- الدرس الأول -
مؤلف هذا الكتاب:
هو شيخ الشافعية أبو المعالي عبد الملك بن يوسف بن محمد الجويني, نسبة إلى جوين من نواحي نيسابور, ولد سنة 419هـ عليه رحمة الله تعالى, وتفقه على والده في صباه ورحل إلى بغداد ثم إلى مكة وجاور بها أربع سنين, فلقب بإمام الحرمين, ثم ذهب إلى المدينة فأفتى ودرس, ثم عاد إلى بيسابور, فبنى له الوزير المدرسة النظامية فدرس فيها, وكان يحضر دروسه أكابر العلماء, وكان أبو المعالي في بداية أمره على مذهب أهل الكلام في باب الأسماء والصفات من المعتزلة والأشاعرة, لكنه رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة, وقد صرح هو بذلك عليه رحمة الله تعالى, وقد مات سنة 478هـ في نيسابور.
له عدة مؤلفات في أصول الدين والفقه والخلاف وأصول الفقه.
هذه نبذة مختصرة عن هذا العالم عليه رحمة الله تعالى.
مقدمة
ونحتاج إلى مقدمات قبل أن ندخل في هذا الفن, وعندنا خمس مقدمات:
الأولى: المراد بأصول الفقه.
الثانية: الفرق بين أصول الفقه وبين مت يشابهه.
الثالثة: أهميته و فوائده.
الرابعة: المراد بأصول الفقه.
الخامسة: أهم المدونات فيه.
ثم نتناول التعريف, ثم ندخل في متن المؤلف رحمه الله تعالى.
المقدمة الأولى:
المراد بأصول الفقه.
المراد بأصول الفقه عند السلف هو: العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية, وهذه من فوائده.
والقواعد على نوعين:
قاعدة مباشرة مثل الماء يتوضأ به.
قواعد عامة وهذه تدخل في نطاقها مسائل كثيرة مثل قولهم{الأمر يقتضي الوجوب}.
وبهذا فأصول الفقه ليس علم غاية, أي ليس من المسائل الفرعية, وإنما هو علم وسيلة, أي وسيلة إلى إدراك الأحكام الشرعية, وعلماء الأصول يشتغلون في أربعة مباحث:
المبحث الأول: الأحكام الشرعية بقسميها لأن الأحكام الشرعية على قسمين.
القسم الأول: أحكام شرعية تكليفيه وهي خمسة, الواجب, المندوب, المحرم, المكروه, المباح.(1/1)
القسم الثاني: الأدلة الشرعية, ويقسمها علماء الأصول إلى قسمين:
1. الأدلة المتفق عليها وهي الكتاب والسنة, والإجماع والقياس, والقياس من الأدلة المتفق عليها على قول الجمهور خلاف قول ابن حزم فهو يرى أن القياس ليس بحجة, وهذا ليس بصحيح لسببين:
أ- لتظافر الأدلة على الاحتجاج بالكتاب والسنة.
ب- لقلة القائلين بقول ابن حزم فهم يشتغلون بالأدلة المتفق عليها من حجيتها " الطرق المثبتة لهذه الأدلة " ولذلك اشتغلوا بالآحاد والمتواتر.
2. الأدلة المختلف فيها,مثل قول الصحابي والاستحسان وكذلك ما هو ضد الاستحسان, والمصالح المرسلة مثل العرف والعادة وغير ذلك.
المبحث الثالث: كيفية الاستفادة من الأدلة.
أي كيف يستفيد طالب العلم من الدليل الذي أمامه, أي الطريق التي نستخرج منها الأحكام والأدلة, فعلماء الأصول يبحثون في كيفية الاستفادة من الدليل, وهذا يقوم على المباحث اللغوية من حيث اللفظ المنطوق والمفهوم, فالمنطوق هو ما نطق به, والمفهوم ما يفهم من الحديث أو الدليل, ومن خلال معرفة ألفاظ اللغة, مثل المجاز والحقيقة والظاهر والمبين والمجمل وغيرها وكذلك في كيفية الاستفادة من الأحكام ولذلك يبحثون في معرفة التعارض من الأدلة والترجيح, على أنه ينبغي أن يعلم أن الأدلة الشرعية في أصلها ليس فيها تعارض, ولكن التعارض يقع في ذهن الفقيه أو المشرع, إما لقلة الفهم للمسألة أو لقلة العلم, ولذلك يقول ابن خزيمة: (ليس في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمة حديثان متعارضان ومن وجد شيئاً من ذلك).
المبحث الرابع: يبحثون في حال المستفيد من الأحكام.
مثال: من هو المقلد ومن هو المستدل ؟
وعلم أصول الفقه هو علم أصول الشريعة كلها وليس للفقه فقط, لكن إضافته للفقه من باب التغليب لكون أكثر المسائل الأصولية تعمل في الفقه, لذلك أضيف إلى الفقه تغليباً.
- الدرس الثاني -
من المقدمات في هذا الفن:
أهمية أصول الفقه.(1/2)
يظهر ذلك من خلال الأمور التالية:
1. أن أصول الفقه من العلوم الشرعية التي يتقرب بها العبد إلى الله - عز وجل - فهو من العلوم المساعدة.
2. أنه يساعد على استنباط الأحكام الشرعية يعني كيفية الاستنباط وطرق الاستنباط.
3. أن فيه توضيح منهج كل إمام من الأئمة وعالم من العلماء فالإمام مالك والشافعي والإمام أحمد رحمهم الله تعالى لما اتفقوا في الأصول كانت فتاويهم في الفروع قريبة بخلاف أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وفائدة معرفة هذا الأمر الأعذار للمخالف لأنه يبني فتواه على قاعدة أصولية.
4. أنه يربي في طالب العلم الملكة الفقهية في النظر والاستدلال والمناقشة, وهذا ليس في علم الأصول لوحده وإنما هذا في الأصول مع الإكثار من الفروع.
5. بدراسة علم الأصول تتبين عظمة هذه الشريعة, لأنها قامت على قواعد وأسس متينة بخلاف المذاهب الباطلة فإنها قامت على شفا جرف هار فانهار بها في نار جهنم, ولهذا يقول ابن بدران رحمه الله تعالى: (وأعلم أنه لا يمكن للطالب أن يعتبر فقيهاً ما لم تكن له دراية في الأصول ولو قرأ الفقه سنين وأعوام.. ثم يقول: ومن أدعى غير ذلك كان كلامه جهلاً ومكابرة) أ.هـ.
وإنما أطلقوا على أصول الفقه أصول لأنه يقعد, ولا يعطي لطالب العلم الحكم مباشرة, يعني علم أصول الفقه هذا يقعد (قواعد) لا يعطي الحكم مباشرة (كالمسائل الفرعية).
أيضاً من هذه المقدمات:
من هو أول من صنف في أصول الفقه ؟
القول الراجح مع الخلاف الذي يذكره علماء التشريع أن الإمام الشافعي رحمه الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ هو من ألف كتاباً مستقلاً في أصول الفقه.(1/3)
نتنبه لقولنا (كتاباً مستقلاً) قولنا (كتاباً مستقلاً) لأن ذكر بعض القواعد الأصولية شتاتاً, يعني متفرقة في بعض الكتب هذا وجد قبل الإمام الشافعي, فعند أبو حنيفة رحمه الله تعالى وبعض أتباعه (كان عنده رحمه الله بعض القواعد الأصولية لكنها شتات غير مجموعة) وبعض أتباعه كأبي يوسف, ومحمد بن الحسن, وكتاب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هو كتاب (الرسالة) وقد بين في هذا الكتاب حجية الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
ثم عرج على ذكر البيان المبيَّن والمبيَّن والإجمال والإطلاق والتنفيذ والعموم والخصوص وغيرها.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: (لم نعرف العام والخاص حتى جاء الإمام الشافعي).
وكلام الإمام أحمد رحمه الله يقصد به محمول على التقعيد إلى عام وخاص لا على التنزيل, لأن التنزيل على الفروع يعرفه الإمام أحمد و ضوابط العموم والخصوص كانت معروفة حتى في عهد الصحابة لكن يقصد الإمام أحمد لم نعرف العام والخاص, يعني محمول على التقعيد, يعني قعد له قواعد.
أيضاً من المقدمات لهذا الفن:
العلوم التي يستفيد منها الأصوليون.
علماء الأصول استمدوا علم الأصول من ثلاثة علوم وهي:
أولاً: يستمد من علم أصول الدين وهو العقيدة.
والسبب في ذلك, لأن إيجاب الأحكام من الأدلة متوقف على وجود الله - عز وجل - وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى صحة الخبر عنهما.(1/4)
ومما يحسن التنبيه إليه في هذه المسألة أن كثيراً من الأصوليين وخاصة من غير أهل السنة والجماعة يقولون أن علم أصول الفقه مستمد من علم الكلام وعلم اللغة العربية, ونحن نقول أنه مستمد من علم العقيدة أو من أصول الدين وأيضاً اللغة العربية والأحكام أو أهل السنة والجماعة يقولون أنه مستمد من العقيدة أو علم اللغة العربية والأحكام, لماذا ؟ لأن كلمة علم الكلام إن كانوا يريدون بها العقيدة فنقول أن هذا لفظ بدعي لم يطلقه أهل السنة والجماعة على العقيدة, ولذلك نقول والصحيح أنه مستمد من علم العقيدة. أمر آخر يجب أن نعلمه أن لعلم العقيدة أثر فعال في علم الأصول.
- الدرس الثالث -
ثاني العلوم التي يستفيد منها الأصوليون:
ثانياً: العلم الثاني الذي يستمد منه الأصوليون علم الأصول علم اللغة العربية, لأن الشريعة جاءت بلغة العرب, ولذلك لابد لفهم الخطاب الشرعي من فهم اللغة العربية التي نزل بها الشرع.
ولذا فقد أهتم الأصوليون باللغة ومباحثها التي يستفيدون منها في إخراج الأحكام من الأدلة, لماذا ؟
لأن الدلالات والمباحث اللغوية لها ثمرة عظيمة في التغاير والاختلاف في الأحكام الشرعية, ولذلك يرى العلماء الأصوليون أنه لابد لطالب العلم أن يكون عنده قدر من العلم في هذا الجانب حتى يستطيع أن يستخرج به الأحكام, لذلك هناك مباحث بحثها أهل اللغة بشكل مبسط فاشتغل بها الأصوليون, وقعدوا لها من جديد وبحثوها مباحث أوسع من أهل اللغة حتى أصبح علماء اللغة عالة عليهم يرجعون إلى علماء الأصول في هذه المباحث وذلك مثل: حروف المعاني ودلالاتها (من, إلى, على, في) ونحو ذلك.
العلوم التي يستوفها النحويون واشتغل فيها الأصوليون وقعدوها مثل علم الدلالة من الألفاظ يعني من حيث العموم والخصوص والأمر والنهي والإطلاق والتقييد والحقيقة والمجاز.(1/5)
هذه النحويون يبحثونها لكن لم يستوفوا البحث فيه فاشتغل فيها علماء الأصول حتى أصبح أهل اللغة في هذه المباحث عيالاً على أهل الأصول يستفيدون منهم ويرجعون إليهم.
مثال:
على فائدة هذه الدلالات اللغوية واستقاء الأحكام منها:
نجد حروف المعاني بعضها نجد أن للحرف الواحد أكثر من معنى قد تفوق العشرة, المشكلة أحياناً نجد أن الخلاف في فهم معنى الشريعة مبني على معرفة هذا الحرف.
مثال:
قوله تعالى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } (1), الواو في قوله (والراسخون) لها أطلاقات كثيرة جداً:
منهم من قال إنها استئنافيه.
ومنهم من قال أنها للعطف.
ومنهم من قال أنها للمعية.
وتأتي للحال.
فما نوع الواو هنا ؟ لأن الخلاف في نوعها يبنى عليه الحكم, لما اختلف أهل الشريعة في معنى الواو اختلفوا في الحكم الناتج عن ذلك:
الذين قالوا إن الواو استئنافيه يكون المعنى (لا يعلم تأويله إلا الله) ثم نستأنف معنى جديد (والراسخون في العلم لا يعلمون تأويله) على هذا المعنى لأنها استئنافيه وإنما حظهم أنهم آمنوا به فقط.
أما على قول أهل المعية فالذي يعلم هو الله والراسخون في العلم.
مثال آخر:
قوله تعالى { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ(2) } , الباء لها معاني كثيرة (برؤوسكم) أحياناً تأتي للسببية وأحياناً للإلصاق وأحياناً للتبعيض.
الشافعية هنا لما قالوا بأن معنى الباء للتبعيض يرون أنه لا بأس من مسح الرأس قال بعضهم: يكفي مسح ثلاث شعرات فقط واختلفوا في المقدار الواجب, والذين قالوا إن الباء للإلصاق قالوا أن المعنى, التقدير (وامسحوا ملصقين أيديكم برؤوسكم) ولم يتعرض هل هو كل الرأس أم بعضه ؟
قالوا: والأصل أن المقصود بالرأس كله إذا إذا أطلق.
ثالثاً:
من العلوم التي يبحثها علماء الأصول:
__________
(1) آل عمران: من الآية7).
(2) المائدة: من الآية6).(1/6)
علم الأحكام (علم الحلال والحرام) أو علم الفقه, لأنه لابد من المؤصل أو الأصولية أن يكون عنده جملة من الفروع (أي جملة من الأحكام الفرعية) لماذا ؟
حتى إذا ذكر هذه القاعدة الأصولية يمثل بها ويقعد بها بالتمثيل والتطبيق ولذلك فإن الذي يذكر قواعد أصولية بدون تمثيل أو تطبيق قواعد جامدة ميتة. ولذلك انتزع علماء الأصول بعض المسائل الفرعية ووضعوها في الأصول على سبيل التمثيل والتطبيق. هذه ثلاثة علوم يستفيد منها الأصوليون.
أيضاً من المسائل:
ما حكم تعلم علم أصول الفقه ؟
قال بعض أهل العلم أن تعلمه فرض كفاية كالفقه وقالوا بأنه من جملة العلوم الشرعية التي إذا أهملتها الأمة بمجموعها أثمت الأمة جميعها.
وعلى هذا قالوا بأن تعلمها فرض كفاية إذا به البعض سقط الإثم عن الباقين.
القول الثاني: قال به ابن عقيل من الحنابلة, قال: أن تعلمه فرض عين. وهذا قول شاذ ليس بصحيح, لأنه لم يقل أحد حتى بفرضية علم العقيدة مثلاً وهو أهم من الأصول.
لكن ابن مفلح رحمه الله تعالى في كتابه أصول الفقه قال: يعتذر لابن عقيل لما قال أنه فرض عين يقول: قصد ابن عقيل أن ذلك في حق المجتهد بالمسائل الشرعية ولأنه لا يمكن أن يستفيد من علمه ولا أن يفيد منه إلا أن يكون عالماً بالأصول.
قد يكون لهذا وجه إذا قلنا أن علم الأصول سنة أو فرض كفاية فلا شك أنه فيمن هو أعلى منه منزلة يكون أقوى.
أيضاً من المسائل:
أيهم نتعلم أولاً الفقه أو أصول الفقه ؟
المسألة على خلاف ؟
قال بعض أهل العلم الأولى أن يتعلم الأصول أولاً لأن أصل الشيء قبل فروعه فمثلاً البناء لا تبني الجدر قبل أن نضع لها قواعد وهذا قاله ابن عقيل نسبه إليه ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وقال به بعض الأصوليون ومنهم بعض الحنابلة بل يجب تقديم الأصول وعلل ذلك لأن الفروع لا تدرك إلا بأصولها.
القول الثاني: وقال به بعض العلماء كأبي يعلى رحمه الله تعالى بل يجب أن يتعلم الفقه أولاً, لماذا ؟(1/7)
لأن الذي لا يتعلم الفروع يستحيل أن يتعلم الأصول وهذا له وجه قوي, لأن الذي لا يعرف بعض الفروع هذا حلال وهذا حرام فإن عقليته أضعف من أن تدرك بعض الأصول.
والراجح هو قول وسط في هذه المسألة:
أن الإنسان يتعلم جملة غالبة من الفروع ثم يتعلم الأصول, لماذا ؟
لأمرين:
* أن تعلم الفروع مما لابد منه للأعمال.
* أن تعلم جملة من الفروع يكون فيه تدريب وترويض وتعود لدراسة الأصول.
مسألة: أهم المدونات في علم الأصول, أهم كتاب في الأصول هو كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
أهم الكتب على المذاهب:
أ- من كتب الحنفية:
كتاب أصول السرخسي.
كتاب تقويم الأدلة للدبوسي.
أصول الكرخي. (رحمهم الله)
ب- من كتب المالكية:
أحكام الأصول لأبي وليد الباجي.
شرح تنقيح الأصول للقرافي. (رحمهم الله تعالى)
ج- من كتب الشافعية:
البرهان للجويني.
المستصفى للغزالى.
المحصول للرازي.
البحر المحيط للزركشي.
د- من كتب الحنابلة وهو أشهرها:
كتاب روضة الناضر وهذا هو المقرر في الجامعة الآن, ولكنه ليس بأشهر الكتب لأمور:
1. لأن ابن قدامة مؤلف الكتاب (روضة الناضر) لم يؤلف الكتاب استقلالاً, وإنما هو اختصار للمستصفى للغزالي.
2. أن الكتاب فيه إبهام وغموض وصعوبة عبارة.
3. غير مرتب ترتيب علمي.
شرح الكوكب المنير وهذا سهل العبارة.
أصول الفقه لابن مفلح.
كتاب التمهيد.
كتاب العدة لأبي يعلى.
وقبل أن ندخل في المتن نأخذ تعريف لكتاب الورقات على عجل.
مؤلفه:(1/8)
عبد الملك بن عبدالله بن يوسف الجويني, ولد سنة 419هـ وتوفي 478هـ فهو من أهل القرن الخامس من مجتهدي الشافعية, وكان عالماً فاضلاً وكان أول أمره يعتقد مذهب أهل الكلام في باب الأسماء والصفات, لكنه عدل عنه كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى وقرر ذلك الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قرر أنه رجع لمذهب أهل السنة والجماعة, وكونه رجع هذا في حظ نفسه ولذلك لا يعني ذلك أن نقبل كل ما يرد عنه (وسيمر علينا مسألتين ننبه عليهما يقرر فيهما مذهب علم الكلام).
كتاب الورقات من كتب المتون سهل العبارة وأوضحها, اختار الإمام الجويني رحمه الله عدم الإكثار من الخلاف والمناقشة ولذلك كان في ورقات قليلة حاوياً لمعظم المسائل, ولذلك اهتم بهذا الكتاب كثير من العلماء حتى أنه قيل أن له ثمانين شرحاً وخاصة في القرن الثامن والتاسع ففي القرن الثامن والتاسع كثر كلام الناس في قضية تعلم العلم الشرعي في التجريد والتأصيل واشتغلوا في الحواشي والهوامش وشروح بعض الكتب والتعليقات فقط.
ولذلك من شروحه:
1. جلال الدين المحلي شرط مبسط.
2. كتاب الشرح الصغير لأحمد بن قاسم العبادي..وغيرها من الشروح.
- الدرس الرابع -
بدأ الإمام ببسم الله, ولم يذكر الحمد لله, وسبب عدم ذكره الحمد أن ذلك محمول على أمرين:
1. أن البسملة مقتضية لمعنى الحمد فقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } متضمن لمعنى الحمد والثناء على الله - عز وجل - .
2. قيل أنه تركه اختصاراُ, لأن الأصل في الكتاب أنه من كتب المختصرات.
ثم قال رحمه الله (هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه وذلك مؤلف من جزئين مفردين).(1/9)
قوله رحمه الله (هذه) يشير لاسم الإشارة إلى ما بين أيدينا من الأوراق التي كتب فيها هذا العلم وهي تعود إلى الأوراق وإذا عادت إلى الأوراق يكون قوله هذه الورقات صحيح لا يحتاج إلى إضمار وعلى هذا مشى أكثر الشراح, لأن اللفظ بدون إضمار أولى, وقال بعضهم فيه إضمار قالوا: هذه إشارة إلى المعاني والألفاظ التي أوجدها في الورقات فيكون المعنى أن اسم الإشارة يحتاج إضمار ولذلك قالوا إن أراد به بهذه ذات وراقات فلا يكون على حقيقته بل على مجازه.
وقوله (ورقات) جمع ورقه, والورقة هي التي تكتب فيها الكلمات قال سيبويه وغيره أن ورقات جمع مؤنث سالم, وجموع السلامة الأصل فيها التقليل فهو جمع قلة فجمع الكثرة أن يقال أوراق, وإن قال بعضهم في جموع السلامة أنها من جموع الكثرة.
قال الشراح: وصفه لها أنها ورقات بناء على ورقات جمع قله لأمرين:
1. الحقيقة قلتها فهذا الكتاب قليل بالنسبة لغيره فلو كتب المتن بخط اليد فلا يصل إلى الثلاث والأربع ورقات تقريباً بالخط العادي.
2. التقليل من عدد الورقات له معنى, وهو تنشيط الهمم واستثارتها لمعرفة هذه الورقات فطول المتن أحياناً يبعث في الإنسان الكسل واستخدام التقليل لتنشيط النفوس وهذا أمر ورد في كتاب الله - عز وجل - في أكثر من موضع لهذا الغرض في قوله تعالى { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ } (1). قال الفقهاء: إن قوله معدودات لتقليلها حتى يبعث في النفس الهمة والجد في استغلال هذه القليلة المعدودة.
قال المصنف { هذه الورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول } .
__________
(1) البقرة: من الآية184).(1/10)
الاشتمال معناه: احتواء وتضمن معرفة الأصول فهي صفة للورقات, أي أن هذه الورقات تحتوي وتتضمن معرفة فصول فهي صفة لورقات, أي أن هذه الورقات صفتها اشتمالها على هذه المعرفة قال (على المعرفة) المعرفة عند أهل الأصول هي: إدراك الشيء على ما هو عليه فإذا عرف الإنسان الشيء معرفة حقيقية بالصورة المطابقة لذاته سميت هذه معرفة.
مثلاً:
لو سأل الإنسان عن الشرك فقال في تعريفه: أن تجعل لله نداً وهو خلقك, نقول إن هذا عرف الشيء معرفة حقيقية.
الجهل: هو إدراك الشيء على غير ما هو عليه.
والعلماء رحمهم الله لا يفرقون بينهما فيقولون أن المعرفة هي العلم ليس بينهما فرق سواء قلت عرفت أو علمت فليس بينهما فرق إلا فرق واحد.
ما هو هذا الفرق ؟
أن المعرفة مكتسبة, أي أن المعرفة بالشيء تكون أن يكون الإنسان مسبوق بجهل هذا الشيء, يعني إنسان تعلم معلومة جديدة كان جاهلاً بها فأخبر بها فتكون هذه معرفة, أما العلم فهو قديم, يعني أن الشيء موجود عنده من قبل ثم أخبر به, فهذا لا يسمى معرفة وإنما يسمى علم, وعلى هذا الأصل عدم التفريق بين العلم والمعرفة, فلو أعطى الإنسان مسألة وقيل له عرفت أو علمت, فإن المعنى واحد, لأنهما من الألفاظ المترادفة إذا افترقا دلتا على معنى واحد كالإيمان والإسلام حيث الإسلام يعني الأعمال الظاهرة والإيمان يعني الأعمال الباطنة, هنا إذا اجتمعا في اللفظ يفترقان في المعنى والعكس بالعكس أي إذا افترق اللفظ اجتمع المعنى فيدل كل منهما على الآخر إذا اقتصر على ذكر أحدهما قلنا إن المعرفة يسبقها جهل أما العلم فهو قديم لذلك فإن الله تعالى يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه عارف وجاءت المعرفة في القرآن ويراد بها العلم كقوله تعالى { مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } (1) أي مما علموا.
- الدرس الخامس -
كنا قد وقفنا عند قول المصنف { وهذه ورقات تشمل على فصول } .
فقوله (على معرفة فصول):
__________
(1) المائدة: من الآية83).(1/11)
الفصول: جمع فصل, وهو الحاجز بين الشيئين, أقول هذا فاصل بين هذا وهذا, بمعنى أنه حاجز بينهما ولذلك سميت فصول السنة فصولاً لأن الواحد منها يحجز بين الأثنين فمثلاً نقول: فصل الربيع لأنه يفصل بين الشتاء والصيف.
وأهل العلوم إذا أطلقوا فصل فإنما يريدون بذلك الفصل العلمي الذي يفصل بين قسمين آخرين أي يفصل بين مجموعة مسائل يجمعها جنس واحد أو نوع واحد.
والجنس أخص من النوع لأن الجنس أدق ولذلك جرت العادة عند السلف على هذا المنوال وهو أنهم يقسمون الكتاب إلى فصول مثلاً: " كتاب الصلاة, كتاب الصوم.." ونحو ذلك والكتاب يقسمونه إلى أبواب مثلاً : " باب الطهارة " ثم يجعلون الأبواب مقسمة إلى فصول مثل: " فصل استقبال القبلة " والفصل قد يجعلونه مباحث, ولذلك يقال فصل وفيه أربعة مباحث وبعض الأحيان يقسمونه إلى مطالب مثلاً:
المبحث الأول: وفيه مطالبان ثم يأتي بعده بعض المسائل, بعضهم قد يتجاوز فيذكر الكتاب ثم الفصل والمسائل وقد يتوسع فيقسم إلى كتاب والكتاب إلى أبواب والأبواب إلى فصول والفصول إلى مباحث والمباحث إلى مطالب والمطالب إلى مسائل, وهكذا.
الثانية: بعضهم يختصر فيقسم الكتاب إلى فصول والفصول إلى مسائل.
قال المصنف { وذلك مؤلف من جزئين مفردين } .
قول المؤلف من جزئين مفردين الضمير في قوله (ذلك) يعود إلى أصول الفقه , يقول (وذلك مؤلف من جزئين), ويجب أن نعرف أولاً أن أصول الفقه يُعرف باعتبارين:
الاعتبار الأول باعتبار أنه اسم مركب من قسمين:
القسم الأول هو الأصول.
القسم الثاني الفقه, فيكون تعريفه إضافياً أي الذي يميزه إضافة الفقه إلى الأصول فلا يمكن أن نعرف ما النتائج من أصول الفقه حتى نعرف كلمة (أصول) لوحدها و (الفقه) لوحدها وهذا يسمى تعريفاً إضافياً.(1/12)
الاعتبار الثاني: التعريف اللغوي, يعني ننسى كلمة أصول الفقه ويتبادر إلى أذهاننا كلمة أصول الفقه باعتبارها أنها علم على أية حال, والمؤلف رحمه الله تعالى عرفّ الأصول بهذين التعريفين جميعاً (الإضافي واللغوي) فبدأ أولاً بتعريف أصول الفقه بالتعريف الإضافي فلذلك قال { وذلك مؤلف من جزئين مفردين } إشارة إلى أنه يريد أن يعرفه تعريف إضافي له " المراد أصول وفقه " وعلى هذا فلابد أولاً من أن يعرف كلمة (أصول الأحكام) ثم يعرف كلمة (فقه) ثم يعرف تعريفاً عاما يجمعهما, يعني باعتبار أنه عرفهما تعريفين جميعاً لابد أولاً أن يبدأ بتعريف كلمة أصول ثم يعرف كلمة الفقه, ثم يعرف تعريفاً عاماً يجمعهما.
قال { مؤلف } أي مركب.(1/13)
{ من جزئين } أي أن أصول مفرد وفقه مفرد فتقابل جزئين مفردين, والمفرد عند النحاة كما نعلم قسيم المثنى والجمع (زيد, زيدان, زيدون) مفرد, مثنى, جمع, وهذا ليس هو المقصود هنا, وإنما المراد هنا أنه أريد بالأصول ضد المركب لأن البلاغة يقولون: أن الكلام مركب, أو مفرد, فعندهم (زيد, زيدان, زيدون) مفرد لأنها كلمة واحدة فيطلقون المفرد على الكلمة الواحدة بغض النظر عن كونها مفرد أو مثنى أو جمع, أما المركب عندهم فهو ما يكون بكلمتين أو أكثر كأن نقول (دار حسين) فعندهم هذا مركب, لماذا ؟؟ لأنه من كلمتين, لا , وإنما يقصد المصنف من قوله (مفردين) أنه ضد المركب, أي أنه كلمة واحدة (أصول) , وكلمة واحدة (الفقه), لأن (أصول) جمع لو كان المقصود كما عند النحاة المفرد قسيم المثنى والجمع لكانت (أصول) جمع, نعود من ذلك أن المراد من قوله (مفردين) أن مقصوده بكلمة مفرد هو ضد المركب, ولذلك تعريف المفرد عند المحقق هو الذي لا يتم جزءه على جزء معناه كيف ؟ بمعنى أنك إذا أتيت بجزء مركب لا يدل على نصف المعنى فكلمة (أصول) تدل على نصف المعنى, ولكنها لا تدل على نصفه الآخر, كذلك كلمة (الفقه) مصف المعنى لكن لا تدل على نصف كلمة أصول الفقه ولكن المعنى لا يتم إلا بذكرهما جميعاً, ولذلك علماء الفقه قالوا: أنه لا يتم جزءه على جزء معناه وإنما لابد أن يؤتى بالجزء الآخر.(1/14)
قال رحمه الله (فالأصل ما يبنى عليه غيره) هذا تعريف للأصل في اللغة أي أن الأصل في اللغة ما يبنى عليه غيره سواءً كان حسياً أو معنوياً أي أساس كل شيء ومصدره يعبر عنه بأصله فأقول لق ما أصل هذا المسجد فتقولين: قواعده لأنه بني على هذه القواعد غيرها من الجدر والسقف والأعمدة, هذه الأعمدة والسقف والجدران مبنية على هذه القواعد, هذا أصل حسي, ولذلك عبر عن الفرع فقال (والفرع ما يبنى على غيره) ولا حاجة لنا في تعريف الفرع إلا لحاجة ونتطرق الآن لتعريف الأصل, لكن لبيان الحاجة حتى يتضح الأصل فالفرع والأصل قسيمان, نحن قلنا في اللغة: الأصل ما يبنى عليه غيره سواء كان حسياً أو كان معنوي.
مثال:
الحسي: كالقاعدة في البناء بالنسبة لغيره فالأصل القواعد.
والمعنوي: كقولنا المسألة تقوم على الدليل, دليل أصل يسمى أصل, لماذا ؟
لأننا اعتمدنا عليه في الحكم, والمصنف رحمه الله تعالى عرف الأصل في اللغة ولم يعرفه في الشرع.
فقال: فالأصل ما يبنى عليه غيره, والفرع ما يبنى على غيره.
عرفه في اللغة لكن ما عرفه في الاصطلاح لكن قال بعد ذلك والفقه معرفة الأحكام الشرعية كغيرها مستحب هذا عرفه في الاصطلاح وتركه في اللغة.
على كل نحتاج أن نعرف الأصل في الاصطلاح فالأصل في الاصطلاح يطلق على أطلاقات كثيرة منها:
أولاً: الدليل يسمى أصلاً, مثلاً في كتاب البيوع يقولون الأصل في البيع الحل ما أساس ذلك ؟
قوله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع(1) } لما وجد هذا الدليل وهذا الأصل قامت هذه المسألة لأنه لو لم يوجد لما قامت هذه المسألة فهذا الدليل يعتبر أصل المسألة التي قامت عليه فالدليل يسمى أصلاً.
ثانياً: أيضاً من أطلاقات الأصل في الاصطلاح يطلق على القاعدة المستمرة, نقول مثلاً:
فهذه القواعد مستمرة لا تختلف أبداً تسمى أصلاً.
__________
(1) البقرة: من الآية275).(1/15)
ثالثاً: الراجح إذا قلنا أن ألأصل في البيع الحل أن الراجح في البيع, والأصل في المياه الطهارة مثلاً يعني أن الراجح في المياه أن الأصل فيها الطهارة.
رابعاً: الاستصحاب, مثلاً نقول الأصل في الأشياء الطهارة كما قال السعدي رحمه الله في منظومة القواعد الفقهية:
الأصل في مياهنا الطهارة ... والأرض والثياب والحجارة
هذا هو الأصل فنستصحب بقاء الطهارة في هذه الأشياء ولا نغير حتى يأتي الدليل الناقل عن الاستصحاب فيعتبر الاستصحاب يعني استصحاب الأصل بقاء المسألة ولا نغير هذا الأصل حتى يأتي الدليل الناقل للاستصحاب.
خامساً: القياس المقصود بذلك الحكم الذي يقاس عليه يسمى أصل, لأن القياس يبنى على أربعة أحكام حتى يكون صحيح:
أصل, فرع, علة جامعة بينهما, وحكم.
صور القياس:
أن يكون الأصل قد ثبت بدليل في الكتاب والسنة والفرع مسكون عنه بينهما علة جامعة فيقاس الفرع على الأصل, ولذلك نقول ويطلق الأصل بمعنى المقيس عليه ليس على المقيس ولا على العلة ولكن إنما في معنى المقيس عليه.
عليه يعني مثلاً: عندنا الآن المخدرات لم ينص عليها بين هذا الأصل وفرعه علة جامعة بينهما وهي الإسكار فيحرم الفرع كالأصل, فأصبح مقيس عليه ولذلك الأصل في الاصطلاح يطلق على القياس ( فالمخدرات فرع مع أنها أشد خطورة منها والعلة الجامعة بينهما الاسكار).
- الدرس السادس -
كنا قد توقفنا في الدرس الماضي عند تعريف أصول الفقه باعتبار مفرديه وذكرنا تعريف الأصل والفرع وهو ما يبنى على غيره ووقفنا عند قوله { والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد } .
المؤلف رحمه الله تعالى عكس القضية كما تقدم في الأصل في اللغة وتركه في الاصطلاح وأما في الفقه فعرفه في الاصطلاح وتركه في اللغة ولذلك قال قوله { والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد } .(1/16)
أما الفقه في اللغة فهو الفهم مطلقاً, قال تعالى { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ } (1) أي لا نفهمه وقال - عز وجل - { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً(2) } أي لا يفهمونه.
وقال سبحانه وتعالى { وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ(3) } أي لا تفهمون ذلك.
كما قال - عز وجل - { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (4) وهل التسبيح هذا حقيقي أم مجازي ؟
من أهل العلم من قال: إن تسبيح الجمادات بأنه مجازي أي مجازاً ومعنى ذلك أن وجود هذه المخلوقات دليلاً على تنزيه الله تعالى ولكن الصحيح أن تسبيح الجمادات تسبيح حقيقي كما قال تعالى { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (5) أي لا تفهمونه وهذا المعنى هو الراجح في اللغة (يعني تعريف الفقه في اللغة هو الفهم مطلقاً) والله أعلم.
__________
(1) هود: من الآية91).
(2) النساء: من الآية78).
(3) الاسراء: من الآية44).
(4) الاسراء: من الآية44).
(5) الاسراء: من الآية44).(1/17)
لأن هناك من قال: بأن تعريف الفقه في اللغة هو فقه الأشياء الدقيقة فقط يعني على المعنى الأول فقه الأشياء مطلقاً دقيقة وغير دقيقة أما الأشياء المشتركة بين العقلاء, فقالوا: بأنه لا يصح تسميتها فقيهاً مثلاً لو قيل: الربا محرم والدليل على ذلك قول الله - عز وجل - { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } (1) نقول بأن هذا فقه لأنه ليس كل أحد يدرك ذلك ولكن حينما نقول مثلاً: الأرض تحتنا والسماء فوقنا فعلى القول الثاني قالوا: هذا بأنه لا يسمى فقه لماذا ؟ لأن معرفة ذلك قدر مشترك بين العقلاء, لكن الصحيح هو القول الأول وأن الفقه في اللغة هو الفهم مطلقاً, قال { والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد } هذا تعريف الفقه مطلقاً في الاصطلاح وإنما قال معرفة وقد تقدم تعريف (المعرفة) ولكنه أضافها هنا إلى الأحكام فقال معرفة الأحكام. فمعرفة ليست كلمة مطلقة, الأحكام جمع حكم وهو في اللغة المنع ولذلك سمَّيَ القضاء حكماً لماذا ؟
قالوا: لأن القاضي بحكمه يمنع الخصمين من غير الذي أفترض لهما ولذلك سمي المنع حكماً.
والحكم إصطلاحاً: يعني مطلقاً وليس الأصل الاصطلاح الشرعي هو إضافة أمر لأمر أو نفيه عنه (بمعنى أن يكون عندنا أمر فإذا أضفنا إليه شيئاً أو نفينا عنه شيئاً كان ذلك منا حكماً عليه).
لو قلنا مثلاً: البيع ولم نحكم عليه بشيء هذا لا يسمى حكم لكن عندما نقول: يجوز البيع الآن أضفنا إليه الجواز يسمى هكذا حكم لماذا ؟ لأننا قلنا: أن الحكم هو إضافة أمر لأمر أو نفيه عنه, إذاً حتى النفي يكون حكماً فلو قلنا مثلاً: الربا هذا ليس حكم, لكن إذا قلنا الربا لا يجوز الربا حرام وهذا حكم لأننا نفينا عنه الجواز.
والحكم لا يخلو من أربعة أمور:
الأمر الأول: قد يكون الحكم شرعياً مثل يجوز البيع ولا يجوز البيع هذا حكم شرعي.
__________
(1) البقرة: من الآية275).(1/18)
الأمر الثاني: قد تكون الأحكام عادية كقولنا مثلاً الخبز مشبع, فهذا ثبت لنا بالعادة المستقرة ولم يثبت بالعقل, النفي مثلاً في الأحكام العادية (من لا يسير لا يصل) هذا استقر بالعادة عند الناس, أن من لا يسير لا يصل.
الأمر الثالث: الحكم قد يكون عقلياً مثل الواحد نصف الاثنين, هذا يدرك بالأحكام العقلية.
الأمر الرابع: قد يكون الحكم لغوياً مثل ذهب زيدٌ, فزيد واجب الرفع فحكمنا عليه بأنه واجب الرفع هذا إثبات حكم, نفي نقول هذا زيد, زيد لا يجوز نصبه.
فأنت طالبة العلم, أراد الجويني الناظم رحمه الله أن تتصوري أن أصول الفقه لا يبحث في كل الأحكام حينما قال: معرفة الأحكام الشرعية يعني لا يبحث في الأحكام العادية ولا بالأحكام العقلية ولا بالأحكام اللغوية يعني أخرج اللغويات والعاديات والعقليات وأبقى لق الحكم الشرعي.
ولذلك قال { والفقه معرفة الأحكام الشرعية } .
فائدة:
على الأخوات طالبات العلم أن يكون عندهن سعة بال لهذه التعريفات لأن علماء الأصول إذا اشتغلوا بشيء اشتغلوا بتعريف مفرداته ما يتركون شاردة ولا واردة إلا ويعرفونها.
فما هو الحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأحكام المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً بمعنى آخر: أن اللفظ الذي يرد به الخطاب الشرعي الذي يتعلق به أفعال المكلفين, أما الأخبار هذه لا تسمى أحكاماً كإخباره سبحانه وتعالى عن نوح ولوط وغير ذلك.
هذا ليست أحكام فأهلية التكليف والتأهيل لخطاب الله - عز وجل - والمحاسبة هذه لا تكون إلا للمكلفين ولذلك كانوا هم المخاطبين وأضاف الخطاب إليهم فقال (هو خطاب الله المتعلق بأحكام المكلفين وليس متعلق بأفعال الخلق وإنما بأفعال المكلفين) أو أحكام المكلفين.
ما نوع هذا الخطاب ؟
قال خطاب يتعلق بأحكام المكلفين نوعه:
اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً.
ما معنى هذه الأشياء (الاقتضاء, التخيير, الوضع).
الاقتضاء: هو الطلب الذي يطلب من المكلفين طلباً.(1/19)
والذي يطلب من المكلفين أربعة أنواع:
الواجب: مطلوب فعله. المحرم: مطلوب تركه.
المندوب: مطلوب فعله. المكروه: مطلوب تركه.
قال أو تخييراً: أي العبد مخير هل يفعله أو لا يفعله وهذا هو المباح.
فقوله اقتضاءً أو تخييراً يشمل الأحكام التكليفية الخمسة (الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح).
قال أو وضعاً: الوضع هو الجعل بمعنى أن يُجعل شيئاً سبباً لشيء أو شرطاً أو علة أو مانعاً ولذلك يتبين أن أنواع الجعل هي السبب, الشرط, والعلة, والمانع.
والفقهاء عليهم رحمة الله تعالى يقسمّون الحكم الشرعي إلى قسمين فيقولون الحكم الشرعي على قسمين:
الحكم الأول: الحكم التكليفي: يشمل (الواجب, المندوب, والمحرم, المكروه, المباح) هذه أحكام تكليفية.
القسم الثاني: الحكم الوضعي: وهي (السبب, الشرط, العلة, المانع) هذه الأشياء كلها ستأتينا بإذن الله. وأدخل بعضهم مع الأحكام الوضعية (الباطل والصحة والفساد والقضاء والرخصة والعزيمة..الخ).
ثم قال في الكتاب (والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد):
يعني أن الفقه يتناول الأحكام التي طريقها الاجتهاد, أما الأحكام التي ليس فيها الاجتهاد هذه لا تسمى فقهاً تخرج منه مسائل العقيدة لأن أصول العقيدة لا اجتهاد فيها وعلى هذا لا تدخل في هذا التعريف.
وقول الناظم (التي طريقها الاجتهاد) هذا فيه نظر؟
لأن هناك مسائل طريقها الاجتهاد وليست من الفقه وهناك مسائل لا تحتاج إلى اجتهاد وهي من الفقه إذاً كيف نجيب على المصنف عندما قال طريقها الاجتهاد ؟(1/20)
نقول لعله أراد به على صيغة التغليب أي التي أغلبها طريق الاجتهاد ومبدأ التغليب (يعني بيان الحكم الغالب) مبدأ شائع عند الفقهاء وهو معروف, ثم قال (والأحكام الشرعية سبعة: الواجب, المندوب, المباح, المحظور, المكروه, الصحيح, الباطل), هذان حكمان وضعيان من الأحكام الوضعية وليس من الأحكام التكليفية كما تقدم, وعلى هذا نقول الأحكام التكليفية الشرعية خمسة (الواجب, المندوب, المكروه, المباح, المحظور) قال والأحكام سبعة قال وهي (الواجب, المندوب, المباح, المحظور, المكروه) أما قوله الصحيح والباطل هذه أحكام وضعية, ولذلك قال الناظم: ولم يفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية وإنما جمعهما.
إذاً الآن: كيف بدأ المصنف رحمه الله بالأحكام, المصنف وعدنا أن يعّرف أصول الفقه بتعريف إضافي ثم لقبي يعني (كلمة أصول الفقه جميعها) سوف نعرف معنى لقبي, لماذا ؟
أقحم هذه المسائل الأحكام (الأحكام الشرعية) نقول الآن لأن من عادة أهل الأصول أنهم إذا عرفوا شيء استغلوه بتعريف مفرداته ثم يشتغلون بما يشمل عليه هذا التعريف. ولهذا قال(والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد) وحق عليه أن يعّرف المعرفة وأن يعرف الأحكام والاجتهاد ليوضح التعريف ويذكر أحكام مفرداته ولذلك بعد ذكر هذه الأحكام سيتكلم عن الفهم والمعرفة والعلم كل هذه جرها قول كلمة معرفة ولذلك لن يتكلم عن التعريف والثاني أي التعريف اللقبي لأصول الفقه إلا في صفحة 39 تقريباً ناسب الآن أن يذكر أقسام الأحكام الشرعية.
الخلاصة:
في الأحكام الشرعية أنها على نوعين أنها على نوعين:
النوع الأول: أحكام تكليفية, وهي ما طلب من الناس سواءً كان أمر أو نهي وسواءً كان على سبيل الإيجاب أو الاستحباب أم غير ذلك والمباح يعتبر تكليف على أقل اعتقاد.
النوع الثاني: أحكام وضعية, هذه لا تتعلق بأمر ولا بنهي وإنما تتعلق بأحكام وإصدار قرار شرعي على الفعل هل هو صحيح أم فاسد ؟(1/21)
مثلاً عقد النكاح قد يكون صحيحاً أو يكون فاسداً أو باطلاً كذلك البيع هناك بيوع صحيحة وهناك بيوع فاسدة فهي أحكام وضعية لأنها حكم على أعمال الإنسان ومن أشهر أمثلتها عقود الوكالة والبيوع وسائر المعاملات وهنا يتعلق بهذا المبحث يعني (تقسيم الأحكام إلى قسمين) وهي أن الأحكام التكليفية والوضعية من المباحث التي يعتمد عليها لبيان شمولية الشريعة ومعرفة أحوال الناس, لأن الحكم الوضعي هو تطبيق للحكم التكليفي أحياناً, يعني يحكم على الشيء أنه فاسد إذا خالف الحكم التكليفي فيقال: هذا العقد صحيح لأنه استوفى الشروط وعكسه الباطل يعني نحكم على الشيء أنه خالف الشريعة, وهذا المبحث له علاقة بما يدار في فهم الواقع فلا يمكن الحكم على أي شيء إلا بعد معرفة حكمه فعلم بذلك أنهما (الأحكام الوضعية والتكليفية) يدلان على شمولية وسعة الشرعية الإسلامية فلله الحمد والمنة. فلعلنا نقف عند قول المصنف { أقسام الأحكام التكليفية, الواجب, فالواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه } .
يأتي الكلام عليه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى, والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
- الدرس السابع -
قال المصنف رحمه الله { أقسام الأحكام التكليفية, الواجب, فالواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه } .
أما الواجب في الاصطلاح فعرفه المؤلف بقوله { فالواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه } .
بمعنى لأن كل شيء يثاب على فعله شرعاً, ويعاقب على تركه فهذا هو الواجب.
ولكننا لو تأملنا هذا التعريف لوجدناه تعريفاً غير صحيح للواجب, وإنما هذا هو حكم الواجب في الحقيقة, لأنه لو قيل لنا ما حكم الواجب ؟ لقلنا بأن الواجب هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه, فعلى هذا ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى هذا تعريفاً حكمياً فالمصنف رحمه الله تعالى عرف لنا الواجب تعريفاً حكمياً فلم يصور لنا الواجب تصويراً صحيحاً لأن التعريف لابد أن يكون تصويراً للشيء.(1/22)
فلو قيل لأحدنا عرف الصلاة لقيل (هي ما يثاب على فعلها وعاقب على تركها) هذا حقيقة بيان لحكم الصلاة. ولذلك التعريف السهل للواجب عند الأصوليين هو ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً.
فالأمر عند العرب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الأمر الجازم.
القسم الثاني: الأمر غير الجازم.
والواجب نوعه من النوع اللازم ولذلك كان مستحقاً للعقوبة لما خالف هذا الأمر. وعلى هذا فإن التعريف الصحيح للواجب عند الأصولين هو (ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً) وهذا أصح من التعريف الذي قال به المؤلف.
والواجب نوعه من النوع اللازم.
وقوله (ما طلب الشارع فعله).
يخرج من هذا الذي طلب الشارع تركه وهو المحرم والمكروه لأن الشارع طلب تركهما لأفعلهما.
وقولنا (طلباً جازماً).
يخرج به المندوب لأن المندوب مطلوب فعله طلباً جازماً.
وقولنا أيضاً (ما طلب الشارع فعله).
يخرج المباح أيضاً لأن المباح لم يطلب فعله وإنما خير بين فعله وتركه فهو غير مطلوب أصلاً لا بالفعل ولا بالترك.
طيب عندنا مسألة هنا, فعلى هذا نقول أن قوله (ما طلب الشارع فعله) يخرج من ذلك (المحرم, والمكروه) لأنه طلب الشارع تركها ويخرج (المباح) لأن الشارع لم يطلب تركه وإنما خير بين فعله وتركه.
هنا مسألة:
مسألة (الفرض والواجب).
يعني ما الفرق بين الفرض والواجب هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق ؟
القول الأول: أن الفرض والواجب عند الفقهاء مترادفان يعني كل واحد منها يدل على الآخر سواءً قلنا هذا واجب أو هذا فرض فهما بمعنى واحد. هذا على مذهب الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى. فكل من الفرض والواجب يطلق على الآخر.(1/23)
القول الثاني: هذا قول الحنفية, فالحنفية رحمهم الله تعالى يفرقون بين الواجب والفرض يعني كل من الواجب والفرض طلب الشارع فعله طلباً جازماً إذاً ما الفرق عند الحنفية بين الفرض والواجب ؟ قالوا بأن الفرق باعتبار الدليل المثبت للحكم. قال الحنفية (إن كان الدليل الذي ثبت به الحكم دليل قطعي فإننا نسميه فرضاً, وإن كان ثابتاً بدليل ظني فإننا نسميه واجباً.. وعلى هذا عند الحنفية (الفرض عندهم أكد من الواجب) فيقولون (إن كلاً من الفرض والواجب عند الجمهور أنهما مترادفان أما الحنفية فيفرقون بينهما) يقولون كل من الفرض والواجب طلب الشارع فعله طلباً جازماً لكن الفرق عندهم باعتبار الدليل المثبت للحكم فقال الحنفية إذا كان الدليل الذي ثبت به الحكم دليل قطعي كالقرآن والمتواتر من السنة. فهذا يسمونه فرضاً, أما الواجب فهو ما ثبت بدليل ظني.
الظني كخبر الآحاد والقراءة الشاذة عند من يقول بحجيتها أو القياس " لأن القياس عند الحنفية من الأدلة الظنية كما سيأتي " .
مثال: القراءة الشاذة , قراءة عائشة " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " وكذلك قراءة ابن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " في كفارة اليمين, وكذلك قراءة ابن عباس " وكان إمامهم يأخذ كل سفينةٍ صالحة غصباً " فالفرض والواجب كلها واجبة ولكن الفرض أكد من الواجب والجمهور مع كونهم يسمونه فرضاً أو واجباً لا يعني أنهم يقولون أن الواجبات منزلة واحدة (يعني أنهما لفظان مترادفان ) فالواجبات متفاوتة.
منها ما هو أعظم في التشريع مثلاً " الصلاة واجبة, وإعفاء اللحية كذلك ".
لكن ترك الصلاة كفر وحلق اللحية ليس بكفر ولكنه كبيرة من كبائر الذنوب ".
وعلى هذا فكونهما واجبان لا يعني أنهما في منزلة واحدة وإنما التسمية باعتبار أنهما مطلوبان طلباً جازماً.
طيب الآن بالنسبة للجمهور وقولهم أن الواجب والفرض بمعنى واحد هنا لا أثر للتفريق عندهم إنما هناك سؤال الآن:(1/24)
ما أثر التفريق بين الفرض والواجب عند الحنفية ؟
" لأنهم هم الذين يفرقون ".
قالوا بأن أثر الفرق عند الحنفيين يبرز من وجهين:
الوجه الأول: قالوا أن منكر الفرض الذي ثبت بدليل قطعي يكفر ومنكر الواجب مبتدع ويفسق لكنه لا يخرج عن الملة وهذا مرجعه إلى الدليل لأن القطعي لا شبهة منه قالوا فمن جحده عناداً واستكباراً فحظه الكفر بينما الذي يثبت بالظن وهو الواجب قالوا بأن هذا مورد شبهة فقد يكون مشتبهاً عليه ووارداً عليه على غير المورد الذي أراده الله تعالى أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلذلك قالوا بأنه لا يكفر بذلك بينما الجمهور يقولون لا فرق كل من صح عنده الحكم بدليل صحيح سواء كان قطعياً أو ظني فإنه يكفر بجحوده, لأن الاعتقاد أعظم من باب الأعمال, كيف هذا ؟
يعني قد يحلق الإنسان لحيته وهو يعتقد وجوب الإعفاء, وأنه واجب إعفائها فهذا فاسق ولكن أو أنكر وجوب إعفاء اللحية وقد استبان له الدليل وظهر فهذا يكفر بذلك لأنه رد شيء مما جاء به الله تعالى أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - سواء كان دليله ظنياً أو قطعياً لأن الذي تعبدنا بالدليل القطعي هو الذي تعبدنا بالدليل الظني, ولذلك الجمهور يقولون كل ما ثبت له الحكم ثم جحده كفر بذلك ومن أشتبه عليه واجتهد فيه وهو من أهل الاجتهاد ورأى أنه غير واجب فإنه يكفر بل الجمهور يبدعونه أيضاً.(1/25)
الفرق الثاني: أنه إذا كان في عبادة وترك فيها شيء فرض, قال الحنفية تبطل العبادة بذلك لكنه لو ترك واجباً لا يبطلها لكنه مع الإثم " يرون أنه يأثم فقط لأنه تساهل بذلك " وهذا رقة في الدين مثال على ذلك الحنفية (لاحظي كيف أثر التفريق) يقولون بأن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة لأنها تثبت عندهم بدليل ظني ولذلك يرون أنه إذا لم يقرأ الفاتحة في صلاته فإنهم يرون أن صلاته صحيحة, نعم هو يأثم بذلك وربما يلاقي الله - عز وجل - على صورة سيئة ولكن صلاته صحيحة, لماذا ؟ تقعيداً على قولهم " أن تارك الواجب إذا كان وسط عبادة لا تبطل العبادة " لكن قالوا أن حكم قراءة ولو آية في الصلاة من القرآن قالوا بأن هذا فرض لأن هذا ثبت بدليل قطعي الأمر به لقوله تعالى { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } (1), فعلى هذا لو لم يقرأ شيء لا الفاتحة ولا غيرها فحكم صلاته باطلة عند الحنفية لكنه لو ترك قراءة الفاتحة عند الحنفية وقراءة لو آية واحدة من القرآن قراءة مثلاً ولو { مُدْهَامَّتَانِ } (2) فصلاته صحيحة وهذا عجيب لأن قراءة شيء من القرآن في الصلاة أكد عند الحنفية من قراءة الفاتحة لأنه ثبت بدليل قطعي وقراءة الفاتحة واجبة وليست فرض لأنها بخبر واحد وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } وهذا عجيب.
وهنا نرجع إلى سؤال إحدى الأخوات في الأسبوع الماضي حينما ذكرت: أثر الاختلاف في المسائل الفرعية بناءً على التقعيد في الأصول هذا من الآثار. أختي الكريمة وعلى هذا من يقرأ مثلاً في الفروع وقرأ مثلاً قول الحنفية هذا يتعجب, كيف يرون الحنفية أن ترك الفاتحة لا تبطل به الصلاة بينما عدم قراءة ولو آية واحدة بأن ذلك يبطل الصلاة فهم من ذلك أن اختلاف أهل العلم رحمهم الله في المسائل الفرعية مبني على اختلافهم في المسائل الأصولية.
__________
(1) المزمل: من الآية20).
(2) الرحمن:64).(1/26)
ولا شك أن الراجح في هذه المسألة الله أعلم هو قول الجمهور, هو أنهما بمعنى واحد وأنهما من الألفاظ المترادفة.
مسألة:
ما هي الألفاظ التي إذا وردت في الشرع دلت على الوجوب ؟ وهذه الألفاظ نستفيد منها في ترجيح حكم على حكم, يعني لو حكم في المسألة خلاف وأردنا أن نرجح حكم على حكم فإننا نستفيد من هذه الألفاظ.
1. أما اللفظ الأول: فعل الأمر " إفعل " كقوله تعالى { أَقِمِ الصَّلاةَ } (1) هذا فعل أمر يدل على الوجوب مباشرة على القول الراجح سواءً كان مفرداً " أقم " أم مثنى " أقيما " أو جمع " أقيموا " .
2. اللفظ الثاني: المصدر الذي ينوب عن فعل الأمر كقوله تعالى { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } (2) ضرب مفعول مطلق مصدر لكنه ناب عن فعل الأمر أصل الجملة " فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوهم ضرب الرقاب " .
