المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهده مقدمة موجزة، وعاجلة مختصرة، تنظم تعريفاً بالشيخ العلامة تقي الدين ابن النجار الحنبلي وكتابه "شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير" في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كما تناول بياناً لعملنا ومنهجنا في تحقيقه.
المؤلف: أما المؤلف فهو الفقيه الحنبلي الثبت، والأصولي اللغوي المتقن، العلامة، قاضي القضاة تقي الدين، أبو البقاء، محمد بن شهاب الدين أحمد بن عبد العزيز بن على الفتوحي المصري الحنبلي، الشهير بابن النجار.
ولد بمصر سنة 898هـ ونشأ بها وأخذ العلم عن والده شيخ الإسلام وقاضي القضاة، وعن كبار علماء عصره.. وقد تبحر في العلوم الشرعية وما يتعلق بها، وبرع في فَنّي الفقه والأصول، وانتهت إليه الرياسة في مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل، حتى قال عنه ابن بدران: "كان منفرداً في علم المذهب".
وقد كان صالحاً تقياً عفيفاً زاهداً معرضاً عن الدنيا وزينتها. مهتماً بالآخرة وصالح الأعمال، لا يشغل شيئاً من وقته في غير طاعة.. ومن هنا كانت حياته كلها تعَلُّمٌ و تعليم وإفتاء وتصنيف، مع جلوسه في إيوان الحنابلة للقضاء وفصل الخصومات.. ويحكى عنه أنه لم يقبل ولاية القضاء إلا بعد أن أشارَ عليه كثير من علماء عصره بوجوب قبولها وتعَيُّنِهِ عليه، وبعدما سأله الناس إياها وألحّوا عليها في قبولها، وقد كان خلفاً لوالده في الإفتاء والقضاء بالديار المصرية. وحج قبل بلوغه عندما كان بصحبة والده في الحج، ثم حج حجة الفريضة في عام 955هـ على غاية من التقشف والتقليل من زينة الدنيا، وعاد مكبَاً على ما هو بصدده من الفتيا والتدريس لانفراده بذلك.(1/5)
قال الشعراني: "صحبته أربعين سنة، فما رأيت عليه ما يشينه في دينه، بل نشأ في عفة وصيانة وعلم وأدب وديانة، وما رأيت أحداً أحلى منطقاً منه، ولا أكثر أدباً مع جليسه منه، حتى يودّ أنه لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً".
وبالجملة، فلم يكن هناك من يضاهيه في زمانه في مذهبه، ولا من يماثله في منصبه، وهو الإمام البارع في الفقه الحنبلي وأصوله، وصاحب اليد الطولى والباع الكبير في تحرير الفتاوى وتهذيب الأحكام، وقد ظل مكبّاً على العلم، ينهل من معينه، ويدرس ويصنف ويفتي مذهب الإمام أحمد ويحرره إلى أن أتاه المرض الأخير الذي وافته المنية فيه، وذلك عصْر يوم الجمعة الثامن عشر من صفر سنة 972هـ، فصلى عليه ولده موفق الدين بالجامع الأزهر، ودفنه بقرافة المجاورين.
أما مصنفاته، فأشهرها كتاب "منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح والزيادات" في فروع الفقه الحنبلي، وهو عمدة المتأخرين في المذهب، وعليه الفتوى فيما بينهم، إذ حرر مسائله على الراجح والمعتمد من المذهب، وفد اشتغل به عامة طلبة الحنابلة في عصره، واقتصروا عليه.. ثم شرحه شرحا مفيداً يقع في ثلاثة مجلدات، أحسن فيه وأجاد، وكان غالب استمداده فيه من كتاب "الفروع" لابن مفلح، وقد طبع هذا الكتاب طبعة علمية مدققة بتحقيق الأستاذ الشيخ عبد الغني محمد بن عبد الخالق جزاه الله خير، ومن أبرز شروح المنتهى وأجودها شرح العلامة منصور بن يونس البهوتي المتوفى سنة 1051هـ، شيخ الحنابلة في عصره، وذلك في ثلاث مجلدات كبار، وهو مطبوع مشهور متداول.
وأما في أصول الفقه، فله كتاب "الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير" ذكر أنه اختصره من كتاب "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للقاضي علاء الدين على بن سليمان بن أحمد المرداوي المقدسي المتوفى سنة 885هـ، محرر أصول المذهب وفروعه، قال الفتوحي: "وإنما وقع اختياري على اختصار هذا الكتاب دون بقية كتب هذا الفن، لأنه جامع لأكثر أحكامه، حاو لقواعده وضوابطه وأقسامه، قد اجتهد مؤلفه في تحرير نقوله وتهذيب أصوله".
وقد ضمَّ هذا المختصر مسائل أصله، مما قدَّمه المرداوي من الأقوال، أو كان(1/6)
عليه الأكثر من الأصحاب، دون ذكر لبقية الأقوال إلا لفائدة تقتضي ذلك وتدعو إليه، وكان اصطلاحه فيه أنه متى قال "في وجه" فإنما يعني ان القول المقدم والمعتمد هو غيره، ومتى قال "في قول" أو "على قول" فمعناه أن الخلاف قد قوي في المسألة، أو اختلف الترجيح دون مصرح بالتصحيح لأحد القولين أو الأقوال.
