منظومة القواعد
قال المؤلف -حفظه الله تعالى- :
الحمد لله المعيد المبدي * مثبت الأحكام بالأصولِ
ثم الصلاة مع سلام قد أتم * محمد مبعوث رحمة الورى
وبعد فالعلم بحور زاخره * لكن في أصوله تسهيلا
واغتنم القواعد الأصولا * وهاك من هذي الأصول جملا
قواعد من قول أهل العلم * معطي النوال كل من يستجدي
معين من يصبو إلى الوصولِ * على الذي أعطي جوامع الكلم
وخير هاد لجميع من درى * لن يبلغ الكادح فيه آخره
لنيله فاحرص تجد سبيلا * فمن تفته يحُرم الوصولا
أرجو بها عال الجنان نزلا * وليس لي فيها سوى ذا النظم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكان- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين فلا نبي بعده ، ولكن العلماء الذين ورثوا سنته كانوا خلفائه في أمته ، فإنه r كسائر إخوانه المرسلين والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر من إرث النبيين .
ولا ريب أن من شروط صحة العبادة وقبولها، بل الشرط الأساس لصحة العبادة وقبولها أن تكون مبنية على الإخلاص لله، وعلى اتباع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(5/369)
فبالإخلاص يندفع الشرك، وبالمتابعة تندفع البدع، ولا ريب أن المتابعة لا يمكن أن تكون إلا بعلم شريعة النبي r حتى يتمكن الإنسان من تطبيقها والعمل بها؛ ولهذا كان النبي r في الحج يأمر الناس أن يأخذوا عنه مناسكهم، وفي الصلاة قال لمالك بن الحويرث t والوفد الذين معه قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "
فلا يمكن اتباع شريعته إلا بالعلم بها؛ ولهذا كان العلم أساسا في بقاء الشريعة وفي العمل بها، فكان هو الوسيلة الوحيدة لإبلاغ الرسالة إلى الأمة .
فضل العلم وطلبه:
ولقد وردت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في فضل العلم، والحث عليه حتى إن الله -سبحانه وتعالى- جعله بديلا وعديلا للجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: { * وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ×pxےح!$sغ } يعني: وقعدت طائفة "ليتفقهوا" أي: القاعدون { فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) } .
ولهذا اختلف العلماء -رحمهم الله- أيهم أفضل: طلب العلم أو الجهاد في سبيل الله؟
والتحقيق في هذه المسألة أن الحكم يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد نقول لشخصٍ ما طلب العلم في حقك أفضل، ولشخص آخر الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل.
فإذا رأينا رجلا قوي الحفظ قوي الفهم سريع البديهة نشيطا في الطلب وهو في الجهاد دون ذلك، فإننا نقول له : طلب العلم في حقك أفضل، وإذا رأينا شخصا بالعكس .
أقول إن العلماء -رحمهم الله- اختلفوا أيهما أفضل طلب العلم أو الجهاد في سبيل الله، والتحقيق في هذه المسألة التفصيل، فقد نقول لشخص ما: إن طلب العلم في حقك أفضل، وقد نقول لآخر: إن الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل، وذكرنا من يكون طلب العلم في حقه أفضل.(5/370)
وأما من كان الجهاد في حقه أفضل فهو الرجل البليد في الفهم السيئ في الحفظ القوي في الجسم المقدام في الحرب، فهذا نقول له: إن الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل.
وكذلك -أيضا- يختلف هذا باختلاف الأحوال، فقد يكون المسلمون في حاجة إلى الدفاع عن بلدهم وأنفسهم ودينهم، فيكون الجهاد في حقهم أفضل، وقد يكون الناس في رخاء وأمن وطمأنينة وما أشبه ذلك، فيكون طلب العلم في حقهم أفضل .
نصائح لطالب العلم:
وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله-: العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته. وفسّر صحة النية بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وإنني أنصح إخواني طلاب العلم أنصحهم بالنصائح التالية :
أولا- أن يقصدوا بطلب العلم امتثال أمر الله U فإن الله تعالى أمر بالعلم، فقال: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } ورغب في العلم فقال: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وقال: { يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا } .
وكذلك النبي r حث على العلم في أحاديث متعددة منها قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وليس المراد بالفقه في الدين الفقه المصطلح عليه بين العلماء وهو معرفة الأحكام الشرعية العملية.
وإنما المراد بالفقه في الدين معرفة دين الله الذي بعث الله به محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأشرفه وأعظمه وأوكده، هو الفقه في توحيد الله U في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ ولهذا كان بعض أهل العلم يسمي علم التوحيد الفقه الأكبر، وهذا اسم -بلا شك- جدير أن يسمى به علم التوحيد .(5/371)
ثانيا- أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وذلك أن الإنسان خُلق لا يعلم شيئا كما قال الله تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) } .
فالإنسان محتاج إلى العلم، فلينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه حتى يعبد الله على بصيرة. ورفع الجهل عن عباد الله حتى يكون من الدعاة إلى الله تعالى على بصيرة، فيدخل في قول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } .
الأمر الثالث- أن ينوي طالب العلم بطلب العلم حفظ الشريعة، فإن الشريعة تحفظ بالرجال كما تحفظ كذلك بالكتب، فلا بد من أن يكون للشريعة من يحفظها من بني آدم. ولا يمكن أن تقوم الشريعة إلا بالرجال الذين يحفظونها؛ ولهذا كان من المعلوم أن العلم محفوظ في الصدور مكتوب في السطور .
رابعا- أن ينوي بذلك الدفاع عن الشريعة، وحماية الشريعة من عبث الأهواء بها، فإن الشريعة محتاجة إلى العلماء الذين يدافعون عنها ويصدون عنها، ويبطلون عنها تحريف المعطِّلين، ومجازفة الغالين حتى تكون الشريعة بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك .
خامسا- أن يكون الإنسان -أي: طالب العلم- متأدبا بآداب العلم ، عبادةً وخلقا وسلوكا، بحيث يعبد الله U ويكون من أشد الناس عبادة لله U ومن المعلوم أن العبادات تتفاضل، وأن أفضلها طلب العلم في غير ما هو واجب شرعا، وأن يكون أثر العلم ظاهرا عليه في أخلاقه ومعاملته للناس.
فإن النبي r قال : " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلقا " وكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أحسن الناس خلقا .(5/372)
والإنسان يدرك بخُلقه الحسن ما لا يدركه الغني الباذل للأموال من كل وجه، " إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " ولا ينبغي إطلاقا للإنسان الذي مَنَّ الله عليه بالعلم أن يترفع على الناس بعلمه ويقول: أنا أفضل منهم، وأنا قد رُفعت درجات.
فإن الإنسان إذا أُعجب بعمله كان ذلك آية الخسران وآية الخيبة، فليحذر الإنسان -أعني: طالب العلم بالذات- ليحذر من العجب؛ فإن العجب سبب للخذلان والحرمان.
وليحذر من التكبر فإنه ليس من العقل. إذا مَنَّ الله عليك بعلم وعرفت ما في حسن الخلق من الفضل والأجر أن تذهب وتتكبر على الناس بما مَنَّ الله به عليك؛ ولهذا تجد الناس يأخذون من طالب العلم حسن الخلق أكثر مما يأخذون ممن هو فوقه في العلم، ولكنه دونه في حسن الخلق؛ وذلك لأن الإنسان ينبغي أن يكون أليفا ومألوفا، مخالطا للناس على الوجه الذي فيه الخير والصلاح .
وكذلك أيضا ينبغي لطالب العلم أن يكون حكيما في أسلوبه ودعوته بحيث ينزل كل إنسان منزلته في معاملته، اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا شك أن الجاهل لا يعامل معاملة العالم، ولا شك أن المستكبر لا يعامل معاملة من يطلب الحق ويريد الحق.
فعلى الإنسان العاقل الطالب للعلم أن ينزل كل إنسان منزلته، حتى يملك بذلك قلوب الناس وينفع الله بعلمه .
ثم ليحذر طالب العلم من الحسد والغل والحقد على المسلمين، وليعلم أن الحسد لا يمنع فضل الله تعالى على المحسود، ولا يزيد به فضل الله على الحاسد، بل إن الحسد من أسباب خذلان المرء؛ لأنه يرى كل نعمة عليه دون النعمة التي أنعم الله بها على غيره، فيحترق قلبه، فيرى أنه مظلوم، وأنه مهضوم.
لكن إذا كان يحب لإخوانه ما يحب لنفسه مَنَّ الله عليه بالهداية والفضل وسعة الصدر ، وانشراح واطمئنان القلب، وبهذا يجد الإنسان الذي ليس بحسود ييسر الله عليه الأمر ولا يسلط عليه الأعداء .(5/373)
هذه مقدمة لما نريد أن نبدأ به أو أن نشغله في هذه الدورة التي منَّ الله بها علينا وعلى إخواننا في بلاد متعددة من بلادنا، ونسأل الله أن يجعل في هذه الدورات الخير والبركة والثمرات النافعة إنه على كل شيء قدير .
الحمد رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا تعليق موجز على منظومة نظمناها سابقا، ولن يكون هذا مبسوطا كثيرا، وإنما يقتصر فيه على ما تدعو الحاجة إليه، وذلك لضيق الوقت وقلة الساعات التي يمكن أن نتكلم فيها على هذا النظم .
يقول الناظم : "الحمد لله المعيد المبدي" الحمد: قال المحققون من أهل العلم: هو وصف المحمود بالكمال، فمعنى الحمد لله أي: أنني أصف الله -تعالى- بكل كمال وليس هو الثناء؛ لأن النبي r روى عن الله U أنه قال : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) } قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي " ففرق الله U بين الحمد والثناء .
وقوله: "المعيد المبدي" يعني: الذي يعيد أشياء ويبديها، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) } فهو معيد الأشياء بعد تلفها، ومن ذلك إعادة الأبدان بعد موتها، وهو تعالى المبدئ المظهر للأشياء المبين لها .
"معطي النوال كل من يستجدي": النوال العطاء أي: أنه -جل وعلا- يعطي العطاء كل من يستجديه، أي: يطلبه منه -تبارك وتعالى- وهذا مأخوذ من قوله: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
"مثبت الأحكام بالأصول" أي: أنه -جل وعلا- ثبت الأحكام بأصولها ، وأصول الأحكام اثنان يتفرع عنهما اثنان: أما الأولان: فهما الكتاب والسنة فإنهما أصل الأصول، وعليهما مدار الأحكام الشرعية من عقدية وقولية وفعلية، وأما الأصلان الآخران الفرعان: فهما الإجماع والقياس الصحيح.(5/374)
هذه هي الأصول الأربعة التي تنبني عليها أحكام الشريعة المطهرة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح .
بهذه الأصول الأربعة تثبت الأحكام، ولا يبقى لأحد منازعة فيما ثبت، بل من المعلوم أنه يقدم القرآن ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس، حتى إن العلماء -رحمهم الله- قالوا: إن أي قياس مخالف للكتاب والسنة، فإنه قياس فاسد مردود على قائسه ويسمى عندهم فاسد الاعتبار.
"معين من يصبو إلى الوصول"أي: أن الله تعالى يعين من يميل إلى الوصول، أي: وصول الحق، فإنه -جل وعلا- يعين كل شخص يطلب الوصول إلى الحق، لكن قد يتخلف المقصود لوجود مانع أو لحكمة أرادها الله U .
بمعنى أن الإنسان قد يبذل جهده، ولكن لا يصل إلى مقصوده لحكمة يريدها الله U قد يبتلي الله العبد، فلا يتمكن من الوصول في أول محاولة أو ثاني محاولة حتى يعلم الله U مَن هو صادق في الطلب، ومن ليس بصادق .
ومن ذلك أن الله تعالى يجير أعداءه أحيانا على أوليائه؛ لينظر من يصبر ومن لا يصبر { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) } وإلا فالأصل أن كل إنسان يقصد الوصول إلى الحق بنية صادقة، فإنه لا بد أن يصل إليه .
وما أحسن عبارة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال في "العقيدة الواسطية" قال: من تدبر القرآن طالبا الهدى منه، تبين له طريق الحق .
"ثم الصلاة مع السلام قد أتم" (ثم) أي: بعد الحمد لله U والثناء عليه ووصفه بما يليق به -جل وعلا- تكون الصلاة على رسول الله r .(5/375)
فمن المعلوم أن تقديم حق الله على حق الرسول هو الأمر الموافق للكتاب والسنة، وفي هذا يذكر الله تعالى حقه قبل حق رسوله، ألم ترَ إلى التشهد في الصلاة يقدم وجوب الثناء على الله U وتعظيم الله U على السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا تقول: " التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " حق الله تعالى هو الأول ثم حق رسوله r .
قال: "ثم الصلاة مع سلام قد أتم" الصلاة على الرسول r اعتمد المحققون من العلماء على أنها الثناء على رسوله r في الملأ الأعلى، "مع سلام قد أتم" (سلام) أي: سلامة من الآفات وكل ما يسوء العبد، فجمع في هذا الكلام بين زوال المكروه وذلك بالسلام وبين حصول المقصود وذلك بالصلاة.
(قد أتم)، أي: أنني أصلي وأسلم على رسول الله r صلاة وسلاما تامين على الذي أُعطي جوامع الكلم وهو النبي r أعطاه الله تعالى جوامع الكلم كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه r أنه أعطي جوامع الكلم .
والجوامع: جمع فرد، جمع جامعة أي: الكلمة الجامعة؛ ولهذا يتحدث النبي r بحديث قليل يغني عن كلام كثير، أرأيت قوله r " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " كيف كانت هاتان الجملتان تشتملان الدين كله ، بل تشتملان أعمال العباد كلها؟! .
ثم أرأيت قوله r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " كيف يشمل كثيرا من الأحكام الشرعية، وتوزن به الأعمال الظاهرة؟! .
ولهذا قال أهل العلم: إن قوله r " إنما الأعمال بالنيات " هذا ميزان الأعمال الباطنة أعمال القلوب، وإن قوله r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ميزان للأعمال الظاهرة، وبهذا يتم الدين كله، ويتحقق الشرطان الأساسيان وهما : الإخلاص لله والمتابعة لرسوله r .(5/376)
ثم أرأيت قوله r لمن ابتلي بالوسوسة أن أعطاه كلمة تحجبان عنه كل وساوس الشيطان، فقال : " لا يزالون يتساءلون مَن خلق كذا من خلق كذا، من خلق كذا " أي: لا يزال الشيطان يقول للإنسان: من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك ؟ فإذا بلغ ذلك قال النبي r " فليستعذ بالله ولينته " أي: ليستعذ بالله من شر الشيطان ووساوسه، ولينته ليعرض عنه؛ وبذلك ينقطع ويحسم الشر والوساوس.
هاتان الكلمتان لو أن الفلاسفة والمتكلمين جمعوا عدة ورقات ما اهتدوا إلى هذا الكلام، ما اهتدوا إلى ما يدل عليه هذا الكلام المختصر؛ لذلك صدق وصف الرسول r بأن الله تعالى قد أعطاه جوامع الكلم .
وإنما اختير هذا اللفظ في هذه المنظومة؛ لأن هذه المنظومة تشتمل على القواعد والأصول، والقواعد والأصول من جوامع الكلم في الواقع؛ لأن القاعدة تشتمل على أشياء كثيرة، وهي قصيرة قصيرة، ثم بين من الذي أعطي جوامع الكلم ..
فقال: "محمد المبعوث" : (محمد) هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، (المبعوث) أي: الذي بعثه الله U رحمة للورى أي: الخلق، ورحمة هنا منصوبة على أنها مفعول من أجله، أي: أنه بعث رحمة للخلق كما قال الله تبارك وتعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } أي: إلا لنرحم بك العالمين .
"وخير هاد لجميع من درى" : لا شك في هذا ، أن رسول الله r خير الهداة ، فهو أهدى الناس سبيلا، وهو أقوم الناس في الدعوة إلى الله U فهو خير "هاد لجميع مَن درى" أي: من كان ذا دراية، وأما من كان ذا عماية، فإنه لا يجد الخير في هداية النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(5/377)
ولذلك قال الله تبارك وتعالى : { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ 2 رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) } فتجد هذا الرجل يقول عن القرآن العظيم الذي فيه أعظم الهداية يقول: إنه أساطير الأولين، فأبطل الله قوله بقوله: (كلا)، ولكن العلة في قلب هذا الرجل حيث (ران) على قلبه ما كان يكسب.
المهم : أنّ قول الناظم "لجميع من درى" أي: من كان ذا دراية، يدل بمنطوقه ومفهومه على أن من كان ذا دراية فسيجد أن رسول الله r خير هاد للجميع ومن كان قلبه فيه عماية فإنه لن يرى ذلك، يحال بينه وبين الحق ، نسأل الله العافية .
ثم قال: وباب أي باب ما ذكر من الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه r "فالعلم بحور زاخرة" العلم بحور ليس بحرا واحدا، فتجد علم العقائد، علم الفقه علم النحو علم البلاغة ... إلى آخر ذلك علوم كثيرة زاخرة أي قوية واسعة.
"لن يبلغ الكادح فيه آخره" (الكادح) أي: العامل يعني: لا يمكن لأي إنسان مهما كان عمله وكدحه أن يبلغ آخر العلم؛ لقول الله تعالى: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) } حتى يصل إلى عالم الغيب والشهادة، ولكن هناك أشياء تقرب العلم وتجمعه؛ ولذلك قال:
لكن في أصوله تسهيلا
لنيله فاحرص تجد سبيلا
يعني: أنه من نعمة الله U أن جعل لهذه البحور الزاخرة، جعل لها أصولا تسهل نيلها، وهذه الأصول هي القواعد والضوابط، والأصول هنا ليست هي الأصول المذكورة في أول هذه المقدمة؛ لأن الأصول المذكورة في أولها هي الأدلة التي يعتمد عليها في فهم الأحكام، أما هنا فالمراد بالأصول القواعد والضوابط التي تجمع شتات العلم.
"وتسهيلا لنيله" أي: لنيل العلم فاحرص، أي: احرص على هذه الأصول تجد سبيلا إلى إدراك العلوم .(5/378)
قال بعد: "فاغتنم قواعد الأصول" (اغتنم) أي: اطلبها على أنها غنيمة وعلى أنك أدركتها إدراك المجاهد للغنيمة، وهذا يدل على الحرص على إدراكها من وجه والحرص على إبقائها من وجه آخر.
القواعد والأصول: القواعد جمع قاعدة، وهنا يجب أن نعرف الفرق بين القاعدة وبين الضابط.
القاعدة: عبارة عن جملة من القول تشمل أنواعا من العلم، والضابط جملة من القول تشمل أفرادا من الفهم.
الضابط يكون في مسألة واحدة، لكن يضبط أفراده، مثل أن تقول: يجري الربا في كل مكيل هذه ليست قاعدة هذا ضابط؛ لأنه إنما يجمع أفرادا في شيء معين، لكن القاعدة أن تقول: كل أمين فقوله مقبول في التلف.
هذا يشمل أشياء كثيرة من أنواع مختلفة في العلم، فهذا هو الفرق بين القاعدة والضابط، وهنا نقول اغتنموا قواعد الأصول، قد تجد في هذه المنظومة أشياء ليست من القواعد بناء على هذا التفريق، ولكنها ضوابط فيقال: الحكم على الأغلب.
وإن كنا قد نجد في هذه المنظومة شيئا ليس من القواعد، ولكنه من الضوابط فيقال: الحكم على الأكثر.
قال: "فمن تَفُتْهُ" أي: من تفته القواعد يحرم الوصول أي: الوصول إلى العلم، وفي ذلك يقول العلماء: من حُرم الأصول حُرم الوصول؛ لذلك ينبغي لنا أن نحرص على معرفة القواعد، وعلى معرفة ما تتضمنه، وأن نتباحث فيها وأن نسأل من هو أعلم منا حتى نحصل على المقصود.
وليس العلم أن يحفظ الإنسان شيئا فقط، بل العلم أن يحفظ شيئا وأن يفهم ما يدل عليه هذا الشيء ، ويُفرع عليه ويناقش فيه بنية وإخلاص وحُسن أداء، "فمن تفته" أي: هذه القواعد والأصول يُحرم الوصول، أي الوصول إلى المقصود. والألف في قوله: "الأصولا" وفي قوله: "الوصولا" الألف للإطلاق، أي: لإطلاق الرَّوِيّ، وهذا مستعمل كثيرا في النظم .(5/379)
ثم قال الناظم : "وهاك من هذي الأصول جُملا" (هاك) بمعنى خُذ من هذه الأصول جملا أرجو بها عال الجنان نزلا ، (هاك) : الخطاب لكل من يقرأ هذه المنظومة من هذه الأصول أو القواعد، (جملا) يعني: أن الناظم لم يستوعب جميع القواعد، وإنما أتى منها بجمل، (أرجو بها) أي: بهذه الأصول أو بهذه الجمل من الأصول أرجو بها "عال الجنان نزلا" وأصلها عالي الجنان لكنها خففت الياء للروي، ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
"أرجو بها عال الجنان نزلا" والجنان جمع جنة ، وهي في الأصل البستان الكثير الأشجار، كما في قوله تعالى : { * وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) } لكنها إذا أريد بها جزاء المؤمنين المتقين فهي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قال الله تعالى في القرآن: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } وقال -تعالى- في الحديث القدسي: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
وقوله : "أرجو بها عال الجنان نزلا"، هنا نقول: هل يمكن للإنسان أن يرجو شيئا بدون فعل الأسباب التي توصل إليه؟ الجواب: لا يمكن؛ لأن الرجاء لا بد له من سبب؛ ولهذا من رجا شيئا بدون عمل، فإنه متمن وليس بعامل.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال : " الكَيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني " وعلى هذا فمن رجا الجنان فليعمل لها، ومن خاف من النار، فليعمل العمل الذي ينجيه من النار.(5/380)
وأما أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وأنت معرض غير قائم بأمر الله، ولا منتهٍ عما نهى الله، فهذا ليس بصواب، بل هذا أشبه ما يكون بالاستهزاء، كما أن الرجل لو قال : اللهم ارزقني ولدا ولم يتزوج لعد ذلك سفها، وهو ليس من الإيمان الحقيقي بل هو اعتداء في الدعاء "أرجو بها عال الجنان نزلا"
"قواعد من قول أهل العلم" (قواعدٌ) عطف بيان لقوله (جملا)، ولكنها صُرفت لأجل الروي ، ويجوز أن تقول: (قواعدُ) ، يعني: هي قواعدُ على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وعلى كل حال، فإنها منونة لأجل الروي، فيجوز للإنسان أن يصرف ما لا ينصرف من أجل إقامة النظم .
"قواعد من قول أهل العلم" يعني: أن الناظم تتبع أقوال أهل العلم ما استطاع منها، ثم أخذ من هذه الأقوال فوائد ونظمها في هذه الأبيات .
قال الناظم : "وليس لي فيها سوى ذا النظم" أي: سوى هذا النظم، وهذا من الإنصاف أن يعترف الإنسان لأهل الفضل بفضلهم، وأن يعترف بحق نفسه وأنه آخذ، ولكنه استعان بأهل العلم في علومهم، هذا هو خلاصة المقدمة التي تشتمل على هذه الأبيات التسعة .
ثم قال الناظم : القواعد والأصول قال :
الدين جاء لسعادة البشر
وكل أمر نافع قد شرع
ولانتفاء الشر عنهم والضرر
وكل ما يضرنا قد منع
هذه القاعدة في الشريعة الإسلامية أنها جاءت "لسعادة البشر ولانتفاء الشر عنهم والضرر" ، هذان الأمران اللذان تدور عليهما شريعة النبي r وهي تحصيل المصالح كاملة أو وافرة، وتقليل المفاسد أو إعدام المفاسد.
ولهذا قال الله U في كتابه العظيم: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) } وقال تعالى: { * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) } والآيات في هذا المعنى كثيرة.(5/381)
إن الدين إنما جاء لسعادة البشر في الدنيا وفي الآخرة، ولانتفاء الشر عنهم والضرر في الدنيا وفي الآخرة أيضا، وفي الحديث عن النبي r أنه قال: " لا ضرر ولا ضرار " يعني: أنه ليس في دين الإسلام ضرر، وليس فيه أيضا مضارة، بل هو الدين الكامل الذي بعث به محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا هو ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الدين.
إنه جاء لسعادة البشر ولانتفاء الشر عنهم والضرر، ثم فرع على هذا القول قوله: "وكل أمر نافع قد شرع" وكل ما يضرنا قد منع، جميع ما شرعه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بل جميع ما شرعه الله U على لسان نبيه r نافع، لكن منه ما يظهر نفعه ويأتي بَيِّنًا لكل أحد، ومنها ما لا يظهر نفعه للخلق إلا بعد حين، لكن النهاية يظهر أنه نافع .
كذلك أيضا ما يضر قد منعه الله U والضرر قد يكون معلوما حاضرا، وقد يكون منظورا في العاقبة.
أرأيت لو أن إنسانا أخذ مائة درهم بمائة وعشرة إلى أجلٍ هذا محرم، لكن قد يقول بعض الناس ما الذي يحرمه هذا ليس فيه ضرر، ينتفع الآخذ بالثمن الحاضر، وينتفع المعطي بزيادة الثمن المؤجَّل، فلكل واحد منهما منفعة، الآخذ ينتفع بالحاضر الذي أخذه حاضرا، والمعطي ينتفع بزيادة الثمن له في مقابل التأخير!(5/382)
قلنا: نعم، هذا لأول وهلة ولكن عند التحقق وعند التأمل يتبين أنه ضرر عظيم؛ لأن هذا يؤدي في النهاية إلى قلب الديون، وأكل الربا أضعافا مضاعفة. فإن الإنسان إذا عرف أنه تجوز الزيادة في مقابل الأجل في بيع دراهم بدراهم، قال: إذًا كلما امتد الأجل يجب الزيادة وحينئذ يكون ممن يأكل الربا أضعافا مضاعفة، وهذا هو الذي نهى الله عنه وبين أنه ظلم، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } .
قد يقول قائل: أنا سأقتصر على هذه الزيادة ولا أزيدها بزيادة الأجل أو التأخير. قلنا: لا لئن ثبت هذا لك فإنه لا يثبت لغيرك، إذْ إن ليس كل إنسان يكون على جانب من الورع؛ ولهذا سد الله U الباب نهائيا لئلا يتمادى الناس في أكل الربا وظلم المعسرين.
على كل حال كل أمر ضار فهو ممنوع شرعا، ويبقى النظر في مناط الضرر هل هو ما يقيسه الإنسان بعقله القاصر، أو أن نقول: كل ما منعه الشرع فإنه ضار، وكل ما أمر به فهو نافع وعليك به، عليك بما أمر الله به، وعليك أن تجتنب كل ما نهى الله عنه؛ لأن كل مشروع نافع وكل ممنوع ضار ثم قال :
ومع تساوي ضرر ومنفعه
يكون ممنوعا لدرء المفسده(5/383)
هذا أيضا من القواعد، إذا كان في الشيء ضرر ونفع على وجه السواء فإنه يجب أن يكون ممنوعا؛ وذلك درءًا للمفسدة، وفي هذا يقول العلماء: درء المفاسد أولى من جلب المصالح؛ وذلك لأن المفسدة المساوية للمصلحة والمضرة المساوية للمنفعة قد تغلب وتزيد على المصلحة في المستقبل؛ لأن خبثها قد يؤثر على القلب وعلى العمل فيحصل بذلك الشر للفتى، ولهذا أمثلة نأتي بها في الدرس القادم وندع ما بقي من الدرس للإجابة عن الأسئلة ، ولتكن الأسئلة مكتوبة إذا أمكن حتى لا يحصل اضطراب وتداخل في الأسئلة .
س: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ هذا سائل يقول ... أو كثرت الأسئلة وصدرت أكثرها بقولهم : إنا نحبك في الله، وكثرت الأسئلة حول الكتب المناسبة التي يقرؤها طالب العلم المبتدئ في الأصول والقواعد ؟
ج: أقول للجميع لكل من صدَّر سؤاله بهذه الجملة "إنا نحبك في الله" : أحبَّهم الله الذي أحبونا فيه. أما بالنسبة لمعرفة الكتب النافعة في القواعد والضوابط والأصول فهي في الحقيقة لا يمكن أن نحصرها؛ لأنها كثيرة وبعضها يختلف عن بعض، بعض العلماء -يعني- ينهج في القواعد والضوابط منهج التسهيل والتيسير دون تحقيق، بمعنى أنك قد تجد هذه القاعدة غير مطردة ، تنتقل في باب الصيام ولكنها سهلة سهلة المنال .
وبعض العلماء يحكم القاعدة إحكاما تاما لا تجد فيها تناقضا لكنها صعبة فمن ذلك مثلا قواعد ابن رجب الفقهية قواعد عظيمة لكنها صعبة، لا يمكن لطالب علم صغير أن يدركها، وأقول: إن الذي اطلعت عليه في هذا قليل لأنني لم أكن أتتبع الكتب المؤلفة في ذلك، ولكني كنت أتتبع ما يرد من تعليلات العلماء -رحمهم الله- فأضعه في هذا النظم ، وكذلك ما يفتح الله به وييسره .(5/384)
أحث طلبة العلم على العناية بالقواعد والضوابط لأنها هي العلم، أما المسائل الفردية أن يعرف الإنسان أن هذا حلال أو هذا حرام فهذا يزول وينسى، ولا يكون للإنسان قدم راسخ في العلم، لا يمكن أن يكون للإنسان قدم راسخ في العلم يستطيع أن ينزل المسائل الجزئية على القواعد الكلية حتى يهتم بالقواعد والضوابط .
س: وهذا يقول: نحن جماعة من المدرسين نتجاوز الخمسة عشر مدرسا نقوم بالصلاة في المدرسة مع العلم بأن المسجد بجوار المدرسة وهذا في أيام الاختبارات فما رأي فضيلتكم في ذلك ؟
ج: الذي أرى أنه مع المشقة أو مع فوات بعض العمل الموكول للإنسان لا حرج على الجماعة أن يجتمعوا ويصلوا في مكان عملهم، وذلك لدعاء الحاجة إلى ذلك ولا يخفى علينا أن المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- أن الحضور إلى المسجد ليس بواجب.
لكننا لا نرى هذا القول، نرى أن الحضور للمسجد واجب بقدر الإمكان، لكن إذا كان الحضور إلى المسجد يؤدي إلى تعطل العمل أو اختلال العمل ولأمر حادث فلا أرى في ذلك بأسا أن يصلوا في مكان عملهم .
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ما حكم السفر إلى بعض البلاد الإسلامية التي تكثر فيها الفتن من سفور واختلاط وغيرها، وخاصة إذا كان ذلك بسبب التنزه وغير ذلك، ولقد يقول: كثر هذا الأمر من بعض الشباب الطيبين فما توجيهكم لهم جزاكم الله خيرا ؟
ج: الحقيقة أن هذه مما يضيق الصدر أن يهرع الناس إلى السفر إلى البلاد الخارجية سواء إذا كانت بلاد إسلامية أم غير إسلامية؛ وذلك لأن يحصل فيه إضاعة مال كثير ؛ لأن الإنسان سوف يخسر أو سوف يضيع قيمة التذاكر وقيمة الفنادق وقيمة الأكل والشرب، وأشياء كثيرة أضعاف أضعاف ما ينفقه لو أنه خرج إلى مكة والمدينة والبلاد التي هي بلاد نزه من هذه المملكة والحمد لله وهذا شيء مؤكد على كل حال حتى لو كان الإنسان محافظا ، فإنه لا بد أن تقع هذه الإضاعة من ماله .(5/385)
ثانيا- أنه لا يسلم إلا من عصمه الله ، لا يسلم غالبا من مخالفة: نساء ومشاهدة نساء متبرجات متطيبات، والعائلة سوف تتأثر من هذا وسوف ينعكس على الصبي والطفل ما شاهده في زمن صباه وطفولته؛ لأن صور ما شاهده الإنسان في حال الصغر تجدها باقية في ذهنه لا تزول وهو سوف يشاهد ما لا يشاهده في بلده .
ثالثا- أنه ربما تنتقل عادات من عادات تلك البلاد لا تناسب العادات التي فيها المحافظة على عاداتنا المأخوذة من عادات السلف الصالح، والعدوى في مثل هذا قريبة جدا ومعروفة.
رابعا- أنه قد يتعرض لأخطار عظيمة إما سرقة في مال أو غير ذلك مما هو معروف عند المسافرين، فهذا نصيحة للإخوان من الشباب وغير الشباب أن يجعلوا الترفيه عن أنفسهم بعد الكد والعناية في أيام الدراسة بالسفر إلى مكة والمدينة وجنوبي البلاد، ويحصل بذلك خير -إن شاء الله تعالى- ويدرأ بذلك ضررا وفتنة .
أما السفر إلى بلاد الكفر فهو حرام فيما أرى، ولكن إلا بشروط ثلاثة :
الشرط الأول- أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
والثاني- أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
والثالث- أن يكون مضطرا للسفر، والنزهة ليست اضطرارا كما هو معلوم.
س: وهذا يقول : نحن مجموعة من الشباب قدمنا من خارج هذه البلاد لحضور دروس هذه الدورة ، فما حكم مكوثنا أثناء هذه الدورة هل نقصر الصلاة أم يكون لنا حكم المقيم ؟
ج: نعم حكمهم حكم المسافرين؛ لأن الحقيقة أنهم مسافرون ولكن لا يحل لهم أن يتخلفوا عن صلاة الجماعة من أجل القصر لعموم قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار " وفي صلاة الجمعة قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } .(5/386)
وهذا الخطاب يشمل كل مؤمن سواء كان مسافرا أم مقيما أم مستوفيا ، لكن إذا قدِّر أن الصلاة فاتتهم فلهم القصر؛ لأنهم مسافرون، سواء نووا أن يقيموا أربعة أيام أو عشرة أيام أو عشرين يوما أو شهرا.
وذلك لأنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تحديد المدة التي ينقطع بها حكم السفر، بل ظاهر النصوص إنه لا مدة لذلك، وأن الإنسان متى كان عازما على الرجوع إلى بلده بمجرد انتهاء شغله، فإنه مسافر.
وأكبر دليل يستدل به من يقيدون ذلك بأربعة أيام هو أن النبي r قدم في حجة الوداع جاء إلى مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة ومكث إلى اليوم الثاني ثم خرج إلى منى ومزدلفة وعرفة، ثم غادر مكة صبيحة اليوم الرابع عشر ، ولكنه لا دليل في ذلك في الواقع لأن كون الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقدم لليوم الرابع ليس مقصودا بل هو وقع اتفاقا أو مصادفة .
ثم إن أنس بن مالك t جعل مدة إقامة النبي r في مكة عشرة أيام، وعد منها الخروج إلى المشاعر.
وأما قول بعض العلماء -رحمهم الله-: أن النبي r أنشأ السفر من حين أن خرج إلى منى في اليوم الثامن. هذا قول ضعيف، بل إن النبي r خرج في اليوم الثامن ليقيم لأداء المناسك في هذه المشاعر .
وخلاصة الجواب: أن الذين قدموا للدرس في هذه الدورة في حكم المسافرين ولكن يلزمهم أن يحضروا للجماعة فإذا فاتتهم فلهم القصر، وكذلك لهم المسح على الخفين أو الجوربين لمدة ثلاثة أيام .
س: وهذا يقول: نود من فضيلتكم الإفادة حول كتاب شرح رياض الصالحين المتداول في الأسواق؛ وذلك لأن البعض يقول بأنكم غير راضين عنه، وشكَر الله لكم وضاعف مثوبتكم؟
ج: الواقع أن كثيرا مما كتب في هذا إنما أخذ من الأشرطة، والأخذ من الأشرطة ليست كالمحرر باليد لا بد أن يكون فيه كلمة غير مناسبة، مثلا إما باللغة العامية أو ما أشبه ذلك.(5/387)
وشرح رياض الصالحين نقل من الأشرطة لكن أخونا الشيخ عبد الله بن زياد هو الذي تولى ذلك، وأرجو أن يكون قد اجتهد في تحريره وتنقيحه، لكن لا بد أن يكون فيه نقص كما شاهدنا ذلك في بعض الذي كتب ونشر.
ولكنه أمر قريب يعني: لا يختلف فيه المعنى كثيرا إما نقص كلمة أو زيادة كلمة، أو حذف بعض الأحاديث ، في رياض الصالحين كنا نُقرِئه هاهنا يعني: يقرأ القارئ علينا في الجماعة بعد صلاة العصر، وربما لا نتكلم على بعض الأحاديث إطلاقا، لأنها لا تتناسب مع الحاضرين من العوام، ولكني أدعو كل من رأى شيئا في مؤلفاتنا مما كتب أن أدعوه إلى أن يقيد ما رأى ويرسله إلي وله علي في ذلك المنة.
س: وهذا يقول : ذكرتم -حفظكم الله- في بعض كتبكم: امتثال الأمر لا يتم إلا بفعله جميعه، وامتثال النهي لا يتم إلا بتركه جميعه. والسؤال: ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة t " ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " فكيف نجمع بين هذا وبين ما ذكرتم ؟ جزاكم الله خيرا .
ج: أولا- أنا أعتب على السائل حيث يقول: كيف نجمع بين هذا وهذا ؛ لأن كلامي وكلام غيري من العلماء لا يمكن أن يعارض به كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- لكن قد يقول : كيف يصح كلامكم مع قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: " فأتوا منه ما استطعتم " ؟.
فنقول: الحديث يدل على ما ذكرنا أن الأمر لا بد من فعل جميعه إلا إذا عجز عنه الإنسان، فإذا عجز عنه الإنسان سقط عنه الأمر به، وحينئذ يكون آتيا بجميع ما أُمر به، والنص واضح : " فأتوا منه ما استطعتم " إذًا إذا استطعنا جميعه وجب علينا أن نأتي بجميعه، إذا استطعنا بعضه فهذا ما أُمرنا به يجب علينا أن نأتي به.(5/388)
لكن بالمناسبة يجب أن يفرق طالب العلم بين فعل المحظور، وترك المأمور فيما إذا وقع جهلا من الإنسان أو نسيانا، فترك المحظور إذا وقع جهلا أو نسيانا لا يترتب عليه شيء، لا إثم ولا كفارة ولا فدية فيما فيه فدية وكفارة، وفعل المأمور إذا ترك فإنه لا بد من أن يؤتى به على الوجه السليم، وأضرب لهذا مثالين جاءت بهما السنة:
المثال الأول : قصة الرجل الذي صلى، ولم يطمئن في صلاته، فقال له النبي r " ارجع فصل فإنك لم تصل -ثلاث مرات- فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني فعلمه الرسول -عليه الصلاة والسلام- " ولم يعذره بجهله .
المثال الثاني : مثال المحذور أن معاوية بن الحكم t تكلم في الصلاة جاهلا ، ولم يأمره النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالإعادة " فإنه دخل في الصلاة فعطس رجل من القوم فقال : الحمد لله ، فقال معاوية: -يرحمك الله-، فرماه الناس بأبصارهم فقال: واثكل أمياه فضربوا بأيديهم على أفخاذهم يسكتونه فسكت، فلما سلم دعاه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: t فبأبي وأمي ما رأيت معلما أحسن تعليما منه، والله ما قهرني ولا نهرني وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن " أو كما قال r ولم يأمره بالإعادة لأنه فَعل محظورا جاهلا .
وفي الصيام قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " ولم يأمره بالإعادة لأنه كان ناسيا.
س: وهذا يقول : هل يجوز أن ينسب الضر والشر إلى الله -سبحانه وتعالى- وهل يجوز أن نقول : إن الله مصدر الخير والشر؟
ج: أما الأول فإن الشر لا ينسب إلى الله؛ لأن كل أفعاله خير، وإنما الشر إن قدر في مفعولاته لا في فعله؛ ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- : " الخير بيديك والشر ليس إليك " فاثبت الخير بأنه بيده U ونفى أن يكون الشر إليه .(5/389)
وإنما يكون الشر في مفعولاته، فمثلا لا شك أن في بعض المخلوقات من الشر ما هو معلوم كالسباع والثعابين وما أشبهها، وكذلك الأمراض تصيب العبد هي شر بالنسبة للصحة، وهذه المخلوقات التي أشرنا إليها شر بالنسبة للمخلوقات المسالمة، لكن الشر هنا ليس في فعل الله، فإن الله لم يقدر ذلك إلا لحكمة عظيمة بالغة تشتمل على الخير.
وكذلك المرض بالنسبة للإنسان ليس خيرا في حد ذاته، لكنه خير بالنسبة إلى تقدير الله له؛ لأن الله تعالى قد يقدر على الإنسان المرض لينال بذلك درجة الصابرين إذا صبر عليه، وليعرف بذلك قدر نعمة الله عليه بالصحة، فإن الأشياء قد لا تتبين للإنسان إلا بضدها كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء .
أرأيت ما يحصل للنبي r من المرض والتعب وقد قال -عليه الصلاة والسلام- : " إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم " وشدّد عليه عند حضور الموت، كل هذا من أجل أن ينال أرفع درجات الصابرين -عليه الصلاة والسلام- ويكون صابرا لله U على أحكامه الشرعية وأحكامه الكونية القدرية .
أما إن الله مصدر الخير والشر، فإن أراد أن الله تعالى هو الذي قدرهما فهذا صحيح وإن أراد سوى ذلك فلا، لكن على كل تقدير لا ينبغي إطلاق هذه الكلمة على الله U لأن ذلك يوهم إضافة الشر ونسبة الشر إلى الله تعالى.
س: وهذا يقول: يقول النبي r فيما يرويه عن ربه U أنه قال : " الكبرياء إزاري والعظمة ردائي " فما معنى الإزار والرداء في الحديث؟ وهل نثبت لبس الإزار والرداء لله U أم هي صفة نقص؟ وأثابكم الله؟
ج: الحقيقة أن هذا مما نقول فيه كما قال الإمام مالك : إنه مما لا ينفع العلم به، والإزار والرداء بالنسبة إلى الله U ليس كالإزار والرداء بالنسبة إلينا؛ ولهذا يجب علينا أن نقول كما قال -النبي عليه الصلاة والسلام- ولا نسأل عن هذا ؛ لأن السؤال عن هذا بدعة.(5/390)
هل نحن أحرص من الصحابة -رضي الله عنهم- على معرفة صفات الله ؟! لا والله، وهل المسئول منا أعلم بذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! لا والله، إذًا ما دام الصحابة -رضي الله عنهم- وهم أحرص منا على معرفة الله -تعالى- بأسمائه وصفاته لم يسألوا الرسول r وهو أعلم من سيجيب، فالواجب علينا السكوت، أن نقول بما جاء به الحديث ونسكت عما وراء ذلك، ونقول: إن الله -سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء .
س: وهذا يقول: هل يجوز ... انتهى الوقت الآن ، سؤال أخير جزاكم الله خيرا أي نعم، تبقى الأسئلة إلى غد إن شاء الله وننبه الإخوة أننا سنلقي أسئلة على ما شرحناه من المنظومة فليستعدوا لذلك ، نعم أحسن الله إليك.
يقول: شيخ يقول: هل يجوز إهداء المصحف إلى النصراني بغرض دعوته ؟
ج: لا يجوز لك ذلك إلا إذا أعطيته المصحف؛ لينظر فيه بحضورك فلا بأس ، أما أن تعطيه ويذهب به إلى بيته فهذا لا يجوز؛ لاحتمال أن يهينه كما يوجد من بعض طغاة النصارى وغيرهم ممن يمتهنون القرآن حتى بلغنا أنه ربما يطئوه بأقدامهم.
س: وإذا كان يا شيخ معاني القرآن -أحسن الله إليك-؟
ج: أما معاني القرآن فلا بأس إذا لم يكن في الورقات شيء من القرآن لا بأس؛ لأن المعنى غير المشروح، يعني: الشرح غير المشروح .
س: هذا يقول: يا شيخ، أنا إمام مسجد من منطقة بعيدة فما حكم توكيلي؛ لكي أحضر إلى هذه الدورة ؟
ج: هذا ينبني على: هل إنه سوف يدع الصلاة في كل الأوقات أو في وقت واحد، إذا كان في وقت واحد وأذن في ذلك المسئولون ورضي بذلك أهل الحي فلا بأس، وإلا فإنه إذا حان وقت الإقامة خرج من الدورة وذهب يصلي بأصحابه .
نواصل يا شيخ ولا نقف أحسن الله إليك(5/391)
الوقوف أحسن لأنه أولا أليس اللقاء ساعة ؟ بلى يا شيخ، طيب الآن أكثر من ساعة، أحسن الله إليك، والشيء الثاني: أني أحب أن ينصرف الناس وهم يقولون: ليتنا بقينا. إذاً نقف أحسن الله إليك ، نقف عند هذا -إن شاء الله- وغدا يكون بداية الدرس من وكل ما كلفه قد يسر ، أحسن الله إليك .
يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد قال المؤلف -حفظه الله تعالى-:
وكل ما كلفه قد يسر
فاجلب لتيسير بكل ذي شطط
وما استطعتَ افْعَلْ من المأمورِ
والشرع لا يلزم قبل العلم
لكن إذا فرط في التعلم
وكل ممنوع فللضرورة
لكن ما حرم للذريعة
من أصله وعند عارض طرَا
فليس في الدين الحنيف من شطط
واجتنب الكل من المحظور
دليله فعل المسيء فافتهم
فذا محل نظر فلتعلم
يباح والمكروه عند الحاجة
يجوز للحاجة كالعرية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فهذا هو الدرس الثاني من شرح المنظومة منظومة القواعد الفقهية والأصولية ، وقبل أن نبدأ بالشرح نحب أن نناقش بعض ما سبق ذكره.
فأولا-: هل الحمد هو الثناء أو شيء سوى الثناء؟ يجيب عليه أحد الطلبة من الصف الثاني، أعد السؤال يا شيخ الله يحفظك، سؤال: هل الحمد هو الثناء أو شيء آخر سوى الثناء ؟
ج: الحمد: هو وصف المحمود بالكمال، نعم ، وإذا كرر ذلك فهو الثناء.
طيب ما هو دليلك على هذا ؟
ج: في الحديث عندما أورد الرسول r قول الله U عند قول العبد " { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: حمدني عبدي وعندما يقول: "رب العالمين" فيقول: أثنى عليّ عبدي " طيب.
س: بهذا نعرف أن من فسر الحمد بالثناء فقوله صحيح ولا غير صحيح ؟ يجيب طالب.
ج:السؤال يا شيخ الله يحفظك مرة ثانية،(5/392)
السؤال: الذين فسروا الحمد بالثناء في الوصف في جميع الصفات هل قولهم صواب أن الحمد هو الثناء أو لا ؟
هيا يا جماعة ؟
ج: السؤال مرة ثانية يا شيخ سؤال أخير …
س: قلنا: الحمد وصف المحمود بالكمال فيكون هذا ثناء، بعض العلماء يقولون: الحمد هو الثناء هل هذا التفسير صحيح أو غير صحيح ؟
ج: يكون غير صحيح يا شيخ ، غير صحيح ، فإذا قيل لك: ما الدليل على تضعيفك إياه، تقول: حديث أبي هريرة: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " إلخ . طيب .
سؤال يقول الناظم: "مثبت الأحكام بالأصول" ما هي الأصول التي يثبت بها الأحكام ؟
ج: الأصول يا شيخ المتفق عليها أربعة نعم ، أولا: كتاب الله U والثاني: سنة الرسول r والثالث: الإجماع، والرابع: القياس الصحيح ، أحسنت بارك الله فيك .
س: يقول الناظم : "محمد المبعوث رحمةً للورى" ، (رحمة) ما الذي نصبها ؟
ج: يا شيخ مفعول لأجله ، مفعول لأجله . طيب
س: ما هو الشاهد لهذا من القرآن ؟
ج: قول الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } أحسنت، "إلا رحمة للعالمين" ، يعني: إلا لنرحم بك العالمين .
س: طيب ما هي القاعدة في الدين الإسلامي، أو ما هو الغرض الأسمى الذي من أجله جاء الدين الإسلامي؟
ج: موجود هذا في النظم، جلب المنفعة ودرء المفسدة، يعني: سعادة البشر، وانتفاء الضرر عنهم، خذوا من هذا قاعدة، القاعدة هي درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، ما دام الدين جاء لإسعاد البشر؛ فالقاعدة كل أمر سبب للسعادة فهو مشروع، كل أمر ضار فهو ممنوع.
س: طيب إذا تساوى إذا اجتمع في عمل ما ضرر ومنفعة، ولم يمكن التمييز بينهما، فهل يجتنب درءا للمفسدة أو يفعل لما فيه من المصلحة ؟
ج: يمنع مطلقا، نعم يمنع مطلقا، طيب إذا كانت المصلحة أكثر من المنفعة. أعد يا شيخ ؟ أقول إذا كانت المنفعة أكثر من المضرة، يفعل إن شاء الله ، طيب(5/393)
إذًا يقال في هذا إذا اجتمعت منفعة ومضرة فإن تساوتا مُنع ، وإن غلبت المضرة مُنع ، وإن غلبت المصلحة فُعل . كذا نعم يا شيخ ، طيب
الآن نبدأ صفحة جديدة بإذن الله وحول الله
قال الناظم :
وكل ما كلَّفَه قد يَسَّرَ
من أصل وعند عارض طرَا
يعني: أن كل ما كلف الله به العباد من هذا الدين فإنه مُيَسّر ، ودليل ذلك قوله -تبارك وتعالى- حين ذكر أحكام الصيام مع مشقته قال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وهذه الإرادة: هي الإرادة الشرعية، يعني: أن الله تعالى شرع الدين تيسيرا عليكم.
وقال الله -تبارك وتعالى-: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } وقال الله -تبارك وتعالى-: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فكل شيء كلف الله به العباد فهو يسير.
وقال النبي r " إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " وكان يبعث البعوث ويقول: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين " كل هذا يدل على أن الدين يسر.
ومن ثَمّ اختلف العلماء فيما إذا اختلف مفتيان على قولين هل يأخذ بأيسرهما قولا، أو بأشدهما، أو يخير، أي نعم فإذا أفتى الإنسان عالمان كلاهما أهل للفتوى واختلفا، فإن تساويا عنده في العلم والدين فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يأخذ بالأشد؛ لأنه أحوط وأبرأ للذمة، والقول الثاني: يأخذ بالأيسر؛ لأنه أقرب إلى مقاصد الشريعة؛ ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يلزم عباد الله إلا بما نتيقن أن الله ألزمهم به، والقول الثالث: أنه يخير؛ لتعارض العلتين.(5/394)
والأقرب عندي أنه يأخذ بالأيسر؛ لأنه أقرب إلى روح الشريعة، اللهم إلا أن لا تطمئن النفس إليه فحينئذ يأخذ بالأشد، الذي تطمئن نفسه إليه؛ لهذا قال النبي r " البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما تردد في الصدر " هذه قاعدة مهمة، أن كل ما كلف الله به العباد فإنه ميسر من أصله .
"وعند عارض طرأ" يعني: وكذلك يكون هناك تيسير آخر عند الطوارئ ، إذا طرأ على الإنسان ما يفقد التيسير عليه، فإن الشرع وعد بالتيسير عليه، ولنضرب لذلك مثلا بل أمثلة:
الأول في الطهارة: يجب على الإنسان أن يتطهر بالماء سواء كان حدثا أصغر أم حدثا أكبر، فإن كان مريضا، ويخشى على نفسه، فإنه يتيمم، ودليل ذلك آية الطهارة في سورة "المائدة" : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ إفح!$tَّ9$# أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) }(5/395)
فأوجب الله الطهارة بالماء، فإذا كان الإنسان مريضا، وخاف على نفسه من زيادة المرض أو تأخُّر البرء وكان يتضرر بالماء، فإنه يتيمم، وفي الحديث الصحيح " أن عمرو بن العاص t بعثه النبي r في سرية فأجنب وكانت الليلة باردة، فتيمم وصلى بأصحابه، فقال له النبي r أصليت بأصحابك وأنت جنب؟! قال: يا رسول الله ذكرتُ قول الله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) } فضحك النبي r تقديرا لفعله " .
المثال الثاني في الصلاة: يجب على الإنسان أن يصلي الفريضة قائما فإن لم يستطع فقد قال النبي r لعمران بن الحصين: " صل قائما، فإن لم تستطع، فقاعدا فإن لم تستطع، فعلى جنب " .
في الصوم: يجب على الإنسان أن يصوم رمضان فإن كان مريضا فله أن يؤخر الصوم حتى يبرأ، وكذلك إذا كان مسافرا؛ لأن المسافر يشق عليه الصوم في الغالب، دليل ذلك قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
فيسَّر الله على المريض والصائم إذا أتى عليه رمضان أن يؤخر الصوم حتى ينتهي من الصوم ويبرأ من المرض، وهذا -لا شك- أنه تيسير .
وثمة تيسير ثالث إذا كان لا يستطيع أن يصوم لمرض لا يرجى زواله أو لكبر، فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا ، هذا التيسير الذي تكرر مرتين في الصوم منشؤه أن الدين يسر من أصله أو للعارض الطارئ .
المثال الرابع في الحج يجب على الإنسان أن يؤدي الحج بنفسه إذا كان مستطيعا، فإن لم يستطع، وكان عنده مال يمكنه أن ينيب به من يحج عنه، وكان لا يرجى زوال علته، فإنه يقيم من يحج عنه عن فريضة الإسلام.
وقِس على هذا إذا هذه القاعدة: الدين مبني على التيسير والسهولة ، في حق أصل المشروعات وعند العوارض الطارئة(5/396)
وفرَّع الناظم على هذه القاعدة قوله : "فاجلب بتيسير لكل ذي شطط" أي: مشقة، أي كلما حصلت مشقة حصل التيسير، وهي أي: هذه القاعدة فرع من فروع القاعدة السابقة فليس في الدين الحنيف من شطط ، أي من مشقة وتعب، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ثم قال في سياق هذه القاعدة العظيمة: إن الدين مبني على التيسير والسهولة، قال :
وما استطعت افعل من المأمور
واجتنب الكل من المحظور
يعني: أنه إذا أمر الله بشيء في كتابه أو على لسان رسوله r فافعل ما تستطيع من المأمور، ولا تترك منه شيئا بل افعله كله أو بعضه إذا لم تستطع، وورد شرع لفعل هذا البعض .
أما المنهي عنه فاجتنبه كله لا تأتي منه شيء إلا ما اضطررت إليه، وما اضطررت إليه فإنه لا يعتبر تحريما، ولا محرما، دليل هذه القاعدة قول النبي r " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " فأمر النبي r باجتناب المنهي عنه بدون شرط ولا مما يدل على أنه لا بد أن يجتنب الإنسان كل المنهي عنه؛ لأن الاجتناب ليس فيه مشقة ولا تعنت إنما هو ترك شيء، فإذا ترك الإنسان الشيء فلا ضرر عليه.
ولهذا فإن اضطر إليه فقد قال الله تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } يعني: فإنه ليس فيه تحريم وعلى هذا فيكون ما يفعل من المحرم عند الضرورة ليس في درجة الحرام بل هو حلال مباح، أما الأمر فقال الله -تبارك وتعالى-: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }(5/397)
فانظر إلى قوله: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أي: خائف ألا يقبل منه، موقن بأنهم إلى الله راجعون، { وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } نعم ، قال : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } فدل ذلك على أن المأمورات يجب فعل ما استطاع الإنسان منها، وأن المنهيات فيجب اجتنابها كلها، وهذه من القواعد المهمة أيضا في دين الله U .
ثم قال الناظم : "والشرع لا يلزم قبل العلم" الشرائع لا تلزم إلا بالعلم ، دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- . أما الكتاب فقال الله -تبارك تعالى-: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وقال الله تعالى: { * إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلى قوله: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }
وقال الله تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) } نعم هذا من القرآن.
أما الأدلة من السنة فدليله يقول الناظم:
..........................
دليله فعل المسيء فافهم(5/398)
يعني فعل في المسيء في إيه المسيء في عمل معين المسيء في صلاته، وذلك فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة t " أن رجلا دخل المسجد، والنبي r جالس في أصحابه فصلى صلاة المسيء صلى صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي r فرد عليه السلام، وقال له: ارجع فصل، فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما صلى أولا أي صلاة المسيء، ثم جاء فسلم على النبي r فقال : ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل، وصلى كصلاته الأولى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني.
فقال النبي r إذا قمت إلى الصلاة فأحسن الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " ولم يأمره النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بإعادة ما مضى من الصلوات؛ لأنه لا كان يعلم بأن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة ؛ لكنه أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة ؛ لأنه ما زال وقت الصلاة موجودا، والمطالبة فيها قائمة؛ فلهذا أمره أن يعيدها حتى أعادها على الوجه الصحيح.
إذًا لو أن إنسانا أساء في الصلاة، فلو فاتها جاهلا بها، فإنه لا يلزم بإعادتها، سواء قصر الزمن أم طال، ولهذا قال البدري: لو أن إنسانا أسلم في ناحية بعيدة عن بلاد الإسلام، وترك شيئا من الواجبات أو أتى شيئا من المحرمات، أو أنكر شيئا من المعلومات بالضرورة من الدين فإنه لا يكفر بذلك ؛ لأنه معذور إلا أن... فعل المسيء... قال: إنه اشتهر عند العلماء أن هذا الرجل، وصف بأنه مسيء في الصلاة مع أنه لم يتعمد، ولم يتكبر .(5/399)
فيقال: لا يلزم من الإساءة الإثم، أي: قد يكون الفعل سيئا غير صالح لا يعفي صاحبه لوجود مانع؛ ولهذا قال النبي r " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " فالخطأ هنا أنه إساءة، لكن لما كان صادرا عن اجتهاد لم يؤاخذ به مع أنه خطأ، فيجوز الاثنان فيقول: هذا الرجل مسيء في صلاته؛ لأنه لم يأت بها على الوجه المشروع، وإن كان لا يجب عليه، فلا يلزمه الإعادة.
ثم استدرك الناظم في هذه المسألة فقال:
لكن إذا فرط في التعلم
فذا محل نظر فلتعلم
يعني: لا يفرط في الصلاة نفسه في التعلم... لكنه تهاون، وفرط فهنا قد يقال: إنه لا يحسن... ذلك، وإنه يلزم بما أعلمه من الفرائض ؛ لأنه بذلك ليس معذورا؛ ولذلك يريد... أن يعلم أو يغلب على ظنه أو يقال : له إن فعلك هذا خطأ، فإن الواجب عليك كذا؛ ولكنه يفرط فلا يسقط عليه، فهذا نقول: إنه مفرط، وإن... وضعت هذه ... فلا يصلح فعله عذرا له لترك الواجبات، أو فعل المحظورات، وهذا الذي قلناه في هذا النظم هو ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في الاختيارات، وهو قول وجيه، وهو أن المفرط في التعلم، لا يشرع له من لم يقرأ على ذلك أن هذا واجب
ثم قال الناظم :
وكل ممنوع فللضرورة
يباح والمكروه عند الحاجة(5/400)
هذه من القواعد الفقهية الأصولية التي دل عليها القرآن، كل شيء ممنوع، فإنه يحل للضرورة، يحل له كل شيء ممنوع، فإنه يحل للضرورة دليل هذا قول الله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ (#مچxےx. مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } أي في مجاعة { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
وقال في آية أخرى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) } وقال تعالى في آية... أعم من المأكولات قال: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }
ولكن لا بد من أمرين في حل المحرم للضرورة: الأمر الأول أن يكون مضطرا إلى هذا المحرم، بحيث لا تستدعى ضرورة إلا به، والثاني أن يتيقن انتفاء ضرورته به.
الأمر الأول: أن لا تتبع الضرورة إلا بهذا المحرم، والثاني أن يعلم انتفاءها به، فإن لم يعلم فإنه لا يحرم؛ وذلك لأن فعل المحرم مفسدة محققة، وانتفاء الضرورة إذا لم يتيقن مظنون لا معلوم.
ومن المعلوم أنه لا يرتكب معلوم المفسدة بمظنون المصلحة.(5/401)
مثال ذلك : رجل في فلاة قفار، وإذا قد فقد الطعام وجاع ولم يجد إلا ميتة، فنقول: لا حرج عليك أن تأكل من الميتة ما تكف به ضرورتك أي ما يسد رمقك… لأن الأكل هنا متيقن المنفعة تندفع الضرورة؛ ولأنه لم يجد ما يسد به ضرورته من أشفار وأوراق أو غير ذلك، فإن قال القائل: لو لم يجد إلا الخمر نعم رجل عطشان، ولم يجد إلا خمرا، يأخذ منها وعاء تصبيرا، وإن كان فائدة ذلك… فهل يجوز أن يشرب الخمر؟ نقول: إن الضرورة الآن مقتضية، لكن هل تندفع ضرورته بشرب الخمر؟ الجواب لأن وذلك لأن الخمر لا فائدة منها... .
فإذا اضطر لشدة العطش فلا بأس في ذلك؛ ولذلك قالوا أي: الفقهاء قالوا: لو اضطر إلى شرب الخمر لدفع لقمة غص بها جازت له؛ وذلك لأن ضرورته تندفع بإيجادها؛ فيكون مباحا، فلو قال قائل: لو اضطر المريض إلى شرب الدم.. . لا يجوز… ولكن قيل له إذا قيل له: إن الدم يبرئ المرض، فهل يجوز … هذا الذي قيل له ذلك؟ الجواب لا يصح له ذلك، لماذا؟ لسبب انتفاء الشرطين لحل المحرم الضرورة.
