صناعة الفتوى وفقه الأقليات
الشيخ العلامة/ عبد الله بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
خطر الفتوى وآداب الإفتاء ومسئولية المفتي:
حكم الفتوى الوجوب كفائياً فهو فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن البعض الآخر شأن فروض الكفاية ولكنها تجب عيناً إذا كان الفقيه مؤهلا ولم يوجد مفت غيره.
قال السيوطي في كتاب آداب الفتيا: باب وجوب الفتيا على من يتأهل لذلك وتحريم أخذ العوض عنه" أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة وإنه لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاّعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)
فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى ، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم ولهذا ورد الوعيد.
ففي حديث الدارمي عن عبيد الله بن جعفر مرسلاً: "أجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ".
وأخرج الدارمي والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيا مِنْ غَيرِ تَثَبُتِ فَإِنَمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ".
وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوأْ بَيْتاً فِي جَهَنَم ومَنْ أَفْتَى بِغَيَّرِ عِلْمِ كَانَ إِثْمُه عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ومَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ" سنن البيهقي الكبرى.(1/1)
وأخرج الشيخان عن ابن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إنَّ الله لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمُ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيرِ علْمِ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا".
وأخرج سعيد بن منصور في سننه و الدارمي و البيهقي في المدخل عن ابن عباس قال:" مَنْ أفْتَى بِفُتْيا وهُو يٌعْمِي فيها كان إِثْمُها عَلَيه".
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أَشَدُ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيامَةِ رَجُلُ قَتلَ نَبِياً أو قَتَلَهُ نَبِيُّ أو رَجُلُ يُضِلُ النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ أو مُصَورُ يُصَورُ التَّمَاثِيلَ".(المعجم الكبير 10 / 211)
وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره " مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ لَعَنَتْهُ مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ومَلائِكَةُ الأَرْضِ".
وكان المفتون الصالحون يخافون الفتوى فيستخيرون ويدعون قبل أن يفتوا.
ذكر ابن بشكوال في كتابه الصلة في تاريخ أئمة الأندلس أن عبد الله بن عتاب كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها في الآخرة ويقول:
من يحسدني فيها جعله الله مفتياً، وإذ رُغِب في ثوابها وغبط بالأجر عليها يقول: وددت أني أنجو منها كفافاً لا علي ولا لي ويتمثل بقول الشاعر:
تُمَنُونِيَّ الأَجْرَ الجَزِيلَ ولَيْتَنِي *** نَجَوْتُ كَفَافاً لا عَلَيَّ ولا لِيَا
وقال أحمد بابا التنبكتي وهو يتحدث عن فترة مقامه بمراكش بعد محنته:.. (وأفتيت بها لفظاً وكتباً بحيث لا تتوجه الفتوى فيها غالباً إلا إليَّ وعينت إلي مراراً فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني).
وكان ثابت البناني يقول إذا أفتى: قد جعلت رقبتي جسراً للناس.ثم ترك الفتوى. ذكر ذلك الزمخشري في ربيع الأبرار.(1/2)
أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن ابن مسعود قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون.
آداب الفتيا:
وللفتوى آداب يجب أن يتحلى بها المفتي نسوقها فيما يلي:
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال :
أوّلها: أن تكون له نيّة فإن لم تكن له نيّة لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية "أي من العيش" وإلاّ مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس ( أعلام الموقعين4/199).
المفتي المستبصر:
لقد أشار المقري إلى نصائح للمفتي تصلح أن تندرج في الضوابط : إيّاك ومفهومات المدونة فقد اختلف الناس في القول بمفهوم الكتاب والسنّة فما ظنّك بكلام الناس .. إلى قوله .. ولا تفتِ إلاّ بالنَّص إلاّ أن تكون عارفاً بوجوه التعليل ، بصيراً بمعرفة الأشباه والنظائر ، حاذقاً في بعض أصول الفقه وفروعه إما مطلقاً أو على مذهب إمام من القدوة ، ولا يغرّك أن ترى نفسك أو يراك الناس حتى يجتمع لك ذلك والناس العلماء ، واحفظ الحديث تقوى حُجَّتك ، والآثار يصلح رأيك والخلاف يتسع صدرك ، واعرف العربية والأصول وشفّع المنقول بالمعقول والمعقول بالمنقول.(المعيار 6/377").
قال الشاطبي: المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.(1/3)
وأيضاً: فإن هذا المذهب كان المفهومَ من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.
وقال لمعاذ لمَّا أطال بالناس في الصلاة :"أفتان أنت يا مُعاذ ؟". وقال: "إن منكم مُنَفِّرين".
وقال:"سَدِّدوا وقارِبوا واغدُوا ورُوحوا وشيءُ من الدُّلْجة والقصدَ القصدَ تَبلُغُوا." وقال: "عَلَيْكُم مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا". وقال: "أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُه وإِنْ قَلَّ".
ورد عليهم الوصال. وكثير من هذا.
وأيضا: فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا.
لأن المستفتي إذا ذٌهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن السلوك طريق الآخرة وهو مشاهد.
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.
و الشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، وإتباع الهوى مهلكة. والأدلة كثيرة. (الموافقات 5/277)
قال الشيخ أبو بكر الحافظ رحمه الله قلت: وينبغي أن يكون قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخ استثبات وترك عجلة، بصيراً بما فيه المصلحة، مستوقفا بالمشاورة، حافظ لدينه، مشفقاً على أهل ملته.
مواظباً على مروءته حريصاً على استطابة مأكله فإن ذلك أول أسباب التوفيق. متورعاً عن الشبهات صادفاً عن فاسد التأويلات صليباً في الحق دائم الاشتغال بمعادن الفتوى وطرق الاجتهاد.
ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة. واعتوره دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط منعوتاً بنقص الفهم معروفا بالاختلال يجيب عما يسنح له ويفتي بما خفي عليه.( الفقيه والمتفقه 2/158)
قلت: ما ذكره الشيوخ الثلاثة المقري والشاطبي وأبو بكر الحافظ هو المفتي المستبصر الذي يجب الحرص على إيجاده في حياة الأمة.(1/4)
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله عن المفتين الجهلة: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مُداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
قال ابن القيم: (الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً.
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟) ( إعلام الموقعين 4/166)
قال ابن عابدين: فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك لا ينبغي للمفتي أن يفتي بمجرد المراجعة من كتاب وإن كان ذلك الكتاب مشهوراً.
قلتُ: نعم هو كذلك:
لا تَحْسَبِ الفِقه تَمْراً أنْتَ آكِلُه *** لَنْ تَبْلُغِ الفِقْهَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَبْرَا
إذ لو كان الفقه يحصل بمجرد القدرة على مراجعة المسألة من مظانها لكان أسهل شيء ولما احتاج إلى التفقه على أستاذ ماهر وفكر ثاقب باهر.
لَوْ كَانَ هَذَا العِلمُ يُدركُ بالمُنى مَا كُنْتَ تُبصِرُ في البَرِيِّةِ جَاهِلا
فكثيراً ما تذكراً المسألة في كتاب ويكون ما في كتاب آخر هو الصحيح والصواب. وقد تطلق في بعض المواضع عن بعض قيودها وتقيد في موضع آخر.
ولهذا قال العلامة ابن نجيم في ما نصه: ومن هنا يعلم كما قال ابن الغرس رحمه الله تعالى إن فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين: أحدهما: أن اطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع وإنما يسكتون عنها اعتماداً على صحة الفهم الطالب.(1/5)
والثاني: أن هذه المسائل اجتهادية معقولة المعنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة المبنى ومن أهمل ما ذكرناه حار في الخطإ والغلط.
وقال في البحر من كتاب القضاء عن التتارخانية : وكره بعضهم الإفتاء والصحيح عدم الكراهة للأهل ولا ينبغي الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء وعرف من أين قالوا فإن كان في المسألة خلاف لا يختار قولاً يجيب به حتى يعرف حجته وينبغي السؤال من أفقه أهل زمانه فإن اختلفوا تحرى.( رسائل ابن عابدين 316).
مسؤولية المفتي:
ولهذا ضمن العلماء غير المجتهد إن انتصب أي ضامناً لما أتلفه من نفس ومال قال الزرقاني في شرحه لخليل: لا شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه ويضمن غيره إن انتصب و إلا فقولان وأغلظ الحاكم على غير المجتهد وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا.(الزرقاني 6/138)
قال ابن القيم : الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بان خطؤه قال أبو إسحاق الاسفرائني من الشافعية : يضمن المفتي إن كان أهلا للفتوى وخالف القاطع وإن لم يكن أهلا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده.
ووافقه على ذلك أبو عبد الله بن حمدان في كتاب:"آداب المفتى والمستفتي" له ولم أعرف هذا لأحد قبله من الأصحاب ثم حكى وجهاً آخر في تضمين من ليس بأهل قال: لأنه تصدّى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصديه لذلك. (4/173)
وفي المسألة كلام طويل نكتفي منه بما ذكرنا وهو يدل على ما وراءه إلا أنه يمكن أن نستخلص:
- أن المفتي لا بد أن يكون عالماً مستبصراً
- أن يكون ذا ديانة.(1/6)
ومن شروط الكمال أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخياً الوسطية بصيراً بالمصالح وعارفاً بالواقع متطلعاً إلى الكليات ومطلعاً على الجزئيات موازناً بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر.
وأن على الجهات المختصة أن تردع ويمنع غير الأهل من الفتوى، وأن ضمان المفتي قد يكون وجيهاً، إذا أصر على الفتوى، وألحق الأذى بالناس، وكان لا يرجع إلى نص صريح بفهم صحيح، أو إجماع، أو قياس عار عن المعارضة، أو دليل راجح وليس مرجوحاً في حالة التعارض كما أشار إليه الأصوليون قال في مراقي السعود :
تَقْويةُ الشَِّق هِيَ التَّرْجيحُ *** وَأوْجَبَ الأَخْذَ بِهِ الصَّحيحُ
وإذا عمل بالمرجوح فلا بد من توفر شروط العمل من مصلحة تبتغى أو مفسدة تنفى.
فهل عرض مفتوا الشاشات –وما أبرئ نفسي-أنفسهم على هذه والآداب؟
معنى "الصناعة"
قد يكون من المناسب في بداية هذه الحلقات أن نتحدث عن معنى "الصناعة" التي وردت في عنوانها حيث إن مفهوم الصناعة ليس متداولاً في مجال الفتوى وميدان إصدار الأحكام الشرعية ولهذا فقد استشكل بعض زملائنا هذا العنوان موعزاً بتغييره إلى مصطلح يناسب الفتوى ويلائم البحوث الشرعية ولكن الأمر مختلف -حسب رأينا– فالفتوى صناعة لأن الصناعة عبارة عن تركيب وعمل يحتاج إلى دراية وتعمل فهي ليست فعلا ساذجاً ولا شكلاً بسيطاً بل هي من نوع القضايا المركبة التي تقترن بمقدمات كبرى وصغرى للوصول إلى نتيجة هي الفتوى إذاً فالفتوى منتج صناعي ناتج عن عناصر عدة منها الدليل ومنها الواقع والعلاقة بين الدليل بأطيافه المختلفة التي تدور حول النص وبين الواقع بتعقيداته.
قال السبكي في الإبهاج : وقد يطلق العلم باصطلاح ثالث على الصناعة كما تقول :علم النحو أي صناعته، فيندرج فيه الظنُّ واليقين، وكل ما يتعلق بنظر في المعقولات لتحصيل مطلوبٍ يُسمى علماً ويُسمى صناعة.(1/7)
وعلى هذا الاصطلاح لا يرد سؤال الظنِّ لكنهم كلهم أوردوه فكأنهم لم يريدوا هذا الاصطلاح، أو أرادوه ولحَظوا معه معنى العلم في الأصل، ويطلق النحاة العلم أيضا على المعرفة.(الإبهاج2/79)
وقال ابن رشد الحفيد في كتابه الضروري في علم الأصول وهو يتحدث عن صناعة الفقه وأصوله في مقدمته:
وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن الصواب في هاتين المعرفتين كالعلم بالدلائل وأقسامها وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا وفي أي المواضع تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فلنسمّها سباراً وقانوناً فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في ما لا يؤمن أن يغلط فيه.
وبين أنه كلما كانت العلوم أكثر تشعباً والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها من تقدمهم كانت الحاجة فيها إلى قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر.
وبين أن الصناعة الموسومة بصناعة الفقه في هذا الزمان وفي ما سلف من لدن وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وتفرق أصحابه على البلاد واختلاف النقل عنه –صلى الله عليه وسلم- بهاتين الحالتين ولذلك لم يحتج الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه الصناعة كما لم يحتج الأعراب إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم.
وبهذا الذي قلناه ينفهم غرض هذه الصناعة ويسقط الاعتراض عليها بأن لم يكن أهل الصدر المتقدم ناظرين فيها وإن كنا لا ننكر أنهم كانوا يستعملون قوتها وأنت تتبين ذلك في فتواهم رضي الله عنهم بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتاويهم في مسألة مسألة.( الضروري 35)(1/8)
قال الشاطبي في الاعتصام: وأما تقديم الأحداث على غيرهم، من قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره، لأن الحدث أبداً أو في غالب الأمر غر لم يتحنك، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ العلماء الراسخين الأقدام في تلك الصناعة، ولذا قالوا في المثل:
وابنُ اللبُونِ إذَا مَا لُزّ في قَرَن لَمْ يَسْتَطِعْ صَولَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ.(الاعتصام2/95)
قال أبو الأصبغ عيسى بن سهل : كثيراً ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتاب رضي الله عنه يقول : الفُتيا صنعة وقد قاله أبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح رحمه الله قال: الفتيا دربة وحضور الشورى في مجالس الحكام منفعة وتجربة.
وقد ابتليتُ بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سلمان بن أسود وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن .. والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه.( المعيار 10/79)
وتكلم ابن خلدون عن الصناعة باعتبارها ملكة راسخة في النفس.
وابن العربي في المحصول والغزالي في المستصفى وغيرهم من كبار العلماء.
ووجه كون الفتوى صناعة أن المفتي عندما ترد إليه نازلة يقلب النظر أولا في الواقع وهو حقيقة الأمر المستفتى فيه إن كان عقداً من العقود المستجدة كيف نشأ وما هي عناصره المكونة له كعقود التأمين والإيجار المنتهي بالتمليك مثلا والديون المترتبة في الذمة في حالة التضخم فبعد تشخيص العقد وما يتضمنه.
عندئذ يبحث عن الحكم الشرعي الذي ينطبق على العقد إن كان بسيطاً وعلى أجزائه إن كان مركباً مستعرضاً الأدلة على الترتيب من نصوص وظواهر إن وجدت و إلا فاجتهاد بالرأي من قياس بشروطه واستصلاح واستحسان إنها عملية مركبة وصنعة بالمعنى الآنف كما سترى.
وباختصار فإن مرحلة التشخيص والتكييف للموضوع مرحلة معقدة وكذلك مرحلة تلمس الدليل في قضايا لا نص بخصوصها ولا نظير لها لتلحق به.(1/9)
وسنرى من خلال مباحث هذا الكتاب كيف تطورت صناعة الفتوى من عهد الصحابة إلى عهود الأئمة المجتهدين والفقهاء المقلدين لا من حيث تطبيق النصوص أو الأدلة على القضايا ولكن أيضا من حيث التوسع في الاستدلال والتعامل مع عامل الزمان كمرجح في ميزان معادلة النص والواقع في جدليتي المقاصد الكلية العامة والأحكام الجزئية الخاصة.
هذا التطور المتدرج في خطوط متعرجة لم يقتصر على الدليل والواقع وإنما شمل أيضا القائم على الفتوى الذي لم يعد المجتهد المطلق على ما سنصف بل يصبح طبقاً لقانون الضرورة والحاجة الفقيه المقلد الناقل.
ويصبح اختيار المقلدين بمنزلة اجتهاد المجتهدين فيما سماه المالكية "بإجراء العمل" لترفع القول الضعيف إلى مرتبة القوي والرأي السقيم إلى درجة الاجتهاد الصحيح بناء على مصلحة متوخاة أو مفسدة متحاماة.
ذاك ما سميناه صناعة الفتوى.
ما به الفتوى من الأدلة في عهد الصحابة : وأسباب الاختلاف
إن الفتوى لابد أن تعتمد على دليل منصوص في الأصلين الكتاب والسنّة أو مستنبط منهما بالاجتهاد على حد الترتيب الذي ورد في حديث معاذ – رضي الله عنه -.
1. فبالنسبة للكتاب لا خلاف يعترى العمل به إلا فيما يتعلق بدلالة اللفظ وسنتحدث عنها في حلقة لاحقه.
2- السنة :
أما بالنسبة للسنة فإننا سنشير إلى خلاف ظهرت بوادره في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وهو: الموقف من خبر الواحد، والغالب على الصحابة العمل بخبر الواحد: وسنكتفي بكلام للإمام المازري في شرحه للبرهان حيث يقول عن رجوع الصحابة إلى خبر الواحد:
فمن ذلك رجوع الصحابة في أن النبي – صلى الله عليه وسلم- لا يورث إلى خبر الصديق رضي الله عنه بذلك.
ورجوعهم لمّا اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين إلى أزواج النبي عليه السلام .
ورجوعه أيام الطاعون إلى خبر عبد الرحمن بن عوف.(1/10)
وهكذا أيضا رجع إلى خبره في أخذ الجزية من المجوس لمّا أخبر بقوله عليه الصلاة والسلام: سُنُّوا بِهُم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ".( الموطأ)
وهكذا رجع رضي الله عنه في دية الأصابع إلى خبر عمرو بن حزم في الديات.
- ورجع أيضا عثمان بن عفان رضي الله عنه في خبر السكنى إلى الفريعة بنت مالك.
- ورجع عليُّ إلى خبر المقداد في خبر المذي.
وقد رجع ابن عمر رضي الله عنه في المخابرة إلى رواية رافع بن خديج.
ورجع زيد بن ثابت في جواز أن تنفر الحائض قبل طواف الوداع إلى الحديث الذي روي له في هذا.
وهذا لو تتبع خرج عن الحد والحصر وأنت إذا طالعت ما صنف في هذا من كتب المحدثين والفقهاء التقطت من هذا الجنس ما لا يكاد يحصى ومثل هذا يدل على أنهم رضي الله عنهم مجمعون على العمل بخبر الواحد لأن مثل هذه الكثرة من القصص لا تكاد تنكتم وتخفى فكانوا ما بين راو لخبر وعامل به ومسلم للرواية والعمل فصار ذلك منهم إطباقا على العمل إذ لو كان العمل به حراما لكانوا أجمعوا على خطأ ومعصية لأنهم ما بين عامل وراض بالعمل ومسلم له.
وهذه عمدة يعول عليها في إثبات العمل بخبر الواحد وهي معتمد الحذاق من الأصوليين.
وقد رويت أخبار تتضمن ردهم لخبر الواحد وهي سبب الاختلاف في إجراء الخبر مجرى الشهادة فلا يقبل فيه إلا اثنان.
وقد يتعلق بها أيضا من يُنكر العمل بخبر الواحد جملة وإن كان راوي الخبر رجلين ويرون ذلك دلالة سمعية ونحن نورد عليك الآثار التي تعلق بها هؤلاء ثم نجيب عنها:
فمن ذلك قولهم: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لمّا سأل عن ميراث الجدة فروى له المغيرة بن شعبة أن النبي عليه السلام أعطاها السدس لم يقبل ذلك منه حتى روى له محمد بن مسلمة أن النبي عليه السلام ورّثها.
وهكذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس في السكنى والنفقة.
ورد خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان عليه ثلاثا حتى أتى أبو سعيد الخُدري فأخبره بمثل خبره.(1/11)
وهكذا رد عليّ رضي الله عنه الخبر الذي روي له في نكاح التفويض في قصة بروع بنت واشق.
وهكذا ردت عائشة خبر ابن عمر لمّا روى أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه.
وأجاب المازري بأجوبة عن هذه الأخبار وغيرها منها أنها تتعلق بشهادة يدفع بها المرء عن نفسه فلهذا احتيج إلى مزيد من الاستيثاق ويكفي – حسب رأينا- أن نقول : إنها وقائع أعيان لا عموم لها واستفاضة عملهم بخبر الآحاد يكفي في ترجيح العمل به.
3- الإجماع : كان الاهتمام به اهتماماً بدليل لم يكن له رواج في الفترة النبوية لأنه لا يمكن أن يكون مرجعاً في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- وقد برزت بوادر العمل به في وقت مبكر.
فقد أخرج الدارمي عن ميمون بن مهران قال :كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به وإن لم يكن في كتاب الله وعلم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع النفر كلهم يذكر من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيه قضاء فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبيّنا.
فإن أعياه أن يجد فيه سنّة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به.(1 /58) .
4- الاجتهاد
أما الاجتهاد بالرأي من قبل الصحابة فهو أمر شائع وذائع.
فقد فهموا : أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: بم تحكم ؟ وتقريره على قوله: أجتهد رأيي. ولقوله لعمر: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ" ؟ ولقوله للخثعمية : "أرأيت لو كان على أبيك دين" ؟ ولقوله : "إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ".(1/12)
لهذا فإنّ أبا بكر رضي الله عنه كان يقول برأيه كما فعل في توريثه للجد وحجبه للإخوة فأنه قال فيه برأيه.
وقال أبو بكر رضي الله عنه :أقول في الكلالة برأيي.
وهكذا كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشريح: "إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر بسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولم يتكلّم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت ، إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر.
وكان عمر مع ذلك يقول بالرأي ويحث عليه فيما ليس فيه كتاب ولا سنّة، فقد ذهب إلى زيد يطلب رأيه في الجد وكما في رسالته لأبي موسى الأشعري:"الفهم الفهم في ما أدلي إليك فما ليس في قرآن ولا سنّة ثم قس الأمور على ذلك واعرف الأمثال والأشباه ثم اعمل فيها بأحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق".
وقد ورث أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه تماضر الأسدية زوج عبد الرحمن بن عوف لأنه طلقها في مرض الموت وهو اجتهاد.
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ألاّ تباع أمهات الأولاد وأرى الآن أن يبعن .
قال الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب "الأصول الخمسة عشر": أربعة من الصحابة تكلموا في جميع أبواب الفقه وهم : عليّ وزيد وابن عباس وابن مسعود .
وهؤلاء الأربعة متى أجمعوا على مسألة على قول فالأمة فيها مجمعة على قولهم غير مبتدع لا يعتد بخلافه .
وكل مسألة انفرد فيها عليّ بقول عن سائر الصحابة تبعه ابن أبي ليلى والشعبي وعبيدة السلماني.
وكل مسألة انفرد فيها زيد بقول تبعه الشافعي ومالك في أكثره وتبعه خارجة بن زيد لا محالة.(1/13)
وكل مسألة انفرد بها ابن مسعود تبعه علقمة والأسود وأبو أيوب. (الزركشي البحر المحيط 4/372)
وانتهى العلم بالأحكام الشرعية لستة من الصحابة عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبيّ وعبد الله بن مسعود وعليّ قاله مسروق .
وأكثر الصحابة إفتاء على الإطلاق ابن عباس قاله أحمد.
ويليه ستة عمر وعليّ وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة. قال ابن جزي يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد ضخم.
قال وتلا هؤلاء السبعة عشرون بحيث يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير وهم أبو بكر وعثمان وأبو موسى ومعاذ وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاصي وسلمان وجابر وأبو سعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن حُصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية وابن الزبير وأم سلمة.
المكثرون من الفتيا: والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مائة ونيف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة وكان المكثرون منهم سبعة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر قال أبو محمد بن حزم ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم.
قال وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتابا وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.(1/14)
المتوسطون في الفتيا: قال أبو محمد والمتوسطون منهم فيما روى عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق وأم سلمة وأنس بن مالك وأبو سعيد الخُدريّ وأبو هريرة وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وأبو موسى الأشعري وسعد ابن أبي وقاص وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا ويضاف إليهم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن حصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان.
المقلون من الفتيا: والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم أبو الدرداء وأبو اليسر وأبو سلمة المخزومي وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد والحسن والحسين ابنا علي والنعمان.
قد تبين مما مضى وقوف الصحابة عند الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم الرأي بالقياس أو ما ينحو منحاه.
فلماذا اختلفوا في الفتوى وأختلف علماء الأمة من بعدهم تبعاً لهم في كثير من الحالات ؟
أولاً: يجب أن نقرر أن الاختلاف ليس كله ممقوتاً بل إن العلماء قرروا أن الاختلاف قد يكون رحمة.
قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب الدّر المختار: "وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر".
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول: وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه.
أسباب الاختلاف بين الصحابة فيما بينهم وكذلك أسباب بين العلماء المجتهدين بعد عصرهم.
الخلاف ينشأ من أربعة أوجه تعتبر عناوين كبيرة لأسباب الخلاف الكثيرة والمتنوعة.
1- اختلاف في دلالات الألفاظ وضوحاً وغموضاً واعتباراً ورداً.(1/15)
2- اختلاف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة قبولاً ورفضاً
3- اختلاف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.
4- اختلاف في ترتيب الأدلة عند التعارض قوة وضعفاً.
فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء وقد ذكر ابن السيّد ثمانية أسباب لاختلاف العلماء .
أحدها:الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات وجعله ثلاثة أقسام : "اشتراك" في موضوع اللفظ المفرد كالقرء و أو في آية الحرابة و"اشتراك" في أحواله العارضة في التصريف نحو"ولا يُضارَ كاتب ولا شهيد".
و"اشتراك" من قبل التركيب نحو "والعمل الصالح يرفعه" "وما قتلوه يقينا".
الثاني : دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز وجعله ثلاثة أقسام : ما يرجع إلى اللفظ المفرد نحو حديث النزول"الله نور السَّماوات والأرض".
وما يرجع إلى أحواله نحو:"بل مكر الليل والنهار" ولم يبين وجه الخلاف.
وما يرجع إلى جهة التراكيب كإيراد الممتنع بصورة الممكن ومنه"لئن قدر الله عليّ" الحديث.
وأشباه ذلك مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره كالأمر بصورة الخبر والمدح بصورة الذّم والتكثير بصورة التقليل وعكسها.
الثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط وكمسألة الجبر والقدر والاكتساب .
الرابع :دورانه بين العموم والخصوص نحو "لا إكراه في الدِّين" "وعلَّم آدم الأسماء كلها".
الخامس : اختلاف الرواية وله ثمان علل.
السادس : جهات الاجتهاد والقياس.
السابع : دعوى النسخ وعدمه.
الثامن : ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات.
هذه تراجم ما أورد ابن السيّد.( الموافقات 4/211)(1/16)
وبالنسبة للرواية فقد ذكر أن لها ثماني علل: فساد الإسناد ونقل الحديث على المعنى أو من المصحَّف والجهل بالإعراب والتصحيف وإسقاط جزء الحديث أو سببه وسماع بعض الحديث وفوت بعضه.
وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقية فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف .
وإذا كان على هذا الوجه فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول .(الموافقات 4/173)
وأما الحافظ ابن رجب فقد قال عن أسباب الخلاف: منها أنه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.
ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما: بالتحليل والآخر: بالتحريم، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر فيتمسكون بما بلغهم: أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.
ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.
ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف أفهام العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.( جامع العلوم والحكم 1/131)
ورد ابن رشد أسباب الاختلاف إلى ستة أنواع لا تخرج عما ذكرنا تراجع المقدمة الأصولية لبداية المجتهد.
ومن أمثلة الاختلاف في دلالات الألفاظ:
بين الحقيقة الشرعية والحقيقة الوضعية فيقدم أبو حنيفة الحقيقة الشرعية للصوم في حديث عائشة في الصحيح عندما سأل عليه الصلاة والسلام هل عندكم من طعام فقالت عائشة لا فقال إني صائم ،وذلك في وسط النهار فيقول أبو حنيفة انه أحدث الصوم الآن لأن صوم التطوع لا يحتاج إلى تبيت النية التي وردت في حديث ابن ماجه"لا صيام لمن لم يبتنه من الليل".
وقال مالك إن الصوم لغوي فمعنى إني صائم أي إني إذا صائم أي ممسك عن الأكل فقد قال الحقيقة الوضعية.
بين الظاهر وبين التأويل:(1/17)
في الحديث الصحيح " الجَارُ أَحَقُّ بِسَِقْبِهِ " أي بعموده وهو كناية فقال الثلاثة إن الجار هنا يراد به الشريك للحديث الصحيح أيضا "فَإِذا وَقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ ".( البخاري باب الشفعة)
أما أبو حنيفة فحمله على ظاهر العموم من وجوب الشفعة للجار مطلقا سواء كان شريكا أو غير شريك وبالتالي فأبو حنيفة لا يعتبر معارضة المخصص.
ويأخذ الأحناف بحديث "الأَيِّمُ أَحَقُ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيَّهَا" ويتأولون حديث "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلُ".
على أن المراد المرأة الصغيرة بينما يحمله الجمهور على ظاهره في العموم في كل امرأة فأوجبوا الولي للنكاح.
وتأول الأحناف حديث غيلان بن سلمة الذي فيه"أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً وفَارِقْ سَائِرَهُنْ"بأن معنى أمسك منهن أربعا أي اعقد عليهن بينما يرى الجمهور إبقاء الحديث على ظاهره الذي يعني استمرار النكاح،بين اعتبار مفهوم المخالفة(دليل الخطاب)وعدم اعتباره ،إن الأحناف لا يقولون بدليل الخطاب أصلا.
نظرة إلى منهجية المذاهب الأربعة اتفاقاً واختلافاً:
بالنظر فيما نقل عن مختلف المذاهب ندرك بداهة أنها لا تختلف في اعتبار الكتاب والسنة مصدر التشريع وهو أصل عقدي للمسلم كما أنها تعتبر الإجماع والقياس مصدرين مبنيين على الأصلين وهذا في الجملة.
أما في التفصيل فإن ملامح الاختلاف تتحدد على ضوء اجتهاد يتوسع في معتبر الحديث فيعمل بالمراسيل والبلاغات والمنقطع والضعيف أحياناً مقدماً ذلك في الرتبة على معقول النص المدرك بالاجتهاد.
وبين مقتصر على اعتبار ما صح بمعايير حديثية صارمة تاركاً للاجتهاد بالقياس وما في حكمه أو للاستصحاب مساحة أوسع وربما قدم عمل الراوي على العمل بمرويه.(1/18)
كما أن تفاصيل التعامل مع الإجماع يعرض فيها الاختلاف بين موسع لمفهوم ليشمل الإجماع السكوتيّ وسائر القرون والعصور.ومعتبر إجماع أهل المدينة.
وبين مضيق في مفهوم الإجماع لحصره في النطقي ومن يحصره في إجماع الصحابة فقط.
إلى غير ذلك من التفاصيل.
وكذلك فإن قياس العلة يتفق على اعتباره أكثر العلماء غير أن الاختلاف يعرض في أنواع أخرى من القياس كقياس الشبه وقياس العكس وكذلك بعض مسالك العلة.
أما الأدلة الأخرى كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي وشرع من قبلنا.
وبصفة عامة يختلف الأئمة في الأخذ بالمقاصد فمن متوسع في الأخذ بها متعمق في أغوارها دائر إيرادها وإصدارها ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها.
وكل المذاهب بدون استثناء اعتمدت قادة مجتهدين ومجتهدى مذهب ومقلدين متبصرين ومقلدين ناقلين وجعلت من سلك سبيلهم من عوام المسلمين في سعة في دينه وسداد في أمره كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلاء وترجح لكنها أيضاً ذكرت جواز العمل بغير الراجح وبغير المشهور لضرورة أو حاجة منزلة منزلتها بضوابطها التي ستراها في مبحث مستقل.
وبعد ما رأينا من منهجية المذاهب الأربعة في الفتوى وقبل ذلك منهجية أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإن فتاوى العلماء المتأخرين بعد عصر المجتهدين يمكن أن تساعد في استقصاء مرجعية الفتوى في العصور المتأخرة مما يسعف في تجلية بعض الجوانب المساعدة على ضبط منهجية الإفتاء في هذه الزمان وبخاصة في فقه الأقليات الذي هو مجال تطبيق هذا الكتاب.
فإنه بدراسة هذه الفتاوى وتصنيفها إلى مجموعات بحسب معتمد الفتوى وطريقة الاستنباط يمكن إبراز ثلاثة نماذج بعد عصر الاجتهاد.(1/19)
الأنموذج الأول: فتاوى تعتمد الينبوع الأصلي من الكتاب والسنّة والقياس وأقوال الصحابة والتابعين ، ويمثل هذا التوجه مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يعتمد اعتماداً واصباً على الكتاب والسنّة وأقوال السلف ، يصحح ويرجّح أقوالاً للصحابة والتابعين شبه مهجورة إذا ظهر له أنها أسعد بالدليل والقواعد وهو لذلك يقرر أن الإجماع لا ينعقد بعد خلاف الصحابة.
الأنموذج الثاني من الفتاوى : هو فتاوى مجتهدي المذهب والفتيا ، وهذه الطبقة تعتمد مذهب إمامها لكنها ترجح في نطاق المذهب وفي بعض النوازل تستشهد بالكتاب والسنّة تعضيداً لما تذهب إليه وتتصرف تصرف المجتهدين إلاّ أن الغالب على هذه الطبقة أنها لا تخرج عن المذهب ولكنها تختار وتستظهر وتضع القواعد وتقسم وتقيس وتخرّج ، وتمثّل هذه الطبقة فتاوى ابن رشد وهو يلجأ إلى ذلك غالباً في قضايا يلح فيها النزاع بين جمهرة العلماء ، فترفع إليه أو يرد فيها على من انتقد قوله في مسألة .
أما الأنموذج الثالث : فهو طبقة المقلدين التي لا ترتقي في استدلالها إلى نصوص الشارع ولكنها تعتمد على روايات المذهب وأحياناً على أقوال المتأخرين وتخريجاتهم كفتاوى قاضيخانة من الأحناف ، وعليش من المالكية وغيرهما ، وهو الأنموذج الشائع الفاشي في القرون الماضية.
إن هذا التصنيف سيكون مقدمة ضرورية للتعامل مع البحر المتلاطم من الأقوال والآراء التي تزخر بها فتاوى الطبقات الثلاث من المفتين للتعرف على ضوابط الفتوى بالنسبة لكل طبقة ومرجعيتها في الإفتاء .
أن الضوابط في مجملها لا يختلف عليها فالمفتي يجب أن يكون عالماً ورعاً.
ولكن الاختلاف في ماهية العلم المشترط في الفتوى ، فالعلم بالنسبة للمجتهد هو علم بالكتاب والسنّة كما قدمنا، وبالنسبة للمقلد علم بنصوص إمامه وفي كلتا الحالتين عليه أن يكون ورعاً غير متساهل في الفتوى.(1/20)
والمراد من هذا أن الفتاوى التي تصدر عن فقهاء هذا الزمن على أصحابها أن يصنّفوها في إحدى الطبقات حتى يلتزموا بالضوابط الشرعية لكل طبقة ، فعندما يقيس المفتي عليه أن يلتزم بشروط القياس ، وعندما يقلّد قولاً عليه أن يقلّد القول الصحيح ، وعندما يقلّد الضعيف عليه أن يبيّن سبب ذلك.
إن فتاوى أهل زماننا بحاجة إلى التأصيل على ضوء أصول فتاوى الأولين انطلاقاً من مجموع الضوابط والشروط التي وضعها العلماء سواء في العصور الأولى لازدهار الاجتهاد ، أو تلك التي وصلوا إليها للضرورة والحاجة عندما أجازوا قضاء المقلّد وفتواه ، بشرط أن يحكم بالراجح والمشهور وما عليه العمل بشروط أو ما به الفتوى الذي يوازي عند غير المالكية العمل عند المالكية.
كما تسوغ الفتوى بالضعيف للضرورة التي ليست ضرورة بالمعنى الفقهي ،التي هي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك ، فهذه تبيح المحرّم ولا يحتاج إلى قول لتستند عليه. لكنها الضرورة التي تعنى الحاجة وهو تعبير مستفيض في كلام الفقهاء سنشرحه لاحقاً.
وأخيراً : الفتوى الجماعية
إنه من حسنات هذه الأمة المحمدية المحروسة المرحومة المعصومة إنها كما وصفها نبينا – صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحاديث:"مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره".
رواه أحمد والترمذي عن أنس وأحمد عن عمار وأبو يعلي عن عليّ والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا بدأ العصر الأول بالفتوى الجماعية وأشرنا إليها في حديثنا عن دليل الإجماع في عهد أبي بكر عليه رضوان الله حيث كان يجمع رؤوس الناس وخيارهم ويستشيرهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به كما في حديث الدارمي.
وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يستشير عشرة من فقهاء المدينة وبعض الناس يسمى ذلك بالاجتهاد الجماعي وليس الأمر كذلك.(1/21)
فالاجتهاد في تعريفه إنما يرجع إلى قناعة شخصية لأنه بذل المجتهد وسعه للوصول إلى الحكم الشرعي ولكنه إفتاء جماعي.
وقد أحيا العالم الإسلامي في مطلع القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري الفتوى الجماعية بإنشاء المجامع الفقهية العالمية سواء كانت رسمية أو شعبية مستقلة.
إن هذه المجامع يجب أن تعني بالقضايا العامة التي من شأنها أن يكون لها أثر على الأمة سواء كانت قضايا سياسية كقضايا النظم : الشورى والديمقراطية ومشاركة المرأة.
أو قضايا اقتصادية كالاشتراك في الشركات العملاقة عابرة القارات مع ما يشوب معاملاتها من أوجه الفساد الشرعية. والانخراط في المنظمات كمنظمة الغات للتجارة العالمية.
وقد ركزت هذه المجامع على بعض القضايا الاجتماعية كالعلاقة بين الرجل والمرأة من حيث الواجبات والحقوق المتبادلة.
ويحتاج الأمر في بحث هذه القضايا إلى محددين أساسين:
أولاً: إلمام واسع بالواقع من كل جوانبه ورؤية شاملة لكن زواياه. وهو أمر يوجب على المجامع أن تعطى مكانة كبيرة للخبراء السياسيين والاقتصاديين وأيضا للاجتماعيين دون إفراط في منحهم وظيفة إصدار الحكم الشرعي.
أما المحدد الثاني: فهو أن يرتفع أعضاء المجالس في معالجتهم للقضايا إلي النظر المتوازن بين الكلي والجزئي لتضع نصب عينيها المقاصد الشرعية الأكيدة دون أن تغيب عن بصرها وبصيرتها النصوص الجزئية التي تؤدي إلى إيجاد نسبية لاطراد المقصد وشموله إن ذلك بعينه هو الوسطية.
وهو أيضا إحياء سنة الصحابة في عرض الأمور العامة على الجماعة كما فعل عمر في مسألة الأراضي الخراجية وانتشار ظاهرة الخمور فلم يرد عمر أن تعالج قضايا الأمة من طرف أفراد مهما كانت درجتهم العلمية وإنما يصدر فيها حكم جماعي يكون مستنداً للأمة ومراعياً للمصلحة العامة.
كيف نستفيد من هذه الفتاوى؟
يمكن الاستفادة منها من وجهين:(1/22)
أولا : دراسة نماذج من فتاويهم للتعرف على القواعد والضوابط والأسس التي أقام عليها المفتون أحكامهم وفتاويهم في مختلف العصور ، وهي قواعد تنير دروب تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة ، فقد كانت القواعد والمبادئ العامة خير معين على مقارعة صعاب النوازل وتقويم اعوجاج ملتويات المسائل . وهذه القواعد تتعلق برفع الحرج : المشقة تجلب التيسير ، والأمر إذا ضاق اتسع ، وجلب المصالح ودرء المفاسد ، ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين ، والنظر في المئالات ، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني ، وسد الذرائع وتحكيم العرف ، وتحقيق المناط والإذن في العقود وفي مدونات الفتاوى تطبيق حي للقواعد والضوابط على الواقعات نقتطف منه بعض الأمثلة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم ولا يبطل إلاّ ما دلَّ للشرع على تحريمه نصاً أو قياساً.
وقد قال الشاطبي : إن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يدل دليل على خلافه.
وسُئل الشاطبي رحمه الله عن الاشتراك في الألبان وخلطها لإخراج الزبد والجبن فتختلف النسبة ويجهل التساوي ، فقال إنه لا يعرف فيه نصاً بعينه ولكنه أجازه لقوله تعالى: "وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ" وذلك في شأن الأيتام واعتبر هذا النوع من الشركة من المخالطة رفعاً للحرج و اغتفاراً للغرر اليسير والربا اليسير قائلاً: وله نظائر في الشرع كبيع العارية بخرصها تمراً أو رد القيراط على الدرهم في البيع".
إنها أمثلة لتطبيق قاعدة رفع الحرج والتخفيف فيما يصلح الناس في مقابل المزابنة المحرمة بالنص وقد ذكر ذلك في مقابل قاعدة الشك في التماثل كتحقق التفاضل .
ثانياً : الاستفادة من الفتاوى القديمة في القضايا المعاصرة(1/23)
وذلك بالبحث عن بعض النوازل التي تشبه القضايا المعاصرة في وجه من الوجوه وصورة من الصور فيطبق عليها أو يستأنس بها لإيجاد حل للقضية المعاصرة . ومن الواضح أن كل زمان يطرح قضاياه ونوازله وبخاصة في زماننا الذي أمحت فيه الحدود وزالت فيه الحواجز ، وغزت العالم الإسلامي في عقر داره أعراف العالم الآخر ونظمه وقوانينه والمبادلات على أسس لا توافق في أحايين كثيرة الأسس الفقهية المعروفة . بيد أن الأمر ازداد تعقيداً بظهور المخترعات العلمية الحديثة التي قطرت معها قطاراً من المسائل نشأت عن الحاجات التي أوجدتها لدى المجتمع كتلك المتعلقة بالطب من زراعة الأعضاء ونقلها ، إلى الهندسة الوراثية.
ولهذا فإن الفتاوى والنوازل القديمة قد لا تجدي فتيلاً في حل المسائل المعاصرة التي يمكن أن تحل من خلال القواعد كما أسلفنا ، ومع ذلك فإنه بإمعان النظر في كتب الفتاوى والعمل يستطيع المتوسم أن يعثر على فروع ومسائل تشبه تلك التي تطرحها المعاملات المعاصرة .
وينبغي التنبيه على أن دلالتها عليها قد لا تكون دلالة مطابقة ومفهومها قد لا يكون مفهوم موافقة ، بل إنها تدل عليها دلالة تضمن أو التزام بوجه من الوجوه وشكل من الأشكال تنبئ عما وراء الأكمة بدون غوص في مضامينها أو تعمق في محتواها غير ملتزم بترجيح وجه من أوجه الخلاف ، إذ أن المقصود إثارة الموضوع ليعلم أن له شواهد في النوازل تبيحه أم تحرّمه أو تحكي الخلاف فيه وهو أمر سيتيح للفقيه عندما يعالج أياً من هذه النوازل سنداً يستند إليه ليرجح من الخلاف على أساس من المرجحات ويكفيه منقبة لهذا الخلاف أنه يرفع عن الباحث إصر مخالفة الإجماع ويسلكه في مسلك الإتباع .
السلم المتوازي :
من أسلم ذهباً إلى شخص في قمح وباع منه قمحاً بذهب إلى أجل . فأجاب الفقيه ابن الحاج : (إن ذلك جائز إذا كان في صفقتين ولا يجوز إذا كان في صفقة واحدة لأنه ذهب وطعام بذهب وطعام ) . " المعيار6/162) .(1/24)
المؤجر يأخذ الأجرة مقدماً لا يجب عليه دفع الزكاة إلاّ لما مضى من الزمان.
مسألة التسالف بين الأحباس وقول ابن حبيب في الواضحة إن الأموال المرصودة في وجه من أوجه البر يمكن أن تُصرف في أوجه أخرى من أوجهها ، وهذا يوسع على هيئات الإغاثة لتبادل الاقتراض ومساعدة بعضها البعض .
مسألة التضخم :
سُئل فقهاء طليطلة عمن أوصى لرجل بسكة فحالت السكة إلى سكة أخرى فشوور فيها فقهاء قرطبة فأجابوا بوجوب الوصية في السكة الجارية يوم مات الموصي لا يوم أوصى وأقاموها من مسألة الخيش والمسح والخريطة .
وذكر كلام المتيطي لو اكترى داراً لكل شهر بكذا فاستحالت السكة وتمادى المكتري في السكنى حتى مضت مدة وكانت السكة التي استحالت إليها أحسن من القديمة التي عقد عليها الكراء ، فهل يجب للمكري على المكتري من القديمة أو من الحديثة ؟ فقال ابن سهل : له من السكة القديمة التي عقد عليها الكراء ، كما لاحجة لبعض على بعض بغلاء أو رخص لا يحتمل النظر غير هذا ولا يجوز على الأصول سواه. (المعيار6/228 وما بعدها) .
وفي قياس التضخم على الجائحة سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عمن استأجر أرضاً فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع هل توضع الجائحة ؟ فأجاب : أما إذا استأجر أرضاً للزرع فلم يأت المطر المعتاد فله الفسخ باتفاق العلماء ، بل إن تعطلت بطلب الإجارة بلا فسخ في الأظهر . وأما إذا نقصت المنفعة فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة . نصَّ على هذا الإمام أحمد بن حنبل وغيره ، فيُقال : كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد ؟ فيُقال: ألف درهم ويُقال : كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص ؟ فيُقال : خمسمائة درهم ، فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماة فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه.(1/25)
وكذلك لو أصاب الأرض جراد أو نار أو جائحة أتلف بعض الزرع فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة. (الفتاوى لابن تيمية3/257).
مسألة تغيّر السكة أو انقطاعها :
وأفتى ابن عتاب بقرطبة حين انقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد بسكة أخرى أن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب ، وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول : إنما أعطاها على العوض ( المعيار6 /163) .
كان أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حماماً بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد ، ثم غيرت دراهم ذلك إلى أفضل منها أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد وخالفه الباجي .
وقد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كانت ضربها (6/164) .
وقال أبو حفص العطار من لك عليه دراهم وقطعت ولم توجد فقيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم.
وفي كتاب ابن سحنون إذا أسقطت تتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت لأن الفلوس لا ثمن لها.(المعيار6/106)
مسألة الإيجار يجتمع مع البيع فيشتري المستأجر الدار المستأجرة:
في المعيار: وفي مسألة المكتري يبتاع الدار المكتراه ويشترط أن الكراء عنه محطوط . سُئل عنها فقهاء قرطبة : أجاب عبدالله بن موسى الشارقي بعدم الجواز لأنه ابتاع الدار والكراء الذي عليه بالثمن الذي دفع فصار ذهباً وعرضاً بذهب وعرض ، وإن باعه من غير المكتري بعد عقد الكراء فإن لم يعلم الأجنبي فهو عيب إن شاء رد وإن شاء أمسك وإن علم به فلا رد له ولاحق له في الكراء مع البائع المكري إلاّ أن يشترطه . وفصل تفصيلاً فيما يتعلق بالإيجار إن كان ذهباً أو ورقاً :(1/26)
ابن الحاج إن باع مع الكراء عرضاً والثمن عيناً جاز للمشتري أخذه ولو باعها من المكتري ، فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو عمران الفاسي وأبو عمر بن عبد البر في الكافي إن ذلك جائز وهو فسخ لما تقدم من الكراء في قول أبي بكر وفسخ لما بقي من المدة في قول أبي عمران . وقال في جواب ابن دحون والشارقي وابن الشقاق المتقدم الذكر وجواب هؤلاء لا يدل على أن الكراء يفسخه الشراء .
وفي فتاوى المعيار بيع الدار على أن يقبضها مشتريها بعد عشر سنين على مذهب ابن شهاب جائز . وأما في القاعة فيجوز إلى عشر سنين أو أكثر لأنها مأمونة وقد مر العمل هنا بجواز ذلك إلى عشرين وثلاثين سنة لأمنها . وأما قسم القاعات بين مالكيها وتبقى كل قاعة تحت يد مكتريها إلى انقضاء المدة فيجوز ذلك كما يجوز بيعها على أن لا يقبضها المشتري إلاّ إلى أمد بعيد وقد سبق بيان ذلك (هذا باختصار وحذف من أجوبة أبي الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي 6/464).
مسألة استهلاك العين المنغمرة (الأدوية تكون فيها مادة الكحول مستهلكة).
أجاب أبو الفرج في مسألة الجلود التي فيها الذهب تغزل فيها خيوطه تباع بالذهب . فأجاب : إنها تباع لأنها كالعروض لوجود الاستهلاك وعدم تيسره وهذا الوصف يسقط عنه حكم العين ويعدم منه حكم العلة الموجبة لحكم التحريم . وهي كونه ثمناً للمبيعات ونظير هذا فى أن الاستهلاك ينقل الحكم عن العين ما قالوه في لبن المرأة إذا خلطوه في طعام أو دواء واستهلك فيه ثم لو شربه الصبي أن لا حكم له في التحريم على الأصح الأظهر. ( المعيار 6/311)(1/27)
هذا ما يتعلق بالجزء الأول من هذه الدراسة وهو تأصيل للفتوى بصفة عامة لكنه محاولة لتوسيع دائرة الفهم عند القارئ وترسيخ جملة من المعاني تنافي ضيق الأفق إذا طالع بتؤدة وقرأ على مكث معتمد الفتاوى عند سلف هذه الأمة وتدبر في تعلقهم بالمعاني والمصالح وفكر في تشعب طرق الاستنباط ووسائل الاستنتاج فيتهيأ بذلك ذهنياً لقبول ما سنعرضه من فقه الأقليات تأصيلا وتفريعاً حيث سنزيد الأمر بياناً.