ثم شرح ابن النجار مختصره شرحا قيماً نفيساً مساه بـ "المختبر المبتكر شرح المختصر" وهو الكتاب الذي بين يديكم.
أما الكتب التي ترجمت لهذا الإمام الجليل، فهي قليلة جداً، إذ لم يترجم له العيدروس في "النور السافر في أعيان القرن العاشر" ولا الغزي في "الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة" ولا الشوكاني في "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" ولا ابن العماد في "شذرات الذهب في أخبار من ذهب".. وإننا لم نعثر على ترجمة له إلا في كتاب "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" لابن حميد وكتاب "مختصر طبقات الحنابلة" للشيخ جميل الشطي، وقد وجدنا نتفاً من ترجمته في "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" لعبد القادر بدران وفي "الأعلام" لخير الدين الزركلي، وفي "معجم المؤلفين" لعمر رضا كحالة، ولكنها في غاية الاختصار.
الكتاب: وكتاب "شرح الكوكب المنير" الذي نقدمه اليوم كتاب علمي قيم نفيس، حوى قواعد علم الأصول ومسائله ومعاقد فصوله بأسلوب سلس رصين، لا تعقيد فيه ولا غموض في الجملة.. وقد جمع المصنف مادته ونقوله من مئات المجلدات والأسفار، كما يتبين لمطالِعِهِ ودارسه..
وعلى العموم، فالكتاب زاخر بالقواعد والفوائد الأصولية، والمسائل والفروع الفقهية واللغوية والبلاغية والمنطقية، ومادته العلمية غزيرة جداً، إذ اطّلع مصنفه قبل تأليفه على أكثر كتب هذا الفن وما يتعلق به، وأفاد منها، ونقل عن كثير منها.
أما سلاسة الكتاب وحلاوة أسلوبه وجلاء عرضه. فإن كل بحث من بحوثه لينطق بها، حتى أن المتن قد اندمج بالشرح، فلا تكاد تحس بينهما فرقاً، وإنك لا تجد بينهما إلا التواصل التآلف.. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن صاحب المتن(1/7)
هو نفس الشارح لا غيره.. ومن هنا انضم الشرح إلى المتن وانسجما وسارا في طريق واحد وعلى نسق واحدة وبروح واحدة، حتى إننا حذفنا الأقواس التي تميز الشرح عن متنه، لما شعرنا أنَّ هناك شرحاً ومتناً. كما هي عادة الشروح مع المتون... ولجزمنا أنَّ الكتاب كله قطعة واحدة، نُسجت نسجاً دقيقاً، وأحْكمت إحكاما فائقاً، ولا يخفى ما في ذلك من دلالة على تمكن مؤلفه في العلم، وعلو شأنه فيه، وبراعته في التصنيف، وإطلاعه الواسع على أكثر الكتابات السابقة له في هذا الفن، واستفادته منها استفادة الناقد البصير الواعي.. وربما ساعده على بلوغ هذا المقام تأخر زمانه، حيث كانت العلوم ناضجة في عصره وقبل عصره، بالإضافة إلى ما وفقه الله إليه من العلم، وما منحه إياه من الفهم والتحقيق.
وهذا الكتاب الذي نذكره قد سبق إلى نشره الأول مرة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله تعالى حيث قام بطبعه بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1372هـ/ 1953م عن نسخة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية الأسبق رحمه الله تعالى، ولكن هذه النسخة كانت مخرومة خرماً كبيراً يبلغ ثلث الكتاب، فطبعت على حالها، ثم قُدِّرَ الشيخ الفقي أن يطلع على نسخة مخطوطة أخرى للكتاب في المكتبة الأزهرية بالقاهرة، فطبع القدر الناقص عنها، أكمل الكتاب، فجزاه الله كل خير.
وبعد الاطلاع على الطبعة المذكورة ودراستها تبين لنا أنها مشحونة بالأخطاء والتصحيفات والخروم في أكثر من خمسة آلاف موضع، مما يجعل الاستفادة منها وهي بهذه الحالة غير ممكنة.. لهذا كان لابد من تحقيق الكتاب تحقيقاً علمياً على أصوله المخطوطة، حيث إن تلك الطبعة لا تغني عن ذلك شيئاً.. وقد يظن بعض الناس أنَّ في كلامنا هذا شيئاً من المبالغة، ولكنهم لو قارنوا بين تلك الطبعة وبين طبعتنا، أو نظروا في هوامش كتابنا –حيث أشرنا فيها إلى فروق وخروم الطبعة الأولى- لعلموا مبلغ الدقة في هذا الكلام.
ومن طريف ما يذكر أن الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري قد اطلع على طبعة الشيخ الفقي كما اطلع على نسخة مخطوطة للكتاب وقعت تحت يده في مكتبة خاصة بخط عبد الحي بن عبد الرحيم الحنبلي الكرمي نسخت سنة 1137هـ، وكتب(1/8)
عليها أنها مقابلة على نسخة مصححة على خط المؤلف، فقابل المطبوعة عليها، فعثر على 2758 غلط في المطبوعة، فطبع بياناً بهذه الأغلاط وتصويبها على الآلة الطابعة، وقد راجعنا ذلك البيان وصورناه من مكتبة الشيخ عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى جزاه الله خيراً، ثم أشرنا في هوامش طبعتنا إلى تلك التصويبات..