3. اللفظ الثالث: الفعل المضارع المقترن باللام مثل قول الله - عز وجل - { لِيُنْفِقْ } (3) "فينفق " هذا فعل مضارع فإذا جاءت قبله اللام دلت على الحث والطلب كما في قول الله سبحانه وتعالى { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } (4).
4. اللفظ الرابع: أن يبين أن هذا الأمر متحتم ولازم كما في قوله سبحانه وتعالى { كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً(5) } أي أمراً واجباً.
__________
(1) الاسراء: من الآية78).
(2) محمد: من الآية4).
(3) الطلاق: من الآية7).
(4) الحج: من الآية15).
(5) مريم: من الآية71).(1/27)
5. اللفظ الخامس: أن يخبر الله سبحانه وتعالى أنه مكتوب علينا كما في قول الله - عز وجل - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } (1), وكما في قول الله - عز وجل - { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } (2), وكما في قوله النبي - صلى الله عليه وسلم - { خمس صلوات كتبهن الله } أي فرضهن , فإذا أخبر الله - عز وجل - أنه مكتوب فهذا يدل على الوجوب.
6. اللفظ السادس: الإخبار بأن الله تعالى قضاه وقدره كما قال سبحانه وتعالى { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً(3) } أي أوجبه وأمر به.
7. اللفظ السابع: أن يأتي أمر يتوعد على تركه, فإذا توعد على تركه دل على وجوبه لأنه لا يتوعد على ترك مندوب ولا على ترك مباح كما قال سبحانه وتعالى { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً(4) } لماذا غيا ؟ لأنهم أضاعوا الصلاة يدل على وجوبها.
هذه هي الألفاظ التي إذا وردت في الشرع دلت على الوجوب فعلى هذا إذا كانت الأخت طالبة العلم تقرأ في القرآن أو السنة ومرَ عليها فعل الأمر " إفعل " أو المصدر الذي ينوب عن فعل الأمر, أو الفعل المضارع المقترن باللام أو أنه يبين أن هذا الأمر متحتم ولازم أو يبين أنه مكتوب أو الأخبار بأن الله تعالى قضاه, القضاء بمعنى الوجوب ليس بمعنى القضاء والقدر أو أن يأتي أمر يتوعد على تركه فإذا توعد على تركه دل على وجوبه لأن ترك المندوب وترك المباح لا يتوعد الإنسان على تركهما.
ثم قال رحمه الله (ثانياً المندوب) وثالثاً (المباح) , والمندوب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه والمباح ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
لعلنا نقف إلى هذا الحد.
__________
(1) البقرة: من الآية183).
(2) البقرة: من الآية216).
(3) الاسراء: من الآية23).
(4) مريم:59).(1/28)
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الثامن -
قال المصنف { والمندوب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه والمباح ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه } .
المندوب في اللغة: المدعو إليه, لأن الندب في اللغة من الدعاء على حد قول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في التائبات على ما قال برهان
أي لا يسألون أخاهم حين يدعوهم إلى هذا.
والمندوب في اللغة: الأصل أن نقول المندوب إليه ما نقول المندوب فقط, ولكن حذف الجار والمجرور قالوا: للاختصار وللعلم به وإنما قلنا: أن الأصل أن يقال(المندوب إليه) لأن الواجب لا يحتاج إلى إضمار لكن المندوب يقال مندوب إليه أي المندوب إلى فعله, لأن مما يعدى بحرف الجر فلابد من وجوده.
في الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه, وهذا كما سبق تقدم في تعريف الواجب أن هذا من باب التعريف بالحكم, يعني هذا تعريف الحكم المندوب ليس تعريفاً له.
أما التعريف الصحيح فيقال: أن المندوب ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازماً.
فهو يفارق الواجب من جهة واحدة, وهي أن الواجب طلب الشارع فعله طلباً جازماً والمندوب طلب الشارع فعله, لكن غير جازماً, يعني الواجب طلب الشارع فعله على وجه اللزوم, وهنا طلب الشارع فعله على سبيل غير اللزوم يعني ليس لازماً, ويخرج بقولنا ما طلب الشارع فعله يخرج من ذلك المباح, لأن المباح ما خير الإنسان بين فعله وتركه, ولم يطلب الشارع فعله إنما الإنسان مخير فيه, كذلك يخرج المحرم والمكروه, لأن كلاً منهما طلب الشارع تركه وليس فعله.
مسألة:
ما هي الألفاظ التي تدل على الندب, أي التي جاءت في القرآن والسنة دلت على إن هذا الفعل المندوب يعني مستحب ؟(1/29)
الأول: قال الفقهاء إن أصل كلمة (أفعل) يعني فعل الأمر التي هي من ألفاظ الوجوب. أيضاً تدل على الندب, لكن بشرط أن يقترن هذا الفعل (فعل الأمر) بدليل آخر يصرفه من الوجوب إلى الندب, إذا أتت كلمة (أفعل) لوحدها لا نستفيد منها إلا للوجوب لا للندب, ولا نستفيد منها للندب إلا إذا وجد صارف يصرفه من الوجوب للندب.
مثال ذلك:
أن يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحابته بشيء ثم يتركه مره, فتركه مرهلا يدل على النسخ كما يتوهم البعض, فالنسخ كما يقول العلماء ثقيل ويجب على المجتهد العالم أن يحرص حرصاً شديداً ألا يذهب إلى النسخ يعني لا يقول هذا الحديث منسوخ, لماذا ؟
لأن النسخ إبطال للنص, هذا يسير كل إنسان يقول هذا, لكن العالم لا يلجأ إلى النسخ إلا كحل الميتة, لماذا ؟
لأن من شأن العالم المجتهد أن يعمل الدليل بقدر الإمكان, أي بقدر الإمكان يستفيد من الدليل, ولذلك قالوا: إن الشيء إذا أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -, ثم تركه مره يدل على أنه سنه أي مندوب مع أنه أمر به, ما الذي صرفه من الوجوب إلى الندب ؟ الدليل, ما هو الدليل ؟ كونه تركه مرة, لو كان واجب ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ورد دليل.
مثال ذلك: قول الله - عز وجل - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ(1) } .
__________
(1) البقرة: من الآية282).(1/30)
الآن كلمة(فاكتبوه) فعل أمر, لو لم يرد في الكتابة إلا هذه الآية لفهمنا أن كتابة الدين واجبة, لكن لما علمنا من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - على ضوء الأحاديث المتواترة سواء في بيعه وشرائه ووصيته للصحابة بالشراء وأنهم يشترون ولا يكتبون دل ذلك على أنه ليس بواجب, لأنه لا يكون واجباً ويتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - حاشاه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي, حتى إن بعض الفقهاء قالوا: بأن قول الله - عز وجل - { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } قالوا: هذا تحويل من الوجوب إلى الندب, لماذا ؟
لأنه قال { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } ولم يقل (ليكتباه) وإنما أمر بالأداء فقط.
اللفظ الثاني: أن يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سنه, كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان { فرض الله عليكم صيامه, وسنت لكم قيامه } هذا يدل على أن القيام مندوب وليس بواجب.
هنا مسألة:
المندوب يسميه الأصوليون مندوباً والفقهاء يسمونه سنه. فإذا قرأت في كتب الفقه قولهم (سنه) فإنهم يريدون المندوب, أهل العقيدة إذا أطلقوا لفظ السنة لا يريدون بها الاصطلاح الفقهي, وإنما يريدون بها ما يقابل البدعة, وعندما يقال فلان سني فليس المراد أنه يكثر النوافل وإنما المراد أنه ليس من المبتدعة ويقولون مثلاً سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقصدون بها الموافق للشريعة لأنهم في باب العقائد الذي لا يوافق الشريعة من البدعة, ولذلك حملوا قول ابن عباس في تفسير قول الله - عز وجل - { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } (1) , قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة, لاحظي جعل السنة في مقابل المبتدعة وهذا هو الإطلاق المتعارف عند أهل العقيدة (أن السنة تكون في مقابل البدعة).
__________
(1) آل عمران: من الآية106).(1/31)
المندوب يسمى (سنة) ويسمى (مستحب) ويسمى(تطوعاً) ويسمى (نافلة) ويسمى (فضيلة) و(إحساناً), (أحساناً وفضيلة) ليسا بمشهورين وإنما المشهور من الألفاظ هو المندوب والسنة ثم يأتي المستحب والتطوع, وأما قوله (فضيلة وإحسان) ليسا بمشهورين.
أيضاً من المسائل:
أنواع المندوب.
المندوب على قسمين:
1- السنة المؤكدة. 2- السنة الغير مؤكدة.
ما هو ضابط كلا منهما ؟
قالوا هي التي واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها ولم يتركها أبداً إلا لعذر مثل ركعتي الفجر, والوتر, وكذلك العقيقة عند من قال أنها سنة, والعيد, والكسوف عند من قال أنها سنة على خلاف فيهما هل هما سنة أو واجب نحن كما قلنا في أصول الفقه نمثل لسنا نبين أحكام شرعية فلتنتبه الأخوات فكثير من الأخوات عند دراسة الأصول تسأل هل هذا هو الراجح أو ليس هو الراجح ؟ نحن نمثل تمثيل على قول قد يكون مرجوحاً وإلا فصلاة العيد واجبة في الصحيح, وإن كانت ليست كوجوب الفريضة, أي لا يكفر تاركها لكن تنتبه الأخوات أننا نمثل قد يكون التمثيل على قول مرجوح.
أما ضابط السنة الغير مؤكدة:
فهي التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن علم من أحواله أنه لا يواظب عليها دائماً يعني أحياناً يتركها ويفعلها أحياناً أخرى كصلاة أربع ركعات قبل العصر مثلاً, والركعتان اللتان قبل المغرب, أيضاً سنة القدوم من السفر هذه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها تارة ويتركها تارة.
مسألة:
إذا بدأ الإنسان في المندوب هل يلزمه الإتمام ويحرم عليه القطع أو أن له أن يتم وله أن يقطع ؟
مثل لو صام الإنسان نفل, هل لابد إذا شرع في الصيام أن يتمه الإنسان صومه أم أنه مخير ؟ فالجمهور قالوا بأنه مخير.
وخالف قي ذلك وهو القول الثاني الحنفية قالوا: بأن هذا الشيء الأصل أنه مندوب مستحب لكن لما شرع فيه تحتم عليه وأصبح واجباً عليه وليس له خيار في قطعه.(1/32)
الجمهور الذين قالوا بأنه مخير لا يقولون بذلك على الإطلاق وقالوا بأن كثرة قطع النوافل دليل على رقة في الدين والأولى بالمؤمن ألا يفعل ذلك, قالوا: بأنه لو فعله لحاجة فإنه لا يأثم, قالوا كما أنه ابتداء له الفعل والترك, فإنه إذا شرع لق الفعل والترك, لأن الأصل الفعل أو الترك.
دليل الجمهور حديث أم هاني رضي الله عنها كما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر } قوله إن شاء صام, يعني استمر ولأن شاء أفطر أي قطع قالوا هذا يدل على إن النافلة تسمى تطوعاً, لماذا ؟ لأنه قال (الصائم المتطوع) فقالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه في صوم النافلة يكون الإنسان مخير بين الإتمام وبين القطع قالوا: فإذا جاز هذا في الصوم فقد جاز في سائر العبادات.
دليلهم الآخر قالوا: قبل المباشرة, أي مباشرة هذا الفعل فالإنسان مخير بين الفعل وبين الترك كذلك بعد المباشرة فلإنسان مخير بين ذلك يعني لا أحد يستطيع أن يقول إن صيام النفل واجب, لماذا ؟
استصحاباً لأصل وهو أن التطوع الإنسان مخير فيه قالوا يجب علينا أن نستصحب هذا الأصل وهو أنه مندوب فيه يعني لم يتغير من الحكم شيء قبل الشروع فيه أو بعد هكذا قالوا.
الحنفية يستدلون بعمومات أدلة ليست نص في المسألة ولعل هذا مما يضعف أدلتهم, من أدلتهم قالوا إن الله تعالى نهانا عن إبطال الأعمال لقوله - عز وجل - { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ(1) } , وقالوا: إن قطع الصلاة بعد الشروع بها إبطال على مذهبهم فقالوا: هذا يكون منهي عنه, وقالوا: ليس هناك معنى للنهي عن الإبطال إلا لكونها قد انتقلت إلى واجبة.
__________
(1) محمد: من الآية33).(1/33)
وأجاب الجمهور على هذا وقالوا: إن المراد بقوله تعالى { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ليس المراد منه عدم قطعها وإنما المراد عدم إبطالها بالرياء, لأن العمل قد تبقى صورته نسأل الله العافية ويحبط بالمراءاة كما لو تصدق ب 50 أو 60 ريال رياء وسمعة صورته باقية ولكن العمل حابط, قالوا إن المراد بهذه الآية النهي عن إبطالها بالرياء, ثم قال: الجمهور أيضاً لنفرض إن هذه الآية نص في النهي عن القطع قالوا إلا أننا نستثني منه المندوب بالدليل, يعني قالوا لو تنزلنا الآية وقلنا إن الآية تدل على النهي عن إبطال العمل كما قال الحنفية, قالوا فإننا نستثني من ذلك المندوب, لماذا ؟ قالوا الدليل, وما هو الدليل ؟
قالوا إن قول الله - عز وجل - { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } دليل عام لكل الأعمال وقوله { الصائم المتطوع أمير نفسه } استثناء ولذلك قالوا: نعمل العموم وهو أنه لا يجوز إبطال الأعمال إلا التطوع يعني أي عمل يقوم به الإنسان لا يجوز إبطاله إذا كان واجباً ونستثني من ذلك التطوع فعلى هذا يرون إن حديث أم هاني مخصص قالوا إذا سلمنا بطريقتكم أن العبادات لا يجوز قطعها فإن حديث أم هاني يكون تخصيصاً أيضاً من أدلة الحنفية يقولون إن العبادة "هذا تعليل " إذا شرع فيها الإنسان أصبحت حقاً لله - عز وجل - وحق الله يجب أن يصان عن الإبطال وهذا تعليل وجيه جداً, ولذلك الحنفية هم أئمة التعليل عند أهل السنة والجماعة تعليلهم قوي لو لم يرد إلا هذا الدليل لكان مقنعاً, لكن يجاب عن ذلك وهذا يستفاد منه في قضية الجمع بين الأدلة والتعارضات.(1/34)
انتبهي هذا صحيح نعم, ولكن نقول أننا لا ننظر إلى هذا التعليل, لماذا ؟ لأنه في مقابل النص, ما هو النص ؟ النص حديث أم هاني, لكن خذيها قاعدة إذا تعارض الدليل والتعليل فإنه يقدم الدليل وعلى هذا ما يكتب بعض المستصحفين في الصحف الذين لا يعرفون من الشريعة إلا رسومها أما أنهم لو كانوا من الطير لكانوا رخما ولو كانوا من الحيوانات لكانوا حمرا هذا الوصف الذي ينطبق عليهم لأنهم رخمّ الطيور لا يقعون إلا على الجيف والحمر بالنسبة للحيوانات لفرط غبائهم, فنجد أن هؤلا المستصحفين وأنصاف الكتاب يعللون باقيستهم الفاسدة وعقولهم الباطلة وشيخهم في هذا من استقدموه وهو لا يؤمن بالله رباً ولا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ولا بالإسلام ديناً وهو (كلينتون) عندما قدم ويحق لهؤلا أن يقال لهم: هذا (كلينتون) أتاكم يعلمكم أمر دينكم, فقد أتاهم يعلمهم أمر دينهم المحرف, فنجد أنهم يقيسون باقيستهم الفاسدة وعقولهم الممجوجة, وجنوا على الشريعة جناية لا يعلم مداها إلا الله - عز وجل - , وكل هذا تحت مسمى أنه ليس في الإسلام رجال دين, ونحن نقول صدقتم ولكن فيه علماء دين يذبون عنه ويوضحون مشكلة ويبينون متشابهة, فهل يفقه هؤلا المستصفحون مثل هذه القضايا وهذه القواعد الجميلة ؟ هل يفقهون أن العقول إذا تعارضت مع النقول دل ذلك على ضياع العقول وليس النقول, إذا تعارض مع العقل دل على ضياع العقل وإذا توافقا دل ذلك على صحة العقل, ولكن كثيراً ما يقيسون باقيستهم الفاسدة ويعللون بتعليلاتهم الممجوجة والله تعالى المستعان.
فعلى هذا نقول يا طالبة العلم بأنه إذا تعارض الدليل والتعليل, فإنه يقدم الدليل ولذلك فالراجح في المسألة إن النفل يستمر نفلاً حتى بعد الشروع فيه.
ما ثمرة الخلاف بين الفريقين ؟(1/35)
الثمرة هي أولاً: الجمهور يقولون إذا شرع فيها استمرت نافلة فيها أي في النافلة, والحنفية يقولون أنه إذا شرع في النافلة انتقلت إلى واجبة, لأن كل خلاف فيه ثمرة, لأنه لو لم يكن فيه ثمرة لعد ذلك لجاجاً وخصومه, والخلاف الذي ليس له ثمرة لا يعد خلافاً وإنما يعد اختلافاً.
الثمرة الثانية: الجمهور قالوا إذا قطعها لا يأثم, لماذا ؟ لأن له الفعل وعدم الفعل, والحنفية قالوا: بأنه يأثم بقطعها لأنه قطع واجب ويجب عليه القضاء يعني لو كبر الإنسان للوتر ثم قطعها فقد اشتغلت ذمته يجب عليه الإعادة ويأثم على الترك, لماذا ؟ على أنها انتقلت إلى واجبة عندهم بينما الجمهور يقولون لو قطعها لا يعيد ولا يجب عليه القضاء لكن هناك نوعان من العبادات استثناها الجمهور بالنص وقالوا إذا شرع فيهما وجبا وهما الحج والعمرة لأنهما خارجان عن الدليل, ما هو الدليل ؟ (الصائم المتطوع أمير نفسه) هذا عام في كل النوافل إلا الحج والعمرة لقوله - عز وجل - { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } (1), دل على أنه إذا شرع في الحج والعمرة وجب الإتمام, لأن قوله { وَأَتِمُّوا } غير { افعلوا), لماذا ؟ ما الفرق بينهما ؟
الفرق هو أن الفعل يكون الأمر به قبل الابتداء والأمر بالإتمام يكون بعد الابتداء ولذلك إذا حج الإنسان أو اعتمر نافلة بالنسبة للحج لو فعل مفسدا كالجماع قبل التحلل الأول هناك قول من يرى أنه يقضيه من العام القادم لأنه لما تلبس بالنافلة انتقل إلى واجب في الحج والعمرة وعلى هذا نقول أنه دليل (الصائم المتطوع أمير نفسه) دليل عام, لكن خصص منها الحج والعمرة حتى عند الجمهور بدليلهم الخاص وإذا شرع فيها الإنسان وجب عليه إتمامها.
ونقف عند قول المصنف رحمه الله تعالى والمباح ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس التاسع -
__________
(1) البقرة: من الآية196).(1/36)
قال المصنف رحمه الله { والمباح ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه } .
هذا هو تعريف المؤلف للمباح وقد سلك المؤلف رحمه الله في هذا التعريف المسلك الذي ارتضاه في تعريف الأحكام التكليفية كلها وهو كما تقدم تعريفه باعتبار حكمه مع أنه تقدم إن هذا التعريف منه فيه نظر.
الإباحة في اللغة هي الإعلان, نقول باح فلان بسره أي أعلنه ويطلق المباح ويراد فيه المأذون في فعله كأن تقولي مثلاً: أبحت لق أن تأكلي من ثمر بستاني, أو مثلاً أن تقولي أبحت لق أن تدخلي داري أي أذنت لق بهذا الفعل, وإذا تأملت يا طالبة العلم وجدت إن الإباحة في المعنى الاصطلاحي مأخوذ من الثاني وهو الإذن لأن المباح في الأصل مأذون في فعله وفي تركه ولذلك سمي مباحاً وعلى هذا فالمباح باعتبار الحقيقة لا الحكم لأن المؤلف عرفه باعتبار الحكم بأنه (ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه).
إذا فالمباح باعتبار الحقيقة:
هو ما خير الشارع بين فعله وتركه, والمراد بذلك أن الشارع ليس له أمراً جازما فيه ولا بطلب فعل ولا بطلب ترك, وليس له أيضاً أمر بطلب غير جازم بفعل ولا بغير فعل وإنما أبيح من حيث المعنى اللغوي في الفعل والترك وجعل الشارع الفعل وعدمه إلى خيرة المكلف ولذلك خيره أن يفعله أو لا يفعله.
لكن انتبهي يا طلبة العلم !
كونه خيره هل يفعل أو لا يفعل ليس له معنى إلا أنه لا يترتب عليه إثابة ولا عقوبة. لأنه ما معنى التخيير ؟
معناه أن يكون عديم الأثر من حيث الإثابة ومن حيث العقاب, لأنه لو كان يترتب عقاب على الفعل أو الترك لما كان مخيراً وكذلك لو كان يترتب عليه إثابة بفعله أو تركه لما كان مخيراً أيضاً.(1/37)
لذلك التعريف الصحيح أن يقال ما خير الشارع بين فعله وتركه, هذا تعريف باعتبار ذاته تعريف المؤلف بقوله { والمباح ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه } مع أنه تعريف بالحكم إلا أنه تعريف قاصر, يعني المؤلف رحمه الله تعالى مع أنه عرف المباح بالحكم إلا أنها قصرت عبارته في ضبطه الضبط الحقيقي, لماذا ؟
لأنه قال ما لا يثاب على فعله, هنا سؤال هل يثاب على تركه ؟
لا, لا يثاب على تركه, إذاً تعريفه ناقص ثم قال { ولا يعاقب على تركه } هنا أيضاً سؤال هل يعاقب على فعله ؟
لا, لا يعاقب على فعله, إذاً كان الأولى بالمصنف أن يقول (ما لا يثاب على فعله وتركه ولا يعاقب على تركه وفعله) هذا التعريف الأصح, لماذا ؟ لأنه ربط عدم الإثابة بالفعل وربط عدم المعاقبة على الترك والصحيح أن الإثابة والمعاقبة مرتبطة بهما جميعاً بمعنى أن الإنسان لا يثاب على الفعل ولا على الترك.
قول المصنف (ما لا يثاب على فعله) قد يدخل فيه المكروه, لماذا ؟
لأن المكروه لا يثاب على فعله, وقوله (ولا يعاقب على تركه) قد يدخل في المندوب, لماذا ؟
لأنه لا يعاقب على تركه.
ولذلك كان الأصح أن يقول أن المباح (ما لا يثاب على فعله وتركه ولا يعاقب على فعله وتركه).
المباح لما كان الإنسان مخير في فعله كانت لا تتعلق فيه أحكام أبداً, ما يتعلق به حكم أبداً بالترك ولا بالفعل, فتكون الصور أربع, المصنف ذكر صورتين:
المصنف ذكر صورتين:
1- ما لا يثاب على فعله. 2- ولا يعاقب على تركه.
فنقول لا, الصور أربع:
1- عدم الإثابة على الفعل. (هذه ذكرها المصنف).
2- عدم المعاقبة على الفعل. (هذه ما ذكرها المصنف ولذلك قلنا الصحيح ما لا يثاب على فعله وتركه).
3- عدم الإثابة على الترك. وهذه ذكرها المصنف بقوله (ولا يعاقب على تركه).
4- عدم المعاقبة على الترك.(1/38)
تكون الصور أربع لو اختلفت واحدة من هذه الصور الأربع لم يكن مخير ولذلك الأجمع في الحكم أن نقول كما قلت على التعريف بالحكم, أن نقول (ما لا يثاب على فعله وتركه ولا يعاقب على فعله وتركه).
مسألة:
ما هي ألفاظ الإباحة ؟ أي ما هي الألفاظ التي إذا جاءت في القرآن والسنة دلت على الإباحة ؟
نقول جاءت في القرآن الكريم والسنة المطهرة ألفاظ كثيرة تدل على الإباحة منها:
لفظ (إفعل) إذا صُرفت من الوجوب إلى الإباحة دلت على الإباحة, يعني لفظ (إفعل) في الأصل هو من ألفاظ الوجوب لكن وجد صارف.
صرفه من الوجوب إلى الإباحة, كقول الله - عز وجل - { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } (1) قوله { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } الأصل أنها للوجوب ولكن لما قال { وَلا تُسْرِفُوا } دل على إن الأول مأذون فيه يعني(الأكل والشرب) وإن الثاني هو المنهي عنه { وَلا تُسْرِفُوا } أي الإسراف, ولذلك { وَلا تُسْرِفُوا } هذه للتحريم { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } للإباحة , وإنما انتقل من الوجوب للإباحة للقرينة الصارفة.
أيضاً من الألفاظ النص على الحل:
يعني بأن تأتي الآية أو الحديث بالنص على الحل كقوله { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } (2), وقوله { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً } (3) وقوله تعالى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ(4) } , وقوله { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } (5).
ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - { أحل لنا ميتتان ودمان } وهكذا مشتقات حلل كلها, أحل أو حل أو حلال ونحو ذلك.
أيضاً من الألفاظ نفي الإثم عن الكلف:
__________
(1) لأعراف: من الآية31).
(2) المائدة: من الآية5).
(3) النحل: من الآية114).
(4) المائدة: من الآية5).
(5) البقرة: من الآية187).(1/39)
كما في قول الله - عز وجل - { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } (1) إذا نفي الإثم دل على الإباحة.
كذلك من الألفاظ نفي الحرج:
وهذا يدل على إباحة الفعل لمن نفي عنه الحرج, سواء كان نفي الحرج للأمة كلها أو لفئه من الناس معينة, كما في قول الله - عز وجل - { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ(2) } فإنها تدل على إباحة عدم الخروج لهؤلا إلى الجهاد استثناءاً من غيرهم وكل نفي حرج في الشريعة يدل على أنه مباح إلا ما دل الدليل على عدمه كما في قوله - عز وجل - { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ(3) } .
قوله { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أحياناً يأتي نفي الحرج لكن ما يدل على الإباحة في هذه الآية الآن القصر من الصلاة فلو لم يرد إلا هذه الآية لدل على أن القصر مباح لكن جاءت الأدلة الأخرى من قوله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله أو أمره على أنه سنة أو واجب على الخلاف المشهور والصحيح إن أقل أحواله الكراهة يعني يكره الإتمام في السفر مع أن الحنفية قالوا: يحرم الإتمام في حال السفر ولذلك فعلى المرأة إذا صلت في سفر في شقة أو في بيتها ولم تصل مع الإمام أن تقصر الصلاة وعلى هذا نقول نفي الحرج يدل على الإباحة إلا إذا جاء دليل آخر يبين أن نفي الحرج لعدم الوجوب فقط, يعني هنا لو لم يأت إلا هذه الآية لقيل إن القول مباح لكن جاءت الأدلة الأخرى من قول - صلى الله عليه وسلم - وفعله وأمره على أنه سنة أو واجب على أنه الخلاف المشهور.
أيضاً من الألفاظ الاستصحاب:
__________
(1) البقرة: من الآية173).
(2) النور: من الآية61).
(3) النساء: من الآية101).(1/40)
يعني باستصحاب الأصل أي إن الله - عز وجل - لما أخبرنا أن الأصل بكل ما خلق على الأرض كله مباحاً لنا كما قال الله - عز وجل - { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً(1) } دل على أنها مباحة يجوز استعمالها وأكلها وشرب مشربها..الخ هذا هو أصلها إلا إذا دل بشيء على إن هذا الشيء واجب أو مكروه أو مندوب أو محرم يعني الأصل في الأشياء التي خلقها الله - عز وجل - أنها مباحة وعلى هذا انتبهي يا أختي: إن الناقل لأي شيء من معطيات الحياة من الإباحة إلى أي حكم أخر يحتاج إلى دليل, يعني قد يتنازع الناس على نوع من أنواع الجبن مثلاً فيقول هذا الجبن فيه شحم خنزير, من المطالب بالدليل ؟ المطالب هو المحرم, لماذا ؟
لأن الأصل أن هذا الشيء مباح لأن هذا استصحاب للأصل والله سبحانه وتعالى امتن علينا فقال { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } ولا يمتن الله - عز وجل - على عباده إلا بشيء مباح , هذا هو الأصل ولذلك عندما تقرئين الآن كتاب الأطعمة في الفقه تجدين أنهم جعلوا ضوابط للحيوانات المحرمة ما جعلوا للحيوانات المباحة دليل على أن الباقي كله مباح ولذلك الذي يطالب بالليل هو الناقل من الحل إلى الندب أو إلى الكراهة أو إلى الوجوب أو إلى التحريم.
ما الدليل على أنه مباح ؟ الدليل عدم الدليل.
لأننا سنستصحب أصل هذه المنافع والأصل فيها الإباحة والقول بأنها واجبة أو مندوبة أو محرمة هذا لابد من دليل ينقلها عن الإباحة وهي الأصل. ولذلك لا يستحسن للإنسان أن يسأل عن كل مسألة بعينها, مثلاً يقول أعطي دليل على جواز لبس النظارة مثلاً, لا يجب أن يقول أعطني دليل على تحريمها لأن الدليل عندنا استصحاب الأصل فيها الإباحة وأيضاً العقل السليم يدل على هذا يعني يدل على أن الشيء إذا ثبت على صورة معنية الأصل بقاءه واستمراره حتى يأتي المغير.
مسألة:
__________
(1) البقرة: من الآية29).(1/41)
مسألة حكم المباح ؟ المباح في أصله لا أجر فيه ولا عقاب, لماذا ؟
لأننا قلنا أنه لا يثاب على فعله وتركه ولا يعاقب على فعله وتركه ومن هذا استخلصنا أنه لا أجر فيه ولا عقاب ولكن انتبهي يا طالبة العلم قد يؤجر الإنسان على فعل مباح ويعاقب على فعله لأمر خارج, كيف ذلك ؟
قال الفقهاء: إذا كان المباح وسيلة إلى مقصود شرعي أخذ بحكمه وهذا ما يعبر عنهم بقولهم {الوسائل لها أحكام المقاصد}.
المباح إذا كان وسيلة لقربه أي يتوصل بها إلى عبادة فإنه يؤخذ حكمها وهذا يشترط فيه النية الصادقة لقربه أما إذا جاء به هكذا فإنه لا يؤجر عليه وانتبهي يا طالبة العلم إذا أمر مهم جداً, ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية } لماذا خص النية ؟
لأن النية يا طالبة العلم خاصة في المباحات إذا غفل الإنسان عن هذا الشيء يفوته أجور كثيرة جداً لأن الإنسان إذا فعل مباحاً واستحضر به أن يتوصل به إلى عبادة فإنه يكون قربه بنفسه.
مثلاً: هذا إنسان نام مبكراً وحكم النوم مبكر لأنه مباح ولكنه إذا استحضر النوم مبكراً أنه يقوم إلى الصلاة نشيط فإن هذا النوم يتحول إلى عبادة ويثاب عليه وهذا من باب عظيم جداً يجب أن يدركه الإنسان في الأمور غير التوقيفية (أي التي جاء النص عليها).
الأمور التوقيفية التي ورد فيها النص ووقف فيها الشارع الأحكام على مقاصدها لا يجوز أن تستخدم فيها المباحات وسائل للعبادات.
ولكن في غير التوقيفية, مثلاً وسائل الدعوة ألآن نسمع الخرط الكثير, هل هي توقيفية أو غير توقيفية ؟
ويتنازع كثير من الناس في هذه المسائل, نسأل هذا القائل ما المراد بقولك توقيفية؟(1/42)
إذا كان يقصد بقوله توقيفية إنه لا يفعلها إلا على الصورة التي يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - كالصلاة والزكاة, هذا غير صحيح ؟ لأن الصلوات والزكوات هذه جاء بها النص منتهي منها هذه ونحن نتكلم عن وسائل الدعوة, فإن كان يقصد بقوله توقيفية إن الدعوة لا تمارس إلا على الطريقة التي مارسها النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يصح, لأن مثل هذا يناقض نفسه, كيف ؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤلف كتب, هذا يؤلف كتب ويدعوا عن طريقها كذلك الشريط واستخدام الهاتف في الدعوة والسيارة والأجهزة الحديثة وإنه قصد بقوله توقيفية أنها عبادة وإنه لا يجوز أن يتوصل إلى هذه العبادة بطريقة محرمة ولا مكروهة نقول نعم وبناء على هذا ينظر في الوسيلة, فالغاية ربما لا تبرر الوسيلة يعني بعض الناس ربما يدعو بوسيلة محرمة, مثلاً بعض الناس ربما ترى على فلانه من الناس تقصير فتذكر أنها رأت فيها رؤيا طيبة وهي كاذبة في ذلك, كذلك ولما قيل لها ذلك قالت لعلها ترتدع, هذا لا يجوز.
لأن هنا قلنا أن وسائل الدعوة توقيفية بمعنى أنه لا يدعى بوسيلة محرمة ولا مكروهة, وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { من تحلم حلما كلف إن يعقد بين شعيرتين يوم القيامة وليس بفاعل } .
المباح لا شك أنه من الأمور الشرعية لكن ليس المقصود بذلك أنه تكليف وإنما هو من الأمور الشرعية باعتبار أنه لا يخرج فاعله عن طور المسمى الشرعي, فعلى هذا نقول, كل وسيلة إذا كانت تؤدي إلى مقصد شرعي فإنه يثاب الإنسان على ذلك.(1/43)
وقد رأينا من يقتصر على ركوب الإبل هذا من الحمق والجهل, لأنه ثبت أنه ليس المراد بالشرعية ألا يفعل إلا مثل ما فعلوا يعني مثل ما فعلوا في العبادات التوقيفية كالصلوات والزكوات, لا وإنما المراد بالشرعية أي المأذون بها شرعاً وإن تعددت الطرق وتنوعت وهذا ملحق في باب المباح قد يغفل عنه الكثير من طلبة العلم المشتغلين في الدعوة ويجب على الإنسان أن يستحضر النية.
والسعدي عليه رحمة الله تعالى قال (وسائل الأمور كالمقاصد) أي الوسيلة تأخذ حكم المقصد, يعني إذا خرجت إلى طلب علم الأصل بخروجك ومشيك من جملة المشي العادي لكن لما كنت تتوصلين به إلى طلب العلم أثبت للمقصد وكذلك الرجوع إذا استحضرت ولذلك الناظم السعدي رحمه الله في القواعد الفقهية قال(و أحكم بهذا الحكم للزوائد), الزوائد هي الرجوع من العبادة وهذا من فضل الله - عز وجل - لكن يحتاج منا أن نستحضر النية.
أيضاً قد يتحول المباح إلى محرم و يأثم صاحبه, المشي على الرجل أنه مباح لكن لو مشى الإنسان ونقل خطاه من أجل أن يسرق أو ذهب ليقتل بغير وجه حق أو يزني فهذا يكون محرماً.
والمشروع يطلق باعتبارين:
الاعتبار الأول: يطلق باعتبار الواجب والمندوب فهما المشروعان وضدهما بل هو منهي عنه كالمحرم والمكروه.
الإطلاق الثاني: يطبق المشروع باعتبار المأذون فيه مطلقاً سواء كان واجباً أو مندوباً أو مباحاً وإضافة المشروع إلى الشريعة ليست إضافة تشريف وإنما إضافة أنه يبني عليه أحكام.
لعلنا نقف عند قول المؤلف رحمه الله تعالى (والمحرم..).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس العاشر -
قال المصنف { والمحظور ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله } .
ويعرف المحظور اصطلاحاً: هو ما طلب الشارع تركه طلباً جازما.(1/44)
سماه المؤلف المحظور وهو من أسماء المحرم كما أن المباح يسمى (مباح, مطلق, مؤذون فيه) , والواجب يسمى (اللازم, الواجب, الفرض), والمندوب (السنة, التطوع, النافلة) كذلك المحرم له عدة أسماء منها المحظور , كما قال المصنف رحمه الله, وعلى هذا من سئل عن محرم فقال أنه محظور أو محرم صح ذلك واللفظ الأشهر هو المحرم, والمحرم مأخوذ في اللغة: من المنع والحد يقال: حرم كذا أي منعه, أيضاً يطلق في اللغة بمعنى الحد, كقولهم حريم البئر كذا أو حريم الأرض كذا, وحريم البئر أي حدها الذي لا يجوز أن تأتيه, هذه كلها من أطلاقات اللغة, ومن ذلك سمي الحرم حرماً لأن فيه بعض التصرفات التي لا تمنع في غيره كتنفير الصيد وقطع حشيشة ونحو ذلك لأن الحرم له خاصية من حيث نوع العبادة وفضيلتها وكذلك أيضاً له خاصية من ناحية أنه يجوز في غيره من الأفعال ما يمنع فيه ولذلك سمي حرماً لكونه محترماً.
أما في الاصطلاح فالمصنف رحمه الله تعالى كسابقه في الأحكام التكليفية عرفه بالحكم فقال:
والمحظور ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله, التبرج مثلاً يقال ما حكمه ؟
يقال أن المرأة تثاب على تركه, وتعاقب على فعله, مثلاً والربا والسرقة ... ونحوه.
وعلى هذا قول المصنف: المحظور ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله, الصحيح أنه بيان لحكم المحظور وليس تعريف في الاصطلاح.
لكن تعريف أهل الأصول له باعتبار حقيقته هو ما طلب الشارع تركه طلباً جازما أو على وجه اللزوم المعنى واحد.
وقوله ما ترك الشارع تركه يخرج به:
1- ما طلب الشارع فعله والذي طلب الشارع فعله هو الواجب والمندوب.
2- وأيضاً يخرج بذلك ما لم يطلب الشارع فعله وهو الإباحة لأن المباح مخير فيه الإنسان لم يطلب لا فعله أو تركه.(1/45)
أما قولنا: على وجه اللزوم, (يخرج به المكروه لأنه كما سيأتي طلب الشارع فعله طلباً غير جازما) وقلنا أن المؤلف عرفه بالتعريف الحكمي وقال بأنه ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله وهذا التعريف علاوة على كونه تعريف بالحكم فيه نظر بوجه.
من أي وجه ؟ أما من حيث أن الإنسان يعاقب على فعل المحرم فهذا صحيح ومن المعلوم أن الإنسان يعاقب على فعل المحرم لأن من سمات المحظور أن يعاقب على فعله هذا الأصل ويخرج بذلك الخطأ والإكراه والنسيان هذه استثناءات لكن الذي فيه نظر, هل يثاب على تركه مطلقاً ؟
وهنا يرد سؤال هل المحرم يثاب على تركه مطلقاً, أم لا ؟
هذا مما أختلف فيه الفقهاء رحمهم الله تعالى فقال بعضهم: أن ترك المحرم يثاب عليه مطلقاً يعني دائماً الإنسان يثاب إذا لم يزني ولم يسرق ولم يشرب الخمر.(1/46)
وبعضهم قال: لا! لا يثاب على فعله دائماً وإنما هذا يختلف بحسب الدواعي والمؤثرات. وقالوا: الإنسان الذي ليس في نفسه حب المعصية ولا مؤثر بل لو عرض عليه ذلك لاستقبح ذلك مثل بعض الناس لا يمكن يشرب الخمر لو عرض عليه ولو قيل له أنه مباح ما شربه, ذلك يعني ما في نفسه داعي لهذه المعصية, فهذا على القول الثاني لا يؤجر قالوا لأنه كف عن الحرام بطبعه لكن الذي لديه داع ودافع لهذه المعصية لكنه يجاهد نفسه على تركها قالوا هذا هو الذي يؤجر يعني الآن مثلاً كثير من النساء ترى جمال بعض العباءات المحرمة وهذا الحقيقة ملحظ تربوي يعني أحياناً نغالط أنفسنا حين يقال بأن هذه العباءة ليس فيها جمال فتعيش الفتاة في صراح لأنها ترى الجمال في عينها, نقول فيها جمال لكن المرأة إذا تركتها مع وجود الداعي إليها ترى فيها جمال وتتمنى لبسها لكنها تركتها وجاهدت نفسها على ذلك تكون أعظم أجر من المرأة التي لو قيل لها ألبسيها ما لبستها, وهذا لا شك تشهد له الأدلة الشرعية الدالة على أن المعصية قد تعظم مع قلة الداعي إليها يعني إنساناً مثلاً عنده قلة داعي لهذه المعصية ومع ذلك يرتكبها لا شك أن أثمه أعظم من إثم غيره ولذلك نقول أيضاً: بالنسبة للطاعة فالذي يجاهد نفسه للطاعة قالوا: بأنه يكون أعظم أجراً من الذي اعتاد فعل الطاعة وسهلت عنده, ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - تحقيقاً لهذا المعنى { عَجَب ربك من شاب ليست له صبوة } .
كذلك المرأة الفتاة, لماذا عجب الله - عز وجل - ؟(1/47)
لأن الشاب مضنة الغواية والفساد والشهوة فيحتاج إلى مجاهدة للطاعة وعدم المعصية, أكثر من الشيخ الكبير كذلك البنت عندها من دواعي التفلت أكثر من غيرها مثل المرأة الكبيرة قد لا يستهويها النمص مثلاً, أو العجوز لبس العباءة المتبرجة لأن الداعي لمثل هذه الأشياء قد ضمرت عندها لكن الفتاة قد تكون هذه الدواعي أكثر من غيرها ولذلك عجب الله - عز وجل - من هذا الصنف ولذلك عد النبي - صلى الله عليه وسلم - الشاب بأنه ممن يستظل في ظل الله - عز وجل - يوم لا زل إلا ظله وذكر منهم شاب { نشأ في طاعة الله } .
وذكر الرجال في هذا الحديث قوله { ورجل قلبه معلق بالمساجد..الخ } .
يقول ابن حجر: ذكر الرجال لا مفهوم له بل ويشترك النساء معهم فبما ذُكر.
ولذلك من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله شابة نشأت في طاعة الله, لماذا جعل هذا الصنف من السبعة ؟
قالوا: لأن مظنة الفساد والغواية والشهوة في الشباب أكثر من غيرهم بعكس الكبير, الكبير وإن كان يثاب على طاعة الله - عز وجل - لكنه لا يحتاج إلى مثل مجاهد الشاب فكان أجر الشاب أكثر, أيضاً العكس لا شك أنه مكلف ومحاسب على فعل المعصية ولكن المعصية من غيره أعظم وأشد, لماذا ؟
لأنه لا يملك المقومات التي يفعل بها المعصية, ما توجد الدواعي لها فعلم من ذلك أنه إنما فعل المعصية محبة لها يعني الشاب قد يفعل المعصية ما يريدها يجاهد نفسه على ذلك ويتحسر على ذلك لكن الكبير الذي ضمرت لديه الدواعي إذا فعلها دل ذلك على حبه والفتنة لهذه المعصية ولذلك كان عقابه أكثر.(1/48)
ولذلك في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه أبو هريرة في صحيح مسلم قال { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم } قال { شيخ زان } كبير يعني صحيح لو كان شاب يعاقب لكن إثم الشيخ الكبير أعظم لماذا ؟ لأن الدافع للشهوة عنده أقل من الشاب, قال { وملك كذاب } , لأن الملك لا يحتاج إلى أن يكذب فهو لا يخاف من أحد لا يخاف إلا من الله فكونه يكذب يدل على محبته والغة لهذه المعصية { وعائل مستكبر } والعائل هو الفقير, فقير ويتكبر يعني لو كان غني صحيح أن الكبر محرم لكنه من الفقير أقبح لأنه ليس عنده داعي لهذا ولذلك كان إثم هؤلا أعظم.
وإن كان الشاب الزاني يحاسب على زناه وغير الملك إذا كان كذاباً فإنه يحاسب والغني يحاسب على تكبره لكنه كان أعظم في حال هؤلا لعدم وجود الداعي لهذه المعصية لذلك قال الفقهاء: بناء على هذا يعني أنه على أن الإنسان أن يكون أجر الطاعة عنده أكثر متى ما كانت المجاهدة أعظم, ويكون أيضاً أعظم إذا كان الداعي للمعصية عنده أقل, نقول: بناءً على هذا وأن كان المحظور يثاب على تركه لكن الإثابة تختلف بحسب الداعي والشهوة والمؤثرة لكن لو علم من حال إنسان إنه لو قدر على هذه المعصية لفعلها بعض الناس, لو قدر على الزنا لفعله فهذا لا يعاقب الذي منعه عدم القدرة ولأنه لا يستطيع أو لا يجد لكن أيضاً لا يؤجر على تركه مع تركه لهذا, لماذا ؟
لعدم الوازع للإنكفاف عن المعصية والمجاهدة هذا ما فيه وازع إيمان أصلاً لكن ما قدر على هذا فهذا معصوم بعدم القدرة وعلى هذا مسكينة من تتمنى قيادة المرأة للسيارة هي الآن ما تثاب على الترك وهذا من الحرمان وهي لم تقدها لأنها تتمنى ذلك فهي معصومة بعدم القدرة.
مسألة:
ألفاظ التحريم:(1/49)
1- صيغة النهي: لا تفعل, كما في قول الله - عز وجل - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً(1) } , فالنهي كما تقدم للتحريم والأصل في النهي أنه للتحريم.
2- لفظ التحريم: مثل(حرم, يحر, حُرّم) وغيرها من المشتقات هذه تدل على الحرمة كما في قول الله - عز وجل - { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } (2) وقوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } (3) وقوله { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } (4).
3- إذا جاء البيان أن هذا الشيء منهي عنه: كما في قول الله - عز وجل - { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ(5) } , فهذا يدل على أن الفحشاء والمنكر حكمه محرم, وكما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { أن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم } دل النهي على أنه محرم, والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال { كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها } فكونه إذن لهم بعد النهي دل على أن النهي يفيد التحريم.
4- بيان أن هذا الشيء لا يحل: يعني يأتي الدليل الشرعي ببيان أن هذا لا يحل كما قول الله - عز وجل - { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً } (6), وكما في قوله تعالى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه } (7) أي محرمة عليه كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه } يعني أنه محرم على غيره.
__________
(1) آل عمران: من الآية130).
(2) البقرة: من الآية275).
(3) النساء: من الآية23).
(4) المائدة: من الآية96).
(5) النحل: من الآية90).
(6) النساء: من الآية19).
(7) البقرة: من الآية230).(1/50)
هذه الألفاظ نحتاجها في الرد على العلمانيين والمنافقين الذين جعلوا الشرع كأنه جدار قصير كل يستطيع أن يتقافزه, أما أنهم لو كانوا من الطيور لكانوا رخما كما قال أهل العلم ولو كانوا من الحيوانات لكانوا حمرا يهرفون بما لا يعقلون ويتكلمون فيما لا يحسنون, يقولون ليس في الإسلام رجال دين, نقول: نعم ولكن فيه علماء دين يبينون فهم دائما يقولون بأن هذا ما ورد فيه لفظ تحريم وهم يعتقدون أن التحريم إنما يجب أن يكون نص بلفظ حُرم لأنهم لا يعرفون الألفاظ ولذلك مثل هذه الألفاظ مهمة لتعرف طالبة العلم أن هذا الشيء محرم إذا جاء بلفظ أو بآخر.
5- ترتيب العقوبة على الفعل: لأننا قلنا في الواجب ترتيب الأجر على الفعل فلو أن هذا لم يذكر أنه حلال ولا حرام ولا أنه مكروه ولا أنه مباح ولا أنه مندوب لكن بين الله - عز وجل - له عقوبة سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة أو بهما معاً فإن ذلك يدل حرمة هذا الشيء كما في قول الله - عز وجل - { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (1) هذه عقوبة دنيوية.
فاعل المباح وفاعل الواجب لا يمكن أن يعاقب وكذلك فاعل المندوب والمكروه فدل على أن ذلك محرم.
مثال:
__________
(1) النور: من الآية2).(1/51)
العقوبة الأخروية قول الله - عز وجل - { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(1) } هذا كله يدل على أنه محرم وصف بالظلم وأنهم يأكلون في بطونهم ناراً وأنهم سيصلون سعيرا. هذه تدل على أن فاعل ذلك أرتكب محرم وكما قوله تعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (2) هذه عقوبات دلت على تحريم الربا إلى آخر ذلك, المهم أنه إذا ترتب عقوبة على الفعل يدل على أن هذا الفعل محرم, وهذا باب يجب أن تذكره طالبة العلم حين منازلة العاميات فبعضهن تقول: هاتي دليل على النمص محرم, نقول لها: لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - النامصة, وهذا يدل على أنه محرم وعلى هذا ترتب على الشيء عقوبة في الدنيا أو في الآخرة نعلن أن هذا الشيء محرم فيجب على طالبة العلم أن تفهم الضوابط التي تدل على التصور في الأحكام, ولهذا عمدنا إلى ذكر بعض الألفاظ حتى تعرف طالبة العلم إذا قرأت كتاب الله أو سنة نبيه وتتصور الضوابط العلمية اللفظية التي تدل على أن هذا مباح أو واجب أو مندوب أو ما أشبه ذلك فعلى هذا إذا ترتب على هذا شيء عقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو بهما معاً أو بلعن أو بطرد من رحمة الله أو أن الله لا يكلم فاعل ذلك أو لا يزكيه أو وصفه بالظلم أو الفسق فإنه يدل على سبحانه حرم ذلك.
نقف عن المحرم لذاته والمحرم لغيره.
والله تعالى أعلم.
- الدرس الحادي عشر -
أقسام المحرم:
المحرم على قسمين:
1-محرم لذاته. 2-محرم لغيره.
__________
(1) النساء:10).
(2) البقرة: من الآية275).(1/52)
1- المحرم لذاته: هو ما حكم الشارع بتحريمه ابتداء بمعنى أنه أول ما جاء الحكم الشرعي له وهو على صيغة التحريم لما فيه من المفسدة الظاهرة ولذلك كان محرما بذاته يعني بنفسه كالأمور الكبيرة جداً كالربا والزنا وأكل مال اليتيم والشرك والسحر والنمص والكفر ونحوه, هذا محرم بذاته أي التحريم ليس لأمر خارج وإنما لذات الفعل أي أن ذات الفعل أصله قبيح وفيه ضرر على العبد ولذلك حرمه الله - عز وجل - .
2- المحرم لغيره: هو الذي يكون مشروع بأصله أي أن أصله مشروع لكن احتف به أمر نقله من الحل إلى الحرمة يعني أصله مشروع, إما على سبيل الإباحة ولكن احتف به أمر نقله إلى الحرمة, مثال البيع أصله حلال لقوله - عز وجل - { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } (1) فالبيع الأصل أنه حلال لكن البيع الذي فيه غرر أو جهالة هذا محرم ليس لذاته وإنما لغيره, لأن البيع أصله مشروع لكن لما أحتف به الغرر نقله من الإباحة إلى الحرمة.
لو أخذنا مثال:
البيع بعد النداء الثاني من يوم الجمعة محرم لذاته أو لغيره ؟
نرجع لأصل في الحكم وهو أن البيع مباح لكن لما كان بعد النداء الثاني انتقل إلى الحرمة وهذا يسمى محرم لغيره, لكن الزنا أصله حرام, الربا, السحر هذه محرمة لذاتها وأما المحرم لغيره فهو ما كان أصله مباح لكن يحتف به أمر ينقله إلى الحرمة, مثل الصلاة بالثوب المغصوب أو الدار المغصوبة, الأصل في الصلاة أنها مشروعة بل هي ركن لكن لما كان المكان أو الثوب مغصوباً انتقل هذا الأمر من المشروعية إلى الحرمة وعلى هذا قالوا المحرم على قسمين:
1- محرم لذاته. 2- محرم لغيره.
__________
(1) البقرة: من الآية275).(1/53)
لكن النتيجة أنهما سواء أي كلا منهما وُصف أنه محرم فيأخذان أحكام التحريم سواء كان محرماً بالنص كما في قوله تعالى { وَحَرَّمَ الرِّبا } أو كان بوصف عارض كالصلاة بالثوب المغصوب أو الأرض المغصوبة والتيمم بالتراب المغصوب ونحوه لكن الفرق بينهما هذا ما سننظر فيه بعد المكروه إن شاء الله.
المكروه:
قال المصنف رحمه الله { والمكروه ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله } .
هذا التعريف كما قلنا في الأحكام التكليفية السابقة أنه تعريف بالحكم, كما تقدم وقلنا في الواجب وفي المحرم وفي المندوب وفي المباح أن المصنف عرفه حكماً, كيف تعريف حكماً (يعني لو سئلنا عن حكم المكروه لقلنا أنه ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله).
وهو في اللغة: مأخوذ من الكريهة وهي الشدة في الحرب.
أما في الاصطلاح: فهو ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازما. قوله (ما طلب الشارع تركه) يتفق في هذه الجزئية مع المحرم أي كلاً منهما طلب الشارع تركه, لكن المحرم طلب الشارع تركه طلباً جازماً أما المكروه فقد طلب الشارع تركه طلبا غير جازم أي ليس على صيغة الإلزام والإجبار وإنما فيه سعة فهو ليس كالمحرم في كونه جازماً ولذلك الفرق بين الجزم وغيره أن الجزم يعاقب على الفعل كالمحرم فهو يعاقب على فعله أما غير الجزم فلا يعاقب على الفعل وإنما يثاب على الامتثال, لماذا ؟(1/54)
لأنه طلب منه الترك ولكن لم يعاقب على عمله ؟ لأنه لم يطلب منه طلباً جازما, ولذلك يا طالبة العلم المندوب والمكروه فيهما نوع تخيير لكن ليس مطلقاً كالمباح لأن المباح (ما خير الإنسان بين فعله وتركه) أما المندوب (طلب الشارع فعله طلبا غير جازم) أما المكروه (طلب الشارع تركه طلباً غير جازم) نريد أن نعرف الفرق بين الجزم وغيره, فالجزم يعاقب على الفعل كالمحرم وغير الجزم لا يعاقب على فعله ولذلك قال المصنف { والمكروه ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله } المكروه ولذلك في غير الجزم ما نقول بأنه يعاقب على فعل وإنما نقول بأنه يثاب على الامتثال لماذا ؟ لأنه طلب منه الترك ولا يعاقب على الفعل لأنه لم يطلب منه طلب جازم.
والمندوب فيهما نوع من تخيير لكن ليس تخيير مطلقاً كالمباح وإنما هناك أولوية وأفضلية لهما.
المكروه: الأولوية والأفضلية في الترك.
المندوب الأولوية والأفضلية في الفعل.
من هنا أصبح فيهما نوع تخيير مع عدم المطبق ليس ملوما يعني إذا لم يترك المكروه ولم يفعل المندوب فإنه لا يلزم من هنا.
وجه الشبه بين المندوب وبين المكروه والمباح:
أن المندوب ليس ملوماً على تركه والمكروه ليس ملوماً على فعله, هذا وجه الشبه أن فيهما نوع تخيير وفيهما نوع مفارقة ؟ أنه بالنسبة للمندوب فإن فاعله يثاب عليه ويمدح والمكروه الذي يتركه بنية الترك يكون ممدوحاً, ولذلك قالوا بأن تعريف المؤلف هذا ليس بالإطلاق وإنما باستحضار النية بالترك للتعبد, لأنه لو ترك المكروه لكونه ليس من عادته فعل ذلك أو لا رغبه له فيه, قالوا هذا لا يثاب على تركه مطلقاً وإنما يثاب عليه لو تركه عمداً بطلب التعبد أي يتعبد أن هذا الأمر غير محمود شرعاً ومن هذا نعلم أن المندوب والمكروه فيهما نوع تخيير فهما يشبهان المباح من جهة ويفارقانه من جهة.
الحنفية يسمونه المكروه كراهة تنزيه لماذا ؟
لأن المكروه عند الحنفيين على نوعين ؟
1. مكروه كراهة تحريم.(1/55)
2. مكروه كراهة تنزيه.