ذلك أن مفتى الأقليات يجب أن يكون واضح الرؤية دقيق الملاحظة مستوعباً بالإضافة إلى المادة الفقهية في تنوعها وثرائها تفاصيل الواقع وتضاريس خريطته ملاحظاً الطبقة التي تنتمي إليها فتواه محققاً مناط دعواه.
معالم فقه الأقليات : تعريف وتكييف وتأصيل وتفصيل.
إن هذا المصطلح مصطلح حديث لم يكن معروفاً في الماضي وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعنى مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.
وقد وقع جدل كثير حول هذه التسمية "فقه الأقليات" وبالإضافة إلى ما ذكرنا من الجواب فيجب أن نذكر أن الإضافة تقع لأدنى سبب كإضافة الضحى إلى العشية في قوله تعالى(إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).
وقد حسم المجلس الأوربي هذا الجدل في دورته المنعقدة بدبلن.(1/28)
واستقر المجلس على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، وقد درج العمل عليه في الخطاب المعاصر، إضافة إلى كون العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يقصد به: "مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية".
كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.
قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية "إثنيه" ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.
لقد شهد التاريخ مئاسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات ما زال العالم يعيشها في نهاية القرن العشرين في كوسوفو والبوسنة والهرسك.
إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.
وفي فترة من التاريخ كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها.
وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر 14قرناً محمية بحماية الإسلام كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.(1/29)
ولقد اهتمت كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.
أن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراء وسعة الفقه الإسلامي، فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع.
أما إضافة الفقه إلى الأقليات فهي من نوع الإضافات التي يراد بها تمييز المضاف وتخصيصه وهي من نوع الإضافة شبه المحضة فقد ذكر ابن مالك في الألفية نوعين من الإضافة هما الإضافة اللفظية والإضافة المعنوية وهي الإضافة المحضة.
وهذه منها لأن المضاف إليه يخصص الأول أو يعرفه قال ابن مالك:
.............. واخْصُصَ أَوَّلا *** أو أَعْطِهِ التَّعْرِيفَ بالَّذي تَلاَ
وأشار إلى هذه الإضافة بقوله بعد أبيات :
..................... *** وتِلْكَ محْضَةُ ومَعْنَوِيَّهْ
والمطلوب هنا أن نبين أن إضافة الفقه للأقليات لا تعنى إنشاء فقه خارج الفقه الإسلامي وأدلته المعروفة وإنما تعنى أن هذه الفئة لها أحكام خاصة بها نظراً لظروف الضرورات والحاجيات كما تقول فقه السفر أو فقه النساء وسيتضح ذلك أثناء نشرنا لطي هذا الموضوع وبسطنا لبساطه ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقول العلماء.
وقد نظمت أبياتاً في إحدى دورات المجلس الأوربي عندما كنا نناقش تأصيل فقه الأقليات لا بأس من إثباتها هنا وهي:
عُقُودُ المُسلِمينَ بدَارِ غَربٍ *** تَجَاذَبَها المَقَاصِدُ والفُرُوعُ(1/30)
ومِيزَانُ الفَقِيه يَجُورُ طَوراً *** إلى طَرَفِ فَيُفْرِطُ أو يُضِيعُ
فَفِي الجُزْئِيِّ ضِيقُ وانْحِصَارُ *** وفي الكُلِيِّ مُنْفَسَحُ وَسِيعُ
ونُورُ الحَقِّ مَصْلَحَةُ تُوازَى *** بِجُزئيِّ النُصُوصِ لَه سُطُوعُ
مَآلاتُ الأُمُورِ لَهَا اعتِبَارُ *** وحَاجِيُّ الضَرُورةِ قَدْ يُطِيعُ
فَزِنْ هذَا بذَاكَ وذَا بِهذَا *** يَكُنْ في القَيسِ مَنْهَجُك البَدِيعُ
"فِإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أمراً فَدَعْهُ *** وجَاوزهُ إلى مَا تَسْتَطِيعُ".
التأصيل لفقه الأقليات:
فقه الأقليات كسائر فروع الفقه يرجع إلى مصدري الشريعة : الكتاب والسنة إلا أنه عند التفصيل يرجع أولا : إلى كليات الشريعة القاضية برفع الحرج وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضرين وأضعف الشرين مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة.
"فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد".كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين.
وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص.
ثانياً: يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.
ثالثاً: يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سبباً لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة وعن أئمة كالنخعي والثوري وأبي حنيفة ومحمد ورواية عن أحمد وعبد الملك بن حبيب من المالكية.
وهو مؤصل من أحاديث كالنهي عن إقامة الحدود في أرض العدو أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي :"لا تقطع الأيدي في السفر".(1/31)
ومرسل مكحول :"لا ربا بين مسلم وحربي".
فانطلاقا من هذه الأسس التي سنتوسع فيها ومن الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية وآراء أهل العلم يكون اجتهاد العلماء ترجيحاً انتقائياً أو إبداعياً إنشائياً وإن كنت شخصياً أميل إلى النوع الأول ولا أجسر على النوع الثاني إلا بشاهد أي بنوع من التخريج لأن النوع الأول اختيار من أقوال العلماء لمصلحة اقتضت هذا الاختيار أو لدرء مفسدة قد يؤدي إليها تطبيق القول المتروك وبصفة أكثر دقة فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب : اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسا على المنصوص في الأصلين الكتاب والسنة.
واجتهاد في تحقيق المناط وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا كما يقول الشاطبي لأنه تطبيق القاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون بل يستوي فيه المجتهد والمقلد.
أما النوع الثالث فهو اجتهاد ترجيحي وهو اختيار قول قد يكون مرجوحاً في وقت من الأوقات إما لضعف المستند - وليس لانعدامه- فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك وهذا ما يسمى عند المالكية جريان العمل.
فلهذا فتسليط الأنواع الثلاثة للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى وهي واقع الأقلية والأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية.
من كل ذلك تنشأ الفتوى في جدلية وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة ومرتبة الدليل ومرتبة الحكم وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما بل يعطى كل منهما قدر ما يستحق من الحكم ولهذا أصل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين.(1/32)
وسترى هذه الأنواع من الاجتهاد من خلال مطالعة مشهد أوضاع الأقليات فيما يتعلق بأنكحتهم ومعاملتهم المالية وعوائدهم في الأكل واللباس وفي التعامل مع الناس في تهاني الأفراح والتعازي في الأحزان والأتراح في الانخراط في الأحزاب والترشح والانتخاب إلى آخر القائمة.
فالأقليات تواجه تحديات عنيدة على مستوى الفرد الذي يعيش وسط بيئة لها فلسفتها المادية التي لا مجال فيها للوازع الديني وعلى المستوى الأسرة التي تحاول التماسك في خضم مجتمع تفككت فيه الروابط الأسرية واستحالت فيه العلاقة الزوجية بين الزوجين والأبوية بين الأبناء والأبوين علاقة غير قائمة على أسس من القوامة الإيجابية.
أما على مستوى المجتمع المسلم الصغير الذي يساكن هذه المجتمعات فهو مبعثر لا ينتظمه ناظم ولا يجمع شتاته جامع فالتحديات تطاول العقيدة التي نعنى بها أن يكون المرء مسلماً مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله وليس بالضرورة أشعرياً ولا سلفياً ولا معتزلياً وغير ذلك من التفسيرات التي تشوش على العامي.
ولعل العقيدة التي كتبها محمد بن أبي زيد القيرواني في صدر الرسالة والتي ترجع إلى نصوص الكتاب والسنة لا يختلف عليها طوائف أهل السنة هي أفضل شيء يتعلمه المسلمون في المهاجر لبساطتها وسلامتها من الجدل والتشويش.
كما تطاول ممارسة العبادة مع ما يتطلبه من تكوين الجماعة المسلمة والمؤسسات الإسلامية من مساجد ومدارس ومراكز.
كما تطاول العلاقة بالآخر وإيجاد وسائل التعايش التي تجنب المسلم الذوبان الثقافي. وكذلك تحرسه من التقوقع والعزلة ليصبح في النهاية عضواً فعالاً في المجتمع ممكناً أسوة بنبي الله يوسف عليه السلام عندما خاطب ملك مصر بقوله: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".
كل ذلك يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل وبين الواقع مع ورع لا تشوبه وسوسة وجسارة لا ينغصها تهتك ولا جرأة.
وينقسم التأصيل لفقه الأقليات إلى مقاصد وقواعد:(1/33)
القسم الأول: المقاصد:
أولاً: مقصد عام وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقلية المسلمة على مستوى الفرد أو الجماعة.
ثانياً: التطلع إلى نشر دعوة الإسلام في صفوف الأكثرية مع ما يستتبع ذلك من تمكين تدريجي للإسلام في الأرض.
ثالثاً : التأصيل لفقه العلاقة مع الغير في الواقع الحضاري والعالمي وهو أمر قد لا يختص بالأقلية لتداخل الأوضاع العالمية لإيجاد حالة من الثقة المتبادلة والقبول.
رابعاً : التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية بمعنى الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية.
أما القواعد فإنها لا تعنى إحداث قواعد أصولية أو فقهية بقدر ما تعنى التركيز في الاتجاه البحثي على قواعد موجودة في الموروث الأصولي والفقهي أكثر التصاقاً وأقرب وشيجة بواقع الأقليات لتمحيصه من جديد واستكشاف إمكاناتها في التعامل مع أوضاع الأقليات.
القسم الثاني: قواعد كبرى تعتمد في فقه الأقليات:
ومن أبرز هذه القواعد: قاعدة التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الزمان، وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة، والعرف، والنظر في المآلات، وقيام جماعة المسلمين مقام القاضي.
ونتقصر في هذه الحلقة على القاعدتين الأوليين:
أولاً: قاعدة التيسير ورفع الحرج وتجلياتها
قال الشاطبي : إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور :(1/34)
أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ " [الأعراف:157[ وقوله: "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" ]البقرة: 286/2 [وفي الحديث : " قال الله تعالى قد فعلت " وفي الحديث:" بُعِثتُ بالحَنِيفية السمحة"، وحديث : " ما خُيِّرَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُما أَيْسَرُ من الآخَرِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً فَإنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ".
ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.
والثاني : ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة ، وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.
ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف. (الموافقات : 2/121-122) .
فالنصوص سالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط ، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل.
وقد عبر العلماء بعبارات مختلفة عن أسباب رفع الحرج منها:
عموم البلوى:
وهو الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيراً من الناس ويتعذّر الاحتراز منها.
أو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال كنجاسة النعل والخف تطهر بالدلك.
الغلبة:(1/35)
الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة .
عسر الاحتراز :
ومعناها صعوبة التحفظ عن أمر وهي في العبادات وغيرها.
وعبّر عنه القرافي بالتعذر حيث قال:" المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف".
وأما خليل فقد قال: " لا إن عسر الاحتراز منه".
وعفى عما يعسر كحدث مستنكح.
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفا قائلا: لان مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب .
و أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال: الخلاف شر.( الفتاوى 22-407)
- العذر باختلاف العلماء :
عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم : إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً . ( إعلام الموقعين 3- 365)
ويقول العز بن عبد السلام : من أتى شيئا مختلفا في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفاً ( قواعد الأحكام 1- 109) .
وقد قدمنا تأصيل الاختلاف وأسبابه المشروعة في حديثنا عن اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم ونضيف هنا: أن معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح أفقه.
فقد قال قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه.
وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.
وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمان باختلاف الناس.
وقال يحي بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب أليّ.
إلى غير ذلك من الأقوال يراجع الشاطبي في الموافقات وقد عدَّ معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها.(1/36)
إذا تقرر ما تقدم من جواز الاختلاف بين أهل الحق فاعلم أن هذا الاختلاف قد يكون سبباً للتيسير والتسهيل والتيسير مقصد من مقاصد الشريعة بنص الكتاب والسنة كما مر عن الشاطبي وغيره.
القول بالأخف :هذا قد يكون بين المذاهب وقد يكون بين الاحتمالات المتعارضة أماراتها وقد صار إليه بعضهم لقوله تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "، وقوله: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" وقوله – صلى الله عليه وسلم-" بُعثْتُ بالحَنِيفِيةِ السَّمْحَةِ ".
وهذا يخالف الأخذ بالأقلِّ فإن هناك يشترط الاتفاق على الأقل ولا يشترط ذلك هاهنا وحاصله يرجع إلى أن الأصل في المضار المنع إذ الأخف منهما هو ذلك .
وقيل : يجب الأخذ بالأشق كما قيل هناك يجب الأخذ بالأكثر.( الزركشي في البحر المحيط 4/340)
قال الطوفي في الترجيح عند تعارض الدليلين:
الثاني : يأخذ بأشد القولين لأن " الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي". كما يروى في الأثر وفي الحكمة : إذا ترددت بين أمرين فاجتنب أقربهما من هواك .
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: مَا خُيِّرَ عَمَّارُ بَيْنَ أَمْرَيْنَ إلا اخْتَارَ أَشَدَّهُما. وفي لفظ :" أَرْشَدَهُما".
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . ورواه أيضا النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد .
الثالث : يأخذ بأخف القولين لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة كقوله عز وجل "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة 185].
وقوله "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج 78]
وقوله – صلى الله عليه وسلم-:" لا ضرر ولا ضرار ". وقوله – صلى الله عليه وسلم -:" بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ".
قال شيخنا المزني : من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه أو كما قال .(1/37)
قلت : وثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه ما خُيِّر بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً".
قلتُ: والفرق بينه وبين عمار فيما حكينا عنه من الأخذ بأشد الأمور: أن عماراً كان مكلفا محتاطاً لنفسه ودينه والنبي – صلى الله عليه وسلم- كان مُشرعا موسعاً على الناس لئلا يحرج أمته . وقال :" يَسُروا ولا تُعَسروا".
وقال لبعض أصحابه في سياق الإنكار عليه إن فيكم منكرين منفرين".( شرح مختصر الروضة 3/669)
وبناء على هذه القاعدة فقد رجحنا في قضايا الخلاف التيسير وسنذكر أمثلته في بحث الحاجة.
ثانياً: قاعدة تغيير الفتوى بتغير الزمان:
كان لعمل أمير المؤمنين عمر نصيب كبير في تأصيل هذه القاعدة فمن ذلك أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم مع وروده في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.
وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفاً من فتنة المحدود وإلتحاقه بدار الكفر لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.
وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يأمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما رواه مالك رحمه الله تعالى عن ابن شهاب الزهري مع نهيه – صلى الله عليه وسلم - عن التقاط ضالة الإبل وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم وورث تماضر الأسدية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته.
وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه يضمن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلا : لا يصلح الناس إلا ذاك.(1/38)
ويقول الأستاذ صبحي المحمصاني مسجلا موقف الصحابة في كتابه " تراث الخلفاء" : وقد أقروا مبدأ تغير الاجتهاد فتوسع عمر الفاروق بوجه خاص في الاجتهاد وفي تفسير النصوص بما يلائم حكمة التشريع وفلاح العباد ويناسب تطور الزمان والمكان وتقلبات الأحوال . وتعرض في ذلك ل مسائل عديدة منها المؤلفة قلوبهم والطلاق الثلاثي المتسرع وبيع أمهات الأولاد وعدم التغريب في الحدود وإعفاء السارق من القطع عام المجاعة وتطوير عقوبة التعزير تأديباً وزجراً للمذنبين والمجرمين وتحديد عاقلة الدية في القتل والجراح وتفصيل أمور ضريبة الخراج.(تراث الخلفاء الراشدين": 589)
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز قوله: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
وقد قال ابن رشد إن لله أحكاماً لم تكن أسبابها موجودة في الصدر الأول فإذا وجدت أسبابها ترتبت عليها أحكامها.
هذه القاعدة وردت في مجلة الأحكام العدلية بعنوان : لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان".
وهي قاعدة ليست على إطلاقها فليست كل الأحكام تتأثر بتغير الزمان فوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين والكثير من أحكام المعاملات والأنكحة وكذلك فإن المنهيات القطعية كالاعتداء على النفس والأموال والأعراض وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأكل أموال الناس بالباطل ومنها الغش والخيانة ومحرمات عقود الأنكحة ومحرمات عقود البيوع المشتملة على الربا أو الغرر الفاحش أو الجهالة فكل تلك لا تستباح إلا بالضرورات التي تبيح المحظورات.
وبصفة عامة فمحرمات المقاصد التي تعنى أن العقد يشتمل على المفسدة التي نهى الشارع عنها لا تجيزها الحاجة.(1/39)
وبالعكس من ذلك فإن محرمات الذرائع التي يتوصل بها إلى المفسدة وواجبات الوسائل التي يتوصل بها إلى مصلحة فإنها تتغير بتغير الزمان لأنها تدور مع المصالح جلباً والمفاسد درءاً فإذا رجحت مصلحة على المفسدة التي من أجلها كان الحظر فإن النهي يستحيل تارة إلى تخيير وتارة إلى طلب.
وقد أشار الشارع إلى ذلك في مسائل كان نهى عنها أو أمر بها فمن قبيل النهي: "كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".
وقد كان – صلى الله عليه وسلم - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي ثم رفع النهي قائلا: إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وادخروا.
وإذا غلبت المشقة سقط الأمر :" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك..
فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير.
فأما الثابت فيبقى ثابتا ما دام الإنسان على هذه الأرض له ضروراته التي لا ينفك عنها يتصف بكل صفاته التي تحتاج إلى ضبط من الشرع فهو ضعيف أمام شهواته "وخلق الإنسان ضعيفا" وهو ظلوم جهول لا يقدر مسئولية أمانته وخلافته في هذا الكون .
وكذلك فإن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان أمر معهود نص عليه غير واحد من العلماء كابن القيم والقرافي ولهم سلف من أعمال الصحابة رضوان الله عليهم كما أشرنا وفتاويهم وليس ذلك إلا لترجح مصلحة شرعية لم تكن راجحة في وقت من الأوقات أو لدرء مفسدة حادثة لم تكن قائمة في زمن من الأزمنة والزمن لا يتغير فهو كما قال الشاعر :
ومَا الدَّهْرُ إِلا لَيلَةُ ونَهَارُهَا وإلا طُلُوعُ الشَمسِ ثُمَ غِيارُهَا
والذي يتغير هو أحوال أهل الزمن والمصالح التي تبنى عليها الأحكام جلباً والمفاسد التي تراعيها الشريعة درء.(1/40)
ومن رد المحتار : فقد اتفقت النقول عن أئمتنا أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن الاستئجار على الطاعات باطل لكن جاء من بعدهم من المجتهدين الذين هم أهل التخريج والترجيح فافتوا بصحته على التعليم للقرآن للضرورة فإنه كان للمعلمين عطايا من بيت المال وانقطعت فلو لم يصح الاستئجار وأخذ الأجرة لضاع القرآن وفيه ضياع الدين لاحتياج المعلمين إلى الاكتساب وأفتى من بعدهم أيضا من أمثالهم بصحته على الأذان والإمامة لأنهما من شعائر الدين فصححوا الاستئجار عليهما للضرورة أيضا فهذا ما أفتى به المتأخرون عن أبي حنيفة وأصحابه لعلمهم بأن أبا حنيفة وأصحابه لو كانوا في عصرهم لقالوا بذلك ورجعوا عن قولهم الأول.
(والحاصل) أن ما خالف فيه الأصحاب أمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغيير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه لأن ما رجحوه لترجح دليله عندهم مأذون به من جهة الأمام وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حياً لقال بما قالوه لأن ما قالوه إنما هو مبني على قواعده أيضا فهو مقتضى مذهبه.
ثالثاً: قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة:
في طليعة هذا البحث أود أن أنبّه وأنوّه بما قد يعتبر بداراً بالاعتذار قبل خوض الغمار أو أنه من باب تبرير التقصير أو هو نوع من التخدير.
والحقيقة أنه إهابة بالناظر وشحذ لهمّته لمشاطرتي في الشعور بصعوبة الموضوع وهي صعوبة ناشئة عن السهولة الظاهرة التي تجعل كثيراً من الباحثين يصلون إلى نتائج غير وافية ولا كافية في الفصل في مسألة علاقة الحاجة بالضرورة.(1/41)
إن دقّة الفروق بين القاعدتين جعل القرافي يرى أن السؤال عن الفرق أنجح وسيلة لتحقيق القاعدة قائلاً: "وإن وقع السؤال عن الفرق بين القاعدتين فالمقصود تحقيقهما ويكون تحقيقهما بالسؤال عن الفرق بينهما أولى من تحقيقهما بغير ذلك. فإن ضم القاعدة إلى ما يشاكلها في الظاهر وبضادها في الباطن أولى لأن الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء."(الفروق: 1/3) .
إن إعمال الحاجة في الأحكام أصبح من المشتبهات التي لا يعلمها كثير من الناس أضف إلى ذلك أن أكثر القضايا الفقهية المعاصرة سواءً تلك التي وقع البت فيها من طرف المجامع أو تلك التي لا تزال منشورة أمامها ترجع إلى إشكالية تقدير الحاجة وتقدير الحكم الذي ينشأ عنها: هل تلحق بالضرورة فتعطي حكمها أو لا تلحق بها؟
سواءً كانت قضايا طبية تتعلق بعلاج العقم مثلاً أو الإجهاض، أو قضايا اقتصادية تتعلق بالعقود الجديدة من إيجار ينتهي بالتمليك أو تأمين بأنواعه، أو أحكام الشركات والأسهم وعقود التوريد والشروط الجزائية الحافزة على الوفاء بمقتضى العقد. مما يعني أن تحديد علاقة الحاجة بالضرورة أصبح مفتاحاً لأقفال معضلة المعاملات الفقهية في العصر الحديث مع الإشارة إلى أهمية هذا الموضوع في فقه الأقليات.
وسأحاول الآن – عوداً على بدء – أن أنثر كنانة هذا الموضوع لأعجم عيدانها وأغور في أغوارها وأصعد في قنانها "وكم بالقنان من محل ومحرم".
وذلك حسب الخطة التالية :
تعريف الضرورة :
لغة واصطلاحاً: من نصوص اللغويين ونصوص الأصوليين والفقهاء .
أصل مشروعية الضرورة .
تعريف الحاجة :
لغة واصطلاحاً: من نصوص اللغويين ونصوص الأصوليين والفقهاء مع أمثلة فقهية تبرز الفرق بينها وبين الضرورة .
أصل مشروعية الحاجة .
نتيجة التعريفين: التشابك اللغوي والتداخل الفقهي والأصولي، منشأه الاشتراك أو التشكيك.
المصطلحات ذات العلاقة بموضوع الضرورة والحاجة .(1/42)
إجمال الفروق بين الضرورة والحاجة بناءً على ما ذكرناه من الفقهاء والأصوليين واللغويين .
وأخيراً تطبيقات معاصرة من قرارات المجلس الأوربي للإفتاء ومجمع الفقه الإسلامي بجدة مع التعليق على هذه القرارات.
خاتمة تتضمن النتائج.
الضرورة لغة:
قال مجد الدين الفيروز أبادي في القاموس ممزوجاً بشرحه: (والاضطرار الاحتياج إلى الشيء) وقد (اضطر إليه) أمر ( أحوجه وألجأه فاضطُر بضم الطاء) بناؤه افتعل جعلت التاء طاء لأن التاء لم يحسن لفظه مع الضاد (والاسم الضرة) بالفتح. قال دريد بن الصمة :
وَتُخرِجُ مِنهُ صَرَّةُ القَومِ جُرأَةً *** وَطولُ السُرى ذَرِّيَّ عَضبٍ مُهَنَّدِ
أي تلألؤ عضب.
وفي حديث علي رضي الله عنه رفعه أنه نهى عن بيع المضطر.
ومعنى البيع هذا الشراء أو المبايعة أو قبول البيع .
وقوله عزَّ وجلَّ: "فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ" أي فمن أُلجيء إلى أكل الميتة وما حرم وضيّق عليه الأمر بالجوع وأصله من الضرر وهو الضيق.
وقال الليث: الضرورة اسم لمصدر الاضطرار تقول حملتني الضرورة على كذا وكذا.
الضرورة اصطلاحاً:
والضرورة في الاصطلاح فقهية وتطلق إطلاقين أحدهما: ضرورة قصوى تبيح المحرّم سوى ما استُثني. والثانية: ضرورة دون ذلك وهي المعبّر عنها بالحاجة إلاّ أنهم يطلقون عليها الضرورة في الاستعمال توسعاً.
1 – الضرورة الفقهية بالمعنى الأخص :
عرّفها السيوطي بقوله: (فالضرورة بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام) (الأشباه والنظائر: ص61). وهذه هي الضرورة التي قال عنها إمام الحرمين أنها لا تثبت حكماً كلياً في الجنس بل يعتبر تحقيقها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير.(1/43)
قال في مغني المحتاج وهو" شافعي": ومن خاف" من عدم الأكل "على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً" أو زيادته أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب ولم يجد حلالاً يأكله ووجد محرماً كميتة و لحم خنزير وطعام الغير "لزمه أكله".(6/158)
الدردير في الشرح الصغير "مالكي":"الضرورة هي حفظ النفوس من الهلاك أو شدة الضرر".(الدردير:2/183)
عرّفها الجصاص(حنفي): "هي خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل"(أحكام القرآن:1/195)
قال القرطبي: الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع من مخمصة والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وقيل معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرّمات.(القرطبي: 2/225).
2- الضرورة بالمعنى الاستعمالي الفقهي الموسع والتي تعني الحاجة :
قال خليل: " وصح قبله (أي بدو الصلاح) مع أصله أو ألحق به أو على شرط قطعه إن نفع واضطر " أي احتيج كما في التوضيح عن اللخمي لا بلوغ الحد الذي ينتفي مع الاختيار".(الزرقاني: 5/187)
ومن استعمال الضرورة ويُراد بها الحاجة قول المازري في شروط اغتفار الغرر اليسير: قال ابن عرفة: " زاد المازري كون متعلق اليسير غير مقصود وضرورة ارتكابه، وقرره بقوله منه بيع الأجنة وجواز بيع الجبة المجهول قدر حشوها الممنوع بيعه وحده وجواز الكراء لشهر مع احتمال نقصه وتمامه وجواز دخول الحمام مع قدر ماء الناس ولبثهم فيه والشرب من الساقي إجماعاً، في الجميع دليل على إلغاء ما هو يسير دعت الضرورة للغوه ".
وممن استعملها بمعنى الحاجة من الشافعية صاحب نهاية المحتاج قائلاً: " نعم الأولى بيعه ما زاد عليها ما فضل عن كفايته ومؤنة سنة " ويجبر من عنده زائد على ذلك في زمن الضرورة.
3- المعنى الأصولي للضرورة :(1/44)
للضرورة معنى ثالث هو المعنى الأصولي ونبَّه عليه إمام الحرمين في البرهان في القسم الثالث، وقد ذكرناه. وقد زاد الأمر وضوحاً عندما قال: "وهو يعتبر البيع من الضروري ويلتحق به (الضروري) تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجرّ ذلك ضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا آل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيقها في آحاد النوع.(ص 923 وما بعدها)
وقد أوضح الشاطبي بأنها إحدى الكليات الثلاث التي ترجع إليها مقاصد الشريعة حيث يقول:" فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين " وتكلم الشاطبي عن مراعاة الضرورة من جانب الوجود ومراعاتها من جانب العدم ومثَّل لذلك بأصول العبادات والمعاملات. (فليراجع: 2/8-9)
وهذا هو الكلي المعبّر عنه بالضروري لأنه من ضرورات سياسة العالم وبقائه وانتظام أحواله حسب عبارة الطوفي.(3/209)
ومثله قول الشوكاني:" أنها إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر، والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس وبالكلية أن تعم جميع المسلمين، لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة ".(الشوكاني: إرشاد الفحول: ص242)
وقال الشاطبي:" مجموع الضروريات خمس وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل."(الموافقات: 3/10).
وأما لماذا سُميت بالضرورة ؟ إما لأنها ضرورة لانتظام حياة الناس كما تقدم أو لأن اعتبارها (التفات إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة عن الحصر.(إرشاد الفحول: ص242).(1/45)
وبعد التعريف بالضرورة لغة وبالضرورة في اصطلاح الفقهاء والأصوليين نلاحظ أن الضرورة أمر يورث ضيقاً ومشقة إلاّ أن هذا الضيق يتفاوت في شدته فالضرورة من باب الكلي المشكك عند المناطقة وهو كما قال الأخضري في شرحه لنظمه (السلم) في المنطق: "وإن اختلف فيها بالشدة والضعف سمي كلياً مشككاً كالبياض فإنَّ معناه في الورق أقوى من معناه في القميص مثلاً. وهذا بخلاف المتواطيء وهو الذي اتحد معناه في أفراده كالإنسان". (يُراجع شرح السلم عند قوله) :
ونِسْبَةُ الأَلْفَاظِ للمَعَانِي *** خَمْسَةُ أَقْسَامِ بِلا نُقْصَانِ
تَوَاطُؤ تَشَاكُكُ تَخَالُفُ *** والاشْتِراكُ عَكْسُه التَرَادُفُ
وأرى أن التنبيه على الضرورة والمشقة والحاجة ثلاثتهن من باب الكلي المشكك قد يكون مفتاحاً لفهم اختلاف عبارات اللغويين والفقهاء فالضرورة يمكن أن تُطلق في حال الشدة القصوى كما يمكن أن تُطلق في حالات دون ذلك وبالتالي تترتب أحكام مختلفة على ذلك كما رأيت.
أصل مشروعية حكم الضرورة:
في قول الله تعالى:"وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" ] الأنعام:119 [
قال الجصاص: ذكر الله تعالى الضرورة في هذه الآيات وأطلق الإباحة في بعضها لوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة وهو قوله تعالى: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وُجدت فيها. (أحكام القرآن للجصاص: 1/147) .
وقال تعالى: "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ? إِثْمَ عَلَيْهِ" ]البقرة:173[ قال ابن عطية:" ومعنى اضطر عدم " وغرث، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء.
وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات.(المحرر الوجيز لابن عطية: 2/71).
والنصوص كثيرة بهذا المعنى.(1/46)
وبالوقوف عند قوله تعالى:"وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ"، يفهم المرء معنيين: المعنى الذي ذكره الجصاص وهو وجود الإباحة حيثما وجدت الضرورة. ومعنى آخر وهو إنما فصّل من المحرمات لا تبيحه إلاّ الضرورة. وهذا ما يشير إليه الحصر في استثناء عموم من عموم يمكن أن يفهم منه بسهولة أن الحاجة إنما تدخل المجملات ولا تدخل في المفصلات والله أعلم.
تعريف الحاجة:
الحاجة لغة: قال الفيروز أبادي ممزوجاً بشارحه :
(والحاجة) المأربة (م) أي معروفة وقوله تعالى: "وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ" ]غافر:80[. قال ثعلب: يعني الأسفار. وعن شيخنا: وقيل أن الحاجة تُطلق على نفس الافتقار وعلى الشيء الذي يفتقر إليه، وفي اللسان تحوج إلى الشيء احتاج إليه وأراده (ج حاج) تقول: لا يمنعه قضاء الحاجة الأولى عن قضاء الحاجة الأخرى، كما قال الشاعر:
وأُرْضِعُ حَاجَةً بِلبَانِ أُخْرَى*** كَذَاكَ الحَاجُ تُرْضَعُ باللِّبَانِ
أما الحاجة في الاصطلاح فعلى ضربين: حاجة عامة قد تنزل منزلة الضرورة وهذه هي الحاجة الأصولية وقد سمّاها بعضهم بالضرورة العامة كما أسلفنا، وحاجة فقهية خاصة حكمها مؤقت تعتبر توسيعاً لمعنى الضرورة.
أولاً:الحاجة العامة (الأصولية)(1/47)
قال إمام الحرمين في المعنى الأول: " والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة ومثل هذا تصحيح الإجارة فإنها مبنية على الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ الضرورة للشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه الجنس، لنال آحاد الجنس أضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد، وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس على ما ينال الآحاد بالنسبة إلى الجنس، وهذا ما يتعلق بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الآن".(البرهان:924)
وسلك تلميذه أبو حامد الغزالي مسلكه في كتابه "شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل" حيث قال في معرض كلامه عن الضرورة الذي سنعود إليه في محله: "والحاجة العامة في حق كافة الخلق تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد.(ص 246)
وإلى جانب هذا الكلام نرى الغزالي نفسه عندما يتحدث عن المصلحة يقول " إنها وإن وقعت في موضوع الحاجة أو التتمة لم تعتبر وإن وقعت في موضع الضرورة جاز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد بشرط أن تكون قطعية كلية كما أسلفنا".
وقفى على أثره تلميذه أبو بكر بن العربي المالكي حيث قال في كتابه القبس (القاعدة السابعة) :"اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرّم " وبعد أن ضرب مثلاً لذلك باستثناء القرض الذي يضرب له أجل عند مالك من بيع الذهب بالذهب إلى أجل. أضاف: " ومن ذلك حديث العرايا وبيع التمر فيها على رؤوس النخيل بالتمر الموضوع على الأرض وفيه من الربا ثلاثة أوجه: بيع الرطب باليابس والعمل بالخرص والتخمين في تقدير المالين الربويين وتأخير التقابض إن قلنا أنه يعطيها له إذا حضر جذاذ النخل.(القبس: 2/790-791) .(1/48)
إلاّ أن بعض الفقهاء كابن نجيم والسيوطي نقلوا الحاجة من مفهومها الأصولي إلى القواعد الفقهية دون تقديم ضوابط مما أوهم بعض الباحثين المعاصرين أنه كلما لاحت لوائح مشقة أو عرضت حاجة يعلن الإباحة وكأنه يستند إلى قاعدة قطعية تدل على الحكم بلا واسطة شأن الضرورة الفقهية بمعناها الأخص لا فرق بينهما.
مناقشة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة :
قلت: إن الحاجة لا يمكن اعتبارها قائمة مقام الضرورة بصفة مطلقة في إباحة المحرّم، بل إن الأصل أن الضرورة وحدها تبيح المحرّم وأن هذا الحكم لا ينسحب على الحاجة كما قال الشافعي: "وليس يحل بالحاجة محرّم إلاّ في الضرورات". (الأم: 3/28)
وقال الشافعي:"الحاجة لا تحق لأحد أن يأخذ مال غيره ".(نفس المرجع: ص77)
والسيوطي نفسه صرّح بذلك: "أكل الميتة في حالة الضرورة يقدم على أخذ مال الغير". (الأشباه والنظائر:ص62)
ذلك أن أكل الميتة فيه حق الله تعالى فقط وأخذ مال الغير ومنه الربا فيه حق الله تعالى وحق الآدمي. قال القرافي: " وقد يوجد حق الله تعالى وهو ما ليس للعبد إسقاطه ويكون معه حق العبد كتحريمه تعالى لعقود الربا والغرر والجهالات.(الفروق1/140-141)
فهذه العقود محرّمة لحق الله وحق العباد فكيف يمكن تنزيل الحاجة فيها منزلة الضرورة بإطلاق.
وأكثر العلماء رأوا أن المصلحة الحاجية لا يترتب عليها حكم.
قال الطوفي في شرحه لمختصر الروضة:" لا يجوز للمجتهد أنه كلما له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها ورتّب عليه الأحكام حتى يجد لاعتبارها شاهداً من جنسها.(الطوفي: 3/207)(1/49)
وقال ابن قدامة في الروضة في سياق حديثه عن المصالح المرسلة التي لم يشر لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين، وهذا على ثلاثة ضروب: أحدها ما يقع في مرتبة الحاجات (وضرب له أمثلة). الضرب الثاني ما يقع في موقع التحسين (وذكر له أمثلة) ثم قال: " فهذان الضربان لا نعلم خلافاً في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل فإنه لو جاز ذلك كان وضعاً للشرع بالرأي ولما احتجنا إلى بعثة الرسل.(روضة الناظر:1/413 وما بعدها).
ومن قال بتأثير المصلحة في محل الحاجي شرط أن تكون جارية على أصول الشرع وقواعده متفقة مع مبادئه ومقاصده بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته. (الشاطبي "الاعتصام": 2/129).
لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها بالسماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبعاً للرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها. (الموافقات للشاطبي:4/145) .
ولإيضاح ما نريده نورد كلمات القرافي الآتية في فروقه: (الفرق الحادي والثلاثون بين الانتقال من الحرمة إلى الإباحة يشترط فيها أعلى الرتب وبين قاعدة من الإباحة إلى الحرمة يكفي لها أيسر الأسباب). (الفروق للقرافي: 3/273)
إلاّ أن المحرم أنواع فمنه المحرم لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير ومنه الحرام لكسبه: كالمأخوذ غصباً أو عقد فاسد وهذا التقسيم لابن تيمية.(الفتاوى: 29/320)
والمحرم لكسبه متفاوت فمنه محرم تحريم المقاصد ومنه المحرم تحريم الوسائل والذرائع. فالأول أشد من الثاني.
والربا أشد محرمات العقود، وحرم الربا لأنه متضمن للظلم فإنه أخذ فضل بلا مقابل وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر (ابن تيمية). وقال أيضاً :" إن تحريم الربا أشد من تحريم القمار لأنه ظلم محقق ".
والربا متفاوت: فربا الفضل لا يساوي ربا النساء، فإن تحريم هذا من تحريم المقاصد، وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة.(ابن القيم "أعلام الموقعين": 2/107)(1/50)
ولتوضيح ما ذكره ابن القيم نذكر قول القرافي: " الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد " (الفروق: 2/33)
والحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي. والرخصة راجعة إلى جزئي مستعصي عن ذلك الأصل الكلي.(الموافقات للشاطبي :1/300-303)
وإذا كان كلام إمام الحرمين وتلاميذه يرمي إلى تعليل نصوص شرعية- غير اجتهادية – بالحاجة فإن المالكية توسعوا في بناء الفروع الاجتهادية على الحاجي الكلي.
قال المواق – بعد أن ذكر أنواعاً من عقود الإجارة التي لايجيزها مالك-: "وكان سيدي ابن سراج رحمه الله فيما هو جار على هذا لا يفتي بفعله ابتداء ولا يشنع على مرتكبه فقصارى أمر مرتكبه أنه تارك للورع.
وما الخلاف فيه شهير لا حسبة فيه ولا سيما إن دعت لذلك حاجة.
ومن أصول مالك أنه يراعي الحاجيات كما يراعي الضروريات فأجاز الرد على الدرهم، مع كونه يجعل مد عجوة من باب الربا وأجاز تأخير النقد في الكراء المضمون. إلى أن قال: ويُباح الغرر اليسير بخلاف باب الربا.
وسُئل سيدي ابن سراج رحمه الله: هل تجوز المشاركة في العلوفة أن يكون الورق على واحد وعلى الآخر الخدمة وتكون الزريعة بينهما على نسبة الحظ المتفق عليه ؟ فأجاب: قد أجاز ما ذكر بعض العلماء، فمن عمل بذلك على الوجه المذكور للضرورة وتعذّر الوجه الآخر فيرجى أن يجوز إن شاء الله.
ورأيت له فتيا أخرى قال فيها:" ويجري ذلك على مقتضى قول مالك في إجازة الأمر الكلي الحاجي".(1/51)
وقريب من هذا المنحى ما ذهب إليه بعض الأحناف في مسائل الإجارة حيث قالوا: " وجاز إجارة القناة والنهر مع الماء، به نفتي لعموم البلوى مضمرات " (الدر المختار). علّق ابن عابدين بقوله: قوله (مع الماء) أي تبعاً قال في كتاب الشرب من البزارية لم تصح إجارة الشرب لوقوع الإجارة على استهلاك العين مقصود إلاّ إذا أجر أو باع مع الأرض فحينئذٍ يجوز تبعاً".
وعنه قال: رأيت ابن الشجاع يقاطع نساجاً ينسج له كل سنة.(الحاشية: 5/38). وفي الدر المختار: ويفتي اليوم بصحتها " الإجارة " لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ويجبر المستأجر على دفع ما قبل".
علّق ابن عابدين بقوله: " قال في الهداية: وبعض مشايخنا رحمهم الله تعالى استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لظهور التواني في الأمور الدينية ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه الفتوى".
وذكر مجموع ما أفتى به المتأخرون من مشايخنا وهم البلخيون على خلاف في بعضه مخالفين ما ذهب إليه الإمام وصاحباه.(حاشية ابن عابدين:5/34-35).
وهكذا نرى المتأخرين من أتباع الإمامين مالك وابن حنيفة يتوسعون في التعامل مع الحاجي أحياناً مع مخالفة منصوص الإمام بناءً على ما فهموه من قواعد الإمامين.
وقد احتج الشيخ تقي الدين بن تيمية لابن عقيل في مسألة إجارة الأرض والشجر بقوله:" فإن قيل إن ابن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعاً لأجل الحاجة وأنه سلك مسلك مالك لكن مالكاً اعتبر القلة في الشجر وابن عقيل عمم فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض البيضاء التي فيها شجر وإفرادها عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه من الضرر فجوز دخولها في الإجارة كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر تبعاً في المساقاة. (الفتاوى: 30/231).
وفي مذهب الشافعي ما حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي رحمه الله أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس يجوز بيعها قبل قبضها.(1/52)
وبعد ذكره للخلاف في هذه المسألة، قال النووي: " ودليل ما قاله الأول وهو الأصح أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة احتمل للمصلحة والرفق بالجند لمسيس الحاجة "(المجموع: 9/268).
وقد أصل أبو إسحاق الشاطبي هذا المفهوم الحاجي واضعاً إياه في إطاره الأصولي قائلاً: " ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان". وهو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي. ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمراً إلاّ أنّ ذلك الأمر يؤدي إلى فوات المصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك. وكثيراً ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقاً في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر.(1/53)
وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلاً فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل، ولكنه أبيح لما فيه من الرفق والتوسعة على المحتاجين، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين. ومثله بيع العارية بخرصها تمراً فإنه بيع الرطب باليابس، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعرِي والمُعَرى ولو امتنع مطلقاً لكن وسيلة لمنع الإعراء، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه، ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر، وقصر الصلاة، والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل هذا الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه، ومثله الاطلاع على العورات في التداوي والقرض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة .
هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه.
وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته.
وقال في أحكام القرآن: الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين فالعموم إذا استمر والقياس إذا أطرد فإن مالكاً وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى.
ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس، ويريان معاً تخصيص القياس ونقص العلة.
ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصاً.
وأجاز مالك تلاوة الحائض للقرآن حتى لا تنسى وهو مخصص لعام.(1/54)
وإذا قلت كيف تخصص الحاجة وهي ليست من المخصصات اللفظية من نصوص وظواهر الكتاب والسنّة وغيرها كالإجماع والمفهوم بنوعيه والقياس؟
قلت: إنما يعزى التخصيص للاستصلاح أو الاستحسان الذي يعتمد على الحاجة وذلك أمر معروف في المذهبين الحنفي والمالكي كما تقدم عن الشاطبي.
وإن الذي ينبغي التنبيه عليه أن هذه المسائل التي أجازها من أجازها للحاجة فإنها وإن كانت تخصيصاً من العموم في النهي عن قراءة الجنب للقرآن والنهي عن قرض يجر نفعاً والنهي عن بيع قبل القبض فإنه عموم ضعيف في المسائل المخصوصة لأن حديث الجنب جاء في معرض جنابة غير الحائض وهو حديث علي، فكان الحيض بمنزلة الصورة النادرة بالنسبة لراوي الحديث.
وكذلك فإن استثناء السفتجة وهي منفعة لا تشتمل على زيادة من الصور النادرة بالنسبة للمتكلم فإنه عندما يتحدث عن جر النفع فإنه يعني بالأصالة الزيادة أو الهدية أو نحو ذلك، وعلى هذا نبّه ابن قدامة من طرف خفي عندما قال إنه لا نص في تحريمها أي بخصوصها.
وقال مثل ذلك في مسألة الأرزاق ومعلوم أن نوادر الصور مختلف في دخولها في العموم كما أسلفنا.
ثانيا – الحاجة الفقهية:
الملحقة بالضرورة الفقهية وهي من باب التوسع في معنى الضرورة والاضطرار إذ الضرورة لفظ مشكك وهو كلي يكون معناه أشد في بعض أفراده من بعض، فمن توسع أطلق على الحد الوسيط (الحاجة) ومن لم يتوسع اقتصر على الحد الأعلى: الضرورة. وليس هذا من باب القياس وإنما هو من باب الأدلة اللفظية.
وهذه الحاجة الفقهية لا تحدث أثراً مستمراً ولا حكماً دائماً بل هي كالضرورة تقدّر بقدرها وقد ذكرنا مثالاً لذلك نعيده باختصار هو مسألة بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وشروط الاستثناء من المنع، حيث قال خليل (وصح قبله) أي بدو صلاحه مع أصله أو ألحق به أو على قطعه واضطر أي احتيج كما في التوضيح (له) من المتبايعين أو أحدهما كما يعطيه ترك تقيده مع بنائه للمجهول (الزرقاني5/187).(1/55)
وهذه حاجة فقهية لأنها تثبت حكماً فقط في محل الاحتياج وهي شخصية بمعنى أنها لا تجوز لغير المحتاج ولا تتجاوز محلها.
وهذا ما يفرق الحاجة الفقهية عن الحاجة الأصولية التي تثبت حكماً مستمراً ولا يطلب تحققها في آحاد أفرادها. فالسلم يجوز للمحتاج وغير المحتاج كما قدمنا، وكذلك قول خليل في مسألة تلقي السلع: " وجاز لمن على ستة أميال أخذ محتاج إليه ". ومعناه أن من كان بعيداً عن المدينة يجوز له اشتراء ما يحتاج إليه من السلع قبل وصوله السوق. قال الحطاب عن ابن رشد: " وأما إن مرت به السلع على قرية على أميال من الحاضرة فيجوز له أن يشتري ما يحتاج إليه لا لتجارة، لمشقة النهوض عليه إلى الحاضرة.(الحطاب4/380).
هذه هي الحاجة الفقهية وتعتبر توسعاً في معنى الضرورة فتقدّر بقدرها وهي حاجة شخصية.
هذا هو الفرق بين الحاجة الأصولية العامة التي تثبت بها الأحكام بالنص أو الاستحسان والاستصلاح، وبين الحاجة الفقهية الخاصة التي تعتبر توسعاً في الضرورة ؛ مهم جداً في تصنيف الحاجة وترتيب الأحكام عليها.
وبذلك ندرك وجود نوعين من الحاجة أحدهما حاجة عامة والأخرى حاجة خاصة شخصية.
وحيث إن الحاجة الفقهية ملحقة بالضرورة فقد يُختلف في بعض الفروع هل تشترط فيها الضرورة القصوى أو الحاجة ؟
في مسألة إيجاب بيع الأقوات على من هي عنده وقت الغلاء يختلف في الضرورة التي توجب ذلك.
فعند القرطبي إنما يجب البيع إن خيف بحبسه إتلاف المهج (أي الضرورة) فإن مست الحاجة ولم يكن الخوف المذكور بل دونه وجب عند ابن رشد.(الزرقاني 5/4).(1/56)
فابن رشد ألحق الحاجة هنا بالضرورة إلاّ أن الضرورة التي لا تعني الحاجة قد يصرح معها بما ينفي ذلك كما في رواية ابن القاسم في فسخ الدين في منافع يتأخر قبضها من الغريم، قال فيه إلاّ عند الضرورة التي تحل أكل الميتة مثل أن يكون في صحراء بحيث لا يجد كراء ويخشى على نفسه الهلاك إن لم يأخذ منه دابة يبلغ عليها، وأشهب يجيز أن يأخذ منه دابة لما بقي له وإن لم تكن له ضرورة.(الحطاب4/368).
المصطلحات ذات العلاقة :
المصلحة :
مصدر ميمي من صلح يصلح بفتح عين الفعل وضمّها في الماضي والمضارع، وهي ضد المفسدة والصلاح ضد الفساد وأصلها جلب منفعة أو دفع مضرة. قال الشوكاني:" قال الخوارزمي: والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق".(إرشاد الفحول: ص 242)
وبين المصلحة والحاجة عموم وجهي، فقد تُطلق المصلحة على الحاجة وغيرها، وكذلك الحاجة قد تكون في محل المصالح واستعملت المصلحة بمعنى الحاجة العامة في قول العز بن عبد السلام: لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة.( قواعد الأحكام: ص 326)
وقول ابن قدامة في السفتجة بعد أن ذكر الخلاف فيها حيث قال : " وقد نصّ أحمد على أن من شرط أن يكتب بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر . وروي عنه جوازها كونها مصلحة لهما جميعاً".
وبعد أن ذكر أقوال المجيزين والمانعين قال : " والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر لواحد منهما.
والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرّة فيها بل بمشروعيتها ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة (المغني : 6/436-437)
عموم البلوى :
وهو الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيراً من الناس ويتعذّر الاحتراز منها.(ابن عابدين: الحاشية 1/310)(1/57)
أو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال.(كشف الأسرار: 3/16) كنجاسة النعل والخف تطهر بالدلك وإن كان رطباً على قول أبي يوسف وهو الأصح المفتى به لعموم البلوى.(ابن عابدين : 1/309-310) .
وعموم البلوى كالحاجة لا يرفع نصاً. قال ابن نجيم: لا اعتبار عند أبي حنيفة بالبلوى في موضع النص كما في بول الآدمي فإن البلوى فيه أعم.(الأشباه والنظائر ص 84)
الغلبة :
الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة . ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرّم . (البدائع : 6/30)
عسر الاحتراز :
ومعناها صعوبة التحفظ عن أمر وهي في العبادات وغيرها. قال الكاساني: كل فضل مشروط في البيع ربا سواء كان الفضل من حيث الذات أو من حيث الأوصاف إلاّ ما لا يمكن التحرز عنه دفعاً للحرج. (بدائع الصنائع: 5/187) .