من أجل ذلك كانت الحاجة ملحّة إلى تحقيق الكتاب ونشره بصورة علمية أمينة، فضلاً عن احتياج طلبة كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة إليه باعتباره أحد الكتب الدراسية المقررة.
وهذا ما دعا العالمين الغيورين، الدكتور محمد بن سعد الرشيد عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية والدكتور ناصر بن سعد الرشيد رئيس مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة أن يهتما بتحقيق الكتاب ونشره، فنهضا –جزاهما الله خيراً- لجلب أصوله المخطوطة بكل جدّ وإخلاص، ثم كلفانا بتحقيقه ظناً منه أننا من فرسان هذا الميدان، وأصّر علينا بلزوم القيام بهذا العمل، خدمة للعلم وأهله، وحرصاً على الفقه الحنبلي الثمين وأصوله، مع اعتذارنا بضيق الوقت وخطورة العمل وقلة البضاعة..
فشرعنا بتحقيقه مستعينين بالله، معتمدين عليه وحده أن يعيننا على هذه المهمة الكبيرة والأمر الجلل، وسرنا في هذا الطريق حتى أذن الله بكرمه وفضله أن ينتهي إلى صورة قريبة من القبول، بعيدة عن لوم العذول.
أما النسخ التي اعتمد عليها في التحقيق فهي:
1- نسخة مكتبة الأوقاف العامة ببغداد، وتقع في مجلد كبير، كتب بخط معتاد مقروء، ومجموع أوراقها [262] ورقة، ومسطرتها 27 سطراً، وقد تمَّ نسخها يوم الأحد في 6 شوال سنة 1137هـ. على يد إبراهيم بن يحي النابلسي الحنبلي، وهي نسخة جيدة عليها تصحيحات وتصويبات تدل على أنها مقروءة مقابلة مصححة. وهي موجودة في مكتبة أوقاف بغداد برقم 1422/ 4087، وقد رمزنا لها بـ"ب".
2- نسخة المكتبة الأزهرية بالقاهرة، وهي تقع في مجلد كبير، كتب بخط(1/9)
معتاد، وعدد أوراقها [147] ورقة، ومسطرتها 40 سطراً تقريباً، ويوجد على هوامشها ما يدل على أنها مقروءة مقابلة مصححة، وقد كتب على صفحة العنوان وعلى آخر صفحات النسخة أنها بخط القاضي برهان مفلح، وليس هذا بصواب لأن القاضي برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح توفى سنة 884هـ، أي قبل ولادة ابن النجار الفتوحي بأربعة عشر عاماً، حيث إنه ولد سنة 898هـ، كما سبق أن أشرنا في ترجمتة، وهذه النسخة محفوظة في المكتبة الأزهرية تحت رقم 387/ 10634، وقد رمزنا لها بـ"ز".
3- نسخة في مكتبة الرياض العامة، ختم عليها "وقف الشيخ محمد بن عبد اللطيف سنة 1381هـ" وتقع في 337 ورقة مسطرتها 26 سطراً، وهي مقابلة مصححة، وقد كتب في آخر صفحاتها أنها نسخت بخط عبد الله الرشيد الفرج سنة 1346هـ، وهي محفوظة في مكتبة الرياض العامة بدخنة تحت رقم 529/ 86، وقد رمزنا لها بـ"ع".
4- نسخة في مكتبة الرياض العامة أيضاً، وتقع في 225 ورقة، مسطرتها 27 سطراً، وقد تم نسخها في يوم الأربعاء 16 من ربيع الثاني سنة 1271هـ، على يد عبد الرحمن بن عبد العزيز بن محمد بن فوزان، وكتب في آخرها: نقل الأصل من خط عبد الحي بن عبد الرحيم الحنبلي وذكر أنه كتبها سنة 1137هـ، وهي نسخة جيدة مصححة أيضاً، ورقمها في مكتبة الرياض العامة 87/ 86، وقد رمزنا لها "ص".
ومما يؤسف له أن كل واحدة من هذه النسخ الأربعة لم تخل من سقط في الكلام وتصحيفات وتحريفات وأخطاء كثيرة، ومن أجل ذلك لم نتمكن من الاعتماد على واحدة منها بعينها واعتبارها أصلاً، ثم مقابلة باقي النسخ عليها كما هو متبع لدى كثير من المحققين، وآثرنا أن نقوم بتحقيق الكتاب على نسخه الأربع معاً على طريقة النص المختار، كما هو منهج فريق من المحققين، بحيث نثبت الصواب من الكلمات والعبارات عن أي نسخة أو نُسَخِ وجد فيها الصواب، ثم نشير في الهامش إلى ما جاء في بقية النسخ..
وقد أفدنا من تصحيحات الشيخ عبد الرحمن الدوسري الآنفة الذكر عن النسخة(1/10)
المخطوطة التي وقعت تحت يده من الكتاب، وهي تعتبر الأصل الذي نقلت عنه النسخة "ص"، ولمزيد الفائدة أثبتنا كل ما جاء فيها في هوامش كتابنا عند مخالفتها للنص الموثَّق، ورمزنا لها بـ"د".
