{ بسم الله الرحمن الرحيم }
- الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
لقد يسر الله تعالى شرح منظومة القواعد الفقهية للشيخ السعدي رحمه الله تعالى في الدورة العلمية المقامة في الفترة ما بين 28/4-10/5 هـ في جامع الحبيب في الموطأ في مدينة بريدة تزامن مع ذلك إقامة دورة أخرى في نفس المنظومة لمجموعة من طالبات العلم في القسم النسائي في مركز توعية الجاليات في مدينة بريدة, ولرغبة كثير من الإخوة والأخوات طباعتها قامت بعض طالبات العلم بإخراجها بعد طباعتها.
أسأل الله أن ينفع بها وأن يجزي خيرا من أعان على نشرها.
والله تعالى أعلم.
وكتبه
خالد بن إبراهيم الصقعبي
منظومة
القواعد الفقهية
للشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله
ابن ناصر السعدي
((رحمه الله ))
( 1307 – 1376 هـ )
وجامعِ الأشياءِ والمفرِّقِ ... 1. الحمدُ للهِ العليّ الأرفقِ
والحكَمِ الباهرةِ الكثيرة ... 2. ذي النّعمِ الواسعةِ الغزيرة
على الرسولِ القُرَشِي الخاتِمِ ... 3. ثم الصلاةُ مع سلامٍ دائمِ
الأبرارِالحائزي مراتبَ الفخارِ ... 4. و آلهِ وصحبهِ الأبرارِ
علمٌ يُزيل الشكَ عنك والدّرنْ ... 5. اعلم هُديتَ أَن أفضل المِنَنْ
وَيُوصِلُ العَبْدَ إلى المطلوبِ ... 6. وَيكشفُ الحقَ لذي القلوب
جامعةِ المسائلِ الشواردِ ... 7. فاحرصْ على فهمك للقواعدِ
وتقتفي سبل الذي قد وفقا ... 8. فترتقي في العلم خيرمرتقى
من كتب أهل العلم قد حصلتها ... 9. هذه قواعد نظمتها
والعفو مع غفرانه والبر ... 10. جزاهم المولى عظيم الأجر
بها الصلاح والفساد للعمل ... 11. النية شرطٌ لسائر العمل
في جلبها والدرء للقبائح ... 12. الدين مبنىّ على المصالح
يقدم الأعلى من المصالح ... 13. فإن تزاحم عدد المصالح
يرتكب الأدنى من المفاسد ... 14. وضدّه تزاحم المفاسد
في كل أمر نابه تعسير ... 15. ومن قواعد الشريعة التيسير(1/1)
ولا محرم مع اضطرار ... 16. وليس واجب بلا اقتدار
بقدر ما تحتاجه الضرورةْ ... 17. وكل محظور مع الضرورةْ
فلا يزيل الشك لليقين ... 18. وترجع الأحكام لليقين
والأرض والثياب والحجارة ... 19. والأصل فى مياهنا الطهارة
والنفس والأموال للمعصوم ... 20. والأصل في الابْضاع واللحوم
فافهم هداك الله مايملُ ... 21. تحريمها حتى يجىء الحِلُ
حتى يجيء صارف الإباحة ... 22. والأصل في عادتنا الإباحة
غيرُ الذي في شرعنا مذكورْ ... 23. وليس مشروعاً من الامورْ
واحكم بهذا الحكم للزوائد ... 24. وسائل الأمور كالمقاصد
أسقطه معبودنا الرحمان ... 25. والخطأ والإكراه والنسيان
وينتفي التأثيم عنه والزلل ... 26. لكن مع الإتلاف يثبت البدل
يثبت لا إذا استقل فوقع ... 27. ومن مسائل الأحكام في التبع
يثبت لا إذا استقل فوقع ... 28. والعُرف معمول به إذا وردْ
قد باء بالخسران مع حرمانه ... 29. معاجل المحظور قبل آنه
أو شرطه ، فذو فساد وخلل ... 30. وإن أتى التحريم في نفس العمل
بعد الدفاع بالتي هي أحسنُ ... 31. ومتلف مؤذيه ليس يضمنُ
تعطي العموم ، أوسياق النهى ... 32. والنكرات في سياق النفي
في الجمع والإفراد كالعليم ... 33. وأل تفيد الكل فى العموم
كل العموم يا أخي فاسمعا ... 34. كذاك (منْ) و(ما) تفيدان معا
فافهم هديت الرشد ما يضاف ... 35. ومثله المفرد إذ يضاف
كل الشروط والموانع ترتفع ... 36. ولايتم الحكم حتى تجتمع
قد استحق ماله على العمل ... 37. ومن أتى مما عليه من عمل
وهي التي قد أوجبت لشرعته ... 38. وكل حكم دائرٌ مع علّتِه
في البيع والنكاح والمقاصد ... 39. وكل شرط لازم للعاقد
أو عكسه فباطلات فاعلما ... 40. إلا شروطاً حللت محرما
من الحقوق أو لدى التزاحم ... 41. تستعمل القرعة عند المبهم
وفعل إحداهما فاستمعا ... 42. وإن تساوى العملان اجتمعا
مثاله المرهون والمُسبّلُ ... 43. وكل مشغولٍ فلا يشغل(1/2)
له الرجوع : إن نوى يطالبا ... 44. ومن يؤد عن أخيه واجبا
كالوازع الشرعي بلا نكران ... 45. والوازع الطبعي عن العصيان
في البدء والختام والدوام ... 46. والحمد لله على التمام
على النبي وصحبه والتابع ... 47. ثم الصلاة مع سلام شائع
الحمد لله القائل { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (1)
والصلاة والسلام على إمام العلماء مُورَث الفقهاء القائل { من يرد الله به خيراً يُفقه في الدين } (2).
وعلى أله وصحبه الدعاة العاملين والعالِمين المُبلِغين وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
فإن علم القواعد الفقهية من أعظم علوم الشريعة وأهمها للفقيه والمفتي والقاضي والحاكم, وبه تتدرب مدارك طلاب العلم ويفتح لهم بها آفاق المسائل وتشعبات الفروع, وهو الأرض الصلبة التي ينطلقوا منها للاستنباط والنظر والاستدلال مع توقدٍ في ملكة الفهم والاستعاب لإدراك معاني النصوص وفقهها, وكل هذا يتأتى إليهم وزيادة عليه بإتقان قواعد هذا العلم حفظاً وفهماً, والتوسع في دراستها ومدارستها.
وسعياً لتحقيق ما ذُكر لطلاب العلم وطالباته في هذه المنطقة قام فضيلة الشيخ خالد الصقعبي وفقه الله تعالى بشرح)منظومة القواعد الفقهية), وقد أذن مشكوراً بإخراج ما تفضل بشرحه "وهي هذه المذكرة التي بين أيدينا" بعد مراجعتها وتنقيحها.
نسأل الله تعالى أن يجزل لشيخنا المثوبة ويبارك في علمه وعمله.
وأن يفقهنا في دينه وأن يرزقنا الإخلاص والعمل, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وآخر دعوانا أن لله الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) المجادلة: من الآية11)
(2) الراوي: عبدالله بن عباس - خلاصة الدرجة: صحيح على شرط الشيخين - المحدث: الوادعي - المصدر: الصحيح المسند - الصفحة أو الرقم 618(1/3)
القواعد في اللغة: جمع قاعدة, ومعنى القاعدة أصل الأس, وأساس البناء والقواعد الأساس, وقواعد البيت أساسه ومنه قوله تعالى { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } (1) وقوله تعالى { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } (2).
اصطلاحاً: حكم أغلبي ينطبق على معظم جزيئاته لتعرف أحكامها منه.
حكم: الحكم هو إضافة شيء إلى شيء أو نفيه كقولك(الرجل قائم) هذا حكمه(الربا حرام) أضفت الحرمة إلى الربا فهذا حكمه.
أغلبي: والمراد بالأغلبي أي أنه لا ينطبق على معظم جزيئاته, وإنما المراد أنه يأتي على أكثر فروعه.
وقال أغلبي: ليخرج بذلك القواعد الأصولية لأنها قواعد كلية تنطبق على جميع أجزائها وفروعها مثل{الأمر يقتضي الوجوب} فهذه قاعدة أصولية, فكل أمر الأصل أنه للوجوب. أما القواعد الفقهية فهي أغلبية لا تأتي على جميع الفروع وإنما على بعض أبوابه, ولذلك القواعد الفقهية الأصل إعمالها, ولكن حينما نأتي على كتب القواعد وكتب الفقه نجد أن هناك بعض الفروع الفقهية التي هي من صميم وتطبيقات هذه القاعدة ولكنها لا تدخل فيها ولا يحتاج إخراجها إلى دليل, وإنما لكونها أكثر شبهاً بقاعدة أخرى, فهذا كافٍ في عدم دخولها في هذه القاعدة.
"ينطبق على معظم جزئياته":
__________
(1) البقرة: من الآية127)
(2) النحل: من الآية26)(1/4)
هذا بمعنى قوله أغلبي. وكما تقدم أن القاعدة الأصولية تنطبق على كل جزئياته. وقوله على معظم جزئياته نستفيد أن الأكثر والأغلب أنه في القاعدة, ولذلك كان خروج بعض الفروع الفقهية على سبيل الاستثناء, بينما لا تجد في كتب أصول الفقه بأي حال من الأحوال قاعدة ثم يقول لق المستثنيات, لأن القاعدة الأصولية لا يخرج منها شيء إلا بدليل من كتاب أو سنة أو نحو ذلك, بينما القواعد الفقهية حتى الكبار تجد أن العلماء حينما يؤصلونها ويتكلمون عنها يختمون المسألة بقولهم "ما يستثنى من القاعدة" إشارة إلى أنها لا تحوي جميع الفروع.
"لتعرف أحكامها منه": هذه الجزئية من التعريف هي ثمرة القواعد الفقهية, لتعرف الأحكام من هذه القواعد فإن الإنسان ربما يسأل عن مسألة فقهية وقد لا يكون مستحضراً في كثير من الأحيان للدليل فتأتي هذه القاعدة كالدليل.
مسألة: (الفرق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية)
أول من فرق بين قواعد هذين العلمين وميز بينهما هو الإمام شهاب الدين القرافي من علماء المالكية وذلك في مقدمة كتابه الفروق.
والفروق كثيرة لكنها تتركز في محورين أساسيين هما:
أ) أن القواعد الأصولية شاملة وعامة لجميع أحكام الشريعة. مثل{النهي يقتضي التحريم} هذه القاعدة الأصولية ليست خاصة بالفقه وإنما هي عامة تدخل في الفقه والتفسير والحديث والعقيدة كما في قوله تعالى { وَلا تُسْرِفُوا(1) } فالنهي هنا للتحريم. أما القواعد الفقهية فهي خاصة بالفقه فقط.
ب) أخص من الفرق الأول, وهو أن القواعد الأصولية كما تقدم قواعد عامة كلية معنى ذلك أنها تشمل جميع ما يدخل تحتها من فروع, بينما القواعد الفقهية تتناول أغلب الفروع أي أن القاعدة الفقهية تتناول أغلب الفروع الداخلة تحتها, مثلاً{الأمر يقتضي الوجوب} هذه قاعدة أصولية كما تقدم فليس هناك أمر نحمله على غير الوجوب إلا بدليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب مثلاً.
__________
(1) الأنعام: من الآية141)(1/5)
فرع: (الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي)
القاعدة الفقهية: لها صور في أغلب أبواب الفقه مثال ذلك{لا عمل إلا بنية} هذه تأتي في باب الطهارة وفي كتاب النكاح والجنايات وتأتي في باب الحدود والقصاص ونحو ذلك.
أما الضابط الفقهي: فإنه يتعلق باب واحد من أبواب الفقه فكلاً من القواعد الفقهية والضابط الفقهي يختصان بجانب الفقه لكن ضابط الفقه معلق بباب واحد من أبواب الفقه مثال ذلك{ما صح في الفريضة صح في النافلة} هذه في الصلاة فقط مع أن الضابط الفقهي يشارك القاعدة بكونه أغلبي ولكنه لا يحوي ألفاظ ومسائل الفقه وأنما تكون رحاه دائرة على باب واحد من أبواب الفقه.
مسألة: (ميز القواعد الفقهية, ومكانتها في الشريعة, وفؤائد دراستها).
أما الميز فهي على ما يلي:
1) أنها قواعد كثيرة جداً وغير محصورة بعدد, وهي منثورة في كتب الفقه العام والفتاوى والأحكام.
2) أنها تمتاز يإيجاز عبارتها مع عموم معناها وسعة استيعابها للمسائل الجزئية فهي قاعدة من كلمة أو كلمتين كقاعدة {الأعمال بالنيات},{الأمور بمقاصدها},{المشقة تجلب التيسير} ومع ذلك يندرج تحتها ما لا يحصيى من المسائل الفقهية المختلفة.
3) أنها تمتاز بأن كلاً منها ضابط يضبط فروع الأحكام العلمية, ويربط بينها برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها وأبوابها مثل:
{المشقة تجلب التيسير} فهذه في كتاب الطهارة "التيمم إذا عدم الماء أو عند عدم القدرة على استعماله". وهذه في كتاب الصلاة "الجمع والقصر في السفر" على القول بأن علة الترخيص في السفر المشقة وهي علة مضطربة كما سيأتي. وفي كتاب الصيام يرخص للإنسان أن يفطر في حال السفر. وفي كتاب الحج "المرأة إذا لم تستطع الرمي لأي سبب من الأسباب يرمي عنها وليها".
فهذه القاعدة في موضوعات مختلفة في كتاب الطهارة والصلاة والصيام والحج ومع ذلك تربط بينها هذه القاعدة.
أما فؤائد القواعد الفقهية فهي:(1/6)
1) أنها حاصرة وهذا الحصر يغني طالب العلم عن الكثير من التتبع, قال القرافي رحمه الله تعالى: من ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لإندراجها في الكليات.
2) أنها تربي في طالب العلم ملكة الفهم والاستنباط والنظر والاجتهاد في الفروع الفقهية بحيث لا يغدو طالب العلم حافظاً فقط لكتب الفروع وإنما يتربى على ضم المسألة إلى مثيلاتها ونظيراتها وما يشابهها وهذا يفيد الطالب في إبعاده عن الجمود الفكري والنظر الفقهي فينتقل على إثر ذلك من مرحلة التقليد لغيره إلى مرحلة أوسع وهي مرحلة أوسع وهي مرحلة الاستدلال والنظر.
3) أن دراسة القواعد الفقهية والإلمام بها واستيعابها مما يعين القضاة والمفتين والحكام عند البحث عن حلول للمسائل المعروضة والنوازل الطارئة بأيسر سبيل وأقرب طريق, ولذلك قال بعضهم: إن حكم دراسة القواعد الفقهية والإلمام بها على القضاء والمفتين فرض عين وعلى غيرهم فرض كفاية.
4) لما كانت القواعد الفقهية في أكثرها موضع اتفاق بين الأئمة المجتهدين حتى ومواضع الخلاف فيها قليلة, فإن دراسة القواعد الفقهية والإلمام بها تربي عند طالب العلم ملكة المقارنة بين المذاهب المختلفة وتوضح لها وجهاً من وجوه الاختلاف وأسبابه بين المذاهب.
مسألة: (مصادر القواعد الفقهية)
والمقصود بذلك منشأ كل قاعدة وأساس ورودها.
وهي تنقسم إلى ثلاث أقسام:
القسم الأول: قواعد فقهية مصدرها من النصوص الشرعية الكتاب والسنة, ولذلك نجد أن بعض القواعد جزء من آية أو حديث فمن الآيات التي جرت مجرى القواعد مثل قوله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } (1), فهذه الآية على وجازة لفظها جمعت أنواع البيوع. ما أحل الله وما حرم عدا ما استثني.
__________
(1) البقرة: من الآية275)(1/7)
ومن السنة كمثل قوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار } رواه أحمد وابن ماجه في سننه. فهذه قاعدة وهي جزء من الدليل. وقوله { كل مسكر خمر } رواه البخاري ومسلم.
القسم الثاني: ما كان من غير المنصوص ولكنها أتت بمعنى الدليل مثال ذلك{الأمور بمقاصدها} هذه ليست بدليل ولكن الدليل دل عليها وهو قوله عليه الصلاة والسلام { إنما الأعمال بالنيات } رواه البخاري ومسلم, وكقولهم{العادة محكمة} مأخؤذه من قوله تعالى { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(1) } والعرف هو العادة.
القسم الثالث: أن تكون القاعدة ليست دليلاً ولا بمعنى وإنما الدليل دل عليها كقوله {الأصل في الأشياء الإباحة} فهذه القاعدة لم يرد فيها نص ولا بمعناه ولكن الدليل قام عليها فهذه مأخؤذة من قوله تعالى { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً { (2) } هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } (3).
مسألة: هل يجوز أن نجعل القاعدة الفقهية دليلاً شرعيا يستنبط منه حكم شرعي؟
هنالك أقوال لأهل العلم وهي بمجموعها تفيد أنه لا يسوغ اعتبار القواعد الفقهية أدلة شرعية لاستنباط الأحكام لسببين:
أ)أن هذه القواعد ثمرة للفروع المختلفة وجامع ورابط لها وليس من المعقول أن يُجعل ما هو ثمرة وجامع دليلاً لاستنباط أحكام الفروع.
ب) أن معظم هذه القواعد لا تخلو من المستثنيات, فقد تكون المسألة المبحوث عن حكمها من المسائل والفروع المستثناة.
__________
(1) لأعراف:199)
(2) الأنعام: من الآية145)
(3) البقرة: من الآية29)(1/8)
ولذلك لا يجوز بناء الحكم على أساس هذه القواعد, ولكنها تعتبر شواهد مصاحبة للأدلة يستأنس بها في تخريج الأحكام للوقائع الجديدة قياساً على المسائل الفقهية المدونة. ولكن هذا لا يؤخذ على إطلاقه, وقد مرَ معنا أن من القواعد الفقهية ما كان أصله ومصدره من كتاب الله تعالى أو من سنة صلى الله عليه وسلم أو يكون مبنياً على أدلةٍ واضحة من الكتاب والسنة المطهرة أو مبنياً على دليل شرعي من الأدلة المعتبرة عند العلماء, أو تكون القاعدة مبنية على الاستدلال القياسي وتعليل الأحكام. فهذه أدلة شرعية, وقواعد فقهية يمكن الاستناد إليها في استنباط الأحكام وإصدار الفتاوى وإلزام القضاء بها.
كتب في القواعد
1- القواعد في الفقه/ للإمام ابن رجب الحنبلي, وهذا كتاب جم الفؤائد.
2- المنثور في القواعد الفقهية/ للإمام بدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي الشافعي المتوفي سنة 794هـ.
3- كتاب الأشباه والنظائر/ لجمال الدين عبدالرحيم بن حسن بن علي الأسنوي الشافعي.
4- كتاب الأشباه والنظائر/ لابن الملقن.
5- المدخل الفقهي العام/لمصطفى الزرقاء الحلبي.
6- القواعد في الفروع/لعلي بن عثمان الغزي الدمشقي الحنفي شرف الدين, المتوفى سنة799هـ.
- من ضمنها هذه المنظومة للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي عليه رحمه الله تعالى الحنبلي المتوفي سنة1376هـ.
وبعون الله تعالى نشرع في المنظومة:
مقدمة القواعد الفقهية
البداءة في الخطب بحمد الله - عز وجل -
- 1 -
الحمد لله العلي الأرفق ... وجامع الأشياء والمفرق
من البيت الأول إلى البيت السابع لن نتوقف عندها كثيراً لأنها ليست من القواعد الفقهية بل هي مقدمة.
قوله الحمد:
الحمد هو ذكر صفات المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله, فإن تجرد عن ذلك فهو مدح.
وقال بعض العلماء: هو الثناء بالذكر الجميل. والأول أرجح.(1/9)
والفرق بين الحمد والمدح: الحمد والمدح كلاهما فيه ذكر للمحمود في صفة الكمال, أما الفرق فهو أن الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخباراً مجرداً من حب وإرادة فهذا مدح, وإن كان مقروناً بهما فهو حمد.
وقوله لله:
اللام هنا للجنس المفيدة الاستغراق, فالمستحق للحمد المطلق هو الله عز وجل والمختص به هو الله تعالى, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته السراء قال { الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات } وأن أصابته ضراء قال: (الحمد لله على كل حال), وقد ورد ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها. قال النووي عليه رحمة الله في الأذكار إسناده جيد, رواه إبن ماجة وابن السني والحاكم وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة. فالله تعالى له الحمد المطلق من جميع الوجوه أما غير الله عز وجل فإنه يحمد على أشياء خاصة فالعبد يحمد لكن حمده مقيد فهو يحمد على أشياء دون أشياء.
وقوله العلي:
أي الذي له العلو التام المطلق من جميع الوجوه, علو الذات, فالله تعالى ظاهر بذاته فوق كل شيء. وهذا دل له الكتاب والسنة والفطرة والإجماع.
وعلو القدر: وهذا متفق عليه عند أهل السنة والجماعة وأن الله لا يوصف إلا بصفات الكمال.
وعلو القهر: وهذا متفق عليه وأن كل شيء تحت قدرة الله وسلطانه.
قوله الأرفق:
أي الرفيق بأفعاله, فأفعاله كلها رفق على غاية المصالح والحكمة, وقد أظهر سبحانه لعباده من آثار رفقه ما يستدلون به على كمال حكمته ورفقه كما في خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة, كما أنه يقدر على هداية الضالين ولكنه حكمته اقتضت إبقائهم على ضلالهم عدلاً منه تعالى وليس ظلماً.
قوله وجامع الأشياء والمفرق:(1/10)
أي أنه تعالى جمع الأشياء في شيء وفرقها في شيء آخر, كما جمع بين خلقه في كونه خلقهم ورزقهم, وفرق بينهم في الأشكال والصور والطول والقصر, والسواد والبياض.. الخ. ومناسبة ذكر الجمع والتفريق هنا, لأن الشيخ يشرع بين القواعد وهذه القواعد تجمع بين المتماثلات وتفرق بين المختلفات, فتعطي المتمثلات حكماً واحداً, أما المختلفات فتغاير بينها بالأحكام.
نعم الله واسعة
- 2 -
ذي النعم الواسعة الغزيرة ... والحكم الباهرة الكثيرة
ثم وصف الله تعالى بالنعم الغزيرة الواسعة, كما قال تعالى { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (1). وهذه مقدمة عظيمة ذكرها الشيخ في بيان عظيم نعم الله عز وجل وأن هذه النعم كثيرة منها نعمة المآكل والمشارب..الخ. وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام, ومن أعظم نعمة الدين أن تكون عالماً بأحكام هذا الدين.
ثم وصف الله تعالى بـ الحكم الباهرة الكثيرة:
والحكمة: هي وضع الشيء في موضعه المناسب اللائق به, فهي حكم عظيمة تبهر العقول وهذه الحكم متعددة, ومن نظر في هذا الكون وعجائبه وسمائه وأرضه وشمسه وقمره وكوكبه وأشجاره ونباته عرف ذلك, ويكفي الإنسان أن يتأمل في خلق نفسه كما قال تعالى { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } (2).