أما الشرط الأول: وهو أن يوجد هناك ضرورة؛ فلأن المريض قد يتداوى بغير هذا المحرم، فيشفى، وقد يشفى بدون دواء، فليس مضطرا إلى هذا الدواء المحرم.
ثانيا: أنه …إن رجا، أو قدر أنه لا يشفى إلا بهذا الدواء المحرم، فإنه ربما يشربه، ولا يبرأ من المرض كما قد يوصى بأدوية كثيرة قد علم نفعها، وأنها تؤدي للشفاء، ومع ذلك يتناولها المريض ولا يشفى، فحينئذ يثبت أن نقول: إنه لا يكون شرب الدواء للانتفاع به .
هذا من حيث التعليل، أما من حيث الدليل، فقد جاء في الحديث عن النبي r أنه قال: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " فهذا الحكم معقول العلة؛ لأن الله سبحانه لم يحرمه علينا إلا لأنه ضار بنا، فكيف ينصرف الناس عنه، فكيف ينصرف المحرم شفاء ودواء .
إذًا القاعدة: كل ممنوع يباح للضرورة، ولكن متى يكون ذلك يكون بأمرين، وإن شئت فقل: قاعدتين:(5/402)
الأول: ألا تنتفي ضرورته إلا بتناوله بحيث لا يوجد ما…
والثاني: أن نعلم انتفاء الضرورة في تناوله، فإن لم نعلم لا يثبت؛ لأنه لا يمكن أنه لا يرتكب معلوم الضرر لمصلحة موهومة.
ثم قال: والمكروه عند الحاجة هذه قاعدة أيضا ذكرها العلماء أن المكروه يكون عند الحاجة إليه، وذكروا لهذا أمثلة كثيرة منها: لو أن إنسانا في صلاة واحتاج إلى الالتفات، مثل: أن يكون حوله صبي، فيلتفت خوفا على الصبي من أن يقع في حفرة أو أن يتناول حارا أو ما أشبه ذلك، فهنا الالتفات جائز، مع أن الأصل كراهة الالتفات في الصلاة، لكن عند الحاجة لا بأس.
والفرق بين الحاجة والضرورة:
والفرق بين الحاجة والضرورة كالفرق بين الضروريات والكماليات، أي أن الحاجة … لكنه في حالة إذا تهاون … كان ذلك أكمل في ضرره ومفقوده، فحينئذ يكون المحظور عند الحاجة مباحا، وهذه فائدة أيضا تعلق في الممنوعات ما كان ممنوعا على وجه التفصيل فإنه لا يصح … وما كان ممنوعا على وجه التنزيه، فإنه يحل عند الحاجة، ثم استطرد الناظم فقال:
لكن ما حرم للذريعة
يجوز للحاجة كالعرية
يعني المحرم لكونه ذريعة لمحرم أشد، فإنه يجوز عند الحاجة، ومثل الناظم لذلك بالعرية .
العرية: هي الرطب على رءوس النخل، يكون الإنسان عنده تمر يابس، وليس عنده نقد يشتري به رطبا يتفكه به مع الناس في هذه الحالة يجوز له أن يشتري الرطب على رءوس النخل بالتمر الذي عنده من العام الماضي مع أن شراء الرطب بالتمر حرام " فقد سئل النبي r عن بيع التمر بالرطب فَقَالَ: أَيَنْقُصُ إِذَا جف فَقَالُوا: نَعَمْ قال: فلا إذًا " لكن في العرية يجيز بيع التمر الرطب من أجل الحاجة. ما معنى الحاجة؟ …(5/403)
أن هذا الفقير يريد أن يتفكه مع الناس، وليس معه نقد ماذا يفعل؟ أيذهب ويسرق من الناس؟ لا فإذا قال القائل: يمكن أن يبيع التمر، ويشتري الرطب كما أرشد النبي r إلى ذلك فيما إذا كان عند الإنسان تمر رديء، وأراد تمرا جيدا أنه لا يبيع التمر الرديء بتمر جيد أقل منه، بل أمر أن يباع الرديء بالدراهم، ثم يشترى بالدراهم تمرٌ جيد، فلماذا نقول في العرية: إنه يفعل ذلك لماذا لا نقول: بع التمر ثم اشتر بالدراهم رطبا؟.
الجواب على هذا أولا أن السنة فرقت بينهما، وكل شيء فرق الشرع فيه، فإن الحكمة بما جاء به؛ لأننا نعرف أن الشرع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين مفترقين، وما فرق بينهما وظننا أنهما متماثلان، فإن الخطأ فيه، فيجب أن يقول: جاء الشرع بحل هذا ومنع هذا، لكن مع ذلك يمكن أن نجيب عقلا عن هذا، فيقال: إن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يبيعون التمر الرديء بالتمر الجيد، وهذا ربا صريح لا يحل .
أما في العرية فيجب أن يحصر الرطب بحيث يساوي التمر، لو أمكن لما مر معنا ... أننا نأخذ الرطب ونقول: هذا الرطب بدايته كان تمرا هل يكون على مقدار التمر الذي اشتري به أم لا بد من معرفة ذلك هذه واحدة .(5/404)
ثانيا أن نقول: ربا الفضل إنما هو في الحقيقة لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة؛ وذلك لأن ربا الفضل لا يمكن أن يقع بين اثنين من جنس واحد، بل لا بد أن يكون هناك فرق بينهما في الوصف من أجل زيادة الفضل …وتقول: النفس إذا كانت الزيادة تجوز لعلو الصفة والنقص يجوز لرداءة الصفة فيجز الزيادة لزيادة المنفعة… فتطمع النفس لهذه الزيادة، والنفس طماعة… في البيع والشراء وذلك مع قلة الورع … والذي يمكن أن يقع عرية، هو ربا الفضل، وإذن فتحريم ربا الفضل... علمنا من الحديث الذي ذكرناه أنه حينما حرم؛ لأنه ذريعة إلى الربا والذي حرم لكونه ذريعة، فإنه يباح عند الحاجة، فإن قال قائل: الفقير الذي احتاج... ما ضرورته إلى أن يشتري الرطب بالتمر نقول: ليس بالضرورة؛ لأنه يمكن أن يعيش على التمر؛ لكن لو هناك حاجة يريد أن يتفكه ... فلهذا رخص له في العرية رخص له، يقول الناظم:
لكن ما حرم للذريعة
يجوز للحاجة كالعرية
وإلى هنا نكتفي بشرح ما تيسر من هذه المنظومة، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا آذانا صاغية وقلوبا واعية، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، إنك أنت العليم آمين.
أما الآن فقد جاء دور الأسئلة في خلال ربع ساعة لأن... اليوم....
س: أحسن الله إليك يا شيخ هذا سائل يقول: كيف نفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية؟.
ج: القواعد الأصولية موضوعها أدلة الدين، أي أنها قواعد تتعلق بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وكيف يكون الدليل .
أما القواعد الفقهية فهي قواعد الفقه بمعنى أنها سمات عامة يندرج تحتها أنواع من العلم، فمثلا: قاعدة الطهارة قاعدة الصلاة ... ما هو العام والخاص، ما هو المطلق، ما هو المقيد ... وإنما هي قواعد الفقه، وأما القاعدة الأصولية تثبت بالأدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس فالفرق بينهما هو الموضوع القواعد الأصولية موضوعها… نعم .(5/405)
س: وهذا يقول: يا شيخ أنا إمام مسجد، وفي مسجدي حلقة لتحفيظ القرآن كل يوم بعد العصر يقول: وفي هذه الحلقة يقرءون جماعية حيث يقرأ كل واحد منا واجب من القرآن، فهل هذا العمل جائز أم لا مع أنه يومي؟.
ج: لا بأس يعني لا بأس بالقراءة القراءة الجماعية للتعلم … من القراءة أن يقرأ على وجه التعبد لله بذلك؛ لأن هذا لم يؤثر عن النبي r وأصحابه .
أما التعلم فلا بأس به فمثلا لو أراد المعلم أن يقرأ آية أو آيتين، ثم يرتلها التلاميذ بصوت واحد فلا بأس به. نعم.
س: إنه يقصد يا شيخ أن هذا العمل يتكرر كل يوم، وكل إنسان يقرأ جزءًا معينا؟.
ج: وإن كان كذلك؛ لأن مسألة التعليم يشرع فيها الأخذ بغير التعليم.
س: أحسن الله إليكم، هذا يا شيخ يقول: قدمنا من خارج الرياض، فأدركتنا صلاة الظهر والعصر، ونحن مسافرين فصليناهما جمعا وقصرا، ثم لما قدمنا الرياض، فإذا هم لم يصلوا العصر بعد، فهل تلزمنا صلاة العصر مع الجماعة أم تكفينا صلاتنا الأولى؟.
ج: هذه قد تطول… أن من فعل الصلاة على الوجه الذي أمر به لا يلزمه الإعادة؛ لأن الله تعالى لم يفرض على الناس أن يأتوا بالأمر مرتين؛ … لأن هذه الصلاة الأولى وعلى هذا فهؤلاء القوم المسافرون… الذين أدركتهم… لا يلزمهم الصلاة؛ لأنهم… فقد أتوا الأمر على وجهه، ولا يمكن أن يعيدوا الصلاة مرتين هذا إذا كانت… فلما دنو منها صلوا الظهر والعصر، ثم قدموا المدينة قبل أذان العصر؛ أو والناس يصلون لا تلزمهم الإعادة… إذا صلى الصلاة ثم أدرك الجماعة وهم يصلون فإنه يسن له أن يصلي معهم؛ لقول: النبي r للرجلين الذين تخلفا عن دخول الجماعة " إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما صلاة الجماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة " .(5/406)
ولا فرق في هذا بين أن تكون الصلاة المعادة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، فلو أن إنسانا صلى في مسجد المغرب، ثم ذهب إلى مسجد آخر، فوجدهم يصلون المغرب، فدخل معهم من أول ركعة، فإنه يسلم معهم ولا حاجة إلى أن يأتي برابعة ليشفعها؛ لأن ذلك مخالف... ... نعم.
أنواع النهي
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد: فهذا هو الدرس الثالث الذي يتم في الدورة العلمية بمدينة الرياض بجامع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -وهذا هو يوم الأحد الثامن من شهر ربيع الأول عام سبعة عشر وأربعمائة وألف، وقبل البدء في الكلام على القواعد- أود أن أعطي أمثلة على التلاميذ، ثم بعد ذلك يقرأ أحد الطلبة ما يمكن أن نشرحه.
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المؤلف -حفظه الله تعالى-:
وما نهي عنه من التعبد
فكل نهي عاد للذوات
وأن يعد لخارج كالعمة
والأصل في الأشياء حل وامنع
فإن يقع في الحكم شك فارجع
والأصل أن الأمر والنهي حتم
أو غيره أفسده لا تردد
أو للشروط مفسدا سياتي
فلن يضير فافهمن العلة
عبادة إلا بإذن الشارع
للأصل في النوعين ثم اتبع
إلا إذا الندب أو الكره علم
س: كفاية. ... ... فهاتان قاعدتان: الأولى يجب أن يفعل الإنسان من المأمور ما استطاع، فأين الدليل على هذه القاعدة من القرآن والسنة ؟. يجيب عن هذا أحد الطلاب .
ج: قال الله تعالى...
س: طيب، وهل يمكن أن تأتينا بمثال يحقق تلك القاعدة ؟.
ج: قال r " صل قائما، فإن لم تستطع، فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
س: القاعدة الثانية من هذا البيت: اجتنب الكل من المحظور، هل يمكن أن تأتي بدليل من الكتاب والسنة على ذلك ؟.
: هذه من السنة، ومن القرآن؟(5/407)
ج: من القرآن: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } لا هذا في الأمر. { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }
هذا أيضا في الأمر، أنا لم أذكره في هذا الدرس، لكنه يؤخذ من قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } الأمر بالاجتناب هنا أمر باجتناب أي جزء من أجزاء الخمر قل أو كثر؛ ولأن هذا الدليل عملي .
الدليل النظري أن النبي r والواجب اجتناب المسألة كلها قلت أو كثرت.
س: طيب السؤال الثاني، هل يلزم الشرط قبل العلم ؟.
ج: لا يلزم الشرط قبل العلم ،لا يلزم الدليل: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا } { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) }
س: طيب هل هناك من السنة دليل على هذا؟.
ج: الدليل من السنة أن النبي r لم يأمر بإعادة الصلوات السابقة.
س: طيب لو قال قائل : لماذا أمره بإعادة الصلاة الحاضرة؟. أعد يا شيخ، أقول: لو قال قائل: لماذا أمره بإعادة الصلاة السابقة؟.
ج: يا شيخ... لأن الوقت حاضر... أي نعم . هو ذات الوقت الحاضر... وكان بالدليل، ثم قلنا أو استثنينا باب الحال...
س: ما معنى الحال الذي استثنيناه؟.
إذا فرط، بماذا؟
ج: بالتعلم. هذا مستثنى محل نظر.
ما معنى قولك محل نظر؟
يعني خلاف. يعني ينظر فيه، إن كان الدليل قويا، فإننا نقول: بالإعادة على حسب حاله، يعني.
طيب. ما هي القاعدة في اتباع المحظور؟.(5/408)
ج: يباح المحظور للضرورة إذا لم يمكن دفع الضرر ما هو الدليل على إباحة المحظور للضرورة؟ { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }
س: اشترطنا في إباحة المحرم للضرورة شرطين فما هما؟.
ج: الشرط الأول: ألا يدفع ضرره أو ضرورته إلا به . والثاني؟. والثاني أن يعلم جازما أن هذا مما يدفع الضرورة.
س: طيب لو اضطر الإنسان إلى دواء، فهل يباح له استخدام المحرم، الدواء المحرم؟.
ج: لا يجوز لحديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " .
وأيضا اشترطنا ألا تندفع الضرورة بغيره أليس كذلك؟. بلى.
الدواء قد تندفع بغيره، قد يشفى بدواء آخر أو يشفى بغير دواء . نعم. أليس كذلك؟ ما فهمت السؤال؟.
ألا يمكن أن يشفى بغير دواء؟.
ج: نعم.
: طيب. ثم لا نتيقن شفاءه بهذا المحرم؛ لأنه قد يتناول الإنسان الدواء، ولا يستفيد.
س: طيب، الآن ما الذي يبيح المكروه؟ .
ح:الذي يبيح المكروه هو الحاجة.
س: ما الفرق بين الحاجة والضرورة؟.
ج: الحاجة تتعلق بالحاجيات هي دون الضرورة.
نعم. والضرورة هي التي يلحقه الضرر بعدمها بعدم فعلها.
نعم بارك الله فيك.
نبدأ الآن الدرس الجديد مستعينين بالله U سائلين الله تعالى القبول.
قال الناظم وفقه الله:
وما نهي عنه من التعبد
أو غيره أفسده لا تردد
ما اسم موصول مبتدأ، وجملة: أفسده خبر الموصول، والمعنى أن ما ينهى عنه من العبادة إذا فعله إنسان وقع فاسدا، وكذلك ما نهى عنه من غير العبادة إذا وقع على الوجه الذي نهي عنه فإنه يقع فاسدا هذه قاعدة.(5/409)
دليل ذلك قول: النبي r ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو فاسد وإن كان مائة شرط، يعني ولو اشترط مائة مرة. مثال ذلك من العبادات الصلاة قال النبي r " لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب " فلو أن إنسانا صلى صلاة منهيا عنها في هذا الوقت فإنها تكون باطلة غير مقبولة؛ لأنها منهي عنها، وثبت عن النبي r أنه نهى عن صوم يومي العيدين، فلو صام إنسان يوم عيد الفطر أو يوم عيد الأضحى، فصومه باطل؛ لأنه فعل عبادة منهيا عنها.
أما في المعاملات فلو باع الإنسان الذي صلى يوم الجمعة بيعا بعد نداء الجمعة الثاني وقع هذا البيع فاسدا؛ لأنه بيع منهي عنه، ولو باع أبيضا لمن يلعب به القمار كان البيع فاسدا؛ وذلك لأنه بيع منهي عنه لقوله تعالى: { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }
فيقع فاسدا ولو اشترى الإنسان على شراء أخيه فإن الشراء يكون فاسدا؛ لأن النبي r قال " لا يبع بعضكم على بيع بعض " .
ولو تزوج الإنسان بعقد شغار كان العقد فاسدا؛ لأن النبي r نهى عن الشغار والأمثلة على هذا كثيرة، وقوله: أفسده لا تردد. أي: لا تردد بإفساده؛ وذلك أننا لو صححناه لكان ذلك مضادا لله U ولرسوله؛ لأن ما نهي عنه شرعا، فالمفروض عدمه شرعا، فإذا قدر أن صححناه فهذا يعني إثباته، وإثباته مضادة لله ولرسوله .
ثم ذكر الناظم كل ما نهي عنه واقتضى النهي فيه الفساد . فقال:
فكل نهي عاد للذوات
أو للشروط مفسدا سياتي
كل: مبتدأ، وقوله : سياتي خبرها، ومفسدا حال للفاعل "يأتي". والمعنى أن كل نهي عاد لذات المنهي عنه فإنه يكون مفسدا، وهذا البيت كالبيان للبيت الذي قبله، وذلك أن النهي إما أن يعود إلى ذات الشيء أو إلى شرطه أو إلى أمر خارج. والذي يظهر الفساد هو ما عاد النهي فيه لذات المنهي عنه أو إلى شرطه.(5/410)
مثال العائد إلى ذات المنهي عنه البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة. هذا عائد إلى ذات البيت، وإن كانت العلة فيه هي خوف التوصل بذلك إلى ترك ما يجب من حضور الجمعة، ومثال ما عاد إلى الشرط نهي النبي r عن بيع الغرر، فإن النهي عن بيع الغرر عائد إلى شرط البيع، وهو العلم إذ إن من شرط البيع أن يكون الثمن معلوما، وأن يكون المبيع معلوما؛ لأن جهالتهما أي جهالة المبيع أو جهالة الثمن تؤدي إلى النزاع، ثم العداوة والبغضاء، والدين الإسلامي لا يريد من أهله إلا أن يكونوا أحباء متعارفين متوافقين، وكل شيء يهدم هذا الأصل الأصيل في الدين الإسلامي، فإنه يكون منهيا عنه.
ومثل العلماء لما عاد للشروط أيضا في رجل صلى في ثوب محرم عليه، مثل أن يصلي في ثوب حرير مع تحريمه، فإن صلاته لا تصح؛ وعللوا ذلك بأن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، ويشترط لذلك الشرط أن يكون مباحا، فإن كان محرما، فإن الصلاة لا تصح؛ لأن النهي يعود إلى شرط العبادة، ثم قال: الناظم :
وإن يعد لخارج كالعِمَّةِ
فلن يضير فافهمن العلة
يقول: إن عاد النهي إلى أمر خارج، فإنه لا يجوز كالعمة، يعني كالعمامة، أي: أن المصلي لو لبس عمامة محرمة كأن يلبس عمامة حرير، ويصلي فإن صلاته صحيحة؛ لأن هذا النهي لا يعود إلى ذات العبادة إذ ليس في شرط الصلاة أن يعتم الإنسان، ومثل ذلك لو صلى، وبيده خاتم ذهب، وهو رجل فإن صلاته تكون صحيحة ؛ لأن هذا الذي لبسه لا يعود إلى ذات العبادة، أي إلى ذات الصلاة ولا إلى تركها، وإنما يعود إلى أمر خارج.(5/411)
ومما نهي عنه، وهو لا يعود إلى شرط العبادة، ثم... نعم، ومما نهي عنه، وهو لا يعود إلى ذات الشيء ولا إلى شرطه في المعاملات تلقي الجلب، فإن النبي r قال : " لا تلقوا الجلب " والجلب هم الذين يأتون بالسلع إلى البلاد، وليسوا من أهل البلاد ليبيعوها، وينصرفوا فقد نهى النبي r عن تلقيهم ؛ لأن في تلقيهم ضررين: الضرر الأول : أنهم ربما يشترون من الجلب برخص فيقع الغبن، والضرر الثاني أنهم يحرمون أهل البلد مما يحصل من وراء المعاملات مع هؤلاء الجلب. هذا النهي لا يفسد البيع، يعني لو أن رجلا تلقى الجلب، واشترى منه، فإن البيع يقع صحيحا مع تحريم التلقي؛ وذلك لأن هذا المشترى لا يعود إلى نفي البيع ولا إلى شرطه.
ودليل صحته قول: النبي r " فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار " يعني إذا أتى البائع السوق، ورأى أنه مغبون فله الخيار.
ومن ذلك أي ما لا يعود إلى شرط الشيء ولا إلى ذاته تصرية لبن في ضرع بهيمة زمعاء، فإن النبي r نهى عنه بما في ذلك من التدليس على المشتري، ولكن لو أن البائع لو أن الإنسان باع شاة مصراة أو بعيرا مصراة، ثم ظهر المشتري على هذا التدليس، فإن له الخيار.
وخلاصة هذه القاعدة أن كل منهي عنه إذا فعله فهو فاسد إن عاد النهي إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه، أما إذا عاد إلى أمر خارج فإنه لا يفسد، لكن يكون الفاعل آثما لوقوع النهي.
قال الناظم :
وأن يعد لخارج كالعمة
فلن يضير فافهمن العلة
أي لم يضير من حيث الصحة والفساد
"فافهمن العلة": والعلة هي ما أشرنا إليه من قبل أن هذا يعود إلى أمر خارج لا إلى ذات الشيء، ولا إلى شرطه .
الأصل في الأشياء الإباحة إلا العبادة:
ثم قال الناظم : قاعدة مفيدة مهمة جدا قال :
والأصل في الأشياء حل وامنع
عبادة إلا بإذن الشارع(5/412)
قوله:" والأصل في الأشياء" هذا يعم الأعيان والمنافع والمعاملات والأفعال، وكل شيء الأصل فيه الحل الأعيان إذا وجد الإنسان شجرا في البر فالأصل فيه الحل فليأكله ما لم يتيقن أنه من المهلكات، مثل: أن يكون شجرا ضارا، إذا وجد الإنسان طيرا أو زاحفا في البر فالأصل أنه حلال، يحل أكله ما لم يقم الدليل على تحريمه.
كذلك الأصل في المنافع أن الإنسان ينتفع بكل ما خلق الله في الأرض ما لم يكن الانتفاع حراما، وكذلك الأعمال الأصل فيها الحل إذا لم تكن عبادة، فأي معاملة عامل بها الإنسان غيره، فهي معاملة صحيحة ما لم يقم الدليل على تحريمها. دليل ذلك في الأعيان والمنافع قول الله -تبارك وتعالى-: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فعمم وأكد التعميم، قال : "ما في الأرض"، وهذه اسم موصول تفيد العموم، ثم أكد هذا العموم بقوله: "جمعيا".
ودليل المعاملات قوله -تبارك وتعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ }
فأمر الله بالوفاء بالعقود على أي وجه أخذت، وبأي معاملة كانت ما لم يثبت تحريمه، وكذلك قال النبي r " ما كانت من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " فدل على أن ما كان في كتاب الله أي ما كان موافقا لكتاب الله فإنه غير باطل، وكذلك روي عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال : " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " وأمثال ذلك من، فالأدلة الأصل في الأشياء كلها الأعيان المنافع والأعمال وغيرها الأصل فيها أنها حلال لا إثم فيها
قال : الناظم(5/413)
وامنع عبادة إلا بإذن الشارع العبادات الأصل فيها المنع إلا بإذن الله. دليل ذلك أن الله أنكر على الذين يقولون: هذا حلال وهذا حرام إلا بإذن الله، وأنكر على الذين يشرعون أو يتبعون الشرائع التي لم يأذن الله بها فقال U { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وأبطل النبي r كل ما أحدثه الإنسان من من العبادات في دين الله فقال r " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " فلو أن إنسانا تعبد لله تعالى بعبادة لم يشرعها الله كانت العبادة باطلة، سواء كانت لم تشرع من أصلها، أو شرعت على وجه آخر، وأثبت هو لها سببا غير ثابت شرعا، فإنها مردودة عليه، فلو أن إنسانا فعل عبادة بسبب لم يجعله الله ورسوله سببا لها كان مبتدعا، ومن ذلك ما يفعل في هذا الشهر شهر ربيع الأول من الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
فإن الاحتفال بالمولد إنما يحمل عليه محبة النبي r عند من احتفل به أو مضاهاة النصارى الذين يحتفلون بمولد المسيح عيسى بن مريم -عليه الصلاة والسلام- أو لأسباب أخرى، لكن غالبهم إنما يحملهم عليه محبة الرسول r وذكرى ولادته كما زعموا، وهذه البدعة ليست معروفة لا في عهد النبي r ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا في عهد الصحابة، ولا في عهد التابعين ولا في عهد تابعي التابعين. وإنما أحدثت في القرن الرابع من الهجرة، وقد ثبت أن النبي r أنه حذر من محدثات الأمور، فقال: " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " فإن قال قائل: أنا لا أحدث ذلك إلا محبة لرسول r الجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول : أن من علامة المحبة، وهو أصدق علاماتها أن يكون المحب متبعا لمن أحبه قال الله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }(5/414)
وإذا كان هذا أصدق علامات المحبة فاتباع النبي r بذلك أن لا يقيم هذه البدعة ؛ لأنه لم يقمها -عليه الصلاة والسلام- . فحقيقة الاتباع أن لا نأتي بشيء لم يفعله، فإننا يعني نقول: إنك لست أشد محبة لرسول الله r من خلفائه وأصحابه، ولا يمكن لأحد أن أنه يحب الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعظم مما يحبه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة والتابعين، فهؤلاء كلهم لم يفعلوا ذلك؛ لأنهم يريدون أن يطبقوا حقيقة المحبة تماما، وهي أن يتبعوا الرسول r في فعله وتركه، فكما أن فعل ما فعله الرسول -عليه الصلاة والسلام- سنة، وكذلك ترك ما ترك دون معرفة سببه سنة، وما خالف ذلك فهو بدعة، وهذه المسألة ينبغي لنا أن نتفطن لها، كلنا يعلم أن الثناء على الرسول -عليه الصلاة والسلام- على وجه لا غلو فيه محكوم إلى الله ورسوله، لكن كوننا نقيده بهذه الليلة المعينة هو من البدع على أن الاحتفال بالمولد النبوي يحدث فيه من الأغلاط والغلو المنهي عنه وغير ذلك من الأشياء ما لا يقتضيه شرع ولا عقل.
ثم إننا نقول: بالمناسبة وإن كان هذا ليس من خصائص درسنا إنه لم يثبت تاريخيا أن ولادة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كانت في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، والمحققون من الكتاب يقولون: إن ولادته كانت في اليوم التاسع، وليست في اليوم الثاني عشر، وهذا مما يوحي الاحتفال بمولد الرسول r في الليلة الثانية عشر.
نعود إلى القاعدة التي معنا: الأصل في العبادات الحظر حتى يكون دليل على الإذن، نعم الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على الإذن بها، والأصل في غير العبادات الحل حتى يقوم دليل المنع، وهذه قاعدة مهمة ينبغي للإنسان أن تكون أمام عينه.
ثم قال الناظم :
فإن يقع في الحكم شك فارجع
للأصل في النوعين ثم اتبع(5/415)
يعني إذا شككت في الحكم شيء متجدد فارجع إلى الأصل، فإن كان من العبادات الأصل المنع حتى يقوم دليل على الإذن به، وإن كان من غير العبادات فالأصل الحل حتى يقوم دليل على المنع، فإذا تنازع شخصان في حل صيد صاده أحدهما، فقال أحدهما هو حرام، وقال الثاني : هو حلال ولم نجد نصا عليه بالمنع، فإنه حلال رجوعا إلى الأصل، وكذلك لو شككنا في معاملة من المعاملات هل هي حلال أو حرام، فهي حلال حتى يقوم دليل على المنع منه، وهذا الأصل ينفع فيما حدث ذلك من المعاملات في هذا العصر، فإذا شككت في معاملة ما هل هي حلال أو حرام فهي حلال، والذي يقول: إنها ممنوعة هو المطالب بالدليل بناء على ما ذكرناه من هذه القاعدة العظيمة، وهذا ينطبق في ما اختلف الناس فيه اليوم من المعاملات الحادثة التي لم تكن معروفة من قبل بين الفقهاء، فإنه يمكنك أن تنزلها على هذه القاعدة، فترجع إلى الأصل، والأصل في المعاملات هو الحل حتى يقوم دليل على المنع.
وكذلك لو رأينا شخصا يتعبد بعبادة فإننا نطالبه بالدليل نقول: ما دليلك على أن هذا مشروع ؟ فإن أتى بدليل قبلناه وعلى العين والرأس، وإن لم يأت بدليل فإننا فإن عمله مردود عليه، وهو ضلال؛ لأن النبي r قال : " كل بدعة ضلالة " ويكون هو أي هذا العامل المتعبد لله بما لم يشرع يكون هو إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة، وإنما قلنا: إنه إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة؛ لأنه ربما يفعل هذا الشيء تأويلا لا عنادًا، لكن إذا بين له الحق وعاند وأصر على بدعته، فهو آثم بلا شك ؛ لأن النبي r حذر تحذيرا بالغا من المحدثات في الدين حتى كان r يعلن ذلك في كل جمعة في الخطبة يقول: " أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة "
حقيقة الأمر والنهي:
ثم قال الناظم :
والأصل أن الأمر والنهي حتم
إلا إذا الندب أو الكره علم(5/416)
الأصل الأوامر والنواهي يقول: الناظم: الأصل في الأمر أنه حتم أي أنه واجب الأصل في النهي أنه حتم، أي أنه محرم يجب اجتنابه، وهذه المسألة من أصول الفقه أي المسألة أو القاعدة من أصول الفقه، وقد اختلف الأصوليون في الأمر أن يقتضي الوجوب أو النهي، وفي النهي أن يقتضي التحريم أو الكراهة، فهذا إذا لم يوجد قرينة تحجب الأمر عن الوصول إلى النفي أو عن النفي أيضا إلى الإباحة، وكذلك النهي إذا لم يوجد قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة، أو أن الكراهة إلى الإباحة أيضا.
وكلامنا في الأمر المجرد والنهي المجرد فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- هل الأصل أن الأمر للوجوب أو للنفي ؟ من العلماء من قال : إن الأصل الوجوب، إن الأصل في الأمر الوجوب لقول الله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } فحذر الله -تعالى- المخالفين عن أمر الرسول r من هاتين العقوبتين، بل من إحدى هاتين العقوبتين أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
أما العذاب الأليم فواضح أي العقوبة المؤلمة في بدنه في أهله في ماله، وأما الفتنة فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك. لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وهذه العقوبة شديدة أعني عقوبة الشرك والمعاصي هي في حقيقة النظر لمن كان عاقلا أشد من العقوبة المادية؛ وذلك لأن هذه العقوبة تؤدي إلى خسارة الدنيا والآخرة يقول: الله U { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) }(5/417)
وقال آخرون : بل الأمر للنفي، أي أنك إن فعلت مأمورا به كان ذلك خيرا وفيه الثواب، وإن لم تفعل فلا إثم عليك. تعين ذلك بأمرين : الأمر الأول اشتمال الحكم المراد بالأوامر فإن كثيرا من أوامر الله لا تقتضي الوجوب: إما بالاتفاق أو بقول: الجمهور، وثانيا : أنه لما أمر بها ترجح فعلها لما أنه لما أمر بالشيء ترجح فعله، والأصل عدم التحكيم بالطبع وبراءة الذمة.
وكذلك يقال في النهي، فإن النهي قد أمر النبي r باجتناب المنهي عنه، والأمر بالوجوب فإذا وجب الاجتناب صار الفعل محرما، فهذان قولان للعلماء منهم من يقول: الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم يوجد دليل، ومنهم من يقول: الأمر للاستحباب والنهي للاستحباب ما لم يوجد دليل على الوجوب أو على عدم الاستحباب أيضا، ومنهم من يقول: الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم يوجد دليل على أن الأمر للاستحباب والنهي للكراهة أو ما إلى ما دون ذلك أيضا.
ومن العلماء من فصل فقال: أما الأمر حين يتعلق بالآداب والأخلاق فإنه للاستحباب؛ لأنه كمال، والكمال ليس بواجب، وكذلك يقال النهي حين يتعلق بالآداب والأخلاق إنه للكراهة، أما ما يتعلق بالعبادات فإن الأمر فيه للوجوب والنهي للتحريم.
فهذا التفصيل أضبط من القولين المطلقين السابقين؛ وذلك لأنك إذا استتبعت كثيرا من الأوامر فيما يتعلق بالآداب والأخلاق وجدتها للاستحباب والندب لا للوجوب، وكذلك إذا تأملت كثيرا من النواهي في الأخلاق والآداب وجدتها للكراهة لا للتحريم.
وهذا الحكم في ما لم يجمع العلماء على خلافه، فإن أجمع العلماء على خلافه فإن إجماعهم حجة معصومة.
فلنقف على هذا لأن وقت الإلقاء انتهى حتى نتفرغ للأسئلة، نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا للصواب إنه على كل شيء قدير . نعم.
س: يا شيخ أحسن الله إليك سائل يقول: أنا رجل أعاني من مشكلة، وطَال ذِكْره لها.(5/418)
خلاصتها: أنه رجل تزوج والِده بزواج شغار، وأن هذا الرجل الذي تزوج بأخته قد توفي، فماذا يعمل مع والده؟ خصوصا، وأن له أبناء من هذه المرأة التي تزوجها بهذا الشكل فيقول: أفتونا مأجورين ؟ جزاكم الله خيرا .
ج: يقول: إن أباه تزوج نكاح الشغار؟ نعم يا شيخ وأخته ماذا يقصد بها؟ فلتعد السؤال .
س: يقول: تزوج بزواج شغار: وذلك أنه اتفق وشخص آخر أن كلا منهما يزوج الآخر بابنته، وقد حصل هذا الزواج، وكل منهما له من زوجته عدة أولاد، ولكن قدر الله أن الشخص الآخر الذي تزوج والدي بابنته قدر الله أن توفي تاركا وراءه أولادا من هذا الزواج، وما زال والدي متمسكا بزوجته.
والسؤال ماذا يجب على والدي الآن ؟ وهل يمكن تصحيح زواجه وكيف ذلك ؟ وهل يجب علي أن أبدأ به ؟ يعني والدي هل أنصحه من هذا الزواج، مع أني أعرف أنه قد لا يقبل مني، أو أبدأ بتعليمه أمور الدين، حيث إنه رجل جاهل يجهل كثيرا من الدين، بل حتى من أصول الدين ؟.
ج: الحمد لله رب العالمين، نكاح الشغار لا شك أنه منهي عنه، وبناء على القاعدة التي ذكرناها آنفا يكون باطلا غير صحيح ؛ لكن ما هو الشغار أو ما هو نكاح الشغار ؟.
أن يزوج الإنسان موليته على أن يزوجه الآخر موليته بدون مهر أو بمهر ينقص عن مهر المرأة عادة هذا نكاح الشغار.
أما لو زوج أحدهما الآخر بمهر، ورضيت كل من المرأتين، وكان كل من الرجلين كفئا للمرأة، فهذا ليس بشغار إلا على رأي بعض أهل العلم، فلينظر في النكاح الذي وقع بين أبيه وبين الرجل الآخر، إن كان هناك مهر كان ومهر الادعاء، وقد رضيت كل من المرأتين بزوجها فلا شغار، وإن كان الأمر بخلاف ذلك: بأن كان مهر كل واحدة هو العقد على الأخرى فالنكاح فاسد، ولا يصح، ولكن الأولاد الذين جاءوا هم أولاد شرعيون؛ وذلك لأن الذين تزوجوا على هذا الوجه يعتقدون صحته، لأن أكثر الناس عندهم جهل عظيم بهذه الأمور لا سيما في ما سبق من الزمان .(5/419)
أما بالنسبة لمن زوجته باقية معه الآن، فالطريق سهل جدا، فهو أن يعقد له عليها عقدا جديدا وبمهر ترتضيه المرأة، وينتهي الأمر، لكن احرص على معرفة ما ذكرناه أولا : هل بين الرجلين مهر لا ينقص عن العادة، وهل رضيت كل أنثى بمن تزوجها، وهل كان كل واحد منهما كفئا للمرأة التي تزوجها . نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ يقول: ما حكم وضع بعض الإعلانات في المسجد؟ كالإعلان عن حملة للحج أو للعمرة أو الإعلان عن وجود محاضرات أو دروس علم أو الإعلان مثلا عن وفاة أحد أقارب شخص من أهل المسجد أو أنه مريض، وأنه بالمستشفى حتى نزوره ؟.
ج: أما ما كان إعلانا عن طاعة فلا بأس به؛ لأن الطاعة مما يقرب إلى الله U والمساجد بنيت لطاعة الله سبحانه وتعالى، وأما ما كان لأمور الدنيا، فإنه لا يجوز، ولكن يعلن عنه على جدار المسجد من الخارج.
فالحملات حملات الحج مثلا ليس فيها شائبة أمر دنيوي، فلا نرى أن نعلن عنها في داخل، وحلق الذكر كدورات العلم خير محض، فلا بأس أن يعلن عنها في داخل المسجد؛ لأنها خير.
والإعلان عن الميت، فإن فلانا مات، أو إنه مريض من أجل أن يعاد ويصلى عليه، هو أيضا خير، فلا بأس به، لكن هذا مرفوض، وقوله فيه نعرة؛ لأن لا ينفتح الباب، ويصير كل إنسان عنده مريض يكتب إعلانا في المسجد فتبقى المساجد ملعبة للناس، فترك هذا أولى أما حلقات الذكر ودورات العلم فلا شك أن الإعلان عنها في مسجد لا بأس به ولا حرج فيه . نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ يقول: عندنا شخص وجد معلقا على مروحة، وقيل: إنه شنق نفسه، أي أنه منتحر، مع العلم أنه كان صاحب معاص وخمر، وقيل مات سكرانا، فهل يغسل، وهل يصلى عليه، وهل يدفن في مقابر المسلمين، وهل يعزى أهله، ويقام له عزاء وما مصيره ؟ إلى الجنة أو إلى النار ؟ .(5/420)
ج: هذا هو الآن لم يفعل به شيء أو قد انتهى ؟. انتهى يا شيخ انتهى. لأن هذه الأفعال وهو قتل نفسه، وشرب الخمر والزنا مثلا، وأكل الربا كل هذا لا نخرجه من الإسلام، لكنه صاحب معصية بلا شك، وإذا كانت هذه الأفعال لا تخرجه من الإسلام، فإنه يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين، إلا أنه يجب أن نعلم أن من قتل نفسه بشيء، فإنه يعذب به في نار جهنم خالدا مخلدا فيها، والعياذ بالله كما قال كما قال الله تعالى فيمن قتل مؤمنا متعمدا : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } نعم شيخ. وهذا الرجل العاصي عندما مات بهذه المعاصي العظيمة، ولكن لم تصل إلى الكفر يدعى له بالمغفرة والرحمة؛ لأنه مؤمن، بل لأنه مسلم . نعم .
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ : ماذا يبنى على البيع الباطل بالنسبة للبائع والمشتري ؟.
ج: نعم البيع الباطل بالنسبة للبائع والمشتري ينبني عليه أنه يجب على المشتري أن يرد السلعة إلى البائع، ويجب على البائع أن يرد الثمن إلى المشتري إن كان قد قبض، ودليل ذلك " أن النبي r أتي إليه بتمر جيد، فسأل عنه فقالوا: كنا نأكل الصاع من هذا بالصاعين يعني من التمر الرديء والصاعين بالثلاثة ، فقال r ردوه " فأمر برده . وهذا نتيجة القول بالبطلان؛ لأن لو قلنا يثبت وبقيت السلعة في يد المشتري والثمن في يد البائع لم يكن في قولنا: إنه باطل معنى ولا ثمنا، بل لا بد من إعادته نعم. لم فرض أنه تعذرت الإعادة لطول المدة وتصرف كل منهما في ما آل إليه، فحينئذ قد يقال: إنه يعفى عنه أو يقال: إنه يرد مثله بالنسبة للمشتري يرد مثله للبائع، والبائع يرد القيمة للمشتري، وهو القيمة التي وقع العقد عليها في ما سبق نعم.
س: يقول فضيلة الشيخ : امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها، فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها؟.(5/421)
من طعام من؟ من طعام هذه المرأة ؟ صيغة السؤال:
ج: هو يقول: امرأة امرأة تحث زوجها في عمل ربوي؟.
تعمل في بنك ربوي يا شيخ.
إي نعم لا بأس؛ هذه القاعدة أو هذا السؤال ينبني على قاعدة مهمة أن ما حرم لكسبه فهو حرام على الكاسب وحده، فإذا انتقل إلى غيره بوجه شرعي فلا إثم عليه، فعلى هذا إذا كان الزوج ممن يتعامل بالربا أو كان في بنك ربوي، وأنفق على زوجته فلا حرج عليها أن تأكل بقدر حاجتها؛ وذلك لأنها تأكل من مال الزوج بحق، والمال التي تأخذه ليس محرما بعينه كالخمر مثلا، فلا حرج، فلا حرج عليها، ودليل ذلك أن النبي r أكل من طعام اليهود، واليهود ممن عرفوا بأكل السحت وأكل الربا، ولم يسألهم هل كان دخلكم الحرام أكثر أو أقل أو أنه لم يغلب عليه الحرام، فدل ذلك على أن الأمر واضح، والقاعدة التي ذكرناها أن ما حرم لكسبه فهو حرام على الكاسب لا على من انتقل إليه بحق، فمن انتقل إليه بحق كمعاورة بنفقة أو بيع أو ما أشبه ذلك فلا بأس . نعم.
س: يا شيخ أحسن الله إليك، يظهر من سؤاله أنه يقصد هل يجوز له هو أن يأكل من طعامها هي؟.
يأكل من طعام من؟.
يعني هو هل يجوز له أن يأكل من طعام هذه المرأة؟.
يعني رجل ثالث يعني شخص ثالث؟.
السائل يا شيخ.
شخص ثالث يريد أن يأخذ من هذه المرأة
يأكل من طعامها نعم، هذا يظهر من السؤال كدا يا شيخ .
طعام المرأة ما لها دخل في الموضوع
أنا أعيد لك السؤال : يا شيخ يقول: امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها ؟.
أعد السؤال مرة ثانية. يقول: امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها؟.
ج: إي نعم لا بأس لا بأس أن يأكل من طعامها؛ لأنها كما قلت آنفا تأكل من مال زوجها بحق، وما أخذ بحق فلا بأس أن يؤكل منه. نعم.(5/422)
س: أحسن الله إليك يا شيخ يقول: تزوجت بزوجة ثانية، فاشترطت الأولى أن أعطيها من الذهب مثل الجديدة، فهل يجب علي إعطاء الأولى من الذهب مثل الزوجة الجديدة ؟.
ج: لا يجب عليه إذا تزوج الإنسان امرأة جديدة، وأعطاها ذهبا من أجل النكاح، فإنه لا يجب عليه أن يعطي الأولى؛ لأن الواجب هو العدل في الإنفاق، ومعلوم أن الجديدة تختلف عن القديمة في إعطائها الذهب. نعم. لو فرض أنه بعد أن استقر المهر، ورضيت به الجديدة أعطاها شيئا زائدا عن المهر، فهنا يجب عليه أن يستأذن من الأولى، أو يعطيها مثل ما أعطى الثانية. نعم.
س: وهذا يقول: يا شيخ : ذهبت إلى صراف لصرف عشرة ريالات ورقية فأخذت من الصراف تسع ريالات حديد فهل هذا العمل جائز ؟ .
ج: هذا العمل جائز؛ ولذلك لاختلاف الصنفين، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- " إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " فما دام قد اختلف الصنفان فما دام الصنفان قد اختلفا فلا حرج . نعم. ولكن يشترط التقابض قبل التفرق. نعم.
س: يقول: يا شيخ هل يجوز دفع زكاة ؟ هل يجوز هل يجوز دفع كفارة الإيمان للمنظمات الخيرية مالا .
ج: المنظمات الخيرية إذا كانت وكيلة عن الفقراء فلا بأس أن يصرف إليها الشيء مالا؛ فهي تتصرف فيه على ما تراه، ولكن خير من ذلك أن يدفع إليها مالا فيوكلها بشراء الطعام، ثم توزيع ثم توزيعه على المستحق.
مثال ذلك: إنسان عليه كفارة يمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، لكنه لا يستطيع تحرير رقبة، فأراد أن يطعم أو يكسو، فأعطى الجمعية دراهم فأخبر وأخبرها بأن عليه كفارة يمين، وأنها وكيلته في شرائها ودفعها للمستحق فلا بأس في ذلك. نعم.
س: وهذا يقول: يا شيخ إذا نهى ولي الأمر عن الصيد بنوع من أنواع الطيور المطلق، فهل لي أن أصطاد، وأخالف ولي الأمر في هذا الأمر .(5/423)
ج: يقول: الله U { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } فإذا أمر ولي الأمر بشيء وليس معصية وجبت طاعته، وإذا نهى عن شيء وليس فيه معصية، فإنه يجب، فإذا نهى عن شيء، وليس فيه ذلك معصية وجب الكف عنه، وهذه هي الفائدة من ذلك إذ لو لم نقل بذلك لأصبح الناس فوضى، ولكن لو أن الإنسان صاد في هذه الحالة، فهل نقول: إن الصيد حرام كما لو صاد المسلم صيدا فإن صيده حرام؛ لأنه منهي عنه أو نقول: إن الصيد أي صيد من خالف ولي الأمر حلال.
· الجواب على الثاني يعني أن صيده حلال، لكنه مسيء لمخالفة ولي الأمر، فأظن أن هذا آخر سؤال .
كيفية توجيه الدليل الشرعي
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم-حفظه الله تعالى، ورفع درجته في المهديين-:
وكل ما رُتب فيه فضلُ
وكل فعل للنبي جُردا
وإن يكن مبينا لأمر
وقدم الأعلى لدى التزاحم
وادفع خفيف الضررين بالأخف
وإن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
وكل حكم فلعلةٍ تَبِع
وألغ كل سابق لسببه
من غير أمرٍ فهو ندبٌ يجلو
عن أمره فغير واجب بدا
فالحكم فيه حكم ذاك الأمر
في صالحٍ والعكس في المظالم
وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف
فقدمَن تغليبا الذي منع
إن وجدت يوجد وإلا يمتنع
لا شرطه فادرِ الفروق وانتبه
ابدأ يا شيخ. ابدأ الله يحفظك.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الرابع في الدورة العلمية التي تقام بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بمدينة الرياض، في إجازة عام ستة عشر - سبعة عشر وأربعمائة وألف، وهذا هو يوم السبت الخامس من شهر ربيع الأول، عام سبعة عشر وأربعمائة وألف.(5/424)
قبل الدرس نأخذ مناقشة في الدرس الماضي، أظن مبتدأنا قوله: ما نهي عنه من التعبد، نعم يا شيخ أي نعم. يقول الناظم:
وما نهي عنه من التعبد
أو غيره أفسده لا تردد
س: فما هو تعليل هذه القاعدة، بل ما هو دليلها، ثم ما هو تعريفها؟ يعني أن كل ما نهى عنه الشرع كله فإنه فاسد غير صحيح فما هو الدليل؟ أحد الطلبة يجيب على ذلك.
ج: الدليل قول النبي r ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط.
س: أحسنت. هذا باعتبار المعاملات، باعتبار العبادات، فيه دليل خاص بالعبادات؟.
ج: حديث الرسول r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
س: هذا الدليل، ونسمي هذا الدليل، الدليل العقلي، ما هو الدليل النظري الذي هو التعليل على أن كل ما نهى عنه الشرع فإنه يجب أن يبطل، وأن يوصف بأنه فاسد باطل؟.
ج: لأنه لو فعله يكون قد ضاد حكم الله سبحانه وتعالى؛ لأننا لو صححناه وأمضيناه لكان في ذلك مضادة لحكم الله سبحانه وتعالى، وهذا ينافي كمال التعبد، بارك الله فيك.
س: قسم العلماء رحمهم الله النهيَ إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يعود إلى العبادة نفسها، أو المعاملة نفسها.
والثاني: ما يعود إلى شرطها.
والثالث: ما يعود إلى أمر خارج.
فنريد أمثلة لهذا كله وهو ستة أمثلة؟
ج: المثال الأول: ما نهيَ فيه عن العبادة نفسها. ما نهي عنه ذاته مثل الصلاة في الحمامات، والصوم يوم العيد، و كذلك الصلاة بعد صلاة الفجر وصلاة العصر. أحسنت. نريد مثالا آخر ما عاد النهي إلى شرطه، لشرطه من شروط الصلاة ستر العورة، فإذا لبس الإنسان الحرير أو ما حرمه الشارع فإنه غير مستتر يعتبر فألغى الشرط ، فإنه يفسد العبادة. نعم. نعم. ما عاد إلى أمر خارج كالعمة وهي العمامة إذا كانت محرمة كالحرير كذلك، فإنه لا يبطل الصلاة؛ لأنها ليست من شروط الصلاة؛ لأنها ليست للوجوب هذا في العبادات.(5/425)
في المعاملات: ما عاد النهي فيه على نفس العقد، كبيع الحمل في البطن، للذات نفسها؟ أي على نفس العقد، { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } الربا يعني، يعني آثم؟ نعم. كذلك النهي عن البيع يوم الجمعة بعد النداء الثاني ممن تلزمه. ما عاد إلى شرط مثل: بيع الحمل في البطن .أحسنت، وكحديث أبي هريرة " أن النبي r نهى عن بيع الغرر " وما نهي عنه لأمر خارج. تلقي الجلب. أحسنت، كتلقي الجلب للشراء منهم، فإنه إذا اشترى، كان آثما ولكنْ البيع لا يفسد. بارك الله فيك.
هل الأصل في الأشياء العبادات والمعاملات والأعيان والمنافع، الأصل فيها الحِل أو التحريم؟.
س: الأصل فيها الحل. كلها؟ عدا العبادات، ما عدا العبادات تمام. لو تعامل رجلان معاملة، فادعى أحدهما أنها هذه من المعاملات المحرمة، والثاني قال: من المعاملات الحلال. فمن نقبل قوله؟
ج: نقبل القائل بالحل.القائل بالحل حتى يقوم دليل على التحريم. طيب، لو تعبد إنسان بعبادة لله U لو تعبد بعبادة لله فأنكر عليه بعض الناس فقال: إنها عبادة لله أنا أتعبد لله بها، فبمن نأخذ؟ عليه إثبات أنها عبادة. يعني نأخذ بقول من قال: إنها ممنوعة حتى يقوم دليل على أنها مشروعة. هل لديك دليل على القاعدة الثانية: أن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على الشرع.
س: العبادات توقيفية. ما هو الدليل؟
ج: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
أحسنت. في رواية: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "
س: طيب. تنازع رجلان في طائر وجداه فاصطاداه، فقال أحدهما: هو حلال، وقال الثاني: هو حرام، فمن الذي يطالب بالدليل؟
ج: الذي يقول: إنها حرام.
الدليل ما هو الدليل على هذا؟
لأن الأصل التحليل. أي. صدقت، قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فهذا دليل على أن الأصل في كل ما في الأرض أنه لنا حلال.(5/426)
س: طيب اختلف العلماء في الأمر والنهي هل الأصل في الأمر الوجوب، أو الأصل في النهي التحريم؟ أو الأصل في الأمر الاستحباب وفي النهي الكراهة. ما دليل القائلين بأن الأصل في الأمر الوجوب؟
ج: الأصل في الأمر الوجوب.
س: ما هو الدليل؟
ج: حديث الرسول r " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .
س: ما يصلح؟ ما يصلح فقد يقول: فأتوا منه ما استطعتم على سبيل الاستحباب. { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } حذر الله على المخالفين عن أمر الرسول r وهذا يدل على أن الأصل في الأمر الوجوب.
س: بعضهم يقول: الأصل في الأمر الاستحباب حتى يقوم دليل على الوجوب. فما وجهة نظره؟
ج: أن الأصل عدم التكليف، الأصل عدم التأثيم بالترك، فالأمر فيه يقتضي رجحانه وعدم التأثيم بالترك يقتضي أنه ليس بواجب. وبعض العلماء فصل قال: أما ما كان من الآداب فالأمر فيه للاستحباب، وما كان من العبادات فالأمر فيه للوجوب، وكذلك يقال في المفروض والمحرم، ما كان من الآداب فالنهي فيه للكراهة، وما كان من الأعمال التعبدية فالأصل فيه التحريم.
هذا ما لم يدل دليل على خلاف ذلك.
طيب إذا شككنا في الشيء هل هو حلال أو حرام نرجع إلى الأصل. يقول في النظم: فنرجع إلى الأصل في غير العبادات، ونقول: الأصل فيه الحل، ونرجع إلى الأصل في العبادات، ونقول: الأصل فيه التحريم، حتى يقوم دليل على أنه مشروع.
نبدأ الدرس الجديد: قال الناظم:
وكل ما رتب فيه الفضل
من غير أمرٍ فهو ندب يجلو(5/427)
يجلو يعني: يظهر، كل أمر رتب فيه النبي r أو رتب عليه النبي r الفضل ولم يأمر به فهو مندوب، وليس بواجب؛ لأنه ليس فيه أمر بفعل ولا نهي عن تركه، فيكون للاستحباب لرجحانه بأمر النبي r فيه، نعم لرجحانه بترتيب الفضل عليه، مثال ذلك السواك، السواك قال فيه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " هذا الحديث بمجرده يدل على أن السواك سُنة، وليس بواجب، لأن ترتيب الفضل عليه يدل على اختياره وعدم العقوبة على تركه، يدل على أنه ليس بواجب، ثم نقول: هذا الحديث يدل على استحباب السواك دائما، خصوصا مع حاجة الفم إليه للتطهير والتنظيف، وهو كذلك فالسواك مسنون كل وقت إلا في بعض الحالات التي قد يشغل الإنسان عما هو أهم. كما لو أراد أن يستاك حال خطبة الجمعة، فإن الأفضل عدم السواك؛ لأنه يشغله عن سماع الخطبة إلا إذا كان أخذته سِنة أي: نعاس، وأراد أن يتسوك من أجل أن يطرد السِنة عنه، هذا لا بأس به.
ومن ذلك أيضا مما ورد فيه الفضل دون الأمر: صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان فقد ثبت عن النبي r " أن من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر " ولم يأمر النبي r بذلك فيكون هذا دليلا على أن صيام ستة أيام من شوال بعد إكمال رمضان مستحب وليس بواجب، ومن ذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر. المهم أن ما رتب فيه الشرع الفضل، دون أن يأمر به فهو مندوب، وليس بواجب، هذه القاعدة، ثم قال الناظم :
وكل فعل للنبي جُردا
عن أمره فغير واجب بدا
أي ظهر، كل فعل: مبتدأ. وجرد: صفة جملة فعلية صفة لكلمة فعل. فغير واجب بدا: جملة فعلية، خبر المبتدأ، واقترن بالفاء؛ لأن المبتدأَ يشبه الشرط في العموم. وهذه قاعدة مهمة جدا: أن ما فعله النبي r ولم يأمر به، فليس بواجب، وقد عبر العلماء عن هذه القاعدة بقولهم: الفعل المجرد لا يدل على الوجوب.(5/428)
وهذه قاعدة نافعة. لو استدل إنسان على وجوب شيء بفعل النبي r قلنا: لا دلالة في الفعل المجرد على الوجوب. ولذلك أمثلة منها: أن النبي r " كان إذا دخل بيتَه فأولُ شيءٍ يبدأ به السواك " فهذا فعل لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فلا يكون واجبا، يعني لا نقول لكل من دخل بيته: يجب عليك أن تبدأ بالسواك؛ لأنه فعل مجرد، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، ومن ذلك أيضا إجازة النبي r عبدَ الله بنَ عباس حين وقف عن يساره في صلاة الليل مؤتما به فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم-برأسه من ورائه فأداره عن يمينه، فإن هذا فعل مجرد، ولم يرد عن النبي r أنه أمر من صلى على يسار الإمام أن يعود إلى يمين، فيكون الوقوف على يمين الإمام إذا كان المأموم واحدا سنة، وليس بواجب؛ لأنه لم يكن فيه إلا مجرد فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
لكنَّ بعض العلماء اختار أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام واجب، ليس اعتمادا على مجرد إدارة النبي r عبد الله بن عباس، إلى يمينه، ولكن لأنه فعل حصل به حركة في الصلاة، والأصل في الحركة في الصلاة، الأصل أنها مكروهة، وأنه ينبغي الخشوع في الصلاة. وهذا الفعل الذي فعله الرسول -عليه الصلاة والسلام- حصل به حركة من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وحركة من عبد الله بن عباس، وهذا يدل على الوجوب، أي وجوب قيام المأموم الواحد عن يمين الإمام، وأنه لا يقف عن يساره.(5/429)
والمسألة فيها خلاف معروف، ولا شك أن الاحتياط ألا يقف المأموم الواحد عن يسار الإمام، بل يكون عن يمينه، ولكن إذا كانوا اثنين فأكثر مع الإمام، ولم يكن المكان واسعا لتقدم الإمام عليهما ففي هذه الحال يكون الإمام بينهما أحد المأمومين عن يمينه، والثاني عن يساره لا أنهما كلاهما عن يمينه؛ لأن هذا كان هو المشروع في الثلاثة أن يكون الإمام بينهم، ثم نُسخ هذا إلى أن يكون الإمام أمامهم، فإذا تعذر هذا الذي آل الحكم إليه بالنفي رُجع إلى الأصل الذي يكون فيه الإمام بين المأمومَين، لكن هذا عند الحاجة كما أسلفت.
قال الناظم:
وإن يكن مبينا لأمر
فالحكم فيه حكم ذاك الأمر
يعني إن كان فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مبينا لأمرٍ صدر من عند الله أو من عند النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان ذلك الفعل حكمه حكم ذاك الأمر: إن كان الأمر واجبا فالفعل واجب، وإن كان الأمر سُنةً فالفعل سنة، لأنه بيان للأمر.
ثم قال الناظم:
وقدم الأعلى لدى التزاحم
في صالحٍ والعكس في المظالم
هذه أيضا من القواعد الهامة أنه إذا تزاحمت العبادات أو غيرها فإنه يقدم الأعلى في المصالح، والأدنى في المظالم، وفي هذا قال العلماء رحمهم الله: إذا تزاحمت مصلحتان قُدمَ أعلاهما؛ لأنها أولى بالعناية. ومن ذلك، يعني ولهذا أمثلة:
تعارض الأحكام الشرعية:(5/430)
المثال الأول: في المصالح إذا تعارض واجب ومندوب، فإننا نقدم الواجب؛ لأنه أولى بالعناية، وإذا تزاحم مندوب أعلى من مندوب، فإننا نقدم الأعلى. مثال ذلك في الواجب: إنسان ضاق عليه وقت الفريضة، فأراد أن يصلي قبلها نافلة مع ضيق وقت الفريضة، فإننا نقول: قدم الفريضة؛ لأنها أعلى. ومثال آخر: رجل علية صلاة فائتة، ولم يذكرها إلا وقد ضاق وقت الحاضرة عن فعلهما، يعني لا يستطيع أن يأتي بهما جميعا، فإنه يقدم الحاضرة. مثال ذلك: رجل ذكر قبل طلوع الشمس بمقدار صلاة الفجر فقط، ذكر أنه صلى العشاء على غير طهارة. فهنا صارت عليه فريضتان، العشاء والفجر لكن صلاة العشاء قضاءً، لأنه كان خارج وقتها، وصلاة الفجر أداءً لأنه بوقتها فهنا نقول: قدم صلاة الفجر؛ لأنها تقع أداءً، وأما صلاة العشاء فهي قضاء على كل حال، سواء أديتها قبل طلوع الشمس أو بعد طلوع الشمس.
يقول: والعكس في المظالم. يعني إذا تزاحمت المظالم، يعني المفاسد، فإنه يقدم أدناها وأخفها، مثال ذلك: قول الله تبارك وتعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) }
هنا تعارضت مفسدتان: المفسدة الأولى ترك سب آلهة المشركين، والمفسدة الثانية سب الإله U . ومعلوم أن سب الإله U أعظم من ترك سب آلهة المشركين وأشد مفسدة، ولذلك نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين إذا كان سبها يستلزم سب المشركين للإله رب العالمين. إذا كان سبها يستلزم سب المشركين لرب العالمين { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: أصنامهم { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } يعني أنكم إذا سببتم آلهتهم فسوف يسبون إلهكم.(5/431)
فهاتان قاعدتان: القاعدة الأولى؛ إذا تزاحمت العبادات قدم أعلاها. الثانية إذا تزاحمت المحرمات قدم أدناها. ويمكن أن نمثل لهذه القاعدة بمثال آخر، وهو ما ذُكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه مر بقوم من التتار كانوا يشربون الخمر، ولم ينههم عن شرب الخمر، وكان معه صاحب له فقال له أي: لشيخ الإسلام ابن تيمية: لماذا لم تنههم؟!.