ونظراً لعدم عثورنا –مع بذل الوسع والجهد- على النسخة المخطوطة التي طبع عنها الشيخ محمد حامد الفقي، فقد اعتبرنا طبعته نسخة عنها، فقابلناها على نصنا، وذكرنا فروقها وتصحيفاتها وما وقع فيها من الخروم في الهوامش إتماماً للفائدة، ورمزنا لها بـ"ش".
منهاج التحقيق: يتلخص عملنا في تحقيق هذا الكتاب في الأمور التالية:
1- عرض نص الكتاب مصححا مقوماً مقابلاً على النسخ الأربع المخطوطة وعلى تصحيحات الشيخ الدوسري وعلى طبعة الشيخ الفقي. والإشارة في الهوامش إلى فروق النسخ.
2- تخريج الآيات القرآنية.
3- تخريج الأحاديث النبوية.
4- تخريج الشواهد الشعرية.
5- الترجمة للأعلام الوارد ذكرها في الكتاب، بحيث يُترجم للعَلَم عند ذكره أول مرة.
6- تخريج النصوص التي نقلها المؤلف عن غيره من أصولها المطبوعة، والإشارة إلى مكان وجودها فيها مع إثبات الفروق بين ما جاء في كتابنا وبين ما ورد في أصولها إن وجد.
7- الإشارة عند كل مسألة أو قضية أو بحث من بحوث الكتاب إلى المراجع التي استفاد منها المصنف أو استقى، والمراجع التي فيها تفصيل تلك المسائل، ولو لم يطّلع عليها المؤلف، مع بيان أجزائها وأرقام صفحاتها، ليسهل على القارئ أو الباحث التوسع والتعمق فيها إن رغب.
8- التعليق على كل كلمةٍ أو عبارةٍ أو قضية تقتضي شرحاً أو تحتاج إلى إيضاح وبيان، بما يُزيل غموضها، ويُوضح المراد بها، ويكشف عمّا فيها من لَبْس، وقد(1/11)
تضمنت بعض هذه التعليقات مناقشة للمصنف فيما اعتمده من آراء أو ساقه من أفكار أو حكاه من أقوال العلماء.. وكان منهجنا في تعليقاتنا على النص –عند النقل عن أي مرجع أو الاستفادة منه- أن تشير إليه مع بيان جزئه ورقم صفحته، ابتغاء الأمانة في النقل، والدقة في العزو، وليتمكن المطالع من مراجعته دون عناء كلما أراد..
9- وقد اقتضى سياق الكلام في بعض المواطن من الكتاب إضافة كلمة أو عبارة لا يتمّ المعنى إلا بها، فأضفناها ووضعناها بين قوسين مربعين [ ] تمييزاً لها عن نصّ الكتاب، وإشارة إلى أنها قد أضيفت لاقتضاء المقام وداعي الحاجة.
وعلى الرغم مما بذلنا في هذا التحقيق من جهد، وما أفرغنا من وسع، ومحاولين بذلك أن يصل هذا العمل إلى الكمال أو يقرب منه، فلسنا نعرض لما صنعنا بتزكية أو ثناء، اقتداء بسنة السلف الصالح، وتأسياً بقول أبي سليمان الخطابي في ختام مقدمته لـ"تفسير غريب الحديث" حيث يقول:
"فأما سائر ما تكلمنا عليه، فإنّا أحقّاء بألاّ نزكيه وألاّ نؤكد الثقة به، وكل عن عثر منه على حرف أو معنى يجب تغييره، فنحن نناشده الله في إصلاحه وأداء حق النصيحة فيه، فإنَّ الإنسان ضعيف لا يسلم من الخطأ إلا أن يعصمه الله بتوفيقه، ونحن نسأل الله ذلك، ونرغب إليه في دركه، إنه جواد وهوب".
ختاماً نقدم شكرنا إلى كل من أسدى إلينا عوناً خلال عملنا في تحقيق هذا الكتاب، وعلى الخصوص سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، لتكرمه بإعارتنا النسختين المخطوطتين المحفوظتين في المكتبة العامة بالرياض، وفضيلة الدكتور عبد الله التركي، وفضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، لتفضلهما بتقديم النسخة المصورة عن المكتبة الأزهرية بالقاهرة، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن الدوسري لإفادتنا من تصحيحاته وتصويباته.
والله نسأل أن يتقبل عملنا هذا بحسن الجزاء، إنه نعم المولى ونعم الوكيل.
مكة المكرمة في غرة رجب سنة 1398هـ المحققان(1/12)
خطبة الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم وَبِهِ نَسْتَعِينُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَعْطَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عَطَاءً جَمًّا، الْقَدِيمِ الْحَكِيمِ، الَّذِي شَرَعَ الأَحْكَامَ، وَجَعَلَ لَهَا قَوَاعِدَ، وَهَدَى مَنْ شَاءَ لِحِفْظِهَا، وَفَتَحَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ مَا أَغْلَقَ مِنْ الأَدِلَّةِ، وَوَفَّقَهُ لِفَهْمِهَا. وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، الْمُبَيِّنِ لأُمَّتِهِ طُرُقَ الاسْتِدْلالِ، الْمُقْتَدَى بِهِ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ وَفِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ مِنْ أَفْعَالٍ وَأَقْوَالٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ نَقَلَةِ الشَّرْعِ، وَتَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ مِنْ حَرَامٍ وَحَلالٍ.
أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ تَعْلِيقَةٌ عَلَى مَا اخْتَصَرْتُهُ مِنْ كِتَابِ "التَّحْرِيرِ" فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ الرَّبَّانِيِّ، وَالصِّدِّيقِ الثَّانِي: أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيِّ1 رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، تَصْنِيفِ الإِمَامِ الْعَلاَّمَةِ عَلاءِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمِرْدَاوِيِّ الْحَنْبَلِيِّ2، عَفَا اللَّهُ تَعَالَى
ـــــــ
1 هو الإمام الجليل أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الوائلي، أحد الأئمة الأربعة الأعلام، ولد ببغداد، ونشأ بها، وطلب العلم وسمع الحديث فيها، وسافر في سبيل العلم أسفاراُ كثيرة. فضائله ومناقبه وخصاله لا تكاد تعد. من كتبه "المسند" و "التاريخ" و "الناسخ والمنسوخ" و "المناسك" و "الزهد" و "علل الحديث". توفي سنة 241هـ [انظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 413، وفيات الأعيان 1/ 47، حلية الأولياء 9/ 161، المنهج الأحمد 1/ 5 وما بعدها].
2 هو الإمام على بن سليمان بن أحمد الدمشقي الصالحي الحنبلي، المعروف بالمرادوي. ولد في مراد، قرب نابلس، ونشأ بها، وحفظ القرآن، وتعلم الفقه، ثم تحوَل إلى دمشق، وقرأ على علمائها فنون، وتصدى للإقراء والإفتاء. من كتبه "الأصناف في معرفة الراجح من الخلاف" في الفقه و "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" في أصول الفقه. وقد شرحه في............................=(1/21)
عَنِّي وَعَنْهُ آمِينَ. أَرْجُو أَنْ يَكُونَ حَجْمُهَا بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، وَأَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَى إتْمَامِهَا. وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. [وَسَمَّيْتهَا "بِالْمُخْتَبَرِ1 الْمُبْتَكَرِ، شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ" وَعَلَى اللَّهِ أَعْتَمِدُ، وَمِنْهُ الْمَعُونَةَ أَسْتَمِدُّ"2.
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُونَ كُتُبَهُمْ بِالْبَسْمَلَةِ تَبَرُّكًا بِهَا، وَتَأَسِّيًا بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ ابْتَدَأَ بِهَا فِي كُتُبِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَمَلاً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَهُوَ أَبْتَرُ" 3.
"الْحَمْدُ" الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْمَحَامِدِ مُسْتَحَقٌّ "لِلَّهِ" جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَثَنَّوْا بِالْحَمْدِ: لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ4 فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، فَهُوَ
ـــــــ
= مجلدين وسماه "التحبير في شرح التحرير" توفي سنة 885هـ. [انظر ترجمته في الضوء اللامع 5/ 225، البدر الطالع 1/ 446].
1 في ش: بالمختصر.
2 ساقطة من ض ز ب.
3 أخرجه أبو داود في سننه والراهاوي في الأربعين والخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي هريرة. قال النووي: وهو حديث حسن، وقد روى موصلاً ومرسلاً. ورواية الموصل جيدة الإسناد، وإذا روي الحديث موصلاً ومرسلاً فالحكم الاتصال عند الجمهور. وذكر العجلوني أنه ورد بلفظ فهو أبتر، وبلفظ فهو أقطع، وبلفظ فهو أجذم. [انظر كشف الخفا 2/ 119، فيض القدير للمناوي 5/ 14].
4 هو محمد بن حبان بن أحمد، أبو حاتم البستي التميمي. قال الحاكم: "كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال". ألف التصانيف النافعة كـ "المسند الصحيح" و "الجرح والتعديل" و "الثقات" وغيرها. توفي سنة 354هـ. [انظر ترجمته في طبقات الشافعية لابن السبكي 3/ 131. شذرات الذهب 3/ 16].(1/22)
أَقْطَعُ" 1، وَمَعْنَى "أَقْطَعُ" نَاقِصُ الْبَرَكَةِ، أَوْ قَلِيلُهَا.
وَفِي ذِكْرِ الْحَمْدِ عَقِبَ الْبَسْمَلَةِ اقْتِدَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا.
وَلَهُمْ فِي حَدِّ الْحَمْدِ لُغَةً عِبَارَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ، عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ. وَالأُخْرَى: أَنَّهُ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الاخْتِيَارِيِّ2، عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ3. سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ4 أَوْ بِالْفَوَاضِلِ5.
وَ"الشُّكْرُ" لُغَةً: فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ لِكَوْنِهِ مُنْعِمًا عَلَى الشَّاكِرِ6، يَعْنِي7 بِسَبَبِ إنْعَامِهِ. وَيَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود وابن ماجة والبيهقي في السنن وأبو عوانة الاسفراييني في مسنده عن أبي هريرة. وألّف الحافظ السخاوي جزءاً فيه. قال النووي: يستحب البداءة بالحمد لكل مصنف ودارس ومدرس وخطيب وخاطب وبين يدي جميع الأمور المهمة. "انظر كشف الخفا 2/ 119، فيض القدير 5/ 13".
2 أي الحاصل باختيار المحمود. وقد خرج بقيد "الاختياري" الوصف بجميل غير اختياري للمحمود، كطول قامته وجماله وشرف نسبه. "انظر حاشية عليش على شرح إيساغوجي ص10".