وعبّر عنه القرافي بالتعذر حيث قال : " المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف " (الفروق: 3/198)
وأما خليل فقد قال : " لا إن عسر الاحتراز منه " (الزرقاني: 1/17)
وعفى عما يعسر كحدث مستنكح :"أي عما يعسر الانفكاك عنه بعد وجود سببه وهو المشقة".(الزرقاني وبحاشيته البناني1/41)
كل ما لا يمكن الاحتراز منه معفو عنه.(ابن تيمية الفتاوى:1/592) وعسر الاحتراز هو عبارة عن المشقة اللاحقة في العبادة أو المعاملة.
المشقة :
التي تكون بمعنى الحاجة هي الواقعة في مرتبة متوسطة. ولإيضاح ذلك ننقل كلام القرافي في الفروق على أقسام المشقة حيث يقول ممزوجاً بابن الشاط باختصار محمد بن علي بن حسين المالكي في تهذيب الفروق ما يلي:"الفرق الرابع عشر بين قاعدتي المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها":
اعلم أن التكليف إلزام الكلفة على المخاطب يمنعه من الاسترسال مع دواعي نفسه هو أمر نسبي موجود في جميع أحكامه حتى الإباحة.(1/58)
ثم يختص غير الإباحة بمشاق بدنية بعضها أعظم من بعض . فالتكليف به إن وقع ما يلزمه من المشاق عادة أو في الغالب أو في النادر كالوضوء والغسل في البرد والصوم في النهار الطويل والمخاطرة بالنفس في الجهاد ونحو ذلك، لم يؤثر ما يلزمه في العبادة لا بإسقاط ولا بتخفيف لأن في ذلك نقص التكليف إن لم يقع التكليف بما يلزمه من المشاق كان التكليف على ثلاثة أقسام:
الأول : متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف كالخوف على النفوس أو الأعضاء والمنافع لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة فلو حصلنا هذه العبادة مع الخوف على ما ذكر لثوابها لأدى لذهاب أمثالها.
الثاني: متفق على عدم اعتباره في ذلك كأدنى وجع في أصبع لأن تحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة وخفة المشقة.
الثالث: مختلف فيه فبعضهم يعتبر في التخفيف ما اشتدت مشقته وإن بسبب التكرار لا ما خفت مشقته وهو الظاهر من مذهب مالك.
فيسقط التطهير من الخبث في الصلاة عن ثوب المرضع كل ما يعسر التحرز منه كدم البراغيث ويسقط الوضوء فيها بالتيمم لكثرة عدم الماء والحاجة إليه والعجز عن استعماله.
وبعضهم يعتبر في التخفيف شديدة المشقة وخفيفها.
هذه الأقسام الثلاثة تطرد في جميع أبواب الفقه فكما وجدت المشاق الثلاثة في الوضوء، كذلك نجدها في العمرة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء والمشي في الوحل وغضب الحكام وجوعهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك . وكذلك الغرر في البيع ثلاثة أقسام وهكذا في كل أبواب الفقه.(1/131-132)
وبين أن لكل عبادة مرتبة. قلت : وكذلك منهيات المعاملات لكل منها مرتبة.
مجالات تدخل فيها الحاجة :
الحاجة والغرر :
من أهم المجالات التي تدخلها الحاجة عقود الغرر وتقدمت بعض النصوص التي تدل على اغتفار يسير الغرر للحاجة.(1/59)
ونريد أن نذكر الآن ما هو الغرر ؟ وأصل النهي عنه ومدى تأثير الحاجة في إلغاء حكمه.
والغرر عرّفه القرافي بأنه: الشيء الذي لا يدري هل يحصل أو لا. وعرّف الجهالة بأنها: ما عُلم وجوده وجهُلت صفته.
وعرّف الجرجاني الغرر بأنه : ما يكون مجهول العاقبة لا يدري أيكون أو لا (التعريفات).
وقيل: ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. قال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط بكنهها المتبايعان.(التاج: 3/443)
وبيع الغرر ممنوع شرعاً بعموم الكتاب لقوله تعالى: "وَلاَ تَأْكُلُو?اْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِـ?لْبَاطِلِ" ]البقرة2/88[ .
ومحرّم بنصوص السنّة . ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اله عليه وسلّم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر (شرح مسلم للنووي11/156). وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً عن أبي حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب أن النبي – صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَعِ الغَرَرِ(المنتقى للباجي:5/41).
علّق عليه الباجي بقوله " نهيه صلّى اله عليه وسلّم عن بيع الغرر يقتضي فساده ومعنى بيع الغرر – والله أعلم – ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر فهذا الذي لا خلاف في المنع منه ".
وأما يسير الغرر فإنه لا يؤثر في فساد عقد بيع فإنه لا يكاد يخلو منه عقد. وإنما يختلف العلماء في فساد أعيان العقود لاختلافهم فيما فيها من الغرر هل هو من حيز الكثير الذي يمنع الصحة أو من حيز القليل الذي لا يمنعها، فالغرر يتعلق بالمبيع من ثلاثة أوجه : من جهة العقد، والعوض، والأجل (المنتقى:5/41).(1/60)
قلت: وجه ما ذكره الباجي وغيره أن مجرد وجود الغرر ليس مبطلاً للعقد حتى يكون غالباً ناشئاً عن كون إضافة البيع إلى الغرر هي من إضافة الموصوف إلى الصفة . ووصف ابن مالك – في التسهيل – هذا النوع من الإضافة بأنه من شبه المحضة ومثل له بمسجد الجامع لأن المسجد هو الجامع وذلك صفته ومعنى هذا أن النهي وارد على بيع غرر وليس عن بيع فيه غرر والفرق يدركه البصير بموارد الألفاظ.
وقال القرافي : " قاعدة : الغرر ثلاثة أقسام : متفق على منعه في البيع كالطير في الهواء ومتفق على جوازه كأساس الدار ومختلف فيه هل يلحق بالقسم الأول لعظمه أو بالقسم الثاني لخفته أو للضرورة إليه كبيع الغائب على الصفة والبرنامج ونحوهما ؟
ويقول النووي: "(فرع) الأصل أن بيع الغرر باطل لهذا الحديث والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه فأما ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر وذكر أو أنثى وكامل الأعضاء أو ناقصها وكشراء الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك فهذا يصح بيعه بالإجماع.
قال العلماء مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلاّ بمشقة أو كان الغرر حقيراً جاز البيع وإلاّ فلا.
أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فإنه قيّد الحاجة بالشدّة عندما قال في حديثه عن الجوائح: " والحاجة الشديدة يندفع بها الغرر اليسير والشريعة مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرّم فكيف إذا كانت المفسدة منفية".(الفتاوى الكبرى4/32)
الغرر المضاف :
واعتبر المالكية أن الغرر إذا كان مضافاً لأصل جائز يغتفر للحاجة بخلاف ما لو كان الغرر أصلاً في العقد فيبطل العقد .
وهذا الكلام واضح في أمرين أحدهما أن الغرر قد يجوز تبعاً للحاجة ويجوز منه اليسير وأن الربا لا يجوز منه قليل ولا كثير.(1/61)
وهذه نصوص تبين حدود تأثير الحاجة في المنهيات وذلك بحسب مرتبة النهي فما كان في مرتبة وسطى كالغرر تؤثر فيه بشروط وما كان في مرتبة عليا لا يتأثر بها.
ومن هذا القبيل تأثير الحاجة معتمدة على اشتمال العقد على معنى الرفق والمعروف فقد يكون العقد في أصله حراماً ولكنه يباح للحاجة بناءً على ما علم من التفات الشارع للمعروف والرفق.
ومن ذلك أنهم أجازوا إجارة لا تعرف فيها طبيعة المنافع المستأجر عليها ولا الذات المستأجرة وذلك في صيغة عرفت عند المالكية بـ"أعني بغلامك لأعينك بغلامي".
وتصور هذه المسألة من مختصر خليل ممزوجاً بشارحه الزرقاني : " وجاز أعني بغلامك على حرثي ونحوه لأعينك بغلامي. أراد أو نفسي على حرثك أو غيره . ولذا حذف متعلق حال كون ذلك، إجارة لا عارية ، لأنها بغير عوض وهذا بعوض، تحدث المنفعة أم لا، تساوى زمنها أو اختلف، تماثل المعان به للآخر أم لا، كحرث وبناء وغلام وثور فلا يشترط اتحاد المنفعة ولا عين المستعمل) . وهذه إجارة، ومعلوم أن الإجارة كالبيع . أركانها، والركن الثاني – الأجر- هو كالثمن يطلب كونه معروفاً قدراً وصفة " هذا كلام ابن عرفة (المواق:5/389).
وهذه الصيغة التي اعتبرت تشتمل على جهل قدر الأجرة وصفتها ؛ لأنها قد تكون ثوراً في مقابل غلام، وقد تكون حرثاً في مقابل البناء لأن الإعانة معروف حسب عبارة الزرقاني (نفس المرجع) .
قلت : قوله فكان ذلك ضرورة إلى آخره معناها هنا الحاجة كما قدمنا . وكذلك نصّوا على أن (قولهم الصفقة تفسد إذا جمعت حلالاً وحراماً مخصوص بالمعاوضات المالية بالبيع والشراء.(في الزرقاني: 7/79)
الحاجة ترجح المختلف فيه بين العلماء :
وقد نصَّ المالكية على جواز العمل بالضعيف بثلاثة شروط : أن تلجئ إليه الضرورة، وأن لا يكون ضعفه شديداً جداً، وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً . ذكره البناني في حاشيته على الزرقاني عن المسناوي(5/124).(1/62)
ونظمه سيدي عبدالله في مراقي السعود حيث قال :
وذِكْرُ ما ضَعِّفَ لَيْسَ للعَمَلْ *** إِذْ ذاكَ عَنْ وِفَاقِهِمْ قَدِ انْحَظَلْ
بلْ للتَّرَقي في مَدارِجِ السَّنا *** ويَحْفَظَ المُدْرَكَ مَنْ لَهُ اعْتِنا
أولِمُراعَاةِ الخِلافِ المُشْتَهِرْ *** أوِ المُراعاةِ لِكُلِّ مَا سُطِرْ
وكَوْنِهِ يُلْجى إليهِ الضَّرَرُ *** إنْ كانَ لَمْ يَشْتَدّ فِيهِ الخَوَرُ
وثَبَتَ العَزْوُ وقَدْ تَحَقَّقَا *** ضُرّاً من الضُّرِّ بِهِ تَعَلَّقَا
أصل مشروعية الحاجة رفع الحرج والتيسير فهي تشترك مع الضرورة في مسألة رفع الحرج وهي مبنية على التسهيل والتيسير والتوسع.
إجمال الفروق بين الضرورة والحاجة :
بعد هذا العرض يتبين أن الفرق بين الضرورة والحاجة يرجع إلى :
التعريف في أن الضرورة في معناها الفقهي الأخص شدة وضيق في المرتبة القصوى تبيح المحرّم، وفي معناها الأصولي كلي ينتظم الأحكام التي بها قوام الأديان والأبدان .
والحاجة مشقة في مرتبة وسطى في معناها الفقهي تلحق بالضرورة الفقهية في إباحة منهي ضعف دليله وتدنت مرتبته في سلم المنهيات وفي معناه الأصولي كلي أورث عدم اعتباره مشقة وحرجاً للعامة وأدى اعتباره إلى سهولة ويسر فكان أصلاً لعقود منصوصة حادت عن قياس أو خرجت عن قاعدة كلية أو أدى إليها اجتهاد مجتهد استصلاحاً أو استحساناً.
أصل المشروعية في أن النصوص المتعلقة بالضرورة نصوص واضحة محددة تتعلق برفع حرج وشدة من نوع خاص.
والنصوص التي ترجع مشروعية الحاجة إليها تتعلق برفع الحرج بصفة عامة أعم من تلك التي قبلها وأقل تحديداً.(1/63)
وهذان الفرقان بين الضرورة وبين الحاجة ثابتان في الضرورة بالمعنى الأصولي (الضروري) ومتعلقها مستمر، أي أن الحكم الملحق من أجلها على خلاف القياس مستمر بناء على دليل الاستحسان أو المصلحة المرسلة وفي الضرورة بالمعنى الفقهي ومتعلقها مؤقت من باب الرخصة بالمعنى الأخص وهي تغيير حكم لعذر مع علة الحكم الأصلي.
وفي الحاجة بمعنى الحاجي وهو المعنى الأصولي ومتعلقها مستمر أي أن الحكم ثابت بها مستمر سواء كان منصوصاً معللاً بها كالسلم والإجارة …إلى آخره، أو منسوباً إليها استحساناً كالاستصناع للحاجة والتعامل أو استصلاحاً كجواز تلاوة الحائض عند مالك.
والحاجة بمعنى الحاجي يشترط فيها أن تكون عامة وأما الحاجة الفقهية وهي كالضرورة الفقهية لأنها ملحقة بها وتوسيع لمعناها وهذه ترفع الحرج مؤقتاً بخلاف الضرورة بمعناها الفقهي فإنها تبيح مع قياس النص المانع صريحاً فيما توجد فيه فترفعه مؤقتاً وتشاركها الحاجة الفقهية في التوقيت لكنها تختلف معها في مرتبة دليل الحكم الذي ترفقه فالأولى ترفع حكماً دليله قطعي كالنص بدليله الظاهر والاقتضاء والإشارة والمفهوم والقياس.
أما الثانية فإنها ترفع حكماً دليله ظني كحال العام وبخاصة العام الضعيف في نوادر الصور كما أسلفنا وهذا الاختلاف في طبيعة الدليل الذي تواجهه كل منهما ناشئ عن اختلاف المشقتين فالمشقّة في محل الضرورة هي مشقّة كبرى بينما المشقّة في محل الحاجة هي مشقّة وسطى.
أما الضرورة بمعنى الضروري عند الأصوليين فإنها تكون تأصيلاً لأحكام منصوصة من الشارع أو مجتهد فيها عن طريق المصلحة المرسلة.(1/64)
يكمن الفرق بين الضروري والحاجي في أن ما كان من قبيل الضروريات فهو أرفع مرتبة مما كان من قبيل الحاجيات تأصيلاً وتعليلاً، فما كان من الضروريات من حفظ نفس ودين ونسل ومال وعقل يقع في المرتبة العليا من المصالح الشرعية ولهذا فإنه معتبر في غيبة الشاهد الخاص عند من يعمل بالمصالح المرسلة وهو مالك رحمه الله تعالى ولم يستبعده من لا يعمل بها كالغزالي في المستصفى بشروط وابن قدامة في الروضة.
أما الحاجيات فلتدني مرتبتها فإن الاستصلاح في محلها نفاه كثير من العلماء كالغزالي في المستصفى وابن قدامة في الروضة.
وهذا في رأيي هو القول الفصل وإن وضعها قاعدة فقهية أحدث ارتباكاً عند كثير من الباحثين حيث أباحوا بالحاجة دون استفصال ودون النظر في شروط الاستصلاح والاستحسان.
ولم ينتبهوا إلى أن الحاجة لا تؤثر فيما ثبت النهي عنه بأدلة قوية بحيث تعتبر في مرتبة قوية من مراتب النهي فلا تؤثر في تحريم الخمر والميتة والدم . بل إنما تؤثر في عموم ضعيف كثرت أفراده وتناوله التخصيص وإنما تؤثر في مرتبة المنهيات لا توصف بأنها في أعلى درجات المنهيات فمن المعلوم أن محرّمات المقاصد ليست كمحرّمات الوسائل والذرائع وهذه فروق دقيقة توزن بميزان دقيق.
وباختصار فإن الفرق بين الضرورة وبين الحاجة يتجلى في ثلاث مراتب: مرتبة المشقّة ومرتبة النهي ومرتبة الدليل.
فإن الضرورة في المرتبة القصوى من المشقّة أو من الأهمية والحاجة في مرتبة متوسطة .
والنهي الذي تختص الضرورة برفعه هو نهي قوي يقع في أعلى درجات النهي لأن مفسدته قوية أو لأنه يتضمن المفسدة فهو نهي المقاصد بينما تواجه الحاجة نهياً أدنى مرتبة من ذلك لأنه قد يكون نهي الوسائل .(1/65)
أما مرتبة الدليل فإن الدليل الذي ترفع حكمه الضرورة قد يكون نصاً صريحاً من كتاب أو سنّة أو سواهما . أما الدليل الذي تتطرق إليه الحاجة فهو في الغالب عموم ضعيف يخصص، أو قياس لا يطرد في محل الحاجة، أو قاعدة يستثنى منها.
من خلال التعامل مع هذه المراتب الثلاث يتبين فقه الفقهاء وفطنة الأذكياء في التمييز بين الضرورة بمعنييها الفقهي والأصولي والحاجة بمعنييها الأصولي والفقهي.
تطبيقات معاصرة :
فيما يلي بعض التطبيقات المعاصرة لمبدأ الحاجة :
1 – فتوى المجلس الأوروبي بشأن شراء بيوت السكنى في ديار غير المسلمين:
نبدأ هذه التطبيقات بفتوى أثارت جدلاً في الساحة الفقهية وهي فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المتعلقة بقرار إباحة شراء بيوت السكنى في ديار غير المسلمين ترجيحاً لمذهب أبي حنيفة ومن قال بقوله انطلاقاً من مبدأ الحاجة.
نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها، وهي قضية المنازل التي تشترى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية.
وقد قدمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض قُرئت على المجلس، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة، انتهى بعدها بأغلبية أعضائه إلى ما يلي:
1- يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا وأنه من السبع الموبقات، ومن الكبائر التي تؤذن بحرب من الله ورسوله، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام .
2- يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية التي لا شبهة فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين، وغير ذلك.(1/66)
3- كما يدعو التجمعات الإسلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعاً، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل، فإن هذا سيجلب لهم عدداً كبيراً من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية، وقد رأينا عدداً من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعاً لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية، كما في البحرين وغيرها.
ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك لتعديل سلوكها مع المسلمين.
وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسراً في الوقت الحاضر، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية، لا يرى بأساً من اللجوء إلى هذه الوسيلة وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة.
وقد اعتمد للمجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين:
المرتكز الأول :
قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهي قاعدة متفق عليها مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأنعام : "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" ]الآية: 119[ . ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرّمات الأطعمة: "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" ]الآية:145[ومما قرره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة.(1/67)
والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج وإن كان يستطيع أن يعيش بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن كما في قوله تعالى في سورة الحج : "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" ]الآية:78[، وفي سورة المائدة: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ" ]الآية:6[ والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه بحيث يكون سكناً حقاً .
وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها، فلم يجز تملّك البيوت للتجارة ونحوها .
والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال: "والله جعل لكم من بيوتكم سكناً" ]النحل: 80[
وجعل النبي –صلى الله عليه وسلم- المسكن الواسع عنصراً من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم، ولا يشعره بالأمان وإن كان يكلف المسلم كثيراً بما يدفعه لغير المسلم ويظل سنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجراً واحداً، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه، كما أنه إذا كبرت سنه أو قلّ دخله أو انقطع عرضة لأن يُرمى به في الطريق .
وتملك السكن يكفي المسلم هذا الهم، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريباً من المسجد والمركز الإسلامي والمدرسة الإسلامية، ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشئ لها مجتمعاً إسلامياً صغيراً داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم، وتقوى روابطهم، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام وقيمه العليا.
كما أن هذا يمكن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية مادام مملوكاً له.(1/68)
وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمة أُخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم، ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألاّ يظل المسلم يكد طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه أو نشر دعوته.
المرتكز الثاني : (وهو مكمل للمرتكز الأول الأساسي)
هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني - وهو المفتى به في المذهب الحنفي – وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ورجحها ابن تيمية – فيما ذكره بعض الحنابلة – من جواز التعامل بالربا – وغيره من العقود الفاسدة – بين المسلمين وغيرهم في غير دار الإسلام .
ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات، منها :
1- أن المسلم غير مكلف شرعاً أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام لأن هذا ليس في وسعه ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي . وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فرداً مثل أحكام العبادات وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.(1/69)
2- أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة – ومنها عقد الربا – في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سبباً لضعفه اقتصادياً وخسارته مالياً، والمفروض أن الإسلام يقوّي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضرّه، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم بحديث أبي داود أن مُعاذاً قال سَمِعْتٌ رَسُولَ الله –صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: الإِسْلامُ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ"فورث المسلم" أي يزيد المسلم ولا ينقصه، ومثله: " الإِسْلامُ يَعْلُو لا يُعْلَى " وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه ولا يأخذ مقابله فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغرم دائماً وليس له الغنم، وبهذا يظل المسلم أبداً مظلوماً مالياً بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبداً إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به، وأن يتركه – في غير دار الإسلام – لغير المسلم يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة والمعترف بها عندهم.
وما يُقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلاّ بشرطين الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم، والثاني : ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم.
فالجواب: أن هذا غير مسلَّم، كما يدل عليه قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير، وإطلاق المتقدمين من علماء المذهب، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد إذ به يتملك المنزل في النهاية.(1/70)
وقد أكّد المسلمون الذي يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك بل أحياناً تكون أقل. ومعنى هذا أننا إذا حرّمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبّر الفقهاء، وربما يظل عشرين سنة أو أكثر يدفع إيجاراً شهرياً أو سنوياً ولا يملك شيئاً على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة – وربما أقل – أن يملك البيت .
فلو لم يكن هذا التعامل جائزاً على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه لكان جائزاً عند الجميع للحاجة التي تنزل أحياناً منزلة الضرورة في إباحة المحظور بها.
ولاسيما أن المسلم هنا إنما يؤكل الربا ولا يأكله، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها والأصل في التحريم منصب على (أكل الربا) كما نطقت به آيات القرآن، وإنما حرم الإيكال سداً للذريعة كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد .
ومن المعلوم أن أكل الربا المحرّم لا يجوز بحال، أما إيكاله – بمعنى إعطاء الفائدة – فيجوز للحاجة، وقد نصّ على ذلك الفقهاء وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهه أبواب الحلال .
ومن القواعد الشهيرة هنا : أن ما حرم لذاته لا يباح إلاّ للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، والله الموفق.
وتعليقنا على هذا القرار : نقول عنه باختصار إنه لا يبيح التعامل بإطلاق بالربا في ديار غير المسلمين كما هو مقتضى مذهب أبي حنيفة ومن قال بقوله لكنه يبيحه في حالة الحاجة الشخصية التي لا تتجاوز محلها فهو ترجيح مقيد بالحاجة طبقاً لشروط الترجيح بالحاجة التي نقلناها عن مالك.
وإن كنت لا اتفق مع صياغة بعض الفقرات وبخاصة فيما يتعلق بالقول أن الحاجة وحدها تكفي في إباحة هذا التعامل.(1/71)
والحقيقة أن الحاجة لا تكفي في إباحة الربا وإنما تعتمد الفتوى على قول العلماء القائلين بهذا مرجحاً بأصل عام شهد الشرع باعتباره وهو الحاجة والتيسير.
2 – قرار مجمع الفقه الإسلامي : 63(1/7) بشأن شراء أسهم في شركات تتعامل أحياناً بالربا: فيما يلي بعض البنود التي وردت بقرار مجمع الفقه الإسلامي فيما يختص بهذا الموضوع :إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9-14 مايو 1992م .
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "الأسواق المالية" الأسهم، الاختيارات، السلع، بطاقة الائتمان، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي :
أولاً ـ الأسهم :
1- الإسهام في الشركات :
أ-بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز .
ب-لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرّم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرّمات أو المتاجرة بها.
ج-الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرّمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
2 – تحديد مسؤولية الشركات المساهمة المحدودة :
لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.
ثانياً ـ التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة :
السلع : يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي:
الطريقة الأولى : أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه. وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثانية : أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.(1/72)
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد أجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدّل ليستوفي شروط السلم المعروفة فإذا استوفى شروط السلم جاز . وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها.
- الطريقة الرابعة : أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمّة في موعد أجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس . وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً.
وتعليقنا على هذا القرار المتعلق بالأسواق المالية نرى أن المجمع تارة لم يعتبر الحاجة لما عارضها من الدليل الذي يجعل اعتبارها ملغي وتارة اعتبرها . فعلى سبيل المثال :
1- الفقرة (ج) : الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرّمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .
وبهذا يرى المجمع أن الربا لا تبيحه الحاجة ولا عبرة بقلته بالنسبة لأعمال الشركة وأنشطتها باعتبار ذلك وصفاً طردياً والمجمع في ذلك كان مصيباً كل الإصابة لأن الربا كما أسلفنا في مرتبة من النهي لا تبيحها إلاّ الضرورة.
وكان بودي أن تُحذف كلمة (الأصل) التي أصبح البعض يتذرّع بها لإباحة الاشتراك في هذه الشركات بدعوى التطهير، وقد بيّنا خطأ ذلك في بحث آخر.
2-قرر المجمع أن لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محددة برأس مالها .
والمجمع تجاوز عن مشكلة الديون التي على الشركة فإن أصحابها وإن كانوا يعلمون أنها مرتبطة برأس مال الشركة فإنهم مع ذلك إنما تعاقدوا مع أرباب الشركة وهذا القرار فرع عن الاعتراف بالشخصية المعنوية والأصل في الشريعة اعتبار الذمّة الشخصية والمجمع قرر ذلك للحاجة.(1/73)
3-في الفقرة الأخيرة من الطريقة الثالثة قرر المجمع أنه ( لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها ) ولم يعتبر الحاجة مع أن مذهب مالك والأوزاعي جواز ذلك ما لم تكن السلعة طعاماً .
هذه القرارات تدل على تعامل حذر مع مبدأ الحاجة، ولعل بحثنا هذا يسهم في إيضاح معايير التعامل مع الحاجة.
بالإضافة إلى ما تقدم فقد منع المجمع عقود التوريد في قرارات سابقة وأكّد هذا المنع في دورته الأخيرة بالرياض بتاريخ 25 جمادى الثانية 1421هـ ، ماعدا ما يتعلق منها بالاستصناع بناءً على تأجيل العوضين.
والذي يظهر لي: أن عقود التوريد من المجالات التي تدخل فيها الحاجة لعدم وجود نص فيها وقد أجاز مالك تأجيل العوضين في السلم بشرط لثلاثة وإلى غاية أجل المسلم بلا شرط النقد وأجازه في الاستجرار في الشراء من دائم العمل كالخباز.
وأجازه في أكرياء الحج وهو كراء مضمون تأجل فيه العوضان بحاجة الناس إلى ذلك وقد نقلنا كلام ابن سراج عن المواق وفيه أن مالك : "أجاز تأخير النقد في الكراء المضمون".(التاج والإكليل:5/390) .
قال خليل :( أو في مضمونه لم يشرع فيها إلاّ كراء حج فاليسير) وكان مالك يرى أن لا بد أن ينتقد ثلثي الكراء في المضمونة إلى أجل، ثم رجع وقال :" قد اقتطع الأكرياء أموال الناس فلا بأس أن يؤخروهم بالنقد ويعربونهم الدينار وشبهه " (التاج والإكليل: 5/3939) .
قلت : قوله (ويعربونهم) أي : يعطونهم عربوناً .
كما أجيز الاستصناع للحاجة وقد أقر المجمع جوازه مع أن جواز تأجيل العوضين مذهب ابن المسيب رضي الله عنه.
وأنا أرى إعمال الحاجة في مثل هذه العقود مما لم يرد فيه نص إذا ثبتت الحاجة المعتبرة التي يؤدي عدم ارتكابها إلى مشقة وحرج يلحق العامة بغض النظر عن تحقق ذلك في آحاد صورها وقد شرحنا رأينا في تأجيل البدلين في بحثنا في البورصات المقدم إلى المجلس الأوروبي للإفتاء .
النتائج :(1/74)
في هذا الفصل عرفنا الضرورة لغة بأنها الضيق والشدة والحاجة وأنها اصطلاحاً " أمر إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك " في معناها الأخص وأنها تطلق على الحاجة . وأنها أصولياً الكلي الذي ينتظم المحافظة على ضرورات الحياة الخمس من جهة الوجود ومن جهة العدم . وبيّنا أصل مشروعية الضرورة .
وعرّفنا الحاجة لغة بأنها الافتقار إلى الشيء وذلك هو المأربة والمأربة هي الحاجة.
وعرّفناها اصطلاحاً بأنها ما نزل عن الضرورة بحيث يؤدي فقده إلى مشقة وقلق وحصوله إلى سعة وتبسط.
ثم إن الحاجة منها ما هو حاجة عامة بشرية وهذه تحدث حكماً مستمراً وهي من باب الكلي الذي لا يجب تحققه في آحاد صوره فتكون أساساً للاستحسان والاستصلاح.
وحاجة خاصة فقهية تعتبر توسيعاً للضرورة تعطي حكمها وتقدر بقدرها وأنها رخصة بالمعنى الأخص، وذكرنا أمثلة لذلك وناقشنا وضع قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في القواعد الفقهية وأخرجنا أصلها الأصولي مسلسلاً من الجويني إلى تلاميذه.
كما أوضحنا أن قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة ليست على إطلاقها وإن الحاجي لا يمكن أن يكون نداً للضرورة الفقهية وأن الأمثلة التي ذكروها منها – وهو أغلبها – منصوصة في الشرع فما معنى كون الحاجة تنزل منزلة الضرورة فيه إلاّ أنه استثناء من أصل يفيد التحريم كما الضرورة استثناء من نصوص تقضي بالتحريم.
وما عدا هذه المقارنة الجزئية فلا يبدو تنزيلها منزلة الضرورة مطرداً حتى يكون قاعدة فقهية قد بيّنا أنه لا تبيح ما كان النهي فيه قوياً كمحرمات المقاصد فلم تنزل منزلة الضرورة فيها.
وأشرنا إلى تفاوت درجة النهي في المنهيات وبيّنا أنها لا تواجه نصاً بالرفع ولا ترفع عامّاً في كل مدلوله بل ترفع جزئية من جزئياته وهي في الغالب جزئية تنتمي إلى العام بضعف وتلك نكتة لم يطلع عليها الباحثون وقد أيدناها بالاستقراء.(1/75)
كما أبدينا أوجهاً أخرى تدخل فيها الحاجة حيث لا يكون الخلل في العقد مقصوداً أو حيث يكون الغرض من العقد معروفاً أو فيه شائبة المعروف والارتفاق أو يكون الخلل تابعاً وليس متبوعاً، أو تتوخى الحاجة مواقع الخلاف لتكون مرجحاً لقول مرجوح عرف قائله وثبت عزوه.
وأجملنا الفروق الجوهرية في المراتب الثلاث: مرتبة المشقّة، ومرتبة النهي، ومرتبة الدليل.
وهكذا اتضحت الخطوط الدقيقة للفرق بين الضرورة والحاجة التي فصلناها في القائمة الملحقة.
وذكرنا بعض التطبيقات من قرارات مجمع الفقه الإسلامي بجدة تراوحت بين الإقدام والإحجام طبقاً لتقدير النهي والحاجة والتفاتاً في الغالب إلى وجود نقل يستأنس به أو أصل يعتمد عليه بعد أن ذكرنا قراراً واحداً للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث وعلقنا على هذه القرارات تعليقاً موجزاً دون مناقشة قد تطول وتخرجنا عن سياق المطلوب في هذا البحث وأبدينا وجهة نظرنا الخاصة التي توافق قرارات المجمعين أو تخالف وتباين القرارات وبخاصة في مسألة تأجيل البدلين.
كل ذلك باختصار تارة بالعبارة الصريحة أو بالإشارة السريعة التي يفهمها أهل الاختصاص.
الفروق :
من حيث التعريف : الضرورة شدة وضيق ومشقّة تبيح المحرّم كالميتة والدم ولحم الخنزير ومال الغير والحاجة : افتقار ونقص فهي أعم من الضرورة .
الضرورة : أدلتها نصوص واضحة، والحاجة : أدلتها عمومات.
الضرورة الفقهية : لا تحتاج إلى نص في كل حالة تنزل فيها بل إن الإذن بها عام سوى ما استثنى لأدلة أخرى وقرائن . والحاجة : تفتقر إلى نص لإثبات اعتبارها وأكثر الأمثلة المذكورة كالإجارة والقراض والمساقاة منصوصة.
الضرورة : ترفع النص وغيره، والحاجة مجالها هو تخصيص العموم عند من يراها وبخاصة ما كان تناوله بالعموم ضعيفاً، وقد تخالف قياساً وتستثنى من قاعدة.
الضرورة : أثرها مؤقت محدود بها والحاجة العامة أثرها مستمر.(1/76)
الضرورة شخصية لا ينتفع بها غير المضطر والحاجة لا يشترط فيها تحقق الاحتياج في آحاد أفرادها.
الضرورة رخصة بالمعنى الأخص والحاجة العامة ليست رخصة بالمعنى الأخص.
الضرورة ترفع نهياً في مرتبة عليا من سلم المنهيات كما ترفع غيره.
والحاجة لا ترفع نهياً في مرتبة عليا من مراتب النهي بل تتوخى محرّمات الوسائل دون محرمات المقاصد.
الضرورة تبيح العقود التي يكون الخلل فيها أصلياً أو تابعاً والحاجة تبيح العقد الذي يكون فيه الخلل تابعاً ومضافاً.
الضرورة تبيح الكثير واليسير والحاجة تبيح اليسير لا الكثير.
الضرورة تبيح الخلل المقصود وغيره، والحاجة تبيح غالباً الخلل غير المقصود في العقد.
الضرورة لا تختص بعقد دون آخر، والحاجة تبيح الممنوع أحياناً في سياق إرفاق ومعروف دون قصد المكايسة.
الضرورة لا تفتقر إلى خلاف، والحاجة ترجح الضعيف في محل الاختلاف بشروط.
وأخيراً لعلنا بهذه الفروق التي تسجل لأول مرة بهذه الطريقة أسهمنا في تجلية هذه المسألة أو على الأقل بيّنا الوجهة الصحيحة التي يجب على الباحثين أن ينموها والمسالك التي ينبغي للدارسين أن يسلكوها، وناقشنا مناقشة غير مسبوقة قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في القواعد الفقهية مع أننا لا ندعي الاستيعاب.
وبالنسبة لفقه الأقليات فإن هذه القاعدة بالإضافة إلى الأمثلة المذكورة في أثناء البحث لها علاقة حميمة بكثير من مسائل فقه الأقليات وتمثل أساس الترجيح في القضايا الخلافية كالجمع بين الصلاتين لحاجة المغترب العامل بناء على ما ذهب إليه طائفة من الفقهاء منهم أشهب من المالكية وابن المنذر من الشافعية وابن سيرين وابن شبرمة إلى جواز الجمع لحاجة ما لم يتخذ ذلك عادة.(1/77)
قال ابن المنذر: يجوز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض. وهو قول جماعة من أهل الحديث لظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي- صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر". فقيل لابن عباس لم فعل ذلك قال: أراد أن لا يحرج أمته
رابعاً: قاعدة العرف:
هو ما يتعارف عليه الناس كالمعروف والعارفة وحجية العرف مستفادة من الكتاب والسنّة قال تعالى:"وللمطلقات متاع بالمعروف" "ومتّعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" وقال تعالى: "من أوسط ما تطعمون أهليكم" وفي الحديث:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
ومن ما يستدل به لحجية العرف السنّة التقريرية كتقرير النبي –صلى الله عليه وسلم- للناس على صنائعهم وتجاراتهم . وقدم النبي – صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين. متفق عليه.
وقد أقرَّ – صلى الله عليه وسلم - القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية. رواه مسلم.
قال القرافي: وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرّحون بذلك فيها"شرح تنقيح الفصول ص 488،ويُراجع كتاب(العرف للدكتور عادل عبد القادر قوتة ص 129)
ولهذا اعتبرته المذاهب الفقهية فقد ورد عن الأحناف رحمهم الله تعالى حمل بعضهم قوله عليه الصلاة والسلام: "الطعام بالطعام". على البُر لأنه كان طعامهم . ذكر ذلك إمام الحرمين في البرهان ( 1 /446) .
وعن مالك أنه خصص قوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن" بالعرف قائلاً : إن المرأة الشريفة لا ترضع بناءً على العرف وهو يوجب الرضاع على غيرها (القرطبي 3/161).
أما الشافعي فالذي رآه أن عرف المخاطبين لا يوجب تخصيص لفظ الشارع.(البرهان 1/446)
ولكن الشافعي قد يأخذ بالعرف في ترتيب الأحكام على كلام الناس.(1/78)
قال الرافعي: الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارة وذلك عند ظهورها وشمولها وهو الأصل ، وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد . وقال ابن عبد السلام: قاعدة الأيمان البناء على العرف إذا لم يضطرب فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة.( السيوطي في الأشباه والنظائر ص67)
أما الإمام أحمد فإنه يقول في الجائحة: إني لا أقول في عشر ثمرات ولا عشرين ثمرة ولا أدري ما الثلث ولكن إذا كانت جائحة تعرف الثلث أو الربع أو الخمس توضع) وقال ابن قدامة إنه ظاهر المذاهب.(المغني6/179).
ما نُقل يدل على أن العرف قد يكون أساساً لاستنباط الحكم فيخصص العام في دليل الاستحسان، إلاّ أن العرف قد يكون أساساً لتغير الفتوى لهذا فإن العلماء فيما يتعلق بالعرف لم يفرقوا بين مجتهد ولا مقلّد.
قال في مراقي السعود في تعريف الاستحسان :
أَوْ هو تَخْصِيصُ بعُرْفٍ مَا يَعُمّْ *** ورعْيَ الاسْتِصْلاحِ بعضَهُم يَؤمّْ
ومن الواضح أنهم يرون أن المقلد يتصرف طبقاً للعرف فيمكن أن يراجع مذهب إمامه على ضوئه ، بل إنه يخالف ظاهر النص بسبب اختلاف العرف الذي كان قائماً عليه على خلاف في هذه المسألة لأنه من باب تحقيق المناط وبهذا الصدد نذكر اختلافهم في تغير العرف بالنسبة لضمان ما أتلفته الماشية كما في حديث ناقة البراء ، فإن على أهل الحوائط حفظ حوائطهم بالنهار وعلى أهل الماشية حفظ ماشيتهم بالليل ، وفي حال تغير العرف بأن كان أهل الحوائط يحفظونها ليلاً وأهل الماشية يحفظونها نهاراً.
قال السيوطي: كما لو جرت عادة قوم بحفظ زرعهم ليلاً ومواشيهم نهاراً فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام في العكس وجهان والأصح نعم.(الأشباه والنظائر ص 67) و (العرف د.عادل قوته ، ص215) .
كذلك نجد أن أبا يوسف يرى جواز معيار العد فيما معياره الوزن عند تغير العادة مع ورود النص.(1/79)
قال في الدر المختار: وما نصّ الشارع على كونه كيليّاً كبُر وشعير وتمر وملح أو وزنياًّ كذهب وفضة فهو كذلك لا يتغير أبداً .. إلى قوله .. لأن النص أقوى من العرف فلا يترك الأقوى بالأدنى وما لم ينص عليه حمل على العرف وعن الثاني اعتبار العرف مطلقاً ورجحه الكمال.
قوله : ورجحه الكمال حيث قال عقب ما ذكرناه ولا يخفى أن هذا لا يلزم أبا يوسف لأن قصاراه أنه كنصه على ذلك وهو يقول يصار إلى العرف الطارئ بعد النص بناءً على أن تغير العادة يستلزم تغيّر النص حتى لو كان عليه الصلاة والسلام حياً نصَّ عليه.
وأطال ابن عابدين حيث أوضح: أن النص معلول بالعرف فيكون هو المعتبر في أي زمان كان. (حاشية ابن عابدين 4/112)
وقال أيضاً في رسالته " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف" : فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله وألاّ يضيّع حقوقاً كثيرة ويكون ضرره أكثر من نفعه.(رسائل ابن عابدين ، 2-131)
" ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية ويتركا العرف ، والله أعلم.(نفس المرجع ، ص133)
وله أيضاً : ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لابد فيه من معرفة عادات الناس ، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام ، ولهذا ترى مشايخ المذاهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به أخذا من قواعد مذهبه.(رسائل ابن عابدين 2/125)(1/80)
وقد عبّر العلماء عن ذلك تعبيراً قوياً فقال ابن القيّم في تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد : هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالّة عليه وعلى صدق رسوله –صلى الله عليه وسلم-. (ابن القيّم ، إعلام الموقعين 3 /11)
ومن تغير الفتوى بتغير الزمان قول الأحناف الأصل في المرأة إذا قبضت معجل صداقها تلزم بمتابعة زوجها حيث شاء ولكن المتأخرين من أهل المذهب لا حظوا فساد الأخلاق وغلبة الجور على النساء فأفتوا بأن المرأة لا تجبر على السفر مع زوجها إلى مكان إذا لم يكن وطنا لها وذلك لفساد الزمان والأخلاق وعلى هذا استقرت الفتوى والقضاء في المذهب .( المدخل للشيخ الزرقاء ص928)
وأجاز متأخروا الأحناف أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلوم الشرعية .
وفي مذهب مالك: أجاز المتأخرون بيع العقار الموقوف بشروط وأصل المذهب منع ذلك.
وهذه الشروط هي : أن يكون العقار خربا وليس في غلته ما يصلحه ولا يوجد من يقوم بإصلاحه تطوعا .
وأجاز أهل الأندلس صرف غلات الأحباس في غير المصرف الموقوف عليه.
وحلف المتأخرون من علماء فاس الشهود على شهادتهم لفساد الزمان فقال الفاسي في عملياته :
وحَلَفَ ابْنُ سُودَةَ الشُّهودَا *** مِنَ اللفِيفِ لفُجُورِ زِيدَا .(1/81)
وفي المذهب الشافعي: اعتبر المتأخرون من علماء المذهب المقصد العرفي في الأيمان والمعاملات دون مقتضى اللغة الذي كان المعتبر في أصل المذهب.
قال القرافي في "الأحكام ":… إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغيّر الحكم فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد".(القرافي، الأحكام ص218) .
(ثم اعلم) أن كثيراً من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة مع أن ذلك مخالف لما نص عليه أبو حنيفة ومن ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في عصره إن غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره فقال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون.
الدخول بها بأنها لم تقبض ما أشترط لها تعجيله من المهر مع أنها منكرة للقبض وقاعدة المذهب أن القول للمنكر لكنها في العادة لا تسلم نفسها قبل قبضه. وكذا قالوا في قوله كل حل على حرام يقع به الطلاق للعرف قال مشايخ بلخ وقول محمد لا يقع إلا بالنية أجاب به على عرف ديارهم أما في عرف بلادنا فيريدون به تحريم المنكوحة فيحمل عليه نقله العلامة قاسم ونقل عن مختارات النوازل إن عليه الفتوى لغلبة الاستعمال بالعرف ثم قال قلت ومن الألفاظ المستعملة في هذا في مصرنا الطلاق يلزمني الحرام يلزمني وعلي الطلاق وعلي الحرام .هـ(1/82)
وكذا مسألة دعوى الأب عدم تمليكه البنت الجهاز فقد بنوها على العرف مع أن القاعدة أن القول للمملك في التمليك وعدمه وكذا جعل القول للمرأة في مؤخر صداقها مع أن القول للمنكر. وكذا قولهم المختار في زماننا قولهما في المزارعة والمعاملة والوقف لمكان الضرورة والبلوى. وقول محمد بسقوط الشفعة إذا أخر طلب التملك شهرا دفعا للضرر عن المشتري.
ورواية الحسن بأن الحرة العاقلة البالغة لو زوجت نفسها من غير كفء لا يصح. وإفتاؤهم بالعفو عن طين الشارع للضرورة وبيع الوفاء والاستصناع والشرب من السقا بلا بيان مقدار ما يشرب. ودخول الحمام بلا بيان مدة المكث ومقدار ما يصب من الماء. واستقراض العجين والخبز بلا وزن وغير ذلك مما بني على العرف وقد ذكر من ذلك في الأشباه مسائل كثيرة.
(فهذه) كلها قد تغيرت أحكامها لتغير الزمان إما لضرورة وإما للعرف وإما لقرائن الأحوال وكل ذلك غير خارج عن المذهب لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها ولو حدث هذا التغير في زمانه لم ينص على خلافها وهذا الذي جرأ المجتهدين في المذهب وأهل النظر الصحيح من المتأخرين على مخالفة المنصوص عليه من صاحب المذهب في كتب ظاهر الرواية بناء على ما كان في زمنه كما مر تصريحهم به في مسألة كل حل علي حرام من أن محمداً بنى ما قاله على عرف زمانه وكذا ما قدمناه في الاستئجار على التعليم.(1/83)
(فإن قلت) العرف يتغير مرة بعد مرة فلو حدث عرف آخر لم يقع في الزمان السابق فهل يسوغ للمفتي مخالفة المنصوص واتباع العرف الحادث. (قلت) نعم فإن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في المسائل المارة لم يخالفوه إلا لحدوث عرف بعد زمن الإمام فللمفتي أتباع عرفه الحادث في الألفاظ العرفية وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان في عرف زمانه وتغيير عرفه إلى عرف آخر إقتداء بهم لكن بعد أن يكون المفتي ممن له رأي ونظر صحيح ومعرفة بقواعد الشرع حتى يميز بين العرف الذي يجوز بناء الأحكام عليه وبين غيره فإن المتقدمين شرطوا في المفتي الاجتهاد وهذا مفقود في زماننا فلا أقل من أن يشترط فيه معرفة المسائل بشروطها وقيودها التي كثيرا ما يسقطونها ولا يصر حون بها اعتمادا على فهم المتفقه وكذا لابد له من معرفة عرف زمانه وأحوال أهله والتخرج في ذلك على أستاذ ماهر ولذا قال في آخر منية المفتي لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لابد أن يتتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليه لأن كثيراً من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة. انتهى.
وفي القنية ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف. انتهى.
ونقله منها في خزانة الروايات وهذا صريح فيما قلنا من أن المفتي لا يفتي بخلاف عرف أهل زمانه.
(وفي) تصحيح العلامة قاسم فإن قلت قد يحكون أقوالاً من غير ترجيح وقد يختلفون في التصحيح قلت يعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغيير العرف وأحوال الناس وما هو إلاّ رفق بالناس وما ظهر عليه التعامل وما قوى وجهه ولا يخلوا الوجود من تمييز هذا حقيقة لا ظناً بنفسه ويرجع من لم يميز إلى من يميز لبراءة ذمته.(1/84)
(فهذا) كله صريح فيما قلنا من العمل بالعرف ما لم يخالف الشريعة كالمكس والربا ونحو ذلك فلا بد للمفتي والقاضي بل والمجتهد من معرفة أحوال الناس وقد قالوا ومن جهل بأهل زمانه فهو جاهل وقدمنا أنهم قالوا يفتى بقول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لكونه جرب الوقائع وعرف أحوال الناس.
وقالوا إذا زرع صاحب في الأرض أرضه ما هو أدنى مع قدرته على الأعلى وجب عليه خراج الأعلى قالوا وهذا يعلم ولا يفتى به كيلا يتجرأ الظلمة على أخذ أموال الناس.
وكذا قال في فتح القدير قالوا لا يفتى بهذا لما فيه من تسلط الظلمة على أموال المسلمين إذ يدعى كل ظالم أن الأرض تصلح لزراعة الزعفران ونحوه وعلاجه صعب. انتهى. (فقد) ظهر لك أن جود المفتي أو القاضي على ظاهر المعقول مع ترك العرف والقرائن الواضحة والجهل بأحوال الناس يلزم منه تضييع حقوق كثيرة وظلم خلق كثير.
(ثم أعلم) أن العرف قسمان عام وخاص فالعام يثبت به الحكم العام ويصلح مخصصا للقياس والأثر بخلاف الخاص فإنه يثبت به الحكم الخاص ما لم يخالف القياس أو الأثر فإنه لا يصلح مخصصا.
تحقيق المناط:
والمناط هو العلة من النوط أي التعليق فالحكم معلق بها ، تقول ناط به نوطاً أي علقه.قال حسان :
وَأَنْتَ زَنِيمُ نيطَ في آلِ هاشِمٍ *** كَما نيطَ خَلفَ الراكِبِ القَدَحُ الفَردُ
ويُقال هو منه مناط الثريا ، أي : بعيد ، وهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع علة حكم ما في محله بنص أو إجماع فيبين المجتهد وجودها في الفرع. (شرح مختصر الروضة 2/233)
قال في مراقي السعود :
تَحقيقُ عِلَّةٍ عَلَيْها ائْتُلِفا *** في الفَرْعِ تَحْقيقَ مَناطِ عُرِفا
كتحقيق الطوافة في الفأرة فيحكم لها بحكم الهرة. وهو تطبيق القاعدة الشرعية المتفق عليها أو المنصوص عليها. وتحقيق المناط لا ينقطع فيه الاجتهاد إذ لا يمكن التكليف إلاّ به كما قال الشاطبي ، وأمثلته كثيرة وهي التي ركز عليها الفقهاء. (نشر البنود 2 /208)(1/85)
وقال الشاطبي: الاجتهاد على ضربين : أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف وذلك عند قيام الساعة ، والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا . فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهذا الذي لا خلاف فيه بين الأمّة في قبوله ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله.(الموافقات4 /89-90)
خامساً:قاعدة النظر في المآلات:
ومما يصب في جداول المصلحة ويسير في دربها قاعدة النظر في المآلات في الأقوال والأفعال وقد نص الشاطبي على أن المفتى عليه أن ينظر في مآل فتواه.