المكروه كراهة تنزيه عند الحنفية هو الذي يقابل المكروه عند الجمهور سواء بسواء (وهو المكروه الذي ما طلب الشارع تركه طلب غير جازم) يسمونه هذا المكروه كراهة تنزيه(الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله) وإذا قال الحنفيين أن هذا مكروه كراهة تنزيه فإنهم يقدونه بما عير عن المؤلف وهو الذي معنا, ولكن إن قالوا تحريماً (مكروه كراهة تحريم) فإنهم جعلوا المكروه التحريمي مقابل المحرم (قسيم المحرم) أي مثله والمحرم عند الحنفية على نوعين:
1- محرم بدليل قطعي. 2- محرم بدليل ظني.
فقالوا أن الثابت بدليل قطعي يقصدون (القرآن والسنة والإجماع) والمتواتر من السنة هذه إذا ثبتت قطعي فهم يقولون محرّم بدليل قطعي يقصدون ما ورد في القرآن أو من المتواتر في السنة أو من إجماع أهل العلم.
أما القسم الثاني المحرم بدليل ظني كالمحرم بالسنة ولكن ليس متواتر مثلاً (بالآحاد والقياس) ونحو ذلك وكلاهما ممتنع, قالوا بأن الثابت تحريمه بدليل قطعي يسمى محرم أما الثابت تحريمه بدليل ظني يسمى مكروه كراهة تحريم.
المكروه كراهة تنزيه هذا مقابل المكروه الذي تقدم معنا أما المكروه كراهة تحريم ذكرنا أن التحريم عند الحنفيين على قسمين: محرم بدليل قطعي ومحرم بدليل ظني, يعني كلاهما لا يجوز عمله, لكن من حيث عظم الذنب قالوا: بأن المحرم أشد هذا الفرق الأول.
إذاً الفرق الأول: مكروه كراهة تحريم هو الذي يثبت بدليل ظني فقالوا كلاهما محرّم لكن من حيث عظم الذنب المحرم أشدّ.
الفرق الثاني: قالوا بأن المحرم يكفر منكر تحريمه عند الحنفية لأنه ثابت بدليل قطعي, والمكروه كراهة تحريم قالوا لا يكفر بذلك لأنه ثابت بدليل ظني لاحتمال وجود الشبهة.
وعلى هذا نعرف أن فتوى العلماء في قضايا لتكفير وعدم التكفير مبني على قواعد أصولية ليس من عندهم.
مسألة:
إطلاق المكروه وإرادة المحرم حتى عند أهل السنة والجماعة.(1/56)
هنا يرد بعض أسئلة الأخوات خاصة ممن يقرأن في كتب العقيدة وأحياناً بعض الأئمة يطلق لفظ الكراهة على أعمال شركية لذا ينبغي لطالبة العلم أن تعرف مصطلحات أهل العلم قبل أن تقرأ في كتبهم فالإمام أحمد له مصطلحات أي ألفاظ يستخدمها.
هنا مسالة:
بعض العلماء يطلق المكروه ويريد به المحرم (والمتأمل لكتب الإمام أحمد رحمه الله تعالى يجد أنه يستخدم في بعض الأحيان لفظه هذا مكروه أو لا أرغبه أو لا تميل إليه نفسي) قد يتصور الإنسان أنه أراد بها الكراهة المعروفة ما يثاب الإنسان على تركه ولا يعاقب على فعله وهذا غير صحيح وإنما يريد به التحريم مثلاً في كتاب الروض في باب صفة العمرة ذكر أنه قال (والطواف على قبور الصالحين مكروه) هذا يدل على أنه محرم الذي لا يعرف إلا هذه الأحكام الخمسة (المندوب, الواجب, المحظور, المباح, المكروه) قد يتصور أنه مكروه وليس بمحرم, ومسائل هذا كثيرة جدا مثل مسائل الإمام أحمد لابن عبد الله ومسائل الإمام أحمد لأبي بكر عبد العزيز, وكذلك البغوي, ونحو ذلك.
هذا القول للإمام أحمد ومثله كثير يحمل على وجهين:(1/57)
الوجه الأول: أن هذا الإطلاق قبل تقرير المصطلحات أي الاتفاق عليها (مندوب, واجب, مباح, مكروه, محرم) وقد كان الصحابة رحمهم الله يستخدمون الكراهية بالمعنى اللغوي أي أنه يكره ويذم ما يقولون بأنه محرم أو مكروه بل يريدون به المكروه المكروه وهو داخل في دائرة التعريف المراد شرعاً أما أن يقصد به التحريم أو الكراهة فهذا على الوجه الأول لم يشتغل به حتى الآن وهو محمول على أنه أطلق لفظ الكراهة باعتبار أنه مذموم شرعاً لأنه قال: حتى المكروه مذموم شرعاً ولو لم يذم شرعاً لما طلب وجُعِل الأولى أن يترك وهذا هو المحمل القوي الذي يجب أن يحمل عليه كلام الإمام أحمد رحمه الله لذلك لا يجوز أن يقول مسلم أن الإمام أحمد يقول: أن الطواف بالقبور مكروه بالمعنى الاصطلاحي المعروف, أنه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله, لا يقول به مسلم فضلاً عن طالبة العلم التي تعرف منهج الأمام أحمد.
الوجه الثاني: قد يحمل هذا على قضية التورع والجزم من إطلاق الوجوب والحرمة لذلك إذا كان الشيء مقبولاً في الشرع قال: الأولى أن يفعله أو يحبه أو يعجبني هذه الألفاظ يستخدمها الإمام أحمد رحمه الله تعالى تورعاً حتى لا يوجب على الناس ما لم يكن واجباً عليهم.
وكذلك لو سئل عن شيء عكسه قال: الأولى تركه أو هو مكروه, أو لا أحبه أو لا تميل إليه نفسي أو الأحوط أن لا يفعل أو نحو ذلك لكن الظاهر حمله أنه على الوجه الأول أن قول الإمام أحمد قبل تقديم المصطلحات.
ولذلك يا طالبة العلم إذا قرأت من كتب الإمام أحمد فتنبهي لمثل هذه المصطلحات, لا تأتي طالبة وتقول أن الإمام أحمد يقول الطواف بالقبور مكروه.
من هذا يتبين أهمية طلب العلم عن طريق الشيخ والمعلم لأنه من كان شيخه كتابه كان خطأه أكثر من صوابه, ومن هنا رزقت الأمة بأنصاف المتعلمين الذين أخذوا الأمور بظاهرها.أ.هـ .(1/58)
وما بليت الأمة ورزئت الأمة إلا من أنصاف المتعلمين الذين قرؤوا شيئاً في الكتب وشرقوا وغربوا في الفتيا في التبديع وفي التكفير والتفسيق وأمور كثيرة يندي لها الجبين. ماذا يقول طالب العلم إذا مرّ بمثل هذه المصطلحات إذا لم يكن لديه شيخ يعلمه مثل هذه المصطلحات يبين له الأمر ولا يقصد بذلك أن لا يطلب العلم عن طريق الكتب ولكن يجب أن لا يستعجل بالفهم أحياناً قد يكون خطأ مطبعي.
ونقف عند هذا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الثاني عشر -
قال المصنف رحمه الله { والصحيح ما يتعلق به النفوذ ويعتقد به والباطل ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتقد به } .
العادة عند الأصوليين رحمهم الله أنهم يفرقون بين الصحيح والباطل في العبادات وبين الصحيح والباطل في المعاملات ولذلك المؤلف رحمه الله تعالى جمع بينهما (فالصحيح ما يتعلق به النفوذ ويتعد به).
فعرف الصحيح بالاعتبارين معا وهما من حيث تعريف المصنف صحيح على مذهب الجمهور.
قال فالصحيح ما يتعلق به النفوذ ويعتد به.
لكن ما نوع هذا النفوذ ؟
والباطل ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به, لكن ما هو النفوذ ؟ ثم هذا النفوذ هل هو النفوذ بالعبادات نفسه هو النفوذ بالمعاملات أو يختلف ؟ ولذلك كان الصحيح أن يعرف الصحيح في المعاملات لوحده والصحيح في العبادات لوحده والمؤلف جمع بينهما والأصح أن يفرق بينهما لأن النفوذ بالعبادات مغاير لنفوذ بالمعاملات لذلك الأولى أن يعرف كل واحد منهما لوحده.
فنقول أولاً: الصحيح بالعبادات ضبطه العلماء بضوابط فالصحيح بالعبادات بأنه:
1- ما جاء موافقاً للشارع في أمره, يعني جاء فعل الإنسان موافق الشارع في أمره.
2- مستوفياً للشروط والأركان, والقيد الثالث قد خلا من الموانع, هذا هو الصحيح في العبادات, فعلى هذا من صلى الظهر خمس ركعات متعمداً نقول هذه عبادة باطلة لماذا ؟(1/59)
لأنها لم تأتي موافقة لأمر الشارع وكذلك لو صلى لغير القبلة مع قدرته على الاستقبال نقول صلاته غير جائزة لماذا ؟
لأنه لم يستوفي الشروط.
ولو صلى جالساً في الفريضة مع قدرته على القيام لم تصح صلاته لأنه يستوفي الأركان. كذلك لو صلت امرأة وهي حائض فصلاتها باطلة, لماذا ؟ لوجود المانع.
ولذلك نقول إذا تحققت هذه القيود الثلاث نقول أن العبادة صحيحة شرعاً.
ماذا يترتب على ذلك ؟ يعني إذا جاءت العبادة صحيحة مستوفية الشروط.
يترتب عليه ثلاثة أمور:
1- إبراء الذمة وخلوها.
2- الإجزاء يعني مجزئة.
3- عدم القضاء لأن الإنسان إذا طولب بالقضاء على أن العبادة الأولى غير صحيحة ولذلك قالوا في العبادات الصحيح هو الذي يوافقه الشرع وهذا معنى قولنا, ما جاء موافق الشارع في أمره.
الإنسان أمر بالصلاة لكنها ليست مجرد صلاة وإنما أمر بصلاة بأوصاف معينة ولذلك الإنسان يؤدي هذه الصلاة بهذه المواصفات الشرعية التي طلبها منه الشارع, هذه المواصفات مثلاً في الصلاة تشمل على شروط, كشروط الطهارة, استقبال القبلة ونحوه, كذلك الأركان والأركان ضابطها هي التي داخل الصلاة.
يعني الفرق بين الأركان والشروط أن كلاهما واجبتان لكن الشرط متقدم على العبادة, مثلاً في الصلاة استقبال القبلة والطهارة من الحدثين ونحوه, بينما الركن من ذات الصلاة وماهيتها ولذلك يجب أن تجتمع الشروط الصحيحة في الصلاة وكذلك الأركان الصحيحة وأن تخلوا أيضاً من الموانع فكما اعتقدنا إذا صلت المرأة وهي حائض لم تصح صلاتها ولذلك قلنا صحت العبادة وكمال شروطها يترتب عليه ما سبق.
أما الباطل والفاسدات في العبادات:
فهما في معنى واحد بالاتفاق والباطل هو الذي لم يجيء موافق للأمر الشرعي أو اختل شروطه أو أركانه أو وُجد مانع من نفوذه.
فلو أن امرأة تصلي المغرب فنزل عليها الحيض قبل انتهائها من الصلاة هنا وجد مانع من الصلاة.(1/60)
ولذلك قلنا اختل شرط لأننا قلنا أن الباطل أو الفاسد في العبادات هو الذي لم يجئ موافق للأمر الشرعي أو اختل أحد شروطه أو أركانه, لأن العبادة تفسد إذا اختل شرط من شروطها أو ركن من أركانها لا يشترط حتى نحكم عليها بالفساد اختلال كل شروطها الموانع لو وجد مانع واحد لاختلت العبادة ولذلك قلنا هو الذي لا يجئ موافق للشارع, لماذا ؟ أما باختلال شرط بمعنى انعدامه أو اختلال ركن أو وجد مانع.
يترتب على فساد أو بطلان العبادة:
1-عدم براءة الذمة وخلوها.
2-تكون العبادة غير مجزئة.
3-يلزم القضاء.
هذا هو الفرق بين الصحيح والباطل في العبادات هما في معنى واحد حتى عند الحنفية, ففي باب العبادات لا خلاف ذلك, الخلاف بين الباطل والفاسد كلاهما بمعنى واحد.
أما في المعاملات:
الجمهور عندهم (صحيح, باطل, فاسد) فالباطل والفاسد كلها بمعنى واحد في المعاملات كالعبادات, أما الحنفية فلا, عندهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-الصحيح.
2-الباطل.
3-الفاسد.
انتبهي يا طالبة العلم هذا التفريق ينبني عليه مسائل فقهية سنتطرق لها إن شاء الله تعالى.
وهذا يعطينا دلالة على أن استنباط القواعد الفقهية عند الأئمة مبني على قواعد أصولية, هنا الصحيح لا خلاف فيه لكن الخلاف الباطل والفاسد في العبادات بمعنى واحد عند جميع المذاهب حتى الحنفية والخلاف هو بين الباطل والفاسد في المعاملات.
الجمهور يقول: صحيح أو باطل أو فاسد بمعنى واحد بالعبادات, أما الحنفية فيقولون لا, هناك صحيح وباطل وفاسد, يعني الخلاف في كل هذه المسائل هو بين الباطل والفاسد في المعاملات هل هو بمعنى واحد أم ليس بمعنى واحد ؟
الجمهور يقولون: أنهم بمعنى واحد كما في العبادات, لكن الحنفية يقولون لا بينهما فرق فالباطل غير فاسد.
نأخذ الآن ما هو محل الاتفاق (الصحيح في المعاملات):(1/61)
قالوا هو ما ترتبت عليه الآثار المقصودة من العقد, بمعنى ذلك أن المتعاقدين عندما يتعاقدان لهما هدف معين في ذات العقد سواء كان عقد بيع أم إيجار أو قرض أو نكاح أو نحو ذلك, يعني النكاح عقد فالإنسان لا يعقد عبث.
ولذلك قالوا: الصحة في المعاملات هي أن يترتب على العقد هذه المنفعة وحلها, مثلاً عندما يبيع زيد على صالح كتاب بعشر ريالات كل منهما له مقصود بهذا العقد, فزيد قصده الحصول على القيمة والانتفاع بهما وصالح قصده حيازة الكتاب وامتلاكه والانتفاع به. فقالوا: أن العقد يوصف بالصحة إذا ترتبت عليه هذه المنفعة يعني حل المال للبائع والبضاعة للمشتري, إذا تحقق هذا يوصف العقد بأنه عقد صحيح مثلاً: زيد يعقد على امرأة بعوض (مهر) كلا منهما مقصد بهذا العقد فالزوج مقصده حل الاستماع والولي مقصده استياحة هذه المرأة للزوج فصحة العقد تقضي حل الزوجة للزوج والزوجة للزوج واستمتاعها بالمهر لكونه ملكا لها ولذلك يوم لا يباح للزوج أن يستمتع بزوجته والمرأة أن تستمتع بالمهر لا يصح العقد.
مثال العقد الفاسد أو الباطل:(1/62)
فعند الجمهور كما قلنا أنهما بمعنى واحد ولو جاءت المرأة تزوج نفسها بدون ولي بمهر نقول هنا لا يصح النكاح إلا عند الحنفية لأنهم يقولون: بأن المرأة لها أن تزوج نفسها ويستدلون بذلك قوله تعالى { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } (1) لأن الولي من أركان النكاح إلا عند الحنفية فهم يقولون للمرأة أن تزوج نفسها ويستدلون لذلك بقصة المرأة الواهبة نفسها (التي أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هل لق إلى حاجة ؟ ) فهم يقولون: يؤخذ من هذه القصة أن المرأة لها أن تزوج نفسها بدون ولي لكن نقول أن الصحيح أن هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - من خصائصه أن يتزوج - صلى الله عليه وسلم - بدون ولي وبدون مهر وبدون عقد, حتى بدون عقد ولذلك زينب الله سبحانه زوجها من فوق سبع سموات للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت تفتخر على النساء أن الله - عز وجل - تولى تزويجها فقال سبحانه { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } (2) والصحيح أن الولي ركن من أركان النكاح لا يصح النكاح بدونه, وأما قصة الواهبة نفسها كما قلنا فإن هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن هذه المرأة التي زوجت نفسها بدون ولي نحكم على العقد أنه فاسد وباطل, لماذا .؟ لأن الزوج لا يستحل الزوجة بهذا العقد وهي أيضاً لا يحل لها أن تستمتع بهذا المهر ولا تستحق أن تتصرف فيه لأن العقد الفاسد كما قلنا أن الصحيح في المعاملات ما ترتبت عليه الآثار المقصودة من العقد وإذا لم تترتب عليه الآثار المقصودة من العقد نحكم أن هذا العقد باطل أو فاسد.
__________
(1) الأحزاب: من الآية50).
(2) الأحزاب: من الآية37).(1/63)
ولذلك مثل الفقهاء عليهم رحمة الله تعالى للعقد الصحيح بقولهم, كحل الثمن للبائع وحل السلعة للمشتري إذا حل الثمن للبائع وحلت السلعة للمشتري دل ذلك على أنه عقد صحيح وأيضاً كحل استمتاع الزوج بزوجته وحل المهر لها, وهذا دليل على صحة العقد والعكس ولذلك قال الجمهور عليهم رحمة الله تعالى: إن الباطل أو الفاسد هو الذي لا تترتب آثار العقد عليه بمعنى لم يستفد منه المتعاقدين.
مثلاً لو تزوج هذا زواج شغار (وهو أن يزوج هذا ابنته مقابل أن يزوجه ابنته) هذا العقد باطل أو فاسد عند الجمهور لأنه لا ينبني عليه حل الزوج لزوجه ولا العكس ولا استحقاق كل منهما للمهر الذي يأخذه من الآخر ولذلك سمي عقداً باطلاً أو فاسداً وإنما سمي بذلك لأننا نتكلم بلسان الجمهور لأنه لا خلاف بين الباطل والفاسد عند الجمهور كما قلنا في السابق فالتفريق إنما هو عند الحنفية.
انتبهي يا طالبة العلم هذا في المعاملات لأنه في العبادات يتفقون مع الجمهور أنهما في معنى واحد أما في المعاملات فيخالفون الحنفية وهذا وجه الخلاف بين الجمهور والحنفية.
- الدرس الثالث عشر -
تقدم معنا في الدرس الماضي أن الفاسد والباطل في باب العبادات لا خلاف بين الجمهور والأحناف في ذلك. وإنما الخلاف بين الجمهور والأحناف في التفريق بين الباطل والفاسد في المعاملات فقط.
فالحنفية يوافقون الجمهور في الصحيح في المعاملات فقالوا: بأن الصحيح في المعاملات ما ترتب عليه أثار مقصودة من العقد لكن الحنفية خالفوا الجمهور في غير الصحيح وقالوا:
بأن غير الصحيح ينقسم إلى قسمين:
1- فاسد. 2- باطل.
ما هو ضابط الفاسد والباطل عند الحنفية:
في الدرس الماضي عرفنا أن المحرم على نوعين:
1. محرم لذاته. 2. محرم لغيره.(1/64)
وتقدم أن المحرم لذاته هو الذي يشرع لغيره, والمحرم لغيره مشروع بأصله ولكن غير مشروع بوصفه كما تقدم مثلاً فالزنا محرم لذاته كما أن بيع الغرر محرم لغيره, لأن الأصل مشروع وهو البيع ولكنه محرم لإضافة وصف الغرر وعلى هذا قاس الحنفية, فالحنفية فرقوا بين الفاسد والباطل بالمعاملات وتفريقهم بناءاً على هذا التقسيم فقالوا: بأن الفاسد إما مشروعاً في أصله أو غير مشروع بأصله فإن كان مشروع في أصله ولا وصفه كالزنا فهذا يسمى عندهم باطل.
وقوله (ولا وصفه) هذا لا معنى له لأن الشيء إذا لم يكن مشروعاً بأصله فالوصف من باب أولى فليس هناك زنا بوصف معين حتى يباح فهو محرم في أصله والأوصاف لا عبرة بها, هنا مثل:
الربا والظلم والكذب ونحو ذلك.
فالكذب مثلاً أصله محرم ولذلك قالوا: بأن كل عمل ينتج عنه الكذب فهو باطل يعني كالمحرم لغيره لن المحرم لغيره يسمى فاسداً بينما المحرم لذاته يسمى باطلاً.
أما الفاسد عند الحنفيين فهو الذي يكون مشروعاً بأصله لكنه غير مشروع بوصفه يعني كالمحرم لغيره أي المحرم لذاته يسمونه باطل والمحرم لغيره يسمونه فاسد أصله مشروع ولكن عدم مشروعيته ليس بذاته وإنما بوصفه الذي وجد معه.
مثل البيع بعد النداء الثاني محرم مع أن أصل البيع مشروع لكن جاءه التحريم من كونه وصف بوصف وقتي وهو أنه بعد النداء الثاني من يوم الجمعة.
ولذلك وجه تفريق الحنابلة بين الفاسد والباطل.
انتبهي في المعاملات لأنها في العبادات بمعنى واحد, أما الباطل ما كان غير مشروع أصلاً ووصفاً والفاسد ما كان مشروعاً أصلاً لكنه غير مشروع وصفاً.
فقهاء الجمهور قالوا: هي سواء فما كان غير مشروع بأصله يسمونه فاسداً باطلا مثل الزنا وما كان مشروعاً بأصله لكنه غير مشروع في وصفه مثل البيع بعد النداء الثاني يسمونه فاسد وباطل.(1/65)
الجمهور يقولون: كلاهما محرم يعني داخل عليه التحريم سواء بالأصل أو بالوصف المهم أنه جاء على غير ما أراد الله ورسوله ولذلك لم يفرقوا بينهم.
ما ثمرة هذا الخلاف ؟ فكل خلاف له ثمرة وإلا لم يكن له فائدة.
الحنفية الذين فرقوا بين الفاسد والباطل في المعاملات قالوا: أن المشروع بأصله (الفاسد) ولكن يحتف به وصف أفسده أسهل من الشيء الذي لا يكون مشروعاً بالأصل (أسهل حُكم) بناء على هذا يقولون بمضي بعض العقود في مثل هذه الصورة.
مثلاً:
البيع بعد النداء الثاني بعض الجمهور يقولون باطل يعني العقد غير صحيح.
الحنفية بناء على التفريق بين الباطل والفاسد يقولون أن الفاسد أخف من الباطل ولذلك البيع بعد النداء الثاني يرى الحنفية صحته وهذا ما قلناه سابقاً.
أن الخلاف في المسائل الأصولية ينبني عليه الخلاف في المسائل الفرعية وهذا يعني (يجعل الطالب يحمل أعذاراً للأئمة فيما بينهم من الخلاف في المسائل الفرعية لأن الخلاف في المسائل الفرعية مبني على الخلاف في المسائل الأصولية).
الحنفية يقولون بأن الفاسد في مثل هذه الصورة صحيح كالبيع بعد النداء الثاني لأنه ليس باطلاً وإنما فاسداً فقالوا كونه محرم لا يلزم منه إلغاء العقد لكن مع الإثم, فلو باع الإنسان بيعاً بعد النداء الثاني عند الحنفية أن البيع صحيح وليس معنى هذا أنه جاء موافقاً على مراد الشرع وإنما المراد أنهم قالوا يمضي مع الإثم والجمهور لهم خلاف في ذلك هل يمض أم لا ؟(1/66)
أكثر الجمهور يقولون: بأنه لا يمضي أي الفاسد وهو ما كان مشروعاً في أصله لكن احتف به وصف, أما الذي هو محرم بأصله (الباطل) الجمهور باتفاق قول واحد أنه لا يمضي ولا يترتب عليه أثار بل يترتب عليه أثار سيئة من عقوبة ونكال والعقوبة التعزيرية ولذلك بعض الحنابلة (يعني المحرم بأصله) بعضهم يقولون بأنه لا يصح مطلقاً الذي هو الباطل على تفريق الحنفية وقالوا بأنه عقد ربا فأنه يجب على القاضي أن يفسخه وإن يرجعه إلى أصله وإذا احتاج إلى تعزيرهم كان له ذلك, أما العقد يطمع بمضيه ولذلك نجد أن الخلاف في الربويات إذا عرضت على القاضي يرجعه إلى الأصل وهو أن (لكم رؤوس أموالكم) لأن العقد أصلاً باطل لهذا في المنهي عنه في أصله باتفاق الجمهور أنه لا يمضي.
أما المنهي عنه في وصفه:
الحنابلة يقولون: يكون باطلاً أيضاً فلا يمضي ولذلك الحنابلة يرون أنه لو صلى في أرض مغصوبة الآن الصلاة صحيحة لكن احتفّ بها وصف وهي أنه كونه صلى في أرض مغصوبة هذا التقسيم عند الحنفية يعتبرونه من الفاسد ليس من الباطل لأنه مشروع بأصله لكن أحتف به الوصف ولذلك الحنابلة يرون أنه حتى المنهي عنه بوصفه وهو الفاسد عند الحنفية أنه باطل فعلى هذا قالوا:
لو صلى بأرض مغصوبة وجب عليه الإعادة لهذا الاعتبار مثل لو تيمم بتراب مغصوب ولو توضأ بماء مغصوب وهكذا.
أما الشافعية ووافقهم بعض الحنابلة مثل شيخ الإسلام ونحوه (الآن الكلام عن المنهي عنه بوصفه أما المنهي عنه بأصله تقدم الجمهور بالاتفاق أنه لا يمضي ولا تترتب عليه آثار حميدة بل سيئة من عقوبة ونكال وتعزير لكن المنهي عنه بوصفه تقدم أنه يمضي) فرقوا بين الشروط والأركان والأوصاف فقالوا: إذا كان هذا الوصف شرط في العبادة أو ركن, قالوا تبطل به العبادة مثل الطهارة وهي ركن تبطل ويجب الإعادة, أما إذا كان الوصف خارج العبادة قالوا إذا كان الأمر محرماً لكن خارج العبادة فإنها تصح مع الإثم.
مثال:(1/67)
لو صلى إنسان في ثوب فوق الركبتين ؟ هذا لا تصح صلاته حتى على مذهب شيخ الإسلام والشافعية, لماذا ؟
لأن ستر العورة شرط في الصلاة.
لكن لو صلى إنسان مسلم قد أسبل ثوبه عند الحنابلة (هذا الإسبال منهي عنه بوصفه) صلاته باطلة لكن على رأي شيخ الإسلام والشافعية والحنفية (لأنهم يقولون أن المنهي عنه بوصفه أخف) قالوا العبادة صحيحة لكن مع الإثم ولا يطالب بالإعادة لأن هذه العبادة نافذة وتبرأ بها الذمة من حيث الوجوب لكن من حيث ترتب الأجر وأنه لا ينبني عليه ذنب فهذا أمر ثاني وهذا هو القول الأصح (الراجح).
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى صحة الصلاة في الدار المغصوبة مع الإثم وقال يؤجر لصلاته ويأثم لوصفه فنخلص من هذا إلى أن هذا التفريق بين الفاسد والباطل في المعاملات عند الحنفية يرون أن الباطل ما كان محرما بأصله والفاسد ما كان مشروعاً بأصله لكن احتف به وصف محرم.المحرم بأصله هذا الجمهور بالاتفاق أنه لا يمضي العقد وأما المنهي عنه بوصفه فهذه الحنابلة قالوا: يكون باطلاً كما لو صلى في أرض مغصوبة.
والشافعية قد وافقهم في ذلك شيخ الإسلام فرقوا بين الشروط والأركان والأوصاف فإذا كان من ناحية الشرط أو الركن أدى ذلك إلى بطلان العبادة يعني لابد من الطهارة لابد من استقبال القبلة مع القدرة ونحو ذلك, أما إذا كان بوصف كما لو صلى وهو مسبل صحت العبادة مع الإثم وهذا القول هو الراجح.
فتبين من هذا كله يا طالبة العلم أن خلاف أهل العلم رحمهم الله في المسائل الفرعية مبني على الخلاف في المسائل الأصولية.
ثم قال: الفقه أخص من العلم, لماذا ؟
لأن العلم يشمل الفقه وغيره من حديث وتوحيد ونحوه, قالوا: الفقه أخص والعلم أعم فقولهم الفقه أخصّ من العلم أي جزئه وبعضه لأن الفقه جزء وبعض العلم ولذلك كان أخص منه والعلم أعم لأنه يشمل الفقه والحديث والتفسير والأصول ونحو ذلك فعلى هذا يكون الفقه جزء من العلم.
مثلاً:(1/68)
لو قلنا المسجد كبير ويحيط به أربع شوارع وهذا المصلي الذي داخل المسجد أخص من المسجد, لماذا ؟
لأن المصلي أخص من المسجد يعني جزء منه ولذلك قالوا: الفقه أخص من العلم فهو فيه التجزئ والبعضية وليس خارجاً عنه ولذلك حينما تقولين هذا المصلي أخص من المسجد تكونين أعطيته معنيين:
الأول: أنه أقل منه.
الثاني: أنه منه, لأن المصلي في المسجد ولذلك هذا المصلي هو بعض المسجد وجزء منه.
فكذلك العلم والفقه فالفقه أخص من العلم, لماذا ؟
والعلم أعم لأنه وعاء كبير (العلم) يشمل النحو والتفسير والحديث ونحوه والفقه داخل في العلم وهو أخص منه, والفقه واحد من هذه الأشياء فهو بعض منه .
ونقف عند قول المصنف رحمه الله { والعلم معرفة العلوم على ما هو فيه في الواقع } .
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
- الدرس الرابع عشر -
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.(1/69)
قال المصنف رحمه الله تعالى { والعلم معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع } ومعنى ذلك أن المعلوم له واقع معين فإذا أتى العلم بصفة هذا الواقع الصحيح كان علماً أما إن جاء واصف له بغير الوصف الصحيح كان جهلاً لو أنا وجدنا مثلاً صندوق خشبي فأسأل أحد عن ماهيته لي بأنه أخشاب ضربت بالمسامير ليتكون على شكل دولاب فهذا معرفة للمعلوم على ما هو عليه يعني على حقيقته الصحيحة ولهذا قلنا أنه علم قالوا والعلم معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع أي في حقيقته الواقعية لكن لو وصف لنا هذا الدولاب بأنه مثلاً سيارة يكون وصف على غير ما هو عليه ولذلك سمي جهلاً, ولهذا قال المصنف { والعلم معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع, والجهل تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع } ولذلك قال في الأول معرفة وقال في الثانية تصوره وإنما قال ذلك لأن المعرفة تطابق الحقيقة قال في الأول والعلم معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع لأن المعرفة تطابق الحقيقة والجهل قال تصور الشيء على خلاف ما هو عليه.
لماذا قال في المعرفة أو في العلم: والعلم معرفة المعلوم ثم قال والجهل تصور الشيء, فلماذا قال في الجهل تصور ولم يقل معرفة ؟
لأن المعرفة يشترط أن تطابق, يشترط أن تكون متطابقة حتى تكون معرفة بينما الذي لا يطابق لا يسمى معرفة وإنما يسمى تصورا.
فلو قيل ما الذي خلف هذا الجدار وأنتي لا تعلمين, تقولين أتصور أن وراءه كذا وكذا, لماذا ؟(1/70)
لأنه خيال ذهني قد يوافق وقد لا يوافق ولذلك يسمى الجهل تصورّ ولم يقل والجهل معرفة لأنه في الذهن أي الجهل في الذهن فقط بينما في الحقيقة مغاير تماماً ولذلك الصحيح في تعريف الجهل أنه على نوعين وليس نوع واحد كما عرفه المؤلف ولذلك قول المصنف رحمه الله والجهل تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع هذا نوع من أنواع الجهل لكنه ليس كل الجهل, لو قيل مثلاً لإنسان ما هذا يشار مثلاً إلى جهاز هاتف فقال بأن هذا الجهاز يستخدم لتسخين الأشياء الباردة مثلاً هذا يعتبر جهل ولكنه ليس كل الجهل كما قلنا لأن الجهل هنا صوّر الشيء على خلاف ما هو به في الواقع وهذا كما قلنا نوع من أنواع الجهل ولكن من الجهل أيضاً عدم التصور فلو قلنا لأحد وأشرنا لجهاز هاتف مثلاً ما هذا فقال: لا أدري هذا جهل أيضاً ولذلك الجهل على قسمين:
القسم الأول: عدم التصور أصلاً يُسأل عن شيء ويقول لا أعلم لا أدري فليس عنده تصور.
القسم الثاني: تصوير الشيء على خلاف الحقيقة هذا يسمى جهل أيضاً, ولذلك نستطيع أن نقول أن ضابط الجهل هو عدم التصور لشيء على قسم أو تصوره على خلاف حقيقته هذا قسم ثاني يكون هذا التعريف أشمل من تعريف المؤلف.
حيث تعريف المؤلف قال: والجهل تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع هذا قسم لكن ضابط الجهل نقول هو عدم التصور لشيء أو تصوره على خلاف حقيقته وعلى هذا يكون تعريف المؤلف رحمه الله تعالى جزء الجهل فهو عرف الجهل ببعضه مع أن الجهل ينقسم إلى قسمين كما قال أهل العلم.
يقسمون الجهل إلى قسمين:
قسم مركب, وقسم بسيط.
الجهل البسيط:
أن يجهل الإنسان لا يدري ولكنه يدري أنه لا يدري, يقال له مثلاً: ما حكم التيمم؟ فيقول لا أدري, هذا يسمونه جهل بسيط هو جهل لكنه جهل بسيط للجهل المركب.
الجهل المركب:(1/71)
هو أن يجهل الإنسان ولكنه يجهل انه لا يجهل أو يجهل أنه جاهل فهو جاهل ولكن عند نفسه فهو عالم فيسأل مثلاً رجل سافر لمدة عشرة أيام هل له حق القصر أو ليس له حق القصر فيقول ليس له حق القصر أو يسأل حكم تغطية المرأة لوجهها فيقول بأنه ليس بلازم أو يسأل إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتوضأ هل له أن يتيمم ؟ فيقول لا, لا يعدل إلى التيمم ونحو ذلك فهذا جهل مركب لأنه يجهل لكن يجهل أنه يجهل أيضاً مصيبة الأمة بهذا القسم ولذلك خطر الجهل المركب على الأمة أعظم من خطر الجهل البسيط من الوجهين.
الوجه الأول: أن الجاهل جهل مركب يضلل الناس لأنه يفتي بغير علم لأنه يجهل وأما الجاهل البسيط فإنه لا يضللهم لأنه يفتي بعدم العلم.
الوجه الثاني: أن الجاهل جهل مركب غير قابل للتعليم لأنه يعتقد أنه عالم ليس بحاجة للتعلم وهنا مكمن الخطر بينما الجاهل جهل بسيط لكونه يدرك أنه لا يعرف فإنه قابل للتعليم بل ربما سعى بنفسه من أجل أن يتعلم.
ثم قال رحمه الله تعالى { والعلم الضروري ما لا يقع عن نظر واستدلال أما العلم المكتسب فهو الموقوف عن النظر والاستدلال } الآن لمّا الأصوليون يقسمون العلم إلى نوعين:
النوع الأول: علم ضروري.
النوع الثاني: علم مكتسب كما سماه الجويني رحمه الله تعالى ولذلك قال أما العلم المكتسب فهو الموقوف عن النظر والاستدلال والفرق بينهما أي العلم الضروري والعلم النظري أن العلم الضروري لا يحتاج الإنسان إلى أن يتمهل ويفكر كي يثبته ويذكر رأيه فيه لأنه ضرورة ينقدح فيه الإنسان ولذلك قال العلم الضروري ما لا يقع عن نظر واستدلال يعني لا يحتاج إلى نظر, ما هو النظر ؟
النظر هو أن يُعمل الإنسان ذهنه لإثبات المعلومة أو نفيها ولذلك الفقهاء عليهم رحمة الله تعالى يسمون الاجتهاد نظر, لماذا ؟(1/72)
لأنه إعمال للذهن في استخراج المسألة, أما العلم الضروري فهو الذي ينقدح في النفس ويتأتى لها ويصبح معلوم لديها دون أن تجتهد في إثباته بنظر أو تأمل أو فكر واجتهاد ولذلك يعني يصبح معلوم دون أن يجتهد الإنسان في النظر والتأمل والفكر وأيضاً دون أن ينصب له الأدلة يعني ليس بحاجة إلى أن ينصب له الأدلة ولذلك وصفه وقال بأنه ما لا يقع عن النظر يعني ما يحتاج إلى تأمل أو استدلال أي لا يحتاج إلى دليل مثال: وجود مكة الآن هذا علم ضروري وليس علما نظرياً لماذا ؟
لأن الإنسان إذا قيل له هل مكة موجودة أو ليست موجودة هذا علم ضروري لأن الإجابة لا تحتاج إلى نظر ولا تأمل ولا تفكر ولا إلى استدلال أيضاً ولذلك قال: ما لا يقع عن نظر واستدلال فالإجابة البديهية أن يقول نعم, وأيضاً من الحمق أن يطالب بالدليل على ذلك. ولذلك العلم الضروري له سمات أي علامات وخصائص منها:
1- أنه لا اختيار في إثباته يعني ليس له اختيار في إثباته لأنه ثابت ولا يستطيع الإنسان أن ينفيه فلا أحد يستطيع أن ينفي, أن النار محرقة مثالاً لأنه لا اختيار لإنسان في إثبات أن النار محرقة وغير ذلك من العلم الضروري.
2- أن العلم الضروري لا يحتاج معه الإنسان إلى نظر واستدلال.
3- أن العلم الضروري قدر مشترك بين العقلاء ومعنى ذلك أن كل من له عقل يدرك هذه المعلومة, فلو أتينا مثلاُ بثلاثين شخص فيهم الشيخ الكبير في العلم وطالب العلم والعامي ثم سألناهم مائة سؤال كلها من الضرورات:
هل النار محرقة ؟ هل مكة موجودة ؟ هل الخبز مشبع ؟(1/73)
ونحو ذلك من الأشياء الضرورية, فأحسنهم يأخذ مائة درجة وأسواهم كذلك لأن من سمات العلم الضروري كما قلنا أنه قدر مشترك بين العقلاء أما المجانين فلا حكم لهم قضية التكليء حتى بالنسبة لوجود الله - عز وجل - فحتى الذين ينكرون الله تعالى هم يقرون به بأنه علم ضروري في القلب أي جود الله - عز وجل - ولذلك قال تعالى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } (1) ولذلك التكذيب والاستكبار هذا أمر ثاني.
إذاً هذه سمات العلم الضروري أنه لا اختيار في إثباته لأنه ينقدح مباشرة وأنه لا يحتاج إلى نظر واستدلال وأنه قدر مشترك بين العقلاء. أما العلم المكتسب فهذا هو الموقوف عن النظر والاستدلال هذا يسمى علم مكتسب لأنه موقوف على النظر وعلى الاستدلال بمعنى أنه لا يحصل لإنسان مباشرة وإنما يحصل لإنسان بإحدى طريقتين أو بهما معا: أما النظر وبإعمال الذهن أو بالدليل المنصوب عليهم ولذلك سماه مكتسب, ما معنى مكتسب ؟
بمعنى أنه من طلبه وجده ومن لم يطلبه لم يجده وبمعنى أدق نقول أن العلم المكتسب من طلبه وعنده الآلة, الآلة يعني التي يستطيع بها تحصيل العلم يعني النظر والاستدلال ومعرفة الاصطلاحات ونحو ذلك فنقول من طلبه وعنده آلة الاجتهاد وجده لأن العلوم المكتسبة متفاوتة فيها علوم صعبة لا يدركها إلا العقلاء المتميزون وأيضاً هناك أمور عادية هي المكتسبة لكن يدركها من هو أقل ذكاء وكما قلنا أن العلم الضروري له سمات فكذلك العلم المكتسب له سمات وله علامات منها أن العلم المكتسب لا يتأتى للإنسان مباشرة أي لا يحصل للإنسان مباشرة بل إنه يحتاج إلى نظر واستدلال أو بهما جميعا يعني قد يحتاج إلى نظر أو إلى استدلال أو إلى نظر واستدلال معا مثلاً لو سألنا طالبة العلم وقلنا هل قبل الظهر راتبة ؟
__________
(1) النمل: من الآية14).(1/74)
فهذا اكتسابي لأن بعض الناس قد يجهل هذا فإذا كان الإنسان عنده علم واشتغل بتحصيله أجاب وإلا فلا وقد تكون المسألة في بعض الأحيان تحتاج إلى نظر واستدلال معا كان تكون المسألة شرعية لأنه قلنا أنه لا يتأتى للإنسان مباشرة.
هذه السمة الأولى للعلم المكتسب بل يحتاج إلى نظر أو استدلال أو إليهما معا جميعا.
لو سألنا إنسان مثلاً قال ما حكم ماء البحر ؟
نقول { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } هذا احتجنا إلى استدلال هذا علم مكتسب لكن أحياناً تكون المسألة شرعية تحتاج أولاً إلى نظر وكذلك تحتاج إلى استدلال يعني تحتاج إلى نظر بحيث فهم الدليل أولاً, لأن المسألة هذه النص فيها ليس مباشر واضحاً كما في قول الله تعالى { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } (1) من الذي بيده عقدة النكاح هل هو الزوج أو الزوجة أو الولي ؟ هذا يحتاج إلى نظر واستدلال, لماذا ؟ لأن الدليل هنا ليس مباشر وإنما يحتاج إلى النظر يعني نجتهد ويحتاج إلى استدلال, لكن لو سأل إنسان وقال ما حكم ما البحر نقول { هو الطهور ماؤه والحل ميتته } هذا يحتاج إلى استدلال فقط وهكذا. فهذه السمة الأولى للعلم المكتسب أنه لا يتأتى للإنسان مباشرة بل أنه يحتاج إلى نظر واستدلال أو إليهما معا.
السمة الثانية: في سمات العلم المكتسب, أنه مكتسب ومعنى كونه مكتسب أي يحصل بطريق التعليم ولابد من التعلم فيه أيضاً.
السمة الثالثة: أن الناس يتفاوتون في إدراكه لأن العلم المكتسب الناس يتفاوتون في إدراكه ليس كلٌ على درجة واحدة ويتفاوتون في أمرين:
1- لتفاوت عقولهم لأن من سمة البشر أنهم عقلاء لكنهم ليسوا في مرتبة واحدة في العقل, فنجد منهم العبقري والذكي وعالي الذكاء والعاقل ولذلك بقدر ما يعطي أو يعطي الإنسان من عقل في قدر ما يكتسب من العلم طبعاً إذا صاحب ذلك جد واجتهاد.
__________
(1) البقرة: من الآية237).(1/75)
2- يتفاوتون بقوة التحصيل بحسب الجد وبذل الجهد في التحصيل لأنه ليس في كل العلوم تعتمد على العقل. الرياضيات مثلاً قد كون للعقل دور كبير جداً فكلما كان الإنسان أذكى كلما كان أدرك لها. لكن بعض العلوم مثل العلم الشرعي عن كون الإنسان ذكي فقط لا يكفي ذلك بتحصيله بل لابد من جهد يبذل مع العقل أما بدون جهد فإن الإنسان لا يجد به شيئاً كثيراً والله أعلم.
ولذلك لما عرف النظر بأنه فكر عرفه بقوله النظر هو الفكر في حال المنظور فيه وهذا ما تقدم بيانه والمراد في فكرنا هو النظر فعلم أنه من سمات العلم المكتسب أنه لا يتأتى للإنسان مباشرة بل يحتاج إلى نظر واستدلال أو بهما معا والثانية أنه مكتسب والثالثة أنه من سماته وخصائصه أن الناس يتفاوتون في إدراكه.
ونقف عند قول المصنف رحمه الله تعالى والاستدلال هو طلب الدليل والدليل هو المرشد إلى المطلوب. والله أعلم.
- الدرس الخامس عشر -
قال المصنف رحمه الله { والاستدلال طلب والدليل هو المرشد إلى المطلوب }
الاستدلال هو الإستفعال, والإستفعال هو الطلب والاستصحاب أي طلب الصحبة والاستحسان أي طلب الأحسن كذلك الاستدلال هو طلب الدليل, والدليل في اللغة هو المرشد إلى المطلوب وهذا التعريف تعريف لغوي لأن الدليل في كل شيء يسمى مرشدا, والمرشد كذلك يسمى دليلا ولذلك الشخص الذي يأخذه الإنسان في الطريق ليرشده إلى المكان يسمى دليلاً والكتاب أيضاً الذي يوصل إلى العلم الحق يسمى دليلاً فهو معنى لغوياً صحيح.
وأما الدليل في الاصطلاح: فقد عرفه الأصوليين بقولهم ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
قوله ما يمكن الميم هنا بمعنى الذي أي الذي يمكن فكل ما أمكن أن يتوصل به إلى مفهوم خبري يسمى دليلاً قال ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه, ما معنى بصحيح النظر فيه ؟(1/76)
هنا قيد النظر بالصحيح, النظر يعني الاجتهاد في المسألة ولذلك قيد النظر بالصحيح لأن النظر الفاسد لا يوصله إلى المطلوب ولذلك قيد النظر بالصحيح.
فمن حيث الدلالة الشرعية والدلالة القرآنية ومن حيث الدلالة اللغوية لابد أن تكون هذه الأشياء صحيحة حتى توصل إلى المطلوب الخبري وقوله (مطلوب خبري) المطلوب أي الحكم, لأن المستدل ينصب الأدلة وينظر الأدلة ليتوصل إلى الحكم ولذلك سماه مطلوباً أي الحكم.
وقوله (خبري) لأن الأدلة لا تنصب للتمني ولا للترجي ولا للاستفهام إنما تطلب للنتائج هل يجوز أو لا يجوز؟ يعني تعطي حكم يعني الدليل ما ينصب حتى أتمنى أن يكون الحكم أو أرجو أو لعل الحكم يكون كذا وإنما ينصب من أجل أن نتوصل إلى نتيجة ولذلك قال(إلى مطلوب خبري) ولذلك الكلام ينقسم إلى قسمين:
1) إنشائي. 2) خبري.
لأننا فهمنا إضافة المجيء إلى زيد, لكن عندما نقول هل جاء زيد ؟ هذا استفهام أو لعل زيدا جاء أو أتمنى أن يجيء زيد, هذه أشياء إنشائية لا يستفاد منها شيئاً, ولذلك قال هو الذي يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
مثلاً: يأتي الإنسان بآية (أي آية مثلا) ثم يتأملها تأملاً صحيح ينظر فيها في دلالتها في معناها هذا نسميه نظر, قال ما يمكن التوصل بصحيح النظر إذا نظر بالدليل بعد ذلك يخرج بحكم وهو المطلوب وهذا الحكم خبري لأنه ليس تمني ولا ترجي ولا استفهام وإنما يعطينا خبر وهذه الآية نسميها دليلاً والتأمل في الآية كما تقدم نسميه النظر الصحيح والنتيجة التي حصلها عليها هي الخبر الذي نتج عن الآية.(1/77)
فمثلاً في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً } (1) فهذه الآية يمكن أن نتوصل بها إلى مطلوب خبري فهي دليل, الآن عندنا دليل ننظر فيه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا } هذه نهي والنهي ماذا يقتضي ؟ يقتضي التحريم, إذاً الربا محرم هذه العملية تسمى نظر النتيجة التي نخرج بها, وهي قولنا الربا محرم وهذا نسميه خبر لأننا أضفنا إلى الحكم التحريم يعني أضفنا التحريم إلى الخبر, ما هو الخبر ؟
قال: مطلوب خبري, يعني الدليل, يعني أضفنا التحريم إلى الربا ولذلك يا طالبة العلم الأحكام إضافات, الحكم إضافي دائماً كما قلنا ما يأتي تمني ولا ترجي ولا استفهام ونحوه, أما أن نلبسها حكم أو نسلب عنها إضافة الحكم.
ثم قال المصنف رحمه الله { والظن تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر والشك تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر } .
لما عرف العلم ناسب أن يعرف قسيمه وهو الظن والشك.
والمعلومات أربعة:
الأول: العلم, وهو شيء جازم تقول مثلاً (الله ربنا) هذا علم لا يحتاج إلى أمر آخر ولو احتمال ضعيف فهو لا يحتمل الخلاف فإنه لا يحتمل أنه هناك ربا غير الله - عز وجل - حتى ولو احتمال ضعيف ولذلك سميناه علماً.
الثاني: الظن, وهو أقل منه.
ثم يأتي بعده الثالث: الشك.
ثم يأتي بعد الرابع: الوهم.
بالنسبة للظن عرفه فقال: تجويز أمرين أظهر من الآخر.
ما معنى هذا الكلام ؟ معنى هذا أن يكون في المسألة احتمالين لكن أحدهما أقوى, هذا الأقوى نسميه ظن.
مثال على ذلك:
قوله تعالى { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } (2).
من هو الذي بيده عقدة النكاح ؟
قيل الذي بيده عقدة النكاح وقيل هو الولي لأنه هو الذي زوَّج ولو لم يزوّج لما ملك الزوج الزوجة.
__________
(1) آل عمران: من الآية130).
(2) البقرة: من الآية237).(1/78)
الذين قالوا: بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج, قالوا لأن الله تعالى قال { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ } أي الزوجات, فناسب أن يأتي بالعفو من وجه آخر وهو الزوج استدلوا بهذا هؤلا على هذا المبدأ. الظن عندهم هو الزوج لأنه الذي بيده عقدة النكاح, فيكون الزوج عندهم ظن والولي يعتبر وهماً.
الذين قالوا: بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي يكون الولي ظناً والزوج هماً.
الوهم: هو الذي يحتمل أمرين الأضعف يسمى وهماً والقوي ظناً.
بقينا في الشك الآن, فلقد عرف الشك بقوله: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
بمعنى أن الشك عند الفقهاء بأن يكون هناك معنيان لكن ليس هناك دليل ولا قرينة يقوي أحدهما على الآخر لأنه لو كان هناك قرينة أو دليل يقوي أحدهما على الآخر لأصبح ظناً لذلك قال { تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر } يعني كلاهما يحتمل احتمالاً قويا ما فيه قرينة أو دليل يرجح أحدهما على الآخر وهذا يسميه الفقهاء شك.
ولذلك الشك في النظر مأخوذ من التداخل لأن التداخل يجعل الأمر لا مزية لأحدهما أيضاً مأخوذ من التردد لأن الإنسان إذا كان عنده معنيان ليس أحدهما أقوى من الآخر, ما حكمه فيهما ؟
يكون مترددا, لا نقول الظن مأخوذ من التردد وإنما نقول الشك مأخوذ من التردد لأن التردد إذا كان عند الإنسان معنيان ليس أحدهما أقوى من الأخر وعلى هذا يكون الشك مأخوذ من التداخل ومأخوذ من التردد .
ونقف عند سؤال مهم وهو: أي الأقسام يعمل بها ؟ العلم أو الشك أو الظن أو الوهم ؟
- الدرس السادس عشر -
مسألة:
أي أقسام يعمل بها ؟(1/79)
أما العلم فهو واضح أنه حجة مطلقاً, أما الظن فإنه يرجع للأدلة والصحيح أنه يحتج به لأننا قلنا الظن هو { تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر } ولا شك أن من شأن العقلاء أنه إذا تردد الأمر عندهم على أمرين فإن من شأنهم إعمال الأقوى ولذلك كان حجة الظن حجة سواء كان ذلك في باب الدلالات أو في باب الأدلة لأننا قلنا كما تقدم أن الظن (تجويز أمرين أحدهما أطهر من الآخر) فالظن قد يأتي دليل من نوعه من حيث الدليل نفسه ومن حيث الدلالة والظن الذي ورد في قوله تعالى { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (1)يضاهي الظن الذي أمر الناس باجتنابه لأن الظن اللغوي يضاهي الاصطلاحي ويختلف عنه.
فالظن في اللغة: هو الذي نهى الله تعالى عنه في قوله تعالى { اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (2).
فالظن اللغوي: هو القائم على التخمين, والتخمين هو الحدث الذي يقوم على علم هذا, فهذا هو المنهي عنه ولذلك تجدين أن بعض الذين لا يأخذون بالظن ولا يعملون به كابن حزم يستدل بهذه الآيات فيستدل بمثل قوله - عز وجل - { إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } (3) وهذا خطأ في الاستدلال, لماذا ؟
لأنه يبطل شيء بدليل شيء آخر فهذه الآيات نزلت فيما يقوم على الظنون بين الناس التي لا تعتمد على أدلة فمثلاً: أفسد مال شخص أو سُرق ماله, وقال إنسان أظنه فلان وليس عنده بينه, هذا الذي نهى الله عنه, ولذلك الله - عز وجل - نهى عن اجتناب كثير من الظن لأن بعض الظن إثم ولذلك قال بعض علماء العقيدة الظن يعمل به في العقائد, ما معنى ذلك ؟
معنى ذلك هي الأدلة التي من قسم المظنون يُعمل بها كالخبر الواحد, فخبر الواحد ليس دليلاً قطعياً وإنما دليلاً ظنياً لأن الأدلة تنقسم إلى قطعية وظنية.
فالقطعية: هي الأدلة من الكتاب والسنة والمتواترة والإجماع.
__________
(1) الحجرات: من الآية12).
(2) الحجرات: من الآية12).
(3) يونس: من الآية36).(1/80)
أما الظنية: فهي مثل خبر الواحد, فخبر الواحد لا يفيد القطع, بل يفيد الظن وكذلك القياس مثله يفيد الظن وأيضاً الاستصحاب مثل أيضاً قول الصحابي يفيد الظن, كلها ستأتي إن شاء الله, ولكن ليس معنى أن هذه الأشياء تفيد الظن أنه لا يحتج بها, لا بل هي حجة ولذلك بعض الذين ينفون بعض صفات الله - عز وجل - يقولون بأنها أخبار آحاد وخبر الواحد يفيد الظن, نقول: هذا ليس بصحيح, فالصحيح أنه إذا ثبت دليل شرعي فإنه يجب العمل به حتى وإن كان خبر الواحد, ولا تهولنَّك يا طالبة العلم الظن لإيقاف الأحكام الشرعية فإن العلماء لم يقسموا الأدلة إلى قطعية وظنية, لكون الظن لا يحتج به إنما قسموا ذلك لكون الأدلة القطعية أقوى منه.
هنا يبقى سؤال ؟ ماذا نستفيد من كون العلم أقوى منها والأدلة القطعية أقوى من الظنية ؟
نستفيد منه في معنى واحد وهي قضية الترجيح بين الأقوال يعني الأدلة الظنية كونها ظنية ليس معنى ذلك أنه لا يحتج بها وإنما قسموا ذلك من باب أن الأدلة القطعية أقوى إذاً نستفيد من ذلك لكون العلم أقوى منه أو لكون الأدلة القطعية أقوى منه نستفيد من ذلك في قضية الترجيح ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يقبلون خبر الواحد في استقبالهم القبلة في تحويل القبلة عندما جاءهم رجل واحد وهم يصلون فقال { أشهد أني صليت العصر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه صلى إلى الكعبة فانحرفوا وهم في الصلاة } , فقبلوا خبر الواحد مع أنه يفيد الظن وأيضاً كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث الواحد من الناس إلى أمة كاملة يدعوهم إلى الإسلام خبر الواحد, ومع ذلك تقوم الحجة عليهم, ما الدليل على أن تقوم الحجة عليهم ؟(1/81)
أنهم إذا لم يطيعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستحيل أن يقاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والحجة لم تقم عليهم, إذاً الدليل الظني ومنه خبر الواحد حجة شرعية هذا في الدليل وأيضاً في الدلالة.
الآن بعض دلالات القرآن قد تكون ظنية ليست بقطعية كما في قوله تعالى كما تقدم { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } أيهما أقوى في الدلالة ؟ يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ؟
{ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ } هذه أقوى في الدلالة لأنه ليس فيها خلاف بينهما الذي بيده عقدة النكاح يحتمل أنه الزوج ويحتمل انه الولي الذي ترجح عنده أنه الزوج, يعمل بهذا مع أنه ظن خالفه قول آخر, فإذا جاء بالدليل سواء كان الدليل شرعي أو عقلي أو لغوي وكان يحتمل أمرين فإنه يرجح أحد الظنين.