قال: لأنهم لو تركوا شرب الخمر، لذهبوا يهتكون أعراض المسلمين، ويغصبون أموالهم، وهذا ظلم متعدٍ، وهو أعظم من الظلم القاصر الحاصل بشرب الخمر. وهذا لا شك أنه من فقه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قدم أخف المفسدتين على أعلاهما.
العمل بأخف الضررين:
ثم قال الناظم:
وادفع خفيف الضررين بالأخف
وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف
هذه القاعدة، تشبه أن تكون تكميلا للقاعدة الأولى. يعني أنه إذا اجتمع ضرران، فإنه يدفع أشد الضررين بأخفهما. ولذلك أمثلة: منها ما حصل من الخضر حين ركب هو وموسى - عليه الصلاة والسلام - السفينة، فخرقها الخضر، ولا شك أن خرق السفينة ضرر، لكن الخضِر أراد أن تسلم السفينة من ملك يأخذ السفن الصالحة التي ليس بها عيب؛ فخرقها ضررٌ، ولكنَّ أخذها أشد ضررا منه. والسفينة إذا بقيت وفيها ضرر فهو أهون { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } وهذه قاعدة مهمة ينبغي للإنسان أن يعتني بها.
ومثال آخر: لو أن أحدا صال على نفسك فإنك تدافع عنها لا شك، لكن هل تلجأ إلى القتل مباشرة، أو تدافعه بالأسهل فالأسهل، معلوم أنك تدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل فلك أن تقتله؛ لأنه صائل ليس له حرمة، لكن دافعه بالأسهل فالأسهل، قال أهل العلم: إلا إذا خفت أن يبادرك بالقتل لو دافعته بالأسهل فالأسهل فهنا لك أن تقتله لكن لا تستعجل حتى ترى منه قرائن قوية، تدل على أنه سيبادرك بالقتل إن لم تقتله.(5/432)
ومن ذلك أيضا ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- فيما لو تعطلت مصالح الوقف فباع بعضه، لإصلاح باقيه على وجهٍ يمكن الانتفاع به، فإن هذا جائز أيضا؛ لأن المحافظة على باقيه خيرٌ من تعرضه كله للتلف وعدم الفائدة منه.
قال: "وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف"، يعني إذا اجتمع شيئان أحدهما أفضل من الآخر فخذ بالعالي في الفضل ولا تخف؛ لأن العالي في الفضل فيه زيادة على ما دونه وزيادة الفضل أمر مطلوب.
ويمكن أن نمثل لذلك برجلٍ خاف خروج وقت الظهر، وكان لم يصلِّ الراتبة، راتبة الظهر التي بعدها، فأراد أن يتطوع بنفلٍ مطلق، لكنه يقول: إن تطوعتُ بالنفل المطلق خرج الوقت عن صلاة الراتبة، فهل أقدم صلاة الراتبة، أو النفل المطلق؟ نقول: قدم صلاة الراتبة؛ لأن صلاة الراتبة نفلٌ مقيد تابع للمكتوبات فهو أفضل من النفل المطلق.
وكذلك لو تعارض و(3) عيني وواجب كفائي، فإنك تقدم الواجب العيني على فرض الكفاية؛ لأنه أعلى منه، والناظم يقول: "وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف".
ثم قال الناظم:
وإن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
فقدمَن تغليبا الذي منع(5/433)
يعني إذا اجتمع موجب المنع مع موجب الإباحة، فأيهما نقدم؟ نقول: قدم موجب المنع؛ لأنه لا يتأتى اجتناب الممنوع إلا بترك المباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذه قاعدة دل عليها القرآن قال الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأربعة : الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وعلل اجتناب الخمر والميسر في آية أخرى بأن فيهما إثما كبيرا ومنافع للناس، فقال U { * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فلما غلب جانب التحريم صار الحكم هو التحريم.
ومثل ذلك لو اشتبه شاة مذكاة بشاة غير مذكاة، فإنه يجب اجتناب الجميع؛ لأنه لا يمكن اجتناب الشاة غير المذكاة إلا باجتناب الشاة المذكاة، فيغلب جانب المنع. يقول:
إن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
فقدمَن تغليبا الذي منع
ومن ذلك ما ذكره بعض الفقهاء -رحمهم الله- أن الإنسان لو لبس خفيه وهو مقيم، ومسح عليهما، ثم سافر، فإنه يتم مسح مقيم، لا مسح مسافر؛ لأنه حين سافر اجتمع في حقه مبيح وحاظر، يعني بعد تمام مدة مسح المقيم سوف يجتمع في حقه مبيح وحاظر، مبيح يبيح له الاستمرار حتى يتم له ثلاثة أيام بلياليها، وهو السفر، وحاظر وهو الإقامة التي لا يباح له فيها إلا مسح يوم وليلة، قالوا فيغلب جانب الحظر. وهو أن يتم مسح مقيم، وهذه المسألة فيها خلاف: فمنهم من يرى ذلك أي أنه إذا مسح على خفيه في الحضر، ثم سافر قبل تمام المدة، فإنه يتم مسح مقيم.
ومن العلماء من يقول: يتم مسح مسافر اعتبارا بالنهاية. والمسألة فيها خلاف في مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
يقول:
إن يجتمع مع مبيح ما منع
فقدمن تغليبا الذي منع(5/434)
وفي قول الناظم: "تغليبا" إشارة إلى أن هذا الحكم من باب التغليب. والتغليب: طريق شرعي دلت عليه الأدلة الشرعية.
إن يجتمع مع مبيح ما منع
فقدمن تغليبا الذي منع
الحكم يدور مع علته:
قال الناظم:
وكل حكم فلعلة تبِع
إنْ وجدت يوجد وإلا يمتنع
هذه أيضا من القواعد المهمة المفيدة، أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. وهذه قاعدة دلَّ عليها الدليل السمعي، دليلها قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث؛ من أجل أن ذلك يُحزنه " .
فهنا حكم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بتحريم التناجي بين اثنين ومعهما ثالث لا يشاركهما في التناجي، علل ذلك بأنه يحزنه. فنستفيد من هذه العلة أنه لو كان لا يحزنه، بل عذرهما بالتناجي بينهما، فإن ذلك لا نهي فيه، وكذلك يفهم منه أنه لو كان يحزن بغير المناجاة إذا كان الاثنان يتكلمان بلغة لا يفهمها ويحزنه ذلك، فإنهما منهيان عن التخاطب بهذه اللغة. كما لو كان ثلاثة اثنان منهما يجيدان اللغة الإنجليزية والثالث لا يجيدها، فجعل الاثنان يتناجيان باللغة الإنجليزية فهذا لا شك أنه يحزنه في الغالب، فنقول: لا يحل لهما أن يتناجيا باللغة الإنجليزية مع ثالث لا يعرفها لما في ذلك من إحزانه وكسر قلبه.
ومن ذلك أيضا أن النبي r حرم الخمر فقال: " كل مسكر خمر " فعلل التحريم، أو علل ثبوت الخمر بكونه مسكرا، فدل هذا على أن كل ما أسكر فهو خمر؛ سواء كان من عصير العنب أو من الشعير أو من التمر أو من الزبيب أو من غيرها، فإنه إذا وجد فيه الإسكار صار خمرا حراما. لماذا؟ لأن الحكم يتبع العلة؛ إن وجدت يوجد وإلا يمتنع.
قال الناظم:
وألغ كل سابق لسببه
مع شرطه فادر الفروق وانتبه
الأسباب والشروط في الأحكام الشرعية:(5/435)
الأشياء لها أسباب ولها شروط، فتقديمها على أسبابها لائق، وتقديمها على شروطها ليس بلائق. ولذلك أمثلة كثيرة منها اليمين، إذا حلف الإنسان ألا يدخل بيت فلان فرأى من المصلحة دخوله، وأراد أن يدخله، فلا حرج. لكن لو قدم الكفارة على دخول البيت لكان ذلك جائزا؛ لأن سبب الكفارة موجود وهو اليمين، لكنَّ شرط وجود الكفارة وهو الحنث لم يوجد، فإن أخر الكفارة حتى دخل البيت فهذا يكون قد أدى العبادة بعد وجود سببها وشرطها ولا إشكال.
ولو أراد أن يكفر قبل أن يحلف فإن ذلك لا يجزئه؛ لأنه تقديم للشيء قبل وجود سببه. ومن ذلك أيضا لو أن الإنسان أحرم بحج أو عمرة، فخاف أن يحتاج إلى حلق رأسه لأذىً فيه، ثم قدم الفدية قبل وجود الأذى، فإن ذلك لا يجزئه؛ لأنه لم يوجد سبب الوجوب. ولو أنه وجد الأذى، وقدم الفدية قبل حلق الرأس، جاز لوجود السبب، وإن كان لم يوجد الشرط، وإن فدى بعد أن حلق رأسه، فهذا قد حصل أو قد أدى العبادة، بعد وجود السبب والشرط.
ولها أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات، ونظرا لانتهاء وقت الإلقاء نقتصر على هذه القاعدة، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في العمل، والثبات على الصلاح، وإلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى في يوم الاثنين.
أما الآن فإلى الأسئلة، ونرجح أن تكون الأسئلة في صميم الموضوع.
س: نعم: أحسن الله إليك يا شيخ، هذا يقول: حفظك الله أشكل عليَّ في فهم قولك:
وإن يقع في الحكم شك فارجعِ
للأصل في النوعين ثم اتبع
مع قول النبي r " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه؟ "(5/436)
ج: يعني معناه إذا أي معنى قولنا: إن يقع في الأصل شك، أننا إذا شككنا في هذا الشيء هل هو حلال أو حرام، فإن كان من العبادات وجب استثناؤه، يعني شككنا هل هذه عبادة مشروعة أو لا، فيجب علينا أن نتجنبها، وإن طابت نفوسنا بها، وركنت إليها نفوسنا؛ لأن الأصل في العبادات الحظر، أما الثاني وهو أنه إذا اشتبه الأمر هل هذا حلال، أو هذا حرام فإننا نأخذ بالأصل. في المعاملات مثلا: شككنا هل هذا حلال أو حرام فإننا نأخذ بالحل، شككنا في هذا الحيوان هل هو من الحلال أو الحرام، نأخذ بالحل، لكن إذا وجد الشبهات، الشبهات بمعنى أن نشتبه بالحكم.
أما قضيتنا فالحكم معلوم، أنه يرجع للأصل في الأمور؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، كقوله تبارك وتعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أصل عظيم يقتضي أن جميع ما في الأرض حل لنا. فإذا اشتبهنا هل هذا مما حرمه الله أو لا؟ رجعنا للأصل وهو الحل، إلا أن يوجد راء يرجح أنه من المحرمات فحينئذ يكون من المشتبهات ونقول:إن من التقوى ترك المشتبهات.
س: نعم، وهذا يقول: حفظك الله يا شيخ، يقول: نريد مثالا على إذا ما تعارض مندوب مع مندوب؟.
ج: ذكرنا هذا فيما إذا تعارض نفل مطلق مع الراتبة، إنسان مثلا بقي على دخول وقت العصر مقدار ركعتين فقط، وهو لم يصلِّ راتبة الظهر، فهنا لو قال: هل أقوم وأتنفل نفلا مطلقا أو أصلي الراتبة؟ قلنا: صلِّ الراتبة؛ لأن الرواتب أفضل من النفل المطلق، وكذلك أيضا لو تعارض طلب علم مع قيام ليل فإن طلب العلم أفضل، إذا لم يمكن طلب العلم في وقت آخر.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، إذا كان الفعل المجرد لا يدل على الوجوب فعلى ماذا يدل؟.(5/437)
ج: الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لكنْ أفعال الرسول -عليه الصلاة والسلام- أقسام: الأول؛ ما كان بمقتضى الجِبلة والطبيعة، فهذا لا حكم له مثل الأكل والشرب والنوم، فكون الإنسان ينام هذا أمر طبيعي، كون الإنسان يأكل هذا أمر طبيعي؛ ولهذا نقول: إن هذا لا حكم له، لكن قد يكون هذا الشيء على صفةٍ معينة، مندوبا كالنوم على الجنب الأيمن مثلا، فإن هذا مندوب، وكالأكل في السحر من أجل الصوم، فهذا مندوب، وكالأكل عند الحاجة إليه، فهذا مندوب، فإن خاف الضرر بعدم الأكل فهو واجب، وإن خاف الضرر بالأكل فهو محرم، ولو كان الأصل فيه الإباحة، ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: إن الأطعمة المباحة، إذا خاف الإنسان منها الضرر صارت حراما.
ويمكن أن نضرب مثلا بذلك برجلٍ مصاب بمرض السكري فقال له الأطباء: إن أكلك الحلو يضر بك، فهنا نقول لهذا الرجل: إن أكلك الحلو حرام عليك، لأنه يؤدي إلى الضرر، والله تعالى إنما حرم الأشياء على عباده من أجل الضرر بها، إما في الأصل أو في الدين، أو في الجسم أو في العرض أو في المال. نعم، هذا واحد.(5/438)
الثاني: ما فعله النبي r على سبيل العادة؛ فهذا يكون الأصل فيه العادة، أي أن يفعل الإنسان ما اعتاده الناس، من ذلك لبس العمامة، لبس الإزار والرداء؛ كان النبي r يعتم، وكان يلبس الإزار والرداء، لكنه يفعل ذلك على سبيل العادة، يعني الناس يعتادون ذلك في عهده. فهذا حكمه أن يتبع الإنسان فيه عادة بلده، ما لم تكن محرمة؛ وذلك لأن الإنسان لو لبس خلاف العادة لكان لباسه ذلك شهرة، ولباس الشهرة منهي عنه، إلا إذا كانت العادة من المحرم فهو حرام، فلو اعتاد الناس مثلا أن يلبسوا ثيابا يجرونها، أو ينزلونها إلى أسفل من الكعبين فإن هذه العادة محرمة، ولا يجوز للإنسان أن يتابع الناس فيها، وكذلك لو اعتاد الناس أن يلبس الرجال ثياب الحرير، فإن هذه العادة محرمة، ولا يجوز للإنسان أن يتابع الناس فيها، أما ما اعتاده الناس، وهو من الأمور المباحة، فإن السنة أن يتبع الإنسان فيه العادة، فمثلا لباس الرسول -عليه الصلاة والسلام- العمامة والإزار والرداء مكفول على سبيل العادة، فلا يكون مطلوبا بعينه، وإنما يكون مطلوبا بجنسه، والمطلوب هو موافقة ما اعتاده الناس.
الثالث: ما فعله بيانا لمجمل، كالصلاة مثلا فإن الله تعالى قال: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وهذا أمر مجمل لا يتبين كيف الإقامة إلا بقول النبي r أو فعله، أو بالقرآن الكريم إن كان. فصلاة النبي r أو فجميع ما فعله الرسول - عليه الصلاة والسلام - في صلاته فإنه من إقامة الصلاة المأمور بها.
فما فعله النبي r بيانا لمجمل، فله حكم ذلك المجمل، إن كان واجبا فواجب، وإن كان سُنةً فسنة ما لم يدل دليل على أن ذلك للسنة وليس للوجوب.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هناك قاعدة فقهية تقول: إن الصلاة الحاضرة تبطل بذكر الفائتة " فهل هذه القاعدة صحيحة؟.(5/439)
ج: لا ليست هذه القاعدة صحيحة. بل في ذلك تفصيل الصلاة الحاضرة إذا ضاق وقتها فهي مقدمة على الصلاة المقضية، كما ذكرنا في المثال عند شرح النظم. وأما إذا كانت الحاضرة قد اتسع وقتها، ثم ذكر الفائتة بعد أن شرع في الحاضرة، فهذا موضع نظر. فمن الناس من يقول أي من العلماء من يقول: إنه يقطع الحاضرة، ويقضي الفائتة، ومنهم من يقول: إنه لا يقطعها؛ لأنه شرع فيها على وجهٍ مأذونٍ فيه، فلا يخرج منها حتى يؤديها. فتبين بهذا أن هذه القاعدة ليست على وجه الإطلاق. وعلى وجه التفصيل فيها خلاف.
س: نعم، وهذا يقول فضيلة الشيخ، وقف تعطلت منفعته، فهل يجوز إدخاله في مسجد مجاور له؟.
ج: نعم، إذا تعطلت منافع الوقف، كبيت انهدم، وأراد الناظر أن يدخله في مسجد فلا بأس؛ لأن المسجد من أفضل الأعمال المقربة إلى الله U لكن إن كان الوقف على أناسٍ مخصوصين كالوقف على الذرية، فإنه لا يدخله في المسجد إلا بأخذ عوضٍ عنه يُشترى به بدله، أي يشترى به وقف بدل الوقف الأول؛ لأن الوقف على الخاص من حق الخاص، وليس من حق الخاص الحاضر أيضا، بل هو حق له ولمن يأتي بعده، فالوقف على الذرية لو تعطل المنافع وقال الذرية: موافقون نحن نأذن بإدخاله في المسجد قلنا: لا إذن لكم؛ لأنكم لم تملكوه، الوقف لكم ولمن بعدكم، فلا يدخل المسجد إلا بعوض، للموقوف عليهم؛ لأنهم معذورون.(5/440)
أما إذا كان وقفا على الفقراء أو كان وقفا فيه أضحية أو ما أشبه ذلك، وليس وقفا على أناس معينين، فإنه لا بأس أن يدخل المسجد؛ لأن المسجد من أفضل الأعمال. وبهذه المناسبة أنصح إخواننا الذين لديهم أملاك يريدون أن يوقفوها أن يوقفوها على جهات عامة. مثلا يوقفوها على جماعة تحفيظ القرآن أي على الحلق التي توجد في المساجد أو على المساجد المهم على جهة عامة؛ لأن ذلك أقرب إلى حصول المقصود وأبعد عن التنازع الذي يقع بين مستحق الوقف، كما هو مشاهد فإن من الأقارب من جرى بينهم التقاطع من أجل أوقاف كانت بينهم، وكان موقفوها لم يريدوا إلا الخير، لكن نظرا لغلبة الشُح وقلة الوازع الديني صار الأقارب يتنازعون، ويتعادون ويتباغضون من أجل لعاعة من العيش يأخذونها من وراء هذا الوقف.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، كتب وضعت وقفا في مكتبة مسجد من المساجد، ثم جاء أمر من المسئولين بإخراج هذه الكتب فما هو العمل؟.
ج: العمل، أن تجعل في مساجد أخرى ليس فيها مانع. فإن كان المنع عاما في جميع المساجد، فتجعل في المكاتب الخيرية التي يرتادها طلبة العلم، ويحصل بذلك المقصود، فإن تعذر ذلك أيضا، فإنها تباع وتجعل في كتب مأذونٍ فيها.
س: نعم، وهذا يقول: ما الحكم في من استمنى بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني؟.(5/441)
ج: الجواب على وجهين: الوجه الأول؛ حكم الاستمناء، فالاستمناء محرم لقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) } ولقول النبي r " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " فأرشد النبي r الشاب الذي له شهوة ولم يجد الباءة أن يصوم، ولم يذكر له الاستمناء، ومن المعلوم أن الصوم أشق من الاستمناء، وأن الاستمناء يحصل به من التمتع والتلذذ ما لا يحصل بالصوم، ولم يرشد النبي r إليه، مع سهولته والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا يعدل عن شيءٍ مباح فيه اليسر على المُكلف، إلى شيءٍ أشق منه أبدا، فلولا أن الاستمناء حرام ما عدل النبي r عنه إلى الصوم.
أما الوجه الثاني: فنقول: إن الإنسان إذا تحلل التحلل الأول، حلَّ له كل شيءٍ إلا النساء. وعلى هذا قال العلماء -رحمهم الله- بل قال بعض العلماء -رحمهم الله-: إن كل ما يتعلق بالنساء من عقد نكاحٍ أو تلذذٍ أو قبلةٍ أو ما أشبه ذلك فهو داخل في التحريم، ثم إن العلماء يقولون -رحمهم الله-: كل ما كان حراما من مباشرة دون الفرج فإن فيه فدية وهي: إما صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو نصف شاة يفرقها على الفقراء في مكة، أو في المكان الذي فعل فيه المحظور.
س: نعم، وهذه تقول ما حكم استقدام خادمة بدون محرمٍ لامرأةٍ ناشطةٍ في الدعوة إلى الله، وحصل هذا من كثير من بنات جنسها، ولها دروس وتدريس للقرآن، علما بأنها في منطقةٍ يقل فيها الداعيات للخير، ولا تستطيع استقدام هذه الخادمة مع محرمها فما هو العمل، وفقكم الله؟.(5/442)
ج: الذي أرى أنه لا يجوز استقدام خادمة بلا محرم، لعموم النهي " لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " ولحصول المفاسد التي نسمعها إذا لم يكن مع المرأة محرم، ولا سيما في من عنده شباب غير متزوجين، فإن الأمر خطير جدا، ولكن من الممكن أن تحضر محرمها، وأن تجعله يعمل بنفسه مدة إقامته هنا ويحصل المقصود.
س: نعم، هذا آخر سؤال؛ لأنه انتهى الوقت، هذا الآتي يا شيخ، هذا يقول: لي أخت تضع العباءة على الكتف، وتلبس البنطلون، وقد نصحتها، ولكنها لم تنتصح، وأنا أوصلها بعض الأسواق وبيوت الأقارب؛ وذلك لأن أمي تطلب مني ذلك، فهل لي أن أعصي أمي؟.
ج: نعم، الواجب أن تديم النصيحة، وأن تحذرها من ذلك، أي من لبس البنطلون، لأن البنطلون من خصائص الرجال، وإذا فتح الباب للنساء فإنهن سوف يتوسعن في ذلك، ويحصل بذلك من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله.
وإذا دعتك أن تذهب بها إلى السوق، فقل لها: ليس عندي بأس إذا كان هناك حاجة، ولكن اخرجي على وجه ليس فيه فتنة، اخرجي بالثياب العادية دون أن تلبسي ما لا يليق بالمرأة.
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، نعم، أحسن الله إليك يا شيخ.
الأمور الشرعية لا تتم إلا بتوافر أسبابها وشرطها
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد قال الناظم، حفظه الله تعالى ورفع درجته في المهديين:
والشيء لا يتم إلا أن تتم
والظن في العبادة المعتبر
لكن إذا تبين الظن خطأ
كرجلٍ صلى قبيل الوقت
والشك بعد الفعل لا يؤثر
أو تكُ وهما مثل وسواس فدع
ثم حديث النفس معفو فلا
شروطه ومانع منه عُدم
ونفس الأمر في العقود اعتبروا
فأبرئ الذمة صحح الخطأ
فليعد الصلاة بعد الوقت
وهكذا إذا الشكوك تكثر
لكل وسواس يجي به لكع
حكم له ما لم يؤثر عملا
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(5/443)
أما بعد: فهذا هو الدرس الخامس الذي يتم بالدورة العلمية التي أقيمت بمسجد ابن تيمية -رحمه الله-، في مدينة الرياض، في حي سلطانة، والذي يتم في يوم السبت والاثنين والأربعاء، وهذا هو يوم الاثنين السابع من شهر ربيع الأول عام سبعة عشر وأربعمائة وألف، ولكننا نبدأ بمناقشة الطلبة قبل أن نشرع في الشرح:
س: سبق لنا قاعدة: وهي أن الأصل في الأمر والنهي الحتمية، أي أن الأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم، إلا إذا دل دليل على أن الأمر للندب، أو أن النهي للكراهة أو لغير ذلك من القرائن، وبينا خلاف العلماء في ذلك، وهذا لا مناقشة فيه؛ لأنه في الدرس قبل الماضي، لكن ذكرنا في الدرس الماضي أن ما ورد فيه الفضل بدون أمر فهو مندوب، وليس بواجب إذا لم يكن فيه إلا مجرد ترتيب الفضل، فنطلب من أحد التلاميذ أن يضرب لنا مثلا، أو مثلين: نعم، من يجيب؟ مثل السواك، وصيام ستة أيام من شوال. ما هو الفضل الذي رُتب في السواك؟
ج: قول الرسول r " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " نعم.
وصيام، ثلاثة أيام من كل شهر،الصيام من كل شهر أخبر الرسول r " من صام رمضان وأتبعه بست من… " لا ،ثلاثة أيام من كل شهر الوصية لأبي هريرة، حينما قال له: ثلاث أوصاني خليلي بها، ذكر منها صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
المثال المحرر، هو أن الرسول r قال: " صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كله " .
س: طيب إذا ورد عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - فعل مجرد عن الأمر، فهل يكون للوجوب أو يكون للاستحباب، وقد فعله على سبيل التعبد؟.
ج: يكون على وجه الاستحباب.على وجه الاستحباب. أتستطيع أن تضرب لنا مثلا بذلك، كان r إذا دخل بيته أول ما يبدأ به السواك. نعم. وعلى هذا فيسن للإنسان إذا دخل بيته، أن يبدأ بالسواك ولا يجب.بارك الله فيك. نريد مثالا آخر؟ أوصى النبي r بصوم ستة أيام من شهر شوال.(5/444)
س: نريد مثالا آخر وقع فيه الفعل المجرد من رسول الله r دون النهي أو الأمر؟
ج: عندما قام من الليل وحول ابن عباس عن يساره إلى يمينه. نعم، بدون نهي عن الوقوف عن يساره،يكون هذا الفعل؟ يكون سنة. هذا الفعل أيش؟ للندب. نعم.
س: يقول الناظم:
كل حكم فلعلةٍ تَبِع
إن وجدت يوجد وإلا يمتنع
نريد دليلا على ذلك يعني أمثلة على ذلك؟.
ج: يا شيخ مثلا إذا كانوا ثلاثة يتناجون يعني إذا كان اثنان يتناجيان دون الآخر، الثالث، فإذا لم يوجد هذا الشخص الثالث زال الحكم.
المثال صحيح وتوجيه المثال غير صحيح، إذا كان يوجد يعني ثلاثة فقط نهى الرسول نعم نهى الرسول r أن يتناجى اثنان دون الثالث، من أجل أن ذلك يحزنه. يحزن الثالث بناءً على ذلك إذا كان لا يحزنه سقط الحكم، فلا نهي.
ومثله أيضا الإسكار هو علة التحريم للخمر، فمتى وجد الإسكار حرم، ومتى لم يوجد لم يحرم.
س: نعم، طيب نريد مثالا للقاعدة في دفع أشد الضررين بأخفهما؟.
ج: مثل، يا شيخ مدافعة الصائل. أي نعم، بالأسهل فالأسهل، يعني إذا اندفع بالضرب الخفيف، لا يُضرب ثقيلا وإذا اندفع بالوعيد لا يضرب. كذا؟ أي نعم.
س: مثال آخر؟
ج: القرآن، في قصة الخضر مع موسى عليه السلام. نعم.
س: كيف هي؟
ج: أنه خرق السفينة، فلو بقيت صالحة لأخذها الملك الظالم. بارك الله فيك، لأن خرق السفينة ضرر. لكنه فعله لدرء ضرر أشد منه.
س: واضح؟ طيب، هل يجوز تقديم الشيء على سببه؟
ج: لا يجوز. لا يجوز، طيب.
س: هل يجوز تقديمه على شرطه؟ نعم.
ج: مثال الأول: حلف لا يدخل بيت صديق له، ثم كفر قبل أن يحلف، فلا يجزئه. نعم.
أما قبل شرطه حلف، ثم قبل أن يدخل، كفر. الكفارة هذه يعني بعد وجود السبب وقبل وجود الشرط.
س: طيب، مثال آخر؟(5/445)
ج: مثل يا شيخ، الذي يوجد في رأسه أذى في الحج، نعم فإنه لا يفعل الفدية إلا إذا وجد الأذى. نعم، أحسنت. يعني لو كان متوقعا أنه يكون فيه أذى ففدى، فلا يجزئ حتى يتيقن من الأذى. فإذا تيقن الأذى جاز أن يفدي وإن لم يحدث. ومثل ذلك لو أن إنسانا يعرف أن فيه أذى، ولكنه قدم الفدية على الإحرام، يعني قبل أن يحرم فدى، فإنه لا يجوز تقديمها هنا لعدم وجود السبب المانع من حلق الرأس، وهو الإحرام، واضح.
هذا المثال الأخير لم نذكره فيما سبق، لكنه ينطبق على القاعدة.
إذا تعارض فعل وتر ونفل مطلق، كأن لم يبقَ على الفجر سوى جزءٍ يسير لا يمكن أن يصلي فيه نافلة ووترا، فأيهما يقدم، الوتر أو النفل المطلق؟
ج: يقدم الوتر يا شيخ.
س: لماذا؟
ج: لأنها أوجب يا شيخ.
أعلى، أعلى مرتبة من النفل المطلق، القاعدة التي تشير إلى هذا؟
ج: أنه إذا وجد فاضلان يُقدم الأفضل منهما الأعلى، لفظ القاعدة:
وقدم الأعلى لدى التزاحم
في صالحٍ والعكس في المظالمِ
ولهذا فإني أختار: أننا نطالب الإخوة بحفظ المنظومة.
س: شيخ والجوائز عليك، الجوائز علينا؟
ج: إي جوائز المسابقة عليكم، على كل حال، حفظها مهم. إن وضعنا جوائز فهي علينا، يا شيخ إن شاء الله تعمل جوائز وتسلمها أنت إذا حضرت إن شاء الله .
طيب نبدأ الآن الدرس الجديد: القاعدة يقول:
والشيء لا يتم إلا أن تتم
شروطه ومانع منه عُدم
كلمة الشيء تعني: كل شيء في العبادات وفي المعاملات، في الأحكام الشرعية في الأحكام الجزائية، لا تتم الأمور حتى توجد أسبابها وشروطها، وتنتفي موانعها، وهذه القاعدة قاعدة مهمة مفيدة تنحل فيها إشكالات كثيرة، كما سيتبين إن شاء الله في التمثيل، وهذه القاعدة معلومة من التتبع، بل من النصوص أيضا. قال الله تبارك وتعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) }(5/446)
هذا وجود الشرط { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } وهذا انتفاء المانع. مثال ذلك في العبادات: أنه لو فعل عبادة مع فقد أحد شروطها فإن هذا... كرجلٍ صلى بغير وضوء ناسيا، ثم تبين له بعد ذلك أنه صلى بغير وضوء، فصلاته لا تصح، لماذا؟ لفوات شرط وهو الوضوء لقول النبي r " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث، حتى يتوضأ " .
ومثال وجود المانع، مع تمام الشروط أن يصلي الإنسان في وقت النهي صلاة لا تباح فيه، كالنفل المطلق؛ رجل جالس في المسجد يقرأ بعد صلاة العصر، ثم طرأ عليه أن يتطوع بالصلاة، فقام يصلي فهذه الصلاة لا تصح، لوجود مانع من قبولها، وهو أنها كانت في وقت النهي.
مثال ذلك في المعاملات: رجل باع بيعا بثمن مجهول فالبيع غير صحيح، لانتفاء شرط من شروطه، وهو أن يكون الثمن معلوما، وقد دلَّ على هذا الشرط قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بل قول أبي هريرة t نهى النبي r عن بيع الغرر.
ومثال البيع الذي تمت شروطه مع وجود المانع، لو باع إنسان شيئا بعد نداء الجمعة الثاني، وهو ممن تجب عليه الجمعة، وباعه بيعا تام الشروط، فإنه ذاك البيع؛ وذلك لوجود المانع من صحته، وهو وقوعه بعد نداء الجمعة الثاني، ممن تجب عليه الجمعة لقول الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) }(5/447)
هذه أربعة أمثلة اثنان في العبادات، واثنان في المعاملات، أما في الأحكام الجزائية، فهناك نصوص في الوعيد عامة، تدل على وعيدٍ لا يحصل إلا للكافر: مثل قول الله -تبارك وتعالى- في قتل العمد: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } فالقتل عمدا سبب لثبوت الخلود في النار، لكنْ هذا السبب، له مانع من نفوذه وهو الإيمان، فإن الإيمان -وإن قلَّ- يمنع من الخلود في النار، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " لا يدخل الجنة نمام " فنفي دخول الجنة هنا عام أن النمام لا يدخل الجنة فإذا لم يدخل الجنة فليس له مآل إلا النار، ولكن نقول: هذا الحكم، أو هذا السبب من دخول النار وانتفاء دخول الحنة له مانع وهو الإيمان.
وقِسْ على هذا، يعني الأشياء لا تتم، إلا بموجب شروطها، وانتفاء موانعها، ولك أن تمثل أيضا بالولد يرث أباه؛ فإنه إذا مات إنسان عن ولد، ذكرٍ أو أنثى كان هذا الولد وارثا له. لقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } لكن لو كان الولد مخالفا لأبيه في الدين، فإنه لا يرثه، لوجود المانع وهو المخالفة في الدين، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر " .
هذه القاعدة قاعدة مهمة، أن الشيءَ لا يتم إلا إذا تمت شروطه، وانتفت موانعه.
مثال آخر: امرأة تزوجت بدون وليّ، النكاح غير صحيح؛ لأن من شرط صحة النكاح أن يكون بوليّ، ولو تزوجت زواجا بولي، قد تمت فيه الشروط لكنها في العدة، فإن النكاح لا يصح لوجود المانع.
اعتبار الظن في العبادة:
ثم قال الناظم:
والظن في العبادة المعتبر
ونفس الأمر في العقود اعتبروا(5/448)
هذه القاعدة بل هاتان القاعدتان عبر عنهما العلماء بقولهم: العبرة في العبادات بما في ظن المكلف، والعبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
وجه ذلك أن العبادات حق لله تعالى، فاكتفي فيها بالظن، لأنه هو المستطاع. وأما المعاملات فهي حق للآدمي فلا بد من موافقة التصرف لما في نفس الأمر.
مثال ذلك في العبادات: رجل صلى فلما كان في التشهد الأخير، شك هل صلى ثلاثا أم أربعا ، وغلب على ظنه أنه أربعا. فنقول: اكتفِ بهذا الظن واجعلها أربعا، واسجد سجدتين بعد السلام.
مثال ثان: رجل يطوف بالبيت، فشك هل طاف ستا أم سبعا، وغلب على ظنه أنها سبعة أشواط، فليجعلها سبعة؛ لأن هذا هو الظن والعبادات مبناها على الظن، ويدل لهذا، الحديث الذي رواه عبدُ الله بن مسعود أن النبي r قال: " إذا شك أحدكم فليتحرَّ الصواب ثم ليبنِ عليه " .
مثال آخر: صائم ظن غروب الشمس فأفطر، ثم تبين بعد ذلك أن الشمس لم تغرب فصومه صحيح، لكن عليه إمساك حين أن يعلم أن النهار باق حتى تغرب الشمس حقيقة، ودليل صحة ذلك ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهما- قالت: " أفطرنا يعني في عهد النبي r في يوم غيم ثم طلعت الشمس.. " .
ودليل صحة ذلك ما رواه البخاري، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: " أفطرنا في عهد النبي r في يوم غيم، ثم طلعت الشمس " ولم يأمرهم النبي r بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به، ولو أمرهم به لنقل إلينا؛ لأنه إذا أمرهم به صار من شريعة الله، وشريعة الله محفوظة.
ومثال ذلك: رجل أعطى زكاته لشخص يظن أنه من أهل الزكاة، تبين أنه ليس من أهل الزكاة، فزكاته مقبولة، ومبرئة للذمة؛ لأنه بنى على غالب ظنه.(5/449)
ويدل لهذا قصة الرجل الذي تحدث عنه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: " لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله على سارق. لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد بغي -أي زانية-، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: الحمد لله على زانية. لأتصدقن الليلة، فتصدق فوقعت صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فقال: الحمد لله على سارق وزانية وغني. فقيل له: إن صدقتك قد قبلت، أما السارق فلعله يستعف ويستغني بما أعطيته عن السرقة، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فيتصدق " .
فهذا الرجل وقعت الصدقة في غير ما يريد، لكنه ظن أنه الذي يريده، وهو أنه فقير عفيف ورِع، فوقعت الصدقة في غير هؤلاء، لكنه قيل له: إنها قد قبلت؛ لأن هذا كان الذي أداه إليه اجتهاده.
أما في المعاملات فالعبرة بما في نفس الأمر + للمكلف، وإن كان يحرم على المكلف أن يتصرف فيما لا يظن أن له حق التصرف فيه.
مثَّل العلماء لذلك: برجل باع سيارة لزيد، وهذا البائع هو وارث لزيد، لكنه لم يعلم بموته إلا بعد أن باع السيارة، وكان قد مات قبل بيعها، قال العلماء -رحمهم الله-: البيع هنا صحيح؛ لأن العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
ومثل ذلك: رجل باع مالا لشخص، وكان صاحب المال قد وكله في البيع، لكنه لم يعلم بالوكالة حتى باع، فهنا نقول: إن البيع صحيح؛ لأنه وقع ممن يقوم مقام المالك وهو الوكيل، وإن كان حين البيع لم يعلم بالوكالة، ثم قال الناظم مستدركا على ما مضى:
لكن إذا تبين الظـ ن خطا
فابرئ الذمة صحح الخطا
إذا تبينت المعاملات التي أتى فيها بما غلب على ظنه أنه أخطأ فإنه يجب عليه إبراء الذمة لتصحيح الخطأ، وهذا في العبادات، لكن لا يلزم منه أن يأتي إلا بما يمكن تلافيه وتداركه.(5/450)
مثال ذلك: رجل صلى يظن أنه على وضوء، ثم تبين بعد سلامه أنه ليس على وضوء، فهنا نقول: يجب عليك أن تتوضأ وتعيد الصلاة.
ومثال آخر: رجل صلى أربعا، غلب على ظنه أنه صلى أربعا، وبعد السلام تبين له أنه صلى ثلاثا، فيجب عليه في هذه الحال أن يتمم الأربع، فيأتي بركعة إن كان الوقت قصيرا، يأتي بركعة لتكون صلاته أربعا؛ لأنه علم أن صلاته وقعت خطأ.
مثال ثالث: رجل ظن أنه أخرج زكاة ماله، فلم يخرجها ظنا منه أنه قد أخرجها، فبنى على هذا الظن، ولم يحص ماله، ولم يؤد الزكاة، ثم تبين له بعد ذلك أنه لم يزكِ، فهنا يجب عليه أن يحصي ماله الزكوي، وأن يزكي؛ لأنه تبين أن ظنه الأول ليس بصحيح، فوجب أن يأتي بالفعل الصحيح.
إذن إذا تبين الخطأ في العبادات التي عمل فيها بغالب ظنه، فإنه يجب عليه أن يتلافى الخطأ، وأن يتداركه إذا كان مما يمكن تداركه، ثم ضرب الناظم مثالا نعتبره المثال الرابع قال:
كرجل صلى قُبيل الوقت
فليُعد الصلاة بعد الوقت
عبادة كل وقت لا بعد خروجه، رجل ظن أن الشمس قد زالت فصلى الظهر، ثم تبين أنها لم تزل، فيجب عليه أن يصلي، أي أن يعيد الصلاة بعد دخول وقت الظهر؛ لأنه -وإن كان بنى على ظنه أولا- فإنه قد تبين الخطأ، فيجب عليه أن يصحح الخطأ.
ومثال آخر: رجل ظن أن الشمس قد غربت فصلى المغرب، ثم تبين بعد ذلك أن الشمس لم تغرب، فهنا يجب عليه أن يعيد الصلاة إذا دخل وقت المغرب، أي إذا غابت الشمس.
فإن قال قائل: ما الفرق بين هذه الصورة وبين صورة الصائم إذا أفطر قبل أن تغيب الشمس، ثم تبين أن الشمس لم تغب، فإنه يجبر الصوم؟(5/451)
قلنا: الفرق أن الأكل في الصوم وجود مفطر+ فيعذر الإنسان فيه بالجهل، وأما الصلاة التي لم يتوضأ فيها فهو فقد واجب، وفقد الواجب لا بد فيه من أن يأتي بالواجب، وهذه يعبر عنها بعض العلماء أن المأمور لا يعذر فيه بالجهل، وأما المحظور فيعذر فيه بالجهل؛ لقول الله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فقال الله تعالى: " قد فعلت "
أثر الشك على العبادة:
ثم قال الناظم :
والشك بعد الفعل لا يؤثر
وهكذا إذا الشكوك تكثر
هذه قاعدة الشك التي ابتلي بها كثير من الناس اليوم، فهل الإنسان يعمل بالشك أو لا يعمل؟ في هذا تفصيل على ما ذكره الناظم.
الأول: إذا كان الشك بعد فراغ العبادة فلا يلتفت إليه، مثاله: رجل صلى، ثم بعد الفراغ من صلاته شك هل صلى ثلاثا أم أربعا؟ فنقول: لا تلتفت إلى هذا الشك؛ لأنه بعد الفراغ من العبادة، والشك بعد الفراغ من العبادة لا يؤثر إطلاقا؛ لأننا لو قلنا بتأثيره لانفتح على الناس من الوسواس ما لا يمكنهم دفعه.
هذه واحدة، ولأن الأصل وقوع العبادة وتمامها على الوجه المطلوب، ولذلك شكوا -الصحابة رضي الله عنهم- عن النبي r الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة -أي في نفس العبادة- دون أن ينصرف منها، ومع ذلك أمر الرسول أن لا يلتفت إليه؛ لأنه شك، والشك لا يرفع اليقين.
الموضع الثاني: مما لا يعتبر فيه الشك: إذا كانت الشكوك كثيرة، بمعنى أن الإنسان لا يعمل عملا إلا شك فيه، فإنه لا يؤثر ذلك الشك؛ لأن مثل هذا مرض، كونه لا يفعل وضوءا ولا صلاة ولا غيرهما إلا شك، هذا مرض في الواقع، رجل ليس عنده حزم ولا عزيمة؛ فلا يلتفت إليه.
الموضع الثالث: مما لا يعتبر فيه الشك: ما أشار إليه الناظم في قوله:
أو يك -يعني الشك- وهما مثل وسواس فدع
لكل وسواس يجي به لكع(5/452)
إذا كان الشك مجرد وهم لا حقيقة له فإنه لا يُرجع إليه؛ لأنه وسواس، والوسواس لا دواء له إلا الإعراض عنه والتلهي عنه؛ ولهذا قال الناظم:
.......... فدع
لكل وسواس يجي به لكع
يعني الشيطان، يعني دع الوساوس، فإن الذي يأتي بالوساوس هو الشيطان؛ من أجل أن يلبس على الإنسان دينه، ويقلق راحته، حتى يكون لا يفعل فعلا إلا توهم أنه ناقص.
ودواء هذا الأخير -بل والذي قبله- أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم، وأن يستمر في عبادته، ولا يلتفت إلى هذا الوسواس وهذه الشكوك.
فصار الشك لا يعتبر في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: إذا وقع بعد انتهاء العبادة.
والموضع الثاني: إذا كثرت الشكوك، والموضع الثالث: أن يكون وهما -وهو الطرف المرجوح من الاحتمالين- فإنه لا يرجع إليه؛ لأن هذا وسواس.
فإن كان الشك على غير هذه الثلاثة فإنه معتبر، وسبق قبله البيت أنه يكفي الظن في العبادات، ولا يكفي في المعاملات قال:
ثم حديث النفس معفو فلا
حكم له ما لم يؤثر عملا
هذا أيضا مما يتعلق بهذه القاعدة، حديث النفس معفو عنه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " .
ولا فرق في هذا بين العبادات والمعاملات، فلو حدَّث الإنسان نفسه بأمر خطير فيما يتعلق بالعبادة، فنقول: إن هذا الحديث معفو عنه، ولكن أعرِض عنه، استعذ بالله وأعرض عنه، ولا يهمنَّك.
كذلك أيضا لو أن الإنسان حدث نفسه أن يطلق زوجته ولم يطلقها، فإننا نقول: إن الله تجاوز عنك، فلا طلاق، فلا طلاق عليك، وهكذا جميع ما تحدث به النفس ليس له أثر ولا اعتبار، والدليل ما ذكرناه من قبل: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " .
ولنقف على هذا القدر؛ لأنه جاء دور الأسئلة، أسأل الله تعالى أن يجعله علما نافعا خالصا لوجهه، إنه على كل شيء قدير.
الآن نتلقى الأسئلة.(5/453)
س: طيب فضيلة الشيخ: هذا سائل يقول: حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " يقول: قال بعض أهل العلم: إن فيه دليلا على أن الأصل في الأمر والنهي الإلزام بالوجوب والحظر، وأن غيرهما لا يدل إلا على الندب والكراهة. نرجو توجيهكم في ذلك؟
ج: قوله -عليه الصلاة والسلام-: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " قوله: "فأتوا" هل هو على الندب أو على الوجوب؟ هذا محل الخلاف، يعني هل يجب علينا أن نأتي ما استطعنا أو يندب؛ لأن نفس الحديث يصح أن يكون مثالا لأمر، وأن الأمر هل يقتضي الوجوب أم لا؟ فليس فيه دلالة واضحة على أن الأصل في الأمر للوجوب، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: "ما استطعتم" يدل على ذلك، فيجاب عن هذا بأنه حتى في النافلة نقول: صلِّ الرواتب ما استطعت كما ينبغي.
والحقيقة -كما سبق- أن هذا لا ينضبط انضباطا تطمئن إليه النفس، وأن أقرب ما يقال فيه: إن ما كان من العبادات فالأمر فيه للوجوب والنهي فيه للتحريم، وما كان من الآداب فالأمر فيه للاستحباب والنهي للكراهة، إلا إذا دل الدليل على أن الأمر للوجوب كالأمر بالتسمية عند الأكل، وكالأمر بالأكل باليمين، فإن هذا دل الدليل على الوجوب. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، كيف نجمع بين حديث: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " وبين حديث: " يأتي أناس يوم القيامة وأعمالهم مثل جبال تهامة.. " إلى آخر الحديث، وفي قوله إلى أن قال: " لأنهم خلوا بمحارم الله فانتهكوها " فكيف نجمع بين هذين الحديثين -أثابكم الله-؟(5/454)
ج: الحديث الأول: " كل أمتي معافى " يعني: معافى من ألسنة الناس والكلام فيه، لأنه استتر بستر الله U فستره الله، وإن كان الله تعالى قد يبدي معايبه -وإن كان متسترا- لما علم الله تعالى في قلبه من نوع من الاستخفاف بمعصية الله U أما الثاني: ففي الجزاء، والجزاء ثابت على المعاصي وإن كانت خفية، فالمعافاة في الحديث: " كل أمتي معافى " أي: من ألسن الناس والتعرض للفعل.
س: فضيلة الشيخ، هذا يقول: صاحب محل ساعات يقوم بمعاملة تجارية صورتها: يتقدم إليه من هو محتاج للمال بساعته التي تقدر قيمتها مثلا بخمسة عشر ألف ريال، فيقوم المحل برهنها وشرائها من صاحبها بأقل من سعرها بعقد بين المحل وصاحب الساعة، ويحق لصاحب الساعة أن يشتريها مرة أخرى بعد شهر بزيادة ألف ومائتين ريال عن سعر الشراء، وبعد شهرين بزيادة ألفين وأربعمائة ريال، وبعد ثلاثة أشهر بثلاثة آلاف وستمائة ريال، ومدة العقد ثلاثة أشهر، ثم تعرض الساعة بعدها في المحل للبيع، فما حكم هذه المعاملة؟
ج: هذه المعاملة -أولا- مخالفة لمقتضى العقد في الرهن؛ لأن مقتضى العقد في الرهن أن تبقى السلعة المرهونة رهنا عند صاحب الدين الذي له الدين، لا أن يشتريها، فإذا اشتراها فلا رهن.
ثانيا: إنه لو باعها ابتداء على صاحبها بالسلعة التي أخذها، وهي -أي السلعة- تساوي نصف ثمن الساعة، ثم لما قضى المشتري حاجته رجع واشترى الساعة من البائع بأكثر من الثمن، مؤجلة بأكثر من الثمن، بثمن مؤجل، فإن هذا عكس مسألة العِينة -الصورة-، لكنه في معنى العِينة حقيقة، إذ إن هذا كأنه أخذ قليلا بكثير مؤجل، وهذا هو حقيقة مسألة العينة.
فالعمل بهذا غير جائز، ولكن إذا كان الإنسان محتاجا، وعنده هذه الساعة التي تبلغ هذه القيمة، فليبعها بقيمتها على أي واحد، ويأخذ القيمة ويشتري حاجته، ثم إن بقي شيء اشترى ساعة تصلح لمثله؛ لأن مثله مادام في هذا العدم لا يصلح أن يحمل ساعة بألف وخمسمائة ريال. نعم.(5/455)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هل كل حديث يدور في النفس معفو عنه، وهل الظن من حديث النفس، وكيف نجمع -حفظكم الله- بين حديث النبي r " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " وبين قوله تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } ؟
ج: أولا: إن حديث النفس لا يشتمل على هم ولا على عزيمة، وإنما يحدث نفسه هل يفعل أو لا يفعل؟ لكن لم يهم، فهذا معفو عنه؛ لأن الشيطان دائما يلقي في قلب الإنسان ما يحدث به نفسه مما يعد طامة كبرى وردة عن الإسلام، ولو أنه أُخذ به الإنسان لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق.
وأما الهم فإنه مرتبة فوق التحديث، يعني يحدث النفس ثم يهم ويعزم، هذا هو الذي يعاقب عليه ما لم يدع المحرم الذي هم به لله، فإن ترك المحرم الذي هم به لله فإن الله تعالى يكتبه حسنة كاملة؛ لأنه تركها -أي المعصية التي هم بها- خوفا من الله U وإخلاصا لله؛ فكتبت حسنة كاملة، فيجب الفرق بين الحديث وبين الهم.
وأما قوله تعالى في المسجد الحرام: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } فالمعنى من يهم به هما جازما مقرونا بالإلحاد، أي: همٌّ بمعصية واضحة بينة، فإن الله تعالى يذقه من عذاب أليم.
فيجب أن نعرف الفروق؛ لأن الله تعالى يقول، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وسمى الله القرآن فرقانا؛ لأنه يفرق بين الأمور، بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين المؤمن والكافر، وبين حق الله وحق العباد، إلى غير ذلك مما تكون به الفروق. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أورد ابن عبد البر في التمهيد قولا عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "لك أن تأكل من مال رجل اكتسبه من حرام ثم أهداه إليك، فهو حرام عليه وجائز لك". فهل هذا يكون مع علم الشخص المُهدى إليه هذا المال؟ نرجو الإجابة وجزاكم الله خيرا.(5/456)
ج: نعم، يكون مع علم الشخص المهدى إليه؛ لأن المال مكتسب من حرام، أما لو علم المهدى إليه أن هذا المال مال زيد المغصوب فهنا لا يحل له أن يقبله؛ لأن التحريم في أمر المال.
أما ما كان محرما بالكسب -مثل هدية آكل الربا وآكل القمار وما أشبه ذلك- فإنه لا بأس أن تقبلها، إلا إذا كان في ردها ردع له عن أكل الحرام، فلا بأس أن تردها، بل قد يجب أن تردها؛ لأن النبي r أكل من طعام اليهود مع أنهم آخذون للربا أكالون للسحت.
ثم إن هذا الآكل أكله بطريق مباح، يعني أنه وصل إليه عن طريق مباح وهو الدعوة، فالقاعدة -إذن- أن ما حرم لكسبه فإنه حرام على الكاسب دون غيره، وما حرم لعينه فهو حرام على كل أحد. نعم.
س: وهذا يقول: هناك قطاع عسكري في بلادي يخلو من المصلحين الذين يعلمون الناس أحكام دينهم، ولا يُسمح لأحد بالوظيفة في هذا المكان إلا أن يحلق لحيته، فهل أحلق لحيتي وأدعو إلى الله في هذا المكان، أم أتركهم بالكلية؟
ج: اتركهم بالكلية؛ لأن الله تعالى يقول: { * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } ويقول U { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } ولا يمكن الدعوة إلى الله بالمعصية إطلاقا، وأنت إذا حلقت لحيتك وقعت في المعصية، وليس عليك هداهم، ثم إنه ربما تحلق اللحية بناء على ما تظنه من المصالح ولا تتحقق لك، فتأتي مفسدة محققة لمصلحة غير محققة. نعم.
س: وهذا يقول: أكلت لحم الإبل، وصليت العصر والمغرب على وضوئي قبل الأكل، ولم أعلم أنه لحم جزور إلا بعد صلاة المغرب، فماذا عليَّ؟
ج: عليك أن تقضي الصلوات التي صليتها بعد أكلك لحم الإبل ولم تتوضأ منه؛ لأنك صليت بغير طهارة، ومن صلى بغير طهارة وجب عليه أن يعيد صلاته، وهذا بخلاف من صلى وعليه نجاسة وهو لا يدري عنها، أو كان قد دري عنها ونسي أن يغسلها، فإن هذا لا تبطل صلاته.(5/457)
والدليل على ذلك أن النبي r أمر المسيء في صلاته أن يعيد الصلاة وقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " ؛ لأنه ترك فيها مأمورا -وهو الطمأنينة-، واستأنف النبي r الصلاة حين أتاه جبريل وأخبره أن في نعليه قذرا، بل استمر r في صلاته.
وهذا أصل في التفريق بين المأمور وبين المحظور، المحظور يعفى عنه بالجهل والنسيان، ولا يترتب عليه شيء من آثاره، وأما المأمور فيعفى عنه بالجهل والنسيان من حيث الإثم، ولكن يجب عليه تداركه في قضائه، أو قضاء بدله إذا لم يمكن قضاؤه، وإلى هنا ينتهي الوقت، ونسأل الله تعالى لنا التوفيق وللجميع.
الأمر المطلق يدل على الفور
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته-:
والأمر للفور فبادر الزمن
والأمر إن روعي فيه الفاعل
وإن يراع الفعل مع قطع النظر
والأمر بعد النهي للحل وفي
وافعل عبادة إذا تنوعت
لتفعل السنة في الوجهين
إلا إذا دل دليل فاسمعن
فذاك ذو عين وذاك الفاضل
عن فاعل فذو كفاية أثر
قول لرفع النهي خذ به تفي
وجوهها بكل ما قد وردت
وتحفظ الشرع بذي النوعين
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..
فهذا هو الدرس السادس من الدروس التي تقام بالدورة العلمية في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانه في الرياض، وهذا هو يوم الأربعاء التاسع لشهر ربيع الأول سنة سبعة عشر وأربعمائة وألف، وقبل أن نبدأ هذا الدرس نحب أن نستذكر ما سبق بالدرس الماضي؛ حتى يتم البناء عليه.
س: ذكرنا في النظم إن الشيء لا يتم إلا أن تتم شروطه وتنتفي موانعه. نريد مثالا لذلك في العبادات، فيما لم تتم شروطه. أحد الطلبة يجيب على ذلك؟
ج: المثال: من صلى وهو محدث.
س: من صلى وهو محدث؟
ج: فهو فاقد لشرط من الشروط.(5/458)
س: فإن صلاته لا تتم -يعني لا تصح- لفقد شرط من الشروط، وهو..؟
ج: الطهارة.
س: أرأيت لو كان ناسيا؟
ج: عليه الإعادة.
س: يعني ولو كان ناسيا؟
ج: نعم، ولو كان ناسيا.
س: طيب، ألا يرد على هذا ما ذكره العلماء -رحمهم الله- في من صلى في نجاسة ناسيا، فإن القول الراجح من أقوال العلماء ألا إعادة عليه؟
ج: لا يرد هذا.
س: لماذا؟
ج: لأن ذاك من أفعال التروك.
س: أي؟
ج: لا يشترط له هذا.
س: يعني ما الفرق بينه وبين من صلى محدثا ناسيا؟
ج: الفرق أن هذا أمر -يعني- أن من نسي ما أمر به فلا يعذر بالجهل.
س: يعني من نسي المأمور فإنه لا يعذر بالجهل بالنسيان طبعا. نعم، وعليه الإعادة؟
ج: نعم.
س: وهذا كالمثال الأول الذي صلى بغير وضوء، طيب الثاني لماذا لا تلزمه الإعادة إذا صلى وفي ثوبه نجاسة؟
ج: فإن هذا من المنهي عنه.
س: والمنهي عنه إذا فعل ناسيا؟
ج: يعذر بالجهل؟
س: فلا شيء عليه؟
ج: نعم؟
س: طيب نريد مثالا لما لا يصح لوجود المانع؟
ج: مثاله: من صلى في وقت النهي نفلا في وقت النهي.
س: نعم، من صلى نفلا لا سبب له في وقت النهي.
ج: نعم.
س: فالصلاة صحيحة من حيث الشروط تامة، لكن لا تصح لوجود مانع، وهو وقوعها في وقت النهي، نريد أن نمثل مثالا ثبت فيه السبب والشرط، ولكن وجد فيه المانع من غير العبادات؟
ج: مثاله: من باع بعد النداء الثاني في صلاة الجمعة وهو ممن تجب عليه.
س: أحسنت، من باع أو اشترى بعد نداء الجمعة الثاني، وهو ممن تجب عليه الجمعة، فالبيع غير صحيح لوجود المانع، وكذلك لو كان أحد الورثة قاتلا لمورثه، فإنه لا يرثه لوجود المانع -وهو القتل-، أو كان مخالفا له في الدين فإنه لا يرثه لوجود المخالفة في الدين، والقتل والمخالفة في الدين من موانع الإرث. هل المعتبر في فعل المكلف الظن أو ما في نفس الأمر، يعني هل المعتبر ما في ظن المكلف أو ما في نفس الأمر؟(5/459)
ج: فيه تفصيل: إذا كان في العبادة فالمعتبر هو الظن، وإذا كان في المعاملات -العقود- فالمعتبر نفس الأمر.
س: تمام، طيب، نريد مثالا على الأول؟
ج: مثال العبادة: الاجتهاد في القبلة للمسافر، إذا اجتهد وغلب على ظنه اتجاه القبلة فيصلي.
س: طيب، فإن تبين خطأ؟
ج: ليس عليه الإعادة.
س: لأن العبرة بما في ظن المكلف؟
ج: نعم.
س: في العقود؟
ج: لو تصرف في مال غيره مجتهدا فلا يصح تصرفه -ولو اجتهد-؛ لأن العبرة فيه بما في نفس الأمر.
س: طيب، لكن لو تبين أنه مالك لهذا الشيء، أو أنه وكيل فيه بعد التصرف، هل ينفذ أو لا؟
ج: ينفذ.
س: يعني مثلا: لو باع شيئا لمورثه وهو لا يدري أنه مات، ثم تبين أنه قد مات، فالتصرف صحيح؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر؟
ج: نعم.
س: طيب، إذا صلى قبل الوقت ظانا دخول الوقت، ثم تبين أنه قبل الوقت، فما الحكم؟
ج: عليه إعادة الصلاة.
س: عليه الإعادة؟
ج: نعم.
س: لماذا؟
ج: لأنه لم يدخل وقت الصلاة.
س: لأنه؟
ج: لم يدخل وقتها.
س: أي نعم، لكن ما هو العبرة بالاعتداد+ بما في ظن المكلف؟
ج: لكنها تأتي+ على غير صحيح هنا.
س: يعني تبين خطأه فيجب عليه؟
ج: نعم.
س: ليصحح خطأه؟
ج: أي نعم.
س: وتكون الصلاة الأولى نفلا؟
ج: أي نعم.
س: طيب، والفرق بينها وبين مسألة القبلة التي جاءت في المثال الأول أن مسألة القبلة صلاها في الوقت، فقد صلاها في الوقت الذي أُمر به، أُمر أن يصلي فيه، وقد حصل واجتهد بخلاف هذا، فإنه صلاها قبل أن يطالب بها، واضح الفرق. ما هي المواضع التي لا يعتبر فيها الشك؟
ج: هناك ثلاثة مواضع: الأول: إذا حصل الشك بعد الفعل، والثاني: إذا كثرت الشكوك، والثالث: هو الوهم.
س: إذا كان الشك وهما كالوسواس كذا؟
ج: نعم.
س: طيب، مَثِّل الأول.
ج: الشك بعد الفراغ مثل أن بعد انتهاء الصلاة يشك هل صلاها -يعني- تامة بشروطها، وهكذا.
س: يعني: هل صلى ثلاثا أم أربع؟
ج: نعم.(5/460)
س: فماذا يفعل -يعني- إذا سلم الآن هنا شك بعد الصلاة، لا يعتبره، الشك يعني لا يعتبره شيئا، طيب المثال الثاني: إذا كثرت الشكوك؟
ج: متى تكثر شكوكه فيكون كالموسوس، فإنه لا يعتبر في شكه، يكون مريضا، لا يعتبر به.
س: كثير الشكوك ما هو موسوس، لكنه كلما صلى شك، كلما توضأ شك؟
ج: نعم.
س: هذا نقول لا عبرة بشكه؛ لأنه كثير الشكوك، أما الموسوس فهو الذي يكون عنده وهم ليس مبنيا على شك، مثلا في التشهد الأخير توهم أنه ناقص دون أن يكون هناك شك حكمي في القلب، هذا لا عبرة به. إذا رجل صار يحدث نفسه هل يطلق زوجته أو لا هل تطلق؟
ج: لا تطلق؛ لأن هذا وهم.
س: إنه يحدث نفسه ما بعد استقر على شيء؟
ج: حديث نفس هذا.
س: لا عبرة به؟
ج: لا عبرة به.
س: ما هو الدليل؟
ج: إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم.
س: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم " طيب، لو أن هذا الرجل قارن مع تحديث النفس بوسواس، فقال: إذن أستريح، أطلِّق زوجتي وأستريح، هل يقع طلاقه؟
ج: السؤال يا شيخ، أعد.