وقد كان الإمام الشاطبي من أوفى من شرح هذا المدلول الاصطلاحي كما يقول الدكتور عبد المجيد النجار ونص الشاطبي : "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعة ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوى أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة".(الموافقات5/177-178)(1/86)
وأصل ذلك قوله تعالى: "ولا تسبوا الذين يدعون من الله فيسبوا الله عدواً بغير علم" وقوله –صلى الله عليه وسلم-: لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم " وقوله في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين:دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه أخاف أن يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه " البخاري.
وهكذا فإن الصحابة فهموا مقصد الشارع والمقاصد هي المعاني التي تعتبر حكما وغايات التشريع فتصرفوا طبقا لذلك فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يترك تغريب الزانى البكر مع وروده في الحديث حيث قضى عليه الصلاة والسلام بجلده مائة وتغريب سنة وذلك لما شاهد من كون التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر وهى اللحاق بأرض العدو وقال لا أغرب مسلما.
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : كفى بالنفي فتنة.
وأيضا فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمّا تولى الملك أجل تطبيق بعض أحكام الشريعة فلمّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله : "أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذا فتنة".(الموافقات 2/148)
وقد فهم ذلك العلماء فرتبوا عليه أولويات الأمر والنهي فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حينما مر بقوم من التتار يشربون الخمر فنهاهم صاحبه عن هذا المنكر فأنكر عليه ذلك قائلا : إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذّرية وأخذ الأموال فدعهم .( إعلام الموقعين 3/13)
وقد قال الشاطبي إنه ينبغي على المجتهد : "النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزّان واحد ...فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف".(الموافقات 5/55)(1/87)
وسد ذرائع الحرج والمشقة وقد يسميه البعض بفتح الذرائع لأنه ترك لبعض فضائل الأعمال خوفاً من إعنات المكلفين كما ترك عليه الصلاة والسلام تأخير صلاة العشاء قائلا: هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي".
وصار الأفضل مفضولاً خوفاً من المشقة.
وكذلك ترك الأمر بالسواك عند كل صلاة وكذلك الجمع بين الصلاتين من غير عذر فقال ابن عباس: لئلا يحرج أمته.
وترك بناء البيت على قواعد إبراهيم لحدثان عهد القوم بالكفر فيفتنون.
وترك قتل أهل النفاق المشهود عليهم بالكفر لما في ذلك من تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه.
وترك بعض الصحابة لذبح الأضحية يوم العيد وترك عثمان رضي الله عنه للقصر في الحج خوفا من أن يقول جهلة الناس: إن الصلاة أصبحت ركعتين.
وترك عمر رضي الله عنه لإصدار بيان على الناس يشرح فيه قضية الشورى واختيار الحكام بناء على نصيحة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حتى لا يساء فهمه ويطير الناس إلى أقطارهم بتصورات خاطئة.
وعلى هذا ينبني كثير من قرارات المجلس الأوربي حيث يمنع أئمة المساجد من عقد النكاح قبل أن يعقد عقداً مدنياً أمام السلطة لأن من شأن تلك العقود وإن كانت مستوفية الشروط أن تؤل إلى خصومات وربما حرمان المرأة من حقوقها وحرمان الأولاد من نسبهم لعدم توثيق العقد وهذا من باب النظر في المئالات.
وقاعدة ارتكاب أخف الضررين وجلب المصالح ودرء المفاسد فكما يقول ابن تيمية : إن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وعلى هذا تعطل أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ويرتكب أخف الشرين والضرين لتفويت أقصاهما.
ويقول الشاطبي: وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ومثل بمسألة تقرير الزاني وفيها النطق بالكلمة التي ينهى عنها في غير هذا المقام.( 3/331)(1/88)
وبناء عليه فقد وضع المالكية قاعدة جريان العمل وهي قاعدة من خلالها يرجح قول كان في الماضي مرجوحاً ليصبح القول الضعيف راجحاً فيترك مشهور المذهب وراجحه ويعمل بهذا القول لكنهم ضبطوا ذلك بضوابط...
... كان مخالفاً للمشهور وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب و إلا فالواجب الرجوع إلى المشهور هذا هو الظاهر.( البناني 5/124)
ومن المهم أن نعرف لماذا عدل العلماء عن المشهور والراجح إلى القول الضعيف؟
والجواب كما يقول السجلماسي في شرحه :"إن أصل العمل بالشاذ وترك المشهور الاستناد لاختبارات شيوخ المذهب المتأخرين لبعض الروايات والأقوال لموجب ذلك كما بسطه ابن الناظم في شرح تحفة والده من الموجبات تبدل العرف أو عروض جلب المصلحة أو درء المفسدة فيرتبط العمل بالموجب وجوداً وعدماً ولأجل ذلك يختلف باختلاف البلدان ويتبدل في البلد الواحد بتبدل الأزمان".( شرح نظم العمل المطلق 1/7)
وقد قدمنا أن شروط العمل بالضعيف ثلاثة : أن لا يكون القول المعمول به ضعيفاً جداً وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً وأن تكون الضرورة محققة ومعناها الحاجة.
وقد يعتبر البعض أن هذا من باب التساهل في الفتوى المنهي عنه وليس الأمر كذلك فمعنى التساهل عند ابن الصلاح : "هو أن لا يتثبت" الفقيه" ويُسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر . وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنطقة وذلك جهل. ولأن يُبطئ ولا يخطئ أكمل به من أن يعجل فيضل ويُضل وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه".( أدب الفتوى وشروط المفتى لابن الصلاح ص 65).
سادساً: قاعدة: قيام جماعة المسلمين مقام القاضي:(1/89)
ويتفرع عليها: تصرفات المراكز الإسلامية في قضايا الأقلية المسلمة الشرعية ومستندها شرعا.ونحن نفصل الكلام فيه على ما يأتي :
إن الشريعة الإسلامية رتبت شئون الناس بناء على حكمة بالغة ومصالح قائمة وفي نفس السياق حددت المسئوليات و إناطتها بجهات معينة مكلفة بما اصطلح على تسميته"بالخطط الشرعية".
ومن هذه الخطط القضاء ويتولاه قضاة يعينهم ولي الأمر بمواصفات معروفة في كتب الفقه أولها العلم والديانة. وحيث أنه لا يوجد في المهجر قضاة شرعيون فإن المراكز الإسلامية يمكن أن تمنح صفة شرعية لفض بعض النزاعات وحسم بعض الخلافات بين المسلمين طبقا لما سماه الفقهاء تارة بجماعة المسلمين ومرة بالعدول الذين يقومون مقام القاضي وذلك أن الإمام في الأصل نائب عن الجماعة فلا يستبعد أن تنوب الجماعة إذا تعذر وجوده لما ورد في الأثر موقوفاً على ابن مسعود "ما رءاه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" وقد صرح العلماء بأن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي عند عدمه وفي حالات نادرة في وجوده كما سنقف عليه.
وقد نص المالكية في باب أحكام زوجة المفقود على أن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي قال خليل في مختصره: "فصل ولزوجة المفقود الرفع للقاضي والوالي ووالي الماء و إلا فلجماعة المسلمين".
قال الحطاب وأما جماعة المسلمين فلا يصح ضربهم الأجل أي لزوجة المفقود إلا عند فقد من ذكر( القاضي - الوالي - ووالي الماء) ( مواهب الجليل 4/155)
وفى شرح المواق : (وقال القابسي وغيره من القرويين لو كانت المرأة في موضع لا سلطان فيه لرفعت أمرها إلى صالحي جيرانها ليكشفوا عن خبر زوجها ويضربوا لها أربعة أعوام ثم عدة الوفاة وتحل للأزواج لأن فعل الجماعة في عدم الإمام كحكم الإمام ) التاج والإكليل 4/156)
وقال الزرقاني عند قوله(فلجماعة المسلمين) من صالحي جيرانها وغيرهم العدول من معظم البلد لأنهم كالإمام الواحد كاف.( 4/211)(1/90)
وقال الدردير في الشرح الصغير على أقرب المسالك : "أو لجماعة المسلمين عند عدمه" ولو حكما كما في زمننا بمصر إذ لا حاكم فيها شرعي ويكفي الواحد من جماعة المسلمين إن كان عدلا عارفا شأنه أن يرجع إليه في مهمات الأمور بين الناس لا مطلق واحد وهو مجمل كلام العلامة الأجهوري وهو ظاهر لا خفاء به والاعتراض عليه تعسف.( 2/694)
والدردير في آخر كلامه يرد اعتراض البناني على قيام الواحد مقام القاضي وأصل كلام البناني للشيخ المسناوي.
ومثله فسخ البيع الفاسد انظر شرح ابن جماعة وكلام أبي الحسن الذي أشار إليه هو في كتاب المكاتب ونصه بعد أن ذكر عن أبي عمران أن المكاتب إذا بعث لسيده بكتابته فلم يقبلها لا يخرج عن الرق حتى يقضي عليه القاضي بذلك إلا أن يكون ببلد لا حاكم فيه فليشهد ويكون ذلك كالحكم.
الشيخ انظر جعل أبي عمران هذا الإشهاد مقام الحكم وكذلك في المحارب وكذلك في الهبات . وإذا ترك بنتا وعصبة ولا إمام.
وذكر ابن يونس في كتاب الحمالة أن جماعة العدول تقوم مقام الإمام.انتهى وقال البرزلي في أثناء مسائل الأقضية سئل السيوري عمن غاب إلى مصر وله زوجة لم يخلف لها نفقة إلا ما لا يفي بصداقها ( هكذا) وليس في البلد قاض وربما كان فيه أمين من قبله فحلف بالمشي إلى مكة أنه لا يحكم فيه ولا ينظر في طلاق وربما كان بين البلد والأمير نحو ثمانية أميال والخوف بينهم عام وربما انجلى الخوف وفي بعض الأوقات فهل تقوم الجماعة مقام القاضي في هذه النازلة وغيرها أو يجب على أمينه أن يحنث نفسه ويحكم أم لا ؟(1/91)
جوابها: لعدم القضاة أو لكونهم غير عدول فجماعتهم كافية في الحكم في جميع ما وصفته وفي جميع الأشياء فيجتمع أهل الدين والفضل فيقومون مقام القاضي في ضرب الآجال والطلاق وغير ذلك قال البرزلي قلت: تقدم أن الجماعة تقوم مقام القاضي إلا في مسائل تقدم شيء منها. وانظر مسائل السلم من البرزلي والجهاد من المشذالي وقد ذكر بعض كلامه في الوصايا وفي الأقضية شيء من ذلك والله أعلم ( مواهب الجليل 4/199)
وإذا كانت بعض الظواهر تفيد اعتبار الحاكم فقط دون العدول ( جماعة المسلمين) كقول خليل: "وفي إرسالها القول قولها إن رفعت من يومئذ لحاكم لا لعدول وجيران" فإنما ذلك مع وجود السلطان حيث يختلف العلماء في اعتبار العدول مع وجود السلطان كما يشير إليه النقل في هذه المسألة إذ يقول المواق عند النص المتقدم: وأما إن رفعت أمرها إلى عدول بلدها والثقات من جيرانها ولم ترفع أمرها إلى السلطان فإحدى الروايتين أن ذلك ليس بشيء وعلى هذه الرواية العمل وبها الفتيا وصوب الشيخ أبو الحسن الرواية الأخرى وأن رفعها إلى الجيران كرفعها إلى السلطان وكثير من النساء لا ترضى الرفع إلى السلطان وتراه معرة وفسادا مع زوجها إن قدم.
ابن عرفة الذي استمر عليه قضاة بلدنا أن الرفع إلى العدول كالرفع إلى السلطان.
ويقول ابن فرحون في كتابه "التبصرة" : تنعقد ولاية القضاء بإجماع ذوي الرأي وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء وهذا حيث لا يمكنهم مطالعة الإمام في ذلك.( 1/ 201 بحاشية نوازل عليش)
وفي المعيار للونشريسي ما نصه:"إذا لم يكن بالبلد قاض زوج صالحوا البلد من أراد التزويج".
وسئل أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي عن امرأة أرادت التزويج وهي ثيب ولا حاكم بالبلد وأولياؤها غيب ترفع أمرها إلى فقهاء البلد فيأمر من يزوجها وكيف إذا لم يكن بالبلد عالم ولا قاض أترفع أمرها إلى عدول البلد في البكر والثيب ؟(1/92)
فأجاب: إذا لم يكن بالبلد قاض فيجتمع صالحوا البلد ويأمرون بتزويجها.
" كل بلد لا سلطان فيه فعدول البلد وأهل العلم يقومون مقامه في إقامة الأحكام"
وسئل أيضا عن بلاد المصامدة ربما لم يكن عندهم سلطان وتجب الحدود على السراق وشربة الخمر وغيرهم من أهل الفساد هل لعدول ذلك الموضع وفقهائه أن يقيموا الحدود إذا لم يكن سلطان وينظرون في أموال اليتامى والغيب والسفهاء ؟
فأجاب بأن قال: ذلك لهم وكل بلد لا سلطان فيه أو فيه سلطان يضيع الحدود أو سلطان غير عدل فعدول الموضع وأهل العلم يقومون في جميع ذلك مقام السلطان.
وسئل أيضا عن بلد لا قاضي فيه ولا سلطان أيجوز فعل عدوله في بيوعهم واشريتهم ونكاحهم؟
فأجاب:بأن العدول يقومون مقام القاضي والوالي في المكان الذي لا إمام فيه ولا قاضي.
قال أبو عمران الفاسي : أحكام الجماعة الذين تمتد إليهم الأمور عند عدم السلطان نافذ منها كل ما جرى على الصواب والسداد في كل ما يجوز فيه حكم السلطان وكذلك كل ما حكم فيه عمال المنازل من الصواب ينفذ.(المعيار10/102-103)
وفي "الدر النثير" لأبن الهلال في باب الغصب أن جماعة العدول في البلاد السائبة تنوب عن السلطان حيث يتعذر الإنهاء إليه في كل حكم وكذلك إن كان السلطان غير عدل أو يضيع الحدود.
وفي كتاب "شكر النعمة بنشر الرحمة" للعلامة محمد مولود بن أحمد فال اليعقوبي عند كلامه على شروط تزويج اليتيمة : وفي شرط إثبات موجبات نكاحها عند قاض قولان ثم استطرد قائلا "تنبيه" إن فقد القاضي فالجماعة تقوم مقامه في كل شيء.)
وفي مجموع النوازل الموريتانية نوازل نصوا فيها على أن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي ومنها تطليق الناشز يقول ابن حمى الله الشنقيطي في نظمه للنوازل :
ولا يَحِلُ تَركُ نَاشِزِ عَلى *** عِصْيَانِهَا والزُّوجُ حَتْماً قَبِلا
فِدَاءَها بِمَا أَحَبَ مُمْكِنا *** إلا يُطَلِقَها عَلَيهِ الأُمَنا(1/93)
وقاعدة قيام الجماعة مقام الحاكم والقاضي معروفة في المذهب المالكي على اختلاف في دخولها في بعض النوازل.
وفي المذاهب الفقهية الأخرى إشارات نلتقط بعضها باختصار فمن ذلك قول العلامة أبي يعلى الفراء الحنبلي في الأحكام السلطانية: ولو أن بلدا خلا من قاض أجمعوا على أن قلدوا عليهم قاضيا نظرت فإن كان الإمام موجودا بطل التقليد وإن كان مفقودا صح ونفذت أحكامه.(الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص73)
ويقول ابن عابدين في الحاشية: وفي بلاد عليها ولاة كفار فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد ويصير القاضي قاضيا بتراضي المسلمين.( 3/253)
وقال قبل ذلك : ويتفرع على كونها دار حرب أن الحدود والقود لا يجري فيها.(نفس الصفحة)
فيفهم من كلامه أن من تراضى عليه المسلمون يمكن أن يحكم بينهم فيما سوى الحدود والدماء.
تطليق القاضي غير المسلم المرأة المسلمة:
إن هذه المسألة في كتب الفروع محسومة فغير المسلم ليس أهلا للحكم في شئون المسلمين لا قاضيا ولا حكما لقوله تعالى "وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً" والآية وردت بصورة الخبر ويراد به الأمر كما يقول الشاطبي وسلب أهلية القضاء والحكم عن غير المسلم أمر لا خلاف فيه فيما أعلم.(1/94)
ومع ذلك فإن أوضاع المسلمين في ديار غير المسلمين حيث لا يسمح بإنشاء محاكم إسلامية يتحاكمون أمامها وتخضع منازعاتهم بالكلية لقوانين قضاة البلد الذي يقيمون فيه تجعل حالهم مندرجا ضمن الضرورات التي لها أحكامها والتي تتخذ من المصالح معيارا للحكم والإمكان والاستطاعة أساسا للتكليف لقوله تعالى"فاتقوا الله ما استطعتم" ولهذا رأى المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء أن أحكام المحاكم غير المسلمة ينفذ بالطلاق لما يترتب على عدم ذلك من وجود حالة من التعليق يكون الرجل متمسكا بعصمة زوجته وتكون فيها المرأة مرسلة خارج بيت الزوجية مستندة إلى الحكم الصادر من المحكمة وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى وجعلوا في حيثيات القرار الذي استند إلى تقرير فضيلة الشيخ الفقيه فيصل مولوي أن الزوج بعقده للنكاح في ظل قوانين هذا البلد التي تسمح للقاضي غير المسلم بإيقاع الطلاق كأنه وَكَّلَ القاضي غير المسلم بحل العصمة بدلا منه وهي وكالة ممتدة طيلة بقاء النكاح بين الزوجين.
وفي هذا التخريج من البعد ما لا يخفى "فالأعم كما يقول العلماء لا أشعار له بأخصّ معين" فعقد النكاح في تلك البلاد قد يكون صاحبه ذاهلا وغافلا عن مسألة الطلاق فضلا عن أن يكون عاقدا توكيلا – فكل ما احتاج إلى إذن فإنه يحتاج إلى صريحه كما تقول القاعدة – أخذا من الحديث: الثيب تعرب.(1/95)
ومع ما تقدم فإن القول بإنفاذ الطلاق لا يبعد وذلك بإيجاب طلاق الزوجة على الزوج وعلى جماعة المسلمين أن يحكموا بهذا الطلاق حتى لا تظل الزوجة على معصية كما قدمنا عن المالكية في الزوجة الناشز درءا للمفسدة وتوسيعا لمفهوم إنفاذ أحكام قضاة الجور المسلمين المولّين من طرف الكفار ليشمل القضاة الكفار درءا للمفسدة التي أشار إليها العز بن عبد السلام في الحالة الأولى حيث قال: ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله جلبا للمصالح العامة ودفعا للمفاسد الشاملة إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها ممن هو أهل لها وفي ذلك احتمال بعيد.( القواعد 1/66)
وحيث يقول أيضا في الشهادة وهي صنو القضاء: بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة بل قدمنا أمثل الفسقة فأمثلهم و أصلحهم للقيام بذلك فأصلحهم بناء على أنا إذا أمرنا بأمر أتينا منه بما قدرنا عليه ويسقط عنا ما عجزنا عنه ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل وقد قال شعيب عليه السلام ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) وقال الله تعالى"فَـ?تَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" فعلق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة فكذلك المصالح كلها.( 2/219)(1/96)
وقال سيدي عبد الله الشنقيطي في " طرد الضوال والهمل عن الكروع في حياض العمل" : (فرع) شهادة اللفيف حيث وجد المستورون أما إذا كان أهل البلد كلهم فساقا فقد نقل القرافي في الذخيرة عن ابن أبي زيد إن لم يوجد في جهة إلا غير العدول أقيم أصلحهم وأقلهم فجورا للشهادة عليهم ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم لكيلا تضيع المصالح . قال وما أظن أنه يخالف أحد في هذا فإن التكليف مشروط بالإمكان . وفي المذهب لابن رشد أن الموضع إذا لم يكن فيه عدل قبلت شهادة أفضلهم ومثل هذا عن أحمد بن نصر.(ص25)
بل تجوز شهادة الكفار قال خليل المالكي في باب الخيار: وقبل للتعذر غير عدول وإن مشركين".
والكافر يشهد عند أبي حنيفة على مثله ويشهد في الوصية عند أحمد على المسلم بناء على قوله تعالى"أو آخران من غيركم" يراجع القبس (3/884)
وسبق كلام ابن عابدين في أن القاضي في دار الحرب يكون قاضيا بالتراضى بين المسلمين وأضاف : وعلى المسلمين أن يطلبوا منهم أن يعينوا لهم قاضيا .
وفي الختام: فقد القينا نظرة عجلى على وضع المسلمين في ديار غير المسلمين حيث تبين أن أوضاعهم أوضاع ضرورة بالمعنى العام لهذه الكلمة مما يقتضي اجتهاداً فقهياً بمعنى من معاني الاجتهاد الثلاثة المشار إليها وهو اجتهاد يستنفر النصوص والمقاصد والفروع والقواعد وقد رشحنا جملة من القواعد من خلالها يتعامل الفقيه مع قضايا فقه الأقليات وهي قواعد أساسها التيسير ورفع الحرج بضوابطه وشروطه وركزنا على الصق هذه القواعد بموضوع النازلة وهي قاعدة : إقامة جماعة المسلمين مقام القاضي.
باعتباره مستند تخويل المراكز الإسلامية صلاحية البت في قضايا التنازع بين الزوجين وبخاصة في دعوى الضرر وإيقاع الطلاق والخلع.(1/97)
وواصلنا حديثنا بكلمة عن أحكام التطليق والتفريق الصادر من قضاة غير المسلمين حيث اعتبرناها غير شرعية تصحح بأثر رجعي من طرف جماعة المسلمين تجنبا للحرج الديني وابتعادا عن المفاسد بحسب الإمكان.
ولما تقدم فإنه يجوز للمراكز الإسلامية وما في حكمها مما يعتبر مرجعا لجماعة المسلمين أن تقرر تطليق المرأة التي قد صدر لها حكم من محكمة غير إسلامية أو لم يصدر لها حكم ورفع الزوجان أمرهما إليها.
الفصل الثالث: أمثلة لمسائل من فقه الأقليات
المثال الأول: حكم إقامة الأقلية المسلمة في ديار الأكثرية غير المسلمة.
أولاً: اعلم أن تعريف الدار أمر مختلف فيه بين من يرى "أن دار الإسلام هي كل بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة". كما في البدائع والصنائع.
أو "دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام" حسب تعريف ابن القيم ناسباً للجمهور.
فهل العبرة بالأحكام أم بالسكان ؟ وهل العبرة بجريان الأحكام في وقت من الأوقات حتى ولو احتلها الكفار كما يراه الشافعي ؟
وما هو نوع الأحكام هل هي الأحكام السلطانية من حدود وغيرها أم يكفي أن تقام الشعائر ؟
وهل تكون الدار مركبة إذا كان للكفار السلطان مع إسلام السكان كما يراه شيخ الإسلام ابن تيمية ؟
لعلي أعفي القارئ من هذه الخلاف العريض الذي لا يوجد فيه دليل حاسم لأقول:
إن دار الإسلام هي كل دولة أكثر سكانها من المسلمين وحكامها مسلمون حتى ولو كانوا لا يطبقون بعض الأحكام الشرعية.
ودار غير المسلمين هي كل دولة أكثر سكانها غير مسلمين وحكامها غير مسلمين.
والدار المركبة تتمثل في الدول الفدرالية فيها مسلمون وغير مسلمين. تحتفظ كل ولاية منها بسلطة سن القوانين. كما في نيجريا.(1/98)
إذا كان الأمر ذكر فمسألة الإقامة قد اختلف فيها العلماء فذهب المالكية وابن حزم من الظاهرية في المحلى إلى أنه لا تجوز إقامة المسلم في دار غير المسلمين سواء خشي الفتنة أم لم يخشها لعدة أحاديث أصحها و أصرحها حديث الترمذي وأبي داود وفيه مقال " أَنَا بَرِيءُ مِنْ كُلَّ مُسْلِمِ يُقِيمُ بَيْنَ أظْهُرِ المُشْرِكِينْ ". حتى قال ابن حزم من دخل إليهم لغير جهاد أو رسالة من الأمير فإقامة ساعة إقامة . "أي حرام".
ومالك رحمه الله تعالى له رأي خاص في مسألة الإقامة في دار المعصية حتى أنه لا يجيز الإقامة ببلد يسب في الصحابة أو السلف الصالح.
ومن جهة المعقول أن المسلم يعرض نفسه للهوان ويشاهد المناكر.
والقول الثاني: قول جمهور الفقهاء وهم الأحناف والحنابلة والشافعية حيث أباحوا الإقامة للقادر على إظهار دينه الذي تتوفر له الحماية.
حيث قال الشافعية: أو قدر على الامتناع والاعتزال ثمَّ، ولم يرج نصرة المسلمين بالهجرة كان مقامه واجباً لأن محله دار الإسلام فلو هاجر لصارت دار حرب.( نهاية المحتاج8/ )
ودليلهم كما يقول الشافعي أن النبي عليه الصلاة والسلام أذن لقوم أسلموا بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم منهم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
وقال ابن حجر نقلا عن الماوردي: إذا قدر المسلم على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت للبلد به دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يرتجى من دخول غيره في الإسلام.( فتح الباري 7/230)
وإسلام النجاشي وبقاؤه في قومه وقوله عليه الصلاة والسلام عنه " مَاتَ اليَوْمَ رَجُلُ صَالِحُ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلى أَخيكُمْ أََصْحَمَةَ." كما في البخاري .
وهذا الخلاف إنما هو إذا كان المسلم قادراً على إظهار شعائر دينه وممارسة عبادته.(1/99)
أما إذا كان المسلم معرضاً للفتنة في دينه ومدعو للانسلاخ منه بالكلية فيجب عليه الفرار بدينه من تلك الديار إلى دار الأمن والأمان إذا وجد دار إسلام فذلك المطلوب وإلا فدار كفر لا يفتن فيها عن دينه.
ومع ما تقدم من تفصيل الحالتين حالة الأمن على إظهار الدين الذي قال فيه بعض الشافعية بوجوب البقاء وقال فيه البعض الآخر بأن البقاء أفضل.
وحالة خوف الفتنة في الدين والحمل على الخروج من الدين وهي حالة لا رخصة فيها وتجب فيها الهجرة فإن الجمهور يستحبون للمسلم أن يهجر دار الكفر كما يظهر من مراجعة المبسوط والمعيار والمجموع والمغنى وفتح الباري.
ويتأكد طلب الخروج من ديارهم إذا كان لا يستطيع تربية أبنائه تربية إسلامية أو كان بيته مهدداً بالتحلل الأخلاقي ووجد سبيلاً إلى الإقامة في بلد إسلامي فيه بقية من الأخلاق.
فالعبرة في الموازنة بين البلدان من حيث الصلاح والفساد انظر مغنى المحتاج.(4/284)
والمسألة في بقاء المسلم في ديار غير المسلمين ترجع إلى قاعدة التيسير وتنزيل الحاجات والمشقات منزلة الضرورات وهي القواعد التي أشرنا إليها فعلى المسلم أن يقدر ضروراته وحاجاته بقدرها كما أن "العولمة" وانفتاح العالم بعضه على بعض لها تأثير على تقدير الحاكم.
وجاء في العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة: وإذا كانت المصلحة العائدة على طائفة المسلمين ببقائه ظاهرة كأن يكون له مدخل في بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب أن يبقى.
وسيأتي مزيد بيان في فتاوى المجلس الأوربي.
أما الجنسية فهي فرع عن الإقامة ويعرض لها ما يعرض للإقامة من عوارض التحريم عند الخوف من الخروج من الدين عليه أو على أولاده إذا وجد بلداً لا فتنة فيه.
أو الكراهة إذا كان لا يخاف الكفر إلا أنه يشاهد المناكر ويجد بلداً أقل مناكر.
أو الجواز عند التساوي.
أو الوجوب عندما توجد مصلحة قوية للإسلام والمسلمين في بقائه أو تحصل مفسدة في انتقاله.(1/100)
أو الاستحباب عندما يقوم بالدعوة إلى الدين مع وجود غيره من الدعاة.
وهي أمور تحتاج إلى تحقيق المناط والنظر في المآلات التي أشرنا إليها في جملة القواعد الآنفة الذكر.
المثال الثاني : ما هو تأثير المكان على أحكام التكليف؟ وبعبارة أخرى هل الدار موطن رخصة فتبيح المحظور وتسقط الواجب وترجح من الخلاف ؟
هذا السؤال يشتمل على شقين أولهما تأثير الدار في إباحة بعض المحظورات وفي أحكام التكليف بصفة عامة.
وللعلماء في هذه المسألة مذهبان :
مذهب الجمهور وهو أن المكان لا تأثير له في أحكام التكليف وأن العزائم والرخص متساوية في دار الإسلام ودار غير المسلمين وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد في الصحيح من مذهبيهما ولا يعرف فيه خلاف كبير عن الصحابة سوى ما نقل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وقد عبر الشافعي عن هذا الاتجاه بعبارات واضحة قوية حيث قال: ومما يوافق التنزيل والسنة ويعقل المسلمون ويجتمعون عليه أن الحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر فمن أصاب حراما فقد حده الله على ما شاء منه ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً.( الأم 4/165)
وذهب الجمهور إلى هذا بناء على عموم النصوص وعدم تخصيصها في الزمان يدل على عدم تخصيصها في المكان.
ذكر القرافي في الفرق التاسع والسبعين والمائة : بين قاعدة معاملة أهل الكفر وقاعدة معاملة المسلمين" قول مالك أكره معاملة المسلم بأرض الحرب للحربي بالربا وجوز أبوحنيفة الربا مع الحربي لقوله عليه السلام: لا رِبَا بَيْنَ مُسْلِمِ وحَرْبِي".
"لا رِبَا إِلا بَيْنَ المُسْلِمينَ". والحربي ليس بمسلم.
ووافقنا الشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم أجمعين لأن الربا مفسدة في نفسه فيمتنع من الجميع ولأنهم مخاطبون بفروع الشريعة لقوله تعالى(وحرم الربا) وعموم نصوص الكتاب والسنة يتناول الحربي.
قال اللخمي وغيره : إذا ظهر الربا بين المسلمين فمعاملة أهل الذمة أولى.(1/101)
وعلل ذلك بأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة على أحد قولي العلماء.
أما المذهب الثاني فيرى تأثير المكان في الأحكام. فبعض المعاملات التي تحرم في بلاد المسلمين تجوز في ديار غير المسلمين.
وهذا مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وسفيان الثوري وإبراهيم النخعي وهو رواية عن أحمد وقول عبد الملك بن حبيب من المالكية.
وقد عبر عن هذا الاتجاه بعبارات واضحة الحاكم الحنفي في كتابه "الكافي" حيث قال : وإن بايعهم - غير المسلمين بدار غير المسلمين - الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة أو بايعهم بالخمر والخنزير والميتة فلا بأس بذلك لأن له أن يأخذ أموالهم برضاهم في قولهما - أبي حنيفة ومحمد بن الحسن - ولا يجوز شيء من ذلك في قول أبي يوسف.(ابن عابدين الحاشية 3/248)
ولا نتردد في كون هذا مذهب أبي حنيفة في ديار غير المسلمين بإطلاق ونتوقف مع إطلاق دار الحرب فالحكم عندهم لدار غير المسلمين وإن كانت دار موادعة.
فقد قال السرخسي إن الدار بالموادعة لا تصير دار إسلام وذكر نقولاً عن أبي عبيد في كتابه " الأموال" يجيز معاملات غير مشروعة في دار الموادعة مما يدل على أن مفهوم دار الحرب هي دار غير المسلمين.
وكذلك لا تردد في مسألة أن تكون الزيادة للمسلم شرطاً في جواز المعاملة كما ذكره متأخروا الأحناف بل العبرة أن يكون المسلم منتفعاً سواء كانت الزيادة له أو لغيره كما يدل عليه كلام الإمام محمد في السير الكبير في قضية "ضع وتعجل".
أدلة هذا المذهب:
ما قدمناه من مرسل مكحول و حديث جابر بن عبد الله أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع : " ألا إنَّ كُلَّ رباً كَانَ فِي الجَاهِليَّةِ فَهْو مَوضُوعُ وأَولُ رِباً يُوضَعُ رِبَا العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ.(رواه أبو داود في المناسك ؟)(1/102)
وفي هذا ما يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلماً إما من قبل بدر - على ما ذكره ابن إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - لمّا أسر يوم بدر وأمره أن يفتدي فقال له إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالك إلا كرهاً فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم -:" أَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا فَافْدِ نَفْسَكَ". أو من قبل يوم فتح خيبر – كما ذكره ابن إسحاق على ما دل عليه حديث الحجاج بن علاط من إقراره للنبي – صلى الله عليه وسلم - بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرماً على ما روي أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - أتي بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده. وقال الذهب بالذهب وزناً بوزن. ( أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/292)
فلمّا لم يردَّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم - ما كان من رباه بعد إسلامه - إما من قبل بدر أو من قبل خيبر- إلى أن ذهبت الجاهلية بمكة وإنما وضع منه ما كان قائما لم يقبض دل ذلك على إجازته إذ حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا أسلموا.
وحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلماً حين فتح خيبر.(1/103)
هو ما روى أنس بن مالك عنه أنه قال للنبي –صلى الله عليه وسلم - حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلاً ومالاً وقد أردت أن آتيهم فإن أذنت لي أن أقول فعلت فأذن له رسول الله –صلى الله عليه وسلم - في ذلك فأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا وأني جئت لآخذ مالي فأبتاع من غنائمهم ففرح بذلك المشركون واختفى من كان بها من المسلمين فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له ويحك ما جئت به ؟ فما وعد الله به ورسوله خير مما جئت به فقال له اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي معه بيتاً فإن الخبر على ما يسره فلمّا أتاه الغلام بذلك قام إليه فقبل ما بين عينيه.ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلا به في بعض بيوته وأخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد فتحت عليه خيبر وجرت فيها سهام المسلمين واصطفى رسول الله –صلى الله عليه وسلم - منها صفية لنفسه وأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أباح له أن يقول ما شاء ليستخرج ماله وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثاً حتى يخرج ففعل فلمّا أخبر بذلك بعد خروجه فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من كآبة على المشركين والحمد لله رب العالمين. ( أخرجه ابن حبان ونقلته بالمعنى واختصرت منه كثيراً لطوله وبالله التوفيق).
واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث ثور بن زيد الديلي أنه قال بلغني أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - قال: أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية و أيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام".( أخرجه مالك في الموطأ).
وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه : فقال أشهب والمخزومي هو له حلال سائغ بمنزلة ما لو كان قبضه وقال ابن دينار وابن أبي حازم يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا وأكثر مذاهب أصحابنا على قول أشهب والمخزومي.( ابن رشد المقدمات 2/11)(1/104)
ابن تيمية في المحرر حيث قال : الربا محرم في دار الإسلام والحرب إلا بين مسلم وحربي لا أمان بينهما.( المحرر 1/318)
كما ورد ذكره كذلك عن آخرين من علماء الحنابلة كما ورد عن بعض علماء المالكية القول بكراهية ذلك وعدم تحريمه ففي البيان والتحصيل لابن رشد الجد قوله : وكذلك الربا مع الحربي في دار الحرب مكروه وليس بحرام لأنه لمّا جاز له أن يأخذ من ماله ما لم يؤتمن عليه لم يحرم عليه أن يربي معه فيه وكره من أجل أنه لم يأخذه على الوجه الذي أبيح له أخذ ماله وإنما أخذه بما عامله عليه من الربا. (البيان والتحصيل 17/291)
وقد روي عن أحمد أنه قال: لا يحرم الربا في دار الحرب.( الفروع لابن مفلح 4/147)
في الدر المختار: وحكم من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي فللمسلم الربا معه خلافاً لهم.( الحاشية 5/186)
وفي بدائع الصنائع للكاساني عند حديثه عن شرائط جريان الربا قال : ومنها: أن يكون البدلان متقومين شرعاً وهو أن يكونا مضمونين حقاً للعبد فإن كان أحدهما غير مضمون حقا للعبد لا يجري فيه الربا وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب فبايع رجلا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة وعندهما لا يجوز لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده.(بدائع الصنائع 5/192)
يقول السرخسي في المبسوط : وإن بايعهم المستأمن إليهم الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة أو بايعهم في الخمر والميتة والخنزير فلا بأس بذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يجوز شيء من ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله لأن المسلم ملتزم أحكام الإسلام حيثما يكون ومن حكم الإسلام حرمة هذا النوع من المعاملة.(المبسوط10/95)(1/105)
وفي هذه المسألة قرار المجلس الأوربي بإجازة اشتراء البيوت بالقروض البنكية وهو يندرج في قاعدة رفع الحرج وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة لترجيح القول الضعيف كما أشرنا إليه في ضوابط الحاجة من هذا الكتاب.
المثال الثالث: العلاقات الإنسانية وحسن التعامل في نصوص مختصرة تحكمها آية سورة الممتحنة "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم".
والبر والقسط في غاية حسن التعامل ففي مسند الطيالسي عن هشام بن عروة عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسول الله إِنَّ أُمِي أَتَتْنِي فِي عَهْدِ قُرَيْشِ وهْيَ رَاغِبَةُ مُشْرِكَةُ أَفَأَصِلُهَا قَالَ: نَعَمْ صِلِى أُمَكِ:".
وحديث الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قالَ لِي رَسُولُ الله –صلى الله عليه وسلم - ": اتَّقِ اللهَ حَيْثُ مَا كُنْتَ وَأَتْبعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".
فبالنسبة للعوائد والتقاليد فإن لابن تيمية كلاماً يعتبر معياراً لما يمكن أن يسلكه المقيم في دارهم من موافقتهم في سلوكه الظاهر مما ليس مخالفاً للدين ولا هادماً لركن من أركانه.
وبعد أن قرر: أن المخالفة لهم "للكفار" لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه ...
قال: ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه من الضرر. بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والإطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة .( اقتضاء الصراط المستقيم 176- 177 )
وهذا الكلام يندرج في إطار تأصيل ابن تيمية لقاعدة مخالفة الكفار في الدين.(1/106)
ويمكن أن نعتبر أن الملابس الأفرنجية والقبعات والنعال وغيرها من هذا الهدي الظاهر ولا ينبغي أن نتوسع في ذلك لارتكاب محرم منصوص.
وكذلك يمكن أن يسمح للمرأة في الغرب بوصل شعرها بغير شعر الآدمي عملا بمذهب أبي حنيفة.
وقد جعل بعضهم منه عدم تحريم حلق اللحية في الغرب بناء على قول قوي للشافعية بالكراهة فهو قول النووي وهو قول عياض من المالكية خلافاً للجمهور إذا دعت إليه الحاجة.
مسألة الآداب:
في الإنصاف للمرداوي: قوله ( وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم: روايتان) .
وأطلقهما في الهداية والمذهب ومسبوك الذهب والمستوعب والخلاصة والكافي والمغني والشرح والمحرر والنظم وشرح ابن منجا.
إحداهما: يحرم وهو المذهب صححه في التصحيح وجزم به في الوجيز وقدمه في الفروع .
والرواية الثانية:لا يحرم فيكره وقدمه في الرعاية والحاويين في باب الجنائز ولم يذكر التحريم.
وذكر في الرعايتين والحاويين رواية بعدم الكراهة فيباح وجزم به ابن عبدوس في تذكرته .
وعنه: يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه اختاره الشيخ تقي الدين ومعناه: اختيار الآجري وأن قول العلماء يعاد ويعرض عليه الإسلام.
قلت: هذا هو الصواب وقد عاد النبي –صلى الله عليه وسلم - صبيا يهودياً كان يخدمه وعرض عليه الإسلام فأسلم .
نقل أبو داود : أنه إن كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام فنعم .
وحيث قلنا: يعزيه فقد تقدم ما في تعزيتهم في آخر كتاب الجنائز ويدعو بالبقاء وكثرة المال والولد.
زاد جماعة من الأصحاب منهم صاحب الرعايتين والحاويين والنظم وتذكرة ابن عبدوس وغيرهم – قاصداً كثرة الجزية.
قال الشافعي : ولا أصل لإلباس الذمي لبساً مميزاً.
المثال الرابع: مسألة استحالة العين وتسمى بانقلاب العين.(1/107)
مسألة الأدوية والأغذية المشتملة على مواد حيوانية نجسة لأنها من أصل ميتة أو خنزير أو خمر بناء على قاعدة انقلاب العين تطهر هذه المواد كما أن ما لا تحله الحياة من الميتات طاهر فالأنفحه وعظام الميتة وعصبها كلها طاهرة والأنفحة هي المادة الغليظة التي تكون في الكرش
(قوله ويطهر زيت الخ) قد ذكر هذه المسألة العلامة قاسم في فتواه وكذا ما سيأتي متنا وشرحا من مسائل التطهير بانقلاب العين وذكر الأدلة على ذلك بما لا مزيد عليه وحقق ودقق كما هو دأبه رحمه الله تعالى فليراجع ثم هذه المسالة قد فرعوها على قول محمد بالطهارة بانقلاب العين الذي عليه الفتوى واختاره أكثر المشايخ خلافا لأبي يوسف كما في شرح المنية والفتح وغيرهما و عبارة المجتبي جعل الدهن النجس في صابون يفتي بطهارته لأنه تغير و التغير يطهر عند محمد ويفتي به للبلوى.
وظاهره أن دهن الميتة كذلك لتعبيره بالنجس دون المتنجس إلا أن يقال هو خاص بالنجس لأن العادة في الصابون وضع الزيت دون بقية الأدهان تأمل ثم رأيت في شرح المنية ما يؤيد الأول حيث قال وعليه يتفرع ما لو وقع إنسان أو كلب في قدر الصابون فصار صابونا يكون طاهرا لتبدل الحقيقة.
ثم اعلم أن العلة عند محمد هي التغير وانقلاب الحقيقة وأنه يفتي به للبلوى كما علم مما مر ومقتضاه عدم اختصاص ذلك الحكم بالصابون فيدخل فيه كل ما كان فيه تغير وانقلاب حقيقة وكان فيه بلوى عامة فيقال كذلك في الدبس المطبوخ إذا كان زيته متنجساً ولاسيما أن الفار يدخله فيبول ويبعر فيه وقد يموت فيه.(1/108)
وقد بحث كذلك بعض شيوخ مشايخنا فقال وعلى هذا إذا تنجس السمسم ثم صار طحينة يطهر خصوصا وقد عمت به البلوى وقاسه على ما إذا وقع عصفور في بئر حتى صار طينا لا يلزم إخراجه لاستحالته قلت لكن قد يقال إن الدبس ليس فيه انقلاب حقيقة لأنه عصير جمد بالطبخ وكذا السمسم إذا درس واختلط دهنه بأجزائه ففيه تغير وصف فقط كلبن صار جبنا وبر صار طحينا وطحين صار خبزا بخلاف نحو خمر صار خلا وحمار وقع في مملحة فصار ملحا وكذا دردي خمر صار طرطيراً وعذرة صارت رمادا أو حمأة فإن ذلك كله انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى لا مجرد انقلاب وصف كما سيأتي و الله أعلم.
- وانقلاب العين يعبر عنه بالاستحالة والاستحالة استفعالة من حال يحول إذا تغير أو انقلب أو زال أصلها استحوال بوزن استفعال أُعلت عينه بحذف حرف العلة وهو الواو وهو عين الفعل وعُوضت عنه بتاء التأنيث فصارت استحالة قال ابن مالك في اللامية :
ما عَيْنُه اعْتَلَتِ الإفعالُ منه والاستفعالُ بالتَّا وتَعويضُ بها حَصَلا
من المُزالِ.....................
وشرعاً: تغير يحصل في العين النجسة يؤدي إلى زوال أعراضها وتبدل أوصافها يزول بسببه الاسم الأول لزوال الصفات القديمة.
وهي من المطهرات لأنها أزالت العلة التي لأجلها وقع التحريم اتفاقا عند الأحناف والزيدية والظاهرية وأبي محمد بن حزم وعلى المشهور عند المالكية وعلى إحدى الروايتين عند الإمام أحمد.
وقد قطع شيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة على أنها مطهرة لا فرق في ذلك بين الاستحالة الواقعة من الله ابتداء وبين الواقعة بكسب إنسان كما سيراه القارئ الكريم إن شاء الله تعالى.
-إذا حرق إنسان نجاسة حتى صارت رماداً فإن هذا الرماد يصبح طاهراً على المعتمد عند العلماء في المذهب المالكي وإذا كان هذا الرماد طاهراً ترتب على ذلك جواز حمله في الصلاة وفي الطواف وجواز تناوله إذا لم يكن فيه إضرار بالصحة وبالأحرى إذا خُلط بطعام آخر.(1/109)
-قال البناني في الخمر : فإذا انقلبت خلا انقلبت سائر الأجزاء التي دخلته فزال حكم النجاسة.( البناني حاشية على الزرقاني 1/28)
- قال الزرقاني على خليل : إذا كانت النجاسة ذاتية وتغيرت أعراضها جرى فيها قولان والمشهور الفرق بين ما استحال إلى صلاح كالبيض واللبن وما استحال إلى فساد فلا يطهر.( نفس المصدر 1/24)
- واستدل بحديث ابن أبي شيبة بسنده إلى أبي الدرداء رضي الله عنه في المريّ يجعل فيه الخمرة قال : لا بأس به ذبحته النار والملح.
- وجاء في الذخيرة قاعدة تبين ما تقدم وهي : أن الله تعالى إنما حكم بالنجاسة في أجسام مخصوصة بشرط أن تكون موصوفة بأعراض مخصوصة مستقذرة و إلا فالأجسام كلها متماثلة واختلافها إنما وقع بالأعراض فإذا ذهبت تلك الأعراض ذهاباً كلياً ارتفع الحكم بالنجاسة إجماعاً كالدم يصير منيّاً ثم آدميا …( الذخيرة 1/180)
وذكر ابن رجب الحنبلي في قواعده في الكلام على طين الطريق المختلط بالنجاسة بعد بحث طويل... والثاني: الاستحالة وفي المذهب خلاف يُبنى عليه طهارة الطين إذا بقيت فيه عين النجاسة ثم استُهلكت فيه حتى ذهب أثرها. (قواعد ابن رجب 1/334)
وهذا الفرع يوافق عليه المالكية قال في المختصر مشبهاً في العفو:" طين مطر وإن اختلطت العذرة بالمصيب لا إن غلبت وظاهرها العفو.( يعنى ظاهر المدونة) .
جاء في حاشية ابن عابدين على الدر المختار معلقا على ما جاء في رد المحتار من قول صاحب : والمسك طاهر حلال وكذا نافجته مطلقاً على الأصح . قال : لاستحالته إلى الطيبة لأنه وإن كان دماً فقد تغير فيصير طاهراً كرماد العذرة. وقال: والمراد بالتغيير الاستحالة إلى الطيبة وهي من المطهرات عندنا.( الدر المختار1/209)(1/110)
كذلك أومأ ابن قدامة إلى هذه العلة في المغنى بقوله في الكلام على دبغ جلد الميتة بعد أن ذكر القول الأول بأنه : لا يطهر عندهم قال : والثاني : يطهر لقوله –صلى الله عليه وسلم -:" أََيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ". ولأنه طهر بانقلابه فلم يفتقر إلى استعمال الماء كالخمر إذا انقلبت خلا.( المغنى 1/59-60)
ثم قال العلامة ابن تيمية : وأما دخان النجاسة فهذا مبني على أصل وهو : أن العين النجسة الخبيثة إذا استحالت حتى صارت طيبة كغيرها من الأعيان الطيبة مثل : أن يصير ما يقع في الملاحة من دم وميتة وخنزير ملحاً طيباً كغيرها من الملح أو يصير الوقود رماداً ونحو ذلك .. ففيه للعلماء قولان:
أحدهما: لا يطهر كقول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب مالك وهو المشهور عن أصحاب أحمد وإحدى الروايتين عنه.
والرواية الأخرى: أنه طاهر وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك في أحد القولين وإحدى الروايتين عن أحمد ومذهب أهل الظاهر وغيرهم.
وهذا هو الصواب المقطوع به فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظاً ولا معنى فليست محرمة ولا في معنى المحرم فلا وجه لتحريمها بل تتناولها نصوص الحلِّ .. فهي من الطيبات وهي أيضا في معنى ما اتفق على حله.
فالنص والقياس يقتضى تحليلها.
ثم قال: وأيضا فإن الله تعالى حرم الخبائث لما قام بها من وصف الخبث كما أنه أباح الطيبات لما قام بها من وصف الطيب وهذه الأعيان المتنازع فيها ليس فيها شيء من وصف الخبث وإنما فيها وصف الطيب.(الفتاوى21/ 70)
وهذا التعليل الذي علل به واضح لا غبار عليه وعليه تواطأ العلماء كالقرافي وغيره وزاد ابن تيمية ما يؤيده فقال: إن الاستقراء دلنا على أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس مثل: جعل الخمر خلا والدم منياً والعلقة مضغة ولحم الجلالة الخبيث طيباً فإنه يزول حكم التنجيس وتزول حقيقة النجس لا تمكن المنازعة في هذا.
المثال الخامس: قضية حجاب المرأة المسلمة.(1/111)
اعلم أن ستر المرأة لشعر رأسها واجب لقوله تعالى: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها".
وهذا النهي من نهي الوسائل والذرائع والنهي هنا يدل على الأمر بستر غير ما ظهر من الزينة.
فالستر واجب لغيره وكشف شعر الرأس حرام لأن شعر المرأة عورة كسائر جسدها على الصحيح.
وقد قال ابن عاشور في تفسيره: وقد فسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر. (التحرير والتنوير 18/207).
وشعر المرأة عورة مخففة في الصلاة خاصة عند مالك فلو كشفت المرأة عن شعرها ندب لها أن تعيد في الوقت.
