداية الدعوة، بدعوة عشيرته الأقربين، قال تعالى:
(5) .
ثم بعد ذلك أُمِرَ أنْ يدعو أهل مكة وما حولها، قال تعالى: (6) .
ثم بعد ذلك أُمِرَ أنْ ينذر العرب خاصة، قال تعالى: (7) .
__________
(1) راجع: تاريخ الفقه الإسلامي: الدكتور/عمر سليمان الأشقر، الطبعة الأولى، ص 48.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، الطبعة الأولى، 1/295.
(4) سورة الحجر، الآية (94).
(5) سورة الشعراء، الآية (214).
(6) سورة الشورى، الآية (7).
(7) سورة السجدة، الآية (3).(1/13)
ثم بعد ذلك أُمِرَ أنْ يدعو الناس كافة، قال تعالى: (1) .
وفي كل طور من هذه الأطوار كان مأموراً هو وأصحابه بالصبر على الأذى وألا يقابل الإساءة بمثلها (2) .
ثم بعد ذلك تدرَّجت الدعوة إلى طور آخر من أطوار البناء، وهو الهجرة إلى المدينة، وفرض القتال، لأن حال المسلمين تبدل فأصبحت لهم قوة ومنعة، لذلك أذن لهم في القتال (3) .
ولقد لخص الإمام ابن القيم هذه المراحل فقال في مراتب الدعوة: "المرتبة الأولى النبوة، والثانية إنذار عشيرته الأقربين، والثالثة إنذار قومه، والرابعة إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة، والخامسة أنذر جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر، وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ثلاثاً يدعو إلى الله سبحانه وتعالى مستخفياً، ثم نزل عليه . فأعلن - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة واشتد عليه الأذى وعلى المسلمين حتى أذن لهم بالهجرتين" (4) .
التدرُّج في فرض بعض الشعائر:
فرض الصلاة:
لقد كان شرع الصلاة في أطوار. فقد شرعت في البدء صلاة بالغداة وأخرى بالعشي، فلما ألفوها شرعت خمس صلوات في اليوم والليلة، ركعتين ركعتين، ما عدا المغرب، ثم أقرت في السفر وزيدت في الحضر إلى أربع في الظهر والعصر والعشاء (5) .
وقد جاء عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففرضت أربعاً وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى) (6) .
فرض الصيام:
لقد كان فرض الصيام على مرحلتين:
__________
(1) سورة سبأ، الآية (28).
(2) سورة المزمل، الآية (10).
(3) راجع هذه الأطوار في: كتاب التشريع الإسلامي مصادره وأطواره: الدكتور/ شعبان محمد إسماعيل، الطبعة الأولى.
(4) زاد المعاد: لابن القيم، 1/34.
(5) المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، ص 77.
(6) متفق عليه.(1/14)
الأولى: إيجابه على التخيير فكان من شاء صام ومن شاء أفطر ولو كان قادراً صحيحاً مقيماً وأطعم عن كل يوم مسكيناً.
والثانية: تحتم الصيام على القادر الصحيح المقيم. وكان إذا غربت الشمس يتناولون طعامهم ما لم يناموا، ومن نام قبل أن يطعم ويشرب حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة المقبلة (1) .
وقال الحنفية والمالكية وبعض الشافعية: أول ما فرض صيام عاشوراء ثم ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ ذلك بصوم رمضان بالإمساك كل يوم وليلة من بعد النوم إلى غروب الشمس، ثم نسخ ذلك بآية: (2) .
واستدلوا بحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: إنَّ قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيامه، حتى فرض رمضان، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (من شاء فليصمه ومن شاء أفطره) (3) .
التدرُّج في تحريم بعض العادات:
التدرُّج في تحريم الخمر:
لقد نزل تحريم الخمر في أربع مراحل:
فكان أول ما نزل في شأنها قوله تعالى: (4) ، فبيَّنت هذه الآية أنَّ ثمرات النخيل ـ أي التمر ـ قد يكون منها الرزق الحسن وقد يكون منها الخمر، فأشار الله تعالى إلى أنَّ السكر ليس من الرزق الحسن لأنه فرَّق بينهما.
ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى: (5) ، فبيَّنت أنَّ ضرر الخمر والميسر أشد من نفعهما، وعند ذلك بدأ بعض الصحابة يتركون الخمر.
ثم نزل قوله تعالى: (6) .
فأمرتهم هذه الآية بعدم الاقتراب من الصلاة إذا كانوا سكارى، فأصبحوا لا يشربون الخمر إلاَّ في الليل، وبذلك قلَّل الله تعالى كمية الخمر التي كانوا يشربونها في اليوم.
__________
(1) راجع: فقه الصيام في الإسلام: للدكتور/أحمد مصطفى سليمان، الطبعة الأولى، ص 87.
(2) سورة البقرة، الآية (187). وانظر: المصدر السابق.
(3) أخرجه البخاري.
(4) سورة النحل، الآية (67).
(5) سورة البقرة، الآية (219).
(6) سورة النساء، الآية (43).(1/15)
ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى: (1) .
وبهذه الآية حرمت الخمر تحريماً نهائياً.
التدرُّج في تحريم الربا:
لقد كان أول ما نزل في شأن الربا قوله تعالى: (2) ، فبيَّنت أنَّ الربا لا يزيد عند الله ولا يعطي فيه ثواباً، وأما الزكاة فإنَّ الله يضاعف لصاحبها الثواب.
ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى: (3) ، فوضَّحت هذه الآية أنَّ اليهود حرَّم الله تعالى عليهم طيبات أُحِلَّتْ لهم لأنهم ظلموا وصدوا عن سبيل الله وأكلوا الربا وقد نهوا عنه وأكلوا أموال الناس بالباطل، فبيَّنت أنَّ الربا كان محرماً على اليهود، وهو مما يمقته الله تعالى، لذلك فعله يوجب العقاب والغضب من الله تعالى.
ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى: (4) ، فجاء في هذه الآيات النهي الصريح عن التعامل بالربا.
ثم نزل قوله تعالى: (5) ، وقد توعد الله فيها الذين لا يتركون الربا بالعذاب الشديد والحرب والغضب منه تعالى (6) .
من حِكَمِ التدرُّج
التدرُّج يسهل الانقياد:
لقد جاء القرآن في بيئة لا تعرف للحق نصرة، وتتخبط في ظلمات الضلال والفساد، ولم يكن إخراجهم من هذه الحياة وهذا الواقع إلى نور الإسلام بالأمر السهل، فراعى التشريع الإسلامي ذلك، فنزلت التشريعات متدرجة حتى يسهل انقيادهم للحق ويمتثلون الإسلام ديناً ودولة. يقول الأستاذ مصطفى شلبي: "والحكمة في ذلك التدرُّج أن هذا النوع من التشريع يكون أقرب إلى القبول والامتثال، خصوصاً مع أولئك العرب الذين كانوا في إباحية مطلقة تجعلهم ينفرون من التكليف بالجملة" (7) .
__________
(1) سورة المائدة، الآيتان (90-91).
(2) سورة الروم، الآيات (36ـ 39).
(3) سورة النساء، الآيتان (160-161).
(4) سورة آل عمران، الآية (130).
(5) سورة البقرة، الآية (280).
(6) انظر: كتاب حكمة التشريع الإسلامي في تحريم الربا: الدكتور/يوسف حامد العالم، الطبعة الأولى.
(7) المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي: مصطفى شلبي، ص 75.(1/16)
فلو جاءتهم جملة واحدة لثقلت عليهم وما انقادوا لها، لأنه من العسير إخراج مثل هؤلاء القوم بين يوم وليلة من حياة إلى حياة أخرى مختلفة تماماً من الحياة التي ألفوها واعتادوا عليها وانطبعت في نفوسهم.
فلذلك جاء القرآن أولاً بالدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله، وأنَّ الله هو المتصرف في هذا الكون ولا أحد غيره، وأن الأصنام التي تعبد من دونه لا تغني شيئاً.
ولما وجدت هذه العقيدة موضعاً في قلوبهم، وآمنوا بها، أنزل الله تعالى التشريعات الأخرى تشريعاً بعد الآخر، وكلما اعتادوا على حكم وألفوه وانقادوا له أنزل الله حكماً آخر، فانقادوا إلى الإسلام وخرجوا من حياة الجاهلية إلى حياة تهتدي بأنوار الحق وهم لا يشعرون.
فكان نزول التشريع مدرجاً أسهل عليهم في التكليف، يقول الإمام النسيابوي ـ بعد أنْ عدَّد عدداً من الفوائد لنزول القرآن منجماً ـ: "إنَّ نزول الشرائع مدرجة أسهل على المكلف منها دفعة واحدة" (1) .
فنزول الشرائع جملة واحدة فيه حرج على المكلَّف وصعوبة في الامتثال، لكثرة التكاليف التي تكون عليه.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ/مصطفى المراغي فقال: "أنه لو نزل جملة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة عليهم، ولا يخفى ما في ذلك من حرج عليهم بكثرة التكاليف مرة واحدة، ولكن بإنزاله منجماً جاء التشريع رويداً رويداً فكان احتمالهم له أيسر ومرانهم عليه أسهل" (2) .
الجملة منفرة:
إذا كان نزول التشريعات مدرجة يسهل الانقياد والامتثال، فإنَّ نزولها جملة ينفر المجتمع، ولا ينقاد إلى هذه التشريعات الجديدة، يقول الإمام القرطبي:
__________
(1) غرائب القرآن ورغائب الفرقان: النيسابوري، الطبعة الاولى، 19/12.
(2) تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي، الطبعه الخامسة، 19/13.(1/17)
" مبالغة وتأكيداً بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجماً بعد نجم، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا" (1) .
لأنها تكلفهم ما لا يستطيعون تحمله، وفي امتثالهم لها عنت ومشقة، لأنَّ الإنسان إذا كان في حياة منحلة عن التديُّن واعتادت نفسه عليها لا يستطيع أنْ يكلف نفسه الخروج من هذه الحياة إلى حياة أخرى مختلفة تماماً، ويمتثل تشاريع أخرى جديدة بين يوم وليلة.
وعدم استطاعته لها سببان:
الأول: أنَّه لا يستطيع أن يخرج بغتة عن حياة ألفها وانقاد إليها ردحاً من الزمان، لأن فطرته تأبى عليه ذلك.