يعني يجعل أحدهما ظناً ويعمل به ويكون حجة والآخر وهما كما في قوله - عز وجل - { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وإذا قلنا أن الذي بيده عقدة النكاح يعني (الزوج) يكون هذا ظن, والظن هنا يعمل به, أما كونه الولي هذا وهم لأنه لو لم يوجد يعني يرجح أحد الأمرين ما كان لأحدهما مزية على الآخر فينتقل إلى الشك لكن إذا جاء الدليل يقوي أحدهما فإنه يصيره إلى الظن, والظن هنا يجب العمل به حتى في الدلالات ولذلك في قوله - عز وجل - { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ } , يعني الزوجة هذا قطعي ما فيه خلاف { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } هذا ظني سواءاً قلنا الذي يعفو هو الزوج أو الولي فإنه يكون ظنياً وعلى هذا من ترجح عنده أن المقصود بذلك الزوج يجب العمل بهذا, يجب العمل بما صح وترجح عنده لكن لو أنه اجتهد ثن توصل إلى الحق ثم خالفه فإنه آثم بذلك لكن لو أنه اجتهد وقال: بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج ثم أفتى على أنه الولي فإنه آثم بذلك.(1/82)
إذاً نقول الظن يعمل به من حيث ذات الدليل كما في الخبر الواحد كما تقدم من حيث الدلالة كما في قوله تعالى { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وأيضاً يعمل به في مسألة أخرى ذكرها الفقهاء وهي مهمة.
مسألة:
في ظن المكلف لأن المكلف قد يتردد فهمه لشيئين فقد يكون عنده ظن ووهم, فمثلاً لو جاء إنسان والإمام راكع ثم ركع مع الإمام فلما رفع الإمام رفع المأموم فحصل له تردد! هنا يبقى سؤال: هل أدرك الركوع حقيقة أم لم يدركه ؟ الآن أصبح عنده معنيين مترددين أدرك الركوع أم لا ؟
هنا إذا غلب في نفسه أحد الأمرين أخذ به, يعني إذا غلب أنه أدرك أخذ به هذا غلبه الظن مع أنه ما هناك جزم ويكون عدم الإدراك وهما, أما إذا غلب على ظنه أنه لم يدركه أخذ بذلك ولم يعتد لهذه الركعة ويكون إدراكه وهماً.
ولذلك قال العلماء: أن الظن كله حجة مع أنه يختلف في القوة فهناك ما سماه العلماء مطلق الظن وهناك ظن غالب, فالظن الغالب أقوى من مجرد الظن حتى أنه أحياناً قد يصل إلى قريب من العلم.
وهناك أيضاً قسم ثالث وهو الظن الراجح هو قوي لكن ليس بقوة الظن الغالب فعندنا في:
المرتبة الأولى: الظن الغالب.
ثم في المرتبة الثانية: الظن الراجح لأن الظن الغالب أحياناً قد يصل إلى مرتبة اليقين, مرتبة القطع (العلم) ثم الظن الراجح.
ثم المرتبة الثالثة: مطلق الظن, ولذا قالوا: أن الظن كله حجة سواء كان ظناً غالباً أو ظناً راجحاً أو مطلق الظن فإنه يعمل به.
بقينا في الشك:(1/83)
الشك, قال لا يعمل به أبدا, ولذلك قالوا: الشك هو الطرح ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { أن الشيطان يأتي أحدكم إلى صلاته فيقول له أحدثت, أحدثت فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً } وكذلك حديث عبدالله بن زيد أيضاً لما شكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد في الصلاة (أي شك) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحا } هذا دليل على أن الشك مطروح وغير معمول به, ولذا قالوا الشك هو الطرح. ولذلك قال العلماء: اليقين لا يزول بالشك فعلى هذا نأخذ مثال: لو إنسان توضأ لصلاة العصر وصلى ولما جاءت صلاة المغرب تيقن أنه توضأ لكن شك هل أحدث أم لا بعد الصلاة, صلاة العصر ؟
نقول الأصل الطهارة لأن اليقين لا يزول بالشك, وكذلك نعكس القضية: لو أن إنسانا توضأ لصلاة العصر فصبى ثم تيقن الحدث لما أتت صلاة المغرب هو الآن تيقن أنه نقض وضوءه (إما ببول أو غائط وغيره) لكن شك هل توضأ أو لم يتوضأ ؟
الأصل عدم الطهارة ولذلك قال العلماء: اليقين لا يزول بالشك لأنه لو كان الشك حجة لزال اليقين به ولذلك الشك مطلق التردد لا يغير الحكم بل يبقى على أصله وإذا كان الشك لا يعمل به فالوهن أولى لأنه أسوأ من الشك.
والله أعلم.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
- الدرس السابع عشر -
قال المصنف رحمه الله { وعلم أصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال }
لما عرف المؤلف رحمه الله أصول الفقه في أول الكتاب إنما عرفه بالتعريف الإضافي.
والإضافة معناها: إي إضافة كلمة أصول إلى كلمة فقه بمعنى أنه عرف كلمة الأصول لوحدها وكلمة الفقه لوحدها ثم بعد ذلك عرف ما يحتاج إليه لمعرفة كلمة أصول ولمعرفة كلمة الفقه.
فعرف الظن كما تقدم والعلم وغيره مما تقدم من التعريفات وانتهى إلى تعريف الشك فقال: هو تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر إلى قوله والشك تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.(1/84)
يكون المصنف انتهى من تعريف أصول الفقه بالتعريف الإضافي ثم بدأ بتعريفه أللقبي ولذلك قال:
{ وعلم أصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال } .
المراد بقولنا تعريفا لقبياً أي إننا نهجر كلمة أصول لوحدها وكلمة فقه لوحدها, واللقب معناه: إذا أضيفت كلمة أصول الفقه إليه على ما يعود الذهن كلقب الإنسان, الإنسان لماذا وضع لقبه ؟ حتى يتميز به عن غيره بعيدا عن معنى مفردات لقبه, فقد يلقب الإنسان باسم مركب ولكن عندما نسميه نغفل عن قضية معنى كل مفرداته ونجمعها جميعا فأصبحا في مجموعهما يدلان على ذات واحدة هي ذات المعنى, ولذلك شرع بتعريف كلمة أصول الفقه تعريفاً لقبياً بمعنى كلمة (أصول الفقه) مجتمعة بعيدا عن بحث مفردات كلمة أصول وكلمة فقه, كل واحدة لوحدها كما هو في التعريف الإضافي.
المراد بتعريف أللقبي: هو الاسم الذي إذا أطلق عند إطلاقه ينقدح إلى ذهنك علماً معيناً.
ولذا قال { وعلم أصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال } .
هذا تعريف للأصول بالتعريف أللقبي أي أن كلمة أصول فقه لقب على علم معين ما هو ؟
قال: جوابا على ذلك هو (طرقه) والضمير في طرقه يعود إلى الفقه أي أن أصول الفقه طرق الفقه على سبيل الإجمال وتقدم في أول الكتاب, لماذا قيده بالإجمال ؟
وقلنا لأن التفصيل هو شأن الفقه والإجمال شأن الأصول ولذلك الفروع الفقهية التي تسمى الآن كتب الفقه تبحث في المسائل واحدة واحدة, مثلاً يأتي كتاب الصلاة ثم يذكر شروط الصلاة وأركانها ونحو ذلك, مثلاً يذكر فصل في شروط الصلاة ثم يتطرق لشرط من شروط الصلاة كاستقبال القبلة مثلاً وهكذا يتحدث عن كل مسألة لوحدها ولذلك قالوا (الفقه) هو على سبيل التفصيل أي مسألة مسألة, أما (أصول الفقه) فهو على سبيل الإجمال.(1/85)
إذاً الفقه على سبيل الإجمال لماذا ؟ لأن قواعد عامة تدخل فيها مسائل كثيرة بالمئات, فمثلاً عندما نقول الأمر يقتضي الوجوب, هذه مسألة مجملة, لماذا مجملة, لأنه يدخل فيها مسائل كثيرة جداً. فكل أمر يأتي في الشرع الأصل فيه أنه على الوجوب, فهذه قاعدة ولذلك قال: طرقه على سبيل الإجمال ليست تفصيلية كقولنا مثلاً يجب قضاء الفؤائت وسجود السهو أحيانا يكون قبل السلام وأحيانا بعده وهكذا, لكن قولنا { الأمر يقتضي الوجوب } هذه قاعدة أصولية لأنه يدخل تحتها مسائل كثيرة جداً.
أو مثلاً لو قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هذه قاعدة أصولية قد يدخل تحتها الآف المسائل ولذلك قال: وعلم أصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال, يعني يأتي بقواعد عامة.
ثم قال رحمه الله { وكيفية الاستدلال بها } معطوف على قوله { طرقه } أي أن موضوع أصول الفقه أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاشتغال فيها يعني كيفية الاستدلال بها فهو يشتغل بكيفية الاستدلال بهذه الأدلة من حيث الضوابط اللفظية للاستدلال من النص الشرعي لأن الشريعة جاءت بالكتاب والسنة والمجتهد أو العالم أو طالب العلم يجب أن يكون عنده ضوابط شرعية, لماذا ؟
من أجل أن يستفيد من هذه الأدلة في الأحكام من حيث معرفة الأمر والنهي, والإجمال, البيان, وكما سيأتي يعرف متى يكون اللفظ مقيد, مطلق عام, خاص, ما هو الناسخ والمنسوخ وضابط النسخ, هذه كلها معنى قول المؤلف(وكيفية الاستدلال بها) فإن الأدلة منصوبة لجميع المسلمين لكن نجد " انتبهي " أنه بقدر ما تضبط هذه الأدلة بالضوابط الأصولية بقدر ما يكون فهم الإنسان لهذه الأدلة بشكل أكبر.(1/86)
ولذلك نجد الآن أن العامي مثلاً يقرأ القرآن والسنة ليتعبد فقط ويتأمل ولكن لا يستنبط منها أحكام بل أحياناً قد يقرأ آية فيها نص على كفارة اليمين ويسأل عن كفارة اليمين, ولكن ما يقول هذه الآية والحديث يدل على كذا لأنه لم يصل إلى هذه المرحلة, أما طالب العلم فإنه يتدرج به المقام في النظر وكلما علا علمه وعظم كلما كان استنباطه من الآيات والأحاديث أدق من غيره وهذه منحة ربانية يمنحها الله سبحانه من عباده لمن أخلص لله سبحانه القصد وبذل يعني يبذل في طلب العلم مع الإخلاص لله عز وجل.
المؤلف رحمه الله تعالى فاته حينما قيد أصول الفقه فقال: (أنه طرق) أي طرق الأدلة وكيفية الاستدلال بها فاته ذكر حال المستفيد, يعني من المستفيد من الأدلة ؟ لأننا قلنا أن علم الأصول يجب أن يعلم من هو المستفيد من الأدلة وتقدم أن قلتا أن العوام لا يجوز أن يؤخذ قولهم في الأحكام إلا أن كان الواحد ينقل منهم فيقول سمعت العالم الفلاني يقول كذا, ولا يجوز أن يجتهدوا في المسائل ولذلك علماء الأصول ضبطوا من هو المستفيد من الأدلة ؟ وهو العالم وجعلوا لذلك ضوابط شرعية.
ما هي المرحلة الذي إذا وصل إليها يسمى مجتهداً ؟ والمرحلة التي إذا وصل إليها يسمى عالماً ؟
والعالم أقل مرحلة من المجتهد طبعاً, أيضاً ما هي المرحلة التي إذا وصل إليها يسمى مستدلاً ؟ ثم ما هي المرحلة إذا وصل إليها يسمى طالب علم ؟ وهذا أقل أيضاً, ما هو ضابط العامي ؟ يعني متى نحكم على هذا الإنسان أنه عامي من جملة العوام ؟ وهل يكون الإنسان عامي في مسألة وعالماً في مسألة أخرى ؟ ثم هذا العامي يقلد من ؟ هل يجوز له أن يقلد كل أحد أم لا ؟ هذه يضبطها الأصوليين بقولهم (وحال المستفيد) أي ما هي حال الذي يستفيد من الأدلة الشرعية؟ وبالنسبة للمقلد والمجتهد والعالم هذا سياتينا ضوابطها إن شاء الله تعالى.
لما انتهى المؤلف رحمه الله من التعريفات بدأ بالمسائل فقال { وأبواب أصول الفقه }(1/87)
أقسام الكلام, والأمر, والنهي, والعام, والخاص, والمجمل, والمبين, والظاهر, والمؤول, والأفعال, والناسخ, والمنسوخ, والإجماع, والأخبار, والقياس, والحظر, والإباحة, وترتيب الأدلة, وصفة المفتي, والمستفتي, وأحكام المجتهدين.
هذا الكلام الذي ذكره كله عرض للمسائل التي سيتكلم عنها المؤلف في ثنايا الكتاب, فلا نحتاج شرح هذه الألفاظ وهي سيأتي إن شاء الله تعالى كعناوين للمسائل ولذلك بدأ بعدها مباشرة بأقسام الكلام, لأن هذا هو الباب الأول ولو تأملت هذه الأبواب التي ذكرها المؤلف لوجدت أنها غير حاصرة في المسائل الأصول التي يجب أن يلم بها طالب وطالبة العلم المبتدئة, هذه غير حاصرة لكن سنعمد إن شاء الله إلى استدراك المسائل المهمة في مظانها.
ولذلك قال:
أولاً: وأقسام الكلام, فقال { فأما أقسام الكلام فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان أو أسم وفعل أو فعل وحرف أو اسم وحرف }
قال: وأبواب أصول الفقه, أي التي سنتكلم عنها.
وهذه المسألة:
أي كون أقل ما يتركب منه الكلام اسمان, أسم وفعل, أسم وحرف, فعل وحرف, هذه لا قيمة لها في الأصول إلا من باب التمهيد لما بعدها لأن المؤلف من هذه المسألة سيشرع في بيان أحكام الكلام. ما المراد بالكلام ؟ أي اللفظ, أي الكلام الملفوظ الذي يتكلم فيه الإنسان يعني من حيث نوعه وإفادته للمعنى ومن حيث دلالته ولذلك ناسب أن يذكر ما دام سيتكلم عن الكلام بعض الجزئيات النحوية ولذلك قال: فأقل ما يتركب منه الكلام أسمان أو أسم وفعل أو فعل وحرف, أو أسم وحرف.
قوله (أسمان) كأن يكون مبتدأ وخبر كقولنا (الله ربٌ) أو (الله أحدٌ) فإن (الله) أسم و (أحد) أسم أيضاً ومع ذلك أتم كلاماً مفيداً.
وقوله رحمه الله { أقل ما يتركب منه الكلام } .(1/88)
يقصد بذلك الكلام المفيد لأن الكلام غير المفيد قد يأتي بكلمة واحدة فيقول الإنسان مثلاً (لا) فقولنا (لا) هذا حرف واحد هذه لا تعد كلمة فهذه لا تفهم إلا إذا ترتبت على غيرها لأنه لوحدها لا نستفيد منها شيئاً لكن نستفيد منها إذا كانت مترتبة على غيرها كما لو قيل (هل جاء زيد ؟ ) فأقول (لا) فقولي (لا) لا تعد كلمة وإنما يجبك أن تعد جملة فيكون المقصود (لا, ما جاء زيد).
ولذلك حرف (لا) لوحدها بدون ارتباط بكلام متقدم لها أو سابق أو كلام آت أو كلام آت لا تعد كلاما ولذلك قال (وأقل ما يتركب منه الكلام) أي المفيد.
قال (اسمان) كالمبتدأ أو الخبر لأنهما أسمان وهذا هو الأصل.
ثم قال: (أو أسم وفعل) وهذه هي الجملة الفعلية كقولنا (جاء زيد) هذه جملة فعلية لأنها مبدوءة بفعل.
ثم قال(أو فعل وحرف) مثل(ما قام) فالميم حرف نفي (وقام) فعل ولذلك بناء على كلامه المتقدم تُعقب المؤلف رحمه الله بإيراده للفعل والحرف كقوله (ما قام) مثلاُ لأن قولنا (ما قام) لو كانت بدون ارتباط ذهني سابق فهي لا تفيد شيئاً مثل حرف (لا) المتقدم ما يفيد إلا إذا كان له ارتباط مع غيره.
قوله(اسمان) هذا صحيح وقوله (اسم وفعل) هذا صحيح لكن قوله (فعل وحرف) هذا وإنما تعقب المؤلف رحمه الله تعالى بإيراده للاسم والحرف على أنه من أقسام الكلام المفيد لأن قولنا (ما قام) لو كانت بدون ارتباط ذهني لما أفادت شيئاً.
ولذلك لو جاء إنسان وقال( ما قام) لصح السؤال بعد ذلك (من هو ؟) ولذلك قال أهل اللغة: أن التمثيل هنا غير صحيح لأن الجملة هذه هي حقيقتها حرف وفعل, وفعل واسم والأصل أن يقال (ما قام) أي هو أو أن يكون المذكور كأن تسألين (هل قام فلان ؟) فتقولين (لا ما قام) فعلى هذا تُعقب على قوله (أو فعل وحرف) لأنه لا يفيد إلا بارتباط كلام سابق يعني ارتباط مسبوق بالكلام حتى يكون مفهوم والله أعلم.
ثم قال { أو اسم وحرف } .(1/89)
كأن تقولي (يا فاطمة) يعني تناديها تُعقب على قوله ذلك كما تُعقب أولا يعني مثل ما تعقب به في الفعل والحرف, لكن الأمر هنا أسهل لأنه يمكن أن تنادي امرأة لتجيء فمثلاً قولنا (يا فاطمة) بمعنى تعالي فيكون ليس إفراد للجملة, وعلى كل الأمر بقوله(أسم وحرف) هنا أهون من قوله (فعل وحرف) المتقدم لأن في قوله هذا تميل النفس ميلاً قوياً إلى أنه لا يصح الكلام (حرف وفعل فقط) إلا إذا كان مرتبط بمعنى سابق, أما قوله (أسم وحرف) فالحقيقة أنه متوجه وخاصة في باب النداء لأنك تقولين (يا فاطمة) إذا أردت أن تقولين (أحضري لي ماء) أو (أغسلي ثيابي) أو نحو ذلك, فأنت إذا ناديت تريدين تنبيه من ناديت فلا تحتمل معنى آخر بل تريدين التنبيه فعلى هذا بالنسبة (للاسم والحرف) متوجه من هذه الناحية.
نقف عند قول المصنف رحمه الله تعالى { والكلام ينقسم إلى أمر ونهي, وخبر واستخبار }
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الثامن عشر -
قال المصنف رحمه الله { والكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار } .
الأمر هو طلب الفعل (أذهب, ألعب, صلِ, أدرس ونحوه).
أما النهي فهو طلب الترك مثل قول (لا تسرف, لا تزني, لا تغتب ونحو ذلك).
والخبر عرفه أهل البلاغة أنه هو الذي يحتمل الصدق والكذب بمعنى أنه إذا عُرض عليك الخبر يكون موقف الإنسان منه على أحد أمرين إما مصدق له أو مكذب له ولذلك لو قيل لق هل جاء زيد ؟ تقولين: نعم! هذا تصديق, وإذا قلت: لا لم يأتِ! هذا تكذيب ولذلك تكون كل جملة خبرية تحتمل الصدق والكذب بذاتها.
انتبهي!(1/90)
حتى لا يرد علينا إنسان ويقول كلام الله - عز وجل - يحتمل الصدق والكذب هذا لا يجوز لأن كلام الله حق وصدق منه تعالى يجب الإيمان به يقيناً, ولكن مرادنا من قولنا الجملة الخبرية التي تحتمل الصدق والكذب أي أنه طابع الجملة الخبرية ولذلك لو تمنى إنسان مثلاً فقال (ليتني أفعل كذا) أو تمنى على الله - عز وجل - فقال عسى الله أن بنصر أمة الإسلام فإنه لا يصح أن ينزل كلامه على أنه صادق أو كاذب منه إذا قولنا هذه الجملة الخبرية التي تحتمل الصدق والكذب أي أن ذلك طابع الجملة الخبرية ولذلك المؤلف جعل الكلام من وجه أنه أمر ونهي وخبر واستخبار.
الاستخبار هو افتعال, والافتعال في اللغة يفيد الطلب أي طلب الخبر والمراد بطلب الخبر هو الاستفهام كأن تقولين: هل جاء زيد ؟ أنت تطلبين خبراً, تريدين أن يقول لك المسئول: نعم جاء زيد , هذا خبر فهو استخبار أي طلب للخبر.
ثم قال { وينقسم أيضاً إلى تمن وعرض وقسم } .
هذه كلها تقسيمات لا تعني الفقيه بشيء فالفقيه لا يحتاج إلى شيء من هذا الكلام الذي يعني الفقيه أن يقول أن الكلام ينقسم إلى إنشاء وخبر وأما التمني مثلاً لا قيمة له في الدلالة وإنما الذي له قيمة أن نقول أن الكلام ينقسم إلى إنشاء وخبر كما تقدم أما الخبر فهو الذي يحتمل الصدق والكذب وأما الإنشاء فهو الذي يكون فيه طلب وهو على نوعين:
1. طلب ترك 2. طلب فعل.
أما طلب الفعل فهو: الذي يسميه الأصوليين الأمر.
وطلب الترك هو: الذي يسميه الأصوليين النهي.
وهذا النوع يا طالبة العلم تجدين أنه هو الغالب في الأحكام الشرعية لأنها إما أمر أو نهي أما ما عداه من أنواع الكلام من التمني والترجي والعرض فهذا من حيث البلاغة.
يعني طالب العلم نعم يحتاج إلى ذلك لكن من حيث الفقه وفهم النصوص الشرعية ودلالتها فإن طالب العلم ليس بحاجة إلى هذا أما طالب العلم فهو يحتاج إلى أن يعرف أن الكلام ينقسم إلى إنشاء وخبر.(1/91)
ثم قال { ومن وجه آخر ينقسم إلى حقيقة ومجاز, فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه } .
الآن بدأ بتقسيم الكلام تقسيماً آخر وهو باعتبار الحقيقة والمجاز فعرف الحقيقة بقوله: فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه, وقيل ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة, فعرف الحقيقة بهذا.
أولاً: نحتاج إلى تعريف الحقيقة في اللغة لأنه لم يذكره رحمه الله تعالى فهي في اللغة من حق الشيء إذا وجب, تقولين: حقك ثابت علي أو واجب, ولذلك سمي الواجب في الشريعة واجب لماذا ؟ لأنه حق ثابت لله - عز وجل - لا خيار للإنسان في فعله فتقولين مثلاً فلانه إكرامها واجب, تريدين إذا كان لها حق لازم عليك ولذلك أخذت الحقيقة من الحق.
وأما في الاصطلاح فقد عرفها المصنف رحمه الله تعريفين:
فقال { هي ما بقي في الاستعمال على موضوعه } .
أي أن اللغة في أول الأمر وضعت وضعاً وجعلت الألفاظ تقابلها معاني فمثلاً وضع العرب كلمة أسد للحيوان المفترس ومثلاً كلمة رجل للذكر من الآدميين وامرأة للأنثى من الآدميين.
هذا الموضوع أصلاً في اللغة, لغة العرب بهذا المعنى فاستمرار استخدام هذا الاسم بهذا المعنى هذا يسمى لفظاً حقيقياً ولذلك قال: فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه أي أنه لم يغير.
وقوله: ما غير أو تغير يجب أن نرفضها جيدا لأن المجاز فيه تغير, فمثلاً القلم الآن, القلم المعروف من الخشب وغيره يكتب بدون ويدون به, استخدمه بهذا اللفظ الذي وضعته العرب يسمى حقيقة وهكذا الجمل, الشاة وغير ذلك, ولذلك قال: ما بقي في الاستعمال, أي أنه ما بقي استعماله وأن هذه اللفظة لم تعرف بمعنى آخر فكلمة أسد بقيت للحيوان المفترس فهذه اللفظية لم توضع بمعنى آخر وإنما بقيت للاستعمال في المعنى الأول الذي وضعت في موضوعه.
ما معنى قوله في موضوعه ؟(1/92)
أي الذات التي وضع لأجلها, فالعرب مثلاً كلمة قلم القاف واللام والميم وضعت للقلم الذي يكتب به هذا لم يتغير فيه شيء أصلاً فهو باقي على موضوعه إذاً يسمى هذا حقيقة.
وقيل هذا التعريف الثاني: يعني عرفه أهل العلم بتعريف ثاني وهو ما استعمل فيما اصطلح عليه من الحقيقة وهو نفس التعريف الأول وإنما الاختلاف بصيغة العبارة ولذلك قال وقيل ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة.
فاصطلح على أن هذا قلم استعملناه بما اصطلح عليه سمي حقيقة وكما قيل في ضدها تتبين الأشياء, فإذا عرفنا المجاز تتبين لنا الحقيقة بشكل أوضح.
ولذلك قال: فالمجاز ما تجوز عن موضوعه.(1/93)
أما تعريف المجاز في اللغة: مأخوذ من المجاوزه وهي البعد والمغايره, نقول فلان تجوز بكذا أي أنه استخدمه في غير ما وضع له يعني مثلاً نقول: فلان تجاوز في السيارة أو تجوز في استخدامها أي أنه استخدمها في غير ما وضعت له, فالمجاز كالحقيقة ولكن لغير ما وضع له اللفظ مثلاً إذا رأيت رجلاً قوياً شجاعاً فقلت هذا أسد لو سألنا هل العرب وضعت كلمة أسد لهذا الإنسان لكانت الإجابة لا, لأن هذه الكلمة لحيوان مفترس فتجوزنا بوضع هذه الكلمة لغير ما وضعت له فأطلقناها على الرجل ولذلك الحقيقة هي الأصل ولما كانت هي الأصل كانت لا تحتاج إلى قرينة. الآن لو دخلت امرأة وقالت: رأيت أسد ! لوقع في ذهنك الحيوان المفترس لأننا استخدمنا هذا اللفظ للمعنى الذي وضعته العرب أولاً ولذلك قلنا أنه لا يحتاج إلى قرينة وإلا ما يتضح كان تقولين مثلاً: رأيت أسد يبارز أو رأيت أسد يخطب, لما قلنا يخطب عرفنا أنك تريدين المعنى المجازي بمعنى أنك رأيت إنساناً شجاعاً يخطب بالناس, ولذلك العرب عرفوا المجاز بقولهم ÷و استخدام اللفظ في غير ما وضع له, لأن كلمة أسد لم توضع للإنسان الشجاع يعني في الأصل وإنما وضعت للإنسان المفترس ولذلك استخدم اللفظ في غير ما وضع له يحتاج إلى قرينة, والقرينة عندنا قولك يخطب وأنت تقصدين بذلك الرجل ولذلك شرط أهل اللغة في المعنى المتجاوز شرطان يعني إذا نقلت اللفظ من المعنى الحقيقي إلى المجازي تحتاجين إلى شرطين:
الشرط الأول: أن تكون هناك علاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي, ما معنى علاقة ؟
أي ضابط عندما قلنا أسد ونحن نقصد به الحيوان الحقيقي وعندما نأتي الإنسان ونقول هذا أسد لأنه شجاع هذه هي العلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي هنا في الشجاعة ولذلك لابد أن يكون هناك علاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي.(1/94)
الشرط الثاني: وجود قرينة ناقلة لأننا أن قلنا أن المعنى المجازي يحتاج إلى قرينة تنقله من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي والحقيقي لا يحتاج لأنه هو الأصل.
ما هي القرينة هنا ؟ رأيت أسدا يخطب. القرينة في قولنا يخطب لأن الأسد الحقيقي لا يخطب فلما ذكرنا كلمة يخطب نقلنا المعنى من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي فنقل الكلام يحتاج إلى علاقة وقرينة.
ومثلاً:
لو قال إنسان رأيت حماراً فعلى هذا يكون رأى الحيوان المعروف والعرب يقولون الحمار يتصف بالبلادة والغباء وهو من أغبى الحيوانات ولذلك الرجل الغبي تتجوز العرب بتسميته حمارا يقولون مثلاً: رأيت حمارا يتعرض لبنات المسلمين, فلا يقصد بذلك الحمار الحقيقي لأنه لا يفعل ذلك وإنما استخدم معنا مجازياً هنا علاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي العلاقة هي: الغباء في كل منها منهما, لأنه لو لم يكن بليدا ما استخدم هذا الأسلوب والقرينة أننا أردنا المعنى المجازي وهو قولنا: يتعرض لبنات المسلمين, لأن الحمار الحقيقي أكرمكم الله لا يفعل هذا.
بعد هذا بدأ المؤلف بتقسيم الحقيقة فقال { والحقيقة إما لغوية أو شرعية عرفية } .
الآن لما تكلم عن أقسام الكلام من حيث الحقيقة وعدمها ذكر أنه على قسمين حقيقة ومجازا بدأ الآن بتقسيم الحقيقة فقال إنها { إما لغوية أو شرعية وأما أنواع عرفية } .
فالحقائق ثلاثة أنواع إما:
1.أن تكون حقيقة لغوية.
2.أو حقيقة شرعية.
3.حقيقة عرفية.
فالقسم الأول: الحقيقة اللغوية, هي استخدام اللفظ فيما وضعته له العرب أولاً مثل كلمة ثوب, حذاء, مسجد, ونحو ذلك هذا بقي فهذه حقائق لغوية.
القسم الثاني: الحقيقة الشرعية, هو استخدم اللفظ لما وضع له شرعاً أي أن الشريعة لما جاءت وأرسل الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونزل الكتاب وجاءت السنة نجد أن بعض الألفاظ العربية استخدمت في غير المعنى الذي وضعت له, أي استخدمت في معنى آخر أصبح هو الذي يتبادر إلى الذهن.(1/95)
ما الذي نقله ؟ الناقل هو الشرع .
ولذلك قلنا أنها حقيقة باعتبار أنها متبادرة إلى الذهن وقلنا شرعية باعتبار أن الذي أتى بها هو الشرع مثلاً الصلاة معناها الشرعي هي الدعاء فلو قيل لق صلي يا فلانة فإنه لا يتبادر إلى ذهنك رفع اليدين للدعاء ولكن يتبادر إلى ذهنك الصلاة المعروفة.
ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة المسيء صلاته قال { أرجع فصل فإنك لم تصل } الإعرابي ذهب وصلى الصلاة المعروفة ما رفع يديه في الدعاء فنجد أن الشرع نقل كلمة الصلاة من معناها اللغوي إلى معنى آخر وهو المتبادر إلى الذهن وهي الصلاة المعروفة : مثل العمرة معناها الزيارة ولكن الشرع ضبطها بالذهاب إلى مكة والإحرام والطواف والسعي ..الخ, هنا نقلت من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي.
القسم الثالث: والحقيقة العرفية, هي استخدام اللفظ فيما وضع له عرفاً أي في عُرف الناس بمعنى أن اللفظ يستخدم في لغة العرب بمعنى معين فتعارف الناس على استخدامه في غير ما وضع له فأصبح هو السائد عندهم والمتبادر إلى أذهانهم مثلاً: الآن أكرمكم الله, الغائط في اللغة يستخدم للمكان المنخفض من الأرض كما في قوله تعالى { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ(1) } , يقصد بالغائط هنا هو المكان المنخفض من الأرض يعني الإنسان إذا أراد قضاء الحاجة يتتبع المكان المنخفض من الأرض هذه هي الحقيقة اللغوية التي وضعها العرب لها ولكن تعارف الناس على أن الغائط المراد به الخارج من الإنسان من النجس فكونه حقيقة عرفية لأن الخارج من الإنسان من النجس هو الذي يتبادر إلى أذهان الناس إذا قيل الغائط وكونها عرفية لأنها ليست من وضع اللغة ولا الشرع ولكن هو العرف.
والحقيقة العرفية على نوعين:
النوع الأول: عرفية عامة, يستخدمها جميع المتكلمين مثل كلمة حيوان فكلمة حيوان في اللغة تطلق على ما فيه حياة هذا هو الأصل لكن العرف نقلها البهيمة.
__________
(1) النساء: من الآية43).(1/96)
النوع الثاني: عرفية خاصة, كالتي يستخدمها بعض أهل العربية وهم أهل الفنون يعني تجدين عند أهل كل فن اصطلاح خاص بهم كأهل الحديث يقولون (الرواية, الدراية, المرسل, المعلق, المقطوع, المعنعن...الخ) وأهل التفسير كذلك عندهم (المحكم, المتشابه, الظاهر, المؤول..الخ) والفقهاء لهم اصطلاحات وعلماء النحو لهم اصطلاحات.. هذه تسمى عرفية خاصة.
نقف عند المسألة:
الخلاف في المجاز هل هو موجود في اللغة أو غير موجود ؟
- الدرس التاسع عشر -
مسألة:
هل المجاز موجود في اللغة أم غير موجود ؟
فمن حيث التقسيم اللغوي العرب ذكرت المجاز لكن هل المجاز حقيقة في الشرع أم ليس بحقيقة ؟
هذه مسألة أخرى أنقسم الناس فيها إلى ثلاثة مذاهب فمن ناحية التقسيم اللغوي ذكروا حقيقته لكن من حيث وجودها في الشريعة.
القول الأول: قالوا إنه غير موجود في اللغة مطلقاً فضلاً عن الشرع فإذا كان غير موجود في اللغة فعدم وجوده في الشريعة (الكتاب والسنة) من باب أولى, وهذا مذهب ابن القيم رحمه الله والشنقيطي وأومأ إلى ذلك ابن تيمية وغيرهم كذلك أبو علي الفارسي من أهل اللغة وأبو إسحاق الشيرازي هؤلا وغيرهم قالوا [انه ليس هناك في اللغة أصلاً شيء أسمه حقيقي ومجاز وأن اللغة كلها حقائق ولكن بعضها يفهم بالقرينة وبعضها يفهم بدون قرينة.
فمثلاً إذا قيل رأيت أسدا, قالوا هذه حقيقة بدون قرينة, ورأيت أسد يخطب هذه حقيقة بقرينة.(1/97)
القول الثاني: قول وسط وهم الذين قالوا: أن المجاز موجود في اللغة ولكن غير موجود في القرآن والسنة وهؤلا أشهرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأتباعه من السلف وكذلك شيوخ وعلماء نجد يعني تلاميذ شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله, والمعمول بنفيهم لذلك يعني المستند بنفيهم لوجود المجاز في القرآن والسنة هو أنهم لما رأوا أهل البدع يحتجون بنفي الأسماء والصفات على أنها من باب المجاز كما سيأتي من الأمثلة ولذلك نفوا وجود المجاز في القرآن والسنة سداً للذريعة فمثلاً قول الله - عز وجل - { وَجَاءَ رَبُّكَ(1) } هنا إثبات صفة المجيء لله - عز وجل - والمؤولة الذين ينفون باب الأسماء والصفات يقولون بأن هذا مجاز أي جاء أمر ربك وكما في قوله { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (2) هذا في إثبات صفة اليد على وجه يليق بجلاله وعظمته والمؤولة يقولون المراد بيد الله أنها مجاز والمراد بها إحاطته وقدرته ونعمته فهم نفوا المجاز في الكتاب والسنة تأصيلاً على مذهبهم وهو أن الأصل في الكلام أن يؤخذ على حقيقته في كل النصوص فكيف بآيات الأسماء والصفات والتي هي مذهب أهل السنة والجماعة وأنه يؤمن بها إيماناً كاملاً كما جاءت في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وذلك من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تأويل ولا تحريف.
من غير تكييف: يعني ما يسأل عنها ب (كيف) ؟ ولا تعطيل ما تعطل عن معانيها, ولا تمثيل أي لا يمثل بها, ولا تشبيه أي أنها لا تقتضي المشابهة لصفات المخلوقين, ولا تأويل يعني يحرفها عن معناها أو صرف اللفظ عن ظاهره, ولا تحريف أي صرف اللفظ عن معناه على حد قول الله - عز وجل - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (3).
__________
(1) الفجر: من الآية22).
(2) الفتح: من الآية10).
(3) الشورى: من الآية11).(1/98)
القول الثالث: هو قول من قال بوجوده حتى في الكتاب والسنة وفي اللغة من باب أولى وهذا لم يذهب إليه المبتدعة لوحدهم وإنما حتى بعض أهل السنة والجماعة قالوا به لكن على قول هؤلا بوجود المجاز.
كيف سلمت لهم الأسماء والصفات وهم يقولون بوجود المجاز ؟
قالوا: إننا نقول بوجود المجاز في الكتاب والسنة ولكن لا نسلم للمبتدعة أن آيات الأسماء والصفات فيها مجاز لماذا ؟
لأن المجاز له شروط ولو تأملنا آيات الأسماء والصفات لم نجد آية واحدة انطبقت عليها شروط المجاز مثلاً قوله تعالى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } الأصل في اليد أنها للحقيقة, يعني يقولون الأصل في الكلام الحقيقة إذاً ما هو الصارف للمجاز ؟
لابد للمبتدع أن يأتي لنا بعلاقة وقرينة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي حتى وإن أتوا بقرينة فهي عقلية يعني قد يأتون بقرائن أحياناً ولكنها عقلية وقد اختلف أهل اللغة في القرائن العقلية هل تصح أو لا تصح ؟
ومع ذلك إلا أنها غير صحيحة.
مثل قوله تعالى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ(1) } يقولون إن هذا العقل يقتضي أنه مجاز حتى يفروا من إثبات صفة الوجه لله بقرينة عقلية لماذا العقل يقتضي أنها مجاز ؟
قالوا: ما هي هذه القرينة ؟ القرينة العقلية وهي التي تقول أن المجاز يقتضي التشبيه بالمخلوقين, فلذلك يقولون بأننا لا نقول به وجه حقيقي ولكن نقول إن المراد به العزة والجاه والمنعة, لاحظي أتوا بقرينة ولكنها عقلية ومع اختلاف أهل اللغة في القرائن العقلية هل تصح أو لا تصح ومع ذلك فهي غير صحيحة, أيضاً يعني حشفا وسوء كيله.
لكن نقول لهؤلا:
أولاً: المجاز لا يساعدكم لأنه ليس هناك قرينة.
__________
(1) الرحمن: من الآية27).(1/99)
ثانياً: لو سلمنا لكم أن العقل يقتضي أن ينفي الحقيقة, لتنزه الله - عز وجل - عن موافقة المخلوقين لأنهم يقولون لو سلمنا أنه وجه حيقي يليق بجلال الله وعظمته لأدى ذلك إلى تشبيه الخالق بالمخلوق نقول: إن الموافقة بالاسم لا يستلزم الموافقة بالمسمى.
فهذا يختلف عن هذا تعاظم الله عن ذلك فإثبات الوجه لله تعالى لا يلزم من ذلك مشابهة المخلوقين فإذا كان المخلوق لا يرضى بمشابهته بمخلوق فكيف بالمخلوق والخالق ؟ هذا رد عقلي.
الذين قالوا بعدم وجوده مطلقاً استدلوا بدليلين:
الأول: قالوا, بأن المجاز يجوز نفيه وكتاب الله لا يجوز نفيه فكيف نثبت في الكتاب شيء يجوز نفيه وهذا يدل على العبث في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فحينما نقول: واشتعل الرأس شيبا, هنا يرد سؤال:
هل اشتعل الرأس شيباً ؟
قالوا: فيجوز أن تقول لا لم يشعل الرأس شيباً فهذا دليل أنه يجوز نفيه.
قالوا: فإذا كان هذا لا يصح فكيف يصح في كلام الله - عز وجل - .
لكن يجاب عن هذا أن الكلام باطل ولا يصح لأنك إذا أثبت كلاماً مجازياً باعتبار مجازيته لا يعتبر فيه نفي أصلاً أما هم فيقولون يجوز نفيه باعتبار الحقيقة بمعنى مغاير يعني أنت تثبت حقيقة ثم مجاز فلو إنسان أثبت حقيقة ثم نفى مجاز هذا ما فيه شيء هذا صحيح كذلك لو أتى بمجاز ثم نفي حقيقته هذا ليس فيه شيء لكن كون الإنسان يأتي بمجاز ثم ينفي مجازه أو يأتي بحقيقة ثم ينفي حقيقتها هذا مذموم.
مثال: قول الله - عز وجل - { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } (1) لنفرض أن هذا مجاز هم يقولون كما تقدم يجوز أن تقول ما اشتعل الرأس فيكون هذا نفي.
لو سألنا هل الرأس اشتعل أم لا ؟
__________
(1) مريم: من الآية4).(1/100)
كل واحد يجيب باعتبار, فباعتبار الحقيقة ينفي وباعتبار المجاز يثبت يقول: اشتعل, إذا أفهم من هذا أنك لما أتيت بمعنى مجازي قلت نعم اشتعل لأنك أثبت المجاز ولم تثبت الحقيقة لم يتبادر إلى ذهنك المعنى الحقيقي ولو تبادر إلى ذهنك المعنى الحقيقي لقلت (لم يشتعل) فحينما يرد سؤال هل واشتعل الرأس شيبا, إذا قلت لا لم يشتعل تكونين نفيتي الحقيقة وهذا لا بأس به أما المعنى فهو باقي العيب في الكلام أن يأتي بمعنى مجازي وتنفيه بمعنى مجازي تقولين واشتعل الرأس شيبا, تقولين: لا ما جاءه الشيب. هذا هو النفي الحقيقي لأنه معنى اشتعل الرأس شيبا أي جرى عليه الشيب, أما إذا قلت لا ما اشتعل نارا هذا يصح كالحقيقة يجوز نفي مجازها لكن نفي حقيقتها لا يجوز.
الثاني: قالوا إن المجاز كلام فيه ركاكة وليس كلاما بليغا ولذلك قالوا: ينزه كلام الله ورسوله أن يكون من هذا الكلام لماذا ؟
لأن كلام الله - عز وجل - وصفة بالبيان والبلاغة والفصاحة في " لسان عربي مبين " .
المبين يعني البين الواضح, لكن يجاب عن هذا أن هذا دليل متهاو وساقط ولا يصح لأن المجاز استخدمته العرب لتحسين الكلام فاصلا المجاز ليس كلاما عاديا فضلا على أن يكون رديئاً لأنه في الكنايات والإبداع في الحسن ما لا يكون في غيره.
فالعرب يستخدمون طريقتين في الكلام الأسلوب المباشر وأسلوب الكنايات والاستعارات ولا شك أن أسلوب الكناية والاستعاره أكثر أثراً في السامع.
أيهما أحسن أن نقول:
1.جاء الربيع جميل وهو وحسن ونحو ذلك هذا أسلوب مباشر.
2.أو نقول:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
لاشك أن الربيع لا يأتي حقيقة وإنما بمعنى ظهر قوله يختا ضاحكا, فهو لا يضحك. وكذلك قوله: حتى كاد أن يتكلما, من حسنه وجماله هذه كلها كنايات, لاشك أن الأسلوب الثاني أكثر أثراً في السامع وباءً على هذا فقولهم المجاز فيه ركاكة هذا غير صحيح بل فيه إبداع.(1/101)
وعلى هذا, كلا الدليلين السابقين ساقط لكن التبريد المنطقي لهم يعني القائلين بنفي المجاز سواء قلنا بصحته وعدمه أنه لما كثر أهل البدع وأرادوا نفي الأسماء والصفات أصبحوا يحورونها ويقولون هذه مجازية { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يقولون اليد مجاز حتى يفروا من إثبات صفة اليد لله - عز وجل - وقوله تعالى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } (1) يقولون هذا معنى مجازي لكي يفروا من إثبات صفة الساق لله - عز وجل - .
وعلى كل حال, أنت يا طالبة العلم مخيرة إما أن:
1.تسلكي سبيل هؤلا فتنفي المجاز لتسليم الأسماء والصفات وهذا يسعك.
أو تقولي:
2.أنا لا أسلم أن هذه الآيات مجازية يعني تعتقدين بوجود المجاز في القرآن والسنة في آيات الأسماء والصفات أن الأصل في الكلام الحقيقة وليس المجاز لأننا قلنا أنه لابد من شروط المجاز وشروطه كما تقدم القرينة والعلاقة.
فحينما نقول { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } ما هي القرينة التي تُحيل الآن أنه يكون لله - عز وجل - يد حقيقية ؟ وتجعلهم يفسرونها بالنعمة ؟ أين القرينة والعلاقة بين إثبات اليد الحقيقية وبين كون المعنى النعمة والإحاطة ؟ لما نقول الآن لفلان يد, فلان من الناس, هل نفهم أنه رجل قادرا وذو نعمة أو نفهم أو نفهم أن له يد حقيقية ؟ نفهم أن له المعنى المجازي من الحقيقي لابد من قرينة وعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.
__________
(1) القلم: من الآية42).(1/102)
والمتأمل لآيات الأسماء والصفات لا يجد في آية واحدة قرينة مطلقاً يعني ما ينقلها عن المعنى الحقيقي وعلى كل الخلاصة في هذا القول بالمجاز وعدمه أمر سهل لأنه مبحث لغوي والأهم أن يكون الإنسان معتقده سليما في باب الأسماء والصفات فإن كان ينفي المجاز لتسلم له عقيدة الأسماء والصفات فهذا طيب وإن كان يقول بالمجاز فهذا لا بأس ولكن يجب أن يعتقد اعتقادا جازماً يدل عليه الشرع واللغة والعقل بأن آيات الأسماء والصفات لا يدخلها المجاز وإذا سلمت لق عقيدتك فاللغة أمرها سهل.
نقف عند قول المصنف رحمه الله والمجاز إما أن يكون..
- الدرس العشرون -
قال المصنف رحمه الله { والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة } .
فالمجاز بالزيادة مثل قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1).
والمجاز بالنقصان مثل قوله تعالى { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } (2).
والمجاز بالنقل كالغائط فيما يخرج من الإنسان.
والمجاز بالاستعارة كقوله تعالى { جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } (3).
هنا تطرق المصنف رحمه الله إلى أنواع المجاز فقال: بأن المجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان ونحو ذلك.
النوع الأول: مجاز بالكلمة, وهو نقل الكلمة من معناها الأصلي إلى معناها المجازي.
ولابد هنا من أمرين:
النوع الأول: وجود العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي (كما تقدم في الدرس السابق) كالشجاعة, مثلاً هذه علاقة لو قلت مثلاً(رأيت أسد يخطب) العلاقة بين المعنى الأصلي والمجازي هو أنك قصدت رجلاً شجاعاً.
الأمر الثاني: وجود القرينة كقولك(يخطب) عند قولك(رأيت أسداً يخطب) يعني قولك(يخطب) قرينة على أن المراد بالأسد ليس هو الحيوان المعروف وإنما يدل على أن المراد هو رجل شجاع يخطب.
كذلك المجاز بالكلمة أربعة أنواع:
__________
(1) الشورى: من الآية11).
(2) يوسف: من الآية82).
(3) الكهف: من الآية77).(1/103)
النوع الأول: مجاز بالزيادة, قال المصنف { والمجاز إما أن يكون بزيادة لقوله تعالى(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) } . الكاف هنا زائدة زائدة وهذا هو وجه التمثيل في هذه الآية وإلا الأصل في المعنى ليس كمثله شيء, لأن الكاف تأتي بمعنى التمثيل ولو لم تكن زائدة لكان المعنى ليس مثل مثله شيء لأن المنفي هو مثل المثل فيكون المثل ثابت لكن هذا المثال فيه نظر لكن كونه مثل بالمجاز بقوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } هذا المثال فيه نظر, لماذا ؟ لأنه يبني على ذلك اعتقاد أن في كتاب الله زيادات لا معنى لها والواجب أن يقال أنها للتأكيد من أجل تقوية نفي المثلية.
النوع الثاني: مجاز بنقصان, كما في قوله تعالى { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } التقدير (وَاسْأَلِ أهل الْقَرْيَة) لأن القرية لا تسأل والنقصان لا بأس به لأن النقصان أحيانا يكون فيه نوع مجاز وإبداع يعني بدل أن يقول (اسْأَلِ أهل الْقَرْيَةَ َ) قال { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } .
لكن لو قيل: تعريف المجاز لا يصدق عن المجاز بالزيادة والنقصان ؟
الجواب أنه منه حيث استعمل مثل المثل في نفي المثل, وسؤال القرية استخدمه بسؤال أهلها.
النوع الثالث: مجاز بالنقل, مثل كلمة الغائط هذه الكلمة في أصل الوضع هي اسم للمكان المطمئن من الأرض يقضي فيه الإنسان الحاجة طلباً للستر يعني قوله تعالى { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } (1) فمعناه اللغوي كما سبق.
للفائدة:
لأن الاستتار أثناء قضاء الحاجة على قسمين:
1.استتار واجب, وهو حفظ العورة.
2.استتار مستحب: أن يقصد الإنسان مكاناً منخفض حتى يتوارى عن أعين الناس.
ثم نقل من هذا المعنى وصار يطلق على الخارج من الإنسان.
العلاقة بينهما هي المجاورة.
__________
(1) النساء: من الآية43).(1/104)
النوع الرابع: مجاز بالاستعارة كما في قوله تعالى { جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } حيث شبه ميل الجدار إلى السقوط بلإ ارادة السقوط التي هي من صفات الحي, هذا بالنسبة للمجاز بالكلمة.
واعلمي يا طالبة العلم:
أن عبارة المصنف توهم أن النقل قسم من المجاز لأنه قال إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أي أنها توهم أن النقل قسم من المجاز ومقابل الأقسام والأمر ليس كذلك لأن النقل يعم جميع أنواع المجاز بالكلمة, فالمجاز بالاستعارة نقل والمجاز بالنقص نقل وبالزيادة نقل.
النوع الثاني: مجاز بالاستناد, والمقصود به المجاز العقلي حيث يكون التجوز في الإسناد فيسند الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في الحقيقة ولابد من وجود علاقة مع وجود قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي مثال(بنى الأمير قصراً) هذا مجاز بالإسناد, هنا اسندنا الفعل (البناء) إلى الأمير غير ما هو له بالحقيقة لأن الذي قام بالفعل ليس هو الأمير وإنما أمر ببناء القصر فأمره أقيم مقام البناء.
ثم قال المصنف { والأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب, والصيغة الدالة عليه: أفعل وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة فيحمل عليه } .
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى في باب الأمر والنهي, والأمر والنهي من المباحث اللغوية لأن دلالة الأمر من حيث هي, هي الدلالة من ناحية اللغة فتكلم عنها الأصوليين بما تفيده يعني دلالة الأمر والنهي من حيث استقاء الأحكام بالأمر أو النهي من الأدلة التي هي الكتاب والسنة.
المصنف رحمه الله ذكر تعريف الأمر بالاصطلاح فقال { والأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب } .(1/105)
نحتاج إلى تعريف لغة, ففي اللغة يطلق الأمر على الشأن, كما في قوله تعالى { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } (1) أي وما شأنه برشيد ويطلق أيضاً في اللغة على طلب الفعل تقولين(أمرت فلانة) أي طلبت أن تفعل مع أن قولهم { والأمر استدعاء الفعل } هذا من باب التجوز وإلا فالأمر حقيقة يطلق على طلب الفعل والأمر كذلك فتقولين مثلاً (قولي ما شاء الله) هذا قول وتقولين (قومي) هذا فعل, فقوله { طلب استدعاء الفعل } هذا من باب التجوز لأنه هو الغالب وإلا فأحياناً يكون الأمر طلب قول فتقولين مثلاً (أذكري الله) هذا أمر قول قال { والأمر استدعاء } أي دعوة إلى الفعل أي طلبه فلو قيل لك مثلا { قومي إلى الصلاة } هذا يطلب فعل فعلاً ولذلك قال { هو استدعاء الفعل } ثم قيده أنه ليس كل استدعاء للفعل يصح أن يكون أمراً .
انتبهي!
إنما قيده بالقول مما يدل على أن المصنف يرى أنه ليس كل استدعاء للفعل يصح أن يكون أمراً إنما بالقول وهذا أشار فيه المؤلف إلى أنه يرى أن الأمر الشرعي في الاصطلاح لابد أن يكون بالقول فعلي هذا الإشارة لا تسمى عنده أمراً شرعيا وإن كانت في اللغة يسمى أمر يعني إذا أشار إليك أحد أن قومي إشارة هذه شرعاً لا تسمى أمراً ولغة يسمى أمراً ولغة يسمى أمراً ولذلك قيده المصنف فقال { استدعاء الفعل بالقول } .
فعلى هذا يرى المصنف رحمه الله أن الاستدعاء أنها أمراً شرعياً.
قال { ممن هو دونه }
أي أن الأمر لابد أن يكون ممن هو دونه فلا يجوز أن يأمر من هو مثله أو على منه.
والأمر حال الأمر بالنسبة للمأمور على ثلاث أنواع:
الأول: أن يكون المأمور أعلى من الآمر(كالابن حينما يأمره أباه).
الثاني: أن يكون المأمور مساوياً للآمر (كالأخ حينما يأمر أخاه).
الثالث: أن يكون المأمور أدنى من الآمر(كالأب حينما يأمر ابنه.
فالعرب لا تسمي الأمر طلباً إلا إذا كان من الأعلى للأدنى.
__________
(1) هود: من الآية97).(1/106)
أما إذا كان من المساوي للمساوي كالأخ لأخيه يسمونه ألتماس خاصة إذا كل منهما في السن سواء.
إما إذا كان من الأدنى للأعلى يسمونه دعاء كأن يقول الإنسان (ربي أغفر لي) والأمر من الأعلى للأدنى كأمر الله - عز وجل - هذا يسمى أمر ولذلك من شروط الأمر كما قال المصنف { ممن هو دونه } .
وهذا إشارة إلى أنه لابد أن يكون الآمر أعلى منزلة من المأمور.
قال { على سبيل الوجوب } هذا الكلام يعود على قوله استدعاء أي أن نوع هذا الاستدعاء أنه على سبيل الوجوب لأنك إذا أمرته أمراً ليس على سبيل الإيجاب هذا يسمونه ألتماس حتى في اللغة.
ما الدليل على أنه ملزم حتى نسميه أمراً ؟
الدليل أنه ملزم أنها محل العقوبة إن خالف, هذا يسمى أمراً وكتم من الأعلى للأدنى.
لكن تقييد المؤلف يعني قوله { على سبيل الوجوب } لم يوافقه بعض العلماء على ذلك, لماذا ؟
لأن قوله { على سبيل الوجوب } يخرج المندوب أن يكون مأمور به, لأن المندوب والسنة مأمور به لكنه ليس على سبيل الوجوب مع ذلك يسمى أمراً لأن الصحيح في مذهب الجمهور أن المندوب مأمور به ولذلك هنا محل القيد فيه نظر, يعني فيه نظر والصحيح أن يقال { هو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه } فقط, أما قوله { على سبيل الوجوب } هذا فيه نظر لأنه يخرج المندوب مع أنه مأمور به.
نقف عند المصنف رحمه الله { والصيغة الدالة عليه: أفعل } .
- الدرس الحادي والعشرون -
معنى قول المؤلف رحمه الله { وصيغته: افعل وهي عند الإطلاق } , معنى صيغته أي اللفظ الذي يدل على الأمر كقوله(اذهب, قم, أدرس, صل) ثم إن الأصوليين اختلفوا هل للأمر صيغة تخصه أم لا ؟(1/107)
المؤلف رحمه الله يرى أن الأمر له صيغة تخصه دون غيره لأنه قال { وصيغته افعل } وبعضهم قال: بأنه ليس له صيغة أي الأمر, ومبنى الخلاف في المسألة على إثبات الكلام لله - عز وجل - فمن يثبت صفة الكلام لله يقول أن له صيغة كقوله - عز وجل - { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } (1) هذه صيغة, والذين يقولون ليس له صيغة تخصه يقولون: بأننا إذا أثبتنا أن للكلام صبغة تخصه فإننا نكون أثبتنا صفة الكلام لله - عز وجل - .