ومعلوم أن النواهي ليست في مرتبة واحدة وكذلك الأوامر قال الشاطبي:
وبهذا الترتيب يعلم أن الأوامر في الشريعة لا تجرى في التأكيد مجرى واحدا وإنها لا تدخل تحت قصد واحد فإن الأوامر المتعلقة بالأوامر الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية ولا الأمور المكملة للضروريات أنفسها بل بينها تفاوت معلوم بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات والحاجيات كذلك.(الموافقات3/209)
وبناء على هذا التفاوت في مراتب النهي ومراتب الأمر فقد رتب العلماء على ذلك نتائج عملية وهى أن النهي إذا كان نهي المقاصد ومعناها أن المنهي عنه يتضمن المفسدة التي من أجلها نهى الشارع عنه فهذا لا يباح إلا لضرورة قصوى وذلك كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير.
وإذا كانت مرتبة النهي متدنية بأن كان نهي الوسائل والذرائع التي لا تتضمن في نفسها المفسدة ولكنها وسيلة فهذا تبيحه الحاجة وهى مشقة وسطى كما نص عليه ابن القيم وهو يتكلم عن ربا الفضل وربا النسيئة : إن تحريم هذا من تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يبح من ربا النسيئة شيء.(إعلام الموقعين 2/117).(1/112)
وقال القرافي: الأحكام على قسمين مقاصد وهى المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ووسائل وهى الطرق المفضية وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد.(الفروق 2/33)
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وعلى المقاصد انبت أحكام الشريعة وبالمصالح أرتبطت.(القبس 3/1037)
ووضع المشقة له حكمه في الكشف عن أجزاء من البدن فقد جاء في الحديث الصحيح في معركة أحد عن أنس رضي الله عنه قال لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبى بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب. وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتقرغانه في أفواه القوم.( رواه البخاري ).
الفتاوى
حكم كشف المرأة المسلمة عورتها أمام غير المسلمة
أجاب المجلس عن سؤال حول عورة المسلمات أمام غير المسلمات واشتراكهن في مسبح آمن خاص بهن، بأنه لا مانع من هذا الاشتراك وأن عورة المسلمة تجاه غير المسلمة هي كعورة الرجل أمام الرجل، أي من السرة إلى الركبة، على ما هو المذهب المعتمد عند الحنابلة وقول صحيح في المذاهب الثلاثة. ويوصي المجلس الأخوات الصالحات بالحرص على غض البصر عما يظهر من العورات وعلى أن يتخذن من بينهن من تدربهن على السباحة، ونظراً لما بدا من حرص هؤلاء النسوة غير المسلمات على صورة من صور الحشمة في الابتعاد عن خلطة الرجال في هذا الموضع، فإن على المسلمات الاستفادة من ذلك في دعوتهن إلى الإسلام وقيمه.
السؤال:هل يحل لبس المعطف المصنوع من جلد الخنزير؟
الجواب:ما يتخذ من جلد الخنزير بعد دباغته هل يدخل في حكم الجلد النجس، أم يطهر بالدباغ؟(1/113)
الذي تدل عليه الأدلة أن جميع الجلود النجسة تطهر إذا دبغت؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس)، وفي رواية: " أََيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" (رواه الترمذي)، فأفاد هذا الحديث بروايتيه أن الدباغ مطهر لجلد ميتة كل حيوان، وذلك أن لفظ (أي) و(إهاب) لفظان عامان، فيشمل كل إهاب، ولم يأت من ذلك استثناء خنزير أو ميتة.
وعليه فلا حرج في استخدام جلد الخنزير المدبوغ في اللباس ونحوه.
تعليق:
قلت : حديث الترمذي رواه النسائي وابن ماجه ومذهب جماهير العلماء استثناء جلد الخنزير من الطهارة بالدبغ لأنهم حملوا الإهاب في الحديث على ما تنفع فيه الذكاة لو ذكي خلافاً لرواية عن أبي يوسف ذكرها في المنية (تراجع الحاشية ابن عابدين)
وقد أشار الزرقاني إلى وجود قول ضعيف في مذهب مالك بطهارته بالدباغ وهو قول الإمام عبد المنعم بن الفرس من أن جلد الخنزير كغيره يطهر بالدبغ في اليابس والماء.(يراجع تعليق الصاوي على الشرح الصغير)
كما أن طهارة الخنزير بالدبغ هو مذهب داود وأهل الظاهر ورجحه الشوكاني في نيل الأوطار بناء على عموم الأحاديث.
قلت : ينبغى تقييد استعماله بالحاجة لقوة المعارض.
نقل الأعضاء:
1. حكم نقل الأعضاء وحالاته:
( أ ) يؤكد المجلس قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة "التابع لرابطة العالم الإسلامي".
وقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة "المنبثق عن منظمة المؤتمر العالم الإسلامي" رقم 26 (1/4) بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً كان أو ميتاً, ونصه:
من حيث التعريف والتقسيم:
أولاً: يقصد هنا بالعضو أي جزء من الإنسان, من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها, كقرنية العين. سواء أكان متصلا به, أم انفصل عنه.(1/114)
ثانياً: الانتفاع الذي هو محل البحث, هو استفادة دعت ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة, أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعاً.
ثالثاً: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية:
1- نقل العضو من حي.
2- نقل العضو من ميت.
3- النقل من الأجنة.
الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي, تشمل الحالات التالية:
أ - نقل العضومن مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه, كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها.
ب - نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه.
أما ما تتوقف عليه الحياة, فقد يكون فردياً, وقد يكون غير فردي, فالأول كالقلب والكبد, والثاني كالكلية والرئتين.
وأما ما تتوقف عليه الحياة, فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائياً كالدم, ومنه ما لا يتجدد, ومنه ما له تأثير على الأنساب والمورِّثات, والشخصية العامة, كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي, ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك.
الصورة الثانية : وهي نقل العضو من ميت:
ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين:
الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه طبياً.
الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفاً تاماً لا رجعة فيه طبياً. وقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة:
الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة, وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات:
حالة الأجنة الني تسقط تلقائياً.
حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي.
حالة "اللقائح المستنبتة خارج الرحم".
من حيث الأحكام الشرعية:(1/115)
أولاً: يجوز نقل العضو من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه, مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها, وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له, أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً.
ثانيا: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر, إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً, كالدم والجلد, ويراعى في ذلك كون الباذل كامل الأهلية, وتحقق الشرعية المعتبرة.
ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر, كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية.
رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان إلى إنسان آخر.
خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، كنقل قرنية العينين كلتيهما, أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.
سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو, أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك, بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته, أو بشرط موافقة وليّ أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له.
سابعاً: وينبغي ملاحظة: أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها, مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو، إذ لا يجوز إخضاع الإنسان للبيع بحال ما.
أما بذل المال من المستفيد, ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً, فمحل اجتهاد ونظر.
ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة, مما يدخل في أصل الموضوع, فهو محل بحث ونظر, ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة, على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية.(1/116)
(ب) يؤكد المجلس أيضاً قرار مجمع الفقه الاسلامي الدولي بجدة رقم 57(8/6) بشأن زراعة الأعضاء التناسلية, ونصه:
أولاً :زرع الغدد التناسلية : بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية ( الشفرة الوراثية ) للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلقّ جديد، فإن زرعهما محرم شرعاً.
ثانيا : زرع أعضاء الجهاز التناسلي :زرع بعض أعضاء الجهاز التناسلي التى لا تنقل الصفات الوراثية – ما عدا العورات المغلظة - جائز لضرروة مشروعة وفق الضوابط والمعايير الشرعية المبينة في القرار رقم 26 (1 \ 4 ) لهذا المجمع، والله أعلم.
(ج) يؤكد المجلس أيضاً قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة رقم 54 ( 5\6 ) بشأن زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي ونصه :
أولاً: إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه وفيه ميزة القبول المناعي؛ لأن الخلايا من الجسم نفسه فلا بأس من ذلك شرعاً.
ثانياً: إذا كان المصدر هو أخذها من جنين حيواني فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية.
وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان، ومن المأمول نجاحها باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي.
ثالثاً : إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر (في الأسبوع العاشر أو الحادي عشر) فيختلف الحكم على النحو التالي.
ا : الطريقة الأولى : أخذها مباشرة من الجنين الإنساني في بطن أمه، بفتح الرحم جراحياً، وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه، ويحرم ذلك شرعاً إلا إذا كان بعد إجهاض طبعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الأم وتحقق موت الجنين، مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الأجنة في القرار رقم 95 ( 8/6 ) لهذه الدورة.(1/117)
ب : الطريقة الثانية وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها ولابأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعاً، وتم الحصول عليها على الوجه المشروع.
رابعاً : المولود اللادماغي : طالما ولد حياً، لا يجوز التعرض له بأخذ شيء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع دماغه، ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع، فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر، وعدم وجود البديل وتحقق الضرورة وغيرها، ومما تضمنه القرار رقم 26 (1/4 ) من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع. ولا مانع شرعاً من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الانعاش إلى ما بعد موت جذع المخ – والذي يمكن تشخيصه – للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل، توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيره بالشروط المشار إليها.
تحديد المنتفع بالأعضاء، ووسيلة ذلك :
هذا وقد استكمل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بعد المناقشة المسائل الآتية التي تتعلق بنقل الأعضاء، وهي:
أ-إذا حدد المتبرع أو ورثته شخصاً معيناً للانتفاع بالعضو المتبرع به أو فوض جهة معينة بتحديد الشخص المنتفع به فيجب الالتزام بذلك ما أمكن، فإن لم يمكن لسبب إرادي أو طبي فإنه يرجع في ذلك إلى ورثة المتبرع، فإن لم يتيسر فيرجع إلى الجهة المعنية بمصالح المسلمين في البلاد غير الإسلامية.
ب-إذا كتب الشخص وثيقة للتبرع بعضو من أعضائه بعد وفاته فتطبق على ذلك أحكام الوصية، ولا يجوز للورثة أو غيرهم تبديل الوصية.
ج- في حالة وجود قانون بأن من لم يصرح بعدم الرغبة في أن ينتفع بأعضائه بعد وفاته يعتبر موافقاً؛ فإن عدم التصريح بالرفض يعتبر موافقة ضمنية.
القرار رقم (2/12)
حول مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية:(1/118)
تداول أعضاء المجلس في موضوع مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية، واستمعوا إلى الدراسات الشرعية والفلكية المقدمة من بعض الأعضاء، والعروض التوضيحية للجوانب الفنية ذات الصلة التي تمت التوصية بها في الدورة الحادية عشرة للمجلس، وقرر ما يلي:
أولاً: تأكيد القرار السادس الصادر عن المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بشأن مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية ونصه:
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد-صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12 رجب 1406 هـ إلى يوم السبت 19 رجب 1406هـ قد نظر في موضوع "أوقات الصلاة والصيام لسكان المناطق ذات الدرجات العالية".
ومراعاة لروح الشريعة المبنية على التيسير ورفع الحرج وبناءً على ما أفادت به لجنة الخبراء الفلكيين، قرر المجلس في هذا الموضوع ما يلي:
أولا. دفعاً للاضطرابات الناتجة عن تعدد طرق الحساب، يحدد لكل وقت من أوقات الصلاة العلامات الفلكية التي تتفق مع ما أشارت الشريعة إليه، ومع ما أوضحه علماء الميقات الشرعي في تحويل هذه العلامات إلى حسابات فلكية متصلة بموقع الشمس فوق الأفق أو تحته، كما يلي:
(1) الفجر: ويوافق بزوغ أول خيط من النور الأبيض وانتشاره عرضاً في الأفق "الفجر الصادق" ويوافق الزاوية (18ْ) تحت الأفق الشرقي.
(2) الشروق: ويوافق ابتداء ظهور الحافة العليا لقرص الشمس من تحت الأفق الشرقي ويقدر بزاوية تبلغ (50َ) دقيقة زاوية تحت الأفق.
(3) الظهر: ويوافق عبور الشمس لدائرة الزوال ويمثل أعلى ارتفاع يومي للشمس يقابله أقصر ظل للأجسام الرأسية.(1/119)
(4) العصر: ويوافق موقع الشمس الذي يصبح معه ظل الشيء مساوياً لطوله مضاف إليه فيء الزوال، وزاوية هذا الموقع متغيرة بتغير الزمان والمكان.
(5) المغرب: ويوافق اختفاء كامل قرص الشمس تحت الأفق الغربي، وتقدر زاويته بـ(50َ) دقيقة زاوية تحت الأفق.
(6) العشاء: ويوافق غياب الشفق الأحمر حيث تقع الشمس على زاوية قدرها (17ْ) تحت الأفق الغربي.
ثانياً:عند التمكين للأوقات يكتفى بإضافة دقيقتين زمنيتين على كل من أوقات الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإنقاص دقيقتين زمنيتين من كل من وقتي الفجر والشروق.
ثالثاً. تقسم المناطق ذات الدرجات العالية إلى ثلاثة أقسام:
المنطقة الأولى: وهي التي تقع ما بين خطي العرض (45ْ) درجة و(48ْ) درجة شمالاً وجنوباً، وتتميز فيه العلامات الظاهرة للأوقات في أربع وعشرين ساعة طالت الأوقات أو قصرت.
المنطقة الثانية: وتقع ما بين خطي عرض (48ْ) درجة و(66ْ) درجة شمالاً وجنوباً، وتنعدم فيها بعض العلامات الفلكية للأوقات في عدد من أيام السنة، كأن لا يغيب الشفق الذي به يبتدئ العشاء وتمتد نهاية وقت المغرب حتى يتداخل مع الفجر.
المنطقة الثالثة: وتقع فوق خط عرض (66ْ) درجة شمالاً وجنوباً إلى القطبين، وتنعدم فيها العلامات الظاهرة للأوقات في فترة طويلة من السنة نهاراً أو ليلاً.
رابعاً: والحكم في المنطقة الأولى: أن يلتزم أهلها في الصلاة بأوقاتها الشرعية، وفي الصوم بوقته الشرعي من تبيّن الفجر الصادق إلى غروب الشمس عملاً بالنصوص الشرعية في أوقات الصلاة والصوم، ومن عجز عن صيام يوم أو إتمامه لطول الوقت أفطر وقضى في الأيام المناسبة.(1/120)
خامساً: والحكم في المنطقة الثانية أن يعيّن وقت صلاة العشاء والفجر بالقياس النسبي على نظيريهما في ليل أقرب مكان تتميّز فيه علامات وقتي العشاء والفجر، ويقترح مجلس المجمع خط (45ْ) باعتباره أقرب الأماكن التي تتيسر فيها العبادة أو التمييز، فإذا كان العشاء يبدأ مثلاً بعد ثلث الليل في خط عرض (45ْ) درجة يبدأ كذلك بالنسبة إلى ليل خط عرض المكان المراد تعيين الوقت فيه، ومثل هذا يقال في الفجر.
سادساً: والحكم في المنطقة الثالثة أن تقدر جميع الأوقات بالقياس الزمني على نظائرها في خط عرض (45ْ) درجة، وذلك بأن تقسم الأربع والعشرين ساعة في المنطقة من (66ْ) درجة إلى القطبين، كما تقسم الأوقات في خط عرض (45ْ) درجة.
فإذا كان طول الليل في خط عرض (45ْ) يساوي (8) ساعات، وكانت الشمس تغرب في الساعة الثامنة، وكان العشاء في الساعة الحادية عشرة جعل نظير ذلك في البلد المراد تعيين الوقت فيه، وإذا كان وقت الفجر في خط عرض (45ْ) درجة في الساعة الثانية صباحاً كان الفجر كذلك في البلد المراد تعيين الوقت فيه وبُدئ الصوم منه حتى وقت المغرب المقدّر.
وذلك قياساً على التقدير الوارد في حديث الدجّال الذي جاء فيه: (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ومَا لَبْثُهُ فِي الأَرْضِ ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْماً، يَوْمُ كَسَنَةٍ ويَوْمُ كَشَهْرٍ، ويَوْمُ كَجُمُعَةُ وسَائُرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ " قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ: فَذَلِكَ اليَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ؟ قَالَ: لا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ" [أخرجه مسلم وأبو داود واللفظ له في كتاب الملاحم ]. والله ولي التوفيق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين". انتهى قرار المجمع الفقهي.(1/121)
ثانياً: نظراً إلى أن هذه القضية اجتهادية وليست فيها نصوص قطعية فلا يرى المجلس حرجاً في الاعتماد على تقديرات أخرى صادرة من هيئات فتوى إسلامية مثل الاعتماد على درجة انحطاط الشمس بدرجة (12) الموافقة لصلاتي الفجر والعشاء ومثل تحديد الفارق الزمني بين وقتي المغرب والعشاء ووقت الفجر وشروق الشمس بساعة ونصف.
وينصح المجلس الجهات الإسلامية المسئولة في المساجد والمراكز الإسلامية باتباع الطريقة التي ذكرها المجلس والمتفقة مع ما انتهى إليه المجمع الفقهي الإسلامي في مكة المكرمة كما ذكر أعلاه.
ثالثاً: يؤكد المجلس قراره السابق رقم (3/3) بشأن مشروعية الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء عند ضياع علامة العشاء أو تأخر وقتها، رفعاً للحرج وتيسيراً على المسلمين المقيمين في ديار الغرب، والله أعلم.
السؤال:نحن هنا في بريطانيا، يحضر المسجد عندنا لشهود الجمعة من يفهم اللغة العربية ومن لا يفهمها، والجميع أو الأكثر يفهم لغة أهل البلد، فهل يجوز لنا إلقاء خطبة الجمعة بلغة المخاطبين وإن كانت غير العربية؟
الجواب:حيث إن المقصود بخطبة الجمعة هو التعليم والإرشاد، فمراعاة لغة المخاطبين هو الأصل في خطابهم، ونبه القرآن الكريم على هذا المعنى في الإبانة عن وظيفة الرسل، فقال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيِّنَ لهم" [إبراهيم: 4]، وقال عز وجل: "فهل على الرسل إلا البلاغ المبين" [النحل: 35]، والبلاغ لا يكون مبيناً إلا إذا كان بلسان يفهمه المخاطب.
والأصل في خطبة الجمعة أن تكون باللغة العربية إذا غلب على المخاطبين فهمها، وذلك من أجل حاجة الخطبة إلى الاستدلال بالآية من القرآن، والحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر الله تعالى، ليحصل بذلك الغرض منها، والأبلغ في كل ذلك أن يكون بالعربية، ثم تحقق حاجة من لا يفهمها بالترجمة له حسب ما تيسر.(1/122)
والأشبه أن يكون هذا هو المراد في رأي جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن تكون الخطبة بالعربية.
فإن قل أو انعدم من يفهم العربية من الحاضرين، فلا مانع في أن تكون بلغتهم، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة حيث أجاز الخطبة بغير العربية.
القرار 4/6
تشييع جنازة الأقارب غير المسلمين
لقد أمر الإسلام ببر الوالدين والإحسان إليهما حتى ولو كانا غير مسلمين, قال تعالى:"وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" [الإسراء 23]. وقالى تعالى:"وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا" [لقمان 15].
كما أمر الإسلام بصلة الرحم وحث على ذلك.
ويتأكد واجب البرّ والصلة في مناسبات الفرح والسرور وفي مناسبات المصائب والكروب ومن أعظمها الموت الذي يجمع الأقارب عند فقدان أحدهم, والإنسان بفطرته يجد حاجة للتعبير عن عاطفته نحو الميت من أقربائه وممن تربطه به صلة. ولذلك فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه : زار النبي –صلى الله عليه وسلم- قبر أمّه فبكى وأبكى من حوله, فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي, واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي, فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" رواه مسلم وأحمد وأهل السنن إلا الترمذي.
ويضاف إلى هذا ما دعا إليه الاسلام من احترام الإنسان, مؤمناَ كان أو كافرا, في حياته وبعد مماته, وقد صحَّ عن النبي-صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم, قوله عن اليهودي الذي قام لجنازته, ردَّاَ على من أخبره أنه يهودي, فقال-صلى الله عليه وسلم-:" أليست نفساَ" فكيف إذا كانت نفس والدٍ أو والدة أو قريب ذي رَحِم.(1/123)
وبناء على ما سبق ذكره, فإنه يجوز للمسلم أن يحضر تشييع جنازة والديه أو أحد أقربائه غير المسلمين, ولا حرج في حضوره للمراسم الدينية التي تُقام عادة للأموات في الكنائس والمعابد, على أن لا يشارك قي الصلوات والطقوس وغيرها من الأمور الدينية, وكذلك يجوز له حضور الدّفن, ولتكن نيته في ذلك وفاءً بحق البر والصلة, ومشاركة الأسرة في مصابها, وتقوية الصلة بأقربائه وتجنّب ما يؤدّي إلى الجفوة معهم في حال غيابه عن مثل هذه المناسبات.
القرار 5/6
دفن المسلم في مقابر غير المسلمين
هناك أحكام شرعية مقررة تتعلق بشأن المسلم إذا مات، مثل تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ومن ذلك دفنه في مقابر المسلمين. ذلك : أن للمسلمين طريقة في الدفن واتخاذ المقابر، من حيث البساطة والتوجيه إلى القبلة، والبعد عن مشابهة المشركين والمترفين وأمثالهم.
و من المعروف : أن أهل كل دين، لهم مقابرهم الخاصة بهم، فاليهود لهم مقابرهم، والنصارى لهم مقابرهم، والوثنيون لهم مقابرهم، فلا عجب أن يكون للمسلمين مقابرهم أيضاً، وعلى المسلمين في البلاد غير الإسلامية أن يسعوا – بالتضامن فيما بينهم – إلى اتخاذ مقابرخاصة بهم، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، لما في ذلك من تعزيز لوجودهم وحفظ لشخصيتهم.
فإذا لم يستطيعوا الحصول على مقبرة خاصة مستقلة، فلا أقل من أن يكون لهم رقعة خاصة في طرف من أطراف مقبرة غير المسلمين، ويدفنون فيها موتاهم.
فإذا لم يتيسر هذا ولا ذاك ومات لهم ميت، فيدفن حيث أمكن ولو في غير مقابر المسلمين، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولن يضير المسلم إذامات في هذه الحالة، أن يدفن في مقابر غير المسلمين، فإن الذي ينفع المسلم في آخرته هو سعيه وعمله الصالح، وليس موضع دفنه "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" [النجم: 39].
وكما قال سلمان الفارسي – رضي الله عنه - : إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس المرء عمله.(1/124)
هذا، وإن القيام بدفن الميت حيث يموت هو الأصل شرعا ً، وهو أيسر من تكلف بعض المسلمين نقل موتاهم الى بلاد إسلامية، لما في ذلك من المشقة وتبديد الأموال.
و ليس بعد المقبرة الإسلامية عن أهل الميت مسّوغاً لدفنه في مقبرة غير المسلمين. لأن الأصل في زيارة المقابر إنما شرعت أساساً لمصلحة الزائر، للعبرة والاتعاظ، كما ثبت في الحديث : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترقق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة ". رواه أحمد والحاكم عن أنس.
أما الميت فيستطيع المسلم أن يدعو له ويستغفر له، ويصله الثواب بفضل الله تعالى في أي مكان كان الداعي والمستغفر له.
تهنئة غير المسلمين بأعيادهم
مما لا شك فيه أن القضية قضية مهمة وحساسة، خاصة للمسلمين المقيمين في بلاد الغرب، وقد ورد إلى المجلس أسئلة كثيرة من الإخوة والأخوات، الذين يعيشون في تلك الديار، ويعايشون أهلها من غير المسلمين، وتنعقد بينهم وبين كثير منهم روابط تفرضها الحياة، مثل الجوار في المنزل، والرفقة في العمل، والزمالة في الدراسة، وقد يشعر المسلم بفضل غير المسلم عليه في ظروف معينة، مثل المشرف الذي يساعد الطالب المسلم بإخلاص، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم بإخلاص، وغيرهما. وكما قيل: إن الإنسان أسير الإحسان، وقال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ!
ما موقف المسلم من هؤلاء (غير المسلمين) المسالمين لهم، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يقاتلونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم؟(1/125)
إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة وقد نزلت في شأن المشركين الوثنيين، فقال تعالى: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُو?اْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الممتحنة: 8-9].
ففرقت الآيتان بين المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم:
فالأولون (المسالمون) شرعت الآية الكريمة برهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، فالعدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك. العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه. والبر: أن تزيده على حقه فضلا وإحسانا.
وأما الآخرون الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم، فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم، وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، كما فعلت قريش ومشركو مكة بالرسول –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كلمة (البر) حين قال: (أن تبروهم) وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو (بر الوالدين).
وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها - أنها جاءت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها؟ قال: "صلي أمك".
هذا وهي مشركة، ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنيين.(1/126)
حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ" [المائدة:5].
ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: "وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُو?اْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [الروم:21].
وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره، وأم أولاده؟ وقد قال تعالى في بيان علاقة الأزواج بعضهم ببعض: "هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ" [البقرة: 187].
ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما أشار القرآن بقوله: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا" [الفرقان:54].
ومن لوازم ذلك: وجود الأمومة وما لها من حقوق مؤكدة على ولدها في الإسلام، فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة مثل هذا العيد الكبير عندها ولا يهنئها به؟ وما موقفه من أقاربه من جهة أمه، مثل الجد والجدة، والخال والخالة، وأولاد الأخوال والخالات، وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى، وقد قال تعالى: "وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ" [الأنفال: 75] وقال تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى" [النحل:90].(1/127)
فإذا كان حق الأمومة والقرابة يفرض على المسلم والمسلمة، صلة الأم والأقارب بما يبين حسن خلق السلم، ورحابة صدره، ووفاءه لأرحامه، فإن الحقوق الأخرى توجب على المسلم أن يظهر بمظهر الإنسان ذي الخلق الحسن، وقد أوصى الرسول الكريم أبا ذر بقوله: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" هكذا قال: "خالق الناس" ولم يقل: خالق المسلمين بخلق حسن.
كما حث النبي –صلى الله عليه وسلم- على (الرفق) في التعامل مع غير المسلمين، وحذر من (العنف) والخشونة في ذلك.
ولمّا دخل بعض اليهود على النبي –صلى الله عليه وسلم- ولووا ألسنتهم بالتحية، وقالوا: (السام) عليك يا محمد، ومعنى (السام): الهلاك والموت، وسمعتهم عائشة، فقالت: وعليكم السام واللعنة يا أعداء الله، فلامها النبي –صلى الله عليه وسلم- على ذلك، فقالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال:"سمعت، وقلت: وعليكم"، (يعني: الموت يجري عليكم كما يجري علي) يا عائشة:"الله يحب الرفق في الأمر كله".
وتتأكد مشروعية تهنئة القوم بهذه المناسبة إذا كانوا –كما ذكر السائل- يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أمرنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: "وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا" [النساء:86].
ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرما، وأدنى حظا من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر - حظا، والأكمل خلقا، كما جاء في الحديث "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" وكما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".!
ويتأكد هذا إذا أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحبب إليهم المسلمين، وهذا واجب علينا فهذا لا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم بل بحسن التواصل.(1/128)
وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- حسن الخلق، كريم العشرة، مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه. حتى إنهم –لثقتهم به عليه الصلاة والسلام- كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها، حتى إنه –صلى الله عليه وسلم- حين هاجر إلى المدينة، ترك عليا رضي الله عنه، وأمره برد الودائع إلى أصحابها.
فلا مانع إذن أن يهنئهم الفرد المسلم، أو المركز الإسلامي بهذه المناسبة، مشافهة أو بالبطاقات التي لا تشتمل على شعار أو عبارات دينية تتعارض مع مبادئ الإسلام مثل (الصليب) فإن الإسلام ينفي فكرة الصليب ذاتها "وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ" [النساء157].
والكلمات المعتادة للتهنئة في مثل هذه المناسبات لا تشتمل على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، إنما هي كلمات مجاملة تعارفها الناس.
ولا مانع من قبول الهدايا منهم، ومكافأتهم عليها، فقد قبل النبي –صلى الله عليه وسلم - هدايا غير المسلمين مثل المقوقس عظيم القبط بمصر وغيره، بشرط ألا تكون هذه الهدايا مما يحرم على المسلم كالخمر ولحم الخنزير.
ولا ننسى أن نذكر هنا أن بعض الفقهاء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم قد شددوا في مسألة أعياد المشركين وأهل الكتاب والمشاركة فيها، ونحن معهم في مقاومة احتفال المسلمين بأعياد المشركين وأهل الكتاب الدينية، كما نرى بعض المسلمين الغافلين يحتفلون بـ(الكريسماس) كما يحتفلون بعيد الفطر، وعيد الأضحى، وربما أكثر، وهذا ما لا يجوز، فنحن لنا أعيادنا، وهم لهم أعيادهم، ولكن لا نرى بأسا من تهنئة القوم بأعيادهم لمن كان بينه وبينهم صلة قرابة أو جوار أو زمالة، أو غير ذلك من العلاقات الاجتماعية،التي تقتضي حسن الصلة، ولطف المعاشرة التي يقرها العرف السليم.(1/129)
أما الأعياد الوطنية والاجتماعية، مثل عيد الاستقلال، أو الوحدة، أو الطفولة والأمومة ونحو ذلك، فليس هناك أي حرج على المسلم أن يهنئ بها، بل يشارك فيها، باعتباره مواطناً أو مقيماً في هذه الديار على أن يجتنب المحرمات التي تقع في تلك المناسبات.
تعليق:
قلت : قد يكون من المناسب أن نضيف هنا أن تهنئة غير المسلمين مختلف فيها بين العلماء وفي مذهب الإمام أحمد ثلاث روايات بالمنع والكراهة والجواز وهذه الرواية الأخيرة هي اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية لما في ذلك من المصلحة وهي التي نختارها فتجوز تهنئتهم وتعزيتهم وعيادة مرضاهم نص على هذه الروايات في هذه الحالات كلها المرداوي في الإنصاف وما يذكر عن ابن تيمية في بعض الكتب الأخرى قد لا يتفق مع اختياراته الموثقة. والله ولي التوفيق.
صفات الفقير الذي تصرف له الزكاة
السؤال:ما هي صفات الفقير الذي تصرف له زكاة المال؟
الجواب:الفقير الذي جعله الله سبحانه وتعالى من الأصناف التي تصرف لها الزكاة في قوله:"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ" [التوبة: 60] اختلف في وصفه الفقهاء، والصحيح من أقوالهم: أنه الذي لا يملك مالا يكفيه في مطعمه وملبسه ومسكنه وسائر ما لا بد منه لنفسه ولمن تلزمه نفقته، من غير إسراف ولا تقتير، كمن يحتاج إلى عشرة ماركات ألمانية ولا يجد إلا ثلاثة أو اثنين.
على أننا ننبه إلى أن من كان ظاهر حاله الفقر، فلا مانع أن تعطى له الزكاة. وكذلك من ادعى أنه فقير فيصدق في قوله وتعطى له الزكاة. إلا إذا كان ظاهر حاله يدل على خلاف ذلك.(1/130)
السؤال:يقع للقائمين على بعض المؤسسات الإسلامية، كالمراكز أو المساجد أو الجهات الخيرية، أنهم يدعون المسلمين إلى التبرع لصالح مشروع معين، ثم يفضل من المال شيء بعد تنفيذ المشروع، أو يلغى ذلك المشروع أصلاً، فما الحكم في تلك الأموال؟ هل للقائمين على تلك المؤسسة حق التصرف فيها في مصالح عامة أخرى دون إعلام المتبرعين؟ وإذا لزمهم إعلام المتبرعين، فكيف العمل في حال تعذر ذلك؟
الجواب:يُنْظر: فما أمكن تعيين كونه مال زكاة مفروضة، فإن المعطي لزكاة ماله لا يملك حق الاشتراط فيها أن تنفق في وجه مخصوص، وإنما محلها حيث مصارفها المبينة في كتاب الله تعالى بقوله: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة: 60]، فهذا يجعله القائمون على تلك المؤسسات في مصارفه باجتهادهم فيما يحقق مصلحة مجتمعهم.
وما لم يتعين كونه مال زكاة مفروضة، فالمتبرع قصد به ذلك المشروع المحدد الذي دعي إلى التبرع لأجله، فهو بتبرعه بمنزلة الواقف، والأصل التزام شرط الواقف، فلا يصرف ذلك المال إلا حيث أراد، وعليه: فإن عُرِفَ المتبرع بعينه وأمكن استئذانه فالواجب فعل بذلك، وإن تعذر وأمكن استئذان جماعة المتبرعين، شأن الأموال التي تجمع من المصلين في المساجد مثلاً، فيفعل ذلك، فإن تعذر فعل شيء من ذلك، فلا مانع من صرف المال في مشروع مشابه للمشروع الذي جمع لأجله، والأصل في ذلك كله قوله تعالى:"فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن: 16].
طلب الطلاق من الزوج الفاسق(1/131)
الزواج ميثاق غليظ، ورباط مقدس، يجمع بين الرجل والمرأة على كتاب الله تعالى وعلى سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، ويجعل كلاً منهما لصاحبه بمنزلة اللباس له كما قال الله تعالى في تصوير هذه العلاقة بينهما: "هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ" [البقرة 187]. بما توحي به كلمة (اللباس) من القرب واللصوق والستر والدفء والزينة.
ولهذا يجب على كل من الزوجين أن يحسن عشرة صاحبه، وأن يصبر عليه، ولا يجوز للرجل أن يطلق زوجته للإضرار بها، لأن في ذلك هدم هذه المؤسسة المشتركة، وكسر قلب الزوجة، وربما فرق بينها وبين أولادها منه بغير مبرر ولا ضرورة.
ومن هنا كان التفريق بين المرء وزوجه من الكبائر الموبقة، وهو من أحب الأعمال إلى إبليس كما جاء في بعض الأحاديث.
وإذا كان الزوج يحرم عليه إضرارامرأته بالطلاق بلا عذر، فكذلك لا يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق من زوجها بلا عذر موجب. وقد جاء فيما رواه أحمد والترمذي وحسنه عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة".
ومفهوم الحديث : أنها إذا طلبت الطلاق من بأس وبسبب، فلا إثم عليها.
فهل يكون فسق الزوج سبباً موجباً أو مجيزاً لطلب الطلاق من المرأة ؟
ولا ريب أن الفساق يختلفون في مدى فسقهم وفي معاشرتهم لنسائهم، فمنهم من يريد من امرأته أن تعينه على فسقه، بأن تقدم له الخمر مثلاً، وهو حرام عليها، فيجوز لها أن تطلب الطلاق تفادياً لما يمكن أن يصيبها من الإثم.
ومنهم من يسيء عشرته لامرأته ويضارها ويؤذيها، لهذا يعطيها الحق في طلب الطلاق وخصوصاً إذا استمر في ذلك، ولم ترج منه التوبة ولا استقامة الحال، ومنهم من لا يفعل هذا ولا ذاك، وهوحسن العشرة معها، فهذا هو الذي يختلف فيه.(1/132)
وجمهور الفقهاء يرون أن تارك الصلاة كسلاً إنما هو عاص فاسق لا كافر مرتد، وعلى هذا لا يجب التفريق بينه وبين امرأته.
والذي نرجحه هنا: أن المرأة إذا كانت تأمل في رجعة زوجها إلى الله، وأنه يمكن أن تؤثر فيه النصيحة والموعظة، وأن حاله يمكن أن يتحسن، فعليها أن تصبر عليه، وإن كان فاسقاً، بترك الصلاة وبشرب الخمر، وخصوصاً إذا كان لها أولاد من ذلك الرجل، وتخشى عليهم التشتت والضياع.
وهذا بشرط ألا يستحل ترك الصلاة أو شرب الخمر، فينتقل بذلك إلى الكفر الصريح المفرق بين المرء وزوجه.
- "إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه"
بعد اطلاع المجلس على البحوث والدراسات المختلفة في توجهاتها، والتي تناولت الموضوع بتعميق وتفصيل في دورات ثلاث متتالية، واستعراض الآراء الفقهية وأدلتها مع ربطها بقواعد الفقه وأصوله ومقاصد الشرع، ومع مراعاة الظروف الخاصة التي تعيشها المسلمات الجديدات في الغرب حين بقاء أزواجهن على أديانهم، فإن المجلس يؤكد أنه يحرم على المسلمة أن تتزوج ابتداء من غير المسلم، وعلى هذا إجماع الأمة سلفاً وخلفاً، أما إذا كان الزواج قبل إسلامها فقد قرر المجلس في ذلك ما يلي:
أولاً: إذا أسلم الزوجان معا ولم تكن الزوجة ممن يحرم عليه الزواج بها ابتداء (كالمحرمة عليه حرمة مؤبدة بنسب أو رضاع) فهما على نكاحهما .
ثانياً: إذا اسلم الزوج وحده ، ولم يكن بينهما سبب من أسباب التحريم وكانت الزوجة من أهل الكتاب فهما على نكاحهما .
ثالثاً: إذا أسلمت الزوجة وبقى الزوج على دينه فيرى المجلس :
أ - إن كان إسلامها قبل الدخول بها فتجب الفرقة حالاً.
ب - إن كان إسلامها بعد الدخول وأسلم الزوج قبل انقضاء عدتها ،فهما على نكاحهما.
ج - إن كان إسلامها بعد الدخول، وانقضت العدة, فلها أن تنتظر إسلامه ولو طالت المدة ، فإن أسلم فهما على نكاحهما الأول دون حاجة إلى تجديد له.(1/133)
د- إذا اختارت الزوجة نكاح غير زوجها بعد انقضاء العدة فيلزمها طلب فسخ النكاح عن طريق القضاء.
خامساً: لا يجوز للزوجة عند المذاهب الأربعة بعد انقضاء عدتها البقاء عند زوجها، أو تمكينه من نفسها. ويرى بعض العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات الزوجية إذا كان لا يضيرها في دينها وتطمع في إسلامه, وذلك لعدم تنفير النساء من الدخول في الإسلام إذا علمن أنهن سيفارقن أزواجهن ويتركن أسرهن, ويستندون في ذلك إلى قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تخيير المرأة في الحيرة التي أسلمت ولم يسلم زوجها: "إن شاءت فارقته وإن شاءت قرت عنده", وهي رواية ثابتة عن يزيد بن عبد الله الخطمي. كما يستندون إلى رأي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إذا أسلمت النصرانية امرأة اليهودي أو النصراني كان أحق ببضعها لأن له عهداً, وهي أيضاً رواية ثابتة. وثبت مثل هذا القول عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان .
- طلاق المرأة نفسها
وفي مسألة مدى جواز طلاق المرأة نفسها، فإن المجلس قد قرر بعد بحث مستفيض ما يلي:
أولاً: أن الطلاق من حيث الأساس حق أعطاه الإسلام للرجل.
ثانياً: يمكن أن تطلق المرأة نفسها إذا اشترطت ذلك في عقد الزواج أو إذا فوضها زوجها بذلك بعد العقد.
ثالثاً: يمكن للمرأة أن تخالع زوجها إذا رغبت في ذلك أمام القاضي الذي يجب عليه أن يبذل كل جهد ممكن للإصلاح بينهما، فإن يئس قضى بالخلع.
رابعاً: يمكن للمرأة أن تتفق مع زوجها على الطلاق ضمن أي شروط مشروعة يتراضيان عليها.
خامساً: يمكن للمرأة أن تطلب من القاضي التفريق بسبب الضرر المعتبر شرعاً، وله أن يحكم بذلك إذا أثبتت الزوجة ادعاءها، وبعد أن يبذل جهده في الإصلاح بين الزوجين كما أمر الله تعالى، وخاصة اختيار حكمين يساعدانه في هذه المهمة.
القرار 3/5
- حكم تطليق القاضي غير المسلم(1/134)
الأصل أن المسلم لا يرجع في قضائه إلا إلى قاض مسلم، أو من يقوم مقامه، غير أنه بسبب غياب قضاء إسلامي حتى الآن يتحاكم إليه المسلمون في غير البلاد الإسلامية، فإنه يتعين على المسلم الذي أجرى عقد زواجه وفق قوانين هذه البلاد، تنفيذ قرار القاضي غير المسلم بالطلاق، لأن هذا المسلم لمّا عقد زواجه وفق هذا القانون غير الإسلامي، فقد رضي ضمناً بنتائجه، ومنها أن هذا العقد لا يحل عروته إلا القاضي. وهو ما يمكن اعتباره تفويضاً من الزوج جائزاً له شرعاً عند الجمهور، ولو لم يصرح بذلك. لأن القاعدة الفقهية تقول (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً). وتنفيذ أحكام القضاء ولو كان غير إسلامي جائز من باب جلب المصالح ودفع المفاسد وحسماً للفوضى، كما أفاده كلام غير واحد من حذاق العلماء كالعز بن عبدالسلام وابن تيمية والشاطبي.
القرار 4/5
ب – حول مدى ضرورة اشتراط مراعاة السن في الأضحية:
فأجاب بأن اعتبار السن المحدد للأضحية في الضأن والبقر هو للتحقق من الانتفاع بها ليكون ما يضحى به مجزئاً، والسن هو علامة أو أمارة على ذلك، سواء أتم ذلك بنمو طبيعي أم باستخدام طرق التسمين، فإن التضحية بها جائزة تحقيقاً للمقصود الشرعي من اشتراط السن، وقد أفتى بهذا بعض مشاهير المالكية، وينبغي مراعاة المتطلبات الصحية لتجنب الأضرار التي قد تحدث من ذبائح مريضة أو مشتملة على موانع معروفة، مثل جنون البقر، والله أعلم. وبالمناسبة فإن المجلس ينبه المسلمين إلى ما يلي:
الحرص على الالتزام بالقوانين الصحية التي تشترط رقابة الطبيب البيطري على الذبائح في المسالخ الرسمية.
يجوز شرعاً أن يوكِّل المسلم غيره بذبح أضحيته عنه، ولو في بلد آخر، خاصة في البلاد التي يتعرض فيها المسلمون للاضطهاد، أو المجاعة، أو الحاجة الملحة.
في حال تعذر حصول المضحي على أضحية من المسلخ في اليوم الأول من أيام العيد، فلا مانع أن يكون ذلك إلى اليوم الرابع من أيام العيد.
قلت:(1/135)
قولهم بعض مشاهير المالكية يشير إلى فتوى الشيخ ماء العينين في شأن المواشي التي يسرع بها الخصب إلى حالة من السمن وعظم الجسم لا تناسب سنها وذلك في مناطق تيرس الصحراوية.
الأسواق المالية وتطبيقاتها
تداول أعضاء المجلس في موضوع الأسواق المالية (البورصة) والتطبيقات التي تجري فيها والتعامل بأسهم الشركات المساهمة واستمعوا إلى الدراسات الشرعية والاقتصادية المقدمة من بعض الأعضاء والمناقشات التي دارت حولها، ومن ثَمَّ قرر ما يلي:
يؤكد المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث القرار رقم 63(1/7) الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن الأسواق المالية، مع إضافة بعض وجهات النظر الشرعية التي اختارها المجلس، وذلك على النحو التالي:
قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي: "أولاً الأسهم:
أولاً: الإسهام في الشركات
أ - بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
ب - لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
ج - الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة".
قرار تكميلي من المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث:
قرر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بالنسبة للأقليات الإسلامية في الغرب - حيث لا تتوفر المؤسسات الإسلامية والشركات ذات الأغراض والأنشطة المشروعة – أنه: لا مانع من تعاملها بأسهم الشركات المساهمة التي غرضها الأساسي مشروع وتتجنب الأغراض المحرمة، مثل الخمور والخنزير والقمار، ولو كانت لها إيداعات أو قروض ربوية أو موجودات ثانوية غير مشروعة، شريطة مراعاة الضوابط التي قررتها الهيئات الشرعية وصدرت بها فتاوى في الندوات المصرفية، وهي:
أ - عدم تجاوز القروض من البنوك التقليدية ثلث موجودات الشركة.
ب - عدم تجاوز الفوائد 5% من العوائد.(1/136)
ج - عدم تجاوز الموجودات غير المشروعة 10% من الموجودات.
على أن يتم التخلص من الفوائد والكسب غير المشروع مهما كانت نسبتها، بصرف ذلك في وجوه الخير، وأن يكون التداول في حالة زيادة الموجودات العينية والمنافع، على الديون والنقود.
ويرجع إلى الجهات المعتمدة من الهيئات الشرعية لتصنيف الشركات المقبولة، مثل مؤشر داو جونز الإسلامي المعتمد من الهيئة الشرعية للمؤشر وغيره.
بقية قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي يؤكده المجلس:
"2 - ضمان الإصدار (UNDER WRITING):
ضمان الإصدار هو: الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره.
وهذا لا مانع منه شرعاً إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه – غير الضمان – مثل: إعداد الدراسات، أو تسويق الأسهم .
3 - تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:
لا مانع شرعاً من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه، وتأجيل سداد بقية الأقساط؛ لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محظور؛ لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير؛ لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة.
4 – السهم لحامله:
بما أن المبيع في (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة، فلا مانع شرعاً من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.
5 – محل العقد في بيع السهم:
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
6 – الأسهم الممتازة:(1/137)
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان قدر من الربح، أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح.
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
7 – التعامل في الأسهم بطريقة ربوية:
أ – لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن، وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
ب - لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع، وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم؛ لأنه من بيع مالا يملك البائع، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به، بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض.
8 – بيع السهم أو رهنه:
يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقاً، أو مشروطاً بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة.
9– إصدار أسهم مع رسوم إصدار:
إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم لتغطية مصاريف الإصدار لا مانع منها شرعاً ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديراً مناسباً.
10 – إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم (خصم) إصدار:
يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة (حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة)، أو بالقيمة السوقية".
11 – ضمان الشركة شراء الأسهم (المؤجل حكمه في قرار المجمع):
قرر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أنه يجوز أن تصدر الشركة وعداً ملزماً بشراء الأسهم من بعض حملتها خلال مدتها، أو عند التصفية بالقيمة السوقية، أو بما يتفق عليه عند الشراء، ولا يجوز الوعد بالشراء بالقيمة الاسمية.
بقية قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي يؤكده المجلس:(1/138)
"12 – تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة:
لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها؛ لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة، وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.
كما لا مانع شرعاً من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام، وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية.
13 – حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها:
يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم، بأن لا يتم إلا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل؛ لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية؛ لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة.
14 – حق الأولوية:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
15 – شهادة حق التملك:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
ثانياً: بيع الاختيارات
صورة العقد:
إن المقصود بعقود الاختيارات: الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف، أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين، إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين.
حكمه الشرعي:
إن عقود الاختيارات – كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية – هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة.
وبما أن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه، فإنه عقد غير جائز شرعاً.
وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً فلا يجوز تداولها.
تعليق:(1/139)
قلت : لنا موقف من هذه المسألة يراجع في بحث البورصات المقدم لهذا المجلس المنشور بمجلته علماً أن هذه القرار مبني على اجتهاد حنفي في مسألة الاعتياض عن الحقوق المجردة منفردة وهو في البدائع وغيرها بأن هذه الحقوق لا تحتمل التمليك ولا يجوز الصلح عنها فلم يجيزوا التنازل عن حق الشفعة مقابل مال ولا عن نوبة المرأة لضرتها مقابل مال.
ومع ذلك فقد ذكروا روايتين في بيع حق المرور في الطريق وأفتوا بجواز النزول عن الوظائف بمال على خلاف أصل المذهب وقالوا إن العلماء والحكام أفتوا به للضرورة .( يراجع ابن عابدين 4/14)
أما المالكية فقد أجازوا بيع هذه الحقوق فأجاز المالكية اشتراء نوبة المرأة من ضرتها أومن زوجها قال خليل :" وجاز شراء يومها منها".
كذلك أجازوا الاعتياض عن الشفعة قال خليل:" بخلاف أخذ مال بعده ليسقط". ومعناه جواز الاعتياض عن حقه في الشفعة بعد وجوبها بالشراء.( الزرقاني 6/176)
إشكال بيع الخيار الذي منعته المجامع والذي يذهب أكثر الفقهاء المعاصرين إلى تحريمه بناء على أنه ليس متمولا وأن المالية لا تثبت إلا بالمتمول.
و"التمول حيازة الشيء وإحرازه" على حد عبارة الأحناف فبشرط إمكان الحيازة وإمكان الانتفاع به على وجه معتاد.
وإذا كان غير الحنفية جعلوا المنافع مالاً وإن كانت لا تحاز مستقلة فحيازتها بحيازة أصلها ومصدرها.
إلا أن المالكية قد أجازوا المعاوضة في بعض المعاملات فقالوا عن ابن رشد إذا قال شخص يسوم سلعة لآخر يريد أن يسومها : كف عني ولك دينار جاز ولزمه الدينار اشترى أو لم يشتر.
ولو قال: كف عني ولك بعضها على وجه الشركة جاز.
واستشكل ابن ملال ما قاله ابن رشد من جواز المعاوضة على ترك الزيادة قائلا: إنه من أكل أموال الناس بالباطل.
وقال ابن عبدوس:لا إشكال فيه لأنه عوض على ترك وقد ترك.( الزرقاني والبناني على هامشه 5/90-91)(1/140)
ويجري على هذه المسألة من أراد أن يتزوج امرأة فقال له آخر: كف عن خطبتها ولك كذا.
وكذلك جواز أخذ شيء من دراهم ونحوها في نظير إباحة صيد من بركة ماء.(حسب عبارة الزرقاني 5/222)
قلت: ومعلوم أن السمك في الماء لا يجوز بيعه لأنه من الغرر والجهالة ولكن حق الإصطياد تجوز المعاوضة فيه.
لعل هذه الفروع عند المالكية تدل على أن العقود يمكن أن ترد على فعل أو ترك أو امتياز مما يرغب فيه المتعاقدان ويحقق لهما مصلحة.- والله تعالى أعلم-
ومما يدل على جواز الاعتياض عن الحقوق ما نقله أبو يوسف في كتاب الخراج عن أبي الزناد قال كتبت إلى عمر بن الخطاب في بحيرة يجتمع فيها السمك بأرض العراق أن يؤجر فكتب إليّ أن افعلوا.