س: السؤال: إنسان صار يحدث نفسه أطلِّق أو ما أطلِّق أو ما أطلق، فقال: إذن أستريح، أطلقها وأستريح، فطلقها، فهل يقع طلاقه؟
ج: إذا طلقها فقد تكلم، فقد طلق.
ما يفصل في هذا بين أن يقال: إن كان مريدا للطلاق طلقت، وإن كان من ضغط الوسواس عليه فإنها لا تطلق. نعم، وهل يفصل إذا كان هذا من الضغط -ضغط الوسواس عليه- وهو لا يريد الطلاق؟ لكن -كما قلنا- يريد أن يستريح، فهذا لا تطلق؛ لقول النبي r " لا طلاق في إغلاق " ؛ ولهذا ذكر كثير من العلماء أن طلاق الموسوس لا يقع بناء على هذا، وإلى هذه يشير الناظم في قوله:
ثم حديث النفس معفو فلا
حكم له ما لم يؤثر عملا
والآن نبدأ بدرس هذا اليوم، يقول الناظم:(5/461)
"والأمر للفور": الأمر للفور، والفور هو المبادرة بالشيء، يعني أن أمر الله ورسوله يجب أن يُفعل على الفور إن كان واجبا، ويستحب أن يفعل على الفور إذا كان مستحبا؛ وذلك لأن الواجب لا بد من فعله، والمستحب للإنسان أن يدعه.
وهذه المسألة -أعني: هل الأمر للفور أو للتراخي؟- أقول فيها: إنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دل الدليل على أنه للفور، هذا لا إشكال فيه، يجب على الفور.
والثاني: ما دل الدليل على أنه ليس للفور، فهذا أيضا ليس للفور.
الثالث: الأمر المطلق يكون للفور أو لا يكون للفور؟ وهو موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه يجب على الفور، واستدل لذلك، ومنهم من قال: إنه ليس على الفور؛ لأن المقصود هو الفعل، ولو كان للفور لبينه الله ورسوله.
والصحيح أن الأمر للفور ما لم يدل دليل على أنه لغير الفور، والدليل على أنه للفور من الأثر والنظر، أما من الأثر: فهي قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } الأصل أنه إذا وجه الأمر للمكلف أن يقوم به فيبادر، فإن أخر فقد خالف عن الأمر، وهذا دليل قرآني.
أما الدليل من السنة: فهو أن النبي r حين أمر أصحابه بالتحلل يوم الحديبية -وأمرهم أن يحلقوا ويحلوا- تأخروا بعض الشيء رجاء أن يحدث نسخ، فغضب النبي r لذلك؛ ففي هذا دليل على أن الأمر للفور، وإلا لَما غضب -عليه الصلاة والسلام-.
أما الدليل النظري من كون الأمر للفور: فهو ما أشار إليه الناظم في قوله "فبادر الزمن"، الدليل النظري أن الإنسان لا يأمن أن يفجأه الموت، وكم من إنسان فجأه الموت وهو في أنعم ما يكون بالا، وأقوى ما يكون صحة، وأشد ما يكون سنا وعمرا، فهو لا يأمن أن يأتيه الموت، ولا يدري ماذا يعرض له مما دون الموت من العجز عن القيام بالأمر.(5/462)
ثانيا: إننا لو قلنا بأن الأمر للتراخي النفوس تميل إلى الكسل والتفريط -إلا من عصم الله-، فربما يكسل ويفرط، ويمضي عليه الوقت، وتتراكم عليه الأوامر؛ فيعجز عن القيام بها.
فعلى كل حال القول الصحيح في هذه المسألة: إن الأمر للفور، أي أنه نبادر بفعل ما أمر الله به ورسوله، إلا أن الناظم استثنى فقال:
...............
إلا إذا دل دليل معه فاسمعن
يعني إذا دل دليل على أن الأمر ليس للفور فليعمل بالدليل، مثاله: قضاء رمضان، إذا فات الصيام لسفر أو مرض، فقد قال الله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } هذه العدة لا يجب على الإنسان أن يبادر بقضائها، بل له أن يؤخرها حتى يبقى على رمضان الثاني مثلُ ما عليه من الأيام، فإذا قُدِّر أن عليه عشرة أيام فله أن يؤخرها إلى يوم العشرين من شعبان من السنة الثانية، أي: إذا بقي عليه بمقدار ما أفطر فإنه يجب عليه أن يقضيه لضيق الزمن.
والمثال: أن رجلا أفطر عشرة أيام بعذر، فله أن يؤخر قضائها إلى أن يبقى عشرة أيام من شعبان من السنة الثانية، دليل ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان " وكان ذلك في عهد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولم ينكر عليها.
مثال آخر: الواجب الموقت، يعني الواجب الذي له وقت محدود من أوله إلى آخره كالصلوات الخمس مثلا، فإنه لا يجب على الإنسان أن يصلي الصلاة فور دخول وقتها؛ لأن وقتها موسع، فله أن يصليها في أول الوقت، وله أن يؤخرها إلى آخر الوقت.
فرض الكفاية :
ثم قال الناظم:
والأمر إن روعي فيه الفاعل
فذاك ذو عين وذاك الفاضل
هذه القاعدة في الأوامر الشرعية التي تكون على عين كل شخص، والتي تكون على الكفاية، فذكر الناظم القاعدة في ذلك، وهي أنه إذا روعي في الأمر الفاعل صار أمر عين، إما وجوبا وإما استحبابا.(5/463)
قال الناظم: "فذاك ذو عين" أي: سمه فرض عين في الواجب، وسنة عين في السنة، "وذاك الفاضل": "ذاك" يعني: ما روعي فيه الفاعل فهو فرض العين الفاضل -يعني- على فرض الكفاية، يعني أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء -رحمهم الله-، فمنهم من قال: إن فرض الكفاية أفضل؛ لأن الإنسان يقوم به عن نفسه وعن غيره، فيكون أفضل، ومنهم من قال: إن فرض العين أفضل؛ لأنه مطلوب من عين كل إنسان، أي: من كل إنسان بعينه، وهذا يدل على عناية الله تعالى به ومحبته له.
مثال ذلك: الصلوات الخمس، هذه فرض عين، فهي أفضل من صلاة العيد التي قيل إنها فرض كفاية؛ لأن الصلوات الخمس مطلوبة من كل واحد، وصلاة العيد ليست مطلوبة من كل واحد -على القول بأنها فرض كفاية-، بل إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين، وهذا مثال الواجب العين.
ومثال السنة العينية: السواك، وقراءة القرآن، والذكر، وصلاة النفل وما أشبهها، فهذه سنة عين مطلوبة من كل إنسان.
أما القاعدة في فرض الكفاية فقد أشار إليها الناظم بقوله:
وإن يراع الفعل مع قطع النظر
عن فاعل فذو كفاية أثر
يعني إذا كان المقصود من العمل إيجاب العمل بقطع النظر عن العامل، فهذا فرض كفاية، أُثر أي: عُلِم، وهذا هو الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، وسنة الكفاية وسنة العين.
مثال فرض الكفاية: الصلاة على الجنازة، ودفن الميت وما أشبهه، والأذان والإقامة وما أشبهه؛ وذلك لأن المقصود هو نفس الفعل، فإذا وُجِد ممن تقوم به الكفاية، إذا وجد ممن تكون به الكفاية سقط عن الآخر، فلا نقول لكل أحد من الناس. اذهب وصل على الجنازة، اذهب فادفن الميت، ولا نقول لكل واحد من الناس. أذِّن، أقم الصلاة، بل المقصود حصول الفعل، سواء من واحد أو من متعدد.(5/464)
ومن سنن الكفاية: إلقاء السلام، وتعليم العلم -إن لم يكن التعليم واجبا- ونحو ذلك، وبمناسبة ذكر إلقاء السلام فإنه ينبغي أن نذكر شيئا من آدابه -أي آداب السلام-.
فالسنة إذا تلاقى المؤمنان أن يسلم أحدهما على الآخر، ومن الأدب أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والماشي على القاعد، والراكب على الماشي.
ولكن إذا لم يحصل ذلك، وتناسى أو تعالى من هو أولى بالسلام عن السلام فليسلم الآخر، يعني لو تلاقى صغير وكبير، فالمطلوب أن يسلم الصغير على الكبير، لكن لو تناسى أو تغافل أو غفل أو استكبر فليسلم الكبير، فلا يدع السلام، لا يدع السلام، ويقول: السلام عليك، على الذي أصغر منه؛ لأن النبي r قال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " .
ومن آداب السلام: أن يكون بصوت واضح، لا أن يكون بصوت منخفض لا يسمعه المسلَّم عليه، أو كما يقول العامة: "يتكلم بأنفه"، لا يفصح بلسانه، فليسلم تسليما مسموعا واضحا، هذا هو السنة، وليقل: "السلام عليك" إن كان واحدا، و"عليكما" إن كانا اثنين، و"عليكم" إن كانوا جماعة، وإن قال: "السلام عليكم" بالجمع فلا بأس.
ومن آداب السلام: أن لا يقتصر على ما يفعله بعض الناس إذا لاقى أخاه قال: "أهلا وسهلا"، "مرحبا"، وما أشبه ذلك، فإن هذا ليس السنة التي أُمر بها، بل السنة أن يسلم أولًا "سلام عليكم" أو "السلام عليكم"، ثم يقول ما شاء من التحية: "أهلا وسهلا"، "مرحبا"، "حياك الله"، "صبحك الله بالخير"، وما أشبه ذلك.
ومن الآداب: أن لا يقتصر على الإشارة باليد؛ لأن ذلك ليس بسلام حقيقة، وقد ورد النهي عن الاقتصار عليها، أما إذا جمع بين الإشارة والنطق فهذا خير إن احتيج إلى الإشارة باليد لبعد المسلَّم عليه، أو لكونه أصم، وما أشبه ذلك.
الأمر بعد النهي:
ثم قال الناظم:
والأمر بعد النهي للحل وفي
قول لرفع النهي خذ به تفي(5/465)
الأمر سبق لنا ذكر الخلاف فيه: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ ولكن إذا ورد بعد النهي فهل يكون للإباحة أو يكون لرفع النهي؟ في هذا للعلماء قولان:
القول الأول: إنه للإباحة، واحتج أرباب هذا القول بأنه لما ورد النهي عنه بعد الإذن فيه صار النهي ناسخا للإذن، وناسخا لما سبقه من الأحكام، فإذا جاء الأمر به بعد ذلك فهذا شرع مبتدأ، أي: فهذا الابتداء شرع، لكنه للإباحة؛ لوروده بعد النهي، وقيل: بل الأمر بعد النهي رفع للنهي، فيُنظر فيما نهي عنه، ويُرجع إلى أصله، فإن كان أصله الاستحباب كان مستحبا، وإن كان أصله الإباحة كان مباحا.
مثاله في المباح: قوله -تبارك وتعالى-: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } هذا ورد بعد المنع من قتل الصيد في حال الإحرام، قال الله -تبارك وتعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } إلى قوله: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }
فهل نقول: إنه يسن لكل من تحلل من إحرامه أن يأخذ بندقيته ويذهب ليصيد؟ الجواب: لا، لكن المعروف النهي عن الاصطياد في حال إحرام، وذلك بالإحلال عاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، والاصطياد في الأصل مباح، فيكون الأمر هنا للإباحة.
ومثال ما رفع فيه النهي وبقي مستحبا: قول الله -تبارك وتعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) }(5/466)
فهنا قد نقول: إن الأمر هنا رفع النهي، وعاد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، ومن المعلوم أن الإنسان مأمور بطلب الرزق له وعائلته؛ يستغني به عن الناس، ويستعين به على طاعة الله -عز وجل-؛ ولهذا قال الناظم :
والأمر بعد النهي للحل وفي
قول لرفع النهي خذ به تفي
تعدد الوجوه في العبادة:
ثم قال الناظم:
وافعل عبادة إذا تنوعت
لتفعل السنة في الوجهين
وجوهها بكل ما قد وردت
وتحفظ الشرع بذي النوعين
وهذه من القواعد المهمة النافعة، وهي أنه أحيانا ترد العبادة على وجوه متنوعة، يعني: يرد عن النبي r فيها وجوه متنوعة، أنه قال كذا، ثم يأتي حديث آخر أنه قال كذا، فماذا نصنع؟ هل نختار أوفى هذه المتون وأكملها؟ أو نجمع بين المتون ونداخل بعضها ببعض حتى يتكامل السياق مؤلفا من الوجهين؟ أو نفعل هذا تارة وهذا تارة؟
قال بعض العلماء: نجمع بين ما أمكن جمعه. وقال بعض العلماء: نؤلف فنأخذ من كل سنة ما انفردت به نضيفه إلى الأخرى،؛ فيكون الذكر ملفقا. قال بعض العلماء: نختار واحدا منها -وهو أكملها وأوفاها-، وندع الباقي.
ولكن الصواب أننا نعمل بهذا تارة وبهذا تارة، ولنضرب لذلك مثلا: دعاء الاستفتاح ورد عن النبي r أنه كان يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t يجهر بهذا ليعلمه الناس.
وثبت عنه -صلى الله عليه وآله وسلم أنه- " كان إذا كبر للصلاة سكت هنيهة، فسأله أبو هريرة t قال: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " .(5/467)
ومعلوم أن هذا الاستفتاح غير الأول، فهل نقول: اجمع بينهما واستشهد بهذا وبهذا؟ أو نقول: خذ بأوفاهما وأتمهما؟ وحينئذ اختلف العلماء: هل حديث أبي هريرة أولى لأنه أصح، أو حديث: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك " لأنه يشتمل على الثناء على الله U وفيه من الثناء عليه ما ليس في الأول، ولا أدري أقال أحد من الناس إنه يستفتح بهما جميعا، أو نقول: نستفتح بهذا مرة وبهذا مرة، هذا هو القول الراجح، أننا نستفتح بهذا مرة وبهذا مرة؛ لأن السنة هكذا وردت؛ ولهذا قال الناظم:
لتفعل السنة في الوجهين
.....................
يعني تفعل السنة على الوجهين، تارة بهذا وتارة بهذا، فنقول: الأفضل في الاستفتاح أن يستفتح مرة بقول: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " وتارة بقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " ؛ لأنك إذا فعلت ذلك أمنت بالسنة على الوجهين، وأيضا الفائدة الثانية:
..............
وتحفظ الشرع بذي النوعين
إنك إذا عملت بالوجهين جميعا حفظت الشرع، وإذا عملت بواحد نسيت الآخر، لكن إذا عملت بهذا تارة وبهذا تارة فإنك تحفظ الشرع بالوجهين الواردين، أو بالوجوه المتنوعة، هذا مثال.
مثال آخر: الذكر بعد الصلاة وردت فيه أنواع متعددة، وأعني بذلك التسبيح، ورد " سبحان الله والحمد لله والله أكبر " ثلاثا وثلاثين، وتمام المائة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " .
وورد "سبحان الله" ثلاثا وثلاثين، "الحمد لله" ثلاثا وثلاثين، "الله أكبر" أربعا وثلاثين، فهذه مائة، فتفعل هذا مرة وهذا مرة.
وورد أيضا: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " خمسا وعشرين، فهذه مائة أذكر بها أحيانا.(5/468)
وورد "سبحان الله" عشرا، و"الحمد لله" عشرا، و"الله أكبر" عشرا، هذه ثلاثون تعمل بها أحيانا؛ لأجل الفائدتين اللتين أشار إليهما الناظم، وهو أن تفعل السنة على الوجهين؛ لأن سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- مرة كذا ومرة كذا؛ ولتحفظ الشرع بذي النوعين؛ لأنك لو لزمت وجها واحدا نسيت الثاني، فلا يكون لديك حفظ للشرع في الوجهين، وهذا الذي ذكره الناظم، والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
ومن ذلك أيضا: التكبير على الجنازة، قد كبر النبي r على الجنازة أربعا، وكبر عليها خمسا، وكبر عليها أكثر من ذلك، فهل السنة أن نأخذ بالأوفى ونقول: نكبر عليها بأكثر شيء وارد، أو نقول: نكبر عليها تارة بهذا وتارة بهذا؟
والصواب أننا نكبر عليها مرة أربعا، ومرة خمسا؛ لأنه ثبت عن النبي r أنه كبر خمسا على الجنازة، وربما زاد على ذلك، ولكن نحافظ في الأكثر على ما كان أكثر عن النبي r وهو الأربع.
ثم قال الناظم:
والزم طريقة النبي المصطفى
وخذ بقول الراشدين الخلفا
وليكن هذا مبدأ الدرس القادم -إن شاء الله تعالى-؛ لأنه حان وقت الأسئلة.
س: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا يقول: ما صحة ما ورد عن فتواكم بمقاطعة مشروب كاكولا عقب ظهور الدعاية المشهورة؟
ج: لا صحة لذلك، ولم نقل به، وليُعلم أن الأصل في المأكولات والمشروبات الحل، إلا ما قام الدليل على أنه حرام، وهذا من القواعد المقررة التي ذُكرت في هذا النظم. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، بلغنا أنك تقول: إنه لا يستحب لمن دخل مجلس أن يصافح الجميع، بل يسلم ويجلس، هل هذا صحيح؟ آمل منكم التفصيل، وجزاكم الله خيرا، وكيف أطبق فضل المصافحة؟(5/469)
ج: هذا هو الذي أقول؛ لأن المعروف عن النبي r أنه إذا دخل المجلس جلس حيث ينتهي به المجلس، ولم يرد عنه -فيما أعلم- أنه كان يمر على الجالسين فيصافح كل واحد منهم، وأنا أطلب من أي إنسان عثر على شيء من ذلك أن يبينه لي؛ لأننا -إن شاء الله تعالى- راغبون في الوصول للحق، وأما المصافحة فهي عند التلاقي.
هنا يجب على طالب العلم أن يفهم قاعدة مهمة، وهي أن ما ورد مطلقا ثم جاءت السنة الفعلية بعدم تطبيقه في بعض المواضع فإننا لا نستحبه، فمثلا ورد فضل ذكر الله تعالى، والصلاة على النبي r على وجه الإطلاق، فلا يمكن أن نطبقها على كل فعل فعلناه، يعني: لا يمكن -مثلا- أن نقول: كلما فعلت فاذكر الله، كلما فعلت فعلا فاذكر الله، كلما فعلت فعلا فصل على النبي؛ لأن التطبيق العملي أمر مهم.
فإذا كانت المصافحة قد شرعت للمتلاقيَين، فلا يعني ذلك أنها مشروعة لمن قدم على قوم جالسين؛ لأن ظاهر فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- خلاف ذلك، وعلى كل حال فأنا لا أرى أنها سنة حتى يتبين لي أن رسول الله r كان يفعلها، والظاهر من هديه أنه لا يفعلها، بل كان إذا أتى إلى المجلس جلس حيث ينتهي به، فإنه لا ينبغي أن نقول باستحبابها، ومع ذلك فإني على مطالبة أن من عثر على شيء من السنة في ذلك فليتحفنا به، فإنا له شاكرون. نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ، يقول: ما الحكم إذا غلب على ظنه دخول الوقت فصلى، ثم تبين له أن الوقت لم يدخل، وما الفرق بين غلبة الظن في دخول الوقت وبين غلبة الظن في اتجاه القبلة؟
ج: سبحان الله! هذا السؤال في نفس المرة، وفي درس اليوم، ذكرنا أنه إذا صلى قُبيل الوقت ثم تبين أنه صلى قبل دخوله فإنه يعيد الصلاة، ووجه ذلك أنه صلى في وقت لم يؤمر به، أي: لم يؤمر أن يصلي فيه، فتكون الصلاة حينئذ غير مأمور بها، وقد قال النبي r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " فلما دخل الوقت طولب به بعد دخول الوقت.(5/470)
وأما الخطأ في استقبال القبلة إذا كان في موضع محل اجتهاد؛ فلأنه صلى صلاة مأمورا بها، واتقى الله ما استطاع، وتوجه إلى حيث يرى أنه القبلة، فلم يقصر في شيء، وقد طولب بأن يصلي لأن الوقت قد دخل، فصلى على الوجه الذي أُمر به، اجتهد، واتقى الله ما استطاع، فلا تلزمه الإعادة. نعم.
س: يقول: ذكرتم -حفظكم الله- تقسيم الأمر إلى ما دل دليل على أنه ليس على الفور، والثاني ما دل دليل على أنه على الفور، فالثالث -وهو المطلق- أن يكون فيه الأصل أنه مطلق، وإلا لدل الدليل على فوريته.
ج: نعم، هذا الثالث محل خلاف، هو محل خلاف -المطلق-، وقد رجحنا أنه للفور؛ لما ذكرنا من الأدلة الأثرية والنظرية، الأثرية ذكرنا قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } وغضب النبي r حين لم يبادر الصحابة بالحلق في غزوة الحديبية، ولا يغضب على ترك مستحب.
وذكرنا أيضا الدليل النظري بأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد يموت قبل أن يفعل، وقد يمرض فلا يستطيع الفعل، وقد تتراكم عليه الأوامر فلا يستطيع القيام بها. نعم.
س: وهذا يقول فضيلة الشيخ ما صحة القاعدة التي تنص على أن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة وهل من تطبيقات هذه القاعدة الصلاة في مسجد فيه قبر لإدراك الجماعة حيث لم يجد إلا هذا المسجد في طريقه؟
ج: الدليل أن ما أمر للذريعة وفي حال الحاجة ما ذكرناه في النظم في مسألة العريَّة، العرية هي أن يشتري الإنسان الرطب على رؤوس النخل بالتمر، ومن المعلوم أن بيع الرطب بالتمر حرام؛ لأن النبي r " سئل عن بيع التمر بالرطب فقال: أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا " .(5/471)
أي: فلا تبيع؛ وذلك لأن بيع الرطب بالتمر تُجهل فيه المماثلة، والواجب في بيع التمر بالتمر أن يكون متماثلا في الكيل، وهذا -أعني بيع الرطب بالتمر- لم يتحقق فيه هذا الشرط، لكن لماذا مُنع بيع الرطب بالتمر؟ لأنه ذريعة إلى أن يباع التمر بمثله متماثلا.. نعم لأنه ذريعة إلى أن يباع التمر بمثله متفاضلا، إذا دعت الحاجة إليه في مثل العرية جاز.
والعرية هي أن يكون عند الإنسان تمر سادة، ويحتاج إلى التفكه بالرطب على رؤوس النخل، وليس عنده مال، فيذهب إلى صاحب البستان ويقول: بعني ثمرة هذه النخلة بتمر، فيبيعه إياه، فهذا جائز، لكن يجب أن يُخرص الرطب لمثل ما يؤول إليه تمرا، ويعطى من التمر ما يماثله كيلًا؛ حتى يحصل التساوي، ولو بالخرص والتخريص، وقد مضى بيان ذلك ووجه جوازه. نعم.
بقي علينا مثال أنه ذكر إذا مر الإنسان بمسجد فيه قبر فهل يصلي عليه عند الحاجة؟ نقول: إنه -في الواقع- لا حاجة إلى هذا المسجد، والمسجد المبني على قبر لا تصح الصلاة فيه؛ لأنه محرم، وليس هناك حاجة إلى الصلاة فيه، إذ إن الإنسان يمكن أن يصلي في أي مكان من الأرض؛ لقول النبي r " جعلت لي الأرض مسجدا " ولم يفصل. نعم.
س: هذا يقول: هل يجوز تصوير القبور واللحد بحجة أنها تسبب الموعظة والاتعاظ للناس وتذكيرهم بالموت؟
ج: هل هذه الطريق عُرفت عن الصحابة؟ أكثر المواعظ الواردة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وكذلك في القرآن إنما هي بذكر الثواب للمطيع والعقاب للعاصي، بل قد قال الله -تبارك وتعالى-: { * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) } ولم يقل: أفلا يعلم إذا دفن أصحاب القبور، فكوننا نعظ الناس بذكر الموت فقط، ونغفل عما هو أهم من ذلك، وهو الثواب على فعل الطاعات، والعقاب على فعل المحرمات، يعتبر قصورا في الموعظة، أما إذا ذكرنا هذا وهذا فهو طيب وحسن.(5/472)
ثم إن تصوير ذلك قد يكون فيه إزعاج للنشء الصغار، إذا رأوا هذا انطبع في أذهانهم، وصاروا يتخيلونه في كل وقت، وهذا نظير ما فعله بعض السفهاء؛ حيث صوروا نار جهنم بصور فوتوغرافية، صوروا فيها لهبا صفراء مشوهة المنظر؛ ليفزعوا الناس، فإن هذا لا شك أنه كذب، إذ إن النار أشد وأبلغ وأعظم مما يتخيله الإنسان.
ج: إن هذا لا شك أنه كذب إذ إن النار أشد وأبلغ وأعظم مما يتخيله الإنسان، وما يدرينا لعل رجلا يأتي يوما من الأيام فيصور ما في الجنة من فاكهة وحور عين وولدان مخلدين!.
وهذا تلاعب بأمور الآخرة، أمور الآخرة أعظم مما تتصور ذكرتها بهيجة معظمة لها شأنها في النفوس أولى من تفسيرها في هذه الصور المادية التي يزعم فاعلها أنه أحسن صنعا نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ما حكم صلاة الوتر جماعة في غير رمضان؟
ج: لا بأس بذلك إذا فعله الإنسان أحيانا؛ لأنه ثبت عن النبي r أنه كان يصلي صلاة الليل جماعة أحيانا، وصلى معه عبد الله بن عباس مرة، وصلى معه عبد الله بن مسعود مرة، وصلى معه حذيفة بن اليمان مرة.
وكان هؤلاء الشباب يصلون مع النبي r صلاة الليل، ويذكرون طول صلاته -عليه الصلاة والسلام- قال حذيفة، قال: " إني صليت مع النبي r ذات ليلة فافتتح الصلاة بقراءة الفاتحة، فقلت يركع عند المائة -أي: إذا أتم مائة آية- ثم مضى حتى أكمل سورة البقرة وسورة النساء وسورة آل عمران، يقف عند كل آية وعيد يتعوذ، وعند كل آية رحمة يسأل، وعند كل آية تسبيح يسبح " .
فقرأ هذه السور الثلاث التي تبلغ خمسة أجزاء وربع جزء في ركعة واحدة -عليه الصلاة والسلام-.
" وصلى معه عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- فأطال النبي r القراءة، قال عبد الله: ... حتى هممت بأمر سوء، قالوا: بما هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هممت أن أقعد أو قال: أجلس وأدعه " .(5/473)
صلاة الليل ثنائية والوتر جماعة أحيانا لا بأس به، لا بأس به ولكن اتخاذ ذلك سُنة راتبة كل ليلة، يصلى في جماعة هذا من البدع.
نعم ..
س: فضيلة الشيخ يقول: يطلب مني بعض الزملاء أن أشتري له سيارة محددا نوعها -موديلها- ويشتريها مني بالتقسيط دون أن ألزمه بشيكات أو رهن مقابل ذلك، فأشتري السيارة وأحوزها إلى ملكي ثم أقسطها عليه، هل هذا جائز ؟ أفتونا مأجورين.
ج: نرى هذا جائزا، بل أرى هذا حيلة على الربا قريبة وصريحة؛ لأنه بدل أن يستقرض مني ثمن السيارة ويذهب ويشتريها بنفسه يطلب مني أن أشتريها له بثمن النقد وليكن خمسين ألفا، ثم أبيعها، ثم إني أبيعها عليه بستين ألفا مؤجلة.
حقيقة الأمر أني اشتريت السيارة التي يريدها والتي يطلبها فأقرضته ثمنها بزائد، وهذا هو عين الربا، وهذا أقرب إلى الربا من العينة التي حذر منها النبي r وهو أن يبيع شيئا بثمن مؤجل ثم يشتريه نقدا من مشتريه بأقل، مع أنه لا تواطؤ بينهما في مسألة العينة ومع ذلك فهي حرام.
فهذه الصورة التي سأل عنها السائل هي أوضح في كونها ربا من مسألة العينة وأقرب، ولا يغرنَّك قول بعضهم: إن البائع لا يُلزم المشتري في هذه السلعة فله أن يدعها، فإن هذا قول لا طائل تحته؛ لأنه من المعلوم أن هذا المحتاج الذي عيَّن ما يريده من السيارة من النوع لا يمكن أن يتراجع، اللهم إلا نادرا .
ثم إن البائع لو تراجع هذا المشتري لاحتفظ لنفسه بالحذر من البيع عليه مرة أخرى. ولا يغرنك إفتاء بعض الناس في هذه المسألة بل عليك أن تراجع نفسك وتسائلها، هل هذا شراء صحيح بالنسبة للذي اشترى السيارة وباعها بالتقسيط؟ هو في الواقع غير صحيح ولولا أن هذا جاء يطلب منه السيارة ما اشترها أبدا.(5/474)
فهو قد علم الربح مقدما وهو قد واطأه على أن حقيقة أمره أن يقرضه الثمن بفائدة، وهذا هو عين الربا؛ ولذلك أحذر إخواني المسلمين من مثل هذه المعاملة وأقول: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وليكن هذا آخر سؤال ، لأن الوقت انتهى .
وجوب اتباع النبي
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، قال الناظم حفظه الله تعالى ورفع درجته
والزم طريقة النبي المصطفى
قول الصحابي حُجَّة على الأصح
وحُجة التكليف خُذها أربعه
مِن بعدها إجماع هذي الأمه
وخُذ بقول الراشدين الخلفا
ما لم يخالف مثله فما رجَحْ
قرآننا وسُنَّة مُثبته
والرابع القياس فافهمَنَّه
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. .
فهذا هو الدرس السابع الذي نلقيه في كل يوم سبت واثنين وأربعاء من كل أسبوع في الدورة العلمية التي افتتحت في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانة بالرياض في إجازة عام سبعة عشر وأربعمائة وألف نسأل الله تعالى أن يجعلها دورة مباركة
وقبل البدء في الدرس الجديد نحب أن نسأل ونناقش فيما سبق
س: سبق لنا أن الأمر المطلق يقتضي الفورية، فنريد بيان الأدلة السمعية والنظرية على أن الأمر المطلق يكون للفور سواء كان أمر وجوب أو أمر استحباب، ما هو الدليل على أن الأمر المطلق يكون للفور؟ .
ج: الدليل من كتاب الله U قوله سبحانه: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) }
نعم ، ما وجه الدلالة؟.
ج: أن من لم يفعل الأمر على الفور فإنه يكون قد خالف أمر النبي r يكون قد خالف أمر الله -سبحانه وتعالى-، ومن خالف أمر الله؟ متوعد أن تصيبه الفتنة أو يصيبه العذاب الأليم .
س: الفتنة ما ؟ ما هي الفتنة ؟(5/475)
ج: ذكرنا ما أُثر عن الإمام أحمد -رضي الله- عنه في ذلك حيث قال: فتنة الشرك، نعم ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء فيأثم.
س: وما هو الدليل النظري على أن الأمر للفور؟ .
أن النبي r ...
س: النظري؟ النظري ، النظري ؟
ج: الدليل النظري من وجهين: أولا- ما ورد في قول الناظم: "فبادر الزمان ... "نعم ، إن الإنسان لا يأمن أن يباغته الموت قبل أداء الواجب، نعم، والثاني: أن التراخي قد يسبب تراكم الواجبات، ومن ثَمَّ يصعب على ... أو يعجز الإنسان عن فعل واجباته ، نعم ، تماما .
س: ذكرنا أن الأمر يكون كفائيا ويكون عينيا، فما هو الضابط لكل واحد منهما؟ ما هو الضابط، ما هو الضابط للأمر العيني ؟
ج: الضابط للفرض العيني أن يكون المتعلق أو المراعى فيه الفاعل ، الفاعل ، المراعى فيه الفاعل ، الفاعل ،
س: إذا الأمر العيني سواء كان فرضا أو نفلا هو الذي يراعى فيه الفاعل؟ نعم، وضابط الأمر الكفائي أن يُراعى فيه الفعل مع قطع النظر عن الفاعل، نعم، نريد مثالا للأول وهو الأمر العيني؟
ج: نعم، كالصلوات الخمس، هذا في الفرائض كالصلوات الخمس وكالوتر في النفل، بارك الله فيك!
الثاني: ما روعي فيه الفعل مع قطع النظر عن الفاعل: كالأذان والإقامة هذا في الواجبات، في النفل: الجهاد والسلام، وصلاة العيدين.
الجهاد: ماشي، الجهاد فرض كفاية، السلام: السلام دعوة، نعم
س: ما هي القاعدة فيما إذا ورد الأمر بعد النهي ؟
ج: في المسألة قولان: بعض العلماء يرى أنه للحِل، والقول الآخر أنه لرفع النهي فيعود إلى الأصل، نعم .
س: بعض العلماء يقول: إنه ... إن الأمر بعد النهي للحِل، وبعضهم يقول: إن الأمر بعد النهي رفع للنهي، ما الفرق بين القولين؟(5/476)
ج: إن القول الأول لا يكون الحكم إلا للحل فقط، وأما القول الثاني فقد يكون للإباحة وقد يكون للاستحباب، نعم، لأن الأمر بعد النهي يرفع النهي فقط فيبقى الحكم على ما كان قبل النهي، وهذا يقول: إنه يرفع النهي ويكون للحل.
س: ما هو التعليل؟ تعليل قول ما نقول إنه يكون للحل؟ نعم .
ج: لأنه رجع إلى ما كان عليه قبل النهي.
س: ما هذا؟
ج: أنا أقصد الذين قالوا: إن النهي ... إن الأمر بعد النهي يكون للحل، يقولون يا شيخ: إنه يعود إلى حكمه الأول الذي قبل النهي.
س: ما هو الحكم الأول ؟
ج: لأن النهي في الحكم الأول ورد ثم نُسخ بالأمر الثاني، يعني: أن الحكم الأول نُسخ نهائيا بالنهي، فلما ارتفع ارتفع النهي، أدى إلى الحِل فقط، ولأن الحكم الأول لم يبق بعدُ حين ورد عليه النهي واضح - نعم يا شيخ
س: طيب المثال؟
ج: قوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } هذا بعد النهي: بعد تحريم الصيد للمُحْرِم.
مثال آخر قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) } إلى قوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا } " فانتشروا في الأرض " نعم ، نعم.
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ }
الأمر للانتشار في الأرض هنا للإباحة، على قول أو للاثنين على قول آخر: إذا قلنا: إن الأمر بعد النهي رفع للنهي فقط .
س: إذا وردت عبادة على وجهين، فهل يجمع بينهما أو يُؤخذ بالأوفى منهما؟ أو نفعل مرة كذا ومرة كذا ؟
ج: الأفضل أن يُفعل مرة كذا ومرة كذا، نعم، مرة بهذه ومرة بالثانية.
س: طيب علل؟(5/477)
ج: التعليل في ذلك إحياء لسنة النبي r هذه واحدة، لإحياء السنتين، نعم ... نعم، أيضا لتنوع العبادة لما ورد فيها من فضل يعني: لإحياء السنة وحفظها أيضا، يعني: إذا لم تفعل الصفة الأخرى ضاعت، ففيها العمل بالسنتين، وفيها حفظ السنتين.
س: ممكن تمثل؟
ج: نعم، مثل دعاء الاستفتاح، نعم، ورد: " سبحانك اللهم وبحمدك " وأيضا ورد: " اللهم باعد بين خطاياي " فيُعمل بهذا تارة ، ويُعمل بهذا تارة . نعم.
س: ومثل ذلك -أيضا- التسبيح بعد الصلاة … أريد من أحد الطلاب أن يذكر هذا؟ .
ج: هناك صفات متعددة الأولى: أن يقول سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر ثلاثا وثلاثين ويكمل المائة ويكمل المائة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " أحسنت .
س: هذه صفة ، الصفة الثانية ؟
ج: الصفة الثانية: أن يقول: " سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين، ويكمل تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " .
س: ما هي الصفة الأولى ؟ نعم
ج: هناك صفتان.
لرفع النهي فيعود إلى الأصل، س: الصفة الثانية ماذا ؟
ج: هو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمسا وعشرين مرة .
والصفة الأخرى أن يقول: سبحان الله عشرا والحمد لله عشرا والله أكبر عشرا
س: والصفة الأولى ماذا تقول فيها ؟
ج: الأولى أن يقول: سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر كذلك.
سبحان الله ثلاثا وثلاثين وحدها، والحمد ثلاثا وثلاثين وحدها، والله أكبر أربعا وثلاثين .
إذا ينبغي أن يقول هذا مرة وهذا مرة ، بارك الله فيكم ، نبدأ.
الآن الدرس الجديد ، يقول الناظم :(5/478)
"والزم طريقة النبي المصطفى" : الزم أيها العبد طريقة النبي المصطفى ويريد به محمدا، ويريد به محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فإنه r مصطفى اصطفاه الله -تعالى- كما اصطفى إخوانه من المرسلين، لكنه r كان أفضلهم.
اصطفاه الله -تعالى- عليهم من عدة وجوه، وهذا داخل في عموم قوله -تبارك وتعالى-: { * تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ }
وأما قول النبي r " لا تفضلوني على يونس بن متى " فإنما قاله r حيث حصل النزاع بين رجل من بني إسرائيل يهودي وبين أحد المسلمين، فمتى أدَّت المفاضلة بين النبي r وغيره من الرسل إلى نزاع يؤدي إلى تهوين شأن الرسل الآخرين أو تهوين محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فإن الواجب الكف عنه.
وقول الناظم: "الزم طريقة النبي المصطفى" فيها أدلة كثيرة منها قوله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ومنها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ومنها قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ومنها قوله تعالى: { فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) }
ومنها قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار " والأدلة على ذلك أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصى .(5/479)
وقول الناظم: "طريقة النبي" يشمل: طريقته العَقَدية، وطريقته القولية، وطريقته الفعلية، وكل ما تعبد به النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ربه فإنه مشروع لنا أن نتبعه فيه، إما على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب حسب الأدلة الواردة في ذلك .
والنبي: هو مَنْ أُوحيَ إليه بالشرع، وسمي النبي نبيا لأنه مُنَبَّأٌ ومُنْبِئٌ. فهو منبَّأٌ من قِبَل الله ومُنْبِئٌ عن الله -تعالى- مبلغ عنه، وهذا أحد الأدلة التي يحصل بها التكليف، يعني: سنة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- نعم، كما سيأتي -إن شاء الله- بعد بيت من هذه المنظومة .
"وخذ بقول الراشدين الخُلَفَا" يعني: ذلك اتباع الخلفاء الراشدين المهديين، لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .
وأول من يدخل في هؤلاء الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فهؤلاء إذا اجتمعوا على شيء فقولهم حجة بلا شك، وإذا انفرد أحدهم من غير مخالف فقوله حجة، ولا سيما قول أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فإن رسول الله r نص عليه حيث قال: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر " .
وقال r " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " لكن قولهم حجة بشرط ألا يعارضه النص، فإن عارضه نص وجب الأخذ بالنص؛ لأن سنة النبي r مقدمة؛ ولهذا قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء " .(5/480)
ولا يمكن أن يُحتج بقول أحد على قول رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مهما كان الأمر، ولا يُحتج بفعل أحد على قول رسول الله -عليه وعلى آله وسلم-، وبهذا تعرف ضعف قول من يقول من العلماء: إنه يجوز أن يأخذ الإنسان باللحية لما زاد عن القبضة لفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- ، فإنه كان إذا حج أخذ من لحيته ما زاد عن القبضة؛ لأن هذا الفعل مخالف لأخلاق النبي -صلى الله عيه وعلى آله وسلم- في قوله: " أَعفوا اللِّحى " فإنه مطلق غير مقيد حتى وإن كان ابن عمر -رضي الله عنهما- أحد رواة هذا الحديث؛ لأن العبرة بما روى الصحابي لا بما رأى إذا كان مخالفا لما روى.
حجية قول الصحابي:
ثم قال الناظم :
قول الصحابي حجة على الأصح
ما لم يخالف مثله فما رجح
"قول الصحابي حجة" والصحابي عند علماء الحديث: كل من اجتمع بالنبي r مؤمنا به ومات على ذلك، سواء رآه أم لم يرَه، إذ العبرة بالاجتماع.
وقولنا: (بالنبي) يفيد أنه لا بد أن يكون اجتماعه به بعد أن أوحي إليه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فمن اجتمع به قبل أن يُنَبّأ فليس بصحابي وإن آمن بنبوته أو آمن به بعد نبوته فإنه لا يكون صحابيا، لكن إن آمن به بعد نبوته واجتمع به صار صحابيا، إن آمن بالنبي r قبل نبوته واجتمع به بعد نبوته صار صحابيا.
وقوله: "حجة" أي: دليل يحتج به، وقوله: "على الأصح" أفاد بأن في هذا خلاف بين العلماء، فإن من العلماء مَن قال: إن قول الصحابي ليس بحجة؛ لأنه ليس بمعصوم، والحجة إنما هي في قول المعصوم، أما غيره فإن قوله ليس بحجة.
وتوسط بعض أهل العلم في هذه المسألة فقال: أما الصحابي المعروف بالعلم والفقه وملازمة النبي r فقوله حجة، وأما من ليس كذلك فقوله ليس بحجة، وهذا ما عدا أبا بكر وعمر فإن قولهما حجة كما سبقت الإشارة إليه، وكذلك قول عثمان وعلي -رضي الله عنهما- .(5/481)
وعلى هذا فنخلص قول الصحابي إذا كان من فقهاء الصحابة المعروفين بملازمة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حجة، وأما الصحابي الذي لم يعرف بملازمة النبي r ولا كان معروفا بالفقه ، فإن قوله ليس بحجة ، بل لا بد أن يُعرض على الكتاب والسنة.
الأقوال إذا ثلاثة: الأول: بأنه حجة مطلقة، والثاني: أنه ليس بحجة مطلقة، والثالث: التفصيل، والتفصيل هو الذي قام عليه الدليل لكن المؤلف اشترط، نعم، لكن الناظم اشترط وقال:
"ما لم يخالف مثله"يعني: ما لم يخالف صحابيا مثله في الصحبة والعلم والفقه وملازمة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فإن خالفه مثله قال: "فما رجح" يعني: فالحجة ما رجح أي: ما رجح من قول الصحابة المختلَفِين، وقوله: "ما لم يخالف مثله" يفيد أنه لو خالفه مَن هو أفقه منه وأعلم منه، فإنه ليس بحجة وكذلك -أيضا- ما لو خالفه النص فإن قول الصحابي ليس بحجة.
حجية الإجماع:
ثم قال الناظم: "وحجة التكليف خذها أربعة": حجة التكليف يعني: الأدلة التي يحصل بها التكليف، أي: تكليف العباد، "خذها أربعة" -حجة مبتدأ وأربعة خبرها-: "قرآننا وسنة مثبتة"
من بعدها إجماع هذي الأمة
والرابع القياس فافهمنَّه
هذه أربعة، هذه أربعة أدلة: الأول: القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم حجة بإجماع المسلمين، ولكنه حجة على من بلغه وفهمه، أما من بلغه ولم يفهمه فإنه قد لا يكون قامت عليه الحجة؛ لقول الله تعالى: { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) } لأنهم لا يفهمونه ولا يعرفونه، ولهذا قال U { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }
فالقرآن حجة ملزِمة لمن بلغه القرآن كما قال تعالى: { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ولكن لا بد أن يكون عارفا بمعناه.(5/482)
أما الثاني: فقال: "سُنَّة مُثبتة" (سنة) يعني: عن النبي r (مثبتة) يعني: مثبتها على ذمة النقد فخرج بذلك ما لم يكن مثبتا كالأحاديث الضعيفة والموضوعة فإنها ليست بحجة.
أما الموضوعة وهي المكذوبة على رسول الله r فإنها ليست بحجة، ولا يجوز نقلها وتداولها إلا لمن أراد أن يبين أنها موضوعة حتى لا يُقِرَّ الناس بها.
وأما الضعيفة فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في نقل الضعيف وروايته، فمنهم من أجازه مطلقا، ولكن هذا لا أظن أحدا يَثْبُت قدمُه على القول به.
ومنهم من منعه مطلقا وقال: إن الضعيف لا تجوز نسبته إلى الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ لأنه ضعيف. وإذا كنا نتحرى في النقل عن واحد من البشر فالتحري في النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من بابٍ أولى.
رواية الضعيف:
ومنهم من أجاز رواية الضعيف بشروط ثلاثة :
الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديدا.
والشرط الثاني: ألا يعتقد صحة نسبه إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الشرط الثالث: أن يكون في أصل ثابت، بمعنى: أنه لا يثبت به أصل حكم من الأحكام، ولكنه يذكر على سبيل الترغيب فيما هو مطلوب، أو الترهيب مما هو منهي عنه، بمعنى: أنه إذا ورد الحديث الضعيف في فضيلة أمر ثابت، ومأمور به فلا بأس من ذكره؛ لأنه إن صح عن النبي r فقد حصل ما رتب على الفعل من الثواب، وإن لم يصح كان فيه تنشيط للنفس على العمل المطلوب.
وكذلك يقال الترهيب فإنه لا بأس بذكر الأحاديث الضعيفة بشرط أن يكون أصلها بالحديث ، أصل هذا المعنى الذي ورد بالحديث ثابتة مثل أن يرد حديث ضعيف في آثام الزنا والربا وما أشبه ذلك ، فإن هذا لا بأس من ذكره عند بعض العلماء ولكن لا بد من ملاحظة الشرطين الآخرين وهما ألا يكون الضعف شديدا ، فإن كان الضعف شديدا فإنه لا تجوز روايته ولا نقله إلا مقرونا ببيان ضعفه.(5/483)
والشرط الثالث: ألا يعتقد صحة ثبوته عن رسول الله r وبناء على هذا الشرط أرى أنه لا ينبغي إطلاقا أن يذكر الحديث الضعيف عند العامة سواء كان في فضائل الأعمال أو غيره؛ لأن العامي لا يميز بين كونه يعتقد أنه صحيح إلى رسول الله r أو لا، إذ أن ما قيل في المحراب فهو ثوابت عند العامة. فلَيْتَ إخواننا الوعاظ عدلوا عن ذكر الأحاديث الضعيفة في الوعظ إلى ذكر الأحاديث الصحيحة وكفى بها واعظا.
ولم يَذكر في القرآن أن يكون مثبَّتا لأن القرآن ثابت بالنقل المتواتر الذي كان يتلقاه الصغار عن الكبار منذ عهد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى يومنا هذا -ولله الحمد-؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله- من أنكر حرفا من القرآن مما لم تختلف فيه القراءات فإنه كافر، ومن زعم أن القرآن قد حُذف منه شيء فإنه كافر؛ لأنه مكذب لقول الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } ومكذب لإجماع الأمة المعصومة، فإن الأمة المعصومة اتفقت بأجمعها على أن ما بين دفتي المصحف هو القرآن الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ليس فيه زيادة ولا نقص إلا ما اختلف القراء فيه من حرف أو حركة .
الثالث من حجة التكليف أي: من الأدلة التي يثبت بها التكليف ما أشار إليه الناظم بقوله : "من بعدها - أي: من بعد السنة - إجماع هذه الأمة"، والإجماع في اللغة الاتفاق والعزم، أما كونه بمعنى الاتفاق هذا أمر معروف. تقول: أجمع الناس على كذا، أي: اتفقوا عليه.
وأما كونه بمعنى العزم فذكروا له مثل قوله -تبارك وتعالى-: { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } قالوا: معنى { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ } أي: اعزموه ولا تفترقوا فيه.
أما الإجماع المصطلح عليه: فهو اتفاق مجتهدي الأمة على حكم شرعي بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .(5/484)
فقولنا: إجماع مجتهدي الأمة خرج بها المقلدون، فإن المقلد ليس من المجتهدين، فلا يعتبر قوله في الخلاف والإجماع؛ لأن المقلد حقيقته أنه نسخة من كتاب أو قول، مقرر للمقلدين وليس مستقلا بنفسه ، وبهذا يتبين أنه ينبغي لنا أن نحرر أنفسنا من التقليد الأعمى والتعصب الأهوج الذي يسلكه بعض الناس، وأن نحاول الوصول إلى معرفة الحق من أصوله: الكتاب والسنة.
وقوله: "مجتهدي هذه الأمة" احترازا ، مما فيه الاحتراز من مجتهدي غير هذه الأمة؛ فإن قولهم: "ليس بحجة" ولا يعتبر قولهم إطلاقا في مسائل الشرع.
وقوله: على حكم من بعد موت النبي r خرج به ما لا يتفق على حكم في حياة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فإن ما كان في حياته -عليه الصلاة والسلام- يعتبر من سنته سواء علم به أم لم يعلمه، أم لم يعلم به؛ لأننا على تقدير أن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يعلم به فإن الله تعالى قد علمه، فإذا أقره الله تعالى ولم ينكر دل ذلك على أنه حق.
وقوله: "إجماع هذه الأمة" يفيد أن إجماع غيرها ليس بحجة، وقد ذكرناه، فإن قال قائل: ما الدليل على أنه ليس بحجة ؟ قلنا: لذلك إشارات في القرآن، منها قوله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ }
فإن قوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } يدل على أن محل الافتقار إلى الكتاب والسنة إنما هو عند النزاع، أما عند الإجماع فالإجماع حجة بنفسه فلا يحتاج إلى استدلال.(5/485)
ومنها قوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } فإن قوله: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } يدل على أن إجماع المسلمين ... إجماع المؤمنين حجة، وأن من خرج عن هذا الإجماع فقد خرج عن سبيل المؤمنين، فيكون بذلك آثما عاصيا .
ومنها ما يروى عن النبي r أنه قال: " إن أمتي لا تجتمع على ضلال " ولكن يبقى النظر، هل يمكن الاطلاع على الإجماع وهذا في كل عصر ؟ أو نكتفي بعدم وجود مخالف ؟
من المعلوم أن عدم العلم بالمخالف ليس علما بالإجماع، يعني: إن الإنسان قد يقصر علمه عن الإحاطة بأقوال العلماء، ولا سيما في الأزمنة السابقة أيام كانت المواصلات على الإبل والبغال والحمير والأقدام، ولا يمكن الإحاطة بمشارق الأرض ومغاربها في بيان حكم من الأحكام.
فلذلك أنكر قوم الإجماع وقالوا: إن هذا الخلاف في كون الإجماع حجة أو لا ، خلاف فيما لا يمكن الوصول إليه؛ لأن الإجماع يتعذر علمه ولا سيما فيما سبق من الأزمنة وكون الإنسان لا يعلم مخالفا لا يعني أن الناس أجمعوا على ذلك، وقد توسط قوم من أهل العلم في هذه المسألة وقالوا: الإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، يعني بذلك: القرون المفضلة الصحابة والتابعون وتابعوهم، يعني: ثلاث طبقات وذلك لأنه بعد هذه الطبقات انتشرت الأمة، واتسعت في أقطاب الأرض، وكثرت الأهواء والفتن والخلاف.
فالإجماع المعتبر عند هؤلاء هو ما كان من القرون المفضلة الثلاثة: الصحابة والتابعين وتابعيهم، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام -رحمه الله- حيث قال في كتابه (العقيدة الوسطية) ، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشر الأمة.(5/486)
ثم اعلم أن الغالب أن الإجماع على حكم لا يكون إلا عن دليل ، إما من القرآن أو السنة ، وإذا كان كذلك فيكون إجماعا مقررا في الواقع وليس دليلا مستقلا، لكن الدليل قد يعلم به الإنسان وقد لا يعلم ، قد يكون إنسان محيط بالأدلة غالبا ولكنه لم يعلم مخالفا يظن أن الإجماع ... أن الحكم ثبت بالإجماع، وقد يكون الإنسان غير ملم تماما بالأدلة لكن عنده إحاطة كاملة بالخلاف والوفاء بين العلماء فينقل الإجماع.
ولا يرد على هذا أن المسلمين أجمعوا على وجوب الصلوات الخمس ، أجمعوا على وجوب الزكاة، أجمعوا على وجوب الصوم، أجمعوا على وجوب الحج؛ لأن هذه الأحكام ثبتت بالنص.
حجية القياس:
قال: "والرابع القياس فافهمنَّه"، الرابع: القياس وهو إلحاق فرع بأصل لعلة جاءت في حُكم. لعلة جاءت، يعني: أن تُلحِق فرعا وهو المَقِيس بأصل وهو المَقِيس عليه في حكم من الأحكام، كالتحريم والإيجاب وما أشبه ذلك لعلة جامعة، أي: لمعنى يجمع بين الأصل والفرع ثبت به الحكم .
وقوله: "فافهمنه" أي: افهم القياس تماما، افهم المقيس قياسا آكدا لا يختلف فيه الأصل والفرع وما أشبه ذلك من الأقيسة الثابتة، ومنه أن يكون قياسا مخالفا للنص، فالقياس الفاسد لا يعول عليه؛ ولهذا نص الناظم على فهم القياس، قال : "فافهمنه"، أي: افهم القياس وليكن قياسك صحيحا.
فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن القياس حُجة؟ قلنا: الأدلة من القرآن والسنة، فمن القرآن يمكنك أن تقول كل مثل ضربه الله في القرآن فإنه بين على القياس؛ لأن المقصود بذلك أن يعتبر الناس بالمثل فيقيسوا عليه ما شابهه، وهذا هو عين القياس.(5/487)
ومن ذلك ما جاء في القرآن قول الله تبارك وتعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فإنه لا يمكن أن يكون في قصصهم عبرة إلا أن المقيس ما ماثل أحوالهم على أحواله، وقال الله تبارك وتعالى: { * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) }
وأما من السُّنة فالأدلة على القياس متعددة ومتنوعة فمن ذلك أن النبي r أذن للمرأة التي سألته أن أمها نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أذِن لها أن تحج عن أمها وقال: " أرأيتِ إن كان على أمك دَيْنٌ أكنت قاضيته ؟ قالت: نعم، قال: فاقضوا الله فالله أحق بالوفاء " .
ومنها -أي: من أدلة السنة- أن النبي r أتاه رجل أعرابي أظنه قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود أي بلون مخالف للون أبيه وأمه، فكأنه يسأل ما وجه ذلك، كيف يخالف لونه لون أبيه وأمه؟ .
وقال بعض العلماء: إنه متعذر في أمه أي بزوجته وكأنها جاءت بولد من غيره، ولكن الأول أقرب لما فيه من إحسان الظن بالصحابة أي أنه أراد أن يعرف وجه كون لون الابن مخالف للونهما، فقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " هل لك من الإبل ؟ قال : نعم ، قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر قال : هل فيها من أوْرَق؟ قال : نعم، قال: فمن أين أتاها؟ قال : لعله نازعه عرق يا رسول الله، قال النبي r فابنك هذا لعله نازعه عرق " .
فدل ذلك على ثبوت القياس، قاس النبي r ... قاس النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجود الجمل الأوْرق بين إبلٍ حمر على وجود ولد أسود بين أبوين لونهما يخالف لونه؛ لأن القادر على هذا قادر على هذا.
والأمثلة على هذا كثيرة -أي: على كون القياس حجة- كثيرة، وهو أيضا مقتضى حكمة الله U فإن الحكمة تقتضي أن يساوى النظير بنظيره، وأن يفرق بين المختلفين.(5/488)
واعلم أنه لا قياس في مقابلة النص. فمن قاس قياسا مخالفا للنص فقياسه باطل من وجهين: الوجه الأول: مخالفة النص والوجه الثاني: أنه لا بد أن يكون بين المَقيس والمَقيس عليه فرق من أجله ثبت الفرق بينهما بالكتاب والسنة.
ومن ذلك مثلا أن بعض أهل العلم -رحمهم الله- قاسوا تزويج المرأة نفسها إذا كانت ثيِّبا على بيعها مالها لنفسها، وقال: إذا كانت تملك أن تبيع مالها -ولو كان جميع مالها- بدون إذن وليِّها، فكذلك تملك أن تزوج نفسها بدون إذن وليِّها إذا كانت عاقلة.
وهذا القياس قياس باطل؛ لأنه في مقابلة النص، فقد ثبت عن النبي r أنه قال: " لا تنكح الأَيِّم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البِكر حتى تُستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: إذنها أن تَسكت " .
فنهى النبي r أن تُزوج المرأة بغير إذن، بغير ولي؛ لأنه لو كانت تملك أن تزوج نفسها ما احتاج أن يقول لا تنكح البكر، ولا تنكح الأيم ، فلا بد من أن يكون لها ولي، وقال النبي r مصرحا بذلك : " لا نكاح إلا بوَلي " فالقياس إذا غير صحيح؛ لأنه مصادم للنص.
هذا وإلى هنا ينتهي الدرس لهذا اليوم أسأل الله أن يجعل علمنا نافعا لنا ، مقربا مثلنا إليه ، إنه على كل شيء قدير .
نعم ..
س: فضيلة الشيخ هذا سائل يقول : هل يشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلوات المفروضة أم لا ؟
ج: نعم يُشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلوات؛ وذلك لأن النصوص وردت عامة، وإذا ورد النص عاما فإنه يبقى على عمومه. هذا هو الأصل.(5/489)
وعلى هذا فنقول: يشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة دُبر الصلوات، ولكن يسأل إذا كان يريد أن يجمع، فهل يفصل بين المجموعتين بالذكر الوارد ؟ أو يكتفي بالذكر بعد الثانية، ويكون ذلك من باب اجتماع العبادات والاكتفاء ببعضها، كما لو دخل المسجد وصلى راتبة الصلاة فإنها تكفيه عن تحية المسجد، هذا يحتمل وجهين، ولكن لا شك أنه لا يأتي بالذكر بعد الأولى ، إلا أنه إذا فرغ من الثانية أتى بالذكر، ثم هل يكتفي بذكر واحد كما قلنا في تحية المسجد مع الراتبة أم لا بد من الذكرين جميعا؟
الأحوط والأكمل أن يأتي بالذكرين جميعا وإن اقتصر على ذكر واحد للصلاتين جميعا فأرجو أن يكون كافيا.
نعم ...
س: هذا يقول: يا شيخ، نحن مجموعة من الشباب ندرس في منطقة بعيدة عن بلدنا يغلب على أهلها الجهل بأحكام الدين، وينتشر في هذه البلدة ما يسمى بالزار، ويذهب إليه كثير من الناس فكيف يمكن دعوة هؤلاء الناس؟ وجزاكم الله خيرا ؟
ج: يمكن دعوة هؤلاء الناس بالتي هي أحسن بأن يتكلم الرجل عن حكم هذه الاجتماعات مدلِّلا عليها بأدلة الكتاب والسنة وأقوال العلماء الموثوقين دون أن يجابه العوام بالإنكار بالقول أو بالفعل؛ لأن الشيء الذي اعتاده الناس يصعب جدا أن ينزلوا عنه إلا بسلطان بيِّن، وأعني بالسلطان: الكلام المقنع بأدلته من الكتاب والسنة.
ثم إنه ليس بلازم أن يقول الإنسان بالمجتمعات: المساجد ومحلات الاجتماع، ويتكلم ليس بلازم، ربما يتكلم مع أهله وأقاربه، فإذا تكلم هذا مع أهله وأقاربه وهذا مع أهله وأقاربه واقتنعوا حصل رفع ذلك الأمر المنكر .
نعم ..
س: وهذا يقول: شيخنا الفاضل، لا قياس في العبادات. هل هذه القاعدة على إطلاقها أم لها شروط ؟(5/490)
ج: بتثبتنا لأقوال العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة أنه لا قياس في إثبات أصل العبادة، أما في إثبات بعض شروطها وواجباتها فهم يقيسون كثيرا، من ذلك مثلا أنه ورد في التسمية عند الوضوء حتى جعلها بعض العلماء من شرط صحة الوضوء لما يروى عن النبي r " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " على أن العلماء اختلفوا في ثبوت هذا الحديث .
والإمام أحمد -رحمه الله- قال: لم يثبت في هذا الباب شيء ، لكن على قول من يقول: إن الحديث حجة، وإنه لا بد من التسمية على الوضوء، من العلماء من قال: يقاس على الوضوء الغسل؛ ، لأنه إذا ثبت وجود التسمية على الوضوء وهو حدث أصغر لثبت وجوبها في الأكبر من باب أولى.
ثم منهم من تعدى وقال: وتجب أيضا في التيمم كما تجب في الوضوء، أنت ترى أن هؤلاء قاسوا شيئا من واجبات العبادة على شيء لم يثبت، مع أن المتتبع للأحاديث في صفة الوضوء وفي صفة التيمم يتبين له أن ذلك ليس بواجب، يعني: التسمية لا على الوضوء ولا على الغسل ولا على التيمم، والأمثلة على هذا كثيرة، فالذي يتبين أن الضابط على وجه التقريب أن إثبات عبادة مستقلة قياسا على عبادة أخرى لا يثبت.
وأما قياس وصف في عبادة على عبادة تماثلها أو على عبادة من جنسها هذا قد يثبت، لو أن أحدا قال : الاجتماع في الصلوات الخمس لا شك أنه مشروع ، وأن الإنسان إذا دخل المسجد استحب له أن يذكر اسم الله بالذكر الوارد، فهل الاجتماع للقرآن أو لتعلم العلم بقياس على هذا ؟ ونقول: إنه اجتماع على عبادة، فيشرع له الذكر عند دخول المحل كما شرع بالمسجد أو ما أشبه ذلك ، نقول: لا، هذا لا يثبت لأن الاجتماع على العلم ودراسة القرآن ليس كالاجتماع على الصلوات الخمس مثلا، والضابط -أو أقرب ما يكون من الضوابط- هو ما ذكرت، وأما أن تثبت سنة مستقلة قياسا على سنة مستقلة فهذا ليس بوارد .