والثاني: أنَّ امتثال تكاليف جديدة جملة واحدة تتكاثر عليه ولا يستطيع أنْ يؤديها على وجهها المراد، بخلاف إذا ما كلف بحكم واحد أو اثنين ثم لما اعتاد عليهما وأتقنهما كلف بحكم آخر. يقول الإمام الشاطبي: "فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين" (2) .
ولما كان الله سبحانه وتعالى هو وحده العالم بأحوال البشر، وطباعهم وصفاتهم، أنزل هذا القرآن وراعى فيه هذه الطبائع، فلم يكلفهم ما لا يستطيعون تحمله، أو يشق عليهم.
التدرُّج علاج العادات المستحكمة:
هنالك بعض العادات السيئة التي إذا ألفها الإنسان واعتاد عليها واستحكمت في نفسه، لا يمكن تغيرها إلاَّ بنوع مخصوص من أنواع العلاج وهو جعل الإنسان يتخلى عنها رويداً رويداً.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، 10/340.
(2) الموافقات: للشاطبي، طبعة دار الفكر، 3/929.(1/18)
وقد جاء الإسلام إلى مكة، وكان أهلها قد استحكمت فيهم عادات وأعراف ولم يكن من السهل نهيهم عنها جملة، لذلك تدرج بهم حتى تخلصوا منها. فكان التدرُّج هو العلاج الناجع لهذه الأمراض يقول الشيخ/محمد الخضري بك: "جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والعرب قد استحكمت فيهم عادات، منها ما هو صالح للبقاء ولا ضرر منه على تكوين الأُمَّة ومنها ما هو ضار يريد الشارع إبعادهم عنه فاقتضت حكمته أنْ يتدرج بهم شيئاً فشيئاً لبيان حكمه وإكمال دينه".
ومن أمثلة هذه العادات التي استحكمت عند العرب وأراد الشارع التخلص منها، شرب الخمر، فقد اعتاد العرب على شربها، وأصبحت جزءً من حياتهم، يشربونها في الصباح والمساء ولا يستطيعون تركها أبداً. وكانت مصدر رزق للكثيرين منهم. وهذه الحالة التي بلغها العرب في شرب الخمر هي ما يسميها الأطباء اليوم بالإدمان. ومن آثار هذا الإدمان أن المدمن لا يستطيع أنْ يتخلى عن هذا الشراب الذي أدمنه فجأة وجملة واحدة؛ لأنَّ خلايا جسمه قد تعودت عليه، ولا تتحمل تركه بهذه السرعة، وإذا تركه بهذه الطريقة فانه يؤدي إلى اختلال في حياة الفرد، يقول الدكتور/محمد علي الباز في معنى الإدمان: "هو أنْ يتعود شخص ما على عقار معين بحيث تتعود خلايا جسمه على هذا العقار، ولو سحب هذا العقار فجأة لأدَّى إلى ظهور تغيُّرات نفسية وجسدية، ولذا يضطر متعاطي هذا العقار إلى البحث عنه بكل وسيلة ولو أدَّى ذلك إلى تحطيم حياته كلها، بحيث لا يصبح له هم ولا فكر إلا في كيفية الحصول عليه واستعماله" (1) .
__________
(1) الخمر بين الطب والفقه: للدكتور/محمد علي الباز، الطبعة الخامسة، ص 87.(1/19)
فلم تكن طبيعة العرب في الجزيرة العربية تسمح بالتخلي عن شرب الخمر مرة واحدة، لأنه تكليف فيه عسر شديد وقد يخرج عن استطاعة بعضهم، فلا يمكن تنفيذه إلاَّ بالطريقة التي عالج بها القرآن هذا الأمر وهي طريقة التدرُّج بهم في التخلص منه، يقول الأستاذ/محمد المبارك: "والسبب في هذا التدرُّج في التكليف بترك الخمر أنَّ الناس كانوا مدمنين شربها، قد ألفوه وصار عادة من عاداتهم، وتكيفت به أمزجتهم، وكان صنعها والاتجار فيها مورد رزق عظيم لبعضهم، فلو فوجئوا بتحريمها دفعة واحدة لشق عليهم ترك ما ألفوه، ولاستثقلوا التكليف به، وأوشك أنْ يخالفه أكثرهم ويصرفهم عن قبول الدعوة ويحجب عنهم محاسن الإسلام" (1) .
إنَّ القرآن بدأ أولاً في تثبيت الإيمان الذي يساعد كثيراً في امتثال الأوامر وتنفيذها، وكانت هذه المرحلة الأولى في تغيير المجتمع الجاهلي.
ثم بعد ذلك وكبداية لتحريم الخمر بدأ القرآن يتطرق إلى مسألة الخمر، فنبه أولاً إلى أنها ليست من الرزق الحسن، وأنَّ منافعها أقل من مضارها، ثم بعد ذلك قلَّل لهم من أوقات شربها بأنْ نهاهم عن الإتيان إلى الصلاة وهم سكارى؛ فأصبحوا لا يشربونها إلاَّ في المساء، ثم بعد هذه التهيئة الكاملة نزل التحريم النهائي، فكان ادعى للامتثال وأقرب إلى التنفيذ. وعندما نزل التحريم النهائي للخمر ما كان من الصحابة إلاَّ أنْ أراقوها في الطرقات وحطموا أوانيها التي كانت تصنع فيها، وقد كان بعضهم عندما نزل تحريم الخمر يشربون فلما أتاهم المنادي بأنَّ الخمر قد حرمت وضعوا فوراً الكؤوس من أيديهم وقال بعضهم: "انتهينا انتهينا" امتثالا لقول الله عز وجل في ختام آية تحريم الخمر: ... (2) .
