القواعد الفقهية - المستوى الثالث
شرح مقاصد الشريعة
الدكتور/ عياض بن نامي السلمي
الدرس الأول
مقدمة في علم المقاصد
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
المادة التي سوف أقوم بمشيئة الله بتدريسها هي بعنوان "مقاصد الشريعة". وقبل الخوض في عناصر موضوعات هذا العلم، أحب أن أقول للأخوة: إننا -بعون الله تعالى- في تدريس هذه المادة سنحاول تقريبها لهم بالقدر المستطاع، وسنُبْعِد عن الإغراق في المصطلحات التي يصعب على المشاهد استيعابها، وتكون فائدتها -بالنسبة له- ليست بالكبيرة.
أحب أن أقول: إن الهدف من تدريس مثل هذه المادة ينبغي أن يكون واضحا عند الإخوة المشاهدين والمتابعين، وأن يكونوا متذكرين له حتى يُقَوِّموا استيعابهم في ضوء هذه الأهداف. فالهدف من تدريس هذه المادة بهذا المستوى المكثف أن يصل المتابع أو الطالب المشاهد إلى مستوى يستطيع من خلاله أن يستخدم هذه المقاصد ويستعملها في استخراج الأحكام واستنباطها؛ فإن الإحاطة بمقاصد الشريعة واستفادة الأحكام منها مرتبةٌ تحتاج إلى رسوخٍ في العلم وتحتاج أيضا إلى اطلاع كبير على علوم الشريعة الأخرى، وبخاصة أدلة الأحكام من الكتاب والسنة وما يتبع ذلك من تفسير لآيات الأحكام وشرح لأحاديث الأحكام، وما يتبع ذلك من قواعد أصول الفقه، واللغة العربية، وجميع آلات الاجتهاد.
فبعض الناس ظن أنه إذا حضر مثل هذه الدروس سيصل إلى هذا المستوى الرفيع، ويبدأ يصدر أحكاما بناء على ما تلقاه، وهذا ليس هو الهدف من الدراسة لكن هذه الدراسة تعتبر أساسيات لطالب العلم لكي يصل -إن شاء الله- بعد عمر طويل إلى مستوى الاجتهاد.(1/1)
فالقصد من تدريس هذا المقرر هو التعريف بعلم المقاصد؛ والتعريف بنشأته، وتطوره، وبالكتب المؤلفة فيه، ثم العلم –جملةً- بمقاصد التشريع العامة، ومقاصد التشريع الخاصة. فهذا القدر سَيُمَكّن المشاهد -إن شاء الله- وطالب العلم -إذا ضم إليه جملة من المعارف الأخرى- من معرفة شيء عن مقاصد الشارع ويمكنه -أيضا- من القدرة على الترجيح... وغيرها مما سنعرفه في فوائد هذا العلم.
جرت عادة العلماء حينما يدخلون في علم من العلوم أن يبدؤوا بتعريفه؛ حتى يكون واضحا في الذهن. علم المقاصد يمكن أن نبدأ بتعريفه؛ فنسأل أنفسنا ما المقصود بالمقاصد؟
المقاصد –لغة-: مكان القصد؛ أي: جمع مقصد، والمقصد: مكان القصد = اسم مكان من القصد والمقاصد جمع له، والقصد في اللغة هو الأَمّ إلى الشيء والتوجه إليه، وأحيانا يطلق على معنى التوكل، وأحيانا على معنى الطريق المستقيمة، ويطلق على التوسط؛ كما في حديث: (القصد تبلغه)؛ أي: التوسط هذا هو المعنى اللغوي.
أما المقاصد بالمعنى الاصطلاحي؛ فالذي صار عليه العلماء الذين كتبوا في هذا الجانب أنهم أطلقوا إطلاقين؛ الإطلاق الأول: إطلاق عام يشمل مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين فهو يشمل حقيقتين، وهذا الطريق هو الذي سار عليه الإمام الشاطبي حينما خصص كتابا في المقاصد ضمن كتابه المسمى "الموافقات" فلما بدأ كتاب المقاصد؛ قال: إن المقاصد لم يعرفها أحد بهذا الإطلاق بما يشمل مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين.
ولهذا قد يتساءل البعض ويقول لماذا لم يعرف الشاطبي المقاصدَ؟
لأنه أطلق المقاصد وأراد بها حقيقتين مخلفتين؛ فلا يجمعهما لفظ واحد إلا إذا أراد أن يستخدم العقل هو كذا وكذا... فهو لم يحدها؛ لأنها مكونة من حقيقتين مخلفتين.
وإنما قال: المقاصد قسمان:
- القسم الأول: مقاصد الشارع ثم تكلم عنها، وفصل الكلام فيها.
- القسم الثاني: مقاصد المكلفين.(1/2)
أما غيره من العلماء الذين جاؤوا بعده من المتأخرين وأغلبهم من هذا العصر؛ فهم عرفوا المقاصد تعريفا خاصا على اعتبار أنها مقاصد الشارع وقالوا: إن لفظ المقاصد إذا أطلق؛ قُصد به مقاصد الشارع، وأما مقاصد المكلفين فخصوها بالإضافة فلا نقول: المقاصد فقط، وإنما نقول: مقاصد المكلفين.
فإذن الإطلاق العام هو ما ورد في كتاب "الموافقات" للشاطبي، والإطلاق الخاص هو إطلاق المقاصد على مقاصد الشارع, والذين أطلقوا المقاصد على مقاصد الشارع: بعضهم قال: يكفي أن تُعرف بـ "أل" و"أل" هنا هي العهدية ونقول: المقاصد هي مقاصد الشارع من التكليف، وهناك من قال: ينبغي أن نخصها ونقول: مقاصد الشارع ونعرف مقاصد الشارع.
فهناك من كتب في مقاصد الشارع استقلالا وهناك من كتب في مقاصد المكلفين أيضا استقلالا بهذا الاسم. وموضوعاتنا التي سوف نتناولها بالدرس ستكون في مقاصد الشارع فلهذا يمكن أن نعرف مقاصد الشارع بأنها: المعاني والحكم التي راعاها الشارع عند تشريع الأحكام في جميع أبواب الشريعة أو في بعضها. فهذه مقاصد الشارع وهي معانٍ وحكم سامية راعاها الشارع وبنى عليها أحكامه؛ إما في جميع أبواب الشريعة، وإما في بعض أبواب الشريعة.
ومن خلال التعريف نستطيع أن نقول: إن هذا التعريف يوحي بأن هناك مقاصد عامة ومقاصد خاصة بكل باب وهذا هو الذي ذكره علماء المقاصد أو العلماء الذين بحثوا فيها.
فنقول –مثلاً-: من مقاصد الشريعة أنها تحقق مصالح العباد؛ فهذا مقصد عام من مقاصد الشريعة. ورفع الحرج –مثلاً- هذا مقصد عام، ويدخل في هذا حفظ النفوس وحفظ الأموال... كل هذه مقاصد عامة.
لكن إذا نظرت إلى باب من أبواب الفقه؛ تجد أن له مقاصد تخص هذا الباب؛ فينبغي أن تعلم؛ لأنها ستبين لنا محاسن الشريعة وستبين لنا الحق في مجال الاختلاف بين العلماء كما سنعرف الكثير من فوائدها.
إذن هذه هي المقاصد؛ فما تعريف علم المقاصد؟(1/3)
نقول: هو العلم بالمعاني والحكم السامية التي راعاها الشارع في تشريعه للأحكام إما في جميع أبواب الشارع أو في بعضها.
وهناك موضوعات رئيسة لابد أن يعرفها الدارس لهذا العلم وهي التي سنمر عليها -إن شاء الله- وندرسها.
- الموضوع الأول: تعريف العلم، وتاريخه، وما ألف فيه.
- الموضوع الثاني: معرفة الأدلة الدالة على أن للشرع مقاصد من التشريع.
- الموضوع الثالث: كيف نستطيع أن نعرف مقاصد الشارع؟ وما طرق معرفة مقاصد الشارع؟
- الموضوع الرابع: تقسيمات المقاصد و معرفة مراتبها.
فمثلا: عندي قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة" فأنا نظرت فما وجدت نصًّا صريحا؛ لكن تأمل في روح التشريع، هل تأملت في روح التشريع، وفي معانيه، وفي مقاصده العامة؟!
القول بإباحة هذا الشيء هل يسير في الاتجاه الذي تعرفه الشريعة وله نظائر في الشريعة يخدم مصالح الناس من غير ضرر أم أنه يسير في الاتجاه الآخر؟!
فلهذا نجد كلام العلماء المجتهدين الربانيين مليئًا بالنظر في المقاصد حينما يستنبطون الأحكام، وربما لا يصرح بعضهم بالمقصد؛ للحاجة العظيمة إلى هذا الشيء. فالحاجيات هي مرتبة من مراتب مقاصد الشريعة كما سنعرف -إن شاء الله- أو يقولون: لأن في منع الناس من هذا حرجا عظيما.
فهذا يدلك على أنها من مرتبة الضروريات وهكذا في هذه القواعد والضوابط التي يستعين بها الفقيه أو المجتهد في معرفة أحكام النوازل وما يَجِدُّ. هذه من أهم موضوعات علم المقاصد الذي نحن بصدد الكلام عليه. وبعد هذا ننتقل إلى ذكر طرف من فوائد هذا العلم.(1/4)
هذا العلم لدراسته فوائد عظيمة؛ فيستفيد منه المسلم العادي، كما يستفيد منه طالب العلم الذي قطع مرحلة لا بأس بها في العلم، ويستفيد منه الفقيه الذي تفقه في الشريعة ولكنه لم يصل إلى درجة الاجتهاد وهو قريب منها، ويستفيد منه من بلغ رتبة الاجتهاد؛ فكلٌّ يأخذ منه بقدر ما ييسره الله له فلا نريد أن يطغى شيء على شيء؛ فطالب العلم المبتدئ لا نريده أن يمتطي صهوة الاجتهاد؛ فيقول: قد درست علم المقاصد ودرست أن مقاصد الشريعة كذا؛ فالحكم في هذا المسألة كذا. وهو لم يُحِطْ بنصوص الشرع, ولم يعرف ما قاله الفقهاء في المسألة وفي محظوراتها.
وأيضا لا نريد من العالم المجتهد المطلع على أدلة التشريع البالغ رتبةَ الاجتهاد أن يحتقر نفسه أو أن يقلل من شأن نفسه، ويقول: أنا مقلد لفلان حتى لو لاح لي أن هذا الحكم يخالف مقاصد الشريعة؛ لكن مذهبي كذا فأتبعه يعني المذهب الذي تفقهت عليه كذا؛ فكلا الطرفين غير مرغوب فيه؛ لا التهجم على البلوغ إلى رتبة الاجتهاد، والتربع على سُدَّة الفُتيا من المبتدئين، ولا القصور عنها من العلماء الذين وصلوا إلى هذه الرتبة؛ فينبغي ألا يرضوا بالتقليد مع قدرتهم على الاجتهاد.
أهم هذه الفوائد ولعلنا نذكرها من غير ترتيب؛ فلا نفصلها ولكن نذكرها إجمالا:
حصول الطمأنينة الكاملة بصلاحية وملائمة أحكام الشرع لكل زمان ومكان وهذا مقصد عظيم أن تطمئن النفس وترتاح حينما يعلم الإنسان أن مقاصد الشارع هي كذا وكذا وأنها يمكن أن تصلح لكل زمان ومكان. وهذا يجيب على بعض من بدا لهم أن يقولوا إن هذه الأحكام لم تعد صالحة لهذا العصر وأنتم تريدون أن تعودوا بنا إلى العصور المظلمة عصور التخلف... وما أشبه ذلك.
هذا يقوله بعض الناس اليوم للأسف الشديد، وقد لا يجرؤ على أن يقول: إنني سأخالف نصوص الكتاب والسنة، لكن قد يقول: ينبغي أن نعيد قراءة النصوص في ضوء الواقع الجديد وما أشبه ذلك من الدعوات التي يجب أن تُطْرَح.(1/5)
فنحن حينما نضبط مقاصد الشارع بالطرق المعروفة ونعرفها؛ نستطيع أن نجمع بين الحُسْنَيَيْن؛ بين بيان أن هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وعدم إغفال شيء من أحكام الشرع الثابتة الصحيحة.
ومن فوائده: معرفة مآخذ العلماء واستدلالاتهم وطرقهم في الاجتهاد. وهذا يجعلنا نطمئن إلى أن فقههم كان فقها متوافقا مع مقاصد الشرع، وكان فقها مؤصلا على أصول وقواعد وليس هو مجرد إلقاء للأحكام أو تمسك بالظواهر دون معرفة لبواطن الأمور.
ومنها: تحقيق النظر إلى التشريع الإسلامي باعتباره نظاما كاملا متكاملا؛ فالذي يحيط بمقاصد الشريعة وخاصة المقاصد العامة تكون نظرته إلى الشريعة كوحدة واحدة لا ينظر إليها جزئيًّا؛ فبعضهم لا ينظر إلا إلى مسألة واحدة، وجزئية واحدة ولا ينظر إلى بقية المقاصد. وقد وجدنا كثيرًا ممن ينظر هذه النظرة؛ فيتكلم –مثلاً- عن مسألة التعدد؛ فلا يعرف من الإسلام إلا مسألة التعدد؛ فينتقل من هذا الجانب الذي يحيط بمقاصد الشريعة العامة ولا يأخذ حكمة التعدد وينظر فيه ويوازن بين المصالح والمفاسد.
ومن فوائد علم المقاصد أنه يُعين المجتهد على استنباط الأحكام ومعرفة جملة من القواعد العامة في استنباط الأحكام وبخاصة أحكام النوازل بحيث يكون حكمه فيها مطابقا لمقصد الشارع ولما يحبه الله ويرضاه.
أيضا من الفوائد المهمة لدراسة علم المقاصد تمكين الفقيه من النظر الصحيح لأحكام النوازل؛ فأحيانا تكون النازلة فيتنازعها أكثر من دليل وأكثر من قاعدة فقهية فالذي أحاط بمقاصد الشريعة وعرف مقاصد الشريعة حق المعرفة يتمكن من أن ينظر نظرا صحيحا وهو يعطي الحكم.
ومن فوائد علم المقاصد أنه قد تتعارض المصالح والمفاسد عند المجتهد وما الذي يرجحه حينما يجد أمرا فيه مصلحة من جانب وفيه مفسدة من جانب آخر. فما الذي يرجحه من هذين الجانبين؟! فمعرفة مقاصد الشارع العامة تعينه في أن يرجح جانبا على جانب.(1/6)
أيضا من فوائد هذا العلم تمكين الفقيه من المزاوجة والمؤاخاة بين النقل والعقل بحيث لا يطغى جانب على جانب؛ لأن الناس بعضهم يغرق في جانب العقل واستعمال الأدلة العقلية حتى يهمل النصوص الشرعية، ويطلق لنفسه العنان في ذلك، وبعضهم يُقَصِّر في هذا الجانب وكأنه يُلغي جانب العقل ويقول عندنا النص ولا شيء غيره وهو لم يعمل فكره في هذا النص ويفهمه حق الفهم لأنه غير عالم بمقاصد الشريعة فالعالم بمقاصد الشريعة يستطيع أن يوازن في نظرته في الأدلة الشريعة بين هذين الجانبين المتكاملين؛ فليس هناك نقل يمكن أن يستقل عن العقل؛ فينبغي أن يكون عندك القدرة في معرفة ما هو المقدم عند التزاحم. هذا هو الذي يعرف من خلال مقاصد التشريع.
وهذا يذكرنا بما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "تعارض العقل والنقل" أو "موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح" فهو بين في كتاب هذا، وقال: ليس هناك محاربة بين العقل والنقل؛ فلماذا تختلقون وجود نزاع بين النقل الصحيح والعقل الصريح؟ هي متوائمة ومتوافقة.
من أين عرف هذا؟
باطلاعه على مقاصد التشريع استطاع أن يصل إلى هذا وقال: لا تعارض بين العقل والنقل وما تتهمونه من تعارض أنا على استعداد لبيانه حتى قال: لا يوجد مسألة أفتى فيها العلماء على خلاف القياس ولا يريد بالقياس حده الضيق الذي يذكر في أصول الفقه بل يريد به مراعاة المقاصد العامة والقياس بمعنى إدراج الجزئيات تحت هذا المقاصد العامة وهذا مقصد مهم وعظيم من مقاصد أو فائدة عظيمة من فوائد المقاصد.
الدرس الثاني
نشأة علم القاصد، وتطوره، والتأليف فيه
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد:
كنا قد وقفنا عند آخر الكلام عن فوائد دراسة علم المقاصد وضاق الوقت عن استكمال هذه النقطة وبقي معنا فائدتان مهمتان نضيفهما قبل أن نبدأ الدرس المقرر أن يكون في هذا اليوم.(1/7)
الأولى من هاتين الفائدتين هي:
أن العلم بمقاصد الشريعة يعين الدعاة إلى الله على بيان محاسن الشريعة، وتبصير الناس بها، وترغيبهم فيها؛ فإن هذه الشريعة المباركة لها محاسن عظيمة تَتَبَيّن بمعرفة مقاصد التشريع فإذا بُيّنتْ للناس سواء كانوا مسلمين أسرفوا على أنفسهم فظلموا أنفسهم بوقوعهم في كثير من المعاصي، وتركوا كثيرًا من الواجبات, أو كانوا من غير المسلمين؛ فإنهم إذا أحاطوا بهذه المقاصد العظيمة رغّبهم ذلك في الرجوع إلى الدين وفي الدخول فيه إن لم يكونوا قد دخلوا فيه من قبل.
الفائدة الثانية: هي الفهم الصحيح للمواضع المشكلة من النصوص؛ فإن بعض نصوص الشرع ربما تكون مشكلة أو مُبْهَمة على كثير من الناظرين فيها. وكما هو معلوم أن القرآن فيه محكم ومتشابه فلابد من رد المتشابه إلى المحكم: ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا? [آل عمران: 7].
فالذي يحيط بمقاصد الشريعة يتمكن من فهم المواضع التي قد تُشكل على غيره وعلى قدر فهمه لمقاصد الشريعة يكون فهمه لمعاني تلك الآيات أو تلك الأحاديث التي قد يستشكلها غيره.
ولعلنا نذكر طرفا من المواضع التي وقع الخطأ فيها من جهة عدم إدراك مقاصد الشريعة فمن ذلك: أن نفرًا من أهل الشام في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- شربوا الخمر وهم ليسوا من فساق المسلمين وإنما كانوا من الذين لهم باع في العلم وليسوا من عامة الناس، ويذكر أن منهم قدامة بن مظعون.(1/8)
فيقال: إن عمر استدعاهم، وقال لهم: كيف تشربون الخمر ونصوص الخمر المُحرمة واضحة وجلية ؟! فقالوا: ليس علينا جناح في ذلك. لماذا؟
قالوا: لأن الله تعالى يقول: ?لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? [المائدة: 93].
فقلنا: نحن -والحمد لله- آمنا وعملنا الصالحات؛ فليس علينا جناح فيما طعمنا. حتى جاء في بعض روايات الحديث أن أحدهم قال: ليس لك حق أن تجلدنا. فتشاور عليٌّ مع عمر -رضي الله عنه- فقالوا: لابد أن يتوبوا وإن أصروا عليها قتلناهم؛ لأن هذا تُعدّ ردة فنوقشوا في هذا فبُيّن لهم.
هؤلاء غفلوا وإن اعترفوا بخطئهم. غفلوا عن ماذا؟!
غفلوا عن المقصد العظيم من تحريم الخمر وغفلوا عن مراد الشارع بهذه الآية: ?لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُو?؛ فمقصود الآية -كما ورد في سبب نزولها- أن المراد منها الذين ماتوا وهم قد شربوا الخمر بعد نزول آية التحريم، لكن لم يبلغهم خبر تحريم الخمر. وتعرفون ما كانت الأخبار تسير بسرعة فليس عندهم وسائل اتصال كما هو الحال الآن. فهؤلاء المؤمنون الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولكنهم شربوا الخمر بعد نزول الآية وقبل بلوغها –أي: الآية- لهم فهؤلاء هم المقصودون بهذا فلما غفلوا بمقصد الآية؛ وقعوا في هذا الخطإ العظيم.(1/9)
وهناك قصص كثيرة تدل على هذا ولعلنا نزيدها إيضاحا حين الكلام على النصوص الدالة على مقاصد الشريعة لكن نذكر منها بعض المواقف؛ فمنها رواية رافع بن خَدِيج -رضي الله عنه- لحديث النهي عن كراء الأرض وهي قصة مشهورة وفي الصحاح أخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نهى أن تكرى الأرض) وقال ليمنحها أحدكم أخاه أو ليزرعها أو يمسكها، فشق ذلك على الصحابة ومنهم ابن عمر وكان يقول لرافع بن خديج: قد كنا نكري الأرض في عهد رسول الله وفي عهد أبي بكر وعمر فاستغرب هذا. ثم بعد إعمال النظر في مقاصد التشريع وسبب ورود الحديث؛ تبين أن هذا من باب المواساة كما نص على ذلك ابن عباس، وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال هذا من باب الإرشاد لهم لا من باب العزم عليهم ألا يكروا الأرض أبدا، وهذا الذي فهمه ابن عباس وبوّب البخاري لهذا وقال: باب ما كان يواسي أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضَهم فيه.
فكان يواسي بعضهم بعضا؛ فإذا كان عند أحدهم أرض كبيرة؛ أعطى أخاه قطعة منها ليزرعها وليأكل من ثمرها من غير أن يأخذ منها أجرة. وأما من أراد حقه كاملا فله أن يؤجرها. وهناك من تأول هذا الحديث وحمله على أن المراد تأجير الأرض بناحية معينة منها ورافع بن خديج نفسه رُوِي عنه ذلك ويبدو أنه تأمل في الأمر وعلم أن النهي ليس عن كل كراءٍ للأرض وإنما هو النهي عن كراء الأرض بجزء معلوم منها وقال: إننا كنا نكري الأرض بجزء معلوم منها؛ أي: بناحية منها، فأحيانا تنبت الأرض كلها إلا هذه الناحية فيخسر صاحب الأرض وأحيانا تنبت هذه الناحية التي اشترطها صاحب الأرض لنفسه ولا تنبت بقية الأرض أو لا تثمر ثمرا طيبا، فيكون الخاسر هو الزارعَ أو المستأجرَ فنهاهم عن ذلك. وأما أن تُكرى الأرض بشيء معلوم محدد؛ فهذا لم يُمنع عنه وكذلك ما يتعلق بكرائها بذهب أو فضة أو ما أشبه ذلك...(1/10)
فالقصد أن المعرفة بمقاصد الشريعة تجعل المطلع عليها على علم بمواضع الإشكال التي قد ترد في نصوص الكتاب والسنة ولعل هذه الأمثلة تكفي، وننتقل إلى نشأة علم المقاصد.
العلوم الشرعية كلها نجد لها أصولا في الكتاب والسنة وكذلك الشأن في علم المقاصد؛ فليس بدعا من هذه العلوم؛ فهناك نصوص في القرآن والسنة تشير إلى أهمية العلم بمقاصد التشريع، بل هناك نصوص نصّت على بعض هذه المقاصد؛ كالنصوص الواردة في رفع الحرج والتيسير وهي كثيرة جدا في الكتاب والسنة؛ كقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) (إن هذا الدين يسر ولن يُشاد الدين أحدٌ إلا غلبه).
هذه كلها من النصوص التي تشير إلى مقصد رفع الحرج ومقصد التيسير وهو من المقاصد العامة المهمة في الشريعة. لكن إذا نظرنا إلى الحال في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- فكان هو المرجع في الفتوى فيُفزغ إليه عند نزول النازلة ويكون الحكم مأخوذا منه مباشرة.
وكان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يراعي المقاصد العامة والمهمة في تشريعه، وفي بيانه للحكم. ولنأخذ من ذلك بعض الأمثلة:
- قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بشرك؛ لنقضت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم)، هذا الحديث يُبين أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يراعي مآلات الأفعال ويقدرها ويعمل لها حسابا في أوامره ونواهيه وفي فعله وفيما يتركه وفيما يفعله.
فهو يقول: (لولا أن قومك حديثو عهد بشرك) وأخشى إن نقضت الكعبة لأضعها على قواعد إبراهيم أن يقال: إن محمدا يخرب الكعبة ويخرب البيت ويجد المشركون والمنافقون فرصة للطعن في الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي الدين الذي جاء به؛ فيشككون الناس فيه وربما أحجم من لم يدخل في الدين لأجل هذه الدعاية العظيمة فترك هذا الأمر لأجل هذا المقصد.(1/11)
فهو –صلى الله عليه وسلم- أراد أن يحافظ على المكاسب التي اكتسبها هذا الدين العظيم وسرعة انتشاره وأن لا يُتهم بأنه يتلاعب بالمقدسات ويتلاعب بقبلة المسلمين، وبخاصة أن الكعبة كانت معظمة عند الناس قبل الإسلام.
- الواقعة الثانية التي وقعت وهي تدل على مراعاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لمقاصد التشريع أن بعض الصحابة كلمه وقال: يا رسول الله!! لم لا تأذن لنا في قتل هؤلاء المنافقين الذين آذوك وآذوا المسلمين؟! فماذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما استأذنوا؟
قال: (نُهيت عن قتل المصلين)، وقال لهم: لا أريد أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. هل هؤلاء من أصحابه أو هل للمنافقين شرف الصحبة ؟
ولكن الرسول –صلى الله عليه وسلم – يقول: لا؛ لأنهم سيقولون: إن محمدا يقتل أصحابه، وكلما خالفه واحد من أصحابه أو عارضه؛ قتله. فلم يقتل من المنافقين مع أن الوقائع تذكر لنا أن كثيرًا ما كان يستأذنه عمر أو وغيره؛ فيقول: يا رسول الله!! قد نافق ائذن لي أن أضرب عنقه فيُهَدّؤه ويقول: (لا أريد أن يتحدث أن محمدا يقتل أصحابه)؛ فالرسول –صلى الله عليه وسلم - حريص على سمعة هذا الدين وحريص على انتشار هذا الدين العظيم ولم يأذن لهم في قتل المنافقين.
فهذا دليل على أنه نظر إلى ما سيترتب على هذا. صحيح أننا سندفع عنا مفسدة سُلْطة لسان هذا المنافق لو قتلناه، ولكن سنفتح علينا مفاسد أعظم وسيتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وينصرفون عن هذا الدين أو يَصرفون الناس عنه. وهذا فيما يتعلق بمعالم المقاصد في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي أحكامه وتشريعاته.
أيضا نجد أن الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعون لهم بإحسان كانوا يهتمون كثيرًا بمقاصد الشريعة ويراعونها في فتاواهم في نظرهم، ولنأخذ –مثلاً- بعض الوقائع في عهد الصحابة التي تدلنا على اهتمامهم بالمقاصد العامة بالشريعة.
بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- ماذا فعل الصحابة؟(1/12)
أول عمل عَمِلَه الصحابة هو أنهم اجتمعوا في السقيفة ليتشاوروا من يولون أميرا عليهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. لماذا؟ هل هذا حرص فقط على الإمارة؟
هذا لأجل أنهم عرفوا أن توليةَ إمام على المسلمين يطيعونه ما أطاع الله ويعينونه ويُسدّدونه وينصحونه مقصدٌ عظيمٌ من مقاصد الشريعة، ولا يريدون أن يمر عليهم وقت -وإن قل- بدون أن يكون لهم إمام، ثم تشاورهم في سقيفة بني ساعدة وإتاحة المجال للأنصار لأن يتحدثوا عمّا في نفوسهم كذلك -كما تعرفون- اتفق الجميع على أن يولوا أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- وعندما ولَّوْه. انظروا إلى بعض الملاحظ في توليته أنهم قالوا: رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا؛ أي: الإمامة الصلاة؛ أفلا نرضاه لدنيانا؟!!
عهد أبو بكر إلى عمر من بعده في الخلافة مباشرة فكان أبو بكر حريصا ألا يبقى الناس ولو يوما واحدا بدون إمام؛ لما يعرفونه أن هذا الشرع حريص على انضواء الناس تحت إمام واحد. كذلك لما حضرت عمرَ الوفاةُ عهِد إلى مجلس مكون من ستة أشخاص وقال يجتمعون ويتشاورون ولا يخرجون إلا وقد عينوا للناس واحدا منهم. لماذا؟ للسبب نفسه؛ فهذا دليل على اهتمامهم بهذا المقصد العظيم وهو مقصد وجود إمام للمسلمين.
وأيضا بدأ جمعُ القرآن في عهد أبي بكر حينما استحَرَّ القتلُ في القراء يوم اليمامة؛ فخافوا أن يذهب القراء ويذهب معهم شيء من القرآن؛ فبدؤوا بجمع القرآن الجمع الأول ثم بعد ذلك في عهد عثمان -رضي الله عنه- لما رأى اختلاف الناس نظرًا لكثرة المصاحف التي كُتبت على قراءات القرآن المختلفة وعلى أحرف القرآن المتعددة؛ خَشِيَ أن يؤدي اختلافهم في قراءة القرآن إلى ما هو أعظم من ذلك فدرأ هذا الاختلاف وجمعهم على مصحف واحد وهو المصحف الموجود الآن والمعروف بمصحف عثمان -رضي الله عنه-.(1/13)
هذا في عهد الصحابة وفي عهد التابعين أيضا هناك مظاهر كثيرة من مراعاة مقاصد الشريعة والاهتمام بها، وكل هذا كان قبل انتشار التأليف في عهد الأئمة الكبار؛ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد كل هؤلاء الأئمة كان لهم اهتمام بالمقاصد وكانوا في اجتهاداتهم يراعون مقاصد الشريعة مراعاة كبيرة وينظرون إليها ويبنون عليها الأحكام ونظرا لأن هؤلاء أو أكثرهم لم تكن لهم كتب نُقلت إلينا، وإلا لجاءنا علم كثير.
ونجد أن الشافعي –مثلاً- له كلام كثير عن المقاصد وهو من الذين نقلت لنا كتبهم، وأبو حنيفة اشتهر بالقول بالاستحسان، والإمام مالك مشهور عنه العملُ بالمصالح والاستحسان، حتى رُوِي عنه أنه قال: "الاستحسان تسعة أعشار العلم". والإمام الشافعي يذكر بعض المؤلفين أنه ما كان يعمل بالمصالح المرسلة لكن ليس معنى هذا أنه كان يهمل مقاصد الشريعة، بل كان يعمل بمقاصد الشريعة الثابتة عنده. فإذا كان يعمل بالقياس والقياس في عهده كان قياسا على مصلحة خاصة في هذا الفرع؛ فمن باب أولى أنه يعمل بالمصالح العامة التي تظاهرت نصوص الشرع عليها.
كذلك الإمام أحمد كان يهتم بمقاصد الشريعة اهتماما كبيرا وهناك بعض الأمثلة لكن الوقت لن يتسع لذكر نصوص لهؤلاء الأئمة.
وإذا انتقلنا إلى الأئمة من بعدهم؛ وجدنا الكلام على المقاصد في وضوح متدرجٍ في تواليف العلماء الذين سأذكرهم لكم الآن تباعا، ونجد هذا في كتب إمام الحرمين فتكلم عن المقاصد في كتابين من كتبه المطبوعة بين أيدينا هما كتاب "البرهان" وكتاب "غِياث الأمم في التياث الظُّلَم" وهما مشهور بالغياثي. فذكر في هذين الكتابين طرفا من مقاصد الشريعة العامة وتكلم عن بعض تقسيمات المقاصد وذكر بعض قواعدها.
الإمام الغزالي هو تلميذ إمام الحرمين وكان حديثه عن المقاصد أكثر وضوحا مما هو في كتب شيخه؛(1/14)
فتكلم عن المقاصد في ثلاثة من كتبه المشهورة في أصول الفقه خاصة غير كتبه الأخرى؛ منها: كتاب "المنخول"، وكتاب "شفاء الغليل"، و كتاب "المستصفي"، وأكثر كلامه وضوحا في كتاب "المنخول" وفي كتاب "شفاء الغليل في الشبه والمخيل ومسالك التعليل"؛ فتكلم عن تقسيمات المقاصد وذكر الضروريات الخمس التي هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ النسل والعرض، وحفظ العقل فتكلم عنها وتكلم كيف أن الشريعة جاءت بحفظ هذه الضروريات بل قال: إن جميع الشرائع السماوية تواترت وتوافقت على حفظها. وجاء بعده الفخر الرازي والآمدي وتكلما بمثل كلامه من غير إضافات تذكر.
ثم جاء العز بن عبد السلام وكان في تأليفه أكثر استقلالية فيما يتعلق بعلم المقاصد، فألّف كتابين في القواعد أحدهما يسمى "القواعد الصغرى" والثاني يسمى "القواعد الكبرى"، لكنْ لهما اسمان آخران القواعد الصغرى كان من أسمائه التي اقترحها مؤلفه "مختصر الفوائد في أحكام المقاصد"، لكن عرف بالقواعد الصغرى، أما كتابه الثاني فهو "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وهذا يسمى بالقواعد الكبرى تكلم في المقاصد كلاما جميلا واضحا وذكر جملة من القواعد المتعلقة بمقاصد الشريعة.
ثم جاء أيضا بعده تلميذه القرافي ونسج على منواله، وذكر من قواعد المقاصد ضمن كتبه المختلفة مثل "شرح تنقيح الفصول" و"شرح المحصول" وغيرها...
ثم جاء الطوفي الحنبلي (716 ه) فتكلم عن مقاصد الشريعة وعن المصالح في كتاب سماه "التعيين في شرح الأربعين"، تكلم فيها عند كلامه في شرح حديث (لا ضرر ولا ضرار)، ثم أُخذ عليه في هذا أنه بالغ بالعمل بالمصالح وأنه قدم المصالح على النصوص.(1/15)
ثم جاء ابن تيمية أيضا فاهتم بالمقاصد اهتماما كبيرا في كتبه جميعا واعتنى بها عناية قلَّ أن تجدها عند مَنْ في عصره وهناك رسالة دكتوراه مطبوعة باسم "المقاصد عند ابن تيمية" للدكتور يوسف بدوي. والذي يطلع على هذه الرسالة يجد أن صاحبها قد نقل عن ابن تيمية نصوصا صريحة في اهتمامه بالمقاصد وفي عمله بها مثل قوله: أصلُ الدين وأساسه وعموده ورأسه المقاصدُ، يقول: إن العلم بمقاصد الشريعة أصلُ الدين وأساسه وعموده ورأسه. كذلك نقل عنه أنه يرى أن العلم بالمقاصد شرط لبلوغ رتبة الاجتهاد وكان المشتهر عند أهل هذا العلم أن أول من نصّ على هذا صريحا هو الشاطبي، وابن تيمية كما هو معروف متوفى سنة (728ه) ؛ أي قبل الشاطبي.
أيضا ابن القيم اهتم كثيرًا بمقاصد الشريعة، وسار على نسق شيخه في ذلك وله فتاوى -قد يأتي ذكر بعضها- تدل على اهتمامه بمقاصد الشريعة ومراعاته لهذه المقاصد حتى وإن أدى ذلك إلى الإخلال بشيء من ظواهر النصوص؛ فهو يقول: إن ما حُرّم سدًّا للذريعة يُباح للحاجة؛ فلهذا كان من فتواه أنه نصَّ على أن من كان في قافلة ومعه ذهب خام ويريد أن يضربه نقودا؛ أي: يسكه نقودا؛ فله أن يدفعه للصائغ ويقدر الصائغ كم سيكون من دينار، ويأخذه دنانير وينصرف مع رفقته.
فهذا لو عرضته على حديث (الذهب بالذهب مثلاً بمثل)؛ لقلتَ: كيف يفعل؟ فهذا ذهب مسكوك ومشغول مختلف عن الذهب الخام والذي يسك النقود والعملة سيحتاج إلى أجرة؛ فكيف يعطيه ذهبا وأجرة ويأخذ منه ذهبا.(1/16)
لو عرضت هذا الأمر على أحد من أهل العلم؛ لكان فتواه بالتحريم، لكنّ ابن القيم نظر إلى مقصد عظيم في هذا، وقال: لو تَخَلّف هذا الرجل عن رفقته وأخذ ينتظر هذا الصانع حتى يسك له هذا الخام دنانير؛ لأدى ذلك إلى فوات الرفقة, وربما سافر وحده، و تعرض للهلاك، أو لِقُطّاع الطرق وذهب ماله فنظر إلى مقاصد أخرى، ثم نظر إلى مقصد هذا الشخص؛ فهو لم يكن مقصده التحَيُّلَ للوصول إلى الربا، وبيع ذهب بذهب مع زيادة، وإنما مقصده أن يأخذ الدنانير مضروبةً.
فهذه من فتاواه التي راعى فيها وله فتاوى كثيرة كلها مبنية على مراعاة مثل هذا المقصد العظيم.
ثم يأتي بعد ذلك الشاطبي ونجده قد خصص في كتابه "الموافقات" بابا للمقاصد وعنون له بكتاب المقاصد ولهذا يَعُدّ كثيٌر من الباحثين الشاطبيَّ مؤسس علم المقاصد، لكنّ حقيقةَ الأمر أنه مسبوق إلى ذلك وما كتبه العز بن عبد السلام كان بهذا العنوان؛ فلا يقال: إن الشاطبيَّ أولُ من كتب في المقاصد لكن برزت المقاصد في تأليفه أكثر وأخذت من كتابه "الموافقات" مكانة بارزة.
تقول: بعض الناس في هذا الزمان يحتج بمقاصد الشريعة على تعطيل بعض الأحكام الشرعية؛ مثل قولهم: إنه يجوز حلق اللحية في بعض البلدان التي تنظر إلى الملتحين على أنهم أهل الإرهاب، ويقولون هذا من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار). بِمَ نرد عليهم؟(1/17)
سنتعرض لكل جزئية، وسنرد على كل من أساء استخدام المقاصد. لكن بالنسبة للنقطة التي سألت عنها. تقول إن هناك من يسيء استخدام المقاصد، فنقول: نعم، استخدام المقاصد على أن الاستدلال بها له ضوابط، وله قيود، وهذا سنأتي عليه -إن شاء الله- فليس كل من عرف شيئا من مقاصد الشريعة له أن يُسقطها على بعض الأحكام، ويحكم بما يرى أنه موافق للمقاصد الشرعية مع أنه يكون غير أهل لذلك. فهناك من هو متوهم أنه من المقاصد وليس بمقصد. وهناك من لم يتحقق في المقصد أما في الصورة التي تذكرها في قضية حلق اللحية فهذا قد يكون فتواهم صوابا، بمعنى أنه إذا خشي على نفسه أن يفعل ذلك. فإذا كان سيؤدي إعفاؤه للحيته إلى أن ينكل به، أو يضر في بدنه، أو في ماله، أو في أهله؛ فلا شك أنه جائز.
يقول: هل مقاصد الشرع -كلها- معلومة؟ أم أن هناك مقاصد غير معلومة؟
إن شاء الله سأتكلم عن هذا حين الكلام عن طرق معرفة المقاصد. وسيأتي له كلام عند طرق معرفة المقاصد. وقد نتكلم عن جزء منه في الحلقة القادمة -إن شاء الله- عند الكلام عن تعليل الأحكام ونبين أن الأحكام منها ما هو معلل، ومنها ما هو غير معلل ومنها ما هو تعبدي لا تُعرف له علة.
سؤال آخر يقول: هل إذا قسنا عدم إذنه -صلى الله عليه وسلم- بقتل المنافقين نجعل ما يحدث في العراق، وذبحهم للخونة أمام الكاميرات فيه إساءة للإسلام؟
نعم نعم، نحن ما نقول إننا نهمل كل الأسئلة الجزئية، لكن نستطيع أن نقول للإخوة تطبيق هذه المقاصد يرجع إلى عالم تقيّ ورع ومحيط بأصول الشريعة. وهذا ينبغي أن يصدر عنه سواء الإخوة في العراق، أو في غيرهم ينبغي أن تصدر فتواهم عن العلماء الأتقياء، أهل الفضل والصلاح، أهل العلم بأصول الشريعة، وفروعها الذين لهم قدم راسخة في هذا العلم. ولا يكتفون –مثلاً- في أخذ بعضهم عن بعض.(1/18)
لأن هناك بعض الشباب صغار السن قد انحازوا عن المجتمعات، وأخذ يفقه بعضُهم بعضا. وإذا عجزوا عن فهم شيء؛ رجعوا إلى بعض الكتب. وقديما قيل: "من كان مُعلّمُه كتابَه؛ فخطؤه أكثر من صوابه". فينبغي أن يرجعوا إلى أهل العلم، وأهل العلم الذين اتصفوا إلى العدالة والتقوى وهؤلاء هم الذين يصدر عنهم. ولا ينبغي أن نعطي أحكاما عامة من هنا مثلاً بالأستوديو على ما يحصل في أي مكان وإنما الذين يرون الحدث من أهل ذلك البلد ومن علمائه الكبار المشهود لهم بالفضل هم الذين يرجع لهم في هذا.
بعض الإخوة ربما يظن أن هذا الدورة قد تؤهله إلى أن يصل إلى رتبة عالية جدا. يعني أنا ما أود أن المشاهد الكريم على هذا الأمر الأمور النوازل تحتاج إلى كثرة عقول، وكثرة آراء، وكثير من الأمور. تقول: كيف يكون منع سد للذريعة يا شيخ أي ما أريد به المنع لا يكون حكمه محرما هل أتيت بأمثلة؟
كل هذا -إن شاء الله- سيأتي نحن ننصح الإخوة الآن بالمتابعة، وما يتعلق بسد الذريعة، وكيف يكون، وأمثلته لو رجعت فقط إلى المثال الذي ذكرناه قبل قليل مثلاً يعني الرسول -عليه الصلاة والسلام- امتنع عن قتلهم خوفا من أن يتسبب هذا في ضرر أعظم على الإسلام والمسلمين وهو إحجام الناس عن الدخول في الإسلام.
هنا كثير من الأسئلة يا شيخ تعرض مسألة الكتاب ونقول نرجئها.
سننص -إن شاء الله- على كتابين.
يقول: ابن القيم -رحمة الله عليه- هل خصّ في علم المقاصد كتابا خاصا، أو أفرده في كتبه؟ وما هذه الكتب؟
ابن القيم أدخلها في كتبه إذا رجعت مثلاً إلى كتاب "أعلام الموقعين عن رب العالمين"؛ تجد اهتمامه بالمقاصد اهتماما كبيرا. وإذا رجعت إلى كتاب "بدائع الفوائد" أيضا؛ تجد أن له اهتمام كبير بهذا وتنصيص على الاهتمام بمقاصد الشارع، بل الاهتمام بمقاصد المكلفين، وربط الأحكام بها. فهو تكلم عن المقاصد بنوعيْها؛ مقاصد الشارع، ومقاصد المكلفين التي هي النيات.(1/19)
يقول: معلوم أن من مقاصد الشريعة التيسير. فهل يمكن استخدام منهج التيسير في إسقاط بعض الأدلة القطعية في الثبوت والدلالة أم أن هذا من الخطإ؟
أيضا هذا نحيله على ما سيأتي -إن شاء الله- على أننا سنذكر فيما يتعلق بالاحتجاج على المقاصد سنذكر -إن شاء الله- وسنخصص حلقة لهذا للاحتجاج بها، وما هي منزلتها بين الأدلة يعني كيف ننزل مقاصد الشريعة بين الأدلة وما هي المرتبة التي تكون فيها هذا -إن شاء الله- سوف نتعرض له في أواخر دروسنا -بإذن الله تعالى- وأما كون التيسير مقصدا فهذا مما لا خلاف فيه.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
اذكر التعريف المختار لعلم المقاصد.
والسؤال الثاني:
اذكر فائدتين من فوائد دراسة علم المقاصد.
السؤال الثالث:
اذكر ثلاثة من الكتب المؤلفة في علم المقاصد.
الدرس الثالث
التعليل وإثبات المقاصد
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: اذكر التعريف المختار لعلم المقاصد.
وكانت الإجابة:
التعريف المختار للمقاصد هو: علم بالمعاني والحكم التي راعاها الشارع عند تشريع الأحكام في جميع أبواب الشريعة أو في بعض أبوابها.
هذا تعريف جميل قليل وسهل وهذا الذي ينبغي أن يُعرف به علم المقاصد.
تقول في السؤال الثاني: اذكر فائدتين لعلم المقاصد.
وكانت الإجابة:
1- الطمأنينة بأن مقاصد الشارع تصلح لكل زمان ومكان.
2- معرفة القواعد العامة التي تعين المجتهد على الاستنباط لاسيما في أحكام النوازل.
نعم هذا صحيح لكن الأول قالت إن مقاصد الشريعة...
الطمأنينة بأن مقاصد الشارع تصلح لكل زمان ومكان.
هو الطمأنينة بأن الشريعة تصلح لكل زمان ومكان لا المقاصد؛ لأن المقاصد تدلنا على أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.
الأخت تقول في السؤال الثالث: ما هي الكتب المؤلفة في هذا العلم؟
وكانت الإجابة:(1/20)
كتاب مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور، وكتاب علم المقاصد الشارع للدكتور عبد العزيز الربعية، ورسالة المقاصد عند ابن تيمية للدكتور يوسف البدوي.
نعم هذا صحيح وإن كانت هذه الرسالة تعتبر خاصة بالمقاصد في مؤلفات ابن تيمية بينما الكتابان الأولان أعم.
بعد أن عرضنا عرضا موجزا لتعريف المقاصد، والتعريف بفوائدها، وتاريخها، والتأليف فيها، ننتقل إلى إثبات وجود مقاصد للشارع؛ لأن هناك من قد ينازع ويقول: مَنْ قال إن هذه الأحكام كلها إنما شرعت لمقاصد؟ فقد ينازع منازع وقد يجد ما يؤيد كلامه في بعض كتب المتقدمين عند بحثهم لتعليل الأحكام، وهل الأحكام معللة أم غير معللة.
فلهذا نحتاج إلى معرفة الأدلة الدالة على أن لله من تشريعاته مقاصد سامية جليلة؛ فهذا الأمر يحتاج منا إلى أن نقدم مقدمة للكلام عن تعليل الأحكام. لماذا نحتاج إلى هذه المقدمة؟
لما ذكرته من أن هناك من قد يقول: أنتم تقولون: هناك مقاصد للشارع, ونحن نجد في كتب علم أصول الدين، أو كتب الكلام، أوكتب أصول الفقه خلافا بين العلماء في تعليل الأحكام؛ فهناك من يقول بتعليلها وهناك من يقول: إن الأحكام غير معللة. فما مدى تأثير هذا الخلاف على القول بالمقاصد؟ ولن نطيل فيها كثيرًا مع أنها استغرقت من كتب أصول الدين، وكتب أصول الفقه الشيء الكثير. بعدها ننتقل إلى التفصيل في الأدلة الدالة على أن لله مقاصد سامية من تشريعاته.
أولا: تعليل الأحكام:
ماذا يراد بتعليل الأحكام؟
هو بيان علتها، وقد نقول -بعبارة أخرى-: هو الجواب الذي يُذكر عن السؤال بلفظ لم، أو لماذا؛ فجوابك هذا هو التعليل، كما أن التكييف هو الجواب عن السؤال بكيف، والتعريف هو الجواب عن السؤال بما هو؛ فإذا قيل لك: ما معنى كذا؟؛ ذكرت تعريفه.
اتفق العلماء على أن أحكام الشرع منقسمة قسمين:
1_أحكام تعبدية.
2_أحكام معللة.
أولا: الأحكام التعبدية.
ما المراد بالأحكام التعبدية؟
قالوا: هي التي لا نعرف لها علة.(1/21)
ومرادهم بـ "لا نعرف لها علة": لماذا شرعت على هذه الصفة؟؛ فأصل العبادة قد يكون المقصد منه معلوما، لكنّ مرادهم لا نعلم لم شرعت على هذه الصفة؛ مثل: أعداد ركعات الصلوات.
لماذا كانت صلاة الظهر أربعا؟
لماذا اشترط الطواف بالبيت سبعا؟
هذه -كلها- يقولون: إنها أحكام تعبدية؛ أي أننا لا نعلم لم شرعت على هذه الصفة؛ فالمراد بالأحكام التعبدية الأحكام التي لا نعرف لم شرعت على تلك الصفة التي عليها.
ثانيا: الأحكام المعللة:
أي: لها سبب وعلة؛ إما بنص من الشارع، أو بالتأمل في فوائد هذا الحكم الشرعي، أو بغير ذلك من الطرق التي سيأتي ذكرها.
هل معنى هذا أن نقول: إن الأحكام التعبدية ليس لها مقاصد؟
الجواب: لا، الأحكام التعبدية لها مقاصد، لكن لا نعرف لم شرعت على هذه الصفة بالذات، ولا نعرف الحكمة من مشروعيتها على تلك الصفة. أما المقاصد والحكمة؛ فهي ثابتة ولكنّ عدمَ علمنا بها لا يدل على أنها غير موجودة، وأن الله شرعها من غير حكمة، وإنما يدل على أن عقولنا قَصُرَتْ عن إدراكها؛ ولهذا بعض العبادات وإن كانت صفاتها الخاصة تعبدية إلا أن المقصد العام من مشروعيتها معروف؛ فمثلا المقصد العام من مشروعية الصلاة الخضوع لله، والتعبد له، وما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، كما وردت في النصوص.
يبقى الإشكال في أنه قد يقال لنا: كيف تقولون: إن جميع أحكام الشرع لها مقاصد، والعلماء مختلفون في تعليل أفعال الله وأحكامه؟
فأي واحد يقرأ في كتب علم الكلام، أو ما يُسمى بأصول الدين؛ يجد هذا الخلاف بينهم؛ هل أفعال الله معللة أو غير معللة؟
الذي يطلع على مثل هذا الخلاف، وما قيل فيه من إشكالات طويلة قد يقول: إن الأحكام الشرعية ليس لها مقاصد؛ لأن هناك من العلماء من أنكر ويُنسب هذا للأشاعرة؛ لأنهم ينكرون التعليل.
لكن نقول: إن إنكار التعليل لا يدل على إنكار المقاصد. لماذا؟(1/22)
لأن التعليل الذي أنكروه = قولهم: إن في أحكام الله ما ليس مُعَلّلا، هم يقصدون به التعليل بالغرض؛ ولهذا تجد في عباراتهم (أفعال الله لا تُعلل بالأغراض)؛ فكأنهم يقولون: إن الغرض إنما يناسب المخلوق وأفعال الله لا تعلل بالأغراض؛ لأنه غير محتاج إلى شيء من خلقه. فانصب إنكارهم على تعليلها بالأغراض، والمقاصد ليست تعليلا بالأغراض، وإنما هي تعليل بالحكم والمعاني التي راعاها الله -جل وعلا-.
وأما إنكارهم للعلة؛ فهم أنكروا العلة بمعنى الباعث –أيضا-، وقالوا:
كيف نقول: إن أحكام الله معللة بمعنى أن هناك عللا بعثت الله ودفعته إلى أن يحكم بهذا الحكم؛ تنزيها لله -جل وعلا- عن أن يوجد ما يبعثه على الفعل.
والمسألة طويلة, ولكن نحن إنما نريد إلقاء الضوء عليها من جانب عدم تعارض هذا الخلاف مع إثبات المقاصد.
كيف نعلم أنه ليس هناك تعارض؟
نجد أنهم ينقلون الإجماع والاتفاق على إنكار التعليل لأحكام الله -جل وعلا- وأنها شُرعت لمصالح العباد؛ فقد نقل الإجماع جمع كبير كالآمدي، والزركشي، وابن عبد السلام، وإنما وقع الخلاف بينهم في جزئية؛ وهي هل مراعاة هذه المقاصد تَفَضُّلٌ من الله -جل وعلا- وتَكَرُّم، أم يقال: إنه واجب على الله -جل وعلا-؟
فقال أهل السنة: إنه تفضل من الله -جل وعلا- وهذا هو الذي يناسب مذهب السلف؛ وإلا فالسلف -كما سنعلم- لا يختلفون في تعليل أحكام الله؛ فقالوا: إن الاتفاق حاصل على أن أحكام الله معللة بالمصالح، ودرء المفاسد، وهي تفضل من الله -جل وعلا- ولا يجب على الله شيء.
والمعتزلة يقولون: إنها واجبة على الله، وإذا دققنا النظر في كتب المعتزلة أو فيمن نقل آراءهم؛ نجد أنهم يقولون: إيجابها على الله ليس المقصود به الإيجابَ الاصطلاحيّ الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإنما مقصودهم الوجوب عقلا؛ فيقولون ما دام حكيما عليما؛ فلابد أن تكون أحكامه مراعية للمصالح؛ فضاق الخلاف بينهم.(1/23)
ومن أهل السنة من قال: يصح أن نقول: أوجبها الله على نفسه، وبعضهم قال: هي واجبة منه لا عليه. ولا نريد أن نخوض كثيرًا في هذه المسألة، ويكفينا أن الإجماع نقله الزركشي، والآمدي، والقرافي، وابن الأمير الحاج، وخلق كثير منهم.
قد يقول قائل: هل يقول ابن حزم بالمقاصد؟
ابن حزم معلومٌ عنه إنكار التعليل والوقوف في وجه التعليل، وينص نصا صريحا في الجزء الثامن من كتاب "الإحكام" أنه لا ينكر أن أحكام الله شُرعت لأسباب معينة ولكنه ينكر أن يُقاس على هذه الأسباب غيرُها أو أن تُنَزَّل هذه الأسباب في غير موضعها الذي نصّ الله عليه؛ فمثلاً حرم الله الخمر لما فيها من الضرر فهذا أمر مُجْمَعٌ عليه، لكنه لا يُلحق بغير المنصوص ما هو منصوص، وإنما يقول: إن ما نص الشرع عليه بالعموم المعنوي؛ فإنني أقول به وما عدا ذلك أبحث عن دليله من نص آخر.
إذا تقرر هذا؛ أمكننا أن ننتقل إلى:
ما هي الأدلة الدالة أن أحكام الله -جل وعلا- معللة بمصالح ومقاصد سامية؟
هذه الأدلة قد تؤخذ من القرآن الكريم وقد تؤخذ من السنة ومن فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ويكفينا هذه الثلاث.
فإذا أخذنا القرآن الكريم وما فيه من تعليل؛ نجد القرآن الكريم أحيانا يذكر نصا صريحا على أن من مقاصد الشرع كذا وكذا وحينها يعبر بلفظ الإرادة؛ كما في قوله –تعالى-: ? يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ?[البقرة: 185]؛ فمثل هذا تصريح بأنه شَرَعَ هذا الأحكام لمقاصد. بغض النظر عن كوننا سنستدل بهذه المقاصد على أحكام جديدة أم لا.
والقرآن -كما نعلم- عربيٌّ جاء بألفاظ العرب، وبما يعرفه العرب؛ فألفاظ التعليل عند العرب كثيرة؛ فهم يعللون باللام، ويعللون بـ "كي"، ويعللون بباء السببية؛ فتجد أن ألفاظ التعليل في القرآن جاءت بكل الأساليب العربية من غير استثناء.(1/24)
إذا أخذنا –مثلاً- "كي"، أو "كيلا"؛ نجد أن في نصوص القرآن الكثير من هذا؛ كقوله –تعالى-: ? لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ?[الحديد: 23]، واللام كقوله –تعالى-: ? مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ ?[المائدة: 6]، وكقوله: ? إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ?[النساء: 105]، وكقوله: ? رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ?[النساء: 165]. والباء كقوله -جل وعلا-: ? فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ?[النساء: 160]؛ فالباء هنا سببية تعليلية؛ أي: بسبب ظلمهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.ونجده –أيضا- يعلل قسمة الفيء والمغانم في قوله: ? كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ?[الحشر: 7].
لماذا شرع تقسيم الفيء؟
لكي لا يكون المال متداولا بين الأغنياء فقط.
نجد أيضا فريقا آخر يُبَيِّنُ أن في القرآن مقاصد التشريع؛ وهو أن الله -جل وعلا- وصف نفسه في آيات كثيرة بالحكمة والعلم؛ أي: عليم حكيم.
والحكمة ماذا تعني؟
وضع الشيء في موضعه؛ فالحكيم الذي يضع الشيء في المكان المناسب له هذا يدل على أن تشريعاته كلها مشتملة على الحكمة. كذلك في بعض الآيات يأتي بيان الحكمة من جهة وصف نفسه بالرحمة فمن جهة رحمة الله بعباده أن تكون تشريعاته لمصالحهم.(1/25)
ومن الأساليب المفيدة للتعليل، وبيان المقصد في القرآن الكريم بيان فوائد المأمورات وبيان عواقب المنهيات للناس؛ فحينما يبين فوائد العبادات المأمور بها والشرائع المأمور بها هذا يدل على أنها من مقاصده في تشريعه هذه المقاصد، وحينما يبين المفاسد المترتبة على المنهيات؛ فمعنى هذا أنه يعلل منع هذه المفاسد.
فحينما يأمر بالصلاة يعلل ذلك بقوله: ? إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ? [العنكبوت:45]؛ فأمر بإقامة الصلاة، ثم بين لماذا. و"إنَّ" –هنا- من أساليب التعليل، و-أيضا-"لَعَلَّ".
? إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ? [العنكبوت:45]، فهو يبين فوائد الصلاة، والمصالح المترتبة عليها، والمقاصد المطلوبة من الصلاة، ويذكر فوائدها. وحينما يذكر الخمر والميسر؛ يقول: ? إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ?[المائدة: 91]؛ فيذكر أن من الآثار الوخيمة لشرب الخمر، وتعاطي الميسر، والعمل به، ما يقع بينهم من عداوات، وبغضاء، وهذا جانب من المفاسد التي قصدها الشارع بتحريم الخمر والميسر إلى درئها ودفعها.
وقد مَرَّ –معنا- قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر؛ لنقضت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم)؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- بين أنه ترك شيئا من الأفعال؛ لما يترتب عليه من المفاسد.
ومن تعليلاته -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن الوصية بأكثر من الثلث؛ لحديث سعد بن أبي وقاص، وعلل ذلك بقوله: -صلى الله عليه وسلم-: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)؛ فهذا تعليل.(1/26)
في صلاة التراويح كان النبي -صلى الله عليه وسلم- (قد صلى بأصحابه القيام في رمضان ليلتين أو ثلاثا، فتكاثروا عليه في الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج لهم، وبقي يصلي في حجرته في بيته. فلما كان الصباح؛ قال لهم: إنه لم يَخْفَ عليَّ مقامُكم البارحة، وإنما خشيت أن تفرض عليكم ولا تستطيعوه)؛ فكان في وقت التشريع وخشي إن واظب عليها؛ أن تُفْرَضَ عليهم، ثم يشق ذلك عليهم.
أيضا معاذ بن جبل كان يصلي بجماعة من الصحابة في طرف المدينة، وكان يطيل الصلاة بهم، وحدث أن بعضهم شكاه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إن بعضهم قال: إني هممت بأمرٍ سوءٍ؛ أي: هممت بأن أنفصل عنه. فاستدعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذا، وقال: (أَفَتَّانٌ أنت يا معاذ؟! من أَمَّ بالناس؛ فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف, والمريض, وذا الحاجة.)؛ فأمر بالتخفيف لأجل هذه العلة.
وحينما سُئِلَ -صلى الله عليه وسلم- عن سؤر الهرة؛ أهو طاهر أم نجس؟
قال: (إنها ليست بنَجَسٍ، إنها من الطوافين عليكم، والطوافات)؛ فعلل ذلك بكثرة دخولها على الناس وكثرة ملامستها لهم؛ فلهذا جعلها الله -جل وعلا- طاهرة وجعل سؤرها طاهرا.
ننتقل إلى شيء من عمل الصحابة -رضوان الله عليهم- وفهمهم للمقاصد، وكيف أنهم يعرفون أن التشريع كان لمقاصد، وكيف أنهم استفادوا من هذه المقاصد، ونأخذ من هذا أيضا بعض ما نقل عنهم.
أبو بكر -رضي الله عنه- كان يسوي بين الناس في العطاء؛ فإذا وجد في بيت المال شيئا، وأراد أن يقسمه بين المسلمين؛ سَوّى بينهم بين المتقدمين إسلاما وبين المتأخيرين. وقال: إنما الدنيا متاع، وإن أجورهم عند الله -جل وعلا-. وقال: أنا لا أكافئهم على إسلامهم بهذا المال، وإنما مكافئتهم وأجرهم عند الله -جل وعلا-، وهذا المال قوت لهم وأنا أوزعه.(1/27)
لكن عمر كان يرى خلاف ذلك وكلاهما كان له تعليلٌ وكان له مقصدٌ شرعيّ. عمر –رضي الله عنه- كان يقول: لا أسوي بين من قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن قاتل معه، بل يُنْقَل عنه -رضي الله عنه- أنه مرة نقص عطاء عبد الله ابن عمر = ابنه، فلما كُلِّمَ في ذلك، وقيل له: ابنك عبد الله من المهاجرين؛ فقال عمر: إنما هاجر به أبوه. فهذا ليس مثل الذي هاجر بنفسه؛ فهذا نوع من التعليل، وبيان شيء من المقاصد.
عمر -رضي الله عنه- له مواقف كثيرة فيها بيان للمقاصد، ومراعاة لها، من ذلك موقفه من سهم المؤلفة قلوبُهم؛ كان جماعة من زعماء العرب وكبارهم يتألفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويعطيهم بعض الأعطيات كلما وفدوا عليه. فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاؤوا إلى أبي بكر؛ فأعطاهم مثلما كان يعطيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من إبل الصدقة. فلما جاؤوا إلى عمر؛ امتنع من إعطائهم ونوقش في هذا؛ فقال: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- إنما أعطاهم حينما كان الإسلام بحاجة إليهم، أما الآن؛ فقد عَمَّ الإسلام كل الجزيرة ولا يخشى عليهم الردة. فنحن نعطي من نرجو نفعه للإسلام والمسلمين أو ندفع ضره عن الإسلام والمسلمين من سهم المؤلفة.
أيضا إيقاف حد السرقة عامَ المجاعة؛ عمر -رضي الله عنه- لم يقم حد السرقة على من سرق من المحتاجين، أو ممن لا مال لهم في عام المجاعة؛ لعلمه بأن هذا حاجة وضرورة؛ فلم يقطع من سرق ليأكل؛ فهذا نوع من التعليل.