والراجح, أن للأمر صيغة والدليل على ذلك أمران:
الأول: عموم الأدلة الدالة على إثبات صفة الكلام لله - عز وجل - ونحن نثبته حتى نزيل الخلاف كما في قوله { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } (2) وأيضاً قوله - عز وجل - { وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ(3) } .
الثاني: إجماع أهل اللغة أن أفعل تفيد الأمر وطلب الفعل أصلاً قبل نشا’ أهل البدع ثم إذا أثبتنا وقلنا أن الراجح أن الأمر له صيغة تخصه لكن مع ذلك نقول إن صيغة افعل هي الأصل ولكنها ليس الصيغة الوحيدة للأمر ولذلك بعض الأصوليين يقولون أن الصيغة للأمر هي أفعل أو ما يقوم مقامها.
الذي يقوم مقامها أمران:
النوع الأول/ لفظية: وهي المصدر النائب عن فعل الأمر كما في قوله تعالى { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ(4) } أي أن يصبر صبراً جميلا, فقوله صبر جميل هذا مصدر نائب عن فعل الأمر التقدير أي (اصبر) أيضاً كما في قوله تعالى { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } (5) فضرب هذي مصدر (ضرب) ناب عن الفعل اضرب الأصل (اضرب الرقاب) فجاء المصدر ضرب وناب عن الفعل. أيضاً قوله تعالى { فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } (6).
__________
(1) الاسراء: من الآية78).
(2) النساء: من الآية164).
(3) المائدة: من الآية12).
(4) يوسف: من الآية18).
(5) محمد: من الآية4).
(6) محمد: من الآية4).(1/108)
الثاني: المضارع المسبوق بلام الأمر, كما في قوله تعالى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } (1) لينفق هذا فعل أمر سبق بلام الأمر.
الثالث: اسم فعل الأمر, مثل (درأك نزال) أي أدرك وأنزل, هذا بالنسبة للفظية.
النوع الثاني/ معنوية, وأقسامها ما يلي:
الأول: ترتيب العقوبة على الترك وليس لفظاً للأمر كما في قوله - عز وجل - { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } (2) وقوله تعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (3) فهذا رتب عليه عقوبة على الفعل, أما العقوبة على الترك فهي كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر } كونه ترتب عليه عقوبة أي أن من ترك الصلاة ينتقل من الإسلام إلى الكفر, يدل على أن الصلاة مأمور بها حتى وإن لم يرد لفظ الأمر.
الثاني: ترتيب الإثابة على الفعل, كما في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } (4) جعل الله لهم ودا هذا يدل على أن الإيمان بالله سبحانه والأعمال الصالحة مأمورة بها حتى وإن لم يرد اللفظ .
الثالث: التصريح بأن الله قضاه أي هذا الشيء كما في قوله تعالى { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (5) قضى أي أوجب هنا ليس هناك فعل أمر وإنما هذا من المعنوي الذي يقوم مقام فعل الأمر وعلى هذا نقول الصحيح أن فعل الأمر له صيغة تخصه وهي كما سبق.
قال المصنف رحمه الله { وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة } .
__________
(1) الطلاق: من الآية7).
(2) النساء: من الآية10).
(3) البقرة: من الآية275).
(4) مريم:96) .
(5) الاسراء: من الآية23).(1/109)
قوله { تحمل عليه } أي عند (إطلاقه صفة الأمر أفعل لأن قوله وهي تدل على الصيغة, الضمير يعود على الصيغة أن صيغة افعل وهو لفظ الأمر(تحمل عليه) أي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل على الوجوب.
على ماذا يدل الأمر في الشرع ؟
المؤلف يقول أنه يدل على الوجوب وأشار إلى الأقوال الأخرى في آخر المسألة فالأقوال في المسألة أن فعل الأمر أو ما يقوم مقامه عند الإطلاق يدل على الوجوب.
وهو القول الأول: أنه يدل على الوجوب وهذا ما ذهب إليه الجويني رحمه الله أي أن كل أمر (افعل) أو ما يقوم مقامه يحمل على الوجوب إلا وجد قرينة تصدقه إلى الندب أو الإباحة قوله تعالى { أَقِمِ الصَّلاةَ } (1) هذا فعل أمر يحمل على الوجوب.
القول الثاني: أن الأمر يحمل على الندب يعني يقولون إن كل أمر موجود في الشريعة الأصل أنه محمول على الندب يعني يقولون أن كل أمر موجود في الشريعة الأصل أنه محمول على الندب أي الاستحباب إلا إذا وجد صارف يصرفه إلى الوجوب أو الإباحة يعني عكس القول الأول.
القول الثالث: قول من قال أن الأمر إذا ورد فإنه يحمل على الإباحة إلا إذا وجد قرينة تعرفه إلى الوجوب أو الندب, لكن الراجح هو ما ذكره المؤلف وهو أن الأصل في الأمر أنه إنما هو للوجوب.
وأدلة هذا كثيرة جدا نذكر منها ما يلي:
1. قوله تعالى { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(2) } قال (فليحذر) فيها تحذير من مخالفة الأمر ورتب على المخالفة عقوبة وترتيب العقوبة لا تكون إلى على ترك أمره واجب, فلما حذر من مخالفة الأمر دل على أن الأمر للوجوب ولو لم يكن للوجوب لما حذر من مخالفته.
__________
(1) الاسراء: من الآية78).
(2) النور: من الآية63).(1/110)
2. أمره تعالى لإبليس بالسجود كما قال { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ } (1) الله الآن أمر إبليس وغيره من الملائكة أن يسجدوا فسجدوا إلا إبليس فلما أبى عاقبه الله بأن أخرجه من ملكوت السماء فلو كانت (اسجدوا) وهي فعل أمر للندب والإباحة لم يعاقب الله - عز وجل - إبليس لما أبى السجود لأن تارك الندب لا يعاقب.
3. ومن الأدلة ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية لما صده المشركون عن البيت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يلحقوا وينحروه فتردد الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فدخل - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة شاكياً فكونه - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم سلمة شاكياً قالوا: هذا يدل على أن أمره - صلى الله عليه وسلم - كان واجباً وإلا لما ناسب أن يشتكي الأمر لأم سلمة لو كان الأمر للندب والإباحة.
__________
(1) البقرة: من الآية34).(1/111)
من الفؤائد التربوية في ذلك أن المرأة لها أن تراجع زوجها وأن تبدى رأيها لذلك في قصة عمر في صحيح مسلم لما راجعته زوجته في أمر ما كأنه استنكر عليها حتى قال بأن نساء المهاجرين يقول { كن معاشر قريش نغلب النساء فلما هاجرن إلى المدينة اختلط نساءنا بنساء الأنصار فتعلمن منهن مراجعة الأزواج, نساء الأنصار كن يراجعن الأزواج أزواجهن بينما في مكة ما كان عندهم هذا كان الرجل هو القائم على الأمر حتى أن عمر لما أنكر على زوجته عاتكة أنها تراجعه في ذلك قالت: ومالي لا أفعل وابنتك حفصة تراجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فذهب عمر - رضي الله عنه - إلى حفصة وقال: لا تغرنك تلك الجارية يعني عائشة, فإنها أوسم منك وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني يقول لا يغرك أنها تراجع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها أجمل منك وأحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصبر عليها أما أنت كأنه يقول أخشى أن يطلقك إذا راجعتيه وهذا في قصة مراجعة نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالنفقة } وعلى كل يؤخذ منها هذا أن المرأة لها أن تراجع الرجل بل إن الفقهاء عليهم رحمة الله تعالى قالوا بأن غلبة المرأة للرجل في أمر ليس فيه محذور شرعي أن هذا من حسن خلق الرجل, الآن الذي يطيع زوجته في أمور دنيوية مباحة يسمونه العوام (دبشة) هذا ما يجوز أو أن زوجته تمشيه على كيفه أو نحو ذلك من الألفاظ وهذا ليس من حسن الخلق, كان من حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجيب المرأة إذا لم يكن فيه محذور شرعي سابق عائشة فسبقته وسبقها وكانت تتعرق فيأخذ اللحم, العرق العظم الذي عليه شيء من اللحم, فيضع فاه في موضع فيها تطيباً لخاطرها وكان يغتسل مع نسائه من إناء واحد وقال { خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله } وكان يكون في مهنة أهله, وطمأن كتفه الشريفة لعائشة وهي تنظر إلى ألعاب الحبشة كان يلتفت إليها ويقول:(1/112)
أفرغت بعد, فتقول لا حتى كانت عائشة تقول { والله ما كانت لي من حاجة إلى لعب الحبشة ولكنني أدرت أن أنظر إلى مكاني من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما أن الله - عز وجل - خير نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بين البقاء معه وبين الطلاق, عائشة رضي الله عنها لما قال راجعي أبويك يعني اختارت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت يا رسول الله لا تخبر نساءك أنني اخترتك يعني رجاء أنها ما تريد أن نساءه يقتدين بها لعل واحدة منهن تطلب الطلاق أو شيء من ذلك هذا عادة يجري بين الضرائر ومع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان ينكر عليها ذلك فعلى هذا فالفقهاء يعتبرون أن إجابة الرجل الرأي المرأة فيما لا يضر فيه شرعاً وليس فيه مضيعة للوقت أيضاً ما نريد أن تكون المرأة مع الرجل خراجة ولاَجة لا تكاد يفتتح مكان أو محل أو مطعم أو نحو ذلك إلا وتذهب إليه ما يراد به هذا لكن في قضية أخذ رأيها في شراء نوع معين في لون معين أو في سيارة معينة أو في سفر معين إلى أي جهة هذا لا شك أنه من حسن خلق الزوج مع زوجته ولذلك كن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يراجعنه في ذلك وما غضب إلا في أمر النفقة لأنه ما كان يجد ولا يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتضرر نساءه من البقاء معه فخيرهن ووجد في نفسه عليهن شيئاً لكن الأصل أن مراجعة المرأة وابداء رأيها وسماع الرجل لذلك أن ذلك من حسن خلق الزوج.
4. ومن الأدلة قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } لولا أن أشق أي لأمرتهم أي أمر أيجاب لولا مخالفة المشقة والعنت, ولذلك أطلق الأمر إشعاراً إلى أن كلمة أمر تنطلق إلى الوجوب.(1/113)
5. أيضاً من الأدلة اللغة: فاللغة تدل على أن الأمر يقتضي الوجوب فلو قال السيد لمخدومه (خط هذا الثوب أو أعجن هذا العجين) فقول (خط) أو (أعجن) فإنه لو لم يفعل فإنها فإنها ستحل به العقوبة من عند السيد لأنه ترك أمراً فدل على أن فعل الأمر خط أو أعجن أو ابني هذا ونحو ذلك يدل على الوجوب.
الراجح في المسألة:
أن الأصل في أن الأمر يدل على الوجوب ما لم يأت صارف يصرفه إلى الندب أو الإباحة.
فقول المصنف رحمه الله { إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة } هذا إشارة إلى أنه لما رجح أن الأمر يقتضي الوجوب وقد قلنا القول الأول أن هذا ما ذهب إليه الإمام الجويني رحمه الله, وهذا يعني جعله الأصل كما هو الراجح في كل أمر ولا يخرج عند للندب أو الإباحة إلا بدليل أي دليل يدل على أنه للإباحة أو الندب أما إذا لم يوجد صارف فإنه يدل على أنه للوجوب, مع أن الصوارف كثيرة وهي كما يلي:
الصوارف:
الأول/ أن يجعل الخيرة للمكلف: كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - { صلوا قبل المغرب, صلوا قبل المغرب وقال في الثالثة لمن شاء } لو لم يقل لمن شاء لدل المر أنه للوجوب لكن لما قال (لمن شاء) وجعل الخيرة للمكلف هذا كان صارف, صرف الأمر من الوجوب إلى الندب.
الثاني/ أن يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمر ليس بواجب فكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج فقال رجلان { أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم } فإذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس بواجب حتى ولو كان الأمر بلفظ الوجوب.
الثالث/ أن يأمر به الله - عز وجل - أو رسوله ثم يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاشاه أن يترك واجبا, فإنه يدل على أنه ليس بواجب.
فالصارف:(1/114)
1) أحيانا يكون مصروفاً عن الوجوب إلى الندب كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبدالله المزني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { صلوا قبل المغرب وقال في الثالثة لمن شاء } هذا صارف من الوجوب إلى الندب.
2) وقد يكون الصارف عن الوجوب إلى الإباحة لقوله تعالى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } (1) لأن الاصطياد في حال الإحرام محرم والقاعدة هي { أن الأمر بعد الحظر والتحريم للإباحة } وليس للندب ومن هنا قال الأصوليون أن الأمر بعد النهي إنما هو للإباحة لأنه قال { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } هنا أمر مع أنه نهى من قبل { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } (2).
ثم قال المصنف رحمه الله { ولا يقتضي التكرار على الصحيح إلا ما دل الدليل على قصد التكرار, ولا يقتضي الفور والأمر يإيجاد الفعل أمر به, وبما لا يتم الفعل إلا به كالأمر بالصلاة أمره بالطهارة المؤوية إليها, وإذا فعل يخرج المأمور عن العهده }
قوله { ولا يقتضي التكرار على الصحيح } هنا مسألة الأمر إذا أمر به المكلف, هل يجب أن يفعله دائماً أو يكفي مرة واحدة ؟ يعني هل يكفي إذا قام به مرة واحدة يكون قام بالواجب أم يفعله دائماً ؟
المؤلف جزم فقال { ولا يقتضي التكرار على الصحيح } ولكن الحقيقة أننا نستطيع أن نقسم المسألة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول/ ما ثبت بالدليل أن الإنسان مامور به مرة واحدة هذا واضح إذا جاء دليل يدل على أن هذه العبادة إنما أمر بها الإنسان مرة واحدة فهذا بالاتفاق لا يقتضي التكرار يعني إذا فعله مرة واحدة يكون قد امتثل الأمر وهذا مثل الحج والعمرة وذلك لما قال رجل كما تقدم وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - { أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال ذروني ما تركتكم أو قال لا ولو قلت لوجبت وما استطعتم } .
__________
(1) المائدة: من الآية2).
(2) المائدة: من الآية95).(1/115)
القسم الثاني/ أن يعلق الأمر على سبب (صفة) أو شرط فإذا علق الأمر على صفة أو شرط فإن الأمر يتكرر بتكرار السبب أو الشرط كالصلاة مثلاً قوله تعالى { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ(1) } فكلما دلكت الشمس وجبت الصلاة هذا علق على شرط, أيضاً كما في قوله تعالى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } (2) علق الطهارة على سببها وهي الجنابة أو نقول يعلق الأمر على صفة كما في قوله { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (3) كلما حصلت السرقة تقطع اليد ما لم تكرر السرقة قبل القطع يعني إذا سرق إنسان مرة واحدة واجتمعت فيه شروط القطع تقطع يده لو سرق أربع أو خمس مرات قبل القبض عليه تقطع يده مرة واحدة.
القسم الثالث/ الأمر المطلق الذي لم يقيد بعدد المرات ولم يعلق على سبب او شرط وهذا فيه خلاف سيأتي في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين
للأمانة العلمية: هذه الدروس نقلت من الشريط ومن المذكرات التي ألقاها الشيخ حفظه الله ولم تراجع من قِبل الشيخ
__________
(1) الاسراء: من الآية78).
(2) المائدة: من الآية6).
(3) المائدة: من الآية38).(1/116)
- الدرس الثاني والعشرون -
يقول المصنف رحمه الله تعالى { من مسائل الأمر ولا تقتضي التكرار على الصحيح إلا ما دل الدليل على قصد التكرار ولا يقتضي الفور والأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم الفعل إلا به كالأمر بالصلاة أكر بالطهارة المؤدية وإذا فعِلَ يخرج عن المأمور عن العهدة } .
تقدم أن تطرقنا وقلنا الأمر إذا أمر به المكلف هل يجب أن يفعله دائماً أم يكفي أن يفعله مرة واحدة فقلنا أن في ذلك تفصيل المؤلف رحمه الله تعالى جزم مباشرة أنه لا يقتضي التكرار ولذلك قال { ولا يقتضي التكرار على الصحيح } لكن الحقيقة كما تقدم أن قلنا نستطيع أن نقسم المسألة إلى ثلاثة أقسام يعني هل يقتضي التكرار أم لا يقتضي التكرار بمعنى أنه إذا أمر مثلاً بالشيء هل يكون ممتثلاً إذا فعله ؟ هل يكرر أم يكفي مرة واحدة ؟
قلنا نقسم المسألة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما ثبت في الدليل أنه مرة واحدة فهذا بالاتفاق يكون ممتثلاً إذا فعله مرة واحدة هذا كما قال المصنف لا يقتضي التكرار على الصحيح, مثل الحج والعمرة, ولذلك لما قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال: لا, لو قلت لوجبت, ولو وجبت ما استطعتم.
القسم الثاني: أن يعلق الأمر على سبب أو شرط يعني يكون هذا الأمر معلق على سبب من الأسباب أو وجود شرط من الشروط, كقول الله - عز وجل - { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ(1) } كلما دلكت الشمس وجبت الصلاة. وكقول الله - عز وجل - { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (2) إذا حصد وجب عليه أن يزكي مع تحقق شروط أخرى وكما في قول الله - عز وجل - { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } (3) هذا علق الطهارة عند وجود السبب وهي الجنابة وهكذا, المهم إذا علق الأمر على سبب أو على شرط فإنه يتكرر بتكرار الشرط أو السبب.
__________
(1) الإسراء: من الآية78).
(2) الأنعام: من الآية141).
(3) المائدة: من الآية6).(2/1)
القسم الثالث: الأمر المطلق الذي لم يبين أنه مرة أو مرات ولم يعلق على سبب أو شرط, فهذا فيه خلاف هل يقتضي التكرار أم لا ؟ ولم يعلق بسبب أو شرط.
فبعضهم قال (أنه يفيد المرة الواحدة يعني أنه إذا فعله مرة واحدة وقع الأمر).
ويعضهم الآخر قال (أنه يتكرر في العمر) يعني ما دام الإنسان حياً فهو مأمور به وهؤلا يقيسونه على النهي, يقولون كما أن الإنسان إذا نهى عن شيء فإنه عليه تركه على الدوام قالوا كذلك فإنه إذا أمر بشيء يفعله على الدوام.
والراجح:
أنه يجب في العمرة مرة واحدة إذا أطلق الأمر بل يخرج المكلف من عهدته بمرة واحدة يعني إذا فعله مرة واحدة برئت ذمته ولا يلزمه التكرار أو المداومة عليه لأن صيغة الأمر لا تدل إلا على مجرد إدخال ماهية الفعل مرة واحدة لا على كمية الفعل فمثلاً إذا قال الأب لولده اشتر خبزاً فهذا الأمر لا يتم إلا إذا حقق الأمر واشترى خبزاً فقد فعل المأمور به لا على الكم (كم مرة) مقدار ما يشتري بل على الفعل, على هذا لو رجع وأخرى لشراء الخبز فإنه يُلام على ذلك والصحيح أنه لا يجب إلا مرة واحدة.
ثم قال المصنف { ولا يقتضي الفور } .
الفور: هو فعل العبادة بعد ورود الأمر مباشرة.
مسألة:
هل الإنسان ما يكون مطبق للأمر إلا إذا فعل الأمر مباشرة أو يكون كذلك حتى لو أخر ؟
المصنف يقول { ولا يقتضي الفور } .
وعبر عنه بعضهم بأنه { فعل العبادة في أول وقت الإمكان } .
وبعضهم قال { فعل العبادة عقب ورود الأمر } .
وبعضهم قال { عقيب ورود الأمر } .
الفرق بينهما { عقب } و { عقيب } (عقيب) دليل على قصد العبادة بعد الأمر أي أن وقت العبادة قصير (وقت الأمر).
مسألة:
هل الأوامر إذا وردت تكون على الفور أو التراخي ؟
الأحكام الشرعية من حيث الوقت تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أوامر مقيدة بوقت.
القسم الثاني: أوامر مطلقة يعني لم تقيد بوقت معين.
مثال المقيد: بوقت (الصلاة) فكل صلاة لها وقت بداية ونهاية.(2/2)
كما وردت في الحديث أن جبريل لما صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول في أول الوقت وصلى به في اليوم الثاني في نهاية الوقت قال { يا محمد الصلاة بين هذين الوقتين } .
فمثال المقيد بوقت: الصلاة, مثل أيضاً: الحج ونحو ذلك.
يقول الفقهاء الأوامر المقيدة بوقت على نوعين:
الأول: أن يكون الوقت المضروب هذه العبادة ويستوعب غيرها من جنسها يعني مثلاً صلاة الظهر هذه لها وقت طويل من زوال الشمس إلى وقت العصر فهذه يكون الأمر ليس على سبيل الفورية بمعنى أن الإنسان له أن يصلي في أول الوقت وله أن يصلي في منتصف الوقت وله أن يصلي في نهاية الوقت ما لم يؤدي ذلك إلى خروج الوقت. أما قضية الأفضلية هذا أمر ثاني. صلاة الظهر وقتها طويل يعني ما يقرب الآن تقريباً الآن من الساعة 12 إلى 3:30 يعني ثلاث ساعات ونصف بينما هل لا يستغرق أكثر من 10 دقائق, فهذه المقيد من النوع الذي وقتها يستوعب هذه العبادة ويستوعب غيرها فهذه يفعلها على التراخي.(2/3)
الثاني: العبادة التي شرعت في وقت يسعها لكن لا يسع لغيرها من جنسها يعني مثلاً في القسم الأول صلاة الظهر يستطيع أن يصلي قضاء فؤائت مثلاً في وقت الظهر يستطيع أن يصلي سنن رواتب, لكن النوع الثاني العبادة التي شرعت في وقت يسعها لكن لا يسع غيرها من جنسها لكون الوقت يجب أن يكون مشغول بهذه العبادة كلها, مثل الصوم. الصوم وقت النهار كله فلا يمكن للإنسان أن يصوم يومين في نهار واحد يعني ما يسع غيره من جنسه وهذا الأمر يجب فيه على الفورية لأنه حتى العبادة المقيدة بوقت ليست كلها تجب على الفورية وإنما إذا كانت العبادة شرعت في وقت يسعها ولكن لا يسع غيرها وعلى هذا فلو أنه لم ينوي إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا يصح ولذلك يقتضي العزم قبلاً ولذلك قالوا لابد أن تكون النية من الليل إذا كان فرض أو نفل مقيد لأن العبادة مستغرقة للوقت كله أما صيام النقل المطلق هذا مستثنى تبييت النية ليست واجبة فيه, هذا مستثنى مخصوص بالأدلة.
القسم الثاني: أوامر غير مقيدة بوقت:
أمر بها الشارع ولم يحددها بوقت معين وهذه وقع فيها الخلاف هل يجب على الفور أم لا ؟
المصنف قال { ولا يقتضي الفور } بعضهم قالوا بأنه يجب على الفورية يعني إذا كان أمر غير مقيد بؤقت فإنه { يقتضي الفورية } ويجب على الفورية. الإنسان ما يكون ممتثل حتى يبادر بفعله, واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها:
أ) الأدلة التي تدل على المسارعة والمسابقة.
1. قوله تعالى { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ(1) } وقوله { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } (2).
__________
(1) آل عمران: من الآية133).
(2) طه: من الآية84).(2/4)
2. ما حصل في الحديبية حينما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يحلقوا وأن ينحروا لما صدوا عن البيت فكأنهم رحمهم الله في ذلك فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة شاكياً. الفقهاء رحمهم الله تعالى يقولون(النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم من حال الصحابة الامتناع, يعلم أنهم ما متنعوا وإنما علم منهم التباطؤ, والتباطؤ هذا تراخي ومع ذلك حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغضب, قالوا فدل ذلك على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب المباشرة فيه, يكون على الفورية.
3. الدليل الثالث, قالوا إن المبادرة أحوط للديانة وأبرأ للذمة وخروج عن العهدة بطمأنينة وأسلم للنفس لأن النفس معرضة للموت والعجز ونحو ذلك فإذا باشر العبادة خرج من هذه العهدة كلها فكان أسلم له.
4. من الأدلة, استدلوا باللغة فقالوا: بأن السيد لو قال لعبده ابني هذا الجدار أو قال لولده اشتر لنا خبزا وتركه ولما رجع إليه وجده لم يبني الجدار قالوا: بأنه يستحق اللوم, يستحق أن يلومه وأن يلق عليه العقوبة قالوا بأن معاقبته على عدم الفعل تدل على الفورية في الفعل وأن الأمر في العبادة التي لم تؤقت بوقت معين أنه على الفور.
هذه بعض أدلة القائلين بذلك.
القول الثاني: قالوا لا يقتضي الفور.
يعني الأمر بالعبادة الغير مؤقته لا يدل على الفور.
قالوا لا يقتضي الفور بل العُمر كله للأداء يعني يقولون لا نؤثمه حتى يموت فإذا مات ولم يفعله نؤثمه, مثل الحج من العبادات الغير مؤقتة. الله تعالى أمر به ولكنه لم يحدده بوقت هل هو على الفور أو ليس على الفور هنا الخلاف.
أدلة القول الثاني: الصيغة قولهم (افعل).
يقولون إنها تدل على ماهية الطلب لكنها لم تقيد بوقت, يعني هو الآن قال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فالأمر صيغة أفعل, تدل ماهية الطلب فقط أما تحديد الوقت فهي مجردة ولم تقيد بوقت وعلى هذا:(2/5)
الصحيح من حيث اللغة أن كلمة افعل أو صيغة افعل تدل على طلب الفعل مجردة من كل وقت.
هذا لا تنازعهم فيه أن صيغة افعل تدل على طلب الفعل المجرد ولكن ننازعهم أن ذلك معارض بالأدلة الشرعية كالحج هل يجب على الفور أم على التراخي ؟ وقضاء الفؤائت من الصوم, والدين غير المحدد بوقت والكفارات مطلقاً مثل: كفارة اليمين والأقرب أن الإنسان كما قال أصحاب القول الأول أنه أحوط للديانة وأبرأ للذمة لأن الإنسان لا يدري ماذا يعرض له ؟ فلأحوط للإنسان المبادرة.
- الدرس الثالث والعشرون -
قال المصنف رحمه الله تعالى { ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب } يعني قوله { والأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم إلا به كالأمر بالصلاة والمؤدية إليها وإذا فعل خرج من العهدة } .
قوله { والأمر بإيجاد الفعل أمر به } :
هذه مسألة عند الأصوليين ويعبرون عنها بقولهم { ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب } , المصنف مثل لهذا فقال { كالأمر بالصلاة والمؤدية إليها وإذا فعل خرج من العهدة } وكقوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } (1).
تفيد أمرين:
الأمر الأول: أمر بالمطابقة وهو أداء الصلاة يعني المقصود (بالمطابقة) الشيء المنصوص عليه.
الأمر الثاني: أمر تضمن يعني يتضمن الأمر بالمطابقة الأمر بالطهارة لأنك لا تستطيعين امتثال الأمر الشرعي(بالصلاة) إلا (بالطهارة) ولذلك قال المصنف رحمه الله تعالى { أمر به وبما لا يتم إلا به } .
معنى { ما لا يتم الواجب إلا به : }
أي يجب أن يفعله وقوله { ما لا يتم الواجب إلا به } يجب أن يفصل به القول فنقول هناك مسألتين يجب التفريق بينهما:
__________
(1) البقرة: من الآية43).(2/6)
المسألة الأولى: ما لا يتم الواجب إلا به, يعني هذا أصل الشيء لا ينعقد ويكون واجباً عليه إلا به. فالزكاة مثلاً لا تكون واجبة عليه إلا إذا بلغ المال النصاب فهذا فيه اتفاق, فأنت غير مكلفة به إذا لم يبلغ النصاب لأنك لست مكلفة أن تنمي مالك حتى يبلغ النصاب إلا به, كما مثلنا الطهارة للصلاة قال الفقهاء أنه على نوعين:
النوع الأول: أن يكون ما لا يتم الواجب إلا به غير مقدور لق هذا بالاتفاق ليس مما لا يتم الواجب إلا به فهذا ليس بواجب (أي لا تستطيعينه) كالأصلع في الحج والعمرة هذا لا يملك شعراً (هذا غير مقدور عليه) أي لا يجب عليه الحلق لأنه من واجبات الحج والعمرة الحلق والتقصير وهذا لا يملك شعراً. كذلك الماء للطهارة واجب فإذا لم يتمكن لق فهو ليس بواجب, المصلوب لو صلب لغير القبلة هذا غير مقدور أي لا يستطيع استقبال القبلة أي ليس بواجب.
النوع الثاني: المقدور عليه, مثل الطهارة في الوضوء إذا كان الإنسان يقدر عليها فإنه لا يتم الواجب إلا به ولذلك صلاة من لا يتطهر باطلة, استقبال القبلة مثلاً في الأصل أنه مقدور عليه لأنه لو كان غير مقدور عليه لكان من النوع الأول ومن تركه مع القدرة عليه بطلت صلاته وهكذا.
ثم قال المصنف { وإذا فعل يخرج المأمور من العهدة } وفي نسخة أخرى { وإذا فُعل يخرج المأمور عن العهدة } .
وكلاهما واحد لأنه قوله { وإذا فعل } الضمير يعود على الأمر, يعني إذا فعل الأمر يخرج المأمور عن العهدة وتبرأ ذمتك وهذا ما يسميه العلماء الإجزاء, وفي النسخة الثانية { وإذا فعل } أي المأمور وقول المصنف { يخرج المأمور من العهدة } يقال له أربع معاني:
معناه الأمر الأول/ أن تبرأ ذمته.
الأمر الثاني/ أن الفعل أجزاه.
الأمر الثالث/ أنه لا يطالب بالإعادة ولا القضاء لأنه لو طولب بذلك لما خرج عن العهدة.
الأمر الرابع/ أنه يثاب على الامتثال.(2/7)
لكن قضية الإثابة هذه لا يشتغل بها الفقهاء وقالوا لأن الإثابة أمرها إلى الله سبحانه إنما هم يسعون إلى إبراء الذمة وخلوها وفعل الأمر.
المهم أن المأمور إذا الفعل تبرأ ذمته ويجزئه الفعل ويثاب على الامتثال ولا يطالب بإعادة ولا قضاء.
ثم قال المصنف { من يدخل في خطاب الله تعالى ومن لا يدخل قال يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون والساهي والصبي والمجنون غير داخلين في الخطاب } .
هنا المصنف يتكلم بالأمر ومن يدخل فيه ومن لا يدخل فبين أنه يدخل بالأمر والنهي المؤمن وهذا بالاتفاق والمراد بالمؤمنين المكلفون, والمكلفون وهي جمع مكلف والتكليف عند الفقهاء على البالغ العاقل إذا قالوا مكلف فإنهم يقصدون به العاقل البالغ ولذلك المجنون غير مكلف حتى لو كان كبيراً والصغير حتى لو كان مميز فإنه غير مأمور على الصحيح حتى لو كان عمره (7,8,9) ما دام لم يبلغ فهذا لا يؤمر وقضية التربية هذا أمر آخر.
والأصل أنه غير مأمور والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - { رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ, وعن الصبي حتى يكبر, وعن المجنون حتى يفيق } .
فالمجنون والصغير كلاهما غير مأمور ومن يعقل مرة ومرة هذا يكلف حال وجود العقل وإذا جن أصبح حكمه حكم المجنون, كذلك الساهي غير مخاطب بالأمر, لماذا ؟
لأنه يأخذ حكم المجنون وقت سهوه لأنه وقت سهوه مع أنه يفارق المجنون, فالمجنون لو استغرق الجنون كل العبادة سقطت عنه, فمثلاً لو جن قبل صلاة الظهر وأفاق قبل صلاة العصر يسقط عنه الظهر لأنه مر عليه الوقت وخرج وهو مجنون لكن نقول الساهي يأخذ حكم المجنون في وقت سهوه ولذلك الساهي إذا تنبه فإنه يجب عليه التدارك فعلى هذا لو نسي الصلاة ولم يتذكر إلا بعد خروج الوقت يجب عليه أن يقضي.
لماذا لا نقول أنه كالمجنون لا يصلي لا فرق بينهما فلو جن المجنون أول رمضان ولم يعقل إلا آخره لا يجب عليه القضاء ؟
لأنه مر عليه وقت العبادة وهو لا يعقل.(2/8)
مسألة (1):
في المجنون والصغير.
باتفاق العلماء إذا أتلفا مال غيرهما المجنون والصغير يجب عليهما الضمان مع أنهما غير مكلفين لأن حقوق العباد لا تسقط في أي حال من الأحوال ولذلك قال:
{ لكن مع الإتلاف يثبت البدل, وينتفي التأثيم عنه والزلل } يطالب وليه بذلك لأن حقوق العباد مضمونه حتى لو كان الذي أتلفها مجنون أو صبي ولا أحد يتعلل بذلك.
المسألة (2):
أن الصبي والمجنون إذا كانا لهما مال فإن الزكاة تجب عليهما على الصحيح من أقوال العلماء مع أن الزكاة حكم شرعي ؟
فكيف يخاطبان به ؟ ونحن قلنا أن المجنون غير داخل في الخطاب.
هذا إشكال أورده بعض أهل العلم.
والإجابة عليه من وجوه:
الجواب الأول: أن إيجاب المال في بدل المتلفات والزكاة في بدل المتلفات يعني كما لو أن للصبي والمجنون مالا غيرهما والزكاة كما لو كان لهما مال إذا أتلف شيئاً والزكاة إذا بلغا النصاب فإيجاب المال هذا من الخطاب الوضعي وليس من الخطاب التكليفي, الأحكام التكليفية الخمسة (الواجب, المندوب, المحرم, المكروه, المباح) والوضعي لا يتعلق بالمكلفين ولو كان يتعلق بالمكلفين لأسقطناه عنهم لم يجب عليهما البدل إذا أتلفا شيئاً, ولوجبت عليهما الزكاة إذا بلغ المال النصاب, ولكن الخطاب الوضعي يتعلق بالأسباب والموانع بمعنى أن الصبي والمجنون إذا أتلفا مال غيرهما وجب عليهما ضمانه ليس من باب التكليف ولكنه من باب وجود السبب, والزكاة كذلك إذا وجد السبب: وهو المال, وبلوغ نصاب المال وجبت.
الجواب الثاني: قالوا بأن ذلك أي إيجاب المال في البدل والزكاة أنه ليس متعلق بالأموال وإلا لما أوجبنا عليهما شيئاً.(2/9)
الجواب الثالث: قالوا بأن التكليف مخاطبة للذات والصبي والمجنون غير مخاطبين وإنما الخطاب لوليهما ولذلك لو تأخر الولي في الدفع فإنه هو الذي يأثم وليس الصبي ولذلك انتبهي! قالوا لو كان للصبي والمجنون مال لا يقال يجب عليهما الزكاة وإنما يقال يجب في ماليهما الزكاة بينهما فرق, ولو قلنا أنه يجب على الصبي والمجنون الزكاة لأوقعناهما في الإثم في حالة عدم الدفع ولكن إذا قلنا يجب في ماليهما فإنه بمعنى أنه وليهما وهو من يجب عليه الزكاة ومن يأثم بعدم الدفع وبين الأمرين فرق.
ثم قال المصنف رحمه الله { والكفار مخاطبون بفروع الشرائع } .
نقف عند هذه المسألة ونكملها في الأسبوع القادم إن شاء الله.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
- الدرس الرابع والعشرون -
قال المصنف رحمه الله { والكفار مخاطبون بفروع الشرائع } .
وبما لا تصح إلا به وهو الإسلام لقوله تعالى { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } (1).
هذه مسألة:
هل الكفار مخاطبون بالأوامر الشرعية أم لا ؟ بمعنى أن الكافر: هل هو مخاطب مثلاً بالصوم, الحج, هل هو مخاطب بترك المعاصي كالزنا وشرب الخمر ونحوه؟
الفقهاء أو العلماء في ذلك على خلاف:
__________
(1) المدثر:43).(2/10)
القول الأول: ذهب بعض الأصوليين إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أي أن الكافر مأمور بالصلاة ومأمور بالزكاة والحج وإن كانت لا تصح منه حال كفره ولا يثاب عليها لفقده شرطها الأساسي وهو الإسلام قالوا: إن هذا لا يدل على أنه غير مخاطب بذلك والدليل قوله تعالى { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } (1) هذه أربعة أمور علقوا على دخولهم النار على هذه الأربعة أمور وأن سبب دخولهم النار ليس الكفر فحسب بل ترك الأوامر أيضاً وإنما { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي ترك الأوامر وأيضاً فعل ما ينهى عنه المسلم هذا هو الذي أوجب دخوله النار { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي أنهم غير المسلمين فعطف ذلك على غيره يقتضي أن هذه الأسباب الأربعة جميعاً كانت سبب لدخولهم النار ولو لم يكونوا مخاطبون بها لم يخبر عنها ولأخبر عنها خبراً قاطعاً وهو التكذيب بيوم الدين, لأن التكذيب بيوم الدين عدم الإيمان هذا كافي, فهذا خبر قاطع بكفرهم فكونهم يذكرون معه أنهم لم يكونوا من المصلين ولم يكونوا يطعموا المسكين وكانوا يخوضون مع الخائضين وذكر هذه الأمور الأربعة يدل على أنهم مؤاخذون بها ترك الأمر أو فعل المحرم وهذا يدل على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة.
__________
(1) المدثر46:42).(2/11)
القول الثاني: من قال أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة واستدلوا على ذلك بدليل وقالوا لأن الكفار لا يستفيدون من خطاب الشريعة شيئاً لكونهم قد فعلوا ما هو أكبر من ذلك وهو الكفر فما دام أنه غير مسلم فلا عبرة بالفروع من الكافر, لأن هذه الأعمال من الأوامر وترك المحرمات قالوا متوقفة على شرطها الأساسي وهو الإسلام.
القول الثالث: توسط بين القولين, أن الكفار مخاطبون بالنواهي غير مخاطبون بالأوامر, فقالوا: إذا كانوا لا يستفيدون من فعل الأوامر كالصوم والصلاة فهم يستفيدون من تركها, لماذا ؟
لأنهم يعاقبون على الكفر وعن فعلهم النواهي زيادة بخلاف الأوامر إذا فعلوها لا يستفيدون منها شيئاً ولذلك أصحاب هذا القول توسطوا بين القولين.
والراجح في ذلك: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لكن خطاب تكليف وليس خطاب أداء ولكنها لا تصح منهم أداءً.
وثمرات هذا الخلاف
الثمرة الأولى: تضعيف العذاب عليهم (إذا قلنا أنهم مخاطبون) فيعذب على كل فعل مأمور به وتركه وعلى كل نهي فعله فيكون نتيجة مضاعفة العذاب.
الثمرة الثانية:أن القول بأنهم مخاطبون هذا يرغبهم بالإسلام من جهة لأن الإسلام يجب ما قبله, لأننا إذا قلنا أنكم مخاطبون بهذه الأمور وتؤاخذون عليها لكنكم إن أسلمتم فإن الإسلام يجب ما قبله بل تستبدل سيئاتهم حسنات فهذا يغريهم لدخول الإسلام بعكس لو قلنا أنك غير مخاطب.
الثمرة الثالثة: تعظيم المجتمع وصيانة المجتمع المسلم من ناحية معاقبة الكافر عند مخالفته للشرائع فإذا رؤي الكافر يشرب الخمر في بلاد الإسلام وقلنا أنه غير مخاطب (يعني تركه) أي يترك فهذا يؤدي إلى انتشار هذا المنكر بخلاف لو قلنا أنهم مخاطبون فإنه يعتبر عاصٍ يجب الأخذ على يده وهذا من باب السياسة الشرعية.
وقلنا أنهم مخاطبون خطاباً تكليفياً وليس خطاب أداء يعني لا يؤمرون بالأداء لكنهم مكلفون.(2/12)
فلو أنهم أسلم في رمضان يعني في 15 رمضان يصوم باقي رمضان لكن هل يطالب بأول الشهر نقول ما يطالب بهذا, لماذا ؟
(لأن التكليف تكليف خطاب وليس أداء) لأنه فقد الشرط الأساسي وهو الإسلام.
ثم قال المصنف رحمه الله { هل الأمر بالشيء نهي عن ضده قال: والأمر بالشيء نهي عن ضده, والنهي عن الشيء أمر بضده } .
معنى هذا الكلام أي أن الإنسان إذا أمر بشيء فإنه منهي عن عكسه (ضده) وإذا نهي عن شيء فإنه مأمور بعكسه, لماذا ؟
لأن الأمر والنهي ضدان فلو قال لق قائل: أقعدي! فمعناه لا تقعدي, ولو قيل لك لا تجلس! فمعناه قومي, كما في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } (1) الآن الأمر بالثبات نهي عن عدم الثبات أمام الكفار مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - { صل قائماً } الأمر بالصلاة قائماً نهي عن ضده وهو الجلوس, وعلى هذا من جلس عمداً في صلاة الفريضة (يخرج النافلة) من غير عذر فإنه صلاته باطلة لأن أمره بالقيام نهي له عن الجلوس.
كلام المصنف فيه نظر لأنه يوافق على واحدة من هذه ولا يوافق على الأخرى, والصحيح أن الأمر بالشيء نهي عن كل ضده وليس ضده فقط فالأمر بالسعي إلى الصلاة جماعة في المسجد إذا حضر الوقت معناه النهي كل ضده وهو الجلوس بالبيت سواء كان سماع الغناء أو حتى قراءة القرآن لأنه يؤدي إلى تفويت واجب في وقت الأمر حتى فعل الخير لا يجوز فلو جلس لقراءة القرآن فإنه يأثم بذلك لأن كل ضد لهذا الأمر يفعله الإنسان يمنعه عن فعل المأمور ولذلك نقول أن الأمر بالشيء نهي عن كل ضده.
__________
(1) لأنفال: من الآية45).(2/13)
والنهي عن الشيء ليس أمر بكل ضده (هذا الصحيح) فالإنسان إذا نهي عن شيء فإنه مأمور بترك أحد أضداده, فإذا قيل لا تشرق! فليس معنى ذلك أن يقال لق أزرع وبع واشتري إذا قيل له لا تستمع الغناء ليس معنى ذلك أنه لابد يستمع قرآن أو يستمع محاضرة ولكنه مخير بذلك, والقاعدة الصحيحة هي { الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده لأن كل واحد من أضداده يمنع من فعل الأمر كما تقدم والنهي عن الشيء أمر بواحد من أضداده } لأنك بانتهائك عن واحد من أضداده تكونين إنكففت عن النهي.
ثم قال المصنف رحمه الله { النهي } , والنهي استدعاء الترك بالقول ممن هو على سبيل الوجوب ويدل على فساد المنهي عنه, وترد صيغة الأمر والمراد به الإباحة أو التهديد أو التسوية أو التكوين.
النهي: لغة, مأخوذ من المنع تقول هذا أمر منهي عنه أي ممنوع منه وهو ضد الأمر أو هو طلب الكف.
اصطلاحاً: استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب.
نحتاج إلى أن نفصل في هذا التعريف.
الاستدعاء لغة: الطلب أي طلب الترك, بالقول (يخرج من هذا النهي بالفعل أو الإشارة) أي كأنه يقول أن النهي لابد أن يكون بالقول أما إذا كان بالفعل أو بالإشارة فإنه لا يسمى نهياً هذا تعريف المصنف لأنه قال (استدعاء الترك), وقوله ممن هو دونه يخرج من ذلك الدعاء والالتماس.
الفرق بين الدعاء والالتماس:
الالتماس: هو طلب المساوي (طلب شخص من شخص مساوي له).
الدعاء: يكون من الأدنى إلى الأعلى ولذلك قال (من هو دونه).
فيخرج بذلك الدعاء لأن الدعاء من الأدنى للأعلى وهنا قال النهي يكون من الأعلى للأدنى عكس, والالتماس طلب مساو من شخص لشخص يساويه مثلاً في السن أو في المكانة أو في القدر لذلك حصل النهي هنا ممن هو دونه أي طلب الأعلى للأدنى مثل نهي السيد لعبده السيد هو الأعلى والعبد هو الأدنى, الأب لولده, الزوج لزوجته ونحو ذلك.(2/14)
النهي: له صيغة واحدة وهي المضارع المقرون بلا الناهية, كقوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى(1) } وقد يستفاد النهي بغير هذه الصيغة أي ليس النهي بلا الناهية فقط وإنما قد يكون بالجملة الخبرية التي وردت بلفظ التحريم كقوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ(2) } هذه جملة خبرية وردت بلفظ التحريم, وأحياناً يستفاد النهي من نفي الحل { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً } (3) ونحو ذلك من ألفاظ التحريم كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله { ويدل على الفساد المنهي عنه } .
صيغة النهي عند الإطلاق والتجرد من القرينة تقتضي أمرين:
الأول: تحريم المنهي عنه قال { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } معناه أن الزنا محرم { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } , { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } (4) { لا يَسْخَرْ قَوْمٌ } (5), { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً } كل هذه محرمات.
القرينة: هي التي تنقله من الحكم إلى حكم آخر قلنا أنها تقتضي تحريم المنهي عنه, وهذا معنى قول المصنف(على سبيل الوجوب) وجوب ماذا ؟
أي وجوب الترك, ومن لازم وجوب الترك والانتهاء تحريم المنهي عنه وهذا باتفاق الأئمة الأربعة قال تعالى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(6) } .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم (أصل النهي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل ما نُهي عنه فهو محرم, حتى تأتي عنه دلالة على أنه إنما نهي عنه لمعنى غير التحريم).
ومثال ذلك:
__________
(1) الإسراء: من الآية32).
(2) النساء: من الآية23).
(3) النساء: من الآية19).
(4) الحجرات: من الآية12).
(5) الحجرات: من الآية11).
(6) الحشر: من الآية7).(2/15)
الصلاة إلى القبور فهي محرمة بدليل النهي الذي ورد في حديث أبي مرشد الغنوي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها } .
هذا النهي للتحريم لأنه لم يأت دليل آخر يدل على أنه النهي لغير التحريم وغير ذلك.
مسألة:
هل النهي يقتضي الفساد أم لا يقتضي الفساد؟
المسألة طويلة جداً نرجئها للدرس القادم.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الخامس والعشرون -
تابع قول المصنف { والنهي استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب } ثم قال { ويدل على فساد المنهي عنه } .
هل النهي يقتضي الفساد أو لا يقتضي الفساد ؟
أولاً: نحتاج إلى أن نعرف الفساد في العبادات.
أولاً: الفساد في العبادات يقتضي ثلاثة أمور:
1. عدم الإجزاء " يعني هذه العبادة لا تجزئ " .
2. عدم البراءة " أي أن الذمة لم تبرأ " .
3. وجوب القضاء.
والفساد والبطلان في العبادات بمعنى واحد باتفاق العلماء, أما الخلاف ففي المعاملات, لأن الفاسد والباطل في المعاملات هذا محل خلاف بين أهل العلم.
يعني هل الفاسد بمعنى الباطل أو ليس بمعناه ؟
في العبادات مثلاً إذا قيل فاسد أو باطل هذه الصلاة أو باطلة فمعناهما واحد يعني عدم الإجزاء, وعدم براءة الذمة ووجوب القضاء.
وأما الفاسد أو الباطل في المعاملات فإنه يترتب عليه عدم ترتب الآثار المقصودة من العقد المشتري لا يستفيد من السلعة والبائع لا يستفيد من المال " لا يتملك المال" .
قلنا أن الفاسد والباطل بمعنى واحد في باب العبادات بالاتفاق, والخلاف ففي المعاملات, إذا قلنا أن هذا البيع فاسد أو باطل هل يبطل العقد أم لا يبطل ؟(2/16)
هذا محل خلاف: فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة قالوا: أن الفاسد مغاير للباطل في المعاملات يعني الفاسد غير الباطل فقالوا بأن الفاسد ما شرع بأصله ولم يشرع بوصفه أصله مشروع لكن كونه على هذا الوصف غير مشروع هذا يسمونه فاسد كالبيع الأصل فيه الحل لكن وصفه إذا باع بعد النداء الثاني يوم الجمعة هذا فاسد أما الباطل عندهم فهو ما لم يشرع بأصله ولا وصفه مثل عقد الربا, قالوا أصله غير مشروع, أصله ما يجوز.
والآن هنا مسألة:
المصنف قال { ويدل على فساد المنهي عنه } , والمصنف لم يفرق بين الفاسد والباطل في باب العبادات والمعاملات.
وهنا مسألة:
هل النهي يقتضي الفساد والبطلان أم لا ؟
اختلف الأصوليون ولذلك يرون كل عقد وكل عبادة صحيحة, لماذا ؟
لأن الفاسد عندهم مغاير للباطل ولذلك الحنفية يقولون: لو تعاقد اثنان على الربا ثم ذهبا إلى القاضي الآن عقد ربا لأن الحنفية يفرقون بين الفاسد والباطل يقولون بأنه يجب إتمام العقد, لماذا ؟
يقولون لأن العقد واستمراره شيء وكونه محرم هذا شيء آخر.
الآن مثلاً صيام يوم العيد هذا محرم, قالوا: فلو نذر إنسان صيامه فإنه يصومه لماذا ؟
قالوا: لأن نذر وكونه معصية هذا شيء آخر.(2/17)
الجمهور اختلفت أقوالهم في ذلك, نجد أن الحنابلة قالوا كل نهي يقتضي الفساد لأنهم يرون الفاسد والباطل بمعنى واحد وعلى هذا الحنابلة يرون أن كل نهي يقتضي الفساد لو مثلاً صلى إنسان مسبل الثوب مثلاً يرون صلاته غير صحيحة (تقدم هذا) وتستدل الأخت على ذلك أن خلاف الفقهاء في الفروع مبني على الخلاف في القواعد الأصولية في الأصول يعني الآن الحنابلة لما قالوا بأن من سرق مثلاً تراباً ثم تيمم عليه قالوا صلاته باطلة, لماذا ؟ لأن الفساد والباطل عندهم بمعنى واحد لأن النهي يقتضي الفساد عندهم, كل نهي يقتضي الفساد, قالوا مثلاً لو صلى بثوب مسبل, قالوا أن النهي يقتضي الفساد, صلاته باطلة كذلك, وهذا نأخذ منه أن اختلاف الأئمة في الفروع مبني على اختلاف الأصول.
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى توسط بين الإفساد مطلقاً والتصحيح مطلقاً.
ماذا يقول شيخ الإسلام وجمهور الشافعية ؟
قالوا: إن كان النهي في ذات العبادة أو وصفها اللازم لها أو في شرطها فإنه يقتضي الفساد, أما إن كان أمر خارج عنها فإنه لا يقتضي الفساد.
مثلاً: لو صلى إنسان بدون وضوء قالوا بأن صلاته غير صحيحة , لماذا ؟
لأنه متعلق بذات العبادة , ولو صلى بثوب نجس متعمد صلاته باطلة, لماذا ؟
لأنه من ذات الصلاة, لأن من شروطها طهارة المكان, ولو عقد عقد ربا يكون العقد باطل, لماذا ؟
لأنه منهي عنه لذاته لكن لو كان منهي عن أمر خارج العبادة مثل لو صلى بثوب مسبل هذا إثم لإسبال الثوب أما صلاته فصحيحة ويقولون إن هذا صلى بثوب ساتر وزيادة لأن النهي الذي وقع فيه أو خارج عن العبادة, وهذا هو الراجح.
الذين قالوا بالنهي يقتضي الفساد لهم أدلة على ذلك منها ؟
1. حديث عائشة رضي الله عنها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } قوله رد: أي مردود كأنه لم يوجد.(2/18)
2. فعل الصحابة رضوان الله عليهم لكونهم استندوا على النهي عن فعل ببطلانها لبعض الأحكام, جعلوا النهي عن الشيء يبطل العبادة, من ذلك استدلالهم على فساد الربا فكانوا لا يمضون عقد الربا ومن ذلك أن عمر - رضي الله عنه - افسد نكاح من عقد على مشركة أو وهمَ بذلك للنهي الوارد عن ذلك في قوله تعالى { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ(1) } قالوا: لما كان منهي عنه أفسده دل على أن النهي يقتضي الفساد, وأيضاً تعليل من أدلتهم لأنه لم ينهي عن شيء إلا لوجود حكمه من النهي.
قالوا: كونه يمضي هذا النهي فإنه يلزم من ذلك وجود المفسدة واعتبارها وحينئذٍ لا يكون تحقق المقصود من النهي وهو زوال لمفسدة.
الذين قالوا: بعدم الإفساد بالنهي أو المنهي عنه مطلقاً, وهم الحنفية قالوا: بأن فساد مغاير لتحريمه والمنع منه.
وقالوا فالنصوص دلت على المنع منه ولم تبين عدم فساده فقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا(2) } , هذا يدل على حرمة الربا وليس فيه تعرض للصحة وعدمها والأصل الصحة.
أدلة من قالوا بالتوسط:
وهو قول شيخ الإسلام, قالوا: إذا كان يعود إلى ذات المنهي عنه فإنه يقتضي الفساد لتحقق المفسدة بإمضائه يقيناً, أما إن كان لأمر خارج فإنها لا تتحقق المفسدة لأنه يمضي الصحيح ويبطل الفاسد.
مثلاً: كالصلاة في ثوب مغصوب أو أرض مغصوبة أو ثوب مسبل هذا صلاته صحيحة لكن مع الإثم, لأن النهي لأمر خارج وهذا الأحرى لدى المحققين.
أما إذا صلى وعلى ثوبه نجاسة عمداً صلاته باطلة لأن النجاسة متعلقة بذات العبادة وهكذا.
قال { وترد صيغة الأمر } .
يقصد صيغة الأمر أي في اللغة وهي (أفعل) تأتي ليس للوجوب فقط وإنما تأتي لغير الوجوب لكن من حيث الأصل تقتضي الوجوب ونقلها عن الوجوب إلى الإباحة يحتاج إلى قرينة وإلا فالأصل الوجوب.
__________
(1) البقرة: من الآية221).
(2) آل عمران: من الآية130).(2/19)
1) ولذا قال { وترد صيغة الأمر } والمراد به الإباحة أو التهديد أو التسوية أو التكوين لكن أصل صيغة الأمر ترد لوجوب هذا الأصل فنقلها إلى الإباحة أو التهديد أو التسوية أو التكوين يحتاج إلى دليل ينقلها.
الإباحة مثل قوله تعالى { كُلُوا وَاشْرَبُوا } (1) هذا فعل أمر لا يقتضي الوجوب لأن الأمر على سبيل الإباحة لأن الأكل والشرب ليس واجباً اللهم إلا إذا ترتب على عدم ذلك إهلاك النفس هذه مسألة ثانية والأصل أنه ليس واجب مع أنه صيغة أمر أفعل لكن أريد بها الإباحة.
2) قال (أو التهديد) كقوله تعالى { قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } (2) قوله (تمتعوا) فعل أمر هنا الله ما يأمرهم أن يتمتعوا لأن التمتع المقصود به هنا في صيغة الذم لأنه يؤدي إلى النار فكيف يؤمر به وإنما أراد به التهديد سبحانه وتعالى.
3) قال (أو التسوية) أي افعل أو لا تفعل فالأمر متساوي كما في قوله تعالى { فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا(3) } فالأمر متساوي في حق أهل النار سواءً صبروا أم لم يصبروا فإنهم معذبون.
4) قال (أو التكوين) أي طلب الكينونة كما في قوله تعالى { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً*أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ(4) } وهذا وجه يقصد به التعجيز يعني كونوا كذا فهو لا يقصد به الأمر به أن كونوا هكذا لأنهم لا يستطيعون أي أنهم أمروا به مع عجزهم عن ذلك, وقوله (أفعل) ترد لأكثر من ثلاثين وجهاً.