__________
(1) رسالة عن الخمر والميسر والسباق والوحدة الاسلامية: لمحمد المبارك، ص 11.
(2) راجع: مختصر تفسير ابن كثير، طبعة دار القرآن الكريم، بيروت، 1/ 546.(1/20)
إنَّ هذا المنهج هو المنهج الذي ينبغي أنْ يتبع في جميع الأحوال التي يراد فيها تغيير عادات مستحكمة في المجتمع، ومن سلك غيره فإنَّه قد لا يصل إلى مراده أبداً.
وخير مثال على ذلك محاولة الحكومة الأمريكية في منع شرب الخمر ومحاربتها، فقد استعملت جميع وسائل الإعلام الحديثة كالمجلات والصحف والمحاضرات والصور والأفلام السينمائية لتهجين شرب الخمر وبيان مضارها ومفاسدها، ويقدر ما أنفقته الدولة في هذه الحملة ضد الخمر ما يزيد على ستين مليون دولار في ذلك الوقت، ويقدر ما نشر من الكتب والنشرات ما يصل إلى عشرة ملايين صفحة، وقد استمرت محاولة تنفيذ قانون تحريم الخمر أربعة عشر عاماً، أُعدم فيها ما يقارب ثلاثمائة إنسان، وسُجِنَ أكثر من نصف مليون نفس، وكثرت فيها الغرامات والمصادرات للأملاك لردع الناس عن الخمر.
ولكن كل هذا الجهد لم يُجْدِ نفعاً، بل زاد من تعلُّق الأمريكيين بالخمر، حتى اضطرت الحكومة الأمريكية في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وثلاثين إلى سحب هذا القانون و إباحة الخمر مرة أخرى إباحة مطلقة (1) .
إنني لا أود المقارنة بين هذا وبين ما حدث في المجتمع النبوي، ولكني أترك ذلك للقارئ.
التدرُّج تمليه الفطرة والطبيعة
التدرُّج سنة كونية:
إنَّ التدرُّج سنة من سنن الله تعالى في خلقه، والمتأمِّل في هذا الكون والمتفكِّر في خلقه وسيره يجد هذه السنة واضحة جلية، لا تخفى إلاَّ على من جعل الله على بصره غشاوة أو ختم على قلبه وجعل عليه أكنة.
__________
(1) انظر: منهج القرآن في التربية لمحمد شديد، طبعة مؤسسة الرسالة، ص 13.(1/21)
فالمتأمِّل لتعاقب الليل والنهار يجد أنَّ الليل والنهار يذهبان بالتدريج ويأتيان بالتدريج، فلا تكون الشمس في منتصف السماء، ثم تحتجب فجأة ويأتي ظلام الليل الدامس، بل تحتجب الشمس رويداً رويداً، ويدخل الليل رويداً رويداً، وكذلك لا يكون الليل، ثم فجأة تشرق الشمس وترسل أشعتها وحرارتها، كحرارة منتصف النهار، بل تطلع الشمس شيئاً فشيئاً وترسل حرارتها رويداً رويداً.
والمتأمِّل للنباتات كذلك لا يجد النبات يخرج ويثمر فجأة، ولكن ينمو في أطوار متدرجة.
وكذلك ينمو الإنسان، فمن نطفة يكون علقة، ومن علقة يكون مضغة، ثم بعد ذلك يكون عظاماً، ثم تكسى العظام باللحم، ثم يخرج إلى الدنيا طفلاً لا يعلم شيئاً، ثم ينمو بالتدريج حتى يبلغ أرذل العمر أو يتوفى قبل ذلك، يقول تعالى: (1) .
وكل متفكِّر في مخلوقات الله يجد هذه الحكمة الظاهرة الواضحة، ثم إذا انتقلنا إلى أفعال الإنسان وممارساته نلحظ هذه السنة الكونية، فالمخترع مثلاً أو الصانع إذا أراد أنْ يصنع آلة فإنَّه يبدؤها بالتدريج، فيركب جزءً بعد جزء، وعضواً بعد عضو.
وكذا في التعليم، فإنَّ المتعلم الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة لا يمكنه أنْ يصبح عالِماً بكل العلوم في ليلة واحدة أو حتى في شهور، ولكن يكون ذلك بالتدريج، فيبدأ بأولها والذي يمكنه من معرفة آخرها، حتى يصل إلى كمال العلم.
__________
(1) سورة المؤمنون، الآيات (12ـ14).(1/22)
وأما من أراد أنْ يلم بأواخر العلوم دون أنْ يعرف أوائلها ولا يتدرج في طلبها فإنه يبتغي المحال، وقد أشار إلى هذه الحكمة اللطيفة الشيخ/الماوردي بقوله: "واعلم أنَّ للعلوم أوائل تؤدِّي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخر قبل الأول ولا الحقيقة قبل المدخل، فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة، لأنَّ البناء على غير أس لا يبنى، والتمر من غير غرس لا يجنى" (1) .