أيضا جمع عمرُ الناسَ في صلاة التراويح على إمام واحد. دخل المسجد مرة والناس يصلون؛ يصلي كل رجل وحده؛ فجمعهم –كلهم- على إمام واحد وهذا الأمر علله بحب الجماعة؛ فالاجتماع على العبادة مقصد من مقاصد الشارع.(1/28)
فالقصد أن الشريعة ذات مقاصد كبيرة، والنصوص متواترة الحقيقة على ذلك، وهناك من يقول: ينبغي أن نكتفي بالاستقراء؛ فلو استقرأنا نصوص الشريعة؛ لوجدناها –كلها- تتضمن مصالح ومقاصد يجمعها هذا الأمر "جلب المصالح ودرء المفاسد".
أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول:
ما المراد بالأحكام التعبدية؟ وهل يتنافى وجودها مع إثبات المقاصد؟
السؤال الثاني:
اذكر اثنين من الطرق الدالة على ثبوت المقاصد.
ننتهي من هذا إلى أن الأدلة الدالة على أن الشارع شرع هذه المقاصد هي أدلة كثيرة، ومتواترة، ومتضافرة وإن شئنا؛ استدللنا بنصوص معينة فيها تعليل. وإن شئنا؛ استدللنا بنصوص تصرح بأن هذا مراد الله -جل وعلا- إلى غير ذلك.
يقول: في قضية رفع الحد كعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما رفع في حد الخمر.
هذا يعتبر من الأمثلة الدالة على أنه عرف لماذا شُرع هذا الحدّ وكيف أنه رأى أن الأربعين لم تكن تردعهم، وعلّل هذا على أن الأربعين لم تكن تردعهم والعلماء لهم كلام في مسألة حد الخمر؛ هل هو حد أم تعزير؟ والأربعين التي جلدها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر أيضا بعده هل هي حد أم أنها تعزير؟ ويمكن الزيادة عليها؟ ولعل الذين يريدون الاستزادة من هذا يرجع إلى كتاب تعليل الأحكام للدكتور محمد مصطفى شلبي وكله عن قضايا التعليل وتأصيلها وأمثلة عليها.
الدرس الرابع
طرق معرفة المقاصد
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: أجابه الأخ بشكل مطول، ولن نذكر إجابته حتى لا نأخذ وقتا كبيرا.
السؤال الثاني: اذكر اثنين من طرق الإثبات المقاصد.
الجواب:(1/29)
الطريق الأول: كتاب الله، وأدلته كثيرة منها كل ما جاء بعد الإرادة ولعل وكي والباء السببية ? يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ?، وقوله ?فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا ?160? وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ?.
الطريق الثاني: ما صحّ من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (كلوا وادخروا إنما نهيتم عنه من أجل الدافة)، وكنهيه في الوصية عن أكثر من الثلث.
الأخت قالت: جوابها على السؤال الأول: ما المراد بالأحكام التعبدية؟ وهل يتنافى وجودها مع إثبات المقاصد؟
قالت:
الأحكام التعبدية هي: التي لا يعرف لها علة، أو حكمة من مشروعيتها، أو صفتها؛ مثل: الطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة. ولا يتنافى وجودها مع إثبات المقاصد وعلى أن الله -سبحانه وتعالى- شرعها بدون حكمة بل لها مقاصد ولها حكمة.
إجابة صحيحة.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بالأمس كان حديثنا عن التعليل، وكيف أنه طريق من طرق إثبات المقاصد، واليوم لعلنا نعيد تلخيص الطرق التي يمكن بواسطتها معرفة مقاصد الشارع، ونضيف إليها؛ لأن التعليل هو واحد من هذه الطرق.
كان الموضوع بالأمس يدور حول إثبات أن للشارع مقاصد من تشريعه الأحكامَ. أما اليوم نريد أن نعرف الطرق على سبيل التفصيل التي يَتّبِعُها العالم لكي يعرف مقاصد الشارع.(1/30)
أول هذه الطرق هو النص الصريح على أن هذا مراد الله -جل وعلا-، أو أنه محبوب إلى الله -جل وعلا-؛ فمثل هذا النص يدل على أنه مقصود لله؛ لأن معنى الإرادة القصد. لكن ينبغي أن نعلم أن هناك فرقا بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية القدرية؛ فالذي يدل على مقصود الشارع هو الإرادة الشرعية، أما الإرادة الكونية القدرية؛ فلا تدل على أن هذا الأمر مقصود للشارع أو محبوب له كما هو مبين في علم التوحيد والعقيدة.
ذكرنا طرفا من النصوص بالأمس –كأمثلة-؛ كقوله تعالى: ? يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ?، ? يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ?.ومن الآثار النبوية ما أتى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يخبر عن ربه -جل وعلا-: (إن الله يحب من عبده إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أبغض الناس إلى الله الألد الخَصِم)، وقوله-صلى الله عليه وسلم-: (ألا أخبركم بأحبكم إليَّ، وأقربكم مني منازلَ يومَ القيامة؟! أحاسنكم أخلاقا)؛ فمثل هذه النصوص فيها دلالة صريحة على مراد الله -جل وعلا-.
كذلك قد يعرف أن هذا من مقاصد الشارع بورود الأمر الصريح به، أو ورود النهي عنه؛ فورود الأمر يدل على أنه مقصود للشارع تحصيله وتحقيقه، وورود النهي يدل على أنه مقصود للشارع منعه وعدم حصوله؛ فكل ما أمر الله به أمرا صريحا يمكن أن يُعد مقصودا للشارع وكل ما نهى عنه نهيا صريحا يمكن أن يعد أن دفعه ودرءه مقصود الشارع أيضا.(1/31)
وأحيانا يأتي الأمر بصيغة الخبر؛ كقوله –تعالى-: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ?؛ فمثل هذا تصريح بأن الله يأمر بأشياء وينهى عن أشياء، وهذا يدل على أن هذه الأمور التي يأمر بها أنها مقصودة له –سبحانه-.
فنستطيع أن نقول: إن من مقاصد الشارع العدل، وإحقاق الحق، والإحسان إلى الناس كافة، والإحسان إلى ذوي القربى، وإتيان حقوقهم. وإن من مقاصد الشارع منع الفحشاء والبعد عنها، ومن مقاصد الشارع بغض الظلم والمنع منه؛ لقوله –تعالى-: ? إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ?.
وأحيانا أخرى يأتي بمدح الفعل، أو بذمه؛ فإذا مدح الفعل؛ دلّ ذلك على أنه محبوب لله -جل وعلا- وإذا ذمه؛ دل ذلك على أن تركه مقصود من الشارع.(1/32)
لما جاء الشاطبي في آخر كتاب "الموافقات"؛ أشار إلى طرق معرفة المقاصد باختصار في صفحتين؛ لأنه يختار أن الطريق السليم في معرفة المقاصد هو الاستقراء؛ لكنه ما استطاع أن يضرب صفحا عن مثل هذه الطرق؛ فنص على الأمر والنهي؛ فقال: الأمر والنهي الصريح الابتدائي، ويقصد به الأمر الذي يكون المقصود منه صريحا واضحا فيه الأمر، وليس الأمر الذي يُفهم بالقرائن؛ فكأنه يقول: إن الأمر قد يفهم بقرائن بعيدة، وقد يفهم صراحة؛ فالأمر الذي يُفهم عن طريق النهي عن ضده قد يقال فيه: إن هذا لا يكون مقصودا بالمرتبة الأولى لكنه مقصود بالتبعية. ونحن حينما نتكلم عن المقاصد نتكلم عن مقصود الشارع سواء أكان مقصودا أصليا، أو مقصودا تابعا، وهذا قد يأتي الكلام عليه -إن شاء الله- حين الكلام عن تقسيمات المقاصد وذكر تفاصيل فيها. والشاطبي عول على الاستقراء كثيرًا. بل يقول إن المقاصد ينبغي أن لا تؤخذ إلا بهذا الطريق إذا أردنا أن نجزم بكونها مقاصد للشارع.
ماذا يعني بالاستقراء؟
الاستقراء يذكره الأصوليون في أواخر كتبهم، ولا يطيلون الكلام فيه، وإنما يقسمونه إلى: استقراء تام، واستقراء ناقص.
ويقصد بالاستقراء: تتبع الجزئيات للوصول إلى قاعدة كلية.
إذن كيف يستعمل الاستقراء لمعرفة مقصود الشارع؟
قالوا: الاستقراء نتبعه بأن ننظر في نصوص الشارع، ومواردها في أبواب الشرع المختلفة كلها، فإذا وجدناها تسير في اتجاه معين لتؤكد مقصدا من المقاصد؛ جزمنا من أن هذا هو مقصود الشارع.
والشاطبي يفرض أمورا؛ فيقول –فرضا-: لو أنه لم يرد نص صريح في أن من مقاصد الشارع رفع الحرج؛ فإننا نستطيع أن نستقرئ نصوص الشرع، ونجد فيها رفع الحرج واضحا؛ فنجد هذا في مشروعية التيمم، ونجده في مشروعية الجمع والقصر للصلاة في السفر، ونجده في صفة صلاة المريض، ونجده في حطّ الصلاة عن الحائض والنفساء، ونجده في فروع شرعية كثيرة، ولو لم نجده منصوصا في آية مستقلة.(1/33)
ويقول: هذا الاستقراء يزيد النص حتى يصبح قطعيا؛ لأنه لو لم يرد إلا نص واحد في رفع الحرج؛ لأمكن للبعض أن يتأوله، أو يقول: لعله قُصِدَ به كذا أو كذا ولا يقصد به العموم، لكن لما وجدنا أن أبواب الشرع -كلها- ليس فيها حرج على الناس؛ عرفنا أن هذا مقصد عظيم من مقاصد الشارع ينبغي أن نفهم نصوصه في ضوئه.
و-كما قلنا- الاستقراء نوعان: استقراء تام، واستقراء ناقص.
فهو يقول: نحن نُعوّل على الاستقراء التام أو القريب من التمام. أما الاستقراء الناقص الذي لم يستوعب أكثر أدلة الشريعة؛ فهذا لا يمكن أن يكون طريقا سليما لمعرفة المقاصد.
فالطريق السليم لمعرفة المقاصد هو إما بالنظر في جميع النصوص بحيث نجدها متوافقة على تقرير هذا المقصد، أو على الأقل نستقرئ أكثرها، ولا نجد ما يعارض هذا المقصد، أو يُعكّر عليه. ثم يذكر في بعض مواضع من كتابه أنه لو وُجدتْ بعض الأدلة الظنية التي تعارض هذا الكمّ الهائل من الأدلة التي أصبحت قطعية؛ فإننا نتأول هذا الذي جاء على خلاف أكثر الأدلة؛ حتى تصبح الشريعة –كلها- في نسق واحد وتتواءم نصوصها، ويضرب لذلك أمثلة. ولعلنا -إن شاء الله- في المستقبل حينما نقرأ بعض نصوصه نقترب منها أكثر.
رَكّز الشاطبي على الاستقراء التامّ كثيرًا، وكذلك فعل محمد الطاهر بن عاشور؛ فقال: إن هذا النوع من الاستقراء هو الذي ينبغي أن يُعَوِّلَ عليه الفقهاء في معرفة المقاصد.(1/34)
الطريق الرابع: هو النظر في علل الأحكام الشرعية التي سواء كانت منصوصا عليها في القرآن، أو في السنة، أو ما جاء فيهما من تعليلات، فهذه لا شك أنها تعليلات صريحة وواضحة؛ فيؤخذ منها المقصد الشرعي. لكن لا يُقتصر على هذا؛ بل يمكن أن يُؤخذ المقصدُ الشرعيُّ من طرق أخرى؛ كأن يُفهم من معنى النص، أو من أسباب وروده، أو من سياقه، أو من الظرف الزماني والمكاني الذي قيل فيه؛ فيعرف منه مقصود الشارع. وسنعلم أن المقاصد قد تكون قطعية وقد تكون ظنية بعد قليل -إن شاء الله-.
ومن الطرق المهمة لمعرفة المقاصد: معرفة أسباب النزول، وتعتبر من الطرق المهمة لمعرفة المقاصد؛ لأننا إذا عرفنا سبب نزول الآية؛ فهمناها على مراد الله -جل وعلا-. ويدل على هذا بعض القصص التي سقناها في حلقات مضت أن هناك من لم يفهم بعض آيات القرآن، وأجراها على مقتضى العموم اللفظي، ولم يعلم الظروف التي قيلت فيها، فحملها على غير محملها.
ذكرنا لكم قصة النفر من أهل الشام الذين شربوا الخمر وظنوا أنه لا بأس عليهم لأنهم مؤمنون ?لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? ]المائدة: 93].
وأيضا قصة قدامة بن مظعون أنه شرب ما يسكر وقد يكون غير مُتعمِّد، لكنه سَكِرَ منه، ثم شهد عليه اثنان عند عمر، وأراد أن يجلده، فقال: ليس لك حق أن تجلدني؛ لأنني من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والله يقول: ? لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ?.(1/35)
فلما عرفوا سبب النزول؛ عرفوا أن الآية ما نزلت في إباحة الخمر، وأن مقصد تحريم الخمر لا يتواءم مع إباحتها للمؤمنين؛ لأنها حُرِّمَتْ لما فيها من المفاسد، والمضار. فكيف تباح للمؤمنين الذين هم أولى وأحرى بتحصيل هذه المقاصد العظيمة وتحقيقها؟!. فهذه من غفلتهم عن سبب النزول، وبَيَّنَ لهم عليٌّ وابن عباس وعمر -رضي الله عن الجميع- أن هذا الأمر وأن هذه الآية -كما يقول ابن عباس- نزلت عذرا للماضين وحجة على الباقين؛ عذرا للماضين الذين شربوها قبل أن يبلغهم تحريم الخمر؛ لأن هناك من جاءه الخبر بتحريم الخمر ومازال الخمر في بطنه.
ومن الأمور التي تبين هذا ما رُوي أن مَرْوان بعث بوابه إلى ابن عباس وقال له: قُلْ له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يُحمد بما لم يفعل مُعَذَّبا؛ لَنُعَذََّّبَنَّ أجمعين. فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية؟! إنما دَعَا النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود فسألهم عن شيء؛ فكتموه، وأخبروه بغيره، فأروْه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه، وفرحوا بما أوتوا، ثم قرأ ابن عباس ما قبل هذه الآية؛ ليبين أن الآية وسياقها ليس في المؤمنين، وهي قوله تعالى: ?وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ?187? لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا...? ]آل عمران: 187 - 188].
فبيان أسباب النزول يعين على معرفة المجتهد لمقاصد الشارع. وأيضا مما يمكن أن يستعين به المجتهد على بيان مقاصد الشارع السكوت؛ سكوت الشارع عن الشيء، أو عن الفعل مع قيام الداعي.
فإذا كان الداعي للمنع، أو للإيجاب، أو للندب موجودا ولم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن ذلك دليل على أن الشارع قصد بقاء هذا الشيء على أصله.(1/36)
فعندما يقع عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- حادث فلا يأمر به، ولا ينهى عنه؛ فهذا دليل على بقائه على أصله، وإن كان عبادة؛ فالأصل عدم المشروعية؛ فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ترك بعض العبادات، ثم جاء في هذا العصر من يُرَغِّب فيها ويقول: هذه العبادة نخترعها لتُقَرِّبنا إلى لله.
هل يمكن أن نقول: إن هذه العبادة مقصودة للشارع؟
لو كانت مقصودة؛ لبينها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما تركها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتركها مَنْ بعده من الصحابة؛ دلّ ذلك على أنها غير مقصودة، بل مقصود الشارع فيها أن تبقى على أصلها والأصل في العبادات المنع أو التوقيف -كما يقولون-؛ أي أنه لابد أن تكون العبادة مشروعة من حيث أصلها. أما إن كانت عادة من العادات، وكانت موجودة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينه عنها؛ فهذا دليل –أيضا- على بقائها على الأصل والأصل هو الإباحة.
وهذا يشير إلى الفرق بين العمل بالمقاصد أو مراعاة مصالح الخلق، وبين الابتداع؛ فلا يأتي من يقول أنا أريد أن أخترع عبادة مع أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يفعلها؛ فعدم فعل الرسول لها -عليه الصلاة والسلام-، وعدم أمره بها، وعدم إرشاده إليها دليل على عدم المشروعية. هذا فيما يتعلق بطرق معرفة المقاصد ولم نطل فيها؛ لأن ما تقدم من كلامنا في التعليل غطى جانبا من الموضوع.
يقول: هل في قضية زكاة الفطر يمكن القول فيها بأن الأولى إخراجها نقدا؛ لأن المقصد متحقق؟
قضية زكاة الفطر وهل تخرج نقدا، أم تُخرج طعاما. الأمر فيها يسير في ظني فالبلاد التي ينتشر فيها تبادل الطعام، والفقراء يأخذون الطعام؛ فينبغي أن يبقوا على ما هم عليه؛ لأن هذا موافق للفظ الرسول، ولمعنى أمره يعني موافق للأمر وفي المعنى.(1/37)
أما في البلاد التي قد لا يستفيدون من هذه الحبوب التي توزع عليهم، وقد تكثر عليهم، ولا يجدون لها مكانا إما لضيق المكان يعني في بعض البلاد ربما تعيش العائلة من أربعة أو خمسة أشخاص في بيت مساحته ثلاثة في ثلاثة يمكن أن يأوي عائلة في بعض البلاد الفقيرة فقد يضيق عليهم هذا ولا يستفيدون منه، وإذا باعوه يبيعونه بثمن بخس؛ فمثل هذا نعم ننظر إلى المقصد، ونقول لا إشكال في أن يخرج النقد بدلا من الحبوب التي جرى العمل على إخراجها في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فالأمر فيه سعة، وقد قال بهذا جماعة من الفقهاء من العصر الأول من القرن الثاني الهجري، وهم يفتون بهذا فلا إشكال في هذا -إن شاء الله-.
تقول: هل إنكار الأشعرية للتعليل استطرادهم أم هو جزئية من الدرس السابق؟(1/38)
نأخذه مما ما يسمى في العلوم المصادرة. المصادرة في العلم أحيانا بعض العلوم تحتاج إلى جزئيات من علوم أخرى لا يتسع الوقت إلى البرهنة عليها، وتفصيل الكلام فيها في هذا العلم، وإنما يُحال الكلام فيها إلى علم آخر. والبحث في مقاصد الشريعة وفي ترتيب الأحكام عليها له صلة وثيقة بالتعليل. فتعليل الأحكام بحثه الأشعرية في موضعين؛ بحثوه في موضع علم الكلام وهناك تكلموا عن أفعال الله ولا يتكلمون عن الأحكام في الغالب يقولون إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا نعلل لم فعل كذا؟ ولكنهم لما جاؤوا في الفقه وفي أصول الفقه نجد أنهم ما صنعوا هذا، وما استطاعوا أن ينكروا التعليل، بل اضطروا لأن يعللوا لأنهم رأوا أئمتهم يعللون ورأوا الصحابة يعللون ورأوا نصوص القرآن في التعليل صريحة واضحة ونصوص الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تعليل الأحكام واضحة. ولا يمكنهم أن ينكروا هذا. ولهذا قال الرازي: إن هذا تناقض من أصحابنا. إن أصحابنا في أصول الفقه تناقضوا مع ما قرروه في علم أصول الدين. أما السبكي تقي الدين والد تاج الدين فحاول أن يعتذر عنهم باعتبار ويحاول أن يتأول قولهم في التعليل وقال هم يعللون في الفقه لكن العلة عندنا في الفقه المقصود بها العلامة فهي مجرد علامة على الحكم، وليست ذات تأثير أبدًا. طبعا هذا الكلام ما يقره نص الغزالي على ما يناقضه، ونص الآمدي على ما يناقضه. وكثير منهم. ونص الشافعي أيضا في الرسالة على أنه عندما يستدل بنص من كتاب الله، أو سنة رسوله، أو إجماع الأمة يرجع إلى ما هو معنى نص عليه القرآن والسنة. فالمعنى عند المتقدمين هو نفس العلة إذا قال والمعنى هم يريدون العلة لكن العلة التي لها مناسبة التي هي تسمى بالحكمة لكنهم يضبطون بضوابط حتى لا ينفلت الأمر من أيديهم.
تقول: ما معنى الموطئون أكنافا الذين يألوفون ويؤلفون يعني بالنسبة للحديث ونرجو من فضلية الشيخ توضيح هذه المعاني التي تخفى على العامة؟(1/39)
يعني الحقيقة ما علقت عليه على اعتبار على أنه واضح أو مفسر، الموطئون أكنافا قال الذين يألفون ويؤلفون: فكون الإنسان هينا لينا مع أهله، ومع إخوانه. هذا هو المقصود أن يكون الإنسان لينا وهينا لا متكبرا ولا متجبرا ولا متعاليا لا في بيته مع أهله وأولاده، ولا مع من حوله ممن يخالقهم. فالرسول -عليه الصلاة والسلام- كانت هذه من صفاته ربما يأتيه الطفل الصغير ويأخذ بيديه ويتكلم معه وربما تأتيه المرأة وتسر إليه بشيء لا تريد أن يسمعه الآخرون. ويستوقفه الفقير والضعيف ولا يتكبر عليه، ولا يتجبر فهذا معنى قوله الموطئون أكنافا الذي هو هين لين لا يهاب، ولا يُخاف من الناس، وليس بجبار ولا متكبر.
سؤال:
من الذي يتولى تحديد مقاصد الشارع؟
أو
من الذي يمكن أن يقول هذا مقصود الشارع و هذا ليس مقصود الشارع؟
نقول: إن مقاصد الشارع منها ما صرحت به نصوص قطعية صريحة كالتي ذكرناه؛ فهذا يشترك فيه عوام المسلمين وعلماؤهم؛ فكلّ يستطيع أن يقول -بجزم ويقين- إن من مقاصد الشارع العدل، وإن من مقاصد الشارع رفع الحرج عن الأمة، والتيسير عليها، وإن من مقاصد الشارع دفع الظلم. أما ما عدا ذلك من المقاصد التي تحتاج إلى استقراء لموارد الشرع؛ فإن هذا لا يستطيع أن يدركه عوام الناس؛ لأن إدراك عوام الناس -حتى للقسم الأول- إنما هو إدراك جُمْليّ فيدركون عامة المقصد، لكن لا يدركون تفاصيله، وضوابطه، ولا يستطيعون إجراءه، والعمل به. وهذا أمر مهم وينبغي التنبه له، وسنزيده إيضاحا -إن شاء الله- في الكلام على الاستدلال بالمقاصد.(1/40)
القسم الثاني الذي يحتاج إلى كثير من النظر، واجتهاد؛ فهذا لا يمكن أن يقوم به إلا العلماء المجتهدون الذين توافرت فيهم شروط الاجتهاد، والذين أحاطوا بمعظم نصوص الشريعة، وعرفوا ما فيها من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، وعرفوا الناسخ والمنسوخ، وعرفوا أسباب نزول الآيات، وأسباب ورود الأحاديث، وعرفوا سياق الآية، وموقعها من السورة، وعرفوا –أيضا- وجه الجمع بينها، وعرفوا ما يمكن أن يُذْكر في معارضتها -في الظاهر- وإلا فليس هناك -والحمد لله- معارضة حقيقية، ثم لابد أن يضموا إلى ذلك وَرَعًا، وتُقًى، وعملا صالحا، وسيرة حسنة، واعتدالا في المنهج، وسلامة في المعتقد. هؤلاء هم الذين يمكن أن يتكلموا، ويقولوا هذا من مقاصد الشارع، وهذا ليس من مقاصد الشارع.
وعندي نص لابن عاشور أحب أنقله، يقول فيه -رحمه الله-: على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمّل، ويجيد التثبّت في إثبات مقصد شرعيّ وإياه والتساهلَ والتسرّعَ في ذلك؛ لأن تعيين مقصد شرعيّ -كليٍّ أو جزئيٍّ- أمرٌ تتفرّع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط؛ ففي الخطإ فيه خطر عظيم.
فهو يشير في هذا إلى أهمية أن يكون الناظر في مقاصد الشريعة أهلا للنظر فيها، والأهلية يُشترط فيها ما يُشترط في الاجتهاد، ولا نريد أن نعيد فيما يُقال في الاجتهاد لكن أشرنا إلى أهم ذلك وهو الإحاطة بمعظم نصوص الشريعة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة مواقع الإجماع، ومواقع الخلاف، ومعرفة أسباب النزول، ومعرفة مواقف الصحابة والتابعين، والاستعانة بفهومهم واجتهاداتهم في فهم ما يشكل عليه، ورد المتشابه للمحكم؛ فكل هذه أمور لا يُتقنها إلا العلماء.
إذا عرفنا من الذي يمكن أن يأتي بالمقاصد؛ نقول: هل كل مقاصد الشريعة قطعيّة؟ أم منها ما هو قطعيّ ومنها ما هو ظنيّ؟(1/41)
الإمام الشاطبي -في "الموافقات"- يميل إلى أن مقاصد الشريعة قطعيّة؛ ولهذا يقول: إن من حصل له هذا الاستقراء التام أو القريب من التمام، وعرف مقاصد الشارع؛ فهذه المعرفة هي معرفة قطعيّة بأن هذا مقصود للشارع.
لكن عند كثير من المحققين يتبين أن مقاصد الشارع التي تكلم العلماء فيها وبنَوا عليها أحكامهم ليست كلها قطعية؛ بل منها ما هو قطعيّ، ومنها ما هو ظنيّ، فما كان الاستقراء فيه تامًّا أو قريبا من التمام أو كان ثابتا بنصوص صريحة قطعية؛ فهذا يمكن أن نقطع به. أما ما نزل رتبة عن ذلك؛ فإنه قد يكون ظنيّا قريبا من القطعيّ، وقد يكون ظنيّا في منزلة أنزلَ من هذه. لكن ينبغي أن نعلم أن الظن في علوم الشريعة مُعْتَدٌّ به، والعلماء مجمعون على العمل بالظن الغالب. فإذا رأيت في نصوص الشرع ذمَّ الظن؛ فالمقصود به مُجرّد الحَدْس، أو التوهم، أو الشك. أما الظن الغالب؛ فالشريعة قامت على اعتباره، والعمل به، بل إن القرآن يسمي الظنّ الغالب علمًا؛ كقوله –تعالى-: ? فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ? ]الممتحنة: 10]؛ أي: إن علمتم أن هذا المرأة التي جاءت مسلمة مؤمنة، قال العلماء: المقصود أنه غلب على ظنّنا أنها مسلمة، وإلا ما الذي يدرينا أنها مؤمنة؟! لأن معرفة الإيمان حقَّ المعرفة والتيقن به إلى درجة القطع أمرٌ مُغَيَّب عنَّا، ونحن نحكم على الظاهر؛ فالحكم على الظاهر إنما يكون بما يَغْلب على الظن.
فالقصد أن تقسيم المقاصد إلى قطعية وظنية ليس معناه أن المقاصد الظنية لا يُعمل بها، أو لا اعتبار بها. لكنْ له فائدة من جهة أنه قد يتعارض عند الناظر -في ظاهر الأمر- مقصدان؛ فيتبين له أن الأضعف منهما غير مقصود للشارع في موضع التعارض.(1/42)
وقد نص ابن عاشور على أن مقاصد الشارع منها ما هو ظنيّ، ومنها ما هو قطعيّ، ولكن الظني ليس معناه أنه مجرد رجم بالغيب، أو أنه شك أو وهم، وإنما هو ظن غالب؛ فما حصل به ظن غالب هو الذي يعمل به.
له –أيضا- نصٌّ يَحْسُن أن يسمعه الإخوان، يقول -بعد كلامه السابق-: ثم هو –أي: المجتهد- بعد الاطلاع بهذا العمل العظيم؛ -أي: بعد قيامه بهذا العمل العظيم الذي هو استنباط مقاصد الشريعة- لا يجد الحاصل في نفسه سواءً في اليقين؛ -أي: ليس على درجة واحدة- بتعيين مقصد الشريعة؛ لأن قوة الجزم بكون الشيء مقصدا شرعيا تتفاوت بمقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها... وعلى هذا؛ فالحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علما قطعيا، أو قريبا من القطعي، وقد يكون ظنا.
ثم بعد هذا يشير إلى أن ما كان في مرتبة الظن إنما يُعمل به، ولكن لا يُقصد به ما تساوى فيه الطرفان، أو كان ظنًّا ضعيفا؛ فالظن الضعيف غير معتبر.
الذين كتبوا في المقاصد نجد أنهم يتحاشون وضع فصل مستقل بعنوان "الاستدلال بالمقاصد"، أو "حجية المقاصد"، وإنما يأتي كلامهم عنها في أثناء التفصيلات، أو في أثناء التقسيمات، وكأنهم يرون أن الاستدلال بها أمرٌ مُسَلَّم وأنه لا جدال فيه. غير أنهم حينما يأتون إلى الكلام عن علاقة المقاصد بالمصالح المرسلة؛ يكادون أن يقولوا إن المقاصد هي نفسها المصالح المرسلة؛ فالعمل بها مثل العمل بالمصالح المرسلة.
ونحن إذا راجعنا ما كتبه الأصوليون، وما كتبه العلماء في المصالح المرسلة؛ وجدنا خلافا كبيرا في حجيّة المصالح المرسلة؛ فنجد أن جمهور الشافعية يرى أن المصالح المرسلة ليست حجة، وكذلك الحنفية، وبعض الحنابلة؛ فما بقي مِنَ العلماء مَنْ يقول بالمصالح المرسلة إلا المالكية، وبعض الحنابلة.
فكيف نوفق بين هذين الرأيين؟!
هل الخلاف الذي يذكره الأصوليون في المصالح المرسلة يجري في المقاصد أم لا يجري؟(1/43)
أقول: إن الذي يظهر من صنيع الشاطبي –مثلاً- أنه لا يرى أن ما جرى من خلاف في المصالح المرسلة جارٍ في المقاصد؛ بل يرى أن العمل بالمقاصد مُتّفق عليه من حيث المعنى، وإن نازع فيه بعضهم من حيث اللفظ، وأن ما ذكر من خلاف في المصالح لا ينبغي أن يأتي هنا.
وقد نقف لنبين للإخوة ما المقصود بالمصالح المرسلة، وهل كل من خالف في المصالح المرسلة خالف في المقاصد أم لا؟ وهل الخلاف في المصالح ينسحب إلى الخلاف في المقاصد أم أن المقاصد لها ميزة عن المصالح المرسلة؟ لأننا نقول بعض المصطلحات على أساس أنها معروفة؛ فلعلنا نستطيع أن نجعلها الحلقة القادمة –إن شاء الله-.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
اذكر ثلاثا من الطرق الصحيحة لمعرفة المقاصد.
السؤال الثاني:
متى نستطيع الجزم بأن هذا الأمر مقصود للشارع؟
الدرس الخامس
الاستدلال بالمقاصد الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: تقول: أحسن الله إليكم يا شيخ بالنسبة لجواب السؤال الأول:
اذكر ثلاثا من الطرق الصحيحة لمعرفة المقاصد.
فأجابت:
الطريقة الأولى: وهي عن طريق النص الصريح لما جاء فيه بيان الإرادة لله تعالى: ? إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ? [المائدة: 91]، ? يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ?.(1/44)
الطريقة الثانية: معرفة أسباب النزول بفهم الآية وما أراد الله بها وذكرت الآية: ? إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ?[البقرة: 158]، سبب نزول الآية وذكرت السبب لا نريد أن نستطرد يا شيخ حتى يكون هناك وقت، الطريقة الثالثة ما ورد فيه الأمر والنهي قال تعالى: ? إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ?[النساء: 58].
تقول: تجيب على السؤال الثاني أن هذا الأمر مقصود للشارع فقالت: نستطيع الجزم بأن هذا الأمر مقصود للشارع بالنظر في نصوص الشارع وأبوابه المختلفة كلها. فإذا كانت الأدلة كلها تسير في اتجاه معين؛ جزمنا أن هذا هو مقصود الشارع. والله أعلم
هي لم تصرح بالاستقراء ولكن هي صرحت بمعناه فإذا استقرأنا نصوص الشرع كلها؛ وجدناها تسير في تأييد هذا المقصد الشرعي.
في الحلقة الماضية كنا قد بدأنا في الكلام عن الاستدلال بالمقاصد، أو الاحتجاج بها، واستعمالها في استنباط الأحكام، وقلنا إن المتقدمين؛ كالشاطبي –مثلاً- لم يذكر خلافا في العمل بالمقاصد، فالشاطبي يذكر المقاصد على أنها مجزوم بها؛ أي لا ينبغي أن يقع فيها خلاف من حيث العمل بها، ومراعاتها. والذين بحثوا في المقاصد من المتأخرين –أيضا- ساروا في نفس الاتجاه، إلا أنهم حاولوا أن يربطوا بين المقاصد، والمصالح المرسلة؛ فنجدهم إذا أرادوا أن يتكلموا عن حجية المقاصد -وقليلا ما يشيرون إلى هذا، وإنما يعقدون فصلا أو بابا في الموازنة بين المقاصد والمصالح المرسلة- نجدهم ينتقلون بالكلام إلى ذكر المصالح المرسلة، ويشيرون إلى ما فيها من خلاف في الحجية وفي الغالب ينتهون إلى أن الخلاف الذي نُقل في المقاصد ليس بخلاف حقيقي، وإنما هو خلاف يَؤُول إلى وفاق؛ فهو خلاف نقدي.(1/45)
والأمر قد يشكل كثيرًا على الدارس. إذا قلنا إن المقاصد تساوي المصالح المرسلة، وكل دارس قرأ في أصول الفقه، واطلع على كتب الأئمة؛ يجدهم يختلفون اختلافا كبيرا في حجية المصالح؛ فهناك من ينكر الحجية مطلقا، وهناك من يُقر بها، وهناك من يضيقها في أضيق الحدود، ويقول يمكن أن تكون حجة إذا كانت في مقام الضروريات فقط وأما ما عدا ذلك؛ فلا.
فالقصد أن نَقْلَ الخلاف الذي يوجد في تراثنا الأصولي من المصالح المرسلة إلى المقاصد غير صحيح. ولهذا قد تجنب الشاطبي أن يعبر بالمصالح؛ فلو كان يقصد بالمقاصد نفس المصالح المرسلة؛ لعبر بالمصالح المرسلة واكتفى بها. لكنه لم يعبر بها، وإنما عبر بالمقاصد؛ لأنه يرى أن المقاصد لا ينبغي أن يقع خلاف في الاحتجاج بها، وفي مراعاتها عند استنباط الأحكام؛ إذ كيف يقع خلاف إذا عرفنا أن هذا مقصد الشارع؟! وكيف يخالف أحد في أن مقصد الشارع يجب اتباعه؟! لا يمكن أن يخالف أحد؛ ولهذا نجد الغزالي يذكر نصا جميلا عند كلامه عن المصالح المرسلة، وهل هي دليل أم ليست بدليل، وهو قد ذكرها تحت جملة الأصول الموهومة؛ أي التي يتوهم أنها أصول وهي في الواقع ليست وصولا، لكنه في أثناء كلامه عنها ذكر نصا جميلا، ويمكن أن ننقل جزءا منه.(1/46)
يقول الغزالي: "فإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشارع؛ فلا وجه للخلاف في اتباعها". هذا السر هو الذي جعل الشاطبي يعبر بالمقاصد ولا يعبر بالمصالح؛ لأن هذا التيار الكبير في التراث الإسلامي الذي اعتبر المصالح محل خلاف كبير، ونقلوا فيها أن الحنفية لا يعتبرونها، وأن الشافعية لا يعتبرونها، وإنما اعتبرها المالكية، وبعض الحنابلة. وإذا قلنا إن هذا هو المقصود بالمقاصد هو المصالح؛ لأن معناه أننا سننقل الخلاف من هناك إلى هنا. ولهذا فإن الواجب أن نعكس الأمر، وأن نقول إن المقاصد ليس فيها خلاف؛ فإذا ثبت كون هذا الشيء مقصودا للشارع؛ فلا خلاف في بناء الأحكام عليه. وكذلك ينبغي أن يقال في المصالح إذا تبين أنها مصالح حقيقية مقصودة للشارع؛ فالمصالح إذا كانت مقصودة للشارع، وتبين أنها من مقاصد الشارع؛ فلا ينبغي أن يقع خلاف فيها، وما حُكي من خلاف فيها -بهذا المعنى- ينبغي أن يُفسر ويُبين أن المقصود به ليس هذا النوع من المصالح التي ثبت أنها مقصودة للشارع.
سؤال:
ما المقصود بالأصول الموهومة التي مرت معنا قبل قليل؟
هي التي يعتقد بعض الناس أنها أصول وأدلة مستقلة، وهي في واقع الأمر ليست كذلك، وهذه الأصول التي يذكرها العلماء تحت عنوان الأدلة المختلف فيها؛ أي هل هذه دليل مستقل أم هي راجعة إلى الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس؟
فحينما أنكرها الشافعي وأنكرها كثير من الأئمة أن تكون المصالح المرسلة حجة ينبغي أن نفسر هذا الإنكار بأنه إنكار لكونها حجة مستقلة؛ فهو لا ينكر العمل بالمصالح التي ثبت كونها مقصودة للشارع، وإنما ينكر أن تكون دليلا مستقلا؛ فيقول الأدلة عندي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما ما عداها؛ فهو راجع إليها.(1/47)
فأنا أؤكد أن البحث في المقاصد لا ينبغي أن نسحب الخلاف الموجود في كتب الأصول حول حجة المصالح ونسقطه على المقاصد، بل إذا ثبت كون الشيء مقصدا للشارع؛ فلا ينبغي أن يقع خلاف في الرجوع إليه، والعمل به.
ثم قال الغزالي: "إن المصلحة إذا أريد بها مقاصد الشارع؛ فهي ليست دليلا مستقلا، والعمل بها يكون محل وفاق. ومن ظن أنها –أي المصالح- أصلٌ خامس؛ فقد أخطأ. فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظِ مقصودٍ فُهِم من الكتاب، والسنة، والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشارع؛ فهي باطلة مطروحة، ومن صار إليها؛ فقد شَرَعَ". يشير إلى قول الشافعي في رده الاستحسان "من استحسن فقد شرع".
إذن الإشكال في فهم المقصود بالمصالح المرسلة. إذا قلنا إن المصالح المرسلة هي مصلحة شهد الشرع باعتبارها على وجه العموم لا على وجه الخصوص في هذا المكان ولكنه شهد باعتبارها؛ فهذه تصبح من مقاصد الشارع، وإذا قلنا إن المصلحة هي ما فيه منفعة وتُدرك بالعقول؛ فجلبه أولى، وأن ما يدرك العقل أن فيه مفسدة؛ فدفعه مصلحة؛ فمثل هذا –حينئذ- يكون الإشكال واردا؛ لأن الشرع ما شهد لها بالاعتبار؛ لأن العقول لا يمكن أن تحيط بكل شيء، والإنسان قد يعرف بعض المصالح وبعض المفاسد الدنيوية العاجلة، ولكن لا يدري ما هو الأصلح فيما بعد في دنياه، بل ولا يدري ما هو الأصلح في أخراه؛ فهو يطلع على مصالح يومه أو آنه؛ ففي الوقت الحاضر يعتقد أن هذه مصلحة، وأن هذه مفسدة، لكن الشارع عليم بما كان وبما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ويُشكل على جعل المقاصد هي نفسها المصالح المرسلة وطرد الخلاف الذي هنا ونقله من هنا إلى هناك تعريفُهم للمصالح المصالح المرسلة؛ فيقولون: هي مصلحة لم يشهد الشرع لها بعينها بالاعتبار، أو بخصوصها، لكنه شهد لها بالاعتبار من حيث جنسها معتبرة.(1/48)
ومرسلة؛ أي: مطلقة، أو مهملة؛ فلهذا يقول بعض الباحثين المعاصرين: ليس عندنا مصلحة مرسلة بل عندنا مصلحة مُعتبرة ومصلحة مُلغاة؛ فإما معتبرة شرعا؛ فتُبنى عليها الأحكام، وإما مُلغاة؛ فلا تبنى عليها الأحكام، ولا تعتبر، وحينئذ نستطيع أن نقول المصالح المعتبرة هي التي نقول فيها إنها من مقاصد الشارع.
ولهذا إذا استقرأت كتب الفقهاء؛ تجد أنهم يعللون بالضرورة، ويعللون بالحاجة، ولا يذكرون دليلا سوى الحاجة، ونذكر أيضا جملة من القواعد الفقهية التي ذكروها؛ فمن القواعد التي قرروها، وجعلوها قواعد عامة تبنى الأحكام عليها قاعدة " يجوز ارتكاب أخف الضررين لدفع أعظمهما"، وقاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التساوي بينهما"، وقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، وقاعدة "الحاجة تُنَزَّل منزلة الضرورة"، وقاعدة "ما حُرّم سدّا للذريعة أبيح للحاجة".
وهناك أمر مهم وهو أن ما وُجِد في كتب أصول الفقه، أو في كتب الفقهاء مما ظاهره إنكار العمل بالمقاصد، أو إنكار العمل بالمصالح المعتبرة؛ فهذا يكون راجعا إلى أحد أمور:
الأمر الأول: أن يكون الإنكار بسبب أنه عمل بمصلحة متوهمة لم يثبت كونها مقصدا شرعيا، ولم يعتبرها الشرع، وإنما هي من باب الهوى والشهوة.
الأمر الثاني: الإنكار على من يُقدم هواه على نصوص الشارع الصحيحة فيأتي بما يزعم أنه مصلحة.
الأمر الثالث: الخوف من فتح باب المصالح المرسلة؛ لكيلا يدخله كل أحد أراد أن يلحق بالشريعة أمرا لا قيمة له في الشرع.
فهناك ضوابط لمن يقول إن هذا يلحق بالمصالح المرسلة وهذا لا يلحق.
الضابط الأول: أن من يقوم بهذا هم علماء الشريعة الذين عرفوا بالنصح لله، ولرسوله، وعُرفوا بالعدالة، والبعد عن زخرف الحياة الدنيا، وعُرفوا برغبتهم في نشر هذا الدين، وتحقيق انتشاره. هؤلاء العلماء الذين قضوا شطرا كبيرا من حياتهم في خدمة هذا الدين هم الذين ينبغي أن يتكلموا في هذا الموضوع هذا الضابط الأول.(1/49)
الضابط الثاني: التحقق من كون ما ذُكر مقصودا شرعيا. كيف نتحقق؟ نقول: نعرضه على نصوص الشرع الصحيحة التي لا تحتمل تأويلا، فإن عارضها؛ فلا يمكن أن يكون مقصودا للشارع، ثم نستقرئ النصوص الأخرى، فإن وجدناه موافقا لها؛ عرفنا أنه يلائم ويناسب مقاصد الشارع.
الضابط الثالث: أن يتحقق بالعمل بهذا المقصد مصلحةٌ حقيقية، وتندفع به مفسدة حقيقية، ويتفق عليها أرباب العقول السليمة، ولا تكون مصلحة موهومة؛ فبعض المصالح هي مصلحة آنية وقتية؛ فهذه لا تُعد ولا تُعتبر، بل هي ملغاة.
الضابط الرابع: أن يكون العمل بها ملائما لأحكام الشرع الأخرى ولا ينافرها.
الضابط الخامس: أن يُقدم الأعظم فالأعظم من مقاصد الشارع عند التزاحم؛ فحفظ أركان الدين وأصوله مُقدم على حفظ وسائله وفروعه، فلا بد من مراعاة الترتيب الذي أراده الله -جل وعلا-.
الضابط السادس: إنما يُستدل بالمقاصد في الأحكام التي تقبل التعليل، ويمكن أن تُعرف عللها وحكمتها، أما حين ينسد علينا باب التعليل، ولا نعرف المقصود منها؛ فلا نستطيع أن نعمل بالمقاصد في مثل هذا، ولذلك نقول إن العمل بها لا يمكن في أصول العبادات؛ أي لا يمكن أن نشرع عبادة جديدة ونقول هذه لحفظ الدين؛ فالناس لا تكفيهم –الآن- خمس صلوات؛ فلم لا تزيدون صلاة سادسة؟! فلا يُقال هذا الكلام؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف. وكما قلنا -من قبل- إن هناك أحكاما معللة، وأحكام غير معللة، فالمقاصد إنما تكون في الأحكام المعللة.
ولاشك أن في العصر الحاضر كثر المنادون بالعمل بالمقاصد وهم على نياتهم؛ فمن نوى بذلك اتخاذها وسيلة لهدم الدين، ونقض عراه؛ فعليه وزره، ولن يضر الله شيئا، ولن يتأثر الدين -بإذن الله- وسيظل محفوظا إلى قيام الساعة، وأما من نوى البحث عن الحكم الشرعي الصحيح المناسب للحالات الواقعة؛ فنسأل الله له التوفيق سواء أصاب أم أخطأ!!(1/50)
ما بقي تقريبا إلا سبع دقائق فنجيب على مجموعة من الأسئلة ونجيب على الاتصال أول
يقول: عن الصلاة أيهما أفضل في رمضان صلاة التراويح أم صلاة التهجد؟ وأيهما أكثر نصوصا عليه في الحديث هل صلاة التهجد أم صلاة التراويح؟ وهل تكفي أنه إذا صلى الإنسان التراويح أنه كان ممن شملهم الحديث الشريف: (أنهم مع الإمام حتى يخرج ....) هل يكفي ذلك أم أنه لا بد من صلاة التهجد؟
أيهما أفضل أن يؤدي صلاة التراويح والظاهر أنه يصلي التراويح مع الإمام أو التهجد ونقول إن كل صلاة الليل التي بعد الفراغ من صلاة العشاء هي كلها -إن شاء الله- من التهجد لكن شاع بين الناس أن من يصلى مع الإمام يأخذ اسما وهو التراويح وهو ما يصلى أخر الليل سواء أكان مع الإمام أم في البيت يسمونه التهجد أو القيام والرسول -عليه الصلاة والسلام- يعني أعطى بشارة في (أن من صلى مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة) وهذا ينبغي على الإنسان أن يحرص عليه. أما الصلاة في جوف الليل أو في وسط الليل، أو ثلثه الآخر في البيت فلا شك أنها أبعد عن الرياء وهي ممدوحة وأجرها أعظم لكن بعض الناس يقول أنا لا أستطيع أول الليل وآخره وربما أنام مثلاً الذي يجمع بين الأمرين فهذا هو الأفضل من يصلي مع الإمام حتى ينصرف ثم إذا رجع إلى بيته ونام إذا قام من نومه فليصل ما شاء في بيته فيكون جمع بين الأمرين فالأمر -إن شاء الله- هو كله في باب النوافل ولكن الصلاة في بيته منفردا هي أفضل له من حيث الأجر إذا استطاع أن يقوم الليل كله في بيته لا شك لكن حينما ننظر إلى الثواب الذي ذكره الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمن صلى مع الإمام أيضا لا نفوت هذا على أنفسنا.
يقول: عن بعض المصطلحات المبهمة مصالح مرسلة وكذا؟ فهل توجهونهم يا دكتور إلى معجم للفقهاء، أو معجم للأصوليين يرجعون إليه؟(1/51)
هناك معجم للمصطلحات الأصولية مطبوع ولكن أيضا المختصرات هذه قد لا تعطيك... تعطيك التعريف في سطر ونصف، في سطرين. لكن ما تعطيك المعنى الكامل وتشرحه لك. فلو أنهم يرجعون إلى بعض الكتب الحديثة التي تولت مثل هذا كتب أصول الفقه الحديثة هي التي شرحت هذه المصطلحات بتوضيح وبأسلوب مناسب.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
إذا تحققنا من مقصد الشارع؛ فهل يمكن وقوع الخلاف في الاحتجاج به؟
السؤال الثاني:
اذكر اثنين من الضوابط التي لا بد منها للعمل بالمقاصد.
الدرس السادس
"أقسام المقاصد"
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما درس اليوم، فسيكون بمشيئة الله عن أقسام المقاصد:
أقسام مقاصد الشارع لها تقسيمات كثيرة، لكنّ التقسيمَ الرئيس الذي ينبغي أن نبدأ به ويعيننا على تصور هذه المقاصد، وجهات تعلقها هو تقسيم المقاصد إلى أربعة أقسام رئيسة، وهذه الأقسام الأربعة ذكرها الشاطبي في أول كلامه على المقاصد.
هو بدأ بتقسيم المقاصد إلى مقاصد الشارع، ومقاصد المكلفين، ثم دخل في تقسيم مقاصد الشارع، ونحن قلنا إذا أطلقنا لفظ المقاصد فالذي يتبادر إلى الذهن مقاصد الشارع. والأقسام الأربعة هي:
القسم الأول: مقاصد الشارع من حيث وضْع الشريعة ابتداء.
القسم الثاني: مقاصد الشارع من حيث وضْع الشريعة للإفهام.
القسم الثالث: مقاصد الشارع من حيث وضْع الشريعة بالتكليف بمقتضاها.
القسم الرابع: مقاصد الشارع من حيث وضْع الشريعة للامتثال.
ننتقل إلى بيان الأحكام المتعلقة بالقسم الأول وهي مقاصد وضع الشريعة ابتداء أو نستطيع أن نعبر عنه بعبارة: لِمَ وُضِعت الشريعة؟ أو ما المقصد الرئيس من وضع الشرائع؟
للجواب عن ذلك نقول:(1/52)
الشرائع كلها -ومنها شريعة الإسلام- لها مقصد عام رئيس ينتظم بقية المقاصد الأخرى، وهو حفظ مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وقد يعبر عنه بجلب المصالح وتكميلها، ودفع المفاسد وتقليلها؛ أي إذا لم نستطع دفعها بالكلية؛ فعلى الأقل نقللها. فهذا هو المقصد الأعظم من وضع الشريعة ابتداء.
ننتقل إلى مراتب هذه المصالح. المصالح مرتبة بحسب اضطرار الإنسان إليها وحاجته إليها إلى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: المصالح الضرورية.
المرتبة الثانية: المصالح الحاجية.
المرتبة الثالثة: المصالح التحسينية.
إذا أخذنا المرتبة الأولى وهي مرتبة المصالح الضرورية. ما المقصود بها؟
نقول: المقصود بها المصالح التي لابد منها لقيام مصالح الدنيا والآخرة. بحيث لو فُقدت؛ لم تجرِ حياة الناس -في الدنيا- على استقامة، وإنما تتعطل معايشهم، ويعتريها الفساد، وكذلك حياتهم الأخروية يعتريها الفساد من جهة فوات النجاح، وفوات النعيم المقيم في الجنة، والرجوع إلى الخسران المبين. فالمصالح الضرورية سميت بذلك؛ لأن الإنسان مضطر إليها، ومحتاج إليها في غاية درجات الاحتياج. بحيث لو اختلت سيحصل للإنسان خلل في حياته، وسيفقد الحياة الطبيعية التي يرجوها، وسيفقد لذة الحياة، وسيكون من أهل النار، وسيفقد النعيم المقيم في الجنة إذا اختلت عليه هذه الضروريات.
قلنا إن مصالح الشرع تنقسم إلى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الضروريات.
ما الضروريات التي لابد منها بحيث لو لم تحفظ؛ لترتب عليها فساد عظيم وخلل كبير في الحياة الدنيا وفي الأخرى؟
يذكر العلماء أنها تعود إلى خمسة أنواع:
الأول: حفظ الدين.
الثاني: حفظ النفس.
الثالث: حفظ العقل.
الرابع: حفظ النسل والعرض.
الخامس: حفظ المال.
فهذه خمسة أمور تعرف بالضروريات الخمس.
وحفظ هذه الضروريات يكون من جانبين:
الجانب الأول: جانب الوجود.
الجانب الثاني: حفظها من جهة العدم.
الحفظ من جانب الوجود بم يكون؟(1/53)
الحفظ من جانب الوجود يكون بتشريع ما يثبتها، ويقرر أركانها، ويزيدها ثباتا في قلوب الناس، وفي تصرفاتهم، وفي سلوكهم.
وأما حفظها من جانب العدم؛ فيكون بمنع ما يطرأ عليها من الخلل؛ بوضع الحدود، ووضع العقوبات على من يتعدى عليها.
ولنأخذ بعض الأمثلة:
أصول العبادات:
أصول العبادات من إيمان بالله، وصلاة، وصيام، وحج. هذه كلها جاءت لحفظ الدين من جانب الوجود.
وإذا أردنا أن ننظر إلى العادات؛ فنجد الأكل، والشرب، والإذن، في المشروبات أبيحت كل هذه لحفظ النفس من جانب الوجود. وأيضا من المعاملات التي أبيحت النكاح؛ لحفظ النسل، والبيع والشراء؛ لتنمية المال وحفظه.
أما حفظ هذه الضروريات من جانب العدم؛ فنجد هذا واضحا في أبواب الجنايات، والحدود التي يذكرها الفقهاء؛ فهناك حدود لحفظ الدين؛ كحد الردة، وهناك حدود لحفظ المال؛ كحد السرقة، وحدود لحفظ النسل؛ كحد الزنا حتى لا تختلط الأنساب، وشرع لحفظ العقل حدا، وهو حد شرب الخمر؛ فتجد أن الحدود وأحكام الجنايات –كلها- شرعت لحفظها من جانب العدم.
القسم الثاني: الحاجيات.
والمقصود بها: ما يفتقر إليها الإنسان من حيث التوسعة، ورفع الضيق، والحرج المؤدي إلى المشقة.
الحاجيات يفرق بينها وبين الضروريات في أنها -أي الحاجيات- إذا لم تتم مراعاتها؛ دخل على المكلفين حرج ومشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الحرج، والمشقة، والفساد الذي يحصل بإهمال الضروريات.
ما مثال هذه الحاجيات؟
جميع أحكام رخص السفر ورخص المرض.(1/54)
أما العاديات؛ فمثل إباحة الصيد، والتمتع بالطيبات هو من أمثلة الحاجيات التي تكون من العادات؛ فهي حاجة في مقتضى العادة. وأما في باب المعاملات؛ فهناك عقود شُرعت للحاجة؛ أي ليست ضرورية، لكن الحاجة تدعو إليها؛ مثل: عقد السَّلَم، وعقد المضاربة، وعقد المساقاة؛ أن يدفع صاحب الأرض أرضه إلى من يزرعها ويعطيه نسبة مما تنتجه بنسبة معينة مما تنتجه. وكثير من العقود التي يقول بعض العلماء إنها في الأصل على خلاف القاعدة العامة في الشرع ولكنها شُرعت للحاجة إليها.
كذلك السلم؛ فالمقصود بالسلم هو: عقد على موصوف في الذمة بثمن مقبوض بمجلس العقد. وأصل مشروعية السلم لسد حاجة أهل الزراعة والمزارعين الذين كانوا يحتاجون إلى النقد وليس عندهم ما يبيعونه من الحبوب، والثمار، وهم بحاجة إلى النقد ولكن مزارعهم لا تنبت إلا في وقت الإنتاج.
فيأتي أحدهم ويقول أنا أعطيك بعد أربعة أشهر مائة صاع من التمر مقابل أن تعطيني الآن -نقدا- مائتي ريال، فيأخذ النقد، وإذا جاء الوقت ويكون قد حصد زرعه؛ فيدفع هذا المُقدّر لصاحبه.
هذا -في الواقع- بيع للمعدوم؛ أي باع ما ليس عنده. والقاعدة -في الشرع- أنه "لا يبيع الإنسان ما ليس عنده"؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك)، ولكن لأجل الحاجة؛ شُرع هذا.
القسم الثالث: التحسينيات.
ومعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات؛ فهي أمور مكملة ليست ضرورية، ولا حاجية. فالإنسان ليس مضطرا إليها، وليس محتاجا إليها حاجة كبيرة بحيث لو اختلت؛ تختل أو تضيق عليه حياته، أو يقع في حرج ومشقة، ولكنها -كما نسميه الآن- من المكملات.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
ما الضروريات الخمس التي راعاها الشارع؟
السؤال الثاني:
راعى الشارع حفظ الدين من جانبين. اذكرهما، ومثل لهما.
الدرس السابع
القواعد المتفرعة على المقصد الأعظم من مقاصد وضع الشرع(1/55)
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول:
ما هي الضرورات الخمس التي راعاها الشارع أو كما قلتم يا فضيلة الدكتور؟
وكانت الإجابة:
قالت: الضرورات الخمس هي المصالح التي لا بد منها لقيام حياة الإنسان في الدنيا والآخرة. وإذا فقدت؛ تختل حياته، وتتعطل مصالحه الضرورية. وهي: حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.
صحيح في الجملة لكن أنا أريد أن ينصب الأمر مباشرة على المقصود وهو أن تعد الضروريات في حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ والمال وحفظ العرض والنسل وحفظ العقل؛ فلا حاجة إلى تعريف الضرورة. هي ذكرت التعريف أولا ثم انطلقت إلى العد وهو عد هذه الضروريات هي الخمس التي عددناها الآن.
إجابة السؤال الثاني:
راعى الشارع حفظ الدين من جانبين اذكرهما ومثل لهما.
أجابت على ذلك بقولها:
راعى الشارع حفظ الدين من جانب الوجود؛ وذلك بوضع أصول العبادات من صلاة وصيام وحج وإيمان بالله وغير ذلك.
أما حفظ الدين من جانب العدم؛ فنجد هذا واضحا في باب الجنايات والحدود فهناك حدود لحفظ الدين كحد الردة مثل.
في الدرس الماضي كنا قد ذكرنا بعض القواعد المتفرعة عن المقصد الأعظم من مقاصد وضع الشريعة ابتداء. فذكرنا جملة من هذه القواعد ووقفنا عند ما ذكره الشاطبي -رحمه الله- من أن شرط العمل بالتكملة أن لا تعود على أصلها بالإبطال. وذكرنا قبل هذا أن الضروريات الخمس تحفظ من جانب الوجود ومن جانب العدم. وذكرنا التناسب بين الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات. وقلنا إن الحاجيات تعتبر مكملة للضروريات والتحسينيات مكملة للحاجيات؛ فكل درجة أخفض تعتبر بالنسبة لما قبلها تتمة ومكملة.(1/56)
ثم وقفنا عند الكلام عن قاعدة "إن من شرط التكملة أن لا تعود على أصلها بالإبطال". فإذا عرفنا مثلاً أن المصالح الضرورية هي أصل للحاجية وتكون الحاجية مكملة لها وكذلك التحسينية مكملة للحاجية؛ فشرط مراعاة المصالحة الحاجية أن لا تعود على المصالح الضرورية بالإبطال. وشرط مراعاة التحسينية أن لا تعود على المصالح الحاجية بالإبطال.
فلو أردنا أن نضرب مثالا لذلك نقول إن من المقاصد الضرورية حفظ النفس من الهلاك وهذا أمر معروف ومتقرر وقد سبق أن تكلمنا في هذا وقلنا إن هذا من أعظم مقاصد التشريع حفظ الأنفس من الهلاك وهناك أيضا من المقاصد التحسينية حفظ الإنسان عن ملابسة النجاسات وتَنَزُّهه عن هذا الأمر؛ سواء كانت نجاسات في الملبس أو في المأكل أو في المشرب أو في غير ذلك. وذكرنا أمثلة لهذا من تحريم بيع النجاسات وتحريم أكلها.
لكن حينما يتعارض هذا المقصد التحسيني وهو تنزيه الإنسان وابتعاده عن ملابسة النجاسة مع مقصد أعظم منه وهو حفظ النفس؛ فإننا لا ننظر إلى هذا المقصد التحسيني وإنما ننظر إلى المقصد الضروري الذي هو حفظ النفس. فمثلا حينما يأتي الإنسانَ شيءٌ من الخوف على حياته إن لم يأكل هذا الطعام ويبلغ هذا الحد إلى أنه يوقن بأنه إن لم يأكل المحرم؛ فإنه هالك وعنده ميتة أو عنده حيوان غير حلال الأكل؛ فإننا نقول: يجب عليك أن تأكل حتى تحفظ مهجتك، وتحفظ نفسك؛ لأن حفظ النفس من الهلاك مقدم على تنزيه النفس عن النجاسات؛ فليأكل ما تيسر له حتى يحفظ مهجته وحتى لا يهلك.(1/57)
فهذا في معارضة التحسيني للضروري. وكذلك في معارضة الحاجيات للضروريات فنحن ذكرنا أن من الحاجات التي يحتاجها الناس لحياتهم ولصلاح أموالهم وتنميتها البيع والشراء فهذه حاجة يحتاجون إليها ولا يمكن أن يمنع الناس من البيع والشراء. لكن لو أن فتنة وقعت وأصبح بيع السلاح يؤدي إلى زيادة الاقتتال، وزيادة الفتنة؛ فإننا نقول يحرم بيع السلاح في الفتنة. وهذا ما نص عليه الفقهاء وقالوا لا يجوز بيع السلاح في الفتنة؛ لأنه يؤدي إلى التقاتل ومصلحة حفظ النفس أولى من مصلحة حفظ المال وأولى من تنمية المال بهذه الطريقة فتنمية المال بالبيع والشراء هي حاجة من حاجات الناس.
كذلك لو وُجد بعض المواد ذات الأغراض المتعددة التي يمكن أن يُصنع منها ما يُخل بالأمن ويؤدي إلى إزهاق النفوس فإنها تُمنع إذا شاع استعمالها أو خيف استعمالها فإنه يمنع نهائيا. لكن إذا كان استعمالها في القتل أو استعمالها في التدمير أو في التفجير محتملا احتمالا كبيرا؛ فيمكن سدّ هذا الباب ومنع ما هو جائر في الأصل لأجل هذه المصلحة العظيمة وهي حفظ نفوس الناس وحفظ أموالهم وذلك من باب الضروريات كما هو معروف. وليس بالضرورة أن تكون تنمية المال بالبيع والشراء في هذه المواد الخطرة. وهكذا لأن الأمثلة كثيرة على الموازنة بين الحاجيات والضروريات أو التحسينيات و الحاجيات.(1/58)
فلو تعارضت الحاجيات مع التحسينيات ومن الحاجات التي يحتاج إليها الإنسان العلاج؛ إذا مرض. فإذا تعارض هذا –مثلاً- مع مقصد أخر تحسينيّ أو مصلحة تحسينية وهي ستر العورة، وعدم اطلاع الأجانب على شيء من بدن المرأة فإذا اضطررنا إلى الطبيب أو اضطرت المرأة إلى الكشف عند طبيب؛ لعدم وجود طبيبة ماهرة قادرة على علاجها؛ فحينئذ نقول لا يُلتفت إلى هذه المصلحة التحسينية التي هي ستر العورة في جانب الحاجة الملحة إلى العلاج. وهذا إذا كان العلاج من الحاجات لكن أحيانا قد يصل إلى درجة الضرورة؛ فلا نقول لا يجوز للرجل أن يكشف على المرأة إلا في حالة الضرورة، وإنما نقول في حالة الحاجة عندما تحتاج المرأة إلى العلاج.