الصلاة والسلام على رسول الله
- 3 -
ثم الصلاة مع سلام دائم ... على الرسول القرشي الخاتم
قوله الصلاة:
الصلاة من الله عز وجل وهي ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى, قال ابن القيم عليه رحمة الله تعالى, وأما قولهم الصلاة من الله بمعنى الرحمة فهو باطل من ثلاثة أوجه:
1- أن الله تعالى غاير بينهما في قوله تعالى { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } (3).
2- أن سؤال الرحمة مشروع لكل مسلم.
3- أن رحمة الله عز وجل عامة وسعت كل شئ, وأما صلاته فهي خاصة بخواص عباده.
__________
(1) النحل:18)
(2) الذاريات:21)
(3) البقرة: من الآية157)(1/11)
قوله مع سلام:
هذا دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة, أما في حال حياته فدعاء له بالسلامة من الشرور و الآفات, وأما بعد وفاه عليه السلام فإنه دعاء لشريعته وعدم التحريف.
قوله على الرسول:
الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه على القول الراجح.
قوله الخاتم:
هو الذي ختم الله عز وجل به أنبيائه ورسله فلا نبي بعده عليه الصلاة والسلام, فمن أدعى النبوة بعده فهو كافر, والدليل على ذلك قول الله عز وجل { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ(1) } . وأما نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان فإن ذلك يدل على أن هناك نبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام, لأنه يحكم بشريعة النبي عليه الصلاة والسلام.
الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم -
- 4 -
وآله وصحبه الأبرار ... الحائزي مراتب الفخار
قوله آله:
أُختلف في المراد بالآل على قولين:
الأول: أن المراد بهم أتباعه على دينه, نص عليه أحمد وعليه أكثر الأصحاب.
الثاني: أن المراد بهم أقاربه من المؤمنين, فالأول عام والثاني خاص.
والأقرب: أن يقال أنه إذا قرن مع الآل الأتباع فالمراد بالآل أقاربه من المؤمنين كما لو قلت(اللهم صل على محمد وآله).
قوله وصحبه:
بمعنى الصحابي, والصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك, ولو لم يره ولو لم تطل الصحبة. وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام, أما غيره من الناس فإنه لا يكون صاحباً إلا من لازمه مدة يستحق بها أن ينطبق عليه وصف صاحب.
وعطفهم على ألآل من عطف الخاص على العام, وفي الجمع بين الصحب والآل مخالفة للمبتدعة لأنهم يوالون الآل دون الصحب.
قوله الحائزي مراتب الفخار:
المقصود بها المراتب العالية من الصحبة والعبادة والعلم والجهاد ونحو ذلك.
ثم شرع الناظم رحمه الله بالمراد فقال:
منزلة العلم
- 5 -
__________
(1) الأحزاب: من الآية40)(1/12)
اعلم هديت أن أفضل المنن ... علم يزيل الشك عنك والدرن
من فوائد العلم أنه يبين للمرء الحق
- 6 -
ويكشف الحق لذي القلوب ... ويوصل العبد إلى المطلوب
معنى البيت:
أن الله عز وجل أمتن على عباده بنعم كثيرة, ومن أفضل وأعظم ما منَ الله تعالى به على عبده هو العلم النافع, لأن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر. وضابط العلم النافع هو ما أزال عن القلب شيئين:
الأول الشبهة.
والثاني: الشهوة.
لأن الشبهات تورث الشك, وأما الشهوات فتورث درن القلب وقسوة القلب. وتثبط البدن عن الطاعات.
إذا أزال العلم النافع الشبهة والشهوة حل محل الأول اليقين الذي هو ضد الشك, وحل محل الثاني الإيمان التام الذي يوصل العب لكل مطلوب المثمر للأعمال الصالحة. وكلما إزداد الإنسان علماً حصل له كمال اليقين وكمال الإرادة وكمال الخشية قال الله عز وجل { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(1) } , وإذا كان العلم بهذه المنزلة وبهذه المثابة فإنه ينبغي للإنسان أن يحرص على طلبه وأن يستزيد من طلب العلم, ولذلك لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم المزيد من شيء إلا من العلم قال الله عز وجل { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً(2) }
ولهذا قال الناظم رحمه الله:
فهم القواعد ومعرفتها
- 7 -
فاحرص على فهمك للقواعد ... جامعة المسائل الشوارد
لما ذكر الناظم عليه رحمة الله تعالى عموم أهمية العلم الشرعي وفضله خص منه ما يريد شرحه وهي هذه القواعد, ولذا قال: (ولهذا قلت أي مما ينبني على الكلام الأول في الحث على طلب العلم قلت أحرص على طلب هذه القواعد وفهمها).
قوله جامعة المسائل والشوارد:
تقدم فيما سبق وجه جمع هذه المسائل الشوارد.
معرفة حكم النوازل الجديدة
- 8 -
فترتقي في العلم خير مرتقا ... وتقتفي سبل الذي قد وفقا
__________
(1) فاطر: من الآية28)
(2) طه: من الآية114)(1/13)
أشار رحمه الله تعالى في هذا البيت إلى فائدة تعلم العلم عموماً وتعلم هذه القواعد على الوجه الأخص, وأن الإنسان بمعرفته لهذه القواعد يزداد علمه ويرتقي طيباً في طلب العلم كما أنه أيضاً بفعله هذا يقتفي سبيل وطريق علماء السلف الذين حازوا العلم الشرعي ومنه العلم بالقواعد الفقهية فحصل لهم التوفيق في علمهم.
منهج المؤلف في القواعد الفقهية
- 9 -
وهذه قواعد نظمتها من ... كتب أهل العلم قد حصلتها
في هذا البيت إشارة منه رحمه الله تعالى إلى أنه لم يكن له دور في هذه القواعد إلا أنه جمعها من كتب أهل العلم, وفي هذا أدب جم من أدب السلف وتواضعهم. والشيخ رحمه الله تعالى يقصد بذلك الاستنباط من القواعد وإلا فإن قائل هذه الأبيات هو الشيخ عبدالرحمن السعدي عليه رحمة الله تعالى, وهذا كما تقدم من تواضعه حتى لا يُنسب الفضل إليه وإنما نسبه إلى مصدره وأساسه, وفي هذا درس لطالب العلم على أن يردَ الجميل إلى أهله.
الدعاء لأهل العلم السابقين ومعرفة فضلهم
- 10 -
جزاهم المولى عظيم الأجر ... والعفو مع غفرانه والبر
دعاء من الشيخ رحمه الله تعالى للذين أصلوا هذه القواعد وقعدوها قبله, ولا شك أن الدعاء للعالم من أعظم ثمرات العلم, وكفى فخراً لأهل العلم والدعوة أن يُذكروا حتى بعد مماتهم, يًذكروا بالذكر الحسن والثناء الجميل والدعاء, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث } وذكر من ذلك { أو علم ينتفع به } رواه مسلم. هذا العلم الذي هو سبب الترحم على ناقله ومؤلفه ومعلمه للناس, فنسأل الله أن يحشرنا في زمرة العلماء العاملين.
النية شرط لصحة العمل
- 11 -
النية شرط لسائر العمل ... فيها الصلاح والفساد للعمل
اولاً: معنى هذه القاعدة:(1/14)
معناها أن النية شرط لصحة سائر الأعمال, وليس المراد أن العمل لا يوجد ولا يحدث إلا بنية وإنما المقصود أن صلاح العمل وفساده مبني على النية, إن كانت النية صالحة صلح العمل وإن كانت فاسدة فسد العمل مع وجوده, ولذلك قال(بها الصلاح والفساد للعمل), لأن صورة العمل قد تكون موجودة لكنها تخلو من النية الصالحة.
والنية كما قال أهل العلم شرود, تشرد فلإنسان يحتاج إلى معاهدتها وغلى مجاهدة النفس من أجل تصحيحها وتنقيتها وتجريدها لله عز وجل.
والنية في اللغة: هي العزم والقصد. والمراد بها عزم القلب وقصده لفعل عمل معين, أو هي ما يعبر عنه بعضهم بقوله انبعاث القلب بعمل معين.
أما اصطلاحاً فقالوا بأن الأعمال والتكاليف والتصرفات القولية والفعلية تختلف نتائجها وأحكامها من حيث الصحة والبطلان والإجراء والإثابة والمعاقبة, فهي تتاثر بالقصد.
مثال ذلك ثلاثة أشخاص قتلوا ثلاثة أشخاص:
الأول: قتل شخصاً عمداً وعدواناً فهذا يُقتل.
الثاني: شبه العمد إي أراد إيذاء المقتول لا قتله أو خطأ كمن أراد أن يرمي صيداً فقتل إنساناً فهذا عليه الكفارة.
الثالث: أمر بقتل فلان من الناس حداً فهذا لا شيء عليه.
فالأول قتل عمداً والثاني شبه عمد أو خطأ, فالنتيجة والتبعة الآن اختلفت لاختلاف النية فالأول قتل عمداً والثاني شبه عمد أو خطأ والثالث مأذون له في ذلك. فصورة العمل واحدة كلها قتل لكن النتيجة كما قلنا اختلفت لاختلاف النية. ولعل هذا المثال يوضح أثر النية بشكل ظاهر.
ثانياً مكانة هذه القاعدة :
يكفي أن نعلم أن هذه القاعدة بنيت على حديث { إنما الأعمال بالنيات (1) } , فمكانتها بمكانة هذه القاعدة نذكر طرفاً مما جاء في مكانة هذا الحديث:
* فهذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام العظيمة, اتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم(1/15)
* وبع صدَر البخاري كتابه الصحيح وأقامة مقام الخطبة له إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة.
* وهذا الحديث هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الدين, وقد روي عن الإمامين الجليلين الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما أنه ثلث العلم وثلث الإسلام, لأن كسب العبد بقلبه وبلسانه وبجوارحه, فالنية أحد الأقسام وهي ارجحها, لأنها تكون عبادة بإنفرادها.
قال البخاري عليه رحمة الله: ليس أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع ولا أغنى ولا أكثر فائدة منه أي هذا الحديث.
وقال عبدالرحمن بن مهدي عليه رحمة الله تعالى: ينبغي أن يُجعل هذا الحديث رأس كل باب.
ثالثاً أدلة هذه القاعدة:
*من القرآن:
لم يرد فيه لفظ النية في القرآن الكريم, وإنما ورد فيه ألفاظ أخرى بمعنى النية تؤيد أصل هذه القاعدة وتكون دليلاً عليها من ذلك:
أ) قول الله عز وجل { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } (1).
ب) وقوله سبحانه وتعالى { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً(2) } .
ج) وقوله عز وجل { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ(3) } *أما من السنة:
أ)فأولها سيد الأدلة وهو أصل هذه القاعدة حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه { إنما الأعمال بالنيات(4) } .
ب) ومن ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإن استنفرتم فانفروا } (5).
__________
(1) النساء: من الآية100)
(2) الاسراء:19)
(3) البقرة:207)
(4) رواه البخاري ومسلم
(5) رواه مسلم(1/16)
ج) ومن ذلك أيضا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا على صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم(1) } .
رابعاً إطلاقات هذه القاعدة:
المقصود بذلك الإطلاقات التي إذا وردت نفهم منها أنه يراد منه هذه القاعدة, فمن ذلك :
1- إنما الأعمال بالنيات.
2- الأمور بمقاصدها.
3- لا عمل إلا بنية.
ونحو ذلك من الإطلاقات.
خامساً محل النية:
ذهب عامة أهل العلم إلى أن محل النية القلب, وأما القول بأن محل النية الدماغ أو اللسان فهذا قول شاذ لا يصح ويؤيد ذلك نصوص كثيرة منها:
قول الله عز وجل { قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (2).
ومن ذلك قول الله تعالى { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا } (3).
وقول الله عز وجل أيضاً { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (4).
ولم يذكر الدماغ قط في هذه المواضيع فدل ذلك على أن محل العقل هو القلب لا الدماغ.
سادساً الأمر الذي من أجله شرعت النية:
فالنية شرعت لأمرين:
1- تمييز العبادات عن العادات, فالممسك عن الطعام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس إن كان إمساكه حمية, أو استجابة لأمر طبيب, أو لعدم حاجته لطعام و الشراب فهو أمر مباح لا ثواب ولا عقاب, أما إن كان إمساكه عن الطعام بنية الصوم الشرعي لله عز وجل فهذا طاعة يثاب عليها.
2- تمييز العبادات بعضها عن البعض الآخر, كصلاة الظهر والعصر مثلاً صورتهما واحدة الذي يحدد الفرق بينهما هو النية.
سابعاَ شروط النية:
الفقهاء رحمهم الله تعالى ذكروا شروطاً للنية:
الشرط الأول: الإسلام, وهذا شرط في كل عبادة لأن النية والعبادة لا تصح إلا من مسلم.
الشرط الثاني: التمييز, لأن نيته لو صحت لصح عمله ولوجب عليه العمل.
__________
(1) رواه مسلم
(2) البقرة: من الآية260)
(3) لأعراف: من الآية179)
(4) الحج: من الآية46)(1/17)
الشرط الثالث: العلم بالمنوي, فلابد أن يعلم الإنسان بالمنوي علماً يقينياً, هل هو عبادة أم لا؟ ومن حيث صفته, وهل هو فرض أو ليس بفرض؟ ونحو ذلك.
الشرط الرابع: ألا يأتي بمنافٍ للنية, والمنافي للنية أمران:
أ) القطع, يعني أن ينوي قطع العبادة, فعلى هذا من قام يصلي ثم نوى قطع الصلاة انقطعت صلاته, لكن من تردد في النية هل يقطع أو لا يقطع؟ الصحيح أنها لا تنقطع, لأن أصل النية موجود.
ب) الردة عن الإسلام.
ثامناً الفعل لأبد له من نية لكن هل ترك الأمر يحتاج إلى نية؟:
نقول:
ترك المحرم لا يحتاج إلى نية, فبمجرد التخلص من المناهي فإنه يثاب عليها الإنسان. لكن كونه يترك بعض المعاصي مع مجاهدته لنفسه فهذا أعظم أجراً ممن تركها رغبة عنها.
تاسعاً التشريك في النية له صور:
الصورة الأول: أن يدخل مع العبادة ما ليس بعبادة أصلاً, وهذه الصورة على نوعين:
النوع الأول: أن يدخل مع العبادة ما لا يصح إدخاله كالذبح لله وللولي فلان, فهذا يبطل العبادة.
النوع الثاني: أن يدخل مع العبادة ما يصح إدخاله, كما لو اغتسل بنية الجمعة والتبرد, أو يصوم بنية الصيام والتخفيف.
الصورة الثانية: أن ينوي مع العبادة عبادة, وهذا له أنواع:
النوع الأول: أن يدخل الفريضة على فريضة هذا لا يجوز إلا في حالة واحدة فقط في الحج في القرآن أي يدخل الحج على العمرة فيقول(اللهم لبيك عمرة وحجاً) فهنا أدخل الحج على العمرة وقرنهما بنية واحدة.
النوع الثاني: أن ينوي مع الفريضة سنة هذا يجوز في بعض الصور دون بعض الصور مثل لو جاء إلى المسجد والناس يصلون فدخل معهم على أن هذه الصلاة فريضة ونوى بها تحية المسجد صح ذلك, وفي بعض الصور لا يجوز كما لو وجد مسكيناً فأعطاه مبلغاً من المال على أنها زكاة وصدقة فإنها لا تصح زكاة وتصح منه صدقة.(1/18)
النوع الثالث: أن ينوي مع النافلة نافلة أخرى, وهذا باب واسع جداً, مثل لو تؤضأ ثم دخل المسجد فصلى ركعتين بنية أنها سنة الضحى وركعتي الوضوء, وتحية المسجد صح ذلك.
ثم قال الناظم رحمه الله تعالى: (وهذه قاعدة عظيمة جداً):
الشريعة مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد
- 12 -
الدِّينُ مبني على المصالح ... في جلبِها والدرء للقبائحِ
هذه القاعدة وما بعدها البيت{12و13و14} هذه ثلاث قواعد عظيمة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب في الجهاد. بل لا أبالغ إذا قلت أن فساد نتائج كثير من الأعمال الدعوية نتيجة قلة الفقه في مثل هذه القاعدة.
معنى هذه القاعدة:
معنى هذه القاعدة أن أحكامه سبحانه وتعالى وتشريعاته مبنية على مصلحة المكلفين سواء كان ذلك في الأمر أو النهي في الدنيا أو في الآخرة, فالله تعالى لا يأمر إلا بما فيه مصلحة المكلف, ولا ينهي عن شئ إلا فيه ضرر على المكلف وهذا المعنى هو الذي من أجله بعث الله الرسل كما قال الله عز وجل { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1), ولذلك السابر لأغوار الشريعة يجد أنها خيراً محضاً, لكن هذا الخير يحتاج إلى عقول تعي هذه المسألة. لذلك نجد أن الله تعالى لا يأمر بأمر ولا ينهي عن شئ إلا ويعلل لهذا الأمر أو النهي لمصلحة المكلف { لعلكم تتقون } , { لعلكم تتذكرون } , { هو أزكى لكم } , ونحو ذلك من الآيات الكريمة, فمعرفة الإنسان لهذا الأمر تجعله يوقن بعظمة هذه الشريعة وما ذكرناه تمهيداً لهذه القاعدة.
فما المراد إذاً بهذه القاعدة؟
لما كان الأصل في الشريعة أنها مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد, وجب على المجتهد الناظر في المسائل الاجتهادية الحادثة التي لم يرد فيها دليل أن ينظر إليها بعين الاعتبار.
__________
(1) الانبياء:107)(1/19)
بمعنى أنه في علاجه وفي حكمه على هذه المسائل أن يراعي جلب المصالح ودرء المفاسد وكذلك في مسائل كثيرة في الدعوة إلى الله عزوجل يحتاج الداعية إلى إعمال هذه القاعدة.
مسألة: ما هي المصلحة التي يعتبرها الشارع؟
لأن المصلحة عند بعض الناس قد تكون دعوى, وقد تكون وهما فيظن لفساد مزاجه أو لسوء تفكيره أو لجهله ما ليس بمصلحة مصلحة. هذه قضية خطيرة جداً وعلى ذلك مدار الكتابة في الصحف الآن كلها من هذا الباب, فيأتي إنسان عنده فساد في المزاج وسوء في التفكير وأكثرهم من الجهلة, فنقلوا ذلك إلى الصحف نسأل الله السلامة والعافية, فيظنون بأمزجتهم الفاسدة وسوء تفكيرهم وخبث طويتهم وجهلهم ما ليس بمصلحة مصلحة, فيرتبون على ذلك أحكاماً شرعية غير صحيحة.
مثال ذلك: أحد الخلفاء دخل على أحد العلماء في حلقته مع طلابه وقال له: إني جامعت زوجتي في نهار رمضان. فقال له: صم شهرين متتابعين فانصرف. فقال له الطلاب: يا شيخ الذي تعلمنا منك أن كفارة الجماع في نهار رمضان أولاً عتق رقبة إن لم يستطع صام شهرين متتابعين إن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً على الترتيب وليس على التخيير. فقال: نعم, لكن هذا خليفة وعنده إماء كثير فربما تهاون في هذا الأمر لسهولة الإعتاق عليه, فأفتيته بالأغلاظ حتى يكف عن ذلك.
فلا شك أن كف هذه الخليفة عن هذا العمل مصلحة لكن هذه المصلحة غير معتبرة, لماذا؟ لأنها خالفت نص الكتاب والسنة فالمصلحة الشرعية ليست مصلحة موهمة ولا مصلحة مدعاة, وإنما المصلحة الشرعية هي التي يعتبرها الشارع في الأحكام.
ولذلك المصلحة في اللغة ضد المفسدة.
وفي الاصطلاح هي التي قصدها الشارع لعباده لحفظ ما يلي:
الأول: حفظ الأديان. الثاني: حفظ الأبدان. الثالث: حفظ الأموال.
الرابع: حفظ الأعراض الخامس: حفظ العقول. السادس: حفظ الأنساب.(1/20)
هذا هو تعرف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لها. إذا كانت المصلحة تراعي مثل هذه الأمور(أي هذه الكليات الست) فهي معتبرة وإلا فهي مصلحة موهومة فاسدة.
من أدلة القاعدة:
أ) قول الله عز وجل { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(1) } , ومن الرحمة بعباده رعاية مصالحهم الدنيوية والأخروية.
ب) ومن ذلك قول الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ(2) } .
ج) وقول الله جل وعلا { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } (3).
د) ومنه قول الله عز وجل { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ(4) } .
والأدلة على ذلك كثيرة.
مسألة: المصالح الشرعية قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:
1) مصلحة ضرورية: هي التي شرعت لقيام أمر الدين والدنيا جميعا, وهذه كتوحيد الله عز وجل مصلحة دنيوية وذلك أن يحيا الإنسان حياة السعداء, كما قال الله عز وجل { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (5)
ومصلحة أخروية لأن من مات على التوحيد فهو من أهل الجنة إن شاء الله تعالى.
2) مصلحة حاجية: وهذه هي التي شرعها الله عز وجل تخفيافاً على المكلف, وهذه ستأتي عند قول الناظم:
ومن قواعد شرعنا التيسيرُ ... في كل أمر نابَهُ تعسيرُ
هذه كالجمع والقصر في السفر ونحو ذلك.
3) مصلحة تحسينية: وحينما نقول ذلك لا يلزم أن تكون هذه المصلحة غير واجبة فقد تكون من المصلحة التحسينية وهي واجبة, وإنما المعنى أنها شرعت لتحسين الدين وتجميله وتكميله كالنظافة مطلقاً بما في ذلك الوضوء والغسل, حسن الخلق, البشاشة مع الناس ونحو ذلك.
__________
(1) الانبياء:107)
(2) النحل: من الآية90)
(3) لأعراف: من الآية28)
(4) لأعراف: من الآية157)
(5) الرعد:28)(1/21)
مسألة: أقسام المصلحة باعتبار إقرار الشارع لها وعدم إقراره لها, أو بمعنى آخر ما هي المصلحة المعتبرة والمصلحة الغير معتبرة؟
يقال بأن المسألة لها ثلاثة أقسام:
1) المصلحة المعتبرة: وهي التي جاءت الأدلة من الكتاب والسنة على إعمالها, فهذه حجة باتفاق أهل العلم.