وهذه السُّنَّة الكونية ليست معروفة فقط لبني آدم وحدهم، بل حتى الشياطين التي تهدف إلى إضلال بني آدم تعرف هذه الحقيقة الكونية، ويعلم الشيطان جيداً أنَّ الغواية والإضلال عن صراط الحق لا يمكن أنْ تكون جملة واحدة وفجأة، ولكن باستدراج الناس من معصية إلى معصية تكبرها حتى يصلوا إلى درجة الكفر.
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: "... فإنَّ البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها حتى ينسلخ صاحبها من الدين" (2) .
فالشيطان الذي يريد أنْ يضل رجلاً قوي الإيمان كثير الطاعات، لا يأتيه ويوسوس له بالكفر من البداية، ولكن قد يطلبه في درجة المباحات، حيث يوسوس له بأنه لا إثم ولا حرج على فاعلها، حتى يجعله يكثر منها وتنسيه الإكثار من الطاعات، ثم يتدرج به إلى ترك الواجبات ثم يتدرج به إلى الفسق والكفر.
يقول الإمام ابن القيم في العقبة الخامسة للشيطان، وهي عقبة المباحات، قال: "وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فيشغله بها عن الاستكثار من الطاعات وعن الاجتهاد في التزود لمعاده، ثم طمع فيه أنْ يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من السنن إلى ترك الواجبات" (3) .
__________
(1) أدب الدنيا والدين: للماوردي، طبعة دار الكتب العلمية، ص 55.
(2) مدارج السالكين: للإمام ابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، 1/224.
(3) المرجع السابق نفسه، 1/224.(1/23)
إنَّ سنة التدرُّج هي سنة من سنن الله في خلقه، فمن أراد أنْ يغيِّر أو يصلح فيجب عليه أنْ يتبع هذه السُّنَّة، ويتدبر أولاً الواقع الذي يريد تغييره، فإنْ كانت طبيعته تقتضي التدرُّج تدرج معه، لأنَّه إذا لم يتدرج فإنَّه يخالف سنة الله التي جبل عليها الخلق.
يقول الأستاذ/عبد الرحمن حسن حبنكه: "ورغبتنا بالإنجاز التام السريع على خلاف طبائع الأشياء معاكسة لسنة الله في كونه" (1) .
فالداعية عليه ألا يستعجل الثمار، لأنَّ الثمار لا تنضج وتجنى إلاَّ إذا اكتمل نماء النبت واستوى على سوقه.
الإنسان يكلف بما يستطيع:
إنَّ الله تعالى قد قيد التكليف بالقدرة والاستطاعة، والوسع والطاقة فلا تكلف نفس إلاَّ وسعها، وقد قرَّر الله سبحانه وتعالى ذلك المبدأ في كثير من الآيات فقال: (2) ، وقال: (3) ، وقال:
(4) ، وقال: (5) ، (6) ، وقال:
(7) .
والحُجَّة تقوم على الإنسان ويجب عليه العمل إذا كان مستطيعاً له، عالِماً به. يقول الإمام ابن تيمية: "والحُجَّة على العباد إنَّما تقوم بشيئين: بشرط التمكُّن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به" (8) . ...
__________
(1) الأخلاق الإسلامية وأسسها: الأستاذ/عبد الرحمن حسن حبنكة، طبعة دار القلم، بيروت، 1/185.
(2) سورة التغابن، الآية (16).
(3) سورة البقرة، الآية (286).
(4) سورة النساء، الآية (28).
(5) سورة الحج، الآية (78).
(6) سورة الأنعام، الآية (119).
(7) سورة النحل، الآية (115).
(8) مجموع فتاوى ابن تيمية، 20/59.(1/24)
فالداخل في الإسلام مثلاً لا يمكن أنْ يؤمر بجميع الشرائع من البداية، لأنَّ فروع الأحكام كثيرة ولا تمكنه طبيعته البشرية من حفظ جميع تفاصيل الأحكام وأدائها على وجهها الأكمل جملة واحدة، فطاقته لا تتحمل أنْ يعرف أحكام الصلاة بفرائضها وسننها ومندوباتها ومكروهاتها، وأحكام الصيام بتفصيلاتها، وكذا باقي الأحكام، ولكن يجب أنْ تعلَّم له تدريجياً حكماً بعد حكم، ولا ينقل إلى أخرى إلاَّ إذا أتقن الأولى وعرفها.
وأما إذا كُلِّفَ بها جملة ومرة واحدة فإنَّه لا يستطيع أنْ يحفظها ويؤديها، وإذا لم يستطع ذلك، فإنَّه لا يجب عليه، لأنَّ التكليف إنَّما يكون بالقدرة والاستطاعة فإذا انتفى ذلك انتفى التكليف. وقد فصل ذلك الإمام ابن تيمية في ذلك فقال: "فكذلك المجدِّد لدينه والمحيي لسنته، لا يبلغ إلاَّ ما أمكن علمه والعمل به، كما أنَّ الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أنْ يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أنْ يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم فإنَّه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أنْ يوجبه عليه جميعه ابتداء، بل يَعْفُو عن الأمر والنهي بما لا يمكن فعله وعمله إلى وقت الإمكان، كما عَفَا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما عفي عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار الحرمات وترك الواجبات، لأنَّ الوجوب والتحريم مشروطان بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط" (1) . ...
ولما كانت طبيعة الناس لا تتحمَّل هذه الشرائع جملة، اقتضت الحكمة أنْ يتدرج الداعية والمصلح في تطبيقها، حتى تؤتي دعوته ثمارها، ويعم الصلاح في المجتمع.