وقد لا يكون هذا المرض قاتلا؛ فيكون مرضا سيؤدي –مثلاً- إلى تشويهها إلى انقطاعها عن واجباتها فترة من الزمن فهي بحاجة إلى علاجه وهذا يضبطه قاعدة أخرى وهي قولهم: "الحاجة تُنَزَّلُ مَنْزلةَ الضرورة؛ عامّةً كانت أو خاصّةً"، وقولهم "الضرورة تُقَدَّرُ بقدْرها".
كذلك يمكن أن يسري هذا على الحاجة؛ أنه إذا احتاج الإنسان؛ فلا يَتَوَسَّع في الأمر الذي هو في الأصل محرم، وإنما يقتصر على القدر الذي يحصل به دفع الحاجة، أو دفع الضرورة، ولا يتوسع في هذا كتوسعه في المباحات.
نحب أن نضيف بعض القواعد الأخرى وهي –كلها- متفرعة عن المقصد الأعظم من مقاصد التشريع أو من مقاصد وضع الشريعة وهو تحقيق مصالح العباد في الدارين؛ فنقول:
القاعدة الثالثة "المصالح الدنيوية من حيث وجودها في الحياة الدنيا هي -في الغالب- لا تكون مصالح خالصة، ولا مفاسد خالصة، وإنما هي مخلوطة، ومشوبة"؛ فالمصالح تكون مشوبة بمفاسد والمفاسد لا تخلو من مصالح؛ كما قال -جل وعلا-: ? وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ? [الأنبياء: 35]؛ فالحياة الدنيا دار ابتلاء.(1/59)
فإذا كان الأمر كذلك وأن الدنيا ليس فيها مصلحة خالصة، وليس فيها مفسدة خالصة كما نص على ذلك كثير من العلماء؛ منهم ابن القيم، والشاطبي، والعز بن عبد السلام وبعضهم قال: لا توجد في الدنيا مصالح خالصة، ولا مفاسد خالصة وإنما هي مشوبة من هذا الجانب يعني من حيث وجودها.
كيف نعرف أن هذه مصلحة إذا كانت كل مصلحة مشوبة بمفسدة وكل مفسدة مشوبة بمصلحة؛ ما الذي يُعلمنا أن هذه المصلحة مقصودة للشارع أو غير مقصودة للشارع؟
نقول: يجب أن يُنظر إلى اعتبار الشارع لهذه المصالح؛ فالمصالح النظر إليها من جانبين من جانب وجودها، ومن جانب حكم الشارع عليها بأنها مصلحة؛ فهي من حيث وجودها في الأصل مشوبة بمفاسد فكل مصلحة مشوبة بمفاسد في الغالب، والغالب أن كل مفسدة معها شيء من المصلحة وإن كانت بعيدة جدا. أما إذا نظرنا بمنظار الشرع؛ فإن الشرع عنده ما هو مصلحة وعندها لا يمكن أن يكون مشوبا بمفسدة، وما هو مفسدة عند الشرع ولا يمكن أن يكون فيه مصلحة للعبد.
فالشارع حينما يحقق ويقرر أن هذا الأمر مصلحة، أو أن هذا الأمر مفسدة؛ فهي مصلحة خالصة أو مفسدة خالصة.
كيف نعرف هذا؟
نعرفه بالتغليب حينما تتعارض المصالح والمفاسد؛ فالشرع يغلب المصلحة الأكثر أثرا في حياة الإنسان الدنيوية بحيث تكون مستقيمة ومتصلة بحياة أخروية كريمة. فالشرع حينما يغلب مصلحة على مصلحة، أو يقدم درء مفسدة على مصلحة ما يعارض هذا لا يعود له تأثير ولا اعتبار.
هذه من القواعد المهمة وهي أولا: أننا نعرف أن المصالح الدنيوية أننا إذا نظرنا إليها من حيث وجودها نجدها مشوبة بمفاسد والمفاسد مشوبة بمصالح كيف نعرف هذا نعرفها بأن نقول العبرة بالغالب.
كما في آية الخمر يا شيخ؟(1/60)
نعم. ورد في الخمر عدة آيات: ? قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ? [البقرة: 219]؛ فلما كان إثمهما أكبر من نفعهما؛ حرمها الله -جل وعلا-، وبعد تحريم الله لها لم يعد فيها مصلحة معتبرة للشرع ولا فائدة يمكن أن تُجتلب.
أما المصالح الشرعية لما نقرر أن هذا الشيء مصلحة شرعا، أو مصلحة خالصة، أو مفسدة خالصة حتى وإن كانت في الأصل وفي الأمر المعتاد وهي عندنا في علمنا أنها مخلوطة بمصالح ومفاسد معا ومشوبة ببعضها. لكن حينما يقر الشرع أن هذه مصلحة؛ يجب أن نوقن بأنها مصلحة خالصة. وإذا قال الشرع هذه مفسدة؛ يجب أن نَعُدها مفسدة خالصة.
ومما يدل على ذلك أنه لو كانت مصالح الشرع أو المصالح الشرعية والمفاسد مشوبة بضدها؛ لأصبح هذا تكليفا بما لا يُطاق والله تعالى يقول: ? لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ? [البقرة: 386]؛ فمادام أن الشرع بين لنا أنه لا يكلفنا بما لا نستطيع، أو بما لا يمكننا القيام به؛ فلا يمكن أن يكلفنا بمراعاة شيئين متضادين؛ فلا يمكن أن يكلفنا بمراعاة المصلحة والمفسدة في آن واحد وفي مسألة واحدة، وبالنسبة لشخص واحد.
وقد يكون عند بعض الناس قصر نظر؛ فيظن أن هذا الأمر الذي شرعه الله فيه مفسدة من بعض الجوانب وهذا غير صحيح؛ فعليه أن يراجع نفسه، وأن يبعد هذا الوهم عنه حينما يظن أن هذا فيه ضرر وأن الشرع قرّره له وهو فيه ضرر؛ فليبعد هذا الوهم عنه لأن هذا الضرر إن كان دنيويا؛ فهو لا يساوي شيئا بالنسبة لما يترتب على هذا الأمر من منفعة.
هذه بعض القواعد ويمكن أن نذكر مزيدا منها في أثناء الشرح أيضا هناك الحقيقة بعض القواعد التي أحب أن أشير إليها سريعا وبعد هذا يمكن أن نقرأ في الكتاب في بقية الوقت.(1/61)
أيضا من القواعد التي تترتب على الموازنة بين الضروريات والحاجيات والتحسينات؛ أن "اختلال المصالح الضرورية يؤدي إلى اختلال الحاجية، والتحسينية دون العكس".
هذه القاعدة إذا استوعبناها؛ نستفيد منها في باب الموازنات؛ "اختلال المصالح الضرورية يؤدي إلى المصالح الحاجية والتحسينية دون العكس".
الإنسان حينما يحافظ على حياته فهو يحافظ أولا على مقصد حفظ النفس، ويحافظ أيضا على مقصد العبادة؛ وجود من يعبد الله -جل وعلا-؛ لأنه إذا هلكت هذه النفس فمن الذي سيعبد الله -جل وعلا-؟
معروف أن الصلاة حفظها من حفظ الدين والدين حفظه مقصد ضروري. فإذا عُفي للإنسان عن الصلاة؛ لكونه مُغمًى عليه؛ فلا نقول: يبقى عليه النواحي الحاجية، أو مكملات الصلاح؛ من القراءة أو الوضوء، أو ما أشبه ذلك، ولكنها تسقط تبعا.
إذا نهي عن الصلاة في الأوقات المخصوصة؛ فلم يشرع ما هو مكمل من الركوع والسجود ونحوه. لكن التحسيني والحاجي قد يختل ولا يختل الضروري؛ فإذا عجز الإنسان عن الوضوء وعن التيمم؛ فبإمكانه أن يصلي بلا وضوء ولا تيمم ولا تسقط الصلاة التي هي ضرورية لسقوط الحاجي أو التحسيني.
فيما يتعلق بالبيع: الجهالة بالمبيع ليس بالضرورة دائما تكون مبطلة لأصل البيع؛ أعني أن أصل البيع هو من حاجات الناس التي يحتاجونها، ولا يستغنون عنها، وأما اشتراط معرفة المبيع وعدم الجهالة؛ فهذا يعد من المكملات بالنسبة للبيع. من مكملات الحاجيات أن تكون الجهالة منتفية. لكن تجد أن الشرع ربما يعفو عن الجهالة في بعض المبيعات؛ لأن الجهالة ملازمة لها ويُبقي على صحة البيع.
البيوت حينما تباع أساساتها مخفيّة ولا يُطَّلع عليها فأنت تشتري البيت قائما ولا تدري شيئا عن نوعية الأساس؛ فهذا فيه نوع من الجهالة لكن الشرع يتسامح فيها.
بعض المأكولات؛ كالفجل والبصل وغيرها يكون الجزء الأعظم منها مستترا في التراب لا يلزم أن يكون بارزا حتى يباع وإنما يُتسامح في مثل هذا.(1/62)
البطيخ مثلاً أنت لا تدري ما في داخله هل في أحسن حال؟
هل هو ناضج أم ليس ناضجا؟
فمع هذا أجاز الشرع بيعَه؛ لأن هذه الجهالة اليسيرة لا ينبغي أن تعطل ما هو أهم منها وهو البيع.
إذن هذه القاعدة تعني أن نُبقي على الضروري مع اختلال الحاجي والتحسيني لكن العكس غير موجود لا يبقى الحاجي أو التحسيني مع انعدام الضروري؛ لأن الضروري بمثابة الأصل لما بعده، فإذا ذهب الأصل؛ تبعه الفرع. لكن إذا ذهب الفرع قد يبقى الأصل مُعتدا به.
أيضا من القواعد التي تندرج تحت مقصد وضع الشريعة لمصالح الخلق قاعدة مهمة جدا ينبغي استيعابها وهي أن "المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تُعتبر من حيث تُقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية". هذه عبارة الشاطبي وهي عبارة قد تكون صعبة على بعض الإخوان، لكن نزيدها إيضاحا بإذن الله.
يقول: المصالح التي قلنا إن الشرع طلب تحقيقها، وتكميلها، وحمايتها، والمفاسد التي طلب الشرع دفعها، وتقليلها، وتخليص المكلفين منها؛ فإن النظر فيها ليس مقصورا على النظر الدنيوي. نعم. النظر إليها في ميزان الدنيا موجود لكنه لا بد أن يكون الناظر في المصالح والمفاسد ينظر في أن هذه المصالح مطلوب منها أن تُحقق مصالح أخرى في الحياة الأخرى، وليست مصالح آنية مقصورة، لا على فرد، ولا على جماعة، ولا على زمن محدد. وإنما ينظر إليها بحيث تحقق السعادة في الحياة الدنيا والحياة الأخرى. فالنظر إليها يجب أن يكون من الجانبين، ولا ننظر إليها من جانب اللذة العاجلة، أو المصلحة العاجلة التي قد ندركها في لحظة ثم تتغير وتتبدل.(1/63)
هذه قاعدة مهمة وهي بمثابة الضابط للنظر في مراعاة المصالح والمفاسد. وخلاصتها أننا حينما ننظر في كون هذه المصالح أو المفاسد معتبرة، أو غير معتبرة؛ لا ننظر فيها من جانب ما تحققه لنا من مصالح عاجلة، بل من حيث تُقيم لنا هذه الحياة الدنيا، وتنظمها، وتكفل لنا فيها حياة طيبة توصلنا إلى حياة طيبة وسعيدة أيضا في الدار الآخرة. وليس الأمر هو شهوةَ النفس المجردة.
وهذه القاعدة استدل عليها الشاطبي بعدة أدلة منها: أن من مقاصد الشرع -كما سنعرف في القسم الثاني- إخراج المكلف من داعية هواه، وشهوته إلى أن يكون عبدا لله -جل وعلا-، ولا يمكن أن نخرجه من داعية الهوى والشهوة إلا إذا قلنا إن مصالح الدنيا منظور إليها بمنظار أخروي لا بمنظار دنيوي ضيّق.
وأيضا ما تقدم من أن المنافع الدنيوية أو المصالح الدنيوية والمفاسد هي مشوبة وليست خالصة. ولهذا نقول: النفوس محترمة، ومطلوب إحياؤها وإن أدّى ذلك إلى إتلاف المال. لكن إن عارض إحياءُ النفوس إماتةَ الدين؛ كان إحياء الدين أولى، وهذا قد ييجب على تساؤل هو: كيف نرتب هذه الضروريات الخمس؟
أحب أن أذكر الإخوان بضابط كنت قد ذكرته أكثر من مرة وهو أن دراستنا لهذه المقاصد، وتلقّينا لها لا يتيح لنا أن ننصب أنفسنا مفتين، أو نتوقع أننا بمجرد أن نسمع هذه السلسلة من الدروس سنستطيع أن نوازن بين المصالح والمفاسد، ونتولى هذا الأمر بأنفسنا. بل المرجع في هذا -كما قلنا- لأهل العلم الكبار الربّانيين الذين عرفوا بالفضل، وتقوى الله، والصلاح بالإضافة إلى العلم الشرعي المؤصل.(1/64)
لكن نقول مبدئيّا مصلحة الدين مقدمة على مصلحة النفس، لكن أيضا قد يُفهم هذا الترتيبُ على غير وجهه، ليس كل شعيرة من شعائر الدين يمكن أن تقدم على النفس. الكلام هو في إذا أدى الأمر إلى إماتة الدين، أو ذهابه، أو ضياعه؛ فهنا نقول: إذا لزم الأمر أن يقدم الإنسان نفسه في سبيل نشر الدين؛ يكون هذا هو المشروع. ولهذا شُرع الجهاد لحفظ الدين، ولحفظ بيضة المسلمين، وتمكنهم من نشر الدعوة، وتمكنهم من إقامة شعائر دينهم. وليس المقصود أن يضرب الإنسان مثلا بنفسه ويقول: لو خُيرت بين النطق بكلمة الكفر، وبين القتل أختار القتل؟
نقول: لا. يحقّ لك أن تتكلم بكلمة الكفر إذا كنتَ مطمئنَّ القلب بالإيمان ولا يقال إنك هدمت الدين بهذا.
فهنا ينبغي أن نعرف المقصود حينما نقول إن الدين ضروري بالنسبة للناس، وللأمة جميعا، وبالنسبة للأفراد أيضا. لكن حينما نرتب المقاصد نقول: إذا كان هذا الأمر سيترتب عليه ضياع الدين جملة، أو خروج الإنسان نفسه مثلا من دينه نهائيا، وبين حياته فنقول حينئذ إنك تقدم حياتك فداء لدينك.
لكن إذا كان الأمر قابلا لأن يُعوَّض في مثل مسألة النطق بكلمة الكفر، يعني نطقه بكلمة الكفر لا يدل على أنه خرج من الملة، فهذا نطق به ظاهريا لكنه في واقع الأمر على الإيمان إن شاء الله.
كذلك في موضوع الصلوات وليس معنى هذا أنه لو حيل بينه وبين صلاة فرض واحد أنه يمكن أن نقول يجب عليك أن تقدم نفسك في سبيل أن لا تسقط أو لا تترك هذا الفرض. فبإمكانه أن يؤخر صلاة هذا الفرض ويقضيه، ويكون هذا عذرا له في تأخير هذه الصلاة عن وقتها.
ولعل هذا يا دكتور موجود كذلك في نصوص الشريعة، حتى لا يظن الإخوان أنا أتينا بشيء من عندنا، موجود في نصوص الشريعة وأنتم مثلتم على ذلك في حلقات ماضية بمجموعة من الأدلة تجاوزت العشرين دليلا على ما أعتقد.(1/65)
نعم. ونقول أيضا الترتيب الثاني مثلا النفس مقدمة على المال، ومقدمة على العقل. هذا أيضا محل وفاق بين العلماء.
يأتي خلاف بين العلماء فيما يتعلق بالعقل، والعرض، والمال. فالأكثر على أن العقل مقدم؛ لأنه إذا حافظ على عقله...
المال يمكن تعويضه، وكذلك العرض يحافظ عليه والمال يمكن تعويضه فالأكثر على تأخير المال عن العقل والعرض، يعني أكثرهم يقول: يُقدم حفظ العقل والعرض على حفظ المال، ويؤخرون حفظ المال.
هذا فيما يتعلق بالترتيب ودائما الموازنة تحتاج إلى فقيه عارف بما يترتب على الأمور، وليس فقط النظرة الأولية، وأنه ينظر إلى أن هذا الجزء من الدين أو ليس من الدين أيضا ما كان من الدين لأن الدين فيه أصول وفروع.
أيضا الترتيب بينها مُراعى وأيضا المفاسد منها ما هي مفاسد عظيمة كبيرة ومنها ما هي أقل مفسدة منها ما هي مفاسد متعدية إلى الآخرين ومنها ما هي قاصرة على الشخص نفسه. فإثم المفاسد القاصرة على الشخص نفسه أهون من إثم المفاسد المتعدية على الآخرين ولا شك.
كون الإنسان يُوقع نفسه في مفسدة أهون من أن يعمل ما يفسد حياة الآخرين. وهذا أمر متقرر، ومعروف والآن يوجد ما يعرف بفقه الموازنات، المتقدمون عندهم هذا الفقه وهم أقدر على فهمه من المعاصرين، وقد طبقوه فعليّا لكن الفقهاء المعاصرين كتبوا فيه كتابات جيدة؛ في فقه الأولويات، وفي فقه الموازنات يعني الموازنة بين المفسدتين بارتكاب مثلا أخفهما والموازنة بين المصلحتين بفعل أعظمهما حين التزاحم. هذه كلها يمكن أن تؤخذ أو تُبنى على هذه القاعدة وهي "المصالح والمفاسد إنما ينظر إليها من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى" يعني أن هذه الحياة ليست هي التي نريد عمارتها فقط. نعم. نحن نريد عمارة هذه الحياة الدنيا لكن بحيث توصلنا إلى حياة أخروية أيضا هنيئة وسعيدة ومستقرة.
لعلنا نبدأ في القراءة من الكتاب من أول النوع الأول. إن شئت أن تقرأ الأنواع أيضا قبل هذه الصفحة.(1/66)
نريد أن ننبه أننا نقرأ في كتاب "الموافقات" للشاطبيّ وهو الجزء المتعلق بكتاب "المقاصد" سواء أن هذا مجموع في كتاب واحد أو في مجموعة كتب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (
كتاب المقاصد
والمقاصد التي ينظر فيها قسمان:
أحدهما: يرجع إلى قصد الشارع.
والآخر: يرجع إلى قصد المكلف.
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً ومن جهة قصده في وضعها للإفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها؛ فهذه أربعة أنواع).
ذكر هذه الأنواع الأربعة = أنواع المقاصد التي راعاها الشارع. قلنا: إن هذه المقاصد الأربعة هي أنواع المقاصد التي راعاها الشارع، وبدأنا بالنوع الأول منها وهو: قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداءً، وقلنا: إن المقصود الأعظم من وضع الشريعة ابتداءً هو تحقيق مصالح الخلق وتكميلها ودرء المفاسد عنهم وتقليلها وهذا يحصل بعدة أمور ذكرنا طرفاً منها فيما مضى وسنقرأ الآن.
نحن الآن ننتقل إلى النوع الأول. (
النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
الأول: أن تكون ضرورية.
الثاني: أن تكون حاجية.
الثالث: أن تكون تحسينية).(1/67)
يلاحظ أن الشاطبي هنا عبر عن المصالح بالمقاصد يعني قال: (تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية). الحقيقة أن وصف المقصد بكونه ضرورياً لا يتم إلا بشيء من التسامح، يعني المقصد نفسه لا يوصف بكونه ضروريا؛ لأن المقصد هو مقصد للشرع، والشرع لا يضطره شيء إلى شيء؛ فهي ضرورية بالنسبة للعباد، أو بالنسبة للمخلوقين لا بالنسبة للشارع؛ فلهذا فإن الأولى أن تُسمى المصالح الضرورية؛ لأنها إذا نظرنا إليها من جهة المخلوقين سميت مصالح، وأما من جهة الشارع نقول: هي مقاصد للشارع، وحفظها مقصود للشارع، والشارع يقصد إلى حفظها، فتسميتها ضرورية يُقبل بشيء من التسامح؛ لأنها هي ضرورية لمن؟ هي ليست ضرورية بالنسبة للشارع أو إلى قصد الشارع، هي ضرورية بالنسبة إلى المكلفين؛ فلهذا عبارة الغزالي وعبارة العز بن عبد السلام في النص على المصالح قد تكون أسلم؛ لأنك إذا ذكرتها في جانب المكلف؛ فهي مصالح، بالنسبة للمكلف، فهي بالنسبة للمكلف ليست مقاصد بل مصالح. وقد تكون ضرورية له بمعنى أنه لا تستقيم حياته بدونها، كما سيأتي تفسير المصنف للضروري، يعني جعْل هذه الأقسام أقساما للمقصد نفسه يحتاج إلى شيء من التسامح في قبوله.
(فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا).
أي لابد منها لمن؟ لا بد منها للمخلوق.
(بحيث إذا فُقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة).
التهارج والهرج تطلق أحيانا على القتل الذي من غير سبب.
(والرجوع بالخسران المبين، والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يَدرأ عنها الاختلال الواقع، أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.(1/68)
وأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود؛ كالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك).
إذن هو سيذكر التفصيل الآن لما ذكر أنها تُحفظ من جانب الوجود ومن جانب العدم، سيذكر لنا أمثلة من التشريع -على عادته- فهو يريد أن يقرر لنا هذا المقصد العظيم بطريق الاستقراء فيقول: تعالوا نستقرئ أبواب التشريع كلها؛ نجدْها إما حفظ للضروريات، أو حفظ للحاجيّات، والتحسينات، ونجد أنه حفظ من جانب الوجود، وحفظ من جانب العدم، فسيذكر لنا كيف أن حفظ الدين وهو أول الضروريات حُفظ من جانب الوجود، وكيف أنه حُفظ من جانب العدم وهكذا.
(والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك).
يعني مثل في الأول من جهة العبادات؛ من النطق بالشهادتين، وصيام وصلاة وحج ثم مثل للعادات يعني ما يعتاده الناس في أكلهم ومشربهم وملبسهم.
(والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة العبادات).
يعني المعاملات ترجع إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، المعاملات لكي نحفظ المال لا بد من البيع والشراء والإجارة حتى نحفظ أموالنا وننميها. وكذلك النكاح هو لحفظ النسل، والنكاح يدخل في هذا الجانب في جانب المعاملات ويقول أيضا هي ترجع إلى حفظ النفس والعقل أيضا؛ لأن الإنسان الذي لا يأكل ولا يشرب ربما يختل بدنه، ويختل عقله فربما يموت؛ فيقول: هذا تحافظ عليها بواسطة العادات، يعني بواسطة المأكل والمشرب والملبس.
(والجنايات -ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم).(1/69)
نعم. يقول: (الجنايات) يقصد به باب الجنايات في الفقه والجزاءات الموجودة فيه وكذلك الجنايات تتبعها الحدود؛ لأن الفقهاء –غالبا- يجعلون الجنايات والحدود في باب واحد وأحيانا يفصلون بينها ويجعلونها متتالية، فما يتعلق بالجنايات والحدود هذه جاءت لحفظ الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل من جانب العدم، يعني حراستها من أن لا تعدم بعد وجودها.
ثم قال: (يجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لأنه حينما يُجازى المتعدي على أعراض الآخرين؛ مثلا بجلد حد القذف، والمتعدي على عقله بالسكْر بالجلد، المتعدي على الأعراض والنسل بالزنا إما بالجلد، أو الرجم. حينما يجازى بمثل هذا فالمقصود منه حفظ الدين من جهة العدم؛ لكيلا لا يعدم، وحفظ المال من جهة العدم. فحينما نُقيم حدَّ السرقة عليه؛ فهذا يمنع من سرقة الأموال. حفظها من جهة الوجود يكون بالبيع والشراء والتنمية وحفظها من جهة العدم بشرعية الحد لمن اعتدى عليها أو بالجزاء؛ فليس بالضرورة أن يكون حدّا، يعني قد يكون سرقة؛ فالواجب فيه الحد، وقد يكون نهبا؛ فيكون الواجب فيه الجزاء الرادع تعزيرا له.. وهكذا كل ما يتعلق به.
قوله: (يجمعها القول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؛ لأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر اسم جامع لكل ما هو معروف وكل ما هو منكر؛ فما هو معروف بين الناس، ومشتهر بين المسلمين بأنه من الدين؛ فهذا يؤمر به. وما هو مشتهر بأنه منكر، وليس من الدين؛ فهذا يُنهى عنه. فإذا قُمنا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المطلوب؛ حفظنا الدين والمال والعرض... إلخ
تقول: هل يجوز اتخاذ الكفار أولياء، ومظاهرتهم على المسلمين بحجة ارتكاب أقل المفسدتين؟.(1/70)
هذا أيضا من الأسئلة المهمة الحقيقة التي تكلم فيها العلماء وأفتوا فيها بناءً على مراعاة مقاصد الشريعة، فأما موالاة الكفار بمعنى إعانتهم على المسلمين، والوقوف بجانبهم ومظاهرتهم على المسلمين؛ فهذا لا يقول به أحد من المسلمين. ولكن الوقوف السلبي هو الذي يكون الإنسان معذورا إذا كان عاجزا عن النصرة، يعني وقوفه السلبي بأن لا يكون معينا لأخيه المسلم ضد غيره حينما يرى أنه عاجز مثلا عن هذا.
فحينما نقول إن الموالاة إن كان المقصود بها المساعدة بالسلاح والوقوف معهم مثلا أو بالمال طواعية وحبا في نصرتهم؛ فلا شك أن هذا من الكفر المنهي عنه، وأما حينما يكون الإنسان سلبيا أو حينما يكون مجبرا على بعض الأمور التي لا يستطيع منها فكاكاً حينما يعني يظهر للناس أنه أعان وهو في الواقع مغلوب على أمره؛ فمثل هذا يكون معذورا إن شاء الله إلى أن يكتب الله له القدرة على أن يتقوى، لكن الواجب عليه أن يعد العدة وأن يخطط لأن ينتقل من هذا الوضع الذي هو حال ضعف إلى حال قوة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام حينما كان في مكة لم يكن قادراً على دفع الكفار، ولا على جهادهم ولهذا يراهم يعذبون بعض المسلمين فلا يستطيع أن ينصرهم لأنه غير قادر على هذا، لكنه حينما سنحت له الفرصة وجد من ينصره في المدينة هاجر إلى المدينة لينحاز بمن معه ويسلموا من تعذيب الكفار وليستطيعوا أن يقيموا شرع الله كما ينبغي فلا بد لكي نسلم من الإثم لا بد من الاستعداد وجود الاستعداد ووجود النية والعزم وبذل الجهد أما أن نقول نحن عجزة ونحن عاجزون عن نصرة إخواننا ولا نقدم شيئا ولا نفعل شيئا وليس عندنا نية لأن نفعل شيئا في المستقبل من جهة إصلاح حالنا فهذا لا شك أنه تقصير وقد نحاسب عليه.
أسئلة الدرس:
السؤال الأول: اذكر قاعدتين من القواعد المتفرعة على المقصد العام من مقاصد وضع الشريعة ابتداءً.
السؤال الثاني: هات مثالا على الموازنة بين المصالح الضرورية والحاجية.(1/71)
والمقصود: مثال يبين أن الحاجية لا تعتبر إذا تعارضت مع الضرورية.
الدرس الثامن
تابع القواعد المتفرعة على المقصد الأعظم من مقاصد وضع الشرع
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الحلقة الماضية كان السؤال ذكر السؤال الثاني فقط يقول:
اذكر مثالا على الموازنة بين المصالح الضرورية والحاجية.
قال في الجواب: من المصالح الضرورية كشف المرأة عن جسدها للطبيب، وقد تكون المصلحة حاجية كيف بالمصلحة الضرورية فمن باب أولى.
نذكر أنه أراد أن يمثل للموازنة بين الحاجة والمقصد الحاجي أو المصلحة الحاجية أو المصلحة التحسينية لكن أيضا المثال نفسه يكون مثالا للموازنة بين التحسيني والضروري فالمرء إذا أصبح العلاج ضروريا المرض أصبح مؤديا للهلكة مثلاً فيكون العلاج حينئذ من باب الضرورة وستر العورات هو من باب التحسينيات. فيقدم الضروري على التحسيني. لعل غيرهم من الإخوة يأتي بجواب أدق من ذلك.
تجيب على السؤال الثاني قالت:
من الأمثلة على الموازنة بين المصالح الضرورية والحاجية على إباحة شرب الخمر إذا أكره على شربه بإفلات نفسه لأن في هذه الحالة حفظ النفس مقدم على حفظ العقل مثلاً أكل الميتة عند الضرورة خوفا على نفسه من الجوع والعطش
كلاهما أيضا الأول وهو شرب الخمر لدفع الغصة. العلماء قالوا: لدفع الغصة وشرب الخمر للظمإ والعطش. قالوا إن الخمر لا تزيل العطش كما هو معروف وإنما مثلوا بشرب الخمر لإزالة الغصة مثلاً فهذا ارتكاب للمحرم في مقابل لما دعت الضرورة إلى ذلك جاز ارتكاب المحرم لأجل دفع الضرورة.
الأخ يجيب على السؤال الأول وهو:
اذكر قاعدتين من القواعد المتفرعة عن المقصد العام من مقاصد وضع الشريعة ابتداء.
فأجاب فقال:
القاعدة الفرعية الأولى: من شرط التكملة ألا تعود على أصلها بالإبطال.(1/72)
ومن القواعد الفرعية أيضا: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كان أو خاصة والعبرة بالغالب ونص على الشرع فيما شاب من المصالح والمفاسد من حيث وجوده
هذا جواب جميل وواف نعم.
والله نحن نشد على أيديهم ونرجو أن يواصلوا المتابعة وهذا من مصلحتهم وهذا -إن شاء الله- سيعود عليهم بالنفع.
اليوم بإذن الله سأذكر نقطتين هما الباقيتان فيما يتعلق بالنوع الأول، أو القسم الأول من أنواع، أو أقسام مقاصد التشريع، وهو مقصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء.
نحن قلنا إن هناك أربعة أنواع، وبدأنا في النوع الأول وذكرنا المقصد العام منه، ثم فرعنا عليه جملة من القواعد بقي معنا منها قاعدتان أذكرهما باختصار -إن شاء الله-، ثم نعود لقراءة رؤوس مسائل من كتاب "الموافقات" للشاطبي. ولعلنا -إن شاء الله- في الأسبوع القادم ننتقل إلى النوع الثاني وهو المقصد الشارع من وضع الشريعة للإفهام، وهو يشتمل على قواعد كثيرة سنأخذ الأهم منها.
القاعدتان اللتان نريد أن نذكرهما –اليوم- وهما:
القاعدة الأولى: أن هذه الكليات الثلاث التي قلنا إن الشارع راعاها في أحكامه، وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات لا ترتفع، ولا تختل إذا تخلفت في بعض الجزئيات. وقد نطلع على أنها غير موجودة أو لم تتحقق المصلحة مثلاً من هذا الحكم في كل جزئية أو في كل فرد من أفراد المسلمين؛ فهذا غير قادح في كونها مرادة لله -جل وعلا-. فتخلف الحكم أو المصالح الضرورية، أو الحاجية، أو التحسينية في بعض المكلفين لا يعني هذا أنها غير مرادة لله، أو غير مراعاة، أو غير مقصودة. فالعبرة بوجودها في عموم الناس عندما يمتثلون لأمر الله وعلى قدر انتقاصهم من الوفاء بتكاليف الشرع يدخل عليهم النقص على قدر ما يدخل عليهم النقص في التزامهم بأوامر الشرع؛ يدخل عليهم النقص في مصالحهم الدنيوية، والأخروية؛ الضرورية منها والحاجية، والتحسينية.
ولعلنا نضرب مثالا:(1/73)
نقول: إن من الأحكام ما شرع لحفظ النفس؛ كالقصاص. فالقصاص -كما قلنا- والمقصود الأعظم منه حفظ النفوس من جانب العدم لكن. قد يقول قائل: ها نحن نقيم القصاص فيمن يقتل، ومع هذا يوجد القتل في الناس. فلم يتحقق حفظ النفوس وأنتم تقولون: إن الشرع يقصد إلى حفظ النفوس.
نقول: هذا لا يقدح كون إقامة القصاص موجودا ولكن يوجد من الناس من يتجاوز، ويقتل عمدا، وعدوانا، فيقتص منه؛ فهذا ليس مخلا بأصل المقصد الشرعي. وينبغي لنا أن نفرق بين المقصود الشرعي لله -جل وعلا-، وبين ما أراده كونا وقدرا؛ فمراد الله كونا وقدرا قد يختلف عن مراده شرعا؛ فهو شرعا يريد حفظ النفوس، ويحب لنا ذلك وشَرَعَ لنا من الأحكام ما يضمن لنا حفظ النفوس في الجملة، ولا يعني هذا أنه لو قتلت نفس، لاختل هذا المراد. هذه الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات لا تختل بتخلف المصلحة في بعض الجزئيات، أو عند بعض الأفراد في مثل مصلحة حفظ النسل حينما نقول: ها هو القصاص يقام ومع هذا يوجد من يقتل.
نقول: نعم يوجد من يقتل ولكن لولا تشريع القصاص؛ لبلغ الأمر حدًّا يكون هو الغالب، ولَبَلََغَ الفساد مبلغا عظيما. والعرب قديما قبل الإسلام كانوا من قواعدهم التي يحتكمون إليها وهي قواعد عقلية قولهم "القتل أنفى للقتل" يعني إذا عرف القاتل أنه إذا قتل يقتل فإنه سيحجزه ذلك ويدفعه وهذا لا يمنع أن يوجد بعض القتلة الذين لا يحجزهم هذا الحاجز ولا يمنعهم فيقام عليهم القصاص، ويقام عليهم حكم الشرع؛ ليرتدع غيرهم. ولهذا لا يستغرب أن يوجد من يقتل مع إقامة هذا الحكم الشرعي العظيم والله تعالى يقول: ? وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ ? [البقرة: 179].
كذلك فيما يتعلق بالحاجيات: يقع مثل هذا مثلاً: القصر في السفر، والفطر للمسافر شُرع لماذا؟ لأجل حاجة المسافر للتخفيف عنه.
فلا يقال:
لماذا يجوز القصر؟
أو
لماذا يشرع الفطر للمسافر؟(1/74)
ألستم تقولون تشريع هذه الأحكام من أجل دفع المشقة عن الناس؟
قلنا: بلى.
قالوا: إذا كان كذلك؛ فلماذا لا يختص بمن عليه مشقة؟
فهنا أنتم تفتون بأن المسافر في الطائرة يحقّ له أن يفطر.
الجواب عن هذا هو في القاعدة؛ أن العبرة بعموم الأمر، وبالكليات.
تقول: هل تعتبر كتب الموافقات للشاطبي ومقاصد الشريعة مراجعة لهذه المادة يا شيخ؟
نحن قلنا في أول مرة أو ثاني درس قلنا إن المرجعين الرئيسين الذين سنرجع إليها هما: كتاب الموافقات وكتاب مقاصد الشريعة لمحمد الطاهر بن عاشور. فالإخوة يذاكرون من هذا الكتاب وكتاب محمد الطاهر بن عاشور.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (والعبادات والعادات قد مثلت والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره؛ كانتقال الأملاك بعوض، أو بغير عوض بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع)
يعني على الرقاب ليس المقصود رقابَ الآدميين، وإنما المقصود على الذوات؛ أي على رقبة السلعة.
(والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال؛ فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال، ويتلافى تلك المصالح؛ كالقصاص، والديات للنفس، والحد للعقل، وتضمين قيم الأموال للنسل، والقطع، والتضمين للمال.. وما أشبه ذلك)
يعني هذا القصاص والديات لحفظ النفس، والحد للعقل؛ أي لحفظ العقل وتضمين قيم الأموال؛ لحفظ المال، والحد؛ يكون للعقل أو النسل.
(مجموع الضروريات خمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. وقالوا: إنها مراعاة في كل ملة، وأما الحاجيَّات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب).
القائل هو الغزالي، وغيره. قالوا: إن هذه مراعاة في كل الملل، وفي كل الشرائع السماوية.(1/75)
وهذا تعريف الحاجيات يعني مثلما عرّف الضروريات من قبل، ثم انتهى إلى عدّها وحصرها في هذه الخمس هو الآن يعرف الحاجيات ويقول هي التي يفتقر إليها الإنسان لأجل التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة لكنها لا تصل إلى درجة إهلاك النفس وإهلاك المال.
(فإذا لم تراعى دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة، وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات؛ ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر وفي العادات كإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا، ومشربا، وملبسا، ومسكنا، ومركبا.. وما أشبه ذلك. وفي المعاملات؛ كالقراض، والمساقاة، والسلم، وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات؛ كثمرة الشجر، ومال العبد. وفي الجنايات؛ كالحكم باللوث، والتدمية، والقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصناع.. وما أشبه ذلك)
تضمين الصناع يعني الصانع الذي تدفع إليه آلة عندك ليصلحها. فالأصل أنه أمين، ولكن لما كثُر في الناس قلة الأمانة؛ قال كثير من الفقهاء: إنه لا بد من تضمينهم لأنه حينما يقبضها يكون مسئولا عنها؛ لو سرقت من عنده، أو تلفت؛ فيكون هو الضامن، إلا أن يكون التلف بآفة سماوية ليس له فيها يد وليس مفرطا فيها؛ فإنه لا ضمان عليه.
(أما التحسينات؛ فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.)
يقول كل ما هو من مكارم الأخلاق يدخل في التحسينيات، وهذا التحسينيّ قد يكون واجبا، وقد يكون الابتعاد عنه واجبا، وقد يكون هو في نفسه محرما؛ ملامسته، ومقارفته، وقد تكون غير ذلك.
((1/76)
وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان. ففي العبادات؛ كإزالة النجاسة وبالجملة الطهارات كلها، وستر العورة وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات، والقربات.. وأشباه ذلك. وفي العادات؛ كآداب الآكل، والشرب، ومجانبة المآكل النجسات، والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات).
هذا كله من باب التحسينيات.
(وفي المعاملات؛ كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء، والكلأ، وسلْب العبد منصب الشهادة، والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة، وإنكاح نفسها، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة، والتدبير، وما أشبهها. وفي الجنايات؛ كمنع قتل الحر بالعبد، أو قتل النساء، والصبيان، والرهبان في الجهاد، وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها.
فهذه الأمور راجعة إلى محاسنَ زائدة على أصل المصالح الضرورية، والحاجية؛ إذ ليس فقدانها بُمخلٍّ بأمر ضروري، ولا حاجي وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين.
المسألة الثالثة: كل تكملة؛ فلها من حيث هي تكملة شرط وهو ألا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال؛ وذلك أن كل تكملة يُفضي اعتبارها إلى رفض أصلها؛ فلا يصح اشتراطها عند ذلك لوجهين:
أحدهما: أن في إبطال الأصل إبطال التكملة؛ لأن التكملة مع ما كملته؛ كالصفة مع الموصوف فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف؛ لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها، وهذا مُحال لا يُتصور وإذا لم يتصور؛ لم تعتبر التكملة، واعتبر الأصل من غير مزيد.
والثاني: أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية؛ لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت.
وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كُلي، وحفظ المروءات مُستحسن، وحُرمت النجاسات؛ حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات. فإن دعت الضرورة إلى أحياء المهجة بتناول النجس؛ كان تناوله أولى).(1/77)
هذا تمثيل لما سبق أنه لما تعارض في هذا المثال الضروري مع التحسيني؛ اعتبرنا أن الضروري هنا لو لم يُقدِم على أكل النجاسة؛ لهلك فالضروري حفظ النفس. وأما التحسيني الذي هو حفظ المروءة؛ فهذا مستحسن ولكنه غير ممكن في هذه الحالة، فترك الشرع اعتباره، واعتبر الأصل، ولم يعتبر التحسيني الذي هو بمثابة المكمل؛ فلا تقل: لِمَ لَمْ يعتبر التحسيني؟
لأن التحسيني لا يمكن اعتباره إلا بإسقاط الأصل الذي هو حفظ النفس، فآثر الشرع حفظ النفس الذي هو الأصل على حفظ المروءة أو على المصلحة التحسيني.
(وكذلك أصل البيع ضروري ومنع الغرر والجهالة مكمل. فلو اشترط نفي الغرر؛ لانحسم باب البيع، وكذلك الإجارة ضرورية، أو حاجية. واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات. ولما كان ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر؛ مُنِعَ من بيع المعدوم إلا في السلم.)
لما كان بيع الأعيان يعني بيع عين بعين بيع مثلاً الحبوب والثمار بالنقض، أو ما أشبه ذلك لما كان هذا متيسرا؛ اشترطناه، ولما كان عسيرا -كما في السلم-؛ تساهل الشرع فيه وأجاز بيع المعدوم مما هو مكيل، أو موزون، أو منضبط بنقد حال. ولعل هذا يكفي.
- أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
هل يقدح تخلف المصالح في الجزئيات في كونها مقصودة للشارع؟
والسؤال الثاني:
كيف يجاب عن الاعتراض على قصد الشارع لحفظ النفوس بإيجاب القصاص والحدود؟
الدرس التاسع
النوع الثاني
مقاصد الشارع من جهة وضع الشريعة للإفهام
إجابة أسئلة الحلقة الماضية:
السؤال الأول: هل يقدح تخلف المصالح في الجزئيات؟(1/78)
أجابت بقولها: لا يقدح هذا التخلف في أنها غير مقصودة للشارع، فمثلا: القصاص شُرِعَ لإقامة العدل، ثم أجابت قالت: لا يقدح كون إقامة القصاص موجودًا، ولكن يوجد من الناس من يتجاوز ويقتل عمدًا وعدوانًا؛ فيُقتصّ منه، فهذا ليس مخلاً بأصل المقصد الشرعي، وينبغي لنا أن نفرق بين المقصود الشرعي لله -جل وعلا- وبين ما أراده كونًا وقدرًا فمراد الله كونًا وقدرًا قد يختلف عن مراده شرعًا فهو شرعًا يريد حفظ النفوس ويُحِب لنا ذلك، وشرع لنا من الأحكام ما يضمن لنا حفظ النفوس بالجملة، ولا يعني هذا أنه لو قُتلت نفس لاختل هذا المراد، هذه الضروريات والحاجيات تحسينات لا تختل بتخلف المصلحة في بعض الجزئيات، أو عند بعض الأفراد في مثل مصلحة حفظ النسل، حينما نقول: ها هو القصاص يُقام ومع هذا يوجد من يُقتل، هذه هي إجابته.
نعم، هي إجابتها في الجملة صحيحة، تخلف المصالح في بعض الجزئيات لا يقدح في كون هذه المصلحة الكلية مقصودة للشارع. والمثال الذي ذكرته أيضًا يوضح ذلك، فإن وجود من يقتل مع أن الشرع أراد بتشريع القصاص حفظَ النفوس لا يقدح هذا في مقصود الشارع ولا في أن هذا مقصود للشارع. لكن هي كأنها في أثناء كلامها قالت: لأن الجزئيات غير مقصودة للشارع. والواقع أنها مقصودة ونحن ذكرنا أنها مقصودة للشارع لكن قصدها من حيث تستقيم الكليات لا من حيث كل جزئية بمفردها، وهذا نظر دقيق. ربما فات الأخت أو غيرها من المشاهدين المقصود به، يعني أنه حفظ نفس فلان من الناس هي مقصودة للشارع، لكن قصدها من حيث تؤدي إلى حفظ النفوس، أما إذا كان حفظ نفس فلان ستؤدي إلى إزهاق نفوس كثيرة فلا، يعني حينما نقول: لِمَ نقتل هذا المسكين؟ وهو قاتل عمدًا ونحاول أن نمنع قتله؟(1/79)
نحن بهذا نعرض نفوسًا كثيرة للقتل، فحينما يأمر الشرع بقتله هو ليس معناه أن الشرع لا يحفظ النفوس، أو أنه لا يقصد النفوس، حفظ نفس فلان وفلان من الناس، بل هي داخلة في العموم، لكن حينما يتعارض هذا مع حفظ نفوس الآخرين؛ فإنها حينئذ يكون قتلها هو المقصود لتحيى نفوس كثيرة بقتل القاتل وإقامة الحد على المحارب ونحو ذلك.
السؤال الثاني: كيف يُجاب على الاعتراض على قصد الشارع لحفظ النفوس بإيجاب القصاص والحدود؟
أجابت: حفظ النفوس هو مقصد من مقاصد الشارع، وكونه وجد بين الناس من يقتل عمد فيقتص منه لا يخل بالمقصد الشرعي، ولا الحد لبلوغ الفساد، ولكن القتل عدوانًا هو الغالب، فإقامة الحد هو مقصد لحفظ النفوس، والقصاص شُرِعَ لإحياء النفوس الأخرى الكثيرة المعصومة، وهو يندرج تحت القاعدة الكليات لا يمكن المحافظة عليها دون المحافظة على الجزئيات.
هذا كلام جميل. لا يمكن المحافظة على الكليات دون المحافظة على جملة الجزئيات، لا على كل جزئية على حدة، فالجزئيات نقول: هي مقصودة ضمن قصد الشارع لحفظ نفوس الكل وليس على انفراد. هذا هو مقصود الأخت وإن كانت العبارة قد يكون فيها شيء من الخلل، أو من القلق، فلعلها -إن شاء الله- تراجع الحلقة وتسمعها مرة أخرى وأيضًا تقرأ المسائل الخاصة بها أو التي احتوت على جل ما قلناه من كتاب الشاطبي وهي -إن شاء الله- سيتضح لها المراد.(1/80)
نحن –دائمًا- نشكر الإخوة على تواصلهم وأحاول أو أريد أن أقول لهم: ينبغي أن تُسمع الحلقة مرة ومرتين؛ لأن درس المقاصد يحتاج إلى تعقُّل، ويحتاج إلى علوم أخرى تسبقه. فقد يكون بعض الإخوة المشاهدين الذين يتابعون معنا لم يسبق لهم مثلاً أن درسوا شيئًا من علم أصول الفقه، فتصعب عليهم بعض العبارات، فيستغلق عليهم الكلام كله حينما يكون بعض الكلام غير مفهوم؛ فإن بقيته أو جملته تصبح غير مفهومة. ولهذا أنصح بأن يعيدوا الحلقة أو يقرؤوها إذا كانت مفرغة على موقع الأكاديمية في الإنترنت يقرؤونها مرتين وثلاثًا وإن شاء الله سينحلُّ ما يعترضهم من إشكال.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الحلقات الماضية بعد المقدمات، والتعريف ذكرنا تقسيمًا للمقاصد نقلاً عن الشاطبي وهو أن المقاصد على أربعة أنواع. وذكرنا ما يتعلق بالنوع الأول منها وهو: مقاصد وضع الشريعة ابتداءً، فتكلمنا عنه في الحلقات الماضية كان حديثنا عن مقاصد وضع الشريعة ابتداءً. واليوم بإذن الله سننتقل إلى النوع الثاني كما سماه الشاطبي وهو: مقاصد الشارع من جهة وضع الشريعة للإفهام.
ما معنى هذا المقصد؟(1/81)
هو يريد أن يقول: إن الشارع وضع الشريعة لكي يفهمها كل الناس، كل من يُخاطب بها تكون مفهومة له ومعلومة، وبطبيعة الحال أن الشريعة -كما هو معروف- لم تأتِ لتكون ألفاظًا مُعَمَّاةً غيرَ معروفة المعنى، وليست –أيضًا- طقوسًا تُعمل ولا يُدرك عن حقيقتها شيء، وإنما هي جاءت بأمور أكثرها مُعللة -كما قلنا- وجاءت كذلك بألفاظ واضحة لا يجهلها العرب الذين خوطبوا بها. فكل عربي خاطبه النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الشريعة حينما أرسل بها هو يفهم معاني هذه الشريعة، ويمكن بهذا أن نقرر أن الشارع قصد من وضع الشريعة أن تكون مفهومة للناس، بل مفهومة لعامّة الناس؛ لا يقتصر فهمها على المثقفين، ولا على المتعلمين، ولا على الأذكياء. وإنما يمكن أن يفهمها الإنسان العادي إذا كان عارفًا بلغة العرب.
ما الدليل على أن الشارع قصد بالشريعة الإفهام؟
هناك عدة أدلة؛ منها –مثلاً-: أن الله -جل وعلا- يقول: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? [الذاريات: 56] فالقصد من خلق الجن والإنس هو العبادة، والعبادة تكون وفق الشريعة، فإذا لم يفهموا هذه الشريعة؛ كيف يعبدون الله؟!
فلا يمكن لمن لم يفهم الشريعة أن يعبد الله بهذه الشريعة ويتقرب إليه بها.
الأمر الثاني: أن الله قد أخبر، ووعد ووعده حق فقال: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، فلو كانت الشريعة حينما جاءت غيرَ مفهومة للأمّيين وبطبيعة الحال يكون الكلام عن القرآن وعن السنة؛ لأن هذه هي أصول الشريعة وجميع ما عداها هو يرجع إليها. فلو كان القرآن أو كان كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- غيرَ مفهوم لعامة الناس؛ فإن هذا يصبح تكليفًا بما لا يطيقون، كيف يخاطبهم بما لا يعلمون معناه؟ ثم يطالبهم بالامتثال. هذا أمر بعيد.(1/82)
كذلك مما يدل على هذا: أنه لم يَشْكُ أحد من الصحابة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يفهم معاني القرآن، ولم يقل إنه لم يفهم معاني سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فكل من كان في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الرجال والنساء والأذكياء والأقل ذكاءً عموم الناس كانوا يفهمون من الشريعة ما يكفي لهم لتطبيقها والعمل بها. ثم أيضًا لو استقرينا نصوص القرآن والسنة؛ سنجد أنها واضحة وجلِيّة وما يحصل فيه غموض في موضع يُفسّر في موضع آخر ويوضح.
فهذه كلها تدل على أن من مقاصد الشارع في وضع الشريعة أن يفهمها عامة الناس، وأن لا تكونَ خاصّة بصنف معين من الناس وهم الأذكياء مثلاً بحيث لا يفهمها سواهم. وهذا المقصد عندما يتقرر ويتضح في الذهن؛ ستُبنى عليه أمور أخرى في فهم القرآن، وفي فهم السنة وفي تفسير ما جاء عن الله، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفق المعنى الذي يعرفه العرب الذين خاطبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بلسانهم، فنبني على هذا: أن القرآن الذي هو أساس هذه الشريعة عربي، وجاء بلغة العرب والرسول -عليه الصلاة والسلام- كما هو معروف رسول عربيّ، وقد نصّ الله -جل وعلا- في كتابه على أن القرآن عربيّ؛ ?إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا? [يوسف: 2]، وقال: ?وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ? [فصلت: 44] يعني الرسول عربي واللفظ أعجمي؟ أو أن بعضه عجمي وبعضه عربي؟ وقال أيضا: ?بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ? [الشعراء: 195]، وقال: ?لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ? [النحل: 103] ?لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ?؛ أي: يميلون إليه، ويقولون: لعله إنما علمه بحيرة الراهب، أو علمه فلان، أو فلان بهذا.(1/83)
هذه الآيات وما في معناها تقرر عربية القرآن، وهذا يجعلنا نبني عليها قواعد أخرى تعيننا في تفسير القرآن، فنقول: إذا تقرر أن القرآن عربي، وأن الشريعة عربية فيُحمل على ما تعهده العرب في كلامها، وعلى مقتضى ما جرت عليه العرب في أساليبها، ومعلوم أن العرب كانت تتكلم باللفظ العام وتريد به العموم أحيانًا، وأحيانًا تتكلم باللفظ العام وتريد به الخاص كما قال الشافعي في الرسالة، وأحيانًا تتكلم باللفظ العام وتريد به العام لكن مع إخراج بعض أفراده. كذلك كانت العرب تتكلم بالكلام مطلقًا في موضع وتقيده في موضع آخر فيحمل المطلق على المقيد. تتكلم العرب أيضًا بالمترادف بالكلمات المترادفة التي تفيد معنًى واحدًا.
فهذا ينبغي أن يستشعره من ينظر في تفسير القرآن وفي فهمه وإفهامه للآخرين، كذلك العرب قد تطلق -كما قلنا- وتقيد في موضع وقد تقصد المعنى القريب أحيانًا الظاهر، وقد تقصد معنًى بعيدًا لكن لا بد من قرينة حينئذ إذا قصدوا المعنى.
ولهذا عندما كُتِبَتْ العلوم اللغوية فيما بعد؛ أصبحت لها أسماء خاصة ومصطلحات خاصة وقالوا: هذا يُسمّى حقيقة، وهذا يُسمّى مجازا، هذا يُسمى صريحًا وهذا يُسمى كنايةً، جعلوا لها ألفاظًا تخصها لتعليم الناس بها، وإلا؛ فالمعنى كان موجودًا. فالعرب كانوا يتكلمون بالحقيقة وبالمجاز، وإن كانوا لا يسمّون هذا حقيقة وهذا مجاز. لكن قد يقولون: هذا هو المعنى الظاهر، هذا المعنى القريب، وهناك معنًى آخر قد يقصد إليه المتكلم لكن لأجل أن يقصد إليه لا بد أن يضع قرينة، لا بد أن يضع لنا قرينة تدلنا على هذا.(1/84)
هذا التقرير يفيدنا كثيرًا في إبطال كلّ التفسيرات الباطنية التي يزعم أهل الباطل أنها مراد الله وليس مراد الله ما تعرفونه، ولا ما تفهمونه أنتم. فهناك فئة من الناس قد ينتسبون إلى الإسلام وقد لا ينتسبون إليه. ربما قالوا هذه الألفاظ التي تُقرأ الآن وتقرؤونها في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لها معانٍ خفية، فأنتم أهل الظاهر أنتم تأخذون بالمعنى الظاهر، وأما المعنى الباطن؛ فهو الذي أراده الله -جل وعلا- وأنتم لا تعرفونه، فمثل هذه القاعدة التي تبين أن مقصد الشارع من وضع الشريعة أن يفهمنا إياها، لا أن يعمي علينا ويجهلنا ويحيرنا ويجعلنا نقف مشدوهين لا نعرف المراد.
فإذا تقرر أن من مقاصده هذا؛ فلا بد أن يكون ما فهمه الصحابة وما فهمه التابعون ومن جاء بعدهم من المسلمين هو المراد، هو مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-. ولا يمكن أن يُصدّق ما يقوله مَن يزعُم أن المعنى الباطن هو المعنى المراد لله -جل وعلا-، كما يذكرون مثلاً في تفسير بعض الحروف المقطعة التي في أوائل السور بعض التفسيرات التي لا يمكن أن تدل عليها في لغة العرب، فأنت لأجل أن تعرف أن هذا المعنى يمكن أن يكون مرادًا لله -جل وعلا- أو لا يمكن؛ لا بد أن تعرف لغة العرب على حقيقتها، وتعرف أساليب العرب. هل من عادة العرب أن يعبروا بمثل هذا التعبير عن هذا المعنى؟ إن كان الجواب نعم؛ فهذا مقبول، وحينما تتعدد الاحتمالات نرجع إلى تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للآية، أو تفسير الصحابة، والتابعين. ونرجع أيضًا إلى أن ما أُجْمِلَ في موضع قد يُفَصَّل في موضع آخر إما من القرآن، أو من السنة.(1/85)
لكن حينما يكون هذا المعنى لا يمكن أن ينطق العربي بهذا اللفظ ويريد به هذا المعنى؛ فأنت تستبعد هذا وترده من أساسه. فالعرب إذا استعملوا اللفظ الذي وُضِعَ لمعنًى إذا استعملوه في معنًى آخر ليس هو المعنى القريب لا بد أن يكون في سياق الكلام أو في سباقه في أوله أو في آخره أو في وسطه ما يشير إلى المراد، ما يشير إلى ذلك المعنى الذي قصده، ولولا ذلك؛ لكان هذا التعبير إلغازًا، وتعميةً، وتجهيلاً للناس.
وتقريرًا لهذا المقصد قرَّر الأصوليون بعض القواعد مثلاً فقالوا: الأصل في الكلام الحقيقة، حتى يدل دليل على صرفه إلى المجاز، وقرروا أن المجاز لا بد له من علاقة بين المعنى الوضعيّ والمعنى الذي استعمل فيه، وقرروا أن التأويل أيَّ تأويل للفظ الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى بعيد لا يُقبل إلا بشرط أن يحتمله الكلام، أن يكون الكلام يحتمله من حيث استعمال العرب للغة. هل من عادة العرب أنهم يستعملون مثل هذا اللفظ في مثل هذا المعنى أم لا؟ ثم لا بد أيضًا من قرينة أو دليل يدل عليه، فالتأويل لا يُقبل إلا بهذين الشرطين: أن يكون هناك دليل على صحة هذا التأويل، أو قرينة على صرفه من المعنى الظاهر إلى المعنى المؤوَّل إليه، وأن يكون موافقًا للغة العرب، بمعنى: أن العرب يمكن أن يعبروا بهذا اللفظ عن هذا المعنى، وكل ما خرج عن هذا؛ فهو باطل لا يمكن أن يُقبل.(1/86)
وبهذا ردّوا على كثير من أهل البدع، ومن المبتدعة في دعاواهم إما دعاواهم أنَّ المقصود بهذه الآية باطنها وليس ظاهرها الذي تقصدونه حتى أدى ببعضهم إلى أن يتدخل في أمور هي معروفة أنها لا يمكن أن تدل على هذا فإذا به يقول مثلاً الـ"ح" في قوله: "حم" الحاء ترمز إلى حرب عليّ ومعاوية. و?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً? [البقرة: 67]، قال بعضهم: يقصد عائشة. هل من المعقول أن يُعَبَّر بهذا اللفظ؟!! ثم الأمر هذا جاء خطابًا لمن؟ الأمر بذبح بقرة خطابًا لبني إسرائيل، فهم يصرفون هذا المعنى إلى معنًى آخر.
قد يقول قائل: ألا يمكن أن يُعبّر العرب عن المرأة ببقرة؟
نقول: والله ما عهدنا هذا، ولا بد أن يُعهد هذا عند العرب، فلا نعرف أن العرب يعبرون عن المرأة بالبقرة، ولا يوجد في شعرهم -حَسَبَ علمي- ما يدل على ذلك ولا في كلامهم. لكن حتى لو فُرِضَ أنه وقع مثل هذا حتى لو فُرِضَ؛ فأين الدليل؟
لا بد من دليل صارف، لا شك أن هذا التفسير باطل واضح البطلان.
قد ننطلق من هذا أيضًا إلى أمور أخرى معاصرة لكن بعد النقطة الثانية.
الأمر الثاني أوالقاعدة الثانية التي يمكن أن تكون داخلة تحت مقصد وضع الشريعة للإفهام هي: أن اللغة العربية من حيث وضعها للمعاني تنتظم نوعين من المعاني:
المعنى الأول: المعنى الظاهر المعنى الأصلي المباشر الذي يفهمه الإنسان العربي بمجرّد سماعه لهذا اللفظ. فهذا يشترك فيه عامة الناس.
وهناك معنى ثانٍ يُسمّى المعنى التبعيّ. هذا المعنى التبعي لا يغير من المعنى الأصلي شيئًا، ولكنه في بعض الأحيان يزيده تأكيدًا إذا كان المخاطب منكرًا، أو متردّدًا.(1/87)
فمثلاً حينما تقول في لغة العرب: "جاء زيد"، هذا الكلام يُفهم منه أنك تريد أن تخبر بمجيء زيد من الناس. لكن حينما تقول: "قد جاء زيد" هل المعنى هو هو؟ قالوا: المعنى الأصلي موجود، لكن أضيف إليه معنى تبعيّ هو أنه أراد أن يؤكد مجيء زيد، وليس مجرد الخبر. وعندما يقول: "إن زيدًا قد جاء" يكون أيضًا فيه مؤكدات كثيرة، فيه "إن" وهي من المؤكدات، وفيه اسمية الجملة، يعني حينما تبدأ الجملة باسم "زيد" دليل على الاهتمام بالذي أتى، لا بأصل المجيء وإنما بالقادم من هو. والتأكيد أيضًا بـ"قد". فهذه مؤكدات تُعدّ من المعاني التابعة.
وتلاحظ أن المعاني التابعة لا تغير المعنى الأصلي، إنما هي تضيف إليه تأكيدًا تضيف إليه جمالاً تضيف إليه قبولاً لدى السامع، تحببه لدى السامع تجعله مقبولاً، تنبه السامع إلى بعض فوائده.
هذان المعنيان: المعنى الأصلي، والمعنى التبعي هما ما يقصده الشارع في تشريعه، ويستفيد منه العلماء في بيان أحكام الشريعة، وما الذي يكون آكد منها من الآخر وما الذي يجب أن يُعتنى به أكثر.
وهذا الذي يفهمه خاصة الناس يا دكتور؟.
نعم.. هذا المعنى يفهمه يعني المعنى التبعي هذا لا يفهمه إلا خاصة الناس، لكن ما يتعلق به تكليف لاحق، هو مجرد تأكيد، مجرد زيادة، مجرد تحسين للمعنى، وترغيب فيه، أما المعنى الأصلي فالناس فيه سواء ومشترك بينهم.
وهو أغلب القرآن والسنة على ما أعتقد.(1/88)
نعم.. هو القرآن والسنة لها معانٍ أصلية ومعانٍ تابعة؛ المعاني التابعة هذه يحكي الشاطبي فيها خلافًا أيضًا يقول: هل المعاني التابعة هذه يمكن أن يُستنبط منها حكم مستقل أم لا يمكن؟ فهو يذكر خلافًا بين العلماء ويذكر رأي هؤلاء ورأي هؤلاء، ولا نريد أن نخوض في هذا. لكن هو يقول: إن بعض العلماء يقول: إن هذه المعاني التابعة ينبغي أن نستفيد منها؛ لأنها هي داخلة في مقصد الشارع في مدلول كلام الشارع هي تدل عليه من حيث اللغة العربية، هي لا تخرج عمّا قرَّرْناه من أن القرآن عربي، وأن الرسول عربي -عليه الصلاة والسلام-، وأن ما جاء به من قرآن أو سنة يجب أن يُحمل على معهود كلام العرب، هي لا تختلف عن هذه القاعدة الأصلية ولكن نظرا لخفاء بعض هذه الأمور يقول: (وقع الخلاف هل يستفاد منه الحكم أو لا يستفاد منه) فذكر مثلاً: دلالة الإشارة مثلاً، دلالة الإشارة هل يمكن استفادة الحكم منها أم لا يمكن؟ يعني حينما يكون الكلام في موضعين مثلاً ?وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا? [الأحقاف: 15] هذا في آية، وفي آية أخرى يقول: ?وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ? [لقمان: 14].