2) مصلحة ملغاة: وهذه هي المخالفة لأدلة الكتاب والسنة فهذه ملغاة وباطلة بالاتفاق ولا سبيل لقبولها مهما ألبست لباس المصلحة, كبدعة المولد وعلى هذا ما ينادي به الفسقة من الكتاب في الصحف وغيرها في بعض المصالح الموهومة المزعومة هي من هذا كمطالبتهم بقيادة المرأة للسيارة ويعللون ذلك بمصالح كاستغناء الأسر عن السائقين وهذا لم يحصل في البلاد التي سمحت للمرأة بقيادة السيارة وعدم الخلوة بالسائق ونحو ذلك من الأمور التي لم يعهد عنهم أنهم يراعونها لأن في قلوبهم مرض فنجد أنهم يريدون أن يتوصلوا أحيانا إلى بعض الأشياء باسم المصلحة كمطالبتهم بخروج المرأة ومخالطتها للرجال باسم المصلحة كتقوية الاقتصاد ونحو ذلك. فبناء على هذا نقول بأن هذه مصلحة ملغاة أو مصلحة باطلة مهما لبست لباس المصلحة.
3) مصالح مرسلة: وهي المسكوت عنها, وهذه لم يأت الدليل باعتبارها ولا بعدم اعتبارها فهذه تسمى المصالح المرسلة. وسميت بذلك لأنها مطلقة وخالية من الدليل.
فهل هي حجة أو ليست بحجة؟
هي حجة عند الإمام مالك وأحمد رحمهما الله تعالى واستدلوا على ذلك بدليلين:
أ. أستقرء الشريعة وهي إنما شرعت لمصلحة المكلفين, وإعمال المصالح يتفق مع مقاصد الشريعة.
ب. عمل الصحابة رضي الله تعالى عليهم حيث كانوا يراعون المصلحة في النوازل التي يجتهدون فيها, فالصحابة اعملوا ذلك حينما مثلاً جمعوا القرآن بمصحف واحد, وكذلك زيادة عمر في جلد شارب الخمر إلى ثمانين جلدة وقد كان في صدر خلافته قد جلد أربعين ثم زاد لما رأى الناس أكثروا من ذلك.(1/22)
لكن العلماء رحمهم الله تعالى جعلوا سبعة شروط لإعمال المصالح المرسلة:
1) أن يغلب على الظن وجود هذه المصلحة, بمعنى أن المصلحة لا تكون موهومة.
2) أن تكون المصلحة ترعى الكليات الست التي سبق الحديث عنها.
3) أن تكون هذه المصلحة متفقه مع قواعد الدين وأصوله لأن هناك قواعد عامة مقاصد للشريعة فلابد أن تكون هذه المصلحة متفقة مع هذه القواعد.
4) ألا تعارض هذه المصلحة نصاً من كتاب الله تعالى أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا إجماع المسلمين.
5) ألا تكون هذه المصلحة في العبادات, لأن العبادات توقيفية أي متوقفة على النص من الكتاب والسنة, وهذا كما تقدم في بدعة المولد.
6) ألا تكون في المقدرات, والمقدرات هي التي تكلفت النصوص الشرعية ببيان مقدارها كالمواريث كما قال الله عز وجل { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ(1) } . قد يأتي إنسان ويقول بأن المرأة أصبحت تشارك الرجل فنقول بأن هذه مصلحة فاسدة لأنها في المقدرات التي تكلفت النصوص الشرعية ببيان مقدارها. وعلى هذا مثل هؤلا الذين يثيرون الشبه باسم المصالح علينا أن ننسف باطلهم وشبهتهم من أساسها, لأن بعض الناس يجادل ويناقش في أشياء هي من المسلمات يعني الآن نتفق مع هذا أن المرأة أصبحت تتحمل بعض المسئولية ليست كالأول وأصبحت أحياناً تتفق على أولادها وربما على أيتام تحتها ونحو ذلك, فلو أننا جلسنا نخالفهم في ذلك لوجدنا أننا نخالف من دون اقتناع, لكن لما نأتي إلى الشبهه فننفسها من أساسها حينما نسلم من كثير من الأمور وهذا أبلغ في العلاج فتقول: لهم مهما وجد من المصالح التي نتفق معك فيها الا أنها كانت في المقدرات ومن شروط إعمال المصلحة ألا تكون في المقدرات ونكتفي بهذا.
7) أن تكون المصلحة عامة وليست خاصة, يعني تكون هذه المصلحة لا ترعى أناس بأعيانهم أو بأشخاصهم وهذا هو الفرق بين حكم الشريعة وبين حكم القوانين الوضعية.
__________
(1) النساء: من الآية11)(1/23)
قاعدة تزاحم المصالح
- 13 -
فإذا تزاحم عدد المصالحِ ... يُقدَّم الأعلى من المصالحِ
وهذه قاعدة عظيمة جدا ونحتاج إليها كثيراً ولذلك قد نكثر التمثيل عند هذه القاعدة وهي مرتبطة بالبيت الذي قبلها والذي بعدها.
ومعنى هذا البيت:
أن المكلف إذا أمر أن يفعل أحد أمرين ولا يمكن الجمع بينهما, وهنا يُنتبه لأنه إذا أمكن الجمع بينهما وجب أن يصير إلى ذلك بحسب حكم المصلحة.
لكن قد تتزاحم عند المكلف مصلحتان لا يمكنه الجمع بينهما فإنه يصير إلى الأعلى مصلحة وهذه الصور واردة في باب الترجيحات وبين المتعارضات, فالقاعدة معروضة فيما إذا لم يتمكن المكلف من فعل المصلحتين معاً ومنعه مانع شرعاً أو قدراً.
وهناك أمثلة تعرض للكثير كتزاحم الدعوة وطلب العلم, وكذا تزاحم أداء بعض السنن مع القيام بواجب الدعوة إلى الله عز وجل, والبعض مثلاً يسأل أنه إن قدر له وصام قد لا يتمكن من طلب العلم على الشكل المطلوب من البحث والقراءة لكونه مجهداً, إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة تعرض وخاصة للداعية إلى الله تعالى وطالب العلم على الوجه الأخص, ولذلك فقه هذه القاعدة من الأهمية بمكان.
ولهذا هذه القاعدة لها صور كثيرة:
1-إذا تعارض مصلحة واجبة وأخرى مسنونة: فإنه يقدم الواجب لأنه آكد, مثال ذلك قد يقوم المسلم من النوم ولم يبق إلا وقتاً يسيرا ويخرج وقت صلاة الفجر فهل يقدم سنة الفجر أم الفريضة؟ نقول هنا تزاحم المصلحتان بحكم أن الوقت سيخرج فإنها تقدم الفريضة لأن أداء الفريضة في الوقت آكد من أداء السنة قبل الفريضة.(1/24)
2-إذا تعارض واجبان: قدم الآكد منهما لأن الواجبات متفاوتة في قوة الواجب, مثال على ذلك: صلاة العيدين على الصحيح أنها واجبه لكن لو كان اشتغاله بصلاة العيد بالتهيؤ والذهاب إليها يفوت عليه صلاة الفجر فإنه يقدم صلاة الفجر لأنها آكد, لأن تارك الصلاة يكفر وتارك صلاة العيدين على القول بوجوبها وهو الصحيح يأثم أثماً فقط لا يخرج إلى حد الكفر.
3-تعارض السنن: وعلى هذا جل أحكام هذه القاعدة. فجل أحكامها في قضية تزاحم المصالح في تعارض المسنونات بحيث أنه قد يعرض للإنسان أوجه وأبواب من أبواب الخير فتتزاحم هذه الأوجه ولا يمكن فعلها جميعا فلا يدري أيها يُقدم, ففقه هذه القاعدة مما يعين الإنسان على اختيار الأفضل, ولذلك وضع الفقهاء رحمهم الله تعالى ضوابط لتعارض السنن منها:
أ) إذا تعارض سنة وسنة مؤكدة قُدمت السنة المؤكدة.
ب) إذا تعارض فعلان إحداهما ينتج عنه فعل قاصر والآخر ينتج عنه فعل متعدي, إذا لم يمكن تأديتهما جميعاً فإنه يُقدم الأعلى مصلحة وهو ما كان نفعه متعدٍ إلى الآخرين, لأن ما كان نفعه متعدٍ للآخرين هو أيضاً عائد على ذات الإنسان كطلب العلم والأشتغال بنوافل العبادات.
مسألة: هنا إشارة ولفتة يجب أن نعلم أن هذا التقسيم من حيث الأصل, لكن قد يأتي وقت من الأوقات بحيث يعرض عوارض للمفضول بحيث يكون فاضلاً. مثال ذلك: الطرق العبادية التي تُعالج بها القلوب كثيرة جداً منها قراءة القرآن ومنها طلب العلم ومنها الاشتغال بنوافل العبادات ومنها تغسيل الأموات ومنها زيارة المرضى فقراءة القرآن هي أفضلها ولا شك لكن قد يجد علاج قلبه في مصاحبة أهل الخير في وقت من الأوقات فهنا يعمد إلى المفضول, لأنه عرض له عارض جعله فاضلاً.
تزاحم المفاسد
- 14 -
وضدُّه تزاحمُ المفاسدِ ... فارْتَكِب الأدنى من المفاسد
المراد بالتزاحم هنا كالتزاحم بالبيت الذي قبل هذا, لكن هناك تزاحم مصالح وهنا تزاحم مفاسد.(1/25)
إذا تزاحم مفسدتان ولم يمكن تركهما جميعاً لأن المفسدة مطالب بتركها فإنه يرتكب الأخف مفسدة في سبيل دفع الأعلى مفسدة لكن لا شك إن أمكن تركهما جميعاً فلا يجوز فعل واحد منهما.
مثال ذلك: لو وقع في ضرورة حتمت عليه أما شرب دخان أو شرب مسكر ولم يمكن تركهما جميعاً فهنا يرتكب الأخف مفسدة وهو شرب الدخان, أما إن أمكن تركهما جميعاً وجب أن يصير إلى ذلك.
إطلاقات القاعدة:
هذه القاعدة تندرج تحت قواعد كثيرة منها:
* لا ضرر ولا ضرار أو قاعدة الضرر يزال.
* يصار إلى أهون الشرين. مثال ذلك الآن بعض أماكن الترفيه التي قد يكون بها شر لوجود بعض المعاصي والمنكرات فلو تركها أهل الخير ربما زادت حدة الشر وربما تطور الشر إلى ما هو أعظم, فدخول مثل هذه الأماكن لإزالة الشر أو التقليل منه مطلب شرعي, وهذا فقه وباب عظيم من أبواب القواعد الفقهية.
* إذا تقابل مكروهان أو محظوران أو ضرران ولم يمكن الخروج عنهما وجب ارتكاب أخفهما.
* إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر الأكبر.
فهذه القواعد وغيرها مهما اختلفت ألفاظها وصيغتها فهي متحدة المعنى, فهي تدل على أن الإنسان إذا ابتلي ببليتين ولا بد من ارتكاب إحداهما فللضرورة يجوز ذلك, فإذا كانت البيتان أو الضرران أو المحرمان متساويين فهو بالخيار في ارتكاب أيهما شاء أما إن كانا مختلفين في القوة وأحدهما أخف مفسدة وأقل ضرراً أو أهون شراً من الأخر فإنه يرتكب الأخف ويدفع الأعظم والأشد لأن ارتكاب المحرم والإقدام على المفاسد لا يجوز إلا لضرورة شديدة وإذا أمكن دفع الضرورة بالأخف قلا يجوز الإقدام على الأشد, لأنه لا ضرورة في حق الزيادة.
أمثلة القاعدة:
مثلاً لو تردد الأمر بين أن يصلي الإنسان قائماً وتنكشف عورته وبين صلاته قاعداً مع عدم انكشاف العورة, فإنه يصلي قاعداً لأن ترك القيام أهون وأخف.(1/26)
مثال أخر: رجل به جرح إذا سجد سال دمه وإذا أومأ بالركوع لم يسل دمه, قالوا فإنه يومئ بالركوع والسجود لأن ترك السجود أهون من الصلاة على النجاسة وهذا على القول بنجاسة الدم.
من صور هذه القاعدة:
* إذا تعارض محرمان وكان أحدهما أشد حرمة فإنه يقدم الأخف حرمة, لأن المحرمات تتفاوت, فمثلاً لو أمره الإنسان على إما شرب الدخان أو تناول المخدرات, يرتكب الأخف مفسدة هو شرب الدخان.
من صورها كذلك إذا تعارض محرمان فعل أحدهما يعود عليه والآخر يعود على غيره فإنه يرتكب ما يعود عليه, لا لأنه مأذون له فيه وإنما لأنه أخف ضرراً, لو خير إنسان مثلاً على إتلاف ماله أو إتلاف مال غيره يُقدم إتلاف ماله.
قاعدة:
هناك قاعدة داخلة في باب المقاصد لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى وهي قاعدة {درء المفاسد مقدم على جلب المصالح}.
معنى هذه القاعدة:
أنه إذا تعارض فعلان أحدهما يجلب مصلحة والآخر يدرء مفسدة فأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
مثال ذلك: يظهر ذلك كما في قوله تعالى عز وجل { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ(1) } . فلا شك أن سب آلهة المشركين قربة يتقرب العبد بها إلى الله عز وجل وهي مصلحة ولا شك لكن لما كان ذلك يؤدي إلى أن يسب المشركون الله عز وجل نهى عن ذلك لماذا؟
لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة, وهذه القاعدة يستفيد منها الداعي إلى الله سبحانه وتعالى في دعوته حال مراعاته ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً همَ أن يبني الكعبة وأن يجعل لها بابان لولا أن قريش حديثي عهد بالإسلام فخشي عليهم من الفتنة.
من قواعد الشريعة التيسير
- 15 -
ومن قواعد شرعنا التيسيرُ ... في كل أمر نابَهُ تعسيرُ
__________
(1) الأنعام: من الآية108)(1/27)
هذا البيت أراد به المؤلف رحمه الله تعالى قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدين وهي قاعدة اليسر ورفع الحرج والمشقة, وهذا يعبر عنها الفقهاء بقولهم{المشقة تجلب التيسير} وهذه القاعدة إحدى القواعد الخمس التي ينبني عليها صرح الفقه الإسلامي وهي:
1.الأمور بمقاصدها.
2.اليقين لا يزول بالشك.
3.المشقة تجلب التيسير.
4.الضرر يزال.
5.العادة محكمة.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع " أي أنها متواترة".
ومن تتبع الشريعة الغراء في أصولها وفروعها يجد التيسير واضحاً جلياً في العبادات والمعاملات والحقوق والقضاء والأحوال الشخصية وغير ذلك مما يتصل بعلاقة الخلق بخالقهم أو علاقة الخلق بعضهم ببعض بما يضمن سعادتهم في الدنيا والآخرة.
والناظر في التخفيفات الواردة في الشرع يرى أنها لا تخرج عن نوعين اثنين:
1) نوع شُرع من أصله للتيسير, وهو عموم التكاليف الشرعية في الأحوال العادية وهنا لفتة وهي إن إيراد هذه القاعدة لا يعني ذلك أن الأصل في الشريعة العسر, وإنما المراد أن الأصل فيها اليسر, لكن قد يعرض للإنسان عوارض تجعل هذا اليسير في حقه عسيراً فجاءت الشريعة فخففته.
ثانياً وهذا هو القسم الثاني وهو:
2) نوع شرح لما يجد من الأعذار والعوارض وهو المسمى بالرخص.(1/28)
أما الأول فمن تأمل الشريعة بداله جلياً واضحاً أن هذا الدين كله بتكاليفه وعبادته وتشريعاته ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته. هذه الأحكام يسيرة لا عسر فيها, سمحه لا تكلف فيها, سهلة لا تعقيد فيها, إنها لا تمثل قيوداً وأغلالاً في عنق الإنسان, كما يخيل لبعض المستشرقين ومن على شاكلتهم فيكتبون عن روح الإسلام بروح التعصب وعقلية المتحامل, إنهم ومن لف لفهم من أبناء جلدتنا يجهلون أن الأحكام الشرعية في حقيقتها توجيه وتشريف أكثر منها قيوداً وحدوداً, وأن التكاليف الربانية أمر بحمد الله تعالى ينسجم مع طبيعة الإنسان ويتلاقى مع مزيته التي خصه الله تعالى بها من العقل والفهم, فأي حرج على الإنسان بعد ذلك أن يتقيد بها ويعمل بمقتضاها.
أما النوع الثاني من التخفيفات الواردة في الشرع لما يوجد من الأعذار والعوارض وهو المسمى بالرخص فهذا دليل عيان يشهد بأن هذا الدين دين اليسر والسهولة وشاهد عدل أيضاً على سماحته وتجاوبه مع الفطر المستقيمة وأيضا حساسية الشرع المرهفة لأحوال أهله بمسارعته في تقديم ما تزول به مشقتهم وعناؤهم ولله الحمد و المنة.
تعريف:
المشقة هي العسر والعناء الخارجين عن حد العادة والاحتمال, ومنه قول الله عز وجل { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ } (1) أي بتعبها. والتيسير في اللغة هو السهولة والليونة.
والمعنى اللغوي الإجمالي لهذه القاعدة:
أن الصعوبة والعناء تصبح سبباً للتسهيل, وهذا معنى قولهم{إذا ضاق الأمر اتسع}.
وأما المعنى الشرعي الاصطلاحي لها فهو: أن الأحكام التي ينشأ عن تطبيقها دون عسر أو إخراج.
من أدلة هذه القاعدة:
من القرآن:
*قول الله عز وجل { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ(2) } .
__________
(1) النحل: من الآية7)
(2) البقرة: من الآية185)(1/29)
*وقوله تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ(1) } .
*ومن ذلك قوله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } (2) .
*ومنه { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ(3) } .
*ومن ذلك { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ(4) } .
*ومن ذلك { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (5).
أما من السنة:
من تصفحها وجد تصريح أو تشير إلى معاني هذه القاعدة من ذلك:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم لما سئل { أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: الحنيفية السمحة(6) } .
قال الشاطبي رحمه الله: وسمي الدين بالحنيفية السمحة لما فيها من التيسر والتسهيل.
2. ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال { إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة } .
3. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم { لولا أن أشق على أمتي " وفي رواية على المؤمنين" لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } (7).
ونحو ذلك من الأدلة على هذه القاعدة مشروعية الرخص, كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات للأضطرار ونحو ذلك.
*من الإجماع:
الإجماع منعقد على عدم وقوع التكليف بالشاق.
فائدة:
لسائل أن يقول ما ضابط المشقة التي تجلب التيسير؟
لأن الكثير من الناس يتعلل بالمشقة كلما كُلف بأمر قال هذا فيه مشقة. هذا لا أستطيعه هذا لا أقدر عليه وربما قال بأن الدين يسر. وربما قال إن المشقة تجلب التيسير فهل كل مشقة تجلب التيسير؟ فنقول جواب ذلك على قسمين:
__________
(1) البقرة: من الآية286)
(2) النساء: من الآية28)
(3) الحج: من الآية78)
(4) المائدة: من الآية6)
(5) التغابن: من الآية16)
(6) رواه البخاري في صحيحه تعليقاً.
(7) رواه البخاري(1/30)
القسم الأول: مشقة لا تنفك العبادة عنها غالباً, وذلك كمشقة الصوم لشدة الحر وطول النهار, ومشقة الجهاد, ومشقة الحج, مشقة الاجتهاد في طلب العلم, فهذه المشقة لا انفكاك عنها في الغالب, كما أنها مشقة لا تنافي التكليف ولا توجب التخفيف لأن الذي يطلب التخفيف حينئذ هو مهمل ومفرط.
القسم الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالباً, والأصل أنها لا تلازم العبادة فان كانت مشقة عظيمة كخوف الهلاك عند الاغتسال فان هذه المشقة هي التي تجلب التيسير, أما أن كانت مشقة خفيفة كأدنى صداع في الرأس أو سوء مزاج خفيف, فهذا لا أثر له ولا التفات إليه لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع هذه المفسدة التي لا أثر لها.
مسألة: أسباب رفع المشقة أو أنواع الرخص.
ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الرخص الشرعية سبعة أنواع وهي كما يلي:
1. رخصة إسقاط: كإسقاط العبادات عند وجود أعذارها كإسقاط الصلاة عن الحائض وعن النفساء, وعدم وجوب الحج على المرأة إذا لم تجد محرماً.
2. رخصة تنقيص: أي إنقاص العبادة لوجود العذر وهذا كالقصر في الصلاة.
3. رخصة إبدال: أي إبدال عبادة بعبادة كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم عند عدم الماء أو عدم القدرة على إستعماله, وإبدال القيام بالصلاة بالقعود أو الاضجعاع للمرض.
4. رخصة تقديم: كجمع التقديم بعرفات بين الظهر والعصر, وتقديم الزكاة على الحول وزكاة الفطر في رمضان, وتقديم الكفارة على الحنث ولذلك قالوا يجوز {تقديم الشيء بعد انعقاد سببه وقبل وجود شرطه} مثلاً الإنسان إذا صار عنده نصاب زكاة هذا هو سبب الزكاة بلوغ النصاب يجوز أن يقدمه قبل شرطه وهو حلول الحول, وكذا الحنث في اليمين يجوز له أن يحلف ثم يكفر عن يمينه ثم يحنث لكن لا يجوز له أن يكفر ثم يحلف ثم يحنث, الآن سبب اليمين لم ينعقد.(1/31)
5. رخصة تأخير: كالجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء, وتأخير صيام رمضان للمسافر والحائض والنفساء ومن انشغل بإنقاذ غريق, أو العناية بمريض يُخشى عليه أو جريح تجري له عملية.
6. رخصة اضطرار: كشرب الخمر للغصة إذا لم يجد وخشي على نفسه الهلاك, وأكل الميتة والخنزير عند المسغبة وخشية الموت جوعاً.
7. رخصة تغيير: كتغير نظم الصلاة للخوف.
وهذه الرُخص ليست على مرتبة واحدة بل هي تختلف تبعاً لظروف المكلف فمنها:
أ) ما يجب فعله كأكل الميتة للمضطر.
ب) ومنها ما يندب فعله كالقصر في السفر أو جواز النظر إلى المخطوبة.
ج) منها ما يباح كالسلم "والسلم هو تعجيل الثمن وتأخير المثمن".
د) ومنها رُخص الأولى بالمكلف أن يفعلها كالفطر في السفر لمن لا يتضرر.
ذ) منها رخص يكره فعلها كالجمع في السفر للمقيم في بلد سافر إليه, والقصر في أقل من ثلاث مراحل عند بعض الفقهاء.
مسألة: حصر بعض الفقهاء أسباب التخفيف في سبعة أسباب رئيسية وهي:
1/ السفر: والسفر على الراجح يُرجع فيه إلى العرف, لكن على كل حال هو من أسباب التخفيف.
2/ المرض: وهو خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ, فالمرض قد أذن له بأن يتخلف عن صلاة الجماعة, وأن يصلي قاعداً أو يصلي على جنبه حسب ما يستطيع, ويفطر إذا كان هناك مشقة عليه من الصيام.
3/ الإكراه: وهو في اصطلاح الفقهاء "حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختار مباشرته لو ترك و نفسه.
4/ النسيان أو السهو: والنسيان هو جهل الإنسان بما كان يعلمه ضرورة أو هو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة إليه.
قال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى( النسيان غالبٌ على الإنسان ولا أثم على الناسي).