التدرُّج التطبيقي في المجتمع
التدرُّج التطبيقي في العصر النبوي:
__________
(1) المرجع السابق نفسه، 20/60.(1/25)
إنَّ التدرُّج نوعان: تدرُّج في التشريع، وتدرُّج في التطبيق.
فأما التدرُّج التشريعي وهو مرتبط بذات الحكم – كالتدرُّج في تحريم الربا، فإنَّ الشارع تدرج فيه حتى وصل إلى حكمه الأخير وهو التحريم – فقد انتهى بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - واكتمال نزول القرآن.
وأمَّا النوع الثاني فهو التدرج في التطبيق، وهو باقٍ إلى اليوم، وهذا النوع مرتبط بالمكلَّف.
فإذا سُئِلَ مثلاً المفتي أو المعلم عن شرب الخمر فإنه يفتي بتحريم شربها، ولكنه يمكن أنْ يتدرج في تطبيق هذا الحكم على أحد المكلَّفين الذي أدمن شرب الخمر ولا يستطيع أنْ يتخلى عنه جملة، فيتدرج معه حتى يصل إلى تطبيق الحكم.(1/26)
ومما يدلُّ على أنَّ التدرُّج في التطبيق باقٍ حتى بعد استقرار الأحكام ويمكن الأخذ به لتربية المجتمع على منهاج الله تعالى، حديث معاذ - رضي الله عنه - لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقد روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أنْ يشهدوا ألا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنَّ الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنَّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب) (1) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري: لابن حجر العسقلاني، كتاب الزكاة، برقم 1496، طبعة دار الفكر، 3/357. وقد أشكل على العلماء هنا عدم ذكر الصوم والحج فأجابوا عنه بعدة إجابات منها ما قاله ابن حجر: "قال الكرماني: فإنَّ اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كرّر في القرآن الكريم، فمن ثَمَّ لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث مع أنهما من أركان الإسلام، والسر في ذلك أنَّ الصلاة والزكاة إذا وجبا على المكلف لا يسقطان عنه أصلاً، بخلاف الصوم فإنه قد يسقط بالفدية والحج فإنَّ الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضود، ويحتمل أنه حينئذٍ لم يشرع" أ. هـ..وقال شيخ الإسلام: "إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه بشيء، فحديث ابن عمر بُني الإسلام على خمس، فإذا كان في الدعاء إلى الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة: الشهادة والصلاة والزكاة ولو بعد وجود فرض الصوم والحج كقوله تعالى [التوبة: 11] في موضعين من براءة، مع أنَّ نزولهما بعد فرض الصوم والحج قطعاً، وحديث ابن عمر أيضاً: (أمرت أنْ أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وغير ذلك من الأحاديث قال: والحكمة في ذلك أن الأركان خمسة: اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة، اقتصر في الدعاة إلى الإسلام عليها لتفرع الركنين الآخرين عليها، فإنَّ الصوم بدني محض، والحج بدني ومالي. وأيضاً فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكرارها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها والله أعلم". فتح الباري، طبعة دار الفكر، 3/361.(1/27)
وقد كان بعث معاذ إلى اليمن في أواخر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن حجر: "كان بعث معاذاً إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1) . وقيل كان ذلك في أواخر سنة تسع، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وحكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان (2) .
إنَّ هذا التاريخ يدلُّ على أنَّ أحكام هذه الأركان قد اكتمل واستقر، ولكن مع اكتمال هذه التشريعات من إيجاب الصلاة والزكاة لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً - رضي الله عنه - بأنْ يأمر أهل اليمن ـ من البداية بعد قولهم لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله ـ بجميع أركان الإسلام جملة واحدة، لأنَّ تكليفهم بتكاليف لم يعتادوا عليها مرة واحدة قد ينفرهم، لذلك أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يبدأ معهم في تعليم هذه الأركان واحداً بعد الآخر، يقول ابن حجر معلِّقاً على حديث معاذ: "وتمامه أنْ يقال بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطُّف في الخطاب لأنَّه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة" (3) .
ومعلوم أنَّ المكلَّف إذا نطق بالشهادتين فإنَّه يصير مسلماً وتجب عليه جميع شرائع الإسلام، ولكن مع ذلك نجد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً بالتدرُّج في تطبيق الأركان وذلك لأنَّ التكليف بها جملة غير مستطاع لهم.
التدرُّج في المجتمع اليوم:
__________
(1) فتح الباري، 3/358.
(2) انظر: المرجع السابق، 3/358.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/28)
إنَّ لهذه السُّنَّة الإلهية ـ سنة التدرُّج ـ حِكَماً عميقة وأسراراً دقيقة، يجب أنْ يفطن إليها الدعاة إلى الله ويفقهوها، لأنَّ تربية الأمم والمجتمعات لا تتم إلاَّ بهذه السنة الكونية والطريقة النبوية، والتربية على منهج الإسلام تحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل، ولا تتم بين يوم وليلة، يقول الأستاذ/سيد قطب: "ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، ولينشئ مجتمعاً، ويقيم نظاماً، والتربية تحتاج إلى زمن وتأثُّر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثُّر والانفعال إلى واقع، والنفس البشرية لا تتحول تحوُّلاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة بقراءة كتاب شامل للمنهج الجديد، إنَّما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج وتتدرج في مراقيه رويداً رويداً، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً" (1) .