3 خرج بهذا القيد الوصف بالجميل الاختياري على جهة التهكم والسخرية. "حاشية عليش ص10".
4 الفضائل: جمع فضيلة، وهي الصفة التي لايتوقف اثباتها للمتصف بها على ظهور أثرها في غيره، كالعلم والتقوى. "حاشية عليش ص11".
5 الفواضل: جمع فاضلة، وهي الصفة التي يتوقف إثباتها لموصوفها على ظهور أثرها في غيره، كالشجاعة والكرم والعفو والحلم. "حاشية عليش ص11" والتعريف الأول للحمد أكثر ملاءمة في حق الباري جل وعلا، والثاني أكثر مناسبة في حق العباد.
6 في ض ز ب، الشاكر أو غيره.
7 ساقطة من ز.(1/23)
فَالْقَلْبُ لِلْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاللِّسَانُ لِلثَّنَاءِ؛ لأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَالْجَوَارِحُ لاسْتِعْمَالِهَا فِي طَاعَةِ الْمَشْكُورِ، وَكَفِّهَا عَنْ مَعَاصِيهِ1.
وَقِيلَ: إنَّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ2.
ثُمَّ إنَّ مَعْنَى الْحَمْدِ فِي الاصْطِلاحِ هُوَ مَعْنَى الشُّكْرِ فِي اللُّغَةِ3.
وَمَعْنَى الشُّكْرِ فِي الاصْطِلاحِ: هُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ إلَى مَا خُلِقَ لأَجْلِهِ، مِنْ جَمِيعِ الْحَوَاسِّ وَالآلاتِ وَالْقُوَى4.
وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيَّيْنِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ5، فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلَّقِ؛ "لأَنَّهُ لا يُعْتَبَرُ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ"6، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةٍ الْمَوْرِد، الَّذِي هُوَ اللِّسَانُ، وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ الْمَوْرِدِ، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلَّقِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ عَلَى الشَّاكِرِ7.
َفِي قَرْنِ الْحَمْدِ بِالْجَلالَةِ الْكَرِيمَةِ - دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى- فَائِدَتَانِ:
ـــــــ
1 انظر لسان العرب 4/ 423 وما بعدها. الفائق 1/ 291، معترك الأقران 2/ 63.
2 قاله اللحياني "لسان العرب 3/ 155".
3 وذلك لأن الحمد في الصطلاح: فعل يُشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً. أعم من أن يكون فعل اللسان أو الأركان "تعريفات الجرجاني ص98".
4 التعريفات للشريف الجرجاني ص133.
5 انظر معنى العموم والخصوص من وجه في ص71. 72 من الكتاب.
6 ساقطة من ض ز ب.
7 انظر لسان العرب 4/ 424، معترك الأقران 2/ 63، الأخضري على السلم ص21.(1/24)
الأُولَى: أَنَّ اسْمَ "اللَّهِ" عَلَمٌ1 لِلذَّاتِ2، وَمُخْتَصٌّ بِهِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ "مُتَّصِفٌ بِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ"3
"كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ" تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ.
وَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ الْوَصْفِ مُتَوَقِّفَةً عَلَى إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِالْمَوْصُوفِ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} 4 صَحَّ قَوْلُنَا "فَالْعَبْدُ لا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ" لأَنَّ وَصْفَ الْوَاصِفِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهُ مِنْ الْمَوْصُوفِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تُدْرَكَ حَقَائِقُ صِفَاتِهِ كَمَا هِيَ، جَلَّ رَبُّنَا وَعَزَّ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5.
وَ"الصَّلاةُ" الَّتِي هِيَ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ، وَالثَّنَاءُ عَلَى نَبِيِّهِ عِنْدَ الْمَلائِكَةِ وَمِنْ الْمَلائِكَةِ الاسْتِغْفَارُ وَالدُّعَاءُ، وَمِنْ الآدَمِيِّ وَالْجِنِّيِّ التَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ،
"وَالسَّلامُ" الَّذِي هُوَ تَسْلِيمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، "وَأَمَرَنَا بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى:6
ـــــــ
1 في ش، علم جامع.
2 في ض ب، على الذات.
3 ساقطة من ز.
4 الآية 110 من طه.
5 الآية 11 من الشورى.
6 الأية 56 من الأحزاب.(1/25)
{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1 "عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ" بِلا تَرَدُّدٍ؛ لأَحَادِيثَ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ.
"فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ" 2 وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا: كَوْنُهُ بُعِثَ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنْ الأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فُضِّلْت عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ وَلا فَخْرَ" 3 وَفِي الآخِرَةِ: اخْتِصَاصُهُ بِالشَّفَاعَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ تَحْتَ لِوَائِهِ، سَيِّدُنَا وَمَوْلانَا"4 وَخَاتَمُ رُسُلِهِ "مُحَمَّدٌ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَهُ أَنْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ، لَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ، وَهُوَ عَلَمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَمْدُ5، مَنْقُولٌ مِنْ التَّحْمِيدِ، الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْحَمْدِ.
ـــــــ
1 ساقطة من ع ز ب.
2 أخرجه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري. "انظر كشف الخفا 1/ 203".