وإن كان الأحناف لا يقولون بهذا راجع ابن عابدين 4/107) فهو نص في الاعتياض في الحقوق فالتأجير وارد على حق الاصطياد وقد أخذ به المالكية وبنوا عليه جواز الاعتياض للنزول عن الوظائف على قولين في المذهب وعن بعض الشافعية في الاعتياض عن الوظائف بجوازه عقلا وشرعاً واستنبطه السبكي من هبة سودة ليلتها لعائشة.(الزرقاني 4/58)
ولهذا فإن قرار المجلس في هذا الموضوع تجب مراجعته وإعادة النظر فيه.
ثالثاً: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة:
1 – السلع:
يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية:
الطريقة الأولى:
أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه.
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثانية:
أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثالثة:
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم.(1/141)
وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة، فإذا استوفى شروط السلم جاز.
وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها.
تعليق:
قلت: لنا موقف من هذه الطريقة الثالثة لا يتفق مع ما ذكر هنا يراجع في بحث البرصات المقدم إلى المجلس فالفقرة الأخيرة مخالفة لمذهب مالك والأوزاعي وداود من جواز بيع المسلم فيه قبل القبض إذا لم يكن طعاماً.
فسبحان الله كيف نحكم بالتحريم مع حاجة الناس إليه وقوة دليله راجعه في بحثنا.
كما أن الفقرة الأولى والمتعلقة بتأجيل البدلين قد بينا في ذلك البحث عن سعيد بن المسيب جوازها.
الطريقة الرابعة:
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم، دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.
وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً.
2 – التعامل بالعملات:
يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع.
ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.
أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة.
3 – التعامل المؤشر:
المؤشر هو: رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة، يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة، وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية.
ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة، وهو بيع شيء خيالي لا يمكن وجوده.
4 – البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:
ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية، وبخاصة بيع السلم، والصرف، والوعد بالبيع في وقت آجل، والاستصناع، وغيرها.
ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة".(1/142)
السؤال:تقوم بعض الشركات من باب الدعاية لمنتجاتها بإرفاق بعض الصور بها، فإذا قام شخص بتجميع بعض هذه الصور وإرسالها إلى الشركة فقد يحصل على جائزة رصدتها الشركة لمن يفعل ذلك، فهل لأحد أن يقوم بذلك لنيل تلك الجائزة؟
الجواب :هذه الجوائز المذكورة لا حرج على المسلم في أخذها؛ وذلك لأنها تتم من طرف واحد وهي الشركة المانحة لها دون اشتراط زيادة في سعر السلعة، وإنما هو من باب الترويج لبضائعها ولا يتحمل الطرف الثاني (المشتري) أي خسارة تدخله في أحكام القمار المحرم شرعاً.
والممنوع فقط في هذه المسألة أن يشتري المسلم هذه السلع لغرض الحصول على هذه الجوائز، فهذا القصد يدخله في القمار المحرم.
الفتوى (8/12)
السؤال:أنا مقيم في المملكة المتحدة وأعمل مترجماً لمراكز صحية، خدمات اجتماعية، معونات مالية، إلى غير ذلك، وأواجه مشكلة في عملي، وهي: أن بعض الزبائن يأتون إليّ للقيام بترجمة أقوالهم، فأفعل ذلك وأنا أعلم أنهم يكذبون فيما يقولون، وليس لدي حق التدخل لتكذيب أقوالهم، فهل أنا مذنب بسكوتي عن ذلك؟
الجواب:عمل المترجم مشروع فيما تجوز ترجمته، ومن ذلك ما ينقله المترجم من أقوال الناس إلى مؤسسات الدولة، كدار القضاء ومراكز الخدمات الصحية والاجتماعية وغيرها.
فإذا كنت موظفاً في مؤسسة من هذه المؤسسات ويأتيك الناس لترجمة ما يصرحون به لهذه المؤسسات، فلا تكلف نفسك البحث في صدق هذه الأقوال؛ لأن الله لم يكلفك بذلك، وليس هو من مشمولات وظيفتك، فلا حرج عليك فيما تترجم من أقوال وإن كان أصحابها غير صادقين فيها، وغاية ما يطلب منك هنا إذا تحققت من كذبهم أن تنصح لهم، إذا كان ذلك لا يؤدي إلى مفسدة أكبر من مفسدة الكذب، ولا يتسبب في مخالفة قانونية.(1/143)
وكذلك إذا كنت مترجماً خاصاً، فأنت غير مكلف بالبحث عن صدق زبائنك، ولا يجوز لك تتبع عوراتهم أو تسيء الظن بهم. فإن حصل لك علم يقيني أن القول الذي تترجمه كذب يؤدي إلى اقتطاع حق معصوم عاماً كان أو خاصاً، فلا يجوز لك أن تعين صاحبه على ذلك، لقوله تعلى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2].
الفتوى (9/12)
السؤال: ما هو حكم التأمين على ما يقع تحت مسؤوليتنا من الأماكن التي يرتادها الجمهور، كالمكتبات والمراكز وشبهها، والتي قد يسبب وقوع بعض الحوادث فيها عجزنا عن التعويضات المترتبة على ذلك؟
الجواب:إن عقود التأمين التقليدي (المطبقة في الغرب) الأصل فيها أنها ممنوعة شرعاً بسبب قيام التأمين التقليدي على أساس المعاوضة بتملك الشركة الأقساط لصالحها والتزامها بالتعويضات، وفي ذلك غرر بسبب عدم الجزم بوقوع الخطر، بحيث يقع الاحتمال في حصول التعويض أو عدمه، وكذلك الاحتمال في استفادة الشركة من الأقساط أو خسارتها مع غيرها.
والبديل الشرعي لذلك هو التأمين التكافلي القائم على تكوين محفظة تأمينية لصالح حملة وثائق التأمين، بحيث يكون لهم الغنم وعليهم الغرم، ويقتصر دور الشركة على الإدارة بأجر، واستثمار موجودات التأمين بأجر أو بحصة على أساس المضاربة. وإذا حصل فائض من الأقساط وعوائدها بعد دفع التعويضات فهو حق خالص لحملة الوثائق، وما في التأمين التكافلي من غرر يعتبر مغتفراً؛ لأن أساس هذا التأمين هو التعاون والتبرع المنظم، والغرر يتجاوز عنه في التبرعات.
وبما أن التأمين التكافلي لا يزال حديث النشأة ومحدود الانتشار وغير قادر على التأمينات الكبيرة فقد أفتت الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية بجواز اللجوء إلى التأمين التقليدي في حال الحاجة الماسة إلى حماية الموجودات وتأمين الأنشطة، وذلك على أساس أن الغرر يغتفر للحاجة.(1/144)
وعليه: فلا مانع من الدخول في عقود التأمين المتاحة في الغرب في حال فقدان التأمين التكافلي، أو عدم إمكانية تغطيته لبعض المخاطر.
التأمين وإعادة التأمين
ناقش المجلس البحث والأوراق المقدمة إليه في موضوع التأمين وما يجري عليه العمل في أوربا، واطلع على ما صدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية بهذا الشأن،وانتهى إلى ما يلي:
أولا: مع مراعاة ما ورد في قرارات بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري (الذي يقوم على أساس الأقساط الثابتة دون أن يكون للمستأمن الحق في أرباح الشركة أو التحمل لخسائرها ) ومشروعية التأمين التعاوني ( الذي يقوم على أساس التعاون المنظم بين المستأمنين، واختصاصهم بالفائض – إن وجد – مع اقتصار دور الشركة على إدارة محفظة التأمين واستثمار موجوداتها ) فإن هناك حالات وبيئات تقتضي إيجاد حلول لمعالجة الأوضاع الخاصة، وتلبية متطلباتها، ولا سيما حالة المسلمين في أوروبا حيث يسود التأمين التجاري، وتشتد الحاجة إلى الاستفادة منه لدرء الأخطار التي يكثر تعرضهم لها في حياتهم المعاشية بكل صورها، وعدم توافر البديل الإسلامي ( التأمين التكافلي) وتعسر إيجاده في الوقت الحاضر، فإن المجلس يفتي بجواز التأمين التجاري في الحالات التالية وما يماثلها:
1-حالات الإلزام القانوني مثل التأمين ضد الغير على السيارات والآليات والمعدات، والعمال والموظفين ( الضمان الاجتماعي، أو التقاعد) وبعض حالات التأمين الصحي أو الدراسي ونحوها.
2-حالات الحاجة إلى التأمين لدفع الحرج والمشقة الشديدة، حيث يغتفر معها الغرر القائم في نظام التأمين التجاري.
ومن أمثلة ذلك:
1-التأمين على المؤسسات الإسلامية كالمساجد، والمراكز، والمدارس، ونحوها.
2-التأمين على السيارات والآليات والمعدات والمنازل والمؤسسات المهنية والتجارية، درءا للمخاطر غير المقدور علي تغطيتها، كالحريق والسرقة وتعطل المرافق المختلفة.(1/145)
3-التأمين الصحي تفاديا للتكاليف الباهظة التي قد يتعرض لها المستأمن وأفراد عائلته، وذلك إما في غياب التغطية الصحية المجانية، أو بطئها، أو تدني مستواها الفني.
ثانيا : إرجاء موضوع التأمين على الحياة بجميع صوره لدورة قادمة لاستكمال دراسته.
ثالثا : يوصي المجلس أصحاب المال والفكر بالسعي الحثيث لإقامة المؤسسات المالية الإسلامية كالبنوك الإسلامية، وشركات التأمين التكافلي الإسلامي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
التأمين على الحياة
ناقش المجلس البحوث المقدمة إليه حول التأمين على الحياة، واطلع عل ما صدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية بهذا الشأن.
وبعد المناقشة والتحاور حول جوانب هذا الموضوع، وما عليه أحوال المسلمين في أوروبا وسائر البلاد غير الإسلامية، ومع مراعاة ما يجري عليه العمل في شركات التأمين التجاري، والتأمين التعاوني في أوروبا، انتهى إلى ما يأتي:
أولاً: تأكيد ما صدر عن المجلس في دورته السادسة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين .
ثانياً: تأكيد ما صدر عن بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري على الحياة، وجواز التأمين التعاوني إذا خلا عن الربا والمحظورات الشرعية ، وعلى ما صدر من الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي التي حضرها ثلة من الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين في 1413 هـ - 1992 م وانتهت إلى إصدار الفتوى التالية :
1 - التأمين على الحياة بصورته التقليدية القائمة على المعاوضة بين الأقساط والمبالغ المستحدثة عند وقوع الخطر أو المستردة مع فوائدها عند عدم وقوعه هو من المعاملات الممنوعة شرعاً لاشتماله على الغرر، والربا، والجهالة .(1/146)
2 - لا مانع شرعاً من التأمين على الحياة إذا أقيم على أساس التأمين التعاوني (التكافلي) وذلك من خلال التزام المتبرع بأقساط غير مرتجعة (1)، وتنظيم تغطية الأخطار التي تقع على المشتركين من الصندوق المخصص لهذا الغرض، وهو ما يتناوله عموم الأدلة الشرعية التي تحض على التعاون، وعلى البر والتقوى وإغاثة الملهوف ورعاية حقوق المسلمين، والمبدأ الذي لا يتعارض مع نصوص الشريعة وقواعدها العامة.
ثالثاً: ومع ما سبق فإن حالات الإلزام قانونياً ، أو وظيفياً، مسموح بها شرعاً، إضافة إلى ما سبق إثباته في قرارات الدورة السادسة.
تعليق:
قلت : لأهمية موضوع التأمين أردت أن أعلق عليه تعليقاً موجزاً، لكنه يبين باختصار حقيقة التأمين التجاري، والتأمين التكافلي، وعناصرهما، والفرق بينهما.
أولا: التأمين التقليدي يعرف بأنه : ضمان يقدمه مؤمن إلى مومن له بتعويضه عن خطر محتمل، مقابل نقود يدفعها، أو اشتراك.( لاروس الصغير الفرنسي)
ويعرفه الفرنسي هيمار : بأنه عقد بموجبه يحصل أحد المتعاقدين وهو المؤمن له في نظير مقابل يدفعه على تعهد بمبلغ يدفعه له، أو للغير إذا تحقق خطر معين، المتعاقد الآخر وهو المؤمن الذي يدخل في عهدته مجموع من هذه الأخطار يجري مقاصة فيما بينها طبقاً لقوانين الإحصاء."(الوسيط للسنهوري 7/1090)
أهم مميزات التأمين التجاري:
الانفصال الكامل لشخصية المأمن "صاحب المشروع" عن شخصية المؤمن له "مالك وثيقة التأمين".
تهدف الهيئات الممارسة للتأمين التجاري أساساً إلى تحقيق الربح، فالمال الذي يجمع من الأقساط يصبح ملكاً للمؤمن، والربح أو الخسارة عبارة عن الناتج عن زيادة الأقساط المتحصلة أو نقصها عن التكلفة الفعلية للتأمين، مع ملاحظة تحمل قسط التأمين التجاري المقدر منذ بداية العقد بجزء لمقابلة الأرباح المراد تحقيقها.
__________
(1) أي أنها لا ترتجع بالكامل ، وإذا ارجع شئ فهو ما يسمى بالفائض الذي يوزع في أخر العام.(1/147)
يتميز التأمين التجاري بأن الأقساط التي يدفعها المؤمن لهم ثابتة منذ إبرام العقد تتحرر على أسس معينة، وتبقى كذلك طيلة مدة العقد فيكون المؤمن لهم لهم على علم بما يلتزمون به منذ البداية.
أما التأمين التكافلي فقد ورد تعريفه في قرارات المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث بما نصه: والبديل الشرعي لذلك هو التأمين التكافلي القائم على تكوين محفظة تأمينية لصالح حملة وثائق التأمين، بحيث يكون لهم الغنم وعليهم الغرم، ويقتصر دور الشركة على الإدارة بأجر، واستثمار موجودات التأمين بأجر، أو بحصة على أساس المضاربة.
وإذا حصل فائض من الأقساط وعوائدها بعد دفع التعويضات فهو حق خالص لحملة الوثائق، وما في التأمين التكافلي من غرر يعتبر مغتفراً؛ لأن أساس هذا التأمين هو التعاون والتبرع المنظم، والغرر يتجاوز عنه في التبرعات.
وأهم مميزات التأمين التعاوني هي:
اتحاد شخصية المؤمن "صاحب المشروع" وشخصية المؤمن له "حامل وثيقة التأمين" ومن هنا جاء وصف هذا النوع من التأمين بالتكافلي حيث يؤمن الأعضاء بعضهم بعضاً، فكل منهم مؤمن ومؤمن له في وقت واحد.
إن تعريف المجلس الأوربي إنما هو تعريف لصورة مفضلة من التأمين التكافلي لأن التأمين التكافلي قد يأخذ صوراً متعددة كأن تأسس جماعة شركة مضاربة تقوم بالتجارة في موجودات الشركة ويلحقون بنظام الشركة عقداً تكافلياً يلتزم فيه أعضاء الشركة بتأمين بعضهم البعض وحمايته من الأخطار سواء كان ذلك من ربح الشركة، وهو أمر جائز أن يتبرع المضارب بربحه.(1/148)
وهناك صيغة أخرى طبقناها في بعض البلاد وهي تكوين شركة مضاربة بأموال يقوم فيها بعض أعضاء الشركة بالإدارة لصالح الجميع فيكون لهؤلاء مزيد من الأرباح لأنهم مؤسسون ومشتركون بأموالهم وأبدانهم وهو جائز على مذهب أحمد وقد بين ذلك ابن قدامة حيث قال : وأما المضاربة التي فيها شركة وهي أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفاً ويأذن أحدهما للأخر في التجارة بهما فمهما شرطا للعامل من الربح إذا زيد على النصف جاز لأنه مضارب لصاحبه في ألف ولعامل المضاربة ما اتفقا عليه بغير خلاف...
وبعد شرح طويل قال : فحصل مما ذكرنا أن الربح بينهما على ما اصطلحا عليه في جميع أنواع الشركة. (المغني 7/ 138-139-140 دار هجر).
ومما ذكرنا يتبين أنه قد تكون أفضل صيغة للتأمين الإسلامي أن تكون شركة مضاربة ومعها شركة أموال فيمنح المساهمون الكبار وهم المضاربون بأبدانهم لتوليهم الإدارة وأرباب المال لاشتراكهم بأموالهم حصةً من الربح أكبر من حصص المشتركين حملة الوثائق لوجود التراضى ولهذا فيكون لهؤلاء المشتركين في الجمعية العامة ممثلون.
وهي صيغة مختصرة وبسيطة تقوم على تأسيس شركة تجارية من مساهمين كبار تبرعوا بجزء من أموالهم لجبر الأضرار التي تنزل بهم ويلتحق مشتركون صغار بنفس الصيغة أي أنهم شركاء بالأقساط التي دفعوها متضامنين مع الآخرين مع قبولهم بمنح جزء أكبر من الربح لهؤلاء المساهمين المؤسسين وهي شركة تلزم بالقول وهذا مذهب مالك قال خليل (ولزمت بما يدل عرفاً كاشتركنا).(1/149)
ولا بأس أن نذكر بكلام للنووي مذكور في البحث السابق لتطبيقه على موضوع التأمين يقول النووي : " (فرع) الأصل أن بيع الغرر باطل لهذا الحديث والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه (فأما) ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار، وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر، ذكر أو أنثى، كامل الأعضاء أو ناقصها، وكشراء الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك فهذا يصح بيعه بالإجماع .
ونقل العلماء الإجماع أيضاً في أشياء غررها حقير (منها) أن الأمّة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها، ولو باع حشوها منفرداً لم يصح ، وأجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهراً مع أنه قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين ، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بأجرة، وعلى جواز الشرب من ماء السقاء بعوض مع اختلاف أحوال الناس في استعمال الماء أو مكثهم في الحمام .
قال العلماء مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلاّ بمشقة أو كان الغرر حقيراً جاز البيع وإلاّ فلا.
وقد يختلف العلماء في بعض المسائل كبيع العين الغائبة، وبيع الحنطة في سنبلها، واختلافهم مبني على هذه القاعدة ، فبعضهم يرى الغرر يسيراً لا يؤثر ، وبعضهم يراه مؤثراً والله سبحانه وتعالى أعلم (المجموع للنووي: 9/258) .
من هذا الكلام نستفيد أمرين أحدهما الغرر الخفيف الذي يغتفر للحاجة وهو ما بني عليه المجلس جواز التكافل بأنواعه، والغرر الكبير المؤثر وهو أصل التحريم إلا أن المجلس تجاوز عن هذا الغرر إذا لم يمكن الاحتراز منه في البيئة الأوربية ولعل ذلك ما أشار إليه النووي بقوله :" أما ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز منه...".(1/150)
ولهذا فإن هذه الفتوى مبنية على قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في صورتي الغرر المغتفر في الأصل، وهو ما خف ودعت إليه حاجة وفي صورة المحرم اصلا وأشتدت وطأة الحاجة ولم يمكن الاحتراز في حالة التأمين التجاري في أوربا لفرضه بالقانون ولمسيس الحاجة المنزلة منزلة الضرورة إليه.
- الفرق بين التأمين التعاوني والتأمين التقليدي :
1- أن التأمين التقليدي يغلب عليه الغرر فيمكن أن يعبر عنه بأنه هو الغرر بعينه، كما قدمنا عن الباجي، وبالتالي فهو من الغرر الشديد الغالب المحرم، فلا تجيزه الحاجة إلا في ظروف استثنائية.
وأن التأمين التكافلي يخف فيه الغرر، وذلك لعنصر التبرع القائم عليه ومحدودية المؤمنين فتجيزه الحاجة وهذا هو الفرق الأول.
2- أن التأمين التكافلي عقد إرفاق ومعروف لأنه مبني في نيته على التعاون ولهذا يغتفر فيه الغرر كما قدمنا في مسألة :" أعني بغلامك على أن أعينك" في بحث الحاجة.
وكما في مسألة الدينار الناقص والطعام فإن أراد التبايع حرم وإن اراد الإقالة جاز لأنه معروف في بحث الحاجة.
بخلاف التأمين التقليدي فالقصد الغالب فيه التجارة وكسب الربح، ولهذا لا يجوز فيه الغرر، وهذا هو الفرق الثاني.
3- الفرق الثالث أن الغرر في التأمين التقليدي أصل لأن المؤسسة قائمة على كسبها من الحوادث التي لم تحصل بينما الغرر في التكافلي إضافي وتبعي، وقد قدمنا مسألة الظئر والرضيع عن المواق.
- العناصر الأساسية للتكافل
وأهم شيء في شركة التكافل ثلاثة عناصر :
1- عنصر التبرع وهو تبرع للمتضرر من أعضاء الشركة بجزء من الربح أو بالربح بكامله وهذا كما يجوز في المضاربة التبرع بجزء من رأس المال وهذا جائز لأنه يغتفر الغرر في التبرعات.
2- عنصر الشراكة وهو اعتبار كل قسط يدفع إلى الشركة، إنما هو قسط اشتراك وليس مدفوعاً في مقابل.(1/151)
3- عنصر اتحاد الشخص ذي الجهتين بين المؤمن بصيغة اسم الفاعل والمؤمن بصيغة اسم المفعول سواء أداروا الشركة بأنفسهم كشركة أبدان وأموال، أو أداروها بواسطة جهاز إداري يمارس عملية وكالة بأجر.
أما بالنسبة للفتوى المتعلقة بالتأمين التجاري الذي أجازه المجلس في حالات محددة فإن الفتوى تستند إلى الحاجة الشديدة الناشئة عن الفرض بالقانون، أو الحرج الشديد والمشقة طبقاً لمقولة الشيخ تقي الدين ابن تيمية في حديثه عن الجوائح إن" الشريعة مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها مصلحة راجحة أبيح المحرم".
وهي مبنية من جهة أخرى على الخلاف الذي أسلفنا في مبحث الحاجة والذي يرجح به في العقود الفاسدة.
-توريث المسلم من أقاربه غير المسلمين
يرى المجلس عدم حرمان المسلمين ميراثهم من أقاربهم غير المسلمين ومما يوصون لهم به. وأنه ليس في ذلك ما يعارض الحديث الصحيح: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" الذي يتجه حمله على الكافر الحربي، مع التنبيه إلى أنه في أول الإسلام لم يحرم المسلمون من ميراث أقاربهم من غير المسلمين. وهو ما ذهب إليه من الصحابة معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومن التابعين جماعة منهم سعيد بن المسيب، ومحمد بن الحنفية، وأبو جعفر الباقر ومسروق بن الأجدع، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
- الوفاء بالعقود(1/152)
توقيع العقد في أي صفقة ملزم للطرفين شرعا، ولا يجوز لأحدهما أن يرجع فيه بإرادته المنفردة، دون رضا الطرف الآخر، فهذا مخالف لما أمر الله تعالى ورسوله –صلى الله علهي وسلم -، وأكدته نصوص القرآن والسنة.قال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ" [المائدة:1] وقال عزوجل: "وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً" [الإسراء :34]. وقال تعالى:"وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً" [النحل:91].
وحمل القرآن بشدة على الذين يتهاونون بالعهود وينقضونها من بعد ميثاقها، في آيات كثيرة، منها: "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [آل عمران:77].
واعتبر النبي –صلى الله عليه وسلم - نقض العهد من شعب النفاق، وخصال المنافق الأساسية "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها....و ذكر منها : "إذا عاهد غدر ". رواه الشيخان عن عبدالله بن عمرو.
و ليس من الضروري أن يكون العقد مكتوبا، فمجرد الايجاب والقبول مشافهة يكفي في ايجاد العقد، ولكن له خيار المجلس على ما نرجحه، فلو تبين له عقد آخر، وهما لا يزالان في مجلس العقد، فمن حقه أن يرجع، كما جاء في الحديث الصحيح :" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " متفق عليه عن ابن عمر. فقد جعل الحديث فرصة للتراجع لمن تسرع في التعاقد دون روية.
و مثل ذلك لو كان مغبونا غبنا فاحشا يرفع أمره إلى جهة تحكيم تثبت له خيار الغبن إذا تبين لها ذلك، عملا بمذهب الحنابلة وغيرهم.(1/153)
و يستطيع المسلم أن يخرج من ورطة التراجع في العقد بعد إتمامه إذا اشترط لنفسه الخيار أياما معدودة، يستطيع فيها أن يرجع في صفقته خلالها، وهذا ما نصح به النبي –صلى الله عليه وسلم- أحد الصحابة، حين شكا إليه أنه كثيرا ما يخدع في البيع، فقال له :" إذا بايعت فقل : لا خلابة " أي لا خداع، وهذا في الصحيحين، وفي خارج الصحيحين :" ولي الخيار ثلاثة أيام " والمسلمون عند شروطهم.
أما فيما عدا ذلك، فالمسلم يحترم كلمته إذا قالها، وهذه إحدى القيم التي دعا إليها الإسلام، حتى يستقر التعامل، وتستقيم حياة الناس. وقد قال الشاعر :
و لا أقول : (نعم) يوماً، وأتبعها بـ (لا) ولو ذهبت بالمال والولد
بل يحرم الاسلام أن يبيع المسلم على بيع أخيه، أي يدخل عليه وقد أوشك أن يعقد الصفقة مع الآخر، فيزايد عليه، ليختطف الصفقة منه، وفي هذا جاء الحديث الصحيح : " لا يبيع المسلم على بيع أخيه".
والله أعلم.
- مدى حق الموظف في استخدام الأدوات العامة لديه لمصلحته الشخصية:الأصل في المال العام أو شبه العام ونعني به مال الدولة والمؤسسات العامة والشركات الخاصة هو المنع، وخصوصاً أن نصوص الكتاب والسنة قد شددت الوعيد في تناول المال العام بغير حق، وقد جعل الفقهاء المال العام بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشدة تحريم الأخذ منه، ويستثنى من ذلك ما تعارف الناس على التسامح فيه من الأشياء الاستهلاكية فيعفى عنه باعتباره مأذوناً فيه ضمناً، على أن لا يتوسع في ذلك، مراعاة لأصل المنع، على أن الورع أولى بالمسلم الحريص على دينه، و"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".
– ضوابط التعامل بين الجنسين: اللقاء والتعاون والتكامل بين الرجال والنساء أمر فطري، ولا يمكن منعه واقعاً، ولم يرد في دين الفطرة ما يحجره بإطلاق، وإنما أحاطه بالضوابط التالية:(1/154)
ترك الخلوة (وهي وجود رجل وامرأة أجنبية عنه في موضوع لا يراهما فيه أحد) امتثالاً لقول النبي-صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح:"ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما".
توقي التماس (وهو التلاصق والتراص بالأبدان بين الرجل والمرأة الأجنبية عنه) حذر الإثارة والفتنة.تجنب التبرج (وهو الكشف عما أمر الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- بستره من البدن)، إذ يجب على المرأة حين اجتماعها بالرجال غير المحارم أن تستر كل جسدها ما عدا الوجه واليدين، على مذهب جمهور الفقهاء.
التزام المرأة الحشمة في حديثها وحركاتها، فلا تتصنع من الكلام والحركات ما يؤدي إلى إثارة الغرائز، قال تعالى: "إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا" [الأحزاب 32] وقال تعالى: "ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن".
وعليه، فإذا التزم الرجال والنساء في أي لقاء أو نشاط بهذه الضوابط الشرعية، فلا حرج عليهم في ذلك، ما كان موضوع اللقاء أو النشاط جدياً، سواء أكان علمياً أم ثقافياً ونحو ذلك.
ولا فرق في ضرورة الالتزام بهذه الضوابط بين أن يتعلق الأمر بفتيات مسلمات أو غير مسلمات، لأن الإثارة محتملة في الحالتين، على أن الانفصال في المجلس الواحد في المقاعد بين الرجال والنساء هو الأفضل، خاصة إذا لم تكن هناك حاجة إلى خلافه.
- حكم استفادة الهيئات الخيرية من عوائد الحسابات الربوية من الأفراد والبنوك وما يرتبط بذلك من الدعاية لها، وفتح حساب خاص لهذه الأموال:
عموم المسلمين في الغرب لا يجدون مناصاً من فتح حسابات في البنوك الربوية، ومعلوم أن هذه الحسابات تترتب عليها زيادات ربوية تلحق بحساباتهم، فيجدون أنفسهم بين خيارين:(1/155)
إما ترك هذه الفوائد للبنك، وفي هذا تفويت مصلحة للمسلمين وربما كانت عوناً لمؤسسات تبشيرية، وإما أن يصرفوها في وجوه الخير العامة، وبما أن الحكم لا يتعلق بعين المال وإنما بطريقة تحصيله أو صرفه، فما كان منه حراماً فحرمته في حق من اكتسبه أو صرفه بطريقة غير مشروعة، فالذي يحرم في شأن هذا المال الربوي هو أن ينتفع به الشخص لنفسه، أما بالنسبة لغيره فلا يكون حراماً.
وبناء على ذلك، فإن المجلس لا يرى بأساً من أن تسأل المؤسسة الخيرية أصحاب هذه الحسابات أن يمكنوها من تلك الأموال، كما لا يجد فرقاً في تحصيل هذه الأموال من أي جهة أخرى كالمؤسسات والبنوك وغير ذلك.
وينبغي للمؤسسة أن تتحاشى ما وسعها ذكر اسم البنك المتبرع على وجه الدعاية له، بسبب عدم مشروعية أصل عمله.ولا مانع كذلك من أن يفتح حساب خاص تودع فيه تلك الأموال.
- وكان من ضمن الاستفتاءات التي أجاب عنها المجلس: مسألة الاختلاط بين الجنسين في المنتديات واللقاءات العامة، والمرابحة التي تزاولها بعض البنوك في الغرب، والتأمين، ومعاش التقاعد، واستفادة الجمعيات الخيرية من فوائد البنوك.- كما عهد المجلس إلى بعض أعضائه بمعالجة بعض المشكلات الأسرية التي وردت إليه من خلال الاتصال المباشر بأصحابها.
جمع الزكاة من المسلمين المقيمين في الغرب.
السؤال : هل يجوز لنا أن نجمع الزكاة من المسلمين المقيمين في هذه البلاد ثم نقوم بعد ذلك بتوزيعها على المستحقين في صورة دفعات تستمر لسنة كاملة وليس دفعة واحدة في حالة معرفتنا أنه قد ينفد المال الذي يصل إلى المستحق ثم يحتاج ولا يجد من يعاونه أو أنه يحتاج إلى هذا المال في مواسم معينة ؟
الجواب :
نعم يجوز جمع أموال الزكاة وحبسها لتعطى إلى الفقراء على شكل دفعات بحسب ما يتناسب مع حاجاتهم حتى المزكي نفسه يمكنه أن يفعل ذلك إذا رأى مصلحة الفقير فيه لكن عليه أن يعزل ذلك المال من سائر ماله وأن لا ينتفع به انتفاعاً خاصا.(1/156)
ماذا أفعل بالفوائد الربوية غير المقصودة؟
السؤال : أنا طالب كنت أدرس منذ سنتين في بريطانيا وكنت أتقاضى منحة دراسية من بلدي عن طريق أحد البنوك وكما تعلمون فإن البنوك تعطي فائدة بسيطة ولم أقم في ذلك الوقت بخصم هذه الفائدة من أموالي لأني لم أكن أعرف قيمتها بالضبط ولا كيفية خصمها حيث إنها لم تكن ذات قيمة ثابتة ولقد قمت بالتصرف في كل مالي تقريباً عدا القليل الذي ما يزال بحسابي بالبنك.
والسؤال هو : هل يجوز لي خصم هذه الفائدة الآن وكيف يمكنني أن أفعل ذلك ؟ وهل يمكنني تقدير قيمة الفائدة وبالتالي خصمها من المال بالعملة المحلية لبلدي ؟
والسؤال الثاني: بخصوص المال المتبقي في حسابي حوالي 1000دولار أمريكي منذ سنتين وهو ثابت القيمة هل يجوز لي أن أستخرج الزكاة على هذا المال كلما مر عليه الحول مع العلم بأني أدخر هذا المال لدفع رسوم دخول الامتحانات في بريطانيا في المستقبل.
الجواب :
بالنسبة إلي التصرف بالفائدة فاجتهد في طلب معرفتها عن طريق حسابك في البنك فإن تعسر عليك ذلك فلا بأس أن تقدرها بالتقريب والظن وتحتاط في ذلك التقدير بما تحسب أن ذمتك قد برئت به ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وحين تحدد مبلغ الفائدة فيجب عليك صرفها للفقراء ولا تنتفع بها لنفسك.
أما ما سألت عنه بخصوص الزكاة على المبلغ المذكور فإن نصاب المال هو ما يعادل 85 غراماً من الذهب الخالص والذي يعلن عنه عادة في الصحف وأسواق المال فإذا بلغ مالك قيمة النصاب المذكور ومرت عليه في حسابك سنة وجبت عليك فيه الزكاة والظاهر من السؤال أنه لا زكاة عليك حيث إن المبلغ المدخر مرصود لحوائجك الأصلية.
بناء المساجد بتبرعات غير المسلمين
السؤال : بعض الأغنياء ممن لا تخلو أموالهم من شبهة إذا تبرعوا لبناء مسجد كلاً أو بعضاً فما هو الحكم الشرعي في قبول ذلك منهم؟ ولو تبرعت جمعية أو جهة أخرى من غير المسلمين لصالح بناء المسجد فهل يقبل منهم ذلك ؟
الجواب:(1/157)
نعم يجوز قبول التبرع من الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات مسلمة كانت أو غير مسلمة حتى ولو غلب على ظننا أنها أموال غير مشروعة من وجهة النظر الإسلامية، إلا إذا كانت محرمة العين مثل الخمر والخنزير وذلك لأن قبول التبرع منهم بمنزلة قبول الهداية، إذ التبرع نوع منها، هذا عند جمهور الفقهاء وعندما تنتقل هذه التبرعات إلينا يصبح من الواجب أن تخضع للأحكام الشرعية.
وفي حالة حصول التبرع من غير المسلمين يستثنى من القبول حالتان:
الأولى: ما إذا كان هذا التبرع يؤدي إلى إضعاف ولاء المسلم للإسلام وأهله.
الثانية: ما إذا كان هذا التبرع مشروطاً بما يضر بمصالح المسلمين. (الدورة الثانية)
تعليق:
قلت: قد نص شراح خليل على كراهة الصلاة في المسجد المبني بالمال الحرام.
بطاقة الفيزا
السؤال:إن بعض البنوك تصدر بطاقات ائتمان مثل الفيزا VISAبحيث يشتري حامل البطاقة بواسطتها من الأسواق ما يريد وفي آخر الشهر يرسل البنك إلى حامل بطاقة فيزا VISA كشف حساب ليسدد ما عليه خلال خمسين يوماً فإذا سدد قبل نهاية الخمسين يوماً فإنه لا يدفع سوى ما صرفه فعلا دون أي فائدة ربوية وإذا تأخر عن الخمسين يوماً فإن البنك يقوم بتحميله فوائد ربوية عن المدة التي تأخرها.
ومعظم المسلمين في الغرب يحملون هذه البطاقات ويشترون بواسطتها ويسددون قبل نهاية المدة المتاحة وبذلك لا يستحق عليهم أي فوائد ربوية.
والإيجابيات لحامل بطاقة فيزا VISA أنه لا يحمل نقوداً تتعرض للضياع أو السرقة في بلد إقامته أو سفره، ويشتري بواسطتها من معظم دول العالم دون الحاجة لتصريف العملة وهي قرض حسن لمدة 50يوماً.
والإيجابيات للبنك الذي يصدر بطاقة فيزا VISA هي أن يأخذ من البائع الذي اشترى منه حامل بطاقة الفيزا VISA نسبة 2% من قيمة المشتريات ويأخذ فوائد ربوية من حاملي بطاقة فيزا الذين لا يسددون حسابهم خلال الخمسين يوماً.(1/158)
وهناك عرض من أحد البنوك لإصدار بطاقة الفيزا باسم الهيئة الخيرية بحيث يظهر اسم الهيئة مكان اسم البنك وبذلك تظهر الهيئة كمصدرة لهذه البطاقة.وإدارياً لا تقوم الهيئة بأي جهد مطلقاً. فالبنك يقوم بكل ذلك.
والإيجابيات للهيئة الخيرية هي أنها تحصل على نسبة كأرباح من البنك كلما استعمل حامل البطاقة بطاقته فيزا ولا تتحمل الهيئة الخيرية أو حامل بطاقة الفيزا أي مصروفات تجاه هذا المشروع. وكل ما هو مطلوب من الهيئة الخيرية هو تزويد هذا البنك بعناوين متبرعي الهيئة ليرغبهم باقتناء بطاقة فيزا ومن الممكن أن توزع الهيئة حملاتها البريدية عن طريق البريد الصادر من البنك شهرياً لحملة البطاقات وبذلك توفر أجور البريد وعلى حامل بطاقة الفيزا توقيع اتفاقية مع البنك تشير أحد بنوده إلى أن حامل البطاقة عليه دفع فوائد ربوية إذا مضت مدة خمسين يوماً الممنوحة له ولم يسدد حسابه قبل نهاية تلك المدة.
والسؤال هو : هل يجوز لهذه الهيئة الخيرية أن تكون وكيلا عن بنك بتسويق بطاقات فيزا وذلك مقابل فرصة لدعم المشاريع الخيرية من ذلك البنك ؟
الجواب :
في عدد من البلاد الإسلامية قامت المصارف الإسلامية بإصدار بطاقة فيزا شرعية خالية من الشبهات بعيدة عن الفوائد كما في بيت التمويل الكويتي ومصرف قطر الإسلامي وبنك قطر الدولي الإسلامي وشركة الراجحي بالسعودية وغيرهما من المؤسسات المالية الإسلامية.
وهذه لا حرج في استخدامها بعد أن أجازتها هيئات الرقابة الشرعية في تلك البنوك.
ولكن يبقى السؤال عن وضع هذه البطاقات خارج العالم الإسلامي وفي البلاد التي لا توجد فيها بنوك إسلامية : ما حكم هذه البطاقات ؟(1/159)
والذي عليه الفتوى من أكثر علماء العصر فيما نعلم هو : إجازة استخدامها للحاجة الماسة إليها مع لزوم تسديد الحساب المطلوب قبل نهاية المدة الممنوحة له حتى لا تترتب عليه فوائد التأخير فيدخل في إثم مؤكل الربا. وهو الذي جرى عليه تعامل عامة المسلمين في بلاد الغرب من غير نكير عليهم من أحد يعتد به.
ويشترط فيمن يستخدم هذه البطاقة أن لا يستخدمها إذا لم يكن له رصيد في حسابه.
وإذا كانت الفتوى المعتمدة هي جواز استخدام هذه البطاقات للأفراد فلا مانع أن تقوم بعض الهيئات الخيرية الإسلامية بالوكالة عن البنك بتسويق هذه البطاقات بين متبرعيها وأن تصدر هذه البطاقات باسمها بحيث تظهر الهيئة كأنها المصدرة لهذه البطاقة ما دامت لا تتحمل الفوائد ولا يترتب عليها أية مسؤولية في ذلك ولا تتحمل أي مصروفات تجاه هذا المشروع.
وستحصل الهيئة على نسبة مئوية بوصفها أرباحاً من البنك كلما استعمل حامل البطاقة بطاقته. فالبنك يستفيد لنفسه ويفيد الهيئة بإعطائها نسبة معينة من ربحه.
ويشترط فيمن يستخدم هذه البطاقة أن لا يسحب بها أموالا نقدية إذا لم يكن في حسابه ما يغطيها. ( الدورة الأولى)
العمل في محلات تبيع لحم الجنزير
السؤال: أنا مسلم أعمل في ما يعرف بمحلات الماكدونالدز وهي محلات تبيع الأطعمة والمأكولات الخفيفة وفي الواقع فإن هذا المحل يبيع لحوم الخنزير وكما تعلمون فإنه ليس من السهل أن يجد المرء عملا آخر يقتات منه وذلك بسبب ضعف المرتبات علماً بأن لدي زوجة على وشك أن تضع مولوداً وأنا الوحيد الذي أعمل من أجل أن أعولها.
كذلك أود أن أشير إلى أن المحل يبيع مأكولات أخرى مثل السندوتشات المحشوة بالبيض أو البيرجر فهل يتوجب علي أن أترك هذه الوظيفة وأبحث عن غيرها ؟
الجواب :(1/160)
إن الله عز وجل حرم أكل لحم الخنزير بنصوص قطعية صريحة في كتابه أما بيعه فإنه مما ثبت في السنة تحريمه فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عام الفتح وهو بمكة: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". (متفق عليه البخاري رقم 2121 ومسلم1581)
فالأصل في هذا العمل المقترن ببيع الخنزير تحريمه بنص حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فالواجب عليك أن تبحث عن سبب آخر للرزق فإن لم تجد عملاً حلالاً ولا مصدراً طيباً لكسب رزقك فإن كان لا يضر بك أن تطلب من المسؤولين عن العمل أن يعفوك من بيع الخنزير فيجب عليك أن تفعل ذلك أو تطلب من عامل آخر غير مسلم ممن يعمل معك أن يكفيك هذا الأمر وتعمل أنت فيما سوى ذلك من الأعمال التي ليس فيها حرمة فإن تعسر عليك كل ذلك فلا بأس باستمرارك في العمل الحالي إذا لم يكن عندك من الدخل ما يقوم بكفايتك مع بذل الوسع في الحصول على عمل آخر يخلو من الحرام.
بيع الخمر الخنزير لأجل كسب العملاء
السؤال: أخ مسلم قام بفتح مطعم في هذا البلد ويطلب الجواب عن المسائل التالية :
1- رأى الإقبال على الشراء من مطعمه ضعيفاً وذلك لأنه لا يبيع الخمر أو المشروبات المحرمة شرعاً فهل يجوز له أن يبيع الخمور أو بعض المشروبات المحرمة شرعاً ثم يتصدق بثمنها دون أن يمس منه شسئاً ؟
2- بعض الزبائن يطلبون منه أن يؤجر لهم المحل لعمل بعض الحفلات وهم يحضرون معهم الخمور ولكنهم لا يستعملون أي أدوات من المطعم وصاحب المطعم لا يشاركهم في حفلاتهم فهل يجوز له ذلك ؟
3- سمعنا أن هناك نوعاً من البير "ماء الشعير" تباع في بعض الدول الإسلامية وهي لا تحتوي على الكحول كما يشاع فهل يجوز لنا أن نشربها ؟ وهل يجوز بيعها في المطعم المذكور؟
الجواب :(1/161)
1- لا يجوز له أن يبيع الخمور وما هو محرم من الأطعمة أو الأشربة حتى مع عدم انتفاعه بأرباحها وتصدقه بها وعليه أن يتقي الله تعالى في كسب رزقه "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" [الطلاق2-3].
ويعلم أن البركة في الحلال وإن قل في نظره والحرام ممحوق البركة لا خير فيه والمؤاخذة عليه باقية على مكتسبه إلا أن يغفر له الله ويرحمه.
تعليق:
قلت: مسألة بيع الخمر لغير المسلمين في دار غير المسلمين جائزة عند أبي حنيفة وكذلك بيع الخنزير وغيره فليراجع في هذا الكتاب.
2- لا مانع من تأجير المحل للغرض المذكور وبالصفة المذكورة وليس صاحب المحل مسؤولاً عما يفعلونه ضمن إجارتهم إنما هو مسؤول عن نفس عملية التأجير فما دامت خلت من الحرام في نفسها فهي جائزة.
تعليق:
قلت : هذا هو مذهب الشافعي خلافاً لمالك وأحمد .
3- كل مشروب لا يسكر فهو حلال فحيث أن هذا النوع من الشراب المسمى في السؤال لا يسكر لخلوه من مادة الإسكار فهو حلال وإن سمي باسم قبيح جرت العادة بإطلاقه على المسكرات فإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء وما جاز شربه جاز بيعه. ( الدورة الثانية)
مضاربة فاسدة!
السؤال : لي مبلغ من المال أعطيته لتاجر ليدخله إلى رأس ماله كي يتاجر به فيستفيد هو وأستفيد أنا كذلك. وأنا والذي نفسي بيده لا أرضى بالربا ولا أحبه وما نويته وما خطر لي على بال. وقد طلبت من هذا التاجر أن نتفق على نسبة في الربح والخسارة فأبى بحجة أن ذلك سيشق عليه بمعنى أنه سيضطر إلى إجراء حسابات وحسابات وهو لا يريد ذلك وأنا أظن أن هناك سبباً آخر لم يصارحني به وهو أنه لا يريد أن يطلعني على أشياء أخرى على سبيل المثال: كم هو ربحه الحقيقي وربما تكون هناك أسباب أخرى.(1/162)
وخلاصة الأمر: فقد أكد لي هذا التاجر أن ماله سيربح ومن أجل أن يريح نفسه من الحسابات وغير ذلك فقد قرر أن يعطيني 10% سنوياً.
فقلت له أخشى أن يكون هذا ربا فأكد لي أن هذا ليس ربا لأن المال يربح أكثر من ذلك وهو إنما يريد أن يعطيني هذه النسبة كما ذكرت ليريح نفسه من عناء الحسابات فما هو الحكم الشرعي في هذه الحال؟
بالنسبة لي إذا كان المال يربح أكثر من 10% فأنا أسامح هذا التاجر بما هو فوق ذلك وأرضى بـ10% لأنها أفضل من أن يكون المال في درج طاولتي أو في حسابي في البنك.
وإذا كان ربح المال أقل من 10% أو أن المال سيخسر فإني سأستحلف هذا التاجر بالله أن يصدقني القول فإن قال لي إن المال ربح أقل من 10% أو خسر فإني سأخذ قدر ما ربح المال فقط بمعنى أني سأشاركه الربح وإن كان قد خسر المال فسوف أشاركه الخسارة.
أفتوني إخواني جزاكم الله خيراً في فعلي هذا هل هو مطابق للشرع أم لا ؟ وإن كان هذا لا يرضي الشرع فكيف يمكنني أن استثمر مالي بما يرضى الشرع الحنيف؟
الجواب :
نيتك طيبة في حرصك على عدم أخذ الربا لكن العقد مضاربة فاسدة وذلك للجهالة في النسبة عند الاتفاق لذا يجب تصحيح ذلك العقد بتحديد نسبة صريحة في العقد فإذا تعذر عليك تصحيحه فلا يجوز أن تحدده إذا انتهت مدته كذلك لا يجب عليك أن تستحلف شريكك على الربح أو الخسارة وإنما يكفيك أن تطلب منه أن يخبرك بالخسارة عند وقوعها.
من فتاوى الزواج والطلاق
* زواج المصلحة:
- ما هو الحكم الشرعي فيما يسمى بزواج المصلحة وصورة هذا الزواج متعددة فيما يبدو لي ومنها على سبيل المثال:(1/163)
*يتفق رجل وامرأة على عقد زواج مقابل مبلغ من المال يدفعه إليها وقد يكون هذا المبلغ مقطوعاً أو موزعاً على سنوات – حسب الاتفاق- وذلك في مقابل أن تذهب معه إلى مصلحة شرطة الأجانب عند تجديد الإقامة كل سنة إلى أن يحصل على الإقامة الرسمية ومن ثم يفسخ العقد وفي تلك الأثناء إما أن يعيش الرجل مع هذه المرأة عيشة الزوجين بمعنى أنه يضمهما بيت واحد يتعاشران فيه معاشرة الأزواج إلا أنهما يتفقان على فسخ العقد عند حصول الزوج على الإقامة الرسمية وهذا الاتفاق لا يصرح به طبعاً عند الجهة العاقدة لأن القانون لا يسمح بذلك.
*وفي بعض الصور لا يعيش الرجل مع المرأة التي عقد عليها أمام السلطات ولا يخالطها ولا تخالطه بل يتفقان أن تذهب معه عند تجديد الإقامة كل سنة كي تقول للسلطات إنها مرتبطة به كزوج وتأخذ المبلغ المتفق عليه ويذهب بعد ذلك كل واحد إلى حال سبيله.
مع العلم بأن هذا اللون من ألوان الزواج قد يقدم عليه الرجل لأجل أن يحصل هو على الإقامة وبالمقابل قد تفعله المرأة مع الرجل لتحصل هي على الإقامة ويمكن أن يكون أحدهما غير مسلم ويمكن أن يكون الاثنان مسلمين!!! وفي كل الأحوال فإنه خلال هذه المدة تكون الزوجة محسوبة على زوجها من الناحية القانونية ويكون هو محسوباً عليها من الناحية القانونية كذلك ولو افترضنا أن هذه المرأة قد عاشرت رجلا آخر وأنجبت منه فإن المولود يسجل باسم هذا الزوج المؤقت، ولو طالبها بحق المعاشرة الزوجية فإنها لا تستطيع أن تمتنع عن ذلك قانوناً، وخاصة إذا كانت هي المحتاجة إلى الإقامة.
وهذا العقد بصورتيه المذكورتين إنما يتم في البلدية كسائر العقود المدنية في هذا البلد.
وقد يكون عقداً شرعياً بشروطه الشرعية المعتبرة، ولكن الجانبين لا يصرحان بذلك الاتفاق في صلب العقد. وإنما هو اتفاق بينهما بحضور بعض أفراد العائلتين (عائلة الزوج، وعائلة الزوجة).(1/164)
*وهنالك صورة أخرى من صور الزواج في بلاد الغرب أوردها كما يلي:
يتزوج الرجل المرأة بصداق ولكنه مضمر في نفسه ويصرح لأصدقائه وأقاربه أن غرضه ليس الزواج، وإنما هو الحصول على الإقامة، فمتى حصل على الإقامة طلق زوجته هذه، وهو لا يستطيع أن يصرح بهذا أمام المرأة خوفاً من أن تطرده قبل الحصول على الإقامة.