فإذا نسى الإنسان وكان لا يمكن تدارك هذا الشيء فانه يسقط وجوب هذا الشيء بفواته كنسيانه لصلاة الكسوف. وأن كان مما يُقبل التدارك من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده كالصلاة والزكاة ونفقات الزوجات وجب تداركه.(1/32)
5/ الجهل: هو نقيض العلم, وهو في الاصطلاح اعتقاد الشيء جزماً على خلاف ما هو في الواقع. فالجهل سببٌ يرفع الإثم والحرج والمسؤلية عن المكلفين بل ويمنع من توجيه الخطاب الشرعي إليهم أحياناً أخرى.
وهذه ليست دعوى إلى الجهل لأن الإنسان لا يعذر بتفريطه بل تقول يجب عليه أن يتعلم ما لا تقوم العبادة إلا به وما لا تصح العبادة إلا به لكن لو انه بذل واجتهد في ذلك لكنه جهل بعض المسائل فإنه يرفع عنه الحرج.
6/ العسر وعموم البلوى:والعسر أي مشقة تجنب الشيء, وعموم البلوى أي شيوع البلاء بحيث يصعب على المرء الابتعاد عنه.
7/ النقص الطبيعي: والنقص ضد الكمال ولذلك لم يكلف الصبي والمجنون لنقص عقليهما, وفوض أمر أموالهما للولي, كذلك عدم تكليف النساء بكثير مما وجب على الرجال كحضور الجمع والجماعات. وهذا لا يسمى كما يزعم البعض أنه نقص غير طبيعي بالتالي يحمله ذلك على انتقاص المرأة مثلاً كانتقاص بعضهم النساء برقة الدين, كمن يستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم { ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن..الخ(1) } , حيث بين صلى الله عليه وسلم أنها تترك الصلاة في حال حيضها ونفاسها فهذا ليس مدعاة للانتقاص, لأن هذا نقص طبيعي ليس شاذاً حتى يحمل ذلك بعض الرجال على انتقاص المرأة بل قال أهل العلم بأن المرأة إذا تركت الصلاة في حال حيضها ونفاسها فإنها تكون ممتثلة امتثالاً يوازي تركها للصلاة فيغلب جانب امتثالها ويكون ذلك صفة كمال لا نقص في حقها.
مسألة: إطلاقات القاعدة:
هذه القاعدة {قاعدة المشقة تجلب التيسير} كثيرة الفروع وعميقة الجزور ولهذا لها اطلاقات:
1. الضرورات تبيح المحظورات.
2. إذا ضاق الأمر اتسع أي إذا حصل على الإنسان حرج أو مشقة توسع بالرخصة.
3. ما أبيح للضرورة يُقدر بقدرها, فإذا جاز للإنسان أن يأكل الميتة خشية الهلاك فإنه لا يأكل إلى حد الشبع وإنما يأكل ما يندفع به هلاكه.
__________
(1) متفق عليه(1/33)
4. ما جاز لعذر بطل بزواله كمن يقصر بالسفر إذا رجع إلى بلده بطل القصر, لأن العذر زال.
5. الميسور لا يسقط بالمعسور. ونحو ذلك.
الواجبات تسقط مع عدم القدرة
- 16 -
وليس واجب بلا اقتدار ... ولا مُحَرَّم مع اضطرارِ
هذه القاعدة لها صورتان:
1) نفي الواجب مع عدم القدرة عليه {سقوط الواجب لعدم القدرة} وهذا معنى قوله(وليس واجب بلا اقتدار).
2) إعمال المحرم مع الاضطرار إليه {إباحة المحرم عند الضرورة} وهذا معنى قوله(ولا محرم مع اضطرار).
مسألة: أدلة هذه القاعدة هي نفس أدلة القاعدة السابقة, لأن سقوط الواجب مع عدم القدرة عليه وفعل المحرم عند الضرورة إليه هذا من يسر الشريعة.
مسألة: الواجب الذي لا يمكن فعله لسقوطه صورتان:
1.أن يسقط إلى بدل عنه كالعدول إلى التيمم عند عدم الماء أو فقد الماء. والصيرورة إلى البدل يعبر عنها الفقهاء بإطلاقات منها:
أ) إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل.
ب) للبدل حكم المبدل.
2. أن يسقط بالكلية, كسقوط الصلاة عن الحائض والنفساء.
مسألة: هناك قاعدة في مسألة سقوط الواجب عند الضرورة وهي:
{الميسور لا يسقط بالمعسور}, وذلك لأن أوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته إذا لم يقدر على الواجب من الواجبات بالكلية سقط عنه وجوبه, إذا قدر على بعضه, إن كان ذلك البعض عبادة, وجب ما يقدر عليه وسقط عنه ما يعجز عنه.
قال العز بن عبدالسلام رحمة الله تعالى(إن من كُلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه فإنه يأتي بما قدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه).
دليل هذا الفرع:(1/34)
ذهب العلماء في استنباط هذه القاعدة إلى الشطر الثاني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم } (1), الشاهد قوله { وما أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم } وقد صرح بذلك الإمام تاج الدين السبكي في الأشباه والنظائر, كما يستدل لذلك أيضاً بقوله تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (2).
وقوله تعالى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } (3) أي بحسب قدرته واستطاعته.
من الأمثلة على ذلك:
* من عجز عن بعض غسل الجنابة لزمه الإتيان بما قدر عليه منه مثل: إنسان في البر أصابته جنابه ويخشى على نفسه الهلاك إن اغتسل, نقول يغسل ما استطاع, ويتيمم عن الباقي, فبعض الناس يترك الغسل مع أنه قد يستطيع أن يغسل رجليه مثلاً إلى الركبتين, أو إلى ما فوق ذلك أو بغسل يديه إلى العضدين, لأن تخفيف الجنابة مشروع حتى ولو يغسل أعضاء الوضوء.
* إذا عجز عن بعض الفاتحة لزمه الإتيان بالباقي, ونحو ذلك. ولكن يجب التنبه إلى مسألة وهي: أن ما لم يكن جزؤه عبادة مشروعة فإنه لا يلزم المكلف بالإتيان به, كما لو نذر أن يصوم يوماً ويقدر على صوم بعض يوم دون كله فإنه لا يلزمه إمساكه, لأن جزء اليوم ليس عبادة مشروعة.
قال {ولا محرم مع اضطرار}
وهذا ما يعبرون عنه بقولهم {الضرورات تبيح المحظورات}.
والمعنى: أن الشارع إذا منع من شيء وكان الإنسان محتاج إليه فإن هذه الضرورة تجعل هذا المحرم مباحاً بل قد يرتفع إلى درجة الوجوب والإلزام.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم
(2) التغابن: من الآية16)
(3) الطلاق: من الآية7)(1/35)
ولكن مع الأسف الشديد كثر في عصرنا الحاضر استعمال الضرورة على غير وجهها الشرعي حتى جعلت ذريعة لفعل كثير من المحظورات وترك الواجبات تحت ستار مبدأ التخفيف والتيسير على الناس دون التقيد بالضوابط الشرعية وهي ضوابط الضرورة, أو الجهل بأحكامها أو الجهل بالحالات التي يصح التقيد بها عند وجود مقتضياتها.
من أمثلة ذلك: توسع الناس في استقدام الخادمة مثلاً بحكم أن الضرورات تبيح المحظورات.
ومن ذلك أيضاً: النقاب مثلاً هذا موجود في عهد الصحابيات كن نساء السلف يلبسنه, لكن النساء الآن توسعن في استعماله تحت ذريعة هذه الضرورة فأصبحت تخرج شيئاً كبيراً وتجمل عينيها ونحو ذلك, وبعضهن غير محتاجه أصلاً للبسه ومع ذلك وإن لبسته للضرورة توسعت فيه فهي استعملت الضرورة استعمالاً زائداً عن الحد.
ولذلك قال الشاطبي رحمه الله تعالى( وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يتفق مع الغرض ويوافق الهوى الحاضر ومَحَالٌ الضرورات معلوم من الشريعة).
ومثال ذلك أيضاً: بعض النساء تسافر بغير محرم ربما لسنة من السنن وتدعي أنها مضطرة ولذلك قال(فيأخذ عند ذلك بما يتفق مع الغرض ويوافق الهوى الحاضر).
مفهوم الضرورة:
الضرورات: جمع ضرورة , مأخوذة من الاضطرار وهو الحاجة الشديدة والمشقة والشدة التي لا مدفع لها.
اصطلاحاً: هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال, ويتعين أو يباح عندئذٍ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع.
مسألة: ما هو حد الضرورة التي تبيح المحظور؟(1/36)
نقول بأن الاضطرار وإن كان سبب من أسباب إباحة الفعل إلا أنه لا ]ُسقط حقوق الآدميين وأن كان يسقط حق الله عز وجل يرفع الإثم والمؤاخذه عن المضطر أو المستكره فإن الضرورة لا تبطل حق الآدميين.
مثال: شخص وجد شاةً فذبحها مضطراً وأكل لحمها, جاءه صاحب الشاة وطالبه بالثمن فلا يقول أنا مضطر والضرورات تبيح المحظورات! نعم هو رفع عنه الإثم "المؤاخذة" لكن لا يعني ذلك أن حق الآدميين يسقط وإنما يجب عليه أن يدفع القيمة.
ولهذا قيدت هذه القاعدة بقاعدة أخرى وهي {الاضطرار لا يبطل حق الغير}.
أدلة هذه القاعدة:
* أما الآيات القرآنية التي تدل على هذه القاعدة في قوله {ولا محرم مع اضطرار} فهي خمس آيات:
1. منها آية واحدة نص فيها صراحة على ضرورة المخمصة " أي الجوع الشديد " وهي آية المائدة وقول الله عز وجل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) .
أما الآيات الأخرى فإنه يفهم منها إباحة المحظور عند وجود الضرورة وهي أربعة آيات:
2. قول الله عز وجل { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(2) } .
__________
(1) المائدة:3)
(2) النحل:115)(1/37)
3. قوله تعالى { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(1) } .
4. وقوله تعالى { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(2) } .
5. وقوله { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ(3) } .
*أما من السنة:
أ) فمن ذلك حديث أبي واقد الليثي قال { قلت يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا مخمصة "أي جوع"فما يحل لنا من الميتة؟ فقال إذا لم تصطحبوا "أي تصيبوا لبناً في الصباح" ولم تغتبقوا "أي تشربوا في المساء" ولم تحتفؤا بها بقلاً فشأنكم بها } (4) أي كلوا منها ما يدفع الضرر.
ب) من ذلك أيضا حديث جابر بن سمرة أن أهل بيت كانوا بالحرة محتاجين قال فماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها قال { فعصمتهم "أي انقذتهم من الهلاك" بقية شتائهم أو سنتهم(5) } .
تنبيه:
__________
(1) الأنعام:145)
(2) البقرة:173)
(3) الأنعام:119)
(4) رواه أحمد
(5) رواه أحمد في المسند(1/38)
يجب على المضطر أن يعلم أمراً مهماً وهو كونه يباح له هذا الشيء بالضرورة لا يعني أن يأخذ مجموع هذه الشيء إذا كانت الضرورة تندفع بالبعض أي إذا أبيح أكل الميتة للمضطر لا يعني هذا أنه يأكل إلى حد الشبع وإنما يأخذ بقدر ما تندفع به الضرورة ولذلك قالوا الضرورات تقدر بقدرها وهذا هو ما تفيده القاعدة التي بعد هذه وهي:
الضرورات تبيح المحظورات
- 17 -
وكل محظورٍ مع الضرورة ... بقدرِ ما تحتاجُهُ الضرورة
ومعنى القاعدة:
أن كل ما أبيح للضرورة من فعل أو ترك فإنما يباح بالقدر الذي يدفع الضرر والأذى دون ماعدا ذلك, فلا يباح بالضرورة محظور أعظم محذوراً من الصبر عليها, كما أن الاضطرار إنما يبيح من المحظورات مقدار ما يدفع الخطر ولا يجوز الاسترسال ومتى زال الخطر عاد الحظر.
ودليل هذه القاعدة:
قول الله عز وجل { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } (1) .
"غير باغ" : أي غير طالب له راغب فيه لذاته¸بمعنى أنه لا يرغب في هذا المحرم لمَا اضطر إليه ,غنما من أجل أن يدفع الضرر عن نفسه.
"ولا عاد" : أي متجاوز قدر الضرورة, وهذا هو الشاهد.
من أمثلة هذه القاعدة:
1) إن الجائع المضطر للأكل من الميتة لا يتناول إلا بقدر ما يسد جوعته, فلا يصل إلى حد الشبع.
2) الجبيرة, فليس له أن يزيد من الجبيرة فوق ما يحتاجه الجرح.
3) نظر الطبيب للعورة بقدر الحاجة, مثل نظر الطبيب للمرأة يجب أن يكون بقدر الحاجة, فالأصل أن تتطبب المرأة عند المرأة لكن إذا لم يوجد العلاج إلا عند طبيب رجل واضطرت إلى ذلك فإنها تكشف بقدر ما تندفع به هذه الضرورة فلا تكشف جميع وجهها مثلاً والعلاج لعينها أو أسنانها فقط.
قاعدة:
__________
(1) البقرة: من الآية173)(1/39)
هناك قاعدة لها صلة بقاعدة {الضرورات تبيح المحظورات} وهي قاعدة {ما جاز لعذر بطل بزواله} وهذه القاعدة قريبة في المعنى من قاعدة {الضرورات تبيح المحظورات} بل هي مكملة لها وهي ملحقة بها, إلا أن القاعدة السابقة وهي {ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها} يعمل بها أثناء قيام الضرورة, وهذه القاعدة تبين ما يجب فعله بعد زوال حال الضرورة.
معنى هذه القاعدة {ما جاز لعذر بطل بزواله}:
أن الأشياء التي تجوز بناءً على الأعذار والضرورات, إذا زالت تلك الأعذار والضرورات بطل الجواز فيها, فإذا زال العذر أمكن العمل بالأصل والفرع بدلاً عنه,أي إذا زال العذر: إذا اضطر إلى أكل الميتة مثلاً, فأكل ثم وجد طعاماً حلالاً ليس له أن يأكل من الميتة لأن هذه الميتة إنما حلت بعذر.
فلو جاز العمل بالبدل مع عدم الحاجة إليه للزم من ذلك جواز الجمع بين البدل والمبدل منه وهذا لا يجوز.
أمثلة هذه القاعدة:
* من تيمم لسبب مثلاً ثم زال السبب, إذا زال السبب رجع إلى الأصل وهو الماء.
* قصر الصلاة في السفر جاز لعذر وهو السفر, إذا رجع إلى بلده بطل قصر الصلاة.
أمر مهم في الجبيرة: بعض الناس يضع الجبيرة للضرورة وهي في موضع من مواضع الوضوء, ويقول له الطبيب بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام نزيل الجبيرة, فيتركها لمدة أسبوع مثلاً مع زوال العذر فيجب أن يُنتبه على مثل ذلك.
الشك لا يزيل اليقين
- 18 -
وترجع الأحكام لليقينِ ... فلا يُزيل الشكُ لليقينِ
أهمية هذه القاعدة:
هذه القاعدة أصل شرعي عظيم, مدار كثير من الأحكام الفقهية بل إنها تدخل في معظم أبواب الفقه من معاملات وعقوبات وأقضية, بناء على هذا قيل أن هذه القاعدة تتضمن ثلاثة أرباع علم الفقه, قال السيوطي عليه رحمة الله تعالى:
هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه, والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر.
وقال النووي مطردة لا يخرج عنها إلا مسائل.
تعريف اليقين:(1/40)
اليقين لغة: العلم وزوال الشك كذا قال الجوهري.
وأما اصطلاحاً: حصول الجزم أو الظن الغالب بوقوع الشيء أو عدم وقوعه.
تعريف الشك:
الشك لغة: فهو مطلق التردد.
أما في الاصطلاح تردد الفعل بين الوقوع وعدمه أي لا يوجد مرجح لأحد الطرفين على الآخر ولا يمكن ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.
لا يوجد مرح: أي لو إنسان شك50% و50% ولم يجد مرجح لأحد الطرفين على الآخر.
معنى القاعدة:
أن الأمر ثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع لا يُحكم بزواله بمجرد الشك, من جهة أخرى أيضاً المتيقن عدم ثبوته لا يحكم بثبوته بمجرد الشك لأن الشك أضعف من اليقين فلا يعارضه لا ثبوتاً ولا عدماً.
فالمعنى بشكل مبسط: أن الإنسان إذا تحقق من وجود شيء, ثم شكَّ في عدم وجوده, فالأصل الوجود لهذا الشيء.
وإذا تحقق من عدم وجود شيء, ثم شك في وجوده, فالأصل عدم الوجود, لماذا؟ لأن اليقين فيه تحقق والشك تردد, فالشك لا يقوى على إزالة اليقين لأنه أضعف منه.
أدلة القاعدة:
هذه القاعدة يدل لها القرآن الكريم والسنة النبوية والعقل.
* من القرآن الكريم:
مثلاً قول الله عز وجل { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(1) } .
الحق هنا بمعنى: الحقيقة الواقعة كاليقين.
* ومن السنة:
1) ما رواه البخاري في صحيحه عن عباد بن تميم عن عمه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم { لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتً أو يجد ريحاً(2) } .
فهنا:
__________
(1) يونس: من الآية36)
(2) رواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن زيد رضي الله تعالى عنه.(1/41)
النبي صلى الله عليه وسلم أعمل اليقين,لأن الرجل دخل الصلاة بطهارة يقينية, فكونه يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة هذا شك, لم يقل أخرج وإنما قال { لا ينصرف } أو { لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتً أو يجد ريحاً } لماذا؟ لأن اليقين لا يزول إلا بيقين مثله.
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم عند شرح هذا الحديث(هذا الحديث أصل من أصول الإسلام, وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه, وهي أن الأشياء يُحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك ولا يضر الشك الطارئ عليها.
2)ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه هل خرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. }
فهنا:
دخل الصلاة بطهارة يقينية وهذا الذي يجده شك, والشك لا يقوى على إزالة اليقين لأنه أضعف منه.
فائدة:
ولو فقه هذا من وقعوا في الوسوسة لارتاحوا كثيراً, ولذا فإن من أعظم أسباب الوسواس الجهل بشريعة الله.
أما من العقل:
اليقين أقوى من الشك لأن في اليقين حكماً قطعياً جازماً فلا ينهدم بالشك.
من أمثلة هذه القاعدة:
1- إذا تيقن الإنسان طهارة الماء ثم شكَّ في نجاسته, فلأصل الطهارة. وعكس هذه المسألة : إذا تيقن الإنسان إن الماء نجس ولكنه شكَّ في طهارته, فالأصل النجاسة.
2- إذا شك الصائم في غروب الشمس "وفرق بين الشك وغلبة الظن" لم يجز له الفطر, لأن الأصل بقاء النهار. ولو شك في طلوع الفجر جاز له أن يأكل, لأن الأصل بقاء الليل.
قواعد متفرعة عن هذه القاعدة {اليقين لا يزول بالشك} ومندرجة تحتها:
من ذلك:(1/42)
1) قاعدة {ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين} لأن اليقين إذا لم يزل بالشك فهو يزول ولا يرتفع بيقين مثله فقط, لأنه لما شكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة, قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً } . فسماع الصوت أو وجود الريح هو اليقين هذا هو الذي يقوى على إزالة اليقين الأول وهو دخوله على طهارة.
2) {الأصل بقاء ما كان على ما كان} , والمعنى أن ما ثبت على حال في الزمن الماضي ثبوتاً أو نفياً فإنه على حاله ولا يتغير ما لم يوجد دليل يغيره, لأن الاستصحاب في اللغة الملازمة وعدم المفارقة.
3) {الأصل براءة الذمة} وهذا مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم { البينة على المدعي, واليمين على المدعى عليه } (1).
والمعنى:
القاعدة المستمرة أن الإنسان برئ الذمة من وجود شيء أو لزومة, وكونه مشغول الذمة هذا خلاف الأصل لأن المرء يولد خالياً من كل دين أو التزام أو مسؤلية, وكل شغل لذمته بشيء من الحقوق إنما يطرأ بأسباب عارضة بعد الولادة, والأصل في الأمور العارضة العدم.
4) {الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته}, من أمثلة ذلك:
أ. لو ادعت الزوجة أن زوجها طلقها في مرض موته المخوف ليحرمها من الإرث, وادعى الورثة أنه طلقها في حال الصحة, فالقول قولها المرأة, لأن الأمر الحادث المختلف على زمن وقوعه هنا هو الطلاق في المرض, فيجب أن يضاف إلى الزمن الأقرب وهو مرض الموت الذي تدعيه الزوجة ما لم يقم الورثة البينة على أن طلاقها كان في حال الصحة.
__________
(1) رواه الترمذي وجاء بمعناه عند البخاري ومسلم في سنن ابن ماجة.(1/43)
ب. لو أن إنساناً استيقظ من النوم لما أراد أن يصلي الظهر, وجد في ثيابه أثر مني "احتلام" أشكل عليه هل هذا من نومه بعد صلاة الفجر فتكون صلاة الفجر صحيحة؟ أم أنه من الليل فيلزمه الاغتسال ثم إعادة صلاة الفجر؟ نقول إذا لم يتأكد ولم تقم قرائن فالأصل إضافة الحال إلى أقرب أوقاته وعلى هذا نحكم بأنه من نومه بعد صلاة الفجر, وبناءً على ذلك نحكم بصحة صلاة الفجر.
أيضا هناك بعض القواعد المتعلقة والمتفرعة عن الشك منها:
1- {لا عبرة بالتوهم} , إذا كان الشك غير معتبر فالوهم من باب أولى لأنه أضعف.
2- {لا عبرة بالظن البين خطؤه}.
3- {لا عبرة بالاحتمال غير الناشئ عن دليل}.
4- {كل مشكوك فيه فليس بمعتبر}.
5- {الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر شيئاً} ولذلك قالوا أن {الشك بعد الفراغ من العبادة ليس بمعتبر}.
فالشك في العبادة لا يلتفت إليه في ثلاث مواضع:
أ) بعد الفراغ من العبادة.
ب) إذا كان وهماً.
ج) إذا كثر مع الإنسان.
ولذلك قالوا {الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر شيئاً}. لكن أحياناً يكون الشك بعد الفراغ من العبادة له قرينة تدل على أن له حظ من النظر, فهنا يُعمل بالشك.
الأصل في المياه والأرض والملابس الطهارة
- 19 -
والأصل في مياهنا الطهارة ... والأرض والثياب والحجارة
هذه القاعدة مرتبة على القاعدة السابقة, ولذلك قال الناظم: فقلت الفاء هنا للتفريع, بناءً على القاعدة السابقة. ولكن من تأمل ما ذكرناه سابقاً من الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي يجد أن هذه القاعدة أقرب إلى الضابط الفقهي منها إلى القاعدة الفقهية , فهي ضابط فقهي وليس قاعدة فقهية.