3 ورد الحديث بلفظ "فُضَّلْتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون" . وقد أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة، ورواه أبو يعلى وغيره. "انظر فيض القدير 4/ 438".
4 ساقطة من ع ض ز ب.
5 في ع ب، الحميد.(1/26)
"وَ" عَلَى "آلِهِ" وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ عَلَى دَيْنِهِ1، وَأَنَّهُ تَجُوزُ إضَافَتُهُ لِلضَّمِيرِ. وَالآلُ: اسْمُ2 جَمْعٍ، لا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.
"وَ" عَلَى "صَحْبِهِ" وَهُمْ الَّذِينَ لَقَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنِينَ، وَمَاتُوا مُؤْمِنِينَ3.
وَعَطْفُ الصَّحْبِ عَلَى الآلِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الآلِ وَالصَّحْبِ مُخَالَفَةٌ لِلْمُبْتَدِعَةِ، لأَنَّهُمْ يُوَالُونَ الآلُ دُونَ الصَّحْبِ.
"أَمَّا" أَيْ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ "بَعْدُ" هُوَ مِنْ الظُّرُوفِ الْمَبْنِيَّةِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ الإِضَافَةِ. أَيْ: بَعْدَ الْحَمْدِ وَالصَّلاةِ وَالسَّلامِ4. وَالْعَامِلُ فِي "بَعْدُ"
ـــــــ
1 قال الدمنهوري: آل النبي في مقام الدعاء كل مؤمن تقي. "إيضاح المبهم ص4". وقال شمس الدين البعلي: "والآل يطلق بالاشتراك اللفظي علي ثلاثة معان. أحدها: الجند والأتباع. كقوله تعالى {آلَ فِرْعَوْن} "البقرة: من الآية50" أي: أجناده وأتباعه. والثاني: النفس. كقوله تعالى {آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُون} "البقرة: من الآية248" بمعنى: نفسهما. والثالث: أهل البيت خاصة، واله: أتباعه على دينه. وقيل: بنو هاشم وبنو المطلب. وهو اختيار الشافعي. وقيل آله أهله". "المطلع على أبواب المقنع ص3".
2ساقطة من ش ز. وفي ع: جمع اسم.
3 انظر تعريف الصحابي وما يتعلق به في "التقييد والإيضاح للعراقي ص391 وما بعده. تدريب الراوي للسيوطي ص394 وما بعدها".
4 قال الشيخ زكريا الأنصاري: "أما بعد" يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بها في خطبه. والتقدير: مهما يكن من شيء بعد البسملة وما بعدها. "فتح الرحمن ص8".(1/27)
"أَمَّا" لِنِيَابَتِهَا عَنْ الْفِعْلِ. وَالْمَشْهُورُ ضَمُّ دَالِ بَعْدُ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ1 نَصْبَهَا وَرَفْعَهَا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا.
وَحِينَ تَضَمَّنَتْ "أَمَّا" مَعْنَى الابْتِدَاءِ2 "لَزِمَهَا لُصُوقُ الاسْمِ وَلِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى"3 الشَّرْطِ، لَزِمَتْهَا الْفَاءُ، فَلأَجْلِ4 ذَلِكَ قُلْت:
"فَهَذَا" الْمَشْرُوحُ "مُخْتَصَرٌ" أَيْ كِتَابٌ مُخْتَصَرُ اللَّفْظِ، تَامُّ الْمَعْنَى "مُحْتَوٍ" أَيْ مُشْتَمِلٌ وَمُحِيطٌ "عَلَى مَسَائِلِ" الْكِتَابِ الْمُسَمَّى "تَحْرِيرَ الْمَنْقُولِ، وَتَهْذِيبَ عِلْمِ الأُصُولِ5 فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. جَمْعُ الشَّيْخِ الْعَلاَّمَةِ عَلاءِ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيِّ6 الْحَنْبَلِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ" مُنْتَقَى "مِمَّا قَدَّمَهُ" مِنْ الأَقْوَالِ الَّتِي فِي الْمَسْأَلَةِ "أَوْ كَانَ" الْقَوْلُ "عَلَيْهِ الأَكْثَرُ مِنْ
ـــــــ
1 هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي المعروف بالفراء. قال ابن خلكان: كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب. من كتبه "معاني القرآن" و "البهاء فيما تلحن في العامة" و "المصادر في القرآن" و "الحدود" توفي سنة 207هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/ 333، وفيات الأعيان 5/ 225، طبقات المفسرين للداودي 2/ 366".
2 في ب ع: الابتداء والشرط.
3 ساقطة من ش ز.
4 في ش: فلذلك. وفي ع: ولأجل ذلك.
5 كتاب "تحرير المنقول" للمرداوي أكثره مستمد من كتاب العلامة محمد بن مفح الحنبلي المتوفي سنة 763هـ في أصول الفقه، حيث يقول المرداوي عن كتاب ابن مفلح: وهو أصل كتابنا –يعني تحرير المنقول- فإن غالب استمدادنا منه. "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لبدران ص241".
6 في ش، المرداوي السعدي.(1/28)
أَصْحَابِنَا، دُونَ" ذِكْرِ بَقِيَّةِ "الأَقْوَالِ، خَالٍ" هَذَا الْمُخْتَصَرُ "مِنْ قَوْلٍ ثَانٍ" أَذْكُرُهُ فِيهِ "إلاَّ" مِنْ قَوْلٍ أَذْكُرُهُ1 "لِفَائِدَةٍ تَزِيدُ" أَيْ زَائِدَةٍ "عَلَى مَعْرِفَةِ الْخِلافِ" لا لِيُعْلَمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلافًا فَقَطْ.