إنَّ التدرُّج يعين كل داعٍ في إصلاح كل بيئة لا تألف هذه الدعوة ولم تعهدها قبل ذلك. والداعية الذي يريد تأثيراً لكلماته وثماراً لدعوته فعليه أنْ يسلك هذا الطريق النبوي في الدعوة إلى الإسلام، لأنَّ بهذه الطريقة بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - دولة الإسلام، يقول الإمام ابن تيمية: "فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه كما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث شيئاً فشيئاً، ومعلوم أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغ إلاَّ ما أمكن عمله والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة ، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فَامُرْ بما يستطاع" (2) .
__________
(1) في ظلال القرآن: سيد قطب، الطبعة الحادية عشرة، 5/2562.
(2) مجموع فتاوي ابن تيمية، 30/60.(1/29)
إننا إذا أردنا أنْ نقيم حياة إسلامية جديدة، وأنْ نبني خلافة إسلامية رشيدة فعلينا أنْ نسلك طريق التدرُّج في تطبيق ما اندثر من أحكام الإسلام، ولن يتم هذا التغيير الشامل الكامل بقهر أو سلطان، بل القوة في فرض الإسلام على الناس تجعلهم يبغضون الإسلام، ثم إنَّها تولد النفاق في الأُمَّة فيطبق الناس شعائر الإسلام وقلوبهم كافرة بها.
يقول الأستاذ/مصطفى مشهور: "إنَّ الإحساس بالمسئولية نحو تغيير الواقع الهابط لمجتمعاتنا وما فيها من عادات وتقاليد فاسدة ومفسدة لا يعني ضرورة أنْ يتم التغيير في الحال وبالحرب المباشرة لهذه العادات والتقاليد والعقائد والدخول مع أصحابها في صدام ومعارك جزئية من شأنها أنْ تشوه صورة العمل للإسلام، وتنفر الناس من الدعاة إلى الله، وتقيم بينهم وبين الدعاة حواجز دون مبرر، فلا يتصور مثلاً أنَّ هدم بعض الأضرحة سيمنع العامة من إتيان بعض الأمور المخالفة للشرع حول تلك الأضرحة، أو أنَّ ذلك سيمنع إقامة أضرحة في المستقبل، أو أنْ يظن أنَّ تحطيم بعض حانات الخمور وأماكن اللهو سيقضي عليها ويطهر المجتمع منها" (1) .
ويقول الدكتور/يوسف القرضاوي مشيراً إلى سلوك سنة التدرُّج في تطبيق أحكام الإسلام: "وهذه السُّنَّة الإلهية في رعاية التدرُّج ينبغي أنْ تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة واستئناف حياة إسلامية متكاملة. فإذا أردنا أنْ نقيم مجتمعاً إسلامياً حقيقياً فلا نتوهم أنَّ ذلك يتحقق بجرة قلم أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس أو مجلس قيادة أو برلمان، إنَّما يتحقق ذلك بطريقة التدرُّج، أعني بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية" (2) .
من أين نبدأ التدرُّج؟
__________
(1) طريق الدعوة: للأستاذ/مصطفى مشهور، طبعة دار القرآن الكريم، ص 53ـ54.
(2) الخصائص العامة للإسلام: الدكتور/يوسف القرضاوي، طبعة دار المعرفة، ص 182.(1/30)
إذا سلمنا بأنَّ التدرُّج هو أسلوب العلاج الذي يجب أنْ يطبق لصياغة المجتمع على وفق منهج الإسلام، فمن أين نبدأ بالتدرُّج؟
إنَّ البداية التي يجب أنْ نبدأ بها هي نفس بداية النبي - صلى الله عليه وسلم - التي بدأ بها في تربية الأُمَّة وهي تثبيت العقيدة في قلوب الناس.
ولا أقصد بالعقيدة ذلك الجدل الكلامي الذي لا يؤتي ثماراً ولا يزيد إيماناً، ولا يدفع إلى عمل.
إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ بذلك، ولكن بدأ بتمكين أصول الإيمان بالله تعالى من توحيد لله وإيمان بالملائكة والكتب السماوية والرسل واليوم الآخر، يقول الأستاذ/مناع القطان: "لقد كان القرآن بادئ ذي بدء يتناول أصول الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء وجنة ونار، ويقيم على ذلك الحجج والبراهين، حتى يستأصل من نفوس المشركين العقائد الوثنية ويغرس فيها عقيدة الإسلام" (1) .
لقد كان القرآن يخاطب قلوب المشركين ويلفت أنظارهم إلى هذا الكون الواسع ليتدبروا فيه حتى يصلوا إلى توحيد الله، وكان كذلك يذكرهم بالبعث والجزاء والجنة والنار، حتى يهيئهم لاستقبال الشرائع ثم العمل بها.
يقول سيد قطب: "وبعد فلا بُدَّ أنْ نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاماً، .. أنَّه لم يعرضها في صورة نظرية، ولا في صورة لاهوت، ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله ما يسمى علم التوحيد، كلا، لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة الإنسان بما في وجوده هو وبما في الوجود حوله من دلائل وإيحاءات، كان يستنقذ فطرته من الركام ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها" (2) .