فالعلماء بعضهم نظر إلى هذا وقال: ما دام الحمل والفصال يستغرق ثلاثين شهرًا والفصال يعني الفطام يكون في عامين، الرضاع يستغرق عامين، إذن مدة الحمل أقلها ستة أشهر، الآيتان لم تساقا لبيان مدة الحمل وإنما سيقت إحداها لبيان أن الحمل والفصال يمكن أن يستغرق ثلاثين شهرًا، والأخرى لبيان أن الفصال يستغرق عامين كاملين.
فجمع بينهما بعض العلماء واستنتج هذه النتيجة، وهي يقبلها العقل، ولا تنبو عنها أفهام العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، لا تنبو عنها أفهام العرب، فلهذا يقول: لم لا نستدل بها على الأحكام؟(1/89)
آخرون يقولون: لا. هذه أمور ليست ظاهرة، ولا واضحة، والشريعة والحمد لله إنما جاءت للإفهام ليفهمها القاصي والداني الذكي وغيره. لكن الجواب عن هذا أن يقال: هم يفهمونها إذا أفهموا، يعني أي عربي أو حتى غير عربي إذا شرحت له هذا يفهم، ليس مستعصيًا عن الفهم، ولا تنبو عنه أساليب العرب.
هذا التقسيم لمعاني اللغة يتبين لنا منه أن مقصود الشارع، يعني تبين لنا مقصود الشارع في تعدد الأساليب، يبين لنا ما هو المقصد في تعدد أساليب القصص القرآني.
فتجد القصص القرآني يُساق في أكثر من موضع؛ في موضع يُساق بعبارة وفي موضع آخر يُساق بعبارة أخرى وهذا حَسَبَ المقام الذي سيق فيه؛ لأنه في موضع مثلاً قد يُراد التركيز على جانب من القصة؛ لأنها هي المقصودة بالاعتبار، ثم في موضع آخر من القرآن يتم التركيز على جانب آخر من القصة؛ لأنها هي التي قُصِدَت بالاعتبار في هذا الموضع.
فإذا تأملنا تلك القصص واستحضرنا في أذهاننا أن العرب لها معانٍ مقصودة ظاهرة أصلية، ومعانٍ تابعة هي لا تتعارض مع المعنى الأصلي وإنما هي كالمحسنات له، إذا استحضرنا هذا نستطيع أن نستفيد من القصص القرآني كثيرًا من العِبَر. وأهل الوعظ والدعاة يمكن أن يستفيدوا كثيرًا من هذه الأساليب؛ ليبينوا عظمة هذا القرآن وليبينوا عظمة هذا الدين، لإقناع من في قلبه تردد أو في قلبه شك، وما أشبه ذلك.
أيضًا من المقاصد المهمة التي ينبغي أن نحصل عليها أو نعرفها تبعًا لهذا القصد الرئيس:
أن من مقاصد الشارع أن يُحمل كلامه وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- على معهود كلام العرب الأميين. والشاطبي يُعبر عن هذا بعبارة؛ يقول: هذه الشريعة حرسها الله، أو هذه الشريعة المباركة شريعة أمّية. وحينما يسمع بعض الناس هذا الكلام ربما يغضب ويقول: لماذا يريد أن يجعلنا أميين إلى الأبد؟(1/90)
صحيح أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان أمّيًّا وكان لله حكمة في جعله أميًا حتى لا يُدَّعى أنه زاد في القرآن أو زاد في الشريعة أو أنه يأتي بهذا الدين من عنده نفسه.
لكن الآن الأمة تعلمت وخرجت من طور الأمية فلماذا يلازمنا ويلاحقنا هذا الوصف إلى الأبد؟!
لكن مراد الشاطبي من هذا هو كما بينه في أثناء كلامه هو يريد أن يقول: إننا في تفسيرنا لكلام الشارع سواءً كان قرآنًا أو سنة ينبغي أن لا نتجاوز به معهود الأميين، يعني لا نحمل كلام الله وكلام رسوله على ما لا يعهده الأميون. الشاطبي يتكلم عن القرآن أو كما يظهر من كلامه هو لا يخص آيات التكليف مثلاً والأمر والنهي وما يتبعه، وإنما يتكلم بصفة عامة، هذا الكلام ليس بالضرورة أن نتفق معه عليه، لكن نأخذ منه ما نرى أنه محل وفاق بين العلماء وهو ما يتعلق بالأمر والنهي والتشريع، ما يتعلق بالأمر والنهي وإقامة شرع الله هذا كله يجب ألا يتجاوز به معهود الأميين ولا يمكن أن يكلفوا بما لا يفهمه عامة الناس. لا يمكن أن نقول: هذا تكليف من الشرع وهو يعجز عن فهمه وليس الكلام الآن في القدرة على الإتيان به وإنما عن فهمه، هناك أمر يتعلق بالفهم وهناك أمر يتعلق بالقدرة على الامتثال، وهذا سيأتينا في المقصد الثالث.(1/91)
لكن هنا نقول: ليس هناك في الشريعة؛ الإسلامية لا في مجال الاعتقاد ولا في مجال العمليات، الأمور العملية ما يعجز الإنسان العادي العامي عن فهمه وإدراكه، وإذا وُجد شيء من ذلك يظن بعض الناس أنه كُلِّفَ به؛ فليعلم أنه ليس داخلاً في التكليف، ففيما يتعلق بالتشريع نحن نتفق مع الشاطبي فيما عدا ذلك من آيات القرآن أيضًا الشاطبي يقول: "ينبغي ألا تحمل آيات القرآن الكريم إلا على معهود الأميين"، فيقول القرآن ليس كتابًا متخصصًا مثلاً في علم الطبيعيات، ولا في الرياضيات، ولا في علم الحساب، ولا في المنطق، فلا تحاولوا أن تفسروا شيئًا من آيات القرآن بما يقرره أصحاب هذه العلوم، يعني خلاصة كلام الشاطبي هو يريد أن يقول هذا، ثم قال هناك نعم، يعني عرف أنه قد يُعترض عليه هناك آيات فيها إرشاد طبي فيها إرشاد اقتصادي فيها.. فقال: نعم هناك أمور كان العرب لهم بها عناية، فالطب مثلاً العرب لهم به شيء من العناية، وعلم النجوم، علم الفلك، يقول أيضًا به عناية، البلاغة ضرب الأمثال، الحكم، الأخلاق، هذه العلوم يقول: يمكن أن تفسر بعض آيات القرآن ببيان شيء من قواعدها وببيان ما جاء فيه منها.(1/92)
أما العلوم الباطلة فالقرآن قد جاء بذمها مثل العيافة، ومثل الكهانة، والسحر وغيرها فقد جاء القرآن والسنة بذمّها. وأما ما عدا ذلك من العلوم؛ فقال: القرآن لم يتعرض لها، ولا يمكن أن تضاف إلى القرآن أو يُفسر القرآن بها، ومَثَّلَ هذا بعلم الطبيعيات والهندسة وعلم الحروف، والمنطق ونحو ذلك ويقول: إن دليلي على ذلك هو أنه لم يفسّر أحد، لم يفسر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من الصحابة شيئًا من آيات القرآن بهذه المعاني البعيدة عن فهم الأميين، والله تعالى يقول: ?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ? [الجمعة: 2]، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- أُمِِّيّ وبُعِثَ إلى أُمَةٍ أُمية وقال: (نحن أمة أمية؛ لا نكتب، ولا نحسب الشهر وهكذا وهكذا وهكذا) فليس معنى هذا أننا لا نتعلم وإنما نقول: المقصود بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (نحن أمة أمية) ليس المقصود به: أننا ينبغي أن نبقى كذلك، وإنما المقصود به: أن نلتزم في تفسيرنا لكلام الله وكلام رسوله وحملنا له على المعنى الذي يعهده العرب في عهد الرسالة، وألا نزيد على ذلك، ويذكر أدلة على هذا لكن هناك وجهة نظر أخرى طبعًا كلام الشاطبي هذا إذا أُخِذَ على ظاهره؛ سيرد أكثر ما يُقال عنه اليوم بالتفسير العلمي للقرآن، وإن لم يكن كله؛ فأكثره.
وهو الإعجاز العلمي يا شيخ.(1/93)
يعني ما يتعلق بالتفسير العلمي وبيان الإعجاز في القرآن كثير منه هو يتعلق بعلوم العرب ليست لهم بها عناية، فلو أُخِذَ كلام الشاطبي على ظاهره سيرد هذه العلوم كلها. لكن غيره قد يخالفه في هذا، ويقول: نحن نوافق مثلاً على ما يتعلق بالتشريع بالأمر والنهي، أنه لا يجوز أن نتجاوز به معهود الأميين، حتى لا نكلفهم ما لا يطيقون، وحتى لا نتهم الصحابة بأنهم ما فهموا الشريعة فهمًا صحيحًا؛ لأننا لو قلنا: إن هذا المعنى الذي فهموه ليس هو مرادَ الله -جل وعلا- ولا مراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- يكون هذا تجهيلاً للصحابة واتهامًا لهم بقصور النظر وعدم فهم الكتاب والسنة.
كأن نقول: هو يضاف له يا دكتور.
لكن إذا قلنا: إن ما يتعلق بآيات الكون، وما يتعلق بالآيات التي فيها تذكير بعظمة الله، ومدى قدرته، هذا ما الذي يمنع من أن الصحابة فهموا منه في وقتهم فهمًا صحيحًا واغترفوا من هذا المعين الصافي ما أحاطت به عقولهم، ومن جاء بعدهم تَكَشَّفَ له نواحٍ أخرى في القرآن معجزة، ونحن جميعًا متفقون على أن القرآن أعظم معجزة جاء بها النبي -عليه الصلاة والسلام-.
فإذا كان الصحابة أهل بيان وأهل بلاغة وانبهروا من بلاغة هذا الكتاب، ولم يستطيعوا أن يأتوا بشيء من مثله مع.. بل الذين ناوؤا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووقفوا في وجهه من أهل عصره ما استطاعوا أن يأتوا بشيء من مثله، فأما الصحابة -رضوان الله عليهم- فنحن نعرف أنهم لا يفكرون في هذا لقناعتهم بأنه لا يمكن أن يأتي بَشَرٌ بمثل ما جاء به الله -جل وعلا- مثل كلام الله -جل وعلا-.
وحينما نقول: إن هذا المعين الصافي وكونه جاء بعبارات عامة، وعبارات كُلية هذا مقصود فيه الدوام والبقاء إلى الأبد، فكُلٌّ يغترف منه، كل يفهم منه من السلوك والأخلاق وأيضًا العلوم الطبيعية، والعلوم الطبية الأخرى، ونحوها. ما الذي يمنع أن نستفيد منه؟(1/94)
أنا أقول: لا ينبغي أن نقفل هذا الجانب بزعم أن الشارع لم يقصد أن يفهم العرب هذا الفهم. ونقول: الله -جل وعلا- خاطب العرب بما يفهمونه، وهم فهموا منه معنًى صحيحًا ليس معنًى خاطئًا، بل فهموا منه معنًى صحيحًا وكان كافيًا لهم لأن يدخلوا في هذا الدين طواعيةً وأن يكونوا جنودًا له أوفياء. فما الذي يمنع أيضًا أن نستفيد نحن من بعض الآيات التي طبعًا هي لا يتعلق بها تشريع بمعنى أمر ونهي، لا يتعلق بها أمر ونهي وإنما يتعلق بها بيان فضل هذا الدين، وبيان ميزة هذا القرآن، إعجاز هذا القرآن، ما الذي يمنع من هذا؟ ولنعدها من المعاني التبعية، يعني لماذا لا نستفيد من هذه العلوم الحديثة في فهمنا؟
فالجواب عن هذا: أن الذي يظهر أنه لا مانع من ذلك، لكن لا بد أن نكون دقيقين؛ فلا نقول: إن هذا هو مراد الله، ولا نجزم بكونه مرادًا لله، لماذا؟
لأن أكثر هذه العلوم التي نستعين بها الآن ونقرأ القرآن ونحن متشبعون بها لنبحث عمَّا يؤيدها، ربما تكون هذه النظرية بعد فترة يأتينا من يقول: هذه تبين أنها نظرية خاطئة، وأن النظرية الصواب هي كذا وكذا. فالعلوم التي ما زالت لم تكن حقائق لا ينبغي أن ننسبها إلى القرآن، وينبغي أن نكون حذرين فيما ننسبه للقرآن ولا نقول إن القرآن دَلَّ على ذلك، ولكن نُعبّر بالعبارة المناسبة، نقول: القرآن أشار إلى هذا لا مانع من هذا، يعني القرآن لا يُكذّب هذه النظرية لا يرد هذه النظرية. لكن لا نقول: إن القرآن يؤيد هذه النظرية لاحتمال أن تكون هذه النظرية بعد فترة يأتي ما ينقضها، وهذا أقوله في الأمور النظرية التي لم تصبح حقائق علمية مشاهدة بالعين المجردة وملموسة، فينبغي أن يكون المشتغلون بالتفسير العلمي للقرآن، وبالإعجاز وهم كذلك -إن شاء الله-؛ لأنهم نعرفهم هم رجال أخيار ولهم عناية بهذا الجانب، يعني ينبغي أن نكون دقيقين فيما ننسبه للقرآن.(1/95)
هذا لا يمنع من أننا نقول: إن كلام الشاطبي هذا -سبحان الله- كأنه يرد على بعض المفسرين ليسوا بعد معاصرين يعني يمكن قبل قرن من الزمان أو ما يقاربه، وجدت هناك بعض كتب التفسير التي إذا فتحتها كتاب "الجواهر" مثلاً لـ"طنطاوي جوهري" حينما تفتح الكتاب؛ تجد فيه لا تقول هذا كتاب تفسير، وإنما تجده كتابًا علميًّا من الكتب العلمية، ورسومات وإشارات وأحيانًا ربما جزم بأن هذا هو المراد، وهو اجتهد لتحبيب الناس إلى الدين وتقريبهم منه، لكن لا ينبغي المبالغة، يعني ينبغي أن نكون حذرين ولا نبالغ في كل جزئية. كذلك كلام الشاطبي يمكن أن يستعان به في ردّ ما يقال من هذه الحسابات التي يحسبها بعضهم وأنا حسبت أحرف القرآن مثلاً فصارت كذا، وتبين أنها عددها كذا، وأنها إذا قسمتها على تسعة عشر يطلع كذا، وإذا قسمته على... يعني انظر لا يتعلق بها عمل وإنما هي تكلف محض ينبغي أن نبعد عنه كتابَ الله -جل وعلا- الذي نزل بلغة عربية فصيحة ظاهرة، وألا نُحمّله ما لا يحتمل، هذه بعض القواعد المتعلقة بالمقصد الثاني أو بالنوع الثاني من مقاصد التشريع ولعلنا قبل انتهاء الحلقة نقرأ...
يقول: هل هناك كتاب تفسير اعتنى بالمقاصد؟.(1/96)
كتب التفسير كثير منها يعني يذكر ذلك ولكنه لا يُعَنْوَنُ لها بأن هذه هي مقاصد وإنما تُذْكر في أثناء الكلام يعني يذكر منها، يعني إذا أخذت التفاسير القديمة مثلاً تجد فيها أيضًا إشارات لهذا، إذا أخذت تفسير مثلاً الطبري إذا أخذت تفسير ابن العربي إذا أخذت تفسير القرطبي تجد فيها إشارات إلى علل الأحكام وأنه لماذا أمر الشرع بهذا؟ ولماذا نهى عن هذا؟ لكن لا يفردونها ولا يعطون أيضًا المقاصد العامة عناية خاصة ويبرزونها، وإنما إذا شرح الآية قال: هذا يدل على أن الشارع قصد بهذا الحكم كذا مثلاً، أو أن علة الحكم قد يعبر عنها بالعلة وقد يعبر عنه بالمقصد. يوجد أيضًا بعض التفسيرات التي مثل تفسير الآلوسي كذلك يعتني بمثل هذه الأمور، قد يكون المحدثون هم الذين كتبوا في التفسير في العصر الحديث مثل تفسير الشيخ ابن سعدي وغيره، قد تجد فيه أيضًا إشارات إلى مثل هذه المقاصد وأما يُفرد لها أو تُجمع الآيات التي تتفق على بيان مقصد معين في موضع واحد فلا أعرف أنهم فعلوا شيئًا من ذلك.
أسئلة الدرس:
السؤال الأول: ما الدليل على أن الشارع قصد من وضع الشريعة إفهام المخاطبين بها؟
السؤال الثاني: ما الذي نستفيده أو يمكن أن نبنيه على قولنا: إن الشارع خاطب العرب بما يعرفونه وبلغتهم؟
الدرس العاشر
القواعد المتفرعة عن مقصد وضع الشريعة للإفهام
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/97)
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: قال من الدلائل قوله تعالى: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? [الذاريات: 56]، وهذا إفهام بأن الغاية من الخلق هي عبادة الله ولا تتحقق إلا بفهم كيفية تحقيقها. والعبادة تكليف والعبد لا يكلف بما هو في وسعه؛ لقوله تعالى: ? لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ? [البقرة: 286]؛ أي ما كلفت به فهو بوسعها. والله أنزل القرآن بلسان عربي مبين لكي يفهمه العرب، ومن يتكلم بلسانه. والرسول أيضا عربي يتكلم بلسان قومه وذلك لإفهامهم لقوله تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ? [الرعد: 4]، ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [النحل: 44]، وقال تعالى: ? قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ? [الإسراء: 95].(1/98)
جواب السؤال الأول هو يعني جواب سليم وكان المقصود منه فقط هو ذكر بعض الأدلة على صحة هذا النوع من المقاصد وقد ذكر الأخ عليه دليليْن واضحيْن؛ أحدهما: أن الله قد خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? [الذاريات: 56]، ومعلوم أن العبادة لا تكون إلا وفق ما شرعه الله. فلو كان فيما شرعه الله ما لا يفهمونه؛ فإنهم لا يمكنهم الامتثال ولا يمكنهم العبادة. كذلك الآية الأخرى التي دلّت على وهي قوله تعالى: ? لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ? [البقرة: 286] فإنها تدل على أن الله لا يمكن أن يكلف عباده بما لا يدخل تحت وسعهم. فهذا يدل على أن ما جاءت به الشريعة هو مفهوم لهم لأنه لو لم يكن مفهوما؛ ما استطاعوا أن يطبقوه وما استطاعوا أن يعملوا به. هذا طبعا بالإضافة إلى استقراء موارد الشريعة فإنها كلها والحمد لله هي من هذا القبيل.
الإجابة الثانية للأخت جواب الثاني: الذي نبنيه من قولنا
لأننا طلبنا بعض القواعد التي تبنى على هذا الأصل.
الذي نبنيه من قولنا أن الشارع خاطب العرب بلغة يفمهمونها أن القرآن الذي هو أساس هذه الشريعة عربيّ جاء بلسان العرب والرسول -صلى الله عليه وسلم- عربي، ونص القرآن على أن القرآن عربي قوله تعالى: ? إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ? [يوسف: 2]، وقوله: ? وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ? [فصلت: 44]، أنا أطلب من الأخت أن تتأكد من نصوص الآيات خصوصا هذه الآيات تقرر عربية القرآن عربي وأن القرآن عربي وأن الشريعة عربية.(1/99)
هذه من القواعد التي ذكرناها وهي أيضا هناك قواعد أخرى لعل ذكرها بعض الإخوان. ولعلنا الآن نذكر بشيء منها في هذا الدرس قبل أن ننتقل إلى قراءة النص الذي تأخرنا الحقيقة في قراءته. اليوم -إن شاء الله- سنستكمل بعض القواعد ونعيد بعض ما ذكرناه بالأمس باختصار، ثم ننتقل إلى قراءة ما كتبه الإمام الشاطبي -رحمه الله-.
استكمالا لما قلناه بالأمس يعني بالأمس ذكرنا أن النوع الثاني من أنواع المقاصد هو مقصد وضع الشريعة للإفهام يعني ليفهمها الجميع، وذكرنا أدلة على ذلك، ثم ذكرنا بعض القواعد التي يمكن أن تتفرع على هذا وتبنى عليه، ومنها أن القرآن والسنة عربيّان؛ فيجب لمن أراد فهمهما أن يعرف لغة العرب، وأن من لا يعرف اللغة لا يمكنه أن يعرف معاني القرآن والسنة على التمام والكمال.(1/100)
كذلك عرفنا أن اللغة العربية لها نظران من حيث معانيها؛ نظر إلى المعنى الأصلي، ونظر إلى المعنى التبعي، وعرفنا أنه لا تناقض ولا تضاد بين المعنيين وإنما المعنى الأصلي يدركه عامة الناس، والمعنى التبعي ربما لا يتفطن له إلا القلة منهم. وهذا المعنى التبعي هو ليس فيه ما يضاد المعنى الأصليّ ولا يعارضه وإنما هو توكيد له أو عرض له أو يعني بيان لبعض الحكم الدقيقة التي لا يترتب على عدم معرفتها ترك العمل، أو عدم فهم التكليف وإنما يكون التكليف في جملته واضحا ومفهوما. ولكن من أحاط بهذه المعاني التبعية فإنه يكون أكثر قدرة على بيان محاسن الإسلام وأكثر قدرة على الدعوة إليه، وقد يكون يقينه أعظم حينما يعرف هذه الحكم الدقيقة وهي لا تعرف إلا بمعرفة المعاني التبعية. وهذا الكلام قد نقول إنه يجري فيما يتعلق بالمقاصد. فالمقاصد كثير من عامة الناس لا يدركها، ولا يلزمه إدراكها لأنها مطلوبة للمجتهدين ليست لعامة الناس لكن من أدرك المقاصد أو بعضا منها من عامة الناس؛ ازداد بها طمأنينة وازداد بها يقينا وأمكن أن يستفيد منها في نشر الإسلام والدعوة إليه وبيان محاسنه، ومن غفل عن شيء منه؛ فإن هذا الأمر سيفوته ولا شك.
أيضا مما ينبني على هذا أن القرآن لا يمكن ترجمته ترجمة كاملة تستوعب جميع معانيه. وإنما ما يظهر من ترجمات هو مجرد تفسير للمعاني الظاهرة الأوّلية التي يدركها كل أحد. أما بقية المعاني التي لا يعرفها إلا الفصحاء، والبلغاء من العرب؛ فهذه لا يمكن ترجمتها للناس ترجمة تأتي على كل المعاني. والشاطبي يقرر أن القرآن لا يمكن ترجمته لأجل هذا المعاني التابعة لا يمكن أن يترجم القرآن لأن الترجمة ستأتي على المعاني الأصلية الظاهرة لكن هذه المعاني التابعة لا يمكن أن يوجد لغة أخرى تؤدي هذا المعنى التابع تأدية كاملة.(1/101)
أيضا من القواعد التي تتفرع على ما ذكر أن الله لم يخاطب العرب بما لا معنى له، ولا بما يعجزون عن فهمه. لم يخاطبهم بما لا معنى له ولا بما يعجزون عن فهمه فيما يتعلق بالتكليف والتشريع من أمر ونهي وإباحة فهذا لا يمكن أن يخاطبهم بذلك. وهذه المسألة تكلم عنها الأصوليون حين كلامهم عن القرآن، وهل في القرآن شيء لا يعرف معناه، وبعضهم أساء في ترجمتها حينما عنون لها فعنون لها بأنه هل في القرآن ما لا معنى له؟ ثم حكى خلافا. والواقع أنه لا خلاف بينهم في أن القرآن ليس فيه ما لا معنى له. وإنما اختلافهم هل في القرآن شيء لم تعرف العرب معناه؟ هذا هو خلافهم. فبعضهم قال نعم، وبعضهم قال لا. والشاطبي -كما هو واضح- يقول ليس في القرآن شيء لا تعرف العرب معناه بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك ويقول: كل معنى لا يعرفه العرب الذين خاطبهم الله بالقرآن لا ينبغي أن نحمل ألفاظ القرآن.(1/102)
ونحن عرفنا بالأمس أن الأمر ينبغي أن يفرق فيه بين ما يتعلق بالتكليف وبين بقية الآيات التي تتعرض للكون وقدرة الله -جل وعلا-، وتصريفه للأمور. ففيما يتعلق بالتكليف كله مفهوم ولا يخفى منه شيء. نعم، قد يخفى على بعض الناس، ثم إذا وضح له وبين له؛ فهمه يعني لا يعجز عن فهمه. ولاحظوا الفرق بين أنه لا يعرفه وبين أنه لا يعجز عن فهمه. نحن نقول إنه لا يعجز عن فهمه يعني نحن نقول لا يعجز عن فهمه ولا يقصر إدراكه عن فهم هذا المعنى. ليس معنى هذا أن الناس سيكونون سواء في فهمهم لنصوص القرآن. فلا شك أن هناك من هو أعلم بالقرآن من الصحابة من بعض فالصحابة فيهم العلماء وفيهم العامة. والعلماء على مراتب وعلى درجات وليسوا على مرتبة واحدة في الفهم والإدراك. ولكن هذه المعاني التي قد لا يتفطن لها العالم لأول مرة إذا نُبّهَ لها؛ انتبه لها وأدركها وهي تكون واضحة. وليس معنى هذا أنه سيعرف ما في القرآن كل أحد وإنما المقصود أن ما في القرآن من معانٍ هو مما يدخل تحت إدراك العرب ومن السهل عليهم فهمه وإدراكه. ثم وهم مجتمعون لا يمكن أن يشذ عنهم شيء مما في القرآن لا يعرفون معناه على الإجمال.(1/103)
أيضا من القواعد أن كل ما يعجز عامة الناس عن فهمه لا يمكن أن يتعلق به تكليف. وأما ما عدا ذلك -كما قلنا- من آيات الكون فكلام الشاطبي قد يفهم منه أن هذا لا ينبغي أن يحمل عليه القرآن ولا ينبغي أن يفسر القرآن به. وذلك لأنه لم يكن معهودا للعرب الأميين الذين نزل القرآن بلغتهم مع أنه ذكر أنهم لهم علم ولو كان يسيرا بشيء من العلوم فما يتعلق بهذه العلوم وجد في القرآن شيء من هذا. وأما ما عداها فيقول لا ينبغي أن يحمل شيء من القرآن عليه. أما غير الشاطبي قد يقول لِمَ لا نستفيد من هذه الآيات الكونية التي فيها بيان لعظمة الله ونستفيد منها في مجال الدعوة إلى الله كما هو الحال معمول به الآن عند هيئة الأعجاز مثلاً وغيرهم من المشتغلين بالنظر فيما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن؟ ونحن ينبغي أن يكون الموقف واضحا من التفسير العلمي للقرآن وهو أن ما لا يتعارض مع نصوص الكتاب الأخرى، ولا مع السنة وما لا ينبو عنه فهم الإنسان العادي يمكن أن يوجد في القرآن وبكثرة. أما الذي لا يدركه إلا الخواص؛ فهذا يكون في الآيات الكونية ويمكن أن نستفيد منها لكن مع الدقة في العبارة في أن لا نَحمل آيات القرآن ما لا تحتمله، ونزعم أنه هو مراد الله، ونجزم بذلك. بل نقول قد يكون المراد كذا. هذه الآية لا تتعارض مع ما اكتشفه العلم الحديث من كذا وكذا. وأما أن نجعل هذا حقيقة مراد الله -جل وعلا- جزما؛ فهذا فيه نظر إذا عرفنا ما قلناه قبل هذا في الدرس الماضي من القواعد.
كذلك عناية المشتغلين بتفسير القرآن الكريم وشرح السنة بالمعنى الكلي ينبغي أن تكون أكثر. هذه من القواعد أن نعتني بالمعنى الكلي للآيات ولا نعتني بالمعنى الجزئي على حساب المعنى الكلي. كيف هذا؟
يعني لا ندقق في كل لفظ على حدة، وماذا يراد منه وننسى المعنى الإجمالي الكلي. لماذا؟(1/104)
لأن العرب كان من أساليبهم أنهم يهتمون بالمعنى الكلي للنصوص ولا يهتمون كثيرًا بالجزئيات. ولهذا كان الصحابة يكرهون التقعر في السؤال عن بعض الجزئيات الموجودة في القرآن مثلاً السؤال عن بعض الأسماء؛ لأنها لا يتعلق بها عمل ولا يتعلق بها تكليف. ولهذا تجدون القرآن في قصصه لا يتعرض كثيرًا للأسماء ونادرا ما يتعرض للأسماء وإنما تعرض لها بعض المفسرين، وأخذوها من الإسرائيليات وهي ليست مجزوما بها. وإنما قد تكون صحيحة وقد لا تكون صحيحة.
مثل: امرأة فرعون ما اسمها؟ ما اسم عزيز مصر الذي كان في عهد يوسف؟ وأصحاب الكهف ما أسماؤهم؟
هذه كلها أمور لا يتعلق بها غرض ولا يتعلق بها تكيف ولهذا لم يسمها الله -جل وعلا-. وكان عمر بن الخطاب مما أثر عنه أنه قرأ قوله تعالى: ? وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ? [عبس: 31]، ثم قال ما الأب؟ ثم قال: وما يضر عمر إذا لم يعرف ما الأب، ما كلفنا هذا. ورُوي أنه سئل عن هذا. أنه سأله سائل وقال له: ما الأب؟ فقال: نهينا عن التعمق والتكلف. الآية في مجملها معروفة أن الأب شيء من مخلوقات الله هل هو الكلأ والمرعى أم غيره. الأمر في هذا يسير حينما تأخذ الآية في سياقها يكون المعنى العام مفهوما. فلا تتقعر في كل جزئية لتسأل عن المراد منها ما دام المعنى العام مفهوما. هذا هو مقصود هذه القاعدة ولكن حينما تكون اللفظ الجزئي ينبني عليه فهم المعنى الكلي؛ فإن هذا مطلوب البحث عنه سواء في المعاجم اللغوية، أو في غيرها من لغة العرب. ولهذا عمر سئل عن معنى قوله تعالى: ? أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ? [النحل: 47].
فتوقف في هذا حتى قال رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقّص؛ أي نقص الشيء شيئا فشيئا، ثم أنشد قول الشاعر:
تخوف الرحل منها تامكا قردا *** كما تخوف عود النبعة السفن(1/105)
ومعنى البيت يعني إجمالا دعونا نطبق هذا على معنى البيت حتى لا ننظر في الجزئيات في كل كلمة على حدة فنقول البيت يعني أن كثرة الحمل على الناقة وكثرة الرحل أفقدها سنامها شيئا فشيئا أصبح سنامها ينقص شيئا فشيئا كما ينقص عود النبعة عندما يضربه وينقحه النجار بالقدوم، أو غيره من آلات التعديل والتسوية التي يستخدمها النجّار. فهذا هو المعنى.
فعمر لم ينكر على من سأل عن هذا لأنه يعرف أن هذا ينبني عليه المعنى الإجمالي. فأحيانا المعنى الإجمالي ينبني على معرفة الجزئية أما حينما يكون المعنى الإجمالي معلوما؛ فلا يطلب التقعّر. وقد روي عن عمر أنه ضرب طبيعا حينما كان يسأل عن بعض الأمور بعضهم قال إنه كان يسأل عن أمور في الاعتقاد وفي الصفات أو في القدر أو في البعث والجزاء. ضربه حتى لا يعاود هذا. وبعضهم قال كانت أسئلته يقول: ما معنى المرسلات؟ ما معنى العاصفات؟ كان عمر أيضا يقول ما الذي يهمك من هذه الجزئيات؟ أنت عليك من المعنى الكلي. هذه القاعدة ينبغي أن نستفيد منها في عدم الانصراف إلى الجزئيات على حساب الكليات.(1/106)
أيضا من القواعد المهمة أن التكاليف الاعتقادية العملية لا تكون إلا فيما يَسَع عامة الناس فهمه وإدراكه وتعقله. فإذا وُجد من الأمور ما لا يتعقله عامة الناس؛ فاعلم أنه ليس مطالبا به كل الناس فهو إما غير مطلوب بالكلية، أو أنه مطلوب ممن أدركه، وترك الأمر فيه على قدر نصيب الناس من الفهم والذكاء، وما أوتي من العلم، ومن الثقافة. فهذا يشمل التكاليف الاعتقادية، ويشمل التكاليف أيضا العملية. أيضا عندنا بعض الأدلة الدالة على أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان ينهى عن التدقيق في بعض مسائل الاعتقاد، ومنه أنه قال: (لم يبرح الناس يتسألون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء؛ فمن خلق الله؟!). يعني حينما يندفعون إلى النظر في التدقيقات هذه ربما يجرهم هذا إلى نتيجة غير مرضية. وورد أيضا عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه خرج على الصحابة ووجدهم يتكلمون في القدر ويتنازعون في بعض الآيات التي فيها كلام عن القدر، قال الراوي فكأنما تفقأ في وجهه حبّ الرمان يعني من الغضب، احْمَرَّ وجهه من الغضب، وقال: (أبهذا أمرتم؟! أَوَمَا نُهيتم عن هذا؟!). فمثل هذه الأمور ينهى عامة الناس عن الخوض فيها؛ لأنها مزلة قدم، وقد يقول فيها الإنسان ما لا يوافق الحق، فيضل. لهذا كان الصحابة والتابعون لم يشتغلوا بالبحث والتدقيق في هذه الأمور، وإنما دخل الناس فيها فيما بعد؛ إما بمقتضى ثقافاتهم وتأثرهم بثقافاتهم السابقة قبل أن يدخلوا في الإسلام لأنهم لم يكونوا عربا، فدخلوا الإسلام فنقلوا معهم تلك الثقافات وتلك العلوم، وأرادوا أن يسقطوها على آيات القرآن وأن يفسروا بها آيات القرآن فتصادم بعضها مع بعض.(1/107)
وإما أن يكون الذين تكلموا فيها هم ممن أرادوا الردّ على هؤلاء ودفع ما جرُّوا الناس إليه وما وقعوا فيه من الخطإ، فأدى ذلك إلى أن يناقشوهم، ويردوا عليهم بمثل لغتهم، وبمثل ما تحدثوا به، وأصبح عندنا هذا الكم الهائل مما يسمى بعلم الكلام الذي أخطأ فيه كثير ممن خاضوا فيه، وقلَّ من خاض فيه وسلم. هذا يعني لعله كاف اليوم فيما يتعلق بهذه النقاط، ثم نقرأ في الكتاب.
قبل القراءة يا دكتور في الكتاب عندي مجموعة من الأسئلة
تتعلق بالموضوع؟
تتعلق بالموضوع تقريبا: الأخ يقول:
هل استفاد الشاطبي من الإمام ابن تيمية؟ وهل ثبت ذلك؟
لا شك انه استفاد ممن سبقه من ابن تيميه، وغيره وهذا ديدن العلماء فهو في مواضع كثيرة يوافق ابن تيمية، لكنه في مواضع أخرى يخالفه. يعني لا نقول إنه تلميذ لابن تيمية بمعنى أنه يأخذ كلامه ويردده أو يشرحه. لا، هو وافق ابن تيمية في كثير من المعاني؛ ومنها كلامه عن المقاصد، كلامه عن العموم الكلي في الشريعة وأنه أهم من العموم الوضعي. هو وافق ابن تيمية على هذا وفي ذمه للبدع، وله موافقات كثيرة والقاسم المشترك بينهما أن كل منهما نحسبهم -إن شاء الله- كذلك أن كلا منهما ديدنه الحق، ومنهجه اتباع الكتاب والسنة، وإتباع الدليل لكن الخطأ يحتسب أيضا.
هو يعترض بسؤال آخر يقول إذا كانت أهم وسيلة هذا السؤال الثاني في معرفة المقاصد هو الاستقراء فما بال الشاطبي مثلاً وغيره من الأشاعرة يخرجون عن الجادة في مبحث الصفات مع كونها مما تواترت النصوص في إثباتها في آلاف النصوص مع ما نقل من الإجماع عن السلف في ذلك مثلاً صفة الاستواء أكد الله تعالى عليها، ورسوله، والصحابة فنراهم يتقعرون في تحريف المعنى؟(1/108)
أما الشاطبي أنا ما أوافق على وصفه بما ذكر صحيح أنه وافق الأشاعرة في مسائل؛ في "الموافقات"، وفي غيرها. لكن ليست الموافقة موافقة في أصل المنهج، وإنما الإنسان قد يخطئ وما في عالم إلا وقع في شيء من الخطإ وكل يؤخذ من قوله ويرد فليس من العدل أن كل من أخطأ في جزئية من جزئيات الاعتقاد، أو كما نظن نحن أنه أخطأ، كل من أخطأ في جزئية من جزئيات الاعتقاد؛ نسبناه إلى فرقة. أنا اطلعت على بعض الكاتبين الذين كتبوا عنه وكتبوا.
هو يا دكتور هو وافقهم في شيء معين
ليس في المنهج عموما ولكن قد يوافقهم في هذه الجزئية، وقد يوافقهم في جزئيتين ثلاث أربع. لكن إذا كان منهجه سليما، ولم يخرج عن المنهج الحق؛ فهو إن أخطأ فهو معذورا، وهذا ترى نص كلام ابن تيمية يقول: لا فرق بين الأصول والفروع المخطئ معذور في الأصول والفروع. على عكس جمهور الأصوليين الذين يقولون المخطئ في مسائل أصول الدين نُؤَثِّمُه لماذا يدخل فيها وهو لا يتقنها؟!
ولكن ابن تيمية وجماعة ومنهم الشاطبي يميلون إلى هذا أنه إذا وقع الخطأ حتى في مسائل أصول الدين فإن المخطئ يعذر.
أصول الدين الظاهرة أم التي تقبل الاجتهاد؟
المقصود بمسائل أصول الدين التي يقع فيها شيء من التعارض. والمقصود المخطئ من المسلمين من علماء المسلمين، وأما غير المسلمين غير داخلين في هذا لأنهم يخالفون في أصل الإيمان. هذه قضايا كثيرة الحقيقة.
نريد أن ننبه المشاهد الكريم أننا سنقرأ بإذن الله -عز وجل- في النوع الثاني وهو كما:
(قال عنه المصنف -رحمه الله تعالى- في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل:
المسألة الأولى:(1/109)
إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية. وهذا وإن كان مبينا في أصول الفقه، وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين، أو في ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب، وجاء القرآن على وفق ذلك، فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها؛ فإن هذا البحث على هذا الوجه غير مقصود هنا، وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة. فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: ? إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ? [يوسف: 2]، وقال: ? بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ? [الشعراء: 195]، وقال: ? لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ? [النحل: 103]، وقال: ? وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ? [فصلت: 44] إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي، ولا بلسان العجم. فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة هذا هو المقصود).
طيب هذا المعنى أو هذا الكلام من الشاطبي المسألة كلها تدور حول تقرير أن هذه الشريعة جاءت بلغة العرب وأن ما في كتابها الذي هو كلي هذه الشريعة وهو القرآن كله عربي. ويقول هذه المسألة وإن بحثها الأصوليون وتكلموا هل في القرآن لفظة عربي أو ليس فيها عربي يقول هذا ليس هو مرادي، مرادي أن أقول إن كأنه يقول: ما أتيت به ليس هو تكرارًا لما قاله الأصوليون، وإنما هو شيء جديد وهو أن هذا القرآن لا يُفهم إلا عن طريق لغة العرب، وبأساليبها، وبمعرفة كلامها وطريقتها في التعبير عنه.
(المسألة الثانية:
للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معانٍ نظران؛ أحدهما: من كونها ألفاظا وعبارات مطلقة دالة على معانٍ مطلقة وهي الدلالة الأصلية.(1/110)
والثاني: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مُقيّدة دالة على معانٍ خادمة، وهي الدلالة التابعة.
والجهة الأولى: هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمّة دون أخرى. فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلاً كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تَأَتَّى له ما أراد من غير كُلفة. ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية، وحكاية كلامهم. ويأتي في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها وهذا لا إشكال فيه.).
يعني يتيسر من هذه الجهة من جهة المعاني الأصلية يمكن ترجمتها، والأمر فيها يسير ويمكن أن تعبر يعني تعطي المعنى نفسه بهذه اللغة بتلك اللغة، ولا فرق. لكن هناك المعنى التبعي هو الذي يمتنع على الترجمة كما يقول.
(وأما الجهة الثانية: فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الأخبار. فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك كالإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك.
وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار: قام زيد إن لم تكن ثَمَّ عناية بالمخبر عنه، بل بالخبر. فإن كانت العناية بالمخبر عنه؛ قلت: زيد قام. وفي جواب السؤال أو ما هو مُنَزَّلٌ تلك المنزلة أن زيدا قام...)
يعني إذا كان أحد يستفهم أو يسأل أو أحد يُشَكِّك؛ فإنك تأتي بالتأكيد. هذا مقصود: وما هو منزل تلك المنزلة. يعني في أثناء السؤال، أو ما هو منزل تلك المنزلة يعني من التشكيك مثلاً، أو عدم التصديق بمجيء زيد، فإنك تلجأ إلى التأكيد وتقول: إن زيدا مثلاً قد قام.
(وفي جواب المنكر لقيامه: والله إن زيدا قام. وفي إخبار من يتوقع قيامه، أو الإخبار بقيامه: قد قام زيد، أو: زيد قد قام، وفي التنكيت على من ينكر: إنما قام زيد.)(1/111)
يعني كأنك تدعي بهذا أنه لم يقم أحد إلا زيد كأن هناك من يشكك في قيام زيد، فإنك تعكس الأمر وتقول أصلا لم يقم إلا هو: إنما قام زيد.
(ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره أعني المخبر عنه، وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الإخبار، وما يعطيه مقتضى الحال إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها. وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد. ومثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصودَ الأصلي ولكنها من مكملاته ومتمماته وبطول الباعث هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر وبهذا النوع الثاني اختلف العبارات وكثير من أقاصيص القرآن لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه وفي بعضها على وجه آخر وفي ثالثة على وجه ثالث. وهكذا ما تقرر فيه من إخبارات، لا بحسب النوع الأول إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت: ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ?.)
يعني أن القصص القرآني حينما يفصل في موضع ثم في الموضع الثاني يكون أكثر تفصيلا في جانب آخر فهذا يقول بحسب مقتضاه الحاجة. ثم انتقل بعد هذا إلى أن يقرر إلى أنه إذا ثبت هذا الوجه فإنه لا يمكن إذا اعتبرنا هذه الجهة فإنه لا يمكن الترجمة لكن اقرأ الفصل.
(
فصل
وإذا ثبت هذا؛ فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير العربي إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه وإذا ثبت ذلك في اللسان)
يعني المعاني الأصلية فقط هي التي يمكن نقلها أما ما عداها فيصعب نقلها بل يقول يستحيل نقلها بالترجمة.
(فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب؛ أمكن أن يُتَرْجم أحدهما إلى الآخر وإثبات مثل هذا الوجه بين عسير جد)(1/112)
انتقل إلى الفصل الثاني:
(الفصل الثاني: وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى؛ وجدت كوصف من أوصافها لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى مهم جد)
هذا مهم جدا أن نعرف هذا أن المعنى التبعي هو كالتكملة والتحسين للمعنى الأول ولا يمكن أن يكون مضادا له.
(لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام. وهل تعد معها كوصف من الأوصاف الذاتية أو هي كوصف غير ذاتي؟ في ذلك نظر وبحث ينبني عليه من المسائل الفروعية جملة إلا أن الاختصار على ما ذُكر فيها كاف فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة والسكوت عن ذلك أولى وبالله التوفيق.)
يعني هو يشير هنا عندما يقول وهل تعد معها كوصف من الأوصاف الذاتية، أو كوصف غير ذاتي؟
الأوصاف الذاتية هي التي لا تنفك عن الموصوف. وأما الوصف غير الذاتي فهو العرضي الذي يعرض للموصوف أحيانا وينفك عنه أحيانا أخرى؟ فإذا اعتبرناها وصفا ذاتيا معناه كأنه لا يوجد في لغة العرب معنًى أصلي إلا ومعه أيضا معنى تبعي دائما. وأما إذا قلنا إنه ينفك عنها فمعناه أنه قد يوجد المعنى الأصلي بدون التبعي. لكن التبعي هل يوجد بدون الأصلي؟
لا يوجد. التبعي لا يوجد إلا مع المعنى الأصلي. ننتقل إلى المسألة الثالثة.
(المسألة الثالثة: هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح ويدل على ذلك أمور؛ أحدهما...)
ينبغي أن نعرف مراد الشاطبي بقوله: إن هذه الشريعة المباركة أمية، وأنه لا يقصد بها ما قد يتبادر إلى الأذهان اليوم حينما يقال فلان أمي. أنه قدح فيه وإنما هو يريد إنها ينبغي أن تؤخذ على معهود الأميين وكل تكليف فيها يؤخذ على هذا الأساس ولا يُذْهَب به إلى أبعد من ذلك. وأن ما لا يدخل تحت قدرة الأميين العقلية في فهمه، ولا تحت قدرتهم البدنية في امتثاله والعمل به؛ لا يمكن أن يكون داخلا في الشريعة.
((1/113)
أحدها: النصوص المتواترة اللفظ والمعنى كقوله تعالى: ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ? [الجمعة: 2]، وقوله: ? فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ ? [الأعراف: 158]، وفي الحديث (بُعِثْتُ إلى أمة أمية)، لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين. والأمي منسوب إلى الأم وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره. فهو على أصل خلقته التي ولد عليها وفي الحديث (نحن أمة أمية؛ لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا))
إلى آخر هذه النصوص كلها. هذا الدليل الأول دليل من النص على أن هذه الشريعة نبيها أمي وهي أمة أمية. والثاني.. .
(والثاني: أن الشريعة التي بعث بها النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمي إلى العرب خصوصا، وإلى من سواهم عموما إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا. فإن كان كذلك؛ فهو معنى كونها أمية؛ أي منسوبة إلى الأميين. وإن لم تكن كذلك؛ لزم أن تكون على غير ما عهدوا. فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها ولا بد أن تكون على ما يعهدون والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية فالشريعة إذن أمية)
نعم هذا أيضا دليل ثانٍ. والثالث.. .
(والثالث: أنه لو لم يكن على ما يعهدون؛ لم يكن عندهم معجزا ولكانوا يخرجون)
يعني لو لم يكن القرآن على ما يعهده العرب، وتحداهم بشيء من جنس ما عهدوه ما كان هذا إعجازا لأجل أن يتحداهم إنما يتحداهم بشيء من جنس ما يستطيعونه. فأنت لا تتحدى مثلاً من لا يعرف اللغة الإنجليزية بأن تقول أنا أستطيع أن أقول كذا وأنت لا تعرف. لأنه أصلا معترف بأنه لا يعرف هذه اللغة. فليس المقام مقام تحدٍّ. والتحدي المقصود به هنا والإعجاز المقصود به هنا أن يبين لهم بواسطة هذا التحدي يتبين لهم ويتضح أن القرآن ليس من كلام بشر وإنما هو كلام الله -جل وعلا-.(1/114)
لأنهم حينما جاءهم النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تعرفون كذبوه وقالوا هذا شعر، هذا كهانة، هذا كذا. ولكن الفصحاء منهم اعترفوا بأن هذا لا يمكن أن يكون من كلام بشر فهو تحداهم على أن يأتوا بعشر سور من مثله وبسورة من مثله وبشيء من مثله، فلم يستطيعوا. التحدي لا يكون إلا بما كان من جنس كلامهم فهذا دليل على أنه في مقدور الأميين فهمه.
(والثالث أنه لو لم يكن على ما يعهدون؛ لم يكن عندهم معجزا، ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا. إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، ومن حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا وهذا ليس بمفهوم، ولا معروف؛ فلم تقم الحجة عليهم به ولذلك قال -سبحانه-: ? وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ? [فصلت: 44]. فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا ولما قالوا إنما يعلمه بشر؛ ردَّ الله عليهم بقوله: ? لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ? لكنهم أذعنوا لظهور الحجة فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله مع العجز عن مماثلته وأدلة هذا المعنى كثيرة.)
يعني الفصل الذي بعد هذا خلاصته أنه يقول إن العرب لهم علوم اعتنوا بها وكان لهم بها معرفة وإن لم تكن معرفة عميقة، ولكنهم كانوا يعتنون بها مثل: علم النجوم، وعلم الطب، ويعني البلاغة، والأخلاق وما أشبه ذلك وعلم الأنواء، وعلم التاريخ، وأخبار الأمم الماضية. فما جاء من القرآن لا يتعدى هذه العلوم يعني بالنسبة للعلوم الأخرى يعني فيما عدا التكليف يقول لا يتعدى هذه العلوم وعندهم أيضا علوم أخرى باطلة من الكهانة، والخط في الرمل والضرب بالحصى، والطيرة وهذه أبطلها الإسلام ثم انتقل فيما بعد هذا إلى المسألة الرابعة وهي مبنية على ما تقدم. نعم فقال:
((1/115)
المسألة الرابعة: ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبني عليها قواعد منها:
أن كثير من الناس تجاوزوا في الدعوة على القرآن الحدَّ فأضافوا إليه كل علم يذكر لمتقدمين أو متأخرين من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر في الناظرون من هذه الفنون وأشبهها. وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح وإلى هذا فإن.. )
يعني إذا عرضناه على القاعدة السابقة وأن هذا القرآن جاء بلغة العرب وبمعهود الأميين وبما يعرفون معناه؛ عرفنا أن تفسير القرآن بالعلوم الطبيعية والتعاليم والمنطق وعلم الحروف أنه ليس داخلا في مقصود الشارع من هذه الألفاظ.
(وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرفَ بالقرآن، وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منهم ما يدلنا على أصل المسألة إلا أن ذلك لم يكن؛ فدلَّ على أنه غير موجود عندهم وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعم. نعم تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولم تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامها، والاستنارة بنوره. أما إن فيه ما ليس من ذلك؛ فلا. وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: .. .)
رحم الله الإمام الشاطبي يعني كان يناقش في أنه لا ينبغي أن يحمل القرآن على ما تحتمله الألفاظ من معانٍ لا يعهدها الأميون ولا يعرفها.(1/116)
الآن في العصر الحاضر ذهب الناس إلى أبعد من ذلك الآن دعنا من قضية التفسير العلمي للقرآن نحن عرفنا أنه إذا قام عليه رجال فيهم تقوى، وورع وصلاح وعندهم علم بهذه العلوم وقدموه بأسلوب مقبول؛ فلا ضير فيه ولا انتقاص فيه للقرآن ولا طعن في فهم الصحابة للقرآن لأنه يسير على أن هذا القرآن هو كالنهر الجاري معين يغرف منه كل من مر به ولا يستطيع أن يحيط بما فيه من علم إلا الله الذي تكلم به -جل وعلا-.
ولكن الإشكال الآن أن هناك من يدعو إلى إعادة تفسيره تفسيرًا عصريًّا يعني تغير فيه كل شيء ويدخل في هذا أمور التكليف وغيرها ولا يقتصر فقط على الآيات الكونية وإنما يعاد النظر فيه ليفسر بمفهوم الناس اليوم يعني بما يفهمونه من اللغة. وهذا مشكل كبير لأن القرآن جاء بلغة العرب الفصحاء الذين كانوا في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحينما تفسره بأعراف الناس اليوم وبمصطلحات الناس اليوم؛ فإنك تبعده عن مقصده بُعدا كبيرا.
فمعنى هذا أن الذين سبقونا من الصحابة والتابعين ما فهموا شيئا من هذا القرآن وكل فهمهم كان خاطئا. حينما تقول ينبغي أن نعيد تفسير القرآن تفسيرًا عصريا وهم الحقيقة لم يكتفوا بتفسير القرآن، وإعادة النظر في القرآن لأن القرآن أكثر الذي فيه عمومات ما فيه تفاصيل، وإنما هم يريدون العودة إلى الشريعة كلها لإعادة النظر فيها، وتفسيرها. فما يرون أنه لا يتفق مع عقولهم يؤولونه بما يتفق مع العقول. ولعلكم سمعتم الكثير من هذه الدعاوى، وهي دعاوى باطلة يردها ما تقدم من كون هذا القرآن عربيا جاء بلغة العرب وأرسل به النبي العربي الأمي إلى الأميين؛ فلا يمكن أن يحمل على ما يعود على فهمهم بالإبطال. يعني حينما نفهم منه شيئا يبطل فهم السابقين جميعا؛ لا شك أن هذا ليس تفسيرًا وإنما هو تغيير وتبديل وليس تفسيرًا.
أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول:
ما معنى قول الشاطبي: هذه الشريعة المباركة شريعة أمية؟
السؤال الثاني:(1/117)
في ضوء ما تقدم. ما رأيك في الدعوة إلى إعادة تفسير القرآن الكريم وفق منظور عصري؟
يقول: قلت فضيلتكم في الدرس السابق إنه لا يجب الجزم بمقصود الآية؛ فما العمل إذن؟
هذا المقصود الجزم به إذا لم يكن واضحا وجليا وظاهرا بمعنى أنا إذا فسرناه تفسيرًا علميا عصريا لم يكن معهودا؛ فلا يجوز أن نقول: هذا هو المراد، هذا هو المقصود. وإنما المخرج من هذا أن نقول الآية العلم الحديث الآن مثلاً توصل إلى كذا، وكذا والآية الفلانية تُشْعِر بهذا، يمكن أن يستفاد منها هذا المعنى. ولكن لا نجزم بأنه هو كل ما دلت عليه ولا أن بقية التفسيرات غير صالحة حتى لا نكذب السابقين أو نتهمهم بأنهم لم يفهموا القرآن.
يعني إذا بعض العلوم الحديثة التي ما علمنا بها إلا في عهد قريب وربما بعضنا إلى الآن ما بلغته فيما يتعلق بعلوم الفضاء، أو بعلوم الطب سيفسر القرآن بها، ويقال هذا هو المراد بها فقط دون غيره. هذا سيشكل عليه أن معنى هذا أن الصحابة ما فهموا منها شيئا، وأنهم خوطبوا بشيء لا يعرفوا معناه. وهذا غير صحيح.
وإنما نحن نقول هذا المعنى لا يتافى مع ظاهر القرآن هذا المعنى أشارت إليه الآية، قد يفهم هذا المعنى من الآية. كل هذه الأمور لنا فيها سعة. لكن أن نحصر مراد الآية في هذا أو نجزم بأن هذا هو مرادها معناه أننا سددنا الباب على غيرنا، وأيضا التزمنا بأنه لو تغيرت هذه النظرية فيما بعد أن نُخَطِّئَ القرآن والعياذ بالله ثم إننا أيضا وقعنا في أمر عظيم وهو تجهيل السابقين. معناه إذا كان هذا هو كل معنى الآية؛ فمعناه أن السابقين من علمائنا كلهم إلى عهد الصحابة ما عرفوا هذا المعنى لأن هذا المعنى لا أحد يعرفه.
الدرس الحادي عشر
النوع الثاني مقاصد وضع الشريعة للإفهام
إجابة أسئلة الحلقة الماضية.
الأخت الكريمة تجيب على السؤال الأول والذي هو معنى قول الشاطبي: "الشريعة المباركة شريعة أمية".(1/118)
قالت: أي ينبغي أن تؤخذ على معهود الأميين، وكل تكليف فيها يؤخذ على هذا الأساس ولا يذهب به إلى أبعد من ذلك، وأن ما لا يدخل تحت قدرة الأميين العقلية في فهمه ولا تحت قدرتهم البدنية في امتثاله والعمل به؛ لا يمكن أن يكون داخلاً في الشريعة، وكذلك لا يحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضية، هذه إجابتها على السؤال الأول.
السؤال الثاني وهو: في ضوء ما تقدم ما رأيك في الدعوة إلى إعادة تفسير القرآن الكريم وفق منظور عصري؟
تقول: يُجاب على الداعين إلى إعادة تفسير القرآن الكريم بالمنظور العصري بأن هذه الشريعة واضحة لعوام الناس، ولا يمكن أن يُكلف الناس بشيء أو معانٍ لم تفهمه العوام، وإذا قلنا بذلك أي التفسير العصري فكأننا نُجَهِّل الصحابة الكرام وسلفهم الصالح من بعدهم، في أنهم لم يصلوا إلى هذا المعنى لكن نقول قبل ذلك: ما المقصود بالتفسير العصري؟ إن التفسير الذي فسر به نبينا -عليه الصلاة والسلام- القرآن هو تفسير عصري يصلح لكل زمان وهذا لا يمنع أن تكتشف في القرون الأخيرة بعض العلوم التي قد تساعد في فهم الآية القرآنية لكن ينبغي ألا نجزم بأن ذلك مراد لله تعالى؛ لأن الشارع لم يرد أن يعجز العرب عمّا لم يفهموه والله أعلم.
إجابة السؤال الثاني:
تقول: لا يجوز عادة تفسير القرآن على وفق منظور العصري؛ لأنه حينما نفسر القرآن بطريقة عصرية كما يزعمون نبطل فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- فهذا تغيير وليس تفسير.
لو أخذنا بعض الأجوبة على السؤال الثاني؛ لأن الأجوبة التي مرت غير مقنعة، غير كاملة.(1/119)
إجابة السؤال الثاني: تقول: رأيي في مسألة من يدعي إعادة تفسير القرآن زعمًا بأن هذا العصر الذي نحياه بات بحاجة إلى تغيير سريع في صلب العقيدة والشريعة حتى يستطيع التساير مع هذا العصر أرى أنها دعوة باطلة لا أصل ولا أساس إطلاقًا، وإن هذا الجاهل لا يفهم ما معنى الشريعة؛ إذ لو يعرف معناها ما قال: إن الشرائع تتطور وتتبدل، وهذا هو السخف بعينه تفسير القرآن حسب أهوائكم، لأن هذا القرآن هو كتاب كامل والذي يصلح لكل زمان ومكان لقول السلف: "لا اجتهاد مع نص"، وهذا فيه أيضًا طعن ودعوة أن السلف لم يفهموا شيئًا من القرآن، وهو نزل بلسان عربي بلغتهم فكيف لا يفهمه منهم وهم أعلم وأدرى الناس بذلك لما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح. كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته"، وأيضًا حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس ترجمان القرآن ببركة دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- له حيث قال: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) فكيف ممن يأتي اليوم بعد مرّ هذه العصور كلها ويدعي بتغيير تفسير القرآن، أقول هذا هو الجهل والطغيان بعينه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1/120)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أولاً أشكر الإخوة الذين أجابوا على هذه الأسئلة وتابعوا الدرس. وثانيًا: ما ذكر من الجواب على السؤال الأول هو جواب صحيح وموفق. بالنسبة لجواب السؤال الثاني يبدو أن الإخوة تأثروا أكثر بما نقلناه لهم وكررناه عن الإمام الشاطبي من أنه يميل إلى أن القرآن ينبغي ألا يُفسر إلا بما يفهمه العرب الذين نزل القرآن بلغتهم في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وألا نذهب في تفسيره إلى أبعد من ذلك، وأن هذا هو مقتضى المقصد الثاني من مقاصد وضع الشريعة وهو مقصد الشريعة للإفهام، أي لكي يفهمها من نزلت عليهم، وهو يقول: "لو قلنا إن هناك تفسيرًا آخر غير التفسير الذي يفهمه العرب الأميون الذين نزل القرآن بلغتهم؛ فإن هذا يعني أن الصحابة والتابعين ما فهموا القرآن حق الفهم".(1/121)
لكن أنا ذكرت توجهًا آخر وهو لا يتعارض تمامًا مع كلام الشاطبي ولكن يأخذه بحذر، فقلت: إن هناك من العلماء من يقول نحن مع الشاطبي فيما يتعلق بالتكليف ما فيه تكليف لا يمكن أن يتغير تفسيره أو معناه، ولكن ولا يمكن أيضًا أن يُضاف إليه إضافة، وأما في ما عدا ذلك مثل الآيات الكونية ونحوها؛ فلا مانع من أن نضيف في تفسيرها ما توصل إليه العلم الحديث ليستغله الداعية في نشر الإسلام وبيان سبق هذا القرآن إلى حقائق وعلوم لم تكن معروفة عند العرب تفصيلاً، وإنما كان لهم بها نوع اهتمام مثل الطب والفلك وغيره من العلوم. فالقصد أن التفسير العصري ينبغي أن نعرف أن المراد منه هو بيان معانٍ للقرآن لم تكن معروفة عند العرب.(1/122)
فنقول: فيما يتعلق بالتكليف من أمر ونهي ونحوهما؛ فهذا لا يمكن الإضافة فيه، وأما ما يتعلق بما عدا ذلك؛ فلا مانع من أن نبين بعض المعاني التي اتضحت لنا بعد تطور العلم الحديث وانتشاره ليكون ذلك معينًا على الإقناع والدعوة إلى هذا الدين لكن شرطنا شرطًا وهو ألا يتعارض ولا يتصادم مع ما نُقِلَ من تفسير عن السلف، وإنما يكون يعني مجرد إضافة له، ثم أيضًا شرطنا ألا نجزم بأن هذا هو المراد؛ لأن الجزم بأن هذا هو مراد الله دون غيره هذا قد يؤدي -كما ذكر الإخوة في الجواب- إلى القول بأن الصحابة ما فهموه، وأنهم كانوا يجهلون معاني القرآن، والتابعون أيضًا ما كانوا يفهمونه، وهذا بطبيعة الحال لا يمكن إقراره في ضوء المقصد العام الذي ذكرناه، وذكره الشاطبي وقررناه واستدللنا عليه، وهو أن الشرع إنما وضع الشريعة لِتُفهم، ولم يجعلها عبارات وطقوسًا غير معروفة المعنى، وإنما أتى بالشريعة لِتُفهم، هذا خلاصة الجواب عن السؤالين السابقين، وأما درس اليوم فبمشيئة الله تعالى سنواصل قراءة ما لم نقرأه من القواعد التي ذكرها الشاطبي حول هذا المقصد، ثم نضيف بعض الأمثلة في أثناء الشرح؛ لأن كثيرًا من الإخوان يطالبون بالتمثيل ويصعب عليهم الفهم بالتقعيد المجرد إذا لم يصحبه ضرب أمثلة، والشاطبي كتابه غنيّ بالتمثيل، وإن شاء الله سأضيف عليه أيضًا بعض الأمثلة من الواقع المعاصر، وأظن أننا اتفقنا أن الإخوان سيقرؤون هذه المرة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، قال الإمام الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات: (
فصل(1/123)
ومنها: أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوبة في الخطاب هوالمقصود الأعظم بناءً على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية؛ فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود، ولا أيضًا كل المعاني فإن المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهومًا دونه، كما لم يعبأ ذو الرُّمّة بـ "بائس" ولا "يابس"، تكالاً منه على أن حاصل المعنى مفهوم).