معنى ذلك:
أنه لما تأصل في الشريعة أن المياه والثياب والأرض والحجارة الأصل فيها الطهارة, كأن هذا التأصيل يدل على أنه هو المتيقن, وعدم طهارة هذه الأشياء شكٌ يحتاج إلى دليل فلا يُضار إليه حتى يأتي دليل يدل على خلاف ذلك.(1/44)
ففقه هذا الضابط يسد باب الوسوسة الذي أُبتلي به كثير من الناس, فالأصل في الماء والأرض والثياب والحجارة الطهارة.
فإذا كان الشك لا عبرة به فمن باب أولى قولهم{لا عبرة بالتوهم} لأن الشك هو الأمر المتردد بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
وأما التوهم فهو: احتمال عقلي مرجوح بعيد نادر الحصول, ولا دليل عليه, ولا عبرة به, وهو باطل لا يعمل به ولا يترتب عليه حكم مثل الأوهام والخواطر التي تحصل للإنسان وتزول سريعاً, فبعض الناس جهلاً يعملها فإذا أعملها وقع في الوسواس.
وأما الظن فهو: اعتقاد الاحتمال الراجح الذي ظهر رجحانه على نقيضه بدليل معتبر.
وغالب الظن هو: رجحان أحد الجانبين على الجانب الآخر رجحاناً مطلقاً يطرح معه الجانب الآخر "فالمطروح من غالب الظن هو الوهم" ولذلك الوهم لا اعتبار له ولا اعتداد به في جميع أبواب الفقه من عبادات ومعاملات وقضاء وشهادات وجنايات وحقوق ...الخ.
فائدة:
بعض الناس يبني عبادته على أوهام ويقول هذا من باب الإحتياط في العبادة, فنقول إن الأصل في الماء الطهارة ما لم يتبين الإنسان النجاسة بقرينة, هذا أصل متفق عليه أي أن الماء الأصل فيه الطهارة والنجاسة طارئة عليه ولذلك لفظ ورود هذه القاعدة {الأصل في الماء الطهارة} فالماء الذي بقي على أصل خلقته كماء البحر والمطر والأنهار والآبار والعيون هو ماء طهور تصح به الطهارة من الاغتسال والوضوء وإزالة النجاسة والشرب وغير ذلك من استعمالاته ولا ينقله عن هذه الطهورية إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه.
أدلة طهارة الماء:
*هناك دليل عام من القرآن:
يدل على ذلك وهو قوله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً(1) } .
ومن ضمن ما خلق الله عز وجل الماء, والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في معرض الامتنان على عباده ولا يمتن الله عز وجل على عباده إلا بشيء طاهر مباح.
__________
(1) البقرة: من الآية29)(1/45)
أما الأدلة الخاصة التي تدل على طهارة الماء فمنها:
قول الله عز وجل { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } (1).
وقوله سبحانه وتعالى { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ(2) } .
* ومن السنة:
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم { الماء طهور لا ينجسه شيء } (3).
وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام في دعاء الاستفتاح ومما جاء فيه { اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد } (4).
ولا يمكن أن يطلب الرسول صلى الله وآله وسلم التطهير إلا بشيء طاهر بنفسه,لأنه لو لم يكن طاهر بنفسه لم يكن مطهراً لغيره.
الأدلة على طهارة الأرض:
الأرض كذلك الأصل فيها الطهارة ومن الأدلة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم { أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي " وذكر منها" وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا(5) } . فهذا الحديث يدل على طهارة الأرض وبناء على هذا إذا شك إنسان في طهارة الأرض من عدمها فالأصل الطهارة استصحاباً للأصل.
على هذا لو خرج إنسان إلى البر أو إلى استراحة ونحو ذلك وشك في طهارة الأرض من عدمها فالأصل الطهارة إلا إن تيقن النجاسة ونحوه فالأصل فيها الطهارة حتى يقوم دليل يقيني على نجاستها , وكذلك السجاد.
كذلك الأصل في الثياب: أنها طاهرة فإذا شك الإنسان في نجاسة ثوب من عدمها فالأصل الطهارة حتى يقوم دليل يقيني على نجاسته, ولذلك قالوا بأن كل ثوب جُهل من ينسجه,أنسجه مسلم أم مشرك أم يهودي أم وثني أم مجوسي أم كتابي أم لبسه واحد من هؤلا أو صبي؟؟ فهو على الطهارة حتى يُعلم أن فيه نجاسة.
وقوله الحجارة:
الأصل أنها من الأرض وأن طهارة الأرض يشمل طهارتها ويشمل ما عليها أيضاً من التراب والطين والأحجار ونحو ذلك.
__________
(1) الفرقان: من الآية48)
(2) لأنفال: من الآية11)
(3) رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وصحح الألباني.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه البخاري ومسلم.(1/46)
الأصل في الأبضاع واللحوم والنفس والأموال التحريم
- 20 -
والأصل في الأبضاع واللحوم ... والنفس والأموال للمعصوم
- 21 -
تحريمها حتى يجيءَ الحلُ ... فافهم هداكَ الله ما يُمل
معنى هذه القاعدة:
هذه عكس القاعدة السابقة, فالقاعدة السابقة ذكر أن الأصل في المياه والأرض والثياب والحجارة الطهارة حتى يجيء التحريم, أما هذه فقد ذكر أن الأصل في هذه الأشياء التحريم حتى يجيء الحل.
بمعنى أن المتيقن أن هذه الأشياء محرمة فلا يجوز استعمالها حتى يجيء دليل ناقض يبيح هذه الأشياء.
مسألة: لفظ ورود القاعدة {الأصل تحريم الأبضاع} وفي لفظ {الأصل في الأبضاع التحريم} وهي مستثناة من قاعدة {الأصل في الأشياء الإباحة}.
المراد بالأبضاع: الفروج, وهي جمع بضع يُقال بُضع أو بِضع بضم الباء وكسرها وهو الفرج, كناية عن النساء والنكاح, أي أن الأصل في النكاح أو الفروج الحرمة والحظر, وأبيح النكاح لضرورة حفظ النسل ولذلك الله عزوجل لم يبحه إلا بأحد طريقين: عقد النكاح أو ملك اليمين, وماعداهما فهو محظور. وإنما عبر بالجزء عن الكل قال "والأصل في الإبضاع" لأن المقصود الأعظم من النساء هو الجماع وابتغاء النسل, فالقاعدة المستمرة أن علاقة الرجال بالنساء مبناه على التحريم والحظر لما في ذلك من كشف العورات وهتك الأستار واختلاط الأنساب فلا يحل منهن إلا ما أحله الشرع.
على هذا لو اختلطت زوجته بنساء واشتبهت لم يجزئ له وطء واحدة منهن بالاجتهاد بلا خلاف سواء كن محصورات أو غير محصورات, لأن الأصل التحريم والأبضاع يحتاط لها والاجتهاد خلاف الاحتياط.
وهناك قاعدة أخرى: حول هذه وهي ترجيح المحرم على المبيح عند اجتماعهما كقوله: أن الأصول "أي أصول الشريعة" مقررة على أن كثرة الحرام واستواء الحلال والحرام يوجب تغليب حكمه بالمنع كأخت أو زوجة اختلطت بأجنبية " الأخت ليس بالوطء وإنما بالنظر والمحرومية ونحو ذلك.(1/47)
فعلى هذا تكون جميع فروج بني آدم الأصل فيها الحرمة فلا يجوز للإنسان أن يعتدي إلا بيقين وهذا اليقين هو السبب الشرعي المبيح له وهو عقد النكاح أو ملك اليمين, وبناء على هذا فان الزاني واللائط كلاً منهما يُعد معتدياً وعاص لله عز وجل ولرسوله صلى الله وآله وسلم.
أما قوله "واللحوم" :
قوله أن الأصل في اللحوم التحريم هذا مشتبه لأن الأصل في الأطعمة الحل ومع ذلك, من القاعدة قولهم {الأصل في الحيوان التحريم} وقولهم {الأصل في الذبائح التحريم} وقولهم {الأصل في الأطعمة الإباحة ما لم يرد التحريم}.
فهذه القواعد تدل على اختلاف النظر في حكم الحيوانات من حيث الأصل فيها هل الأصل فيها التحريم بحيث لا يحل حيوان إلا ما قام الدليل على حله؟ وهذا قال به بعض الشافعية بناءً على الأصل الأول, مع أن الأصل عند الشافعي رحمه الله تعالى(حل الأشياء إلا ما قام الدليل على تحريمه).
والقول بأصل الحل قال به بعضٌ آخر من الشافعية والحنابلة بناءً الأصل عندهم وهو الحل.
وبناءً على هذا إن أراد الناظم أن الأصل في اللحوم الحرمة فإن هذا لا يوافق عليه لأن الأصل فيها الحل. ولكن مع ذلك يُعتذر للشيخ السعدي رحمه الله تعالى وهذا أدب من آداب طالب العلم ولذلك من آداب طالب العلم أن يعتذر للعالم إذا أخطأ أو زل وأن يحمله على أحسن المحامل مع بيان الحق فلا تلازم بين الاعتذار للعالم وبيان الحق له, فبعض الناس يرى أنه إذا اعتذر له لا يبين له الحق أو إذا بين له الحق بأسلوب مؤدب أنه لا يعتذر له, فنقول: لا ليس بينهما تلازم, وليس كما هو الحاصل الآن مع الأسف فالبعض لا يفرق بين عالم أخطأ في مسألة وبين زنديق منافق يخبط في الشريعة خبط عشواء فيتهجم على هذا ويتهجم على هذا وهذا لا شك من قلة الفقه في الدين ومن سوء الأدب مع أهل العلم فإنه جلّ من لا يخطئ والكمال البشري إنما هو لأنبياء الله ورسوله.(1/48)
فبناءً على هذا كما قلنا نعتذر للشيخ ونقول لعله أراد بذلك اللحوم التي يعتريها صفة حل وصفة حرمة, فإن جانب الحظر يُقدم هنا لأنه يشترط شروطاً في الحيوان المذبوح, وفي الذابح وفي آلة الذبح وفي كيفيته وما لا يحل غلا بشروط فأصله التحريم كالأبضاع حتى قالوا أن الأصل في البضاع والذبائح التحريم فجمعوا بينهما.
وعلى هذا لو ضرب الإنسان صيداً وأصاب جناحه ثم وجده قد سقط في ماء ومات, الآن موت هذا الصيد محتمل أنه من رميه ويحتمل أنه قد مات غرقاً فلا يحل, فأجتمع فيه جانب حظر وجانب إباحة فيُقدم جانب الحظر, لأن الجناح إصابته لا تقتل غالباً.
فعلى هذا اجتمع سبب مبيح وسبب محرم فإنه يُقدم السبب المحرم.
وقوله {والنفس والأموال للمعصوم}:
والمعنى أن الأصل في النفس والأموال للمعصومين التحريم, وهذا قيدها بالمعصومين فعلى هذا لا يجوز الاعتداء على نفس أو مال أحد إذا كان معصوماً, والمعصوم هو:
1) المسلم فهو معصوم الدم والمال والعرض, فلا يجوز سلب شيء منه إلا بحق .
2) الذمي وهو معصوم المال والدم وهو من أقر على كفره بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.
ولأبد لأهل الذمة حتى يكونوا معصومي الدم والمال من إلتزام أربعة أحكام:
أ- أن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
ب- أن لا يذكروا دين الإسلام إلا بخير.
ج- ألا يفعلوا ما فيه ضرر على المسلمين.
د- أن تجرى عليهم أحكام الإسلام.
فأهل الذمة يحرم قتالهم, وأخذ مالهم, ويجب على الإمام أن يحفظهم, وأن يمنع من يؤذيهم لأنهم إنما بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم والدليل على ذلك قول الله عز وجل { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(1) } .
__________
(1) التوبة:29)(1/49)
3) المستأمن وهو من دخل بلاد المسلمين بأمان لفترة محدودة’ يؤمن حتى يبيع تجارته ويرجع أو حتى يسمع كلام الله ونحو ذلك. لكن لابد أن يكون المؤمن مسلماً عاقلاً مختاراً. فمن حصل له الأمان فهو معصوم الدم والمال والدليل على ذلك قول الله عز وجل { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } (1).
4) المعاهد وهو من كان خارج بلاد المسلمين وبيننا وبينهم عهد كالمعاهدات بين الدول, والمعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من غدر فإنه انتقض عهده فلا عهد له, ولذلك الله تعالى قال { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ } (2).
القسم الثاني: من استقام لنا فإننا نستقيم له ويبقى على عهده لقوله تعالى { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ(3) } . فهؤلا لهم عصمة الدم والمال.
القسم الثالث: من خيف منه الغدر كأن تقوم قرائن بأنه سيغدر, فإننا ننبذ إليه العهد ونخبره بأنه لا عهد بيننا وبينه لنكون نحن واياه على سواء كما قال الله عز وجل { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(4) } . كذلك الأصل في أموال الناس أنها معصومة لا يجوز آخذها إلا بالحق, ولذلك حرم الله عز وجل السرقة والغصب والربا لأنها أكل لأموال الناس بالباطل. ولذلك شرع الله تعالى حدوداً كحد القتل والسرقة والقذف فتشريع مثل هذه الأمور تفيد آن الإنسان له حرمة وكرامة وانه يحرم الاعتداء عليه بآي نوع من أنواع الاعتداء إلا بمسوغ شرعي.
أدلة هذه القاعدة:
__________
(1) التوبة:6)
(2) التوبة: من الآية12)
(3) التوبة: من الآية7)
(4) لأنفال:58)(1/50)
قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } (1).
وقول الله سبحانه وتعالى { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا(2) } .
قول الله عز وجل { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً(3) } .
قول النبي عليه الصلاة والسلام { أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا(4) } .
الأصل في العادات الإباحة
- 22 -
والأصلُ في عاداتنا الإباحة ... حتى يجيءَ صارفُ الإباحة
مقدمة: للعرف والعادة اثر كبير في القواعد الفقهية فلم يخلُ كتاب من كتب القواعد من قاعدة أساسية في العرف والعادة أو قاعدة من القواعد المتفرعة على قاعدة أساسية فيهما, ذلك لأن الأفعال العادية وإن كانت أفعالاً شخصية حيوية ليست من قبيل المعاملات ولا العلائق المدنية والحقوقية, إلا أنه عندما يتعارفها الناس وتجري عليها عادات حياتهم يصبح لها تأثيرا وسلطان في توجيه أحكام التصرفات فتثبت الأحكام على وفق ما تقتضيه العادة. ولمّا نظر الفقهاء إلى هذا المعنى رأوا اعتبار العرف والعادة في التشريع وبناء الأحكام عليها لم يغفلوا ذلك وهم يقعدون القواعد أو يخرجون الفروع والمسائل المفرعة على هذه القواعد وقد ذكروا أكثر من قاعدة تتعلق بالعرف وتحكيمه في الوقائع والتصرفات.
ومن هذه القواعد قاعدة:
{العادة مُحكمة}, ولأن العرف هو الطابع العام الغالب على جميع هذه القاعدة وفروعها فيمكن أن نضعها تحت "نظرية العرف".
أهمية القاعدة:
__________
(1) النساء: من الآية29)
(2) النساء: من الآية93)
(3) النساء: من الآية29)
(4) رواه البخاري ومسلم(1/51)
موضوع هذه القاعدة يعتبر موضوعاً غضاً طرياً يستجيب لحل كثير من المسائل والحوادث الجديدة, ذلك لأنه يتضمن كثير من المسائل التي تتمتع بسعة ومرونة بجانب كونها محيطة بكثير من الفروع والمسائل, فمن أمعن النظر في هذه القاعدة, ولم ينكر "تغير الأحكام المبنية على الأعراف والمصالح بتغير الزمان" أدرك سعة آفاق الفقه الإسلامي وكفاءته الفاعلة الكاملة لتقديم الحلول الناجحة للمسائل والمشاكل المستحدثة, وصلاحيته لمسايرة ركب الحياة ومناسبته لجميع الأزمنة والأمكنة, وذلك بأن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان لكنه ليس خاضع لكل زمان ومكان.
يقول ابن عابدين في رسائله:
والعرف في الشرع له اعتبارُ لذا عليه الحكم يُدارُ
ويقول أيضاً رحمه الله تعالى:
وأعلم أن اعتبار العرف والعادة رُجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلاً فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة " تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة" .
في شرح الأشباه للبيري قال: {الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي}.
وفي المبسوط للسرخسي قال: {الثابت بالعرف كالثابت بالنص}.
ونبه بعضهم إلى أهميتها بقوله: {من مهمات القواعد اعتبار العادة والرجوع إليها وكل ما شهدت به العادة قُضي به وما يُعاف في العادات يكره في العبادات}.
تعريف العادة:
العادة في اللغة: جاء في لسان العرب أن العادة هي الديدن وهو الدأب والاستمرار على الشيء وسميت بذلك لأن صاحبها يعاودها ويرجع إليها مرة بعد أخرى كما قال الله عز وجل { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(1) } , وقال سبحانه وتعالى) وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } (2).
__________
(1) المؤمنون:107)
(2) الأنعام: من الآية28)(1/52)
كذلك تعريف العرف في اللغة: قريب من معنى العادة, ولذا قال صاحب معجم مقاييس اللغة أحمد بن فارس "عَرَفَ" العين والراء والفاء أصلان صحيحان يدل أحدهما على السكون والطمأنينة, فهي قريبة من معنى العادة لأنهم اشترطوا فيها لتكون عادةً أن تتكرر مرةً بعد أخرى, أيضاً أُشترطٍ في العرف تتابعه واستمراره بمعنى أن العادة يمكن أن تصير عرفاً إذا استمرت بعد تكررها.
أما العادة عند الفقهاء: فقد عرفها القرافي رحمه الله تعالى بأنها غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها.
أما العرف عند الفقهاء فهو: ما استقر في النفوس واستحسنته العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول واستمر الناس عليه مما لا ترده الشريعة وأقرتهم عليه.
ما هي النسبة بين العرف والعادة؟
العادة أعم من العرف لأن العادة الفردية وعادة الجمهور التي هي العرف, فالعادة أعم مطلقاً وأبداً والعرف أخص إذا هو عادة مقيدة, فكل عرفٍ عادة وليست كل عادةٍ عرفاً, لأن العادة قد تكون مشتركة "أي العادة جماعية أو فردية" كل ما اعتاده شخصٌ بعينه كطريقة لبسه, طريقة مشيته, طريقة أكله, طريقة حديثه وهكذا.
أما العرف فهو ما تعارف عليه أهل البلد واعتادوه. فنستطيع أن نخلص بعد هذا وأن نقول بأن العادة أعم, لأنها تشمل العادة الجماعية "عادة أهل البلد" وتشمل العادة الفردية "وهو ما اعتاده شخص بعينه".
أما العرف الذي هو ما تعارف عليه أهل البلد فقط يشمل أهل البلد ولا يشمل العادة الفردية. لكن العرف والعادة هما بمعنى واحد إذا ما تحدث عنهما الفقهاء وبنوا الأحكام عليهما ولا وجه للتفريق بينهما.
فالعادة: عادة جماعية أو فردية "ما اعتاده شخص بعينه".
العرف: هو ما تعارف عليه أهل البلد واعتادوه.
معنى هذه القاعدة:(1/53)
أي قاعدة {العادة مُحكمة} في الاصطلاح الشرعي: أن العادة تجعل حكماً لإثبات حكم شرعي أي أن للعادة في الاعتبار الشرعي حاكمية تخضع لها أحكام والتصرفات فتثبت تلك الأحكام على وفق ما تقضي به العادة أو العرف إذا لم يكن هناك نصٌ شرعي يخالف تلك العادة.
أمثلة على هذه القاعدة:
1) في باب الحيض والنفاس: قالوا لو زاد الدم على أكثر أيام الحيض والنفاس يُرد إلى أيام عادتها وما زاد يُعتبر دم فساد, وتعرف أيام عادتها بالعادة أي عادة أيامها ستة أو خمسة أيام على حسب عادتها, فهنا حكمنا العادة والعرف.
2) الحركة لغير مصلحة الصلاة إن كانت كثيرة بطلت الصلاة وإن كانت قليلة فإنها لا تبطل الصلاة, فضابط هذه الحركة سواء الكثيرة أو القليلة راجع إلى العرف.
3) بيع السلم هو تعجيل الثمن وتأخير الثمن. والسلم من البيوع التي شرعت خلاف القياس دفعاً للحرج وتسهيلاً على الناس, وهذه أبيحت لتعارف الناس بها في معاملاتهم. مثال على ذلك ان يأتي المزارع إلى التاجر ويقول أعطني مائة ألف ريال وأعطيك من محصول السنة القادمة ثلاثة الآف كيلة من القمح مثلاً , فالأصل أن هذا لا يجوز لكن أبيحت كما قلنا دفعاً للحرج وتسهيلاً على الناس.
4) الكفاءة في الزواج من حيث الدين والحرية والسلامة من العيوب والحرفة يُعول في معرفتها على ما تعارفه الناس من الصفات التي هي معظمة عندهم أو محقرة أو الحرفة التي هي شريفة أو غير شريفة, وتفصيل ذلك مرجعه إلى العرف والعادة ونحو ذلك.
مسألة: أقسام العرف من حيث مضمونه:
ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: عرفٌ لفظي وهو القولي وهو أن يشيع بين الناس استعمال بعض الألفاظ أو التراكيب في معنى معين بحيث يصبح ذاك المعنى هو المفهوم المتبادر إلى أذهانهم عند الإطلاق بلا قرينة. فإطلاقات البلدان تختلف فقد يطلق شيء في بلد نجد لفظه يختلف في بلد آخر والمعنى واحد.(1/54)
القسم الثاني: عرفٌ عملي وهو اعتياد الناس على شيء من الأفعال العادية كطريقتهم في الزواج, طريقتهم في اللبس ونحو ذلك.
مسألة أخرى: أقسام العرف من ناحية من يصدر عنه:
وهذا أيضا قسمين:
القسم الأول: قسمٌ عام وهو ما يشترك فيه غالب الناس في جميع الأزمان على اختلاف أزمانهم وبيئاتهم وثقافاتهم ومستوياتهم هذا كتقديم الطعام للضيف.
القسم الثاني: عرفٌ خاص وهو ما يختص ببلد أو فئة من الناس دون أخرى كأعراف الزواج ونحو ذلك.
أدلة هذه القاعدة:
* من القرآن:
1. من ذلك قوله تعالى { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (1), يقول ابن الغرس: معناه اقضِ بكل ما عرفته النفوس وألا يرده الشرع, وهذا أصل القاعدة الشرعية في اعتبار العرف وتحتها مسائل كثيرة لا تحصى.
2. قول الله تعالى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى(2) } , ذكر صاحب المواهب السنية شرح نظم القواعد الفقهية عند قاعدة {العادة محكمة} يقول( بأنه يستدل بهذه الآية على اعتبار العرف في التشريع ووجه الاستدلال على أن السبيل معناه لغة الطريق وسبيل المؤمنين طريقهم التي استحسنوها وقد توعد الله بالعقاب والعذاب من اتبع غير سبيلهم فيجب العمل بها).