نعم ..(5/491)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ينتشر في بلادنا الذهاب إلى الكهنة والعرافين -لا كثَّرهم الله- وعندما نُحذر من الذهاب إليهم يحتجّ علينا البعض بأنه لا يوجد بديل وأنا أريد العافية لهذا المريض المسكين وغير ذلك، فهل تنصحني فضيلة الشيخ بالتصدي للعلاج بالكتاب والسنة، وما هي الضوابط والوصايا حول هذا ؟ وجزاكم الله خيرا .
نعم ..
ج: نحن ننصح كل إخواننا المصابين بمرض طارئ أو مرض دائم، بمرض يتعلق بالعقل أو بالجسد أن يلجئوا إلى الله U وأن يستعملوا الرُّقى الجائزة؛ لأنها كلها خير، فمن ذلك مثلا أن يقرأ على المريض أو المصاب بفاتحة الكتاب فإن قراءة فاتحة الكتاب لها أثر بالغ في شفاء المريض.
دليل ذلك " أن النبي r بعث سَرية فنزلوا على قوم فلم يضيفوهم القوم، فتنحوا ناحية ونزلوا، ثم يسّر الله تعالى لرئيسهم أن لدغته عقرب، فبحثوا عن راقٍ يرقي عليه فقال البعض: لعل في القوم الذين نزلوا بكم عندهم راق.
فجاءوا إلى الصحابة وقالوا لهم: هل فيكم من راق؟ قالوا: نعم، لكننا لا نرقي إلا بكذا وكذا من الغنم، فقالوا: ولكم ذلك إن شفاه الله، فذهب أحد القوم من الصحابة يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأنما نشِط من عقال أبرأه الله وأخذوا ما أخذوا من الغنم التي اشترطوها عليهم حتى قدموا المدينة وأخبروا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- واستفتوه في حِل هذه الغنم فقال -عليه الصلاة والسلام-: خذوا واضربوا لي معكم بسهم. ثم قال للقارئ الذي قرأ بأم الكتاب: وما يدريك، وما يدريك أنها رقية؟ " .
وقد جرب هذا ووجد أن لها تأثيرا بالغا في الشفاء من المرض، وكذلك قراءة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) } لهم تأثير بالغ في الشفاء من السِّحر؛ لأن النبي r رقى بهما.(5/492)
" فإن النبي r سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى صار -النبي عليه الصلاة والسلام- يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله " لكن ذلك لم يؤثر على ما عنده r من الوحي والشريعة، ثم رقي r بهاتين السورتين فشفاه الله تعالى.
فدل ذلك على تأثير القراءة في الشفاء من المرض، ولكن لا بد من شرطين مهمين في تأثير القراءة على المرضى، الشرط الأول: أن يكون عند القارئ إيمان ويقين بأنها نافعة، أي: بأن القراءة نافعة وأن يكون عنده قوة وعزيمة فتؤثر عند القراءة .
والشرط الثاني : أن يكون المقروء عليه -أي: المريض- قابلا لهذا العلاج مطمئنا إليه واثقا به، فإن لم يكن الشرطان فإنه لا أثر لها، كما نجد الآن أن بعض الناس يقرءون نفس الفاتحة على المريض فيكررها ولكن لا جدوى؛ لأن هناك خللا إما في نفس القارئ أو في نفس المقروء عليه، لما في نفس القارئ بأن تكون قراءته على سبيل التجربة، يقول: أجرب ... أشوف، هل تفيد أو لا ؟ هذا لا شك أنه لا يستفيد؛ لأن هذا لم يؤمن بقول الرسول r وما يدريك أنها رقية ؟
وكذلك أيضا نفس المريض بأن لا ينفعل ولا يتأثر بالقراءة عليه ويقول: ما أدري لعلها تنفع أو لا تنفع. فلا بد من يقين وإيمان بأن هذه القراءة نافعة، من القارئ ومن المقروء عليه، ويشفى بإذن الله .
وأما المشعبذين، أو المشعوذين فإن كثيرا منهم كذاب يريد أن يبتز أموال الناس؛ ولهذا تجده يقول: فيك كذا أو كذا أحيانا، وأحيانا يكون عنده ذكاء وفطنة، فيكذب يقول: عندك كذا، وإذا تأمل المريض أو أقارب المريض تبين لهم أنه كاذب.(5/493)
لذلك نحذر إخواننا من الأوهام التي ترد على أنفسهم، فإن الوهم أصبح العامل الرئيسي في اعتقاد أن ما أصيب به الإنسان إما من الجن وإما من السحر، وهذا من الغلط العظيم، ما كل مرض يكون من السحر، ما كل مرض يكون من الجن أبدا ، الأمراض متنوعة لكن النفوس إذا توهمت وخيل إليها الشيء ربما يكون حقيقة عندها، أو ربما تنفعل النفس حتى يكون عندها كالحقيقة وليس بحقيقة.
فنحن نحذر إخواننا الذين يبتلون بمثل هذه الوساوس أن يستعينوا بالله U من الشيطان الرجيم، وأن يقبلوا على آمالهم وألا يكترثوا بذلك ولا يهتموا به، وإذا تناسوه شفاهم الله منه .
أما إن تعلقت قلوبهم بذلك وصار كل واحد منهم يقول، لعله أصابه مس، لعله أصابه سحر، لعله أصابته عَين لعله كذا فسوف يكون فريسة للأوهام، ويعجز عن انتشال نفسه.
وكذلك أيضا كون بعض الناس يذهب إلى هؤلاء المشعوذين يتأثر بنشاط فيعتقد أنه زال مرضه، كل هذا مبني على الوهم؛ لأنه يعتقد أن لهؤلاء تأثيرا، فيتأثر ولو كان يعرف حقيقتهم، وأنهم لن يجدوا شيئا ما تأثر بهم نسأل الله لنا ولإخواننا السلامة والعافية، وأن يجعل ما رزقنا من نعمة وقوة وصحة عونا لنا على طاعته إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
إنما الأعمال بالنيات
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته في المهديين:
واحكم لكل عامل بنيته
فإنما الأعمال بالنيات
ويحرم المضي فيما فسدا
والنفل جوز قطعه ما لم يقع
واسدد على المحتال باب حِيلته
كما أتى في خبر الثقاتِ
إلا بحج واعتمار أبدا
حجا وعمرة فقطعه امتنع
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..(5/494)
فهذا هو الدرس الثامن من دروس الدورة التي تقام في درس علم سبعة عشر وأربعمائة وألف بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانة بالرياض وهذا هو يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة سبعة عشر وأربعمائة وألف
س: وقبل أن نتكلم على ما سمعنا من الأبيات نناقش في آخر درس سبق، نقول: هل قول الخلفاء الراشدين حجة؟ وما هو الدليل ؟
ج: قول الخلفاء الراشدين حجة، والدليل قول المصطفى r " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " .
س: ما هو النص الخاص بأبي بكر وعمر في هذا الموضوع ؟
ج: قول الرسول r " اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر " .
نعم ..
وقوله: " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " قال ذلك ثلاثا أليس كذلك ؟ بلى يا شيخ .
س: قول الصحابي مختلف فيه، هل هو حجة أو لا، فما هو القول الراجح في هذا ؟
ج: الصحابي الذي عُرف بفقهه وصحبته للرسول r وانتشر، يعني: انتشر فقهه، فهذا قوله حجة، الصحابي الذي عرف بالصحبة ولم يعرف بالفقه، فقوله ليس حجة.
س: ما شرط كون قول الصحابي حجة ؟
ج: ألا يخالف مثله أو من يفوقه أو لا يخالف نصا من كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم .
س: نعم .. لا يخالف نصا أو صحابيا مثله أو فوقه، طيب، إذا خالف صحابيا مثله، فما الواجب؟
ج: أن نعرضه على كتاب الله وسنة رسوله، يعني: ما توجه نأخذ به .
نعم ..
س: يقول العلماء غالبا: إن الأدلة التي يحصل بها التكليف أربعة، فما هي ؟
ج: أولا القرآن الكريم، الثاني: سنة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- الثالث: الإجماع، الرابع: القياس الصحيح.
س: الناظم يقول : "وسنة مُثَبَّتة" فما وجه هذا القيد ؟
ج: أن تكون السنة ثابتة ليست بضعيفة ولا موضوعة، يعني: احترازا من الضعيف والموضوع ؟
نعم .
س: أطلق بعض العلماء أن الحديث الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال ، فما رأيك في هذا الإطلاق ؟(5/495)
قال العلماء: أنه يحتج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ولكن لهذا الاحتجاج شروط، نعم … الأول : ألا يكون الضعف شديدا، نعم، الثاني: ألا يعتقد صحة سنده إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام-، الثالث: أن يكون على أصل ثابت .
س: أن يكون له أصل ثابت -أي نعم- مثِّل للأخير ، الأصل الثابت مثِّل - نعم يا شيخ - أن يكون له أصل ثابت ، يعني ، مثل لهذا ..
مثل الذكر الذي يذكر عند دخول السوق فإنه ضعيف ولكن يقال لأن هناك بعض الأقوال تقال في دخول بعض الأشياء والخروج منها .
هذا مثال غير صحيح ، ليس له أصل .
مثل الأحاديث التي فيها ترهيب أو الإثم لفاعل الزنا أو آكل الربا ونحوها .
إن كانت ترد أحاديث في شدة عقاب المرابي ضعيفة فيها من حيث السند لكن لها أصل، وهو الوعيد على الربا، فهنا نقول إن ثبتت هذه الأحاديث فهي حجة بنفسها، وإن لم تثبت ففيها زيادة ترهيب مما ثبت الترهيب عنه في الترغيب فيما ثبت أصله .
مثل فضل الصلوات الخمس- نعم، مثل صلاة الجماعة -نعم- ترد فيها أحاديث مثلا في كثرة ثواب المصلي مع الجماعة، ضعيفة هي من حيث السند، لكن نقول: لها أصل ثابت فلا بأس من ذكرها .
س: طيب .. هل الإجماع حجة من أي عالم كان ؟ أو لا بد من قيد ؟
ج: لا بد من قيد أو اجتهاد - لا بد من قيد أو اجتهاد .
س: لماذا لا بد من قيد أو اجتهاد ؟
ج: لإخراج المقلد، لأن المقلد لا يعدو أن يكون نسخة من كتاب أو قولا مكررا من متبوعه؛ ولهذا ذكر ابن عبد البر -رحمه الله- إجماع العلماء على أن المقلد ليس بعالم، فيها أيضا زيادة هل الإجماع معتبر في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أو لا ؟
س: لا بد أن يكون بعد وفاة النبي r لماذا؟
ج: لأن في حياة النبي r المرجع إليه وليس لإجماع الناس.
يعني: يكون ثابتا بالنص لا بالإجماع -نعم- طيب أيضا فيه شرط باقي أن يكون الإجماع من هذه الأمة، ولهذا قال الناظم : "إجماع هذي الأمة " وأما إجماع غيرها فليس بمعصوم فلا يحتج به .(5/496)
س: الناظم قال : "الرابع القياس" فما هو القياس ؟
ج: القياس إلحاق فرع بأصل حكم ... بحكم بعلة جامعة .
س: بماذا نسمي الأصل ؟
ج: الأصل الكتاب والسنة .
س: لا، ماذا نسميه -نعم يا شيخ- ماذا نسميه ؟
ج: الأصل نقيس عليه -هو المقيس عليه، والفرع؟ هو المقاس عليه … المقيس ... المقيس .
والحكم هو التحريم أو الإيجاب وما أشبه ذلك، والعلة هي المعنى الذي من أجله شرع الحكم.
س: طيب .. الناظم قال : "فافهمنه" ما الفائدة من هذا التذييل ؟
ج: لأن القياس الفاسد لا يعول عليه .
يعني: المعنى كأنه يقول : احذر من أن تقيس قياسا فاسدا، وافهم القياس وأنه هل هو مطابق تماما، وهو أن الأصل مطابق ، نعم ، وهو أن الفرع مطابق للأصل تماما أو لا .
س: طيب .. شرط القياس ألا يخالف النص ، فإن خالف النص ؟
ج: فلا قياس، فهو مردود ماذا يسميه العلماء ، القياس المخالف للنص.
يسمى القياس الفاسد، فاسد اعتبار ، يسمونه فاسد اعتبار ، مثال ؟
عندما قاس البعض على أن المرأة تجوز أن تزوج نفسها ، استدلوا ذلك من أنها تبيع وتشتري دون إذن وليها، فهذا قياس مع النص وهو فاسد .
يعني: كقياس تزويج المرأة نفسها بدون إذن وليها على بيع مالها دون إذن وليها ، فهو قياس فاسد . لماذا كان فاسدا ؟
وذلك لوجود النص قول الرسول r " لا نكاح إلا بولي " .
س: طيب ، رجل قاس لحم الخنزير على لحم الإبل في نقض الوضوء ، يعني: قال: إنه إذا أكل لحم خنزير انتقض وضوءه كما ينقض وضوءه بلحم، بأكل لحم الإبل ، ما تقول في هذا القياس ؟
ج: قياس غير صحيح ، فاسد -ليش- لأن النص أتى في الإبل فقط .
يمكنه أن يقول سأقيس لأن اللحم المحرم أخبث منه، من اللحم الحلال ، - لا توجد علة بينهم .
نعم ، نعم ، لأن العلة في نقض الوضوء بلحم الإبل ليست النجاسة حتى نقول إن لحم الخنزير مثله تماما ؟
س: ما هي العلة في نقض الوضوء بأكل لحم الإبل ؟(5/497)
ج: العلة ، بعض العلماء يقول: إنها تعبدية ، لأن نقض الوضوء بلحم الإبل تعبدي لا تعرف علته، ومنهم من قال: إن العلة هو أن الإبل خلقت من الشياطين وأن لحمها مؤثر على البدن، يثير البدن، ويثير الأعصاب والماء يسكن ذلك، الله أعلم.
وحقيقة أنا نقول فيما لم نعلم حكمته إن مجرد أمر النبي r به هو الحكمة، مجرد أمر الله به هو الحكمة، مجرد نهي الله عنه هو الحكمة، مجرد نهي الله عنه هو الحكمة بأن نعلم أن الشرع من لدن حكيم عليم، فإذا ورد بشيء فهو موافق للحكمة تماما سواء علمناها أم لم نعلمها .
يقول الناظم :
"واحكم لكل عامل بنيته" هذه قاعدة ، أنه يحكم لكل عامل بنيته، ودليل ذلك قول النبي r " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " وهذا الحديث من أجمع الأحاديث وأعظمها، وعليه مدار أعمال القلوب كلها.
وما من شك أنه ما من إنسان عاقل مختار يفعل فعلا إلا بنية، ولا يمكن أن يقع فعل من عاقل مختار بدون نية إطلاقا، هذه النية عليها مدار الجزاء من ثواب أو عقاب؛ لقول النبي r " وإنما لكل امرئ ما نوى " .
وهذا الحديث حديث عظيم ، عليه يدور ميزان الأعمال الباطنة ، وحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي r قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " هذا ميزان الأعمال الظاهرة، وهما بمعنى قولنا: إن شرط العبادة الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الإخلاص يكون بالنية، والمتابعة تكون بالعمل الظاهر، والناس يختلفون في النية اختلافا عظيما، تجد اثنين يصليان، أحدهما يقف بجنب الآخر وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض في الثواب ورِفعة الدرجات.
كل ذلك بناء على النية، مع أن الأفعال الظاهرة سواء لكن أعمال القلوب؛ ولهذا " سئل النبي r عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .(5/498)
فبيَّن -عليه الصلاة والسلام- أن الرجلين قد يقاتلان جميعا أحدهما في سبيل الله والثاني في سبيل الطاغوت؛ لأنه لا بد أن يكون له نية لأن كل فاعل يفعل الشيء وهو عاقل مختار فلا بد أن يكون له نية .
وإنني بهذه المناسبة أود أن أبين ما ابتلي به كثير من الناس اليوم من الوساوس؛ وذلك لكثرة الفراغ وعدم الانشغال وعدم الجد في العمل. كثرت الوساوس جدا فتجد الرجل يتوضأ ويقول: ما نويت، يتوضأ ويقول: ما أكملت المضمضة، ما أكملت الاستنشاق ، يغتسل ويقول: ما نويت رفع الحدث … وما أشبه ذلك، يصلي فيقول: ما كبَّرت ما قرأت الفاتحة وما أشبه ذلك من الوساوس العظيمة؛ لهذا نقول: إنه لا أثر لهذه الوساوس لأنها صادرة عن غير نية.
ويُذكر أن رجلا أتى إلى الشيخ علي بن عقيل أحد فقهاء مذهب الإمام أحمد المعتبرين، فقال له: إني حين انغمست في نهر دجلة لرفع الجنابة ثم خرجت وأنا في شك من ذلك، أو كما قال، فقال له الشيخ ابن عقيل : أرى أن لا تصلي، قال: ولم ؟ قال : لأن النبي r قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق " وما أضمن رجلا عليه جنابة حين انغمس في نهر دجلة ثم يقول: ما نويت رفع الحدث أو أنا شككت فيه .
وهذا من أقوى ... وهذا من أبلغ السخرية بهذا الرجل، ولهذا قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملا بلا نية لكان من التكليف ما لا يطاق.
ومن ذلك أن بعض الناس يبتلى بالوساوس في طلاق زوجته، فتجده لو فتح كتابا يقرؤه خُيِّل له أنه قال: امرأتي طالق مني لو فتحت هذا الكتاب، ولو خرج من البيت خيل له أنه قال: إن خرجتُ فامرأتي طالق وما أشبه ذلك، حتى يلجئه الوسواس إلى أن يقول: تخرج من هذه الوساوس ونطلق ثم يصدر الطلاق!!(5/499)
ومن كانت هذه حاله فإنه لا يعتبر له طلاق حتى لو طلق باللفظ الصريح، والحامل له على ذلك الوسواس فإنه لا طلاق عليه؛ لأن النبي r قال : " لا طلاق في إغلاق " وأي إغلاق أشد من الوسواس الذي يقذف الإنسان ويسيطر على عقله.
ثم قال : "واسدد على المحتال باب حيلته" هذه قاعدة أخرى، وهو أنه يجب أن يسد على المحتال باب الحيلة، وتلغى حيلته سواء كان ذلك في حق الله أو في حق العباد، وسواء كان ذلك في التحيُّل على إسقاط الواجبأو التحيل على فعل محرم .
مثال ذلك : أن يحتال على إسقاط الواجب، فمن المعلوم أن الإنسان إذا سافر في رمضان فإن له أن يفطر، وهذا رجل يريد أن يفطر في رمضان ويعلم أنه لا يمكن أن يفطر وهو مقيم فيسافر من أجل الفطر، فنقول له: إن سفرك حرام وإن فطرك حرام، يلزمك الصوم حتى
في السفر ؛ لأن سفرك هذا حيلة لإسقاط واجب فلا ينفعك هذا ، فلا تنفعك، فنسد عليه باب الحيلة .
نقول: إذا باع الرجل نصيبه من أرض مشتركة بينه وبين آخر، فإن لشريكه أن يأخذ الأرض من المشتري بالثمن الذي اشتراها به.
فيعمد بعض الناس -إذا اشترى الأرض- إلى إيقافها فورا؛ لأنه إذا أوقفها لم يتمكن الشريك من الشفعة؛ لأنها انتقلت عن ملك المشتري إلى غيره، فيذهب المشتري، ويوقفها فور شرائها من أجل ألا يأخذ الشريك بالشفعة.
فنقول: هذا عمل باطل، وللشريك أن يأخذ بالشفعة.
لكن إذا علمنا أن الرجل أوقفها تَحَيُّلا لإسقاط الشفعة.
ومن ذلك أيضا: إذا اشترى شيئا، فإن البائع بالخيار ما دام في مجلسه، فيقوم المشتري فور الشراء، ويفارق المجلس لإسقاط حق البائع بالخيار.
هذا أيضا حرام، لا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله؛ لأن هذا حيلة على إسقاط حق البائع من الخيار.
وكذلك لو قام البائع بإسقاط حق المشتري من الخيار، فإنه لا يحل.(5/500)
ومن الحيل على فعل المحرم في حق الله U ما جرى لأصحاب السبت، فإنه حُرِّمَ عليهم أن يصطادوا الحيتان يوم السبت، فطال عليهم الأمد، فعمدوا إلى شباك يضعونها يوم الجمعة، فيأتي الحيتان يوم السبت، فيقع في هذه الشباك، فإذا كان يوم الأحد أخذوها، أي: أخذوا الحيتان، وقالوا بزعمهم: إننا لم نَصِدْ يوم السبت.
فتحيلوا على محارم الله مثل ذلك، وهذا لا يحيل من الإثم، ولهذا قال الله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) }
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التحيل على تحليل المرأة المطلقة ثلاثا لزوجها الأول، فإنه من المعلوم أنه من طلق زوجته ثلاث مرات لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويطأها.
فيعمد بعض الناس بهذه المطلقة أن يتزوجها، ثم يجامعها، ثم يطلقها لتحل للأول، وهذا نكاح حيلة، وليس نكاح رغبة، فيبطل النكاح الثاني، ثم لا تحل للأول؛ لأنها لا تحل الأول إلا إذا كان بنكاح صحيح، كما أشار إليه قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي: الثالثة، { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
وتأمل قوله: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا } ليتبين لك أنه لا بد أن يكون النكاح صحيحا تكون فيه المعقود عليها زوجة، ويكون العاقد زوجا، وهذا لا يصح مع نية التحليل؛ لأنها تحيل على تحليل ما حرم الله U .
والأمثلة على هذا كثيرة، لكن المهم القاعدة، ولهذا قال: واسدد على المثال هذا بحيلتك، فإنما الأعمال بالنيات كما أتى في خبر الثقات، وقد أشرنا إلى هذا الحديث، وهو قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "
حرمة المضي في الفاسد:
ثم قال الناظم:
ويحرم المُضِي فيما فسدا
والنفل جوّز قطعه ما لم يقع
إلا بحج واعتمار أبدا
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع(6/1)
الفاسد من العقود، والفاسد من العبادات يحرم المضي فيه؛ وذلك لأن المضي فيما فسد محادة لله U ومضادة لحكمه؛ فإن الله -تعالى- لم يحرمه إلا لئلا يقع من الناس، فإذا صححناه فهذه هي المحادة لله -تعالى- ورسوله.
وكذلك -أيضا- إذا مضى فيه، إذا مضى فيه فإنه يكون محادّا لله ورسوله، بل يجب إفساده والتخلي عنه.
مثال ذلك: رجل يصلي، فأحدث في أثناء الصلاة، فاستحيا أن ينصرف من الصف أمام الناس، ومضى في صلاته، فنقول له: إن مضيك فيها حرام، وأنت آثمٌ بذلك، مضاد لله ورسوله، ساخر بأحكام الله ورسوله.
ونقول له: لماذا تستحي من الناس ولا تستحي من الله؟!
ثم إنه بالصورة التي ذكرناها ربما يعمل عملا ينتفي به ما يُستحيا منه، وذلك بأن يضع يده على أنفه كأنما أرعف أنفه، ثم يخرج، والناس إذا رأوا يده على أنفه قالوا: هذا قد أرعف، ومعروف أن الإرعاف أمر بغير اختيار الإنسان.
كذلك أيضا في المعاملات، لو أن الإنسان عقد عقدا ربويا، بأن باع درهما درهمين، أو صاعا من البُر بصاعين من البُر، فإن هذا عقد فاسد، يجب رده، ويحرم أن يمضي فيه، فتُرَدّ السلعة إلى البائع، ويُرَد الثمن إلى المشتري، ودليل ذلك -أي: دليل وجوب رد الفاسد وتحريم المضي فيه- " أن النبي r أُتي بتمر، فوجده جيدا، فقال: ما هذا؟ قالوا: كنا نشتري الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال r ردوه " .
فأمر برده؛ لأن هذا ربا، والربا يجب رده.
وهكذا كل ما مُلِك بعقد فاسد، فإن الواجب رده على صاحبه، وعدم تملكه.
لكن لو قال قائل: رجلان عَقَدَا عقد ربا، فأعطى أحدهما الآخر مائة ألف، على أن يرد إليه مائة وعشرين ألفا بعد سنة.(6/2)
أخذها، وتصرف فيها، وبعد مُضي سنة قال -أي الذي أخذ الدراهم- للذي أعطاه إياها: هذا عقد ربا، والربا حرام، وقد لعن النبي r آكله وموكله، ولا يمكن أن أوكلك ربا، فأدخل في اللعن. فيُقال له: سبحان الله! اليوم تخشى الله، وبالأمس لا تخشى الله؟! ما الذي جعله اليوم ربا لا يجوز المضي فيه، وكان بالأمس عقدا جائزا؟!
وهنا يقع الإشكال، هل نقول: إن الذي أعطى الدراهم لا يستحق الزيادة؟ والذي أخذ الدراهم يكون قد تكسب بها وانتفع بها مدة عام كامل، ولا نأخذ منه شيئا؟!
الجواب: لا، إن هذا لا تأتي بمثله الشريعة، ولكن نقول: أنت يا تاجر الدراهم لتُرْبِيَ فيها، ليس لك إلا رأسك، وأنت -أيها الآخذ- نأخذ منك ما اتفقت معه عليه من الربا، ونضعه في بيت المال، أو نتصدق به على الفقراء، أو يصرف فيما يهم المسلمين. فنسد على كل واحد منهم باب التحليل، ونعامل كل واحد بنقيض قصده.
كذلك -أيضا- لو أن شخصا صام، صيام رمضان، ثم أفطر في أثناء النهار، فإنه يحرم عليه أن يمضي في الصوم تعبدا، لكنه إذا كان في نهار رمضان ألزمناه بالإمساك احتراما للزمن، ما لم يكن فطره مباحا، فإن كان فطره مباحا فله أن يأكل ويشرب في بقية يومه، كرجل احتاج إلى الفطر لإنقاذ معصوم، فأنقذه، ولكنه لم يتمكن من إنقاذه إلا بعد أن شرب، فنقول له: الآن أفطرت، وفسد صومك، ولا تمضِ فيه بناء على أنه صوم، ولكن لك أن تأكل بقية يومك؛ لأنك لم تنتهك حرمة الزمن إلا على وجه مأذون لك، فيه ففطرك حلال، وإمساكك بقية النهار غير لك.
قال الناظم:
.. .. .. ..
إلا بحج واعتمار أبدا
يعني: أنه لا يحرم المُضي في فاسد الحج والعمرة، بل يجب المضي فيه.(6/3)
والفاسد من الحج هو الذي جامَع فيه قبل التحلل الأول، مثال ذلك: رجل جامَع زوجته ليلة مزدلفة، ومعلوم أنه بليلة المزدلفة لم يكن حل التحلل الأول، فيكون حجه فاسدا، ولكن يلزمه أن يكمله، ويمضي فيه، فإذا كان العام القادم قضاه؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- قضوا بذلك، قضوا بأن الإنسان إذا جامع زوجته قبل التحلل الأول لزمه أن يتمم النسك، ثم يقضيه من العام القادم.
والجماع في العمرة يفسدها إذا وقع قبل التحلل منها، فلو أن معتمرا طاف، ثم ذهب إلى بيته مع أهله، وجامع أهله قبل أن يسعى، فعمرته الآن فاسدة، يلزمه أن يكملها بالسعي والحلق أو التقصير، ثم يأتي بعمرة جديدة من الميقات الذي أحرم منه في عمرته الأولى؛ لأنه أفسد العمرة.
ولهذا قال:
ويحرم المُضي فيما فسدا
إلا بحج واعتمار أبدا
ثم قال:
والنفل جوّز قطعه ما لم يقع
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع
أفاد الناظم في هذا البيت أنه يجوز قطع النفل؛ لأنه نفل تطوع، إن شاء الإنسان أمضاه، وإن شاء قطعه، كما أنه لو شاء لشرع فيه، ولو شاء لم يشرع فيه.
مثال ذلك: رجل شرع في صوم النفل، وفي أثناء النهار قطعه، قطع الصوم، نقول: لا بأس، يجوز له أن يقطع صومه. واستدل العلماء في ذلك بأن " النبي r دخل ذات يوم على أهله، فقالوا: إنه أُهْدِيَ إلينا حيس -والحيس: هو التمر المخلوط بالسمن والدقيق، أو السمن والأقط- فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائما، فأتوا به، فأكل منه " .(6/4)
أكل منه مع أنه قال إنه أصبح صائما، هكذا استدل الفقهاء -رحمهم الله- بهذا الحديث، ونوقش هذا الاستدلال بأنه يحتمل أن قوله: " فلقد أصبحت صائما " أنه كان صائما عن الطعام، أي: أن صومه صوم لغوي، وليس صوما شرعيا، ولكن أُجيب عن ذلك بأن الصوم إذا أطلق في الشرع فالمراد به الصيام الشرعي؛ لأن حقيقة الشيء أو حقيقة الكلام تكون بحسب حال الناطق به، فإذا جاء في الشرع فإنه يُحْمَل على المعنى الشرعي، فإذا جاء في كلام أهل اللغة فإنه يحمل على المعنى اللغوي.
ولكن يُعلَم أنه لا ينبغي للإنسان أن يقطع النفل إلا إذا كان هناك مصلحة أو حاجة، مثل أن يقطعه لشيء أفضل منه.
ثم قال الناظم:
.. .. ما لم يقع
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع
يعني: أنه إذا كان النفل حجا أو عمرة فإنه لا يجوز قطعه، بل قال العلماء: لو قطعه ورفض الإحرام فإنه لا ينقطع، ويلزمه المضي فيه. واستدلوا بقول الله -تبارك وتعالى-: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
فلم يجوز الله -تعالى- قطعه إلا في حال الإحصار، وعلى هذا فإذا قطعه الإنسان في غير الإحصار صار قد عمل عملا ليس عليه أمر الله ورسوله، ومن عمل عملا ليس عليه أمر الله ورسوله فإنه رد، أي: مردود على صاحبه.
فيمتنع عليه قطع الحج والعمرة، إلا إذا كان محصرا، يعني: إذا عجز عن الإتمام، إما بعدو منعه الوصول إلى البيت، وإما بكسر أو مرض لا يُرْجَى زواله قريبا، فإنه يتحلل بذلك.
وكذلك إذا وجد مانع يمنعه من إتمامه، ولو كان مُوَقتا، فإنه لا يجوز له التحلل بشرط أن يكون قد اشترط عند الإحرام أنه إن حبسه حابس فمحله حيث حُبِس.
فإن قال قائل: إذا قطع الرجل، الحج ثم قيل له: إن الحج لا ينقطع بنية القطع. فهل عليه شيء، يعني: هل عليه دم؟
فالجواب: لا، لزم عليه على القول الراجح، وقال بعض العلماء: إن عليه دما؛ لأنه انتهك حرمته بكونه نوى قطعه.(6/5)
ولكن القول الراجح إنه ليس عليه دم؛ لأن هذه النية -وهي نية القطع- لم تؤثر فيه شيئا؛ إذ أنه لا ينقطع بنية القطع.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في رجل دخل في العمرة في أيام رمضان -مثلا- ثم وجد الزحام شديدا، ثم تحلل ورجع إلى أهله متحللا؟
نقول له: إن هذا التحلل لا تنحل به العمرة، وإن عليه -ولو كان قد سافر إلى بلده- عليه أن يخلع ثيابه -ثياب الحل- ويلبس ثياب الإحرام، ويذهب ويكمل عمرته على الإحرام الأول، لا بإحرام جديد؛ وذلك لأنه لم يتحلل من عمرته، وكونه نوى التحلل لا يؤثر؛ لأن الحج والعمرة لا ينقطعان بقطعهما، ودليل ذلك ما أشرنا إليه قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم إتمام ما أمرنا به على الوجه الذي يرضى به عنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والآن إلى الأسئلة، نسأل الله أن نوفق فيها للصواب. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
س: هذا يقول: فضيلة الشيخ، هل من الممكن أن يكون هناك إجماع في هذا الزمان؟ وكيف يكون ذلك؟
ج: الإجماع لا يكون في هذا الزمان إذا كان هناك خلاف سابق؛ لأنه لا إجماع مع خلاف سابق، فإذا اختلفت الأمة على قولين، ثم أجمع المتأخرون على أحد القولين، فإن ذلك لا يعد إجماعا؛ لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها، وعلى هذا فلا يُتصور ورود هذا السؤال لعدم إمكانه. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أصيب ابني بوسوسة عظيمة في الوضوء، فأفتيته بترك الصلاة لمدة شهر، وبعد نهاية الشهر شفي ابني من هذا الوسواس، فهل عليَّ شيء، وهل على ابني قضاء؟(6/6)
ج: حقيقة أن هذه الفتوى غير صحيحة؛ لأنه أفتاه بما هو و(3) عليه وفرض من فروض الإسلام، لكن من رحمة الله به، والظاهر -والله أعلم- أنه على حسن نيته شفى الله ابنه من الوسواس. والواجب أن ينصح هذا الابن، ويقال: دع الوسواس. ويقف الإنسان عنده عند الوضوء، حتى إذا أتم الثلاث قال له: قف. وهذا -وإن كان فيه مشقة، لكن للعلاج، والإنسان قد يثاب بعمل لا يختاره. وعلى هذا الوالد أن يتوب إلى الله -تعالى- مما أفتاه به، وأن لا يعود لمثله، وألا يقدم على الفتوى إلا بعلم؛ لأن الإقدام على الفتوى بلا علم أمره خطير، فإنه يكون المفتي ممن افترى على الله الكذب، وقال على الله ما لا يعلم، وقد قال الله U { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } وقال تعالى: { إِن الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) } وقال: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ } فعلى هذا الأب أن يتوب إلى الله، أما بالنسبة لقضاء ما فات ابنه من الصلوات في الشهر فالاحتياط أن يعيد. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، من فسد حجه ثم مضى فيه، فهل عليه القضاء في العام القادم؟ وما الحكمة في مضيه في حجه مع فساده؟(6/7)
ج: إذا أفسد حجه فعليه أن يمضي فيه اتفاقا، ويكمله استنادا إلى ما روي عن الصحابة -رضي الله عنهم-، وتعزيرا له وعقوبة؛ لأن الحج أمره عظيم، فلو تساهل الناس فيه -مع كونه لا يأتي إلا بمشقة في الغالب؛ لأنه يحتاج إلى سفر، وإلى تعب وعناء- لتلاعب الناس في ذلك. الحكمة في وجوب المضي أنه من باب التعزير، أما من جهة وجوب القضاء فلأنه حين أحرم فرض على نفسه هذا النسك، لقوله تعالى: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ولقوله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) } فلهذا ألزمناه بأن يقضي الحج والعمرة، حتى وإن كانا نفلا. نعم. لكن الشيخ قال: يلزمه أن يعيده في العام القادم، إي نعم، يلزمه أن يعيده في العالم القادم؛ لأن هذا الذي فسد لا يقطع الفريضة، وكما ذكرنا إنه إنما ألزمناه بالمضي فيه تعزيزا له، وألزمناه بالقضاء؛ لأنه هو الذي أفسده. ولذلك لو أن الإنسان أحرم بالحج، ثم حصر عن إتمامه، عجزه -بعدو أو غير عدو على القول الراجح- فإنه يتحلل، ولا يلزمه الحج في العام القادم، إلا إذا كان الحج الذي حصر فيه هو الفريضة، فإنه يلزمه أن يقضي الفريضة. ولهذا لما حُصر النبي r في الحديبية لم يلزم كل من أحرم وحُصِر أن يعيد العمرة، وتسميتها عمرة القضاء، يعني العمرة الثانية التي جاءت في العالم الثاني من باب المقاضاة، وليست من باب القضاء الذي هو قضاء العبادة.
س: وهذا يقول: أنا شاب أستطيع الزواج، لكن والدتي تمنعني بحجة إنهاء الدراسة، والدراسة تستغرق عدة سنوات، فهل يجوز لي أن أتزوج من غير إذنها؟(6/8)
ج: نعم، إذا كنت مستطيعا فتزوج، ولو منعك الأم أو الأب؛ لأنك إذا تزوجت فقد امتثلت لأمر النبي r حيث قال: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج " ومعلوم أن طاعة رسول الله r أولى من طاعة الأم والأب، فإذا كنت قادرا فتوكل على الله وتزوج، إن رضيت أمك فهذا المطلوب، وإن لم ترضَ فسترضى -إن شاء الله-؛ لأنك إذا التمست رضا الله لسخط الناس رَضِيَ الله عنك، وأرضى عنك الناس، وكفاك المئونة. نعم
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أحسن الله إليكم، فإني شاب أطلب العلم ولله الحمد، وأحرص على إخلاص النية لله بقدر المستطاع، ولكن ينتابني شعور بأني لا أخلص لله U مع أني أستغفر الله ليلا ونهارا، وأدعوه أن يوفقني للإخلاص، والآن ينتابني خوف من هذا الأمر، وجهوني -جزاكم الله خيرا ؟
ج: أقول: لا تخف، لا تخف يا أخي؛ فإن هذا من وساوس الشيطان، والشيطان -كما قال ربنا عز وجل-: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } الشيطان يأتي الحريص على الطاعة من هذا الباب، يقول: أنت إنما صليت رياء، إنما طلبت العلم رياء، إنما طلبت العلم للراتب، إنما طلبت العلم للمرتبة. ويفسد عليه عبادته بمثل هذه التقديرات، فليستعذ بالله، ولينتهِ، ولا يضره ذلك شيئا. ويأتي الشيطان للشخص المتهاون فيثبطه عن الطاعة، ويقول: لا تفعل هذه الطاعة، هذه سهلة، هذه نفل، افعل الطاعة في وقت آخر، أو يهون عليه الذنب ويقول: إن الله غفور رحيم، ورحمته سبقت غضبه، وما أشبه ذلك. فهذه من الوساوس الشيطانية التي يجب على الإنسان أن يكف عنها، وأن يستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وقد شكا الصحابة -رضي الله عنهم- إلى رسول الله r مثل ذلك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: " ذاك صريح الإيمان " وأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والانتهاء عن ذلك. فامض في عبادتك، ولو قال لك الشيطان: إنك مُراءٍ، أو إنك تريد الدنيا، فلا يهمك. نعم.(6/9)
س: وهذا يقول: ما حكم أخذ المال من البنوك الربوية؟ وهل أتركه لهم، أم آخذه وأتلفه، أم أتصدق به؟ وهذه المسألة -قال- يعملها كثير من الناس؟
ج: يقول الله U { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } فلا يحل للإنسان أن يأخذ الربا؛ لأن الله قال: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } وقال: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } وأعلن النبي r في خطبته عام حجة الوداع، وهو واقف بعرفة، أعلن أن ربا الجاهلية موضوع، قال: " وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله " وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يأخذ الربا، لا من البنوك، ولا من غيرها، وما أفتى به بعض الناس استحسانا بأنك تأخذ الربا وتتصدق به تخلصا منه، فهذا استحسان في مقابلة النص، فهو مردود على صاحبه. لو كانت هذه الطريق أو هذه الطريقة حسنة محبوبة إلى الله لأرشد الله عباده إليها، ولقال اتقوا الله وخذوا ما بقي من الربا وتصدقوا به، لكنه قال: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } ليقطع طمع الإنسان وتعلق نفسه به نهائيا. وأي فائدة من أن يلطخ الإنسان صحيفة عمله بقاذورة الربا، ثم يذهب يغسلها ويتخلص منها؟ أي فائدة من هذا ؟! وهل هذا إلا لغو محض، وعبث محض؟ فإن قال قائل: هذا الربا إذا تركته للبنك فقد يستعين به على محرم؟ قلنا: أصل هذا الربا ليس قسط مالك، مالك ربما كان قد خسر حين تعامل به البنك، هذا الربا من مال البنك، وليس من مالك، وربما يكون مالك كسب أضعاف أضعاف ما أعطاك من الربا، وربما خسر مالك كل الخسارة، فليس هذا قسط مالك حتى تقول: والله أنا لا أريد أن أمكنهم من مالي فيعبثوا به. بعض الناس(6/10)
يدعي أنه لو تركت هذه الزيادة في البنك لذهب يعطيها الكنائس، أو يسلح بها أعداء المسلمين؟ ونقول: أولا: هذا غير مؤكد، قد يكون هذا، وقد ينتفع بها البنك لمصالحه الخاصة. ثانيا: لو تأكدنا ذلك، فهل أنا أعطيته شيئا من مالي يعين به الأعداء على المسلمين، أو يعين به الكنائس؟ أبدا، ما أعطيته؛ لأن هذه الزيادة لم تدخل في مالي أصلا، وليست هي ربح مالي. وعلى كل حال، فالاستحسان في مقابلة النص ليس مقبولا، والواجب اتباع النص { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هل يثاب المرء على ما يقتدي به من أفعال الرسول r التي فعلها على وجه العادة، كلبس الخاتم، وتطويل الشعر، وغيرها؟(6/11)
ج: يجب أن تعلم أن ما فعله النبي r بمقتضى العادة فإن السنة أن تتبع عادة بلدك إذا لم تكن محرمة، وليست السنة في عين ما فعله الرسول، بل السنة في جنس ما فعله، فإذا كان الرسول r فعل ذلك بمقتضى العادة، فإن السنة أن تفعل ما تقتضيه العادة في زمنك، ما لم تخالف النص. وعلى هذا فلباسنا نحن هنا في نجد والجزيرة عامة هو القميص والسروال، والطاقية والغطرة، والمشلة عند بعض الناس، فإذا لبس الإنسان هذا كانت السنية مثل لباس الرسول -عليه الصلاة والسلام- العمامة والإزار والرداء؛ لأن الرسول فعل ذلك بمقتضى العادة، ونحن فعلنا ذلك -أيضا- بمقتضى العادة، ولأننا لو خالفنا عادتنا إلى ما كان الناس يعتادونه في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- لكان ذلك شهرة، وقد نُهي عن لباس الشهرة. أما مسألة الخاتم، فالخاتم إنما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- للحاجة، وهو أنه ختم به، أو نقش عليه: "محمد رسول الله"، وكان يختم على الرسائل التي يبعثها إلى الملوك؛ ليكون ذلك كالتحقيق لكون هذه الرسالة من النبي r . وعلى هذا فنقول: القاضي والأمير والعريف ومن يحتاج إليهم، هؤلاء يلبسون الخاتم؛ لأنهم محتاجون إليه، على أن بعض أهل العلم يقول: إن التختم سنة مطلقا. والذي يظهر لي أن التختم تبع للعادة، فلا يتختم إنسان إلا إذا اعتاد الناس ذلك، إلا ما احتيج إليه؛ فإن السنة أن يتختم من أجل هذه الحاجة. نعم. ليكن هذا آخر سؤال، الآخر يا شيخ ، نعم ، جزاك الله خيرا .
س: هذا يقول: فضيلة الشيخ، جدتي أم والدتي أرضعتني ليلة ولادتي من بعد المغرب إلى الصباح، ولكنها لا تعلم كم عدد الرضعات؛ إذ مضى على ذلك الوقت ما يقارب العشرين عاما، وأريد الزواج من بنت عمي، التي والدتي ووالدتها أختان من الأب، فهل يحل لي أن أتزوجها، أفتوني مأجورين؟(6/12)
ج: لك أن تتزوجها؛ وذلك لأن الرضاع المحرم ما كان خمس رضعات فأكثر، ولا بد من العلم بذلك، لحديث عائشة: " خمس رضعات معلومات " فمع الجهل لا أثر لمثل هذا الرضاع، لكن إذا غلب على الظن أنها قد أرضعتك خمس رضعات، فلا تتزوج بنت عمك أو بنت عمتك؛ لأنك تكون أخا لأمها أو لأبيها.. نعم.
حكم المكره والناسي
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته-:
والإثم والضمان يسقطان
إن كان ذا في حق مولانا
وكل متلف فمضمون إذا
ويضمن المثلي بالمثل وما
وكل ما يحصل مما قد أُذِن
وما على المحسن من سبيل
بالجهل والإكراه والنسيان
ولا تسقط ضمانا في حقوق للملا
لم يكن الإتلاف من دفع الأذى
ليس بمثلي بما قد قُوِّمَا
فليس مضمونا وعكسه ضُمِن
وعكسه الظالم فاسمع قيلي
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذا هو الدرس التاسع من دروس حلقات العلم، التي أقيمت في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بحي سلطانة بالرياض، في دورة إجازة عام سبعة عشر وأربعمائة وألف.
وهذا هو اليوم، الأربعاء الثالث عشر من شهر ربيع الأول، سنة سبع عشر وأربعمائة وألف، وهو الدرس الأخير في هذا العام.
س: وقبل البدء في الدرس الجديد نود أن نناقش فيما مضى من الدرس الذي قبله، حيث ذكرنا فائدة مهمة ينبني عليها، أو هي ميزان الأعمال الباطنة، فما هي هذه القاعدة التي ذكرناها؟
ج: نعم، القاعدة هي: " إنما الأعمال بالنيات " القاعدة أن يقدم على كل عمل بنيته.
طيب، دليل هذه القاعدة ؟ قول النبي r " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " .
إن العلماء ذكروا -رحمهم الله- أن هناك ميزانين: أحدهما ميزان للأعمال الباطنة، والثاني للأعمال الظاهرة، فما هما؟(6/13)
حديث ميزان الأعمال الباطنة هو حديث: " إنما الأعمال بالنيات " .
وحديث ميزان الأعمال الظاهرة حديث: " من أحدث في أمرنا هذا، أو من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
واللفظ الثاني " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
س: طيب، ماذا نقول في رجل قال: زوجاتي طوالق. ونوى اثنتين من أربع، هل نعتبر لفظه، ونقول: كل الأربع طلقن، أم نعتبر بنيته؟
ج: يعتبر بنيته.
س: بنية من؟
ج: بنية الزوج المطلق، ما يطلق من نسائه الأربع؟ ما نوى إلا اثنتين فقط. أحسنت.
س: طيب، ما مناسبة الشطر الثاني للشطر الأول بقوله:
.. .. .. ..
واسدد على المحتال باب حيلته؟
؟
ج: المناسبة أنه يعتبر عمل بنيته؛ لأنه نوى الحيلة، ولم ينوِ العمل الشرعي. يعني: معنى ذلك المحتال ينوي المحرم، لكن يتحيل عليه بصورة شيء مباح، فنقول: العبرة بنيته لا بصورة الفعل.
س: طيب، نريد مثالا يبين ذلك؟
ج: مثل أن يوقف الشريك الشق المباع حتى يمنع الشفعة عن شريكه، أن يوقف المشتري الشق الذي اشتراه ليمنع الشريك من الشفعة.
س: طيب، في النكاح؟
ج: مثال ذلك: التحايل على تحليل المرأة التي طلقت ثلاثا. المعروف بنكاح التحليل ؟ أي نعم.
س: طيب، لو وقع نكاح التحليل، لو أن رجلا تزوج امرأة مطلقة ثلاثا ليحلها للزوج الأول، فهل تحل للزوج الأول؟
ج: إذا كان قصده التحايل فيسد عليه باب حيلته. نعم يا شيخ، ليحلها للزوج الأول، هل تحل له ؟ لا تحل له يا شيخ. لا تحل، أي نعم؛ لأن النكاح الثاني وقع حيلة، لا قصدا.
أحسنت.
س: حكم المضي في العبادة الفاسدة، هل هو جائز أم لا؟
ج: يحرم المضي فيه.
أحسنت.
س: التعليل؟
ج: لأن المضي فيها مع أنها فاسدة فيها محادة الله U ورسوله؛ لأن المضي فيها مع فسادها محادة لله ورسوله. نعم.
س: وهل أبطل النبي -عليه الصلاة والسلام- شيئا فاسدا بعد أن عُقد؟(6/14)
ج: المثال على ذلك: عندما أتى الصحابي t بتمر جيد، فأخبر هذا الصحابي أنه يأخذ الصاع بالصاعين، فأمر الرسول r وقال: ردوه.
س: هذا في العقود؟
ج: أي نعم يا شيخ ، في الشروط، نعم يا شيخ، في الشروط، في العبادات رجل يصلي.. الرسول أبطل -عليه الصلاة والسلام- شرطا فاسدا، ليس عقدا، شرطا فاسدا. أي نعم يا شيخ.
س: ما هو؟
ج: نعم يا شيخ.
س: ما هو الحديث الذي فيه أن النبي r أبطل شرطا فاسدا؟
ج: قال الرسول r " المسلمون على شروطهم " .
" إنما الولاء لمن أعتق " .
حديث: " إنما الولاء لمن أعتق " .
س: وأيش قصته؟
ج: أن أناسا قالوا لعائشة -رضي الله عنها-: لنا الولاء إذا اشتروا بريرة -رضي الله عنها- فقال الرسول -عليه الصلاة والسلام- فأخبر أن الشروط باطلة.. الولاء لمن أعتق نعم.
أي نعم يا شيخ.
يقول: بريرة كاتبت أهلها على تسع أواق من الفضة، فقالت عائشة: إن أحبوا أن أعدها لهم ولي الولاء. فقالوا: لا، الولاء لنا. فأبطل النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الشرط بعد أن شُرط، وقال: قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق.
س: طيب، رجل باع ثمرة نخلة قبل بُدُو صلاحها، وقبض الثمن، وسلم النخلة للمشتري، فما الحكم؟
ج: أعد السؤال يا شيخ.
س: رجل اشترى ثمرة نخلة قبل بدو صلاحها، يعني: نخلة ما بعد صار فيها لون، اشتراها وقبض النخلة، وسلم الثمن للبائع، ما حكم هذا البيع؟
ج: هذا البيع باطل؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نهى عن بيع الثمرة حتى تحمر أو تصفر.
س: طيب، الآن ماذا يجب؟
ج: يجب أن ترد السلعة، ويرد الثمن، يجب أن ترد النخلة لصاحبها، أي نعم. ويسترد منه الثمن، أي نعم. تمام، أي نعم. يا شيخ من الذي يُستثنى من هذه القاعدة، وهي: "أن المضي في الفاسد حرام".
السؤال يا شيخ ما هو؟
س: الذي يستثنى من هذه القاعدة وهي: "أن كل فاسد يحرم المضي فيه"؟
ج: يُستثنى من ذلك الحج والعمرة، يعني: الحج والعمرة يمضي في فسادها؟
ج: نعم.(6/15)
س: الدليل؟
ج: قول الله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } حتى الصلاة أمرنا بقضائها وإتمامها، " وما فاتكم فأتموا " ومع ذلك لو فسدت حرم المضي.
الدليل في الحقيقة آثار وردت عن الصحابة، فأخذ بها الفقهاء، عرفت.
س: طيب، هل يجوز قطع النفل بعد الشروع فيه؟
ج: يجوز قطعه، يجوز قطع النفل بعد الشروع فيه؟ أي نعم يا شيخ.
س: الدليل؟
ج: " أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- دخل على أهله ذات يوم، فقالوا: أُهدي إلينا حيس. فقال: إني صائم. فأكل منه -عليه الصلاة والسلام- " .
س: نعم صحيح، فلأن النفل لا يجب التزامه فلا يجب إتمامه، هل يُستثنى من هذا شيء؟ يعني: هل يُستثنى من قولنا: النفل لا يلزم المضي فيه؟
ج: أي نعم يا شيخ.
س: ما هو؟
ج: الحج والعمرة، إذا الإنسان حج واعتمر تطوعا فإنه يلزمه الإتمام. يلزمه الإتمام.
ج: نعم.
س: الدليل؟
ج: الدليل قول الله -سبحانه وتعالى-: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } والآثار التي وردت عن الصحابة.
لأن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض الحج والعمرة، واضح؟ أقول: هذه الآية نزلت قبل أن يفرض الحج والعمرة؟
أي نعم يا شيخ.
الآن نبدأ الدرس الجديد، يقول الناظم:
والإثم والضمان يسقطان
بالجهل والإكراه والنسيان
"الإثم": يعني العقوبة، و"الضمان": يعني رد الشيء التالف. "يسقطان" أي: عن الفاعل. "بالجهل والإكراه والنسيان": هذه ثلاثة أشياء تسقط عن المكلف الإثم والضمان إذا كان حين الفعل متصفا بها.
أما الجهل فإنه عدم العلم، وأما الإكراه فهو الإلجاء إلى الشيء، بحيث يفعله الإنسان غير مختار له، وأما النسيان فهو ذهول القلب عن شيء كان معلوما، يعني: أن يعلم الشيء، ثم يذهل عنه.
هذه أمور ثلاثة، متى اتصف بها الفاعل سقط عنه إثم الفعل وضمان المتلف.
دليل ذلك قوله الله -تبارك وتعالى-: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال الله: قد فعلت.(6/16)
وقول الله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
وقوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ َOكgs9r عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) }
فقوله: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ } أسقط حكم الكفر على الإكراه، والكفر أعظم الذنب، فالكفر أعظم الذنوب، فإذا سقط حكم الكفر بالإكراه فما دونه من الذنوب من باب أولى.
وقد روي عن النبي r أنه قال: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهُوا عليه " .
مثال ذلك: الجهل، صائم أكل سحوره، يظن أن الفجر لم يطلع، فإذا بالفجر قد طلع، فأمسك، فصيامه صحيح؛ لأنه جاهل، لم يعلم أن الفجر قد طلع.
ومثال آخر: صائم ظن أن الشمس قد غربت؛ لأن السماء مغيمة، فأفطر، فإذا بالشمس تبين من وراء الغمائم، فأمسك، فصومه صحيح؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
وفي قوله: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
وقد ثبت في صحيح البخاري " عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي r ثم طلعت الشمس " ولم تذكر أنهم أُمروا بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهم بذلك النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولو أمرهم لنُقِلَ إلينا؛ لأنه إذا أمرهم به كان من الشريعة، وحفظ الشريعة من حفظ القرآن، وقد قال الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }(6/17)
ولا فرق في الجهل بين الجاهل بالحكم والجاهل بالوصف، فلو أن إنسانا احتجم وهو صائم، ولم يعلم أن الحجامة تفسد الصوم، فإن صومه صحيح لعموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
ولحديث عدي بن حاتم t أنه صام، فجعل يتسحر، وقد وضع عقالين أسود وأبيض تحت وسادته، فجعل ينظر إليهما، ولم يزل يأكل حتى تبين العقال الأبيض من الأسود، فلما أخبر النبي r قال: " إن ذلك بياض النهار وسواد الليل " ولم يأمره r بالإعادة؛ لأنه كان جاهلا بالحكم . إذا نزل الآية على غير مرادها.
كذلك في النسيان: لو أن إنسانا كان صائما، فأكل أو شرب ناسيا أنه صائم، فإن صومه صحيح، لعموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
ولقوله r في خصوص الصيام: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه " .
وكذلك في الإكراه، لو أُكْرِه الصائم على أن يأكل أو يشرب، فأكل أو شرب دفعا للإكراه، فإن صومه صحيح لما ذكرنا من العذر بالإكراه على الكفر، فإن ما دونه من باب أولى.
ومن ذلك: أن يكره الرجل زوجته على الجماع وهي صائمة، فإنها لا تفطر بذلك، ولا يبطل صومها؛ لأنها مكرهة.
ومن ذلك: لو أن الإنسان أُغْمِي عليه وهو صائم، فصبوا في حلقه ماء ليصحو، فإنه لا يفطر بذلك؛ لأنه غير مدرك. ومن العلماء من قال: إن كان يأذن بذلك عادة فإنه يفطر وإلا فلا.
ومما يدخل في ذلك أيضا: لو أن المحرم قتل أرنبا، وهو يجهل أن قتل الأرنب حرام في الإحرام، فإنه لا إثم عليه ولا ضمان.
ومن ذلك أيضا: لو أن المحرم دهس بسيارته أرنبا، أو ضبا، أو حمامة، من غير أن يشعر بها، فليس عليه ضمان، كما أنه ليس عليه إثم لقوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ولقوله -تعالى- في خصوص الصيد: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ }(6/18)
ولقوله -تعالى- في خصوص الصيد: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }
فقيَّد ذلك -أي: قيد وجوب الجزاء- بما إذا كان متعمدا، فدل هذا على أنه إذا لم يكن متعمدا فليس عليه جزاء.
ثم قال الناظم:
إن كان ذا في حق مولانا
.. .. .. ..
"كان ذا": يعني فعل الشيء جهلا، أو إكراها، أو نسيانا.
"في حق مولانا": يعني فإنه يسقط الإثم والضمان.
وأما إن كان في حق المخلوق فقال:
.. .. .. .. .. .. .. ..
ولا تسقط ضمانا في حقوق للملا
يعني: إذا كان الإتلاف في حق من حقوق الملا، أو الاعتداء في حق شخص، فلا تسقط الضمان، لا تسقط الضمان في حقه، ولكن الإثم ساقط، مثاله: رجل أكل طعام غيره، يظن أنه طعامه، فليس عليه إثم؛ لأنه جاهل، ولكن عليه ضمان الطعام لصاحبه.
فالفرق بين ما إذا كان المتلف حقا لله U أو كان حقا للمخلوق، أن حق الله -تعالى- قد أعلمنا بأنه عفا عنه { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فقال الله تعالى: قد فعلت.
ولأن حق الله مبني على المسامحة والفضل، فكان الفاعل معذورا بالجهل والنسيان والإكراه، وغير ضامن.
أما حق المخلوق فإنه مبني على المشاحة، فلذلك نوفيه حقه كاملا، حتى وإن كان الفاعل معذورا.
ولو أُكْرِه الإنسان على إفساد مال غيره، فأفسده، فإنه لا إثم عليه، ولكن عليه الضمان لصاحبه؛ لأن حق المخلوق لا يسقط، فعليه الضمان.
ولهذا قال العلماء: لو أن إنسانا أُكْرِه على قتل إنسان فإنه لا يقتله، حتى لو هدد بالقتل، وقال له المكره: إما أن تقتل فلانا وإلا قتلتك. فإنه لا يجوز أن يقدم على قتل فلان؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يهلك حيا من أجل استبقاء نفسه، فليصبر على القتل، ولا يقتل مؤمنا.
على أن المهدد له بالقتل قد لا يقصد إذا لم يقتل من أكره على قتله، ولكنه قال ذلك تهديدا، وليس لديه القدرة على تنفيذه.(6/19)
والخلاصة: أنه إذا وقع الفعل جهلا أو نسيانا أو إكراها، فإنه لا إثم فيه ولا ضمان فيما يتعلق بحق الله U أما في حق المخلوق فإنه لا إثم فه أيضا، إذا وقع عن جهل أو إكراه، ولكن فيه الضمان، يضمنه لصاحبه، ما لم يبرئه منه، فإن أبرأه منه -وهو ممن يصح تبرؤه- سقط عنه أيضا.
ضمان المتلف:
ثم قال الناظم:
وكل متلف فمضمون إذا
أو يك مأذونا به من مالك
لم يكن الإتلاف من دفع الأذى
أو ربط ما بالملك خير مالك
هذا البيت الأخير لم أسمعه في قراءة القارئ؛ لأنه عندي ملحق.
يريد الناظم أن كل متلف فمضمون على متلفه، أيا كان هذا المتلف، إن كان آدميا فمضمون، وإن كان مالا فمضمون، كل متلف فإنه مضمون، إلا إذا كان الإتلاف من دفع الأذى، يعني: من دفع هذا المتلف، فإنه لا ضمان فيه.
مثال ذلك: رجل محرم بحج أو عمرة، فصال عليه ضبع، والضبع من الصيد، لا يحل للمحرم قتله، فحاول دفعه، ولكنه لم يندفع، فله قتله حينئذ؛ لأن ذلك لدفع الأذى، ولا ضمان عليه في هذه الحال؛ لأنه فعل فعلا مأذونا فيه من قبل الله -عز وجل.
ومثال آخر: لو صال إنسان على شخص يريد أخذ ماله، ولم يندفع إلا بالقتل، فله قتله؛ لأنه ثبت عن النبي r " أن رجلا سأله فيمن طلع عليه يريد أخذ ماله، فقال النبي r لا تعطه. قال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني. قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار " .
فأباح النبي r قتل من صال على الشخص ليأخذ ماله، ولكن يجب أن تدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل فاقتله، وإن خفت أن يبادرك بالقتل، وأنك لو حاولت أن تدفعه بما دون القتل قتلك، فلك أن تبادره بالقتل إذا علمت أن الرجل سوف يقتلك حينما تحاول أن تدافعه بالتي هي أحسن.(6/20)
فإن قال قائل: ألا يعارض هذه القاعدة ما ذكره الله -تعالى- في فدية الأذى حيث قال: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }
فقد أوجب الله على من حلق رأسه لدفع الأذى أن يفدي بصيام أو صدقة، قلنا: هذا لا يعارض القاعدة؛ لأنه هنا أتلف الشعر، لا لأذى الشعر، ولكن لدفع الأذى من غيره به.
فالأذى كان من القمل كما جاء ذلك في حديث كعب بن عجرة t والقمل مع الشعر ينمو ويزداد، فإذا حُلِقَ الشعر زال.