وكما قلنا أن صيغة الأمر قد ترد لغير الوجوب كذلك صيغة النهي قد تأتي لغير التحريم (لا تفعل) فقد تأتي:
__________
(1) البقرة: من الآية60).
(2) ابراهيم: من الآية30).
(3) الطور: من الآية16).
(4) الاسراء50: من الآية51).(2/20)
1- للتحقير كقوله تعالى { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ } (1) ليس المقصود هنا مد العين وإنما المقصود به تحقير الدنيا في عيني النبي - صلى الله عليه وسلم - فكون الإنسان يمد عينه إلى الدنيا أو ينظر إليها ويتعلق بشهواتها إذا كان على سبيل الإباحة هذا ما يحرم وإنما يقصد بذلك التحقير.
2- للتهديد كقوله تعالى { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (2) تهديداً لهم وزجرا.
3- للتيئيس كقوله تعالى { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } لأن المراد هنا تيئيسهم من قبول أعذارهم.
4- لبيان العاقبة كقوله { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً(3) } فهنا ليس المقصود النهي عن حسبان ذلك ولكن لبيان عاقبة الذين قتلوا في سبيل الله.
وكما قلنا أن افعل الأصل فيها الوجوب فكذلك لا تفعل الأصل فيها التحريم ولهذا لا يجوز أن تحمل كلمة (افعل) إذا وجدت في القرآن والسنة إلا للوجوب إلا إذا وجدت قرينة تصرفها عن الوجوب إلى الأمر الآخر من المعاني التي ذكرنا أو غيرها كذلك النهي (لا تفعل) الأصل فيها التحريم إذا وجدت في القرآن والسنة إلا إذا جاء دليل ينقلها عن التحريم إلى أمر آخر.
نقف عند مسائل في النهي:
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس السادس والعشرون -
باقي مسألتين لم يذكرها المصنف:
المسألة (1)
هل النهي يقتضي الفور أم لا ؟
يعني قلنا فيما تقدم أن الأمر يقتضي الفورية لكن هل النهي يقتضي الفورية أم لا ؟ الخلاف فيه أيسر من الخلاف في الأمر ولذلك الإنسان إذا نهى عن شيء هل يقتضي الفور أم لا فقيل مثلاً (لا تزني, لا تشرب الخمر, لا تغتاب) فهل يقتضي الفور أم لا ؟
__________
(1) الحجر: من الآية88).
(2) التوبة: من الآية66).
(3) آل عمران: من الآية169).(2/21)
الجمهور يقولون "وهو الصحيح" أنه يقتضي الفورية أي يجب أن ينتهي على الفور طاعة ومعنى (يقتضي الفور) أي يوجب أن لا يؤخر الطاعة فيعصي قبل, أما معنى (لا يقتضي الفور) أي يؤخر الطاعة وهي امتثال ترك النهي فيعصي وإذا فعل ذلك سمي عاصياً, ولذلك النهي مشتمل لكل العمر وهذا هو الأصل في النهي إذا قيل (لا تزني أو لا تقرب الزنى) لا يقول الإنسان لا أطيق هذا إلا بعد شهر لأن الإنسان إذا أخر امتثال ترك النهي فإن لم يمتثل يكون غير ممتثل لأن مجرد فعلة واحدة تعني العصيان ولذلك الجمهور قالوا: بأن النهي يقتضي الفورية أي تركه على الفور ولم يفصلوا فيه تفصيل الأمر(لأنه فصل به كما تقدم إذا قيد أو لم يقيد) لكن هنا قال: إن النهي يقتضي الفورية بدون تفصيل وعلى هذا نقول: نعم الصحيح أن النهي يقتضي الفورية كما هو مذهب الجمهور.
المسألة (2)
هل النهي يقتضي التكرار أم لا يقتضي التكرار ؟
الجمهور يقولون "وهو الصحيح " أنه يقتضي التكرار لأنه إذا قيل للإنسان (لا تفعل) فقول العرب (لا تفعل) في اللغة فهذه تفيد النهي عن الفعل في كل الأوقات كما لو قال رجل لابنه (لا تضرب أخاك) ثم ضربه بعد أربعة أيام يعتبر عاص.
فدلالة التكرار في النهي:
1. مأخوذة من ذات اللغة بأنه يقتضي التكرار يعني الإنسان مأمور بترك هذا المنهي على الدوام.
2. دليل عقلي " من المتبادر إلى الذهن " فإذا قيل مثلاً لا تفعل كذا فالمتبادر إلى الذهن أن النهي عن فعل هذا الشيء أنه متكرر ودائم وهذا التبادر يدل على أن الحقيقة في النهي هي التكرار ودائمة في كل الأوقات.
ثم قال المصنف رحمه الله { وأما العام فهو ما عم شيئين فصاعدا مثل قوله عممت زيداً وعمر بالعطاء, وعممت جميع الناس وألفاظه أربعة: الاسم الواحد المعرف باللام..الخ } .(2/22)
بعدما انتهى المؤلف من المبحث الأول من المباحث اللغوية وهو الأمر والنهي بدأ بالمبحث الثاني وهو مبحث العموم والخصوص والفقيه بحاجة إلى معرفة العام والخاص لأن شأن الأدلة الشرعية من حيث تناولها للأفراد المأمورين ومن حيث تناولها للمأمورات والمنهيات ومن حيث تناولها للأشياء التي تفعل والتي لا تفعل, فتأتي بصيغة العام أو الخاص وتأتي بعض الأحيان بصيغة عامة ثم يخرج بعض أفرادها في موضع آخر بالمباحات.
ومن البلايا والطوام أن بعض من ينتسبون إلى العلم أحياناً يقرأ حديث ثم ينزل الحديث على مسألة معينة فلو أخذ مثلاً قوله عليه الصلاة والسلام { زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة } هذا الحديث يفيد العموم للرجال والنساء والشخص الذي لا يحفظ إلا هذا الحديث يعتقد أن النساء لا بأس بزيارتهن للمقابر, لكن لما يحفظ حديث { لعن الله زوارات القبور } في المعنى نجد أن هذا الحديث خص النساء واستثنى النساء من الحديث العام ومشكلة الآن خلاف بعض غويلمة أهل العلم ممن إذا قرأ كتاباً أو كتابين جاء ليناطح أهل العلم الكبار ويسفه أرائهم أناس شابوا في العلم جلسوا في حلقات المساجد ما يقرب من ثلاثين سنة أو أربعين سنة فيأتي هذا وقد قرأ كتاباً واحدا فيأتي يحاج عن القضية والمسألة لأنه لا يعرف العام والخاص ولا المطلق والمقيد ولا المجمل والمبين كما سيأتينا فينافح هذا المسكين ويظن أنه على حق وهو على ضلال, أو بعض الكتاب الآن ممن يتنقصون من أحكام الشريعة ويجترئون على حرمات الله عز وجل على حدوده.
ولابد للفقيه أن يعرف بعض ألفاظ العموم والخصوص الدالة على العموم والألفاظ التي تدل على الخصوص لأن هناك ألفاظ تدل على أن هذا الدليل عام, وهناك ألفاظ تدل على أن هذا الحكم الشرعي خاص وما هو التعميم ؟ وما هو التخصيص؟ وما هي الألفاظ الناقلة من التعميم إلى التخصيص ؟
لأن هناك ألفاظ تنقل دلالة الحديث من كونه عام إلى كونه خاص.(2/23)
وما حكم العام بعد التخصيص ؟
لأنه قد يأتي عام ثم يأتي ما يخصص منه بعض الأحكام وغير ذلك من المسائل, ولذلك علم أصول الفقه مهم جداً لطالب العلم مع أنه من العلوم المساعدة إلا أن تعلمه مهم جداً لأنه يفتح المدارك ويعطي قواعد عامة فيستطيع أن يميز ويستطيع أن يعرف العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين وعرف الأمر والنهي وهل يفيدان التكرار أو لا يفيدان التكرار ؟ هل يقتضيان الفورية أو لا يقتضيان الفورية ؟ وعرف مثلاً من هو المقلد ومن هو المستدل ومن هو المجتهد ؟ الخ.
نقف عن تعريف العام في اللغة والاصطلاح.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس السابع والعشرون -
قال المصنف رحمه الله { وأما العام فهو ما عم شيئين فصاعدا, مثل قوله عممت زيدً وعمراً بالعطاء, وعممت جميع الناس } .
فالمؤلف رحمه الله لم يعرف العام في اللغة فهو في اللغة يطلق بمعنى الشامل والمتعدد, تقولين مثلاً عمَت الطالبة الكتاب بالمذاكرة أي شملته كله } .
والعموم في اللغة: فهو استغراق لأفراد كثيرة في اللغة, تقولين مثلاً عموم الناس أي جميعهم, وتقولين عموم الأمر وعموم القول أي جميع ذلك.
وأما في الاصطلاح: فهو ما عم شيئين فصاعدا كما ذكر المصنف رحمه الله.
قال { وأما العام فهو ما عم شيئين فصاعدا } (ما) موصولة أي الذي عم و(ما) هنا الموصولة ليست على استغراقها كما أطلق المؤلف أي كل شيء يعم شيئين فصاعداً فهو عام ليس كذلك بل المراد بها أي في الاصطلاح (الألفاظ) أي الذي يعم من الألفاظ شيئين فصاعدا, لأن العموم لفظي.
فهو يعم شيئين فصاعداً من الألفاظ أي العموم يشمل الألفاظ وغيرها والعموم هنا في حقيقته للألفاظ وليس لغيرها وقوله (ما عمَ ) شيئين أي أنها يتناولها جميعاً بدفعة واحدة.(2/24)
قال(وأما العام فهو ما عم شيئين فصاعداً) أي أكثر من أثنين فالعموم يشمل اثنان أو ثلاثة فأكثر بشرط أن يكون ذلك بلفظ واحد فلو قلت مثلاً(زيد وزيد وزيد) هذا ليس عام فمع أنهم ثلاثة فهو لا يسمى عام لماذا ؟
لأن هذا تعاطف الآن زيد الأولى معطوفة على الثانية والثالثة معطوفة على الثانية وهكذا فهنا قولنا(زيد وزيد وزيد) هذا ليس عام بل هو تعاطف, والأولى أن يقال (العام) لفظ يستغرق جميع ما يصلح له أي جميع ما يدخل فيه لغة ولكن بلفظ واحد مثلاً: كلمة (الإنسان) هذه من ألفاظ قال تعالى { وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(1) } المخاطب هنا كل إنسان فكلمة (إنسان) هذه عامة ومعرفة مثل هذا الموضوع تستفيدين منه في معرفة الأدلة هل هي عامة أو ليست عامة ؟ هل هذا اللفظ عام أو ليس عاماً ؟
قوله تعالى { وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } المخاطب هنا كل إنسان ولا يخرج منه أحد, وهنا يشمل جميع ما يصلح له أي مما يطاق عليه أنه إنسان بوضع أو لفظ واحد لأنه قال(الإنسان) بلفظ واحد.
تقدم أن (زيد وزيد وزيد وزيد...) لو عددت ألف هذا ليس عام هنا تعاطف.
لأن من يسمه العام أن يكون بلفظ واحد وأن يشمل كل ما يصلح له هذا هو الذي يُكسب العام العموم.
ثم إن العام ينقسم إلى قسمين:
أ. عام لا أعم منه.
ب. عام هناك ما هو أعم منه.
لأن العموم نسبي ومعنى نسبي أي أن الشيء قد يكون عام بالنسبة إلى أفراده, أما بالنسبة لما هو أعم منه يعتبر خاص ولا يعتبر عام وهذا معنى قولنا عام هناك ما هو أعم منه.
مثال العموم الذي لا أعم منه: المخلوقات هذا عام ليس هناك أعم منه أي ليس هناك أخص منه مطلقاً عندما تقولين المعلوم أو الموجود لأن كل ما في الكون هو معلوم وموجود هذا عام لا أعم منه.
أيهما أعم المعلوم أم المخلوق ؟
__________
(1) العصر2:1) .(2/25)
المعلوم أعم من المخلوق لأن هناك من المعلومات ما هي غير مخلوقة كالله سبحانه وكلامه وصفاته فالله سبحانه موجود ومعلوم لكنه غير مخلوق ولذلك المخلوق عام يتناول جميع المخلوقات وهذا عام هناك أعم منه لماذا ؟
لأن كلمة المخلوق تتناول المخلوقات فقط لكن لما نقول المعلوم هناك أعم منه.
قد يكون اللفظ خاص من وجه وعام من وجه آخر, فمثلاً عندما نقول (الإنسان) هذا عام باعتبار أنه يتناول جميع الناس لكنه خاص باعتبار أنه أحد المخلوقات ليس كل المخلوقات ولذلك نقول هناك عام لا أعم منه وهناك عام ما هو أهم منه, فهناك ما هو أعم منه لأن هناك غير الإنسان من المخلوقات.
قال المصنف رحمه الله { وألفاظه أربعة الاسم الواحد المعرف باللام, والاسم الجمع المعرف باللام, والأسماء المبهمة كمن فيمن يعقل, وما فيما لا يعقل, وأي في الجميع, وأين في المكان, ومتى في الزمان, وما في الاستفهام والجزاء وغيره, ولا في النكرات من صفات النطق...الخ }
الآن ذكر المؤلف الألفاظ التي إذا جاءت في الكتاب والسنة تدل على العموم.
1) الاسم الواحد المعرف بالألف واللام:
كالاسم المفرد تدخل عليه الألف واللام فيكتسب العموم بجميع ما يتناوله هذا الاسم فلو قلت: إنسان هذا واحد فإذا أدخلت عليه الألف واللام وقلت الإنسان فكلمة الإنسان هذه تصبح عامة في كل ما هو إنسان ثم كما تقدم هذا عام ينقسم إلى عام لا أعم منه وما هو أعم منه, ولذلك في قول الله - عز وجل - { وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } .
إذن تدخل عليه الألف واللام فتكسبه العموم, لأن الإنسان في هذه السورة يكون من ألفاظ العموم ولذلك قلنا الاسم الواحد المعرف بالألف واللام هذا اللفظ الأول.
فكلما جاء اسم سواء كان علم أو غير علم المهم مفرد ودخلت عليه ألف ولام فإنه يكون من ألفاظ العموم كما في قوله تعالى(والطير محشورة كل له أواب) الطير هذا عام يشمل كل طير لأنه اسم مفرد معرف بالألف واللام.(2/26)
2) اسم الجمع المعرف باللام:
يعني كل اسم جمع معرف بلام يدل على العموم, وذكر الشارح (وليس المصنف) له ثلاثة أمثلة قال(واسم الجمع المعرف بلام.
أ- المثال الأول: الجمع سواءً الجمع المعروف(جمع المؤنث والمذكر السالم وجمع التكسير) مثل جاء المؤمنون, والمؤمنات والأطفال.
جاء المؤمنون: جمع مذكر سالم, المؤمنات جمع مؤنث سالم, الأطفال جمع تكسير, فالجمع اللغوي المعروف هذا يفيد العموم.
ب- المثل الثاني: أسم الجمع كما في قوله تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (1), العالمين اسم جمع لأنه يشمل جميع العالم ما سوى الله عز وجل.
ج- المثال الثالث: اسم الجنس الجمعي: أي الذي لا مفرد له من لفظه كقوله تعالى { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } (2), الناس: هنا عامة ليس لها مفرد, ناس جمع أيضاً, الناس جمع.
قوله تعالى { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } (3) الماء لا مفرد لها من لفظها, هنا ليس المراد مفرد الماء وإنما المراد جنس الماء.
3) الأسماء المبهمة:
قال المصنف كمن فيمن يعقل, الأسماء المبهمة التي ذكرها الشارح قال, فيمن يعقل, هذا:أ- اسم الشرط: كقوله تعالى { مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } (4) هنا للعموم أي كل من يعمل سواءً سيجزى به.
ب- أسماء الاستفهام: ولذا قال المصنف (أين في المكان, ومتى في الزمان) لقوله تعالى { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(5) } .
ج- الأسماء الموصولة: كقوله - صلى الله عليه وسلم - { الذي يشرب في آنية الذهب كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم } الذي أي كل من يشرب عام هذه من ألفاظ العموم لا يستثنى أحد من ذلك لا ذكر ولا أنثى.
__________
(1) الفاتحة:2).
(2) الناس:1).
(3) الأنبياء: من الآية30).
(4) النساء: من الآية123).
(5) التكوير:26).(2/27)
وقوله (ومن في العاقل) كقوله تعالى { مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } , { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } (1), وما فيما لا يعقل, فكل ما يعمله الإنسان من خير يعلمه الله - عز وجل - كقوله تعالى { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } (2) .
والله أعلم.
- الدرس الثامن والعشرون -
قال المصنف { الأسماء المبهمة } :
الأسماء المبهمة أن يكون الاسم غير دال على شيء معين ولذلك سمي اسم الشرط, واسم الاستفهام كذلك الاسم الموصول وسميت مبهمة لكونها تفتقر إلى صلة تعين المراد تقولين مثلاً (ما جاءك اليوم من الأخبار ؟) (ما) أسم موصول لكنه مبهم فلابد أن تقولين (ما جاءك اليوم من الأخبار) حتى يتبين ما هي الصلة المرادة فالاسم الموصول مهم لذاته لابد له من صلة تبين المراد كما هو معروف عند النحاة.
قال المصنف { وأي في الجميع } :
أي في العاقل وما لا يعقل قال تعالى { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ(3) } هذا لغير العاقل, وقوله { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً(4) } هذا للعاقل, وأي لغير العاقل مع أنها تكون استفهامية وتكون شرطية كمن وما.
وقال { وأين في أي مكان } :
هذه استفهامية للسؤال عن المكان تفيد كعموم المكان كما في قوله تعالى { أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً(5) } (أين) أي مهما كان في عموم الأمكنة يأت بكم الله وكما في قوله { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ } (6) أي في أي مكان.
قوله { متى في الزمان } :
أي تفيد العموم أيضاً استفهامية عن الوقت فتفيد عموم كل الأزمنة كما في قوله { مَتَى نَصْرُ اللَّه } (7) أي في أي وقت يكون نصر الله فهي تشمل كل وقت.
__________
(1) البقرة: من الآية197).
(2) آل عمران: من الآية198).
(3) القصص: من الآية28).
(4) الكهف: من الآية12).
(5) البقرة: من الآية148).
(6) النساء: من الآية78).
(7) البقرة: من الآية214).(2/28)
ثم قال { وما في الاستفهام والجزاء وغيره } :
(ما) في الاستفهام والجزاء أي أن (ما) كما أنها أتت شرطية فإنها تأتي للاستفهام والجزاء ترتيب الشيء على الشيء يكون جزاءً له وهذا نوع من أنواع الشرط وقريب من الشرط مع أنها أتت للاستفهام والجزاء في قوله تعالى { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ(1) } كونه يعلمه هذا جزاء (ما) جزائية.
وأما قوله استفهامية كما في قوله تعالى { مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ(2) } أي عموم المرسلين.
وأما مثال الجزاء قوله تعالى { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(3) } الجزاء هنا يترتب على الشرط فإذا تحقق الشرط وهو فعل الخير تحقق المشروط وهو علم الله سبحانه وتعالى.
قال { ولا في النكرات } :
أي لا النافية التي تنفي, ثم تأتي بعدها نكرة فهي تنفي هذه النكرة, فهذه تدل على عموم هذه النكرة فكله منهي عنه أي منفي كما في قوله تعالى { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ } (4), فسوق, رفث, جدال كلها نكرات, فكون هذه النكرات مسبوقة ب (لا) النافية دل على العموم.
فالإنسان ينتهي عن كل رفث وكل فسوق وكل جدال, وهناك ألفاظ تفيد العموم مثل (معاشر, كافة, معشر, عام, جميع كل طائفة) هذا يفيد طالبة العلم إدراك لألفاظ العموم حتى تعرف هذا اللفظ عام أو ليس عاماً فإذا جاءها الدليل من القرآن والسنة كما في قوله تعالى { أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً(5) } فتعرف أنه في أي مكان تعلم أن هذا من ألفاظ العموم ولا يختص بمكان, وقوله { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } (6) هذا عام لكل زمان لا يخص زمان دون زمان.
قال { والعموم من صفات النطق } :
__________
(1) البقرة: من الآية197).
(2) القصص: من الآية65).
(3) البقرة: من الآية215)
(4) البقرة: من الآية197).
(5) البقرة: من الآية148).
(6) البقرة: من الآية214).(2/29)
المراد بذلك أي أن العموم مستفاد من ألفاظه فقط ولا يكتسب العموم من المعاني وإنما من الألفاظ التي وضعها العرب للعموم, وهذه المسألة ليست من المسائل المتفق عليها بل هذا من ترجيح المؤلف, فالمؤلف رحمه الله " يرى أن العموم من صفات النطق " يعني أن الذي يفيد العموم هو (المنطوق) أي ما نطق به وجاء أنه من ألفاظ العموم أما المعاني فإنها لا تفيد العموم, وهذا كما قلنا ترجيح المؤلف وإلا فقد ذهب بعض العلماء إلى أن كل (ما دل على أفراد غير متناهية سواءً كان ذلك من الأفعال أو الأوصاف أو الإشارات فإنه يدل على العموم) ولذلك قال " ولا تجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مَجراه " , أي كما قلنا أن المصنف يرى أن دعوى العموم لا تستفاد من غير النطق لا تستفاد إلا من الألفاظ التي وضعها العرب التي تدل على العموم.
ومَثل الفعل في ذلك حيث قال (من الفعل وما يجري مجراه) والضمير في قوله (مجراه) يعود على الفعل أي لا يجوز على رأي المصنف ادعاء العموم في الفعل أو ما يجري مجراه, والفعل ليس المراد به ما يستخدمه أهل اللغة وهو من وقع في الفعل مثل (جاء محمد) بل هو اعم من هذا فهو الذي يدل على إحداث الفعل مطلقاً فاسم الفاعل يدل على الهيئة واسم المفعول يدل على الهيئة لأنه أراد بالفعل هنا هو إحداث الهيئة والتغير من الحركة والسكون فهو أعم من الفعل عند النحاة, ولذلك في حديث بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى داخل الكعبة, قوله (صلى) يحتمل أن تكون صلاة فريضة أو نافلة, عندما تعرفين توجيه الحديث تعرفين فائدة معرفة ألفاظ العموم, الفعل هنا يدل على أنه صلى مرة واحدة فكلمة(صلى) تدل على العموم (فريضة أو نافلة) أما من حيث اللفظ فهي تدل على أنه لم يصل إلا واحدة ولذلك قالوا إنه لا يؤخذ للعموم هذا, ولذلك قال(والعموم من صفات النطق ولا تجوز دعوى العموم في غيره من الفعل) الآن هذا فعل أنه (صلى).(2/30)
الذين قالوا بأنه يشمل عموم الفريضة والنافلة هؤلا يدل عندهم على أن الفعل يؤخذ من العموم ولكن المصنف يقول(دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مجراه لا تؤخذ يقول العموم من صفات النطق, وعلى هذا المصنف في قوله صلى يدل على أنه صلى صلاة واحدة ما يأخذه العموم, لأنه لما صلى صلاة واحدة, هل يُحتمل أو يتصور أن يكون عام للفرض أو النفل ؟
لا, لأنه ليس هناك دليل شرعي يدل على أنه تناولهما جميعاً ولا لغوي, لأن كلمة صلى لا تفيد التعدد والعموم, وقالوا: على هذا نحمله على أقل أحواله وهو النفل ولذلك يرون أن الواجب لا يجوز داخل البيت, لماذا ؟
لأن المصنف لا يرى العموم إلا في المنطوقات أما هنا الحقيقة لما طالبة العلم تعرف مثل هذه المسائل تعرف أن أهل العلم خلافهم في المسائل الفرعية مبني على خلافهم في المسائل الأصولية وهذا يعطي طالبة العلم الأعذار للأئمة في خلافهم, الآن بعض طلبة العلم وبعض طالبات العلم قد ينكرون على بعض الأئمة في بعض الأقوال وقد تكون مثار للتنقص من حقهم أحياناً, أو القدح في أعراضهم ونحو ذلك وهم لا يعلمون أنهم يبنون أحكامهم على مسائل أصولية يعني لاحظي الآن الخلاف!
هل الفعل يدل على العموم أم يدل على الفعل ؟
الذين قالوا بأنه يدل على الفعل يقولون بأن كلمة صلى تشمل عموم الصلاة, تشمل الفريضة والنافلة وعلى هذا أصحاب هذا القول يرون أن الفريضة تصح في الكعبة.
الذين قالوا (لا) بأن العموم يؤخذ من النطق فقط قالوا بأن الفريضة أو النافلة, الفريضة لا تصح لأنهم يحملونه على أقل أحواله وهو النفل.
هنا مثلاً عموم كلمة صلى تفيد أنها صلاة واحدة وهو المتبادر للذهن وليست تدل على أفراد كثيرة من الصلوات, فذات اللفظ من حيث العموم والخصوص يجب أن يستقي من ذات النص في نقل الصحابي في الفعلة ذاتها.(2/31)
فمثلاً لو روى صحابي وقال( تصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - )الصدقة تعم كل الصدقات المطلقة, والواجبة, والزكاة, والفطر, والتطوع واللفظ, الآن محلها جميعاً لكن من حيث اللفظ نفسه.
هل يتصور أن يأتي بهما جميعا ثم يخبر الصحابي بهذا ؟
يحتمل هذا أن يأتي بهما جميعاً نعم, فإذا قال(صلى) يحتمل أن الصلاة وتراً, أو فريضة أو نفلاً فدل على أن التعميم وعدمه يؤخذ من النص ذاته الأصل في اللفظ الإفراد وليس الجمع لكن العموم وعدمه يؤخذ من النص ذاته ولذلك قال (من الفعل أو ما يجري مجراه) مجراه, الضمير يعود إلى الفعل الذي يجري مجرى الفعل هي القضايا العينية هناك قضايا عينية حكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ترد ولا يفهم منها العموم أو غيره.
مثل حديث أبي رافع أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - { قضى بالشفعة للجار } الشفعة هي: اثنان متجاوران في أرض وأراد أحدهما أن يبيع فالجار أحق بهذه الأرض من غيره إلا أنه تنازل عنها بهذه الأرض له بالشفعة فيها قال بعضهم (أن هذا لا يعم كل جار) ووجه ذلك كله:
أولاً: وجه اقتناع المؤلف لأن جرى مجرى الفعل وقالوا: إن قوله { فقضى بالشفعة للجار } قالوا: هل هذا اللفظ من النبي - صلى الله عليه وسلم - أم من أبي رافع ؟ قالوا: من أبي رافع. ولذلك قالوا: أن أبي رافع أطلق العموم مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى لجارٍ معين بالشفعة لكن لا يقضي بها لكل جار, لماذا ؟
لأنهم يرون أن العموم لا يستفاد مما يجري مجرى الفعل قالوا لا يعني أنه إذا قضى بها للجار أن تكون لكل جار ولأن الأمور تختلف والملابسات تختلف في المسألة وقرب الجار وبعده وتضرره بالبيع..الخ يعني لابد أن ينظر لمثل هذه الأمور كلها, فهذا اللفظ من أبي رافع وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { قضى بالشفعة لكل جار } قالوا بأنه لا يستفاد أن ذلك لكل جار لأن هذا جرى مجرى الفعل.(2/32)
القول الثاني: قالوا لا إن الأصل أنه يقضي به لكل جار وهذا وجه قوي, لماذا ؟
قالوا: لأن الصحابي من العلماء وهو من أعرف الناس باللغة فهو لا ينقل خبر عن النبي إلا بلغة مؤاتية مناسبة للفعل ولهذا لما عمم (قال لكل جار) كان تعميمه ليس تخريصاً وإنما عنده بينة يعني يفهم معنى ذلك وتنكير (جار) وأنها تفيد العموم وأبو رافع من أعلم الناس بهذا فقالوا: ما أطلق هذا اللفظ العام أنه قضى بالشفعة لكل جار إلا وهو مدرك وعارف ما تدل عليه ولذلك قالوا: تفيد العموم.
ولا شك أن القول الثاني, قول متوجه وقوي خاصة في قضية العين هذه أما قضاء الأول الذي حكم فيه المؤلف (أنه لا يجوز دعوى العموم إلا بالنطق, هذا واضح والله أعلم أنه هو القوي أما ما يجري مجراه من القضايا العينية مثل هذه القضية فالظاهر أن الحكم لكل القضايا جملة هذا فيه نظر يعني كوننا نحكم كل قضية عينية أنها تفيد العموم هذا فيه نظر يعني مثل ارتضاع سالم مولى أبي حذيفة وهو كبير.
هل يحكم به للعموم ؟
لأنه كان يدخل على امرأة فتحتاج إليه فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترضعه وكان له لحية والإرضاع لم يتم مباشرة وإنما كانت تخرج الحليب فيشرب فحرمت عليه.
هل نحكم بهذه القضية لكل من كلن في مثل حال هذه المرأة ؟
شيخ الإسلام يرى هذا ويقول أنه ليس في الإسلام قضية خاصة وإنما كل القضايا عامة لكن يختلف بحسب ورود النص والمتكلم والقضية ودائماً من شأن الفقهاء أن القضايا ينزلون كل واحدة منها المنزلة الحكمية الخاصة بها ولذلك القول بأننا لما حكمنا على هذه المسألة بالشفعة والجار وقلنا أنها لا تفيد العموم على القول الأول أننا نحكم على كل قضية عينية أنها لا تفيد العموم هذا فيه نظر فلا يكون لا هذا ولا هذا وإنما القضايا العينية ينظر فيها وهي تختلف باختلاف النص وورود القضية فينظر فيها هذا هو القول المتوجه.
نقف عند قوله (والخاص يقابل العام).
هذا والله أعلم.(2/33)
- الدرس التاسع والعشرون -
قال المصنف رحمه الله { والخاص يقابل العام, والتخصيص تمييز بعض الجملة وهو ينقسم " يقصد التخصيص " إلى متصل ومنفصل, فالمتصل الاستثناء والتقييد بالشرط والتقييد بالصفة } .
لما انتهى المصنف رحمه الله من العام بدأ بنقيضه وهو الخاص, فقال { هو الذي يقابل العام } أي يعارضه ولذلك قال { والخاص يقابل العام } أي يعارضه.
والخاص في اللغة: مأخوذ من التفرد, فتقول(هذا خاص بي) أي لا يشاركني فيه غيري, ولذلك من تعريف الخاص قالوا : هو الذي لا يتم به الاشتراك.
وأما الخاص في الاصطلاح فهو: عكس العام, فالعام هو الذي يدل على أفراد كثيرة, والخاص يدل على أفراد محصورة, يعني بعكس العام (وحتى تفهمي يا طالبة العلم الخاص جيداً فيجب أن تتذكري أننا قلنا في العام قسمين: عام لا أعم منه, وعام هناك أعم منه. هنا أيضاً الخاص قسمين: خاص لا أخص منه, وخاص هناك ما هو أخص منه).
وبناءً على هذا قلنا أن اللفظ قد يكون عام من جهة وخاص من جهة أخرى كما تقدم, مثال ذلك لما تقولين (الزَّيدون) جمع زيد هذا عام من جهة وخاص من جهة, عام باعتبار لفظه يشمله وغيره يعني يشمل كل زيد, وهو أيضاً خاص باعتبار الناس أو الرجال, لأن الرجال زيد ومحمد وعبد الله وعلي وغيرهم ونحو ذلك, فهو خاص من هذه الجهة لأنه يشمل بعض الرجال أو يخص بعض الرجال.
الخاص الذي لا أخص منه هو الذي لا يتجزأ إذا قلت مثلاً (الناس) ثم قلتِ (محمد) هذا خاص لا أخص منه, لماذا ؟
لأن محمد لا يمكن أن نقسمه إلى رجلين, يعني ما فيه أخص منه.
وهذا البحث يجب أن تفهمه طالبة العلم جيداً في باب العموم والخصوص حتى تتصورين الفرق بين الخاص والعام.(2/34)
احتاج المؤلف بعد ذلك إلى تعريف الخاص في العملية يعني الطريقة العملية, التي تسمى (التخصيص), وعملية التخصيص هي نقل العموم وإخراجه من عمومه إلى جزئياته ولذلك قال المصنف (والتخصيص: تمييز) قوله (تمييز) إشارة إلى أن التخصيص عبارة عن فعل عملية, يعني عمل يقوم بها الإنسان تمييز بعض الجملة مثلاً إذا قلتِ (الزَّيدون) هذا عام, ثم قلت (زيد بن محمد) هذا تمييز لبعض الجملة لأن زيد بن محمد بعض الزيدون فجعلتيه مميزاً.
ولذلك الفرق بين الخاص والتخصيص:
الخاص: اسم علم على بعض الجملة العامة.
التخصيص: عملية تمييز واستخراج لبعض أفراد العام.
قال { وهو ينقسم إلى " يقصد التخصيص وليس الخاص " متصل ومنفصل } :
الذي ينقسم إلى متصل ومنفصل هو التخصيص, وإن شئت فقولي: نقل المخصص يعني المخصص للعموم, ثم ذكر أنواع كل منهما فقال (فالمتصل: الاستثناء, والتقييد بالشرط والتقييد بالصفة).
ما ضابط المتصل والمنفصل ؟ أو ما هو تخصيص المتصل ؟ وما هو تخصيص المنفصل ؟
أما المتصل: فقالوا: بأنه الذي لا يستقل بنفسه, يعني يأتي هو والعام في نص واحد.
أما المنفصل: يأتي العام في نص وتخصيصه في نص آخر.
عندما تقولين مثلاً (أكرم الناس الصالحين منهم) قولنا (الصالحين) هذا تخصيص, لماذا ؟
لأننا تقييدنا لهذا اللفظ أو تخصيصنا له أخرجنا كثير من الفسقة والكفار وغيرهم وخصصناهم, وهنا هذا تخصيص بالوصف (التقييد بالصفة) لاحظي الآن حكمنا بأنه تخصيص متصل لأنه العام والخاص جاء في نص واحد, (أكرم الناس) عام ثم خصص بقوله (الصالحين منهم) , (الصالحين منهم) قيدناه بالصفة ولذلك هذا تخصيص متصل مقيد بالصفة, أما كونه متصل فلان العام والخاص جاء في نصف واحد, من ذلك قول الله تعالى { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً } (1) هذا استثناء, لو سئلت, هل التخصيص (إلا خمسين) متصل أم منفصل ؟ تقولين متصل, لماذا ؟
__________
(1) العنكبوت: من الآية14).(2/35)
لأنه جاء العام (ألف سنة) والخاص (إلا خمسين عاماً) جاء في نص واحد عن طريق الاستثناء (إلا) ولذلك قال فالمتصل الاستثناء, ومثل قول الله - عز وجل - { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا(1) } قال (ولله على الناس) هذا عام ثم قال (من أستطاع إليه سبيلا) هذا خاص, إذن هذا تخصيص متصل ومقيد بالشرط, لماذا ؟
لأنه اشترط فيمن يجب عليه الحج أن يكون مستطيع إلى ذلك سبيلا, ولذلك قال { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } .
__________
(1) آل عمران: من الآية97).(2/36)
أما المنفصل هو الذي يكون العام في نص ثم يأتي المخصص في دليل آخر ليس له ارتباط بالأول, كما في قول الله - عز وجل - { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } (1) الآية تفيد الآن قتل جميع المشركين لأنه ورد ي الآية أحد. لكن جاء التخصيص في نصوص أخرى كنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الطفل أو المرأة, مع أن المرأة تكون من المشركين, هؤلا مثلاً من المشركين مع ذلك جاء إخراجهم من العموم بدليل آخر فهذا يسمى تخصيص منفصل, أي أن إخراج بعض ما يتناول العام ليس في نفس النص وإنما جاء بنص آخر. مثل قول الله - عز وجل - { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } (2) هذا عام أن كل ذكر له مثل حظ الأنثيين لكن هذا خص بقوله - صلى الله عليه وسلم - { لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم } لأنه قد يكون أحد الأبناء كافر, فهل يأخذ من حظه شيء ؟ لا, ما يأخذ شيء أبداً, مستثنى لا يأخذ شيئاً أبداً إنما هو مستثنى, فعُلِمَ من ذلك أن قول الله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } أنه هذا مخصوص بقوله - صلى الله عليه وسلم - { لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم } فلو كان أحد الأبناء كافر فإنه لا يرث, لانقطاع التوارث بين المسلم وبين الكافر فعلى هذا يكون مخصوص.
من هنا أخت يا طالبة العلم تعلمين وتدركين أهمية معرفة العام والخاص في الشريعة لأنه المشكلة الآن بعض الناس يجادل في أحاديث عامة لكنها مخصوصة مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة } .
__________
(1) التوبة: من الآية5).
(2) النساء: من الآية11).(2/37)
الآن الذي يقرأ هذا اللفظ وهو لا يدرك معنى العام والخاص يعتقد أن الإرشاد لأنه ما كان من قبيل الآداب فالأمر فيه على سبيل الاستحباب, الإرشاد إلى زيارة القبور أن هذا عام للرجال والنساء ولذلك تجدين بعض الجهلة يتحجج بمثل هذا, لكن المرأة منهية, أو خصت بدليل أخر وهو يسمى الاستثناء المنفصل كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - { لعن الله زوارات القبور } إذاً فهي منهية بنص آخر, ونظائر هذا في الشريعة كثيرة جداً, ولذلك يجب على طالبة العلم أن تنتبه لأنه قد يكون الدليل الذي بين يديها عام لكنه مخصوص بأدلة أخرى فلا ينبغي لطالب أو طالبة العلم أن تأخذ بهذا الحديث وتحاج به, وربما أنه كان مخصص بأدلة أخرى تخصص هذا الدليل, وفقه هذا لا شك يحتاج إلى سعة إطلاع في أحكام الشريعة ونصوصها من القرآن والسنة.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الثلاثون -
توقفنا عند الخاص وعند قول المصنف رحمه الله { والمتصل: الاستثناء, والتقييد بالصفة } .
نحن لما تطرقنا للخاص وقلنا أن الخاص مقابل العام, وذكرنا أن التخصيص هو تمييز وبعض الجملة وذكرنا أيضاً أقسام التخصيص وأنه ينقسم إلى قسمين:
أ) المتصل.
ب) المنفصل.
بدأ الآن بذكر أنواع الاستثناء المتصل لأنه قال { والمتصل: الاستثناء, والتقييد بالصفة } ذكر أنه ثلاثة أنواع:
فقال والمتصل: الاستثناء هذا النوع الأول.
الاستثناء: يقصد به الاستثناء اللفظي, قلنا ذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن التخصيص الذي هو استخراج بعض الألفاظ الذي يتناول العام كله, استثناء لكنه لفظي.
الأمر الثاني: أن قولنا (لفظي) إشارة إلى أننا نريد به الاستثناء الذي عند النحاة الذي عند أهل اللغة.
الاستثناء عند أهل اللغة (النحاة) هو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ بإلا أو إحدى أخواتها عندما تقولين مثلاً (أكرم الناس إلا العاصي).(2/38)
العاصي الآن من جملة الناس لكننا استثنيناه فهو إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ.
المؤلف رحمه الله تعالى عرفه بتعريف منطقي لأنه سيقول بعد ذلك في الموضوع الذي بعده (والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل في الكلام).
فقوله: (إخراج) المقصود به المستثنى وهم العصاة.
(ما لولاه) أي لولا حرف الاستثناء.
(لدخل في الكلام) أي لدخل في المستثنى منه وهو الناس.
وألفاظ الاستثناء عند النحويين ثمان( إلا, حاشا, خلا, ليس, سوى, عدا, لا يكون, غير).
تقولين مثلاً (جاء القوم إلا زيدا), (زيدا) مستثنى (ما لولاه) أي لولا حرف الاستثناء وهي كلمة (إلا) لكان داخلاً في الكلام أي داخلاً في المستثنى منهم وهم (القوم).
قال بعد ذلك { المخصص المتصل, أولاً الاستثناء } .
هذا القسم الأول من أقسام الخاص المتصل.
قال { والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل في الكلام } .
أي لدخل المستثنى منه تقدم هذا.
وقال { وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء } .
لأن المصنف رحمه الله ذكر بعض شروط الاستثناء الصحيح المعتبرة ومنها:
أولاً: يقول لابد أن يبقى من المستثنى منه شيء.
معنى ذلك أنه لا يجوز لق أن تخرجي جميع أدوات المستثنى منه بأدوات المستثنى.
مثلاً لو قال لإنسان لآخر: لق علي عشرة ريالات إلا عشرة.
هذا لا يصح فقوله (إلا عشرة) هذا لغو, فيجب عليه عشرة لأنه اعترف.
فلابد أن يبقى من المستثنى شيء منه, لو قال(علي لك عشرة ريالات إلا خمسة) نقول ما عليك إلا خمسة, لكن لو قال(علي لق عشرة ريالات إلا عشرة) نقول قولك (إلا عشرة) هذا لغو ويجب عليك عشرة ريالات, لأن الفائدة من الاستثناء هي الإخراج, فإذا أخرج من العشرة عشرة فلا فائدة من الإخراج, ما يعتبر إخراج, والإقرار استيقان وتصديق بواجب الإثبات و...
فإذا كانت الفائدة قليلة الفائدة ؟ إذا أخرج جميع أدوات الاستثناء.(2/39)
هو الآن قال (لق على عشرة) هذا مستثنى منه (إلا عشرة) المستثنى, أخرج جميع أدوات الاستثناء بأداة الاستثناء (إلا).
إذا متى يصح ؟ لو استثنى منه باقياً لصح, وهذه المسألة لا تخلو من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: إذا استثنى الأقل صح, مثل يقول (لق علي عشرة ريالات إلا ثلاثة) هذا يجب عليه سبعة (لق علي عشرة ريالات إلا ريالين, أو ثلاثة أو أربعة) جاز ذلك.
الحالة الثانية: إذا استثنى الأكثر, قال(لك علي عشرة إلا سبعة).
في المثال السابق(لق علي عشرة إلا ريالين) المستثنى هو الأقل (ريالين) لكن هل المستثنى هو الأكثر (إلا سبعة) يعني أكثر من الباقي, ما بقي إلا ثلاثة.
هل يجوز هذا الاستثناء أو لا يجوز ؟
الأصوليين في ذلك اختلفوا !
القول الأول: قالوا بأن استثناء الأكثر(يعني أكثر من النصف) قالوا: لا يجوز, وعلى هذا لو قال(لق علي عشرة إلا خمسة, إلا أربعة, إلا ثلاثة, إلا ريالين, إلا ريال) صح ذلك, لكن (لق علي عشرة إلا ستة) الآن المستثنى أكثر من النصف قالوا: ما يصح, لماذا ؟ قالوا لأنه استغراق وإخراج فقيدوه بالنصف.
القول الثاني: قالوا بأنه يصح, لماذا ؟ لأنه إخراج صحيح فيتأدى عقلاً وله ثمرة وليس يضر, واستدلوا على ذلك بقوله - عز وجل - { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(1) } , الآن الغاوون أكثر ومع ذلك استثناهم الله - عز وجل - لأن أهل الغواية " نسأل الله لا يجعلنا منهم " أكثر والصالحون أقل, كما قال الله - عز وجل - { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } (2), وقوله { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } (3).
__________
(1) الحجر:42).
(2) سبأ: من الآية13).
(3) يوسف:103).(2/40)
لكن هذا الخلاف مع حكم الاستثناء بالعدد أما الاستثناء قالوا: يجوز حتى لو استغرق الأكثر لأنها لا تتعلق بعدد وإنما تتعلق بصفة. يعني حينما تقولين (أكرم الناس إلا العصاة) العصاة بما فيه الكفار أكثر من الصالحين هذا يجوز بالاتفاق حتى لو كان الأكثر, وعلى هذا يحمل قول الله - عز وجل - { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } هذا استثناء بوصف.
وعلى هذا الارتباط بوصف يجوز حتى لو كان المستثني أكثر من المستثنى منه.
لكن أكثر الأصوليين على جواز استثناء الأكثر وقلنا أنه منعه آخرون منهم ألإمام أحمد وأصحابه وهو أيضاً قول الشافعي كما ورد في الإرشاد للشوكاني, وهذا الخلاف كما قلنا فيما إذا كان الاستثناء من العدد, أما الاستثناء من الوصف فيصح, وعلى هذا لو قال إنسان (أعط من في البيت إلا الأغنياء), فتبين أن الجميع أغنياء صح الاستثناء ولم يعطوا شيئاً لا يعتبر هذا الإنسان راجع في هبته.
الحالة الثالثة: بقينا في استثناء النصف, مثل لو قال (لق علي عشرة إلا خمسة) وهذا خلافه أسهل من الأول والراجح والله أعلم جواز الاستثناء مثل تقولين (لق علي عشرة ريالات إلا خمسة) يجب عليك خمسة لأن اللفظ هنا ثمرة, وهذا القول هو قول الجمهور من الشافعية والمالكية والحنفية والراجح عند الحنابلة.
إذا تبين أن الشرط الأول من شروط الاستثناء المتصل: لابد أن يبقى منه شيء, وذكرنا أن الاستثناء الأقل يجوز بالاتفاق, واستثناء الأكثر على خلاف.
وأخيراً: استثناء النصف هذا خلافه أكثر من استثناء الكثير وهو جائز كأن تقولي (لك علي عشرة إلا خمسة) هنا يجب عليه خمسة لأن الاستثناء له ثمرة والخلاف هنا أخف من الخلاف في استثناء الأكثر.
بقينا في الشرط الثاني وهو عند قول المصنف { ومن شرطه أن يكون متصلاً بالكلام } .
هذا سيأتي في الدرس القادم.
والله أعلم.
- الدرس الحادي والثلاثون -(2/41)
الشرط الثاني من شروط الاستثناء:
ما ذكره المصنف رحمه الله بقوله { ومن شرطه أن يتصل بالكلام } .
أي لا يجوز أن يتأخر عنه ولذلك قال الأصوليون يجب أن يكون متصلاً حقيقة أو حكماً, حقيقة أي مباشر له كأن تقولي (أكرمت طالباتي إلا هند) قولك (إلا هند) أخرجتيها ولم يجري عليها الإكرام لأنه مستثنى وهو متصل بالمستثنى منه مباشرة, أنت يعني لم تقولي (أكرمت طالباتي) ثم سكت ثم بعد وقت قصير قلت إلا هند لا, وإنما إلى المستثنى متصل بالكلام هذا اتصال حقيقي ولذلك قلنا (يجب أن يكون متصلاً أو حكماً) الاتصال الحكمي أن يريد المتكلم الاستثناء ولكن يؤخره لضرورة كأن تقولي (أكرمت طالباتي) ثم يحصل منك عطاس أو سعال ونحو ذلك ثم تقولين (إلا هند) فهنا اتصل لكنه اتصال حكمي.
إذاً نقول:
الشرط الثاني, من شروط الاستثناء لابد أن يكون متصلاً حقيقة أو حكماً وعلى هذا لو كنت في مجلس مثلاً وقلت لفلانة (أعطيتك ألف ريال) ثم شرعت في الكلام لما أردت القيام قلت لها (إلا خمسمائة) فهذا الاستثناء لا يجوز ويلزمك ألف, لماذا ؟
لأن هذا الاستثناء منقطع حقيقةً, يعني غير متصل ولا حكماً وعلى هذا تلزمين بالكلام الأول ولذلك قالوا: يصح الكلام الأول وهو قولك (لق على ألف ريال) ويبطل الاستثناء لأنه منقطع.(2/42)
والانقطاع هنا ليس الانقطاع عند النحاة وإنما المراد تأخر الاستثناء من المستثنى منه, وهناك أقوال أخرى في المسألة فابن عباس مثلاً يقول بأن له الاستثناء إلى سنة, لو قال (لك علي ألف ريال) ثم بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة أيام إلى سنة قال (إلا خمسمائة ريال) فابن عباس يقول بأن هذا جائز, ولكن هذا بعيد لا يصح, ولكن الأسهل من هذا وأخف أن بعض العلماء قال أن الانقطاع يجوز ما دام في المجلس يعني ما دام كل منهما في المجلس فإنه يجوز, وقال آخرون بأنه يجوز إذا كان الكلام في مجلس واحد يعني لم يصيروا إلى كلام آخر, مثلاً قلت لفلانة (لك علي ألف ريال) فبدأت تقول مثلاً (ألف وخمسمائة) وأنت تقولين (لا ألف ريال) ثم مثلاً بدأت تذكرينها متى أخذت منها هذا المال, يعني الكلام لازال في المسألة, ثم بعد وقت قلت( إلا خمسمائة) فهذا قول آخر أيضاً, لأن الانشغال بأمر, يعني الكلام لازال في المسألة, ثم بعد وقت قلت (إلا خمسمائة) فهذا قول آخر أيضاً, لأن الانشغال بأمر آخر معناه انتهاء النفس حول هذا الموضوع, وهذا القول يبدوا أنه الأقرب, فعلى هذا نقول بأنه لابد أن يكون الاستثناء متصلاً حقيقة أو حكماً, لكن كما قلنا إذا تأخر الاستثناء عن المستثنى منه وكان الكلام لازال حول الموضوع لم ينتقل إلى كلام آخر فإنه يصح الاستثناء حتى ولو تأخر, هذا فيما يتعلق بالشرط الثاني قال ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه, الآن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى قضية تقديم الاستثناء على المستثنى منه يعني الأصل خلاف ذلك, الأصل أولاً أن يؤتى بالمستثنى منه ثم بالمستثنى تقولين (جاء القوم إلا زيداً) ما الدليل على ذلك ؟(2/43)
الدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة { إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض, لا يعضد شوكه, ولا يختلي خلاه, فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إلا الإذخر } لاحظي الآن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم وحرم شجر مكة لا يعضد شوكة ولا يختلي خلاه, ثم بعد ذلك قال العباس له يا رسول الله إلا الإذخر وبين له السبب فاستثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلاحظي تأخر الاستثناه أو المستثنى عن المستثنى منه, لكن ما زال الكلام واحد كله في شجر مكة وشوك مكة ونحو ذلك, وهذا كما قلنا قول وجيه تقديم الاستثناء لقوة دليله كما ترين, هذا فيما يتعلق بالشرط الثاني.
قال { ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه } :
الآن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى قضية تقديم الاستثناء على المستثنى منه, يعني الأصل خلاف ذلك, الأصل أولاً أن يؤتي بالمستثنى منه ثم بالمستثنى تقولين (جاء القوم إلا زيداً) الآن (القوم) مستثنى منه و(زيد) مستثنى, هذا الأصل.
الآن المصنف يقول يجوز عكس هذا, أي أنه يتقدم المستثنى على المستثنى منه, فكلام المصنف يقول: بأنه من حيث اللغة وحيث التركيب يجوز أن يتقدم المستثنى على المستثنى منه, ومثل الأصوليين على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - { إني والله "إن شاء الله " لا أحلف على يمين فأرى غيرها خير منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير } والحديث في الصحيحين.(2/44)
لكن الصحيح هنا ليس هناك استثناء في هذا الدليل إلا على قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى, لأن شيخ الإسلام يرى أن قوله (إن شاء الله) هنا ليس للتحقيق وإنما هي استثناء, لكن الصحيح نقول بأنها ليست استثناء, لأنه استثناء معنوي ليس استثناء لفظياً والمقصود بالاستثناء اللفظي (جاء القوم إلا زيداً) لكن هذا استثناء معنوي وهذا ليس داخل في دائرة الكلام الذي معنا لأننا نحن نتكلم في الاستثناء اللفظي.
وقول المصنف { ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه } :
قوله(يجوز) إشارة على الخلاف في ذلك لأنه هناك من منع ذلك وقال بأن المستثنى لا يتقدم على المستثنى منه.
ثم قال { ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره } :
هذه مسألة أيضاً, المراد بقوله (من الجنس) هو الاستثناء المنقطع عند النحاة.
ما هو الاستثناء المنقطع عند النحاة ؟
هو أن يكون الذي بعد إلا ليس من جنس الذي قبلها, كأن يقول (جاء القوم إلا حماراً) أكرم الله الجميع, فحمار ليس من القوم, ما هو الأصل ؟ الأصل في المستثنى أن يكون من جنس المستثنى منه, هذا الأصل , مثل (جاء القوم إلا زيداً) زيد من جنس القوم, المؤلف يقول بأنه يجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره, من الجنس :كأن تقولي (لك علي ألف ريال إلا ثلاثمائة ريال) ومن غير الجنس كأن تقولي (لق علي ألف ريال إلا ثوب) فعلى قول المؤلف رحمه الله تعالى أنه يجوز ذلك والدليل على صحة ذلك وهو القول الراجح أي الاستثناء من غير جنس المستثنى منه قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً(1) } فالآن التجارة ليست من أكل أموال الناس بالباطل ومع ذلك استثنى.
ومثل قول الله تعالى { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً } (2).
وأيضاً قول الشاعر:
__________
(1) النساء: من الآية29).
(2) مريم: من الآية62).(2/45)
وبلدة ليس فيها أنيس ... إلا اليَعافير وإلا العيسُ
فاليعافير هي: أولاد بقر الوحش.
والعيس هي: الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة.
فلاحظي الآن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه, اليعافير والعيس ليست من الأنيس, والقول بجواز أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه وهو الصحيح كما تقدم لقوة دليله وهو قول أكثر الشافعين والمالكين وبعض الحنابلة وأما الصحيح من الروايتين عند الإمام أحمد فهو القول من ذلك واختاره الغزالي كما في كتبه, وعلى هذا فقولكِ (لق على ألف إلا ثوب) الآن الثوب من غير جنس الدنانير نقول يصح ذلك وتسقط قيمة الثوب من الآلف, ينظر كم يسوى الثوب وتسقط قيمته وهذا هو الراجح.
وعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله (إلا ثوباً لغواً وتلزمه الألف الكاملة.
نقف عند قول المصنف رحمه الله { والشرط يجوز أن يتأخر عن المشروط }
والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الثاني والثلاثون -
قال المصنف رحمه الله تعالى { والشرط يجوز أن يتأخر عن المشروط ويجوز أن يتقدم على المشروط } .
لما انتهى المصنف رحمه الله من القسم الأول من المخصصات المتصلة وهو: (الاستثناء) بدأ بالقسم الثاني وهو الشرط حيث قال (والشرط) ولم يعرف هل المراد بالشرط هنا الشرط النحوي أو اللغوي ؟
والمراد هنا الشرط اللغوي فهو المخصص للعموم, وأما الشرط الشرعي الذي يذكر في الأحكام الوضعية كاشتراط الطهارة للصلاة ونحو ذلك فلا تخصيص بها.
تقولين مثلاً (إن زرتني أكرمتك) هنا علقت الإكراه بالزيارة (بإن) فإن تحققت الزيارة تحقق الإكراه وإلا فلا.
ولذلك الشرط هو: التعليق والربط لأنه تعليق شيء بشيء وربط شيء بشيء, وكما قلنا أنه ليس المراد بالشرط الشرط الشرعي الذي هو من الأحكام الوضعية لأن الشرط الوضعي هو: الذي لا تبرأ الذمة في العبادة إلا به مثل الطهارة للصلاة.(2/46)
وإنما المراد به الشرط اللغوي الذي يأتي بأدوات الشرط المعهودة كما سيأتي معنا.
والمصنف رحمه الله لم يذكر من أحكام الشرط إلا جواز تقدمه حيث قال { والشرط يجوز أن يتأخر عن المشروط } أي أن المشروط يجوز أن يتقدم على الشرط أو العكس وهذا مبحث لغوي لأن اللغة العربية جاءت بجواز ذلك.
تقولين مثلاً (إن زرتني أكرمتك) هنا تقدم الشرط على المشروط لأن الشرط (الزيارة) وتقولين (أكرمك إن زرتيني) هنا تأخر الشرط عن المشروط وهي (الزيارة) وهذه المسألة (جواز تقدم الشرط على المشروط أو تأخره) الضابط له لغوي من حيث الجواز وعدم الجواز.