قول المصنف هنا: (ومنه) يعني من الفوائد التي تنبني على ما قررناه سابقًا من أن الشريعة ينبغي فهمها في ضوء معهود الأميين، يقول: من الفوائد في هذا أن العرب أو من الفوائد التي تنبني على هذا أن العناية تكون بالمعنى المبثوث في الكلام وفي الخطاب، وأما الألفاظ المفردة؛ فإنهم أيضًا لا يعتنون بها إذا كان المعنى الإجمالي معلومًا بدون التدقيق في هذا المعنى الإفرادي في معناه، فهنا يشير إلى يقول: (ولا كل المعاني) يعني أيضًا العرب عنايتهم أولاً بالمعاني ولا يعتنون بالألفاظ كثيرًا ثم أيضًا لا يعتنون بكل المعاني وإنما يعتنون بالمعنى التركيبي. إذا كان المعنى التركيبي مفهومًا؛ فإنهم لا يهتمون كثيرًا بالمعنى الإفرادي ويمثل هذا بأن الشاعر ذا الرمة له بيت من الشعر أظنه سبق أن ساقه المصنف وأنه عَبَّرَ عنه مرة ببائس ومرة بيابس، أو يائس وهو لا يعبأ بهذا ويقول: هما سواء حينما قيل له هذا، يعني لما كُلِّمَ في هذا قال: قد أنشدتني من بائس، قال: اليبس هو البؤس، يعني ليس هناك فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بهذا الاختلاف وهو البيت يقول:
وظاهِرْ لها من يابِسِ الشخْتِ واستَعِنْ .. عليها الصّبا واجعل يَدَيكَ لها سِتْر(1/124)
يتكلم عن النار وإشعال النار "وظاهر لها من يابس الشخت واستعن عليها الصبا" يعني اجعل الصبا والريح تعينك على إشعالها "واجعل يديك لها سترا"، فقال له القائل: أنت أنشدتنيها قبل بائس، قال: اليبس من البؤس، فهو لم يعبأ بالكلمة ما دام المعنى العام مفهومًا.
(وأَبْيَنُ من هذا ما في جامع الإسماعيلي المُخَرَّج على صحيح البخاري: عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قرأ: ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? [عبس: 31]، قال: ما الأب؟ ثم قال: ما كُلِّفنا هذا، أو قال: ما أُمِرنا بهذا. وفيه أيضًا عن أنس أن رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله: ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? ما الأب؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف. ومن المشهور تأديبه لصديق حين كان يكثر السؤال عن المرسلات والعاصفات ونحوهما، وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه؛ لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي فرأى أن الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف، ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نَبَّهَ عليه قوله تعالى: ?لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ? [البقرة: 177] إلى آخر الآية، فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي).(1/125)
هذا معنى آخر.. إذن هو يقرر هنا أن العناية بالمعنى التركيبي ومهما عرفنا المعنى التركيبي لا ينبغي أن نتقعر في البحث عن المعاني الجزئية. وضرب لهذا أمثلة بما ورد عن عمر أنه لما قرأ: ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? قال: ما الأب؟ ثم قال: وما يضرني؟ أو ما يضير عمر ألا يعرف ما الأب؟! يعني ما دام أن المعنى فيه امتنان من الله -جل وعلا- فالأب هو مما امتن الله به علينا، والأب يقول المفسرون: هو الكلأ مثلاً أو المرعى. وأيضًا أنه من المشهور عنه أنه ضرب الرجل الذي كان يكثر السؤال عن جزئيات وألفاظ ترد في القرآن مثل لفظ العاصفات يقول ما معنى المرسلات عرفًا؟ ما معنى العاصفات عصفًا؟ فهو يسأل عن مثل هذه الأمور؛ فلهذا عمر أنكر عليه ذلك، ويقال: إنه كان يسأل أيضًا عن قضايا في الاعتقاد في صفات الله -جل وعلا-، أو يورد بعض المتشابه، فضربه عمر حتى أوجعه وكأن يقول له: إن عدت؛ عدنا، فيقول يا أمير المؤمنين: إن كنت تريد تأديبي؛ فقد –والله- برئت من هذا الأمر، وإن كنت تريد قتلي؛ فأحسن القتلة. فهذا دليل على أنهم كانوا يكرهون مثل هذا التعمق وضرب الآيات بعضها ببعض، وأظن ذكرنا لكم في أثناء الشرح غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما خرج على الصحابة ووجدهم يتكلمون في القدر وهذا يأتي بآية ويستشهد بها، وذاك يستشهد بآية أخرى فغضب حتى كأنما تفقأ في وجهه حَبُّ الرمان، يعني أنه احمرّ وجهه.(1/126)
ثم المصنف هنا يقول: (إن هذا له أصل في الشريعة) يعني عدم العناية بالجزئيات والاهتمام بما هو أعظم وهو قوله تعالى: ?لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ? [البقرة: 177] فهنا في هذه الآية بيان أن المهم ليس أن تكون الصلاة إلى هذه الجهة أو إلى تلك الجهة، بقدر ما هو أهم من ذلك هو أن تكون مؤمنًا بالله وباليوم الآخر وبالملائكة والكتاب والنبيين، وأن تكون في صلاتك خاشعًا لله -جل وعلا-؛ لأن هذا كانت حينما غُيِّرَت القبلة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة، ثم انتقل إلى أمر آخر وهو أنه المعنى الإفرادي حينما يكون مطلوبًا لتصحيح المعنى الكلي وفهم المعنى الكلي لا بأس بالبحث عنه والسؤال عنه.
قال -رحمه الله-: (فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي؛ لم يكن تكلفًا، بل هو مضطر إليه كما روي عن عمر نفسه في قوله –تعالى-: ?أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ? [النحل: 47] فإنه سئل عنه على المنبر فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص، ثم أنشده:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِدا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعةِ السَّفَنُ
فقال عمر: "أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم، وليس بين الخبرين تعارض؛ لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول، فإذا كان الأمر هكذا فاللازم..).(1/127)
يعني هذا الكلام ساقه المصنف حتى يوفق بين الروايات ويبين أنها لا اختلاف بينها، يعني النهي عن التدقيق في بعض الكلمات حينما يكون الجهل بها لا يضر في فهم المعنى الكلي، ومثل هذا مثلاً سؤال بعض الناس عن أسماء من وردت لهم قصص في القرآن؛ ما اسم هذا؟ وما اسم هذا؟ وما اسم كذا؟ وما اسم كذا؟.. ولهذا تجدون بعض الناس تجد بعض الناس شغوفًا بهذا، ويسأل ويتصل ما اسم مثلاً إخوة يوسف؟، ما اسم أخوه الذي قال: ?لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ? [يوسف: 10]؟ وما اسم كذا؟ وما اسم امرأة فرعون؟ يعني مثل هذه الأسماء سكت عنها الشرع، ولا يتعلق بها حكم شرعي، يعني أنت ماذا يضرك من هذه الأمور؟ وما الذي ستستفيده لو عرفت الاسم؟ فيضطر بعضهم إلى البحث عن هذا في الإسرائيليات ويأخذه من الروايات الإسرائيلية وبعضها ليس بصحيح، ولهذا وُجِدَ في كتب التفسير الكثير من هذه الإسرائيليات لسدِّ هذا الأمر وإشباع نهم الناس في هذا الجانب، إشباع نهم الناس، يعني في التفسير يسألون عن كل دقيقة، وهكذا من يسأل مثلاً عن التعارض بين الآيات وكيف هذه الآية تعارض هذه الآية؟ كيف نجمع بينها؟
هذا قد نقول: ينبغي أن يقتصر على فئة خاصة من العلماء ولا يثار عند عوام الناس، وهذا ما سنأتي عليه -إن شاء الله- في فصل قادم.
(فإذا كان الأمر هكذا؛ فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب؛ لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطاب ابتداءً وكثيرًا ما يُغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة، وتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي، فتستبهم على الملتمس، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير معمل ومشيه على غير طريق، والله الواقي برحمته.
فصل
ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تَعَقُّلُهَا؛ ليسعه الدخول تحت حكمها، أما الاعتقادية..).
هذا تكلمنا عن القاعدة نفسها لكن الآن المصنف سيوضح زيادة.
((1/128)
أما الاعتقادية؛ بأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدًا. فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص؛ لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلةَ المأخذ).
هذا دليل يذكره المصنف هنا، يعني لو كانت لا يدركها إلا الخواص؛ لم تكن الشريعة عامة. وقد قررنا في ما سبق أن الشريعة جاءت لتعم الناس وليفهمها عموم الناس ولم تكن أمية كما قررناه سابقًا من أنها تناسب معهود الأميين ولا تخرج عنه ولا يصعب عليهم تعقلها وفهمها، وقد ثبت هذا فيما سبق إذن يقول: لا بد أن تكون التكاليف الاعتقادية داخلة تحت هذا.(1/129)
وأنت إذا رأيت ما الذي يجب على المؤمن تجد أن القدر الواجب على كل مؤمن من مسائل الاعتقاد سهلاً، تجد القدر الواجب سهلاً عليه، على كل إنسان أن يحيط به ويعرفه تمام المعرفة، ويوقن به، ثم يبني عليه امتثاله لأوامر الله -جل وعلا- وانصياعه لها، ويكون المطلوب هو المعنى الجملي، يعني إذا أخذت مثلاً الإيمان بالله -جل وعلا- وأسمائه وصفاته المطلوب الإيمان الإجمالي بها، وعدم التدقيق في الكيفيات. ولهذا ما أحد من السلف أُثِرَ عنه أنه يبحث في كيفيات الأسماء والصفات بل كانوا ينهون الناس عن هذا، ويقولون: يجب أن نؤمن بما جاء في كتاب الله من غير أن نضرب بعضه ببعض، ومن غير أن نثير حوله شيئًا من الشكوك. وأيضًا يكتفى في مسائل الإيمان بقدرة الله -جل وعلا- وعظمته وعلمه يُكتفى بهذا بالإيمان الجملي الذي يدركه عامة الناس، ولهذا تعرفون ما ثبت في الصحيح من أن (كان فيمن كان قبلنا رجل قال: لئن ظفر الله بي يوم القيامة؛ ليعذبني عذابًا شديدًا، فإذا مت فأحرقوني، ثم دقوني ثم ذروني في البحر، فوالله لئن ظفر الله بي ليفعلن بي وليفعلن بي. فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يؤتى بهذا الرجل يوم القيامة فيقال له: لم فعلت كذا؟ فيقول: يا رب لأنني أخافك وأخشى من عذابك، ثم إن الله -جل وعلا- يعفو عنه ويدخله الجنة).
مثل هذا الرجل هل هو آمن بقدرة الله -جل وعلا- الإيمان الذي تقتضيه النصوص الكثيرة الواردة أم أنه عرف أن الله على كل شيء قدير إجمالاً لكن تفاصيل هذا يظن أنه لو فُعِلَ به هذا لا يستطيع؟ ومع هذا عفا الله عنه، طبعًا هو أخطأ في هذا، وتقديره هذا في غير محله، ومع هذا عفا الله عنه وأدخله الجنة كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-.(1/130)
فيما يتعلق أيضًا بمسائل القضاء والقدر لا ينبغي التدقيق فيها وإثارتها عند من لا يعقلها من العوام، فكثير من العوام ربما لو ذكرت له بعض أو كل مراتب القدر وأخبرته بها؛ ربما أدخل ذلك في نفسه شيئًا، لكن حينما تقول: إن كل شيء بقضاء وكل شيء بقدر، وكل شيء مكتوب هو لا يتردد في الإيمان بهذا، ولا يدخله شك فيه.
إذا أخذنا مثلاً الإيمان بالملائكة يعني الواجب علينا أن نؤمن بهم إيمانا إجماليًا، ومن عرفناه منهم وسماه الله في كتابه نؤمن به أيضًا بوجوده، لكن هل يؤاخذ من لا يعرف مثلاً أسماء الملائكة الذين نص الله عليهم؟ لا يؤاخذ.
هل يؤاخذ يوم القيامة من لا يعرف أسماء الأنبياء الذين ذكروا في القرآن أو في السنة؟
لا يؤاخذ على ذلك. ولكنه يؤمن إيمانًا إجماليًا بالأنبياء السابقين، وبرسل الله -جل وعلا-، وبملائكته، وبأسمائه، وصفاته الحسنى حتى لو أنه لا يستطيع عدها، ليس بالضرورة أنه لا ينجو إلا من يستطيع أن يعد لنا ما ورد فيه نص من الأسماء والصفات، أو يعد لنا الأنبياء، أو يعد لنا الملائكة الذين ورد ذكرهم في الكتاب والسنة. هذا هو معنى كلام المصنف أنه في مسائل الاعتقاد أمور سهلة يعرفها عامة الناس ولا صعوبة عليهم في تعقلها.
تقول: ما معنى نضرب بعضه ببعض؟.
يعني المقصود أنه تعارض آيات القرآن بعضها ببعض، يعني لا تُعارض آيةٌ بآيةٍ، وإنما القرآن كله كلام الله، وينبغي أن يُفهم على أنه كله من عند الله ويُجمع بينه، لا تضادَّ بينه ولا تضارب.(1/131)
قال -رحمه الله-: (وأيضًا فلو لم تكن كذلك؛ لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يُطاق، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول، ولذلك تجد الشريعة لم تُعَرِّف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه، وأرجت غير ذلك فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات، وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة، وهو قوله تعالى: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? [الشورى: 11] وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول. نعم لا يُنْكَرُ تفاضل الإدراكات على الجملة، وإنما النظر في القدر المكلف به).
لاحظوا هذه الجملة عبارة جميلة جدًا، يقول: نحن لا ننكر أن يتفاضل الناس في الفهم وأن يؤتي الله بعض عباده من الفهم ما لم يُؤْتَه غيره، ولكن نحن نتكلم عن القدر الواجب، الذي لا يسع أحدا من المسلمين أن يجهله من هذه الاعقادات نجد أنها سهلة وواضحة ويسيرة ويفهمها عامة الناس، وهي التي سيُسألون عنها يوم القيامة، ولهذا يُسأل من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ولا يُسأل مثلاً عن ما الذي سيكون في يوم القيامة؟ وما هو ترتيبها؟ وهل يبدأ نصب الصراط أولاً؟ أو يبدأ كذا.. هذا من علمه؛ فخير وبركة، ولكنه لا يكون واجبًا على كل مسلم.
يعني التفصيل غير واجب يا شيخ؟.
أي نعم.. هذا هو مقصوده، أن هذه التفاصيل التي لا يدركها إلا قلة من الناس، هذه لا تكون واجبة على العموم، يعني إدراكها واعتقادها لا يكون واجبًا على العموم.(1/132)
قال: (ومما يدل على ذلك أيضًا أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلاً للباحثين والمتكلفين، كما لم يأتِ ذلك عن صاحب الشريعة -عليه الصلاة والسلام-، وكذلك التابعون المقتدى بهم، لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة، بل الذي جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه النهيُ عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها، حتى قال: (لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء؛ فمن خلق الله؟!) وثبت النهي عن كثرة السؤال، وعن تكلف ما لا يعني عامًّا في الاعتقاديات والعمليات، وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل، وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما سُكِتَ عنه، أو مما وقع نادرًا من المتشابهات محالاً به على آية التنزيه).
والمقصود بالمتشابهات يعني حقائق أو كيفيات ما يقع مثلاً يوم القيامة وتفاصيله وكذلك كيفيات أسماء الله وصفاته، فالكيف مجهول لنا، ولهذا نُهِينا عنه، وكان الإمام مالك حينما سئل عن الاستواء؛ قال: الاستواء معلوم، يعني من حيث لغة العرب معلوم معناه، والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة ولا أراك إلا ضالاً مبتدعًا، فطرد السائل؛ لأنه لا يريد أن يفتح بابًا للتدقيق في هذه الأمور، وما أوتينا وما توسعت هذه الاختلافات ودخل الناس في التفرق والتشتت إلا حينما دققوا فيما لم يكلفوا التدقيق فيه، يعني دققوا في أمور لم يكلفوا التدقيق فيها، وكما ذكرت لكم سابقًا الذين دققوا في هذه الأمور صنفان: صنف أخذوها من يعني دخلوا في الإسلام وعرفوا ثقافات أخرى ثم أرادوا أن يسقطوها على القرآن، وأن يفسروا بها القرآن وأخذوا هذا التدقيق من الفلسفة أو من المنطق أو غيرها من العلوم، وقسم أرادوا أن يردوا على هؤلاء فما وجدوا طريقًا إلا أن يردوا عليهم بمثل كلامهم وأن يدرسوا ما درسوه ويعرفوا ما عرفوه ويزيدوا فيه، ثم يردوا عليهم.(1/133)
قال: (وعلى هذا فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية. فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يُطلب منها، فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها، ولله دَرُّ القائل:
وللعقول قوى تستن دون مدى .. إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات
ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها).
هذا كلام جميل الحقيقة، يعني لخص فيه ما مضى، وقال: (التعمق في البحث وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه وإدراكه هو خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية).
ننتقل إلى مسألة العمليَّات، يعني الآن هو كل كلامه هنا في العقائد، وبَيَّنَ لنا أنه في جانب العقائد لا يوجد ما يدل على أن الصحابة أو التابعين كانوا يتعمقون في بيان مثل هذه الأمور وإنما كانوا يكتفون من الناس بالإيمان الجملي وهذا هو القدر المطلوب منهم والذي كُلَّفوا به.
انتقل إلى العمليات ليبين أيضًا أنها هي كذلك، نعم.
(وأما العمليات؛ فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور، بحيث يدركها الجمهور كما عَرَفَ أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم؛ كتعريفها بالظلال، وطلوع الفجر والشمس وغروبها وغروب الشفق، وكذلك في الصيام في قوله تعالى: ?حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ? [البقرة: 187] ولما كان فيهم من حَمَل العبارة على حقيقتها؛ نزل من الفجر وفي الحديث: (إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم)).(1/134)
يلاحظ هنا أن المسائل العملية أيضًا التكليفات العملية هي أيضًا جارية على نفس الطريق من أنهم طولبوا بالأمور الظاهرة التي يعلمها الإنسان العادي ولم يكلفوا ما ليس في وسعهم، يعني لم يُقل لهم: أنتم لا بد أن تتعلموا خطوط الطول والعرض، وتعرفوا أنتم على أي خط طول وعلى أي خط عرض تقعون حتى تعرفوا متى تدخل صلاة المغرب ومتى تخرج الصلاة الفلانية. وإنما جاءهم بأمر بسيط وسهل وقال انظروا إلى الشمس انظروا إلى الظلال إذا صار ظل كل شيء مثله، إذا صار ظل كل شيء مثليه، إذا أخذت أوقات الصلوات؛ تجدها من هذا القبيل، هذه أمور تقريبية، يعني لا تكون دقيقة كدقة الساعة التي نسير عليها الآن، أو التقاويم التي نسير عليها، وإنما هي أمور تقريبية.
كذلك في بداية الصيام، بداية صيام الشهر، قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ولم يعلقه مثلاً بدراسة علم الفلك حتى يعرفوا هل حصلت ولادة الشهر، أم لم تحصل، وإنما علقهم بما هو في مقدورهم. في الصيام كل يوم وفطر كل يوم أيضًا ربطهم بأمور ظاهرة، وقال: (إذا أقبل الليل من ها هنا والنهار من ها هنا؛ فقد أفطر الصائم) الإمساك الصباح ربطهم بطلوع الفجر ?حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ? [البقرة: 187] إذا تبين لكم ذلك؛ فقد منعتم من الأكل والشرب وعليكم أن تصوموا، فهي أمور ظاهرة، يعرفها الإنسان المتعلم وغير المتعلم.(1/135)
وإذا أيضًا ذهبنا إلى أبعد من ذلك ونظرنا في أصل التكليف مثلاً، تجده يربط التكليف متى يكون الصبي مكلفًا يربطه بأشياء ظاهرة، بلوغ خمسة عشر مثلاً، الاحتلام، الإنبات ما أشبه ذلك، أمور ظاهرة ولا يربطه بقضايا لا يمكن أن يعرفها عامة الناس، هذا يمكن أن يجرنا إلى الكلام عن المسائل التي تُثار كثيرًا في هذا العصر مثل مسألة: العمل بالحساب، وعدم العمل بالحساب يعني الشرع هو ما حينما يقول ربطنا بالأشياء الظاهرة ليس معناه أننا ممنوعون من الاستفادة مثلاً من الحساب منعًا نهائيًا، ولكن لا نربط التكليف به، يمكن الاستعانة به لكن لا يُربط به التكليف، ولهذا مثلاً أسئلة بعض الناس يسأل ويقول: أنا مثلاً في بلد فلاني، وما عندي مساجد وكذا، وأكلت وبعد أن أكلت نظرت للساعة فإذا بها الساعة الخامسة مثلاً في الأيام هذه، ويكون الأذان مثلاً خمس إلا ثلاث دقائق أو أربع دقائق، في مثل هذه الأمور ما ينبغي التدقيق، ولا يُقال لمثل هذا إن صومك غير صحيح لأجل وجود دقيقتين أو ثلاث دقائق فارق، أو أربع دقائق ونحوها؛ لأن العبرة ليست بهذه الدقائق، أحكام الشرع في مثل هذه الأمور أحكام تقريبية مثلما قال المصنف؛ لأن هذا هو الذي يسع عامة الناس، فلا تقيده بزمن دقيق جدًا بحيث أنه الساعة الخامسة يُرفع الأذان، إذن لو أكلت الساعة الخامسة ودقيقة أو الخامسة ودقيقتين بَطََل صومك، هذا لا يتناسب مع أمية الشريعة وكونها جاءت على معهود الأميين، وما أُثِرَ عن كثير من الصحابة والنصوص أيضًا الأخرى التي فيها أن لا يمنع الأذان مثلاً الإنسان من أن يكمل طعامه وشرابه وأن هذه الأمور مبناها على التقريب، والعبرة فيها باعتقاد الإنسان مثلاً أنه قد يكون سمع الأذان، لكن هل أنت متيقن مثلاً أن الأذان هذا كان بعد طلوع الفجر تمامًا، الأذان شيء مسموع وظاهر ويسمعه كل أحد، ويمكن أن يُربط به الحكم الشرعي، فإذا كنت أو كان الغالب أن المؤذن أو هذا المؤذن لا يؤذن إلا(1/136)
بعد طلوع الفجر؛ فلا يجوز أن تأكل ولا تشرب بعده، أما إذا كان يؤذن بليل كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فمعناه أن مجرد الأذان نفسه ليس هو الذي يُربط به وقت الأكل والشرب وإنما هو مربوط بطلوع الفجر، ?حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ?.
هذه التدقيقات إذن هي ليست مطلوبة منّا والإسلام ربط الحكم بأمر ظاهر فلا ينبغي التدقيق في أن نحمل الناس جميعًا على أنهم يرجعون إلى هذا الحساب، وبهذه الدقة وإنما نقول لهم: إن الشرع فيه سعة في هذا الجانب، فلا تضيقوا على أنفسكم.
(وقال -صلى الله عليه وسلم-: (نحن أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا)، وقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل؛ لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها، ولدقة الأمر فيه، وصعوبة الطريق إليه وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين، وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم، وعفا عن الخطإ إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور).
هذا كلام أيضًا جميل جدًا، يقول: إن الشرع ما كلفنا بأن نحسب مسير الشمس وخطوط الطول والعرض ومتى يكون وإنما كلفنا قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين)، وقال: لم يكلفنا بهذا؛ لأنه أولاً ليس من معهود العرب الأميين الذين نزل القرآن بلغتهم وبُعِثَ الرسول إليهم، وأيضًا هو أمر دقيق لا يدركه عامة الناس، ثم أشار إلى أن الله -جل وعلا- قد أجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين، يعني غلبة الظن يكفي لأن تعمل به ويقوم مقام اليقين ولم يلزمنا باليقين التام في هذه الأمور، وإنما اكتفى منا بالظن فيها، وحيث وجد الظن يرتب الحكم عليه.
((1/137)
فلا يصح الخروج عما حدت الشريعة، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية، فإنها مظنة الضلال ومزلة الأقدام، فإن قيل: هذا مخالف لما نُقِلَ عنه من تدقيق النظر في مواقع الأحكام ومظان الشبهات ومجاري الرياء والتصنع للناس، ومبالغتهم في التحرز..).
لو وقفنا عند هذا؛ لأن هذا هو عبارة عن إشكال أورده الشاطبي على نفسه ثم أجاب عنه في صفحتين أو ثلاث صفحات إشكال أورده ولا نريد أن نشغل أذهان الإخوة كلهم بهم يعني يقرؤه من يستوعبه وننتقل إلى المسألة الخامسة، يعني هذا هو عبارة عن إشكال أورده الشاطبي، يقول: (قد يُقال إنه نُقِلَ عنهم بعض التدقيق في العبارات) فأجاب عن هذا بعدة أجوبة ومنها: أن الذين نُقِلَ عنهم هذا التدقيق هم علماء أصبحت هذه الأمور الدقيقة في نظركم هي بالنسبة لهم ظاهرة وواضحة وضوحَ الشمس، فهم ما طولبوا بأمر يصعب عليهم، وإنما هم تكلموا في أمر يرونه واضحًا وضوح الشمس. ننتقل إلى المسألة الخامسة.
قبل أن ننتقل
باختصار، لعله باختصار، لا بد نقرأ منها شيء.
بقي خمس دقائق يا شيخ، نجيب أو نأخذ أسئلة المراجعة ونجيب على بعض الأسئلة هنا وأسئلة الإخوان، يعني خمس دقائق...
لعل الإخوان إذن يقرؤون هذه المسألة. على كلٍّ هذه المسألة تتعلق ببناء الأحكام على المعاني التابعة، والمصنف ذكر فيها خلافًا: هل تبنى الأحكام على المعاني التابعة أم لا تبنى؟ ذكر خلافًا واختار هو ألا تبنى الأحكام على المعاني التابعة، وألا نأخذ من المعاني التابعة أحكامًا مستقلة، وإنما هي مجرد تأكيد لكنه استثنى شيئًا واحدًا وهو أنه يمكن أن تُؤخذ منها بعض الآداب، ولهذا أسئلتنا بعضها حول هذه النقطة فلهذا...
السؤال الأول: هات مثالاً من الواقع المعاصر تنطبق عليه قاعدة التكاليف الاعتقادية والعملية لا تخرج عما يسع المكلف فهمه وتعقله؟
السؤال الثاني: هل يُستفاد من المعاني التابعة أحكامٌ شرعية؟ وما الذي رجحه الإمام الشاطبي في هذا؟(1/138)
يعني هذا هو السؤال الثاني وهو آخر ما تكلمنا عنه، فإذا كان هناك أسئلة عند الإخوة هنا يمكن أن نسمعها.
السؤال الأول: الأخ الكريم كأنه اشتبه عليه قضية القول في تعلم مسائل التوحيد التفصيلية، يعني مثلاً ذُكِرَ جبريل في القرآن وذُكِرَ غيره في القرآن، فاشتبه عليه المسائل التفصيلية، هل يؤمن بها؟.
يعني المفروض في مسائل التوحيد ومسائل الاعتقاد أن نُعَلّم الناس الحق، ولا نذكر لهم الخلافات الأخرى وبخاصة عامة الناس، عامة الناس الذين لم يتفرغوا لطلب العلم، الذين لم يتفرغوا لطلب العلم ما ينبغي أن نشغلهم بما وقع من خلافات وبهذا رأي المعتزلة، وهذا رأي كذا والجواب عنهم كذا، ودليلهم كذا، كما هو موجود في بطون الكتب الآن، ومن الخطإ أن يجلس الإنسان في مكان عام مثلاً ليدرس عامة الناس مسائل اعتقادية ويذكر فيها الخلاف، أما إذا كان يذكر القول الحق فيها مع دليل ويكتفي بهذا؛ فهذا أمر سائغ ولا إشكال فيه، لكن الإشكال في أنه حينما تدرس غالبًا بعض المسائل الدقيقة يذكر الخلاف لبعض الفرق الضالة في هذا، وإذا ذكرته يقولون البحث يقتضي أنك تذكر دليله، فحينما تذكر دليله وتتوسع في ذكر أدلتهم هم أيضًا كثيرًا ما يستدلون بالنصوص، يعني ليس فقط أدلتهم أدلة عقلية، بل يستدلون بالنصوص، ثم أيضًا الأدلة العقلية عند عامة الناس لها وزنها ولها قيمتها، إذا قُرِّبَت لهم بالفهم، فحينما تذكر هذه الأقوال وتبدأ تذكر دليلها ثم تعود لنقضها أحيانًا تتمكن الشبهة في نفس السامع، ثم لا تستطيع اقتلاعها بعد ذلك.
بسبب هذه التفصيلات.(1/139)
أي.. وبعض الناس ربما يأتي مارًّا للمسجد، فإذا به من يدرس وقالت المعتزلة كذا، ودليلهم كذا، قال: والله كلام جميل، ثم يرسخ هذا في ذهنه، ويخرج عنده شغل ما استكمل الدرس كله والجواب عنه، فالذي ينبغي في مثل هذا أن يُقْتَصَر أولاً في تدريس الناس على الأمور العامة التي يشترك فيها كل المسلمين يعني تذكيرهم ترقيق قلوبهم مع شرح صفات الله وأسمائه الحسنى، ربطهم بها حينما يسألون الله ويدعونه، يدعونه بصفاته وبأسمائه الحسنى، ثم ترسيخ أيضًا تنزيهه عن خلقه حتى لا يسبق إلى عقولهم شيء غير مقصود وعدم الدخول في ذكر الخلافات والآراء الأخرى حتى لا يشوش عليهم أذهانهم.
الدرس الثاني عشر
النوع الثالث مقاصد وضع الشريعة للتكليف بمقتضاه
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حديثنا اليوم بمشيئة الله سيكون عن النوع الثالث من أنواع مقاصد الشارع التي عدها الشاطبي في بداية كتابه المقاصد، وجعلها أربعة أنواع فرغنا من اثنين منها والآن نتكلم عن النوع الثالث وهو مقاصد الشارع من وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.
والمقصود بهذا المقصد أن الشارع حينما وضع هذه الشريعة ليكلف الخلق بما تقتضيه من أمر أو نهي فالأصل أن الأوامر يطلب الامتثال لها وفعلها إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الندب. وأن كل نهي يأتي في القرآن أو في السنة يكون منهيا عنه يعني يكون غير مقصود الوقوع لله -جل وعلا- وغير مرغوب فيه إما على فيكون النهي عنه على سبيل الحتم ويكون فعله محرما، وإما ليس على هذا السبيل فيكون فعله مكروها هذا يعني تقديم بين يدي هذا المقصد العظيم وهو أن الشارع وضع الشريعة ليكلفنا.(1/140)
من هذا المقصد ننطلق إلى ذكر بعض القواعد التي تنبي على هذا ونستطيع أن نسميها القواعد المقاصدية المنطلقة عن هذا المقصد أو المترتبة على هذا المقصد وأولها أن الله -جل وعلا- أول هذه القواعد أن الله -جل وعلا- لم يكلفنا ما لا يدخل تحت قدرتنا.
هذه المسألة تكلم عنها أكثر الأصوليين، ولهذا فالشاطبي يقول إنني في هذا المجال أنا لا أستطيع أن أزيد على ما قاله الأصوليون من أن الله -جل وعلا- لم يكلف الخلق بما يعجزون عنه ولا يقدرون على فعله، ويكادون يتفقون على هذا من حيث الوقوع يعني أنه لم يقع في الشريعة التكليف بما لا يطاق، والمقصود ما لا يطاق الذي يعجز الإنسان عنه لا يمكن أن يطيق فعله هذا لم يرد في الشريعة، وإنما وجد بعد الخلاف في أنه هل يجوز عقلا أن يكلفنا الله بما لا نطيق أم لا يجوز؟ وهذه مسألة ليست بذات أثر. ومن الغريب أن بعض الكتب الأصولية حينما تبحث فيها؛ تجدهم يقولون إن مذهب أهل السنة أن الله يمكن أن يكلف الخلق بما لا يطيقون، هذا ليس بصحيح؛ لأن مذهب أهل السنة هو ما وافق الكتاب والسنة والله -جل وعلا- يقول: ? لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ?، ما زاد عن وسع الإنسان وعن قدرته وطاقته؛ لا يمكن أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه. وحينما نزلت هذه الآية وما بعدها وما قبلها من الآيات. جاء في صحيح مسلم أن الله استجاب للمسلمين دعاءهم لأن أول الآيات ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ? [البقرة: 285].(1/141)
يعني قبل هذه الآيات: ?إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ? [البقرة: 284]، خاف بعض الصحابة، وقالوا هذه والله لا نطيقها إذا كان كل ما يخطر على بالنا، أو على بال الإنسان سيحاسب عليه حتى مجرد حديث النفس؛ هذه لا نطيقها فأرشدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يقولوا ? سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ?، وأن يقولو?رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ? [البقرة: 286].
فأُرشدوا إلى هذا الدعاء، وورد في الحديث الصحيح في صحيح مسلم وغيره أن الله قال قد فعلت يعني استجبت لكم هذا الدعاء. فلهذا تقرر عند علماء الفقه جميعا لا يختلفون في أن ما يعجز عنه الإنسان لا يكون مكلفا به، ولا يؤمر بما يعجز عنه، ولا ينهى عما يعجز عن رده أو دفعه هذا متفق عليه بين الفقهاء، وأما ما يذكر في بعض كتب العقائد من أنه يوجد التكليف بما لا يطاق أو أن كثيرًا من التكاليف هو مما لا يطاق؛ فهذا ليس بصحيح، ولا حقيقة له. وكثير من هذه الأقوال مذكورة والتي نسبت إلى أبي الحسن الأشعري هي من الإلزام يعني ألزموه بها إلزاما وهو لم يقلها صراحة، وإنما قالوا يلزم من كلامه قوله في مسألة كذا ومسألة كذا أنه يقول إن التكاليف الشرعية مما لا يطاق.(1/142)
لا يهمنا هذا الوضع الآن لكن يهمنا ما اتفق عليه الفقهاء جميعا من أن من مقاصد الشارع أن لا يكلف الإنسان ما لا يدخل تحت قدرته وما يعجز عنه أبدًا سواء في جانب الأمر أو في جانب النهي. هذه الحقيقة متقررة التي دلت عليها النصوص الشرعية، ودل عليها استقراء الشريعة من أولها إلى آخرها لا تجد تكليفا يؤمر به الإنسان أو ينهى عنه إلا وهو داخل تحت قدرته يستطيع أن يفعله أو لا يفعله. أما ما خرج عن هذا؛ فلا يكون داخلا تحت أمره ونهيه تحت الأمر والنهي بمعنى أنه لا يكون مأمورا به ولا منهيا عنه.
هذه القاعدة المقاصدية يتفرع عليها فروع كثيرة؛ من هذه الفروع مثلاً أنه لو وجد في نصوص الشرع ما قد يدل ظاهره على أن الله أمرنا بما لا يدخل تحت قدرتنا؛ فإنه لا بد من تأويل هذا وبيان معنى صحيح يستقيم مع نصوص الشرع، ويضرب الشاطبيُّ لهذا أمثلة بقوله تعالى: ? وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ? [آل عمران: 102].
يقول هذا لو أخذت بمقتضى الوضع اللغوي؛ لقلت كيف ننهى عن الموت لا تمت إلا وأنت مسلم كيف؟! هل موتي وحياتي بيدي؟!(1/143)
فيقول مقصود الآية ومعنى الآية كما قال جميع المفسرين أن المنهي عنه هنا هو ليس أن تموت، وإنما المنهي عنه أن تفارق الإسلام. أنت منهي عن مفارقة الإسلام ومأمور بملازمة الإسلام حتى إذا جاءك الموت؛ جاءك وأنت على الإسلام. فيقول هذا التفسير أو التأويل للآية هو مستقيم مع القاعدة؛ لأنا لو قلنا لا تمت يعني أنت منهي عن أن تموت. موتك وحياتك ليسا بيدك. ثم يتفرع أيضا فروعٌ أخرى؛ أن هناك من الأفعال الباطنة والظاهرة ما لا يدخل تحت قدرة الإنسان، وإنما يهجم هجوما. فحب الإنسان مثلاً للأكل والشرب وحبه للشهوات: ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ?، فحب الإنسان لهذه الشهوات أو بغضه مثلاً لبعض الأمور بغضه لأن يموت يبغض أن يموت مثلاً لا يريد أن يموت يكره الموت هذه أمور تهجم عليه ليس باستطاعته الانفكاك عنها.
فمثل هذه الأمور لا يمكن أن تكون مأمورا بها لا تدخل تحت التكليف لأننا عندنا قاعدة بأن الله لا يكلفنا بما لا نطيقه؛ فكل ما لا يدخل تحت طاقتنا وقدرتنا نستطيع أن نقول إنه حتى لو وجد الأمر في الظاهر يعني قد يُفهم منه هذا لا بد أن يبين المراد منه.
كيف يبين المراد منه؟
يقول العلماء إنه حينما يأتي الأمر بشيء وأنت ليس في مقدورك فعله أو تركه؛ فالمقصود ليس هو ذلك الشيء، وإنما المقصود إما مقدماته وأسبابه يعني تكون منهيا عن تعاطي الأسباب التي توصلك إلى هذا الأمر أو تكون منهيا عن النتائج والأمور التي ترتب على هذا الأمر.
نضرب أمثلة:(1/144)
الحب والبغض مثلاً قد يهجم على الإنسان هجوما؛ فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها. فقد يحسن إليك كافر لا يؤمن بالله ولا برسوله -صلى الله عليه وسلم- فيسدي لك معروفا، فتجد في نفسك ميلا إليه، وحبا إليه. يهجم عليك هجوما أنت لا تستطيع أن تنفك منه؛ فهل تدخل تحت النهي عن حب الكافرين وحب ما هم عليه: ? لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ? [المجادلة: 22]، فهل مثل هذا يكون منهيا عنه؟ بمعنى أنك لو وقع في نفسك هذا تكون آثما.
يقول العلماء إن هذا ينبغي أن يصرف إلى ما يترتب عليه يعني ما وقع في نفسك من الحب هو نوع من الحب الطبيعي الذي يهجم على الإنسان لا يستطيع الانفكاك منه فأنت لست مؤاخذا عليه، وإنما أنت مؤاخذ على ما يترتب عليه. فلا تبني على هذا الحب حبك مثلاً لدين هذا الإنسان، أو حبك لما هو عليه من الأخلاق المخالفة للإسلام، ولا تبني على هذا الحب سكوتك عن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن هذا قد يكون من نتائج الحب حينما تحب إنسانا قد تحب ما هو عليه من الخلق، وتحب ما هو عليه وتتابعه في ذلك.
فأنت الشيء الذي هجم على قلبك ورأيت في نفسك حبا وميلا إليه هذا لا تؤاخذ عليه. لكن تؤاخذ على ماذا؟
تؤاخذ على ما إذا سكت على أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أو أحببت دينه الباطل الذي هو عليه، أو أحببت ما هو الأخلاق المخالفة للإسلام دع عنك الأخلاق الموافقة للإسلام هذا أمر تقول أحببت صدقه، وتقول أحببت صدقه وأحببت أمانته؛ فهذا لاشيء فيه وهذا لاشيء فيه. ولكن حب الأخلاق المخالفة للإسلام.(1/145)
كذلك لو بنيت عليه موالاته ضد المسلمين الآخرين مظاهرته ومعاونته على المسلمين حتى وإن كان عندهم أخطاء، وإن كانوا واقعين في كثير من المعاصي لكن هم ينبغي أن يكونوا أحبَّ إليك وأقرب إليك لأنهم على الإسلام وعلى ملة الإسلام وهكذا.
أيضا قرأت من قريب كتابة لأحد الصحفيين والكتاب والمثقفين يستغرب يقول كيف يكون هناك عندنا شيء اسمه الولاء والبراء والحب والبغض في الله؟
ثم تأتون وتقولون إننا مأمورون أن نحب في الله ونبغض في الله ثم نأتي للإسلام ونجد أن الإسلام يجيز زواج المسلم بالكتابية فهل تريدون أن نتزوج كتابية ويكرهها ويبغضها؟!
يعني هو يظن أن هذا الجواب يعني يسكت كل من ينادي بعقيدة الولاء والبراء؛ لأنه ما عرف حقيقتها على وجه التحديد فمثل هذا الحب الذي بين الرجل وزوجته بين الإنسان وأبيه بين الإنسان وابنه حتى وإن كان الابن كافرا أو فاسقا أو الأب كافرا والابن مسلما هذا الحب الطبيعي ليس منهيا عنه أبدًا. لماذا؟
لأنه لا يدخل تحت القدرة هذا خارج عن قدرتك لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الإنسان عندما يتزوج امرأة كتابية هو بطبيعة الحال سيحب زوجته ولكنه لم يُنْه عن مثل هذا الحب هو مَنهيٌّ عمَّا يترتب على هذا الحب أنه مثلاً يتابعها في دينها، يترك بعض دينه مراعاة لها، يترك أمرها بالمعروف، يترك إرشادها مثلاً إلى الخير، إلى غير ذلك من باب المجاملة. وكذلك يعني يجابه الإخوة الذين يعيشون في بلاد غير إسلامية مثل هذا الإشكال يعني يقول أنا قرأت أن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، لكنني في هذا البلد أنا عاجز عنه لماذا؟
قال أنا جئت مسكينا لا أعرف اللغة، ودخلت إلى هذه الجامعة ووجدت أستاذا قديرا صحيحٌ أنه ليس مسلما لكنه أعانني وأرشدني ووجهني حتى سجلت رسالتي والآن أصبحت طبيبا أو مهندسا أو أستاذا كبيرا؛ فهل تريد مني أن أبغض هذا الإنسان؟(1/146)
أنا لا أستطيع هذا، وأنا وقع في قلبي حبه؛ لأنه ساعدني، فنقول يجب أن تفصل بين الأمرين بين الحبّ الجبليّ وبين الحب الذي ترتب عليه أعمال أخرى هذا جانب. الجانب الثاني يرشد أولئك الإخوة الذين يعيشون في بلادٍ غير إسلامية إلى أن من أسدى إليك معروفا فكافئه؛ كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (كافئوه) اعمل له حتى تعتقد أنك قد كافأته حتى لا يصبح له فضل عليك، حاول أن تكافئه حتى لا يصبح له فضل عليه هذا الفضل ربما يؤدي في المستقبل إلى أن تتهاون أنت في بعض أمور دينك أمور دينك مراعاة له ومجاملة له، وحينئذ تكون وقعت في المحظورات فليس المحظور ما وقع في قلبك من ميل وحب له لكونه ساعدك لأن هذا أمر مجبول عليه الإنسان، ولكنك مؤاخذ على ما يترتب على هذا. لو أنك تنازلت عن بعض أمور دينك، لو أنك تركت بيان الحق له، لو أنك تركت الإنكار على ما هو عليه من المنكر، نعم.. حينئذ نقول إنك وقعت في المحظور، وفي غالب الأحيان أن مثل هذا الحب إذا لم يخفف منه الإنسان، ويخفف من أسبابه؛ أنه يوقع في هذا يعني الغالب أنه إذا أحب إنسانا وأغرق في حبه أنه سيتنازل عن بعض مبادئه، ويتنازل عن بعض أمور دينه مجاملة له. وإن لم يتدارك نفسه ولهذا لا يُستغرب أن يأتي ما يدل على أن الحب في الله والبغض في الله هو من أوثق عرى الإيمان هذه القاعدة الأولى.(1/147)
القاعدة الثانية: أنه يعني من مقاصد وضع الشريعة للتكليف بها أن الله ليس فقط لا يكلفنا بما نعجز عنه بل هو لا يكلفنا بالأمر الشاق من مقاصده أن لا يشق عليها، وأن لا يكلفنا بما يشق علينا وإن لم يكن مستحيلا. وهناك فرق بين غير المقدور أو ما لا يطاق وبين الأمر الشاق. فالأمر الشاق أنت تستطيع أن تفعله لكن بمشقة عظيمة قد تكلفك حياتك، وقد تكلفك أن تبقى حبيس الفراش وقد تكلفك عضوا من أعضائك، قد تكلفك ثمنا باهظا في دينك أو في حياتك أو في مالك أو في عرضك أو ما أشبه ذلك. هذه هي المرتبة الثانية غير ما لا يطاق الذي لا يطاق المعجوز عنه الذي لا تستطيع أن تفعله هذا انتهينا منها.
يبقى المرحلة الثانية أيضا من فضل الله علينا، ومن مقاصده العظيمة في وضع التكليف في عدم في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها أنه لا يكلفنا بالأمر الشاق لا يكلفنا بالأمر الشاق.
ما الدليل على هذا؟
الدليل على هذا –أيضا- كما في أواخر سورة البقرة: ? رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ?، فهذا الإصر هو المشقة العظيمة ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. والرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الله استجاب لنا هذا الدعاء، وقال: (قد فعلت).
الإصر الذي كان على الأمم السابقة كان شاقا وعظيما، كان أحدهم إذا أذنب الذنب العظيم، وأراد أن يتوب منه ما تقبل توبته حتى يقتل نفسه؛ لأجل أن تقبل توبته يقتل نفسه حتى تقبل توبته. هذا رفعه الله عنا والحمد لله، وجعل باب التوبة مفتوحا إلى أن يغرغر الإنسان، وتبلغ الروح الحلقوم، ويوقن بأنه ميت. فالحمد لله أنه رفع عنا هذا الإصر وهذه المشقة.(1/148)
يبقى عندنا نقطة مهمة جدًا وإشكال يرد، وهو أنه ما هي المشقة التي لا يمكن أن يكلف الله بها؟ ما هو ضابطه؟ قد يقول قائل: ? لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ?، وتقولون إن الله لا يكلفنا بما يشق علينا. أنا عندي الصلاة مثل صلاة الفجر شاقة علىّ كثيرا أقوم من النوم من تحت اللحاف الدافئ ومن فوق الفراش الوثير لأتوضأ مثلاً في الليلة القارصة، ثم أذهب إلى المسجد وأصلي. هذا فيه مشقة.
هنا ينبغي أن نعرف ونبين ونذكر الضابط المشقة التي لا يمكن أن يكلفنا الله بها أو وعد -جل وعلا- وبين أنه ليس من مقاصده التكليف بها؛ فنقول المشقة ثلاثة أنواع؛ نوع منها هو داخل فيما لا يطاق فالتكليف بما لا يطاق هو تكليف بمشقة عظيمة. حينما يكلف الإنسان شيئا هو ليس في مقدوره أن يفعله أبدًا فهذا تكليف بما لا يطاق، وهو من جهة فيه مشقة عليه؛ لأنه متحقق عليه الترك. الترك سيقع فيه حتما، وحينئذ تحققت العقوبة. لو أمر بشيء هو لا يدخل في قدرته. لو قلنا أن يؤمر بما لا يدخل تحت قدرته؛ لقلنا إنه تحققت في حقه العقوبة فيكون هذا فيه مشقة. ولكن هذا اختص باسم خاص هو ما لا يطاق، أو غير المقدور الذي لا يدخل تحت قدرة الإنسان، وهذا محل وفاق وخارج عن كلامنا.
أما ما يدخل تحت القدرة؛ فمنه ما لا مشقة فيه أبدًا يعني شيء لا مشقة فيه يعني التسبيح التكبير التهليل هذا فيه مشقة عليك؟ ما فيه أي مشقة. ومنه ما فيه مشقة، ولكن هذه المشقة مشقة معتادة هي من طبيعة الفعل نفسه. مثل ماذا؟(1/149)
مثل ما ذكرناه قبل قليل من مشقة النهوض من الفراش الوثير، في الليلة الباردة، والوضوء والذهاب إلى المسجد هذا فيه نوع مشقة فالتكاليف أكثرها هي من هذا الباب فيها شيء من المشقة لكنها تختلف في عِظَم هذه المشقة؛ فليست مثلاً المشقة في الصلاة كالمشقة مثلاً في الحج. الحج فيه مشقة أعظم لأن فيه مالا يُدفع، وفيه جهد بدني وجهد مالي، وتنقل، وزحام في كثير من الأحيان. فالمشقة فيه أكثر. ننتقل إلى أعلى من هذا الجهاد الجهاد في سبيل الله الجهاد بالنفس أيضا مشقته أعظم من مشقة الحج. لكن هذه المشقة وتلك المشقة كلها مَشَاقّ معتادة يعني هي من طبيعة الفعل نفسه لا تنفك عن الفعل نفسه فالمشقة المعتادة هذه ليست هي المقصودة بقولنا إن الله لا يكلفنا بما يشق علينا.
إذن ما مرادنا بهذه القاعدة ما مرادهم بقولهم إن من مقاصد الشرع لا يكلف الخلق بما يشق عليهم؟
نقول إن المقصود أن لا يكلفهم بفعل فيه مشقة تخرج عن المعتاد حتى نسلم من ماذا؟
حتى نسلم من الاعتراض الذي قد يرد علينا كيف تقولون إن التكليف كله ما فيه مشقة وهذا الجهاد والحج والصلاة وكثير من الأعمال فيها جهد؟
فنقول هذا جهد يسير لا يؤدي بالإنسان إلى الهلكة.
قد يقول أنا ما الذي يدريني عن الضابط ما هو ضابط المشقة؟
اذكر لي ضابطا مبينا للمشقة التي تمنع التكليف ما هو ضابط المشقة التي تمنع التكليف حتى أعرف أنني مكلف بهذا الفعل أو لا حينما أقيس نفسي على هذا؟(1/150)
فنقول ضابط المشقة التي تمنع التكليف هي: المشقة التي لو قدر لك أن تستمر عليها؛ لأدى ذلك إلى خلل في ذاتك يعني في جسمك أو في نفسك أو في مالك أو لأدّى ذلك إلى انقطاعك عن العمل يعني يؤدي استمرارك فيها ليس فعلها مرة واحدة، وإنما يؤدي تعميمها على الناس واستمرارهم فيها يؤدي إلى انقطاع العمل، أو يؤدي إلى خلل في بدنك، أو مالك أو أهلك، أو شيء من ضرورياتك. إذا وصل الأمر إذا كان الاستمرار فيه سيؤدي إلى هذا؛ فهي مشقة غير معتادة، وتكون مانعة لك من التكليف يعني تؤدي إلى انقطاع العمل، ولهذا نجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (صلّ قائما. فإن لم تستطع؛ فقاعدا. فإن لم تستطع؛ فعلى جنب).
طيب قد يقول قائل أنا أستطيع أن أقوم لكن يمكن أقرأ نصف الفاتحة، ثم أسقط نقول الآن عرفنا أنها مشقة تجيز لك الصلاة جالسا. آخر يقول أنا أستطيع أن أتحامل على نفسي وأقوم وأقرأ لكنني لو قمت على مضض مني لا أخشع في صلاتي، وربما أقرأ وأنا لا أعلم ماذا أقول.
نقول هذه المشقة أدت إلى انقطاع العمل فمثل هذه المشقة لو استمررت عليها تؤدي إلى انقطاع العمل، أو تؤدي إلى خلل أو تلف فهذه هي المشقة التي نقول إن الله لا يكلفنا بمثلها وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد؛ فأنت مطلوب منك أن تنزل عن هذا القدر وتعمل ما لا يصل بك إلى هذه المشقة العظيمة، وهي التي قصدت بالتيسير ورفع الحرج: ? وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ?، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا؛ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا منفرين)، إلى غير ذلك من النصوص في القرآن والسنة التي تدل على أن الله لا يكلف الناس بما يشق عليهم وأي تكليف تراه يخرج عن هذا ويصل إلى درجة المشقة؛ فاعلم أنك لست مطالبا به.(1/151)
وهذا طبعا يختلف من فرد إلى فرد أحيانا وأحيانا يختلف من عصر إلى عصر إلى غير ذلك. ولعلنا بعد هذا الملخص لبعض قواعد المقصد الثالث وهو مقصد وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها ننتقل بعد هذا إلى القراءة في الكتاب.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: هات مثالا من الواقع المعاصر تنطبق عليه قاعدة التكاليف الاعتقادية والعملية لا تخرج عما يسع المكلف فهمه وتعقله.
الإجابة:
من الأمثلة المعاصرة والتي تنطبق عليها القاعدة تقول مثل من أكل بعد آذان الفجر بدقائق قليلة وذلك بعدم سماع....... التي لا يجب أن نربط التكليف بها ولا يتطلب من المكلف التدقيق فيها؛ لأن العبرة هنا ليست بالدقائق لأن الأحكام الشرعية في هذه المسألة تقريبية وليست مقيدة بزمن محدد فالواجب أن يكون التقريب والتبسيط للمكلف الذي يتم بموجبه استيعاب هذه التكاليف بسعة التي يفهمها عقله حتى يتم اعتماد قاعدة "حدثوا الناس بما يعرفون".
إجابة موفقة.
والسؤال الثاني: هل يستفاد من المعاني التابعة أحكاما شرعية؟ وما الذي رجحه الشاطبي في هذا؟
الإجابة: اختلف العلماء في ذلك وقد رجح الإمام الشاطبي عدم بناء الأحكام الشرعية على المعاني التابعة فلا يؤخذ من المعاني التابعة أحكام مستقلة وإنما هي تأكيد واستثناء من ذلك بعض العادات والله تعالى أعلم.(1/152)
جواب أيضا سليم لكن ينبغي أيضا أن نضيف أنّ الشاطبي قال لا يمتنع أن نكتسب أو نستفيد من المعاني التابعة بعض الآداب الشرعية. يعني نستفيد آدابا شريعة وليس أحكاما فيها تحليل وتحريم هذا مرداه وإنما قد نستفيد منها آدابا مستحبة وقد نستفيد منها أيضا بعض النكت البلاغية كما يسميها البلاغيون، أو بعض الحكم، وذكر لها أمثلة، وقال مثلاً يعني نجد في القرآن إذا استعرضناه نجد أن النداء لما يكون من العبيد لربهم لا يسبق بياء النداء، لا يقولون يا ربنا وإنما كلها بلفظ ? رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ?، ? رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ?، بدون ياء النداء فيقول هذا فيه استشعار لقرب الله -جل وعلا- منهم؛ لأن الياء تقال لمناداة البعيد فلما كان الله قريبا منهم ثم أيضا يقول التعبير بلفظ ربنا ما قالوا إلها مثلاً في كثير إذا كان طلبهم هو يعني
يتعلق بالربوبية
بالربوبية تجدهم يقولون ربنا. يقول هذا لأن الرب هو المربي وهو الذي أنعم علينا بالنعم حتى اكتمل خلقنا واكتمل حياتنا، فيقول مثل هذه الأمور وهو كثير يذكره المفسرون يعني كتب التفسير تشير إلى هذا وقد يصطلح بعضهم عليه بالمعنى بمصطلح التفسير الإشاري يعني ما تشير إليه الآيات وإن لم يكن صريحا، فهو يقول هذه المعاني التابعة يمكن أن تؤخذ منها بعض الآداب يعني الجواب قالت الأخت التي أجابت لا يستفاد نعم هو قال رجح أنه لا يستفاد من هذا حكم جديد غيره قد يرجح القول الثاني ويقول ينبغي أن نستفيد منه، وله أيضا بعض الأدلة على هذا ولكن كما أشرنا سابقا نحن لم نتعرض للمسألة بشيء من التفصيل؛ لأنها خارجة عن مقصود بحثنا يعني بحثنا يكتفي بهذا القدر يكفينا -إن شاء الله-. وننتقل الآن إلى الكتاب لنقرأ بعض نصوص الموافقات في النوع الثالث.
قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-:(
النوع الثالث(1/153)
في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاه
ويحتوي على مسائل.
المسألة الأولى: ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به؛ فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا. ولا معنى لبيان ذلك هاهنا فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ولكن نبني عليها ونقول إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد وذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه)
سوابقه يعني أسبابه يعني إذا وجد ما يبدو من ظاهره أنه أمر أو نهي عمّا لا يدخل تحت قدرة الإنسان؛ فلا بد أن يكون هذا المقصود به ما يسبقه أسبابه أو لواحقه التي تأتي بعده أو قرائنه التي تقترن به مثل ما مثلنا لكم قبل قليل.
(وقول الله تعالى: ? فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ?، وقوله في الحديث: (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل)، وقوله: (لا تمت وأنت ظالم) وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام وترك الظلم والكف عن القتل والتسليم لأمر الله وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل)(1/154)
يعني بالترتيب تعاد كلها على ما سبق قال ليس المقصود ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام يعني بالنسبة للآية الأولى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولو قيل ملازمة الإسلام وعدم مفارقته ويكون النهيُ النهيَ عن ترك الإسلام أو النهي عن مفارقة الإسلام؛ فلا تفارق الإسلام وتقول لعلي أفارقه فترة وأقضي وطري ومقاصدي الدنيوية، ثم أعود إليه وأتوب مثل ما يفعل بعض الجهال يعني ربما يقول أنا الآن شاب وأعمل ما شئت من المعاصي فإذا كبرت؛ أتوب وأصبح من أهل الطاعة ويختم لي بخاتمة حسنة، وكأنه يضمن أنه سيعيش إلى أن يكبر ويتوب، وربما يعاجله الأجل وهو على المعصية. فمقصود الآية ? فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ?: لا تفارقوا الإسلام لا تبارحوه لا تتركوه أبدا حتى إذا جاءك الموت؛ جاءك وأنت على الإسلام أما الذي يترك الإسلام، ويترك التدين، ويترك التمسك بعرى الإسلام فترة، ثم يرجع، ثم يترك فهذا ربما يأتيه الأجل وهو على غير ملة الإسلام، وربما يأتيه الأجل وهو على معصية حتى ولو لم يخرج من الإسلام ربما يأتيه وهو مقارف للظلم. وقوله وترك الظلم هذا في تفسيرًا لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة: (كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل) يعني في الفتنة اترك الظلم ولا تتعدى ولا تقتل أحدًا حتى لو قتلك هو تكون أنت المقتول ظلما، ولا تكن أن القاتل في الفتنة. والكف عن القتل والتسليم لأمر الله ترك الظلم في قوله: (لا تمت وأنت ظالم) يعني كأنه قال اترك الظلم حتى إذا جاءك الموت لا يجيؤك وأنت ظالم سواء ظالم لغيرك أو ظالم لنفسك.
(ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة: (حيث ترس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وكان -عليه الصلاة والسلام- يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة لا تشرف يا رسول الله لا يصيبوك) الحديث وقوله لا يصيبوك من هذا القبيل)(1/155)
يعني هو عندما قال لا يصيبوك هذا ليس في مقدور الرسول حتى نقول ينهاه أن يصيبوك لكن مراده يعني لا تبرز لهم حتى لا يصيبوك.
(المسألة الثانية: إذا ثبت هذا؛ فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان؛ كالشهوة إلى الطعام والشراب فالشهوة إلى الطعام والشراب لا يُطلب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها فإنه من تكليف ما لا يطاق كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه، ولا تكميل ما نقص منها فإن ذلك غير مقدور للإنسان ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الاكتساب)
نعم هذا كلام جميل يقول إن هذه الأمور التي طبع الإنسان وجبل عليها؛ كحبه للطعام وحبه للشراب وغير ذلك من الأمور التي غرزت في جبلته وفي طبيعته لا يمكن أن يطالب باقتلاعها وإنما هو مطالب بأن لا يُمعن فيها بحيث يؤدي ذلك إلى جنوحه ودخوله فيما لا يحل لأن الإنسان إذا طاوع نفسه كلما طلبت شيئا أعطاها إياه؛ أدى به هذا إلى أن يقع في الحرام ويأكل المحرم لكن إذا دأب على أن يكبح جماح هذه النفس بالصوم مرة، وبتخويفها، وبترك الشيء حتى مع وجوده ومع توفره، وبعدم الإغراق في الشهوات والملذات يكون هذا من باب تربية النفس حتى إذا أراد قهرها عن المحرم؛ قهرها.(1/156)
أما من ترك لنفسه هواها في المباحات ولم يمنعها عن شيء وتوسع فيها؛ فإنه قد يؤدي به الأمر إلى أن يقع في المحرمات. أما إذا وقف عند الخط الفاصل فهناك حد فاصل بين المحرم وبين الحلال لكن تربويا ومن حيث العادة إذا نظرنا إليها فإن الإنسان حينما يتعود على أن يلبي جميع الرغبات وهكذا يعني الآن في تربية الأبناء وغيرهم حينما تعطي الابن كل ما تريد لن يقف عند حد سينتقل إلى ما لا يحل. لكن حينما تربيه على أنه يأخذ من متاع الدنيا ما يتيسر ولكن من غير إغراق فيه ومن غير إرسال للنفس فإن هذا سيجعله يقف عند حدود الله ولا يتجاوز ما أحل الله.
فلهذا العاقل من يجعل بينه وبين الحرام وقاية يعني يترك جزءا مما يحل الله له حتى لا يقع في الحرام إذا كان الاسترسال في هذه الأمور سيؤدي به إلى الوقوع في المحرم. فهذا مراده هنا وهو كلام جميل ويقول: (وذلك راجع إلى ما ينشأ عن الأفعال من جهة تلك الأوصاف) يعني من جهة ما تؤدي إليه تلك الأوصاف، وليس النهي عن أن تشتهي الطعام أو أن تشتهي ما أحل الله لك وإنما النهي أن تؤدي هذه النزعة إلى وقوعك في المحرم وتتجاوز ما أباح الله لك.
قال -رحمه الله-: ( المسألة الثالثة: إن ثبت بالدليل أن ثم أوصاف تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان فحكمها حكمها؛ لأن الأوصاف المطبوعة عليها ضربان؛ منها ما يكون ذلك فيه مشاهدا ومحسوسا كالذي تقدم، ومنها ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك. ومثاله العجلة فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه؛ لقوله -تعالى-: ?خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ?، وفي الصحيح (إن إبليس لما رأى آدم أجوف؛ علم أنه خلق خلقا لا يتمالك)، وقد جاء أن الشجاعة والجبن غرائز، وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. إلى أشياء من هذا القبيل، وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات وجاء (يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب))(1/157)
نعم هو ذكر هنا كثير من الأوصاف يعني التي ليست ظاهرة للعيان، وقال إن هذه الأوصاف من الحب والبغض هي أوصاف يظهر أنها تهجم على الإنسان من غير حول له ولا قوة في دفعها. فيقول النفوس جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. فلهذا مثلاً لا يلام من أبغض من أساء إليه وإن كان مسلما زاهدا لا نقول له أنت تبغض هذا وهو رجل صائم مُصَلٍّ يقول لكنه ظلمني لكنه فعل كذا. فبطبيعة الحال وجد في نفسه مثل هذا البغض له لكن ينبغي له أن لا يبني على هذا أن يظلمه أو يحقره أو يتجاوز عليه أو يكذب عليه مثلاً في دعواه فمثل هذه الأمور أنت مطالب بالكف عنها لأنها في مقدورك يعني قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا تغضب) فنهاه عن الغضب.