__________
(1) لأعراف:199)
(2) النساء: من الآية115)(1/55)
3. قول الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ(1) } , يقول الإمام العلائي بعد أن ذكر الآية الكريمة (أمر الله عز وجل بالاستئذان في هذه الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال ووضع الثياب فانبنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه).
*أما من السنة:
يستدل على العرف والعادة من وجهين:
أ) السنة القولية: من ذلك ما رواه البخاري في صحيحة من حديث عائشة رضي الله عنها أن هنداً بنت عتبة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم { خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف } , قال النووي في شرح مسلم عند هذا الحديث, في هذا الحديث فؤائد وذكر منها:
اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي.
ب) السنة التقريرية: فقد تعارف الناس في زمن النبي عليه الصلاة والسلام أموراً تتعلق بشؤون الحياة فلم يحرمها أو ينههم عنها, فدل على جوازها, كما تعارفوا أموراً جاء ما يفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام أقرهم عليها أو شاركهم في فعلها, فهذا أيضاً يدل على جوازها.
ومن أظهر الأمثلة على ذلك: عقد السلم, فقد عرفه العرب في الجاهلية وأقرهم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وفيه ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قد النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وهم يُسلِفُون الثمر السنة والسنتين فقال { من أسلف في شيء ففي كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم } .
مسألة: شروط أعمال العرف والعادة
__________
(1) النور: من الآية58)(1/56)
ليس كل عرف صالحاً لبناء الأحكام الفقهية عليه ولا اعتباره دليلاً يرجع إليه الفقيه إذا أعوزه النص من كتاب أو سنة أو إجماع بل جعل العلماء للعرف والعادة شروطاً وهي:
الشرط الأول: أن تكون العادة أو العرف مطردة أو غالبة, قال السيوطي رحمة الله تعالى عليه في الأشباه والنظائر "إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإذا اضطربت فلا" ومعنى ذلك أن يكون عمل أهل البلد بهذه العادة مستمراً في جميع الحوادث لا يتخلف كتعجيل المهر قبل الدخول إذا تعارف أهل البلد على ذلك.
الشرط الثاني: أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات قائماً عند إنشائها, ولذا قالوا {لا عبرة بالعرف الطارئ} ومعنى ذلك أن يكون العرف الذي يحمل عليه التصرف موجوداً وقت إنشائه بأن يكون حدوث العرف سابقاً على وقت التصرف ثم يستمر إلى زمانه فيقارنه سواء أكان التصرف قولاً أو فعلاً.
الشرط الثالث: وهو شرط مهم, أن لا يكون في العرف تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة, ولذلك لا عبرة بالعرف إذا خالف النص الشرعي كتعارف الناس كلهم على شرب الخمر ولعب الميسر, ومشي النساء وراء الجنائز, وزيارة النساء للمقابر, وإضاءة الشموع على المقابر.
لو تعارف أهل بلد مثلاً على أن الزوجة تجلس مع إخوان زوجها تسلم عليهم وتصافحهم بيدها فهذا العرف والعادة لا يعطيه صيغة الحل, فلينتبه لذلك لمخالفته للنص.
الشرط الرابع: أن لا يُعارض العرف تصريح بخلافه, قال العز بن عبدالسلام "كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح".(1/57)
مثل: لو ذهب إنسان واشترى بضاعة واختلف مع البائع في من ينقل هذه البضاعة إذا كان عرف أهل البلد أن البائع هو الذي ينقلها وأثناء كتابة العقد قال البائع للمشتري, الأصل والعرف أني أنا الذي أنقل البضاعة لكن سأكتب عليك شرط أنك أنت الذي تنقلها فكتب شرطه, فحصل خلاف فهل القاضي يحكم بالعرف أم بالشرط؟ يحكم بالشرط لا بالعرف, لأن العرف هذا عارضه تصريحُ بخلافه.
إطلاقات القاعدة:
1/ العرف بين التجار كالمشروط بينهم.
2/ التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.
3/ لا عبرة بالعرف الطارئ.
4/ استعمال الناس حجة يجب العمل به.
5/ إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت.
6/ المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
الأصل في العبادات التحريم
- 23 -
وليس مشروعاً من الأمورِ ... غيرُ الذي في شرعنا مذكور ة
لما قعَد المؤلف وقيد أن الأصل في العادات الإباحة ناسب أن يقعد في باب العبادات لما كان الأصل في العادات الإباحة بين في القاعدة أن الأصل في العبادات الحظر والمنع وهذه قاعدة مهمة حتى لا يُخلط بين العادات والعبادات, وهذا القول هو الذي يُعبر عنه الفقهاء بقولهم {الأصل في العبادات المنع} أو {أمر العبادات مبنية على التوقيف}.
فبناءً على هذه القاعدة لا يجوز للإنسان أن يلزم نفسه أو غيره بعباده غير منصوص عليها بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس
معنى القاعدة:
وبناءً على ذلك يكون معنى القاعدة أن العبادات التي يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل لا يجوز أن يلزم أحد بها إلا بموجب نص شرعي, وكذا لا يجوز أن تُعمل إلا على وفق ما أمر الله تعالى بها وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم. أما ما عدا هذه الأمور فمهما أعطاها الناس صيغة التشريع وألبسوها لباس الشرع فهي خارج دائرة العبادة, بل يحرم أن تسمى عبادة حتى يأتي دليل من الشرع على مشروعية هذا الشيء.
فؤائد القاعدة:(1/58)
1/ عندما نقول أن الأصل في العبادات الحظر والمنع فإن {المُطالب بالدليل هو المشغل للذمة} أي الموجب للذمة وليس النافي, فمن أوجب علينا صلاة ستدسية فهو المطالب بالدليل وليس النافي لها.
2/ عند تعارض الأدلة وخاصة في المسائل التي يكون لكل قول منها قوة وحظ ونظر, فإذا كانت الأدلة بعضها يوجب وبعضها يدل على عدم الوجوب فعندما لا يوجد دليل يقوي أحد القولين على الأخر فإنه يستأنس بالأصل وهو عدم الوجوب, وهذا معنى قولهم {الأصل براءة الذمة}.
3/ سد باب الابتداع وهي المُحدثة على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ولو تحقق فيما أسموها عبادة بعض المصالح فإنها مصالح موهومة, ولذا تقدم شروط إعمال المصلحة ومن ذلك ألا تخالف نص الكتاب والسنة, لأن بعض الناس قد يعطي البدعة قوالب جميلة وذلك كبدعة المولد حينما تلبس بعض المصالح من إحياء لذكر النبي صلى الله عليه وسلم ودراسة لسيرته, وتعويد للناشئة على محبته وتعظيمه عن طريق إحياء هذه البدعة وتسميتها زوراً عبادة, فإن هذا باطل, لأن الأصل في العبادات أنها متوقفة على النص ولو كان ذلك خير لسبقنا إليه أصحاب القرون المفضلة.
4/ رد على العقلانيين الذين يجعلون للعقل حاكمية في التشريع وهو: ما يسميهم العلماء بدعاة التحسين والتقبيح العقليين, فهم يجعلون للعقل رأي وحكم في قضايا الشرع فهم بناءً على ذلك شرعوا عبادات لم تكن واجبة وأنما من باب إتيان العبادة من وجه آخر على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم وقد يكون أحياناً بإسقاط ما أوجيه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم, وكلا هذين الأمرين شر, فالعقل إنما يعمل في ضوء الدائرة المسموح له بها وما جاوز ذلك ضلال وبدعة, ومن رأى حال العقلانيين وسمع مقالهم رأى العجب العجاب, والله المستعان.
أدلة القاعدة:(1/59)
1. من ذلك قوله تعالى { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ(1) } , فأثبت الله تعالى الحكم في هذه الأمور إلى نفسه ونفاها عما عداه بصيغة الاستثناء.
2. قوله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (2), جاء الاستفهام هنا استفهاماً إنكارياً على الذين يشرعون ما لم يأذن به الله تعالى ويزيدون قي الأحكام الشرعية على خلاف مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
3/ حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد(3) } , فهنا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من عمل عملاً ليس عليه أمر الله تعالى ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه غير مقبول.
الوسائل تعطى أحكام المقاصد
- 24 -
وسائل الأمور كالمقاصدِ ... واحكم بهذا الحكم للزوائدِ
معنى القاعدة:
أراد المؤلف رحمه الله تعالى بهذا البيت القاعدة التي يعبر عنها الفقهاء بقولهم {الوسائل لها أحكام المقاصد} المراد بذلك أن الوسيلة إلى الشيء تأخذ حكم المقصد.
تعريف الوسيلة:
الوسائل جمع وسيلة وهي الطريقة التي تتوصل بها إلى الشيء المراد.
مثال ذلك:
الخروج إلى صلاة الجماعة, صلاة الجماعة واجبة على الرجال القادرين, لما كان هذا الواجب لا يتحقق إلا بالسعي إليه فإن سعيه يأخذ حكم المقصد وهي الصلاة جماعة وعلى هذا سعيه إلى المسجد يكون واجباً, وهو من جهة أخرى مأجور عليه, لأنه وسيلة إلى تحصيل مقصود شرعي, وهذا هو معنى قولهم {ما لا يتم الواجب به فهو واجب} هذا مع أن المشي في الأصل مباح.
كذلك من جهة أخرى الوسيلة إلى محرم محرمة, فمن سافر مثلاً إلى بلاد الكفار لغير حاجة فهو آثم في طريقه.
ومن خرج إلى سرقه فإن مشية حرام, مع أن الأصل في المشي كما تقدم الحل.
__________
(1) يوسف: من الآية67)
(2) الشورى: من الآية21)
(3) رواه البخاري ومسلم.(1/60)
والمقاصد: المقصود بها هي الأمور التي يقصدها المكلف من فعل واجب أو مسنون أو محرم أو مكروه أو مباح, فلوسيلة إلى الواجب واجبه و الوسيلة إلى المندوب مندوبة والوسيلة إلى المكروه مكروهة و الوسيلة إلى المباح لا نقول أنها مباحة لكن سيأتي بيانها.
أدلة هذه القاعدة:
* عموم أدلة الشريعة, ومن أعظم الأدلة على ذلك هي الأدلة التي تدل على استصلاح العباد في منعهم مما يضرهم وحثهم على ما ينفعهم, فيقتضي ذلك منعهم من كل طريق فعلى هذا تكون عموم أدلة الشريعة تدل على هذه القاعدة.
* أما الأدلة الخاصة من القرآن فمنها:
1) قوله تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (1).
2) قول الله عز وجل { وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (2).
في الآية الأولى قال { وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً } في الثانية { وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً } فالأصل أن الوطْ في الأرض وقطع الأودية الإباحة لكن لما كان ذلك يٌتوصل عن طريقه إلى إغاظة الكفار والنكاية بهم أخذ حكم المقصد, فهو مأجور على ذلك.
* ومن السنة: حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة } (3), لما طلب العلم لا يٌتصل إليه إلا بنقل الأقدام والخروج رُتب عليه مثل هذا الأجر العظيم.
مسألة: الوسيلة إلى المباح
__________
(1) التوبة: من الآية120)
(2) التوبة:121)
(3) رواه أحمد وأبو داوود والنسائي وابن ماجه وأشار إليه البخاري في صحيحه.(1/61)
من المعلوم أن المباح الأصل أن الإنسان لا يؤمر به ولا يُنهى عنه أي أنه مخير بين فعله وتركه وهذا من حيث التقعيد.
ومن حيث الحكم فإن المباح لا يتعلق به إثابة ولا معاقبة, لكن الفقهاء رحمهم الله تعالى قالوا "حينما يتحول المباح إلى وسيلة فإنه يأخذ حكم المقصد". فمثلاً السفر أصله مباح, فهذا يسافر لإرادة الحج الواجب فتكون هذه الوسيلة واجبة, وإن كان حجة نفلاً تكون الوسيلة مندوبة وهكذا.
ولعل حديث عمر رضي الله عنه { إنما الأعمال بالنيات } يدل على ذلك دلالة لفظية صريحة, فصورة العمل وهي الهجرة أصلها مباح وحدها, لكن هذا المباح أخذ حكم هذا المقصد.
قوله "واحكم بهذا الحكم للزوائد":
عرفنا أن الوسائل لها أحكام المقاصد فكذلك أيضا الزوائد لها أحكام المقاصد.
ما المقصود بالزوائد؟
المقصود بها كما قال السعدي عليه رحمة الله تعالى(هي المتممات للأعمال التي لا يكمل العمل إلا بها).
مثال على ذلك, مثلاً ذهاب إنسان إلى عبادة يؤجر عليها كما تقدم, وهي كما تقدم بحسب حال المقصد إن كان المقصد واجباً فالوسيلة كذلك, وإن كان مسنوناً فالوسيلة كذلك, كذلك الرجوع من العبادة له حكم المقصد, لأن لا يمكن أن يتم ذلك المقصد إلا بذهابه ورجوعه, كذلك لا يمكن للإنسان أن يجلس بعد ذهابه دائماً فلا بد له من الرجوع. وهذا من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة حيث أنها شرع لها من الأمور ما يكفل لها تعظيم الأجور ورفع الدرجات, حتى المباح ينقلب إلى عبادة إذا احتف به أمر شرعي مقصود كمن نام مبكراً ليس لذات النوم وإنما قصد بذلك أن ينشط لصلاة الليل أو من أجل أن يبادر لصلاة الفجر, فنومه عبادة, مع أن الأصل في النوم أنه من قبيل المباح.(1/62)
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال { وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها حتى ما تجعل في فيَ امرأتك } (1), قال النووي رحمه الله تعالى عليه(الغالب أن الإنسان لا يضع اللقمة في فيّ زوجته إلا على سبيل المداعبة لكن إن قصد بذلك إدخال السرور عليها أجر على ذلك, لأن إدخال السرور على المسلم يؤجر عليه الإنسان فكيف إذا كانت الزوجة والتي لها حق عظيم.
فعلى هذا نقول بأن المباح ينقلب إلى عبادة لكن بشرط أن الإنسان يستحضر النية الصالحة الصادقة.
وأيضاَ نقول: حتى وسائل الدعوة إلى الله عز وجل تأخذ حكم المقصد لكن ليس معنى ذلك أن يُدعى إلى الله عز وجل بوسيلة محرمة, فبعض الناس يقول الغاية تبرر الوسيلة هذا ليس بصحيح, فلا شك أن الواجب أو المسنون إذا كان يُتوصل إليه بوسيلة محرمة أن الإنسان يُقر على ذلك ولا يجوز له ذلك.
ارتكاب المحظور نسيانا أو خطأ أو إكراها
- 25 -
والخطأُ الإكراهُ والنسيانُ ... أسقطه معبودنا الرحمنُ
- 26 -
لكن مع الإتلاِف يثبتُ البدل ... وينتفي التأثيمُ عنه والزلل
معنى القاعدة:
أراد المؤلف رحمه تعالى في هذا البيت أن هناك ثلاثة أفعال للمكلفين أسقط الله عنهم التكاليف في حال وجودها, وهذا التقعيد للمؤلف إنما هو تبع لقاعدة تقدمت معنا وهي {المشقة تجلب التيسير} فإسقاط الإثم عن المخطئ والمكره والناسي من تيسير الشريعة, لأن المخطئ غير قاصد والمكره لا إرادة له, والناسي غفل حتى فاته العمل فهؤلا "المخطئ, والمكره, والناسي" يجمع بينهم عدم القصد, عدم قصد الفعل المحرم أو عدم قصد ترك الفعل الواجب, فهذه الأمور سببٌ من أسباب التخفيف على العباد فهذه الأشياء تسقط التبعة والإثم عن الإنسان. لكن حتى لا نفهم أن هذه الأشياء تسقط كل شيء استدرك المؤلف وقال:
لكن مع الإتلاِف يثبتُ البدل ... وينتفي التأثيمُ عنه والزلل
__________
(1) متفق عليه(1/63)
بمعنى أن الخطأ والنسيان والإكراه يسقط حق الله عز وجل فينتفي عنه الإثم والزلل, أما البدل فإنه يبقى في الذمة ولا يسقط , والبدل هو من حقوق العباد فلا تسقط, لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة وحقوق الله مبنية على المسامحة مثال على ذلك: لو أن إنسان أفطر في رمضان مثلاً مكرهاً أو ناسياً سقط الإثم عنه بل ولا قضاء عليه, لأنه غير قاصد, فلا إثم عليه ولا قضاء, لأن هذا يتعلق به حق الله عز وجل.
مثال آخر لو أن إنساناً مثلاً أصلح سيارته وتفقدها وسار بها سيراً صحيحاً فانحرفت به السيارة لوجود خلل فيها فارتطمت بسيارة آخرى فأتلفتها, هنا يسقط عنه الإثم لعدم تعديه أو تفريطه لكن ذلك لا يسقط حق الآدمي, لأن حقوق الآدميين مكفولة لهم فلا تسقط حتى في هذه الحالات وقضية المسامحة هذا أمر آخر.
مسألة: ما الفرق بين حقوق الله وحقوق العباد؟
أولاً: حقوق العباد مبنية على المشاحة, وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة كما تقدم.
ثانياً: أن حقوق الله مبنية على المقاصد فلا أثم الإنسان ما لم يقصد المخالفة, وإن كان بعض الصور يستدركها كما سيأتي إذا كانت العبادة مما يستدرك, أما حقوق العباد فليست مبنية على المقصد وإنما مبنية على الفعل وعلى هذا أفعال الصبي والمجنون مثلاً في حقوق العباد يؤاخذ عليها ويضمن وليهما ما أتلفا.
وعلى هذا لو خرج طفل مثلاً وكسر زجاجة سيارة الجار فطرق الجار الباب مطالباً بالقيمة فلا يُتعلل بأنه صغير وأنه لا يعقل أو لا يدرك, لأن حقوق العباد ليست مبنية على القصد فالمهم صورة الفعل, لذا أفعال الصبي والمجنون في حقوق العباد يؤاخذ عليها, بل وأفعال الدواب فلو أن إنساناً عنده مجموعة غنم أو أبل فدخلت مزرعة فلان من الناس فأتلفتها, فإن صاحب هذه الإبل أو الغنم يضمن ما أتلفته.
أولاً الخطأ:
الخطأ في اللغة: هو المقابل للصواب, يقال هذا صواب أي حق وهذا خطأ أي باطل, ولذلك سميت المعصية خطيئة لأنها في مقابل والصواب والحق.(1/64)
وأما في الاصطلاح: فهو وقوع الفعل أو القول من الإنسان على خلاف ما يريده, مثال ذلك: إنسان صوب بندقيته ليقتل صيداً فقتل إنساناً فهذا مخطئ.
أدلة إسقاط الإثم عن المخطئ:
أدلة كثيرة جدا نذكر منها:
1) قول الله عز وجل { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (1), قال الله عزوجل كما في صحيح مسلم { قد فعلت قد فعلت } .
2) ما رواه ابن ماجة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال { إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } قال "تجاوز" أي أنه يعفو ويصفح وهذا في حق الله تعالى.
3) ومن الأدلة على سبيل التعليل يقال:
أ. أن حقوق الله مبنية على المسامحة فناسب أن يسقط الفعل والقول على المخطئ.
ب. أن الإثم مبني على القصد, بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات(2) } . أي أن الأجر والإثابة والمعاقبة مبني على النية, والمخطئ ليس بقاصد, ولذلك قالوا بأنه لا يأثم.
ولكن ليس كون هذا الإنسان مخطئ أن يبرر أفعاله بعد أن يزول عنه الخطأ, بل يجب عليه أن يتدارك, ولذلك لو كان في الصلاة وأخطأ أو نسي وقام للثالثة بدون الجلوس للتشهد إذا أدرك خطأه ولم تفارق فخذاه ساقيه وجب عليه أن يرجع.
ثانيا الإكراه:
الإكراه هو حمل الغير على ما لا يرضاه, ولذلك المكره منتفٍ عنه القصد والإرادة.
مسألة: من المهم جداً أن نعرف أنه لا يتحقق إكراه شخص حتى تتوفر لذلك شروط وهذه الشروط تُسمى شروط تحقق الإكراه وهي:
1) أن يكون المكره قادر على تنفيذ ما هدد به, وعلى هذا أكره شخص على ترك الصلاة وإلا قتل وهو يعلم أن من هدده لا ينفذ ذلك فلا يعتبر في هذه الحالة مكرهاً.
2) أن يغلب على ظن المكره أن المكره سيفعل ما هدد به.
__________
(1) البقرة: من الآية286)
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/65)
3) أن يكون المكره عليه يشق على المكره فعله, وعلى هذا لو قال إنسان اسرق من مال فلا ولا أخذت منك عشر ريالات, فلا يجوز هنا أن يسرق منه, لأن المكره عليه لا يشق على المكره لكن لو قال له اسرق من مال فلان وإلا قتلتك جاز له ذلك, لأن ما أكره عليه يشق عليه.
4) أن يكون الإكراه بغير حق, فإن كان بحق جاز ذلك, ولا يُعذر معه الإنسان كالإكراه على سداد الدين بعد حلوله, وإكراه مانعي الزكاة على أداء الزكاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { فإن آخذوها وشطراً من ماله عزمة من عزمات ربنا } (1).
5) أن يكون الإكراه حالاً فلو قال مثلاً اترك الصلاة وإلا قتلتك بعد عشر سنوات, فلا يكون مكرهاً لأن الأحوال تتغير في هذه الفترة.
مسألة: ما هي أنواع الإكراه؟
الإكراه على نوعين:
1. أن يكون الإكراه فيما لا اختيار للإنسان فيه ولا قدرة, فهو كالريشة في مهب الريح كما لو حلف مثلاً إلا يدخل بيت فلان فأتى إنسان وحمله مكرهاً ثم أدخله هذا البيت, فإنه لا يحنث في يمينه ولا كفارة عليه. وكما لو أن إنساناً حمل فلان وضرب به فلان فمات الشخص الآخر, فهنا بالاتفاق أنه لا يترتب على المحمول شيء لأنه إذا اجتمع مباشر ومتسبب فإن الضمان على المباشر لأنه هو الفاعل الحقيقي.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والنسائي.(1/66)
2. الإكراه الذي فيه نوع اختيار كما لو انه قال شخص لآخر اقتل فلاناً وإلا قتلتك, فقتل فلاناً فهنا القاتل له نوع اختيار,لأنه سيحمل السلاح وسيذهب لقتله وربما ترصد له وسيصوب إليه البندقية وسيتحرى المقاتل لو لم يقتله في هذه المرة سيعاود في المرات الأخرى, فهذه نوع اختيار, وهو غير مختار من وجه أنه عنده شعور نفسي أنه لا يريد هذا وأنه مكره وهذه الصورة هي التي وقع فيها الخلاف هل هو مكلف فيقتص منه أو غير مكلف فلا يقتص منه, وهم متفقون على أنه قتل نفساً معصومة لا يحل لها قتلها, لكن خلافهم في المعاقبة والقصاص, ولذلك أجمعوا على أنه لا يسمى إكراه من ناحية أنه أبقى على نفسه بقتل النفس الأخرى, ولهذا مذهب الحنابلة اشتراك المكره والمكره في القود والضمان.