والأصل (أن اللغة إذا لم تعارض الشرع فإن العمل بها صحيح).
وهذه قاعدة يجب أن نعلمها لأن الشريعة جاءت بلغة العرب ولذلك كانت اللغة تدل على جواز تأخر الشرط وتقدمه, وجاءت الشريعة غير معارضة لهذا الحكم بل مقرة له في بعض صور الشرع مثال ذلك قول الله - عز وجل - { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } (1) فالشرط هنا تأخر وهو قوله { إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } والمشروط { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } وقد تقدم على الشرط أو نقول تأخر الشرط على المشروط.
__________
(1) النساء: من الآية12).(2/47)
فكون الزوج له نصف ما تركت زوجته هذا مخصص بعدم وجود ولد للزوجة, بينما في الآية الأخرى فيجوز يتقدم بدليل قوله تعالى { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ(1) } لاحظي أن الشرط وهو { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ } تقدم الآن يعني الإنفاق عليهما حتى تضع الحمل إن كانت ذات حمل لما جاز هذا في اللغة وجاءت الأدلة الشرعية تجيزه دل ذلك على اعتباره أي أن الشرط يؤخذ به شرعاً ويلزم به القائل سواءً كان الشرط متقدماً على الحكم أو متأخراً عنه لأنه لو كان مخالفاً للشرع لم يُعتبر به فالشرط الآن يعتبر من المخصصات لأننا نخصص الحكم بتحقق هذا الشرط فكان فيه نوع تخصيص ولذلك ذكرنا أن الشرط من أقسام التخصيص المتصل, النحاة يقولون (إن الشرط يتأخر عن المشروط).
والمشروط عند الأصوليين المراد به الحكم ويجوز أن يتقدم عن المشروط أي الحكم, لأن قوله - عز وجل - { فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ } هو الحكم وهو المشروط.
لماذا سمي مشروطاً ؟
لأنه قيد بشرط وجعل له ثم أن الشرط ومعرفة أحكامه مفيد جداً في مسائل اللفظية عند الناس في عقودهم وهو المعتبر ولذلك دائماً الفقهاء رحمهم الله في باب الطلاق والنكاح والوقف والوصية والإيمان وغيرها يهتمون بباب الشروط لأنها مؤثرة عليها مثلاً الآن الطلاق المعلق على شرط لأن المعلق على شرط يقع إن تحقق هذا الشرط فتطلق المرأة كأن يقول (إن دخلت بيت فلان فأنت طالق) هنا إن كان لا يقصد حقيقة الطلاق فهو لا يقع إن كان يقصد حقيقته فهي إن دخلت بيت فلان فهي طالق ويقع الطلاق.(2/48)
العتق مثلاً(أنت حر لوجه الله إن قدم زيد من السفر) أو (إن شفى الله مريضي) أو (إن نجحت في الامتحان) فلذلك اهتم العلماء رحمهم الله في قضية الشرط وبيان أحكامه لأنه مؤثر في باب الطلاق, النكاح, الوقف, الوصية, الأيمان والعتق ونحوهما فيقولون مثلاً (العتق المعلق على شرط) , (الطلاق المعلق على شرط) فإذا تحقق هذا الشرط تحقق المشروط والشاهد من هذا قول المصنف { يجوز أن يتأخر عن المشروط ويجوز أن يتقدم على المشروط } يقول (إن خرجت فأنت طالق) هنا تقدم المشروط ويقول (أنت طالق إن خرجت) هنا تأخر الشرط عن المشروط.
أدوات الشرط هي:
أن المخففة, إذا, من, ما, مهما, حيثما, أينما, وإذا ما.
والأولى حرف وهي (إن) وهي أمَّ أدوات الشرط وما عداها أسماء.
هذا هو المخصص الثاني وهو " الشرط " .
ثم ذكر المخصص الثالث وهو الصفة حيث قال رحمه الله:
{ والمقيد بالصفة يحمل عليه المطلق, كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع وأطلقت في بعض المواضع فيحمل المطلق على المقيد } .
نقف إلى هذا الحد.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الثالث والثلاثون -
قال المصنف رحمه الله تعالى { الثالث: الصفة, والمقيد بالصفة, يحمل عليه المطلق, كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع وأطلقت في بعض المواضع, فيحمل المطلق على المقيد } .
هذا هو المخصص الثالث من المخصصات المتصلة, فالصفة هنا المراد بها الحقائق المعنوية التي تحتف بالشيء كل نخلة.
و(مؤبراً) صفة للنخلة وليست بشرط, لأنه لو أراده شرطاً لقال (من باع نخلاً فإن كان مؤبراً) والمؤبر الملقح.
فالمراد بالصفة عند النحويين هي النعت, وليس هو المراد عند الأصوليين لأن المراد عند الأصوليين هنا هو أعم من الصفة عند النحاة, يعني عند علماء الأصول يريدون بالصفة الوصف المعنوي مطلقاً سواءً كان نعتاً (صفة) أو غيره.(2/49)
ولذلك الأصوليين يسمون النعت صفة, والنحويون كذلك, لكن الأصوليون يسمون أيضاً البدل والحال, كأن تقولي (جاء زيداً باكيا) أي حالة كونه باكياً يسمونه صفة أيضاً, بل يتوسع بعض علماء الأصول ويسمون اسم الفاعل والمفعول صفة, على المراد بالصفة هنا عند النحويون هو النعت, وعند الأصوليين ما هو أعم من ذلك.
النعت مثل الحديث المتقدم(من باع نخلاً مؤبراً فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) المبتاع أي المشتري (فثمرتها) هل لكل نخل ؟
نقول لا بل للمؤبر فقط, وقيدناه من قوله(المؤبر) فدل على أن غير المؤبر مغاير للحكم, يعني الآن كون ثمرتها للبائع لما كان صفتها(هذا النخل) أنه مؤبراً لاختلف الحكم , لأن الوصف بالتأبير هنا يخص الوصف به ويُمنَعُ من غيره, فالذي لم يؤبر تكون الثمرة للمشتري, ولذا يكون المعنى (من باع نخلاً مؤبراً فثمرته للبائع) هذا منطوق اللفظ, هذا المنطوق يفهمون مفهومه بمعنى أن من باع نخلاً غير مؤبر فإن الثمرة للمشتري, ولذلك عندنا حكمين الآن في هذا الحديث.
وهذا يا طالبة العلم يعطي طالبة العلم قدرة على فهم الأحاديث والنصوص الشرعية.
عندنا حكمين:
الحكم الأول: أن من باع نخلاً مؤبراً فثمرته للبائع, هذا فهمناه بالمنطق.
الحكم الثاني: أن النخل إذا لم يؤبر فثمرته للمشتري, هذا حكم بالفهم فهمناه فهماً.
كما يقال (في الغنم السائمة الزكاة) السائمة أي الراعية, هذا استفدناه من النطق, ووصفها السائمة يخرج غير السائمة ومعنى ذلك أن غير السائمة لا زكاة فيها, هذا الدليل للنعت.(2/50)
أيضاً البدل من أنواع الصفة بأنواعه, سواء بدل اشتمال أو بدل بعض من كل, ومثل له بقول الله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً(1) } فقوله { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } هذا بدل من قوله { النَّاسِ } يعني في أول الآية قال { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } الآن الآية أوجبت الحج على الناس, لو انتهت الآية عند هذا لعُلم من ذلك وجوب الحج على كل الناس المستطيع وغير المستطيع, لكن لما قال { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } هذا بدل لأن { مَنِ اسْتَطَاعَ } بدل بعض من كل, لأن المستطيعين بعض الناس وليس كلهم, لأن الناس ينقسمون إلى قسمين:
1) مستطيع. 2) غير مستطيع.
فأبدل الناس هنا في آخر الآية بالمستطيعين فدل ذلك على أن غير المستطيع لا حج عليه.
ومن ذلك مثلاً كأن تقولي (أكرمي الطالبات المتفوقات منهن) فهذا يدخل فيه كل من اتصف بالطلب لأنك قلت (أكرمي الطلبات) لو انتهيت عند هذا لدل على أن المطلوب إكرام جميع الطلبات, فلما قلت(المتفوقات منهن) هذا بدل من (الطالبات) لأن المتفوقات بعض من الكل, ليس كل الطالبات متفوقات.
كذلك أيضاً الحال, الحال من الصفة, كما قلنا أن علماء الأصول يرون أن الصفة تشمل ما هو من ذلك, تشمل النعت, البدل الحال:
الحال مثل له بقوله تعالى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } (2) لو قال(ومن قتله منكم) لأفادت الآية عموم من قتل صيداً في الحرم فإن عليه جزاء.
__________
(1) آل عمران: من الآية97).
(2) المائدة: من الآية95).(2/51)
لكنه بين حال القاتل وقيده وقال(متعمداً) فقيدت قوله (من قتله) جُعلت (من) ليست على عمومها لأن (من) هنا من ألفاظ العموم, فليس كل من قتل في الحرم فعليه جزاء, وإنما قيد بالمتعمد, أي من كان حاله حال القتل أنه كان متعمداً, فعلى هذا يخرج من ذلك المخطئ والناسي على أحد القولين في المسألة وهو الراجح إن شاء الله تعالى.
ثم إن الصفة بإطلاق لها صور كثيرة في الشرع, والفرق يا طالبة العلم بين التقييد بالصفة والتخصيص لأن التقييد بالصفة إخراج لبعض ما تناولته الحقيقة.
وعلماء الأصول في الأصل يقولون: العام والخاص والمطلق والمقيد, وبينهما شبه وفرق, شبه من جهة وفرق من جهة.
والمصنف رحمه الله يرى أن الصفة مقيدة ولذلك مثل بالرقبة فقال { والمقيد بالصفة, يحمل عليه المطلق, كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع وأطلقت في بعض المواضع, فيحمل المطلق على المقيد } .
مثلاً قال في كفارة الظهار { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } (1) لم يقيدها بأنها مؤمنة أو ليست بمؤمنة لكنه قال في كفارة القتل الخطأ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (2)إذا كان خطأ فهنا مقيدة بأنها مؤمنة , وفي كفارة الظهار مطلقة لم تقيد بشيء, فقالوا بأنه يحمل المطلق على المقيد, كيف يحمل ؟ يعني نقيدها في الظهار بأنها رقبة مؤمنة بناءً على أنها مقيدة في آيات أخرى وإن كانت في موضع آخر أو في حكم آخر.
ومعنى حمل المطلق على المقيد: أي مقيد بنفس القيد الذي في الآية الأخرى, ولذلك إذا قيل لكِ هل الكفارة في الظهار تحمل على الكفارة في القتل (أي تأخذ حكمها) ؟ فالجواب بنعم, فالحمل هنا المراد به الإلحاق والتسوية في الحكم.
الأصوليون يذكرون صوراً كثيرة لحمل المطلق على المقيد لكن هنا طالبة العلم تتساءل:
متى نحمل المطلق على المقيد ؟ هل في كل آية في كل حديث ؟
نقول: لا, نحمل المطلق على المقيد إذا اتحد السبب والحكم.
__________
(1) القصص: من الآية3).
(2) النساء: من الآية92).(2/52)
السبب: هو الذي من أجله حكم على الإنسان فإن هذا بالاتفاق يحمل, يعني لو قلتي الآن(أعط كل طالبة مجدة قلماً) ثم قلت(أعط الطالبة المجدة قلماً جيداً) لاحظي أنك في الأول أطلقت وقلت(قلماً) فقط وفي الثانية قيدت قلت(جيداً) فهل نحمل المطلق على المقيد بمعنى أننا نعطي كل طالبة قلماً جيداً, نقول نعم, لماذا ؟
لأن السبب متحد.
ما هو السبب في المثالين ؟
السبب في المثالين هو الذي دعانا أن نعطي الطالبة القلم, ما هو ؟
الجد والاجتهاد, فبينهما سبب وهو الجد في كلا المثالين, فهذا معنى قولنا إذا اتحد السبب.
لكن لو اختلف السبب واتحد الحكم فلا نحمل المطلق على المقيد, مثلاً قلت (أعط الطالبات المتفوقات كل واحدة قلماً جيداً) ثم قلت(وأعط الطالبات المؤدبات كل واحدة قلماً) الآن بالنسبة للطالبات المتفوقات قيدت القلم بالجودة, وهنا أطلقت بالنسبة للمؤدبات, فهل نحمل المطلق على المقيد هنا ؟
نقول لا, لماذا ؟
لأن السبب مختلف, فالسبب في المثال الأول (التفوق) وفي المثال الثاني (الأدب) ومثل هذا قول الله في آية الوضوء(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } (1) فقيدت الأيدي أنها إلى المرافق هذا في الوضوء, وقال في التيمم { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } (2) في آية الوضوء قيد الأيدي أنها إلى المرافق.
وهنا أطلق (وأيديكم) فهل نحمل المطلق على المقيد, هل نقول أنه في التيمم يمسح إلى المرافق حملاً للمطلق على المقيد ؟ لا, لماذا ؟
لأنه اختلف هنا السبب والحكمٌ, لأنه في هذا المثال المطلق متيمم, وهناك متوضئ, وهذا بالتراب وذاك بالماء, والوضوء بالماء أصل, والتيمم بالتراب بدل.
إذاً نعلم يا طالبة العلم أنه إذا اتحد الحكم والسبب فإننا نحمل المطلق على المقيد وهذا له صور كثيرة شائعة.
__________
(1) المائدة: من الآية6).
(2) النساء: من الآية43).(2/53)
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى { المخصص المنفصل, ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب, وتخصيص الكتاب بالسنة, وتخصيص السنة بالكتاب, وتخصيص السنة بالسنة, وتخصيص النطق بالقياس, والمقصود بالنطق هو الكتاب وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -, ولذلك قال: ونعني بالنطق قول الله تعالى: وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - } .
لما انتهى المصنف رحمه الله تعالى من المخصصات المتصلة بدأ بالمخصصات المنفصلة والمقصود بالمخصص المنفصل: ما لم يكن مرتبطاً بكلام آخر, يعني ليس المخصص للنص به, كما تقدم في الصفة والشرط والاستثناء. إنما يكون المخصص في نص آخر يعني المتصل يأتي المخصص بالمخصص في دليل واحد, أما المنفصل فيأتي المخصص في دليل آخر, يعني يأتي دليل عام ثم يأتي نص آخر ويخصص هذا الدليل, ولهذا قال الفقهاء(المخصصات المنفصلة) وهي ثلاثة الحس والعقل والنصوص الشرعية.
والحس هو : الدليل المأخوذ من الرؤية البصرية والسمع أو اللمس أو الذوق أو الشم(كلاهما أشياء محسوسة) كقول الله - عز وجل - { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا(1) } قوله { كُلَّ شَيْءٍ } هذا عام, لكن هذا العموم مخصوص بالأشياء التي لم تدمر, مثل السماوات والأرض, كيف عرفنا أن هذه الأشياء خصصت من العموم وأنها تدمر؟ هذا بالحس, نحس بهذا, يعني ما فيه دليل شرعي لكننا احسسنا بهذا, لأننا نرى السماء والأرض لم تدمر, مثل قول الله تعالى عن بلقيس { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء } (2)مع أن هناك أشياء لم تؤت منها بلقيس.
هذا المخصص الأول وهو الحس: بمعنى أن يرد دليل عام لشيء معين لكن مخصوص أو خص بالمشاهدة الحسية أن الحسية أن هذا الدليل ليس على عمومه, وهذا المخصص ما ورد فيه دليل شرعي ولا بالعقل وإنما بالحس يعني شيء محسوس ونشاهده ونراه.
__________
(1) الاحقاف: من الآية25).
(2) النمل: من الآية23).(2/54)
القسم الثاني: العقل, أي أن العقل يخصص بعض العموميات, سواء كان الشيء ضرورياً أو نظرياً, فالضروري نحو قول الله تعالى { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } (1) العموم في { شَيْءٍ } يدخل جميع الأشياء, والله سبحانه وتعالى شيء لأنه يقول سبحانه { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } (2) فدل ذلك على أنه شيء. فلو عملنا بعموم الآية { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } لكانت الآية تدل على أن الله خلق ذاته وسبحانه وتعالى, تعالى الله عن ذلك, فالآية عامة لكن نخصص منها ذاته سبحانه وتعالى, والذي خصص ذلك هو العقل لأن العقل السليم يقول بأن الخالق لا يكون مخلوقاً, هذا بالنسبة للتخصيص بالعقل الضروري. أما النظري فكما في قول الله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً(3) } فقوله { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فإن الآية عامة, فإن العقل بنظره بالنظر اقتضى عدم دخول الأطفال والمجانين بالتكليف (بالحج) حتى لو كانا قادرين بالتخصيص, بل الأطفال من جملة العاقلين الذين هم غير مخاطبين بخطاب التكليف, فهذا خصصناه بالعقل النظري بالنظر.
المخصص الثالث: الدليل.
ونقف عنده إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الرابع والثلاثون -
بقينا في القسم الثالث من المخصصات المنفصلة وهو: النصوص الشرعية, وهي التي تكلم عنها المصنف وقال (ويجوز تخصيص الكتاب..الخ).
المخصص الثالث: النصوص الشرعية, تكون مخصصة بدليل سواء من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس, فالقرآن الكريم يخصص بأربعة أشياء (فلآيات القرآن قد تأتي عامة فتخصصها آية أخرى, والذي يخصصه أربعة أشياء).
__________
(1) الرعد: من الآية16).
(2) القصص: من الآية88).
(3) آل عمران: من الآية97).(2/55)
أولاً: القرآن, فتأتي الآية ثم يأتي التخصيص في الآية أخرى كقوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ(1) } أي ثلاث حيضات أو ثلاث أشهر هذه الآية تفيد أنه أي مطلقة تطلق فإنها تتربص بنفسها ثلاث قروء يعني ثلاث حيض أو ثلاث أشهر يشمل هذه المرأة المدخول بها التي دخل فيها زوجها والغير مدخول بها التي طلقها قبل أن يدخل بها لكنها خصت في آية أخرى وهي قوله - عز وجل - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (2) قال { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } أي غير المدخول بها فخرجت غير المدخول بها في الآية هنا.
لأنه الآية الأولى تفيد العموم ثم جاءت الآية الأخرى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } … فخصت العموم الوارد في الأول وهذا هو تخصيص الكتاب بالكتاب (فخرجت غير المدخول بها أما غير المدخول بها فليس عليها عدة).
__________
(1) البقرة: من الآية228).
(2) الأحزاب: من الآية49).(2/56)
ثانياً: تخصيص الكتاب بالسنة: أي يأتي دليل من الكتاب عام فيخصص بالسنة يعني يأتي دليل من السنة فيخصص هذه الآية فيفيد أن هذه الآية ليست على عمومها قال الشافعي رحمه الله (حاجة القرآن إلى السنة أعظم من حاجة السنة إلى القرآن) لأنه ورد أدلة كثيرة في القرآن إما عامة فخصت بالسنة أو مجملة فبينت بالسنة أو مطلقة فقيدت بالسنة والدليل قوله تعالى لما ذكر المحرمات قال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ(1) } يعني من النساء هذه الآية خصت بحديث لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها, في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم كما في الصحيحين أخرج العمة والخالة بأنها لا تجمع مع المرأة لأنه لو لم يرد إلا هذه الآية لعلم أن لا بأس من الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها أي لا يتزوجهما.
ثالثاً: الإجماع تأتي آية ثم تخصص بإجماع الأمة وهذا لم يذكره المصنف ومثاله قوله تعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً(2) } فالآية عامة في الحر والرقيق أي أنه أي إنسان يرمي أحد فإنه يجلد ثمانين جلدة لكن خصت هذه الآية بالإجماع على أن العبد القاذف يجلد على النصف من الحر يعني العبد إذا قذف أحد فإنه يجلد أربعين وهذا على القول بأنه في المسألة إجماع لأن المسألة في القذف فيها على خلاف ونحن لا يهمنا الخلاف.
__________
(1) النساء: من الآية24).
(2) النور: من الآية4).(2/57)
القول الثاني: قال عمر بن عبدالعزيز وقميصة بن أبي ذؤيب ومذهب الظاهرية أنه لا فرق بين الحر والعبد فكل واحد يجلد ثمانين جلده إذا قذف. والجمهور الذين قالوا: بأنه العبد يجلد على النصف من الحر إذا قذف أحد يستدلون بقوله تعالى { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب(1) } أي الرقيق قالوا أنه سبحانه وتعالى ذكر ذلك في حد الزنا قالوا كما أنه يتنصف في حد الزنا كذلك يتنصف في حد القذف ودليلهم عموم قوله تعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وهذا هو القول الراجح بأن العبد الرقيق إذا قذف فإنه يجلد كالحر ثمانين جلده ولا يلزم كونه أن يتنصف في حد الزنى أن يتنصف في حد القذف, على أن هذا الكلام الذي ذكره الشارح فيه نظر لكن يمكن أن يستدل بدليل آخر على تخصيص الكتاب بالإجماع ومن ذلك قوله - عز وجل - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ(2) } قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... } لاشك أن المرأة من جملة أهل الإيمان لأن الخطاب في قوله { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. } الأصل أن الرجال والنساء لكن خصت هذه الآية بالإجماع على عدم وجوب الجمعة على الرقيق والمرأة وهذا مخصوص بالإجماع وهذا من تخصيص الكتاب بلإجماع.
رابعاً: القياس, وهذا فيه خلاف لأنه ما قبله محل اتفاق لا خلاف فيه أم كون القياس مخصص للكتاب فهذا فيه خلاف بمعنى أنه يكون هناك (أصل, فرع, علة تجمع بينهما) مثل الخمر هذا محرم وهو الأصل فهل نقيس عليه المخدرات ؟
__________
(1) النساء: من الآية25).
(2) الجمعة: من الآية9).(2/58)
نقول ننظر عندنا أصل وهو تحريم الخمر, فالمخدرات فرع والعلة هي الإسكار, إذاً المخدرات محرمة كالخمر بالقياس على الخمر لا بالنص هذا مثال.
هل يخصص القياس الكتاب أم لا ؟
الجمهور قالوا: أن القياس أضعف من أن يخصص الكتاب أي دلالته ضعيفة ولا يقوى على تخصيصه الحنفية وبعض الفقهاء يقولون بأن القياس إذا صح بعلته وشروطه يكون مخصص للكتاب.
مبنى قول الحنفية أن المخصص والمخصص يجب أن يكونا بمنزلة واحدة أو يكون المخصص أقدم من المخصص على كل مثال ذلك قوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (1) فإن عموم الزانية خص بالكتاب وهو قوله تعالى في الإماء { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ(2) } الله ذكر أن كل من الزاني والزانية كل واحد منهما جلدة ويغرب عام إذا كان غير محصن لكن المحصن حده الرجم لكن عموم الزانية هنا خص بأن الرقيق تجلد خمسين على النصف من الحرة بقينا في الرجل الرقيق قالوا نقيس الرجل الرقيق الزاني على الزانية في تنصيف العذاب فهنا خصصنا الكتاب بالقياس لأنه لم يذكر الرجل وهذا من تخصيص الكتاب بالقياس.
القسم الثاني:تخصيص الكتاب بالسنة, مثال تخصيص آية السرقة بما دون النصاب لأنه تعالى قال { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا(3) } هذه الآية تدل على أن السارق مهما سرق فإنها تقطع يده إذا سرق أي شيء لكن وردت السنة أن { لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً } وعلى هذا يا طالبة العلم تبين أهمية هذه المسائل.
قال المصنف رحمه الله { وتخصيص السنة بالكتاب وتخصيص السنة بالسنة } :
__________
(1) النور: من الآية2).
(2) النساء: من الآية25).
(3) المائدة: من الآية38).(2/59)
أيضاً السنة تخصص بالكتاب يعني يأتي لفظ السنة عام ويأتي له مخصص من القرآن كما ورد في قوله - صلى الله عليه وسلم - { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله } .
قوله { أمرت أن أقاتل الناس } هذا عام يفهم من ذلك حتى يشهد جميع الناس أنه لا إله إلا الله وإلا يقاتلون على ذلك, هذا ما يدل عليه لفظ الحديث لكنه القرآن جاء وخصص هذا الحديث فأخرج القرآن المعاهد (هو من بيننا وبينهم عهد) فهؤلا حتى لو لم يسلموا فإنهم لا يقاتلون لقوله تعالى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } (1) فإذا أعطى الجزية نكف عن مقاتلته وهذا تخصيص لعموم الحديث.
مثال آخر:
قوله - صلى الله عليه وسلم - { ما أبين من حي فهو ميت } . ما أبين أي ما قطع, مثلاً لو أتينا بشاة وقطعنا رجلها الآن رجل هذه الشاة تعتبر نجسة.
__________
(1) التوبة: من الآية29).(2/60)
لفظ الحديث هنا عام, يفيد هذا الحديث أن كل ما قطع من الحي فإنه لا يجوز الانتفاع به لأنه ميت لقوله { فهو ميت } ولكن خصص القرآن هذا أو بعضه لقوله تعالى { وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } (1) فأخرج هذه الأشياء من لفظ الحديث وتخصيص السنة بالكتاب هذا لا خلاف فيه أنظري إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - { خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا } يعني الزانيات, البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب, يشمل كل ثيب, مع ذلك جاء القرآن مخصص لهذا الحديث ويفيد بأن هذا الحديث ليس عاماً في الجميع وإنما خاص بالأحرار دون الإماء لأنه سبحانه قال في حقها في حكم آخر { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } لأن لفظ الحديث يشعرنا أن الحرة والرقيق على حد سواء ولكن القرآن جاء وخصص هذا الحديث وقال بأن الإماء حقهن من العقوبة على النصف من الحرائر قال(وتخصيص السنة بالسنة) وهذا هو قول الجمهور أي أن السنة تخصص بالسنة وهو الراجح داود الظاهري رحمه الله لا يرى ذلك أي تخصيص السنة بالسنة ويقول إذا جاء معلوم من التخصيص فإنه يكون تعارضا يعني إذا جاء دليل عام وجاء مخصص ما يعتبر هذا مخصص للعام بل يعتبر تعارض بين الحديثين فننظر أي الحديثين أقوى من حيث التواتر والآحاد الذين قالوا أن السنة تخصص بالسنة نعمل بالحديثين معاً وهو الراجح وقول الجمهور لكن الظاهرية يقولون ننظر إلى الأقوى ونعمل به ونسقط الآخر والصحيح ما عليه الجمهور وأن السنة تخصص السنة فيسقط الأقوى الأضعف ومثاله قوله - صلى الله عليه وسلم - { فيما سقت السماء العشر } مثل بعض المزارع الآن لا يتكلف المزارع بسقيها وإنما على المطر إذا نزل المطر سقى الأرض فهذا فيه العشر, هذا يعم جميع الحبوب والثمار يعني يشمل الكثير والقليل لقوله - صلى الله عليه وسلم - { فيما سقت السماء العشر } وهذا يعم جميع
__________
(1) النحل: من الآية80).(2/61)
الحبوب والثمار, يشمل القليل والكثير لكن هذا مخصص في قوله - صلى الله عليه وسلم - { ليس فيما دون خمسة أوسق ِ صدقة } إذا كان هذا الذي خرج دون الخمسة أوسق فإنه لا زكاة فيه إذ لابد من كونه خمسة اوسق فصاعداً, فلو أخذنا بالدليل الأول لكان الوسق والوسقان فيها زكاة لكن لما جاء الدليل الآخر وقال { ليس فيما دون خمسة اوسق صدقة } فعلمنا أن نصاب الحبوب والثمار خمسة اوسق فصاعداً.
الوسق: الواحد 60 صاع نضرب 5×=60300 صاع يعني نصاب الحبوب والثمار يساوي 300 صاع والصاع يساوي بالكيلو على خلاف على كل يخرج أن 612 كيلو هذا نصاب الحبوب والثمار.
ثم قال { وتخصيص النطق بالقياس ونعنى بالنطق القرآن والسنة } :
بقينا الآن في تخصيص السنة بالقياس هنا نفس الخلاف السابق لا حاجة إلى إعادته.
مثال ذلك:
{ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام } الأمة كما تقدم أنها خصت بأنها على النصف من الحرة لقوله تعالى { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب } فقاسوا الذكور من الأرقاء على الإماء فقالوا إن الأرقاء من الرجال على النصف من الأحرار قياساً على الإماء فيكون المخصص في قوله - صلى الله عليه وسلم - { البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام } هو القياس.
ثم قال المصنف رحمه الله { والمجمل, ما افتقر إلى البيان } :
المجمل في اللغة: هو المجموع من أجملت الحساب أو يقال بأن المجمل هو المبهم, قال ابن قاضي الجبل هو لغة أي المجمل, منه الجَمْل ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اليهود { لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها } جملوها أي أبهموها وخلطوها وعلى كل المجمل في اللغة المجموع من أجملت الحساب أو البهم.
وهذا التقسيم للفظ من حيث دلالة معنى معين وغير معين ثلاثة أقسام:
1/ النص. 2/ الظاهر. 3/ المجمل.(2/62)
ووجه تقسيم الكلام إلى هذا قالوا: بأن الكلام إما أن يفيد معنى واحد وهو النص وإما أن تفيد معنيين فأكثر وهذا له حالتان:
الأولى: أن يكون أحد المعان أرجح والراجح هذا يسمى ظاهر.
الثانية: أو يكون لا ترجيح فيكون أسمه المجمل.
فيكون المجمل هو ما أفاد معنيين فأكثر ولم يتميز أحدهما على الآخر والمؤلف رحمه الله بدأ بالمجمل وكان الأولى أن يأتي بالنص أولاً لأنه أقوى, بدأ بالمجمل فقال { هو ما افتقر إلى البيان } .
نقف عند تعريف المجمل في اللغة والاصطلاح.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
- الدرس الخامس والثلاثون -
قال المصنف رحمه الله { المجمل والمبين قال { والمجمل ما افتقر إلى البيان, والبيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً, وقيل ما تأويله تنزيله, وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي } .
تعريف المجمل: لغة, المبهم تقول كلامك مبهم أي لا أفهم منه شيء ويطلق على المجموع والمجموع يقال باع هذا جملة أي على صيغة الجمع لا على صيغة التفريق والتفريد.
أما في الاصطلاح: وقد عرفه المؤلف بقوله { هو ما افتقر إلى البيان } وهذا التعريف من المؤلف هو تعريف بالحكم وليس تعريف بالصورة لأنك لو قيل لك: ما حكم المجمل ؟
قلت هو ما افتقر إلى البيان, لكن من حيث ماهيته يقال: هو ما احتمل معنيين فأكثر لا مزية لأحدهما على الأخر أي أنه يدل على أكثر من معى.
المجمل من حيث اللفظ نفسه لا يتقوى لفظ على لآخر فيحتاج إلى دليل آخر يتقوى به أحد المعنيين, أما حكم المجمل ؟ فنقول إذا جاءك دليل من الكتاب والسنة وهذا الدليل جاء على وجه الإجمال فتوقفي حتى يأتي البيان لذلك كان المجمل هو ضد البيان.
فقد يأتي النص من الكتاب والسنة على وجه الإجمال (يدل على أكثر من معنى) ولا يوجد مرجح في نفس النص ولكنه يوجد في نص آخر يعني في دليل آخر ترجيح أحد هذين المعنيين وتقويته.(2/63)
والإجمال له أسباب كثيرة:
1. من أسباب الإجمال (الاشتراك):
وهو في اللغة أن يتحد اللفظ ويتعدد المعنى مثل لفظة (العين) الآن استخدمها العرب لأكثر من معنى فقد يكون اللفظ واحد وله أكثر من معنى وقد استخدمه العرب للعين الباصرة التي يرى بها فقال تعالى { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } (1) وتطلق أيضاً على العين الجارية كما في قوله تعالى { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(2) } وتطلق على الذات الحقيقية تقولين جاءت فلانة عينها أي بنفسها وبحقيقتها. يطلق لفظ عين على الجاسوس, لاحظي الآن أن اللفظ واحد وهو كلمة العين لكن المعنى متعدد لأكثر من معنى فإذا جاءك نص فيه كلمة العين مثلاً على أيها تحملين ؟ هي متساوية من حيث اللفظ ولذلك نقول أنه مجمل فهو إجمال بسبب الاشتراك, الاشتراك بماذا ؟ الاشتراك بالمعنى.
أيضاً مثل:
__________
(1) طه: من الآية39).
(2) الغاشية:12).(2/64)
كلمة (القرء) قال تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } (1) القرء تطلقه العرب يراد به الحيض ويراد به الطهر ولذلك اختلف العلماء عند قول الله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } هل المراد (بالقرء) الحيض أو الطهر ؟ الآية الآن تدل على كل من المعنيين لكن لا ترجيح لأحدهما على الآخر, الذي رجح أن المراد بالقرء هو الحيض استدل بأدلة أخرى فهذه الآية لم يستدل بها أي من الطرفين لأن هذا النص في محل نزاع لأن الذين قالوا: أن المراد بالقرء هو الطهر أيضاً استدلوا بأدلة أخرى, فنحن الآن لسنا نقرر ما المراد ؟ وإنما نقرر ونبين الإجمال أحياناً يكون بسبب الاشتراك والاشتراك أن يتحد اللفظ لكن يتعدد المعنى, إذاً الاشتراك من أسباب الإجمال وقد يكون في الأسماء كما تقدم, مثل ما تقدم العين والقرء وقد يكون بالفعل كقوله تعالى { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } (2) عسعس الليل العرب تطلقه على إقبال الليل فنقول: عسعس الليل وتطلقه أيضاً على إدباره, أيضاً أي أدبر, والشنقيطي رحمه الله يرجح أنها بمعنى أقبل الليل ويحتج على ترجيح هذا المعنى بدليل آخر (لأنه هذا إجمال) بأن أكثر ما يحتج الله سبحانه به بإقبال الليل لا بإدباره.
لاحظي !
أن التقوية جاءت من أمر خارجي استدل بدليل آخر, هذا من أمثلة الاشتراك بالفعل.
__________
(1) البقرة: من الآية228).
(2) التكوير:17).(2/65)
ومن أمثلة الاشتراك في بالحرف: الحرف قد يأتي ويكون للحرف أكثر من معنى ولا شك أن تفسير الآية تختلف بحسب اختلاف المعنى لهذا الحرف كالباء مثلاً, فبعض أهل العلم يرى أنها (للالتصاق) والبعض الآخر يرى أنها للتبعيض, مثال قوله تعالى { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } (1) الباء هنا قد تكون للتبعيض من رأى أنه للتبعيض قال: يجوز مسح بعض الرأس رأيت أن خلاف الفقهاء مبني على قواعد أصولية لا يأتون بالخلاف لذات الخلاف أو من أجل الخلاف أو يأتي العالم بالخلاف من بنات أفكاره وإنما يبني هذا على مسائل أصولية والذين قالوا لابد من مسح جميع الرأس.
أيضاً الواو فقد ترد حالية وترد استئنافية وللعطف ولذلك الخلاف في قوله تعالى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ(2) } الواو هنا الذين يقولون بأن الواو استئنافية يقولون بأنه لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه ثم يستأنف الآية ثم يقول: والراسخون بالعلم كذلك يعلمون تأويله, أي الراسخون يعلمون تأويله آمنا به إذاً هذا أول سبب من أسباب الإجمال وهو الاشتراك وتبعاً لتغير المعنى يتغير الحكم.
2. من أسباب الإجمال:
الإبهام في أسم الجنس, يعني اسم جنس مبهم كقوله تعالى { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } (3) هذه الكلمات الآن في قوله تعالى { كَلِمَاتٍ } مبهمة تحتاج إلى بيان لأن كلمات جمع كلمة. هذا هو الذي تستفيدين الآن لكن ما هي هذه الكلمات لا يتبين معناها إلا في دليل آخر ما هو الدليل ؟
__________
(1) المائدة: من الآية6).
(2) آل عمران: من الآية7).
(3) البقرة: من الآية37).(2/66)
قوله تعالى بعد ذلك { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (1) أيضاً مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله } .
قوله (إلا بحقها) مجمل ما هو حق لا إله إلا الله ؟
هذا يأتي بيانه في دليل آخر وهو إقام الصلاة, إيتاء الزكاة, صوم رمضان, حج بيت الله, يعني الإتيان بأركان الإسلام.
إذا من أسباب الإبهام اسم الجنس.
3. أيضاً من أسباب الإجمال:
الاختلاف في مرجع الضمير, أي الضمير يرجع على ماذا ؟
لأن حال إرجاع الضمير على شيء يختلف المعنى كقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ(2) } الضمير في قوله { فَمُلاقِيهِ } لمن يعود ؟ هل يعود إلى الله أم إلى الكدح ؟
قوله { فَمُلاقِيهِ } هذا اللفظ مجمل سببه الاختلاف في مرجع الضمير, يعني لابد أن نتبين أين يرجع الضمير, فقال بعضهم أنه يعود إلى الكدح أي فملاق كدحك ومجازاً عليه وواجده يوم القيامة وقال بعضهم أنه يعود إلى الله - عز وجل - أي ملاقي ربك.
ومثله قوله تعالى { إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ*وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } (3) الضمير في قوله { وَإِنَّهُ } قيل أنه يعود على الإنسان أي إنسان على كونه ذلك (شهيد) وقال بعضهم أن يرجع إلى الله - عز وجل - أي أن الإنسان لربه لكنود وإن الله على ذلك لشهيد, لاحظي أن المعنى هنا مختلف والسبب الاختلاف في مرجع الضمير بسبب الإجمال.
4.ومن أسباب الإجمال:
__________
(1) لأعراف:23).
(2) الانشقاق:6).
(3) العاديات7:6).(2/67)
التصريف, أي تصريف الكلمة كما لو قلت جاء المختار, المختار تطلق على اسم الفاعل الذي اختار غيره وتقع على اسم المفعول الذي وقع عليه الاختيار, فلو قلت (جاء المختار) هذا مجمل فهل يعود على اسم الفاعل أو اسم المفعول ؟
اللفظة لا تدل على واحد منهما بعينه بل يجوز إطلاقها على هذا أو هذا فنحتاج إلى خارج يرجع أحد الأمرين على الآخر.
نقف عند هذا الحد.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
- الدرس السادس والثلاثون -
قال المصنف رحمه الله { والمجمل ما افتقر إلى البيان, والبيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً, وقيل ما تأويله تنزيله, وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي } .
البيان في اللغة هو: الإيضاح والظهور, تقول بينت الكلام أي أوضحته وأظهرته.
أما في الاصطلاح: فهو كما عرفه المصنف رحمه الله تعالى { هو إخراج الكلام من حيز الإبهام إلى حيز الوضوح والتجلي } أي أن النص المبين يأتي لنقل النص من الإبهام إلى الإيضاح والظهور ولذلك البيان يفتقر إليه الإجمال يعني الإجمال فقير إلى البيان ولذلك المجمل مفتقر إلى المبين لماذا نفتقر إليه ؟
لأنه لا يمكن أن يُعمل بالمجمل حتى يأتي بيانه ولذا المجمل بينه الكتاب والسنة وكثير من الأدلة الشرعية يعني تأتي مجملة في موضع ومبينة في موضع آخر مثل قوله - عز وجل - { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } .
الآن بين أن من واجب الناس لله - عز وجل - أن يحجوا البيت, الآن هذا مجمل لكن ما صفة هذا الحج ؟ وما شروطه ؟ وما أركانه ؟ كم يجب في العمر ؟ ...الخ.(2/68)
هنا جاءت الأدلة من الكتاب والسنة فبينت مفسداته ومبطلاته...الخ. أيضاً القرآن يقول { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ(1) } فقط هذه الآية مجملة جاءت الآيات والأحاديث تبين حكم الصلاة كما في قوله - عز وجل - { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(2) } وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر } جاءت الأدلة الشرعية أيضاً تبين أحكام الصلاة, صفة الصلاة ونحو ذلك فهذا الأدلة بيان لقوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } وأيضاً بيان لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مالك بن حويرث { صلوا كما رأيتموني أصلي } فهو أمر منه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوا البيان من فعله - صلى الله عليه وسلم - لأنه صلى فقال { صلوا كما رأيتموني أصلي } .
فالبيان يكون بأربعة أمور:
الأول: بالقول, كقوله - عز وجل - { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (3) هذه الآية بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقول في قوله { إلا أن القوة الرمي, ألا أن القوة الرمي } فبين بعضاً من الاستعداد أو أخذ العدة من هذه الآية ومن ذلك تعلم الرمي. وأيضاً قوله تعالى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ (4) } جاءت الأدلة في السنة تبين الأموال التي تجب فيها الزكاة ومقدار الأنصبة ومقدار النصاب يعني مثلاً في الحبوب والثمار خمسة اوسق والوسق 60 صاعاً يعني 300 صاع يساوي 612 كيلو هذا مبين في السنة, إذا بلغت هذه الحبوب والثمار النصاب كم فيها ؟
__________
(1) البقرة: من الآية43).
(2) المدثر43:42) .
(3) لأنفال: من الآية60).
(4) الأنعام: من الآية141).(2/69)
فيها العشر أحياناً إذا سقيت بلا مئونة, إذا سقيت بمئونة ففيها نصف العشر, إذا سقيت بمئونة وبلا مئونة ففيها ثلاثة أرباع العشر هذا وغيره كله بيان لقوله - عز وجل - { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } .
وقد تقدم أن بيان القرآن قد يكون بالسنة وقد يكون بيان القرآن بالقرآن وبيان القرآن بالسنة كما سبق, الله - عز وجل - قال { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فجاءت السنة فبينت أحكام الزكاة وقد يكون بيان القرآن بالقرآن كقوله - عز وجل - { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ*ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } (1) هذا مجمل الآن بينه الله - عز وجل - بقوله { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ(2) } هذا بيان لأمر يوم الدين الذي أجمل في الآيتين اللتين قبل هذه الآية. هذا بيان القرآن بالقرآن في نفس النص في نفس الآية.
__________
(1) الانفطار18:17) .
(2) الانفطار:19).(2/70)
أحياناً يأتي بيان القرآن بالقرآن في موضع آخر كما في آية الحج في سورة آل عمران قال تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } ثم جاء بيان شيء من أحكام الحج في سورة الحج. سورة الحج كاملة تبين أحكام الحج وأنواعه والفدية والإحصار..الخ. آية البقرة بينت أحكام التمتع وشروطه وبيان السعي بين الصفا والمروة, أيضاً في سورة البقرة جاء تبيين أشهر الحج. أيضاً في البقرة جاءت بعض الآيات في بيان آداب الحج كما في قوله تعالى { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ(1) } كما جاءت آيات بينت حكم التعجل قال { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه } (2) المهم أن الإجمال قد يأتي بيانه في السنة, وقلنا أن بيان القرآن قد يأتي بالقرآن إما في نفس الآية أو أحياناً قد يكون بيان القرآن للقرآن في آية أخرى هذا بالنسبة للبيان بالقول لأننا قلنا (أن البيان قد يكون بالقول).
الثاني: قد يكون البيان بالفعل, وذلك بأن بيان بعض النصوص الشرعية بفعله - صلى الله عليه وسلم - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمر بأمر فيكون هذا الأمر مجملاً ثم فعله - صلى الله عليه وسلم - فيكون بياناً لهذا المجمل كما في صلاته - صلى الله عليه وسلم -, النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وبين ذلك ثم قال { صلوا كما رأيتموني أصلي } وحج - صلى الله عليه وسلم - خذوا عني مناسككم.
الثالث: يكون البيان في الكتابة, كما كتبه - صلى الله عليه وسلم - لبعض عماله في بعض الأمصار فبين لهم بعض أحكام الديات وأحكام القصاص هذا بيان بالكتابة.
__________
(1) البقرة: من الآية197).
(2) البقرة: من الآية203).(2/71)
الرابع: قد يأت البيان بالإشارة, ومن ذلك إشارته - صلى الله عليه وسلم - في قوله - صلى الله عليه وسلم - { وأنا كافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى } يعني دليل على أنه قريب منه لأن الإصبع السبابة بجانب الوسطى فكأنه - صلى الله عليه وسلم - بين القرب, يعني قرب كافل اليتيم بأنه يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قريباً منه كقرب الإصبع السبابة من الوسطى.
وأيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - { بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعه السبابة والوسطى } ولذلك بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - من علامات الساعة الصغرى كما أن موته كذلك إلى آخر العلامات.
أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - { الشهر هكذا (وبسط أصابعه العشرة) ثم قال الشهر هكذا أي بسطها في الثانية أيضاً ثم قال والشهر هكذا وخنس الإبهام في الثالثة } خنسها يعني طواها, يعني كأنه يشير إلى أن الشهر قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين يوماً.
من ذلك أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلى جالساً فقام الصحابة خلفه قياماً فأشار إليهم أن اجلسوا. إلى غير ذلك, يعني هذا البيان إما أن يكون بالقول, أو بالفعل أو بالكتابة أو بالإشارة.
قال المصنف رحمه الله تعالى { والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً, وقيل ما تأويله, وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي } .(2/72)
المؤلف رحمه الله تعالى بدأ بالتعريف الاصطلاحي ثم عرج على التعريف اللغوي, ومن المعروف أن الترتيب العلمي يقضي عكس ذلك, يعني يعرف الشيء لغة ثم يعرف اصطلاحاً ولذلك النص في اللغة مأخوذ ومشتق من منصة العروس, لأنه النص عند العرب هو: الشاخص المرتفع, فكل شيء شاخص ومرتفع يسمونه منصة, ولذلك تجدين في اللغة الدارجة أنه كلمة منصة مستخدمة كثيراً لأنها ظاهرة ومرتفعة والمراد بها المكان المتميز المرتفع عن سائر المجالس, ومعنى شاخص أي بارز بالنسبة إلى ما حوله ومنه (المنصة التي تجلس العروس عليها) يقال نصت النساء العروس في المنصة أي رفعتها على سائر النسوة والضابط اللغوي لقضية المنصة هو الارتفاع كل ما كان مرتفعاً كان ناصاً, هذا بالنسبة لتعريف النص في اللغة.
أما في الاصطلاح: فقد عرفه المؤلف بقوله بأنه { ما لا يحتمل إلا معنى واحداً } أي أنه لا تعدد المعاني المحتملة له, يعني ليس كالمجمل وإنما لا تعدد المعاني المحتملة له بل يفهم منه معنى مباشراً فبمجرد إطلاق اللفظ يتبادر إلى الذهن هذا المعنى. تقدم أن قلنا أن المجمل يحمل أكثر من معنى مع أنه لا يترجح إلا واحداً منها أما النص فلا يترجح إلا معنى واحدا يعني لا يأتي أصلاً إلا معنى واحد يتبادر إلى الذهن أي لا يقبل الاحتمالات بكونه قد يراد به معنى مغايراً بل هو من الأحكام والضبط بحيث لا يحمل إلا معنى واحداً مرادا, ولذلك عبر عنه بقوله { ما لا يحتمل إلا معنى واحداً } مثال ذلك قول الله - عز وجل - { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } (1) هذا فيه أمر بإرضاع الأولاد من الوالدات هل يحتمل بأن المراد بالوالدات العمات أو الخالات ؟
أبداً فلفظ الوالدات لا يحتمل إلا معنى واحداً وهي الأم (الأمهات) لا يمكن أن يأتي إنسان ويقول لعل المراد )بالوالدات) العمات أو الخالات.
__________
(1) البقرة: من الآية233).(2/73)
إذاً هذا النص لا يحتمل إلا معنى واحد وهو أن المقصود بالوالدات هن الأمهات بخلاف قول الله - عز وجل - { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ(1) } الآن قوله { يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } هذا محتمل من هو الذي بيده عقدة النكاح ؟ هذا متردد بين الزوج وبين الولي فبعضهم يقول أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج وبعضهم يقول هو الولي هذا ما يعتبر نص الآن, لأن النص تردد بين أمرين لكن ما سبق وهو قوله تعالى { وَالْوَالِدَاتُ } هذا لا يدل إلا على معنى واحداً فهو نص في موضوعه.
مثال آخر:
قوله - عز وجل - { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ(2) } الآن قال { َ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } كم هذه ؟ هذه عشرة, يعني لا يمكن أن يقول واحد يحتمل أن المراد فيها خمسة أو ستة يعني قوله { ََ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } ما يقول واحد يصوم يوم أو يومين منصوصة على ثلاثة وقوله { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أيضاً ما يمكن أن يقول إنسان لعلها تسعة أو لعلها عشرة فهذا المعنى لا يحتمل معنى مغاير أبداً ولذلك أكدها وقال { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ(3) } لم يكتفي وقال { َ عَشَرَةٌ } بل وصفها وقال بأنها { كَامِلَةٌ } ولذلك النص إذا كان ظاهراً لا مجال للاجتهاد والاحتمال فيه ولذا قال المؤلف { وقيل ما تأويله تنزيل } أي في تعريف النص.
__________
(1) البقرة: من الآية237).
(2) البقرة: من الآية196).
(3) البقرة: من الآية196).(2/74)
أي أن النص وهو اللفظ (ما) هنا مصدرية بمعنى الذي أي اللفظ الذي تأويله تنزيله, معنى تأويله أي بيانه فقط مجرد تنزيله كيف هذا ؟ أي كأنه يقول إذا نزل وجاء هذا اللفظ فهم الناس كلهم المراد به فلا يحتاج إلى بيان يعني تقريباً كأنه معنى قوله { ما لا يحتمل إلا معنى واحداً } لا يحتاج إلى بيان بل كل عاقل في أوساط العقلاء يدرك المعنى فالحاجز بين هذا النص وبين الإنسان أن ينزل من السماء فإذا نزل من السماء كان واضحاً.
أما حكم النص ؟ سبق أن المجمل أنه يجب التوقف عنده حتى يأتي البيان. أما النص فإنه يجب مباشرة العمل به على حسب حكمه هل هو واجب أو سنة ؟
المهم أن الإنسان يتوجب عليه العمل به ولا يتوقف إلا في حالة النسخ هذا الدليل فإنه يتوقف عنه أما إذا لم ينسخ فإنه لا يتوقف عنه وعن العمل به أما غير ذلك فلا يؤثر عليه.
ثم قال { والظاهر ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر, ويؤول الظاهر بالدليل, ويسمى الظاهر بالدليل } .
الظاهر في اللغة: هو الواضح, يقال هذا كلام ظاهر أي واضح المعنى مفهوم المراد وهو خلاف الباطن.
أما في الاصطلاح: هو ما احتمل أمرين أحدهما أظهر أي أقوى, فالظاهر أحدهما أظهر وعند الأصوليين هذا التعريف لا يتوجه يعني ما يرون هذا التعريف, لماذا ؟(2/75)
لدقتهم في العبارات لأنهم يقولون: أن هذا التعريف من باب تعريف الشيء بنفسه ولذلك التعريف الصحيح عندهم أن نقول { ما احتمل أمرين أحدهما أقوى من الآخر } ما يقال أظهر, أقوى من الآخر بمعنى أن الدلالة للفظ لا تدل على أمر واحد كما في النص كما تقدم لكنه يحتمل أمرين ولكنه أيضاً ليس كالمجمل لأن المجمل تقدم أن يأتي النص ويحتمل أمرين هما في القوة سواء, ويتوقف فيهما حتى يأتي دليل لكن بالنسبة للظاهر يأتي نصان ويكون أحدهما أقوى وذلك بقرينة حسية أو معنوية أو شرعية مثل قوله - عز وجل - { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ(1) } المفسرون قالوا إن هذا يحتمل أمرين:
الأمر الأول: أن جميع الميتة محرم لأن (ال) هنا للاستغراق, استغراق الجنس أي حرم عليكم جميع الميتة هذا الاحتمال الأول.
الأمر الثاني: حرم عليكم المأكول منها لماذا ؟
لأن التحريم يتوجه إلى الأكل هنا لا نقول بأنه مجمل لأن المجمل يكون كلا المعنيين في القوة سواء لكن نقول الأظهر أيهما أقوى هنا ؟
لاشك أن الأقوى هو العموم وأن جميع الميتة محرمة لأن كلمة الميتة في اللغة تشمل جميع الميتة وليس بعض الميتة لماذا ؟
لأن (ال) هنا للاستغراق ومن خلال هذا يقال بأن.
__________
(1) المائدة: من الآية3).(2/76)
حكم الظاهر: أنه يجب العمل بالأقوى وترك الأضعف. ما نتوقف فيه كالمجمل حتى يأتي البيان ولا ننقطع فيه كالنص, فالنص مقطوع فيه لأنه ما يحتمل إلا معنى واحداً, لكن هنا لا بل نقول نعمل بالمعنى الأقوى وترك الأضعف ولذلك لا يجوز ترك الأقوى والعمل بالأضعف إلا في حالة واحدة إذا أتى النص يبين لنا أن الاحتمال الضعيف هو الراجح فيكون هنا الاحتمال الضعيف نقله الدليل في المثال السابق { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } يدل على أمرين كما سبق أن جميع الميتة محرم والمعنى الثاني أن المحرم هو المأكول منها ورجحنا من حيث الظاهر أنه للجميع لأن (ال) تستغرق الجميع لكن لما جاء حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجد ميتة قال { هلا انتفعتم بإهابها } أي بالجلد, قالوا: إنها ميتة ! قال: أيها إيهاب دُبغ فقد طهر } فهذا الحديث أتى وقوى المعنى المرجوح وهو أن المراد بالميتة المأكول منها, فجعله هو الأقوى, لماذا ؟
نقله النص لأن شعر الميتة وجلد الميتة يجوز استخدامه بعد دباغته والريش كذلك ولذلك نقول الظاهر: يجب العمل به إلا أن يأتي دليل يقوي المعنى المرجوح فإذا أتى دليل يقوي المعنى فإنه يسمى تأويل, وبناء عليه نقول ما هو التأويل ؟
هو نقل المعنى عن ظاهره بدليل أو نقول هو صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المرجوح بدليل كما في الدليل السابق لأن الأصل العمل بالراجح وترك المرجوح لكن لو جاء دليل وقال لنا اتركوا الراجح واعملوا بالمرجوح فإن هذا يسمى تأويلاً.
نقف عند هذا الحد.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه و أجمعين.
ومن ثم تتعدد أحكامها لهذا أهتم الأصوليون بها من حيث بيان هذه الأحكام والأنواع ومن حيث ما يكون حجة ولا يكون كذلك.(2/77)
ولذلك الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه " إرشاد الفحول " جعل أنواع أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وبعضهم جعلها ستة أقسام وبعضهم جعلها إثنى عشر قسماً وبعضهم جعلها خمسة وبعضهم جعلها أربعة.
وهذا التقسيم الذي قسمة العلماء ليس للحصر وإنما بحسب ما يراه المؤلف.
الإمام الجويني صاحب كتاب الورقات (الذي معنا) عمد إلى التقسيم بأن جعل الأفعال على قسمين:
1.القسم الأول: ما يكون على وجه القربة, أي ما يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - على وجه القربة أي على وجه الطاعة.
2.القسم الثاني: ما لا يكون على وجه القربة ولذلك قال: فعل صاحب الشريعة يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك أي يكون على غير وجه القربة والطاعة.
ثم بدأ بأحكام كل منهما قوله { فعل صاحب الشريعة) هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وأضيفت الشريعة إليه باعتبار أنه هو المبلغ لها المبعوث بها - صلى الله عليه وسلم - .
المراد بقوله { أو غير ذلك } أي على غير القربة والطاعة.
ثم جعل ما كان على وجه القربة والطاعة على نوعين حيث قال { فإنه دل دليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص وإنه لم يدل لا يخصص به } .
إذاً نقول ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا أنه على قسمين منها ما يكون على وجه القربة والطاعة ومنها ما لا يكون على وجه القربة والطاعة.