الجواب :
الصورة الأولى : حرام يأثمان عليه وذلك بسبب منافاة هذا العقد لمقصد الشريعة في الزواج إذ هو عقد صوري مقصود به أمر آخر غير الزواج، فهو لو استوفى شروط العقد، فإنه لا يحل لهذا المعنى، وكذلك لأجل أن قانون البلاد لا يسمح به يتأكد المنع بمجئ هذه الصورة مخالفة لقانون البلد، والقانون هنا متفق مع المقصد الشرعي.
كما أن هذه الصورة لا تخلو من شبه بنكاح المتعة الذي حرمه النبي -صلى الله عليه وسلم - كما في حديث سبرة بن معبد أنه كان مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال :" ياأيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً".أخرجه مسلم. (1406) من جهة التوقيت الذي فيه إلى فترة الحصول على الإقامة ثم يفسخ العقد بعد ذلك كما عبر السائل.
والصورة الثانية : مثل الأولى في التحريم وفيها قضية مقطوع بحرمتها وهي زواج المسلمة بغير المسلم، فإن مجرد العقد فاسد، سواء للغاية المذكورة في السؤال، أو لمجرد الزواج.
وأما الصورة الثالثة: فالعقد وإن كانت صورته صحيحة، إلا أن الزوج آثم بغشه المرأة، وذلك لإضماره نية الطلاق من حين العقد، والزواج في الإسلام يعنى الديمومة والبقاء والاستقرار للحياة الزوجية، والطلاق طارئ بعد العقد ولهذا السبب حرم الزواج المؤقت واعتبر فاسداً.(1/165)
كذلك فإن الإيجاب والقبول في الزواج شرطان أساسيان فيه والمرأة حين قبلته زوجاً، فإنما كان مقصدها حقيقة الزواج ولو علمت أنه قبلها زوجة مؤقتة يطلقها متى شاء لرفضت ذلك، فإذا كان عازماً الطلاق عند العقد أثر ذلك في صحة العقد، لأن المرأة بنت قبولها على غير ما أراد. ( الدورة الثانية)
تعليق:
قلت : إن بطلان هذا العقد ليس صحيحاً فالزواج في الإسلام ليس مقصوداً منه الديمومة والبقاء وإنما له قصود مختلفة ذكرها النبي –صلى الله عليه وسلم- في قوله: (تنكح المرأة لأربع خصال لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها..)
وقد ذكر الشاطبي قصوداً كثيرة قائمة من الحديث كالتناسل القائم من حديث " تزوجوا الولود الودود". والقيام على مصالح الزوج القائم لحديث جابر.
ولهذا فلا عبرة بقصد الطلاق عند النكاح لتحقق هذه القصود أو بعضها بالنكاح، وإليك القطوف التالية من الشاطبي:
الأسباب من حيث هي أسباب شرعية لمسببات إنما شُرعت لتحصيل مسبباتها، وهي المصالح المجتلبة أو المفاسد المستدفعة.
والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان:
أحدهما: ما شرعت الأسباب لها إما بالقصد الأول وهي متعلق المقاصد الأصلية، وإما بالقصد الثاني وهي متعلق المقاصد التابعة، وكلا الضربين مبيَّن في كتاب المقاصد.
والثاني ما سوى ذلك مما يُعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها، أو لا يُعلم ولا يُظن أنها شرعت لها، أو لم تشرع لها فتجيء الأقسام ثلاثة:(1/166)
أحدها: ما يُعلم أو يظن أنَّ السبب شرع لأجله فتسبُّب المتسبِّب فيه صحيح، لأنه أتى من بابه وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضا في التوسل إليه، لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا، ثم يتبعه اتخاذ السَّكن، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم، أو دينهم، أو نحو ذلك، أو الخدمة، أو القيام على مصالحه، أو التمتع بما أحل الله من النساء، أو التجمل بمال المرأة، أو الرغبة في جمالها، أو الغبطة بدينها، أو التعفف عما حرم الله، أو نحو ذلك حسبما دلت عليه الشريعة، فصار إذا ما قصده هذا المتسبب مقصودَ الشارع على الجملة وهذا كاف وقد تبين في كتاب "المقاصد" أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبب. (1/382)
وفي مذهب مالك من هذا كثير جداً ففي "المدونة" فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق أنه ليس من نكاح المتعة، فإذا تزوج المرأة ليمين لزمته أن يتزوج على امرأته، فقد فرضوا المسألة، وقال مالك: إن النكاح حلال فإن شاء أن يُقيم عليه أقام، وإن شاء أن يُفارق فارق، وقال ابن القاسم: وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا. قال: وهو عندنا نكاح ثابت، الذي يتزوج يريد أن يبر في يمينه، وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها لا يريد حبسها ولا ينوي ذلك، على ذلك نيتُه وإضماره في تزويجها فأمرهما واحد فإن شاءا أن يُقيما أقاما لأن أصل النكاح حلال. ذكر هذا في "المبسوطة".
وفي "الكافي" في الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها بعد السفر: أن قول الجمهور الجواز.(1/167)
وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة وأنه لا يجيزه بالنية كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة وإن لم يلفظ بذلك ثم قال: وأجازه سائر العلماء، ومثل بنكاح المسافرين قال: وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك فإنا لو ألزمناه أن ينوي بقلبه النكاح الأبديَّ لكان نكاحاً نصرانياً، فإذا سلم لفظه لم تضرّه نيته، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حُسن العشرة، ورجاء الأدمة، فإن وجدها، وإلا فارق، كذلك يتزوج على تحصيل العصمة فإن اغتبط ارتبط، وإن كره فارق، وهذا كلامه في كتاب الناسخ والمنسوخ. وحكى اللخمي عن مالك: فمن نكح لغربة، أو لهوى ليقضي أربه، ويفارق فلا بأس.
فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل عليها، وأشدُّها مسألة حلِّ اليمين لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيها، وإنما قصد أن يبرَّ في يمينه، ولم يُشرع النكاح لمثل هذا، ونظائر ذلك كثيرة وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع، وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولاً ثم الفراق ثانياً، وهما قصدان غير متلازمين، وإلا فإن جعلتهما متلازمين في المسألة الأولى بحيث يؤثر أحدهما في الآخر، فليكن كذلك في هذه المسائل، وحينئذ يبطل جميع ما تقدم. فعلى الجملة يلزم إما بطلان هذا كله، وإما بطلان ما تقدم. ( 1/387)
قال الزرقاني في شرحه لخليل : "تنبيه": حقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ مطلقاً، أن يقع العقد مع ذكر الأجل من الرجل للمرأة أو وليها، بأن يعلمها بما قصده كما مر، وأما إذا لم يقع ذلك في العقد ولا اشترط ولكنه قصد الرجل وفهمت المرأة ذلك منه فإنه يجوز قاله مالك. وهي فائدة حسنة تنفع المتغرب. وفي الشرح والشامل التصدير بالفساد إذا فهمت ذلك منه أيضا، وظاهر ترجيح الصحة فيه لاقتصاره عليه تبعاً لجده وحكاه في الشارح وشامله عن مالك بعد ما صدر بالفساد فإن لم يصرح ولم تفهم فليس بمتعة اتفاقاً.( 3/190)(1/168)
قلت: هذه الفتوى بالإضافة إلى ضعف مستندها فإنها مخالفة لقاعدة النظر إلى المئالات من جهة أن الشاب الذي يمنع من هذا النوع الأخير من الزواج قد يؤول به الأمر إلى ارتكاب المحرمات.
أما المئال الآخر فهو كسر نفس المرأة وبخاصة المسلمات الجدد، فينبغي أن ينبه إليه بتوجيه الشاب إلى إدامة الزواج وحسب الإمكان، وتمتيع المرأة بتقديم تعويض مالي كما هو المشروع بدلا من تحريم الحلال.
ثم إن الزواج إذا وقع بشروطه فإنه زواج صحيح، حتى ولو نوى عدم الاستمتاع بها، قال الشاطبي في الموافقات : إنَّ متعاطي السبب إذا أتى به بكمال شروطه وانتفاء موانعه ثم قصد لأن لا يقع مسببه فقد قصد محالاً وتكلف رفع ما ليس له رفعه ومنع ما لم يجعل له منعه.
فمن عقد نكاحاً على ما وضع له في الشرع، أو بيعاً، أو شيئاً من العقود ثم قصد أن لا يستبح بذلك العقد ما عقد عليه فقد وقع قصده عبثاً، ووقع المسبب الذي أوقع سببه وكذلك إذا أوقع طلاقاً أو عتقاً قاصداً به مقتضاه في الشرع ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك فهو قصد باطل ومثله في العبادات إذا صلى أو صام أو حج كما أمر ثم قصد في نفسه أن ما أوقع من العبادة لا يصح له أو لا ينعقد قربة وما أشبه ذلك فهو لغو.(1/354 )
فتوى 18
* التوثيق الشرعي لعقد الزواج المدني
أحد الأشخاص كان يعاشر امرأة كتابية دون عقد زواج شرعي ثم كتب عليها عقد زواج مدني بعد ذلك وقد أنجبت له طفلة وهو الآن يرغب أن يتزوجها بعقد شرعي فهل يمكننا أن نكتب له عقد زواج شرعي ؟ وما هو المطلوب منا قبل كتابة العقد؟
الجواب:
نعم، يمكنكم أن تكتبوا له مع زوجته صيغة عقد زواج شرعي، يكون بمثابة وثيقة تصديق وتوكيد للعقد المدني، إذا كان ذلك العقد قد استوفى شروط الصحة، ويجب أن تكون تلك الوثيقة مؤرخة بتاريخ العقد المدني، كما لا بأس بالإشهاد على ذلك وتكون تلك الشهادة على صحة العقد وليس هناك ما يدعو إلى تجديد العقد، ما دام ذلك العقد مستوفياً الشروط.(1/169)
وأما المطلوب منكم قبل كتابة العقد فلا أكثر من تذكير ذينك الزوجين بالله تعالى والاستغفار لما وقع منهما قبل الزواج المدني من معاشرة ممنوعة. ( الدورة الثانية)
فتوى19
* الطلاق لعدم وجود غشاء البكارة
هل يجوز للزوج الجديد أن يطلق زوجته إذا تبين له أنها فقدت غشاء البكارة على الرغم من قسمها بالله تعالى وحلفها على المصحف أنها لم تزن قط وإنما فقدتها في ألعاب رياضية مثلا ؟
الجواب :
الطلاق أبغض الحلال إلى الله تعالى، ولا يجوز للمسلم أن يسارع إليه لأدنى سبب، فيكسر قلب المرأة ويحطم أسرة، ويهدم بيتاً مسلماً، بغير مسوغ خطير موجب لذلك، وخصوصاً الطلاق في أول الحياة الزوجية فإنه يسيء إلى المرأة إساءة بالغة، ويشيع حولها الريبة وقالة السوء، فإذا كان كلام المرأة معقولا وقابلا للتصديق كما في الحالة المسئول عنها وهو أن تفقد الفتاة بكارتها في ألعاب رياضية في سن معينة، ولا سيما مع عدم التحفظ والعناية، فلا يبعد أن يحدث ذلك فينبغي للزوج أن يصدقها فيه.
وإذا كانت المرأة قد أقسمت بالله تعالى على أنها لم تمارس الزنا في حياتها فالأصل أن يصدق قولها في ذلك والقاعدة المشهورة تقول: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" والزوج هنا في مقام من يدعى عليها دعوى لا يستطيع أن يثبتها، وليس له عليها بينة، فلم يبق إلا يمينها.
على أن الأصل الشرعي في التعامل هو: حسن الظن بالناس فإن بعض الظن إثم ويجب حمل حال المسلم والمسلمة على الصلاح ما أمكن ذلك وفي الصحيح :" إياك والظن فإن الظن أكذب الحديث".( متفق عليه من حديث أبي هريرة – البخاري رقم 4849،5717،5719،6345 ومسلم 2563)(1/170)
على أننا لو افترضنا أنها أخطأت فيما مضى ثم تابت واستقامت فإن الله يغفر لها والتوبة تهدم ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله تعالى يحب التوابين، ويحب المتطهرين، وأولى بنا أن نتخلق بأخلاق الله تعالى ونعفو عنها وكل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. ( الدورة الأولى)
من فتاوى الأسرة والبيت المسلم
فتوى 20
* حضور الزوج وقت ولادة زوجته
- ما حكم أن يحضر الزوج عملية الولادة لزوجته ؟
الجواب :
لا مانع شرعاً من حضور الزوج عملية الولادة لزوجته إن شاء ذلك ورأى في ذلك مصلحة كأن يسلّي زوجته بالتذكير بالله تعالى، والكلمة الطيبة، تخفيفاً من معاناتها، أو ليرى تلك المعاناة والآلام منها فيقدر لها ذلك ويعرف بذلك فضل أمه عليه، وما عانته من أجله ويحدث أولاده بذلك ليعرفهم فضل أمهم عليهم.
وهو على كل حال أمر جائز ليس هو بالواجب ولا بالمستحب، ولا بالحرام، ولا بالمكروه، إلا إن ترتب عليه ضرر مادي أو معنوي.
وربما تحرج بعض الناس من ذلك لما فيه من مشاهدة الزوج لعورة زوجته أثناء الولادة وقد يعتبر ذلك بعضهم مكروهاً وربما رددوا في ذلك بعض الأحاديث الناهية عن ذلك أو المنفرة منه.
والحق أن هذه الأحاديث لم تصح، بل صح عكسها وهو:اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم هو وبعض أزواجه من إناء واحد، وهو نص يحسم الخلاف، ويقطع النزاع.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت:كنت أغتسل أنا ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- من إناء بيني وبينه واحد فيبادرني حتى أقول : دع لي، دع لي، قالت: وهما جنبان.( متفق عليه واللفظ لمسلم أخرجه البخاري رقم 258 ومسلم رقم 321)(1/171)
وعن ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:أدنيتُ لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- غُسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً ثم أدخل يده في الإناء ثم أفرغ به على فرجه وغسَله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء َكفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بالمنديل فرده.( متفق عليه واللفظ لمسلم أخرجه البخاري رقم 246 مسلم رقم 317) ( الدورة الأولى)
فتوى 21
* تقصير المرأة شعر رأسها دون إذن زوجها:
هل تحتاج المرأة إذا أرادت أن تقصر شعرها إلى إذن من زوجها ؟
الجواب :
هناك نوع من التقصير الشعر للمرأة لا يحس به الرجل إذا كان شيئاً قليلا تعتاده المرأة بين الحين والحين، حتى لا يطول شعرها جداً، ويكلفها جهداً في ترجيله وتمشيطه، وهو معتاد من عامة النساء، ولا يحتاج فيه عادة إلى إذن من الزوج.
وهناك نوع آخر من التقصير الذي يغير شكل المرأة وصورتها أمام زوجها وقد ألفها على صورة معينة مدة من الزمن، فإذا هي تفجؤه بصورة أخرى غير مألوفة له فكأنما هي امرأة جديدة، فهذا اللون من التقصير الظاهر هو الذي يحتاج إلى تفاهم بين الزوجين قبل تنفيذه حتى تستمر المودة والوئام بينهما.
والأصل في المسلمة أنها لا تكشف شعرها في الطريق، ولا أمام الرجال الأجانب عنها، غير المحارم لها ومن ثم يكون الزوج هو أول من يحق له الاستمتاع بجمال شعر زوجته والنظر إليه على الصورة التي يحبها.
والزوجة العاقلة هي التي تحرص على كل سبب يبقى المحبة وحسن العشرة بينها و بين زوجها وينميها فبهذا تتكون البيوت الصالحة التي هي أساس المجتمعات الصالحة. ( الدورة الأولى)
فتوى 22
* عقوبة الإجهاض(1/172)
-أود أن أعرف من حضرتكم مقدار المال الذي يجب أن أدفعه على إجهاض جنين قبل بلوغه 120يوماً، علماً بأن سبب الإجهاض هو الضغط النفسي على الأم، حيث إنها طالبة تدرس في كلية الطب وقد فعلت ذلك نتيجة عدم مقدرتها على التوفيق بين الدراسة وبين تربية الطفل، وقد تمت عملية الإجهاض على هذا الأساس–على أساس أن هذا الأمر يجيز الإجهاض- ولم يكن ذلك قد حدث عمداً، والأم الآن نادمة على ما حدث أشد الندم، وقد زاد من ندمها بأن الإجهاض محرم في الشريعة الغراء حتى منذ اليوم الأول للحمل فنرجو منكم أن تفيدونا في ذلك أفادكم الله تعالى.
الجواب :
نعم لا يحل الإجهاض في شريعة الإسلام لا في الفترة الأولى للحمل ولا بعد ذلك وهو يتفاوت في الإثم بحسب مراحل الحمل ففي أول الحمل أخف إثماً، وكلما زادت مدة الحمل تأكد التحريم فإذا بلغ الحمل 120يوماً أصبح محرماً قطعاً وعُدّ نوعاً من القتل يستوجب دية قدرها 500 درهم أو نحو 213غراماً من الذهب تعطى للوارث الذي لم يشارك في عملية الإجهاض، ولا يستثنى في هذه الحالة إلا الخوف على حياة الأم، ولا يجوز الإقدام عليه حينئذ إلا بتقرير طبيب مختص يقضي بأن استمرار الحمل فيه تعريض الأم للموت.
وفي السؤال حيث إن الإجهاض وقع في فترة ما قبل 120يوماً فإنه لا تلزم معه دية ولا كفارة محددة لكنه معصية يجب الاستغفار منها والتوبة والعهد على عدم العودة لمثلها، ولو أن الأم التي أجهضت أرادت مع ذلك أن تتصدق فهو خير ينفعها -إن شاء الله- وقد قال تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات" [هود:114].
حقوق المرأة بعد الولادة:
السؤال: هل للمرأة الحق في فترة راحة ونقاهة بعد الوضع "فترة نفاس" أو أنها ملزمة في هذه الفترة أيضاً بالقيام بواجب الضيافة للزوار الذين يأتون للتهنئة أو لرؤية المولود ؟
الجواب :(1/173)
لقد علم الله تعالى أن الوضع أو الولادة تجهد المرأة وتتعبها، لما تبذل من جهد ومشقة في الطلق والزفرات حتى تضع وليدها، كما قال تعالى: "حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً" [الأحقاف15].
ولا غرو أن أعفى الله المرأة بعد الولادة –أي في حالة النفاس- من الصلاة والصيام، وهما ركنان من أركان الإسلام وإن كان الفرق بينهما: أن الصلاة في أيام النفاس لا يجب على المرأة قضاؤها بعد ذلك، بخلاف الصوم فإن أيامه تقضى بعد فترة النفاس والمراد بها: الفترة التي ينزل فيها الدم بسبب الولادة والنفاس في مثل الحيض فأحكامهما سواء.
ومن هنا نتبين أن الشارع الحكيم اعتبر المرأة النفساء في حالة تستوجب التخفيف عليها رحمة من الله تعالى بها وعاملها كأن النفاس لون من المرض أصيبت به.
فمن الطبيعي ألا ترهق المرأة في تلك الفترة وتكلف بما يعنتها ويشق عليها، وقد جرت عادة المسلمين في البلاد الإسلامية أن المرأة النفساء هي التي تُخدم وتُكرم حتى تعود إليها عافيتها وتغدو في حالة طبيعية.
ولكن المرأة في حال الغربة تضطر إلى أن تخدم نفسها، وطفلها، وبيتها، بحكم الضرورة لكن يجب أن تُقدر تلك الضرورة بقدرها، ولا ينبغي للضيوف والزوار أن يرهقوها من أمرها عسراً ويكلفوها فوق طاقتها، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ولا ينبغي للزوج أن يشدد عليها في ذلك فقد قال تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة:185]
وقال –صلى الله عليه وسلم- :" يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا".( متفق عليه من حديث أنس بن مالك أخرجه البخاري رقم 69،5774 ومسلم رقم 1734).
وقال:" إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".(أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رقم 217،5777)
وهذه الأمور إنما يحكمها الذوق والفضل ومكارم الأخلاق. (الدورة الأولى)
خدمة ضيوف الزوج!(1/174)
السؤال:إذا مرضت الزوجة وأحبت أن تتوقف الزيارات لزوجها خلال فترة مرضها فهل تلزم رغماً عنها بتقديم القرى لضيوف زوجها ؟
الجواب :
المذاهب الأربعة لا توجب على الزوجة المسلمة خدمة زوجها نفسه، إلا إذا قامت بذلك متبرعة من باب مكارم الأخلاق، ولو شكا زوجٌ زوجتَه إلى المحكمة الشرعية الملتزمة ببعض هذه المذاهب لم تجبر المرأة على خدمة الزوج.
فإذا كان هذا مقرراً في شأن الزوج فأولى ألا تُلزم المرأة بخدمة ضيوف زوجها وتقديم القرى لهم في حالة مرضها.
والمذهب الذي نطمئن إليه ونفتى به هو وجوب عمل المرأة في البيت خدمة لزوجها وأولادها، وهذا من المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها ومن العدل في توزيع الحقوق والواجبات على الطرفين (ولهُنَّ مثلُ الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجةُ) [البقرة:228].
فالرجل يعمل ويكدح خارج البيت ليعول أسرته والمرأة تعمل داخل البيت لخدمة الأسرة. وقد كانت فاطمة الزهراء بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم - تخدم بيتها كنساً وطحناً وعجناً..إلخ. واشتكت إلى أبيها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأمرها وزوجها أن يستعينا بذكر الله تعالى في التسبيح، والتحميد، والتكبير على القيام بمهمتهما في الحياة.( كما في البخاري رقم 2945 ومواضع أخرى، ومسلم رقم 2727 من حديث علي بن أبي طالب)
وإذا كانت المرأة تعمل في الخارج كما يعمل الرجل فالعدل أن يعاونها الرجل بخادمة تساعدها، أو بنفسه ما استطاع ولا سيما إذا كانت أماً لأطفال.
ومن هنا لا ينبغي للرجل أن يثقل على زوجته بالضيوف وخصوصاً في فترة مرضها فقد اعتبر الشرع الإسلامي المرض ظرفاً مخففاً في أحوال كثيرة فأعفى المريض من الجهاد إذا وجب "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج" [الفتح:17].(1/175)
ورخص للمريض في رمضان أن يفطر، ويقضى الأيام التي أفطرها بعد رمضان عندما تواتيه العافية "ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أُخرَ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة:185]
وأجاز للمريض أن يصلي كيف استطاع قائماً أو قاعداً أو على جنب وطلب من الأئمة في صلاة الجماعة أن يخففوا فإن وراءهم الضعيف والمريض وذا الحاجة.
وينبغي للمسلم الشرقي عامة والعربي خاصة أن يراعي ظروف زوجته الغربية عموماً، وأنها لم تتعود في حياتها ولا في بيت أبيها استقبال الضيوف بهذه الكثرة التي تعودها العرب، وأمثالهم من الشعوب، كما على المرأة الغربية التي دخلت الإسلام أن تقدر ظروف زوجها وما نشأ عليه وأن من أخلاق الإسلام أن يكرم الرجل ضيفه كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم - :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
(متفق عليه من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري رقم 5672 ومواضع أخرى ومسلم رقم 47)
تعليق:
قلت : ذكر المالكية وجوب الخدمة الباطنة من كنس حسب العرف إن لم تكن المرأة من ذوى القدر الكبير أو كان زوجها فقيراً قال خليل:"وإلا فعليها الخدمة الباطنة من عجن وكنس وفرش" وكذلك الطبخ له، وعليها استسقاء الماء بالدار وخارجها، وعليها غسل ثيابه كما يفهم من كلام شروح خليل" يراجع الزرقاني 4/247.
والأمر يتعلق بالعادة والعرف وفقر الرجل وحاجته فإطلاق كون المذاهب الأربعة لا توجب ذلك في القرار غير دقيق فيجب أن يراجع.
المرأة واللقاءات الدينية:
السؤال: هل يحق للزوج أن يمنع زوجته من حضور لقاءات إسلامية نسائية؟
الجواب:
آفة كثير من المسلمين ممن ينقصهم الفقه في الدين أنهم يفرضون أمزجتهم وميولهم وأفكارهم الشخصية على الإسلام فإذا كان الرجل فظاً غليظ القلب جلف الطباع، تصرف مع من حوله ولا سيما مع زوجه وولده بهذا الطبع الجاف الحاد، وربما زعم أن هذا هو الإسلام.(1/176)
ومن ذلك : نظرة الرجال إلى النساء التي تتسم بالتشدد والتحكم والتضييق وسوء الظن وربما الاحتقار، وقد يأتي هؤلاء من بيئات تنظر إلى المرأة كأنها خلقت لخدمة الرجل أو لمتعته ورغم قراءة هؤلاء واطلاعهم لم يغير ذلك من نظرتهم شيئاً وربما حمل بعضهم درجات الماجستير والدكتوراه في العلوم أو الهندسة، أو الاقتصاد والإدارة، أو غيرها، ولكنهم بقوا في هذا الجانب جامدين لم يتحركوا ولم يتطوروا.
إنه لا يُعرف دين كرم المرأة كما كرمها الإسلام : كرمها إنساناً وكرمها أنثى، وكرمها بنتاً، وكرمها زوجة، وكرمها أماً، وكرمها عضواً في المجتمع، ويكفي قوله تعالى: "فَـ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ" [آل عمران 195]
ومعنى "بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ" أن الرجل من المرأة والمرأة، من الرجل، هو يكملها، وهي تكمله، لا غنى لأحدهما عن الآخر ومن هنا اشتركا في التكاليف، قال تعالى: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً" [الأحزاب:53].
كما أنهما شريكان في التكاليف الاجتماعية الخطيرة، مثل تكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياءُ بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" [التوبة:71](1/177)
وقال عليه الصلاة والسلام:" إن النساء شقائق الرجال".( حديث حسن أخرجه أحمد 6/256 وأبو داود رقم 236 والترمذي رقم 113 من حديث عائشة وأحمد 6/377 من حديث أم سليم والدارمي رقم 764 من حديث أنس بن مالك)
وقال – صلى الله عليه وسلم -:" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".( متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر أخرجه البخاري رقم 858 ومسلم 442)
فقد كانت المساجد هي الوسيلة الوحيدة التي تتيح للمسلمة في عصر النبوة أن تتفقه في دينها، وأن تشهد الجمعة والجماعة، وتتعرف على الصالحات من أخواتها المسلمات.
ومثل المساجد في عصرنا: اللقاءات الإسلامية التي تمكن المسلمة من مزيد المعرفة بحقائق الإسلام، كما تمكنها من المشاركة في العمل الإسلامي، أي العمل لإحياء الإسلام في نفوس المسلمين، وفي حياتهم، والتعرف على العاملات في هذا المجال، والتعاون معهن على البر والتقوى، وهذه فريضة إسلامية يجب على كل مسلم ومسلمة أن يسهم فيها بما يستطيع، وإلا ضاع الإسلام، وضاعت أمته، وانخفضت رايته.
ويزيد هذا الأمر وجوباً : أن القوى المعادية للإسلام تعمل بجد ونشاط، وتجند النساء بقوة في هذا المجال، وكذلك العلمانيات، واللادينيات، والماركسيات، يعملن في داخل ديار الإسلام ليل نهار، لعزل الأمة عن حقيقة دينها وترويج المفاهيم الدخيلة عليها، ومقاومة الدعوات الإسلامية الحقة، التي تنادى بالإصلاح، والتصحيح، والتجديد.
ولكن هذا النشاط النسوي الإسلامي لا يجوز أن يكون على حساب الزوج والأولاد فالعدل أن يعطى كل ذي حق حقه بالقسط والمعروف.
وإذا كان للزوج حق القوامة على الأسرة فلا ينبغي أن يتعسف في استعمال حقه و إلا كان مضاراً، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
النفقة بين الرجل والمرأة؟
السؤال: شخص مغترب يبعث بجميع دخله إلى أهله في بلده الذي قدم منه ثم يعيش معتمداً على دخل زوجته فهي تدفع أجرة المنزل وتكاليف الطعام والشراب واللباس ... إلخ فهل يجوز له ذلك ؟
الجواب:(1/178)
لا يجوز أن يلزم الرجل امرأته بذلك، كما لا يليق بالرجل المسلم أن يعيش عالة على زوجته، بحيث تنفق هي على طعامه وشرابه، وملبسه ومسكنه، وسائر شئونه المعيشية، فبم يستحق إذن أن يكون هو رب الأسرة والقوام عليها، وقد قال تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعضٍ وبما انفقوا من أموالهم" [النساء: 34]
وقد بينا في الفتوى رقم27 أن المرأة ليس عليها أن تنفق على البيت، بل ولا على نفسها ولو كانت غنية كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية، إلا إذا فعلت ذلك متبرعة وعن طيب نفس منها، لا احتيالا ولا أخذاً بسيف الحياء، فقد قالوا قديماً: ما أخذ بسيف الحياء هو حرام وفي الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال:" لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه".( حديث صحيح أخرجه أحمد 5/72 ،425 وغيره)
لا نحب للرجل المسلم أن يحيا عالة على امرأته، وإن طابت نفسها بذلك، وخصوصاً إذا كان ذا دخل وقدرة، ونشمُّ في الحالة المسئول عنها رائحة غير طيبة، فما معنى أن يرسل الرجل كل دخله إلى أقربائه في وطنه معولا على زوجته، لا يتحمل مسئولية رب البيت كما شرعها الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -:" الرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته"(متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر أخرجه البخاري رقم 853 ومواضع أخرى ومسلم رقم1829)
ما أولى هذا الرجل أن يخاطب بقول الشاعر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
هل يجوز للمرأة فتح حساب مصرفي خاص بها؟
السؤال: هل يجوز للزوجة فتح حساب مصرفي خاص بها من دخلها ؟ أم يلزمها أن تضع دخلها في وعاء مشترك مع دخل زوجها يصرف منه على الأسرة ؟
الجواب :(1/179)
من الحقائق المسلمة: أن الإسلام أنصف المرأة من ظلم الجاهليات المختلفة، وأعطاها حقوقها دون أن تطالب بها، ومن ذلك الحقوق المالية وعلى رأسها حق التملك للأموال عقارات ومنقولات، فجعل لها الإسلام ذمة مالية مستقلة عن أبيها وزوجها، فمن حقها أن تملك وأن تتصرف في ملكها كما تشاء كما يتصرف الرجل، تبيع وتشترى، وتهب وتتصدق، كما يفعل الإنسان السوي الرشيد ولا حرج ولا حجر عليها، قال تعالى: "للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن" [النساء:32]
ومن هنا نقول: إن للزوجة الحق كل الحق في فتح حساب لها في البنك باسمها خاص بها، تضع فيه ما يأتيها من دخل سواء أكان من كسبها، أو من ميراث لها، أم من هبة من أب أو أم أو غير ذلك.
وليس للزوج حق في أن يفرض عليها أن تضع دخلها في حساب أو وعاء مشترك مع دخل زوجها لينفق منه على الأسرة إذ من المعلوم أن الإنفاق على الأسرة شرعاً هو من واجب الزوج، كما قال الله تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ" [النساء: 34].
وإنما تساعد المرأة زوجها في نفقة البيت تبرعاً منها، من باب مكارم الأخلاق، وليس من باب الوجوب والإلزام حتى لو كانت غنية بميراث أو كسب.
ولم يوجب أحد من أئمة الإسلام على الزوجة الغنية أن تنفق على زوجها الفقير، إلا الإمام الظاهري المعروف ابن حزم.
ولكننا نستحسن أن تساهم المرأة العاملة في نفقة البيت، ولا سيما إذا كانت وظيفتها أو عملها في الخارج يكلف البيت خادمة، أو مربية للأطفال، أو مصاريف زائدة من أجل خروج المرأة ولبسها ومواصلاتها ونحو ذلك.
وأقصى ما يمكن أن تساهم به المرأة في ذلك هو الثلث والثلثان على الزوج فكما أن الرجل يرث ضعفها من التركة فكذلك يجب أن يتحمل ضعفها من النفقة.(1/180)
ونحن نؤيد أن يكون لكل من الزوجين حسابه الخاص حتى لا يطمع بعض الأزواج في أموال زوجاتهم وللزوجة أن تحتاط لغدرات الزمان وتقلبات الأزواج ولا نحبذ على الإطلاق أن تضع الزوجة دخلها في حساب زوجها فيكون كل شيء باسمه وعلى ملكه، ولا يجوز للزوج أن يطالبها بذلك فكل إنسان أحق بماله.
كيف تتصرف الزوجة مع قضية اختلاف التقاليد؟
السؤال: بالنسبة للمشاكل الناشئة من اختلاف التقاليد بالنسبة للزوجين كيف تتصرف الزوجة ؟
الجواب :
الزواج رباط مقدس وميثاق غليظ كما سماه القرآن الكريم وللحياة الزوجية دعائم يجب أن تؤسس عليها أشار إليها القرآن في قوله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" [الروم: 21].
فالسكون النفسي والمودة القلبية والرحمة الخلقية هي أركان الحياة الزوجية في القرآن. وهذا ما يجب أن يفهمه كل من الزوجين ويتعاونا معاً على إشاعة جو السكينة والمودة والرحمة في بيتهما المشترك وأن يحتمل كل منهما صاحبه ويصبر عليه فيما لا يتوافقان فيه ولا يحكما العواطف أو النزوات الطارئة في مصير حياتهما وأن تكون المعاشرة بينهما بالمعروف.
وهذا ما أوصى به القرآن الكريم وأكده وأمر الرجال أن يضبطوا مشاعرهم ولا يستجيبوا لأي بادرة نفرة أو كراهية يحسونها نحو نسائهم بل ينظروا إلى الأمر نظرة عقلية توازن بين المصالح والمفاسد، وتقارن بين الحاضر والمستقبل فإن العجلة في اتخاذ القرار هنا ليس وراءها غالباً إلا الندامة يقول تعالى: "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" [النساء: 19]
وإذا كان هذا الأمر موجهاً في ظاهر اللفظ إلى الرجال، فهو في حقيقة المعنى موجه أيضا إلى النساء، فالمرأة يجب أن تصبر على زوجها وتتحمل شدته وما نشأ عليه من أعراف وصفات لا يسهل تغييره لها فمن شب على شيء شاب عليه.(1/181)
وما دامت قد رضيته زوجاً لها فلتتحمله ما استطاعت، وليحاول كل منهما أن يتنازل عن بعض ما يمكنه من صفاته وتقاليده ليلتقيا في منتصف الطريق وأحرصهما على بقاء الزوجية يجب أن يكون أصبرهما وأرفقهما وما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه.
ليس هناك دواء سحري لهذه المشكلات إنما تعالج بحسن الفهم والرفق والصبر والاستعانة بالله تعالى والصلاة كما قال عز وجل "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِـ?لصَّبْرِ وَالصلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [البقرة:153].
في الغرب إلى من ترفع المرأة شكواها؟
السؤال: إلى من تلجأ المرأة المسلمة في بلاد الغرب عند وجود مشاكل عائلية وخلاف مع الزوج ؟
الجواب :
الأصل في المجتمع المسلم أنه مجتمع متضامن في أموره كلها يأخذ بعضه بيد بعض ويعين قويه ضعيفه ويعلم عالمه جاهله وينتصر للمظلوم ويأخذ على يد الظالم يمنعه من الظلم كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- :" انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال: "تمنعه من الظلم فإن ذلك نصرُه". (أخرجه البخاري2312،6552 من حديث أنس بن مالك)
وفي حالة الشقاق والخلاف العائلي حين يستفحل بين الزوجين ولا يستطيعان حل مشاكلهما الخاصة بالتفاهم والتراضى فإن على المجتمع المسلم أن يتدخل بتعيين "محكمة عائلية" مكونة من حكمين أي شخصين من أهل الرأي والمكانة والقدرة على الحكم يجتهدان في الإصلاح بينهما ما وجدا إلى ذلك سبيلاً وإلا حكما بالتفريق بينهما وينفذ ذلك قضاء كما حدث في زمن الصحابة رضي الله عنهم. ( ثبت ذلك من قبل عبد الله بن عباس ومعاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان كما ثبت من قول علي بن أبي طالب وقضائه. روى ذلك عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره 1/158- 159 وغيره)(1/182)
يقول تعالى مخاطباً جماعة المسلمين "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَـ?بْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ" [النساء: 35].
ونظراً لأن الزوجين في الحالة المسئول عنها يعيشان غير مسلم فالمطلوب من الجالية المسلمة في كل مدينة فيها وجود ظاهر للمسلمين أن يكون لهم مجلس تحكيم أو مجلس إصلاح يتكون من ثلاثة مثلا من عقلاء المسلمين وثقاتهم المأمونين على أسرار الناس ممن عرفوا بحصافة الرأي ومتانة الخلق وقوة الدين ورضاء الناس عنهم ويكون أحدهم ممن له معرفة بأحكام الشرع دون تزمت ولا تسيب وتعرض عليهم هذه المشاكل لينظروا فيها ويحاولوا التوفيق والإصلاح ما استطاعوا ويضعوا لذلك الضوابط ويلزموا بذلك الطرفين وعلى الجميع أن يساعدهم على ذلك حتى يستقيم أمر الجماعة المسلمة وفي الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم-:" إن يد الله مع الجماعة فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض". (حديث صحيح أخرجه النسائي رقم 4020 من حديث عرفجة الأشجعي).
فإن لم يُجدِ التوفيق والإصلاح مع المحاولة الجادة والنية الصالحة فليس أمامهم إلا أن ينصحوا بالفراق بالمعروف والتسريح بإحسان كما أمر الله تعالى وقد قيل : إن لم يكن وفاق ففراق. وأبغض الحلال إلى الله الطلاق ولكنه قد يكون ضرورة في بعض الأحيان. وآخر الدواء الكيُّ.
حقوق النشر:
بعد اطلاع المجلس على البحوث المقدمة في موضوع "الحقوق المعنوية (برامج الكمبيوتر) والتصرف فيها وحمايتها" ومناقشة الأبحاث المقدمة واستعراض الآراء الفقهية في الموضوع ، وأدلتها باستفاضة مع الربط بين الأدلة الفقهية وقواعد الفقه، وأصوله، والمصالح ومقاصد الشرع، قرر مايلي:(1/183)
أولاً: يؤكد المجلس ما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1309 الموافق 10 إلى 15 ديسمبر 1988 م قرار رقم 43 (5/5) ونصه :
أولاً : الاسم التجاري ، والعنوان التجاري ، والعلامة التجارية ، والتأليف،والاختراع، والابتكار، هي: حقوق خاصة لأصحابها ، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية لتمول الناس لها ، وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً، فلا يجوز الاعتداء عليها .
ثانياً : يجوز التصرف في الاسم التجاري ، أو العنوان التجاري ، أو العلامة التجارية ، ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش، باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً .
ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعاً ، ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها " انتهى قرار المجمع .
ثالثاً : إن برامج الحاسب الآلي (سواء أ كانت برامج تشغيلية أم برامج تطبيقية ، أم تخزينية وسواء أكانت برامج المصدر المهيمنة على جميع عمليات التخزين والإدخال والإخراج للبيانات أو المحررة بإحدى لغات الحاسوب) لها قيمة مالية يعتد بها شرعاً ، فيجوز التصرف فيها لأصحابها من المنتجين أو الوكلاء، بالبيع، والشراء، والإجارة ونحوها، إذا انتفى الغرر والتدليس.
رابعاً : بما أن هذه البرامج حق مالي لأصحابها ، فهي مصونة شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها رعاية لحقوق الآخرين الذين بذلوا جهوداً وأموالاً في إنتاجها، ومنعاً لأكل أموال الناس بالباطل .
خامساً: يجب على مشتري البرامج أن يلتزم بالشروط التي لا تخالف الشرع، والقوانين المنظمة لتداولها، للنصوص الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والالتزام بالشروط ، فلا يجوز استنساخها للغير ما دام العقد لا يسمح بذلك.
سادساً: لا يجوز شراء البرامج التي علم أنها مسروقة، أو مستنسخة بوجه غير مشروع ، ولا المتاجرة بها.
سابعاً : يجوز لمشتري البرنامج أن يستنسخ منها لاستعماله الشخصي.(1/184)
ثامناً : على الشركات المنتجة، والوكلاء عدم المبالغة في أثمان البرامج.
إقامة المسلم في بلاد الكفر؟
السؤال : أرجو من العلماء الفضلاء أن يفتونا مأجورين فيما يتعلق بإقامة المسلم في بلاد الكفر وأتمنى أن تكون الإجابة مدعمة بالدليل الشرعي من الكتاب الكريم، وسنة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- وأقوال أهل العلم الفضلاء، ومفصلة بعض الشيء، وذلك لأنني أقيم في بروكسل حالياً وأود أن أعرف حكم الشريعة الغراء في ذلك.
الجواب :
لقد كثر الحديث وطال عن موضوع إقامة المسلم خارج ديار الإسلام، وسمعنا مذاهب تتسم بالتشدد المطلق، بحيث توجب على كل من يعيش في هذه البلاد أن يرحل فوراً! اعتماداً على حديث يروى في ذلك يتضمن البراءة ممن يقيم بين أظهر المشركين سنأتي على بيان درجته، ومعناه، وهذه المذاهب أوردت حرجاً على كثير من المسلمين.
والذي نراه في هذه المسألة التفصيل فنقول : لا شك أنه لا يحل للمسلم أن يعيش بين غير المسلمين بغير هويته الإسلامية، إلا إذا تقطعت به الحيل ولم يجد سبيلاً للخلاص، والسبب في ذلك يعود إلى التمكين أو عدم التمكين للمسلم من وقاية نفسه ودينه، ومن هو مسؤول عنهم، كأهل بيته، وأولاده، فإذا كان في بيئة يخاف منها على دينه، أو نفسه وعياله، فالواجب عليه أن يهاجر منها إلى بيئة يجد فيها تمكينا له من حفظ ذلك، ولم يحل له المكث في البيئة التي يُخشى فيها على الدين الفساد، أو على النفس الهلاك.(1/185)
قال تعالى"إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيراً وَسَعَةً" [النساء 97- 100].
فجعلت الآية من ظلم الإنسان لنفسه قبوله العيش في كنف الذل مع قدرته على الانتقال إلى أرض أخرى يجد فيها حريته، وأمنه، وأسباب عيشه، ولم تستثن من الوعيد الذي ينتظر هؤلاء إلا العاجزين الذين لا قدرة لهم ولا حيلة.
فالهجرة تكون مشروعة صحيحة، إذا كانت إلى بيئة يقع له فيها تمكين أكثر للقيام بشعائر الدين، بل هذه الهجرة مطلوبة كما تكون مشروعة من بيئة إلى أخرى لا تضر الإقامة فيها على الدين.
ومن ذلك الهجرة إلى الحبشة التي وقعت بإذن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- للمستضعفين من أصحابه بمكة، هاجروا من بيئة كفر وظلم إلى بيئة غير إسلامية لكنها كانت عادلة، آوتهم، وحمتهم، وأقاموا فيها بين قوم نصارى لم يكونوا مسلمين، فأحسنوا البقاء بين أظهرهم، وحافظوا على دينهم، وأنفسهم، ومن كان معهم من أهليهم، ومكثوا بينهم إلى أن مكن الله تعالى لنبيه –صلى الله عليه وسلم- وأظهره على الكفار، فحين رأوا استقرار أمر دولة الإسلام رجعوا باختيارهم لا بأمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.(1/186)
فالعبرة إذا بالقيام بالدين والمحافظة عليه، ووقاية النفس من الظلم والأذى، فإذا كانت تلك الإقامة في بلد ما مساعدة على ذلك، فإنه لا يمتنع أن تكون في بلاد غير إسلامية، أسوة بمهاجرة الحبشة، وإن كانت تضر بالدين وجبت الهجرة منها إلى بلاد يقدر الإنسان فيها على حفظ دينه، ونفسه، وأهله.
وأما الحديث الذين يتعلق به المتشددون، وهو حديث جرير بن عبد الله البجلي قال : بعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال : فبلغ ذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- فأمر لهم بنصف العقل وقال : "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا يارسول الله لِمَ ؟ قال: لا تراءى ناراهما".
فهذا حديث لا يصح ( أخرجه أبو داود رقم 2645 والترمذي رقم 1604 من رواية قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله .
وحكم البخاري فيما نقله عنه الترمذي ووافقه، بأن الأصح فيه أنه حديث مرسل، والمرسل من أنواع الحديث الضعيف، وكذلك أعله أبو حاتم الرازي كما في كتاب "علل الحديث"رقم 942)
ولو ثبت فإن سبب وروده مفسر لمعناه، وهو أن أناساً أسلموا ومكثوا مع قومهم الكفار، ولم يهاجروا إلى بلد الإسلام حتى إذا وقعت مواجهة بين المسلمين وأولئك الكفار لم يتميز أمر أولئك المسلمين من بين سائر قومهم فيقتلهم المسلمون في المعركة لعدم معرفتهم بهم حيث لم تميزهم علامة، فالبراءة منهم من جهة أن المسلمين لو قتلوهم فلا تبعة عليهم بذلك، وهذا المعنى لا وجود له اليوم، فتنزيله على الواقع ممتنع، واقتطاع طائفة من الناس طرفاً من الحديث، دون سائره وسببه، من أكبر الآفات المفسدة للفهم الصحيح، نسأل الله أن يلهمنا وإخواننا الهدى والصواب. (الدورة الثانية)
تعليق:
قلت : راجع تفاصيل مذاهب العلماء وأدلة القائلين بجواز الإقامة في أمثلة فقه الأقليات من هذا الكتاب.
الفرقة الناجية؟(1/187)
السؤال : نرجو من أعضاء المجلس الموقر أن يتعرضوا بالشرح لتوضيح مسألة الفرقة الناجية في حديث المصطفى –صلى الله عليه وسلم-، وذلك لما ابتلي به المسلمون هنا من ادعاء طائفة من الناس بأنها هي الفرقة الناجية، وأن باقي المسلمين هلكى، وقد شاعت هذه الفتنة وانتشرت، ولا شك أن بيان المجلس في هذا الشأن له قيمته ووزنه.
الجواب:
المقصود به حديث معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة".( أخرجه أحمد 4/102 وأبو داود رقم 4597)
وروي كذلك عن آخرين من الصحابة وفي أكثر الروايات "فرقة" بدل "ملة" كما أن بعضها لم يذكر "كلها في النار إلا واحدة".
واختلف علماء الحديث في صحته، وجوابنا عن معناه على مذهب من صححه، كما يلي:
ذكر الحديث الافتراق على العدد المذكور ولم يعين فرقة من تلك الفرق وجعل –صلى الله عليه وسلم- جميع تلك الفرق من أمته، وكأنه –صلى الله عليه وسلم- قصد إلى التحذير من التفرق بعده، وأمر بالاعتصام بالجماعة فجاء الوعيد "كلها في النار" لذلك ورود الوعيد بالنار على عمل يواقعه المسلم من الأعمال غير الصالحة لا يعني الخلود فيها كما يخلد الكفار، بل يدخلونها كما يدخلها عصاة الموحدين، وقد يشفع لهم شفيع من الأنبياء، أو الملائكة، أو آحاد المؤمنين، وقد يكون لهم من الحسنات الماحية والمحن والمصائب المكفرة ما يدرأ عنهم العذاب كما قد يعفو الله تبارك وتعالى عنهم بفضله وكرمه لا سيما إذا كانوا قد بذلوا وسعهم في معرفة الحق، ولكن لم يوفقوا إليه فأخطأوا الطريق، وقد وضع الله عن هذه الأمة الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه.(1/188)
ومن الواجب ملاحظة : أنه لا يجوز إلحاق الوعيد بالنار بطائفة معينة من طوائف المسلمين، لأن الحديث لم يعين ذكر هذه الطائفة أو تلك، وكما لا يجوز تعيين طائفة بالنجاة يوم القيامة.
والذي على المسلمين هو الاجتهاد بالبعد عن أسباب التفرق والاختلاف، وأن يكون إخواناً، كما أمرهم الله تعالى ورسوله –صلى الله عليه وسلم- ويقصدوا إلى إصابة الحق من دينهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم –صلى الله عليه وسلم- وينصحوا لعموم المسلمين.
ولا يحل لأحد أن يستعمل هذا الحديث لإثارة المشاكل بين المسلمين، فإن النصوص من الكتاب والسنة صريحة قاطعة بوجوب الولاء للمسلمين، وحبهم، والصدق في النصيحة لهم، فلا يجوز ترك هذا الأمر المقطوع به من دين الإسلام والتعلق بفهم خاطئ في تفسير هذا الحديث.
قال تعالى:"وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ".
تبت ... ولكن؟
السؤال: أنا شاب مسلم جئت إلى ألمانيا ملتزماً والتزمت بالإسلام عدة سنوات، ولكني انزلقت بعد ذلك في مستنقع الرذيلة، فاتخذت صاحبة وضاجعتها مرات ومرات، ووصل بي الأمر إلى أن شربت الخمر التي حرمها الله تعالى.
والآن ومنذ بداية شهر رمضان المبارك عزمت على تجديد التوبة وشمرت عن ساعد الجد ووفقني الله تعالى في ذلك، فإذا بي أصلى وأصوم وأسأل المولى تعالى أن تكون هذه التوبة نصوحاً.
والآن وبعد هذه التوبة وددت لو أطهر نفسي من الرذيلة أعني وددت لو أن هناك خليفة للمسلمين يقيم حد الله على ظهري فتطهر نفسي ويزكو قلبي.