أدلة الإكراه:
هي نفس أدلة الخطأ ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ(1) } .
وقوله في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا طلاق ولا عتاق في إغلاق } (2), والإغلاق هو الإكراه فعلى هذا لو أجبر إنسان على طلاق زوجته وتحققت شروط الإكراه فإن الطلاق لا يقع.
ثالثاً النسيان:
النسيان في اللغة خلاف التذكر والحفظ.
وأما في الاصطلاح فهو معرفة الإنسان بالشيء مع ذهوله عنه, ولذلك الناسي لا يسمى جاهل لأنه يعرف الشيء.
__________
(1) النحل: من الآية106)
(2) رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجه.(1/67)
والنسيان من العوارض التي ترفع التكليف لكنه ليس رفعاً مطلقاً وإنما هو رفعاً مؤقتاً أي حتى يزول النسيان ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك } قوله { لا كفارة لها لا كفارة لها لا ذلك } إشارة هنا إلى أن الناسي معفو عنه حال نسيانه فقط, والنسيان ليس بمسقط للعبادة كله, إلا إذا كانت العبادة تفوت مثل لو نسي صلاة العيدين ولم يعلم إلا بعد خروج الناس سقطت لأنه لا يمكن أن يتدارك, فإن أمكن تدارك العبادة فإنها لا تسقط فمن أكل أو شرب في نهار رمضان ناسياً فصومه صحيح لكن ليس معنى النسيان أن يستمر بالأكل أو الشرب فإذا تذكر وجب عليه أن يتدارك وأن يمتنع بل لو كان في فمه لقمة لوجب أن يطرحها ولو أدخلها بعد تذكره فإنه يكون قد أفطر متعمداً.
الأدلة على ذلك:
هي نفس أدلة الخطأ, ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذاك } (1).
كذلك الإجماع: فالإجماع منعقد على أن من نسي عبادة فلا إثم عليه, لكنه مطالب بغعل ما نسيه بعد التذكر إن كان هذا الشيء يمكن تداركه.
أقسام النسيان:
1/ نسيان حقوق الله عز وجل, هذا معفو عنه حال نسيانه, وحقوق الله بالنسبة لنسيانها على صورتين:
أ- أن يكون مطالب بفعل ثم ينسى ويترك.
ب- أن يكون مطالب بترك ثم ينسى ويفعل.
2/ حقوق العباد ويتعلق بها أمران كما تقدم:
أ- التأثيم: فالأصل أن حقوق العباد يحرم الاعتداء عليها, ويأثم الإنسان بذلك ولكن النسيان يسقط الإثم.
ب- ضمان حقوق العباد هذه لا تسقط بالنسيان, فيضمن ما أتلفه حال نسيانه, وهذا معنى قوله{لكن مع الإتلاف يثبت البدل}.
يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا
- 27 -
ومن مسائل الأحكامِ في التبع ... يثبتُ لا إذا استقلَ فوقع
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/68)
هذه القاعدة أوردها المؤلف يريد بها القاعدة التي يعبر عنها الفقهاء بقولهم {يثبت تبعاً ما لم يثبت استقلالاً}.
معنى هذه القاعدة:
المراد بهذه القاعدة أن الشيء يكون له حكم خاص انفراده واستقلالاً عن غيره ولكنه إذا كان تبعاً لغيره فإنه يتغير الحكم.
مثال ذلك: لو صلى إنسان منفرداً ثم جلس بعد الركعة الأولى للتشهد متعمداً بطلت صلاته لأن هذا ليس هو موضع التشهد, لكن لو دخل مع الإمام لصلاة الظهر مثلاً وقد سبقه بركعة إذا جلس الإمام بعد الثانية وهي الركعة الأولى للمسبوق فإنه يجلس تبعاً لإمامه. ولذلك قالوا {يثبت تبعاً ما لم يثبت استقلالاً}.
مثال آخر: بيع التمر قبل بدو صلاحه لا يجوز ولكن لو باع التمر قبل بدو الصلاح مع الأصل فلا حرج في ذلك, فهذا جائز تبعاً لغيره واستغلالاً لا يجوز إلا بشرط قطعة في الحال إذا كان ينتفع منه كعلفٍ لبهائمه مثلاً.
إطلاقات القاعدة:
1/ يغتفر للتوابع ما لا يغتفر لغيرها.
2/ يغتفر للشيء ضمناً ما لا يغتفر لغيره قصداً.
3/ قد يثبت الشيء ضمناً وحكماً ولا يثبت قصداً.
إعمال العرف
- 28 -
والعرف معمول به إذا ورد ... حكم من الشرع الشريف لم يحد
بين هذه القاعدة والقاعدة التي ذكرناها سابقاً وهي قاعدة {والأصل في عادتنا الإباحة} بينهما فرق يسير, فالعادة التي ذكرها المؤلف أولاً هي عادة الناس مما خلت منه الشريعة من حيث أقوالهم وطريقة مناسباتهم. أما العادة هنا ليس المراد منها العرف العام بل العرف الجزئي.
معنى ذلك: أن الشارع إذا حكم بشيء ولم يحده فإنه يرجع لتحديدة وتعريفه إلى العرف ولذلك إذا قال الفقهاء كل ما أمر الشارع به أو نهى عنه ولم يحده ويفسره أو يضبطه بأحكام فإن وتفسيره راجعٌ إلى العرف.
مثال ذلك: الآن الحركة الزائدة في الصلاة تبطل الصلاة إذا كثرت وكانت من غير جنس الصلاة وحد الحركة الكثيرة يُرجع فيه إلى العرف.(1/69)
مثال آخر: أمر الله تعالى أن تكون النفقة للزوجة بالمعروف وضابط النفقة بالمعروف يُرجع فيها إلى العرف.
معاجل المحظور قبل آنه
- 29 -
معاجل المحظور قبل آنه ... قد باء بالخسران مع حرمانه
أطلاقات القاعدة:
1/ الأصل المعاملة بنقيض المقصود الفاسد.
2/ من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
3/ المعارضة بنقيض المقصود.
4/ من تعجل حقه أو ما أبيح قبل وقته على وجه محرم عُوقب بحرمانه.
5/ من استعجل ما أخره الشارع يجازى برده.
معنى القاعدة:
هذه القواعد مهما اختلفت ألفاظها فإنها تفيد معنى متحداً دليلاً على الاتفاق عليها بين الجميع. فإن من يتوسل بالوسائل غير المشروعة تعجلاً منه للحصول على مقصوده, فإن الشرع عامله بضد مقصوده فأوجب حرمانه جزاء فعله واستعجاله. وهذه القواعد تمثل جانباً من جوانب السياسة في القمع وسد الذرائع, لأنه لو لم يعاقب بحرمانه لأدى ذلك إلى أن يستعجل الناس حظوظهم قبل أسبابها المشروعة.
من أمثلة القاعدة:
لما كان التعجل يجر مفاسد عظيمة كان تقعيد هذه القاعدة من باب سد الذرائع ووجه كونه سدٌ للذرائع, لأن الطالب للشيء قبل وقته لو لم يُعاقب بحرمانه لأدى ذلك إلى أن الناس يستعجلون حظوظهم قبل أسبابها المشروعة. وهذه الأحكام كما أنها تجري في الأحكام الدنيوية كما تقدم فإنها تجري في الأحكام الأخروية.
أما كيف ذلك؟!
فنقول أن الله تعالى أنعم على عباده بنعم, ووعد عباده في الآخرة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كلبس الحرير وشرب الخمر فهذه وغيرها وقتها المسموح بها في الآخرة, فمن استعجل حظه من ذلك في الدنيا ولم ينل ذلك في الآخرة إن لم يتب إلى الله عز وجل.
مسألة: أمرُ عكسي للقاعدة(1/70)
إذا قررنا أن الإنسان إذا استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. كذلك يقال أن الصابر عن فعل المحرم ابتغاء رضوان الله يجازى ذلك بالخير من فرح النفس, وقوة القلب وسعة الرزق, وانشراح الصدر, والبركة في الرزق, والصحة في البدن.
وأما في الآخرة فيكفي على ذلك ثواباً الجنة وأعظم من ذلك لذة النظر إلى وجه الله الكريم. نسأل الله تعالى من فضله.
العبادات الواقعة على وجه محرم
- 30 -
وإن أتي التحريم في نفس العمل ... أو شرطه فذو فساد وخلل
معنى القاعدة:
هذه القاعدة أصولية نظمها الشيخ رحمه الله تعالى ضمن القواعد الفقهية. وهذا البيت أراد به المؤلف رحمه الله تعالى قاعدة أصولية تتعلق بمسألة صحة العمل وفساده ولذلك قال {وإن أتى المكلف التحريم} أي إن أتى المكلف التحريم في نفس العمل أو شرطه دل ذلك على فساد العمل, وإن جاء التحريم ليس في نفس العمل ولا في شرطه فإنه لا يؤدي إلى فساد العمل, وهذا كلام مجمل وقبل ذلك نحتاج إلى معرفة المراد بالصحيح والفاسد من العمل حتى نتصور هذا الحكم:
الصحيح: مأخوذ من الصحة في اللغة وهو ضد السقم والمرض.
أما الصحة في الشرع فأننا سنعرفها من جهتين:
1- الصحة في العبادات.
2- الصحة في المعاملات.
* الصحة في العبادات: فالعبادات تسمى صحيحة إذا أجزأت وأبرأت الذمة وأغنت عن القضاء والإعادة, فإذا توفرت هذه الشروط حكمنا بصحة العبادة وبمعنى آخر إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع.
فمن صلى قبل الوقت مثلاً لم تصح صلاته لأن من شروط الصلاة دخول الوقت, ومن صامت حال حيضها أو نفاسها لم يصح صيامها بوجود مانع من موانع صحة الصيام ألا وهو كون المرأة حائض أو نفساء.
* وأما الصحيح في المعاملات: فهو ما ترتبت عليه أحكام العقد المقصود منه لأن كل عقد ومعاملة يجريها الإنسان يقصد منها مصلحة, وبناء على ذلك يكون فساد العقد إما لعدم تحقق المشروط أو لوجود الموانع كبيع المجهول مثلاً.
مسألة: هل النهي يقتضي الفساد أم لا؟(1/71)
هي على خلاف والصحيح: قول بعض المحققين ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلائي ورواية عن الإمام أحمد قالوا: بأن النهي لا يقتضي الفساد مطلقاً, وإنما إذا كان النهي يعود إلى ذات المنهي عنه أو شرطه الذي لا يتم إلا به فهو يقتضي الفساد كالصلاة بدون طهارة, أما إذا كان النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه ولا إلى شرطه لا يفيد البطلان كالصلاة في الأرض المغصوبة على الصحيح أنها صحيحة خلافاً لمذهب الحنابلة. والله تعالى أعلم.
من أتلف شيئا لدفع أذاه لم يضمنه
- 31 -
ومتلف مؤذيه ليس يضمن ... بعد الدفاع بالتي هي أحسن
هذا البيت عقده المؤلف رحمه الله تعالى للقاعدة الفقهية التي يقول فيها الفقهاء: {من أتلف شيئاً لمضرته لم يضمن}.
ومعنى ذلك:
أن الإنسان إذا تعرض له شيء يؤذيه واحتاج إلى دفع أذاه بإتلاف المؤذي فإنه لا يضمن.
مثال ذلك:
لو صال عليه آدمي فلم يستطع دفعه إلى بقتله فقتله فإنه لا يضمنه ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه رجل وقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تعطه إياه } , قال أرأيت إن قاتلني, قال { فقاتله } , قال: أرأيت إن قتلته, قال { هو في النار } , قال أرأيت إن قتلني, قال { فأنت شهيد(1) } .
يقول إمام الحرمين: لا يخفى جواز دفع المظلمة وإن انتهى الدفع إلى شهر الأسلحة, فإن ممن أجلى صور الشريعة دفع المعتدين بأقصى الإمكان عن الاعتداء, ولو ثارت فتنة زائفة عن الرشاد وأثاروا السعي في الأرض بالفساد ولم يُمنعوا قهراً ولم يدفعوا قسراً لاستجرأ الظلمة ولتفاقم الأمر.
أدلة القاعدة:
1) عموم الأدلة الدالة على رفع الضرر وإزالته, لأن صولة الصائل تجلب ضرراً, ولذلك يجب دفعه حتى لو أدي ذلك إلى إتلاف المؤذي.
2) قول النبي صلى الله عليه وسلم { من قتل دون ماله فهو شهيد(2) } .
مسألة: إفساد الشيء لكونه مؤذ يتضمن حكمين
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الترمذي.(1/72)
أ- عدم الإثم بالإتلاف.
ب- عدم الضمان ما أتلف.
لكن الناظم اشترط لعدم الإثم بالإتلاف وعدم ضمان ما أتلفه شرطاً وهو: ما يتضمنه الشطر الثاني حيث قال {بعد الدفاع بالتي هي أحسن}.
ومعنى ذلك:
أن دفع الصائل مثلاً إذا كان يندفع بإتلاف عضو من أعضائه دون قتله وجب ذلك, بل لا يجوز قتله فلا يسلك الأعلى مع استطاعته الدفع بالأخف ولعل هذا يندرج تحت قاعدة {يصار إلى أهون الشرين}, التي تقدمت معنا.
قاعدة:
{من أتلف شيئاً لدفع أذاه لم يضمنه, وإن أتلفه بدفع أذاه به ضمنه}, هذه قاعدة أعم من القاعدة المتقدمة.
{من أتلف شيئاً لدفع أذاه لم يضمنه}: هذا كما تقدم كدفع الصائل الأخف فالأخف.
{وإن أتلفه بدفع أذاه به ضمنه}: وهذا كما لو أصاب الإنسان مجاعة فخشي على نفسه الهلاك فوجد شاة فذبحها وأكل منها, لينقذ نفسه فإنه يضمنها.
أمثلة تخرج على هذه القاعدة:
1) لو صال عليه إنسان أو حيوان فدفعه عن نفسه بالقتل إذا لم يندفع إلا بذلك فإنه لا يضمنه بالاتفاق.
2) لو جاع أو ذبح حيوان لا يملكه لإنقاذ نفسه ضمنه.
3) لو صال عليه حيوان وهو من الصيد البري المأكول فقتله لدفع ضرره لم يضمنه بفدية, وإن اضطر لقتله لدفع الجوع مثلاً فإنه يضمنه.
4) لو حلق المحرم رأسه للأذى فإنه يضمنه,لأن الأذى من غير الشعر, لكن لو خرجت من عينه شعرة فآذته فقلعها فإنه لا يضمن, لأن الأذى منها.
مسألة: أخرى في القاعدة
وهي قول ابن رجب(من أتلف نفساً أو أفسد عبادة يعود لنفع نفسه فلا ضمان عليه, وإن كان النفع يعود إلى غيره فعليه الضمان)
أمثلة ذلك:
* الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على نفسيهما فعليهما القضاء فقط بلا فدية, وإن أفطرتا خوفاً على ولديهما فعليهما الفدية في المشهور عند الأصحاب.
* ومن ذلك لو أكره على الحلف بيمين لحق نفسه فحلف دفعاً للظلم عنه لم تنعقد يمينه, ولو أكره على الحلف لدفع الظلم عن غيره فحلف انعقدت يمينه.
أيضا ذكر ابن رجب قاعدة قريبة من هذه وهي:(1/73)
أذا حصل التلف من فعلين مأذون فيه والآخر غير مأذون فيه وجب الضمان كاملاً على الصحيح, وهذا مثاله إذا زاد الإمام سوطاً في الحد فمات المحدود, على خلاف المشهور وهو ما عليه القاضي وأصحابه أنه يجب كامل الدية لا نصفها.
* ومن ذلك لو استأجر سيارة مثلاً لمسافة معلومة فزاد عليها, أو لحمل مقدار معلوم فزاد عليه فتلفت السيارة, فإنه يضمن كامل القيمة.
أل تفيد العموم في الجمع والإفراد
- 32 -
وأل تفيد كل في العموم ... في الجمع والأفراد كالعليم
معنى القاعدة:
قصد الناظم هنا أن آل إذا دخلت على الاسم أكسبته العموم وهو ما يعبر عنه النحاة بقولهم "المحلى بأل".
مثلاً كلمة إنسان نكرة لكن لو أدخلت عليها آل وقلنا الإنسان فالمراد بها كل إنسان كقوله تعالى { وَالْعَصْرِ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(1) } . ف أل هنا أكسبت كلمة إنسان العموم, فهي تفيد العموم في الإفراد ككلمة إنسان, وكذا في الجمع مثل كلمة الأخلاء كما في قول الله عز وجل { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } (2).
وبناءً على هذا نقول أن دخول أل على الاسم سواء كان هذا الاسم مفرد أو جمع فإن هذا من صيغ العموم, وهذا قول أهل العلم وأهل اللغة.
وقد نص الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على هذا في مواضيع كثيرة من كتبه, ومن هذه المسائل والأمثلة التي استقاها الإمام أحمد والأصحاب على أن أل تفيد العموم قولهم {الأصل في البيع الحل ولا يحرم منه نوع إلا بدليل} لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى قال { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ(3) } , فهي تدل على أن كل بيع حلال لدخول أل على كلمة البيع فأكسبتها صيغة العموم ولذلك نص ابن القيم رحمه الله تعالى في أعلام الموقعين على أن الأصل في البيع هو الحل.
__________
(1) العصر1-3)
(2) الزخرف:67)
(3) البقرة: من الآية275)(1/74)
أيضاً أل تفيد معنى آخر وهو العهد ولذلك يحصل الخلاف في أل في بعض الأحكام هل هي للعهد أو للعموم.
مثال ذلك:
* قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة { تحريمها التكبير وتحليلها التسليم } (1).
في قوله التكبير والتسليم:
من قال أن أل هنا للعهد وهم الحنابلة قالوا أن التكبير هنا لا يصح إلا بكلمة الله أكبر المعهودة, والإنصراف من الصلاة باللفظ المعهود "السلام عليكم ورحمة الله".
ومن قال انها للعموم وهم الحنفية قالوا يصح أن تفتح الصلاة بأي لفظ يدل على التعظيم "الله اكبر أو الله الأكبر أو الله كبير أو الله الأعظم" كذلك السلام قالوا لو قال "السلام عليكم أو سلام عليكم ونحو ذلك".
* من ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم { فتنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه } أخرجه الدار قطني.
من يرى أن أل عهدية قالوا أن المراد بول الآدمي خاصة وهو الراجح.
ومن يرى أن أل للعموم قالوا المراد بذلك عموم الأبوال فيجب التنزه عنها.
* كذلك أسماء الله عز وجل دخلت عليه أل فأفادتها كل ما يشمله اللفظ من العموم, فإذا قلنا الحي أي الذي له الحياة كاملة, العلي أي العلو الكامل علو الذات والقهر والغلبة.
النكرة في سياق النفي تفيد العموم
- 33 -
والنكرات في سياق النفي ... تعطي العموم أو سياق النهي
من هذه القاعدة إلى القاعدة الخامسة والثلاثون قواعد أصولية وليست قواعد فقهية.
معنى القاعدة:
أن النكرة إذا جاءت بعد النهي دلت على العموم والشمول.
مثال النكرة في سياق النفي:
لا إله إلا الله, نفت كل إله في السماء والأرض وأثبتت إلوهية الله تعالى.
مثال آخر:
أحد نكرة لكن لو قلنا لا أحد قائم لا هنا أفادت العموم فأكسبت النكرة العموم, فهي تنفي أن يكون هناك أحد قائم.
ومثل قوله تعالى { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً(2) } , يعم كلٌ نفس وكل شيء.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
(2) الانفطار: من الآية19)(1/75)
ولذلك اشتق الفقهاء من هذه القاعدة أحكاماً نذكر مثالاً واحداً:
قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا تقرأ الحائض والجنب شيئاً من القرآن(1) } , لا هنا نافية أفادت العموم فنفت كل شيء, ولذلك قالوا: الحائض والجنب لا يقرآن ولا آية واحدة, لأن الآية نفت أي شيء.
* أما النكرة في سياق الإثبات فهي لا تفيد العموم إلا في حالة واحدة وهي حالة الامتنان وهي: أن يذكر الله تعالى أشياء من قبيل النكرة لا لبيان الأحكام وإنما في موضع الامتنان كما في قوله تعالى { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ(2) } , هنا نكرة في سياق الإثبات تفيد العموم, فيعم ذلك ويشمل كل فاكهة من نخيل ورمان وتين..الخ.
ولذلك قال الفقهاء بطهارة الماء مطلقاً لماذا؟ قالوا لأن الله عز وجل امتن على عباده بقوله { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ(3) } , كلمة ماء نكرة جاءت في معرض الامتنان, فعلم أن الأصل فيها عموم كل ماء ولذلك قالوا {الأصل في الماء الطهارة}.
* كذلك النكرات في سياق النهي تفيد العموم:
مثال ذلك قوله تعالى { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً } (4) نكَر كلمة إله لتشمل نفي جميع ما يعبد من دون الله, وهذا فيه سد لباب عظيم على المبتدعة الذين يتقربون إلى الله عز وجل "زعموا" عن طريق الأولياء والأضرحة والقبور.
ومن أمثلة ذلك قوله عز وجل { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً(5) } ,فـ شيء نكرة سبقت بنهي, فتعم كل شيء, فلا يقول الإنسان لأدنى شيء أي سأفعله غداً إلا أن يقول إن يشاء الله.
من وما تفيدان العموم
- 34 -
كذلك من وما تفيدانِ معًا ... كلَ العموم يا أُخيَّ فاسمعا
معنى القاعدة:
هذا البيت أفاد به المؤلف أن من و ما تفيدان العموم المستغرق لكل ما دخلا عليه.
__________
(1) رواه أبو داوود والترمذي .
(2) الرحمن: من الآية68)
(3) لأنفال: من الآية11)
(4) الشعراء: من الآية213)
(5) الكهف:23)(1/76)
* كما في قوله تعالى { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ(1) } , فـ من هنا أفادت العموم فكل من في السماوات والأرض ملك لله عز وجل.
* ومثله قوله تعالى { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(2) } , فهو عام أي كل من في السماوات والأرض لا يتخلف عن ذلك أحداً.
* كذلك ما كما في قوله تعالى { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } (3) , فهو عام.
* ومثله قوله تعالى { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (4) , أي كل ما آتاكم الرسول فخذوه لا يتخلف عن ذلك شيء في حدود القدرة والاستطاعة.
المفرد المضاف يعم جميع المعنى
- 35 -
ومثلُهُ المفرد إذ يضاف ... فأفهم هديتَ الرشدَ ما يضافُ
معنى القاعدة:
يقصد بذلك أن المفرد إذا أضيف فإنه يفيد العموم سواءً أضيف إلى مفرد كعبد الله, أو أضيف إلى جمع كعبيد الله, وسواءً كان هذا الجمع اسم جمع كأن تقول: جاءني ركب المدينة. أو اسم جنس كقول الله تعالى { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } (5) فتعم كل نعمة دينية أو دنيوية, كذلك ألفاظ الجموع إذا أضيفت تفيد العموم كالمسلمين و المشركين.