النوع الأول: ما يكون على وجه القربة والطاعة على نوعين:
النوع الأول أن يدل أنه خاص به - صلى الله عليه وسلم - ولذا قال المصنف رحمه الله { فإن دل دليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص } فهذا إذا دل الدليل على أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا تشاركه أمته فيه مثل زواجه من تسع - صلى الله عليه وسلم - هذا خاص به, فغيره لا يجوز أن يجمع بين أكثر من أربعة نسوة.(2/78)
ومثل: وجوب صلاة الضحى في حقه - صلى الله عليه وسلم - ووجوب قيام الليل أيضاً عليه " الوصال يعني أن يصل صيام يومين " ولذلك نهى - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن ذلك فقال { أيكم يطيق ذلك فإني أبيت يطعمن ربي ويسقين } يعني يعطين قوة, ولذلك نهى عن الوصال إلا في حقه - صلى الله عليه وسلم - مع أن الأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم الخصوصية يعني الأصل أنها عامة, لماذا جعلنا هذا هو الأصل ؟
لعموم الأدلة الدالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تشاركه أمته في الأحكام. هذا هو الأصل بقوله تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ(1) } ثم إننا نقول بأنه لا يجوز لأحد عالماً أو غير عالم أن يدعي أن هذا الفعل خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي دليل على اختصاصه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الأصل هو العدم أي أن الحكم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته. مع أن بعض الفقهاء يقولون أن الفعل المخصوص تشاركه أمته فيه بدرجة أقل يعني الذي يكون واجب في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون في حق غيره مستحب, يعني مثل قيام الليل لما كان واجباً في حقه - صلى الله عليه وسلم - كان في حق غيره مستحب بدرجة أقل وهكذا كذلك ما كان محرماً على النبي - صلى الله عليه وسلم - كالصدقة محرمة يكون في حق أمته مكروهاً لكن نقول مع ذلك الأصل أنه ليس خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
بقينا في النوع الثاني نتطرق له في الدرس القادم.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الثامن والثلاثون -
__________
(1) الأحزاب: من الآية21).(2/79)
القسم الثاني: إذا لم يدل دليل على الخصوصية فالأصل المشاركة يعني أن الأمة تشارك النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحكم لعموم قول الله - عز وجل - { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فيكون الإنسان مشارك للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حكم هذا الفعل, فإن علمنا حكم هذا الشيء كان الأمر منتهي, يعني إذا علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الإباحة, أو النية أو الوجوب فهذا نحن نأخذ حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وهذا يسميه الأصوليون أو علماء الأصول معلوم الصفة أي ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدل دليل على الخصوصية فالأصل أن الأمة تشاركه في ذلك فإذا علمنا جهاته يعني هل فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإباحة أو السنة أو الوجوب فإننا نكون مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه يسميه علماء الأصول, يسمون هذا الفعل " معلوم الصفة " أي أنه علم على أي صفة فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن لم تعلم على أي صورة فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدل دليل على الخصوصية, لكن لا نعلم هل فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإباحة أو السنية أو الوجوب فهذا هو الذي اختلف فيه الأصوليون ولذلك قال المصنف { فإن دل دليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص } هذا واضح وإن لم يدل دليل لا يخصص به لأن الله تعالى قال { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
ثم قال: فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا, يعني هذا الحكم, الذي لم يأت الدليل على أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعني ما أتى دليل يدل على الخصوصية, ولم نعلم جهته, يعني ما نعلم هل فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإباحة أو الوجوب أو الندب هذا هو الذي قال فيه المصنف " هذا فيه خلاف" .(2/80)
قال { فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا ومن أصحابنا من قال يحمل على الندب, ومنهم من قال يتوقف عنه..الخ } .
إذاً هذا فيه ثلاثة أقوال قوله { فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا } يقصد به الشافعية لأن الجويني شافعي إذاً حكم المجرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي لم يأت الدليل على أنه خاص به فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قالوا بأنه يحمل على الوجوب.
القول الثاني: قالوا بأنه يحمل على الندب.
القول الثالث: قول من قال يتوقف فيه.
مع أن هناك أقوال أخرى لم يذكرها المؤلف, لأن هذه الأقوال هي الأصل.
الذين قالوا بالوجوب { ما لم يأت صارف يعرفه عن الوجوب إلى الندب } لهم أدلة على ذلك.
1. القول الأول: من الأدلة, الأدلة التي تدل على عموم مشاركة الأمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام يعني مثل قوله تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ومثل قوله تعالى { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (1) يعني فأمر بوجوب الإتباع فيدخل كل حكم أمرنا إتباعه فيه وهنا قال { وَاتَّبِعُوهُ } هذا أمر والأمر قالوا يدل على الوجوب.
2. القول الثاني: أيضاً من أدلتهم قالوا, دليل عقلي قالوا: إن ما فعله أي النبي - صلى الله عليه وسلم - متردد بين الإباحة والندب والوجوب, يعني فعله ولم يدل دليل على الخصوصية وفعله فعلاً مجرداً, يعني ما ندري هل فعله على سبيل الوجوب أو الإباحة أو الندب. لأنه تقدم إذا كان نعلم أنه فعله على سبيل الإباحة أو السنية أو الوجوب أن هذا معلوم الصفة هذا تقدم لكن إذا فعله فعلاً مجرداً فقالوا بأننا نحمله على الوجوب لماذا ؟
__________
(1) لأعراف: من الآية158).(2/81)
قالوا لأن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مترددين الإباحة والندب والوجوب, قالوا فالاحتياط والأبرا للذمة أن يحمل على الوجوب وهذا قول الحنفية وبعض الشافعي, كما ذكره المؤلف. وأيضاً هو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى الذين قالوا بالندب, الذين قالوا بأنه يحمل على الاستحباب وهذا نسبه المؤلف رحمه الله تعالى لبعض الشافعية قال { ومن أصحابنا من قال بأنه يحمل على الندب } كما ذكر المصنف أدلتهم على ذلك, قالوا لأنه متردد بين الوجوب والندب, فنحمله على الأخف منهما لعدم وجود الدليل المتيقن في الأثقل وهذا أي دليلهم مبني على أدلة الترجيح والتعارض, لأنه إذا جاء دليلان متعارضان أحدهما يقضي الوجوب ولآخر الندب عند من قال أنه يحمل على الندب قالوا لأنه أخف للمكلف فيقدم على الوجوب, هذا دليل من قالوا بأنه يحمل على الندب.
من قالوا بالتوفيق, القول الثالث: قالوا لتشابك الأدلة والقول بالتوفيق لا شك أنه قول ساقط لا يصح لأننا لا نتكلم عن عموم الأفعال, وإنما نتكلم عن الأفعال التي قصد بها القربة, فهذا الفعل الذي قصد به القربة, كيف نتوقف عنه ؟
بل هو دائر بين الإيجاب وبين الندب فكيف يتوقف فيه ؟(2/82)
ولذلك كونهم توقفوا مطلقاً هذا غير صحيح, لكن لو توقفوا في كونه يحمل على الوجوب أو كونه يحمل على الندب هذا ممكن أو كونه محمول على الإباحة, لكن أن يتوقف فيه مطلقاً وإن لا يعمل فيه مطلقاً هذا قول ساقط لا يصح وعلى كل القول في هذه المسألة بالندب أخف على المكلف والقول بالوجوب أحوط, يعني في هذه المسألة, إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً دل الدليل على أنه ليس خاصاً به, لكنه غير معلوم الصفة ما ندري هل فعله على سبيل الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة, نقول بأن القول بالندب أخف للمكلف والقول بالوجوب أحوط, هذا بالنسبة للفعل الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه القربة أما إن كان على غير وجه القربة يعني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا له نوعان:
1. أنه بفعله بمقتضى الجبلة البشرية, الجبلة البشرية يعني طبيعة النفس البشرية تقتضي هذا الفعل, وهذا كركوب الدابة مثلاً النوم, القيام, فهذا بالاتفاق ليس له حكم في ذاته ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريعاً وإنما فعله بمقتضي بشريته - صلى الله عليه وسلم - لو أراد الإنسان مثلاً أن يتوصل من نومه إلى أمر مشروع كان يقوم نشيطاً لصلاة الليل أو لصلاة الفجر أو يستعين بها على أداء العبادات هذا يؤجر على ذلك لكن ليس لذات الفعل وإنما للقصد, لكن هذا الفعل بذاته هذا بلاتفاق ليس له حكم, يعني ما نقول بأنه مشروع.(2/83)
2. ما فعله وفق العادات الجارية في عصره أو من عادته وطبيعته مثل نوع اللباس, إسدال الشعر, لبس العمامة ونحو ذلك فهذا ليس تشريعاً لأن النظر فيها يرجع إلى عادة البلد التي يوجد فيها الإنسان وعرف أهل البلد ولهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لباسه قبل البعثة وبعد البعثة لم يتغير إلا ما دل الدليل الشرعي على تغييره يعني مثلاً الأصل أن الإنسان يستر عورته كيف ذلك ؟ كيفية اللباس الذي يستر العورة هذا يرجع فيه إلى عرف أهل البلد وعادة أهل البلد إلا بدليل ناقل من كونه عادة إلى كونه عبادة, يعني مثلاً الرجل ليس له أن يطيل أو يرفع ثوبه فوق الكعبين, رفع الثوب هذا انتقل من كونه عادة إلى كونه عبادة, كون الرجل أمر بذلك لأن الإسبال محرم, أما كيفما ستر عورته صح ذلك كما قلنا أن هذا يرجع فيه إلى عرف أهل البلد وعادة أهل البلد ولذلك لو جاءنا إنسان وقال مثلاً في هذه البلاد أنا سألبس إزار ورداء يعني كلبس النبي - صلى الله عليه وسلم - نقول: ما تؤجر على ذلك وهذا ليس من باب الإقتداء, لماذا ؟
لأن هذا ليس بعبادة لكن في بعض الصور قد يؤجر عليها كما قلنا إذا نقل هذا الشيء من كونه عادة إلى كونه عبادة لكن قالوا في بعض الصور يؤجر الإنسان على القصد لا على الفعل ولهذا حمل الفقهاء فعل ابن عمر شدة تتبعه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني حملوه على هذا على القصد حتى أنه كان يتتبع مواضع قضاء حاجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقضي حاجته بذلك هذا يؤجر على القصد لا على أنه سنة, لكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى غلو وبدعة ولذلك عمر - رضي الله عنه - بين مكة والمدينة رأى أناساً يصلون تحت الشجرة فقال: ما لهؤلا ؟(2/84)
فأخبر أن رأى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي تحتها فأمر بقطع الشجرة يقول الشيخ بن باز رحمه الله تعالى هذا يدل على أن عمر أفقه من ولده ابن عمر لأن فعل ذلك ربما أدى إلى بدعة أو اعتقاد وجوب عند بعض العامة, الفعل الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ذكر الأصوليون له أنواع ن هذه الأنواع:
1. الفعل البياني: يعني يأتي نص من كتاب الله أو سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مجملاً فيكون فعله - صلى الله عليه وسلم - مبيناً فحكم الفعل هنا حكم المبين يأخذ نفس حكم المبين إذا كان الفعل المبين سنة فحكم الفعل سنة إذا كان الفعل المبين واجب فحكم الفعل واجب ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { صلوا كما رأيتموني أصلي } لما صلى, لما أمر بالصلاة بين ذلك ولما حج - صلى الله عليه وسلم - قال { خذوا عني مناسككم } .
2. الفعل التطبيقي: يعني ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - تطبيقاً لأمر الله - عز وجل - كجلد الزاني, وقطع يد السارق, لقول الله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (1).
هذه أشهر أنواع الأفعال, الفعل البياني والفعل التطبيقي.
يدخل كذلك في أحكام الأفعال التي ذكرها الأصوليون ثلاثة أنواع مما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخلها الأصوليون في أحكام فعله منها:
__________
(1) النور: من الآية2).(2/85)
1) الإشارة: فقد ذهب جملة من علماء الأصول إلى أن الإشارة تأخذ أحكام الأفعال والمراد بالإشارة التلويح بالشيء ليفهم المراد لأنه مسكوت عما يدل عليه فليس كلاماً وإنما يفهم إشارة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين } وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى, ولقوله - صلى الله عليه وسلم - { بعثت أنا والساعة كهاتين } ويعضهم يقول بأن الإشارة تأخذ أحكام الأقوال, يعني بعضهم يلحق الإشارة بالأفعال وبعضهم يلحقها بالأفعال ويقول(لأن الإشارات تقوم مقام العبارات) ولهذا قالوا بأن إشارته - صلى الله عليه وسلم - بمثابة قوله, كقوله { الشهر هكذا وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة } يعني دليل على أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعة وعشرين يوماً والمشهور عند علماء الأصول أن الإشارة من باب الأفعال, يعني أنها تلحق بالأفعال أقرب من إلحاقها بالأقوال لأنها تلويح بالشيء أيضاً من أنواع الأفعال.(2/86)
2) الكتابة: أي كتابته - صلى الله عليه وسلم - لأحد من الناس فقد ذكر الأصوليون الكتابة في مباحث الأفعال مع أن الخلاف قائم يعني هل هي قول أو فعل ؟ يعني هل تلحق الكتابة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بأفعاله, لأن القول أقوى من الفعل وكل واحد نظر من وجه, يعني من قال أن الأصل فيه أي في الكتابة التكليم وإنما لكون هذا الشخص بعيد كاتبه ليقرأه, قالوا هو بمثابة كلامه فألحقوه بالأقوال, يعني قالوا بأن الأصل فيه التكليم يعني في كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما للبعد كاتبه ليقراه فهو بمثابة كلامه, فيأخذ أحكام القول وقال بعضهم بل أن الكتابة في حقيقتها إحضار ورق وتسويده باليد فيكون هذا فعل, ولذلك تنازعوا في الكتابة من هذا الجانب, هل هي قول أو فعل ؟ هم يتفقون على أنها حجة, يعني الكتابة بالاتفاق على أنها حجة ولهذا قامت الحجة على ملوك العالم بكتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم كما كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي, يعني كاتبهم, فكان هذا حجة عليهم, فدل ذلك على حجية الكتابة وإنما اختلفوا, هل تأخذ أحكام الأفعال أو الأقوال وقد وقعت الكتابة فيه - صلى الله عليه وسلم - في صور كثيرة, كتب إلى الملوك والأمراء, كتب إلى علي - رضي الله عنه - في بيان أحكام الديات والجنايات والقصاص كذلك مكاتبته لعمالة ككتابته لعامله في البحرين, كما في حديث عمرو بن شعيب وقوله - صلى الله عليه وسلم - اكتبوا لأبي شاة, لما طلب أن يكتب إليه, كذلك أيضاً من الأنواع الترك.(2/87)
3) الترك: يعني كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يترك فعل شيء قالوا بأن هذا يأخذ أحكام الأفعال والترك تخليه سواء من قصد أو من قول أو من فعل, ولكن الأصوليون جعلوا تروكه حجة - صلى الله عليه وسلم - وأدخلوها في باب الأفعال, يعني ليس المقصود تروكه الدنيوية كالأكل والشرب ولكن تركه للأمور التعبدية فجعلوها من باب الأفعال, واللغة تساعد على ذلك, وهذا يشهد له القرآن كما في قول الله تعالى { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ*كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } (1) قال { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } الآن كونهم لا يتناهون ترك, هذا يعتبر ترك, قال { عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } فسماه فعل { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (2) إشارة إلى أن تركهم فعل, وفي السنة ما جاء في رجز الصحابة كانوا يرجزون:
لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
__________
(1) المائدة78: من الآية79).
(2) المائدة: من الآية79).(2/88)
فسموا القعود وهو الترك عمل, يعني وصفوا تركهم الفعل أنه عمل, والعمل هنا الفعل, ولذلك استفاد الأصوليون على أن التروك أفعال يحتج بها خاصة إذا كان في الأمور التعبدية, يعني مثلاً في الجمار لماء جاء إلى الجمرة الأولى ورماها تقدم قليلاً ثم وقف ودعا ثم تقدم الثانية ورماها ثم تقدم ووقف ودعا, في الثالثة لما رمى جمرة العقبة, لم يقف ولم يدعو كونه الآن لم يقف ولم يدعو هذا ترك فقالوا الترك هذا عبادة, فعلى هذا الإنسان يحتج بتركه فلا يفعل ولذلك نقول بأن الإنسان ما يدعو بعد جمرة العقبة, كما يحتج الإنسان بفعله, ولا شك أن الترك حينما ننظر فيه نجد أنه ترك من وجه وعمل من وجه آخر, لأنه ترك من حيث عمل البدن وعمل من وجهة أخرى لأن الإنسان يعمل في قلبه طاعة وهي النية, الآن الإنسان ما ترك هذا الفعل إلا في نيته إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقف هنا فعلى هذا ترك الإنسان الدعاء بعد العقبة إنما يكون الإنسان تركه تعبداً, فهذا عمل يتعبد به الإنسان لله - عز وجل - حتى وإن خلا البدن من مباشرة العمل, ولذلك نقول بأن الترك, هو ترك من وجه وعمل من وجه آخر.
نقف عند قول المصنف رحمه الله تعالى { والإقرار, إقرار صاحب الشريعة...الخ } .
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس التاسع والثلاثون -
قال المصنف رحمه الله تعالى { والإقرار } يعني شرع المؤلف رحمه الله تعالى بالمرتبة الثالثة من مراتب السنة وهي الإقرار, قال { وإقرار صاحب الشريعة من أحد هو قول صاحب الشريعة } .
الإقرار في الحقيقة مأخوذ من قرّ الشيء إذا ثبت.(2/89)
والإقرار بالمعنى الاصطلاحي: هو الموافقة والرضا لما جرى من الغير والإقرار عند الفقهاء في الأصل يجعلونه من الأمور التي تثبت الحقوق, إذا أقر الإنسان على نفسه بشيء بحق لغيره أثبتوه فهم يعملون بها وهي: إلزام للنفس لما صدر عن الآخرين فعندما يقول مثلاً فلان من الناس يا محمد عندي لق عشرة الآف ريال فقال: نعم, فقوله نعم الآن أقرار منه بما ادعى عليه من العشرة الآف, ولذا يقول الفقهاء بأن الإقرار ملزم ولا يرجع عنه, خاصة إذا كان صادراً من المقر لكن الذي يعتبر إقراره هو المكلف وهو البالغ العاقل العالم بالشيء الراضي فلا يؤخذ مثلاً بإقرار صبي أو بإقرار جاهل لما يعلم, كذلك أيضاً لابد من الرضا, لأنه لو أكره على الإقرار فإنه لا يعتبر, فيشترط فيه الرضا من المقر ولذلك تجدين أن الفقهاء عملوا في الإقرار في صور كثيرة جداً في البيوع في الجنايات في النكاح واشتغل الأصوليون بالإقرار الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار أن الإقرار في صور كثيرة جداً في البيوع في الجنايات في النكاح واشتغل الأصوليون بالإقرار الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار أن الإقرار في صور كثيرة جداً في البيوع في الجنايات في النكاح واشتغل الأصوليون بالإقرار الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار أن الإقرار الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله وفعله ولذا قالوا إقراره القول كقوله يعني لمّا يقال عنده قول فيقر فإنه كقوله وإقراره الفعل كفعله لما يفعل عند فعل ويسكت إقراراً منه فإن هذا كفعله ولذلك قال المصنف { وإقرار صاحب الشريعة من أحد هو قول صاحب الشريعة } هذا معنى قولنا إقرار الفعل من الغير كفعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله { وإقرار صاحب الشريعة من أحد هو قول صاحب الشريعة } بمعنى أنه إذا وافق أحد على قوله أو على قول يقوله فإن ذلك يكون بمثابة صدوره منه - صلى الله عليه وسلم - يعني كأنه صدر منه هذا(2/90)
القول, يعني كأنه هو الذي قاله, والأصوليون يضعون للإقرار شروط.
من الشروط:
1) أن يكون ذلك في مجلسه: يعني يكون هذا القول الذي صدر من غيره فأقره أو الفعل الذي صدر من غيره فأقره - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ذلك في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في غير المجلس لكن يطلع عليه, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر, الذي لا يقع في مجلسه ولا يخبر به لا يلزم بنتيجته.
2) الشرط الثاني: أن يكون مطلقاً على قوله غير ذاهل عنه, لأن الإنسان لا يقيم الكلام إلا إذا كان في حال الانتباه بخلاف ما إذا كان الإنسان مشغول, فإذا قيل كلام غير صحيح في مجلس والإنسان مشغول فدم الإنكار لا يدل على الرضا ولذلك نقول أن يكون مطلعاً على القول أو الفعل غير ذاهل عنه.
3) الشرط الثالث: ألا يكون في أمر قد سبق إنكاره لأنه أن كان قد صدر إنكاره من قبل فإن سكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الرضا للتنبيه الأول, فمثلاً كلام الكافر أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلام قبيح وإعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه, فإعراضه - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على رضاه عنه لأنه تقدم إنكاره ولا يحتاج إلى إنكاره فلا يشترط إنكاره المنكر مرات متعددة, لأن الإنسان قد يكون هذا أدعى إلى العلاج أحياناً لكن لا يعني ذلك أنه يقر ذلك, ولذلك الإنسان قد يفعل عنده أمر منكر الآن فيعرض عنه ليس إقراراً لهذا المنكر كذلك.(2/91)
4) الشرط الرابع: أن يظهر عليه علامات الرضا, وعلامات الرضا قال بعضهم قد تكون بالتبسم أحياناً, أحياناً تكون بالإيماء بالرأس أو غيره وبعضهم قال بأنه لا يشترط ذلك, يعني لا يشترط هذا الشرط, أن يظهر عليه تكون بالإيماء بالرأس أو غيره وبعضهم قال بأنه لا يشترط ذلك, يعني لا يشترط هذا الشرط أن يظهر عليه علامات الرضا بل يقولون أن مجرد عدم الإنكار كاف في كونه مقراً, ويمثلون له بإقراره - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما حكم بإعطائه سلب القتيل لقاتله, يعني قال { من قتل قتيلاً فله سلبه } يعني من قتل قتيلاً " أي كافراً " في حال الحرب فله سلبه, أي ما معه من السلاح والعتاد يكون له, وهذا يفهم منه أنه لا بأس من إعطائه الجوائز على المسابقات الشرعية, أو تشجيع الأبناء على العبادة بإعطائهم شيئاً من الدنيا يعني في ذلك تشجيع لهم, هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد وهو من أعظم العبادات كان يرغب الصحابة قال { من قتل قتيلاً فله سلبه } .(2/92)
أيضاً هو - صلى الله عليه وسلم - أقر سعد بن معاذ لما حكم حكمه في قومه, فالإقرار قد يكون أحياناً بالسكوت وقد يكون زيادة, أحياناً إقرار يقره - صلى الله عليه وسلم - بقوله يعني يصدر من الصحابي, لما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ في قومه, لما حكم فيهم سعد بن معاذ قال له - صلى الله عليه وسلم - { قد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع سموات } هذا الآن يعتبر إقراره مؤكد وهو أقوى من مجرد الرضا والسكوت, قال { وإقراره على الفعل من أحد كفعله } يعني كما أن إقراره بالقول من أحد فكذلك إقراره بالفعل من أحد من الناس هو كفعله - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام للشروط المتقدمة أي أن فعل أحد من الناس فعلاً بحضرته - صلى الله عليه وسلم - وحضوره أو اطلاعه يعني حصل هذا في غير مجلسه لكن أطلع عليه ولم ينكره - صلى الله عليه وسلم - قالوا بأنه كفعله - صلى الله عليه وسلم - أي أنه أحكام فعله - صلى الله عليه وسلم - بالشروط المتقدمة.
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى { وما فعل في وقت غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه حكم ما فعل في مجلسه } .
الآن عرّج المؤلف على ما إذا كان الفعل في غير مجلسه.
قال { وما فعل في وقته: }
فعل في وقته أي أنه في حياته يعني في حال حياته.
{ في غير مجلسه } :
أي من أحد من الصحابة فعله بغير حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم علم به, أيضاً لابد أن يعلم به - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره فيأخذ الحكم الأصولي المتقدم بأنه كفعله يعني المصنف بنى هذه المسألة على المسألة التي قبلها, ما حكم الذي فعل في المجلس ؟
تقدم أن حكم الذي فُعِل في مجلسه فأقره أنه كفعله - صلى الله عليه وسلم - كذلك أيضاً ما فعل في غير مجلسه, في وقته وعلمه - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره فحكمه حكم فعله كذلك, هذا الذي أراد به المصنف في قوله وما فعل في وقته في غير مجلسه هذا الذي يكون في وقته يعني في غير مجلسه.(2/93)
والرابع: وعلم به.
والخامس: ولم ينكره.
(ما فعل في وقته, في غير مجلسه, ولم ينكره) أربعة قيود إذا اجتمعت هذه الأشياء فإن هذا الحكم أو هذا الفعل يأخذ حكم الفعل الذي صدر في مجلسه - صلى الله عليه وسلم - ثم أقره, والذي صدر في مجلسه - صلى الله عليه وسلم - وأقره كفعله - صلى الله عليه وسلم - فكذلك هنا كفعله - صلى الله عليه وسلم -.
ما الدليل على إن الإقرار حجة ؟
الدليل الآكد والأقوى على حجية الإقرار هو عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلو منزلته عن أن يقر أو يسكت على باطل, لما سكت عنه علمنا أنه ليس باطلاً وإنما هو حق فلا يليق بمقام محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يسكت أو يداهن على أمر غير شرعي, فهذا ينزه عنه مقام النبوة, ولذلك يا طالبة العلم حسن ظنك بالمرأة الصالحة مثلاً ألا تصدقي أن يقال عندها أو يفعل عندها باطل فتسكت هذا الأصل, يعني لما يقال أنه حصل كذا وكذا, فلانة حاضرة, يا طالبة العلم الداعية, حسن الظن أنك ما تصدقين أنهما سكتت على هذا الباطل فإذا كان باطلاً فكيف بخاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - كيف بأفضل الخلق - صلى الله عليه وسلم - فإذا سكت دل هذا على مشروعية هذا القول أو الفعل فإذا كان باطلاً فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لن يقره, هذا بالنسبة لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فيه مسألة أخرى:
وهي إقرار الله - عز وجل - يعني ما سبق في إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعمل العباد عملاً ثم يأتي وحي يؤيد له هذا الفعل, يعني إقرار الله - عز وجل - أن يعمل العباد عملاً ثم لا يأت وحي يؤيد هذا الفعل أو ينهاهم عنه فهل يعد هذا إقراراً من الله ؟ ودليل على مشروعية هذا الفعل ؟(2/94)
قال الأصوليون نعم, يقول إذا عمل العباد عملاً يعني في وقت تنزل الوحي ثم لم يأت وحي يؤيد به هذا الفعل أو ينهاهم عنه فإن علماء الأصول قالوا هذا يعد إقراراً, لما جاء في الحديث { كنا نعزل والقرآن ينزل, ولو كان شيء ينهانا عنه لنهينا عنه } فالصحابة استأنسوا بالسكوت عن هذا الفعل وقالوا بأن هذا إقرار من الله - عز وجل - على هذا الفعل ولو كان منهياً عنه لنزل الوحي بذلك.
أيضاً من المسائل تقول بأن الإقرار تتوقف حجيته بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني سواء كان إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إقرار الله - عز وجل - للأمة, الإقرار: خلاص يعني توقفت حجيته بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء كان إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لما مات لا يتصور منه إقرار, أو إقرار الله لأن الوحي انقطع بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الباب فيه شد على الصوفية فحينما يشفى مريضهم مثلاً يقولون هذا دليل على رضا الله - عز وجل - عنه حتى إن بعض الناس أحياناً لما يحصل له ما يسره قد يكون هذا من إكرام الله - عز وجل - نقول من أين علمت أن هذا من إكرام الله - عز وجل - , قد يكون استدراج, فعلى هذا فنقول بأن الإقرار توقفت حجيته بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء كان إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مات أو إقرار الله - عز وجل - للأمة لأن الوحي انقطع بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - .
المسألة الأخيرة في هذا الباب:
تقدم أنه ما فعل في غير مجلسه حتى يكون له حجة له ضوابط:
1. أن يكون عَلِمَ في حال حياته ولذلك قال { ما فُعِل في وقته } .
2. أن يكون عَلِمَ به قال { وعلم به } .(2/95)
3. ألا يكون أنكره بعد ما علمه ولذلك قال ولم ينكره, فإذا اجتمعت هذه الضوابط الثلاثة فإنه يعد إقراراً, طبعاً المسألة إذا فعل في غير مجلسه نحن أضفناها قيد رابع لكن نقول الصحيح أنها ثلاث قيود لأنه هذا أصلاً فُعِل في غير مجلسه, يكون في حال حياته وعلم في حال حياته وعلم به ولم ينكره اجتمعت هذه الضوابط الثلاث فإنه يكون حجة.
قال المصنف رحمه الله تعالى { النسخ وأما النسخ فمعناه لغة: الإزالة..الخ } .
الآن شرع المؤلف بعد بيان الإقرار في أحكام النسخ.
والنسخ في اللغة: بينه المؤلف فقال وأما النسخ فمعناه لغة الإزالة وبينه أيضاً في الاصطلاح وهذا على غير عادة المؤلف رحمه الله تعالى لأن المؤلف في الأبواب السابقة كلها إما أن يعرف الشيء لغة ويترك اصطلاحاً ويتركه لغة لكن هنا عرفه في اللغة والاصطلاح قال { وأما النسخ فمعناه لغة الإزالة وقيل معناه: النقل من قولهم نسخت ما في هذا الكتاب أي نقلته قال { وَحده الحد أي تعريفه اصطلاحاً هو الخطاب الدال على رفع الحكم ...الخ } .
فقال بأن النسخ في اللغة هو الإزالة أو كما يقول أهل اللغة الرفع والإزالة, تقول نسخت هذا البيت أي ألغيته وأزلته بالكلية وتقول نسخت الشمس الظل أي أزلته ويقال نسخت الريح الوسخ أي أزلته بالكلية.
قال: وقيل معناه النقل والمراد هنا مغاير للرفع والإزالة يعني على النقل مخالف له ليس من باب الألفاظ المترادفة, فهنا مغاير لمعنى الرفع والإزالة وإن كان بيتهما عموم وخصوص, لأن الرفع: الإزالة بالكلية, والنقل يكون مع بقاء الأصل فإذا قلت : نسخت الكتاب يعني نقلتيه لكن الأصل باقي بخلاف الرفع والإزالة, الرفع والإزالة هذا إزالة للعين مطلقاً ولذلك معنى الإزالة مغاير لمعنى النقل قال سبحانه وتعالى { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (1) أي نكتب مع أنه باقي.
__________
(1) الجاثية: من الآية29).(2/96)
قال { وحَده } هذا تعريفه اصطلاحاً: هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب, قوله الثابت بالخطاب, كلمة الخطاب يعني الناسخ.
قال { الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه } .
أولاً: حقيقة النسخ في الذهن هو أن يأتي دليل من الكتاب والسنة لحكم ما, ثم يأتي دليل آخر يلغي هذا الدليل أو نقول " يلغي حكم هذا الدليل " هذا يسمى نسخ, هذا هو التعريف البدهي, فالدليل الثاني ينسخ الأول, ينسخ حكم الدليل الأول وينشيء حكماً جديداً وأحياناً لا يأتي بجديد أي الدليل الثاني, لأن النسخ أحياناً, الدليل الثاني ينسخ الحكم الأول ويأت بحكم جديد وأحياناً يكون النسخ لا يأت بحكم جديد وإنما فقط يزيل فقط يزيل الحكم الأول فيكون إلى غير بدل هذا التعريف البدهي.
هذا التعريف البدهي لكن نأخذ الآن تعريف المصنف رحمه الله تعالى قال (وحدهَّ) أي تعريفه اصطلاحاً: هو الخطاب, المراد بالخطاب هو الدليل من الكتاب والسنة, الذي يأت لأي غرض, قال الدال على رفع الحكم الثابت قوله (على رفع الحكم) أي إزالته كما تقدم لأن معنى النسخ هو الإزالة, وأي حكم قال: الحكم الثابت, الثابت بماذا ؟ الثابت بدليل سابق وكان الأولى بالمصنف أن ينهي التعريف إلى هذا الحد يعني إلى قوله { للخطاب المتقدم } .
أما قوله بعد ذلك { على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه } هذا يعتبر من ضوابط التعريف, يعني هذا المقصود به فائدة النسخ, هذا ليس داخل في التعريف, لكن هذا الفائدة من النسخ, لولاه الضمير يعود على الخطاب للجديد على الدليل الثاني (لكان) الضمير على الدليل الأول ثابتاً يعني لولا الدليل الثاني لكان حكم الدليل الأول ثابت.
ما الذي عكر عليه هو الخطاب الثاني قوله (مع تراخيه عنه) هذا من شروط النسخ أي أنه يشترط في الناسخ أن يكن متراخياً, كيف متراخياً ؟(2/97)
يعني يكون الدليل الثاني متأخر عن الدليل الأول, متأخر عن الخطاب الأول, أما لو كان أتى معه فقد يكون بيان له أو تخصيصاً, الأصوليون لم يسلموا للمؤلف في هذا التعريف لماذا ؟
قالوا لأنه عرف النسخ بالخطاب قال: هو الخطاب الدال يقول بأنه عرف النسخ في كلمة الخطاب, الخطاب ليس هو النسخ وإنما هو الناسخ, كيف الناسخ ؟
يعني الخطاب هو الدليل الثاني لأن النسخ هو العملية, كيف العملية ؟
عندنا: دليل أول ودليل ثاني جاء الدليل الثاني ونسخ الدليل الأول أو حكم الدليل الأول هذا يسمى نسخ العملية يعني عملية الإزالة, إزالة وإبطال الحكم الأول.
أما الخطاب قوله: وحدّه هو الخطاب فهذا ليس النسخ وإنما في الحقيقة هو الفاعل المنسخ فالدليل المتأخر هو الذي يبطل ويزيل الأول فهو ناسخ , ولذلك قالوا: الصحيح أن قوله هو الخطاب الدال هذا حد للنسخ إذا قيل لك ما الناسخ ؟ تقولين: هو الخطاب الدال, أما الخطاب ليس هو النسخ وإنما هو الناسخ .
بقينا في مسألة:(2/98)
حكم النسخ اتفق أهل الإسلام على صحته وثبوته وجوازه ولم يشذ منهم إلا طوائف غير معتبرة, فالنسخ ثابت في الكتاب والسنة والفعل والواقع أما الكتاب فلقول الله - عز وجل - { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا(1) } وقول الله - عز وجل - { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } (2) من السنة قوله- صلى الله عليه وسلم - { كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة } كذلك أيضاً الإجماع منعقد على صحة النسخ ووجوده وأعظم النسخ نسخ الشرائع السابقة بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه نسخ للشريعة السابقة كلها ولذلك ممن أنكر النسخ اليهود حتى لا يثبتوا أن محمد - صلى الله عليه وسلم - نسخ الشرائع السابقة ومنها اليهودية, لو أقروا بالنسخ لأقروا بهذا, كما تقدم أن النسخ واقع من الإسلام منها تحويل القبلة, النهي عن زيارة القبور, ثم الإذن بزيارتها وغير ذلك كثير, أيضاً الفعل يقتضي ذلك أو العقل يقتضي ذلك, يدل على النسخ لأن العقل يدل على أن يكلف العباد في وقت فيه مصلحة, بحكم فيه مصلحة ويكون في علم الله - عز وجل - أنه يأت وقت يكون عدم هذا الفعل أصلح لهم فيأت النسخ وهذا يقضيه العقل السليم الذين قالوا بإنكار النسخ, كالمعتزلة قلنا شذ طوائف غير معتبرة, ما حجتهم ؟
حجتهم تنحصر في قضية واحدة وهي قولهم يقولون بأننا إذا أثبتنا النسخ, فإن إضافة النسخ إلى الله - عز وجل - يفيد البداءة.
البداءة: يعني أن الله تعالى بدأ الله من جديد كيف " بدء الله من جديد " ؟
__________
(1) البقرة: من الآية106).
(2) الحج: من الآية52).(2/99)
يعني أن هذا الحكم خافي عن الله - عز وجل - ثم ظهر له سبحانه وتعالى, هكذا يقولون هذه حجتهم هذا معنى البداءة عندهم أنه كان هذا الحكم خافي ثم ظهر له " تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا " لكن يرد عليهم ويقال بأن هذا غير صحيح, لأنه سبحانه وتعالى أعلم الناس بمصالح العباد وليس معناه أنه كان لا يعلم ذلك ! لا , وإنما كل ذلك موجود في علم الله الأزلي أي القديم أنه سيأمر عباده بكذا ثم يأمرهم بكذا, ولهذا تكون حجتهم باطلة, يعني نحن نقول بأن الحكم الأول والحكم الثاني, كلاهما في علم الله - عز وجل - قبل أن يكونا ولذلك المعتزلة من أوائل من ينكر النسخ لقضية البداءة عندهم كما قلنا.
وأهل الحق يقولون بالنسخ لأسباب:
1. حكمة الله تعالى في عبادة وخلقه.
2. أن الأحكام الشرعية ترعى مصالح المكلفين ولذلك قال سبحانه { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا(1) } وقول الله - عز وجل - { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } يعني ما يأت أسوأ منها, إما أن يأت مثلها أو يأت خير منها.
3. تفيد أن علم الله تعالى قديم عما سيجري على العباد في التكاليف الشرعية التي يأمرهم بها سبحانه وتعالى.
ونقف عند قول المصنف رحمه الله تعالى { أقسام النسخ } .
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.
- الدرس الأربعون -
قال المصنف رحمه الله تعالى { أقسام النسخ, قال ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم ونسخ الحكم وبقاء الرسم والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل وإلى ما هو أغلظ وإلى ما هو أخف ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالكتاب ونسخ السنة بالسنة ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر منهما ونسخ الآحاد بالآحاد ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد } .
__________
(1) البقرة: من الآية106).(2/100)
المؤلف رحمه الله تعالى بدأ في أحكام النسخ فبدأ بالنسخ إلى بدل باعتبار المنسوخ وقسمه إلى ثلاثة أقسام.
1.نسخ الرسم وبقاء الحكم ولذلك قال { ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم } .
2.نسخ الحكم وبقاء الرسم ولذلك قال { ونسخ الحكم وبقاء الرسم } .
3.نسخهما جميعاً ولذلك { والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل } .
أولاً: نسخ الرسم وبقاء الحكم. وهذا من أقل القليل في الشريعة هذا قليل ويمثلون له بما في الصحيحين عن ابن عمر قال { كان فيما أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده } وهذه الآية التي كانت موجودة في الأحزاب, في قول الله تعالى والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة, الحكم باقي الآن, لأن المحصن إذا زنى فإنه يرجم, ورسم الآية, المقصود برسم الآية أي لفظ الآية, رسم الآية إلى الآن غير موجود في المصحف ولذلك قوله (نسخ الرسم) أي أن الآية غير موجودة لكن الحكم باق وهذا كما قلنا من أقل القليل.(2/101)
ثانياً: نسخ الحكم وبقاء الرسم يعني تكون موجودة وباقية لكن لا يعمل بها وهذا كما قال الأصوليون أكثر أنواع النسخ, يعني الآيات الباقية التي يتعبد بقراءتها لكن حكمها غير موجود بمعنى أنه باطل, يعني حكمها باطل لأنه قد جاء حكم أو دليل آخر يلغيه ويبطله كالوصية للوالد في قول الله - عز وجل - { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } (1) هذه نسخت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { لا وصية لوارث } , فالآية الآن موجودة نتعبد لله بقراءتها لكن حكمها باطل لأنها نسخت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { لا وصية لوارث } ولذلك الوارث لا يجوز أن يوصي له لأن حظه يكون من الإرث وليس من الوصية وعلى هذا لو أوصى ميت لوارث فإن هذه الوصية باطلة يعني مثلاً يوصي لأحد أبنائه بمائة ألف ريال, نقول هذه الوصية باطلة, إلا إذا أجاز الورثة ذلك.
المهم أن من أقسام النسخ { نسخ الحكم وبقاء الرسم } يعني بقاء الآية لكن حكمهما منسوخ.
ثالثاً: نسخهما جميعاً, يعني نسخ الحكم ونسخ التلاوة كلاهما, يعني لا الآية موجودة ولا الحكم يعمل به فلا يتعبد بالقراءة ولا يعمل بالحكم ويمثلون لذلك بما ورد في حديث عائشة في صحيح مسلم قالت { كان فيما أنزل في القرآن عشر صفات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس } فالنسخ هنا على الجميع, لا الآية موجودة ولا الحكم أيضاً يعمل به, لأن الذي يثبت به الرضاع خمس رضعات مشبعات وكان فيما أول أنزل عشر رضعات, فالحكم أول أنزل عشر رضعات, فالحكم في قضية العشر رضعات نسخت بالسنة, في قول عائشة رضي الله عنها ثم نسخت بخمس رضعات معلومات.
__________
(1) البقرة: من الآية180).(2/102)
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى { والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل } المراد بقوله بدل أي ينسخ حكم ويأت بديلاً عنه وقوله إلى غير بدل يعني يلغي الحكم بالكلية ولا يأت بدل عنه, أما النسخ إلى بدل فهذا كثير جداً وهذا بالاتفاق أنه موجود ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة } هذا نسخ إلى بدل وأيضاً نسخ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام, كما في قوله تعالى { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (1) لكن الخلاف في الثاني, هل يجوز النسخ إلى غير بدل أو لا يجوز ؟
__________
(1) البقرة: من الآية144).(2/103)
الخلاف هنا فجمهور العلماء من الأئمة الأربعة على جوازه ووقوعه, يعني النسخ إلى غير بدل ويمثلون لذلك بقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً(1) } فنسخت بقوله تعالى { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } (2) مع أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كانت مفروضة قبل هذا وليست بديلاً عن الصدقة ومن ذلك أيضاً ما ورد في البخاري أنه كان إذا دخل وقت الفطر يعني في الصيام فنام قبل أن يفطر, يعني نام الإنسان قبل أن يفطر حَرُم الطعام والشراب عليه وإتيان النساء إلى الليلة الآتية (الثانية) ثم نسخ ذلك, فهذه أدلة من قالوا بجواز ذلك أما من قالوا أنه لا يجوز النسخ إلى غير بدل احتجوا بقول الله - عز وجل - { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فقالوا لابد أن يكون النسخ إلى خير أو إلى مثل وغير البدل قالوا ليس خير ولا مثل وإنما هو أدنى يعني كون الشيء ينسخ إلى غير بدل قالوا { هذا ليس بخير ولا مثل وإنما هو أدنى } وأجاب الجمهور عن ذلك قالوا بجواز النسخ إلى غير بدل " قالوا هذا غير صحيح " لماذا ؟
__________
(1) المجادلة: من الآية12).
(2) المجادلة: من الآية13).(2/104)
قالوا لأنه ربما تكون الخيرية أن يلغى الحكم عن المكلف بالكلية وأن يلغى إلى غير بدل, يعني أولئك الذين قالوا لا يجوز النسخ إلى غير بدل احتجوا بقول الله - عز وجل - { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } قالوا بأن الله سبحانه وتعالى قيّد النسخ أنه لابد أن يكون إلى خير أو إلى مثل, والنسخ إلى غير بدل ليس خير ولا مثل وإنما أدنى, لكن أجاب الجمهور عن هذا وقالوا بأن هذا غير صحيح, لأنه ربما تكون الخيرية, أن يلغى الحكم عن المكلف بالكلية وأن يزال إلى غير بدل, ويكون الخير فيه إلى عدم البدل, يقول الباقلاني رحمه الله تعالى(كما يجوز أن الله سبحانه وتعالى يرفع التكاليف كلها) فرفع بعضها إلى بدل من باب أولى ورد أيضاً عن الآية هناك رد آخر قالوا بأن المراد بالنسخ في الآية نسخ اللفظ أي نأت بلفظ خير منها أو بحكم خير من حكمها قال والخلاف ليس في اللفظ وإنما الخلاف في الحكم فعلى هذا لا يكون هناك دلالة في الآية قال وإلى ما هو أغلظ وإلى ما هو أخف يعني النسخ هذا قول المصنف إلى ما هو أغلظ وإلى ما هو أخف " تقسيم المنسوخ بالبدل" يعني النسخ إلى بدل على ثلاثة أقسام.
1. النسخ إلى أثقل: يعني أشد على المكلف, والنسخ إلى أثقل هذا فيه خلاف, يعني هل ينسخ الحكم من أخف إلى أثقل هذا فيه خلاف بين الجمهور الذين قالوا بجواز ذلك لأن النسخ إلى أخف والنسخ إلى مساوي.
يعني عندنا أقسام النسخ إلى البدل إلى ثلاثة أقسام:
أ) نسخ إلى أثقل. ب) ونسخ إلى أخف. ج) ونسخ إلى مساوي.
يعني ينسخ الحكم ويؤتي بأثقل منه هذا معنى قوله (أغلظ)
2. يؤتى بحكم ثم ينسخ إلى ما هو أخف.
3. أن ينسخ الحكم إلى مساوي.
النسخ إلى أخف وإلى مساوي هذان جائزان بالاتفاق أما النسخ إلى أثقل فهذا محل خلاف بين أهل العلم.
الجمهور يقولون بجواز ذلك أي أن الحكم يجوز أن ينسخ إلى الأثقل.(2/105)
بعض الظاهرية والشافعية يقولون يأته لا يجوز ذلك مثال النسخ إلى أثقل: التخيير بين صيام رمضان وبين الإطعام, يعني كان في أول الأمر قول الله تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ(1) } فيه تخيير بين صيام رمضان وبين الإطعام, ثم نسخ إلى الصيام, قال { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(2) } فلا شك أن الأمر بالصيام أثقل من التخيير لأنه كان في أول الإسلام, الإنسان مخير بين صيام رمضان وبين الإطعام.
يعني فريضة الصيام على ثلاث مراتب:
1. أيجاب صيام يوم عاشوراء.
2. التخيير بين صيام رمضان وبين الإطعام.
3. الالتزام بالصيام لمن شهده.
فكان هناك التخيير بين صيام رمضان وبين الإطعام, ثم نسخ إلى قوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (3) فهنا أتى ببدل وهو أشد وأثقل على المكلف بعض الناس ينكر هذا.
أيضاً من الأمثلة:
أن الكف عن الكفار كان واجباً يقول الله تعالى { وَدَعْ أَذَاهُمْ } (4) ثم نسخ بإيجاب القتال للكفار وهذا أثقل, أي أكثر مشقة, بعض الناس كم قلنا الشافعية والظاهرية ينكرون النسخ إلى أثقل استدلالاً بالآيات والأحاديث التي تدل على التخفيف كقول الله - عز وجل - { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (5) وأيضاً قوله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ } (6) وهذا غير صحيح يعني ما نقول بأن التيسير على المكلف والتخفيف أن معناه عدم الزيادة عليه في العبادة وأن هذا أيسر على المكلف وأخف, هذا غير صحيح بل في بعض الأحيان الزيادة عليه في العبادة هو التيسير والتخفيف عنه لماذا ؟
__________
(1) البقرة: من الآية184).
(2) البقرة: من الآية185).
(3) البقرة: من الآية185).
(4) الأحزاب: من الآية48).
(5) البقرة: من الآية185).
(6) النساء: من الآية28).(2/106)
لأن ذلك يؤدي إلى محو ذنوبه ورفع درجاته خاصة وإن الرفع لا يكون إلى بدل ما يقدر عليه إنسان ولا يطيقه وإنما هو منقول إلى أثقل مقدور عليه كنقل الصيام, كتعين الصيام لمن شهد الشهر, يعني من لم يكن مريضاً ومن لم يكن مسافراً من استطاع فهذا صحيح أنه نسخ إلى أثقل بعدما كان الإنسان مخير لكن هذا الثقيل مقدور عليه.
القسم الثاني: النسخ إلى أخف, يعني يأت الحكم الناسخ أخف من الحكم المنسوخ, وهذا كقول الله - عز وجل - { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } (1) يعني كان في أول الأمر يجب على العشرين من المسلمين أن يصابروا المئتين من الكفار يعني كل واحد مقابل عشرة, المئة يصابرون ألف, ثم خفف ذلك فقال الله - عز وجل - { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } (2) فأصبح بدل ما يكون واحد مقابل عشرة يكون واحد مقابل أثنين, الواحد يجب عليه أن يصابر أثنين فإذا كان العدو ضعفي المسلمين فلا يجوز للمسلمين الفرار إلا كما قال تعالى { مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } (3) لكن كان في أول الأمر يجب على المسلم أن يصابر عشرة فنسخ إلى أثنين, وهذا بالاتفاق أنه يصح ولا خلاف في النسخ إلى أخف.
القسم الثالث: ذكره الفقهاء قالوا النسخ إلى مساوي مثل نقل ونسخ استقبال القبلة إلى بيت المقدس أي الكعبة, قالوا أن هذا ليس أخف ولا أشق على المكلف, وإنما هو من باب المساواة.
قال { ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالكتاب ونسخ السنة بالسنة..الخ } .
هذه أقسام النسخ من حيث الناسخ.
والأقسام أربعة:
1. الكتاب بالكتاب.
2. الكتاب بالسنة.
3. السنة بالسنة.
4. السنة بالكتاب.
__________
(1) لأنفال: من الآية65).
(2) لأنفال: من الآية66).
(3) لأنفال: من الآية16).(2/107)
المؤلف ذكر ثلاثة { قال ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالكتاب ونسخ السنة بالسنة } ولم يذكر القسم الرابع لأن المؤلف لا يرى نسخ الكتاب بالسنة, يعني يقول بأن السنة لا تنسخ القرآن ولذلك ما ذكر المؤلف إلا ثلاثة لكن الصحيح أنها أربعة أقسام:
نسخ الكتاب بالكتاب.
ونسخ الكتاب بالسنة.
ونسخ السنة بالسنة.
ونسخ السنة بالكتاب.
أما نسخ الكتاب بالكتاب:
فهذا مثاله كما ذكرنا قبل قليل { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ..الخ } ثم نسخ ذلك في الكتاب بقول الله - عز وجل - { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } يعني يأت الدليل من القرآن, المقصود بالكتاب (القرآن) ثم يأت النسخ في القرآن أيضاً, كذلك أيضاً في العدة لأنها كانت المرأة المتوفى عنها تعتد سنة, قال - عز وجل - { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } (1) ثم جاءت الآيات الأخرى بالسنة للحامل قال { أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (2) وغير حامل قال { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً (3) } فنسخ الحول إلى أربعة أشهر وعشرا لغير الحامل وأما الحامل فإنها تخرج من العدة بوضعها, فعلى هذا لو أن المرأة مثلاً حامل, توفى زوجها وولدت من الغد تخرج من الإحداد مباشرة لو لم تلد بعد ثمانية أشهر تحد عليه ثمانية أشهر لأنه قال { أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
أما نسخ السنة بالقرآن:
__________
(1) البقرة: من الآية240).
(2) الطلاق: من الآية4).
(3) البقرة: من الآية234).(2/108)
فهذا مثاله { نسخ استقبال بيت المقدس واستقبال الكعبة } يعني ليس فيه آية من القرآن تدل على استقبال بيت المقدس وإنما كان هذا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء التحويل في القرآن فدل على أن السنة نسخت بالقرآن { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (1), مثله أيضاً ما كان من تحريم مباشرة الصائم أهله ليلاً, يعني في أول الأمر, لا يجوز للإنسان أن يباشر أهله في الليل حتى في الليل (الجماع) ثم نسخ بقوله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } (2).
أما نسخ السنة بالسنة:
فكما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة } فالآمر الناهي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك جاء في السنة.
أما نسخ القرآن بالسنة:
يعني يأت القرآن أولاً ثم تأت السنة فتنسخه هذا لم يذكره المؤلف كما قلنا, يعني كون السنة تنسخ القرآن المؤلف لا يرى ذلك, ولذلك لم يذكره المصنف والمؤلف لا يذكر إلا الراجح عنده لأن هذا الكتاب مختصر فلا يذكر إلا الراجح عنده فلما رأى المصنف ن السنة لا تنسخ القرآن " لم يذكره مع أن الإمام مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية يقولون بجوازه وحكاه أيضاً ابن الحاجب عن الجمهور وهذا الخلاف في القرآن إنما هو في نسخ السنة المتواترة المستفيضة للقرآن.
القول الثاني: كثير من الشافعية ومنهم الشافعي, ومنهم الجويني ورواية عن الإمام أحمد قالوا بأنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة ودليلهم على عدم الجواز قوله تعالى { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } (3) قالوا بأن القرآن خير من السنة, فكيف تنسخه السنة ؟
__________
(1) البقرة: من الآية144).
(2) البقرة: من الآية187).
(3) البقرة: من الآية106).(2/109)
يعني يقولون بأن السنة ليست خير من القرآن ولا مثله, لكن الراجح هو الجواز, كما تقدم أنه نسخ عشر رضعات يحرمن خمس, العشر رضعات كانت في القرآن فنسخت بخمس في السنة, أما استدلالهم بهذه الآية { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا.. الخ } أجاب عنه الجمهور بأن المراد بالخيرية (بالحكم) وليس (باللفظ) , يعني لفظ القرآن خير من لفظ السنة والجمهور يحملون الخيرية على الأحكام أي أن الحكم الناسخ يكون خيراً للمكلفين من المنسوخ, سواء خيرية بالفضل والأجر أو بالتخفيف فالمراد بالخيرية بالآية قالوا بالحكم وليس باللفظ.
قال { يجوز نسخ المتواتر بالمتواتر منهما ونسخ الآحاد بالآحاد ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد } .
قوله { ولا يجوز نسخ المتواتر بالمتواتر } , قوله { منهما يعود على الكتاب والسنة } يعني يقول { أن التواتر من الكتاب ينسخ المتواتر من الكتاب, المتواتر من السنة ينسخ المتواتر من السنة, الآحاد في القرآن ينسخ الآحاد في القرآن } .
لكن قوله { والآحاد ينسخ الآحاد } هذا لا يجوز في القرآن, لأن دلالة القرآن متواترة, فالقرآن كله متواتر وإنما يقصد نسخ الآحاد بالسنة قال { ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد } يعني المتواتر القطعي, الصحيح يعني المتواتر رواه أكثر من واحد, أما الآحاد فهو رواية الواحد فالمصنف يقول { بأنه لا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد } يعني أن الآحاد لا يجوز أن ينسخ المتواتر.
فيكون له صورتان:
لا يجوز نسخ متواتر بالسنة بآحاد السنة.
ولا يجوز نسخ القرآن بآحاد السنة, لماذا لا يجوز نسخ القرآن بآحاد السنة ؟(2/110)
لأن القرآن متواتر, إذا كان خبر الآحاد لا يقوى على نسخ السنة يعني إذا كان الآحاد رواية واحد لا تقوى على نسخ المتواتر من السنة قالوا فكون رواية الآحاد لا تقوى على نسخ القرآن من باب أولى, وهذا هو مذهب المصنف, لكن الجمهور يرون جواز ذلك, يعني أن رواية الواحد تنسخ المتواتر في السنة, كذلك السنة تنسخ القرآن حتى لو كانت آحاداً, دليل من منعوا ذلك كما تقدم قول الله تعالى { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا..الخ } قالوا والآحاد ليس خير من المتواتر فكيف ينسخه ؟
الجواب عن هذا, نفس الجواب في نسخ الكتاب بالسنة فالخيرية ليست في الطريقة وإنما الخيرية في الحكم كما تقدم.
وهذا هو الراجح قول الجمهور.
نقف عند قول المصنف رحمه الله تعالى { التعارض بين الأدلة } .
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
للأمانة العلمية: هذه الدروس نقلت من الشريط ومن المذكرات التي ألقاها الشيخ حفظه الله ولم تراجع من قِبل الشيخ.(2/111)