فحلق الشعر هنا إنما هو من أجل دفع الأذى بحلقه، وقد أشار ابن رجب -رحمه الله- إلى هذه القاعدة بقوله: "من أتلف شيئا لدفع أذاه لم يضمن، ومن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه".
يقول الناظم فيما استثنى من هذه القاعدة، وهو ما إذا كان الإتلاف لدفع الأذى، يقول:
أو يك مأذونا به من مالك
.. .. .. ..
يعني: أو يكون الشيء المتلف مأذونا به من المالك فإنه لا ضمان فيه، فلو أذن لك شخص في أن تذبح شاته فذبحتها، فإنه لا ضمان عليك؛ لأنه هو الذي أذن لك في هذا الذبح، وعلى هذا فلا ضمان عليك.
كذلك لو كان الأمر مأذونا به من قبل الله U لو كان الإتلاف مأذونا به من جهة الله U فإنه لا ضمان له.
مثاله: رجل وجد آلة لهو يستعملها صاحبها، فكسرها، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن تكسيرها مأذون به شرعا، ولكن نحن نقول: هذا من جهة الضمان، أما هل يكسرها إذا رآها مع صاحبها؟
هذا فيه تفصيل؛ إن كان للإنسان سلطة وقدرة على تكسيرها بدون مضرة أكبر وجب عليه أن يكسرها، وإن لم يكن له سلطة في ذلك، أو كان يترتب على تكسيرها مفسدة ومضرة أعظم، فإنه لا يكسرها؛ لقول النبي r " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه " .
والخلاصة: أن كل متلف مضمون إلا في حالين، بل في ثلاث حالات:(6/21)
الحال الأولى: إذا أُتْلِف لدفع أذاه، فإنه لا ضمان عليه.
والثانية: إذا أتلف بإذن من مالك، فإنه لا ضمان له عليه.
والثالثة: إذا أتلف بإذن من الله U فإنه لا ضمان عليه.
ثم بين الناظم قاعدة حول ما يكون فيه الضمان، فقال:
وكل ما يحصل مما قد أذن
فليس مضمونا وعكسه ضمن
يعني: أن كل ما أذن به شرعا فإنه لا ضمان فيه، وكذلك ما أدري من المالك، فإنه لا ضمان فيه، ولهذا قال العلماء في هذه القاعدة: ما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وعكسه ما ترتب على ما غير المأذون فيه فإنه مضمون، ولهذا قال: "وعكسه ضمن"، ثم علل ذلك بعلة هي كالدليل، فقال:
وما على المحسن من سبيل
وعكسه الظالم فاسمع قيلي
هذا مأخوذ من قول الله -تبارك وتعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
فكل محسن فإنه لا سبيل عليه، والظالم هو الذي عليه السبيل، لقوله تعالى: { فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
ومثل العلماء -رحمهم الله- لهذه القاعدة برجل جنى على شخص، فقطع إصبعه، ثم إن الجرح سرى إلى اليد، ثم إلى البدن، ثم مات من الجروح، فإن الجارح يضمن نفسا كاملة، ولا يقف ضمانه على الإصبع الذي قطعه؛ لأن قطعه للإصبع غير مأذون فيه، وما ترتب على غير مأذون فهو مضمون.
والمثال الثاني فيما ترتب على مأذون: لو أن المُعْتَدَى عليه -الذي قُطع إصبعه وبرئ- قطع إصبع المعتدي الظالم بالقصاص، ثم تآكل جرح الجاني، فسرى إلى اليد، ثم إلى البدن، ومات الجاني، فإنه لا ضمان على المجني عليه؛ وذلك لأنه قطع إصبع الجاني بحق، وبإذن من الشارع، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وهذه قاعدة مفيدة، تفيدك في الجنايات، وفي غيرها.
كيفية الضمان:
ثم بين كيفية الضمان، فقال:
ويضمن المثلي بالمثل وما
ليس بمثلي بما قد قُوِّمَ(6/22)
يعني: إذا أردت أن تضمن شخصا، فضمنه المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته، فما هو المثلي؟ القول الراجح في المثلي أنه ما كان له مثيل ونظير، هذا المثلي -سواء كان فيه اصطناع أم لم يكن فيه اصطناع، وسواء كان مطبوخا فيما يطبخ أو لا- المهم أن المثلي ما كان له مثيل أو نظير.
فمثلا: إذا أكل إنسان خبزة شخص، فعلى الآكل أن يضمن لصاحبها خبزة مثلها؛ لأن الخبز متماثل، وإذا كسر فنجان إنسان فإن عليه أن يضمنه بفنجان مثله، وإذا أتلف له صاع بر وجب عليه صاع بر، وهلم جرا.
وإذا أتلف له شاة وجب عليه أن يشتري له شاة مثلها، فيضمنها بمثلها.
فالمثلي -على القول الراجح- كل ما له مثيل ونظير، وأما على المشهور عند فقهائنا -رحمهم الله- فيقولون: المثلي كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه، وليس فيه صناعة مباحة، وهذا تضييق كبير في تفسير المثلي.
أما التقوم فما لا يمكن أن يوجد له مثيل، كشاة حامل، رجل أتلف لإنسان شاة حامل، فهنا تتعذر المماثلة؛ لأن ما في بطنها مجهول، لا يُعلم أواحد أم متعدد؟ أذكر أم أنثى؟ أيخرج حيا أم يخرج ميتا؟ فيه جهالة.
وعلى هذا فإذا أتلف شاة إنسان حاملا قُوِّمَتْ بما تساوي القيمة، ودفع لصاحبها نفس القيمة التي قومت بها؛ لأنها غير مثلية .
وإلى هنا ينتهي هذا الدرس، وهو آخر درس في هذه الإجازة والدورة المباركة .
نسأل الله -تعالى- أن يعيدنا جميعا إعادة خير، وأن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا متقبلا، ورزقا طيبا واسعا يغنينا به عن غيره، ولا يغنينا به عنه.
وإنني بهذه المناسبة أود أن أوجه نصيحة إلى إخواننا بالإخلاص لله U في جميع أعمالهم، والحرص الشديد على تطبيق السنة مهما أمكن، وإرشاد الناس إليها بالقول والعمل، والحرص على ائتلاف القلوب، وإصلاح ذات البين، والتعاون على البر والتقوى، وألا يحمل أحد على أخيه حقدا ولا عداوة ولا بغضاء.(6/23)
وأن يحمل ما صدر منه من قول أو فعل على أحسن منه، وأن يحاول بقدر ما يمكن ألا يحمل في قلبه غلا لأحد من المؤمنين حتى يكون ممن قال الله فيهم: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) }
أسأل الله -تعالى- أن يجعل مستقبل أمرنا خيرا من ماضيه، وأن يختم لنا جميعا بما يرضيه، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والآن إلى الأسئلة فيما تبقى من المدة…..
أحسن الله إليكم.
س: فضيلة الشيخ، هذا يقول: رزقت بأولاد، الأول مريض عقليا، وعندما ذهبت به إلى الكهنة أخبروني بأن فيه جن..
أعد، أعد.
يقول: رزقت بأولاد، الأول مريض عقليا، وعندما ذهبت به إلى الكهنة أخبروني بأن فيه جن، وأعطوني حرزا تلبسه المرأة، وعندما تلبسه يأتيني أولاد أصحاء، وعندما يضيع الحرز تأتي المرأة بأولاد مريضين، وهكذا تكررت العملية، حتى أن معي الآن ثلاثة أولاد أصحاء، وثلاثة غير أصحاء، فما الحكم في ذلك ؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: أقول: إنه لا ينبغي أن نلجأ إلى هؤلاء المشعوذين الذين يبتزون أموال الناس بغير حق، وكثير من هؤلاء المشعوذين يدعون ما ليس في الواقع، فيوقعون الأوهام في الناس، ولهذا أصبح الآن كثير من الناس إذا أصيبوا بالمرض -ولو كان مرضا معتادا، أصابهم أو أصاب غيرهم- ذهبوا إلى هؤلاء المشعوذين، فأملوا عليهم أن فيهم سحرا، أو أنهم مصابون بالعين، أو أن فيهم مسا من الجن.
والذي ينبغي للإنسان أن يدع هذه الأوهام، وأن يكرر اللجوء إلى الله U ودعاءه بالعافية، وأن يعتمد على ربه -سبحانه وتعالى-، ومن تعلق بالله كفاه الله U .(6/24)
فأقول: لا تستعمل المرأة شيئا من هذا، ولتعتمد على ربها U وسوف يكون الله -تعالى- عند ظنها به -تبارك وتعالى-.
س: وهذا يقول: لي أخ لا يصلي في المسجد، وعنده في بيته دش، فهل لي أن أهجره ؟
ج: المسلم لا يخرج من الإيمان بالمعاصي التي دون الكفر، ولو عظمت.
وإذا كان لا يخرج من المعاصي التي دون الكفر ولو عظمت، فإنه لا يجوز هجره؛ لقول النبي r " لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " .
ولكن إذا كان في الهجر مصلحة فليُهْجَر طلبا لهذه المصلحة، يعني: لو كان هذا العاصي إذا هُجِرَ ارتدع، وتاب إلى الله من معصيته، فإنه يهجر؛ لأن هذا مثل الدواء له، وانظر إلى حال الثلاثة الذين هجرهم النبي r وأمر الناس بهجرهم، وقد تخلفوا عن غزوة تبوك، فانظر إلى حالهم لما هُجِرُوا كيف أيقنوا بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فتاب الله عليهم، وألف القلوب عليهم.
فالحاصل أن نقول للأخ السائل: لا تهجر أخاك من أجل تخلفه عن صلاة الجماعة أحيانا، وتركيبه للدش بمنزله إلا إذا كان في ذلك مصلحة.
والغالب أنه لا مصلحة في ذلك، أي: في هجره، فاذهب إليه وانصحه، وكرر النصح، ولا تيأس، فكم من إنسان كان بعيدا فقربه الله، وكان عاصيا فهداه الله. نعم
س: وهذا يقول: هل يجب إجابة الذي يسأل بالله، وإذا كان في سؤاله حرج عليّ، أو ليس من المصلحة أن أجيبه، فهل يجب عليّ إجابته؟
ج: أولا: نحن نخاطب الذي يسأل بالله، فنقول: لا يحل لك أن تسأل عباد الله بالله، فتلجئهم إلى ما لا يريدون؛ فإن هذا منك عدوان عليهم، والله -تعالى- لا يحب المعتدين.
ونقول للمسئول: إذا كان في إجابته في الواقع ضرر عليك أو على غيرك، فلا تجبه، وإن أجبته فتأول، تأول.(6/25)
مثاله: لو قال شخص: أسألك بالله أن تخبرني كيف معاملتك مع أهلك. هذا حرام عليه أن يسأل هذا السؤال، إلا إذا أراد المعاملة التي يُقْتَدَى بك فيها، فهذا شيء آخر، فإذا كان عليك ضرر في هذا فإنك تتأول، تنوي خلاف ما هو ظاهر له، وفي التأويل مندوحة عن الكذب.
والمهم أنه لا يلزمك أن تجيبه إذا سألك بالله في أمر يكون عليك فيه مضرة، أو كشف لسر، أو ما أشبه ذلك، وهو يحرم عليه الأسئلة هذه.
وهذا آخر سؤال؛ لأن الوقت انتهى، ونسأل الله -تعالى- أن يوفقنا جميعا إلى الخير والصلاح.
عقود المعاوضة
قال الناظم غفر الله له ورفع درجته:
ثم العقود إن تكن معاوضة
وإن تكن تبرعًا أو توثقة
لأن ذي إن حصلت فمغنم
فحررنها ودع المخاطرة
فأمرها أخف فادر التفرقة
وإن تفت فليس فيها مغرم
O .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
في هذه الأبيات الإشارة إلى ضوابط المعاملات، التي يجب فيها تحريم، وعدم الجهالة والغرر.
وقد قسم المؤلف -رحمه الله ووفقه- العقود إلى قسمين: عقود معاوضة، هذه لها ثلاثة أقسام: عقود معاوضة، وعقود تبرؤ، وعقود توثقة.
فأما عقود المعاوضة، قال:
ثم العقود إن تكن معاوضة
فحررنها ودع المخاطرة
عقود المعاوضة: هي التي يكون فيها عوض من الطرفين. كذلك أيضا عقود البيع، عقد البيع فيه معاوضة من الطرفين، وكل عقد فيه معاوضة، فإنه مقيم مبني على المشاحة، أي أن كل واحد منهم يريد أن يأخذ حقه كاملاً، ولا يتنازل فيه لأحد، مثال ذلك: البيع.(6/26)
البيع عقد معاوضة، يبذل فيه المشتري الثمن بمقابلة سلعة، ويريد أن يكون الثمن قيمة بقدر السلعة، بحيث لا يزيد عليه، والبائع كذلك، يريد أن يبذل في سلعته ما يكون بقدر قيمتها أو أكثر؛ ولهذا قد جعل الشارع لكل من المتبايعين خيار ما داما في المجلس، زيادةً في التروي والتثبت، لأن الإنسان إذا كانت السلعة عند غيره، تكون رغبته فيها شديدة، فإذا حصلت له وجاءت له، نزلت في نفسه فربما يندم؛ لذلك جعل الشرع الحكيم للمتبايعين خيار، ما داما في المجلس.
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى وجوب تحرير البيع، حيث " نهى عن بيع الغرر، ونهى عن بيع حبل الحبلة، ونهى عن بيع الحصاة " وكذلك روي عنه أنه " نهى عن بيع السمك في الماء، والطير في الهواء ... " وما أشبه ذلك.
وبناء على ذلك، لا يصح البيع إذا كان الثمن مجهولاً للطرفين؛ لما في ذلك من الغرر، ولأن المشتري قد يقدر ثمنًا، ويكون الثمن الذي يريده البائع أكثر بكثير، والبائع قد يقدر ثمنًا، ويكون الثمن الذي بذله المشتري أقل بقليل.
واختلف العلماء -رحمهم الله-، هل يجوز البيع بما ينقطع به السعر؟ يعني: أن يقول المشتري للبائع: إذا انقطع السعر فهي عليَّ بما ينقطع به السعر.
كما يقول عوعم+ أخذتها بما تقف عليه+ بالمزايدة.
ومن العلماء من قال: إن هذا لا يجوز؛ لأنه غير معلوم للبائع ولا للمشتري، ولأن المشتري قد يكون في تقديره الثمن أقل بكثير مما انقطع به السعر، وكذلك البائع ربما يكون الثمن في تقديره أكثر بكثير مما انقطع به السعر.(6/27)
ومن العلماء من أجاز ذلك، وقال: "إن النهي عن بيع الغرر، إنما كان خوف الغبن". وما ينقطع به السعر ليس به غبن؛ لأن ما ينقطع به السعر هو قيمة الشيء بين الناس، وحيئنذ لا غبن، ولكن القول بأنه لا يجوز أقرب إلى الصواب؛ لأن ما ينقطع به السعر قد يتولاه شخص ذو حاجة، فيرفع السعر في المزايدة، حتى يصل إلى حد لم يخطر ببال المشتري، وقد يكون الحضور للمزايدة قليلين، فينقص الثمن إلى حد ما كان يقدره البائع، وحينئذ يحصل الندم، عمل الناس اليوم على القول الثاني وهو القول بالجواز.
مثال آخر: لو قال: أبيعه عليك بثمنه عند الناس. يعني: كما يبيعون، وفي هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: "إنه جائز". ومنهم من قال: "إنه ليس بجائز".
وهذا القول أقرب إلى الجواز من ... وهذا القول في هذه المسألة، أقرب إلى الجواز من المسألة التي قبلها؛ لأن القيمة المعتبرة بين أوساط الناس لا يندم عليها أحد؛ حيث إن البائع لن يبيع بأزيد ما تبيع به الناس، وكذلك المشتري.
وعلى هذا فإذا قال الرجل للتاجر: أرسل لي صندوق شاي، أو كيس رز. ولم يذكر الثمن -فإن ذلك لا بأس به، ويقيده عليه، بما هو سعره عند الناس، والعمل على هذا في عرف الناس، لا سيما إذا كان البائع رجلا معتبرا في البيع يثق به الناس.
ومن المخاطرة في البيع: أن يبيعه شيئا ضائعًا، إما شاة ضالة أو بعيرا، وإما عين أخرى ضائعة، فإن بيع ذلك حرام؛ وذلك لأنه غرر قد يحصل للمشتري وقد لا يحصل، ثم إن الغالب أنه يباع بأقل من ثمنه حاضرًا، فإذا كان المشترى منه يساوي حاضرًا مائة، فإنه لن يبلغ المائة إذا كان غائبا، فيكون مثلا بثمانين أو بخمسين، حينئذ إن وجد صار المشتري غانمًا، وإن لم يوجد صار غارمًا، وعكسه البائع: متى كان المشتري غانمًا فالبائع غارمًا، ومتى كان البائع غانمًا فالمشتري غارم، وهذا غرر ونوع من الميسر.(6/28)
ومن هذا "من الغرر": بيع ما في بطون البهائم، وإن شئت فقل: "بيع ما في بطون الحوامل". يشمل الحامل من الإماء، بيعه حرام؛ لأنه مجهول لا يدرى أذكر هو أو أنثى؟ أواحد هو أم متعدد؟ فإذا قدر أنه علم ذلك بسبب تقدم الطب، فإنه يبقى الجهل: أيخرج حيًا أم ميتًا؟ فيكون داخلا في الغرر، فلا يصح العقد عليه.
ومن بيع الغرر: بيع الثمار على رؤوس الشجر قبل صلاحها، وكذلك الزروع؛ ولهذا " نهى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها " عن بيع الثمر على رؤوس النخل، وقال: " حتى يبدو صلاحها " وسئل عن الصلاح فقال: " تحمر أو تصفر " وكذلك في العنب: لا يصح بيعه حتى يتموه حلوًا؛ لأنه قبل ذلك، أي: قبل بدو الصلاح في تمر النخل والتموه حلوًا في العنب عرضة للفساد، فيكون فيه غرر ومخاطرة، ومن ذلك النهي عن بيع الحب في سنبله حتى يشتد، أي: حتى يصلب ويقوى ويكون حبًّا .
والخلاصة: أن كل بيع يتضمن الغرر فغير صحيح، وكذلك يقال في الإجارة؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، فالمستأجر يستأجر العين، يملك منافعها، والمؤجر يؤجره إياها ويملك الأجرة، هذه معاوضة بين المؤجر والمستأجر، وعلى هذا فلا بد من تحرير الأجرة وتحرير المستأجر؛ حتى لا يقع المتعاقدان في الغرر الذي يشبه الميسر.
فإن قال قائل: ألستم تجيزون الجعالة؟ وهي عقد على شيء مجهول. مثل أن يقول: من رد لقطتي فله كذا وكذا، ومن رد ضالتي فله كذا وكذا. من المعلوم أنه قد يردها في زمن قريب، أو في زمن بعيد ، من مكان قريب، أو من مكان بعيد، وأنتم تقولون: هذا جائز.
الصواب نقول ذلك؛ لأن عقد الجعالة هو من مشروط على عمل، متى حصل فذاك العلو+ دون أن يجتمع بشيء أحدهما؛ ولهذا كانت الجعالة من العقود الجائزة، ويدل لهذا قول الله تعالى: { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) } إنه قد يأتي به من مكان قريب، وفي مدة وجيزة، وقد يأتي به من مكان بعيد، وفي مدة طويلة.(6/29)
ثم قال المؤلف -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-:
ثم قال المؤلف -رحمه الله- في هذا البيت:
فحررنها ودع المخاطرة
-----------
وفي قوله: "ودع المخاطرة" إشارة إلى أن الأخيرة +؛ لكي تتبين واضحة، من أجل أن لا يكون هناك مخاطرة، والمخاطرة هي الميسر، وبهذا نعرف أن عقود التأمين على السلع محرمة؛ لأنها تتضمن مخاطرة، فإذا أمن الإنسان على سيارته مثلاً، وصار يدفع كل سنة خمسمائة ريال، أو أربعمائة ريال، وهنا يكمن الخطر؛ لأنه إن مرت السنة دون أن يحصل حادث يدخل في عقد التأمين -صارت الشركة غانمة، وصاحب+ التأمين غارمًا، وإن حصل في المؤمن عليه ضرر، أكثر مما دفعه صاحب التأمين -صارت الشركة غارمة، ويحصل بذلك غرر وجهالة؛ لأنه إما غانم وإما غارم.
عقود التبرع:
ثم قال:
وإن تكن تبرعا أو توثقة
فأمرها أخف...
تكون العقود تبرعًا: كالصدقة والهبة والعطية والوصية + آخر.
والهبة: هي التبرع بمال بلا عوض. فإن قصد بها ثواب الآخرة فصدقة، وإن قصد بها التودد + هبة هدية، وإن قصد بها مجرد الإعطاء فهي هبة، ثم إن كانت العطية ... ثم إن كانت الهبة أو الصدقة أو الهدية في مرض الموت المخوف تضاف إلى الثلث، بمعنى أن ما زاد على الثلث يكون أمره موكولاً إلى الورثة، إن شاءوا أجازوه وإن شاءوا منعوه؛ لأن العبرة بالمعاني هنا، والمريض مرض الموت المخوف قد تعلق حق الورثة بماله، فليس له أن يتبرع بما زاد على الثلث إلا بعد إجازتهم.
وقوله: "أو توثقة" يعني: أن تكن العقود توثقة فأمرها أخف. التوثقة كعقد الرهن، إذا عقد الرهن على بيته، والمرتهن لا يدري عنه فهو صحيح، ما دام البيت معلومًا؛ لأن المقصود بالرهن التوثقة، فإذا قال: رهنتك بيتي المعروف في مكان كذا. هذا للمرتهن صح، وإن كان المرتهن لم يذهب إلى البيت، ولم يستبرح ولم ينظر في حجره ولا ... ورضي، ووجه ذلك أن هذا الرهن، إن كان على ما في خاطر المرتهن هذا هو المطلوب، وإن كان دون المقصود توثيقه بالمال.(6/30)
وكذلك الضمان، لو ضمن الإنسان شخصًا يملك ما في ذمته، وهو لا يدري من السبب في الدين؛ ذلك لأن الدين لا يلزم الضامن وحده، وعلى المضمون أصل، والضامن فرع.
قد اختلف العلماء -رحمهم الله-، هل للمضمون له أن يطالب الضامن؟ قد يتعذر من مطالبة المضمون، أو ليس له أن يطالبه إن لم يتعذر مطالبة المضمون. هذان قولان، وعمل كثير من الناس اليوم بأن الضامن لا يطالب، إلا إذا تعذر في مطالبة المضمون، وبهذا يأتي إلى الضامن يقول: أعطني حقي. فيقول: حقك عند فلان، إذا عجزت عنه فائت إليّ.
والخلاصة: أن عقد الرهن وعقد التوثقة، لا يشترط فيه أن يكتب فيه الشروط المقصودة أو بعضها.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "فدع التفرقة". أي: اعلمها وافهمها، التفرقة أي: بين عقود المعاوضات وعقود التبرعات والتوثيقات، والتفرقة هي أن عقود المعاوضات هي على المشاحة، ومطالبته بالحق كاملاً.
"ودعاة التوثقة" أيش المقصود بها؟ المشاحة + هذا الأمر فيها أسهل، حتى بين المتعاقدين.
قال المؤلف -رحمه الله-: "لأن ذي إن حصلت فمغنم".
"لأن ذي" المشار إليه والقريب، من القواعد المقررة: أن الضمير أو الإشارة يعودان إلى أقرب مذكور. ويكون مراده بقوله: "ذي". أي: عقود التبرعات والتوثقة، إن حصلت فمغنم أسرتي +، وذلك مغنم+... لهذا قال: "فإن تفت ليس فيها مغرم"
لأن ذي إن حصلت فمغنم
وإن تفت فليس فيها مغرم
ثم قال المؤلف -رحمه الله وعفى عنه ووفقه-:
وكل ما أتى ولم يحدد
بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
كل شيء أتى مطلقًا ولم يحدد، فإنه حدد بالعرف، ومثاله قوله: "الحرز".
الحرز يعني: حرز الأموال ولا بد من معرفة الحرز؛ لأنه يترتب عليه ضمانات وحدود، فمن ذلك الوديعة، يعني: أن تعطي شخصًا مالاً يحفظه لك، لا بد أن يحفظه في حرز، وهذا يختلف اختلافا كثيرا بين الأموال وبين أفرادها، وبين الأزمنة وبين الأمكنة.(6/31)
في بعض الأزمنة يكون هذا الشيء حرزًا، وفي بعضها لا يكون حرزًا، وفي بعض الأمكنة أو البلدان يكون هذا حرزًا، وفي بعضها لا يكون، والأموال كذلك، بعضها ثمين يجب أن يحرز في مكان أمين، وبعضها ليس كذلك.
لما ذكر الفقهاء -رحمهم الله- الحرز في باب السرقة، قالوا: "إنه يختلف باختلاف السلطان والمكان، وأنواع المال، وأهل السلطان، وغير ذلك". إذا أودع رجل شخصًا وديعة من المال: دنانير أو الدراهم، ووضعها على طاولة المكتب -فإن ذلك لا يعد حرزًا للدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير تحفظ في الصناديق، في الأبواب والأغلاق الوثيقة، ولو أودعهم جرة حبر ووضعها على المعصرة، لأنها لم تجر العادة، بأن مثل هذه تحفظ في الأغلاق الوثيقة.
كذلك أيضًا بالنسبة للسرقة، إذا سرق السارق دراهم أو دنانير على الطاولة، ليس بحرز، وإذا سرق قلمًا أو جرة حبر كان ذلك سرقة من حرز.
ذكر العلماء -رحمهم الله-: أن يد السارق لا تقطع إلا إذا سرق من حرز. كذلك لو استأجر عينًا ووضعها في مكان، نظرنا إن كان هذا المكان مما جرت العادة، أن توضع فيه هذا العين حرزًا -إذن لا ضمان عليه فيما لو سرق، ولو في الحرز أن تقطع يده؛ وذلك لأن التفريط من صاحب المال، فإذا كان التفريط من صاحب المال تقطع يده.
ثم قال المؤلف ممثلا في مثل أخرى: "من ذاك صيغات العقود مطلقا".
يعني: مما يرجع فيه للعرف صيغ العقود، إجارة رهن الوطء النكاح؛ ولهذا قال: "مطلقًا". إذا الإنسان "شخص" قال: "أنكحتك بنتي" -هم يعرفون أن "نكحتك" يعني: زوجتك- انعقد النكاح، أو قال: "جوزتك بنتي" فقال: "قبلت" -انعقد النكاح، ولو قال: "أعطيتك بنتي" فقال: "قبلت" -انعقد النكاح. هذه تدل على عقد النكاح كعرف، وإلا هي وعد ليس عقدا.(6/32)
وقول المؤلف -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-: "مطلقًا". شارك، أو لمن فصل على أن عقد النكاح لا بد فيه من لفظ الإنكاح أو التزويج، أو يقول مالك الأمة: أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك. لكن الصحيح أنه لا فرق، إن جميع العقود تنعقد بما دل عليه؛ لهذا قال المؤلف -رحمه الله-:"ونحوها" أي: نحو صيغات العقود، "في قول من قد حققا".
يشير إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فإنه -رحمه الله- عالم خاشع العلم، قوي الفهم، قوي الدين محقق؛ لهذا تجد غالب اختياراته موافقة للدليل الصحيح، وإني أوصي طالب العلم بالحرص به، وكتب تلميذه ابن القيم-رحمهما الله- فإن فيهما خيرًا كبيرا، يعطيان الإنسان ملكة قوية للترجيح بين الأقوال، ويمرنه على المناظرة والمناقشة مع الآخرين.
نسأل الله لنا جميعًا التوفيق إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا الفهم في كتابه والعمل به، إنه على كل شيء قدير. نعم .. لدينا أسئلة؟ نعم.
فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول:
س: كثير من العمال إذا أردت الاتفاق معه يقول: الذي تدفعه مقبول عندي. فما حكم ذلك؟
ج: هذا لا يصح؛ لأن الأجرة مجهولة، العامل إنما عمل عند صاحب العمل بالأجرة بلا شك، ولهذا لو أنه انتهى من العمل، وأعطاه صاحب العمل شيئًا، فقال: "زدني" -دخل بينهما الخلاف. وكم من مرة يكون فيها الخلاف، ثم يأبى العامل أن يقدر ما قدره صاحب العمل ويجحد؛ فيندم صاحب العمل، فيطلب الحصول على هذا العامل ويسأل عنه، لعله يجده فيعطيه حقه؛ فلذلك نقول: "لا يجوز للعامل عنده، إلا أن يحدد الأجرة، إلا إذا كان العمل مما عرفت أجرته بين الناس، هذا شيء يعمل فيه بالعرف". نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: باب القياس ما دليلها، لأن الصنعاني يبطلها؛ وقد أشكل علينا هذا؟(6/33)
ج: الإشكال في إبطالها، أعني دلالة القياس، ليس الإشكال في إثباته؛ لأن القياس ثابت من القرآن والسنة، وكل مثل ضربه الله هو قياس: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) } وقال الله تعالى: { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
قال الله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } تجد هذا كثيرًا، كما أن الله قال في قصص الأنبياء: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } وهذه العبرة أن يكون أن يقيسوا حاضرًا بالماضي.
وأما السنة ثبتت دلالتها على القياس، ثبتت دلالتها على القياس، لقد ثبتت دلالتها على القياس بنص النبي r " إن رجلا أتى إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. قال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ " يعني: أبيض خليطا من السواد. نعم. من أين أتى؟ " لعله نزعه عرق. قال: فولدك هذا، لعله نزعه عرق " .(6/34)
" أتته امرأة لقضاء حج عن أمها نذرته، فلم تحج حتى ماتت، فقال: أرأيتِ لو أن كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فالله أحق بالوفاء " .
وهذا قياس لا شك فيه، وهو قياس دَيْن الله على دين الآدمي في أنه يقضى.
ولما قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " هذا واضح، أدلة كون القياس حجة ودليلا واضحة، ولا وجه للمخالفة. نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: إذا اتفق الرجل والعامل على سعر في مدة، وقبل انقضاء المدة رفض العامل العمل، وطلب حقه فهل يعطاه؟
ج: لا يعطاه، إذا استؤجر على عمل لزمه إكماله، فإن لم يكمله فلا أجرة له، إلا إذا كان هناك عذر قاهر لا طاقة للعامل به، فحينئذ يعطى من الأجرة بقدر ما عمل. نعم.
وهذا يقول -أحسن الله إليكم-: ما حكم من تراجع في هبته، بعدما ندم على فوات مصلحته بالهبة؟
ج: هذا يحصل لما لو وهبت المرأة شيئا لزوجها؛ حتى لا يتزوج عليها، وذلك مثل… تحب... لأنه يريد الزواج عليها، تبذل له مالاً في نية ألا يتزوج، فإذا تزوج فإنه يجب عليه أن يرد عليها ما أخذ. إننا نعلم أنها إنما وهبته لغرض لم يتحقق، وكذلك لو قيل له: إن فلانا أصابته فاقة. فأعطاه من أجل هذه الفاقة، ثم تبين أنها لم تكن -فإنه يرد + نعم.
وهذا يقول -أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ-:
س: إذا شك الإمام في صلاته، فبنى على غالب ظنه، ووافق ظنه الواقع، وذلك بموافقة المأمومين له، فهل يسجد أم لا؟ وما هو اختياركم، حيث إني قرأت لكم قولين في كتابين، فما المختار عندكم؟(6/35)
ج: المسألة فيها خلاف، المذهب أنه لا يسجد، إذا تبين أنه مصيب فيما فعل فإنه لا يسجد؛ لأن السجود إنما لسبب تبين عدمه، وقيل: إنه يسجد؛ لأنه أدى جزءًا من صلاته شاكا فيه، شاكا فيه أي: في هذا الجزء، لا يدري أزائد هو أم لا؟ وأنا أحيانًا يقع في ذهني أن... هو لا يسجد أحيانا كثيرة + أنه يسجد، فهو لم يتبين لي كثيرًا رجحان أحد القولين. نعم .
أحسن الله إليك -فضيلة الشيخ-هذا يقول:
س: الأوامر في الآداب، ما حكم الأوامر في الآداب؟ وما هو الدليل عليه؟ وهل الأمر مطلق ظاهر، أم نص في الوجوب؟
ج: هذا أمر مطلق، فلهم فيه بين علماء الأصول… فمنهم من قال: إنه للوجوب؛ لأن ذلك هو الأصل في أوامر الله ورسوله، ومنهم من قال: إنه للاستحباب. أن الأمر به يعلم مشروعًا، والتأذين بتركه لا في الأصل، الأصل عدم التأذين بالترك، أنت إذا تأملت كثيرًا من الأوامر وجدت أنها ليست للوجوب، إما في الإجماع وإما في قول أكثر العلماء؛ ولهذا فصل بعضهم فقال: ما كان من الآداب فهو للإرشاد وليس للوجوب، إلا أن يتضمن مفسدة أخرى، وما كان لمطلق التعبد فهو للوجوب؛ لأن الله -تعالى- قال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } وهذا أقرب الأقوال الثلاثة.
فمثلا: الأمر بالأكل باليمين، أكد العلماء على أنه للاستحباب وليس للوجوب، وذهب علماء آخرون إلى أنه للوجوب، فإذا طبقنا هذا الحديث على ما هنا، وجدنا أنه من الآداب، لكن اقترن به ما يدل على الوجوب، اقترن به ما يدل على الوجوب، وهو قوله r " فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " .(6/36)
" وأكل مرة رجل عنده باليسرى، فأمره أن يأكل باليمين، فقال: لا أستطيع. فقال: لا استطعت. فما ردها إلى فيه بعد ذلك " وكذلك أيضًا انظر كل... وهو لم يسم الله، قال لعمر بن أبي سلمة وهو لم يسم الله، " وكل بيمينك وكل مما يليك " هنا ثلاثة أوامر: "التسمية" الأمر بالتسمية، والأمر بالأكل باليمين، والأمر بالأكل مما يليه.
فأما الأول: وهو التسمية، فقد اختلف العلماء فيه: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ الصحيح أنه للوجوب، على أنه من الآداب، لكن هناك دليل آخر يدل على الوجوب، وهو أن الإنسان إذا لم يسم فإن الشيطان يأكل معه، وهو أنه لا يليق بعاقل أن يمكِّن عدوه من الأكل معه.
" كل بيمينك " سبق الكلام عليه. " كل مما يليك " على سبيل الاستحباب، فلو أكل مما يلي جليسه لم نقل إنه آثم، فإن الأمر بالأكل مما يليه على سبيل الاستحباب، اللهم إلا أن يكون جليسه ممن يتأذى من ذلك، فإذا كان جليسه ممن يتأذى بذلك، هنا قول يجب عليك أن تكف عن الأكل مما يلي جليسك؛ لما فيه من أذية الجليس، وأذية المسلم حرام، لا يجب للمسلم أن يؤذي أخاه. نعم.
هذا يقول -أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ-:
س: اتفقت مع عامل على تصليح جهاز من الأجهزة، ولم نتفق على السعر، ثم عندما أردت إعطاءه المبلغ، ثمانية دنانير كويتية وهو العرف، فطلب ضعف هذا المبلغ، وهو مبلغ كبير بالنسبة لعمله، وقد رفض أخذ مبلغ ثمانية دنانير وذهب، فماذا عليَّ؟
ج: ليس عليك شيء، ما دام هذا أجرة العادة، ولم يكن بينكما عقد تقدير الأجرة، ولكن إن أيست منه، تصدق بها بالنية عنه، وإن لم تيأس من رجوعه انتظر حتى يصل. نعم.
هذا يقول -أحسن الله إليك فضيلة الشيخ-:
س: س: إذا رأيت شخصًا على المائدة يشرب بيساره، فهل يجب عليّ تنبيهه أمام الناس؟(6/37)
ج: نعم، يجب عليك إذا رأيت شخصا يأكل بشماله، أو يشرب بشماله في حوط من الناس، يجب عليك أن تنبهه، ولكن ليس من شرط ذلك:خذ يا فلان، كل باليمين. بل يمكن أن يحدث المقصود بأن تقول: إن النبي r علَّم أمته آداب كل شيء، حتى آداب الأكل، ثم تسوق الحديث: أنه نهى عن الأكل بالشمال والشرب بالشمال، وتأتي بحديث آخر للنبي -عليه الصلاة والسلام- قال للرجل: " كُل بيمينك. قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت. فما ردها إلى فيه بعد ذلك " نعم.
وهذا يقول:
س: سمعت -فضيلة الشيخ-: الملح من الأمور التي يدخل فيها الربا، فما حكم من أخذ من الدكان ملحًا ثم قال: اجعله دينا عليّ؟
ج: لا بأس بذلك، النقدان ليس بينهما ربا في بقية الأصناف، لهذا كان من عبارات الفقهاء: يجري ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، ليس أحدهما نقدًا.
يعني أن النقد أنج+ الربا بينه وبين بقية الأصناف، ودليل ذلك أن النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قدم المدينة، ووجدهم يصرفون في الثمار السنة والسنتين فلم يمنعهم، مع أن الدراهم نقد أهل البستان، وقبض المشتري يتأخر. نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: بعض الناس يسمعون الدف في الزواجات... -نعم؟- بعض الناس يسمعون الدف في الزواجات، ويستدلون بما رواه الترمذي: " أن جارية ضربت الدف بين يدي الرسول r بعدما نذرت، إن رده الله سالمًا من الغزو لتضربن الدف، فضربت الدف، وأبو بكر وعثمان يسمعان " فكيف نوجه هذا الحديث مع أحاديث النهي؟ والله يرعاك.
ج: النهي عن الدف ليس عامًا، هذا الضرب بالدف جائز عند المناسبات: الأفراح، العرس، قدوم الغائب، إذا هو جاء من عند الناس+ ، بعلمه أو ماله أو سلطانه.
المالك شرط في صحة العقود
O . الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى ورفع درجته-:
واجعل كلفظ كل عرف مطرد
وشرط عقد كونه من مالك
وكل من رضاه غيرُ معتبر(6/38)
وكل دعوى لفساد العقد
وكل ما ينكره الحس امنعا
فشرطنا العرفي كاللفظي يرد
وكل ذي ولاية كالمالك
كمبرأ فعلمه لا يعتبر
مع ادعاء صحة لا تجدي
سماع دعواه وضده اسمعا
O . الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبق لنا أن عقود المعاوضات، لا بد فيها من العلم المزيل للاشتباه؛ لأنها عقد معاوضة ومشاحة، كل يريد أن يكون حقه تامًا، وأما عقود التبرعات والتوثيقات فأمرها أخف ويغتفر فيها الجهل؛ وذلك لأن عقود التبرعات والتوثيقات إن حصلت فمغنم، وإن لم تحصل فليس فيها مغرم، فلا تدخل في الميسر.
وسبق لنا أيضًا أن كل ما أتى مطلقًا، يعنى: في النص، في القرآن أو السنة، ولم يحدد، فالرجوع فيه إلى العرف، وهذا لم نبينه.
يقول الناظم:"كل ما أتى". يعني: في النص من الكتاب والسنة، "ولم يحدد" بزمن أو مكان أو عدد أو صفة -فإنه يرجع فيه إلى العرف، مثال ذلك: الحرز، وهو ما تحفظ به الأشياء، فإن الحرز معتبر في الأموال المسروقة؛ إذ أن من شرط قطع يد السارق أن يسرق من حرز، فلو سرق من غير حرز لم تقطع يده، والحرز يختلف باختلاف الأموال، واختلاف البلدان، واختلاف السلطان.
فمن المعلوم أن حرز الماشية ليس كحرز الذهب، الماشية تحرز بالأحواش والحظائر وما أشبهه، والذهب لا بد أن يكون في الصناديق الوثيقة المغلقة، كذلك أيضًا ليس الحرز في المال التي يكثر فيها السراق، كالحرز في البلد الآمنة، فالبلد التي يكثر فيها السراق يجب أن يحترز، يحرز المال أكثر ممن احترز في البلد التي يقل فيها السراق، كذلك السلطان، هو إذن مراتب، إذا كان السلطان قويا فليس الحرز مع السلطان الضعيف، كالحرز مع السلطان القوي؛ إذ أن بعض البلاد التي سلطانها قوي، ربما تبقى الأموال على عتبة الدكاكين ولا يخشى عليها، وإذا كان السلطان ضعيفًا فيجب أن يكون الحرز أقوى.(6/39)
والحرز معتبر في المال المسروق، معتبر كذلك في الوديعة، إذا أودعك الإنسان مالاً فيجب أن تحفظه في حرز مثله، فالذهب فيما يحرز به الذهب، والأواني فيما تحرز به الأواني، فالأواني مثلاً حرزها المطبخ؛ إذ لا يغلق عليها وراء الأبواب في الصناديق مثلاً، والذهب حرزه في الصناديق المغلقة وهكذا.
الحرز أيضًا يعتبر في الأعيان المستأجرة، فلو استأجر الإنسان سيارة، وجب أن يحفظها في حرز مثلها، وألا يدعها في مكان يخشى عليها من السراق أو المفسدين.
والحرز لم يحدد في الشرع، فيرجع فيه إلى العرف، كذلك السفر، السفر جاء مطلقًا في القرآن والسنة ولم يحدد، قال الله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ }
فأطلق الظرف ولم يحدده، لا بزمان ولا بمسافة، وعلى هذا فيرجع فيه إلى العرف، وما ورد عن بعض السلف، من أنه من مكان كذا وكذا سفر قصر، يعني وما دونه فليس سفر قصر، فإنما هو من باب المثال لما كان سفرًا في عرفهم؛ ولهذا لم يحدد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- زمنًا ولا مسافة في سفر القصر، بل قال أنس بن مالك-رضي الله عنه-: " كان النبي r إذا خرج ثلاثة أميال… " فيرجع في ذلك إلى العرف، فما سموه الناس سفرًا فهو سفر، وما ليس سفرًا في عرف الناس فليس بسفر.
وكذلك الإقامة أثناء السفر في بلد أو مكان بري، لم يحددها الشرع بأيام معلومة، أو أشهر معلومة، أو سنوات معلومة؛ ولهذا كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يقيم إقامات متعددة مختلفة، ويقصر فيها الصلاة، فقد أقام في تبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، وأقام في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وذلك في غزوة الفتح، وأقام في مكة في آخر سفر سافره -في حجة الوداع- عشرة أيام، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري -رحمه الله:- " أن أنس بن مالك t سئل: كم أقام… " .(6/40)
- " صلى الله عليه وسلم- قدم في يوم الأحد، الرابع من شهر ذي الحجة، وسافر من مكة في صبيحة اليوم الرابع عشر " فهذه عشرة أيام، ولم يقل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا حرفًا واحدًا، في أن من أقام كذا لزمه القصر ومن أقام دون ذلك لم يقصر، إذن الإقامة ما دام الإنسان مسافرًا لم يعد إلى بلده، فهي ظن السفر.
ومن ذلك أيضًا الخفان، السنة وردت: " أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مسح على الخفين " ولم يشترط النبي r في الخفين شرطًا معينًا، إلا أنه لبسهما طاهرتين، وأن مسحهما في مدة معينة: ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم.
فإذن نقول: الخف جاء مطلقًا، مسح على الخفين. فإذا كان مطلقًا الخفين قلنا: يمسح على كل ما يسمى خفًا عرفًا. وهذا هو القول الراجح، وأننا لا نشترط شروطًا في جواز الخفين لم تثبت في الكتاب ولا في السنة؛ لأننا إذا شرطنا شروطًا، ضيقنا نطاق المسح، وتضييق ما وسعه الله مشكل.
كذلك أيضًا النفقة. النفقة يقول الله U { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ } وأطلق الإنفاق، ويرجع في ذلك للعرف، فما تعارف عليه الناس من نفقة الغني وجب على الزوج، وما تعارف عليه من نفقة الفقير وجب عليه، كذلك المعاشرة: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ولم يحدد شيئًا معينًا، بل جعل ذلك إلى العرف، وهذه قاعدة نافعة تنفعك في أبواب كثيرة في الفقه: أن كل شيء أتى في النص، من كتاب الله وسنة رسوله r ولم يحدد -فإنه يرجع فيه إلى العرف.
ثم قال الناظم:
وشرط عقد كونه من مالك
وكل ذي ولاية كالمالك
العقود سواء كانت عقود تبرعات، أو معاوضات، أو توثيقات، أو أنكحة أو غيرها، لا بد أن تكون من مالك، أي: ممن يملك العقد على هذا الشيء. العقود لا بد أن تكون من مالك، فمن عقد عقدًا لا يملكه فعقده باطل لا يصح.(6/41)
مثال ذلك في البيع: لو باع الإنسان ما لا يملك: أتى على سيارة فلان فباعها إلى فلان، البيع غير صحيح، حتى لو تم الإيجاب والقبول، وعلم الثمن والمبيع والتقابض، فغير صحيح؛ لأنه ليس مالكًا لها "للسيارة".
وكذلك لو رهن لدين عليه، وهو غير مالك -لم يصح الرهن، وكذلك لو تبرع بها صدقة على الفقير، أو هدية لمن يطلب مودته، أو غير ذلك فإن هذا التبرع غير صحيح؛ لأنه ليس من مالك، وكذلك لو باع حرا فإن البيع لا يصح، حتى لو كان ابنه أو أباه أو أخاه، فإنه لا يصح؛ لأنه ليس مالكا، إذ أن الحر حر ليس يُملك، كذلك لو زوج ابنة فلان لم يصح العقد؛ لأنه لا يملك ذلك، وقس على هذا بقية العقود بجميع أنواعها.
قال: "وكل ذي ولاية كالمالك". يعني: الذي له ولاية من قبل الشرع، أومن قبل المالك، كالمالك في التصرف، فشمل ذلك الوكيل والناظر والوصي والوريث.
الوكيل: هو من أذن له المالك بالتصرف حال الحياة، مثاله أن يقول لشخص: يا فلان، وكلتك في بيع هذه السيارة. فإذا باعها الوكيل، فهو كما لو باعها موكله في جميع الأحكام؛ لأن له ولاية من قبل المالك، وكان تصرفه كتصرف الموكِّل.
الثاني: الناظر. والناظر: هو الذي يوليه الواقف على الوقف، يسمى ناظرًا، هكذا اصطلح الفقهاء -رحمهم الله- وإن كان حكمه حكم الوكيل، لكنه يسمى عندهم ناظرًا، فإذا تصرف الناظر تصرفًا مأذونًا فيه من قبل المالك، أو من قبل الشارع، يعني… وأقول من قبل المالك، يعني: الذي وقع، أو من قبل الشارع -فهو كالمالك، مثاله: رجل أوقف نخلة على الفقراء والمساكين، وجعل النظر فيه لفلان، فلفلان أن يتصرف في توزيع هذا الوقف، حسب ما يراه من مصلحة، ولا حاجة أن يستأذن الواقف، لأن تصرفه كالواقف، حيث إنه ناظر على الوقف، فإذا صرفه في المساكين فقد امتلك موقعه، كذلك أيضًا لو كان يلتزم من قبل الشرع، فتصرف الناظر صحيح وإن لم يأذن له الواقف.(6/42)
مثاله: رجل أوقف بيته على المساكين، ثم إن البيت انهدم أو خرب حتى لا يمكن الانتفاع به، فحينئذ يجب على الناظر أن يبيعه ويصرف ثمنه فيما ينفع، إن أمكن أن يشتري بيتًا يقوم مقام الأول فهذا مطلوب، وإن لم يمكن صرفه في جهة أخرى، مثل أن يصرفه في بناء المساجد استقلالاً أو مساهمة.
وليعلم أن قولنا: "إن المتصرف في الوقف يسمى ناظرًا". قول يجب أو ينبغي التفطن له؛ لأننا نرى كثيرًا من إخوتنا الذين يكتبون الأوقاف، يقول: هذا وقف على كذا وكذا وكذا، والوكيل عليه فلان. وهذا وإن كان صحيحًا من حيث الجملة، لكن الأولى والأحسن، أن يعبر بما عبر به الفقهاء والسلف الصالح، فيقول -بدل والوكيل فلان بن فلان-: "والناظر عليه: فلان بن فلان".
أما الثالث فهو الوصي: والوصي هو الذي أذن له بالتصرف في المال بعد الوفاة، مثال ذلك أن يقول: هذه ألف ريال توزع على الفقراء، والوصي فلان بن فلان. فإذا مات الموصي ... لأنه قال: هذه ألف ريال توزع على الفقراء. يعني بعد موتي، فإذا مات قام الوصي بتفريقها حسبما نص الموصي.
أما الرابع الذي يقوم مقام المالك: فهو الولي، وهو المتصرف بإذن من الشرع، وهو ولي اليتيم، واليتيم: هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ، سواء أن كان ذكرًا أو أنثى.
الابن الذي له سبع سنوات، وقد مات أبوه يتيم، والبنت التي لها سبع سنوات وقد مات أبوها يتيمة، وأما من ماتت أمه فليس بيتيم، إذا كان أبوه موجودًا.
الولي على اليتيم كالمالك، يتصرف في مال اليتيم كتصرف مالكه فيه، ولكن يجب على الولي أن يتصرف بما هو الأصلح، يقول الله -تبارك وتعالى-: { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
إذن قول الناظم: "وكل ذي ولاية كالمالك". يشمل أربعة أصناف: وكيل، وناظر الوقف، والوصي، وولي اليتيم.
من يعتبر رضاه في العقود:
ثم قال الناظم:
وكل من رضاه غيرُ معتبر
كمبرأ فعلمه لا يعتبر(6/43)
هذه أيضًا قاعدة مفيدة جدا، وهي أن لا يعتبر رضاه لا يعتبر علمه؛ لأنه إذا كان لو علم وعارض لم يقبل، لم يقبل معارضته، فعلمه وجهله سواء، مثال ذلك: المبرأ.
المبرأ يعني: إذا كان للإنسان دين على شخص فأبرأه منه، أي: أبرأ صاحب الدين المدين من دينه -فإنه لا يعتبر إرضاء؛ لأن هذا إسقاط، إسقاط واجب في ذمة المضمون، لا يجب عليه، حتى لو قال المبرأ: "أنا لا أرضى ولا أقبل أن تبرئني، أنا لا بد أن أوفيك" -برأت ذمته؛ لأن رضاك غير معتبر، لأن الحق وصف في ذمتك، أسقطه صاحبه سقط.
هذا هو المعروف عند أصحابنا -رحمهم الله-، ولكن القول الراجح الذي تطمئن له النفس أنه: إذا لم يعلم المبرأ ... ولكنه القول الراجح الذي تطمئن له النفس: أنه إذا لم يرض المبرأ فلا براءة؛ لأن المبرأ قد يرد الإبراء، بحجة أنه لو قبل، فأوشك أن يكون المبرئ -بكسر الراء- يمن عليه بذلك بعد ذلك، يمن عليه بذلك الإبراء بعد ذلك، إذ من الجائز أنه لو كان بينهما شيء، أي: بين المبرئ (بكسر الراء)، والمبرأ (بفتحها) شيء، إذا حضر قال المبرئ - بكسر الراء-: هذا جزائي حين أبرأتك من دينك.
يمن عليه بذلك، هذا لا شك أنه أثر على نفسية المبرأ، القول الراجح أنه إذا لم يرض المبرأ بالإبراء، فإنه لا يثبت الإبراء، لكننا مشينا على تمثيل المشهور من المذهب.
من ذلك أيضًا، من هذه القاعدة: المرأة. رجل زوج أياها، لا يشترط أن تكون راضية به، أن يطلقها ولو لم ترض، وإذا لم يعتبر رضاها بالطلاق، لم يعتبر علما، وعليه فلو طلقها ولم تعلم بالطلاق، حتى مضى عليها ما تنقضي به العدة من أقراء أو شهور -انقضت عدتها، وإن لم تعلم بالطلاق.(6/44)
إذا قالت: لم تعلم. قلنا: لا فرق بين علمها وعدمه؛ وذلك لأن رضاها ليس بالمعتبر. واستطرادا لهذا نقول: لو أن رجلاً توفي، ولم تعلم زوجته بوفاته إلا بعد أن مضى عليها أربعة أشهر وعشرًا -فإن عدتها تنقضي ولا يلزمها الإحداد؛ لأن الإحداد + العدة، ولها أن تتزوج بعد علمها؛ لأن عدتها قد انقضت.
ومن ذلك: لو أن الرجل زوج ابنته بدون علم، زوجها كفئًا بدين وخلق دون علمها -فأن تزويجه صحيح؛ لأن رضاها غير معتبر، وهذا على المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- عند أصحابه، الصواب أنه ليس له الحق أن يزوجها بدون علمها، ولا بدون رضاها؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " لا تنكح البكر حتى تستأذن " وهذا عام للأب وغيره، بل قد جاء قول رسول الله r " والبكر يستأمرها أبوها " أو قال: " يستأذنها " فنص على البكر، ونص على الإذن.
الأصل في العقود الصحة:
ثم قال الناظم:
وكل دعوى لفساد العقد
مع ادعاء صحة لا تجدي
أي: لا تنفع، يعني: كل إنسان يدعي فساد العقد، والعاقد معه يدعي صحة العقد -فإن القول قول مدعي الصحة؛ لأن ذلك هو الأصح، فإذا تبايع رجل وتم العقد وانتهى، فقال أحدهما: وقع العقد بعد أذان الجمعة الثاني. يريد بذلك أن يفسد العقد؛ لأن البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة غير صحيح؛ لأنه منهي عنه، فقال أحدهما: البيع غير صحيح؛ لأنه بعد أذان الجمعة الثاني. وقال الآخر: بل هو صحيح لأنه قبله. القول قول مدعي الصحة.(6/45)
هو منهي عنه ، وقال أحدهم: البيع غير الصحيح ؛ لأنه بعد أذان الجمعة الثاني وقال الآخر ، بل هو صحيح ؛ لأنه قبله القول قول مدعي الصحة ؛ لأن ذلك هو الأصل في عقود المسلمين ، ولو فتح الباب وقلنا: إن القول قول مدعي الفساد ، فسدت كثير من بيوت+ المسلمين ، ولكان ذلك فتحا للحيل والتحايل ، ويذكر عن أحد مشايخ نَجْد المشغولين بالفتيا أنه قال: إن بعض الناس تحيل على إبطال البينونة في الطلاق الثلاث ، ويدعي أن العقد الذي وقع به الطلاق لم يكن تام الشروط ، بل أحد الشهود ممن لا تقبل شهادته ، من أجل أن يبطل العقد ، إذا بطل العقد بطل الطلاق المبني عليه ، الذي حصلت به البينونة.
مثل هذا لا يقبل قوله ؛ لأن الأصل الصحة واختلف العلماء -رحمهم الله- فيمن ادعى أن العاقد غير بالغ ، مثل أن يتم العقد ، عقد البيع بين رجلين ، يدعي أحدهما أن العقد كان قبل بلوغه ، ويقول الآخر: العقد كان بعد البلوغ ، فهنا نازع… المسألة فيها أصلان: الأصل الأول هو أن الأصل في العقود الصحة ، مدعي البطلان عليه الدليل ، والأصل الثاني أن الأصل الصغر وعدم البلوغ ، إن كان تيقن أن العقد كان بعد البلوغ ، اختلف العلماء في هذه الصورة قال بعضهم: يقدم من ادعى عدم البلوغ ؛ لأنه الأصل ، وقال بعضهم: يقدم من ادعى الصحة ؛ لأن الأصل هو الصحة ، وينبغي في هذه الصورة أن يرجع إلى اجتهاد القاضي ، إن رأى أن قوله أقرب إلى الصواب أخذ به.
ما يرفض حسا لا يقبل دعوى:
يقول الناظم -رحمه الله-:
وكل ما ينكره الحس امنعا
..................(6/46)
وكل ما ينكره الحس امنعا ، كل هنا بالنصب ، مفعول لقوله: "امنعا" ، والألف في قوله: "امنعا" للإطلاق ، وليس للتثنية يعني: كل شيء ينكره الحس امنعه ، "امنعا ، امنعا ، امنعا + لا تسمع الباطل ، فإذا ادعى المدعي شيئا ينكره الحس ، فإنه لا يلزم القاضي أن يستمع للدعوى ، بل يردها رأسا ؛ لأن ذلك غير ممكن ، مثال: يدعي شخص أن هذا الشاب ابن له ، وليس بينهما إلا خمس سنوات ، لا يمكن أن تقبل وأن تسمع دعواه ؛ لأنه ادعى ما ينكره الحس ، إذ لا يمكن أن يكون للإنسان ابن ، وكذلك لو كان بينهما ست سنين ، أو سبع سنين ، أو ثمان سنين ، أو تسع سنين بناء على أنه لا تمكن الولادة إلا لمن تم له عشر سنوات.
وكذلك لو كان … +التباعد ما بين … وغير ذلك مما ينكر بالحس هذه الدعوى لا تسمع إطلاقا ؛ لأنا لو سمعنا هذه الدعوى .. ، ويجب أن نعرف الفرق بين سماع الدعوى وقبول الدعوى ، نفي سماع الدعوى أن تلفظ نهائيا ، ولا ينظر القاضي فيها إطلاقا أعني: نفي السماع ، والقبول نفي القبول أن يسمعها ، وينظر فيها ، ولكن لا يقبل فيها دعوى المدعي ، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ما يبين الفرق بينهما بالصورة ، نتفرغ الآن إلى الأسئلة حيث لم يبق على الزمن المحدد إلا تسع عشرة دقيقة.
س: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ، هذا سائل يقول: امرأة وجدت قطعة من الألماس ، تقدر بحوالي أربعمائة ريال ، فأخذتها ، وهي كانت ملقاة ، أو ساقطة في مجمع عام في سوق ، فباعتها وانتفعت بثمنها ، فماذا عليها الآن؟
ج: عليها أن تتوب إلى الله U لأنها لم تُعَرّف هذه اللقطة ، الواجب عليه أن تعرفها ، بأن تبحث عنها بهذا السوق ، أو فيما هو أعم منه مدة سنة كاملة ، وبعد السنة تكون ملكا لها ، أما الآن فقد فات الأوان ، إن عليها أن تتصدق بثمنها ، قربة إلى الله U لصاحبها سواء كان رجلا ، أو امرأة.
نعم. أحسن الله إليكم.(6/47)
س: هذا يقول: أخذ أخي من تاجر عسل وقال له قيمة الواحدة منه ثلاثمائة ريال ، وإذا بعته بزيادة عن ذلك فلك الزيادة ، فأصبح يبيع الواحدة منه بثلاثمائة وخمسين ريالا ، ما حكم هذا البيع وماذا عليه وجزاكم الله خيرا؟
ج: إذا وكله في بيع شيء عسل ، أو طعام ، أو غير ذلك وقال له بعه بكذا وما زاد ، فلك فلا بأس به لكن بشرط أن يكون البائع الذي وكله عالما بسعر السوق ، فإن لم يكن عالما فله دعوى الربح+ ؛ لأن الإنسان قد تكون عنده السلعة قد مل منها ، وتعب منها ، فيوكل شخصا في بيعها ، هذا بكذا وكذا وما زاد ، فهو له هو لم يسأل عن سعرها ، ولعلها قد زادت قيمتها زيادة كبيرة ، فإذا قال له: خذ هذه السلعة بعها بمائة ، وما زاد فهو لك وعرف الوكيل أن هذا الرجل ليس عنده علم بالأسعار عليه أن يبين ، فيقول: يا فلان السلعة تساوي مائتين ، فإذا قال: وإن يكن الأمر كذلك ، بعها بمائة فما زاد ، فلك فحينئذ أقول: يبيعها بما تساوي في السوق ، ولو بلغت ثلاثمائة وأربعمائة ، ويرد إلى مالكها المائة التي اشترطها لنفسه.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يقول: فضيلة الشيخ ، كان معنا نساء في حج هذا العام ، وأردنا أن نأخذهن معنا لرجم جمرة العقبة ، أو لرمي جمرة العقبة فقال لنا أخ: بأن الشيخ محمد بن العثيمين ، قال: النساء لا ترجم لشدة الزحام حتى لو كان فيها صحة ، مع العلم بأن النساء كانت بصحة جيدة ، وأرسلت من يرجم عنها هل هذا صحيح عنكم؟ وإن كان لا فماذا يجب علينا الآن وجزاكم الله خيرا؟(6/48)
ج: أما أنا فصحيح عني أني وكلت في العام الماضي ، وقبله + من أراد أن يتعجل أن توكل نساؤه الرجال ؛ لشدة الضيق العظيم الذي يخشى على الرجل الشديد القوي ، فكيف بالمرأة الضعيفة؟ حتى أني رددت بعض الناس ، أثناء الطريق وقلت: أرجع النساء إلى الخيمة ، واذهب ، وارم عنك وعنهن ، لا يمكن أن يرمين إلا بشدة وتعب ومشقة + العبادة إذا + مخاطرة ، العبادة إذا لم يكن فيها تأن بقدر الإمكان ، فإنها تكون ناقصة ، وإن كان الإنسان يؤجر على المشقة ، على هذه المشقة لكن لكل مقام مقال.