__________
(1) التشريع والفقه في الإسلام: مناع القطان، الطبعة الثانية، ص 52.
(2) معالم في الطريق، الطبعة الثانية، دار الشروق، ص 42.(1/31)
والناظر في أحوال المجتمعات المسلمة اليوم لا يجدها تشكو من كثرة الإلحاد بالله تعالى، بل المسلمون جميعهم يقرون بوجود الله تعالى، ولكن مجتمعاتنا الإسلامية اليوم تشكو من ضعف الإيمان، والذي ترتب عليه ترك كثير من أحكام الإسلام، لا كفراً وجحوداً بها، بل تهاوناً ونسياناً، فإذا عمرت هذه القلوب بالإيمان انطلقت مرة أخرى نحو الله تعالى، تبتغي مرضاته وترجو غفرانه.
ومن أهم ما يزيد الإيمان التذكير بوجود الله تعالى، واطّلاعه على الغيب والشهادة، وعلمه خائنة الأعين وما تخفى الصدور، والاستدلال في ذلك بخلق الكون والإعجاز البلاغي والعلمي للقرآن الكريم، ثم بعد ذلك التذكير بالبعث والجزاء، والجنة والنار، لأن المسلم الذي ينسى اليوم الآخر، ينسى طاعة الله عزَّ وجلَّ، وإذا ذكر بذلك اليوم وما فيه من حساب وجزاء فقد يثوب ويرجع إلى الله تعالى.
وهذا ما فعله القرآن في بداية الدعوة ، فقد كان من أوائل ما نزل ذكر الجنة والنار، كما جاء عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّها قالت: "إنَّما نزل أول ما نزل منه ـ أي القرآن ـ سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزِّنى أبداً" (1) .
وليس هذا هو الدواء في كل وقت ومع أي مجتمع، بل قد تختلف المجتمعات في درجة التزامها بالدين وفهمها له، فعلى الداعية أنْ ينظر في المجتمع المراد إصلاحه بنظر الخبير الفاحص ثم يجتهد بماذا يبدأ لهم، ثم يتدرج بهم بعد ذلك إلى أنْ يصل إلى مراده.
خاتمة:
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، طبعة دار الفكر، 9/39.(1/32)
إنَّ فقه التدرُّج باب عظيم من أبواب الدعوة إلى الله، وهو علم يحتاج إلى فقه كامل بأحكام الدين، ولا أعني بالفقه، حفظ النصوص وأقوال الأئمة، بل كلمة الفقه كلمة واسعة تعني أكثر من ذلك، فالفقه هو العلم بالأحكام ونصوصها ثم ربط هذه الأحكام بعضها ببعض في إطار واحد، تظهر فيه محاسن الشريعة ومقاصدها، وحكم الله في تشريع شرائعه وأحكامه. وتظهر فيه أولويات هذا الدين، فبعض الأحكام أوْلَى في تطبيقها من بعض، وأن بعض التشريعات يجب أنْ تقدم على تشريعات أخرى، وهذا الفهم لا يتم إلاَّ بالنظر المتدبر المتأني، والعقل المتأمل المتفكر.
وإنَّ من أهم دعائم فقه التدرُّج هو علم هذه الأولويات، حتى يتسنى للداعية أنْ يعلم من أين يبدأ، وما هو الذي يجب أنْ يطبق أولاً وإلى ماذا يتدرج منه.
ثم لا يكفي أنْ يكون الداعية عالماً بأحكام الدين، حافظاً لها، عالماً بمقاصد الشريعة الإسلامية ومدركاً لأصولها، بل يجب عليه كذلك أنْ يلم بواقع المجتمع، ويدرس ما فيه من طبائع وصفات ويشخص ما فيه من علل وأمراض، حتى يتمكن من علاجها.
وفهم واقع المجتمع يمكن الداعية من تحديد عدة أشياء، منها أمراض المجتمع على وجه التحديد، ثم من أين يبدأ العلاج، وكيف يتدرج به، وما هو الأوْلَى في التقديم والتطبيق، وفهم الواقع كذلك يساعد على تحديد كمية العلاج في كل مرحلة من مراحل التدرُّج، لأن كل مرحلة تحتاج إلى فقه ونوع معين من أنواع العلاج، فالذي لا يفهم واقع المجتمع ولا يتفحص فيه قد يعطي المجتمع في إحدى المراحل أكثر مما يجب أنْ يعطي له فيها، أو قد يعطيه أقل مما يجب أنْ يعطي له فيه.
وأمَّا علاج كل مرحلة ونوعه، فإنه يتحدَّد بواقع المجتمع وأفراده، فالمجتمعات متباينة في عاداتها وتقاليدها، وفي درجة التمسُّك بهذه الموروثات والتقاليد، وتختلف كذلك في درجة تمسكها بالدين والالتزام بتعاليمه.(1/33)
فأولويات التطبيق وكيفية التدرُّج تتحدَّد بعد دراسة حال المجتمع المراد تغييره. ومهمة الدعاة هي الجمع بين الفقه لهذا الدين وفقه واقع المجتمع وطبائع الناس فيه، وتحليل الأمراض ومعرفة أسبابها، وعند ذلك سوف تثمر الإصلاحات ـ إنْ شاء الله تعالى ـ وتؤثر في المجتمع.
.. والحمد لله رب العالمين ..(1/34)