قد يقول قائل هو الغضب في يدي ليس الغضب في ملكي أنا لا أستطيع أن أمنع نفسي نقول أنت منهي عن أن تبني على هذا الغضب أمورا. لا تتجاوز أولا منهي عن أسبابه لا تتعاطى أسباب الغضب حاول أن تخفف منه، ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي غضب قال يعني بالوضوء وقال (إذا غضب وهو واقف فليجلس وإذا كان جالسا فليضجع) فأنت عندك أسباب تخفف من الغضب أرشدك الشرع إليها؛ فخذ بهذه الأسباب أولا امنع أسباب الغضب. ثانيا إذا وجد ما يغضبك؛ فخذ الأسباب التي تخفف الغضب. والأمر الثالث لا ترتب على غضبك هذا ظلم الإنسان أو الكذب عليه أو ما أشبه ذلك.
فهذه يعني الأمور كلها تدخل تحت هذا المقصد العظيم وهو أن الشارع لا يقصد إلى تكليفنا بما لا يدخل تحت قدرتنا أو بما نعجز عنه.
(وإذا ثبت هذا فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام؛ أحدها: ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا وهذا قليل؛ كقوله تعالى: ? فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ?، وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به)
مثل ما ذكرنا سابقا يعني مصروف إلى مثل ما قال المصنف إلى سوابقه أو لواحقه أو مقارنه.
((1/158)
والثاني: ما كان تحت كسبه قطعا وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه والطلب المتعلق بها على حقيقته بصحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها.
والثالث: ما قد يشتبه أمره؛ كالحب والبغض وما في معناهما. فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها فحيث ثبتت له من القسمين؛ حكم له بحكمه والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا؛ إما لأنها من أصل الخلقة فلا يُطلب إلا بتوابعه)
يعني لا يكلف إلا بتوابعها يعني ما ينشأ عنها.
(فلا يطلب إلا بتوابعها فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب وإما لأن له)
لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب يعني لا يأمرنا الله بأن نقدر لكن يأمرنا بالاستعداد يعني: ? وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ? حتى نصل إلى هذا يعني يأمرنا بأسباب القدرة ولا يأمرنا بالقدرة نفسها يأمرنا أن نتخذ الأسباب التي تجعلنا قادرين على رد عدوان المعتدي فلا تكون القدرة نفسها مأمورا بها، والعجز أيضا نفسه لا يكون أيضا منهيا عنه إلا بهذا التأويل يعني لا تأخذ في أسباب العجز فإن عدم استعدادك يؤدي بك إلى العجز فأنت مأمور بالاستعداد.
(وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالا أخر. فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه؛ فالطلب يَرِد عليه؛ كقوله:..)
يعني يرد على هذا السابق وعلى هذا الباعث أو المثير يكون الطلب هنا سواء كان أمرا أو نهيا يرد على الباعث.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
ما الفرق بين التكليف بما لا يطاق والتكليف بالأمر الشاق؟
السؤال الثاني:
ما ضابط المشقة التي لا يقع التكليف بها؟
الدرس الثالث عشر
المشقة المصاحبة للتكليف
إجابة أسئلة الحلقة الماضية.(1/159)
السؤال الأول: ما الفرق بين التكليف بما لا يُطاق والتكليف بالأمر الشاق؟
الإجابة: قال فيها: التكليف بما لا يُطاق؛ أي أن الله تعالى لم يكلف الخلق بما يعجزون عنه، وبما لا يقدرون على فعله. والتكليف بالأمر الشاق؛ أي أن الله تعالى لم يكلفنا بما يشق علينا وإن لم يكن مستحيلاً.
والفرق بينهما: أن الأمر الشاق يستطيع الإنسان أن يفعله ولكن بمشقة عظيمة قد تكلف الإنسان حياته، أو تكلفه عضواً من أعضائه، أو تكلفه ثمناً باهظاً في دينه أو حياته أو ماله، أما ما لا يُطاق؛ فهو ما لا نستطيع أن نفعله.
الجواب سليم كافٍ والحمد لله، وبخاصة في آخره هو لخص الجواب، يعني كأن كلامه في الأول فيه شيء من الانصراف عن المقصود، أما آخر كلامه فهو حدد الفرق؛ لأن السؤال هو عن الفرق، فالفرق بينهما ما لا يُطاق: هو الذي يعجز الإنسان عن فعله مهما كان، لا يمكن أن يفعله هذا لا يطيقه، وأما ما فيه مشقة هذا قد يكون مقدوراً للإنسان لكنه يكلفه ثمناً باهظاً مثلما قال، ويكلفه تكليفاً زائداً عن التكاليف التي اعتدنا أن توجد مع الأعمال المشروعة.
إجابة الأخت الكريمة على السؤال الثاني وهو: ما ضابط المشقة التي لا يقع التكليف بها؟
أجابت: ضابط المشقة التي تمنع التكليف هي المشقة التي لو قُدِّرَ لك أن تستمر عليها؛ لأدَّى ذلك إلى خلل في ذاتك يعني في جسمك، أو في نفسك أو في مالك، أو لأدى ذلك إلى انقطاعك عن العمل يعني يؤدي استمرارك فيها ليس فعلها مرة واحدة، وإنما يؤدي تعميمها على الناس واستمرارهم فيها يؤدي إلى انقطاع العمل، أو يؤدي إلى خلل في بدنك أو مالك أو أهلك أو شيء من ضرورياتك، إذا وصل الأمر، إذا كان الاستمرار فيه سيؤدي إلى هذا؛ فهي مشقة غير معتادة، وتكون مانعة لك من التكليف، يعني تؤدي إلى انقطاع العمل.. هذه إجابته.(1/160)
أيضاً جواب سليم وموفق، فما ذكرته الأخت هو كافٍ في الحقيقة ولا يحتاج إلى إعادة، ونحن سنقرأ -إن شاء الله- الآن نص كلام الإمام الشاطبي في ضابط المشقة التي تمنع التكليف.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
في بداية هذه الحلقة أشكر الإخوة الذين تواصلوا مع البرنامج وأجابوا سواءً من قُرأت إجابته، أو من لم تُقرأ إجابته. وبعد هذا سوف -بإذن الله تعالى- أقدم بمقدمة يسيرة للتذكير بالدرس الماضي، ثم نقرأ المسائل أو رؤوس المسائل التي سَبَقَ الكلام فيها، ثم نبدأ في الكلام عن مسألة اليوم وهي تتعلق بالمشقَّة المُصاحبة للتكليف. هل هي مقصودة للشارع أم غير مقصودة؟ وما الذي ينبني على ذلك؟
في الدرس الماضي تكلمنا عن النوع الثالث وهو: مقصد وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها. وقلنا: إن الشارع لا يقصد إلى التكليف بما يعجز عنه الإنسان، وتقرر هذا بأدلة قطعية واضحة، وأشرت إلى أن ما وقع من خلاف ونقله بعض المتكلمين في أصول الدين أو في أصول الفقه يمكن حصره في إمكان التكليف، وليس في وقوعه، وإن كان هناك كثير من الأدلة قد تُحمل على أن المُستدل بها يرى وقوع التكليف بما لا يُطاق، لكن هذه معارَضة بما هو قطعيٌّ من النصوص الصريحة الدالّة على أن الله لا يكلفنا ما لا نطيق كقوله تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا? [الطلاق: 7]، وما شابه هذا من النصوص بالإضافة إلى الإجماع الذي حكاه غير واحد؛ أنه ليس في الشريعة تكليف بما لا يُطاق، فإن وجد خلاف؛ فهو في الإمكان العقلي، وهذا لا يهمنا فمجرد الإمكان العقلي لا يهمنا هنا، وإنما الذي يهمنا هو الوقوع.(1/161)
ثم تكلمنا عن التكليف بالعمل الشاقّ، وقلنا إن لفظ المشقة يطلق على عدة معاني؛ فقد يُطلق على المَعْجُوزِ عنه أنه شاق، وهذا قد سبق الكلام فيه، وأنه لا يُكلف به باتفاق. ويطلق لفظ المشقة على المشقة المعتادة التي تصحب التكليف، فإن التكاليف الشرعية بعضها ليس فيه مشقة أبداً، وبعضها فيه مشقة يسيرة، وبعضها فيه مشقة أكبر، لكنها جميعاً هي لا تصل إلى درجة المشقة التي لا يستطيع الإنسان الاستمرار عليها، وأن الاستمرار عليها سوف يؤدي إلى انقطاعه أو إلى هلاكه أو تلفه أو يكلفه شيئاً من ضرورياته.
فهذا النوع قلنا إنه إذا كان التكليف لم يصل إلى هذه الدرجة فيه شيء من المشقة؛ فهو تكليف بشيء من المشقة التي هي من طبيعة العمل، ومصاحبة للعمل، فمثل هذا واقع، يعني يقع في الشريعة تكليف بأعمال فيها نوع مشقة، وضربنا لهذا مثالاً بالحج، والجهاد، والصلاة مثلاً في الأوقات الباردة، الوضوء في الأوقات الباردة، فهذه كلها فيها نوع مشقة، ولكنها مشقة معتادة.(1/162)
وأما إذا زادت المشقة عن هذا القدر؛ فلا يقع التكليف بها، والدليل على عدم وقوع التكليف بها هو ما ذُكِرَ فيما سبق من أن الشرع لا يكلف بالمعجوز عنه؛ فهذه مثلها. كذلك ما ورد من الآيات الكثيرة في نفي الحرج، ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? [الحج: 78] والتكليف بأمر شاقّ يكلف الإنسان حياته، أو يكلفه ماله، أو تلف عضو من أعضائه أو ما أشبه ذلك، هذا تكليف يشق على الإنسان وهو لم يرد في الشرع، والنصوص كثيرة، وقوله -صلى الله عليه وسلم- إخباراً عن الله -جل وعلا- حينما أمرهم بالدعاء الذي في آخر سورة البقرة، أخبر أن الله قال: (قد فعلت) يعني ?رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا? [البقرة: 286] فالإصر والأغلال التي كانت على الذين من قبلنا، هذه تكليف بمشقة، ليست تكليفا بمعجوز عنه، تكليف بمشقة عظيمة، ولكن الله نفاه عن هذه الأمة، وامتن عليها بأن لا يكلفها بما يشق عليها مشقة تخرج عن المعتاد، ثم تكلمنا عن ضابط وهي التي ذكرها الإخوان قبل قليل في أجوبتهم، وقبل أن نشرع في درس اليوم نقرأ رؤوس المسائل.
كنا قد قرأنا في المسألة الرابعة، وآخر المسألة الرابعة الحقيقة فيها كلام طويل للإمام الشاطبي، هو من قبيل المماحكات الكلامية، ولا حاجة إلى قراءته يعني إيراد بعض الإشكالات والجواب عنها، وبخاصة أن الشاطبي -رحمه الله- في أثناء كلامه عنها قد تعرض أو قد وقع في تأويل صفة الحب والبغض من الله -جل وعلا- ولهذا؛ فلسنا بحاجة إلى الخوض فيها، فما قُرئ من المسألة الرابعة كافٍ وننتقل إلى المسألة الخامسة التي تحدثت عن أنواع المشاقّ، ولعل أحد الإخوان يقرأ.
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا وللحاضرين!(1/163)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره لكنه شاق عليه، فهذا موضعه، فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يُطاق، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق، ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليفُ بالمشاق، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يُطاق. وأيضاً فإن التكليف بما لا يُطاق قد منعه جماعة عقلاء، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم. وأما المعتزلة؛ فذلك أصلهم، بخلاف التكليف بما يشق، فإذا كان كذلك فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة، ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى المشقة وهي في أصل اللغة من قولك: شَقَّ عليَّ الشيءُ يشُقُّ شقّاً ومشقة إذا أتعبك، ومنه قوله تعالى: ?لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ? [النحل: 7]، والشق: هو الاسم من المشقة وهذا المعنى إذا أخذ مطلقاً من غير نظر إلى الوضع العربي؛ اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية).
يعني لفظ المشقة إذا أخذ مجرداً من أصل وضعه اللغوي وليس الوضع الاصطلاحي؛ يمكن أن يطلق على أربعة معانٍ.
(أحدها:
أن يكون عاماً في المقدور عليه وغيره؛ فتكليف ما لا يُطاق يُسَمَّى مشقة، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله مُوقِعاً في عناء وتعب لا يجدي، فالمقعد إذا تكلف القيام، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء وما أشبه ذلك، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاقُّ الحَمْل إذا تحمل في نفسه المشقة؛ سُمي العمل شاقاً والتعب بتكلف حمله مشقة.
الثاني:
أن يكون خاصاً بالمقدور عليه، إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها، ويقلقها في القيام بما في تلك المشقة، إلا أن هذا الوجه على ضربين:(1/164)
أحدهما: أن تكون المشقة مختصةً بأعيان الأفعال المكلف بها، بحيث لو وقعت مرة واحدة؛ لوجدت فيها. وهذا هو الموضع الذي وُضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء؛ كالصوم في المرض والسفر، والإتمام في السفر وما أشبه ذلك.
والثاني: أن لا تكون مختصة، ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها؛ صارت شاقة، ولحقت المشقة العامل بها ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجهٍ ما، إلا أنه في الدوام يتعبه).
نعم.. هذا النوع الثاني قال: (هو خاص بالمقدور عليه) يعني عمل يقدر عليه، لكن فيه مشقة، فيقول: هذه المشقة إما أن تتعلق بكل فرد على حدة، ومختصة بعين الفعل المكلف به، بحيث أنها لو وقعت مرة واحدة حصلت معها مشقة، وإما أن تكون لا تحصل هذه المشقة إلا مع تكرار العمل والمداومة عليه، فهو لا تظنوا أن كل واحدة منها قسم مستقل، هو القسم الثاني هذا شققه أو قسمه إلى ضربين، أو إلى نوعين، لو انتقلت إلى الثالث، الوجه الثالث.
(الوجه الثالث:
أن يكون خاصاً بالمقدور عليه، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية. ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاقٌّ على النفس، ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة؛ لأن العرب تقول: كلفته تكليفاً إذا حملته أمراً يشق عليه وأمرته به، وتكلفت الشيء إذا تحملته على مشقة، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفاً فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار؛ لأنه إلقاء بالمقاليد، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدني).(1/165)
إذن هذا هو الذي يقصد به المشقة المعتادة، فالقسم الثاني مشقة مقدور عليها لكنها خارجة عن المعتاد، يعني هي مقدور عليها بعناء ومشقة فهي خارجة عن المعتاد، والقسم الثالث: مشقة ليست خارجة عن المعتاد هي معتادة، وتسمى مشقة باعتبار عدم التكليف يعني لو أنك لم تكلف بهذا الفعل كان الأمر أخفَّ عليك، فإذا كلفت بهذا الفعل؛ زاد الأمر عليك أو زاد العناء عليك نوعاً ما، لكنه لم يصل بك إلى درجة الإعنات والمشقة العظمى.. الرابع.
(الوجه الرابع: أن يكون خاصاً بما يلزم عما قبله، فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقاً، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء، وذلك معلوم بالعادات الجاهلية في الخلق).
نعم.. هذا النوع الرابع هو راجع إلى الثالث، ولهذا نحن حينما تكلمنا قلنا لكم: المشاق ثلاثة أنواع، وجعلنا النوع الرابع داخلاً في النوع الثالث؛ لأنه هو قَسَّمَ ما يدخل تحت مقدور .. أو المشقة التي داخلة تحت مقدور المكلف وفي الوقت نفسه ليست خارجة عن المعتاد قسمها إلى نوعين:
النوع الأول: ما فيه شيء من العناء.(1/166)
والثاني: ما يحصل العناء فيه إذا قورن بما قبله، وإلا؛ فهو في الأصل ما فيه عناء، يعني هو ما فيه أي عناء ولا تعب، ولكن لما ألفت النفوس ما عداه؛ أصبح التلبس به والعمل به فيه مشقة عليها، يعني مثل ترك شرب الخمر في بداية التكليف به عندما كان الناس يعتادون شرب الخمر فيه شيء من المشقة عليهم، يعني ترك الأمور التي اعتاد عليها الناس فيها نوع مشقة عليهم، لكن بعد أن اعتاد الناس على ترك الخمر هل هم الآن يعني هل المسلم العادي الآن يقول: أنا يشق عليّ ترك الخمر؟ لا يوجد أي مشقة عليه في ترك الخمر، بل ربما لو لم يكن محرماً الخمر؛ ما شربه، وما احتاجه. لكن لما كانوا معتادين عليه وملازمين له فترة طويلة؛ أصبح الترك فيه مشقة، وهكذا ما كانوا عليه من المساوئ التي كانوا يمارسونها هي في حقيقة الأمر النهي عنها ما فيه مشقة, يعني لأن النهي مجرد انكفاف، ترك، لكن يسمى مشقة باعتبار ما قبله لما كانوا مداومين عليها يعني مستمرئين لها وهكذا الإنسان إذا أخرج عن عادته التي اعتاد عليه يحس بشيء من المشقة، وأنت قس هذا على نفسك، يعني الآن حينما تمنع من الأمور التي أنت اعتدت عليها تجد في هذا نوع مشقة عليك، ولو كان هذا الوضع الجديد، أسهل لك وأيسر لك، وأفضل لك لصحتك ولدينك ولمالك ولبدنك ومع هذا تجد نوعاً من المشقة في ترك ما اعتدت عليه من قبل، فهذا النوع هو داخل في النوع الثالث لأن كلا منهما أو يجمعهما شيء واحد وهو: أن فيهما مشقةً لكنها ليست خارجة عن المعتاد، هي مشقة معتادة، ويختلفان في أنه هل هذه المشقة يُحس بها كل مكلف أم لا يحس بها إلا من كان مقيماً على حال أخرى وأريد نقله عنها فقط؟ ننتقل إلى المسألة السادسة.
قال: (المسألة السادسة:
فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالمشاق الإعنات فيه والدليل على ذلك أمور:(1/167)
أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى: ?وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ? [الأعراف: 157]، وقوله: ?رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا? [البقرة: 286] وفي الحديث: (قال الله تعالى: قد فعلت)، وجاء ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، وقوله: ?يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ? [البقرة: 185]، وقوله: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? [الحج: 78]، وقوله: ?يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا? [النساء: 28]، وقوله: ?مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ? [المائدة: 6] وفي الحديث: (بُعِثْتُ بالحنيفية السَّمْحة)، و(ما خُيِّرَ بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثم)، وإنما قال: (ما لم يكن إثم)؛ لأن ترك الإثم لا مشقة فيه، من حيث كان مجرد ترك، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى. ولو كان قاصداً للمشقة لَمَا كان مريداً لليسر ولا التخفيف، ولا كان مريداً للحرج والعسر، وذلك باطل).
نعم.. يعني الآيات والأحاديث التي ساقها صريحة في أن الله لا يقصد إلى ما فيه مشقة ويكلف الخلق به.
(والثاني: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما عُلِمَ من دين الأمة بالضرورة؛ كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات بالاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثَمَّ ترخيص ولا تخفيف).
طيب لو انتقلت للمسألة السابعة، فيها ذكر لضابط المشقة.
(المسألة السابعة:(1/168)
فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع؛ لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان، ويذمونه بذلك، وكذلك المعتاد في التكاليف. وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة، والتي تعد مشقة وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه، أو إلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه، أو ماله، أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب، فلا يُعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة).(1/169)
يعني هذه العبارة ينبغي أن نعتني بها عناية كبيرة، وأن نضبطها وأن نحفظها مع فهمها؛ لأنها تتعلق بضابط المشقة، يقول: (الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة في عرف الشرع وفي العادة وبين ما يسمى مشقة ويمنع التكليف) قال: إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو يؤدي إلى الانقطاع عن بعضه، أو يؤدي إلى خلل في صاحب العمل يعني في بدنه أو في ماله أو ما أشبه ذلك، أو حال من أحواله؛ فمثل هذه المشقة هي الخارجة عن المعتاد وهي التي لا يرد بها التكليف، أما إذا كانت المشقة لا تصل إلى هذا القدر، ولا يترتب عليها انقطاع العمل لو استمر عليها، يعني الكلام ليس لا تنظر إلى المشقة من حيث أنك لو فعلتها مرة ما تضرك، لكن قس هذا واعرف هذا بأنك لو واظبت عليها وأصبحت تفعلها باستمرار فهل فيها ما يضر بك أو يضر بالعمل الذي كلفت به فيؤدي إلى انقطاعك عنه بمرض أو ما يشبه ذلك؟ فإن كانت كذلك؛ فقل هذه مشقة خارجة عن المعتاد، وإن لم تكن كذلك فهي ليست خارجة عن المعتاد، وهذا يفيد يعني بعض الناس يقول: أنا أعرف أن المشقة مثلاً إذا شق عليَّ القيام في الصلاة أنني يجوز لي الصلاة قاعداً، لكن أنا أستطيع أن أقوم، يمكن أستطيع أن أقوم وأصلي ركعة أو ركعتين لكن لو استمررْت على هذا؛ لأضر بي.
نقول: إذا ثبت ذلك بمشورة الطبيب أو بحسك أنت أيها المكلف أن استمرارك على القيام سيؤدي بك إلى ضرر أو انقطاع أو يؤدي بك أيضاً إلى خلل في العبادة من جهة عدم القدرة على الطمأنينة فيها، ربما يعني الإنسان لما يحس بالألم ما يصبح قادراً على التركيز فيما يقوله وفيما يتكلم به فيحصل الخلل في العبادة نفسها من جهة أنك ما تستطيع أنك تتفكر فيما تقرأ في أثناء وقوفك.(1/170)
فلهذا نقول لك: اجلس. أنت لا تفرض أنك قادر على ركعة واحدة، افرض أنك لو استمررت على القيام في كل صلاة، هل سيؤدي هذا إلى ضرر؟ إذا كان الجواب نعم، فيجب أن تصلي جالساً أو ينبغي لك أن تصلي جالساً، كذلك فيما يتعلق مثلاً بالتيمم لوجود جرح في الإنسان. قد يقول قائل: أنا فيّ جرح ولو توضأت عليه اليوم لن يضره، فهل أتوضأ عليه يوم مثلاً وأتركه يوماً؟
نقول: انظر إلى القاعدة هل استمرار الوضوء عليه سيؤخر البرء؟ سيتأخر الشفاء؟ ستكون له مضاعفات؟
إذا كان الجواب بنعم؛ فلا تغسله وإنما تكتفي عنه بالتيمم، لا تنظر إلى غسله مرة واحدة، وإنما انظر إلى تكراره، لو كررت عليه هذا هل سيؤدي إلى تأخير البرء أو زيادة مضاعفات الجرح؟
إذا كان الجواب بنعم؛ فنقول: إذن هذه مشقة غير معتادة، المشقة المعتادة هي التي لو استمررت عليها طول عمرك ما ضرك شيء.
إذن هي مشقة خفيفة تسميتها مشقة هو من باب التجوز، وإلا؛ فهي ليست مشقة حقيقية مانعة عن العمل أو قاطعة عنه أو مؤدية إلى خلل في الجسم أو في شيء من أحوال الإنسان.
ننتقل بعد هذا إلى.. هذه ضابط المشقة وقد عرفناها. بعد هذا تكلم الشاطبي -رحمه الله- عما يترتب على هذا فطرح سؤالاً وقال: هل نقول إن هذه المشقة المعتادة هل نقول إنها مقصودة للشارع؟ هل يقصد الشارع إلى وجودها أم لا يقصد؟
فقرر أن الشارع لا يقصد حتى هذه المشاق المعتادة هي ليست مقصودة بالذات للشارع، لكنها تأتي تبعاً للعمل، يعني المشاق التي تلازم العبادات مثلاً أو الأعمال المأمور بها هي مشقة تابعة للعمل ليست مقصودة، يعني مشقة الوضوء مشقة القيام والقعود في الصلاة مثلاً، الصلاة مثلاً في المسجد مع وجود البرودة الشديدة مثلاً، هذه مقصودة للشارع الصلاة لكن هل الشارع قصد مع هذا إلى ما فيها من المشقة؟(1/171)
قال: (إنه لم يقصده) وأحال في الاستدلال على ما سبق، والذي سبق هو الأدلة التي قرأناها قبل قليل، وفيها نفي الحرج ونفي المشقة، ونفي أن يكون هناك في الدين أي حرج والآيات الدالة على أن الله أراد اليسر ?يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ? [البقرة: 185]، وقوله: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? [الحج: 78]، ?مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ? [المائدة: 6] وقول الرسول: (بعثت بالحنيفية السمحة)، هذه كلها تدل على أن المشقة بذاتها ليست مقصودة.
أيضاً يمكن أن يستدل على هذا بما ورد في الصحيح من قصة أبي إسرائيل، أبو إسرائيل رجل نذر، يقول أبو هريرة أظن في حديث ابن عباس قال: (بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم) نذر هذه الأمور، يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم وليتم صومه) الصوم مشروع، ومقصود لله -جل وعلا- فلهذا أمره بإتمامه.(1/172)
لكن أن تعذب نفسك بالوقوف في الشمس، وترك الظل؛ لأن الوقوف في الشمس يؤدي إلى العطش الشديد، فكأنه هو -رضي الله عنه- أراد أن يتقرب إلى الله، ويقول: أنا مع الصوم أقف في الشمس وفي الحر الشديد حتى يشتد عطشي فأنال ثواباً أكثر، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يُقِرَّه على ذلك، وإنما قال يعني أمره أن يصوم ولكن لا يقف في الشمس، ولا يعذب نفسه أو يشق على نفسه يعني لا يقصد إلى المشقة بذاتها؛ لأن هنا الصوم ينفصل عن هذه المشقة، ليس من لوازم الصوم أن تعطش عطشاً كثيراً، وأن تقف في الشمس، ولهذا لما كان يعني يدلك على هذا أيضاً حديث آخر لما كان المشي إلى الحج مقصوداً تبعيّاً للشارع، وفيه ثواب زائد على ثواب حج الإنسان؛ لم يمنع المرأة التي نذرت أن تحج ماشية من المشي، وإنما قال لها: (لتمش ولتركب) كما ورد في حديث أخت عقبة، وهو حديث متفق عليه؛ أنها نذرت أن تحج ماشية، أن تمشي إلى بيت الله الحرام وتحج ماشية، فقال: (لتمش ولتركب) يعني لا تشق على نفسها بالمشي ولا أيضاً تترك المشي، تمشي ما هان عليها المشي، فإذا شق عليها المشي مشقة خارجة عن المعتاد؛ لأن هذه عبادة، إذا خرجت المشقة عن المعتاد تترك المشي وتركب ولتحج ولتتم حجها, فهذا دليل على أن المشقة بذاتها ليست من مقاصد الشارع، ولا يقصد الشارع إليها، وإن جاءت تبعاً مع العبادة؛ فإنها تكون تابعة للعبادة، وليست مستقلة بالقصد.
الشاطبي أورد إشكالاً على هذا الموضع، وقال: قد يرد على هذا إشكال واعتراض، فيقال مثلاً: إن الشارع سَمَّى أوامر الشريعة ونواهيها تكليفاً، في قوله: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? فمفهومه أنه يكلفها وسعها، لَمَّا نفى أن يكلف ما زاد عن الوسع؛ أثبت أنه يكلف ما هو داخل تحت وُسع الإنسان وإن كان فيه نوع مشقة، فيقولون: هي تسمى التكاليف الشرعية؛ فكيف تقولون إنها غير مقصودة والشرع أمر بها وفيها هذه التكاليف؟(1/173)
فأجاب عن هذا أو فيجاب عن هذا بأن تكليف المكلف بما فيه مشقة معتادة لم يكن القصد فيه إلى ذات المشقة، القصد ليس إلى ذات المشقة بل إلى المصلحة الناشئة عن هذا العمل بغض النظر عما يتبعه من مشقة، كما أن الطبيب مثلاً قد يشق بطن المريض لاستخراج الزائدة الدودية، أو لاستخراج داء في بطنه، ويعلم هو أن في هذا مشقة، ولا إشكال في ذلك، ومع ذلك هو لا يقصد إلى هذه المشقة، هو يقصد إلى المصلحة، فالشارع مقصوده هو إلى المصلحة الملازمة لهذه المشقة حيث رجح هذه المصلحة ولم تعد المشقة ذات اعتبار عند الشارع ولم يلتفت إليها ولم يعتبرها.
كذلك قد يعترض على هذا، أورد اعتراضاً ثانيا وقال: إن الله -جل وعلا- يعلم أن هذا العمل تترتب عليه مشقة وتلازمه مشقة؛ فكيف تقولون: إنها غير مقصودة للشارع وهو يعلمها؟ ألا ترون أنه يعلمها؟
نعم.. الله يعلم أن هذا العمل الذي أمرنا به قد يكلف بعض الناس مشقة وقد يوقع بعض الناس في مشقة يسيرة. ولكن الجواب عن هذا أن علم الله -جل وعلا- بما يصاحب هذا العمل من المشقة أيضاً ليس دليلاً على أنه قصدها، هو قصد العمل، والمشقة جاءت تبعاً، فالمشقة بذاتها ليست مقصودة لله -جل وعلا-، وهذا نظير ما ذكرنا لكم، يعني القاصد إلى السبب، هم يقولون: القاصد إلى السبب إذا علم بما يتسبب عنه أو بما ينتج عنه يكون قاصداً إلى هذا المسبب، يقولون: الذي يأمر بسبب وهو يعلم أن السبب ينتج عنه شيء هو أكيد قاصد إلى نتيجته.(1/174)
فنقول: لا، ليس بلازم، لا يلزم من هذا أن يكون قاصداً لما ينشأ عن السبب وإن كان عالماً به، وقد ضربنا لكم مثالاً بالطبيب الذي قد يشق بطن المريض، في الأمور العادية فإنه هو لا يقصد المشقة مع علمه بوجود المشقة، لكنه ما يقصدها، وإنما يقصد مصلحة المريض، كذلك الإنسان وتصرفه في ملكه، تصرف الإنسان في ملكه قد يضر ببعض جيرانه، هذا الضرر قد يكون مقصوداً له؛ لأنه هو ليس معصوماً من قصد ضرر الإنسان، قد يكون مقصوداً لكن أحياناً كثيرة قد يكون غير مقصود، يعني حينما تكون أنت سكنت مثلاً في حي جديد، وجارك له أرض بجوارك فأتى يعمرها، هو يحرص ويُحَرِّص من يعمل في بيته مثلاً أن لا يؤذوك لكن لا بد أن يصيبك شيء من الغبار، لا بد أن يصيبك شيء من الإزعاج في وقت الظهيرة مثلاً وما أشبه ذلك، هذه أمور لا بد منها، هل تجزم بأنه قاصد لها؟ هل تقول: هو ما عمر بيته إلا لقصد إيذائي؟ ما عمر في أرضه إلا بقصد إيذائي؟ لا تقول هذا طبعاً، يعني وهذا أمر بعيد هو عمر بيته ليسكن، لكن هذا الأمر ملازم له، يعني تقول: أنا أنام مع وقت الظهيرة مثلاً ويأتيني من الغبار ويأتيني من كذا، هذه أمور ملازمة لهذا العمل هو لم يقصده مع علمه بها، هو يعلم أنك ستتأذى نوعاً ما، لكنه لم يقصد لهذا، هذا في الغالب، ولهذا إذا كان قاصداً للإيذاء؛ فهو آثم، وإذا لم يقصد الإيذاء؛ فلا إثم عليه؛ لأنه فعل ما يجوز له فعله.
إذن ليس هناك تلازم بين علم الإنسان بما يتسبب عن الشيء، وبين كونه مقصوداً له، ولله المثل الأعلى؛ فكون الله -جل وعلا- يعلم بما يتسبب عن هذا العمل من مشقة ليس دليلاً على أنه قاصد لها، بدليل أيضاً أنه نفى هذا وصرح في آيات كثيرة، بأنه لا يقصد إلى إعنات العبد ولا إلى ما يشق عليه، وإنما قصد إلى ما فيه مصلحته.(1/175)
أيضاً من الاعتراضات التي قد ترد: أن المشقة اللاحقة للتكليف عليها ثواب زائد على ثواب العمل، المشقة التي تصحب التكليف عليها ثواب زائد عن ثواب العمل، يعني عن ثواب التكليف نفسه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أجركِ على قدر نصبكِ) وقوله تعالى أيضاً: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ? [التوبة: 120]، وقوله: ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ? [البقرة: 216].(1/176)
فالله يعلم أن الجهاد فيه شيء من المشقة ومع هذا كتبه علينا وأثاب عليه، وأثاب أيضاً على سير المجاهد وما يقع فيه من مشاقّ كثيرة، وهذا يقولون دليل، يعني المعترض يقول: هذا دليل على أنها مقصودة للشارع، لو لم تكن مقصودة للشارع؛ لما أثاب عليها ثواباً زائداً، هذا قد يكون هو أعظم الاعتراضات أو أقوى الاعتراضات، لكن المصنف أجاب عنه بعدة أجوبة، من الأجوبة عنه: (أن الثواب عليها لكونها ملازمة) يعني أهم ما يُجاب به عن هذا أن الثواب عليها إنما هو لكونها ملازمة لفعل المقصود للشارع، لا لكونها مقصودة لذاتها، فهو أثاب عليها لكونها ملازمة لفعل المقصود، وليس لكونها مقصودة بذاتها، والدليل على هذا: أنها لو انفردت؛ فلا ثواب عليها، لو انفردت وأمكن انفرادها عن العمل ما أثيب عليها، كما في قصة أبي إسرائيل الذي قال: (مروه فليستظل، وليجلس، وليتم صومه) فلما أمكن انفصال المشقة عن العمل نهاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن هذه المشقة وأمره بإتمام العمل، ثم أيضاً قد يقال: إن الثواب تَفَضُّل من الله -جل وعلا-، فالله قد يثيب الإنسان على ما لم يعمله أصلاً كالمصائب التي تصيبه مثلاً، فيقع له ثواب بسببها. هذا بعض ما يمكن أن يقال في الاعتراضات والجواب عنه. ثم نقرأ كلام الشاطبي.
(وأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله، وشربه، وسائر تصرفاته، ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات، فكذلك التكاليف، فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة، وإذا تقرر هذا؛ فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضاً ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة).
هذا هو موضوع درس اليوم: أن الفعل الشاق نفسه، أو المشقة نفسها ليست مقصودة للشارع، وإنما المقصود له العمل الملازم لها.
((1/177)
بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف، والدليل على ذلك ما تقدم في المسألة قبل هذا، فإن قيل ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف لأوجه:
أحدها: أن نفس تسميته تكليفاً يشعر بذلك؛ إذ حقيقته في اللغة: طلب ما فيه كلفة، وهي المشقة فقول الله تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? معناه: لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليه).
والثاني. انتقل للثاني، الكلام واضح في هذا نفس الكلام الذي قلناه.
نعم هي في المسألة السابعة من مقاصد وضع الشريعة للتكليف.
أي نعم.
حتى المشاهد يتابع معنا. المسألة السابعة من مقاصد وضع الشريعة التكليف.
أحسنت، الثاني.
(والثاني: أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه، ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك.
فإذن يلزم أن يكون الشارع طالباً للمشقة، بناءً على أن القاصد إلى السبب عالماً بما يتسبب عنه قاصد للمسبب.).
أي نعم.. يقول: الذي يطلب السبب وهو يعلم ما ينشأ عنه وما يتسبب عنه يكون قاصداً لما تسبب عنه، هذا وجه الاستدلال على قصد الشارع للمشقة، الثالث.
(الثالث: أن المشقة في الجملة مُثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف).
وهذا دليل ثالث لهم، يقولون: كيف تقولون هي غير مقصودة والله يثيب عليها؟ لو لم تكن مقصودة؛ لما أثاب عليها ثواباً زائداً؟ نعم. كقوله...
((1/178)
كقوله تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ? إلى آخر الآية، وقوله: ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا? [العنكبوت: 69]، وما جاء في كثرة الخطى إلى المساجد وأن أعظمهم أجراً أبعدهم داراً، وما جاء في إسباغ الوضوء على المكاره، وقد نبه على ذلك أيضاً قوله تعالى: ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ? الآية، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات حتى قال تعالى: ?إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ? [التوبة: 111] وأشباه ذلك).
انتقل للأجوبة، قال: (فالجواب عن).
الوقوف عند هذا يا دكتور. هل هو مناسب، ونجعل الأجوبة غداً -إن شاء الله-؛ لأنه ما بقي إلا خمس دقائق.
على كلٍّ نحن أجبنا عنها، هي نفسها الأسئلة التي ذكرتها هي ثلاثة اعتراضات، وذكرتها باختصار، وذكرت الجواب عن كل واحد منها.(1/179)
لو نأخذ أيضاً مما يترتب على هذا الأصل وهو: أن الشارع لا يقصد إلى المشاق يترتب عليه أصل آخر ذكره المصنف في فصل قادم وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها، إذا كان الشارع لا يقصد هذه المشقة بذاتها فكذلك نقول: ليس للمكلف أن يقصد إلى المشاق طلباً لزيادة الأجر، وهذا الأمر أيضاً من الأمور التي قد تشكل، من الأمور التي قد تشكل أنه ورد مثلاً أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: (أجركِ على قدر نصبك) قاله لعائشة، وورد أيضاً عن بني سلمة أنهم رغبوا في الانتقال إلى جوار المسجد فأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبروه بذلك برغبتهم، فقال: (بني سلمة! دِيَارَكُم -؛ أي الزموا دياركم- تُكتبْ آثارُكم) فنهاهم عن الانتقال إلى قرب المسجد، كذلك ورد بعض الآثار عن أبي موسى الأشعري أنه كان يتخير الأوقات شديدة الحر ويصوم فيها، فمثل هذه الأمور قد تشكل، يقول: كيف تقولون: إن العبد ما يجوز له أن يقصدها وقد وجد ما يدل على أن بعض الصحابة أرادوا الانتقال إلى قرب المسجد فنهاهم الرسول؛ لأن آثارهم تُكتب، فمجيؤهم من مكان بعيد فيه نوع مشقة عليهم ومع هذا لم يأمرهم بالاقتراب من المسجد أو لم يطعهم في ذلك؟(1/180)
أجاب المصنف عن هذا بعدة أجوبة، منها جواب عام، خلاصته أن هذه أمور آحادية أو أخبار جزئية يمكن أن تكون معارضة لقاعدة عامة تقررت بنصوص شرعية قطعية والقاعدة عندنا: أن الجزئيّ حينما يتعارض مع القطعيّ الكلي يُؤَوَّل، وينظر في تأويله، هذا جواب عام، ثم أجاب جواباً تفصيلياً وقال: (أما طلب بني سلمة الانتقال؛ فقد ورد في بعض روايات الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن الانتقال حتى لا تخلو الناحية التي هم فيها ممن يحرس المدينة من تلك الجهة) ففي بعض روايات الحديث أنه كره أن تخلو تلك المنازل ممن يحرس المدينة من تلك الجهة وخشي أن يأتي عدو من جهتها فلا يعلم به إلا وقد باغتهم في وسط المدينة، وهم كانوا في نواحي المدينة، فكان يُقِرّ أصحاب المنازل التي في ضواحي المدينة، حتى يكونوا عيوناً له فلا يهجم عليه من عدوه من لا يعلم به حتى يصل إليه، فهذا توجيه حسن.
وما نُقِلَ عن أبي موسى الأشعري أيضاً أجاب عنه، وقال: (أولاً يحتاج إلى ثبوت هذا عنه من حيث السند.
وثانياً: هو فعل صحابي لا يكفي .. لمواجهة بعض النصوص القطعية) فالخلاصة أنه انتهى إلى أن المكلف لا يجوز له أن يقصد إلى المشقة بذاتها، ومما يدل على ذلك قصة أبي إسرائيل التي سبق الكلام عنها، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهاه عن أن يقصد إلى المشقة، وما وقف في الشمس إلا لزيادة المشقة، فنهاه عن ذلك.
أسئلة الحلقة.
السؤال الأول: كيف ترد على من زعم أن المشقة المصاحبة للعمل مقصودة للشارع واستدل على ذلك بأن الله يعلمها ويعلم ملازمتها للعمل؟
السؤال الثاني: هل يثاب المكلف إذا قصد المشقة المصاحبة للتكليف مع إمكان الانفكاك عنها؟
الدرس الرابع عشر
تابع المشقة المصاحبة للتكليف
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول:(1/181)
كيف ترد على من زعم أن المشقة المصاحبة للعمل المقصودة للشارع؟
السؤال الثاني:
هل يثاب المكلف إذا قصد المشقة المصاحبة للتكليف مع إمكان الانفكاك عنها؟
أجابت الأخت على السؤال الأول قالت: يُرد على من قال إن المشقة المصاحبة للعمل مقصد من الشارع نقول:
الشارع لم يقصد المشقة بذاتها إنما بما يلزم منها من المصالح، ولا يلزم علم الله الهادي المشقة أنها مقصد للشارع إنما نقول فالله يعلم ذلك ولكنها غير مقصودة لذاتها إنما لما يترتب منها من المصالح والمثال على ذلك حتى في البشر قد يفعل الإنسان شيئا ويعلم أن فيه مشقة لكن يعملها لكونها يلزم منها مصالح. ولهذا الطبيب يجري العمليات مع علمه لما فيها من المشاق إلا أنه يراعي ما يلزم منها من المصالح والله أعلم.
الجواب في الجملة هو جواب صحيح أن المشاق التي تصحب التكاليف ليست مقصودة بذاتها للشارع، وإنما هي تأتي تبعا، وإذا أثيب فإنما يثاب على العمل بما فيه من المشقة، ولا يكون الثواب على المشقة لو انفصلت.
واستدلال من يعارض هذا بكون الله -جل وعلا- يعلم بأن هذه المشقة ستترتب على هذا العمل هذا مردود بمثل ما قالت الأخت لأن علم الله بكون هذا العمل سيترتب عليه مشقة في حق فلان من الناس أو فلان من الناس مثلاً هذا ليس معناه أنه قصد إلى تلك المشقة، وإنما قد يعلم الله -جل وعلا- أنه تترتب عليه بعض المشاق ولكن ما فيه من المصالح أعظم؛ فلهذا يكلف به ويأمر به ويطلبه من عباده لما فيه من المصلحة وتصبح المفسدة أو المشقة المصاحبة هنا غير معتبرة. ونحن قد مر معنا فيما مضى أن المفسدة المرجوحة تعتبر كأنها غير موجودة ولا ينظر إليها ولا يعلق بها الحكم.
إجابة الأخ على الجواب الثاني:(1/182)
إذا كان الشارع لم يقصد المشقة فليس للمكلف أن يقصد إلى المشاق طلبا لزيادة أجر فكون قصد الشارع من وضع التكليف العمل نفسه فموافقة قصد الشارع هو المطلوب من مقاصد معتبرة في التصرفات فمن قصد المشقة يكون مخالفا لقصد الشارع، وكل قصد خالف قصد الشارع باطل بل هو من قبيل ما ينهى عنه وكل ما ينهى عنه؛ فلا أجر فيه وحديث أبي إسرائيل دليل على عدم قصد المشقة لذاتها.
وأما احتجاجهم بحديث بني سلمة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (دياركم؛ تُكتب آثارُكم)، وحديث أبي موسى الأشعري أنه كان يتخير الأوقات شديدة الحر عند صومه وما أشبه ذلك؛ فالجواب عليها أنها أخبار جزئية تعارض كليا قطعيا فتؤول.
ثم إن بني سلمة أبقاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لا للمشقة ذاتها بل لما فيها من مصلحة وهي أن لا تخلو المدينة من تلك الجهة ممن يحرصها وحديث أبي موسى فهو فعل صحابي لا يكفي برد النصوص القطعية
نعم، هذا جواب أيضا موفق وصحيح وتفصيليّ يبدو أنه قد رجع إلى كلام الشاطبي لأن العبارات التي ذكرها هي عبارات الإمام الشاطبي.
في بداية هذه الحلقة أشكر الإخوة الذين تواصلوا مع هذا الدرس وأجابوا عن الأسئلة وأرجو الله أن يوفقنا وإياهم لما فيه الخير.(1/183)
وبعد، فحديثا اليوم هو متصل بما قلناه بالأمس، وقبل أن نشرع في قاعدة جديدة من القواعد التي رتبها الشاطبي نذكر التسلسل الذي اتبعه الإمام الشاطبي حتى نصل إلى هذه القاعدة؛ لأن الإمام الشاطبي تكلم عن هذه القواعد في تسلسل منطقيّ عجيب يعني إذا أدركته يعينك على فهم الكلام مستوفى. فهو تكلم أولا عن التكليف بما يُعجز عنه يعني بغير المقدور وبين أن الشارع لا يقصد إليه ولا يمكن أن يقع. ثم تكلم عن التكليف بالشاق وبين أيضا أنه كذلك لا يمكن أن يكون مقصودا للشارع، وأنه غير واقع في الشريعة، وبين أن الذي لا يقع من التكليف بالشاق هو الذي فيه مشقة غير معتادة ثم انتقل إلى الكلام عما فيه مشقة معتادة هل يمكن أن يكلفنا الله به ويقصد العمل الذي فيه مشقة لكنها مشقة معتادة؟
وأجاب بأنْ نعم أكثر التكاليف فيها شيء من المشقة لكنها مشقة معتادة فيها مشقة ولهذا سميت تكليفا، ثم قال هل هذه المشقة المعتادة مقصودة للشارع؟
وأجاب بأنها غير مقصودة للشارع وأنها إنما تدخل تبعا لمقصوده وإلا؛ فهي ليست مقصودة بدليل أنها لو انفصلت؛ لم تكن يعني مقصودة، وبدليل ما سبق من أن الشارع لا يقصد إلى مشقة العباد وإلى إعناتهم وإيقاعهم في أي عنت وإن كان قليلا فهي بذاتها غير مقصودة للشارع.
لَمَّا فرغ من هذا قال هل يثاب عليها؟ فتكلم في الثواب عليها وبين أنها إذا كانت لا تنفك عن العمل؛ فالثواب عليها يكون تبعا للثواب على العمل ليس خاصا بها. وإن كانت يعني لم يتقصدها المكلف، وإنما هي تأتي تبعا؛ فهذا الثواب يكون تبعا. أما لو أن المكلف بحث عن هذه المشقة وحاول أن يفعلها أو يفعل الفعل موصوفا بها؛ فلا يثاب على المشقة.(1/184)
بعد هذا انتقل إلى ما الذي يتفرع على مسألة إن المشاق غير مقصودة للشارع، وفرع على هذا أن العبادات والمأمورات كلها بل والأفعال المأذون فيها يعني التي ليست بعبادة ولكن الله أذن فيها من المباحات. إذا ترتب عليها مشقة إذا ترتبت عليها مشقة وهذه المشقة غير معتادة ترتبت عليها مشقة غير معتادة في حق بعض المكلفين طبعا عرفنا أن التكاليف لا يمكن أن تترتب عليها مشقة غير معتادة وهذا بالنسبة لكل الخلق.
لكن أحيانا بالنسبة لمخلوق معين أو لعبد أو لمكلف بعينه فعله للواجب قد يترتب عليه مشقة غير معتادة بالنظر إليه هو ولكنه بالنظر لغيره من الناس هي معتادة لكن هو قد يكون مثلاً المشقة بالنسبة له غير معتادة فتكلم في هذا هل مثل هذه المشقة غير المعتادة يجوز له أن يتقصدها؟(1/185)
فقال هذا المشقة غير المعتادة التي تلزم من الفعل الشرعي أو من الفعل المأذون فيه هي إما أن يكون المكلف جَرَّها إلى نفسه وتسبب فيها، وإما أن لا يكون له فيها يد. فإن كان المكلف هو الذي يتسبب فيها ويريد أن تلحق بالعمل المشروع حتى يعظم أجره؛ فهذا النوع من المشاق لا يثاب عليه الإنسان بل ينهى عنه ويعاقب عليه، ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا إسرائيل حينما رآه قائما في الشمس ولا يستظل وهو صائم، وحينما سئل عن هذا قيل له إنه نذر أن يصوم في الشمس ولا يستظل فنهاه عن هذا الفعل وأمره بأن يستظل وأن يجلس وأن يتم صومه. ففصل -عليه الصلاة والسلام- بين المشروع وغير المشروع فلما قصد التلبس بالعبادة وقصد خلط آثار شاقة بها؛ أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفصل بينها لأن هذا راجع إليه. فإذن الإنسان منهي عن تقصد المشاق وتتبع للمشاق، وما ورد من إشكالات على هذا قد سبق الكلام في الجواب عنها يعني ما ورد مثلاً من أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يأذن لبني سلمة بترك ديارهم والقرب من المسجد قد ورد عن الجواب عنه وهو عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أراد أن لا تخلو ناحية المدينة من جهتهم ليكونوا حراسا عليها من تلك الجهة وما عدا ذلك من الأخبار كالخبر مثلاً عن أبي موسى الأشعري أنه كان يتتبع الأيام ذات الحرارة الشديدة ليصومها؛ فهذا معارض بمثله من غيره من الصحابة وسيأتي -إن شاء الله- لذلك كثير من الأمثلة في القراءة.
يبقى أن يكون هذا العمل ليس من جهته ولم يتسبب فيه هذا الحرج وهذه المشقة التي تلحق الفعل المشروع هو لا يد للمكلف فيها ليس للمكلف فيها يد؛ كأن يصوم الإنسان وهو مريض، أو يحج وهو زَمِنٌ غير قادر على تعب الحج فمثل هذه المشقة هل يؤاخذ الإنسان عليها وينهى عن الفعل المقارن لها أو المؤدي إليها أم لا ينهى؟(1/186)
هذا النوع من المشاق هو الذي شرعت الرخص لأجله فإذا لحق بالإنسان في خصوصه مشقة من العبادة وقد عرفنا أن هذه المشقة لا يمكن أن تكون في أصل العبادة وإنما هي بالنسبة له هو أما غيره من المكلفين فالعبادة لم تصل به إلى مشقة غير معتادة لكن هذا الإنسان لما هو عليه من ضعف أو لما هو عليه من حال المرض أصبحت العبادة في حقه شاقة. نقول هذا النوع من المشاق الذي يلحق بعد المكلفين وهم لم يتطلبوه ولم يبحثوا عنه وإنما هو وقع عليهم فهذا النوع من المشقة هو الذي شرعت الرخص لأجله شرعت الرخص لأجله. فمن الناس من يترخص ويأخذ بالرخصة ويفطر مثلاً، ومنهم من لا يترخص لكن هل يمكن أن نقول في بعض الأحيان يجب عليه العمل بالرخصة وفي بعض الأحيان لا يجب عليه؟
نقول نعم، أحيانا يجب عليه العمل بالرخصة طيب متى يجب عليه العمل بالرخصة في مثل هذه الحال؟
حينما يؤدي استمراره في العمل من صوم مثلاً أو صلاة أو غيره إلى انقطاعه مثلاً عن العمل أو إلى تلف في نفسه أو خلل في ماله أو في بدنه أو يؤدي ذلك إلى أن يَكره العبادة أو يضيق بها ذرعا يعني يؤديها كالْمُرغم عليها أو يؤديها وهو غير مرتاح لأدائها حينما يصل إليه هذا الأمر ويخشى من نفسه أن يبلغ إلى هذا الحد؛ فحينئذ نقول لا يجوز لك أن تفعل العبادة التي قارنتها المشقة في مثل هذه الحالة بل يجب عليك الترخص.
فالمسافر مثلاً إذا علم من نفسه أنه لو صام في سفره؛ لأدى ذلك إلى بغضه للعبادة وتبرمه منها أو أدى ذلك إلى تركه لها في المستقبل أو تركه لأعمال أخرى وانقطاعه عن أمور أخرى هي مهمة وهي من وظيفته أو لها أهمية أكبر؛ فإنه حينئذ يقال له يجب عليك أن تأخذ بالرخصة.
إذن من هو الذي نوجب عليه الأخذ بالرخصة؟(1/187)
هو من علم من نفسه أو غلب على ظنه يعني ليس فقط العلم اليقيني وإنما علم أو غلب على ظنه أنه لو استمر في هذه العبادة مع ما فيها من المشقة؛ لأداه ذلك إلى بغض العبادة أو التبرم منها أو أدائها بغير رضى نفس. فمثل هذا نقول يجب عليك أن تأخذ بالرخصة.
أما النوع الثاني من الناس وهم الذين يعلمون أو يغلب على ظنهم أن لهم قدرة على فعل هذه العبادة مع ما فيها من المشقة يعني قد يكون الإنسان مثلاً مسافرا في وقت حر ولكنه هو يعلم من نفسه أنه قادر على الصيام وأنه لن يصل به الأمر إلى المشقة بل هو يتلذذ بهذا وهذا حال كثير من الزهاد والعباد فإنهم يتلذذون بما يراه غيرهم مشقة؛ لأنه قربى إلى الله -جل وعلا- والكلام كله في القربات يعني في صوم في صلاة في يعني صبر على ضيق العيش مثلاً فمثل هذا الإنسان الذي هو قادر على تحمل هذه المشقة بطيب نفس، ويعلم أنه لن يتضجر من هذه العبادة لما قارنها من مشقته وتعبه، بل إنه يتلذذ بهذا وأنها لن تقطعه عن عبادة أخرى ولن تثنيه عن عمل آخر هو أهم من هذه العبادة. مَنْ كان حاله مثل هذا الإنسان؛ فإنا نقول له لا يجب عليك أن تترخص، وإنما يجوز لك أن تعمل بالعزيمة. لكن لو قال أنا عندي قدرة على الصيام وأنا مسافر؛ فهل لي أن أترخص؟
نقول: نعم، يجوز.
لماذا؟
لأن الرخصة تأتي بالنسبة لعموم الناس الرخصة من الشارع تأتي ما تأتي بالنظر إلى الأقوياء ولا بالنظر إلى أضعف الناس، وإنما تأتي بالنظر إلى عموم الناس. فهذه هي الرخصة فحينما تكون مسافر وإن كنت قادرا على الصيام نقول يجوز لك أن تفطر لكن إذا كنت تحس من نفسك القدرة على الصيام وأن الصيام يعني أفضل لك وأهون على نفسك مما لو قضيته فيما بعد فنقول الصوم قد يكون أفضل لك.(1/188)
يعني هذا التقسيم يدل عليه عدة أدلة يعني يدل على هذا عدة أدلة؛ فمثلا الذي سينقطع عن العبادة، وسيقع في حرج لو استمر في هذه العبادة لضعفه عنها مثلاً أو سينقطع عن عبادات أخرى هي أهم منها هذا قلنا إنه لا يجوز له الاستمرار في العبادة مع وجود الرخصة بل عليه أن يأخذ بالرخصة. ومما يدل على هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)، فالرسول يعني بين أنه ليس من البر الصيام في السفر. لكن هل معنى هذا أن الصيام في السفر دائما لا يكون بِرًّا؟
نقول هذا مقصور فيمن حاله يشق عليه الصيام في السفر فهذا نقول ليس من البر أن تصوم وأنت تعلم أو يغلب على ظنك أن المشقة ستلحق بك، وربما أقعدتك عن عبادة أخرى أو وظيفة أخرى.
في المقابل تجد الصحابة يقولون كنا نسافر؛ فمنا الصائم، ومنا المفطر، ولا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ما يعيب بعضهم على بعض. ألم يعلموا بحديث الرسول السابق؟ بلى علموا، ولا إشكال. ولكنهم كانوا يعرفون أن المقصود بالنهي عن الصيام في السفر إنما هو من يُحس من نفسه العجز أو الملل أو كره العبادة أو التبرم منها إذا صام. أما من هو قادر بل هو مرتاح للعبادة بل يجد لذة فيها ومتعة في أن يصوم مع الناس؛ فهذا لا ينهى عن الصيام، ولهذا كما ذكرت لكم كان الصحابة لا ينكر بعضهم على بعض.
لماذا؟(1/189)
لأن منهم القادر على الصوم الجلد عليه، ولا يشعر بالعطش ولا بالتعب ومثل هذا يرى أن الصيام أهون عليه وأفضل له فصيامه قد يكون أفضل مع جواز الفطر له إذا كان السفر من السفر الذي يجوز الفطر فيه. وأما النوع الآخر فهو الذي نقول لا يجوز له أن يصوم ولا يجوز له أن يفعل العبادة إذا أدى الأمر به إلى أن يقع في مشقة أو يقع في انقطاع عن إكمال العبادة أو كما كررنا أكثر من مرة أن يتبرم بالعبادة. هناك عدة أحاديث الحقيقة سردها المصنف كلها تدل على هذا الأمر ولعلنا حينما نقرأ الكتاب نذكر شيئا منها يعني.
هناك من الناس من يقول ممن هم أهل عبادة ولهم جلد كبير على العبادة ولهذا تجدهم مثلاً يصومون يوما ويفطرون يوما طوال الدهر بينما يوجد أيضا من لا قدرة له على الصيام ولا جلد له. ويروى أن ابن مسعود قيل له نراك تقل الصوم يعني لست ممن يكثر الصيام، فقال إنه يقطعني عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي فهو يعني لضعف في بنيته كما هو معروف عنه لا يستطيع مواصلة الصيام عن غيره بينما هناك من الصحابة من كان يصوم يوما ويفطر يوما وذلك لجلده وقوته.(1/190)
الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو يعني إمام العباد والزهاد كان يقوم الليل إلا قليلا: ? قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ?2? نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ?3? أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا? [المزمل: 2 - 4]، كان يقوم حتى تفطرت قدماه وكانت عائشة تشفق عليه تقول (يا رسول الله! ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: يا عائشة! أفلا أكون عبدا شكورا؟!)، هو يجد لذة في هذه الصلاة وفي الحديث الآخر: (حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، يعني هو يجد هذه الراحة في أنه يصلي أكثر الليل أو نصف الليل بخلاف من لا يجد مثل هذه الراحة في الصلاة قد يجدها مثلاً في عبادة أخرى فبعض الناس لا يحسن الموازنة بين قدراته وبين العبادات الشرعية المطلوبة.
فهناك من له جلد على الصوم هناك من له جلد على الصوم هناك من له جلد على الجهاد هو من له جلد على الصلاة وهناك من له جلد أكثر على قراءة القرآن وحفظه وترتيله إلى غير. فالأعمال الصالحة كثيرة يراوح الإنسان بينها فإذا خشي أن يمل من عمل؛ ينتقل إلى عمل آخر هذا طبعا في القربات المستحبة هذه هي النقطة الأولى التي أحببنا أن نتكلم فيها.
النقطة الثانية هي في الحكمة من أن الله -جل وعلا- لم يكلفنا ما يشق علينا. ما الحكمة من هذا؟
ما الحكمة في كون الله -جل وعلا- لم يكلفنا ما يشق علينا؟
والشاطبي يُسَوِّي بين الحكمة والعلة كما هو معروف من منهجه فلهذا هو يعتبرها يعدها حكمة ومعنى مراعى أو مقصود للشرع، ويعدها علة في بعض الأحيان.
الحكمة ترجع إلى أمرين:(1/191)
الأمر الأول: أن الله -جل وعلا- لا يريد من العبد أن يبغض العبادة أو ينقطع عنها أو يتخلى عنها بسبب ما يقارنها من المشقة. فإذا قارن العبادة مشقة بالنسبة لهذا العبد بالذات مثلاً؛ فإنه يكون منهيا عنها؛ لأنه لو استمر في هذه العبادة مع ما فيها من مشقة غير معتادة؛ لأدى ذلك إلى بغضه للعبادة أو تبرمه منها أو ثقل العبادة عليه.
إذن المعنى الأول أو الحكمة الأولى هي أن لا يؤدي ذلك إلى انقطاع العبد عن عبادته ووجود خلل في نفسه، في بدنه، أو ماله، أو في حال من أحواله، أو خلل في العبادة نفسها من جهة أنه لا يُقبل عليها إقبال الراغب الراضي المطمئن النفس فيكون أداؤه لها كأداء المغصوب على العمل كالمكره عليه يفعله وهو غير مطمئن له وغير مرتاح النفس وربما لا تحصل مثلاً الطمأنينة المطلوبة في الصلاة مثلاً، أو لا يحصل التلذذ بالعبادة الذي ينبغي أن يحس به العابد.
الحكمة الثانية: أن لا يؤدي ذلك إلى الخلل بالوظائف الأخرى والأعمال الأخرى.
الإنسان له وظائف في هذه الحياة الدنيا وله أعمال مطالب بها بعضها يتعلق بذاته، وبعضها بأهل بيته، وبعضها يتعلق بأمته. ووظائف الناس أيضا مختلفة فهناك من يُطلب منه أكثر من غيره إذا كان مثلاً إماما إذا كان إماما للمسلمين عموما أو مسؤولا في موقع ما من مواقع الدولة هذا يُطلب منه الأكثر فإذا كان استمراره على العبادة التي فيها مشقة سيقطعه عن وظائف أخرى هي أنفع وأهم عند الله -جل وعلا-؛ فإنه لا ينبغي أن يستمر في هذه العبادة التي تقطعه عن ما هو أهم منها.
فإذن هما حكمتان:
الحكمة الأولى: خشية أن ينقطع الإنسان نفسه عن العبادة ويعجز، أو يمل منها ويتبرم منها.
الحكمة الثانية: أن يقصر في عبادات أخرى أو في وظائف أخرى هي مطلوبة منه يعني مطلوب من الإنسان الحرص مثلاً على مصلحة نفسه والحرص على مصلحة أهله وأبنائه وتربيتهم وما يتبع ذلك. كذلك قد يكون مسؤولا في قطاع معين الناس يحتاجون إليه.(1/192)
افرض أنه مثلاً ظل يقوم الليل كله إلى الفجر ثم ينام عن صلاة الفجر. وهذا حال بعض الناس في رمضان. تجده يقول أنا والله أنام عن صلاة الفجر لأنني أقوم بالليل أصلي القيام، يشتغل بالسنن والمستحبات ويترك ما هو أهم منها. هذا خلل كبير في الأولويات، ولهذا العلماء يقولون يجب على الإنسان أن ينظر في الأولويات ويقدم الأولى فالأولى.