أما مع السعة المرأة لا بد ، وأن ترمي بنفسها إلا أن تكون عاجزة ، لكن هؤلاء النساء اللاتي وكلن بناء على ما سمعن من الفتوى ، ليس عليهن شيء حتى ، ولو فرض أن الرجال ذهبوا إلى المرمى ووجدوه خفيفا ، ليس عليهن شيء إذا كان المخبر ممن يوثق بقوله. انتهى الجواب.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يا شيخ يقول: هذا سائل من اليمن يقول: رأيت بعض الإخوة يصومون يوم العيدين من أذان الفجر ، إلى بعد صلاة العيد ، ما حكم عملهم هذا ، وأحسن الله إليكم؟
ج: عملهم بدعة ، حرام عليهم من وجهين: الأول: أن هذا صوم ليس بشرعي ؛ لأن الصيام الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
الثاني: أنه ليس بمشروع ، لم يشرع النبي -عليه وعلى آله وسلم- أن يصوم الإنسان من طلوع الفجر إلى صلاة العيد لا في عيد الأضحى ، ولا في عيد الفطر ، بل إن النبي r كان من هديه في عيد الفطر أن لا يخرج إلى المصلى ، حتى يأكل تمرات يأكلهن ، وترا ثلاثا ، أو خمسا ، أو سبعا ، أو تسعا ، أو إحدى عشرة ، أما الأضحى فكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يبادر بصلاة عيد الأضحى ؛ حتى يأكل الناس من ضحاياهم.(6/49)
والأكل من الضحايا سنة ؛ لقوله -تبارك وتعالى-: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا }ح!$t6ّ9$# الْفَقِيرَ (28) } على هذا الأخ السائل أن ينصح إخوانه الذين يصومون كما ذكر عنهم ، وليبين لهم أن الشرع ما شرعه الله U لأن الشرع هو الطريق الموصل إلى الله ، ولا طريق موصل إلى الله إلا شريعته تبارك ، وتعالى.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا أحد الإخوة من الكويت يقول: هل يجوز للإنسان أن يأكل من نذره؟
ج: لا يجوز ، للإنسان أن يأكل من نذره إلا نذرَ مباحٍ ، كأن ينذر إن نجح في الاختبار ، أن يذبح ذبيحة يدعو إليها أصحابه ، وإخوانه ، إن هذا نذر مباح ، فله أن يأكل منه.
أما نذر التبرك+ فإنه لا يأكل منه إنه لله --عز وجل-- يخصصه للفقراء والمساكين.
نعم.
س: و يقول: أيضا حفظكم الله ، اختلف بعض طلاب العلم في مسألة: من جاء عند قبر ، وقال: يا فلان لصاحب القبر ادع الله لي ، فقال بعضهم: هو شرك أكبر ، وقال آخرون: بل هو شرك أصغر ، فما هو الجواب سددكم الله؟
ج: الظاهر لي أن هذا من باب الشرك الأصغر ؛ لأنه لم يطلب من هذا الميت أن يحصل مقصوده ، أو أن يدفع مكروهه ، وإنما سأله أن يسأل الله U ومعلوم أن الميت لا يمكن أن يسأل الله U لأن النبي r قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " وإن من السفه أن يتصور الإنسان أن الميت يمكنه الدعاء لمن طلبه منه الميت ، لا يملك الدعاء ، ولا يملك أن يكشف الضر ، أما من دعا الميت بنفسه قال: يا فلان اكشف ما بي من ضر ، وأعطني كذا وكذا ، فهذا شرك أكبر لا شك فيه. نعم
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، لو حدد السلف ما أطلقه الشرع ، فهل يعتبر محددا لعرفنا ، وما الحكم لو اضطربت الأعراف في بلد واحد فكيف الخلاص؟(6/50)
ج: لو أن السلف -رحمهم الله- عينوا ما أطلقه الشرع ، إن ذلك لا يتعين ما دام يختلف في الأعراف والأزمان والأماكن ؛ لأن المتبع النص ، نعني: إذا كان تفسير السلف تفسيرا لمبهم هذا يرجع إليه ، لا سيما تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- وأهل الفقه منهم ، وإذا اختلفت الأعراف اتبع في كل مكان ما كان عرفا فيه ، واتبع في كل زمان ما كان عرفا فيه. نعم.
س: يقول: أحسن الله إليكم ، أشكل علي قول شيخ الإسلام بتحريم النذر ، وترخيص النبي r للرجل الذي نذر أن يذبح إبلا ببوانة ، ولم يزجره r .
ج: أولا: أن شيخ الإسلام -رحمه الله- لم أعلم أنه أفصح بالتحريم ، لكن قوة كلامه ظاهره بأنه حرام.
ثانيا: أنه لا يبدو على هذا أمر النبي r بوفاء النذر ، ما أمر عمر بن الخطاب t وأمر صاحب الإبل+ ؛ لأن الكلام إنما هو في ابتداء النذر لا في وفاء النذر ؛ لأن وفاء النذر أمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- به فكان طاعة لله ، قال -عليه الصلاة والسلام-: " من نذر أن يطيع الله ، فليطعه " والكلام إنما هو في ابتداء النذر ، لا في وفائه ، أما وفاؤه ، فإنه يختلف.
نعم.أحسن الله إليكم.
س: هذا يقول: حصل حادث بين سيارتين فقدمت شركة التأمين للرجل الذي وقع عليه الحادث اختيارين ، إما أن تصلح السيارة ، وإما أن تعطيه مبلغا ، فاختار المبلغ علما بأن تصليح السيارة أقل من المبلغ المعطى له من شركة التأمين ، فماذا يفعل بالمبلغ المتبقى ، هل يصرفه على نفسه ، أو في صالح العامة ، وجزاكم الله خيرا؟
ج: أولا: نحن لا نقر التأمين على السيارات والأملاك وما أشبه ذلك ، بل نرى أنه من الميسر المحرم ؛ لأنه عقد يجعل المتعاقدين بين غانم وغارم ، وهذا هو حقيقة الميسر ، لكن إذا وقع من غير شركة التأمين ، مثل أن يصطلح المعتدي والمعتدى عليه على عوض لإصلاح السيارة مثلا ، فتصلح السيارة بأقل ، فهل يلزم صاحب السيارة أن يرد ما زاد على المعتدي؟.(6/51)
هذا فيه تفصيل: المعتدي قال: خذ هذا أصلح به السيارة ، فإنه يلزمه إذا زاد على ما أعطاه على ما أصلح به السيارة أن يرد الزائد ، الزيادة ، وإن كان المسألة مصالحة أن هذا + الذي حصل بعدوانه ، فإنه لا يلزم الذي أخذه أن يرده ، ونظير ذلك قول الفقهاء -رحمهم الله- لو أعطى شخصا مالا ؛ ليحج به فزاد ، فإن كان قد قال له: خذ هذا المال حج به فالزيادة للحاج ، وإن قال: خذ هذا المال حج منه الزيادة ترجع إلى المحجوج عنه.
آخر سؤالين.
س: هذا يقول: أحسن الله إليكم ، رجل في رحلة برية مع زملائه ، وعندما قام لصلاة الفجر وجد نفسه محتلما والجو بارد جدا ، ولا يستطيع استعمال الماء ، فتوضأ وصلى على تلك الحالة ، ثم أعاد الصلاة قبيل الظهر ، بعد تمكنه من الاغتسال ، فهل تصح صلاته؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: الرجل الآن أعاد الصلاة ، قد برئت ذمته على كل حال ، لكنه حسب السؤال لم يتيمم لصلاة الفجر ، وإنما توضأ وضوءا ، والوضوء يخفف الجنابة لا شك ، لكن لا يرفع الجنابة وعليه ستكون إعادته الصلاة بعد اغتساله إعادة شرعية ، أما لو تيمم لصلاة الصبح بناء على أنه يخاف على نفسه البرد وصلى ، فإنه لا تلزمه الإعادة.
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وإلى يوم الأربعاء إن شاء الله.
البينة على المدعي
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد قال المصنف -رحمه الله تعالى وحفظه ووفقه-:
بينة ألزم لكل مدع
كل أمين يدعي الرد قبل
وأطلق القبول في دعوى التلف
أد الأمانة للذي قد أمنك
ومنكرا ألزم يمينا تطع
ما لم يكن فيما له حظ حصل
وكل من يقبل قوله حلف
ولا تخن من خان فهو قد هلك
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم ، وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(6/52)
فسبق لنا في الدرس الماضي: أنه إذا ادعى أحد المتعاقدين فساد العقد والثاني ادعى الصحة ، فإنه يقدم قول مدعي الصحة ؛ لأن هذا هو الأصل في العقود ، وذكرنا اختلاف العلماء -رحمهم الله- فيما إذا ادعى أحدهما أن العقد كان قبل البلوغ ، والثاني قال: إنه كان بعد البلوغ ، وذكرنا أن في هذه المسألة قولين للعلماء ، وأن القاضي ينبغي له أن ينظر في القرائن ، ثم ذكرنا أن كل إنسان يدعي ما ينكره الحس ، فإن دعواه مرفوضة غير مقبولة.
وليس المعنى أن القاضي يستمع له ، بل إنه يرفض السماع لدعواه مطلقا يرفض السماع لدعواه مطلقا ، وضربنا لهذا مثلا أن يدعي رجل بأن شخصا له سبع سنين ولد له ، والمدعي ليس له إلا اثنتا عشرة سنة مثلا ، فإن هذا لا يقبل ؛ لأنه لا يمكن أن يولد لمن له ست سنين ، أما إذا كانت الدعوى مما لا ينكره الحس ، وأنها محتمل أن تكون ، فإنه يجب على القاضي أن يسمعه ، وحينئذ يطلب أي: القاضي ، البينة على دعواه ؛ ولهذا قال:
بينة ألزم لكل مدع
-------------
يعني كل إنسان يدعي شيئا ، فإنه مطالب بالبينة ، والبينة تختلف ، فبينة القذف بالزنا يعني: لو قذف شخصا بالزنا ، فإن البينة التي يطالب بإقامتها أربعة رجال ، قال الله -تعالى-: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وإذا ادعى شخص معروف بالغنى أنه افتقر ، وصار يطلب من الزكاة ، فإننا نطالبه أن يحضر ثلاثة شهود ، لا بد من ذلك.(6/53)
وإذا ادعى شخص سرقة من آخر ، فإنه يطالب ببينة رجلين لإثبات القطع ، ورجلين لإثبات المال ، أو رجل وامرأتان ، أو رجل ويمين ، وفي هذه الحال + البينة ، فالبينة للقطع لا بد أن تكون رجلين ، والبينة لإثبات المال المدعى ، السرقة إما رجلان ، وإما رجل وامرأتان ، وإما رجل ، ويمين المدعي ودعوى المال ، وما يتعلق به إما رجلان ، وإما رجل وامرأتان ، وإما رجل ، ويمين المدعي ، قال الله -تبارك وتعالى-: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ }
اليمين إن عدمت البينة:
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قضى بالشاهد واليمين ، والمهم أنه لا بد من إقامة البينة لكل مدعٍ ، فإن لم يقمها ، فإنه يلزم المدعى عليه ، وهو المنكر باليمين ؛ ولهذا قال الناظم:
-------------
ومنكرا ألزم يمينا تطع
دليل هذا قول النبي r " لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ، ولكن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر "
دعاوى الأمناء:
ثم قال الناظم:
كل أمين يدعي الرد قبل
وأطلق القبول في دعوى التلف
ما لم يكن فيما له حظ حصل
وكل من يقبل قوله حلف(6/54)
هذه مسألة دعاوى الأمناء ، دعاوى الأمناء ، يجب أن نعلم أن الأمين هو كل من حصل المال بيده بإذن من المالك ، أو إذن من الشارع ، فالوكيل أمين ؛ لأنه حصل المال بيده بإذن الموكل ، وولي اليتيم أمين ؛ لأنه حصل المال بيده بإذن الشارع ، فالضابط في الأمين أنه كل من حصلت العين بيده بإذن من المالك ، أو بإذن من الشارع ، هؤلاء الأمناء إذا ادعوا الرد إلى من ائتمنهم ، فإنه إما أن يكون الحظ للمالك ، أو الحظ لمن هي بيده أي للأمين ، أو الحظ مشترك ، فإن كان الحظ للمالك قبل قول الأمين في الرد ، مثال ذلك: المودَع إذا ادعى رد الوديعة إلى المودِع بكسر الدال ، فإن القول قوله ؛ لأنه متبرع محسن ، وقد قال الله -تبارك وتعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
ومثل ذلك من أنقذ مالا من هلكة ، ثم ادعى صاحب المال أن هذا المنقذ لم يرده ، إما أنه لم يرده مطلقا ، أو لم يرد بعضه بأن ادعى صاحب المال أن المال أكثر مما رده منقذه ، فهنا القول قول منقذ المال ؛ لأنه محسن فيدخل في عموم قوله -تعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
القسم الثاني: أن يكون الحظ للأمين خالصا كالمستعير مثلا ، فالمستعير قد قبض العين لحظ نفسه فقط ؛ لأن المالك إنما أعطاه هذه العين ؛ لينتفع بها ، ويردها فهذا لا يقبل قوله في الرد ، وجهه: أن الأصل عدم الرد ، وليس هناك مانعا يمنع تضمينه ، فإذا كان الأصل عدم الرد ، فإنه إذا لم يرد المال ، فهو ضامن له.(6/55)
القسم الثالث: أن يكون المال حصل بيد الأمين لمصلحتهما ، أي: مصلحة صاحب المال ومصلحة الأمين ، وذلك كالعين المستأجرة ، فالعين المستأجرة بيد المستأجر لحظ نفسه ، ولحظ مالكها ، لحظ نفسه ؛ ليستوفي المنفعة التي عقدت الإجارة عليها ، ولحظ مالكها ؛ لأن المالك سوف يأخذ بدلا عن هذا النفع الذي تقاضاه المستأجر عوضا ، فكل منهما له مصلحة هذا أيضا لا يقبل فيه دعوى الرد ، يعني: لو أن المالك أتى إلى المستأجر ، وقال: أعطني العين التي أجرتك إياها ، فقال: قد رددتها عليك ، فإننا لا نقبل دعواه بالرد ؛ لأن الأصل في قابض مال غيره الضمان ، ولا يوجد ما يمنعه.
إذن الرد إذا ادعاه الأمين ، فإنه مقبول إلا إذا كان للأمين مصلحة ، فإنه لا يقبل قوله في الرد ، سواء كانت المصلحة متمحضة له ، أو له ولرب المال.
وعموم قول الناظم : "كل أمين" أن من ليس أمينا ، فإنه لا يقبل قوله في الرد كالغاصب مثلا ، فالغاصب إذا ادعى الرد إلى المالك ، فإنه لا يقبل ؛ لأن يده ليست يد أمانة ، وإذا لم تكن يد أمانة ، فإن قوله لا يقبل.
ثم قال الناظم -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-:
وأطلق القبول في دعوى التلف
-------------
يعني: معناه أن الأمين إذا ادعى التلف ، فإنه مقبول سواء كان له حظ في قبضه العين ، أم ليس له حظ ؛ لأن التلف ليس بفعله ، ولا باختياره ، والمالك قد ائتمنه على العين ، فإذا ادعى أنها تلفت قبل قوله.
مثال ذلك: رجل أعار شخصا قلما ، ثم طلب رده أعني: صاحب القلم ، ثم ادعى المستعير أنه تلف.(6/56)
أما الرد فقد سبق في البيت السابق ، ادعى المستعير أنه تلف ، فالقول قوله ؛ لأن التلف ليس من فعله ، والمالك قد جعله نائبا عنه في الاستيلاء على هذه العين ، فيكون القول قوله في التلف ، وكذلك من قبض العين لمصلحة مالكها كالمودع ، فإذا ادعى المودع أن العين قد تلفت ، فالقول قوله ؛ لأن العين حصلت بيده بإذن مالكها ، فهو قائم مقامه ، وكذلك المستأجر إذا ادعى تلف العين المؤجرة ، فإن القول قوله.
والحاصل أن الأمناء في دعوى الرد يختلفون ، فيقبل قول الأمين في الرد إذا كان قد قبض العين لمصلحة مالكها ، ولا يقبل قوله إذا كان له مصلحة في قبض العين ، إما خالصة ، أو مشتركة مع المالك ، وأما في التلف ، فإن قول جميع الأمناء مقبول ، سواء كانت العين بأيديهم لحظ مالكها ، أو لحظهم هم ، أو مشتركة.
ثم قال الناظم:
-------------
وكل من يقبل قوله حلف
يعني: كل من قلنا القول قوله ، فإنه لا بد أن يحلف ، ولا يكفي أن يقول: رددتها ، أو يقول: تلفت عندي ، أو ما أشبه ذلك ، بل لا بد من اليمين ، واليمين لا تضر إذا كان أمره الذي ادعاه واقعا ، فإن قال قائل: إذا كان الأمين قد قبض العين لمصلحة مالكها ، ثم ادعى الرد ، فهو محسن فكيف نلزمه باليمين؟
قلنا: لأن اليمين لا تضر إن كان صادقا ، فاليمين لا تضره ، وهو بار ، وإن لم يكن صادقا ، فإنه إن كان عنده تقوى لله ، فإنه لن يحلف ، إن كان كاذبا هذا ضرر على الأمين في إلزامه اليمين ، سواء في دعوى الرد إذا قبل قوله فيه ، أو في دعوى التلف ، فإن قال قائل: إذا لم يحلف الأمين على الرد في دعوى الرد ، أو على التلف في دعوى التلف ، فما الحكم؟
فالجواب: الحكم أن يضمن ؛ لأنه لو كان صادقا لم يضره أن يحلف ، فإن قال قائل: لعله هاب اليمين ، قلنا: إذا هاب اليمين ، فالجواب: أنه إذا هاب اليمين فهذا دليل على ورعه ، ومن تمام ورعه أن يضمن الحق لصاحبه.
أداء الأمانة وعدم مجاراة الخائنين:(6/57)
ثم قال الناظم -رحمه الله-:
أد الأمانة للذي قد أمنك
وجائز أخذك ما لا يستحق
ولا تخن من خان فهو قد هلك
شرعا ولو سرا كضيف فهو حق
هذا البيت:
أد الأمانة للذي قد أمنك
--------------
مأخوذ من قول النبي r " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " يعني: إذا أمنك الإنسان على شيء ، فأد الأمانة في ذلك الشيء ، ولا تخن من خانك ؛ لأن الخائن هالك ، وأنت إذا خانك أحد ، فأنت الرابح ؛ لأنك ستلقى عوض خيانتك ، إما في الدنيا إن هدى الله الخائن ، ورجع إلى الصواب ، وإما في الآخرة.
ولنضرب لهذا مثلا: رجل أعطاه شخص وديعة تبلغ عشرة آلاف ريال ، وكان قد أقرض الذي أودعه عشرة آلاف ريال ، فلما جاء يطلب قرضه أنكره ، وقال: لم تقرضني ، فمدعي القرض الآن عنده مال يمكنه أن يجحده ليستوفى به ، فهل له أن يفعل ذلك؟ نقول: لا ، لا يفعل هذا ، بل يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه ، ويعطيه الوديعة ، وقرضه الذي لم يثبت على المدعى عليه سيوفى إياه ، إما في الدنيا إن هدى الله المدعى عليه ، وإما في الآخرة.
وكذلك لو أن أحدا سرق من شخص مالا ، وقدر صاحب المال على أن يأخذ شيئا من ماله ، أي: من مال السارق ، فليس له ذلك ؛ لأن الواجب أداء الأمانة إلى من ائتمنك وألا تخون من خانك ، ثم ذكر الناظم بيتا كالاستثناء مما سبق فقال:
وجائز أخذك ما لا يستحق
شرعا -------
يعني: لا بالمعاملة ، ولو سرا كضيف ، فهو حق يعني: إذا كان الحق ثابت لك شرعا لا بالمعاملة ، فإنه يجوز لك أن تأخذ حقك ممن هو عليه ، ولو سرا كضيف ، فهو حقك.(6/58)
مثال ذلك: أناس نزلوا عل صاحب غنم ضيوفا عليه ، ولكن صاحب الغنم لم يقم بواجب الضيافة ، فلهم أن يأخذوا من غنمه بقدر ضيافتهم بالمعروف ؛ لأن وجوب الضيافة على صاحب الغنم ثابت بالشرع ، وأخذهم من ماله قدر ضيافتهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن إذا كان يخاف من أخذهم من ماله بقدر ضيافتهم أن تقع فتنة بينهم وبينه بقتال حاضرا ، أو مستقبلا ، فإن درء المفاسد أولى.
لكن لو قال قائل: هل يجوز أن يشتروا من غنمه مقدار ضيافتهم ، ثم يقولون: لم نشتر منك شيئا ، فالجواب: لا يجوز هذا ؛ لأن عقد البيع معه عقد شرعي ، وثبوت الحق في ذممهم ثبت بفعلهم ، فلا يحل لهم إنكاره من أجل أخذ ضيافتهم ، ومثل ذلك لو كان الزوج بخيلا لا ينفق على زوجته ما يجب لها ، وقدرت على أن تأخذ شيئا من ماله بمقدار ما يجب لها من نفقة ، فلها ذلك.
ودليله: أن هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان أتت إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقالت: يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح ، تعني: بخيلا ، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ، ويكفي بني ، فهل لي أن آخذ من ماله بغير علمه ، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " خذي من ماله ما يكفيك ، ويكفي بنيك بالمعروف " .
قال أهل العلم -رحمهم الله-: ووجه إباحة ذلك أن سبب وجوب الحق ظاهر معلوم ، وهو الزوجية ، والنزول ضيوفا ، فلا يمكن أن يحصل بذلك اشتباه ، وهذا من محاسن الشريعة وفقهها ، ومثل ذلك أيضا من تجب نفقته على شخص بخيل لا يعطيه ما ينفقه عليه ، فإن له إذا قدر على شيء من ماله أن يأخذ منه بالمعروف قياسا على حق الزوجة.
يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا:
ثم قال الناظم -رحمه الله- :
قد يثبت الشيء لغيره تبع
كحامل إن بيع حملها امتنع
وإن يكن لو استقل لامتنع
ولو تباع حاملا لم يمتنع
هذه من القواعد التي ذكرها ابن رجب -رحمه الله- في كتابه "القواعد الفقهية" وهو أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا.(6/59)
يقول الناظم:
قد يثبت الشيء لغيره تبع
..................
تبع أصلها تبعا ، ولكن وقف عليها بحذف الألف ، إما اتباعا للغة ربيعة ، فإنهم يقفون على المنصوب بالألف ، أو من أجل مراعاة الروي ، يعني: القافية ، والمعنى أن الشيء قد يثبت تبعا لغيره ، مع أنه لو استقل لكان محرما.
وله أمثلة ضرب منها الناظم مثلا: الحامل ، فبيع الحمل منفردا حرام ، لا يثبت ، ولو بيعت بهيمة حامل لصح البيع ؛ ولهذا قال:
كحامل إن بيع حملها امتنع
-------------
ولو تباع حاملا ، يعني: لو تباع حال كونها حاملا ، لم يمتنع أما بيع الحمل ، فإنه ممتنع ؛ لأنه غرر ، فإنه لا يدرى ما في بطون الأنعام ، أذكر أم أنثى ، واحد أو متعدد ، كبير الحجم أم صغير ، ولو قدر أن هذا علم بالوسائل الطبية الحديثة ، فإنه لا يعلم هل يخرج حيا أم يموت ، فيكون فيه غرم ؛ ولهذا لا بد أن تنزل قيمته ، لو بيع حال الحمل ، فلا يمكن أن يباع بمثل قيمته لو وضع ، وحينئذ إن خرج سليما ، فالغانم المشتري ، وإن هلك قبل أن يخرج فالغانم البائع ، فيكون هذا العقد من الميسر ، ومثل ذلك ثمر النخل ، فبيع ثمار النخل وحده لا يجوز ، حتى يبدو صلاحه كأن يحمر ، أو يصفر ، وبيع النخل وعليه الثمر جائز.
أما الأول ؛ فلأن النبي r " نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها " وهو بأن تحمر ، أو تصفر ، وأما في الثاني ؛ فلأن النبي r قال: " من باع نخلا بعد أن تؤبر ، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع " فإذا باع نخلة قد أبرت عليها الثمرة ، ولم يبد صلاحها ، واشترط على المشتري ، فالبيع جائز ، فثبت هنا تبعا ما لا يثبت استقلالا ، ولكن هل يجوز بيع الثمرة لمالك الأصل قبل بدو صلاحها؟(6/60)
في هذا خلاف بين العلماء ، ومثال ذلك أن يبيع الفلاح نصيبه من الثمرة على صاحب الملك ، مثل أن يكون الفلاح قد عامل صاحب النخل بنصف الثمرة ، ثم بدا للفلاح ألا يستمر في العمل ، وباع نصيبه من الثمرة على صاحب الأصل ، فمن العلماء من قال: إن هذا جائز ؛ لأنه باع الثمر على صاحب الأصل ، ومنهم من قال: إنه ليس بجائز ، وهذا هو الحق ؛ لأن نصيب العامل مستقل ، ولم يملكه صاحب الأصل من جهته بخلاف ما إذا اشترطه المشتري الذي اشترى الأصل ، وهو عليه الثمر .
يفسد العقد بالشرط الفاسد ذكرا أو قصدا:
ثم قال الناظم:
وكل شرط مفسد للعقد
بذكره يفسده بالقصد
يعني: أن الشروط التي إذا ذكرت في العقد أفسدت العقد ، فإنها تفسد العقد ، إذا نويت فالمنوي كالشروط ، ودليل ذلك قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ونضرب لهذا مثلا نكاح المحلل ، والمحلل هو الذي يتزوج امرأة فارقها زوجها بطلاق ثلاث من أجل أن يحلها لزوجها ، وهو من العقود المحرمة ، حتى إن النبي -صلى الله عليه وعلى وآله وسلم- لعن المحلل والمحلل له.
فإذا تزوج المرأة التي أبانها زوجها بالثلاث على أن يطلقها ، متى حللها للأول ، فلا شك أن العقد باطل ، وأنها لا تحل به للزوج الأول ؛ لأنه عقد باطل ، والباطل لا يترتب عليه أثر الصحيح ، لكن لو نواه بلا شرط ، أي: نوى أن يتزوج هذه المرأة ؛ ليحللها لزوجها الأول بدون أن يشترط ذلك عليه ، فإن العقد فاسد لهذه القاعدة: أن المنوي كالمشروط ، ودليله ما أسلفنا من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " .(6/61)
وهل يدخل في ذلك أن يتزوج الرجل امرأة ، ونيته أن يكون النكاح مؤقتا بزمن ، أو عمل مثل أن يتزوج غريب بنية: أنه إذا فارق البلد طلقها ، فهذا من المعلوم أنه لو شرط ذلك باللفظ ، فقال: زوجوني إياها ما دمت مقيما في هذا البلد.
من المعلوم أن هذا نكاح متعة لا يصح ؛ لأن النبي r نهى عنه ، ولكن لو نوى ، فهل نقول: إن المنوي كالمشروط ، فلا يصح النكاح؟ أو نقول: إن النكاح صحيح ؛ لأنه لم يلتزم بالشرط أمام صاحب العقد ، وهو إما أن يرغب فيستمر ، وإما ألا يرغب ، فلا يستمر بخلاف نكاح المتعة ، فإن نكاح المتعة إذا انتهت المدة انفسخ النكاح ، رضي أم لم يرض.
أما المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- عند أصحابه كصاحب +والمنتهى والإقناع ، ونحوها فيقولون: إن النكاح لا يصح بناء على هذه القاعدة: أن كل شرط مفسد للعقد بذكره يفسده بالقصد ، قالوا: فإذا كان توقيت النكاح بالشرط مفسدا للعقد ، فكذلك بالنية ، وقال آخرون: إن العقد لا يفسد ؛ لأن الذي تزوج بهذه النية لم يلزم نفسه بالفراق عند انتهاء السبب ، فهو إن شاء بقي ، وإن شاء طلق.(6/62)
ولكن هنا مسألة صار بعض الناس يتوصل إليها بناء على هذا القول ، أعني: القول بجواز النكاح بنية الطلاق ، وهي لا تدخل تحت الخلاف قطعا ، هذه المسألة هي أن بعض الناس صار يسافر إلى بلاد أخرى من أجل أن يتزوج ، وهو خلاف المسألة التي فرضها أهل العلم ؛ لأن المسألة التي فرضها أهل العلم في الغريب يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد ، والغريب لم يسافر لأجل أن يتزوج ، إنما سافر لحاجة طلب علم ، أو مال ، أو غير ذلك ، واحتاج إلى النكاح ، فتزوج أما هذا فقد قصد من الأصل أن يذهب إلى البلد ؛ ليتزوج بعقد مؤجل ، فهو في الحقيقة كأنما ذهب من أجل هذه النية المختلف فيها ، فلا يدخل تحت الخلاف ، أسأل الله تعالى لإخواني المسلمين العفة والعفاف ، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ، ويرضاه ، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، إنه ولي ذلك ، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وإلى دور الأسئلة فيما بقي من الوقت.
س: فضيلة الشيخ.. نعم. هذه سائلة تقول: أرجو أن ترد يا فضيلة الشيخ على رسالتي المهمة ؛ لأنها تتوقف على سعادة أسرتي ، ضحيتها زوج وأمهم وثمانية أطفال ، زوجي كان قد طلقني طلقة واحدة بالكلام دون ورق ، ومن مدة خمسة أيام حصل شجار بيني وبينه ، فقال لي في عصبية جنونية: أنت طالق طالق طالق ، هل وقع الطلاق نهائيا أم تعتبر طلقة واحدة؟ وجزاك الله خيرا ، نرجو الرد سريعا ؛ لأني بعيدة عن بيتي وأطفالي منذ خمسة أيام+.
ج: إذا كان غضبه شديدا ، فإن الطلاق لا يقع ؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " لا طلاق في إغلاق " والغضب الشديد هو الذي لا يملك الإنسان نفسه عنده بحيث يطلق ، وكأن أحدا أكرهه على ذلك ، أما إذا كان الغضب عاديا ، وطلقها ، فإن الطلاق يقع ، إذا كانت في طهر لم يجامعها فيه ، ولكن كم طلقة تقع نقول: إذا كان لم ينو الثلاث ، فإنه لا يقع إلا واحدة قولا واحدا.(6/63)
وأما إذا كان نوى الثلاث بقوله: أنت طالق طالق طالق ، فمن العلماء من يقول: إن الثلاث تقع ، ولا تحل له إلا بعد زوج في نكاح صحيح فيجامعها ، ثم يفارقها ، ومن العلماء من قال: إن الثلاثة واحدة ، والخلاف في هذا معروف.
نعم.
- فضيلة شيخ تقول: إنه طلقها ، وهي حائض ، طلقها عندما كانت حائضا.
-إذا كان كذلك ، فإنه لا طلاق ، الطلاق لاغ ؛ لأنه على غير أمر الله ورسوله ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
س: يعني: ما يقع الطلاق أحسن الله إليك فضيلة الشيخ؟
ج: إي ، ما يقع الطلاق.
س: هذا يقول: امرأة لها طفل معوق ، وكان مولودا على هذا الوضع وكانت ترعاه ، هي وأبناؤها الكبار ، وفي يوم وجدت أن الطفل قد مات ، وهي لا تعرف في هذا اليوم ، قد وضعت له الحليب لهذا الطفل ، أو لا ، ولا تعرف هل إخوته أرضعوه أم لم يرضعوه ، وقد رأته ميتا ، فماذا عليها ، وجزاكم الله خيرا ، علما بأنها قد وجدت الحليب الذي وضعته في الثلاجة؟
ج: ج: هذه المرأة ليس عليها شيء ، ومثل هذه الحال يقع كثيرا ، فيشتبه على بعض الناس ، تجد المرأة طفلها ميتا على الفراش ، ولا تدري هل انقلبت عليه أم لا ، ونحن نقول للإخوة قاعدة مفيدة: إذا حصل الشك هل كان القتل بسبب من الأم ، أو غيرها من الناس ، أو كان ذلك بفعل الله U فإن الأصل براءة الذمة ، ولا شيء على الأم ، ولا على غيرها مع الشك ؛ لأننا لا يمكن أن نوجب على أحد شيئا لا كفارة ، ولا دية إلا إذا علمنا يقينا أنه حصل القتل بسبب تعد ، أو تفريط ، وعلى هذا فنقول لهذه المرأة التي عندها هذا المعوق: لا شيء عليك ، لا إثم ، ولا كفارة ، ولا دية. نعم.
س: وهذا يقول في قول الناظم -رحمه الله تعالى-:
أد الأمانة للذي قد أمنك
ولا تخن من خان فهو قد هلك(6/64)
فهل هذا على سبيل الوجوب أم من باب الورع؟ وعليه من استأمنني على مال ، وأنا أطلبه بدين عليه ، فهل لو تحايلت وأخذت حقي منه بهذه الحيلة ، فهل هذا من الحرام ، وما رأيكم في الحيلة لمن له حق عند غني مماطل؟
ج: نعم. الحديث عام فيجب أداء الأمانة ، ولا تجوز الخيانة ، وكما قلنا في الشر ج: إن أدركت حقك في الدنيا فهذا ، وإن لم تدركه ففي الآخرة ، وعلى هذا فنقول: إن التحيل على أخذ المال على غير وجه شرعي محرم ، ولكني أرشد إخواني إلى ألا يفرطوا في الأموال ، وأن يحفظوا عليهم أموالهم ، وألا يؤدوا إلى أحد شيئا إلا بشروط.
وقد أرشد الله إلى هذا بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وكون بعض الناس يستحيي ، أن يشهد يقال له: أنت الذي فرطت ، وأنت الذي أهملت ، والإشهاد ليس فيه حياء ؛ لأنه حق. نعم. وكذلك المماطل إذا قدرت على شيء من ماله ، لا يجوز لك أن تخونه ، بل " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " .
نعم.
س: س: أقول: هذه رسالة يا شيخ ملخصها أنه شاب بار بأمه ، ويقول: تطلب مني الوالدة أحيانا أن أذهب بها إلى بعض الأماكن ، التي يوجد فيها بعض المنكرات كالأسواق ، أو حضور بعض المناسبات التي يكثر فيها القيل والقال ، وإضاعة الأوقات ، ويقول: أعتذر أحيانا عن الذهاب بها لحضور بعض الدروس ، وطلب العلم ، فهل علي شيء في ذلك؟(6/65)
ج: ليس عليه شيء ، بل هو إذا امتنع من الذهاب معها ، فهو بار بها ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جعل منع الظالم من ظلمه نصرا له ، فقال: " انصر أخاك ظالما ، أو مظلوما ، قال يا رسول الله: كيف أنصره ، وهو ظالم قال: أن تمنعه من الظلم " فكونه يأبى على أمه أن يذهب بها إلى أشياء توجد فيها المنكرات ، هو من برها في الحقيقة ، وهو مثاب على ذلك ، أما إذا كانت تريد أن يذهب بها إلى شيء مباح ، فعليه أن يطيعها إلا إذا كان ذلك يصده عن مصلحة دينه ودنياه.
نعم.
س: أحسن الله إليك ، هذا يقول: نحن مجموعة من المدرسين ، والمدرسة تبعد عنا مسافة القصر ، فأحيانا تدركنا صلاة الظهر ، ونحن في المدرسة فنصلي الظهر ركعتين ، وأحيانا نجمع العصر معها تخفيفا علينا ، مع العلم أننا نستطيع إدراكها في بلدنا عند العودة ، فهل لنا أن نقصر الصلاة مع العلم ، أننا طوال السنة ندرس فيها ، وجزاكم الله خيرا.
ج: الذي أراه ألا يقصروا الصلاة ؛ لأن هذا ليس بسفر ، ما داموا يذهبون في أول النهار ، ويرجعون في آخره ، فإن ذلك لا يعد عند الناس سفرا ، لكن هل يجمعون بين الظهر والعصر؟ فالجواب إن كان يشق عليهم انتظار صلاة العصر إذا وصلوا بحيث يكونون ، قد تعبوا تعبا عظيما يشق عليهم انتظار الصلاة ، وربما لو انتظروا لأخذهم النوم ، ولم يستيقظوا إلا بعد الغروب ، فلهم أن يجمعوا صلاة العصر إلى الظهر ، لكن أربعا أربعا. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، قلتم -حفظكم الله-: إذا لم يضيفك المضيف تأخذ قدر ضيافتك ، فهل لي أن آخذ مثلا رأسا من الغنم ، أو مقدار دجاجة ، أو دجاجتين ، أو غير ذلك ، وضحوا لنا وجزاكم الله خيرا؟
ج: نعم. تأخذ بقدر ضيافتك ، ومعلوم أن الإنسان إذا كانوا جماعة كثيرين يحتاجون إلى شيء كثير ، وإذا كانوا قليلا ، أو واحدا ، فإنهم لا يحتاجون إلى شيء كثير.
نعم.(6/66)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، ألا يكون أخذ الضيف حقه من مال المضيف ذريعة ، بينوا لنا ذلك ، والله يرعاكم؟
ج: ذكرنا في أثناء الشرح أنه إذا كان يخشى من ذلك فتنة في الحاضر ، أو المستقبل ، فإنه لا ينبغي للضيف أن يأخذ شيئا ؛ لأن ذلك يؤدي إلى المفاسد ، ودرء المفاسد أولى ، وأما أن يكون الإنسان يبحث ؛ لينزل ضيفا من أجل أن يأخذ الضيافة ، فهذا لا يجوز ؛ لأن هذا إنما سافر ليأكل أموال الناس ، لكن إنسان سافر إلى غرض مقصود ، ونزل ضيفا على آخر ، فهذا هو ما نريد الكلام فيه.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يقول: فضيلة الشيخ ، نسب إليكم أنكم تقولون بسنية الجهر في صلاة الجنازة في شرحكم لكتاب "بلوغ المرام" فما صحة ذلك ، وجزاكم الله خيرا؟
ج: نعم. نقول بهذا إذا كان من أجل التعليم ، كما فعل ابن عباس: رضي الله عنهما- حين جهر بقراءة الفاتحة ، وقال: ليعلموا أنها سنة ، وكما كان عمر بن الخطاب t يجهر بدعاء الاستفتاح حتى يعلم الناس أنه سنة ؛ لأنه من المعلوم أن أصحاب الجنازة لا يبقون حتى يقال: ينتظر حتى يسلم ، ثم يرشدهم ، والناس لا يبقون في العادة ، بل يذهبون مشيعين للجنازة ، أو منصرفين إلى دورهم.
نعم.
س: يقول: فضيلة الشيخ ، أحسن الله إليكم ، ورفع درجاتكم ، إذا ادعى المالك أن أصل العيب حصل عند المستأجر ، فهل يقبل قوله؟(6/67)
ج: حتى لو حصل عند المستأجر ، فهو لم يتعد ، ولم يفرط ، فلا ضمان عليه ، لكن لعل السائل يريد إذا اختلف البائع والمشتري عند من حدث العيب ، وهذا فيه تفصيل ، فإذا اختلف البائع والمشتري عند من حدث العيب ، فقال البائع: إنه عند المشتري ، وقال المشتري: إنه عند البائع ، فإن كان لا يحتمل قول الثاني ، أخذ بقول الأول ، مثلا إذا كان العيب إصبعا زائدة ، وقال المشتري: إنه معيب عند البائع ، وقال البائع: بل عندك ، فهنا القول قول المشتري ؛ لأنه لا يمكن أن تنبت الإصبع ، وإذا كان جرحا طريا نعلم أنه حدث عن قرب ، فادعى المشتري أنه حدث عند البائع ، وادعى البائع أنه عند المشتري ، فالقول قول البائع هنا ، وإذا كان يحتمل هذا ، وهذا ، فمن العلماء من قال: إن القول قول البائع ، ومنهم من قال: إن القول قول المشتري.
نعم.
س: يقول: فضيلة الشيخ ، أحسن الله إليك ، رجل ذهب بأولاده إلى العمرة ، وهم صغار ، منهم عمره سنة وسنتان وأربع سنوات وست ، فأحرم بهم من الميقات ، ولكن أثناء تأدية مناسك العمرة أتعبوه ، ولم يكمل بهم سوى الطواف ، وبعضهم لم يطف ؛ لأنهم صاروا يصيحون ، ولا يستطيعون المشي ، فلم يكمل بهم العمرة ، وبعد ذلك ذهب إلى بلاده ، فماذا عليه مع أن بلاده بعيدة ، حوالي ستة آلاف كيلو متر ذهابا وعودة ، أفتونا مأجورين؟
ج: القول الصحيح أنه لا شيء عليه ، وأن الصغار الذين لم يبلغوا إذا أحرموا بعمرة ، أو حج ، فإن أتموها ، فهذا المطلوب ، وإن لم يتموها فلا شيء عليهم ؛ لأنهم غير مكلفين ، قد رفع عنهم القلم كما في الحديث: " رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق " .
انتهى الوقت.
الله يحسن إليك ، نختم بهذا السؤال يا شيخ.
طيب.
س: يقول: فضيلة الشيخ أحسن الله إليك ، ورفع درجتك ، إذا أتى المُودِع ببينة ، ثم أنكر المودَع باليمين فما الحكم.؟(6/68)
ج: إذا أتى المودِع ببينة ، أنه أودعه ، معلوم أن القول قوله.
س: يقول: ثم أنكر المودع باليمين.
ج: أنكر أيش؟
المودَع الذي استودع أنكر باليمين.
أنكر أيش ؟
س: أنكر الوديعة.
ج: لا يمكن ، لو أنكرها حكم عليه ، ما دام ثبتت عنده بشهود ، فإنه لا يقبل إنكاره.
س: أحسن الله إليك نواصل الأسئلة يا شيخ؟
ج: لا.
والحمد لله رب العالمين ، وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الأعمال بظواهراها
O
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى وغفر له ورفع درجته إنه ولي ذلك والقادر عليه-:
لكن من يجهل قصد صاحبه
لأنه لا يعلم الذي أسر
والشرط والصلح إذا ما حللا
وكل مشغول فليس يشغل
كمُبَدَل في حكمه اجعل بدلا
فالعقد غير فاسد من جانبه
فأجرى العقد على ما قد ظهر
محرما أو عكسه لن يقبلا
بمسقط لما به ينشغل
ورب مفضول يكون أفضلا
O
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو المجلس الرابع من المجالس ، التي نلقيها عبر التلفون في الدورة التي أقيمت في مسجد ابن تيمية -رحمه الله- في الرياض ، في إجازة عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف.
ولا بد أن نأخذ أسئلة على ما سبق.
-يا شيخ.
- نعم.
- الإخوان في مكان آخر يسمعونك ، لكنهم بعيد عنك ، يعني: ما يستطيعون أن يجيبوا ، فلعلك تعذرنا اليوم ، الله يحفظك.
- طيب.
- الله يعظم أجرك.
- أعذرك اليوم على أن تكون -إن شاء الله- في الجلسة الثانية؟
-إن شاء الله.
يقول الناظم:
وكل شرط مفسد للعقد
بذكره يفسده بالقصد(6/69)
يعني: أن الشروط الفاسدة التي تفسد العقد إذا ذكرت ، فإنها تفسده إذا قصدت ، وإن لم تذكر باللفظ ، وسبق التمثيل لهذا في نكاح من قصد تحليل الزوجة لمطلقها ثلاثا ، ومثلنا أيضا بمثال آخر بمن نوى الطلاق للرحيل ، أي: عند رحيله ، واللام تأتي بمعنى عند ، كما في قوله -تعالى-: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } أي: عند دلوك الشمس على أحد الاحتمالات ، فهذان المثالان ، يجري فيهما القصد مجرى النص ، ودليلهما ما سبق من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى "
ولكن هذا مع اتفاق المتعاقدين على النية ظاهر ، لكن إذا كان أمرهما لا يدرى كأن كانت الزوجة التي تزوجها رجل للتحليل لزوجها ، لا تدري عن نيته ، فهل يلحقها حكم زوجها؟ لنستمع إلى قول الناظم ، قال الناظم:
لكن من يجهل قصد صاحبه
فالعقد غير فاسد من جانبه
يعني: مثلا إذا كانت الزوجة ، المطلقة ثلاثا تزوجها رجل بنية التحليل ، وهي لا تدري ، فإن ذلك لا يؤثر عليها ، فلو طلقها هذا المحلل وبقيت على عدم علمها بالتحليل ، حلت للزوج الأول ، وكذلك لو أن شخصا باع على رجل آخر سلاحا ، وكان المشتري يريد أن يقتل به نفسا محرمة ، فالعقد في حق المشتري محرم وباطل ، لكنه في حق البائع الذي لا يدري حلال وصحيح ، وعلى هذا فقس.
وقد عين الناظم هذا بقوله:
لأنه لا يعلم الذي أسر
فأجري العقد على ما قد ظهر
يعني: لأن صاحبه الذي لا يدري بنيته لا يعلم عما أسره من النية المبطلة للعقد ، فأجري العقد على ما قد ظهر ، يعني: أجري العقد على الظاهر ، وهكذا الأمور تجرى على ظواهرها ، ما لم يتبين خلاف ذلك ، فإن تبين خلاف ذلك عمل بما يقتضيه ذلك التبين.
لا يجوز الاشتراط أو الاتفاق على خلاف الشرع:
ثم قال الناظم:
والشرط والصلح إذا ما حللا
محرما أو عكسه لن يقبلها
قوله:
الشرط والصلح إذا ما حللا
-------------
ما زائدة ، كما قال الراجز:(6/70)
يا طالبا خذ فائدة
ما بعد إذا زائدة
ومن ذلك قوله - تعالى-: { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) } أي: إذا غضبوا ، وقوله -تعالى-: { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) } أي: حتى إذا جاءوها ، وقوله:
"لن يقبل خبرا مبطلا" الشرط والصلح ، وجواب إذا محذوف ، دل عليه ما ذكر في قوله: "لن يقبلا" وقيل: إن الشرط في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب ، المهم المعنى الشرط الأصل فيه "أن ينقلا" ولازم ، فكل ما شرطت بعقود من أحد الطرفين ، أو منهما ، فهو حلال لازم هذا الأصل. أما الأول أي كون الشرط حلالا ، فلأن الأصل في العقود الحل إلا ما دل الدليل على تحريمه ؛ لقول الله -تعالى-: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } والشروط تابعة لأصولها ، يعني: أن الأمر بوفاء العقود ، يشمل الوفاء بها أصلا والوفاء بها وقفا ، وهي الشروط التي اشترطت في العقد.
مثال ذلك: لو اشترى بيتا واشترط البائع سكنى البيت سنة ، فإن هذا جائز ، وهو يقع كثيرا ، كثيرا ما يحتاج البائع إلى بيع البيت ؛ ليشتري بيتا دونه ، لكنه يحتاط لنفسه ، فيشترط على المشتري أن يسكنه سنة.
مثال ذلك لو اشترى بيتا، واشترط البائع سكنى البيت سنة، فإن هذا جائز، وهو يقع كثيرا، كثيرا ما يحتاج البائع إلى بيع البيت ليشتري بيتا دونه، لكنه يحتاط لنفسه، فيشترط على المشتري أن يسكنه سنة، فهذا الشرط حلال، صحيح، لازم.
وقد جاءت السنة بمثله، فإن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- باع على النبي r جملا له في أثناء السفر، واشترط على النبي r الذي اشتراه اشترط عليه أن يحمله أن يحمل جابرا إلى المدينة، فقبل النبي r ذلك الشرط، والتزم به، وهذا شرط استبقاء منفعة في المبيع للبائع إلى أمد معلوم.(6/71)
كذلك لو اشترط البائع على المشتري الذي لم ينقد الثمن، أن يرهنه بيته، قال: أنا أبيع عليك هذه السيارة بثلاثين ألفا، بشرط أن ترهنني بيتك، فلا حرج؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ويجب الوفاء بهذا الشرط؛ لقوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وقد ثبت عن النبي r " أنه اشترى من يهودي طعاما لأهله، وهو في المدينة، ورهنه درعه " ومثل ذلك أن يبيع شيئا على شخص بثمن، اشترط المشتري أن يكون مؤجلا إلى سنة، سواء كان يحل دفعة واحدة ، أو على دفعات، وهذا جائز، ولازم، وهو داخل في قول الله -تعالى- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ }
المصالحة كذلك إذا جرى الصلح على شيء لا يحلل حراما، ولا يحرم حلالا، فلا بأس.
مثل أن يكون بين شخصين معاملة طويلة كثيرة، كل واحد منهما +داخل ومسئول عليه، فاتفقا على أن يصطلحا على شيء معلوم يتراضيان عليه، ويتحالان عليه، فإن هذا لا بأس به؛ لأن في ذلك مصلحة للطرفين وإبراء للذمة، فهو جائز.
ومن ذلك على القول الراجح لو كان لإنسان دين على آخر، مقداره عشرة آلاف يحل بعد سنة، فقال المطلوب لصاحب الدين: أصالحك على نصف المبلغ، وأنقده لك الآن، فوافق على ذلك، فلا حرج؛ لدخوله في عموم قول النبي r " الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا " وهذا وإن كان الحديث قد تكلم فيه، فإنه ربما يؤخذ من عموم قول الله -تبارك وتعالى- في الزوجين:
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وليس فيه محذور ربا؛ لأن غاية ما فيه إسقاط وإبراء باختيار. فمحذور الربا فيه بعيد، بل ليس فيه محذور أصلا، وأما من منعه بحجة أنه ربا، أو وسيلة إلى الربا، أو شبيه بالربا صورة، فقوله ضعيف.(6/72)
لكن المؤلف الناظم اشترط أن لا يحل الصلح حراما، أو يحرم حلالا، فإن أحل حراما، فإنه لا يصح سواء كان شرطا، أو مصالحة.
مثال ذلك: إنسان عنده أمة مملوكة، فباعها على شخص، واشترط على الشخص أن يستمتع بها أعني: البائع لمدة شهر، فإن هذا الشرط فاسد؛ لأنه يحل حراما، إذ أن الإنسان لا يحل له أن يستمتع بامرأة إلا أن يكون سيدا، أو زوجا؛ قال الله -تعالى- : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) }
فإن قال قائل: الأمة ملك، قلنا: انتقل الملك الآن، واستبقاء هذه المنفعة لا يحل؛ لأنه يحل الحرام، المهم أن هذه قاعدة مهمة، تشتمل على ما يأتي:
أولا : كل شرط، أو صلح ، فالأصل فيه الحل واللزوم إلا ما دل عليه الدليل.
ثانيا: أن كل شرط، أو صلح أحل حراما، أو حرم حلالا، فهو باطل،
كل مشغول فإنه لا يشغل:
ثم قال الناظم:
وكل مشغول فليس يشغل
بمسقط لما به ينشغل
كل مشغول، فإنه لا يشغل، لكن بالشيء الذي يسقط به ما انشغل به.
مثال ذلك: المرهون، المرهون، لو أراد الراهن أن يرهنه لشخص آخر لن يصح؛ لأنه مشغول بشيء لو صححنا إشغاله به لبطل ما انشغل به، ما انشغل من أجله يعني: مثلا هذا إنسان رهن بيته عند شخص في دين عليه، ثم إن صاحب البيت رهنه أيضا بدين آخر لشخص آخر، فإنه لا يصح؛ لأننا إذا صححنا الثاني، أبطلنا الأول وإن صححنا الأول أبطلنا الثاني، والأول سابق على الثاني، فكان الحكم له.(6/73)
وكذلك لو أن الإنسان أجر شيئا لشخص لمدة شهر، ولما انتصف الشهر أجره المالك لشخص آخر مدة تبتدئ من نصف الشهر الأول، هذا لا يجوز؛ لأنهما يتعارضان إن مكن الثاني من الانتفاع به، بطل حق الأول، وإن مكن الأول، بطل حق الثاني، والأول هو السابق، فيكون الحكم له، فإن أجره إياه مدة تبتدئ بعد انتهاء مدة الأول، فلا بأس؛ لأنه لن ينشغل بالإجارة الثانية إلا بعد انتهاء انشغاله في الأجرة الأولى، واختلف العلماء في مسألة:
وهي ما إذا رهن شيئا بمائة ريال، فهل يجوز أن يضيف إلى الدين الذي رهنه به دينا آخر؟
مثال ذلك: رجل رهن بيته بمائة ألف ريال لشخص، ثم استدان من الشخص مائة ألف ريال، وقال: هي داخلة في الرهن السابق، فيكون البيت على هذا مرهونا بمائتين، أي: بمائتي ألف ريال، فهل هذا صحيح؟
من العلماء من قال : إنه صحيح، وأن كون البيت قد رهن بمائة ألف، ثم صار مرهونا بمائتي ألف، ورضي بذلك المرتهن الحق له.
ومنهم من قال: إنه لا يصح؛ لأن البيت مرهون بمائة ألف، والمرهون لا يصح أن يرهن ثانية.
لكن القول الأول هو الصواب، وعليه عمل الناس في هذه الجزيرة، وقولنا: "بمسقط لما به ينشغل" علم منه أنه إذا شغله بغير مسقط، فلا بأس.
مثاله: أن يؤجر بيته لمدة سنة لشخص، ثم يبيعه، أي: يبيع البيت بعد نصف السنة لشخص غير المستأجر، فالبيع صحيح؛ لأن البيت لن ينشغل بالبيع الثاني، إذ أن حق المستأجر سابق، ويبقى المستأجر في البيت المبيع حتى تتم مدة الإجارة، ولكن في هذه الحال يجب على البائع أن يخبر المشتري: بأن البيت مستأجر لمدة كذا وكذا، حتى يدخل على بصيرة، فإن لم يفعل، فللمشتري الفسخ إذا علم؛ لأنه سوف يفوت عليه الانتفاع بالمبيع مدة بقاء الإجارة.
البدل له حكم المبدل :
ثم قال المؤلف -رحمه الله-:
كمبدل في حكمه اجعل بدلا
ورب مفضول يكون أفضلا
يعني: أن البدل له حكم المبدل في كل شيء، وهذا له أمثلة منها:(6/74)
الطهارة بالتراب، وهو التيمم، فإن الله -تعالى- جعله بدلا عن طهارة الماء عند تعذر استعماله؛ لعدمه أو للتضرر باستعماله، فيجعل لهذا البدل حكم المبدل في كل شيء على القول الراجح، فإذا تيمم؛ ليقرأ القرآن؛ لأن الأصل للإنسان أن يقرأ القرآن على وضوء، وهو ليس عنده ماء، وهو قد تعذر عليه استعمال الماء، فتيمم لقراءة القرآن، فله أن يصلي بهذا التيمم الفريضة والنافلة، مع أنه لم يتيمم لصلاة، لكنه تيمم يقصد بذلك رفع الحدث.
وكذلك لو تيمم لصلاة الظهر، وبقى على طهارته، حتى دخل وقت العصر، فإنه يصلي بالتيمم الأول، ولا يبطل تيممه بخروج الوقت، وكذلك لو تيمم لجنابة، فإنه لا يلزم إعادة التيمم عنها، حتى يجنب مرة أخرى.
مثال ذلك: رجل استيقظ من نومه ليلا، فوجد عليه جنابة، فتيمم لها لصلاة الفجر، ثم دخل وقت الظهر، فلا يلزم التيمم عن الجنابة، لكن يلزمه التيمم عن الحدث الأصغر، إن كان قد انتقض وضوءه في هذه المدة ما بين الفجر والظهر.
مثال ثان: رجل تيمم لصلاة الضحى، وصلى وبقي لم يحدث حتى دخل وقت صلاة الظهر، فإنه يصلي الظهر بتيممه لصلاة الضحى؛ لأن البدل له حكم المبدل، وهو لو توضأ لصلاة الضحى، وبقي على طهارته حتى دخل وقت صلاة الظهر، صلى الظهر بلا إعادة وضوء، ويدل لهذا في مسألة التيمم قول الله -تبارك وتعالى- : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ إفح!$tَّ9$# أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فبين الله U في هذه الآية أن التيمم مطهر، أن التيمم مطهر، فيفعل من تيمم لحدث ما يفعله المتوضئ والمغتسل، ولا فرق.
لكن لو تيمم عن جنابة، ثم وجد الماء، وجب عليه أن يغتسل، ولذلك دليلان:(6/75)
الدليل الأول : قول النبي r " الصعيد الطيب وَضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء، فليتق الله، وليمسه بشرته "
الدليل الثاني : ما رواه البخاري عن عمران بن حصين t في حديث طويل في قصة الرجل الذي رآه النبي r قد اعتزل القوم، فلم يصل، فسأله فقال: الرجل يا رسول الله، أصابتني جنابة، ولا ماء، فقال: " عليك بالصعيد، فإنه يكفيك، ثم بعد ذلك جاء الماء، واستقى الناس، وبقي منه فضلة، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- للرجل خذ هذه، يعني: الفضلة، فأرقه على نفسك "
وهذا دليل واضح على أن التيمم يبطل، إذا وجد الماء، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الإجماع على ذلك، وإن كان بعض المتأخرين ذكر فيه خلافا، ومن ذلك: لو أن رجلا نذر أن يذبح بعيرا تقربا إلى الله U ولكنه لم يجد البعير، فذبح بدله سبع شياه، كان ذلك كافيا ومجزيا، ويكون حكم هذه الشياه حكم البعير.
وكذلك في الأكل، لو نذر أن يذبح سبع شياه، فذبح بعيرا أجزأه على خلاف في هذا، ولكن لو قال قائل: هل يجزئ البعير عن سبع عقائق؟ فالجواب: لا، يعني: لو كان عند الإنسان، يعني: لو ولد للإنسان ثلاثة أبناء وبنت، فلهم سبع شياه، ست للأبناء الثلاثة، وواحدة للأنثى، فذبح بعيرا عنهم لم يجزئ؛ لأن العقيقة فداء نفس بنفس؛ وأيضا لم يرد عن النبي r أنه عق بالبعير؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: إن العقيقة بالشاة أفضل من العقيقة بالبعير.
تفاضل الأعمال:
قال الناظم :
-------------
ورب مفضول يكون أفضلا
العبادات -لا شك- أنها تتفاضل، فجنس الفرض أفضل من جنس النفل، وجنس الصلاة أفضل من غيرها من العبادات، لكن ربما يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل.(6/76)
وله أمثلة، منها: لو دعا شخص رجلا إلى وليمة عرس، والمدعو صائم وحضر، فهنا أمامه شيئان، إما أن يفطر، ويأكل، فيحصل به جبر قلب صاحبه، وإما أن يمتنع عن الأكل، فلا يكون صاحبه ممنونا بذلك، وإما أن يمتنع عن إجابة الدعوى، وهذا أشد، فهنا نقول: احضر وكل، ولو بطل صيامك، فالفطر هنا أفضل مع أنه في الأصل مفضول.
ومثل ذلك لو دار الأمر بين أن يصلي الإنسان، وهو يدافع الأخبثين في أول الوقت، أو يقضي حاجته، ويصلي في آخر الوقت، فهنا الصلاة في آخر الوقت أفضل من الصلاة في أول الوقت، مع أن الأصل أن الصلاة في أول الوقت أفضل، والأمثلة على ذلك كثيرة: أنه قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل.
وربما نقول: إن مثل ذلك لو دخل المسجد رجلان، وليس في الصف إلا محل رجل واحد، فهل الأفضل أن يتقدم أحدهما لهذا المكان، ويصلي الآخر منفردا خلف الصف، مع اختلاف العلماء في صحة صلاته في هذه الحال، أو الأفضل أن يصلي مع صاحبه؟ نقول: الأفضل أن يصلي مع صاحبه؛ لئلا يوقع صاحبه في حرج، أو في فساد صلاته على القول المرجوح.
وإنما قلنا: هذا القول المرجوح؛ لأن القول الراجح أنه إذ لم يجد الإنسان مكانا في الصف صلى وحده مع الإمام، ولا حرج عليه، ولا ينبغي أن يجذب شخصا من الصف؛ ليصلي معه، بل لو قيل: لا يجوز، لكان له وجه، ولا ينبغي أن يتقدم، ويصلي مع الإمام، يعني: إلى جنب الإمام، بل قد نقول: إنه مكروه؛ لأنه يستلزم مخالفة السنة في انفراد الإمام بمكانه، وربما يحصل فيها أذية في تخطي الرقاب إلى أن يصل إلى الإمام، وحينئذ يصلي وحده خلف الصف، ولا حرج عليه.
وهذا لا شك أن له حظا كبيرا من النظر؛ لأن هذا الرجل الذي وجد الصف تاما تعذر عليه القيام في الصف حسا، فيجوز له أن يصلي وحده، كما يجوز للمرأة أن تصلي وحدها خلف الصف؛ لتعذر مقامها مع الرجال شرعا.
قال الناظم:
-------------
ورب مفضول يكون أفضلا(6/77)
ولنقتصر على هذا؛ لأنه لم يبق في الوقت إلا ربع ساعة؛ ليكون ذلك للإجابة عن الأسئلة، نسأل الله -تعالى- التوفيق للصواب.
استدامة الشيء أقوى من ابتدائه
O الحمد لله رب العلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف -رحمه الله تعالى، ووفقه في الدارين- :
كل استدامة فأقوى من بدا
وكل معلوم وجودا أو عدم
والنفي للوجود ثم صحة
والأصل في القيد احتراز ويقل
وإن تعذر اليقين فارجعا
وكل ما الأمر به يشتبه
في مثل طيب محرم ذا قد بدا
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
ثم الكمال فارعين الرتبة
لغيره ككشف تعليل جهل
لغالب الظن تكن متبعا
من غير ميز قرعة توضحه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
س: فقد سبق لنا أن كل شرط مفسد للعقد إذا ذكر، فإنه يفسده إذا قصد، وذكرنا لذلك مثالين فما هو المثال الأول؟ السؤال على الطلب؟
ج: نعم.