وما يؤرقني ويقض مضجعي أنني قد زنيت مرات ومرات، فماذا يفعل مثلي كي يطهر نفسه ؟
الجواب :(1/189)
نحييك على هذه الروح الطيبة، والتوبة الصادقة، وذلك كاف -إن شاء الله- لتطهيرك من آثار الخطيئة، واجتهد لئلا تعود إلى ذلك أبداً، والله يوفقك، وأما إقامة الحد فليس بواجب عليك، وإنما يكفيك أن تستتر بستر الله، ولا تحدث بذلك الذنب، مع ملازمة ما ذكرت من التوبة، والعمل الصالح. ( الدورة الثانية)
قتل المرتد
السؤال: أحد الذين أسلموا من البولون سأله أحد الخبثاء الملحدين عن عقوبة المرتد في دين الله تعالى فبماذا يجيب ؟ وهو يفسر القتل بأنه مصادرة لحرية الاعتقاد.
الجواب:
قضية قتل المرتد من مهام الدولة، ويعود تقديره إلى الحكومة الإسلامية، وليست المؤسسات، والجمعيات، والمراكز الإسلامية معنية بذلك، وقد ذهب جماعة من السلف والأئمة إلى أنه ليس كل مرتد يقتل وإنما يقتل، من كان مجاهراً بردته، أو داعياً إلى فتنة، أو معلناً بأذى الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، وقتله من أجل حماية الدين والمجتمع من فساده، وليس ذلك من مصادرة الحريات، لما في فعله من التعدي على حق غيره، ومصلحة الدولة والمجتمع مقدمتان على المصلحة الفردية الذاتية، وهذه القضية في الحقيقة شبيهة بما يصطلح عليه في القوانين المعاصرة بالخيانة العظمى بسبب ما يترتب على ذلك من الضرر العام.
مذهب العامي!
السؤال : هل يلزم المسلم أو المسلمة الجديدة اتباع مذهب معين من مذاهب الفقه المعروفة : حنفي أو شافعي أو حنبلي؟ وإذا لزم ذلك، فهل يجوز له أو لها اختيار المذهب الفقهي كما يريدان ؟ وماذا عن مذهب المرأة، هل تلزم عند الزواج باتباع المذهب الفقهي للزوج؟
الجواب :(1/190)
اتباع مذهب من المذاهب الفقهية ( الأربعة أو غير الأربعة) ليس بلازم ولا واجب شرعاً، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، ولم يوجب الله ولا رسوله اتباع أبي حنيفة، أو مالك أو غيرهما إنما أوجب اتباع الكتاب والسنة، فهما المصدران المعصومان، اللذان لا يضلان ولا يخطئان، وكل أحد بعد ذلك يؤخذ من كلامه ويترك.
وقد ثبت أن الأئمة المتبوعين أنفسهم نهوا عن تقليدهم.
على أنه من المقرر لدى الفقهاء : أن العامي لا مذهب له وإنما مذهبه مذهب من يفتيه.
ويراد بالعامي : من لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام والقدرة على الموازنة بينها، ومعرفة قويها من ضعيفها فهذا ليس له مذهب، لأن اختيار مذهب يعني ترجيح أصوله على أصول غيره، وهذا لا يقدر عليه إلا العالم المتمكن الذي بلغ درجة النظر والترجيح، وأما من عداه فهو العامي الذي قالوا: إن مذهبه مذهب من يفتيه من العلماء، فكلما عرضت له قضية -يجهل حكمها- سأل عنها أي عالم من علماء الشرع المعتبرين فأفتاه بحكمها وفق اجتهاده إن كان مجتهداً، أو وفق مذهبه إن كان مقلداً فعلى السائل أن يأخذ بفتواه ويتبعه فيما أجابه فيه، كما قال تعالى: "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [النحل:43] وقال الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- في شأن قوم :" ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال". ( الحديث حسن أخرجه أبو داود رقم 336-337 وابن ماجه رقم 572 وغيرهما)
وإذا نشأ المسلم العامي في بلد ووجد كل علمائه يتبعون مذهباً معيناً، فلا مانع أن يتبع المذهب السائد في بلده لأنه في الواقع يتبع علماء البلدة وهذا مذهبهم.(1/191)
ولكن يجب عليه ألا يتعصب لمذهبه ولا ينتقص المذاهب الأخرى، وإذا ظهر له ضعف مذهبه ووهن أدلته في مسألة من المسائل وقوة مذهب آخر فعليه أن يدع مذهبه في هذه المسألة الضعيفة الدليل ويتبع المذهب القوي والراجح، فالمسلم الحق أسير الدليل يتبعه حيثما كان.
وقد روي عن أبي حنيفة قوله : هذا رأينا فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه. وقال مالك: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر – وأشار إلى قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- وقال الشافعي: إذا صح الحديث فخذوا به واضربوا بقولي الحائط.
وكل مسلم حُرُّ في اختيار المذهب الذي يراه أوفق وأولى، وليس من اللازم أن يتبع الابن أباه/ أو تتبع المرأة زوجها في مذهبه.
والذي نرجحه ونراه أرفق بالمسلمين الجدد : ألا يلتزموا بمذهب معين فهذا قد يضيق عليهم كثيراً مما وسع الله، فيه ولا مبرر لأن نفرض عليهم المذهبية الضيقة، وحسبهم الدخول في الإسلام الرحب بنصوصه، ومقاصده، فقد يضيق بهم مذهب ويسعهم آخر، ويعسّر عليهم مذهب وييسّر عليهم غيره، ونحن مأمورون بالتيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير وخصوصاً مع الداخلين الجدد في دين الله تعالى.
والخلاصة أن المسلم الجديد، أو المسلمة الجديدة، ليسا ملزمين بالتمذهب، وإن تمذهبا لسبب أو لآخر، فليس بلازم أن تتبع الزوجة مذهب زوجها.
تعليق
قلت: يلاحظ على هذه الفتوى ما ورد في الفقرة الثالثة التي تبدأ بعبارة "وإذا نشأ المسلم العامي ...."
حيث تضمنت أنه: إذا ظهر له ضعف مذهبه ووهن أدلته في مسألة من المسائل .."
السؤال: كيف يظهر له ضعف مذهبه وهو عامي كما في أول الفقرة فليس هو من أهل النظر حتى يرجح فالأولى حذف هذا الجزء وتشجيع الناس على التفقه على أحد المذاهب المعتبرة.
لأن الحرية المنوه عنها في عدم الالتزام بمذهب قد تئول في النهاية إلى الخروج عن الإجماع وارتكاب شواذ الآراء دون برهان.
هل الكلب نجس؟(1/192)
السؤال : دائما ما نتعرض للنقد الشديد من الأوربيين الذين يقتنون الكلاب لأننا نخاف من نجاستها أن تصيب ثيابنا أو ما إلى ذلك؟ والسؤال : هل هناك مذهب فقهي يقول بطهارة الكلاب يرفع عنا الحرج ؟
الجواب :
نعم مذهب الإمام مالك بن أنس طهارة الكلاب، وأبدانها طاهرة في الأصح عند الحنفية وإنما النجاسة مقصورة على رطوبة الفم وما يخرج من فضلاتها.
تعليق:
قلت : رطوبة فمها طاهرة عند مالك لأن غسل الإناء من ولوغ الكلب عنده تعبدي غير ناشئ عن نجاسة الكلب.
وقد قال ابن رشد الكبير إن غسل الإناء من ولوغ الكلب معلل بعلة صحية وليس بسبب نجاسته وهذا ما تؤيده العلوم الحديثة.
إمامة صاحب المخالفات الشرعية؟
السؤال : هل يجوز أن يؤم المسلمين في الصلاة رجل عنده بعض المخالفات الشرعية ؟
الجواب :
نقول: من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته بغيره، والأصل في أدب الإمامة قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً، ولا يؤُمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه".( أخرجه مسلم رقم 673 وأبو داود رقم 582 والترمذي رقم 235 والنسائي رقم 780 وابن ماجة رقم 980 من حديث أبي مسعود الأنصاري.
وقال الترمذي : حديث حسن صحيح".)(1/193)
والمخالفات الشرعية لا تمنع من صحة الصلاة، ومن اعتقاد أهل السنة أنهم يرون الصلاة خلف كل بر وفاجر من المسلمين، على أن أكثر ما يعده الناس من المخالفات في أئمة الصلاة هي مما يعود إلى الاجتهاد وليست من المخالفات المقطوع بها في دين الإسلام كالصلاة خلف من نزل ثوبه أسفل من كعبيه، ومن يحلق لحيته، إلى نحو ذلك من المسائل التي يتأول فيها الناس وتختلف فيها الفتوى، فهذا النمط من المسائل لا يجوز في مثله الإنكار على المخالف، وإنما تمكن مذاكرته أو مناصحته ولعلك تجد عنده من العلم بتلك المسألة ما ليس عندك وإذا قلنا: لا يجوز في مثل هذا الإنكار، فمن الأولى أن نقول: تصح الصلاة خلفه.
الصلاة على الغائب؟
السؤال: كثيراً ما يحدث عندنا أن ينقل إلينا خبر وفاة شخص ما في أحد الأقطار الإسلامية فيطلب منا أن نصلي عليه صلاة الغائب، وذلك ابتغاء للأجر، وقد تكرر هذا الأمر كثيراً فاعترض علينا بعض الإخوة بعدم جواز هذه الصلاة، وذلك لأن المتوفى قد صلي عليه في بلده، ولأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يثبت عنه أنه صلي على ميت صلاتين، وبناء على ذلك يكون عملنا من قبيل الابتداع في دين الله تعالى.
الجواب:
لا خلاف بين أهل العلم أن الأصل في صلاة الجنازة أن تكون على ميت حاضر، وأن توضع بين يدي الإمام والمصلين معه، كما ثبت ذلك في السنة القولية والتقريرية.فأما الصلاة عليه وهو غائب فقد ثبتت أحاديث صحاح مشهورة متفق عليها أن النبي –صلى الله عليه وسلم- صلى على النجاشي حين مات بأرض الحبشة، فنعاه إلى المسلمين، وقال:قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه".
قال جابر بن عبد الله : فصففنا فصلى النبي –صلى الله عليه وسلم- عليه ونحن صفوف".
وفي رواية قال:"إن أخاً لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه".( أخرجه البخاري رقم 1257-3664 والرواية الأولى له ومسلم رقم 952 والرواية الأخرى له من حديث جابر بن عبد الله)(1/194)
والصلاة على الميت دعاء ورحمة ينتفع بها الغائب كما ينتفع بها الحاضر وهذا معنى صلاة النبي –صلى الله عليه وسلم- على النجاشي وهو غائب وهو مذهب الشافعي والمعتمد عند الحنابلة.
ولا يقال:إن النبي –صلى الله عليه وسلم- صلى على النجاشي لأنه لم يصل عليه أحد، فإنه لم يأت في الأحاديث أنه لم يصل عليه أحد، بل عللت الصلاة عليه بكونه رجلا صالحاً ولم تعلل بكونه لم يصل عليه أحد.
كذلك الصلاة على من صُلّي عليه مشروعة أيضا كما ثبت عن يزيد بن ثابت أخي زيد، قال : خرجنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- فلمّا وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد فسأل عنه فقيل : فلانة فعرفها. فقال: ألا آذنتموني بها قالوا:يارسول الله كنت قائلا، صائماً، فكرهنا أن نؤذيك فقال:لا تفعلوا لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي عليه رحمة. ثم أتي القبر فصففنا خلفه، وكبر عليهم أربعاً.
( أخرجه النسائي رقم 2022 وابن ماجة رقم 1528)
فرسول الله –صلى الله عليه وسلم- كرر الصلاة على ميت بعد دفنه بعد أن صلى عليه أصحابه.
فخلاصة الذي نراه جواز الصلاة على الغائب، ما لم يتخذ عادة واتخاذه عادة غير مشروع، فإن الأمة لم تعرف الصلاة على كل ميت غائب، إنما كانوا يفعلون ذلك لمن كان له اعتبار خاص عند المسلمين، كالنجاشي لما له من نصرة المسلمين الذين هاجروا إليه للحبشة، وكالمرأة السوداء التي كانت تنظف مسجد النبي –صلى الله عليه وسلم- لما لها من المعروف للمسلمين. ( حديث المرأة السوداء متفق عليه البخاري رقم 446،448،1272 ومسلم 956)
ونذكر إخواننا بأن هذه المسألة من المسائل الخلافية فلا ينكر فيها على المخالف ولا يصح وصفها بالبدعة.
هل يجب على الأب دخول دورات في التعامل مع الأطفال؟
السؤال :هل يجب على الزوج "الأب"المشاركة في دورة تعليمية لحل مشاكل عناد الأطفال الصغار؟
الجواب :(1/195)
لا يجب على الأب شرعاً أن يشارك في هذه الدورات التي تعقد لحل مشاكل الأطفال الصغار فإن هذه الدورات لا تكاد تنتهي فقد تعقد دورة لمشكلة العناد وأخرى لتأخر النطق وثالثة لتأخر المشي ورابعة وخامسة وسادسة .... وعاشرة.
وإنما الواجب على كل من الأب والأم أن يجتهدا في معرفة حلول مشاكل أطفالهما بالمشاركة في دورة أو أكثر إن تيسر ذلك أو بالقراءة والتثقف في الموضوع أو بالاستماع إلى المحاضرات أو البرامج التلفزيونية والإذاعية أو باكتساب الخبرة من الأمهات السابقات والآباء السابقين وأن يتعاون الأبوان كلاهما على حسن تربية الأولاد فهم أمانة في أعناقهم جميعاً كما قال عز وجل "يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناسُ والحجارة" [التحريم:6]
وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم -:"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته...والرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها)
هل يمنع الزوج زوجته من زيارة والديها الكافرين؟
السؤال: هل يجوز للزوج المسلم منع زوجته الغربية المسلمة من زيارة والديها النصرانيين منعاً مطلقاً أو يسمح لها بزيارتهما نادراً ؟ وهل يحبذ الإسلام لمن دخل فيه أن يجفو أهله ويقطع رحمه ؟
الجواب:
لا يجوز للزوج المسلم أن يمنع زوجته المسلمة من زيارة والديها النصرانيين لأنها بمقتضى إسلامها مأمورة ببرهما ومصاحبتهما بالمعروف بل هذا أمر جعله الإسلام بعد توحيد الله تبارك وتعالى"وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً" [الإسراء: 23]
وذلك أن أعظم حقوق العباد بعد حق الله سبحانه وتعالى هو حق الوالدين.(1/196)
حتى الوالدان المشركان لم يمنع الإسلام من برهما مع شركهما، بل لم يمنع من ذلك وإن جاهدا ولدهما على الخروج من الإسلام والدخول في الشرك وحاولا ذلك محاولة عبر عنها القرآن بالجهاد، كما قال تعالى "ووصينا الإنسان بوالدين حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً" [لقمان: 13-14]
فأمر الله بعصيانهما في الدعوة إلى الشرك، كما أمر بمصاحبتهما بالمعروف.
وقد جاءت أسماء بنت أبي بكر إلى النبي –صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية تستفتيه وتقول له: يارسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي مشركة أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك".( متفق عليه أخرجه البخاري رقم 2477 ومسلم رقم1003)
قالوا:وفي مثل هذا نزل قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" [الممتحنة:8].
والإسلام قد فرض الوصية للوالدين غير المسلمين كما هو ظاهر قوله تعالى: "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين" [البقرة: 180].
ومن المعروف أن الوالدين المسلمين لا تجوز لهما الوصية لأنهما وارثان ولا وصية لوارث.
وإنما المقصود هنا الوالدان غير المسلمين والمقربون غير المسلمين، فإن عدم إسلامهما لم يلغ ما لهما من حقوق الوالدية، وكذلك عدم إسلام الأقربين لم يلغ ما لهم من حقوق الرحم، وقد قال تعالى "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام" [النساء:1]
والإسلام اعتبر المصاهرة إحدى رابطتين طبيعيتين تربط بين البشر والرابطة الأخرى هي النسب، قال تعالى: "وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً" [الفرقان: 54](1/197)
فلا يجوز إنكار هذه الرابطة الفطرية ولا إهمالها، وينبغي للزوج أن يحسن علاقته بأحمائه، أو أقارب زوجته، وخصوصاً أبويها وأن يتودد لهم ويحسن إليهم حتى ولو كانوا غير مسلمين، فيحببهم إلى الإسلام بذلك، وإنما انتشر الإسلام في العالم بحسن أخلاق المسلمين وحسن تعاملهم ومعاشرتهم للآخرين.
ولا يجوز للمسلم أن يمنع زوجته من بر والديها مسلمين كانا أو غير مسلمين بل ينبغى أن يحرضها على ذلك ويذهب معها إلى زيارتهما، ويدعوهما إلى زيارته في بيته، فهذا مقتضى المصاهرة التي شرعها الله تعالى، فهؤلاء هم أجداد أطفاله، وجداتهم، وإخوانها، أخوالهم، وأخواتها، خالاتهم، ولهم جميعاً حقوق ذوى الأرحام وأولى القربى.
وكم نرى لحسن المعاملة من الأثر العظيم في نفوس الناس، فكم هم الذين دخلوا الإسلام لما رأوه من المعاملة الحسنة من قبل المسلمين الصادقين، كما نرى سوء المعاملة والأخلاق ربما سبب بغض الإسلام وأهله والنفرة منه ومن أهله عند آخرين! وطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لمن كان مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير. ( الدورة الأولى)
تعليق:
قلت: ولهذا نص الفقهاء على أن الزوج إذا حلف على زوجته أن لا تزور والديها أو لا يزورانها يُحنَّثُ قال خليل :"لا لأبويها وولدها من غيره أن يدخلوا عليها وحنّث إن حلف كحلفه أن لا تزور والديها إن كانت مأمونة ولو شابة".
وعللوا ذلك بندب الشرع للمواصلة.
راجع تفاصيل المسألة في شروح خليل.( الزرقاني 4/247)
هل يجوز للزوج منع زوجته من زيارة امرأة بعينها؟
السؤال: هل يجوز للزوج أن يمنع زوجته من زيارة امرأة بعينها "امرأة نصرنية" مثلا ؟
الجواب :
يجوز للزوج أن يمنع زوجته من زيارة امرأة معينة – مسلمة أو غير مسلمة- إذا كان يخشى من وراء ذلك مفسدة أو مضرة على امرأته أو على أطفاله أو على حياته الزوجية.(1/198)
فالرجل هو القوام على الأسرة والحارس لها، ويجب عليه أن يحفظها من كل ما يعرضها للخطر ولو على سبيل الاحتمال ومن القواعد الشرعية المقررة : أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
والذي نوصي به هنا: ألا يتعسف الرجل في هذه الأمور ولا يتشكك في غير موضع التشكك، ويفرض على زوجته عزلة أشبه بالسجن ويحرمها من الاتصال بكل من تعرف ثمرة سوء الظن والرجم بالغيب، فقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" [الحجرات: 12]، وقال –صلى الله عليه وسلم-:" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".
ولم يأمر الإسلام المسلم والمسلمة أن يقطعا صلتهما بكل الناس من غير المسلمين والمسلمات، وخصوصاً أهل الكتاب.
وقد قال عز وجل: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].
فلم ينه الله تعالى عن برهم والإقساط إليهم والقسط هو: العدل، والبر هو: الإحسان، وهو شيء فوق العدل وقد عبر به الشارع عن أقدس علاقة بين الخلق، وهي علاقة الأولاد بوالديهم وهي "البر".( الدورة الأولى)
- ذبائح الدُّروز؟
السؤال: توجد في مدينتنا مطاعم يملكها دروز عرب وقد سمعنا كثيراً من القيل والقال حول هذه الطائفة فهل يجوز لنا أن نأكل من مطاعمهم ؟ مع العلم بأنهم لا يقومون بذبح الذبائح التي نأكل منها في مطاعمهم.
وهل يجوز لنا أن نأكل في مطاعم الطائفة الدرزية شيئاً غير اللحوم ؟
الجواب :(1/199)
الدروز طائفة مرتدة عن الإسلام لهم أحكام المشركين، وقد أجمع العلماء على أنهم لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، وعليه فلا يجوز للمسلم أن يأكل اللحوم التي يقومون هم بذبحها، أما ما يقومون ببيعه مما قام غيرهم بذبحه وكان الذابح له مسلماً أو كتابياً فهو حلال، وجميع الأطعمة مما لا يشترط فيه الذبح فهو حلال كذلك من الدروز أو من غيرهم. ( الدورة الأولى)
- حكم المواد المستحيلة؟
السؤال: يكتب ضمن محتويات بعض المأكولات حرف "إي" باللغة الإنجليزية مضافاً إليها رقم وقيل: هذا يعنى أنها تحتوى على مواد مصنعة من دهن أو عظم الخنزير فلو ثبت هذا الأمر فما هو الحكم الشرعي في تلك المأكولات ؟
الجواب :
هذه المواد المشار إليها بحرف "إي" مضافاً إليها رقم هي مركبات إضافية يزيد عددها على 350 مركباً وهي إما أن تكون من الحافظات، أو الملونات، أو المحسنات، أو المحليات، أو غير ذلك وتنقسم بحسب المنشأ إلى أربع فئات:
الفئة الأولى: مركبات ذات منشأ كيميائي صناعي.
الفئة الثانية: مركبات ذات منشأ نباتي.
الفئة الثالثة : مركبات ذات منشأ حيواني.
الفئة الرابعة: مركبات تستعمل منحلة في مادة الكحول.
والحكم فيها أنها لا تؤثر على حل الطعام أو الشراب وذلك لما يأتي :
أما الفئة الأولى والثانية فلأنها من أصل مباح ولا ضرر يقع باستعمالها.
وأما الفئة الثالثة فإنها لا تبقى على أصلها الحيواني وإنما تطرأ عليها استحالة كيميائية تغير طبيعتها تغييراً تاماً بحيث تتحول إلى مادة جديدة طاهرة وهذا التغيير مؤثر على الحكم الشرعي في تلك المواد، فإنها لو كانت عينها محرمة أو نجسة، فالاستحالة إلى مادة جديدة يجعل لها حكماً جديداً كالخمر إذ تحولت خلا، فإنها تكون طيبة طاهرة، وتخرج بذلك التحول عن حكم الخمر.
وأما الفئة الرابعة فإنها تكون غالباً في المواد الملونة وعادة يستخدم من محلولها كمية ضئيلة جداً تكون مستهلكة في المادة الناتجة النهائية وهذا معفو عنه.(1/200)
إذن فما كان من الأطعمة أو الأشربة يتضمن في تركيبه شيئاً من هذه المواد فهو باق على الإباحة الأصلية ولا حرج على المسلم في تناوله.
وديننا يسر وقد نهانا عن التكلف والبحث، والتنقيب عن مثل ذلك ليس مما أمرنا به الله تعالى ولا رسوله-صلى الله عليه وسلم-.
هل يجمع المسلم بين اسمه القديم واسم إسلامي؟
السؤال: هل يوجد مانع شرعي من أن يكون الاسم مركبا مثل "سارة كريمة" "فاطمة برتا" حيث يحتفظ المسلم الجديد أو المسلمة الجديدة باسمه القديم مثل "برتا" ويضيف إليه اسماً إسلامياً؟
الجواب :
لا يوجد مانع شرعي من أن يكون الاسم مركباً كأن يبقى الشخص إذا دخل في الإسلام على اسمه القديم ويضيف إليه اسماً إسلامياً كأن يتسمى الرجل بمحمد وأحمد أو عبد الله أو عبد الرحمن أو عمر أو عليّ وأن تتسمى المرأة باسمها القديم وتضيف إليه اسماً إسلامياً مثل خديجة أو فاطمة أو عائشة أو رقية أو نحو ذلك.
وقد جرت العرب أن يكون للشخص الواحد وخصوصاً من له مكانة وقدر اسم وكنية ولقب، وكلها أسماء ينادى بها مثل "عبد الله وأبي بكر والصديق" وكلها أسماء لرجل واحد، ومثل عمر وأبو حفص والفاروق" وأقر الإسلام جميع ذلك.
فمن هنا لا نجد حرجاً في حمل الشخص – رجلا كان أو امرأة – لاسمين يعرف بهما وخصوصاً من لم يكن مسلماً ودخل في الإسلام بشرط ألا يكون الاسم الأول غير مقبول شرعاً كأن يكون اسمه "عبد المسيح" أو يكون اسمها نحو ذلك فيغير إلى اسم مقبول من الناحية الشرعية.
بل لا مانع أن يبقى باسمه القديم إن شاء لا يغيره ما دام مقبولا شرعاً وقد بقي الصحابة على أسمائهم التي تسموا بها في الجاهلية، وإن كان الأولى أن يحمل اسما إسلامياً محبباً يوحى بالنقلة الجديدة إلى الإسلام.
وقد كان –صلى الله عليه وسلم - يحب الأسماء التي توحي بالمعاني الطيبة، والصدق، والتفاؤل ويكره الأسماء المضادة لها ويغيرها إلى ما هو أحسن وأمثل، كما غير اسم "عاصية" إلى "جميلة".(1/201)
وقال-صلى الله عليه وسلم- :" خير الأسماء : عبد الله وعبد الرحمن وأصدق الأسماء : حارث وهمام وشرُ الأسماء حرب ومرة".( حديث حسن بطرقه أخرجه عبد الله بن وهب في جامعه رقم 46-53 وأحمد 4/345 وأبو داود رقم 4950 والنسائي رقم3565)
حكم الأختلاط في الأعراس؟
السؤال: ما هو حكم الاختلاط في الأعراس ؟
الجواب :
مصطلح "اختلاط" مصطلح غريب على نصوص الكتاب والسنة، جعله كثير من الناس من الأمور المقطوع بها من دين الإسلام قولا واحداً، وكأن القرآن أو الحديث قال : الاختلاط حرام.
وهذا من المجازفات التي يقع فيها كثير من المسلمين.
والذي نقوله بخصوص ذلك : إن شريعة الإسلام لم تمنع من وجود الرجال والنساء في مكان واحد وذلك إذا اجتنبت أمور ثلاثة حرمها الإسلام هي :
1- الخلوة وهي : أن يكون رجل واحد مع امرأة واحدة في موضع لا يتهيأ أن يراهما فيه أحد.
2- التبرج وهو : إظهار المرأة ما أوجب الله عليها ستره من بدنها، أو زينتها، أو طيبها، أو تكسرها في مشيتها وحركتها.
3- والتماس : أي لمس البشرة البشرة.
فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة فليس هناك محظور شرعي ولا فارق بين الأعراس أو غيرها في ذلك إلا إذا كنا نعلم أن الناس لا تتقيد في الأعراس بهذه الشروط فنمنع من وجود الرجال والنساء في مكان واحد. ( الدورة الثانية)
تبادل الحديث بين الأجانب؟
كثير من الزوجات المسلمات لا يسمح لهن بالحديث مع الزائرين أو الحديث مع الرجال عموماً في حين يسمح الرجل لنفسه بالحديث مع أي امرأة فما الحكم في ذلك ؟
الجواب :
جاء في الحديث الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" الحياء من الإيمان".( متفق عليه عن ابن عمر أخرجه البخاري رقم 24،5767 ومسلم رقم 36)
"والحياء لا يأتي إلا بخير". ( متفق عليه عن عمران بن حصين أخرجه البخاري رقم 5766 ومسلم رقم 37)(1/202)
وهذا الحياء خلق محمود من الرجال والنساء جميعاً، ولكنه في المرأة أكثر حمداً، وهو الأليق بطبيعتها الأنثوية، وهذا هو الذي يجعلها غالباً لا تبادر بالكلام مع الرجال الأجانب عنها، وأحياناً تحكم ذلك التقاليد والأعراف التي تختلف من بلد لآخر، ومن زمن لآخر، ومن حال لأخرى.
والمهم أن يُعلم أن الشرع لا يمنع أن تكلم الرجل أو يكلم الرجل المرأة إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وكان الكلام في حدود أدب الشرع وضوابطه.
وقد قال تعالى لنساء النبي –صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين:"يانِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِـ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً" [الأحزاب:32].
هذا مع أن لنساء النبي –صلى الله عليه وسلم- وضعاً خاصاً وأحكاماً تخصهن وحدهن، وعليهن من التشديد ما ليس على غيرهن، ومع هذا لم يمنعهن من مجرد الكلام إنما منعهن من الخضوع بالقول. والخضوع بالقول يعنى إلانته والتكسر فيه، بحيث يطمع في المرأة أصحاب الشهوات المطيعون لنداء الغرائز الدنيا، وهو الذي عبر عنه القرآن بالذي في قلبه مرض وهو مرض شدة الشهوة، أما الكلام بالمعروف وفي حدود الأدب المرعي فهو مشروع "وقلن قولاً معروفاً" وقد صحت الأحاديث بمشروعية سلام الرجال على النساء، وسلام النساء على الرجال وكذلك عيادة الرجال للنساء، وعيادة النساء للرجال.
وليس معنى هذا أن يفتح الباب على مصراعيه لتحدث المرأة كل غاد ورائح من الرجال، أو ليحدث الرجل كل غادية ورائحة من النساء فهذا ما يرفضه المنطق والذوق قبل أن يرفضه الشرع، إنما تحادث المرأة الرجل إذا كان قريباً لها، أو صهراً، أو أستاذاً أو جاراً، أو رئيساً في العمل ونحو ذلك مما تفرضه ظروف الحياة والعلاقات المتشابكة بين الناس، ولا سيما في عصرنا ما دامت الثقة قائمة، والفتنة مأمونة، والأوضاع عادية.(1/203)
كما جرى على ذلك العمل في كثير من البلاد الإسلامية يسلم الرجال على النساء، والنساء على الرجال إذا التقوا ويتبادلون الأحاديث أو" القول المعروف" فيما يهمهم من أمور برضا الأزواج، والآباء، والإخوان، ولا ينكر ذلك عليهم عالم من العلماء.
ولا ننكر أنه وجد في بعض البلاد تقاليد متشددة بالنسبة للمرأة تكاد تحبسها في بيتها وتقضي عليها بالسجن المؤبد حتى يتوفاها الموت، وقد وجد من بعض العلماء من يؤيد هذا التوجه ولكن الأدلة الشرعية الصحيحة الثبوت الصريحة الدلالة تعارض ذلك فضلا عن مقاصد الشرع ومصالح الخلق وتطور الزمان والإنسان.
هل تركب المرأة الدراجة؟
السؤال: هل يجوز للمرأة ركوب الدراجة ؟ وكيف بالنسبة للبنات الأبكار مع احتمال أن يفقدن غشاء البكارة ؟
الجواب :
ركوب الدراجة أو السيارة أو غيرها من أدوات النقل: أمر مشروع في حد ذاته وقد كانت المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها تركب الإبل، وقال الرسول-صلى الله عليه وسلم-:"خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده". ( متفق عليه من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري رقم 4794،5050 ومسلم رقم 2527)
وهذا بشرط أن تحافظ على الآداب الشرعية عند ركوبها من الالتزام باللباس الشرعي، والحذر من تماس البدن للبدن فذلك محظور شرعاً.
أما احتمال أن تفقد البنات الأبكار غشاء البكارة فلا بد من دراسة هذا الأمر ومعرفة مقدار هذا الاحتمال فإذا كان أمراً نادراً فمن المقرر شرعاً أن النادر لا حكم له، وإنما تبنى الأحكام على الأغلب الأعم.(1/204)
وإذا كان يحدث بكثرة ولا يمكن التحفظ منه بسبب أو آخر، فينبغى أن تمنع البكر المسلمة من هذه الوسيلة حتى لا يساء بها الظن، وتتهم بما هي بريئة منه إلا ما حكمت به الضرورة على إحداهن كأن تتعين وسيلة للوصول إلى مدرستها أو عملها الذي تحتاج إليه أو نحو ذلك، فإن الضرورات تبيح المحظورات كما قال تعالى: "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [البقرة:173]
النساء يشاركن الأطفال في بعض الحركات!؟
السؤال : هل يجوز للنساء أن يشاركن الأطفال في ألعاب جماعية فيها بعض الحركات الراقصة ؟ "يمسك الأطفال بأيدي بعضهم في شكل دائرة يرقصون ويغنون".
الجواب:
إذا كانت هذه الحركات من النوع المثير للغرائز المهيج للشهوات فلا يجوز أن تقوم النساء بذلك، وخصوصاً في حضرة الرجال الأجانب عنهن.
أما إذا لم يتحقق فيها ذلك وإنما هي مجرد حركات إيقاعية مع حركات الأطفال يشاركنهم بها لتشجيعهم وإدخال السرور على قلوبهم وتدريبهم على الألعاب الرياضية التي تقوى الجسم وتبهج النفس وتبعث على النشاط وبخاصة الألعاب الجماعية التي تغرس في أنفس الأطفال من الصغر حب التعاون وروح الجماعة، فذلك أمر جائز لا حرج فيه .
المفرقعات وبداية العام وأبناء المسلمين؟
السؤال : نسأل كثيراً عن جواز شراء المفرقعات بالنسبة لأولاد المسلمين بمناسبة رأس السنة الميلادية والسؤال هو :
هل يجوز لأبناء المسلمين شراء هذه المفرقعات واستخدامها في أعياد المسلمين ؟
أو شراؤها واستخدام في ليلة رأس السنة الميلادية ؟ أو شراؤها واستخدامها قبل رأس السنة الميلادية أو بعدها ليس احتفالا برأس السنة وإنما لأنها تباع في هذه المواسم ؟
الجواب :(1/205)
نعم لا مانع من أن يشتري أبناء المسلمين تلك المفرقات للعب بها في الأعياد الإسلامية من باب إظهار الابتهاج بالعيد، لكن مع الاجتهاد في ترك الإسراف في ذلك لأن الله تعالى نهى عنه، ولا يجوز لأبناء المسلمين استعمالها في أعياد النصارى لأنه يكون حينئذ من باب مشاركتهم في خصائصهم الدينية وهو إظهارهم الفرح بتلك المناسبة التي تخصهم ولا مانع من استعمالها فيما سوى ذلك من أيام السنة الأخرى قبل رأس السنة أو بعدها.
المسلم والمشاركة في انتخابات البلديات في الغرب؟
هل يجوز للمسلم أن يشارك في الانتخابات البلدية في أوربا أو أن يرشح حزباً كافراً لا يحقق مصلحة المسلمين ؟
الجواب :
هذه قضية يرجع في تقديرها إلى المؤسسات والجمعيات الإسلامية، فإذا كانت ترى تحقيق مصالح للمسلمين بمثل ذلك، لا تتحقق دون هذه المشاركة فلا بأس حينئذ بها بشرط أن لا تتضمن من المسلمين تنازلا أكبر من تلك المصلحة التي يستفيدونها.
( الدورة الثانية)
قلت : يراجع ذلك في أمثلة فقه الأقليات وفتوى المجلس هنا أضعف مما ينبغي أن يوجه به المسلمون في الغرب من ضرورة الاشتراك في كل الأنشطة التي تمثل السبيل الوحيد للتأثير في المجتمع والتفاعل معه لصالح توطين الإسلام وتمكين المسلمين في ديار الغرب.
أخذ الأجر على الشهادات الطبية؟
السؤال: أعمل طبيباً في مستشفى في بريطانيا ويطلب مني في كثير من الأحيان أن أوقع على شهادة بعدم وجود ما يلوث البيئة إشعاعياً في جثث بعض الموتى الذين توجب عليهم ديانتهم أو نحلتهم حرق الموتى علماً بأننا نتقاضى أجراً على عملية التوقيع هذه وبفضل الله تعالى يمكننا أن نستغني عنه ولا نجد مشكلة في التهرب من عمل وتوقيع الشهادة ذلك أن الأطباء يتسابقون للحصول على المال الإضافي المبذول لذلك الغرض فهل هناك ما يمنع شرعاً من توقيع مثل هذه الشهادات ؟
الجواب :(1/206)
إذا علم الطبيب المسلم بعد فحص جثة الميت أنها لا تتسبب في تلويث البيئة لو أحرقت فيجوز له أن يوقع على ذلك وهو بهذا إنما يشهد بما يعلم وقد دعي إلى الشهادة فلا يأباها لا سيما أن غيره من الأطباء ينتظرها وقد يوقع على ذلك من أجل المال سواء كانت ملوثة أو غير ملوثة .
ولسنا نرى على الطبيب إذا فعل ذلك بأساً ولا إثماً فليس من مسئولية المسلم ما يصنعه غير المسلم فيما يراه ويعتقده في خاصة نفسه، وهؤلاء المسلمون قد حكموا بلاد الهند زماناً طويلا، ولم يثبت أنهم منعوا أهلها من حرق موتاهم وهذا شبيه بحال اليهود والنصارى حين كانوا يعيشون بين المسلمين في كنف الدولة الإسلامية ومعروف ما يفعلونه في معابدهم وكنائسهم وبيوتهم وفي خاصة أنفسهم من أمور تخالف ما جاءت به شريعة الإسلام، فما كانوا يقسرون على تركها ولم يكن المسلمون أو حكامهم مسئولين عن ذلك مع ما فيه من التمكين لهم من فعل ما نقطع أو نظن أنهم يفعلونه.
فليس من مسئولية الطبيب ما يقومون بفعله بعد توقيعه تلك الشهادة كمن يبيع العنب لنصراني فليس عليه أن يسأله إن كان سيعصره خمراً أم سيأكله.
وأما أخذ الأجرة على ذلك فهو جائز لجواز هذا العمل.( الدورة الثانية)
الخاتمة
في هذا التأليف الوسيط كان همنا إبراز جملة من القضايا قد تدور في أذهان المتعاطي للفتوى كما قد تساور نفوس متلقي الفتوى من الأفراد والجماعات.
أهم هذه القضايا أن ننبه ولو على سبيل الإلماح والإيماء إلى دقة عملية الإفتاء ووعورة اقتحام عقبتها الكأداء وذلك ما يشير إليه عنونة الكتاب بـ"الصناعة" لأن الصناعة عمل يفترض فيه أن يكون متقناً وأن يكون صانعه متخصصاً وأنه بقدر تخصصه يكون المنتج الصناعي محكماً ومرغوباً.
إلا أنها صناعة ذات طبيعة خاصة تميز بها عن غيرها من الصناعات مادية كانت أو فكرية لأنها ترجمة لحكم الله تعالى وتبيين له للسائلين ممن هو أهل لذلك كما أفاده تعريف الفتوى.(1/207)
ولكونها بهذه المثابة ارتقت في سلم الأحكام إلى فرض الكفاية فهي من الواجبات العامة إذا صح التعبير، لأنه مطلوب من المجتمع كله أن يوجدها في حياة الناس، إذ بها المحافظة على الضرورات عن طريق معرفة أحكامها.
ونتيجة لهذا الشرف الرفيع كان خطرها عظيماً ومسئوليتها جسيمة، فكان الجريء عليها جريئاً على النار، وكان ضمان المنتصب لها بغير علم قائماً وتأديبه وزجره لازماً.
... حيث كان التصدير والمقدمة عن علاقة الصناعة بالفتوى وتعريف الفتوى والنازلة لغة واصطلاحاً وما يكتنف هذا المصطلح من هالة في الشرع وما يعتريه من حكم.
فالفتوى تبيين لحكم شرعي لمن سأل عنه لا على سبيل الإلزام .
أما القضية الثانية فهي ما يفتي به المعبر عنه بمرجعية الفتوى في عصر أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم -.
وهو العصر الذي انتقلت فيه الفتوى من الوحي المباشر على المعصوم إلى اجتهاد البشر في فهم الوحي وتطبيقهم، وكان مرحلة مفصلية في التعامل مع الوقائع والنوازل في ضوء نصوص الشرع وتصرفات الشارع.
وهنا نرى الاجتهاد البشري في أجلى صور تعامله مع الوحي الإلهي، وهنا برزت ثلاثة أمور وجهت المجتهدين :
أولاً : ظهور أدلة ما كان لتظهر في زمن الوحي فقد ظهر الإجماع، والاجتهاد بالرأي من خلال تعامل الخلفاء مع قضايا لا نص فيها، حيث يجتمع رؤوس الناس وأعيانهم، وذلك ما يعني دعوة الفقهاء للاتفاق على مسألة.
أما الاجتهاد بالرأي وهو أعم من القياس فقد ظهر جليا في كثير من القضايا.
الأمر الثاني: هو بروز عامل الزمان في التعامل مع النصوص الشرعية مما يعني أن المصالح الحادثة أصبح لها وزن مقدّرةً من غير صاحب الوحي.
وبعبارة أخرى برز توجه مقاصدي يبرز إلى جانب النصوص الجزئية لتخصيص عمومها إن لم يكن في الدلالة فهو تخصيص في الزمان كمسألة النفي، والقطع في زمن المجاعة، والضوال وتوريث مطلقة المرض، وتضمين الصناع.(1/208)
الأمر الثالث: ظهور الاختلاف الناشئ تارة عن دلالات الألفاظ والناشئ تارة أخرى عن معقول الشرع. وهو ما يسمى بالاختلاف الحميد والاختلاف السائغ بين أهل الحق.
وهو اختلاف له أسبابه المشروعة ومعطياته العلمية وقد بينا زمرة من دواعيه وجملة من مراميه وأنه كان رحمة للأمة.
فقد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ليختلف المختلفون من غير عنت ولا حجر ما دام ذلك الاختلاف واقعاً من أهله علماً وديانة ملتزماً بأصوله هذا هو ما عالجه الفصل الأول من هذا الجزء.
أما الفصل الثاني: فكان خطوة في التأصيل وتطور نوع الصناعة عرفنا فيه المفتي بعد أن كان معروفاً في زمن الصحابة فاحتاج إلى ضبط.
والمفتى به في المذاهب حيث تمهدت سبل الاجتهاد وتوضحت وسائل الاستنباط وقننت مع ظهور بوادر أصول الفقه مع رسالة الشافعي وتشعبت الآراء وافترضت الصور الذهنية التي قد لا توجد في الخارج ولن توجد أبداً فأثرى الفقه وراجت صناعة الجدل ومطارحات الآراء ومقارعة الحجج والأفكار مع دخول المنطق الأرسطي والمقولات الفلسفية اليونانية إلي الميدان فاختبرت أنواع القياس وتبارت المدارس الفقهية فأصبحت المقاصد الكلية توازن النصوص الجزئية القطعية.
أما الفصل الثالث: فكان إشارة إلى تعامل المقلدين بعد عصر المجتهدين حيث ضربنا أمثلة من فتاوى القرون التي لم يعد الاجتهاد فيها معترفاً به.
أما الجزء الثاني من هذا الكتاب فيعالج أوضاع مجتمع مسلم صغير يعيش وسط مجتمع كبير غير مسلم في بلد لا سلطان فيه للإسلام تسوده قوانين بشرية لا صلة لها بشريعة الإسلام إلا بقدر ما يشترك فيه العقلاء من الأنام فاحتاجت حالهم لاجتهاد والمؤمن لا يسد عليه باب.
فكان الجزء الأول بما اشتمل عليه من آليات وأدوات ووسائل للاجتهاد تمهيداً لما سيكون عليه نظر الباحث في هذا الفضاء.
فمهدناه بتعريف للطائفة المستهدفة وهي الأقلية المسلمة ولهذا سميناه بفقه الأقليات.(1/209)
وأصلنا مقاصده ومهدنا قواعده بتلك القواعد الكبرى التي تبرهن على رحابة صدر هذه الشريعة الخاتمة في تعاملها مع مختلف الأحوال بناء على مقاصد التيسير ورفع الأصر.
وذكرنا مظاهر التيسير في تنزيل الحاجات منزلة الضرورات والنظر إلى المئالات واعتبار الأعراف وتغير الفتوى بتغير الزمان.
وكان تطبيق هذه القواعد في زمرة من القضايا ذات المساس بأوضاع الأقليات كمسألة إقامة المسلمين بين ظهراني غير المسلمين والتجنس بجنسيتهم مما يرد إلى مقاصد الإقامة وظروفها كما أن تأثير المكان على المعاملات كان له مكانة في بحثنا.
أما قاعدة الاستحالة وانقلاب العين فإنها لا تختص بالأقليات إلا أن بعض مفرداتها أكثر إلحاحاً في وضع الأقليات.
كما تعرضنا في سياق الأمثلة إلى جملة من القضايا المتعلقة بالعلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم.
إلا أن الأمثلة الحية كانت في ملحق فتاوى المجلس الأوربي التي كانت تجيب عن نوازل حقيقة تمثل مشهد الإشكالات الشرعية التي تعاني منها الأقلية المسلمة في ديار الغرب.
وقد أشرنا في تعليقات سريعة إلى بعض الخلل غير المقصود الذي اعترى بعض الأجوبة.
وفي الختام : لعل هذا الجمع غير المسبوق والتأصيل والتفريع في حقل من الاجتهاد الفقهي جديد يكون تحفيزاً لهمم الدارسين بما يمثله من مادة فقهية يحتاج إليها المتعاملون مع أوضاع المسلمين في ديار غير المسلمين.
إهابة بالناظر في هذا الكتاب:
اعلم أيها الناظر وفقني الله وأياك إلى سبيل النجاة والفكاك وجنبني وأياك سبيل الردى والهلاك أنما ذكرناه في هذا الكتاب جله من المتشابهات التي تلجئ إليها الضرورات والحاجات وتركها أنجى للعبد وأخف لظهره يوم الحساب " فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كالراتع في الحمى يوشك أن يقع فيه".
كما جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم -.(1/210)
وقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الكلام على حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما : اختلف العلماء في حكم الشبهات فقيل : التحريم وهو مردود وقيل: الكراهة وقيل: الوقف، وقيل: الإباحة وهو جار على الخلاف فيما قبل ورود الشرع.
ثم قال: وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء:
أحدها : تعارض الأدلة كما تقدم.
ثانيها: اختلاف العلماء وهذه منتزعة من الأولى.
ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانباً الفعل والترك لأمر خارج.
رابعها: الإباحة الصادقة بالكراهة.
ثم قال: والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول هو أن المشتبه فيه هو ما اختلف العلماء فيه.
قال المازري في المعلم: إن حكم الشبهة الاحتياط في تجنب ذلك الأمر.
وقال: إنه إذا ترجح جانب الحرام لقوة شبهه به ترجح جانب الترك وإذا ترجح جانب الحل فهو حلال وإذا لم يترجح شيء فالترك مستحب.
وقال ميارة: والمشتبه هو كل ما ليس بواضح الحلِّية ولا التحريم مما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني والأسباب وفسره بعضهم بما اختلف فيه.( حاشية ابن حمدون 2/151)
وقال ابن عرفة: إن مرادهم بأن المختلف فيه من المتشابهات هو المختلف فيه اختلافاً دلائل أقواله متساوية أو متقاربة.
وليس أكثر مسائل الفقه هكذا بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل.( المعيار6/381)
وقال الحافظ ابن عبد البر: وينبغي للمسلم أن يتجنب الشبهات فإن فعل فقد استبرأ لدينه وعرضه ولا يقطع بتحريم شيء من الشبهات إلا بما بان تحريمه وارتفعت الشبهة عنه.
والورع مع ذلك أفضل وأقرب للتقوى.( الكافي 1/444)
وقد تتفاوت حال الناس فيفتى أحدهم بترك الشبهة لأنه واجد قادر على الكسب والآخر بالإباحة لأن حاله على خلاف ذلك.
وقد تأول الإمام أبو حامد الغزالي فتوى النبي-صلى الله عليه وسلم- لكل من عدي بن حاتم وأبي ثعلبة الخشني رضي الله عنهما في معنى حديثه –صلى الله عليه وسلم- في الصيد:" كل ما أصميت ودع وما أنميت".(1/211)
والإصماء أن يقتل الصيد فوراً. والإنماء أن يجرحه ويغيب عنه ثم يجده ميتاً.
فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لعديّ بن حاتم في الكلب المعلَّم:" وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه".
والنهي على سبيل التنزيه لأجل الخوف.
وقال لأبي ثعلبة الخشني:" كُل منه فقال: وإن أكل منه ؟ فقال: وإن أكل منه".
قال الغزالي : وذلك لأن حالة أبي ثعلبة وهو فقير مكتسب لا تحتمل هذا الورع، وحال عدي بن حاتم كانت تحتمله، فأمره بعدم أكله موافقة لحاله لأنه كان جلداً قوياً واصطياده لم يكن على طريق الاكتساب فأمره بالورع موافقة لحاله".( راجع كتاب الحلال والحرام لشيخنا العلامة الشيخ بيه بن السالك رحمه الله تعالى)
ولهذا فإن الورع في كل ذلك أن تأخذ بمذهب الجمهور وأن تبتعد عن الشبهات.
فقد روي عن سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما مرفوعاً " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة".
أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي وابن ماجه.
وقد فسر الأمام أحمد الشبهة أنها منزلة بين الحلال والحرام. وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.
وكذلك يقع الاشتباه بتعارض الأصل والظاهر كثوب الكافر لا يتحرز من النجاسات فهذا محل اشتباه.
ويقول ابن رجب أيضا: وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع متردداً بين أصول تجتذبه كتحريم الرجل زوجته متردد بين الطهارة والطلقة الواحدة والثلاث واليمين.
( راجع ابن رجب في شرحه لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في جامع العلوم والحكم)
وبالجملة فنحن لا نتعصب لما في هذا الكتاب من الأقوال والآراء بل نرى أن الورع يقتضى أن لا تقيم في ديار غير المسلمين إلا لضرورة أو لحاجة وأن لا تتعامل معاملات غير شرعية في أصلها وإن كان بعض العلماء قد أباحها.
وأن لا تتعاطى كثيراً من تلك العقود والتصرفات التي ذكرنا الرخص فيها.(1/212)
مع أنه ليس كل ورع مطلوب إذا كان وسوسة تبين وجه الحق فيها فقد قال عمر رضي الله عنه عن عصير العنب: إذا طبخ ذهب شيطانه وجنونه.
فقال له قائل: أحللتها "الخمر" ياعمر. فرد عليه بقوله: إني لا أحل إلا ما أحل الله ولا أحرم إلا ما حرم الله والحق أحق أن يتبع.
غير أننا لم نكتم – إن شاء الله – شيئاً من أقوال العلماء فعلى المرء أن يختار لنفسه.
ونستغفر الله العظيم ونتوب إليه مما كتبت أيدينا و أجنت ضمائرنا و اجترحت جوارحنا.(1/213)