فإذا كان هذا العمل وإن كان عبادة سيؤدي بك إلى الخلل بعبادة أعظم وهي مثلاً فرض؛ فلا تشتغل به على حساب الفرض إذا كان مثلاً على جهة مسؤول أمني مسئول في قطاع أمني لو أنه اشتغل بالعبادة واشتغل بالصوم ربما عجز عن أداء مهمته الأمنية في حفظ الأمن للناس. والمصلحة التي تحصل من حفظ الأمن للناس أعظم من المصلحة التي تحصل من أنك تصوم أو أنك تتهجد بالليل فالإنسان ينبغي أن يوازن بين هذه الأمور ويأتي من الأعمال ما يطيق وليس على حساب عمل آخر. ولهذا يحصل الخلل في عدم مراعاة الأولويات. فتجد بعضهم يعني يكثر من بعض العبادات على حساب نواحٍ أخرى يقصر فيها يعني في متابعة أولاده، في متابعة حاجات أهله.
وسيأتي لنا يعني أدلة كثيرة على كل من الحكمتين أو العلتين كما يقول الشاطبي. إذا تبين لنا أن هاتين هما الحكمتان المقصودتان من عدم التكليف بما لا يطاق؛ يتبين لنا أن النظر إليهما فإن أدت المشقة الناشئة عن العبادة إلى انقطاعك عن العبادة، أو تبرمك منها، أو مللك منها، أو أدى إلى الإخلال بشيء من وظائفك الأخرى، أو من واجباتك الأخرى التي هي أهم من هذه العبادة؛ فاعلم أن الاستمرار في هذه العبادة هو غير مشروع أو الإكثار منها غير مشروع، وعليك أن تقتصر على القدر الواجب منها، أو على القدر الذي لا يؤدي بك إلى الوقوع في مثل هذا الخلل.(1/193)
أما إذا كان الإنسان يقول والله أنا ليس مثلاً ورائي أي ارتباط، ليس ورائه أهل ولا زوجة ولا أبناء مثلاً وإنما هو يقول أنا أريد أن أصوم يوما وأفطر يوما، أنا أريد أن أصلي الليل كله، وأنا على يقين أن هذا العمل محبب إلى نفسي، وأنه يزيدني قربى من الله -جل وعلا- وأن ثقتي بما عند الله -جل وعلا- ستنسيني كل هذه المشقات؛ فنقول والله هذا الحمد لله وبارك الله لك في هذا الشعور الطيب وهذا الإيمان القوي، ولا إشكال في ذلك ولا يُنهى عن الإكثار في العبادة حتى وإن شقت عليه مشقة بالنسبة للآخرين تعتبر غير معتادة أما بالنسبة له هو لا تكون مشقة. فالنظر في هذه المشاق المصاحبة للعبادات المشروعة هو بحسب كل فرد.
الترخص هو بالنظر إلى العموم عموم الناس إذا عرفنا أن هذه المشقة تشق على عموم الناس؛ قلنا هي رخص للناس جميعا إن شئت أن تأخذ بالرخصة؛ فلك. لكن بالنظر إليك أنت بينك وبين نفسك إن كنت تعرف من نفسك القدرة على الصبر على هذا وأنك لا تشعر بشيء من هذا الملل ولا تُخِل بعبادة أخرى هي أهم فالحمد لله.
فهاتان الحكمتان ينبغي أن ينظر الإنسان إليهما وهما الحكمتان الرئيستان من عدم التكليف بالأمر الشاق، أو من عدم قبول الشارع لممارسة العبادة التي فيها مثل هذا المشقة غير المعتادة.(1/194)
نجد من الأدلة التي تساق مثلاً على الحكمة الأولى قوله تعالى: ?وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ? [الحجرات: 7]، إذن الله -جل وعلا- لا يريد إعناتنا ولا يريد المشقة لنا ويريد أن يحبب لنا الإيمان لا يريد أن يبغض لنا العمل الصالح. قوله -عليه الصلاة والسلام-: (عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا)، قوله في قيام رمضان لما رأى خروج الصحابة في الليلة الثالثة قال: (أيها الناس! إنه لم يخفَ عليَّ مقامُكم، ولكنْ خشيت أن تُفرض عليكم صلاة الليل؛ فتعجزوا عنها)، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- في صلاة التراويح.
قوله في حديث معاذ: (أفتان أنت يا معاذ؟!) في قصة الرجل صاحب الناضحين الذي صلى وراءه، وأطال عليهم معاذ فانفصل هذا الرجل ولحق بناضحيه، أو فكر أن يفعل مثل هذا. ولما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ عاتب معاذا، وقال: (أفتان أنت يا معاذ؟! هَلا قرأت بـ: ?سبح اسم ربك الأعلى?، وبـ: ?والشمس وضحاها? وبـ: ?والليل إذا يغشى?).
أيضا قوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه أحمد والبيهقي: (إنَّ هذا الدين متينٌ؛ فأوغل فيه برفق، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسك عبادة الله؛ فإن الْمُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى)، المنبت الذي ينطلق في سيره ولا يتأنى، ولا يتوقف، ولا يرتاح. المسافر الذي يمشي ويواصل السير، ولا يتوقف ليرتاح ويريح راحلته. هذا يعني يقول لا أرضا قطع لم يقطع المسافة كلها ولن يُبقِ الظهر الذي يستفيد منه يعني راحلته التي يركب عليها ستنقطع وتموت. فهو لا قطع الأرض وطوى المسافة، ولا هو أبقى دابته ورفق بها. هذا أيضا من حديث صريح في هذا الشأن.(1/195)
أما عن الحكمة الثانية وهي عدم ترك ما هو أهم أو عدم الإخلال بالوظائف الأخرى؛ فهي أيضا ذات أهمية كثيرة ومما يدل عليها ما في البخاري عن أبي جحيفة قال: (آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء في بيته فرأى أم الدرداء متبذلة -يعني غير مهتمة بزينتها ولا بمظهرها التي هي زوجة أبي الدرداء غير مهتمة بزينتها ولا بمظهرها-، فقال لها سلمان: ما شأنك؟! فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء وأمر بصنع طعام لأخيه سلمان فلما صنعه قدمه إليه وقال: كُلْ؛ فإني صائم، قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، فأكل معه ولم يصم ذلك اليوم، ولما جاء الليل نام أيضا سلمان عنده فلما ذهب جزء يسير من الليل قام أبو الدرداء ليصلي، فقال: مكانك! نم، فأطاعه ونام فأخذ قليلا فقام، ثم قال له: ارجع فنم حتى بقي قليل من الليل، فقال: أمَّا الآن فقمْ، فقاما فصليا، ثم قال سلمان له: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا؛ فأعط كلَّ ذي حقّ حقّه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: صدق سلمان).
هذا الحديث يُعد أصلا ينبغي أن يُرجع إليه وإلى أمثاله من النصوص الكثيرة في الموزانة بين الأمور وعدم الإغراق في جانب على حساب جانب آخر.
أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ في الحديث السابق (لو قرأت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة)؛ أي راع من وراءك من المصلين.(1/196)
أيضا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إني لأدخل في صلاتي وفي نيتي أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز فيه)؛ أي أخففها. يخفف الصلاة من أجل يقول: (من أجل ما أعلمه من وجد أمه عليه)؛ لأن أمه مع المصليات فإذا سمعت بكاء طفلها هي مترددة بين صلاتها وبين طفلها سيُشغل قلبُها وستحزن على طفلها. فالرسول -عليه الصلاة والسلام- يخفف الصلاة حتى لا يبلغ بها الحزن أن يذهب خشوعها ويعني تذهب من عملها روح الصلاة الذي هو الخشوع.
أيضا يمكن أن نقول إن مما يسببه ترك الرخصة والاستمرار في العمل الشاق الانقطاع عن عبادة هي أهم من هذه العبادة التي أنت تمارسها مثل ما ذكرنا لكم قبل قليل عن ابن مسعود. فإنه قيل له: إنك لتقل الصوم، فقال: "إنه يشغلني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحبُّ إليَّ).
والإمام مالك كره إحياء الليل كله يعني يكره قيام الليل كله، وقال: "لعله يصبح مغلوبا"؛ أي يصبح مغلوبا على نفسه لا يستطيع مثلاً أن يصلي صلاة الفجر بخشوع وبطمأنينة أو يكون مغلوبا يبقى نهاره كله نائما لا يستفيد من بقية وقته، وهذا ما يفعله كثير من الناس للأسف وبخاصة في شهر رمضان تجد أن بعضهم يصلي بالليل ثم النهار يبقى كله في أثناء الصيام كله نائما لا يتحرك، وربما نام بعضهم عن صلاة الفجر، وربما نام عن صلاة الظهر والعصر. قال مالك أيضا: "لا بأس به -يعني قيام الليل- إن لم يضر ذلك بصلاة الصبح".(1/197)
فهذا يدل على أن الإمام مالك كان يوازن بين الواجبات، ويعرف ما هو المهم والأهم، ونحن الآن نرى ما يقع من الخلل الكبير عند كثير من الناس لعدم الانتباه إلى هذا الأصل المقاصديّ المهم وهو الموازنة بين العبادات، والاقتصاد في العبادة التي يرى أنها ربما تؤدي به إلى الإخلال بعبادات أخرى، أو بحقوق آدميين آخرين، وحقوق الآدميين لها أهمية في الشرع حتى إن الفقهاء يقولون حقوق الله مبناها على المسامحة، وحقوق العباد مبناها على المشاحة. فأنت مطالب بأن تؤدي حقوق العباد على الوجه المطلوب إذا كنت موظفا مسؤولا عن أمر ما فلا تتحجج بأنك تصلي فبعض الموظفين ربما جلس بعض الصلاة يقرأ القرآن والمراجعون ينتظرونه في مكتبه وهذا أمر ملاحظ وإذا قيل له؛ قال يا أخي أنا أتسنن بعد الصلاة، وأقرأ بعض الآيات من القرآن. يا أخي اقرأ في خارج وقت الدوام. لماذا تشغل هذا الوقت الذي أنت مكلف بالعمل به في شيء من الأمور المستحبة وتترك ما هو واجب عليك؟!
على كُلٍّ نحن انتهينا من تقرير القاعدة التي نريد تقريرها الآن.
تقول: سؤالي بالنسبة لفقرة أنا قرأتها بخصوص أحد الصالحين أنا لا أذكر اسمه الآن أنه ذُكر أنه جاهد نفسه في قيام الليل عشرين عاما حتى أنه أصبح يتلذذ به ولا يستطيع التخلي عنه أو تركه هذه نقطة.
والنقطة الأخرى هناك من الناس من يتساهل بالعبادات ويترك العبادات لأمور تافهة يعني ليس من الشباب فقط بل حتى من الكبار. أشياء تافهة وأشياء ربما تكون من المعاصي أيضا يا ليت الشيخ يقدم لهم نصيحة خصوصا أن فضيلة الشيخ كان يتكلم عن ناس قدوة وأمم وكان يؤثرون الآخرة على الدنيا ويقدمون لها كل وقتهم.
السؤال الأول: اللي هو إن أحد الصالحين جاهد نفسه أربعين عاما أو حتى عشرين حتى تلذذ؟ طيب ما هو السؤال في هذه الجهة؟
يعني يا ليت الشيخ يعلق على هذه النقطة بالنسبة
يعني ما حصلت اللذة إلا بعد عشرين سنة(1/198)
يعني مجاهدة هي ما جاءته إلا بمجاهدة نفسه يعني ما وصل لهذا التلذذ في العبادة إلا أنه جاهد نفسه على القيام وترك الملذات مِنْ ورائه وسعى للآخرة.
كلام الأخت كلام جميل وهو لا يتعارض مع ما قلناه. فالإنسان حينما يجد من نفسه العجز مثلاً أو التكاسل أو الكسل ينبغي عليه أن يتذكر ما رتب الله -جل وعلا- على هذه العبادة من الأجر والمثوبة فأولئك العباد والزهاد الذين يقضون أوقاتهم ما بين صيام وصلاة وذكر وقراءة قرآن وإسداء معروف للناس وإعانة لهم هؤلاء العباد لولا أنهم تذكروا ما أعد الله -جل وعلا- لعباده المطيعين له من الآجر والمثوبة؛ لما صبروا على مثل ما هم فيه. لكن هم لما قارنوا ما سينالهم من الأجر والمثوبة وعلو الدرجات بهذا العناء؛ وجدوا أن هذا العناء يسير جدا بالنسبة إلى الجزاء الكبير الذي سينالونه. فهم لما آمنوا إيمانا حقيقا بذلك؛ تضاءلت أمامهم حظوظ الدنيا، أصبحت حظوظ الدنيا لا تساوي شيئا بالنسبة لهم حينما قاسوها بالآخرة لكن الناس ليسوا جميعا على وتيرة واحدة، ولن يكونوا على نمط واحد.
فما ذكرته الأخت من أن الإنسان يجب أن يجاهد نفسه هذا مطلوب منه نعم مطلوب منه الله تعالى يقول: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ? [العنكبوت: 69]، والرسول أيضا يقول: (إنما الحلم بالتَّحَلُّمِ والصبر بالتصبر)، يعني أنت لا تقول أنا خلقت هكذا غير حليم سريع الغضب وتقتصر على هذا، وتقول أنا رضيت بهذا وهذا قسمي.
أنت بإمكانك -إن شاء الله- بمعونة الله -جل وعلا- أن تغير من هذه الطباع، وتصبر مثلاً على ما يصيبك من الأذى، وتعفو عن الجاهل الذي تعدّى عليك. فالإنسان يبذل جهده ويجاهد نفسه لعله يجد بعد ذلك اللذة؛ لأن العبادة لها لذة لا تعدلها لذة. لكن لا يجدها الإنسان إلا بعد مجاهدة النفس، والإيمان واليقين التام بما أعد الله -جل وعلا- لعباده الصالحين يوم القيامة.(1/199)
لعلنا نختم بهذه الحلقة والحلقة القادمة ستكون -إن شاء الله- بعد الحج.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
متى يجب على المكلف الأخذ بالرخصة؟
السؤال الثاني:
ما الحكمة من عدم تكليف الشارع بالشاق من الأعمال؟
الدرس الخامس عشر
مقاصد وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها
نستعرض أسئلة ما قبل الحج، وإن كان الفاصل طويل ولكن هذه بعض الطلاب لم ينسوا هذا الفاصل ما شاء الله تبارك الله، أسأل الله -سبحانه وتعالى- لهم التوفيق.
السؤال الأول: متى يجب على المُكَلَّف الأخذ بالرخصة؟
قالت: يجب على المُكَلَّف الأخذ بالرخصة من عَلِم من نفسه أو غلب على ظنه أنه لو استمر في العبادة المصحوبة بالمشقة والتي لم يتطلبها ولم يبحث عنها هو بنفسه، ولكن وقعت عليه بدون ذلك، فإن أدت به خلل في نفسه، أو إلى بعضٍ، أو كره، أو حتى إلى انقطاع هذه العبادة والتبرم منها وأدائها بغير رضا النفس، فمثل هذا من يجب عليه الأخذ بالرخصة. هذا هو جوابه.
هذا جواب صحيح وموفق وكافٍ -إن شاء الله- فالمُكَلَّف إذا حسَّ أو غلب على ظنه أنه إذا استمر في العبادة مع ما فيها من المشقة الموجبة للرخصة، إذا استمر فيها وعلم أن هذا سيؤدي إلى انقطاعه أو إلى خلل في نفسه، أو في بدنه، أو في ماله فإنه مما يؤدي أحيانًا إلى تبرمه من العبادة، أو أدائها بغير رضا نفس فإنه يجب عليه أن لا يفعل، وأن يأخذ بالرخصة سواءً كانت رخصة تأخير، أو غير ذلك من الرخص.
السؤال الثاني: ما الحكمة من عدم تكليف الشارع بالشاقِّ من الأعمال؟
يقول: الحكمة من ذلك ترجع إلى أمرين:
الأمر الأول: أن الله -سبحانه وتعالى- لا يريد من العبد أن يبغض العبادة، أو ينقطع عنها، أو يتخلَّى عنها بسبب ما يُقارنها من المشقة.
والأمر الثاني: ألا يؤدي ذلك إلى الخلل بالوظائف الأخرى والأعمال الأخرى المطلوبة من العبد.
هذا جواب تام في الحقيقة وجواب مُوَفَّق، وهو مختصر ومفيد، وأتى على المطلوب من غير زيادة.(1/200)
لو تبدءون يا شيخ بما أردتم ثم نبدأ بالدرس.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فيطيب لي في بداية هذه الحلقة الجديدة أن أشكر الإخوة الذين تواصلوا مع هذا الدرس العلمي سواءً بالحضور، أو بالمشاركة في الجواب عبر الإنترنت، وأسأل الله -جل وعلا- أن يبارك في جهودهم، وأن ينفعهم بما تعلموه.
أما عن درسنا اليوم فنحن بمشيئة الله اليوم سنكمل الكلام عن النوع الثالث من أنواع المقاصد كما عَدَّها الإمام الشاطبي، وهو مقاصد وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها، فهذا النوع الثالث سننتهي اليوم منه -إن شاء الله- لنبدأ في النوع الرابع -إن شاء الله- في الدرس القادم، إلا إذا رأوا الإخوان أننا نقرأ الكتاب ونكمل قراءته فبالإمكان الأمر، يمكن إذا كان فيه فسحة من الوقت إذا بقي معنا ساعات كافية يمكن أن نقرأ في الكتاب.
آخر حديثنا كان في الدرس الماضي قبل الحج هو عن الحكمة أو العلة في أن الشرع راعى المشاق التي تعرض للإنسان، وقد سمعنا في أجوبة الإخوة أنها ترجع إلى أمرين: إما خشية أن يَمَل الإنسان، أو ينقطع عن العبادة إذا استمر في العبادة التي فيها مشقة خارجة عن المعتاد استمر فيها، فربما مَلَّ من العبادة، أو انقطع عنها، أو تعرض للتلف، أو الهلاك فذهبت العبادة لذهاب العابد نفسه، وإما أن يكون ذلك لتزاحم الوظائف.(1/201)
ثم تكلمنا عن ما الذي يترتب على تزاحم الوظائف، وما هي الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها كثير من الناس حيث لم ينتبه إلى إعطاء كل ذي حق حقه، فالإنسان في هذه الدنيا مُكَلَّف، وعليه حقوق وواجبات بعضها لنفسه، وبعضها لأقاربه وأسرته، وبعضها لربه -جل وعلا- فهو لا بد أن يقوم بهذه الحقوق، فإذا كان استمراره في العمل الشاق سيؤدي به إلى ترك بعض الأعمال أو الإخلال بها، فهذا هو الذي جاء النهي عنه، وقد ذكرنا أمثلة لهذا وأمثلة لمن لهم قدرة على الأعمال أو العبادات مع ما فيها من المشقة، فإن مثل هؤلاء لا يُنهون؛ لأنهم عُبَّاد لهم قدرة وعرفوا من أنفسهم القدرة على ذلك، ولا يُنهون عن الاستمرار في العبادة، وإن كان فيها شيء من المشقة.
كذلك تكلمنا في ما مضى عن المشقة كيف أنها غير مقصودة للشارع، قلنا: إن المشقة غير مقصودة للشارع، حتى المشاق المعتادة المصاحبة للعبادة هي في حد ذاتها غير مقصودة، وإنما تأتي تبعًا، يعني هناك مشاق مع العبادات، فكل عبادة فيها نوع من المشقة، هذه المشاق مشقات معتادة، لا تمنع من التكليف باتفاق، لكن بحثنا في أنها هل هي مقصودة للشارع بحيث يمكن أن يَتَقَصَّدَها وَيَتَطَلَّبها المكلف، وبينا أنها ليست مقصودة للشارع، فلا يجوز للمكلف أن يتطلبها ويبحث عنها أصالة، لكنها إذا جاءت تبعًا فإنه يصبر عليها ويكون له فيها الأجر والمثوبة.(1/202)
إذا كانت هذه المشاق ليست مقصودة فهل المشاق التي تصيب الإنسان الأخرى بمقتضى –مثلاً- قضاء الله وقدره من الأمراض والأعراض والمصائب التي تحل عليه، هي مقدرة من الله -جل وعلا- فهل نقول للإنسان إنه مطالب ومكلف بدفعها؟ حيث إن هذه المشاق قد تكون تسبب فيها الإنسان، وقد يكون الإنسان ليس له في الظاهر أي تسبب فيها، وإنما أصابته هكذا مصيبة أصابته وحلت عليه، وهو في الظاهر لنا لم يتسبب فيها لنفسه، فهل هو مطالب منه أن يدفعها عن نفسه؟ تكلم الشاطبي عن هذا في فصول متعددة ونحن نختصر بعض ما قاله في هذا، فهذه المشاق التي هي ليست مقصودة، ليست ناشئة عن فعل المُكَلَّف، مشاق ليست ناشئة عن فعل المُكَلَّف، وإنما أصابته بقضاء الله وقدره مثلاً، وقد يكون هو متسببًا فيها، ولكن ليس تسببًا ظاهرًا، يعني هناك تسبب ظاهر مثل الذي يمشي في الصحراء مثلاً ليناله العطش مثلاً، هذا متسبب في مشقة نفسه.
لكن المصائب التي تحل بالإنسان هو لا يظهر للناس أنه له تسبب بها، هل هو مطالب بدفعها؟
تكلم عنها الشاطبي وقال: هذه المشاق منها ما ورد الشرع بالأمر بدفعه، وحينئذ يتحتم علينا الالتزام بنص الشرع، ومنها ما لم يأمر بدفعه أمر إيجاب، وقد يكون أمر به أمر ندب، ومنها ما سكت عنه، فهذه المشاق التي أمر بدفعها نحن مأمورون بمقتضى أو مطالبون بمقتضى هذا الأمر بأن يدفع المكلف عن نفسه هذه المشاق، وهو يمثلها مثلاً باعتداء العدو على إنسان، فهو مطالب بأن يدفع عن نفسه، مطالب بأن يدافع عن نفسه، ونقول: هذا مأمور به وبخاصة الدفاع عن حوزة الإسلام، وعن المسلمين، وعن أعراضهم، وأموالهم، وبلدانهم، هذا مطالب به المسلم، فتكون حينئذ مأمورًا بها من الشارع. ثم عرض لقضايا أخرى، يعني بمعنى أنه ما دمنا مأمورين بها لا نتحجج ونقول: هذه بقضاء الله وقدره، والله قَدَّرَ أننا سنصاب بمثل هذا البلاء، وأننا سَنُغْزى، وأننا سَيُفعل بنا وَيُفعل بنا، ما نحتج بمثل هذا.(1/203)
ثم إذا كانت هذه المصائب وهذه المشاق التي لحقت بالإنسان لم يرد نص حتمي بالأمر بها، وهو يمثلها بالأمراض التي تصيب الإنسان، هل يجب عليه التداوي منها؟ دفع هذه المشاق عنه، هل يجب عليه أن يدفعها أو لا يجب عليه أن يدفعها؟ تكلم في هذا وأشار إلى أن العلماء اختلفوا في وجوب التداوي وعدم وجوبه، واستحبابه، وعدم استحبابه، وانتهى تقريبًا أو فيما يظهر أنه يرى أن التداوي متروك للإنسان؛ إن شاء تعالج وتداوى، وإن شاء ترك التداوي، ولا يكون ملومًا، والذي يظهر والله أعلم: أن التداوي إذا عرفنا أن تناول الدواء والأخذ بهذا السبب من الأسباب هو الطريق الوحيد لدفع هذه المشقة وهو طريق صحيح لدفع هذه المشقة، ولا طريق غيره، فالذي يظهر القول إما بالاستحباب أو بالوجوب، فإذا عَرَفَ المُكَلَّف أن هذا سبب وحيد لدفع هذه المشقة عنه بالتجربة بسؤال الخبراء، الأطباء مثلاً فإنه مُطَالب بأن يدفع عن نفسه هذا البلاء وهذه المشقة بالتداوي وتناول الدواء المباح، والتردد بين العلماء في وجوبه وعدم وجوبه، قد يكون التداوي قديمًا، يعني ليس هو كالوضع الحالي الآن، فالآن تقدم الطب كثيرًا وأصبح مثلاً من يُصاب بمرض معين يتفق الأطباء وجميع العقلاء معهم على أنه مثلاً لو فعل هذا الشيء لعوفي منه، وبإذن الله وبإرادة الله، كاتفاقهم على أنه لا يُنجب ولدًا إلا من تزوج، يعني الآن لا يمكن للإنسان أن يقول: أنا سأترك الزواج وقد يرزقني الله بولد، هذا غير معقول، فكذلك التداوي من بعض الأمراض الآن أصبح سبب التداوي أو سبب التعافي من هذا المرض واضحًا للأطباء والحمد لله وبالتجربة أثبتت أنه يُعَالج بهذه الطريقة فلو قيل بوجوبها على الإنسان المُكَلَّف لكان هذا القول في ظني متجهًا؛ لأن فيها حفظ مهجته، ونحن قد قررنا أن الإنسان مطالب بأن يحفظ مهجته، وأيضًا الشرع بَيَّن أن الرخصة أحيانًا قد تكون واجبة، كأكل الميتة مثلاً لدفع مسغبة الجوع المؤدي إلى هلاك(1/204)
النفس، يعني إذا كان الجوع سيؤدي إلى هلاكه يكون مأمورًا بالأكل من الميتة فلماذا لا يؤمر بالتداوي ويكون على وجه الوجوب حينما يتبين أن هذا الدواء ناجع في هذا الداء، وأنه لا طريق مادي، أما طريق الدعاء والسؤال فهذا أمره معروف وبابه مفتوح، لكن الطرق المادية تحددت بحسب التجربة، ففي ظني أنه لا يمتنع أو ليس ببعيد أن يُقال يجب عليه التداوي، وقد يُفَرَّق بين هذا وبين التداوي في الزمن الماضي حينما كان الطب متأخرًا جدًّا، والأدوية التي تُتَنَاول بعضها قد يضر ويزيد الداء، وبعضها قد يخففه قليل، وبعضها قد يشفي منه، وما يناسب هذا المرض لا يناسب ذاك، لكن الآن أصبح الطب أكثر تقدمًا، فالقول بأن هذه المشاق ينبغي أن يدفعها الإنسان عن نفسه، أو يجب عليه أن يدفعها عن نفسه، أنا في ظني أنه قول متجه.(1/205)
بقي أن هناك بعض المشاق لو دفعها الإنسان عن نفسه لتسبب عنها مشاق أخرى إما عامة أو خاصة، وهذه يُرجع فيها إلى ما قلنا من أنه تأتي فيها الموازنة بين المشقتين، إن كانت المشقة الخاصة دفعها سيؤدي إلى مشقة عامة تعم الإنسان وغيره، فهذه لا يفعلها، والشاطبي يُمَثِّلُ لهذا بالولاية ولاية أمر المسلمين، أو ولاية شيء من أمورهم إذا تعينت على الإنسان وتبين أنه الأحق والأصلح لها فيقول: ينبغي ألا يدفعها عن نفسه؛ لأنها أيضًا الولايات فيها مشاق ولا شك، فلا يدفعها عن نفسه؛ لأنه لو تأخر عن القيام بهذا الواجب للحقت المشقة بأكبر قدر ممكن من الناس به وبغيره، وأما الولايات الأخص أو الأعمال التي ينتفع بها قدر كبير من المسلمين ولكنها ليست ولاية عليهم كعمل الطبيب مثلاً، والمفتي والقاضي، القاضي قد يقول: أنا ينالني إثم من القضاء وأخشى أن أقع في الإثم من القضاء، وتنالني مشقة أيضًا في نفسي، في ترك مثلاً القيام بشئوني الخاصة، قد تقل عبادتي مثلاً لانشغالي بالقضاء وبالفتوى وبتعليم الناس، فهل مثل هذا يكفي لأن يتنحى عن هذا العمل الذي ينتفع به آخرون؟ يقول الشاطبي: هذا ليس عذرًا له، يعني أن هذا لا يُعد عذرًا له، ولا ينبغي أن يقدم مصلحته الخاصة أو يدفع المشقة الخاصة عليه بإيقاع مشقة على عدد كبير من الناس، إلا إذا علم أنه يوجد فيهم من يقوم بهذا الواجب، وهو يمثله كما ذكرت لكم بالقاضي والمفتي والطبيب.(1/206)
الأمر الآخر أو النقطة الأخرى التي نحب أن نُعَرِّجُ عليها هنا أيضًا فيما يتعلق بالمشاق التي تُدفع والتي لا تُدفع: أن هناك من المشاق ما لم يُراعه الشارع ولم يجعله عذرًا، يعني هناك نوع من المشاق الشارع لا يراه عذرًا لإسقاط التكاليف، ولا لتخفيفها، وهو مشقة اتباع الهوى، الناس إذا جروا على عادة معينة واتبعوا أهواءهم فيها وانحرفوا عن منهج الله -جل وعلا- حصل لهم مِرَان على هذه العادة، وإن كانت عادة محرمة، ثم إذا بُيِّنَ لهم الحكم الشرعي قالوا: يشق علينا أن نتركها، هذه المشقة ينبغي أن يجاهدها الإنسان، وهي ليست عذرًا لترك التكاليف الشرعية، فنحن نعترف بأنها قد تكون مشقة فعلية وحقيقية، والأمر ملحوظ جدًّا من كونها مشقة، ولهذا تجد بعض الناس ربما دفع حياته ثمنًا لهذه العادة الشركية التي هو عليها، كثير من المشركين يختار أن يُقتل على أن يترك ما اعتاده من عبادة الأصنام والعياذ بالله، وفعل بعض المنكرات، إذا تجاوزنا قضية الشرك ونحوها إلى بعض المحرمات الأخرى، تجد كثيرًا من الناس الذين اعتادوا على هذا المحرم يشق عليه مشقة عظيمة تركه، فنقول: هذا ليس عذرًا لك؛ لأنك أنت تسببت في هذا، أنت بتعودك على هذا المحرم فترة من الزمن تسببت في وقوع مثل هذا لك، وأنت لست معذورًا بهذا، فعليك أن تترك هذه العادة المحرمة.(1/207)
مما يدل على أنها غير مراعاة ما سيأتي -إن شاء الله- من أن من مقاصد الشارع: إخراج المُكَلَّف عن اتباع هواه، يعني ما الدليل على أن مشقة اتباع الهوى أو المشقة التي تلحق بالإنسان من مخالفة الهوى، مشقة مخالفة الهوى أنها لا تعتبر في الشرع؟ أن الشرع جاء لإخراج الإنسان من اتباع هواه حتى يكون عبدًا لله -جل وعلا- يعني من مقاصد الشرع العظيمة أنه جاء لينتشل الإنسان ويخرجه من اتباع الهوى والشهوة إلى اتباع أمر الله -جل وعلا- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومما يدل على ذلك أيضًا ذم الله -جل وعلا- في الكتاب وفي السنة أيضًا لاتباع الهوى ?أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ? [الجاثية: 23] وقوله تعالى: ?أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ? [محمد: 14] ويقول الله -جل وعلا-: ?وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ? [المائدة: 48]، ويقول: ?وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ? [المؤمنون: 71]، فالحق لا يتبع الأهواء وإنما الحق هو ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الشرع، فيجب على الإنسان أن يتخلَّى عن اتباع هواه، وإن كلَّفه ذلك كثيرًا؛ لأنه قد يشق عليه؛ لأن ترك الهوى أو مخالفة الهوى قد تؤدي به إلى فقدان مال، وقد تؤدي به إلى فقدان جاه ومنزلة في مجتمعه، وتعرفون أن من أسباب تأخر إسلام بعضهم ونفاق بعضهم في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو حب الرياسة، فعبد الله بن أبي بن سلول كان يسعى لأن يكون زعيمًا لقومه، فلما جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجاء بالدين الجديد وأصبحت الزعامة له، والأمر والنهي له حسده، فلو أنه بقي معلنًا للكفر لما لحق شيئًا ولما أطاعه أحد، فاضطر إلى أن يدخل في الإسلام ويجاري، لكنه في واقع أمره هو لم يسلم،(1/208)
وإنما هو على كفره، وعلى نفاقه ففضحه القرآن، وفضحته السنة وتبين أمره للناس جميعًا والحمد لله، ولم ينل شيئًا لا مع كفره، ولا مع تظاهره بالإسلام.
هذه النقاط الثلاث تقريبًا هي تتعلق بما سبق أن ذكرناه من أن المشقة تعتبر عذرًا مسقطًا بما ذكرناه معها من قيود، وتوصيف وبيان.
ننتقل بعد هذا إلى بيان مقصد آخر من مقاصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف، ويكاد نقول هو الأخير من هذا النوع من النوع الثالث، هذا هو المقصد الأخير. من مقاصد وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها: حمل الناس على الطريق الوسط ومنعهم من الغلو والجفاء، منعهم من أن يغلو أو يجفوا، وزجرهم عن التطرف إلى ذات اليمين أو اليسار، ومنعهم من الإفراط والتفريط، هذا المعنى هو مقصد من مقاصد الشرع وهو يُعرف الآن وما نعرفه الآن بمصطلح "وسطية الإسلام"، هذه الوسطية -والحمد لله- من صفات هذا الدين، وهي ثابتة بطريقين: بالنص الصريح، وبالاستقراء.
بالنص الصريح وهو في قوله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا? [البقرة: 143]، وصَحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه وصف أو فَسَّرَ الوسط هنا بالعدل وبالخيار، فالوسط يطلق ويراد به العدل، ويطلق ويراد به التوسط بين طرفين مذمومين، فالشريعة حالها كذلك -والحمد لله- وهذه الأمة أمة وسط، وهي بين الأمم وسط في تدينها، وفي أخلاقها، وفي جميع شأنها.(1/209)
الأمر الثاني أو الطريق الثاني لإثبات وسطية الأمة: هو الاستقراء، استقراء الشريعة، هذا هو الدليل القاطع الحقيقة على وسطية هذه الشريعة المباركة، ويمكن أن نبين ذلك ببيان بعض التكاليف الشرعية واستعراضها على عَجَل، فنجد مثلاً فيما يتعلق بالاعتقاد تتضح لنا وسطية الشريعة، ووسطية هذا الدين بين الغلو والجفاء، في مقام الإيمان مثلاً بالأنبياء والرسل تتضح وسطية الإسلام بجلاء، فالناس في الأنبياء وفي الملائكة أيضًا طرفان والمسلمون وسط بينهم، فمنهم الغالي فيهم ومنهم الجافي لهم، منهم الغالي الذي يعد الأنبياء أربابًا، يعدهم كالآلهة، كما هو حال النصارى حينما قالوا: "إن المسيح ابن الله" أو "هو ثالث ثلاثة" فرفعوا المسيح -عليه الصلاة والسلام- إلى مقام الألوهية، ولم يقفوا به عند مقام الرسالة والنبوة، أما الطرف الثاني فهم الذين عادوا الأنبياء وعادوا الملائكة، وأبغضوهم وقتلوا الأنبياء بغير حق، وهذا حصل من اليهود على مر الزمان، يعني قتلوا الأنبياء والرسل وكرهوا بعض الملائكة كجبريل وغيره من الملائكة وجفوا فيهم، بينما المسلمون -والحمد لله- والإسلام جاء بالاعتدال في أن نؤمن بهم من سَمَّ الله منهم، ومن لم يُسَمِّ ونضعهم في منزلتهم التي اختارها الله لهم، ونحبهم ونثني عليهم ونعتقد أنهم أتوا بالحق، ونعتقد أيضًا أنهم لا يمكن أن يكذبوا أو يغشوا وأنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله، ولكن لا نبلغ بهم إلى منزلة العبادة، ولا منزلة الألوهية، ولهذا نهى الله في أكثر من آية عن الغلو: ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ? [المائدة: 77]، وذمهم وذم النصارى مثلاً على قولهم ?الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ? [التوبة: 30]، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: (لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله).(1/210)
هكذا أمور الاعتقاد الأخرى أيضًا يظهر التوسط فيها من غير شطط لا إلى ذات اليمين ولا إلى ذات اليسار، إذا تأملنا مثلاً الكلام في صفات الله وأسمائه نجد أيضًا أن الشرع وأهل السنة -والحمد لله- وسط في ذلك، إذا تأملنا مسائل القضاء والقدر أيضًا نجدهم وسط في ذلك، إذا انتقلنا إلى العبادات العملية أيضًا نجد وسطية الإسلام ظاهرة، فالقدر الواجب من الصلوات مثلاً هو قدر مناسب كافٍ لأن ينتزع الإنسان من اتباع هواه ليكون عبدًا لله -جل وعلا- ولا يقطعه عن العمل، ولا يقطعه عن النظر في شؤون حياته وتدبير أموره، فلا هو انقطاع للعبادة وتبتل لها تام، وليس فيها أيضًا جفوة، فلم تكن الصلاة عندنا مرة واحدة في الأسبوع كما يفعله النصارى الآن واليهود كذلك، وإنما هي خمس مرات في اليوم وفي أوقات متباعدة، وتجد أن هذه الأوقات تسمح لك بالعمل، وبالنوم، وبالأمور التي أنت بحاجة إليها، فهذا مظهر من مظاهر الوسطية، إذا أخذت الزكاة أيضًا تجد المقدار المطلوب فيها يسيرًا، وسهل على النفس دفعه، ولا يشق على الإنسان أن يدفعه، ولا يصيب ولا يرزأ ماله ولا ينقصه، إذا أخذت الحج أيضًا فتجده الواجب منه مرة واحدة والباقي تطوع، إذا أخذت الصوم تجد أنه مرة واحدة في السنة وشهرًا واحدًا في السنة، هذا هو القدر الواجب، ثم الصوم أيضًا تجده ليس عن كل شيء، وإنما عن الأكل والشرب والجماع، ليس صومًا عن الكلام ولا صومًا عن العمل، ولا انقطاعًا عن أمور الإنسان الأخرى التي لا بد منها.(1/211)
هكذا في جميع التكاليف الواردة ابتداءً، لكن إذا نظرت إلى بعض نصوص القرآن والأدلة الأخرى التي قد يقول الإنسان فيها: هذه ما روعي فيها مثلاً التوسط الذي تقولون، فيها تشديد تجد في بعض الأحيان آيات فيها تشديد، وآيات أخرى فيها تخفيف، فبيان هذا أو إيضاح هذا هو أن الله -جل وعلا- حينما أرسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأنزل عليه كتابه نجد من الناس من أعرض عن هذا الدين، فامتن الله عليهم بما أنزله عليهم من الخيرات وبما هو موجود في هذه الحياة الدنيا، فقال مثلاً: ? هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ? [النحل: 10]، امتن عليهم بهذا، ? اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ? [غافر: 79]، وقال: ? وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ? [الأنعام: 99]، إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الامتنان علينا بما في هذه الحياة الدنيا، لكنه في آيات أخرى، لما أعرض الناس عن الإسلام لما أعرضوا عنه بين لهم أن هذه أو لما تبين من صنيع بعضهم انشغاله بالحياة الدنيا عن العمل الأخروي جاءت آيات أخرى لتذكر بأن هذه الحياة الدنيا مع ما ذكرنا فيها من متاع ومن زينة لكنها عند الله لا تساوي شيئًا، هي لا تساوي شيئًا بالنسبة إلى ما عند الله، ?اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا? إلى أن قال: ? وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ ? [الحديد: 20]، والرسول -عليه الصلاة والسلام- لما رأى من بعض الصحابة حرصًا على الدنيا وذلك حينما تناهى إلى أسماعهم(1/212)
أنه أتاه مال من البحرين فكثر المصلون معه في ذلك اليوم في صلاة الفجر، حتى الذين كانوا في قرى ونواحي بعيدة عن المدينة، وما كانوا يشهدون الصلاة معه، كانوا يصلون في مساجدهم جاءوا وصلوا معه، فعرف مقصدهم، أنهم أرادوا شيئًا من متاع الدنيا فأراد أن يعلمهم ويردهم إلى الصواب مثل الراعي الحاذق مع إبله، ومثل الطبيب الماهر مع مريضه، إذا رآه يأكل من الطعام كثيرًا قال: لا..(1/213)
اترك هذا الطعام هذا قد يضر بك، إذا رآه يمتنع عن الطعام نهائيًّا قَرَّبَ إليه بعض الطعام وقال: كُل من هذا الطعام، فهذا حال الطبيب الحاذق، والراعي الأمين مع رعيته، الرسول -عليه الصلاة والسلام- فعل ذلك، قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتتنافسونها كما تنافسها الذين من قبلكم) أو: (فتتنافسونها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) فتجد أن نصوص الشرع مرة تأتي بالترغيب في العمل في الحياة الدنيا ? وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ? [القصص: 77]، هذه الآية تجد أنها جمعت بين الأمرين، جاءت بالتوسط، بينما تجد آيات أخرى تقلل من شأن الحياة الدنيا، هذه التي تقلل من شأن الحياة الدنيا هي علاج لمن ركنت نفسه إلى الدنيا، الآيات والأحاديث التي فيها الحث على العمل والكسب هذه تناسب أو تأتي لمن قعد عن نصيبه من الدنيا وترك نصيبه من الدنيا وانقطع للعبادة، فالشرع وسط لا يريد من الإنسان أن يترك حظوظه الدنيوية نهائيًّا وينقطع للعبادة، ولا يريد أن ينهمك في هذه الحياة الدنيا بحيث ينسى الآخرة أو لا يفعل من التكاليف الشرعية إلا ما هو الضروري وحينما يفعله وهو متعلق قلبه بعمله الدنيوي تجد أنه يصلي صلاة بلا روح، بلا خشوع، يعني ربما صلى هذه الصلاة الأربع ركعات أو الثلاث ركعات ركعها ولكن بسرعة يريد أن ينقلب إلى عمله، وربما وهو في صلاته يبيع ويشتري ويفكر في أموره الدنيا، فالجمع أو التوليف بين هذين الأمرين هو أن يسير الإنسان على سبيل الوسط.(1/214)
التوسط جاء في مواطن كثيرة، تجده مثلاً في موضع من المواضع يأتي التحذير جانب التحذير يكون هو الغالب، وتعظيم الذنب، حينما يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه) يعني هذا فيه تشديد على خيانة الجار، (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) هذا أيضًا فيه تشديد على العقوبة على من يفعل مثل هذا الفعل، لكن انظر إلى مواضع أخرى تجد فيها أحاديث الوعد وآيات الوعد تجد أنها أيضًا تنقذك حينما تصطك عليك الأمور من جانب تجد أن آيات الوعد هي تُسَرِّي عن نفسك قليلاً وتريحك قليلاً وتبشرك بالخير، تجد أن من قال لا إله إلا الله مؤمنًا بها وجبت له الجنة، يعني من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله صادقًا من قلبه وجبت له الجنة، وتجد أيضًا الثواب العظيم على مجرد كليمات تقولها. (من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة كأنما أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل) فالذي يعني طريق الوسط في فهم مثل هذه الأمور ما هو؟ هو أن نضم هذه الآيات بعضها إلى بعض، وأن تكون حاملاً لنا على الطريق المستقيم، فلا نغتر بآيات وأحاديث الوعد، ونقول: الحمد لله، من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة فلماذا أصلي؟ فهذا خطأ عظيم، ولا يصيبنا الإحباط ونقنط من رحمة الله -جل وعلا- عندما نجد بعض أحاديث الوعيد أو آيات الوعيد، ونظن أننا لم نفعل شيئًا.
إذن هذا كله يبين لنا أن هذا الدين وسط، وأن هذه الشريعة هي وسط بين الشرائع، وأن الطريق الأوسط دائمًا هو الطريق المستقيم، قد يقول قائل: أنت الآن تقرر أمورًا واقعة، ماذا نستفيد من هذا المقصد؟ يعني هذا مقصد وضع الشريعة أو أن من مقاصد وضع الشريعة للتكليف حمل الناس على الطريق المستقيم، ما الذي نستفيده؟(1/215)
نقول: نعم فيها فائدة عظيمة، من فوائده أن الداعية إلى الله -جل وعلا- ينبغي أن يستفيد من هذا المنهج، منهج التوسط فينظر في حال المدعوين، حال من يخاطبهم فيحملهم على ما يُصلح شأنهم؛ إن رأى منهم انهماكًا في الدنيا حذرهم منها، وإن رأى منهم انقطاعًا عن الدنيا وانقطاعًا للتعبد بما يؤدي إلى شيء من الإخلال أيضًا ذَكَرَّهم بعفو الله ورحمته وفتح أمامهم الطريق، كذلك الذين يئسوا يعني اليائسون، بعض الناس يكون عنده يأس من رحمة الله ويقول: أنا فعلت من الذنوب والمعاصي ما لا قِبَلَ لي به فأنا لا يمكن أن أتوب، كيف أتوب وأنا عندي معاصي كثيرة أنتم ما تعرفونها؟ حينما تبين له أحاديث الوعد، وآيات الوعد وأن الأمر -إن شاء الله- يمكن إدراكه تفتح له سبيل التوبة إلى الله والرجوع إليه، كذلك حال المفتي أيضًا، المفتي حينما يستفتيه المستفتي ينظر في حاله وتكون فتواه تبعًا لذلك، تبعًا لحال من يستفتيه، فهذه القاعدة لها فائدة ليست مجرد تقرير أشياء موجودة نحن نذكرها كما هي أو نخرجها بشكل مختصر، وإنما هي أيضًا ينبغي أن تكون ديدننا في الدعوة إلى الله في حمل الناس...
طيب يا دكتور عامة الناس كيف يستفيد من هذه القاعدة؟.
عامة الناس يمكن أن يستفيدوا من هذا أن التوسط دائمًا في دعوته للناس، في إذا كان عامة الناس أيضًا هو قادر أن يدعو ما فيه أحد من المسلمين الحمد لله وهو قادر أن يبلغ عن الله -جل وعلا- اختيار الوقت المناسب أيضًا هذا يدخل في هذا أنك حينما تختار الوقت المناسب لطرح ما تريد طرحه من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر هذا يفيده، أيضًا هذا الإنسان أيضًا حكمه على الآخرين، التوسط في الحكم على الآخرين.
المصطلح الآن أصبح ما شاء الله شماعة لكل شيء يا دكتور، الآن تعرفون بعضهم يقول إن الدين وسط وفيه تسامح وفيه وكذا، وربما يرتكب الكبائر، والدين وسط.(1/216)
نعم.. هو الحقيقة كون بعض المصطلحات قد تُستغل ليس معنى هذا أننا نتركها لأجل أن هناك من أساء استعمالها، هذا مصطلح صحيح ولا ينبغي تركه لأجل أن بعض الناس أساء استعماله، لكن ينبغي أن نبين للناس أن الوسط في ما نَصَّ الشرع عليه هو اتباع ما نص الشرع عليه إذا لم يكن هناك درجات في أوامر الشرع، أما حين يأتي الشرع ويأمر بالشيء على سبيل الوجوب مرة، وعلى سبيل الندب فهناك درجات منها ما هو واجب، منها ما هو مندوب، فنقول: أنت مطالب بما تستطيعه من هذه الأمور، ودع ما لا تستطيعه فالتوسط مطلوب وإن أساء بعضهم فهمه، نعم هناك مَن ينادي إلى التخلي عن بعض تعاليم الإسلام ويقول يا أخي الدين يسر، أو الدين وسط، التوسط.. ليس معنى التوسط أننا كل ما رأينا فريقين مختلفين نأتي في الوسط بينهما، لا..(1/217)
هذا ليس هو العدل، الوسط من معانيه العدل، فإذا كان الوسط المكاني ليس هو العدل هذا لا يكون من التوسط المطلوب، فالتوسط ليس هو توسطًا مكانيًّا دائمًا، لكن أحيانًا يكون توسطًا بين طرفين، وأحيانًا يكون مقصود به العدل حتى وإن أغضبت هذا الطرف، ولهذا بعض الذين يدعون الآن إلى التقارب بين الأديان يعني ربما جرهم هذا إلى التنازل عن بعض أحكام الشريعة القطعية والثوابت التي لا يمكن المساومة عليها، ولا يمكن إغفالها على اعتبار أنهم يقولون: نريد أن نتقرب من الآخر، ولكي نتقرب إليه لا بد أن نترك بعض ديننا، هذا ليس بصحيح، وليس المراد بالتوسط أن نتنازل عن بعض الدين لكي نقترب من غيرنا، وإنما التوسط ألا نجبر الآخر على أن يعتقد ما نعتقده أو يعمل ما يعمله، نحن مقتنعون بما هدانا الله إليه من هذا الدين، ومن الحق الذي نحن عليه، نحن مقتنعون به، ومؤمنون به، وسنعمل به بقدر استطاعتنا، وغيرنا علينا أن نبلغه بأن هذا هو الذي نعتقده، وإن دخل في هذا الدين فالحمد لله، ونحن نحب للآخرين ما نحب لأنفسنا، وإلا فلا يحملنا ذلك أيضًا على ظلمه، لا يحملنا اختلاف دينه عن ديننا على ظلمه، ?لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ? [المائدة: 2] فلا يدفعنا اختلافنا مع الآخرين على أن نظلمهم أو نهضم حقوقهم إذا كانت لهم حقوق عندنا بل نعاملهم فيما بيننا وبينهم بالحسنى وبالعدل، لعل الله أن يهديهم إلى الحق.
أسئلة الدرس.
السؤال الأول: هل يعد الشرع مشقة مخالفة الهوى عذرًا؟ وما الدليل على ما تقول؟
السؤال الثاني: يستدل على وسطية الشريعة بطريقين فما هما؟
تقول: هل من الحكمة في الدعوة البدء بدعوة الناس إلى التوحيد وترك نهيهم عن المنكر في اللباس بالذات في أوساط النساء؟.
يعني هي تقول: هي في مجتمع إسلامي وموحدون ولله الحمد وكذا، ولكن هل أبدأ بالتوحيد؟ أم أبدأ بالنهي عن المنكر؟.(1/218)
إذا كانوا موحدين فالحمد لله الذي عرف التوحيد وآمن به ليس مُطالبًا منك أن تثير قضايا، بعض الناس يظن أنه لكي يكون إنسانًا موحدًا لا بد أن يعرف كل ما كتبه العلماء المتقدمون في ما يُعرف بأصول الدين وقضاياه، هذا ليس مطلوبًا، بل لا ينبغي إثارة بعضه، بعضه لا ينبغي إثارته عند العامة وإنما الإيمان بالله -جل وعلا- وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر وبالقضاء خيره وشره من الله -جل وعلا- هذا هو الذي يُطالب به عامة الناس، فالأخت مثلاً تقول هي في مجتمع إسلامي الحمد لله، وهو مؤمنون بالله وليس عندهم شيء من الشرك، لكن قد يكون بعضهم عنده شيء من البدع الشركية الكبيرة فمثل هذا يُبدأ بها؛ لأن تصحيح العقيدة أهم من تصحيح العمل، وإذا صلحت العقيدة -إن شاء الله- يتبعها تصحيح العمل، لكن إذا كانوا من هذا الجانب يعني ليس عندهم شيء من الأخطاء العقدية الشنيعة الكبيرة الظاهرة فإن أمرهم ونهيهم يكون معًا، لا يُفَرَّق بين الأمر والنهي ونقول نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر، لكن أيضًا النهي عن المنكر ليس معناه أن يؤخذ الإنسان بالقوة أو يُقتلع بالقوة، ولكن النهي أيضًا هو نهي بالحسنى، كما يأمر بالحسنى يمكن أن ينهى بالحسنى ويبين للناس بالحسنى وبقدر ما يستطيع، والحمد لله الشرع بَيَّنَ لنا أن واجب الإنسان هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر ما يستطيع.
الدرس السادس عشر
النوع الرابع قصد الشارع في دخول المكلف تحت التكليف
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/219)
بالأمس فرغنا من الكلام على النوع الثالث من أنواع مقاصد الشارع كما عدها الإمام الشاطبي، قلنا: إن الإمام الشاطبي في بداية كتابه قال إن مراده بالمقاصد أمرين، الأول مقاصد الشارع والثاني مقاصد المكلفين، ثم قسم مقاصد الشارع إلى أربعة أقسام، أو أربعة أنواع، فانتهينا بالأمس من النوع الثالث، كنا في النوع الأول، قال هو مقاصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء، والنوع الثاني مقاصد وضع الشريعة للإفهام، ثم مقاصد وضع الشارع للشريعة للتكليف بمقتضاها، ثم اليوم ننتقل إلى النوع الرابع وهو: مقاصد الشارع من دخول المكلف تحت التكليف؛ أي يعني من امتثال المكلفين لأحكام الشريعة، هذا طبعا نوع جديد سيذكر فيه المصنف بعض المقاصد أو القواعد التي تضبطه وهو قد عنون لهذا النوع بقوله (النوع الرابع من أنواع المقاصد) قال: (مقاصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة) ومراده بدخول المكلف تحت أحكام الشريعة امتثاله لها، وعمله بموجبها، وانقياده لأوامرها، ووقوفه عند حدودها.
ما هي المقاصد التي تدخل تحت هذا النوع؟
تكلم المصنف في بداية كلامه عن هذا النوع؛ عن المقصد الشرعي الأعظم في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة قال: (هو إخراج الإنسان أو المكلف عن داعية هواه إلى أن يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا) فمعنى هذا الكلام أن الإنسان أو المخلوق هو عبد لله -جل وعلا- بمقتضى الاضطرار على حد قوله تعالى: ? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ? [مريم: 93].(1/220)
فالعبودية التي أو العبودية الاضطرارية التي بمقتضاها يكون الإنسان وكل مخلوق عبدا لله -جل وعلا- يتصرف فيه كيف يشاء هو الذي خلقه، هو الذي يرزقه، هو الذي يحييه ويميته، هذه عبودية ليس للإنسان فيها اختيار، ولكن العبودية التي يثيب الله عليها -جل وعلا- هي العبودية الاختيارية؛ أن يكون الإنسان منقادا لله اختيارا، هذا معنى قول المصنف: (حتى يكون عبدا لله اختيار)؛ يعني حتى يكون مطيعا لأمر الله، ملتزما بشرعه، واقفا عند حدوده منتهيا عن نواهيه.
هذا الضابط الأول يا دكتور
هذا المقصد الأصلي للشارع من مقاصد دخول المكلف تحت أحكام التكليف؛ يعني هو دقيق في عبارته الحقيقة وفي تقسيماته، فينبغي أن نلتزم بها، وهو يقول: (المقصد الشرعي من دخول المكلف تحت أحكام الشريعة)؛ يعني بدخوله امتثالا لها، هو إخراجه من داعية هواه إلى أن يكون عبدا لله، يعني إلى أن يكون ممتثلا وسائرا في حياته وفق أمر الله -جل وعلا- ووفق شرعه، فهذه هي العبودية الاختيارية التي يثيب الله عليها الإنسان ويكافئه، لأن الإنسان في الأصل هو تحت تصرف الله -جل وعلا- فتصرف الله في مخلوقاته أعظم أثرا من تصرف السيد في عبده المملوك له، ولكن هذه العبودية التي هي يسميها العبودية الاضطرارية ليست هي التي يكافئ الله عليها ويثيب الله عليها الإنسان وإنما العبودية الاختيارية هي المقصود.
هذا المقصد الأعظم من مقاصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة وخلاصته هو: تحرير الإنسان من رق الهوى وعبوديته لهواه إلى أن يكون عبدا لله -جل وعلا- طيب ما الدليل على أن هذا هو المقصد الأعظم من مقاصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة؟
قال: الدليل على هذا من عدة وجوه:(1/221)
الدليل الأول: النصوص الصريحة، في أن الله -جل وعلا- ما خلق الخلق إلا لعبادته، كما في قوله تعالى: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? [الذاريات: 56]. وكما في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [البقرة: 21]. وقوله: ? وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ? [النساء: 36].
هنا قوله: ?وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?، يدخل في عموم الشيء المشرك به (الهوى)، لأن الإنسان قد يتخذ هواه كالإله من دون الله يتبعه حيثما حرفه أو صرفه، فهذا هو الدليل الأول، النصوص الصريحة التي فيها وجوب العبادة لله -جل وعلا- وإخلاص العبادة له وحده، وعدم قبول أي عمل يشرك معه فيه غيره، هذا دليل على أن المقصد الأعظم هو تحرير الإنسان من رق هواه، ومن عبادة هواه اتباعواتباع شهواته إلى أن يكون عبدا لله مستسلما لأوامره منقادا له في جميع شرعه.
الأمر الثاني أو الدليل الثاني: النهي عن مخالفة أوامر الله وذما أعرض عن الله -جل وعلا- وأعرض عن ذكره وتوعده الله -جل وعلا- بالعذاب العاجل والآجل، فالأمر بطاعة الله كما في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ? [النساء: 59]. والتحذير من المخالفة كما في قوله تعالى: ? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [النور: 63].(1/222)
وفي التحذير من الإعراض: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ? [طه: 124]. فهذه الآيات التي فيها التحذير من مخالفة أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- والتحذير من عصيان أوامره ونسيانه، هذه أيضا تضم إلى الآيات التي فيها الأمر بإخلاص العبودية لله -جل وعلا- وأن الله لا يقبل معه شريكا.
الدليل الثالث: ذم اتباعاتباع الهوى، وهذا فيه نصوص صريحة، ذم اتباعاتباع الهوى وبيان أن الهوى مصدر كل ضلالة، وأن من اتبع هواه فقد عبده من دون الله -جل وعلا- ولهذا نجد الحق -تبارك وتعالى- يقول: ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ? [الجاثية: 23]. معنى هذا أن الإنسان قد يعبد هواه وشهوته، فعباد الهوى والشهوة يتضح أمرهم وينفضح حينما تتعارض أهواؤهم وشهواتهم مع أمر الله -جل وعلا- فيقدمون شهواتهم وأهواءهم على مراد الله -جل وعلا- فهنا ينفضح الأمر ويتضح للجميع أنهم عباد للهوى وليسوا عبادا لله -جل وعلا- ويقول -سبحانه وتعالى-: ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ? [المؤمنون: 71]. لو أن الحق أصبح يسير مع أهواء الناس يمينا ويسارا، فإذا هووا شيئا أبيح، وإذا كرهوا شيئا حرم، فإن أهواءهم لا تستقيم على حال ولا تتفق على شيء، فسيتقلب الأمر يمينا ويسارا وهذا التقلب سيحدث بمقتضى سنة الله في الكون فساد السموات والأرض ومن فيهما.(1/223)
وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم، أمره بأن يحكم بين الناس بما أنزل الله ولا يتبع الهوى: ? وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ? [المائدة: 49]. ونحو ذلك من الآيات الكثيرة التي فيها ذم اتباعاتباع الهوى وأن من اتبع إلهه هواه فقد عبده من دون الله فهذه الآيات الكثيرة هي دليل على هذا المقصد العظيم، وهو مقصد إخراج الإنسان من اتباعاتباع هواه وعبادة هواه وشهوته إلى أن يكون عبدا لله -جل وعلا- لأن المتبع للهوى يتفق أمر الله مع هواه، فيأخذ به فترة ويعمل به، وهو فيما يظهر للناس كأنه يعمل لأمر الله، لكن حينما يفتضح الأمر ويصبح هناك تضارب بين هواه وبين أمر الله -جل وعلا- وشرعه سيتبين من هو عابد هواه ومن هو الذي يعبد الله -جل وعلا- على صراط مستقيم.(1/224)
أيضا مما يدل على ذلك هو دليل ظاهر وقوي أيضا ومحسوس، ما علم بالتجربة أن المصالح الدينية والدنيوية لا تستقيم مع الاسترسال في اتباع الهوى، إذا استرسل الإنسان في اتباع هواه ومشى وراء أغراضه؛ فإن مصالحه الدينية والدنيوية لا يمكن أن تستقيم، لما يترتب على ذلك من تعارض مصالحه مع مصالح غيره، وتعارض شهواته مع شهوات غيره، وهواه مع هوى غيره، وحينما نقول مصالحه نعني بها ما يظنه مصلحة هو، أو ما يميل إليه بطبعه وهواه، ولا نعني بهذا ما هو مصلحة شرعية حقيقية. فهذا يؤدي إلى التقاتل والتعارض والتهارج والهلاك بين الناس، والعقلاء جميعا يدركون خطر اتباع الهوى والشهوة بمقتضى عقولهم، لكن إدراكهم له ليس إدراكا كاملا، وليس إدراكا تفصيليا، وإنما هو إدراك إجمالي، فهم قبل ورود الشرائع يعرفون أن من اتخذ أو من اتبع هواه في كل أمر لا يمكن أن يعد من العقلاء، من اتبع شهوته كلما عرضت له لا يمكن أن يعد من العقلاء ولا يمكن أن يستمر أمره على استقامة، ولا على الرشد والصلاح. وإذا كان هذا بيِّنًا لدى العقلاء فلا يمكن أن يدعي أحد أن الشريعة جاءت على مقتضى الشهوات والأهواء والأغراض الخاصة للناس، وهذا يتضح لك في الواجبات والمحرمات؛ فإنها لم تجري على وفق الهوى والشهوة؛ يعني لو أن الشرع جاء على وفق هوى الناس وشهواتهم ما وجد شيئ محرم، ولا وجد ما هو واجب لماذا؟(1/225)
لأن التحريم والوجوب فيه حد من اندفاع الإنسان في الفعل أو في الترك، اندفاع الإنسان إلى فعل ما يشاء، إذا كان فيه أشياء محرمة عليك فأنت لن تندفع وتفعل كل ما تشاء، أو كل ما يحلو لك وكل ما تميل إليه نفسك، لأن فيه أمور محرمة، وإذا كان هناك واجبات أيضا في الشرع فمعناه أنك لست مطلق التصرف في الترك، فقد تترك أفعالا كثيرًا فلا تؤاخذ عليها، لكن هناك أمور أنت مطالب بفعلها، وهذا أمر واضح، يعني واجبات الشرع الحتمية ومحرماته القطعية كلها دليل على أن هواه ليس معتبرا فيه، وهو واضح بالنسبة للواجبات والمحرمات، أما بقية الأحكام الشرعية مثلا من الندب والكراهة والإباحة فهذه قد يبدو أن للمكلف فيها اختيارا، سواء في فعلها أو تركها؛ لأن المكروه لو فعله الإنسان فلا إثم عليه، فيه نوع اختيار، وكذلك المندوب إن فعله أثيب عليه وإن تركه لا إثم عليه ففيه نوع اختيار، وأما الإباحة فالاختيار فيها ظاهر، هذه وإن بدا أن للمكلف اختيارا في فعلها وتركها، لكن جعلها على هذه الصفة ليس اتباعا لهواه فالمستحب والمكروه والمباح، هو لم يبح اتباعا لأهواء الناس وشهواتهم، وكذلك ما جعل المندوب مندوبا لهذا الغرض ولا جعل المكروه مكروها تبعا لأهواء الناس، يعني لم يجعل مزاج الناس وهواهم هو الذي يحكم بأن هذا الشيء مكروه وهذا مستحب وهذا مباح، بل هذا كله مرجعه إلى الله -جل وعلا- نعم، لا نمنع أن الله -جل وعلا- راعى مصالح العباد -كما أشرنا في ما مضى- لا يمتنع هذا أن الله راعى مصالح العباد في تشريعه تفضلا وتكرما منه، ولكن بعد أن جاء شرعه وتبينت أحكامه فهو وحده هو الذي يحدد ما هو المباح، وما هو المكروه، وما هو المستحب فضلا عن المحرم والواجب وهذا أمره واضح فالمباح مباح سواء اشتهى الإنسان إباحته أو اشتهى تحريمه، فلا يستغرب أن بعض الناس يقول ليت الله يحرم هذه الأمور.(1/226)
يعني هو لو خلي وهواه لحرمها، ولكن الله لا يتبع شهوات الناس في التحريم، كذلك الإباحات، الإباحة لا يمكن أن تكون تبعا للشهوة، الندب لا يمكن أن يكون تبعا لشهوة الإنسان، وكذلك كراهة الأشياء هي ليست تبعا للشهوات والأهواء والأغراض، لا نريد أن ندخل كثيرًا في ذكر الأمثلة والتفاصيل خشية أن يأخذنا الوقت ويسرقنا الوقت قبل أن ننهي الحصة المقررة لهذا الدرس.