س: ذكرنا مثالين؛ لأننا نريد أن نعرف ارتباط الطلاب بالمنظومة
ج: نعم.
من نوى الزواج للتحليل.
أي، نعم.
س: يشرحه الطالب، وأيش ما هو نكاح التحليل؟
ج: أن تطلق امرأة ثلاث طلقات، فيقوم رجل آخر فيتزوجها، ويجامعها بقصد تحليلها لزوجها الأول.
إي، نعم.
هذا شرط عليه؟
فالعقد باطل.
س: إذا لم يشرط لكنه نوى؟
ج: يفسد العقد.
س: طيب المثال الثاني؟
ج: الغريب الذي حل في بلدة، فتزوج بنية الطلاق.
العقد في هذا فاسد.
إي نعم، أفادك الله.
س: هل في هذه المسألة الثانية خلاف؟
ج: إي نعم، فيه خلاف.
بعض العلماء، قال: لا يفسد، وبعضهم قال يفسد.
- إي، طيب.
س: أيهما المذهب عند الحنابلة؟
ج: المذهب أنه يفسد.
س: نعم، طيب هل يفسد العقد من الطرفين فيما إذا نوى الإنسان نوى أحدهما الشرط الفاسد؟
ج: يفسد العقد من القاصد من يقصد بشرطه.
نعم، يعني: يفسد العقد في حق من نواه.
إي نعم، أفادك الله.
س: والثاني؟(6/78)
ج: الثاني لا يفسد بحقه؛ لأنه لا يعلم؛ لأن الأمور تجري على ظاهرها.
أحسنت!
س: ذكرنا أيضا من القواعد المهمة: أن الشرط إذا كان يستلزم تحليل الحرام، فإنه فاسد، ما هو المثال؟ أولا ما هو الدليل على أن الشرط الذي يحل الحرام يكون فاسدا؟
ج: قوله r " المسلمون على شروطهم "
نعم. " إلا شرطا حرم حلالا، أو حلل حراما "
س: نعم، أحسنت، هذا دليل، وهذا مختلف في صحته، لكن نريد دليلا لا إشكال في صحته.
ج: قوله -تعالى-: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ }
- لا.
- قصة بريرة حين قال الرسول r " كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط "
س: هذا الدليل ما أحد معارض فيه الصلح أيضا جائز إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا ، ما هو الدليل على أن الأصل في الصلح الحل؟
ج: نعم يا شيخ.
س: ما هو الدليل على أن الأصل في المصالحة الحل، إلا ما أحل حراما، أو حرم حلالا؟
ج: لقول النبي r " المسلمون على شروطهم " وإن الأصل في الصلح والشرط اللزوم والصحة.
س: لكن ما فيه دليل؟
ج: الأدلة مأخوذة من الأحاديث والآيات على أن الأصل: إذا تمت الشروط وانتفت الموانع، يقع العقد والصلح صحيحا؟
فيه نقص، وهو قول الله -تبارك وتعالى- : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وكذلك أيضا حديث: " الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا " .
س: -طيب نريد مثالا للصلح الذي يحل حراما، أو يحرم حلالا .
ج: - المثال هو لو أن رجلا استدان من شخص مائة ألف، فاصطلح الذي استدان منه، اصطلح عليه أن يؤخر له المبلغ أي: الدفع إلى شهر، أو إلى شهرين، وسيدفع له مقابل هذا مثلا مالا سيدفع له ألفا، أو ألفين على تأخير هذا، فيقع هنا صلح على الربا، فيكون هذا الصلح لا يجوز.
أحسنت!(6/79)
س: بارك الله فيك؛ لأنه أحل حراما، "المشغول لا يشغل" هل هذا على إطلاقه، قلنا: فيه تفصيل؟
ج: المسألة فيها تفصيل.
س: فيها تفصيل، ما هو؟
ج: لو أن لم يسقط حق المشغول، فنقول: لو أن المشغول لم يسقط حق أحد فيصح، مثاله لو أن رجلا أجر على شخص بيتا لمدة شهر، حتى إذا ما مضى نصفه باع هذا البيت على رجل آخر، فهنا نقول: البيع هذا صحيح لأن المستأجر لا يسقط حقه، سيبقى في البيت نصف الشهر ما تبقى من الزمن - أحسنت - ولكن لا بد أن يعلم البائع، المبيع أن البيت مستأجر لرجل لمدة نصف شهر وإن لم يخبره، فله الفسخ.
- بارك الله فيك، جيد أحسنت، يعني صار شغله إن كان يؤدي إلى سقوط حق الشاغل الأول، فهو غير جائز، وإن كان لا يؤدي إلى السقوط فلا بأس، ذكرنا أن المفضول قد يكون أفضل من الفاضل، المفضول قد يكون أفضل من الفاضل.
س: مثال ذلك؟
ج: مثاله قراءة القرآن هي أفضل من الذكر، لكن إذا أذن المؤذن، فإن إجابة المؤذن أفضل من قراءة القرآن؛ لأن الأذان له وقت خاص ضيق يذهب بسببه، أما قراءة القرآن، فوقتها موسع، فتكون إجابة المؤذن أفضل من قراءة القرآن، وهي أفضل من الأذان.
ـ بارك الله فيك، أحسنت الآن نبدأ درسا جديدا.
قال :
كل استدامة فأقوى من بدا
---------------
يعني: استدامة الشيء أقوى من ابتدائه، وذلك
------------
في مثل طيب محرم ذا قد بدا
المحرم يمتنع عليه أن يتطيب بعد إحرامه، وإذا كان قد تطيب قبل الإحرام، فإنه لا بأس أن يستمر في هذا الطيب، ولا يلزمه غسله، لكن لو أنه وقع عليه الطيب بغير قصد منه، بعد الإحرام وجب عليه أن يبادر بالغسل هذا مثال.(6/80)
مثال آخر: المحرم لا يجوز له أن يعقد النكاح؛ لقول النبي r " لا ينكح المحرم، ولا ينكح " لكن لو كان قد طلق زوجته طلاقا رجعيا قبل الإحرام، ثم راجعها بعد الإحرام، فلا حرج؛ لأن الرجعة ليست ابتداء، ولكنها استدامة عقد؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله- إن الرجعية في حكم الزوجة، إلا في مسائل قليلة استثنوها.
مثال ثالث: المسلم لا يمكن أن يشتري صيدا حال إحرامه؛ لأنه ممنوع من تملك الصيد، لكن لو كان عنده صيد +دافق قد اشتراه قبل الإحرام، فملكه باق، ولو أحرم؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء.
كل شيء معلوم وجوده الأصل بقاء وجوده:
ثم قال الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
يعني كل شيء معلوم وجوده، الأصل بقاء وجوده، كل شيء معلوم عدمه، فالأصل بقاء عدمه، وهذه قاعدة مأخوذة من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : حين شكي إليه الرجل يحس بحركة في بطنه، فيشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فقال: " لا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا "
فهنا نقول: هذا الرجل قد علم أنه متوضئ، فوضوءه يقيني، فإذا أشكل عليه هل أحدث، أو لا؟ قلنا: الأصل بقاء الوضوء، فلا يلزمه أن يتوضأ؛ لأن الأصل بقاء الوضوء، ومثال العدم رجل كان محدثا، ثم حضرت الصلاة، فأشكل عليه هل توضأ أم لا؟ فنقول: الأصل عدم الوضوء؛ لأنه كان محدثا، وأشكل هل توضأ أم لا؟ فحصل الشك في وجود الوضوء، فنقول: الأصل العدم، فيلزمه أن يتوضأ، وكذلك في المبايعات إذا ادعى المشتري أن في المبيع عيبا، فإن كان لا يمكن حدوثه كالإصبع الزائدة، فالقول قوله، وإن كان لا يمكن أن يكون سابقا كالجرح الطري الذي ينزف دما، فالقول قول البائع، وإن كان يحتمل هذا، وهذا، فالأصل السلامة.(6/81)
الأصل السلامة، فيكون القول قول البائع، ويقال للمشتري: أثبت أن هذا العيب كان قبل العقد؛ لأن ما كان الأصل عدمه، فبقاء الأصل فيه باق على حاله حتى يثبت ما يزيل ذلك الأصل، وهذه القاعدة التي ذكرها الناظم، تفيدك في مواضع كثيرة في العبادات والمعاملات، وقول الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
-------------
كان الأصل أن يقول: أو عدما أي معلوم وجوده وعدمه، لكنه قال: أو عدم بدون ألف من أجل الروي، على أن بعض العرب يقف على المنصوب بالسكون.
الأصل نفي الوجود:
ثم قال الناظم:
والنفي للوجود ثم الصحة
ثم الكمال فارعين الرتبة
يعني إذا جاءت جملة فيها نفي، فالأصل نفي الوجود، فإن تعذر الحمل على نفي الوجود لكون الشيء موجودا، حمل على نفي الصحة، ونفي الصحة نفي للوجود الشرعي، فإن لم يمكن، بأن تكون العبادة صحيحة مع وجوده فهو لنفي الكمال، فإذا قلت: لا خالق إلا الله، فهذا نفي للوجود، أي: وجود خالق سوى الله، وهذا هو الأصل، وإذا قلت: لا بيع بعد الساعة الرابعة مثلا، فهذا نفي للوجود، يعني: أنك تقول: لم يحصل بيع بعد الساعة الرابعة، وإذا لم يمكن حمله على نفي الوجود بأن كان موجودا حمل على نفي الصحة، ونفي الصحة يعني: نفي الوجود الشرعي.
مثال ذلك: " لا صلاة بغير وضوء " فهنا ليس النفي للوجود؛ لأنه قد يصلي إنسان بلا وضوء، فيحمل على أن المراد نفي الصحة، أي: لا تصح صلاة بغير وضوء، والحقيقة أن نفي الصحة نفي للوجود، لكنه نفي للوجود الشرعي، والأول نفي للوجود الحسي، فإن لم يمكن حمله على نفي الصحة، بأن دلت الأدلة على صحة المنفي صار ذلك نفي… أو صار ذلك نفيا للكمال.(6/82)
مثاله: " لا صلاة بحضرة طعام " فهنا قد يصلي الإنسان بحضرة طعام، قد يصلي الإنسان بحضرة الطعام، وتصح صلاته، وعليه فيكون هذا النفي نفيا للكمال، إذن إذا نُفي الشيء، فالأصل أن المراد بنفيه نفي وجوده حسا، فإن لم يمكن حمله على ذلك لكونه يوجد، حمل على نفي وجوده شرعا، أي: نفي الصحة، فإن وجد شرعا، وصح حمل على نفي الكمال، وقد ضربنا لهذا أمثلة، فإذا جاء النص محتملا لهذا، وهذا مثل: لا صلاة بعد صلاة العصر، حتى تغرب الشمس، هل المعنى لا صلاة كاملة، أو لا صلاة صحيحة؟
نقول: الأصل أن المعنى أن المراد لا صلاة صحيحة، فلا تصح الصلاة في أوقات النهي إلا صلاة الفريضة كالمقضية مثلا، وإلا الصلاة التي لها سبب من النوافل على القول الراجح.
وبناء على هذا القول الراجح لو دخل الإنسان المسجد بعد صلاة العصر، فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : " إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " فلو ادعى شخص أن المراد لا صلاة كاملة، قلنا: هذا خلاف الأصل، وكل من يدعي خلاف الأصل فعليه الدليل.
الأصل في القيد:
ثم قال الناظم :
والأصل في القيتد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
هذا أيضا الأصل في القيد بصفة، أو شرط.
الأصل فيه أنه اشتراط، وأن تخلف هذا القيد يتخلف فيه الحكم، هذا هو الأصل، لكنه قد يأتي بغير ذلك كمثل كشف التعليل إذا كان مجهولا، فإذا قيل كفارة الظهار تحرير رقبة مؤمنة، فكلمة "مؤمنة" قيد احترازا من غير المؤمنة.(6/83)
وبناء على هذا نقول: لو أعتق رقبة غير مؤمنة لم يقبل ذلك، لم يقبل ذلك منه؛ لأن الله -تعالى- اشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، والأصل في القيد أنه احتراز يخرج به مفهومه، وإذا لم يمكن أن يكون احترازا، وهو قليل، فإنه لا يكون له مفهوم، مثل قول الله -تبارك وتعالى- في المحرمات في النكا ج: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فإن قوله: " في حجوركم" ليس للاشتراط؛ ولهذا تحرم الربيبة، وإن لم تكن في بيت زوج أمها، تحرم الربيبة وإن لم تكن في بيت زوج أمها.
فإن قال قائل: ما دليلك على أن هذا القيد قيد كاشف للتعليل؟ قلنا: دليلنا على هذا أن الله -تعالى- قال: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } وسكت عن مفهوم قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } فلما صرح بمفهوم القيد الثاني، وهو قوله: { مِنْ مNن3ح!$|،خpS سةL"©9# دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وسكت عن مفهوم القيد الأول، وهو قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } علم أن مفهوم القيد الأول غير مشترط، وإنما ذكر القيد لبيان العلة، وهي أنها إذا كانت بنت زوجتك من غيرك في حجرك، فهذا هو السبب في كونها محرما لك؛ لأنها في حجرك فهي كبنتك، واشتراط الوطء للأم حكمته ظاهرة؛ لأنه لا تستقر الزوجية استقرارا تاما إلا بالوطء.
ولهذا اشترط العلماء -رحمهم الله للإحصان- في الزنا أن يكون المحصن قد جامع زوجته، وأنه لو عقد على امرأة وخلا بها، وباشرها بغير جماع لم يكن محصنا، فلو زنا بعد ذلك لم يرجم؛ لأن الاستقرار التام بين الزوجين إنما يكون في الجماع.
فإذا قال قائل: لو اختلف اثنان في كون القيد احترازيا، أو تعليليا، فمن الأصل معه؟ فالجواب: أن الأصل مع من قال إنه احترازي، فمن ادعى أنه لغير احتراز، فعليه الدليل.(6/84)
القرعة للتمييز بين الأشياء:
ثم قال الناظم :
وكل ما الأمر به يشتبه
من غير ميز قرعة توضحه
يعني: إذا اشتبه الأمر علينا دون تمييز لأحد المشتبهين على الآخر، فإن طريق التمييز القرعة، والقرعة ثابتة في القرآن والسنة والنظر الصحيح، أما القرآن، فقد قال الله -تبارك وتعالى- : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا } { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) } وفي قوله عن يونس: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) }
أما السنة، فقد ثبت " أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها "
وأما النظر الصحيح، فلأنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن؛ لأنه مستطاع، فالقرعة تميز الشيء، تميز المستحق، وهي من محاسن الشريعة، لكن يشترط ألا تخرج مخرج الميسر، فإن خرجت مخرج الميسر كانت حراما.
مثال ذلك: رجلان اشتركا في كيس من البر نصفين، ثم اقتسماه، فجعلا قسما منه ثلثين، وقسما ثلثا، وقالوا نجري القرعة، فهنا لا يجوز أن يجريا القرعة؛ وذلك لأنه يكون أحدهما إما غانما وإما غارما، فالقرعة إذا وقعت لصاحب الثلثين، فقد غنم وازداد نصيبه سدسا، والثاني شريكه قد غرم، فكان قد غرم سدسا، فذا يحرم، لكن يقسم هذا المشترك نصفين، ثم إن اختار أحدهما النصف الذي يليه، فهو له، أو النصف الذي يلي صاحبه، فهو له، إذا وافق صاحبه على ذلك.
وإن تشاحا أقرع بينهما، وقد ذكر ابن رجب -رحمه الله- في القواعد الفقهية مسائل القرعة في آخر القواعد، فمن أحب أن يرجع إليها، فإنها مفيدة جدا.
غلبة الظن عند تعذر اليقين:
ثم قال الناظم -وهو بيت أخرناه نسيانا وذهولا-:
وإن تعذر اليقين فارجعا
لغالب الظن تكن متبعا(6/85)
هذه يعبر عنها الفقهاء بقولهم: إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، وهو مأخوذ من قول الله -تعالى- : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فإذا تعذر اليقين، فإننا نرجع إلى غلبة الظن، وإن لم يكن غلبة ظن رجعنا إلى الأصل، وهو البناء على اليقين وعدم المشكوك فيه.
مثال ذلك: رجل طاف بالبيت، وفي آخر الطواف أشكل عليه أهو السادس، أو السابع، فليس عنده يقين، لكن عنده غلبة ظن؟
فهنا نقول : اعمل بغلبة الظن؛ لأنه تعذر اليقين، فيرجع إلى غلبة الظن، وهذا لب ما نقول: إن دليله قول الله -تبارك وتعالى-: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وقوله -تعالى-: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } لكن هنا يجب أن نرجع إلى القاعدة السابقة، وهي قول الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
فمثلا لو شك الإنسان هل أدى الزكاة أو لا، ولم يتيقن أنه لم يؤدها، ولا أنه أداها، لكن غلب على ظنه أنه أداها، فهنا نقول: لا عبرة بغلبة الظن؛ لأن الرجوع إلى غلبة الظن هنا ينافي قاعدة: أن الأصل في المعدوم العدم، ونقول: يلزمك أن تزكي مالك، لكن له أن يتأنى حتى يتذكر، ويفكر وإذا فعل ذلك مع اللجوء إلى الله -تعالى- في طلب الحق، فإن الله -تعالى- ييسر له ذلك، ونقتصر على هذا؛ لأنه لم يبق إلا ربع ساعة لتكون الأسئلة.
س: نبدأ الأسئلة يا شيخ؟
ج: نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: وقع لعمي حادث، وكان معه ابنه وصاحبهما رجل آخر، وفي الطريق فضل عمي المبيت، وكان الوقت ليلا، ولعلمهما بأن الطريق القادمين إليها بها منحدرات شديدة وضباب كثيف، لكن الرجل أصر على المواصلة…
- الرجل الابن، ولا الأب؟
- لا الذي +…
- السائق؟
- لا ليس السائق الرجل اللي بيقول عليه السائق معه ابنه، هو رجل آخر غير ابنه …
ـ أعيد السؤال يا شيخ؟
ـ إي
ـ يقول وقع حادث لعمي، وكان معه ابنه وصاحبهما…
- كأن العم هو السائق؟(6/86)
- عمه هو السائق …
- نعم.
…-يقول: وفي الطريق فضل عمي المبيت، وكان الوقت ليلا، ولعلمهما بأن الطريق القادمين إليها بها منحدرات شديدة وضباب كثيف، لكن الرجل أصر على المواصلة، وفي الطريق انقطعت الفرامل من السيارة، واصطدمت بالجبل تفاديا للمنحدر الشديد، وبعدما توقفت السيارة لم يجد عمي ابنه، ولا الرجل في السيارة، فبحث عنهما، فوجد الرجل قد فارق الحياة، وابنه به بعض الكسور، والاحتمال الأكبر أن الرجل قد قذف بنفسه من السيارة؛ لأنهم وجدوا الباب مفتوحا، فدفع عمي الدية لأبناء الرجل، فهل على عمي كفارة، وهل يختلف الحكم إذا كانت السيارة قد رمت بالرجل أفتونا مأجورين؟
ج: نعم ما دامت المسألة وصلت إلى القاضي، وحكم بالدية فهذا يعني أن العم يلزمه الكفارة؛ لأنها لا تلزم الدية إلا حيث كان القتل، وإذا كان القتل وجبت الكفارة، فمن لازم حكم القاضي هذا أن تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يمكن أن يقال عليه دية، ولا كفارة.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: من كان عليه عدة أيمان مختلفة، فما هي الكفارة؟ هل هي كفارة واحدة أم متعددة؟
ج: نعم إذا تكررت الأيمان على محلوف واحد، فليس عليه إلا كفارة واحدة، مثل أن يحلف ألا يدخل هذا البيت، فقيل له: يا فلان ليس في دخوله بأس هذا صديقك هذا أخوك المسلم، فقال: والله لا أدخل، حلف ثانية، ثم قيل له مثل ما قيل له أولا، فحلف ألا يدخل، ثم مع كثرة النطق دخل، فهنا الأيمان مكررة، والمحلوف عليه واحد، فلا يلزمه إلا كفارة واحدة.
أما إذا تعددت الأيمان وتعدد المحلوف عليه، فإنه يلزمه بعدد المحلوف عليه كفارة مثال ذلك حلف ألا يدخل هذا البيت وحلف ثانية ألا يلبس هذا الثوب وحلف ثالثة ألا يركب هذه السيارة فدخل البيت، ولبس الثوب وركب السيارة، فعليه ثلاث كفارات، إذ أن الأيمان تعددت، والمحلوف عليه تعدد، وهذا قول جمهور العلماء.(6/87)
وقال بعض العلماء: إذا لم يكفر عن اليمين الأول الذي حنث فيه، حتى حنث في الثاني والثالث لزمته كفارة واحدة، وعللوا ذلك في أن الموجَب بفتح الجيم واحد، فهو كما لو بال وتغوط، وأكل لحم إبل، فإنه يلزمه وضوء واحد، وإن تعددت الأسباب؛ لأن الموجب واحد، وهذا هو المشهور عند الحنابلة رحمهم الله.
ولكن قول الجمهور ما ذكرناه أولا أنه يلزمه لكل يمين كفارة، وهو أحوط، وهو من الناحية التربوية أولى؛ لأننا لو قلنا بأنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة في الأيمان المتعددة؛ لكان ذلك فتحا للحيلة حيث إن الإنسان إذا حنث في يمين أخر الكفارة لعله يحلف ثانية، ويحنث، ثم يؤخر أيضا لعله يحلف ثانية فيحنث، ويكون ذلك سببا لتأخير الكفارة عن الحنث، والأصل أن الكفارة واجبة على الفور.
وهنا يحسن بنا أن نقول: إذا تعددت الأيمان والمحلوف عليه، فعليه لكل يمين كفارة، وإذا تعددت الأيمان والمحلوف عليه واحد، فعليه كفارة واحدة، وإذا تعدد المحلوف عليه، واليمين واحدة، فعليه كفارة واحدة، مثل أن يقول: والله لا أدخل هذا البيت، ولا ألبس هذا الثوب وما أشبه ذلك، فيلزمه كفارة واحدة هذا هو خلاصة هذا الجواب.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: رجل رهن منزله، فهل له أن يستثمره بالإيجار وغيره؟
ج: نعم له أن يستثمره بالإيجار، لكن تكون الأجرة تابعة للرهن.
نعم.
إلا إذا قال المرتهن: لا تؤجره، لكن إذا قال: لا تؤجره، فإنه لا يطاع؛ لأن ذلك إضاعة للفائدة التي تحصل لكل من الراهن والمرتهن.
نعم.(6/88)
س: أحسن الله إليك، هذه يا شيخ سائلة من إحدى الدول المجاورة تقول: إنني معلمة، وقانون البلد الذي أعيش فيه، يلزم المعلمة أن تكشف وجهها عند مسئول الوزارة الذي يحضر سنويا؛ ليكتب التقارير عن أداء المعلمات علما بأنه ليس هناك أي خلوة شرعية، فهل يجوز أن آخذ بالقول بأن الوجه والكفين هنا للضرورة في الفترة التي يحضر فيها المسئول، ولو رفضت سيكتب المسئول عني تقريرا، وربما يصل الأمر إلى الفصل من المدرسة، وجزاكم الله خيرا.
ج: هذا لا بأس به، يعني: لا بأس أن تكشف المرأة وجهها لمن ينظر إليها لحاجة كالطبيب مثلا، والشاهد وكذلك المسئول كما في سؤال المرأة هذه، حتى وإن قلنا بوجوب تغطية الوجه؛ لأن الأصل في وجوب تغطية الوجه أنه من باب سد الذرائع، والذرائع إذا احتيج إليها جازت، فإذا كان هذا المسئول يقول: لا بد أن تكشف المرأة وجهها؛ حتى نعرف من هي شخصيا، ولم يكن هناك خلوة ممنوعة، فلا بأس.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول في بعض المساجد يكون مصلى النساء منفصلا عن مصلى الرجال، بمقدار مرور سيارة، وتكون المتابعة للإمام من خلال المكبر، فما حكم الصلاة فيها، وإن كان لا يجوز، فهل تصلي المرأة فيها منفردة وجماعة قائمة، أفتونا مأجورين؟
ج: أما إذا كان هذا الحوش تابعا للمسجد، فلا بأس، لكن بشرط ألا يكون للمصلي في هذا الحوش مكان في المسجد، وأما إذا لم يكن تابعا له، ولكنه حوش لجيران المسجد، فإن الصلاة فيه لا تصح؛ لأنه لا ينسب إلى المسجد شرعا، ولا عرفا، والجماعة لا بد فيها من حضور المأموم إلى المكان الذي يصلي فيه الناس.
نعم.(6/89)
س: أحسن الله إليك، هذا سائل يقول: رجل يعمل في مصنع، ويبدأ العمل الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة الواحدة ظهرا، ومدير المصنع لا يتركهم يصلون الظهر في المسجد، بل في المصنع، وذلك بعد انتهاء الدوام حيث الساعة الواحدة ظهرا، وكذا صلاة العشاء لا يصلونها إلا الساعة التاسعة مساء بعد انتهاء الدوام، فهل يترك العمل أم ماذا عليه؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: أرى أن لا يترك العمل ما داموا في حاجة إليه؛ لأن غاية ما فيه أنهم تركوا الواجب من الحضور إلى المسجد، ولكنهم لم يتركوا الجماعة، وقد قال كثير من العلماء: إن الجماعة في المسجد سنة، وليست بواجب؛ لأن الواجب إقامة الجماعة في أي مكان، وهذا القول وإن كان فيه ما فيه، فإنه يعمل به عند الحاجة إليه، فإذا كان صاحب المصنع يقول: لا تصلوا إلا بعد انتهاء الدوام. والدوام ينتهي قبل خروج وقت الصلاة، فلا بأس أن يؤخروا الصلاة، ويصلوها جماعة في المكان، سواء الظهر، أو العشاء أما إذا قال: أخروها عن الوقت، فإنه لا يطاع.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: هل يصح نسبة هذا الحديث إلى النبي r " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة " ؟
ج: لا أدري عنه، ما أدري، والله أعلم.
نعم
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: ما حكم ما يسمى بالتأمين الصحي، حيث إن الصحف تروج وتدعو لانتشار هذا؟
ج: لا بد أن نعرف ما كيفية التأمين الصحي أيش كيفيته؟
- السائل موجود يا إخوان؟ السائل موجود؟ تعال
- السلام عليكم.
- نعم
س: يا فضيلة الشيخ، مثلا مبلغ مقطوع خمسمائة ريال، هذا يدفع دائما، وإذا دفع المبلغ هذا هم يعالجونه مثلا بمبلغ، في حدود مبلغ مائتين وخمسين ألف ريال، وأخذوا فتوى من هذا من بعض طلبة العلم، هل هذا جائز؟(6/90)
ج: إذا كان الذي أفتاهم من العلماء المعتبرين، فيعملون بالفتوى والإثم عليه، أما إذا كان ليس من العلماء المعتبرين الذين عرفوا بسعة العلم وقوة الأمانة، فلا يأخذ بفتواهم؛ لأنه مثلا إذا دفع خمسمائة ريال في السنة ، ثم أصيب بمرض شديد، فإنه سوف يستهلك على شركة التأمين شيئا كثيرا، وإن مضت السنة، ولم يصب بمرض صارت الشركة رابحة، وهو الخسران، وكل حق يكون فيه… يكون دائرا بين الغرم والغنم، فإنه عقد باطل، وهو من الميسر الذي حرمه الله U وقرنه بالخمر في قوله -جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } فلا يصح.
وإلى هنا ينتهي هذا اللقاء، وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.
أحسن الله إليك.
متعجل الشيء بفعل حرام
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -حفظه الله تعالى ووفقه في الدارين-:
وكل من تعجل الشيء على
وضاعف الغرم على من ثبتت
لمانع كسارق من غير ما
وكل ما أبين من حي جعل
وكان تأتي للتدوام غالبا
وإن يضف جمع ومفرد يعم
منكر إن بعد إثبات يرد
من بعد نفي نهي استفهام
واعتبر العموم في نص أثر
ما لم يكن متصفا بوصف
وخصص العام بخاص وردا
ما لم يك تخصيص ذكر البعض
وجه محرم فمنعه جلا
عقوبة عليه ثم سقطت
محرز ومن لضال كتما
كميته في حكمه طهرا وحل
وليس ذا بلازم مصاحبا
والشرط والموصول ذا له انحتم
فمطلق وللعموم إن يرد
شرط وفي الإثبات للإنعام
أما خصوص سبب فما اعتبر
يفيد علة فخذ بالوصف
كقيد مطلق بما قد قيدا
من العموم فالعموم أمض
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :(6/91)
فهذا هو الدرس الأخير للقاءات التي تتم في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرياض، أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يكملها على علم نافع، وعمل صالح.
قال الناظم :
وكل من تعجل الشيء على
وجه محرم فمنعه جلا
س: وقبل أن نتكلم على هذا البيت، نسأل بعض الأسئلة، فيما سبق فما معنى قول الناظم:
والنفي للوجود ثم الصحة
ثم الكمال فارعين الرتبة؟
نعم.
من يجيب على هذا؟
ج: نعم. إن الأصل في النفي أن يكون للوجود.
س: أيش؟
ج: إن الأصل إذا أتى إذا ورد في الشرع نفي، فيكون المعنى نفي للوجود.
نفي الوجود ...نعم
ثم إذا وجد هذا الشيء، فيصرف إلى الصحة، أي: من حيث الشرع، ثم إذا كان صحيحا، يصرف إلى الكمال.
س: ها طيب مثِّل؟
ج: مثال النفي للوجود قول: لا خالق إلا الله، فهنا النفي نفي للوجود، أي: لا خالق يخلق إلا الله تبارك الله وتعالى، فليس هناك غير الله خالق.
س: نفي الصحة؟
ج: نفي الصحة قول النبي r " لا صلاة لمحدث ما لم يتوضأ " " لا صلاة إلا بوضوء " أو كما قال.
نعم.
فهذا النفي نفي للصحة.
أي نعم.
فالصلاة هنا لا تصح إذا كان الشخص محدثا مع أن…
س: الكمال؟
ج: مع أن الصلاة تقع يعني…
- أي مع أن الإنسان قد يصلي بغير وضوء.
نعم.
فتكون موجودة ، لكن نقول: هي غير صحيحة.
نعم.
س: مثال الكمال؟
ج: مثال الكمال: مثلتم بقول النبي r " لا صلاة بحضرة طعام " فقلتم: إن الصلاة موجودة، والنفي نفي للكمال، أي: لا صلاة كاملة في الأجر بحضرة طعام.
س: ولكنها صحيحة؟
ج: نعم. أي نعم ،ولكنها… الصلاة صحيحة.
طيب.
نعم.
س: قال الناظم:
والأصل في القيد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
معنى البيت؟
والأصل في القيد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
معنى البيت؟
ج: أن الأصل في القيود الاحتراز كقوله تبارك وتعالى .
س: الاحتراز يعني؟
ج: يعني: أن نُخرج الشيء الذي لا يتصف بهذا الوصف المذكور.
نعم.(6/92)
مثال قول الله تبارك وتعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } فلو أن رجلًا رمى غير محصنة فلا يحكم عليه بهذا الحكم، إنما يعزر؛ لأن الإحصان قد أتى للاحتراز .
وقد يكون الاحتراز ليس على بابه إذا أتى .
س: يعني: لا يقصد به القيد؟
ج: نعم إذا أتى كشف تعليل.
س: الاحتراز لا يقصد به القيد؟
ج: نعم لا به يقصد القيد ، ومثاله قول الله تبارك وتعالى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } فهنا لو أن لم ترد تحصنًا فلا نقول: إنها يجوز لها يعني: تبغي إذا لم ترد تتحصن، يعني: إذا هذه المرأة ما أرادت أن تتحصن فلا نقول: يجوز أن تترك تفعل البغي.
أن نكرهها.
نعم تفعل البغي إنما هذا القيد للتعليل أي للعلة هذه وليست للاحتراز .
س: هات مثالًا آخر . مثال آخر ذكرناه في الشرح؟.
ج: نعم.
س: غيرك ، غيرك يجيب؟
ج: مثل قول الله -سبحانه وتعالى- : { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فقوله " في حجوركم" هذا ليس قيد الاحتراز بدليل أن الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك قال: { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فذكر مفهوم الوصف الثاني، وسكت عن مفهوم الوصف الأول، فدّل على أنه ليس للاحتراز .
س: أيهما القيد الذي لبيان العلة؟
ج: { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ }
{ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أو ...
نعم
س: غلط ما هو { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } القيد الذي لبيان العلة لا للاحتراز.
ج: القيد هو " في جحوركم " .
{ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } نعم .
للعلّة وليست للاحتراز.
نعم، تمام .
س: قال الناظم :
وإن تعذر اليقين فارجعا
لغالب الظن تكن متبعا
معنى البيت؟
ج: معنى بيت الناظم : إذا تعذر اليقين ارجع إلى غلبة الظن.
س: هذا البيت أيش معناه؟(6/93)
ج: معناه ربما يتعذر يقين الإنسان في أي عبادة من العبادات، فإنه يرجع إلي غلبة ظنه إلى عبادة يمكن الوصول إليها.
س: أي نعم من أين أخذت القاعدة هذه؟
ج: من قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
من قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أحسنت.
س: قال الناظم:
وكل ما الأمر به يشتبه
من غير ميز قرعة توضحه
معنى البيت؟
ج: أن بعض الأشياء ربما تشتبه على الإنسان ولا تتميز إلا بإجراء القرعة.
س: أي: مثاله؟
ج: الدليل عليه يا شيخ.
س: أي مثاله، مثاله ثم الدليل .
ج: مثاله يا شيخ إذا أشكل أو تخاصم رجلان في مال ولم يترجح، ولم يتميز من هو صاحب المال، فإننا نلجأ إلى القرعة في هذه الحال.
ومثل ذلك إذن إذا تشاح رجلان في الأذان، وليست لأحدهما ميزة، فإنه يقرع بينهما كما ذكره القرآن.
س: فما هو الدليل على ثبوت القرعة؛ لأن بعض العلماء يقول: إن القرعة باطلة؛ لأنها قمار؟
ج: قول الله تعالى: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) } ومن السنة أن الرسول r كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فمن خرج سهمها خرج بها.
أحسنت.
ثم قال الناظم في الدرس الجديد:
وكل من تعجل الشيء على
وجه محرم فمنعه جلا
هذا معناه أن الإنسان إذا تعجل حقه على وجه محرم فإنه يمنع من ذلك الحق؛ لأن نعم الله -عز وجل- ورزق الله لا ينال بمعصيته. وأبرز مثال لذلك ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- في الموصى له يقتل الموصي يعني: إذا أوصى شخص لإنسان بألف ريال، ثم إن الموصى له استبطأ ?وت مورثه الذي يستحق ما أوصى له به فقتله، فإنه لا حق له في الوصية يمنع منها، وهذا من حكمة الشريعة؛ لأنه لو أبيح لإنسان أن يتعجل حقه على وجه محرم لانتهكت الحرمات؛ لأن النفوس مجبولة على الطمع والجشع .(6/94)
فإذا منع الإنسان من حق تعجله على وجه محرم، فإن ذلك يردعه عن فعل المحرم الذي يستحق به -على ما زعم- ما جعل له. ومن ذلك قتل الوارث لمورثه، فإن الوارث قد يستبطئ موت المورث، فيقتله؛ ليرث منه، فإذا فعل ذلك منعناه من الإرث بناء على هذه القاعدة: من تعجل ?ئيا قبل أوانه -على وجه المحرم- فإنه يمنع منه.
أما لو كان على وجه مباح، فإن هذا لا بأس به كمن تعجل دينا له على شخص قبل حلول أجله بوضع شيء منه مثل أن يكون له على شخص ألف ريال تحل بعد سنة، فقال صاحب الحق: أعطني ثمانمائة ريال بدلًا من الألف معجلة. فهنا تعجل شيئا قبل أوانه على وجه مباح؛ لأنه له أن يسقط ما شاء من دينه، فإذا أسقط من دينه شيئا في مقابل التعجيل فالأمر إليه؛ لأن هذا شيء مباح .
سقوط العقوبة سبب في مضاعفة الغرم:
ثم قال :
وضاعف الغرم على من ثبتت
لمانع كسارق من غير ما
عقوبة عليه ثم سقطت
محرز ومن لضال كتما
يعنى إذا اثبت على الإنسان عقوبة لتمام شروطها، ولكن سقطت العقوبة لمانع فإنه يضاعف عليه الغرم، ومثَّلوا لذلك بأمثلة منها السارق إذا سرق من غير حرز فإن الغرم يضاعف عليه، ولكن لا تقطع يده، والمانع من قطع يده هو أن المال لم يحرز، ولم يوضع في مكان يحفظ فيه عادة فيضاعف عليه الغرم، وقال بعض أهل العلم: إن الغرم لا يضاعف إلا في سرقة التمر والكثر، يعني: التمر على ?ءوس النخل، أو الكثر الذي هو الجمار من الفحال، لكن هذه القاعدة تقتضي العموم، أن كل من سرق من غير حرز، فإنه لا تقطع يده، لكن يضاعف عليه الغرم، فإذا سرق ما يساوى ألفا من غير حرز قلنا:... كذلك من كتم الضالة ضالة الإبل، فإن التقاط ضالة الإبل محرم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين " سئل عن ضالة الإبل فقال: دعها مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر "(6/95)
فإذا التقطها إنسان وكتمها فقد استحل من المال ما يحرم عليه، ولا تقطع يده، ولكن عليه الغرم لو كرهت هذه الضالة التي كتمها، فعليه قيمتها مرتين.
ومثَّل بعض العلماء بالأعور يقلع عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة مثل أن يكون الأعور يمنى عينيه سليمة، فيقلع يمنى عين شخص آخر سليم العينين، فهنا قالوا: لا تقلع عين الأعور؛ لأن قلع عين الأعور حينئذ يؤدي إلى فقده البصر بالكلية، وهو إنما قلع عين الصحيح التي لا يفوت بقلعها البصر؛ لأنه ستبقى العين الأخرى قالوا: فهذا الأعور الذي قلع عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة لا تقلع عينه، ولكن عليه دية كاملة، هذا هو المشهور من المذهب وفي المسألة خلاف .
جزء الحي المقطوع كميتته:
قال:
وكل ما أُبينَ من حي جُعلْ
كميته في حكمه طهرًا وحل
ما قطع من الحي، فإنه كميتته في الطهارة وفي الحل، إن كان مأكولًا، ولنضرب لهذا أمثلة: لو قطع بعض سمكة، فهذا حلال طاهر؛ لأن ميتة السمكة طاهر، وتؤكل كذلك ما أُبِيِنَ منها أي من السمكة، فإنه حلال طاهر مأكول .
وما قطع من الآدمي، وهو حي فإنه طاهر، لكنه لا يؤكل لحرمة الآدمي، وما قطع من البهيمة كالشاة مثلا، فإنه نجس حرام؛ لأن ميتة البهيمة كالشاة نجسة حرام. إذن ما قطع من السمكة، فهو حلال طاهر، وما قطع من الآدمي فهو طاهر وغير حلال، وما قطع من البهيمة فهو حرام ونجس؛ لأن ما أُبينَ من الحي فهو كميته، أي: ميت ذلك الحي طهرا وحل.
وقوله: "وحل" الأصل أن يقال: وحلا، لكن وقف عليها بالسكون مراعاة للروي، وهو أيضًا لغة لربيعة من العرب.
وقد استنبط بعض العلماء من هذه القاعدة المبنية على الحديث الوارد أن النبي r قال: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت " استنبط منها أن دم الآدمي طاهر؛ لأنه إذا كانت أعضاؤه المنفصلة منه طاهرة، فالدم الذي هو دون العضو للاتصال بالجسد من باب أولى.(6/96)
وهذا قياس واضح، فإن اليد مثلًا إذا قطعت ففيها دم في عروقها، ومع ذلك نقول: هي طاهرة بدمها، وهى أعظم ارتباطا بالجسد من الدم؛ لأن الدم لو نزف يخلفه غيره بخلاف العضو، ورشحوا قياسهم هذا بأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يصلون بدمائهم التي جرحوا فنزف منها الدم في مغازيهم.
كان تأتي للدوام:
ثم قال الناظم :
وكان تأتي للدوام غالبًا
وليس ذا بلازم مصاحبا
كان فعل ماض تأتي أحيانًا لإثبات الصفة اللازمة، وتأتي أحيانا لدوام الفعل، وتأتي أحيانا للغالب لا للدوام، فمن إتيان هذه الصفة قوله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) } فإن كان هنا مسلوبة الزمان فلا يقال: إن الله كان في الأزل غفورا رحيما ثم لم يكن، وإنما المراد بها هنا يعني: كان إثبات هذه الصفة ولزومها.
ومن إتيانها للدوام دون الغلبة ما جاء في أوصاف النبي r مثل: " كان دائم البشر كثير التبسم " " وكان لا ?سأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه " " وكان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله " وأشباه ذلك كثير.
ومن إتيانها على غير الدوام ما ثبت عن النبي r " أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بسبح والغاشية، وثبت أيضا أنه كان يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين " فكان هنا ليست للدوام قطعا؛ لأنه أحيانا يقرأ بهذا، ?أحيانا يقرأ بهذا فصار قول بعض العلماء كان تفيد الدوام ليس على الإطلاق، بل هذا على الغالب، وقد تخرج عنه إما لإثبات الصفة وتوكيدها وإما للغالب .
ألفاظ العموم:
ثم قال الناظم :
وإن يضف جمع ومفرد يعم
..................(6/97)
يعني: أن من ألفاظ العموم الجمع المضاف والمفرد المضاف أيضا، فمثال الأول ما جاء في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بيَّن أن هذا للعموم فقال: " إنكم إذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض " ومن الثاني يعني: المفرد المضاف أنه للعموم قوله -تبارك وتعالى-: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } إذ من المعلوم أنه لو كان المراد نعمة واحدة لأحصيت، لكنها نعمُ كثيرة لا تحصى، فيشمل كل ما أنعم الله به على الإنسان من نعمة جسدية أو دينية أو علمية أو جاهية أو غير ذلك.
إذن متى وجدنا جمعا مضافا، فهو للعموم، ومتى وجدنا مفردا مضافا، فهو للعموم، والمراد عموم المضاف لا المضاف إليه.
اسم الشرط والاسم الموصول للعموم:
...............
والشرط والموصول ذا لهم انحتم
يعني: أسماء الشروط والأسماء الموصولة انحتم لها ذلك، يعني: أنها للعموم فكل اسم شرط فهو للعموم كقول الله -تبارك وتعالى-: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وكقوله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) }
وكذلك الموصوف يفيد العموم، ولو كان مفردا مثاله: قول الله -تبارك وتعالى- : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) } فأعاد الإشارة إلى هذا المفرد بالجمع بإشارة الجمع، وهو يدل دلالة واضحة على أن اسم الموصول المفرد يكون للعموم .
النكرة بعد إثبات:
منكر إن بعد إثبات يرد
فمطلق .................(6/98)
يعني: أنه إذا أتت النكرة بعد إثبات فإنها مطلقة، وليست عامة. مثال ذلك: إذا قلت: رأيت رجلًا، فرجل نكرة جاءت في سياق الإثبات، فلا تدل على أنك رأيت كل رجل؛ لأن النكرة في الإثبات مطلقة، وليست عامة، فإذا قلت: رأيت رجلًا فإنه لا يعم كل رجل لكنه يعم رجلًا غير مقيد لكونه مجتهدا أو عالما أو كبيرا أو عابدا ?لا مطلقة.
............
من بعد نفي...
......وللعموم إن يرد
...............
نفي استفهام شرط، يعني: أن النكرة إذا وردت بعد النفي أو النهي أو الاستفهام أو الشرط فهي للعموم، فإذا جاءت بعد النفي فهي للعموم. مثل: أن تقول ما رأيت رجلًا، فهنا تعم كل الرجال؛ لأنها وردت بعد النفي ومن بعد النهي إذا قلت: لا تهن مسلما، فإنه يعم كل مسلم، يعني: يعم النهي عن إهانة عن كل مسلم، ومن ذلك قوله تعالى: { * وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } لأن شيئا نكرة في سياق النهي تعم أي شيء، ولا تشركوا بالله شيئا من الملائكة أو الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو الشمس أو القمر أو غير ذلك.
كذلك إذا جاءت بعد الاستفهام الإنكاري مثل قوله تعالى: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ } لأن أحدًا نكرة في سياق الاستفهام فتعم، وكذلك أيضا بعد الشرط إذا جاءت نكرة بعد الشرط فهي للعموم، مثل قوله تعالى: { أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } ومثل قوله تعالى: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }
وإن كان هذا فيه أيضا صيغة أخرى وهي " من " لكن " من " عامة في الآمر ?"سوءا في المأمور".
وفي الإثبات للإنعام أي إذا جاءت في الإثبات للإنعام فهي أيضا للعموم كأن تقول " لله عليَّ نعمة " ولم تقيدها بواحد فهي للعموم قال :
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
واعتبر العموم في نص أثر
أما خصوص سبب فما اعتبر(6/99)
يعني: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا ورد نص عام على سبب خاص فالعبرة بالعموم مثال ذلك قول الله -تبارك وتعالى- { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فهذا عموم لكن سببه ظهار أوس بن الصامت من امرأته في عهد النبي r .
فالسبب خاص لكن الحكم لا يختص به، بل هو عام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن الناظم استثنى قال :
ما لم يكن متصفا بوصف
يفيد علة فخذ بالوصف
فإذا كان سبب الحكم متصفا بوصف مناسب يفيد العلة، فيجب اعتباره مثال ذلك أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: " ليس من البر الصيام في السفر " فنفى أن يكون الصيام في السفر من البر، لكن هذا ليس عاما في كل صوم، بل في الصيام الذي يكون منه الأثر كالأثر الذي حصل لهذا الصائم، فإذا كان المسافر يشق عليه الصوم كما شق على هذا الرجل، فإننا نقول له: إن صومك ليس من البر.
أما إذا كان لا يؤثر عليه فإنا نقول: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر، والصوم مع عدم المشقة أفضل؛ لأن ذلك فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. قال :
وخصص العام بخاص ورد
ما لم يكن التخصيص ذكر البعض
كقيد محدث بما قد قيدا
من العموم فالعموم أمض
يعني: إذا ورد نص عام، وذكر بعض أفراده بحكم يوافق ذلك العام، فإنه لا يعتبر تخصيصا، فإذا قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم محمدا، ومحمد منهم، فإن هذا لا يقتضي تخصيص العموم السابق، وألا يكرم إلا محمد؛ لأن هذا ذكر لبعض أفراد العموم في حكم دليل العموم، وهذا لا يقتضي التخصيص.
أما إذا كان في حكم مخالف، فإنه يقتضي التخصيص، فإذا قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: لا تكرم زيدا، وزيد منهم، فهناك صار التخصيص فيكون قولنا: أكرم الطلبة مخصوصا بقولنا: لا تكرم زيدا .(6/100)
وإلى هنا ينتهي هذا النظم الذي أسأل الله تعالى أن يكون مباركا نافعا لحافظه وقارئه ومتدبره إنه على كل شيء قدير .
والآن أتى دور الأسئلة .
س: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول: استثنى بعض الفقهاء من البائن من الحي الذي يحكم بأنه ميتة استثنى منه الطريدة، فما معناها؟ وما الدليل على استثنائها؟ وجزاكم الله خيرا .
ج: أي نعم استثنوا الطريدة، وكذلك المسك وفأرته، فالطريدة أن يطرد القوم المسافرون صيدا، ولا يدركونه إلا أن يقطعوه كل واحد قطع جزءا حتى مات فهذا جائز، واستدل الإمام أحمد -رحمه الله- بذلك بأن المسلمين كانوا يفعلونه في مغازيهم يطردون الظباء أو غيرها، فلا يدركونها، ثم كل واحد ?نهم يقطع شيئا، ثم تموت، فهذه حلال.
ودليلها فعل الصحابة -رضي الله عنهم- وأن بعضهم لا ينكر على بعض أما المسك وفأرته، فهناك نوع من الظباء يجرب على وجه معين فيخرج منه دم، ثم يشد هذا الدم الخارج، وأريد بخروج الدم منه أنه يطفو على جلده من الداخل، فيحبسون هذا الدم، ويشدونه بخيط قوي حتى ييبس هذا المحبوس، ثم ينفصل من الجلد، ويقال: إن هذا الدم من أحسن أنواع المسك مع أنه كان في الأول دما، فالجلد الذي انفصل وما فيه من الدم الذي صار طيبا حلالا، وفي ذلك يقول المتنبي لممدوحه:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
س: نعم أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: فضيلة الشيخ البنك يمنح من أودع عنده مالًا بطاقة للسحب، ويستطيع أن يسحب من أي دولة خارج دولته، ولكن الآلة تصرف له نقود الدولة التي تم السحب فيها. فهل هذا جائز مع الحاجة لذلك وجزاكم الله خيرا ?.(6/101)
ج: إذا لم يمكن إلا هذه الطريقة فلا بأس . وإن أمكن سواها بحيث يودع الإنسان في بلده نقود البلد التي يريد السفر إليها، ثم يسحبها هناك، فهذا هو الواجب إذا أمكن أو تسحب النقود التي في بلده، وهناك في البلد الثاني تقع المصارفة بين الساحب والبنك الذي هناك بسعر وقته ومكانه، فإذا لم يمكن هذا ولا هذا فأرجو -إن شاء الله- أن يكون ما ذكره السائل جائزا . نعم .
س: أحسن الله إليك هذا يقول: ما حكم التبرع بأعضاء الجسم كالكلية مثلًا وغيرها؟ وما حكم شراء هذه الأعضاء إذا كان المريض محتاجا لذلك، وهل يجوز أخذها ممن قارب على الهلاك ?.
ج: الذي أرى أنه لا يجوز التبرع بالأعضاء مطلقا لا من حي ولا من ميت، وقد ذكر صاحب الإقناع...... شيئا من أعضائه قال: ولو أوصى به فإن وصيته لا تنفذ؛ لأن الأجسام أمانة في الداخل، ولا يجوز التفريط في هذه الأمانة، وكسر عظم الميت ككسره حيا، وما استحسنه بعض المتأخرين من جواز التبرع بالعضو إذا لم يكن على المتبرع ضرر، وكان فيه مصلحة للآخر المتبرع له، فهو استحسان نرى أنه ليس بحسن؛ لأنه مخالف لظاهر النصوص.(6/102)
ثم نقول: إن تجويز هذا أدى إلى مفسدة، فقد سمعنا في غير البلاد الإسلامية يخطفون الصغار، ويذبحونهم، ويأخذون من أعضائهم ما يمكن أن يبيعوه بأغلى الأثمان، وهذه مفسدة عظيمة، ثم إن التبرع بالعضو مفسدته محققة؛ لأن المتبرع سيفقد عضوا خلقه الله -عز وجل- ولم يخلقه الله عبثا، بل لا بد له من فائدة، وربما يتبرع بإحدى الكليتين مثلًا، ثم تتعطل الباقية، فيؤدى ذلك إلى الهلاك، ثم زرعها في الجسد الآخر ليس مضمونا مائة في المائة، بل إذا نجح، فإنه يحتاج أيضا إلى تناول أدوية باستمرار أو على زمن طويل، فالذي أرى: وجوب حماية الأجساد، أجساد المسلمين أو من له ذمة واحدة، وأنه لا يجوز لأحد أن يتبرع لأحد، ولو كان أباه أو ابنه. نعم لو وجد الإنسان هذا الشيء هذا العضو مبذولًا فهنا قد يقال: إنه يجوز أخذه بعوض. نعم .
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول ما حكم أكل لحم الغزال الذي دهس بالسيارة مع العلم بأنه قد فارق الحياة قبل أن يزكى نرجو التوضيح ؟.
ج: أكل هذا حرام يعني: الظبي أو الظبية الذي دهس بالسيارة، ولم يزك قبل موته حرام؛ لقول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } نعم .
س: وهذا يا شيخ سائل يقول: أحسن الله إليك، رجل تزوج، ثم ترك زوجته وسافر طالبا للعيش- نعم- فطوّل ولم يعد، وأخبرت زوجته أنه قد مات، فقضت العدة ، وتزوجت ثم بعد ما يقارب ثلاثة أسابيع رجع الزوج الأول، فلمن تذهب الزوجة، إلى الزوج الأول أم الثاني أفتونا مأجورين؟.(6/103)
ج: يكون الذهاب للزوج الأول، إن شاء أجاز العقد، ورجع على الزوج الثاني بمهره الذي أعطاه المرأة، أو بمهر مثلها في وقته ذلك، وإن اختار أخذها من الثاني، ولا يرجع الثانى عليه بشيء؛ لأن الثاني تزوجها وهو مخاطر في الحقيقة؛ فإن زوجها قد يحضر، والصحيح أنه لا فرق بين كون ذلك بعد جماع الثاني أو قبله؛ لأن ظاهر النصوص الواردة عن الصحابة لا تفصيل فيها . نعم .
س: هذه يا شيخ -أحسن الله إليك- سائلة تسأل عن حكم الرقص في المناسبات باستعمال الدّف؟ .
ج: أما استعمال الدّف فلا بأس به، بل هو سنة في ليالي الزفاف، أي أيام الأعراس بشرط ألا يصحبه غناء سافل أو أصوات دقيقة عالية تفتن ?ن سمعها، وأما الرقص فلا أراه، أي لا أرى للمرأة أن ترقص؛ لأننا سمعنا بعض القضايا التي تؤدي إلى أمر مكروه . نعم .
س: أحسن الله إليك، سائلة أخرى تقول: جاءتني العادة الشهرية، ومضت سبعة أيام، وبعدها أتت علامة الطهر بعد المغرب، وفي اليوم التالي أتاني على شكل شعيرات من الدم بعد العصر، فهل أصلي أم لا، والله يرعاكم ?.
ج: نعم تصلي؛ لأن هذه الشعيرات الحمراء لا تعد حيضا، فهي من جنس الصفرة والكدرة، وقد قالت أم عطية -رضي الله عنها- "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا" . نعم.
س: أحسن الله إليك يقول: إذا كنت في المسجد ثم خرجت -أعزكم الله- إلى دورة المياه، ورجعت فهل علي أن أصلي تحية المسجد؟ .
ج: ليس عليك أن تصلي تحية المسجد؛ لأنك خرجت بنية الرجوع في وقت قصير، وهذا الخروج لا يعتبر خروجا من المسجد حكما، بدليل أن المعتكف إذا خرج لقضاء حاجته، ورجع عن قرب لم يبطل اعتكافه، بل يبني على ما مضى من اعتكافه، ولو كان مثل هذا الخروج يعد خروجا عن المسجد حكما لبطل الاعتكاف، ومثل ذلك لو خرج من المسجد ليأتي بكتابه يدرس به، وكان ذلك في مدة قصيرة، فإنه لا يصلي تحية المسجد .
نعم. ولو صلى لا حرج، لكن لا نطلب منه تحية مسجد كتحية من دخل لأول مرة . نعم .(6/104)
س: أحسن الله إليك، يقول: حججت هذا العام مع حملة، وعند المبيت بالمزدلفة أرادوا الخروج منها قبل الفجر في منتصف الليل، وذهبت معهم مع أنه لم يكن معي نساء، فذهبت مع باقي الحملة، فهل يلزمني شيء، وهل فعلي صحيح؟ .
ج: لا يلزمه شيء، لكن ما ?دري هل خرجوا من مزدلفة بعد أن مضى أكثر الليل، فإذا كان خرجوا من مزدلفة بعد أن مضى أكثر الليل، فلا بأس في مثل هذه الأيام؛ لأن هذه الأيام الزحام شديد، وكل واحد ممكن أن يكون له عذر، وقد أذن النبي r للنساء أن يدفعن من مزدلفة في آخر الليل، وكانت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- تأمر غلامها أن يشاهد القمر فإذا غاب دفعت . نعم .
-أحسن الله إليك، هذا يقول: ليس معه نساؤه يا شيخ .
لا يضر هو مع صحبته مع رفقته، وتخلفه عنهم ربما يشق عليه، ربما يضيع عنهم، ثم إننا أشرنا إلى أننا في هذه الأيام الزحام، وهو مشقة حاصل لكل أحد حتى للرجال الأقوياء . نعم .
-يا شيخ، يقول: إن الحملة أبقوا باصا لمن أراد المبيت.
أيش؟ .
-الحملة يقول أبقوا يعني: شاحنة لمن أراد أن يبيت يعني: يكمل الليل .
أرى أن هذا فرصة وغريب، وكان عليه لما أبقوا الباص لمن يبيت أن يبيت، لكني لا أرى أن يجب عليه الدم لما فعل، وأرجو الله تعالى أن يتقبل منه . نعم .
س: أحسن الله إليك يقول: رجل دخل مع جماعة، وهو مسافر بحيث إنهم كانوا يصلون المغرب، وهم سائرون في الطريق، ولكنّه يصلي العشاء، فجلس بعد الثانية، وقاموا هم للثالثة، فلما جلسوا للتشهد سلّم معهم، فهل فعله صحيح؟.
ج: نعم فعله صحيح، لكن خير من ذلك أنه لما قام الإمام للثالثة أن ينوي الفراق، ويصلي ركعتين، ولعلّ قائلا يقول: لماذا لا نجعله يتم مع الإمام صلاة المغرب ثم يأتي بركعة؟ لأن من ائتم بمن يتم الصلاة لزمه أن يتم معه . والجواب عن هذا أن نقول: إن صلاة المغرب ثلاث ركعات وصلاة العشاء أربع اختلفت الصلاتان، فله إذا قام أمامه أن ينفرد ويسلم . نعم .(6/105)
س: أحسن الله إليك، يا شيخ ليس سؤالًا إنما هو طلب، أحد الإخوة من مدينة الأفلاج يقول: إن مدينة الأفلاج بعيدة عن العلماء، وأهلها متعطشون لزيارة سماحتكم فما رأيكم بارك الله فيكم.
والله أرى أن يعذروني؛ لأن أشغالنا كثيرة، وعندنا طلبة كثيرون، ولا نحب أن نتأخر عنهم، فيلحقهم الكسل .
الوقت انتهى الآن.
بقي سؤال يا شيخ : نعم.
س: هذا يقول والدي رجل كبير في السن ولديه بعض الأملاك، وفي الآونة الأخيرة تسلمت إدارة الأملاك، وهو لا يؤدي زكاتها مطلقا، وهناك عدة أسئلة حول هذا الموضوع .
الأول: هل يجب علي إخراج زكاتها -دون علمه؛ لأنه إذا علم فلن يرضى مطلقا بذلك- وأوزعها على المحتاجين ?.
ج: إذا كانت الوكالة مطلقة بأن تعرف بأنك وكيل عنه في كل شيء، فله أن يخرج الزكاة، أما إذا كانت الوكالة تعني الوكالة في تدبير هذه الأملاك، فهي عنه شراء وتأجيرا، فإنه لا يملك إخراج الزكاة إلا بتوكيل من أبيه . نعم.
س: ويقول أيضا: إن هذا الوالد لا ينفق على البيت، وأنا ساكن معهم، وأقوم في أكثر الأحيان بالصرف عليهم؛ نظرا لأني موظف، ولكنّي في بعض الأحيان لا أستطيع؛ لأن عليّ دينا يقول: هل يجوز لي أن آخذ بقدر ما يكفي البيت وأنفق عليه بدون علمه .
ج: نعم يجوز له أن يأخذ من مال أبيه ما ينفقه على بيت أبيه بدون علمه . نعم .
س: هذا السائل يقول: بعض الأوقات تأتيني ضائقة مالية، ولا يكون أمامي إلا أن ألجأ إلى هذا المال مع النية الصادقة في إرجاعه في أقرب وقت، فهل يحل لي ذلك بدون علمِه؟ .
ج: لا يحق لا يحل له أن يأخذ من المال الموكل فيه إلا بعد موافقة الموكل؛ لأنه أمين، والأمين لا يتصرف لمصلحة نفسه . نعم .
س: والفقرة الأخيرة يقول: وهو لا يتم الصلاة، ويتحجج بسلس البول، ويؤديها في البيت، وإذا سألته قال: صلّيت وأنا متأكد أنه لم يصلّ، وإذا صلّى فإنه لا يؤديها بالصورة الصحيحة، بل ويشغل المصلّين بعدم حسن صلاته .
أيش، أيش ?(6/106)
بل ويشغل المصلين بعدم حسن صلاته، ولم ينفع تعليمي له ونصحي له، بماذا تنصحني جزاك الله خيرا، وأرجوك في نهاية هذا أن تدعو له.
اللهم اهدنا وإياه، الواجب عليه إذا كان يتأذى الناس به بحضوره المسجد، أو يتأذى المسجد بحضوره أن يصليها في البيت، ويجب عليه أن يصلّي على حسب حالته، وسلسل البول لا ?منع الصلاة فإنه يستطيع أن يتوضأ بعد دخول وقت الصلاة، ويتحفظ ويصلّي الصلاة، ويجمع إذا كان يشق عليه أن يصلّي كل صلاة في وقتها، فالأمر واسع ولله الحمد. نعم .(6/107)