والقول بعموم المفرد والجمع إذا أضيفت هو قول جماهير الأصوليين وهو مذهب ابن عباس, وهو قولٌ للإمام أحمد.
والمحكي عند الشافعية والحنفية أنه لا يعم. ولذلك من الأمثلة عند الفقهاء:
لو قال زوجتي طالق وعنده أكثر من زوجة. عند من قالوا إن المفرد المضاف يعم, قالوا يطلقهن جميعاً وعند من قالوا أنه لا يعم قالوا: تطلق واحدة وتعين بالقرعة.
فمعرفة مثل هذا يؤدي إلى إذار الأئمة في خلافهم في المسائل الفرعية, لأن ذلك مبني على خلافهم في المسائل الأصولية.
__________
(1) النساء: من الآية131)
(2) مريم:93)
(3) فاطر: من الآية11)
(4) الحشر: من الآية7)
(5) ابراهيم: من الآية34)(1/77)
لا يتم الحكم حتى تجتمع شروطه وترتفع موانعه
- 36 -
ولا يتم الحكم حتى تجتمع ... كل الشروط والموانع ترتفع
معنى القاعدة:أن الأحكام لا تتم ولا تترتب عليها مقتضياتها ولا يحكم بمتعلقاتها حتى تجتمع كل الشروط وتنتفي جميع الموانع سواءً في المعاملات أو العبادات.
فالعبادات شروطها كلها شرعية, أما المعاملات فالشروط فيها على نوعين:
1)شروط شرعية: تشترط كشرط العلم بالثمن والمثمن.
2)شروط جعليه أو وضعية: وهي من المتعاقدين, فهذه لا بأس بها ما لم يكن الشرط يحلٌ حراماً أو يحرم حلالاً. فالشروط الجعلية أو الوضعية لا تكون إلا في المعاملات, فلا تكون في العبادات. لكن إذا اشترط الشرط الجعلي في المعاملات فإن ذلك بمنزلة الشروط الشرعية التي يجب الوفاء بها.
الشرط في اللغة: هو العلامة, ومنه قوله تعالى { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا(1) } أي علاماتها.
والشرط عند الأصوليين: {ما يلزم من عدمه العدم, ولا يلزم من وجوده الوجود}.
كالطهارة للصلاة يلزم من عدم الطهارة عدم صحة الصلاة لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة, ولكن لا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة, لأن الإنسان قد يتوضأ لأمر غير الصلاة كأن يتوضأ مثلاً لقراءة القرآن ونحو ذلك.
وأما المانع: فهو {ما يلزم من وجوده عدم وجود الحكم}, كالحيض مانع من وجود الصلاة, ولا يلزم من عدمه وجود لأن المرأة قد لا تكون حائضاً ولكن قد تمتنع من الصلاة لوجود سبب آخر كالنفاس مثلاً.
فعلم من ذلك أن الحكم لا يتم حتى تتحقق الشروط وتنتفي الموانع, فليكن هذا الأصل على بالك وحكمه في كل دقيق وجليل, فللدعاء شروط وموانع وللمحبة والرجاء وللتوبة ونحو ذلك شروط وموانع نسأل الله الإعانة على القيام بشروط الأعمال ودفع موانعها.
الجزاء على قدر العمل
- 37 -
ومن أتى بما عليه من عمل ... قد استحق ما له على العمل
معنى هذا البيت:
__________
(1) محمد: من الآية18)(1/78)
هو الذي أراده الفقهاء بقولهم: {إذا أدى ما عليه وجب ما جُعل له}, والمراد أن الإنسان إذا طلب منه عمل معين, ورتب على هذا العمل جزاءً معيناً فإنه إذا أتى بهذا العمل وجب له ما رتب على هذا العمل, ولذلك نقول عند التمعن والتأمل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجد أن الثواب المطلق للعمل الصالح صورتان:
1- ما للعبد في الدنيا.
2- ما يكون للعبد في الآخرة.
فالجزاء قد يدركه الإنسان في دنياه بما يحصل للإنسان من انشراح الصدر وسعة الرزق ونحو ذلك, بل لا يقتصر الأمر على الدنيا فإن الإثابة في الدنيا هي عاجل بشرى المؤمن وإلا فالأجر الحقيقي والكسب العظيم هو ما يحصل للإنسان في الآخرة.
*وأجر الدنيا كما في قوله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } (1).
*وقوله تعالى { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلوبُ (2) } .
* وقوله تعالى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(3) } .
وكما أن الله تعالى وعد بالمثوبة لمن أتى بالعمل الصالح كذلك رتب الله تعالى على العمل المحرم عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة كما في قوله تعالى { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(4) } .
وقوله تعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ(5) }
وقوله تعالى { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } (6) . هذا ما يتعلق بباب العبادات.
__________
(1) النحل: من الآية97)
(2) الرعد:28)
(3) الأنعام:82)
(4) طه:124)
(5) البقرة: من الآية275)
(6) الماعون:4)(1/79)
أما فيما يتعلق بالمعاملات: فإن الإنسان إذا عقد عقداً على عملٍ من الأعمال, فإذا وقي بما تعاقدا عليه فإنه يكون مستحقاً لما ينبني عليه من آثار هذا العقد. فالأجير مثلاً إذا استؤجر لعمل معين, إن أثم عمله استحقَ العوض الذي اتفقا عليه, وإن لم يوفَ بما تعاقدا عليه فإنه لا يستحق شيئاً.
الحكم يدور مع علته وجودا وعدما
- 38 -
وكلُ حكمٍ دائرٌ مع علته ... وهيَ التي قد أوجَبت لشرعيته
معنى القاعدة:
هذا البيت عقده المؤلف لما يطلق عليه الأصوليين {الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً}.
وهذه قاعدة أصولية وليست بقاعدة فقهية.
تعريف العلة في اللغة: اسم لما يتغير الشيء بحصوله. أخذاً من العلة التي هي المرض, والمرض إذا طرأ على الإنسان غير عليه صحته وأثر عليه, كذلك العلة بالأحكام إذا طرأت على الحكم غيرته. ولذلك سميت العلة علة لأنها مؤثرة, ولذلك عرفها بعضهم بـ الوصف المؤثر لكونها مؤثرة, فالعلة إذا وجدت في الحكم غيرته, ولذلك قد تنقل الحكم من الحل إلى الحرمة أو العكس أو من الوجوب إلى الإباحة أو العكس.
اصطلاحاً: قال الأصوليين معناها هي الوصف الذي من أجله شرع الحكم.
ومعنى قوله دائر أي يدور والدوران عند علماء الأصول {أن يترتب الحكم على الوصف أو العلة من حيث الوجود أو العدم} ومعناه إذا وجدت العلة وجد الحكم, وإذا عدمت العلة عدم الحكم, ولذلك من شرط العلة عند الفقهاء أن تكون منضبطة وإنما تسمى علة مضطربة كذلك. كذلك لو عدمت العلة ثم وجد الحكم فإنها تكون علة لاغيه لأن العلة ذات القيمة المؤثرة هي التي تؤثر في الأحكام سلباً أو إيجاباً.
مثال ذلك: العصير الأصل فيه الحل, لكن إذا اشتد وقذف بالزبد وتخمر حرُم, لما عدمت علة الإسكار عُدم الحكم وهو التحريم, وفي الصورة الثانية وجدت العلة وهي الإسكار فوجد الحكم وهو التحريم. على هذا فالإسكار علة صحيحة.(1/80)
لكن مثلاً: تعليل قصر الصلاة للمسافر بالمشقة, التعليل بالمشقة علة مضطربة لأن هذه العلة قد توجد في السفر وقد تتخلف فعلى هذا لا يصح أن تكون علة الرخص السفر لأنها مضطربة, ولذلك اشترط الأصوليون في العلة أن تكون عامة لجميع المكلفين وأن تكون منضبطة كما تقدم.
الفرق بين الحكمة والعلة ويظهر ذلك في فريقين:
1) أن العلة يجب أن تكون ظاهرة ومدركة. ظاهرة فلا تكون خفية, لأن العلة إن كانت خفية فإنه لا يصح التعليل بها, فالعلة بدل الدليل فلابد أن تكون ظاهرة. أما الحكمة فقد تكون خفية فأوامر الله تعالى فيها من الحكم ما يُستظهر من خلالها عظمة هذه الشريعة وحسنها وجمالها للمكلف, وهذه الحكم قد تظهر للناس كلهم وقد تظهر للبعض دون البعض الآخر, وقد يدرك أهل العلم بعضاً منها ويدرك عالم آخر نوعاً آخر وقد تظهر لعصر دون عصر.
2) ومن ذلك أن العلة للحُكم علة واحدة كعلة الخمر واحدة وهي الإسكار.
أما الحِكم فهي متعددة يظهر منها لعالم ما لا يظهر لآخر وذلك كحٍكم فريضة الزكاة منها مثلاً مواساة الفقراء وسد حاجتهم, وكذلك تخليص الناس من البخل والشح ونحو ذلك من الحكم.
مسألة: هناك بعض الألفاظ إذا جاءت في الكتاب والسنة دلت على أن ما بعدها علة.
- من ذلك لفظة كي كما في قوله تعالى { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ } (1).
- ومن ذلك النون المشددة المكسورة هذه تفيد التعليل كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم { إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات(2) } .
- كذلك اللام أي لام التعليل كما في قوله تعالى { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ(3) } .
- ومن ذلك الباء كما في قوله تعالى { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } (4).
__________
(1) القصص: من الآية13)
(2) أخرجه الأربعة وصححه الترمذي وغيره.
(3) صّ: من الآية29)
(4) النساء: من الآية160)(1/81)
وغير ذلك من الألفاظ التي إذا جاءت في الكتاب أو السنة دلت على التعليل.
الأصل في الشروط اللزوم والصحة إلا ما حلل حراما أو حرم حلالا
- 39 -
وكل شرطٍ لازم للعاقدِ ... في البيعِ والنكاحِ والمقاصدِ
- 40 -
إلا شروطاً حللت محرماً ... أو عكسه فباطلاتٌ فاعلما
معنى البيت:
هذان البيتان عقدهما الناظم لمسألة الشروط الصحيحة والشروط الباطلة. لأن الشروط تنقسم إلى قسمين:
1. شروط صحيحة: هي كل شرط اشترطه المتعاقدان لهما أو لأحدهما فيه مصلحة وليس فيه محذور من الشارع ويدخل في هذا جميع الشروط في البيع والإجارة والجعالة والرهون والضمانات والنكاح ونحو ذلك, وهذا الشرط هو الذي أراده الفقهاء حينما قعدوا وقالوا {المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط}.
مثاله: لو قال رجل لزوجته إن خرجت من المنزل فأنت طالق وهو يريد طلاقها فإنها تطلق بمجرد خروجها, لأن الطلاق عُلق على شرط الخروج أما إذا أراد منعها فلا يقع الطلاق ولكنه كفارة يمين.
2. شروط باطلة: وهي التي تضمنت إما تحليل حرام أو تحريم حلال, ويدخل في ذلك جميع الشروط الباطلة في البيع والإجارة والرهن والوقف ونحو ذلك, وهذا ما يسميه الفقهاء بالشرط الفاسد وهذا الذي عناه الفقهاء, المؤلف رحمه الله تعالى بقوله {إلا شروطاً حللت محرما أو عكسه فباطلات فأعلما} عكسه أي حرمت حلالاً.
والدليل على ذلك:
* قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم { المسلمون على شروطهم إلا شرطاً لأجل حراماً أو حرم حلالاً}(1).
* وقوله صلى الله عليه وسلم { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل(2) } .
__________
(1) رواه الترمذي وصححه وكذلك صححه ابن حبان.
(2) متفق عليه.(1/82)
وليس المراد من قوله { في كتاب الله } أي ليس منصوصاً عليه كما يُفهم وإنما المراد ليس في شريعة الله سواء في الكتاب أو السنة, أي أنه مخالف لشرع الله كما لو قال أزوجك ابنتي على ألا تمسها, أو أبيعك المنزل بشرط ألا تنتفع بأي نوع من الانتفاع لا سكن ولا إجازة ولا تهبه ولا تبيعه ونحو ذلك.
مسألة: هل الشرط الباطل يبطل العقد أو لا؟
نقول المسألة لا تخلو من حالتين:
1/ إذا كان شرط البائع أو المشتري أو أحدهما يعطل ركناً من أركان العقد فإنه يبطل العقد بالكلية, كما لو اشترط عليه أن يبيعه مجهولاً يُعلم.
2/ إذا كان الشرط لا يبطل العقد صح العقد وبطل الشرط كما لو قال: أزوجك ابنتي على إلا تسافر بها. صح العقد لأن السفر ليس من ماهية عقد النكاح, وليس من أركانه ويبطل الشرط لأنه لا معنى لقوامته عليها إلا بالذهاب بها.
مسألة:
من إطلاقات القاعدة:
أ. قولهم {يلزم مراعاة الشرط بقدر الإمكان} أي أنه يجب على المتقاعدين أن يحرصا على الوفاء بالشرط بقدر الاستطاعة لكن إن زاد عن الاستطاعة وعن إمكان الوفاء فإنه لا يجب الوفاء به.
ب. {الشك في الشرط مانع من ترتيب المشروط عليه} والمعنى إذا تنازع أمران بشرط شرعي وشرط وضعي ولا يمكن إعمالهما جميعا لكون الشرط الوضعي مخالف للشرط الشرعي, فهنا يقدم الشرط الشرعي ولا شك. أما إذا لم يكن الشرط الوضعي مخالف للشرط الشرعي فأنه يجب إعمالهما معاً.
تستعمل القرعة عند المبهم من الحقوق
- 41 -
تستعمل القرعة عند المبهم ... من الحقوق أو لدى التزاحم
ومعنى ذلك:
أن القرعة تستعمل في تمييز المستحق إذا ثبت الاستحقاق ابتداء لمبهم غير معين عند تساوي أهل الاستحقاق, ويستعمل أيضاً في تمييز المستحق المعين في نفس الأمر عند اشتباهه والعجز على الأطلاع عليه.(1/83)
المراد بالقُرعة: بضم القاف الإسهام ليخرج المبهم. ومنه قوله تعالى في قصة يونس { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ(1) } , أقرع فكان مهزوماً. والقرعة تجري في الأحكام عند التساوي في الحقوق ولا يمكن قسمة الحق بين المستحقين.
أدلة القاعدة:
1/ من ذلك قول الله تعالى { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ(2) } .
2/ وقوله تعالى { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ (3) } , يقترعون في الأقلام أيهم يكفلها لتساويهم في هذا الحق.
3/ أيضاً كأن النبي صلى الله عليه وسلم { إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه } (4), أيهن تخرج معه لتساويهن في ذلك فأي واحدة منهن خرجت لها القرعة سافر بها.
من أمثلة هذه القاعدة:
لها أمثلة كثيرة, ولذا قال ابن رجب رحمه الله عند الذكر هذه القاعدة, ونحن نذكر ها هنا مسائل القرعة المذكورة في المذهب من أول الفقه إلى آخره بحسب الإمكان.
فمن أمثلة ذلك:
1.إذا تشاحوا في الآذان مع تساويهم فأنه يقرع بينهم.
2.إذا استوى اثنان في الصفات المرجح بها في الإمامة من كل وجه وتشاحا أقرع بينهما كما في الآذان.
3.إذا دعاه اثنان إلى وليمة عرس واستويا في الصفات المرجحة أقرع بينهما.
4.إذا أراد السفر بإحدى زوجاته أو البداءة بها لم يجز بدون قرعة إلا أن ترضى البواقي بذلك, ونحو هذه الأمثلة.
إن تساوى العملان اجتمعا وفعل أحدهما
- 42 -
وإن تساوى العملان اجتمعا ... وفعل إحداهما فاستمعا
معنى القاعدة:
__________
(1) الصافات:141)
(2) الصافات:141)
(3) آل عمران: من الآية44)
(4) رواه البخاري ومسلم.(1/84)
المراد بهذا البيت هو أنه إذا اجتمع عملان من جنس واحد وكانت أفعالهما متفقة بالصورة فإن أحدهما يُغني عن الآخر. وهذا سبق معنا في مسألة التشريك في النية.وقد سبق أنه يجوز التشريك إذا اتفقا في الحكم والوصف إذا كانا من جنس واحد, في الحكم كلاهما نافلة مثلاً في الوصف أي في الأفعال وذلك يكون في مسائل منها:
* إذا دخل المسجد وصلى الراتبة وتحية المسجد ركعتين نواهما بها معا أجزت عنهما معا.
* كذلك سنة الوضوء إذا نوى بها الراتبة.
* وكذلك المعتمر إذا طاف طواف العمرة أجزأ عن طواف القدوم, والقارن يكفيه لحجته وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
المشغول لا يشغل
- 43 -
وكل مشغول فلا يشغل ... مثاله المرهون والمسبل
معنى القاعدة:
المراد بالبيت ما عناه الفقهاء بقولهم {المشغول لا يُشغل} ومعنى ذلك أن الشيء إذا اشتغل بشيء لم يُشغل بغيره حتى يفرغ من هذا المشغول به. وهذه القاعدة سهلة وبسيطة, لأنه ليس لها تقاسيم باعتبار أنها واضحة ومتفق عليها وليس فيها أنواع.
من أمثلة هذه القاعدة:
1.الرهن لا يباع ولا يوهب ولا يرهن حتى ينفك الرهن أو يأذن الراهن.
2.العين الموقوفة لا تباع ولا توهب ولا ترهن لانشغالها بالوقف.
3.كذلك الأجير الخاص, وهو من استؤجر زمناً كيوم وساعة ونحوه لعمل , فلا يشغل في هذه المدة لغير من استأجره, لأن زمانه مستحق للمؤجر "مشغول به".
4.ومن ذلك الدار المؤجرة لا تؤجر حتى تفرغ المدة بل كل مشغول بحق, لا يشغل بآخر حتى يفرغ الحق عنه.
من أدى عن غيره واجبا له الرجوع عليه
- 44 -
ومن يؤد عن أخيه واجبا ... له الرجوع إن نوى يطالبا
معنى القاعدة:
هذه القاعدة معقودة لمن يؤدي عن غيره واجباً من الواجبات مما تصح النيابة فيه, أما الذي لا تصح النيابة فيه كالصلاة مثلاً فهذه لا تدخل في هذه القاعدة أصلاً.
وأما ما تصح النيابة فيه فهذا لا يخلو من أمرين:(1/85)
1/ما يشترك له النية كالزكوات والكفارات ونحوها, فهذه ليس له أن يؤدي عن غيره إلا بإذنه, لأن هذا الأداء لا يبرئ عنه لاحتياجه لنيته ولو أداها عنه بلا أذنه فإنه لا يحق له الرجوع إليه.
2/ما لا يشترط له النية, فهذا القسم من أدى عن غيره ديناً واجباً عليه ونوى الرجوع عليه فإنه يرجع عليه ويلزم المُؤدى عنه ما أداه عنه, ويدخل تحت هذا جميع ديون الآدميين من القرض, والسلم, وأثمان السلع, والنفقات, والنفقات الواجبة للزوجات والمماليك والأقارب والبهائم ونحو ذلك, فهذا إن نوى الرجوع رجع وإن رجع لم ينو الرجوع حال الأداء فإنه لا يحق له الرجوع وأجره على اله تعالى, ولا يرجع على من أدى عنه.
الوازعات طبيعية وشرعية
- 45 -
والوازعُ الطبعي عن العصيانِ ... كالوازع الشرعي بلا نكرانِ
معنى القاعدة:
أن الله عز وجا حرم على عباده محرمات ومنعهم إياها رحمة بهم, وذلك لما تشتمل عليه من المضار والمفاسد في الدنيا والآخرة, وهذه المحرمات بين الناظم رحمه الله تعالى, أن الوازع الذي يمنع الإنسان من ارتكاب المعصية لا يخلو من أمرين:
1.وازع طبيعي, ومعنى ذلك أن طبيعة الإنسان وتكوينه وجبلته تنفر من فعل ذلك, وهذا في كل النجاسات فهو لو لم يأتِ وأزعٌ من الشرع يمنع ذلك لكانت الطباع السليمة تنفر.
2.وازع شرعي: ومعنى ذلك أن تكون النفوس مجبولة على محبة ذلك وتشتهي ذلك, ولكن الشارع حرم ذلك ومنع منه, فتركه الإنسان للوازع الشرعي, فالنفوس مثلاً مجبولة على حب المال ولكن الشارع حر أشياء يتوصل عن طريقها إلى كسب المال كالسرقة والربا ونحو ذلك, وكذا الزنا. فهذه الأشياء ونحوها الوازع فيها وازع شرعي.(1/86)
ولذلك الذي تميل إليه النفوس وتشتهيه جُعل له عقوبات قاسية لتلك الجناية خفة وثقلاً ومحلاً, وأما المحرمات التي تنفر منها النفوس فلم يُرتب عليها حداً اكتفاء بوازع الطبع ونفرته عنها, وذلك كما تقدم في كأكل النجاسات, فهذه لم يرتب عليها عقوبة بل يعزر كسائر المعاصي التي لم يرتب عليها عقوبة.
خاتمة
- 46 -
..والحمدُ لله على التمامِ ... في البدءِ والختامِ والدوامِ
أفاد الناظم رحمه الله تعالى: أنه لا يحمد الله في الأول وآخر فقط , فهو حمد الله في الأول فقال في أول هذه المنظومة "الحمد لله العلي الأرفق" وحمد في الآخر فقال "والختام" وإنما هو يحمد الله على كل حال ولذلك قال "والدوام" وهذا هو شأن الشاكر لله تعالى المثني عليه, فهو دائم التعلق بالله عز وجل, لأن استدامة الحمد من أسباب الزيادة لفضل الله وكرمه.
والحمد في باب النعم واجبٌ في كل نعمة, فكيف والله تعالى منَّ على عبده بطلب العلم فهي أعظم النعم, لما يترتب على طلب العلم من مصالح دنيوية وأخروية. والحمد يَعظم حينما تكون النعمة نعمة العلم لأنها من أعظم النعم وأشرفها, وما نال الإنسان نعمة بعد الإيمان بأفضل منها.
- 47 -
والحمدُ لله على التمامِ ... في البدءِ والختامِ والدوامِ
ختم الناظم رحمه الله تعالى هذه المنظومة بالصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, ووصف هذا الحمد بأنه شائع أي ذائع الصيت مذكور في كل زمان ومكان.
ثم ثنى بذلك على الصحب, والتابعين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة نسأل الله تعالى أن نكون منهم. فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(1/87)
- ونحمد الله ثانياً على الانتهاء من شرح هذه المنظومة سائلاً المولى عزوجل أن ينفع بها وأن يكتب لها القبول وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم وإلا يجعل للناس منها شيئاً. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .(1/88)