مما يدل على هذا ما ذكرناه سابقا من أن أهواء الناس وشهواتهم ليست لها مدخل في التحريم، ولا في الإباحة، ولا في الندب، ولا في الكراهة، قوله تعالى: ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ?.
والمتأمل في الآية يجد تحتها معاني كبيرة وعظيمة لو ذهبنا نشرح ونبين ونضرب الأمثلة لاستغرقنا وقتا طويلا في ذلك، هذا المقصد قرره المصنف -رحمه الله تعالى- واستدل عليه بعدة أدلة منها الأدلة التي ذكرناها، ولكن هناك إشكال قد يرد، يعني على قولنا: إن المقصد الأعظم من مقاصد دخول المكلف تحت أحكام الشريعة هو إخراجه من داعية هواه إلى أن يكون عبدا لله -جل وعلا- يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، قد يرد على هذا إشكال، ويقال: ألستم قد قررتم سابقا أن الشرائع شرعت لمصالح العباد، والحفاظ على ضرورياتهم؟ يعني قررتم أن المقصد الأعظم من مقاصد وضع الشريعة ابتداء -في ما سبق- ما هو المقصد الأعظم؟ قلنا: هو المحافظة على مصالح العباد، أو مصالح الخلق وحفظها، وجلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها. فيقول: إذا كان كذلك، كيف نجمع بين ما سبق وبين قولكم هنا: إن الشرع من مقاصده العظيمة أن يخرج الإنسان عن داعية الهوى والشهوة إلى أن يكون عبدا لله -جل وعلا؟(1/227)
نقول: الجواب عن هذا، أو طريقة الجمع بين الأمرين سهلة والحمد لله، فالشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد، لكن ليست المصالح كما يظنها الإنسان بمعزل عن الشرع، وإنما هي مصالح بحسب أمر الشارع وعلمه وتقديره الحقيقي الذي لا يمكن أن يخطئ وليس بأهواء الناس وشهواتهم، فعلم الله -جل وعلا- علم حقيقي لا يمكن أن يشوبه جهل، وهو يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن إذا كان كيف يكون، فالشريعة جاءت –نعم- لتحقيق المصالح ولكن بحسب أمر الشارع وعلى الصفة التي شرعها، وليس على مقتضى أهواء الناس وشهواتهم، ولو كانت الشريعة جاءت على وفق الشهوات والأهواء لما كان فيها أي تكليف فيه ثقل -كما ذكرنا سابقا- لم يكن فيها وجوب ولا تحريم أبدا، لو جاءت على شهوات الناس وعلى نزعاتهم وأهوائهم ما كان فيها تكليف أبدا؛ إذ الإنسان (أي إنسان) لا يمكن أن يشتهي أن يؤمر وينهى، يعني نفس الإنسان لا يمكن تتوق إلى أن يكون مأمورا ومنهيا ومقيدا بقيود وعليه قيود لا بد أن يلتزم بها، ما يميل إلى هذا، شهوة الإنسان وهواه ما يميل إلى هذا، وأنه يعاقب على الفعل أو يعاقب على الترك سواء في الأوامر أو النواهي، فالأوامر والنواهي جاءت إذن على خلاف شهوته، وأصل الشرع هو أمر ونهي.
فمصالح التكليف عائدة إلى المكلفين، ونيل تلك المصالح لا يحصل إلا بالطريق التي حددها الشرع؛ لأن الشرع هو الذي يعلم أين تكون المصلحة وما حدود هذه المصلحة.
وقد أشرنا هناك –يعني فيما سبق- أشرنا إلى القاعدة التي ذكرها المصنف -رحمه الله-: وهي أن: (المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما هي بحيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا بحسب الشهوات والأهواء).(1/228)
فإذن لا تعارض بين قولنا: إن الشريعة جاءت لمصالح العباد وتحقيقها وتكمليها، وبين قولنا هنا: إن الشريعة جاءت لإخراج الإنسان عن داعية الهوى؛ لأن داعية الهوى وإن كان في الظاهر قد يظن الإنسان أن هي مصلحته، وأن مصلحته في هذا، لكن قد يكون فيها هلاكه، قد يكون في اتباع ذلك هلاكه، إذا تقرر هذا فإن هذه القاعدة العظيمة وهذا المقصد العظيم ينبني عليه جملة من الفوائد منها:
أولا: أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر والنهي فهو باطل، أي عمل يعمله الإنسان ويكون الدافع إليه اتباع هواه وشهوته بإطلاق؛ يعني من غير أن يكون معه دافع آخر، وإنما الدافع له الوحيد هو اتباع شهوته وهواه فهذا العمل باطل، ولا يمكن أن يكون سببا للثواب ولا سببا لرضا الله، وليس دليلا على طاعة الإنسان لربه، حتى وإن كان في الأصل من الأعمال المشروعة، إذا كان الذي دفعه إليه هو الهوى والشهوة، وتحقيق الغرض الدنيوي، فهذا العمل لا يمكن أن يكون صحيحا ولا يثاب عليه.
ومما يؤيد هذا أحاديث كثيرة ونصوص كثيرة، قوله -عليه الصلاة والسلام-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).(1/229)
وقد عرفتم سبب الحديث؛ ذلك الرجل الذي هاجر لكي يتزوج بامرأة، فأصل الهجرة وعمله مثل ما يعمل غيره من المهاجرين، ولكنه ما ذهب إلى هناك فرارا بدينه، وخوفا من أن يصرف عنه، وإنما ذهب لينكح امرأة ويتزوج، شيئا من متاع الدنيا. ويدل على ذلك أيضا الأحاديث الكثيرة ومنها ما ثبت في الصحيح: من (أن أول ما تسعر بهم النار ثلاثة منهم مثلاً رجل قاتل في صفوف المسلمين وأبلى، ولكنه لم يكن قتاله لأجل إعلاء كلمة الله، وإنما ليقال شجاع أو ليقال جريء فهذا يؤتى به يوم القيامة فيسأله الله ما فعلت؟ فيقول: يا ربي، قاتلت فيك حتى قتلت في سبيلك، فيقول له الله -جل وعلا- كذبت، إنما قاتلت ليقال جريء أو ليقال شجاع، وقد قيل) فكان الدافع له إلى هذا العمل هو أن يوصف بالشجاعة، ولم يكن الدافع له مرضاة الله -جل وعلا- وتنفيذ شرعه والائتمار بأمره.
(والثاني قرأ القرآن وحفظه وعلمه وأقرأه الناس) فيأتي ولكنه ما كان مخلصا في ذلك، ولم يكن عمله هذا لأجل الله -جل وعلا- وإنما كان لهدف دنيوي، ليرضي شهوة عنده، عنده شهوة المدح والثناء وهذه أغلب الناس يبتلى بها، إذا لم يدفعها عن نفسه –كما سيأتي في ثنايا الكلام إن شاء الله- فهذه ستوقعه في الرياء والعياذ بالله، فيقال له: إنما قرأت ليقال قارئ وقد قيل.
(والآخر ينفق ماله في أوجه الخير المختلفة) ولكنه لم يكن أيضا يقصد بذلك وجه الله، وإنما أنفقها ليقال كريم، أو ليقال جواد وقد قيل.
هذا إذن الذي يعمل العمل اتباعا لهواه، وما تميل إليه نفسه فقط من غير أن يكون له التفات إلى أمر الله -جل وعلا- فإن عمله باطل ولا ثواب عليه.(1/230)
أما من كان عمله لله فهذا فعله وتركه لله فهو مثاب عليه، إذا وافق ما شرعه الله -جل وعلا- لكن يبقى صنف مثلاً من الناس امتزج عنده الأمران ما الحكم إذن؟ إذا امتزج الأمران؛ يعني امتزج العمل لقصد مرضاة الله مع العمل لإشباع هوى وميل وشهوة في نفسه؟ هل مثل هذا العمل يكون مقبولا عند الله -جل وعلا- وصحيحا؟ إذا امتزج الأمران فالحكم للغالب والسابق منهما، فإن كان الغرض الرئيس منه امتثال أمر الله وشرعه، فإنه يلحق بالقسم الثاني الذي هو عمله لأجل الله -جل وعلا- خالصا لله.
وأما من كان الغالب والسابق والدافع له هو الهوى وليس امتثال أمر الشارع، وإنما امتثال أمر الشارع جاء تبعا، فهذا يلحق بالقسم الأول الذي قلنا عنه إنه باطل بإطلاق ولا ثواب عليه. إذن حين يكون العمل خالصا لله -جل وعلا- هذا لا إشكال في أنه مثاب عليه حين يكون العمل فعله الإنسان لأن الله أمر به فحسب، فهو مثاب عليه ولا جدال، حين يكون العمل عمله الإنسان لأنه يوافق هواه فقط ولم يخطر في باله موافقة شرع الله -جل وعلا- ولا طرأ عليه أن يوافق شرع الله.
يستحسن ذلك العمل يا شيخ
نعم هو تعود على هذا، ولكنه لم يعمله لأن الله أمر به، وإنما عمله لأنه يلائم طبعه، لأنه يلائم هواه يميل إليه، فمثل هذا لا يثاب عليه. حتى وإن كان نفع للناس في الدنيا وهذا من حكمة الله ومن عدله أن الكافر حينما يقوم ببعض الأعمال التي هي فيها مصلحة للناس أن مكافأته تكون دنيوية؛ يبارك الله في رزقه إذا أكثر من الإنفاق، هو ينفق لا لأجل أن الله أمره بالإنفاق، ولكن هو من طبيعته هكذا، كثرة الإنفاق والكرم، فهو لم يقصد بذلك وجه الله لأنه أصلا غير مؤمن بجزاء الله، فمن حكمة الله -جل وعلا- أن يكافئه على هذا العمل في الدنيا حتى لا يكون له حق في الآخرة؛ لأن هذا العمل في الآخرة ليس له نصيب، فيبارك له في رزقه وفي ولده ويكثر له من ماله.(1/231)
قد يقول قائل: نحتاج إلى معيار أدق، الآن عرفنا أن الغالب والسابق هو المقدم، إذا اختلط الأمران أو إذا وجد الأمران، اجتمع أمران أو امتزج أمران، عمل العمل وهو يريد به وجه الله، ولكن أيضا نفسه تميل إليه، يعني هو عمل هذا العمل نفسه تحبه وتميل إليه، وأيضا لأن الله عمله، ف قلنا: إن الغالب والسابق إذا كان الغالب والسابق هو الهوى والشهوة وامتثال أمر الله جاء تبعا، فالحكم يكون للسابق منهما، يكون عمله مردودا، وأما إذا كان السابق والغالب هو طلب امتثال لله -جل وعلا- والوقوف عنده، فإن العمل يكون مقبولا -إن شاء الله.(1/232)
العلامة الفارقة بينهما أو الضابط أو المعيار الذي يمكن أن يعرفه الإنسان هو: أن كل عمل -يعني المعيار أو الضابط- أن كل عمل امتزج فيه امتثال أمر الشرع بمتابعة هوى المكلف فينظر فيه، إن كان المكلف يتحرى فيه نهي الشرع، ويقف عند حدوده فهو قاصد به وجه الله وامتثاله أولا، والهوى جاء تبعا، إذا كان في عمله هذا يتحرى فيه نهي الشارع؛ يعني يدقق فيه هل هذا منهي عنه أو ليس منهيا عنه، هل هذا بجائز أو ليس بجائز، فهذا يكون عمله لله ويكون مثابا عليه؛ لأنه أراد أن يكون هواه تبعا لما جاء به الله ورسوله والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)؛ يعني يكون هواه تبعا لهوى أو يعني الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعني لقصد الرسول ولقصد الشارع من التشريع، فلا يمتنع أن يتفق هوى الإنسان مع شرع الله -جل وعلا- لا يمتنع ذلك؛ لأن الإنسان الذي تمرس بأحكام الشرع وعمل بها وتكيف معها هو كذلك، سيجد راحة ولذة في فعل عوامل الشرع، ولذة أيضا في الانكفاف عن نواهي الشرع، فهذا هو المعيار، إن كان في عمله يراقب الله -جل وعلا- فيما يفعل وما يذر، ويتحرى فيه نهي الشارع ويقف عند حدوده، فهو قاصد فيه وجه الله وامتثال أمره، وإن كان يمارس شهوته العادية ولا يستحضر أمر الله، ولا نهيه، ولا يقف عند حدوده، فهذا متابع لشهواته، ولا ثواب له في هذا العمل، وإن كان موافقا في الظاهر لما أمر الله به، هذا هو الضابط، أن كل عمل امتزج فيه امتثال أمر الشرع بمتابعة هوى المكلف فينظر فيه، إن كان المكلف يتحرى فيه أوامر الشرع ونواهيه ويقف عند حدوده فهو قاصد به وجه الله ويكون امتثاله لأمر الله هو المقدم وهو السابق، وهواه جاء تبعا لأمر الله -جل وعلا- والحمد لله.(1/233)
ولهذا يمكن أن نضرب عدة أمثلة وإن كان سيأتي لها مزيد إيضاح، يعني الحج مثلا، الحاج قد يذهب للحج وفي نفسه أيضا أن يطلع على بعض الأماكن التي كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- عاش فيها وعلى رباع مكة، وعلى.... ف هو ينظر لنفسه إن كان الدافع له الأصلي والسابق هو أداء فرض الله والائتمار بأمره وما جاء بعده من حب الاطلاع على بلد جديد مثلا، أو اكتساب خبرة جديدة، أو اكتساب رزق أيضا، يعني قد يأتي الإنسان للحج ويريد أيضا مع ذلك أن يعمل بعض الصفقات التجارية، أن يتعرف على بعض الأخيار، أن يتعرف مثلا على المكتبات، أن يجلب أو يأخذ أو يشتري معه بعض الأمور التي يحتاجها، هذه قد توجد عند الإنسان، فمثل هذا هو الحد الفاصل، إن كان الدافع الرئيس لك هذا، ويدل على أن الدافع الرئيس لك هو امتثال أمر الشرع أنك في ممارستك لهواك وما تهواه هل أنت تراقب أمر الله -جل وعلا- وتقف عند حدوده؟ أو أنك تتعدى هذه الحدود ولا تقف عندها؟ فإن كنت تراقب الله -جل وعلا- فاعلم أنك مقبول -إن شاء الله- وأن عملك موافق لأمر الله -جل وعلا- وأن عملك جاء امتثالا لأمر الله، وأن موافقة هواك وشيء من أغراضك الخاصة لهذا العمل لا تضره ولا تفسده.(1/234)
كذلك مثلا من يأتي شهوته من الطعام، من يأكل الطعام، من يصوم أيضا، يعني بعض الناس يصوم وفي نيته أنه يكسب أجرا، وبالمقابل أيضا يخفف من وزنه، هذا موجود عند كثير من الناس، فأنت أيضا عليك أن تنظر هل أنت في عملك أو في صيامك هذا تتحرى أمر الله -جل وعلا- فإن كان ذلك فأنت إذن على خير حتى وإن خطر في بالك أو إن كان تخفيف الوزن الثقيل أو التخفيف على المعدة مثلا من كثرة الأخلاط، أيضا مما ترومه أو تهدف إليه، لكن يكون قائدك أو رائدك هو أنك تريد الأجر والثواب من الله -جل وعلا- فلا بأس بهذا، أما إذا كان هذا الإنسان يقول أنا أصوم، ولكنه ينام إلى الضحى وما صلى الفجر فهل مثل هذا نقول إن صيامه هذا مقصود به وجه الله -جل وعلا- حقيقة والسابق له والغالب هو هذا، وأن قصد تخفيف الوزن تابع؟ ما أظن ذلك، إن كنت تتحرى أوامر الله ونواهيه فلا يمكن أن تصوم ثم تنام عن صلاة الفجر إلى الضحى. وربما أخرت بقية الصلوات أيضا.
مثل هذا ينبغي أن ينتبه له الإخوة، لأن هذا الأمر أمر دقيق جدا، يعني كونه يكون للإنسان هوى ورغبة وشهوة خاصة، ثم يعمل العمل الصالح فينبغي أن يكون دقيقا وأن يحاسب نفسه حتى يكون عمله لله -جل وعلا.
يعني الضابط هنا يا شيخ هو مسألة امتثال الأمر لله -سبحانه وتعالى؟.
يكون هو القائد له أولا وهو الرائد له، ويدلك على هذا أنك هل أنت في ممارستك لما تشتهيه تتحرى أمر الله -جل وعلا- تتحرى أمر الله ونهيه وتقف عنده، أو أنك فعلت هكذا من غير ترقب لأمر الله وجاءت موافقة لشرع الله فتأمل أن تثاب على ذلك؟(1/235)
من الفوائد المبنية على هذه القاعدة أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود، هذه من الفوائد والقواعد التي يمكن أن تستفاد مما سبق اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء ضمن المحمود؛ يعني وإن جاء في غلاف أو في شكل شيء ممدوح ومحمود عند الله -جل وعلا- يؤيد ذلك ويدل على ذلك أن اتباع الهوى سبب لتعطيل الأوامر وارتكاب النواهي، وأن الاسترسال في اتباع الهوى يحدث في النفس ضراوة واعتيادا، وهذه هي المشكلة الكبيرة، الاسترسال في اتباع الهوى وأن الإنسان كلما هوي شيئا ورغب فيه ناله، هذا يحدث عنده اعتيادا وضراوة على الميل والانقياد للهوى، وهذا يجعله يتقدم على مراد الله -جل وعلا- قد يكون المكلف يفعل الفعل أصلا بقصد الامتثال، ولكنه إذا كان ممن أسلم لنفسه قيادته بحيث أنه كلما اشتهت نفسه شيئا فعله، فإن هذا ربما دفعه إلى الرياء المحبط للعمل.(1/236)
إذا تعود الإنسان على اتباع هواه دائما، ربما كان ديدنه ذلك حتى في عبادته. كذلك امتثال أوامر الشرع والعمل بالطاعات قد يتولد عنه عند الإنسان راحة نفس ولذة، فطلب العلم الشرعي والحصول عليه مثلا قد ينشئ عند الإنسان لذة، وسماع الثناء من الناس أيضا قد يروق له ويحدث عنده نشوة، حدوث بعد الكرامات لبعض العباد أو الأولياء والزهاد قد يحدث لهم بعض الكرامات، فهذه أيضا لها لذة، واجتماع الناس حول الإنسان وتقديرهم له، وتقديمهم له، وتسابقهم مثلا إلى إكرامه هذا أيضا قد يحدث لذة، قد يكون الإنسان أقدم على العمل في أول الأمر بنية صالحة، هذه الدقيقة التي ينبغي أن ننتبه لها، قد يكون الإنسان أقدم على العمل بنية صالحة في بداية الأمر، ولكنه لما كثر حوله الناس وكثرت حوله منن الله ونعمه عليه وشعر بلذة ما وصل إليه من علم أو منصب مثلا، قد يكون هو تولى هذا المنصب يريد أن ينفع المسلمين، ولكن بعد اجتماع الناس حوله، وبعد ما رآه من تعظيم الناس وتبجيلهم ربما يدخله الغرور وتحدثه نفسه بأن يعمل لأجل هذا، ويكون عمله وطلبه للعلم ونشره له ودعوته أحيانا، حتى الدعوة إلى الله وتصدر المجالس في الأمر والنهي والدعوة إلى الله قد يدخل الشيطان عليه إذا كان ممن عود نفسه على اتباع الشهوة والهوى، فيؤدي به ذلك إلى أن يقع في الرياء المحبط للعمل.(1/237)
وهذه دقيقة ينبه لها كثير من العلماء الذين لهم معرفة الله ومعرفة بالطرق الموصلة إليه، ومعرفة بطرق الشيطان وتحايله على الإنسان، فالشيطان له عدة طرق يتحايل بها على الإنسان، والشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، يأتي فيزين له الشيء حتى وإن كان قبيحا، فحينما يدخل الإنسان في أصل العبادة ونيته حسنة وسليمة ينبغي أن يتعاهد نفسه بين فترة وأخرى، لا بد من تعاهد نفسك وأنت تطلب العلم، وأنت تعلم العلم، وأنت تمارس ما كنت تمارسه بالأمس وقبله وقبله من أعمال الخير، يجب أن تختبر نفسك بين فترة وأخرى، وتدفع عن نفسك هذه الوساوس الشيطانية التي يأتيك بها الشيطان ويدفعك إلى أن تقدم هواك، وأن تشتهي أن تسمع من الناس كلمات الثناء وكلمات الشكر، ويصبح سعيك وعملك لأجله، فحينئذ يحبط العمل –والعياذ بالله- فهذه مذلة قدم ينبغي للإنسان أن ينتبه للإنسان إليها.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول:
ما الدليل على أن من مقاصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشرع إخراجه من داعية الهوى إلى عبادة الله وحده؟
والسؤال الثاني:
كيف نجمع بين هذا المقصد الذي هو مقصد إخراج الإنسان من داعية هواه إلى أن يكون عبدا لله، وبين ما ذكرناه سابقا من أن مقاصد الشارع في التشريع في إيجاب الشريعة ابتداء جلب المصالح ودرء المفاسد، أو تحقيق مصالح العباد وتكميلها؟ هل بينهما تعارض؟ وكيف نجمع بينهما؟ هذا تعرضنا له قبل قليل في أثناء كلامنا عن هذا المقصد؟
الدرس السابع عشر
انقسام المقاصد إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة
إجابة أسئلة الدرس الماضي.
السؤال الأول: ما الدليل على أن من مقاصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشرع إخراجه من داعية الهوى إلى عبادة الله وحده؟(1/238)
قالت: أولاً: ما جاءت في النصوص الصريحة في قوله تعالى: ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا? [الأنعام: 151] سورة الأنعام، وقوله تعالى في سورة الذاريات: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? [الذاريات: 56] فالحكمة من خلق الجن والإنس هي إفراد الله بالعبادة.
ثانيًا: ما جاء في النهي عن مخالفة أوامر الله -تعالى- وذم من أعرض عن ذكره، وقوله تعالى: ?وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? [النساء: 13] وقوله تعالى: ?فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ?123? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى? [طه: 123، 124].
ثالثًا: ما جاء في ذم من اتبع هواه، قال تعالى: ?أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ? [البقرة: 87] وقال تعالى: ?وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ? [الأنعام: 119]، وقد حَذَّرَ سبحانه نبيه -صلى الله عليه وسلم- أمته من اتباع أهواء الكفار والمنحرفين من مواضع كثيرة من كتابه كقوله تعالى: ?وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ? [المائدة: 49].
أيضًا مما جاء من الأدلة في هذا الباب: هو ما عُلِمَ من خلال التجارب والعادات على أن المصالح الدنيوية والدينية لا تتعارض مع اتباع الهوى.. هذه إجابته.
هذه إجابة موفقة وصحيحة والحمد لله، يدل على أن الإخوة يتابعون والحمد لله.(1/239)
السؤال الثاني: كيف نجمع بين مقصد إخراج الإنسان من داعية هواه وأن يكون عبدًا لله وبين ما ذُكِرَ سابقًا من أن مقاصد الشارع في التشريع ابتداءً جلب المصالح ودرء المفاسد أو تحقيق مصالح العباد؟ وهل بينهما تعارض؟ وكيف نجمع بينهما؟
وكانت الإجابة: قال: للجمع بين مقصد إخراج الإنسان من داعية هواه وأن يكون عبدًا لله وبين ما ذُكِرَ سابقًا من أن من مقاصد الشارع في التشريع ابتداءً جلب المصالح ودرء المفاسد أو تحقيق مصالح العباد أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد، ولكن هذه المصالح لا تكون بمعزل عن الشرع، ولكنها مصالح بعلم الشارع وهو الله -تعالى- وتقديره الحقيقي الذي لا تشوبه شائبة، وهذان المقصدان ليس بينهما أي تعارض؛ لأنه لو جاءت الشريعة على شهوات الناس لما كان فيها تكليف من أوامر ونواهي، فنفس الإنسان لا تميل إلى أن تكون مأمورة وأن يُعاقب الإنسان على الأوامر والنواهي، فالشارع الحكيم وحده هو الذي يعلم أين تكون المصلحة وجزاكم الله خير. هذه إجابته يا شيخ.
أيضًا إجابة صحيحة وموفقة، والحمد لله.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:(1/240)
فما زلنا نتابع الكلام عن النوع الرابع من أنواع المقاصد، يعني من أنواع مقاصد الشارع كما عَدَّهَا الشاطبي -رحمه الله- بدأنا فيها في الدرس الماضي، ودرس اليوم سيكون بمشيئة الله -تعالى- عن انقسام المقاصد إلى مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة أو تبعية، هذا التقسيم للمقاصد لا ينبغي أن يجعلنا نخلط بين ما ذكرناه سابقًا من المعاني الأصلية للنصوص والمعاني التابعة، فذاك يتعلق بالنصوص الشرعية ودلالاتها، سبق أن ذكرنا أن النصوص لها معاني أصلية ومعاني تابعة، فلا نخلط -أيها الإخوة- بين درس اليوم وبين ما ذُكِرَ في مسألة دلالات الألفاظ أو دلالات النصوص الشرعية، فالكلام اليوم هو في مقاصد الشارع من وضع الشريعة للامتثال، يعني كلها تتعلق بالنوع الرابع، النوع الرابع هو مقاصد الشارع من حيث وضع الشريعة للامتثال بها ودخول المُكَلَّف تحتها بمعنى أنه امتثاله للأوامر والنواهي، فمن هذه الحيثية ينبغي أن نتكلم في موضوع اليوم، يعني نحن نتكلم الآن في انقسام المقاصد إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، وكل من هذين القسمين هو داخل تحت مقاصد الشارع من وضع الشريعة للامتثال بها، والعمل بها، فما المقصود بالمقاصد الأصلية والمقاصد التابعة؟(1/241)
المقصود بالمقاصد الأصلية هي المقاصد التي لم يُراعَ فيها حظ المُكَلَّف، بمعنى أنها لا يُنظر فيها إلى اختياره ولا إلى رغبته، وشهوته، وما تميل إليه نفسه وهواه، ما نُظِرَ فيها إلى هذا، وهذا يشمل العبادات -كما تعرفون- فكل الأوامر في العبادات وكثير من النواهي ما رُوعي فيها حظ المُكَلَّف، يعني لم يكن حظ المُكَلَّف هو المراعَى أصالة، لكن ليس معنى هذا أن المُكَلَّف ليس له فيها حظ ولا يستفيد منها وليس له فيها مصلحة، أبدًا.(1/242)
هو جميع أوامر الشرع فيها مصالح، للعباد وتدرأ عنهم مفاسد، ولكن التقسيم هذا هو من جهة أن بعض الأعمال قد يكون المراعى فيها حظ المُكَلَّف، وقد يكون بعضها المراعى فيها ليس حظ المُكَلَّف وإنما صرفه عما تميل إليه نفسه، وما يدفعه إليه هواه، فالنوع الأول من المقاصد هو المقاصد الأصلية، وهي المقاصد التي لم يُراعَ فيها اختيار المُكَلَّف، هذا معنى قولنا: لم يُراعَ فيها حظ المُكَلَّف، يعني المُكَلَّف ليس له فيها اختيار ليس له هوى يتفق معها، لا يظهر فيها ميل نفسه إلى العمل بتلك المقاصد، وإنما يتبعها ويعمل بمقتضاها لأجل امتثال أوامر الله -جل وعلا- والوقوف عند حدوده، من غير أن ينتظر نفعًا دنيويًّا ولا يتنافى هذا مع ما يعرفه ويوقن به من النفع الأخروي، فالعبادات كلها ليس فيها للمُكَلَّف حظ، فهي مقصودة للشرع بالقصد الأول، أو هي مقاصد أصلية، لماذا سميناها مقاصد أصلية؟ لأنها لم يُراعَ فيها اختيار المُكَلَّف، هو ليس حرًّا في أن يتعبد الله بما شاء، ما يُترك له أن يعبد الله كيف يريد، وإنما تحدد له كيف تكون العبادة؛ شروطها، أركانها، واجباتها، تحدد له بحيث لا يخرج عن هذا، ويمشي معه وإن خالف هواه، وإن خالف رغبته وشهوته، فهذا هو أقرب تعريف يمكن أن نعرفها به، الشاطبي طبعًا حينما عَرَّفَهَا قال: ("هي التي لا حظّ فيها للمُكَلَّف") لكن قد يُشكل كلمة "لا حظ فيها للمُكَلَّف" على المستمع، ما معنى "لا حظ فيها"؟ هل معناه لا فائدة فيها؟ نقول: لا..(1/243)
هي فيها فائدة، لكن المقصود أنه لم يُترك له حرية الاختيار فيها هذا من جانب، ولم تظهر ميله وشهوته إليها، يعني هو طبعه لا يميل إليها إلا أن يقصر نفسه ويدفع نفسه إليها، فهذه هي التي تقال إنها مقاصد أصلية، طبعًا يدخل في هذا حفظ الدين عمومًا، حفظ دين الإنسان وحفظ دين الأمة كلها، هذا داخل فيها، وحفظ العقل أيضًا، القدر الذي يحصل به حفظ العقل والنفس والنسل والمال، المقاصد الضرورية جزء منها يعني الذي لا يمكن أن تُحفظ إلا به، هذا يُسمى مقاصد أصلية، لكن وسائل حفظها، وسائل حفظ النفس، وسائل حفظ المال، وسائل حفظ النسل، هذه كلها تكون في القسم الثاني، أما ما يتعلق بالدين سواءً وسائل حفظ الدين أو الحفاظ عليه أو العمل به حفظًا من جهة الوجود ومن جهة العدم كلها تقريبًا من المقاصد الأصلية، لكن يتبين من خلال كلامنا عن المقاصد التابعة ما الذي يدخل تحت هذا النوع.(1/244)
طيب إذا عرفنا أن المقاصد الأصلية هي التي لا حظ فيها للمُكَلَّف أو لم يُترك له فيها حرية الاختيار وليست هي مما يميل إليه طبعه دائمًا، فما هي المقاصد التابعة؟ قال: هي بضدها، عكسها تمامًا، هي التي روعي فيها اختيار المُكَلَّف، وروعي فيها هوى المُكَلَّف ورغبته وشهوته من حيث تكوينه مراعى فيها، وتُرِكَ له فيها حرية التنقل في الأسباب بين أسباب مشروعة، حددت لها مسارات مثلاً لكسب الرزق، فعنده عدة مسارات لكسب الرزق، كسب رزقه هذا يؤدي إلى حفظ المال، لكن هذا جانب منه حفظ ماله الخاص ومصلحته الخاصة، هذا مقصد تابع، أما حفظ المال عمومًا على الأمة فهذا مقصد أصلي، فحفظ مالك بالذات يُسمى من المقاصد التابعة، فأنت أمامك حرية في أنك تحفظه بالبيع والشراء، تحفظه بالتأجير مثلاً، تأجير عقار بيع وشراء مثلاً، قد تجمع المال مثلاً بطرق مختلفة بالوظيفة، بالصناعة اليدوية.. بغير ذلك، فهذه أسباب كثيرة متروك لك حرية جمع المال عن طريقها، هذه الأسباب لا نقول إنها غير مقصودة لله -جل وعلا- هي مقصودة لكن مقصودة تبعًا، ليست مقصودة أصالة، ولهذا متروك الأمر والحرية لك في اختيار ما تريد منها على ألا تتعدى حدود الله، وأن تكون في عملك هذا مراقبًا لله جل وعلا.(1/245)
كذلك فيما يتعلق بحفظ النفس مثلاً، أنت حينما تأكل القدر الذي تحفظ به مهجتك هذا أمر واجب عليك، وليس لك فيه حرية ولا اختيار، القدر الذي تحفظ به حياتك، وأن تبقى حيًّا، هذا ليس لك فيه اختيار بل يجب عليك، إذن هو مقصد أصلي؛ لأنه داخل في باب الضروريات، أما الزيادة على ذلك أو كونك مثلاً تحافظ على حياتك وعلى صحتك مثلاً بأكل الطيبات واللينات وشرب المشروبات الطيبة المفيدة بأكل الفواكه بأكل الخضروات بأكل اللحوم بغير ذلك من أنواع الأكل التي يُحفظ بها البدن، هذا الشرع ما يحدد عليك فيه، طيب هي غير مقصودة، يقول مقصودة لكن بالقصد التبعي ما هو بالقصد الأصلي، المقصود أصالة أن تحفظ حياتك، كيف تحفظها؟ بأي نوع من أنواع الأطعمة؟ بأي نوع من أنواع التوقي والاحتراز مثلاً في ما تأكل، وما تترك، وما تشرب، بالتطبب أيضًا، والبحث عن الدواء حينما تُصاب بمرض، هذا كله متروك لك، الشرع تركه لك لماذا؟ اكتفى بأن يخلق في الإنسان غريزة حب الأكل، غريزة الشهوة إلى الطيبات، اكتفى بهذا وهذه الغريزة كفيلة بأن تدفع الإنسان على حفظ حياته، لكن لو أن الإنسان اختل عند هذا الجانب، هذه الغريزة ألغاها تمامًا، وأصبح يريد أن يُهلك نفسه، هنا نقول من مقاصد الشرع الأصلية: ألا يصل بك العزوف عن الطعام والشراب إلى أن تُهلك نفسك، أما تصرفاتك في كيفية إصلاح نفسك فهذه متروك لك الأمر فيها، لك فيها حظ، لك فيها اختيار، إذن هي مقصودة للشارع، لكن بالقصد التبعي لا بالقصد الأصلي، كذلك إذا أخذت مثلاً حفظ النسل، الشرع يأمر الأمة عمومًا بالمحافظة على النسل، ومعروف أنه شرع النكاح لأجل المحافظة على النسل، لكن لو أن الإنسان مثلاً لكي يتزوج يبحث عن أفضل النساء، وأجمل النساء، هل الشرع يمنعه من هذا؟ ما يمنعه من هذا، هل الشرع يقصد بالقصد الأول أن تبحث عن أجمل امرأة لتتزوجها؟ لا أبدًا هذا مقصود تابع بالنسبة للشرع، المقصود للشرع هو ما يحفظ على الأمة كلها(1/246)
استمرار النسل، استمرار بقاء التناسل، وبقاء هذا الجنس البشري لكي يكونوا في عمارة الأرض، وفي عبادة الله -جل وعلا- فهو أيضًا ترك للمُكَلَّف حرية الاختيار في أنه كيف يحفظ ماءه مثلاً من الحرام؟ كيف يحفظ نسله؟ هذا متروك للمُكَلَّف، فهو يمارس منه ما يدفعه إليه طبعه، وما يتناسب مع طبعه، فهو من هذا الجانب، من جهة أنه له فيه حرية اختيار وأن طبعه يميل إليه يكون مقصودًا بالقصد التبعي، لكن من جهة كونه يحافظ على أصل النسل البشري واستمرار النسل والمحافظة عليه وعلى النسب مثلاً فهذا مقصود أصلي.(1/247)
إذن الشرع ترك للمُكَلَّف الاختيار، فله أن يتكسب بالتجارة أو بالزراعة أو بغيرها من الحِرَف واكتفى بأن خلق فيه شهوة الطعام والشراب ليكتسب المال، كذلك وضع فيه خاصية التألم من الحر والبرد والآلام والجوع ليدفعه إلى أن يبحث عما يظله من الشمس، وما يمنعه من البرد، وما يحافظ على جسمه، فالإنسان بطبيعته ينساق إلى مثل هذه الأمور سواءً قيل إنها مقصودة للشرع أو ليست مقصودة، هي بطبيعة الحال سينساق إليها الإنسان بمقتضى طبعه، لكن هي في حقيقة الأمر مقصودة بقصد تبعي، فالقصد الأصلي هو أن تحافظ على حياتك ولا تصل بها إلى درجة الهلاك، لكن أنت أمامك خيارات في أن تصل إلى هذه النتيجة قد تكتفي بلقيمات يسيرة، قد تتوسع في المأكل والمشرب، قد تلبس الخشن من الثياب، قد تختار من الثياب ما هو أفضل وأغلى وأحسن، فهذه أمور متروكة للعبد، وبهذا نستطيع أن نقول: إن الضروريات الخمس التي مر ذكرها قبل يمكن أن نقول هي أيضًا منقسمة قسمين: منها ما يكون فيه حظ للمُكَلَّف عاجل مقصود، وهذا مثل قيامه بمصالح نفسه وأهله سواءً في الاقتيات، أو في المسكن، أو في المحافظة على النسل، أو على المال، أو ما أشبه ذلك هي مصلحتها ظاهرة بالنسبة له، فيدفعه إليها طبيعته وحاجته التي يحس بها من داخله، ومنها ما ليس فيه حظ للمُكَلَّف، يعني ما ليس فيه حظ ظاهر للمُكَلَّف فهذه هي التي تسمى مقاصد أصلية، يعني العبادات مثلاً، العبادات البدنية والمالية كلها الإنسان لا يميل إليها بأصل طبعه، لا يميل إليها وإنما يفعلها بمقتضى أمر الله وتنفيذًا لأمر الله -جل وعلا- ويقينًا بما ينفعه الله به -إن شاء الله- وما يدخره الله له من ثواب، أو يُعَجِّلُهُ له من ثواب في هذه الحياة الدنيا ولكنها كلها هذه أمور مغيبة ليست كالأمور المحسوسة، نتيجتها لا يحس بها الإنسان العادي، كما يحس بنتيجة الأكل حينما يأكل فإنه يشبع، حينما يشرب يرتوي ويذهب العطش، ما يحس بهذا.(1/248)
كذلك يدخل في المقاصد الأصلية الولاية العامة، كالخلافة والحكم مثلاً والإمامة في الصلاة أيضًا، والجهاد كذلك يقولون هذه تعتبر من المقاصد الأصلية؛ لأنها ولايات عامة، ولأن الإنسان يفعلها لا ليحقق لنفسه مطلبًا خالصًّا، هذا هو الأصل فيه، صحيح أن الإنسان قد يتحقق له بممارسة مثل هذه الأعمال قد يتحقق له مصالح عاجلة ظاهرة، وقد يكون هو قصد لها أيضًا، لكن نقول: إن المقصود الأصلي لله -جل وعلا- للشارع من هذه الأحكام هو أن تفعلها امتثالاً لأمر الله جل وعلا.
إذن الشارع حينما أمر بهذه الأمور وأوجبها على الأمة عمومًا -سواءً إيجابًا كفائيًّا أو إيجابًا عينيًّا- نجد أنه لم يجعل حظ المُكَلَّف فيها مقدمًا وبارزًا حتى في الولايات، يعني لا يجوز أن يكون هدف الإنسان من تولي الولاية العامة مثلاً أن ينفع نفسه، وأن يتلذذ بالسلطة مثلاً، أبدًا هذا غير جائز، وهو انحراف بها عن مقصودها الأصلي إلى المقصود التبعي، لكن الهدف الأصلي أو المقصود الأصلي منها هو حفظ الأمن، حفظ كيان الأمة، وما يتبع ذلك من فوائد، ومن أمور تتبعها هذه لا تكون مقصودة بالقصد الأول، وإنما بالقصد التبعي.
هذا التقسيم ما فائدته؟ ما الذي نستفيده من هذا التقسيم؟(1/249)
هذا التقسيم له عدة فوائد، لعلنا نأتي على أهمها: أول هذه الفوائد: أن معرفتنا لانقسام المقاصد إلى مقاصد تابعة، ومقاصد أصلية يجعلنا نعرف أن المقاصد التابعة ينبغي أن تكون خادمة للمقاصد الأصلية، ولهذا يثبت لها ما يثبت للخادم أو المكمل من الأحكام، والصفات التي ذكرناها في بداية كلامنا عن المقاصد وتقسيمها هناك، وقلنا هناك: إن المقاصد الضرورية يوجد ما يكملها أيضًا، يوجد لها مقاصد مكملة، فهنا نقول: المقاصد التابعة تعتبر مكملة، وعرفنا أن من شرط التابع أو المكمل ألا يعود على أصله بالإبطال، لا يتناقض مع أصله، وهذا أمر ظاهر وواضح، يعني كون الشرع مثلاً قصد بالمقصد التبعي أن يتلذذ الناس بالطيبات، لا نجعل التلذذ بالطيبات هو المقصد الأصلي لنا مثلاً.(1/250)
الأمر الثاني أو الفائدة الثانية: أن المقاصد الأصلية ليس للإنسان فيها حظ بالقصد الأول، التي ليس للإنسان فيها حظ بالقصد الأول هي أيضًا لا تخلو من فوائد عاجلة، هذا ينبغي أن نعرفه، المقاصد الأصلية التي ليس للإنسان فيها حظ يعني مقصود بالقصد الأول هي فيها حظوظ وفوائد عاجلة وآجلة، لكن هذه الحظوظ العاجلة لا ينبغي أن تكون هي المقصود الأول للعبد عند قيامه بالأعمال التي فيها القصد الأول هو الأصلي، والمقاصد التابعة أيضًا مشتملة على تحقيق مقاصد أصلية، فإذن الأعمال التي مقصودة للشرع بالمقصد الأصلي هي لا تخلو من مقاصد تابعة، والمقاصد المقصودة بالقصد التبعي هي لا تخلوا من مقاصد أصلية، وسنبين هذا ونوضح، يعني فمن الأمثلة مثلاً ذكرنا من الأمور التي هي مقصودة بالقصد الأول أو بالقصد الأصلي لله -جل وعلا- أن الولاية العامة على أمور المسلمين المقصود الأصلي منها: حفظ الأمن للناس، إقامة العدل فيهم، استقامة حياتهم الدينية والدنيوية، صلاح شأنهم، حفظ حوزة الإسلام، حفظ هيبته وقوته، هذه هي مهمات الوالي العام، وإذا تحقق هذا المقصد لعامة الناس، ألا يتحقق مثله لذات الوالي نفسه ولأسرته؟ بلى يتحقق له ذلك، فيصبح هو آمنًا في بيته وعلى أهله وعلى ماله فيحصل له من هذا مثل ما يحصل لعامة الناس، كذلك يحصل له حظوظ أخرى عاجلة مع أنها هي أصلاً ليست هي المقصود الأول، ماذا يحصل له؟ يحصل له من الحظوظ العاجلة التي تحبها أنفس الناس: تعظيم الناس له، طاعة الناس له، احترامهم له، هيبتهم له..(1/251)
هذه تحصل لمن يتولى أمور الناس، وهي حظوظ خاصة، لا يمكن أن ننكر أن النفس تميل إليها، هذه الحظوظ هي مقصودة لكن مقصودة بالقصد التبعي، ليس بالقصد الأصلي، ليس بالقصد الأول، وإنما بالقصد التبعي، لماذا كانت مقصودة بالقصد التبعي؟ لأن هيبة الناس للوالي واحترامهم له يدفعهم لطاعته، وتنفيذ أمره، وطاعتهم له تؤدي إلى استتباب الأمن، استقرار الأمور، الحياة الرغيدة، المحافظة على كيان الأمة، فإذن أحدهما يغذي الآخر، فعرفنا أنه أصل الولاية العامة المقصود الشرعي فيها هو مقصود أصلي، لا يتعلق بحظ الإنسان نفسه، لكن يحصل بعد ذلك مقاصد تابعة، هذه المقاصد التابعة هي أيضًا تؤدي إلى تقوية المقصد الأصلي.(1/252)
أما إذا نظرنا إلى ما سميناه بالمقاصد التابعة فنجد أنها أيضًا لا تخلو من مقاصد أصلية، المقاصد التابعة يعني تتبعها مقاصد أصلية، مثال ذلك مثلاً: تنمية المال والتمتع بالمباحات، يعني تنمية مالك حتى تصبح من التجار ومن أهل الأموال الوفيرة تمتعك بالمباحات، أكلك للمستلذ والمستطاب من الأطعمة، وشربك المشروبات الباردة أو الساخنة بحسب الحاجة، نكاح الإنسان مثلاً للنساء الجميلات، هذا هو مقصود تبعي، ليس هو المقصود الأصلي، لكن يحصل ضمن هذا المقصود الأصلي، المقصود الأصلي للشارع هو أن تحفظ مهجتك من الهلاك سواءً حفظتها بأكل أحسن الأطعمة أو بأكل القليل من الأطعمة أو الرخيص منها، سواءً حافظت على صحتك وبدنك بلبس الملابس الغالية الثمن، أو اقتصرت على الخشن منها الرخيص الثمن، وهكذا.. المقصد الأصلي يحصل بالقليل من هذا، لكن المقاصد التبعية هنا تحصل معها مقاصد أصلية، أيضًا أنت حينما تشتغل بتنمية مالك ألا تحتاج من يعينك؟ يبيع ويشتري معك ويخدمك وينقل..(1/253)
سيؤدي هذا إلى توظيف عدد كثير من الناس وكسب رزقهم أيضًا، فأنت في عملك هذا قد لا تتنبه إلى أنك تخدم المقصد العام، وهو المحافظة على المال والمحافظة وحفظ المال للمسلمين عمومًا، وحفظ النفس للمسلمين عمومًا، قد لا تنظر أنت إلى هذا، لم يكن هدفك مثلاً بتوظيف هذا الجيش من الموظفين معك، لم يكن هدفك أن تنفعهم، لكن أنت مضطر إليهم، ولكن هم أليسوا قد انتفعوا وحصل لهم القوت الضروري وحصل لهم الحياة وحصل لهم الكثير من الضروريات التي لا يعيشون بدونها بسبب؟ نعم حصل، هذا يدلك على أن المقاصد التابعة يكون معها مقاصد أصلية تحصل في طريقها، قد لا تكون مقصودة لك أنت أيها العامل أيها العبد قد لا تكون مقصودة لك، وسنعرف أنك لو قصدتها سَتُثَابُ على هذا، لكن بعض الناس يقول: أنا أُنَمِّي رزقي وأوظف ناس، لكن ما لي قصد في أن أسد حاجة هذا من الناس وهذا وهذا، أنا أستعين بهم لحاجتي إليهم، لا لكي أسد رمقهم، ولا لكي –مثلاً- أشبعهم من جوع، أو أكسوهم من عري، فهذا لم يكن مقصودًا لي، فهؤلاء الذين يكونون معك ويعملون معك أنت في ظنك أنك تخدم مصلحتك العاجلة، ولكن أيضًا في الوقت نفسه أنت تخدم الهدف العام أو المقصود الأصلي، ليس فقط عملك الآن للمقصد التبعي، وإنما تعمل بالمقصد الأصلي، فقط كان يحتاج منك إلى نية كما سنعرف.(1/254)
أيضًا مما ينبني على معرفة هذين القسمين، ومعرفة هذا التقسيم من الفوائد: أن مراعاة المقاصد الأصلية تجعل العمل خالصًا لوجه الله، وأبعد عن مشاركة الحظوظ الدنيوية وإن كانت مشروعة، هذا إذا كانت الأعمال المطلوبة منك هي مقصودة، عملها وفعلها مقصود بالقصد الأول من الله -جل وعلا- كالعبادات مثلاً، فأنت حينما تفعل هذه أو كالولايات مثلاً الولايات العامة، حينما تتولى ولاية عامة ويكون نيتك تحقيق مقصد الشارع في إقامة العدل وإقامة شرع الله، وحفظ أمن الناس، والمحافظة على حوزة الدين في هذا البلد الذي وليت عليه أو وليت جانبًا منه، أنت حينما تقصد إلى هذا تكون قد قصدت إلى المقصد الأصلي، فهذا القصد مثلاً يجعل عملك خالصًا لوجه الله فيثيبك ثوابًا مضاعفًا.(1/255)
الإنسان أيضًا قد يشتغل ويعمل في الأمور التي هي من العادات وليست من العبادات، وهذه العادات هي مما يدخل تحت المقاصد التابعة، فحينما يعمل هذه العادات ولكن يُحَسِّن نيته وينظر فيها إلى المقصد الأصلي يُثاب عليها، فأنت مثلاً وأنت تنام تُحَسِّن نيتك ويكون نيتك من النوم أن تستعين به مثلاً على قيام الليل، وفعلاً تقوم الليل ما هو فقط نية، تأكل لتتقوى مثلاً على العبادات التي فيها مشقة مثل الصيام والجهاد، تتزوج وتقصد بزواجك إعفاف نفسك وإعفاف المرأة وتكثير نسل الأمة، تعمل في تجارتك أيضًا وأنت تقصد نفع الناس، تستمر فيها وأنت تقصد نفع الناس، تتولى ولاية معينة ومحدودة مثلاً فتخلص فيها العمل لله -جل وعلا- وتراقبه فأنت بهذا تمارس عاداتك التي تعودت عليها ورغبت فيها وتحبها ومع ذلك يكون لك فيها أجر عظيم، يعني يمكن أن نقول بعبارة أخرى: المؤمن العارف بالله -جل وعلا- العالم بما يرضيه يمكنه أن يقلب عاداته إلى عبادات، وهكذا يقول كثير من العلماء: "إن النية تقلب العادة إلى عبادة" من أين تقلبها؟ حينما تدرك أنت أنك يمكن أن تُحَسِّن مقصدك، وألا تكتفي بالقصد التبعي، وإنما يكون هذا القصد التبعي عندك مقدمًا ظاهرًا بارزًا ويكون هو هدفك وهو قصدك حينذاك تنقلب عاداتك إلى عبادات، بحيث يتجه قصدك الأعظم إلى ما فيها من المقاصد الأصلية، لا إلى المقاصد التبعية، يعني لا تكتفي فقط بأنك تقول: هذه مما أباح الله لي فلماذا لا أفعله؟ نقول: هي مباحة لك لكن أنت افعله بنية الوصول إلى المقاصد الأصلية، فالذي يراعي حظوظ نفسه في تلك العادات ما نلومه، ما نقول لماذا تأكل ما تشتهي؟ وتشرب ما تشتهي؟ لماذا تفعل كذا؟ يعني هو في الأصل لا لوم عليه؛ لأن عمل شيئًا مشروعًا له مباحًا؛ لأن كلامنا في المشروعات وليس في الحرمات، ولم يتعدَّ به حدود المباح، ولكن نقول: قد فاتك خير كثير وأجر عظيم؛ لأنه كان بإمكانك تصحيح النية وإصحاب العمل الذي تعودت(1/256)
عليه بنية العمل لله -جل وعلا- وتحقيق مقصد الشارع الأصلي، وحينئذ تكون قد حصل لك الأمران معًا، أما إذا تخليت عن هذا وانسقت وراء هذا وقلت أنا لن أتعدَّ حدود الله، نقول: نعم في هذه الحالة لا نقول إنك مذنب ولكن نقول أيضًا نخشى عليك، نخشى عليك إذا تناسيت المقاصد الأصلية وانهمكت في المقاصد التبعية وعملتها بمقتضى دافع نفسك وهواك، نخشى عليك أن تنساق وراء شهواتك فتزل بك القدم، وتتجاوز حدود الله -جل وعلا- ولا تقتصر مثلاً على اكتساب المال من حله ولا تقتصر على المسارات المباحة، وإنما تمضي بك السبل إلى أي طريق وتذهب بك أي مذهب يمينًا وشمالاً فتجد نفسك فيما بعد غافلاً تمامًا عن مقاصد الله -جل وعلا- سواءً المقاصد الأصلية أو المقاصد التبعية، فهذا من الفوائد المهمة لها.
تقول: هل المقاصد التبعية هي دائمًا من العادات وليست عبادات إلا إذا قُصِدَ بها تحقيق مقصد أصلي؟.
المقاصد التبعية هي تكون في الأمور العادية، لكن قد يأتي الأمر بها، قد يكون أمرًا معتادا ويأتي الأمر به، فحينئذ يجتمع فيه الأمران، يعني هي في الأصل تكون في العادات، يعني التي ينساق إليها الإنسان بطبعه ولكن قد يؤمر بها، يعني بعض الناس مثلاً مجبول على الكرم حتى قبل الإسلام مثلاً، مجبول على أنه يتصدق وينفق ويكرم الأضياف وكذا، مجبول على هذا، وهو يشتهي هذا ويميل إليه بطبعه، فحينما مثلاً جاء الشرع وأمر بالزكاة وأمر بإقراء الضيف وأمر بالصدقة اجتمع فيها الأمران، فهو يمكن أن يفعل بناءً على مقتضى طبعه السابق، ويمكن أن يلاحظ مقصد الشرع فحينئذ يحصل له الثواب العظيم، إذا انساق بمقتضى طبعه ولم يلحظ المقصد الشرعي فحينئذ نقول: أنت لم تفعل محرمًا، أنت فعلت شيئًا مباحًا، لكن حينما يجتمع القصد الأول مع القصد التبعي؛ المقصود تبعًا لله -جل وعلا- والمقصود أصالة فتجمع بين الأمرين فإنك حينئذ يتحقق لك أجر عظيم وتصبح نيتك خالصة.(1/257)
من الفوائد أيضًا: أن مراعاة المقاصد الأصلية يُصَيِّر الطاعة أعظم وأكثر أجرًا، وإذا خُولفت كانت معصيتها أعظم وزرًا أيضًا؛ لأن المُكَلَّف يعمل مراعيًّا المقاصد الأصلية، يعني المُكَلَّف الذي يعمل مراعيًّا المقاصد الأصلية يكون عمله لما ينفع الخلق فيعظم أجره تبعًا لذلك، بينما الذي ينظر فقط إلى المقاصد التبعية يكون همه إصلاح نفسه فقط ويقتصر ويكون ثوابه أقل، فمن راعى المقاصد الأصلية كان همه إصلاح الخلق فيعظم أجره تبعًا لذلك القصد، وأحيانًا يعمل المباحات ويعمل العادات ويقصد بها وجه الله -جل وعلا- فيزداد بذلك أجرًا.(1/258)
أما من جهة عِظَمِ الوزر فكذلك المعصية يَعْظُمُ وزرها بِعِظَمِ أثرها وبكثرة من يناله الضرر منها، كما أن الطاعة يَعْظُمُ أجرها بِعِظَمِ أثرها وكثرة من يناله الخير منها، فأنت حينما تعمل خيرًا عامًّا للأمة لا يكون أجرك مثل ما لو تعمل خيرًا خاصًّا بك، يعني بعض الناس قد يُشْكِل عليه يقول: أليس الإنسان ينبغي أن يبدأ بنفسه وخاصته وأهله؟ نقول: نعم، لكن العمل الخَيٍّر الذي يمكن أن ينفع الناس جميعًا ومن ضمنهم أسرتك هذا أكثر ثوابًا من العمل الخَيِّر المقتصر على أسرتك، فإذا استطعت مثلاً أن تنفع كل الناس أو أغلب أهل الحي مثلاً عندك أولى من أن يقتصر نفعك على أهل بيتك، أو على نفسك، هذا في الأعمال العامة، أو في أعمال الخير، في المعاصي أيضًا المعصية حينما يكون أثرها مقصورًا عليك أنت، ليست كالمعصية التي يتعدى أثرها إلى عموم المسلمين أو إلى جمهور كبير من المسلمين، يختلف، فلهذا –مثلاً- الإنسان إذا ظلم نفسه بارتكاب بعض المعاصي، هو ظالم لنفسه، عليه ذنب وعليه وزر، لكن حينما يظلم أُمَّة بأكملها، أو أهل منطقة كاملة يتعدى ظلمه إليهم، يكون ذنبه أعظم، فهكذا الذنوب تَعْظُمُ بِعِظَمِ آثارها وكثرة من ينالهم الأذى منها، فالداعي لهذا كان الداعي إلى المفسدة، يعني دعاة الفساد ودعاة انتشار الرذيلة ذنبهم أعظم بكثير من الذين يمارسون الرذيلة، ولكن لا يدعون إليها، يعني هذا الأمر ينبغي أن نتفقهه فعلاً، يعني قد يكون إنسان -نسأل الله السلامة- في السبعين من عمره، هو لا يمارس شيئًا من هذه الرذائل يمكن، يمكن لا يشرب خمرًا، وليس فيه شهوة للنساء، ولكنه يدعو الناس ويحرض الناس ويفتح الأبواب للناس، ويكون مفتاح شر لهذه الرذائل هو ما يناله من الإثم أعظم مما ينال الذي يمارس ولا يدعو، فينبغي أن نتنبه لهذا؛ لأن هذا جاء في طريق نظرنا إلى المقصد الأصلي، يعني عارض المقصد الأصلي ولم يكتفِ بمعارضة مقصد تبعي، إذن هكذا يمكن أن ننظر(1/259)
للحسنات والسيئات بهذا المنظار، أو بهذا الميزان، فلا ينبغي أن نغفل مثل هذا الأمر.
أيضًا من الفوائد التي يمكن أن نبنيها على هذا التقسيم: أن العمل على وفق المقاصد التابعة -وهذا ينبغي أن ننتبه إليه جيدًا- لا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية أو لا تصاحبه، نحن قلنا هناك: إن المقاصد التابعة قد تنطوي على مقاصد أصلية، كما أن المقاصد الأصلية قد تنطوي على مقاصد تابعة، فنقول: المقصد التبعي لا يخلو إما أن يصاحبه المقاصد الأصلية، أو لا تصاحبه، فأما الأول وهو أن تصاحبه المقصد الأصلي، أو لعلنا نأخذ عدم المصاحبة، يعني إذا لم تصاحبه المقاصد الأصلية بمعنى: أن هذا العمل التبعي أنت لا تنظر فيه إلى المقصد الأصلي، فحينئذ نقول: أنت إذا لم تنظر إلى مقاصد الشرع الأصلية وانهمكت في حظوظك وفي ما ينفعك وعملت بها لكنك لم تخرج على حدود الله، لم تتعدَّ فأنت حينئذ لا ثواب لك ولا عقاب؛ لأنك أنت ما قصدت الطاعة، لأنك لو كنت قاصدًا للطاعة لحصل لك الأجر، أما إذا كنت لا تقصد المقاصد الأصلية يعني أنت لا تقصد تحقيق المقصد الأصلي وإنما تقصد تحقيق ما تميل إليه نفسك، ما تميل أنت إليه بطبعك في هذا العمل، فإنك حينئذ إذا لم تتعدَّ حدود الله نقول أنت لا عقاب عليك، لكن في الوقت نفسه ليس لك ثواب، أما إذا نظرت إلى المقصد الأصلي وعملت بناءً على المقصد الأصلي فأنت يتحقق لك الثواب مثل ما ذكرنا سابقًا ولا حاجة إلى أن نكرر؛ لأن الثواب لا بد له من نية، أنت إذا قصدت طاعة الله -جل وعلا- وقصدت مقاصد الله -جل وعلا- وتحقيق امتثال أمره، فأنت حينئذ تكون جمعت بين ما يميل إليه طبعك وما يريده الله -جل وعلا- فيحصل لك الأجر والثواب بهذه النية، أما إذا لم يظهر؛ يعني لم تبدِ هذه النية ولم تستشعرها أبدًا فإنه حينئذ ليس لك ثواب، ولكن ليس عليك عقاب، لكن هنا نقطة نريد أن ننبه إليها، وهي: كيف نعرف أن هذا العمل جاء وفق المقاصد التابعة؟ وصاحبه راعى(1/260)
المقاصد الأصلية أو لم يراعها؟
نحن نعرف ذلك بطريقين: الأول بأن يستحضر النية عند العمل، يستحضر طاعة الله، يستحضر طاعة الله وهو يأكل للطيبات أن هذه يأكلها لأنها مباحة وليتقوى بها هذا أمر واضح.
الأمر الثاني: ما يُعرف بالمصاحبة بالقوة، الأولى مصاحبة بالفعل، مصاحبة نية المقاصد الأصلية للتبعية بالفعل، ومصاحبة نية المقاصد الأصلية للتبعية بالقوة هذه تُعرف من الإنسان الذي يتوقى عن المحرمات، ويحرص على الابتعاد عنها ويبحث عن الأسباب المباحة، فإذا كان هو يبحث عن زيادة ماله وكسبه ووجدنا أنه حينما يبحث ويجد وسيلة رزق يسأل عن حِلِّهَا وَحُرْمِهَا، وإذا شَكَّ يتوقف حتى يبحث، فحينئذ نقول: أنت -إن شاء الله- مستحضر للنية بالقوة، حتى وإن كان في أثناء بيعه وشرائه هو لا يستحضر هذه النية، لكن ما دام أنه كلما وجد طريقًا مشكوكًا فيه توقف عرفنا أنه يتوقى المحرمات، فالذي يتوقى المحرمات هو -إن شاء الله- حصل له الأجر والثواب من اكتساب الرزق وإن لم يتقارن أو لم يقترن نية المقاصد الأصلية أو نية طاعة الله -جل وعلا- مع العمل الدنيوي الذي يحقق فيه رغبته ويحقق فيه مقاصده التبعية.
أسئلة الدرس.
السؤال الأول: ما المراد بالمقاصد التابعة أو التبعية؟
السؤال الثاني: اذكر فائدتين من الفوائد التي تنبني على معرفة هذا التقسيم؟
يعني معرفة تقسيم المقاصد إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة. اذكر فائدتين من الفوائد التي تبنى على تقسيم المقاصد إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة؟(1/261)