"وَ" خَالٍ هَذَا الْمُخْتَصَرُ أَيْضًا "مِنْ عَزْوِ مَقَالٍ" أَيْ قَوْلٍ مَنْسُوبٍ "إلَى مَنْ" أَيْ شَخْصٍ "إيَّاهُ" أَيْ إيَّا الْمَقَالِ "قَالَ" أَيْ قَالَهُ.
"وَمَتَى قُلْت" فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ بَعْدَ ذِكْرِ2 حُكْمِ مَسْأَلَةٍ أَوْ قَبْلَهُ هُوَ كَذَا3 "فِي وَجْهٍ، فَالْمُقَدَّمُ" أَيْ فَالْمُعْتَمَدُ "غَيْرُهُ" أَيْ غَيْرُ مَا قُلْت إنَّهُ كَذَا فِي وَجْهٍ "وَ" مَتَى قُلْت: هُوَ كَذَا، أوَلَيْسَ بِكَذَا "فِي"4 قَوْلٍ "أَوْ عَلَى قَوْلٍ، فَإِذَا قَوِيَ الْخِلافُ" فِي الْمَسْأَلَةِ "أَوْ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ، أَوْ" يَكُونُ ذَلِكَ "مَعَ5 إطْلاقِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ الأَقْوَالِ، إذْ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مُصَرِّحٍ بِالتَّصْحِيحِ" لأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ الأَقْوَالِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَى اخْتِصَارِ هَذَا الْكِتَابِ، دُونَ بَقِيَّةِ كُتُبِ هَذَا الْفَنِّ، لأَنَّهُ جَامِعٌ لأَكْثَرِ أَحْكَامِهِ، حَاوٍ لِقَوَاعِدِهِ وَضَوَابِطِهِ وَأَقْسَامِهِ، قَدْ اجْتَهَدَ مُؤَلِّفُهُ فِي تَحْرِيرِ نُقُولِهِ، وَتَهْذِيبِ أُصُولِهِ.
ـــــــ
1 في ش: أذكره فيه.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: هكذا.
4 في ش: في قوله.
5 في ش: من.(1/29)
ثُمَّ الْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ "أَمْرٌ كُلِّيٌّ يَنْطَبِقُ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ تُفْهَمُ أَحْكَامُهَا مِنْهَا". فَمِنْهَا: مَا لا يَخْتَصُّ بِبَابٍ. كَقَوْلِنَا "الْيَقِينُ لا يُرْفَعُ بِالشَّكِّ"1، وَمِنْهَا: مَا يَخْتَصُّ، كَقَوْلِنَا "كُلُّ كَفَّارَةٍ سَبَبُهَا مَعْصِيَةٌ، فَهِيَ عَلَى الْفَوْرِ".
وَالْغَالِبُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِبَابٍ، وَقُصِدَ بِهِ نَظْمُ صُوَرٍ مُتَشَابِهَةٍ يُسَمَّى "ضَابِطًا"، وَإِنْ شِئْت قُلْت: مَا عَمَّ صُوَرًا. فَإِنْ كَانَ2 الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الَّذِي بِهِ اشْتَرَكَتْ الصُّوَرُ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ "الْمُدْرَكُ"، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ ضَبْطَ تِلْكَ الصُّوَرِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّبْطِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مَأْخَذِهَا، فَهُوَ "الضَّابِطُ"، وَإِلاَّ فَهُوَ "الْقَاعِدَةُ"3.
وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الأُصُولِيَّةِ قَوْلُهُمْ "الأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ". وَ"دَلِيلُ الْخِطَابِ حُجَّةٌ"، "وَقِيَاسُ الشَّبَهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ". "وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ يُحْتَجُّ بِهِ" وَنَحْوُ ذَلِكَ
"وَ" أَنَا "أَرْجُو" مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "أَنْ يَكُونَ" هَذَا الْمُخْتَصَرُ "مُغْنِيًا لِحُفَّاظِهِ" عَنْ غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ هَذَا4 الْفَنِّ "عَلَى" مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ "وَجَازَةِ أَلْفَاظِهِ" أَيْ تَقْلِيلِهَا.
ـــــــ
1 قال السيوطي: هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر. "الأشباه والنظائر للسيوطي ص51، وانظر الأشياه والنظائر لابن نجيم ص56".
2 ساقطة من ش.
3 قال ابن نجيم: "والفرق بين الضابط والقاعدة، أن القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى، والضابط يجمعها من باب واحد. وهذا هو الأصل". "الأشباه والنظائر ص166".
4 ساقطة من ش.(1/30)
وَإِيجَازُ اللَّفْظِ: اخْتِصَارُهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلامُ1 اخْتِصَارًا" 2.
وَإِنَّمَا اخْتَصَرْته3 لِمَعَانٍ. مِنْهَا: أَنْ لا يَحْصُلَ الْمَلَلُ بِإِطَالَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَسْهُلَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُهُ مِنْ قِلَّةِ حَجْمِهِ.
"وَأَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنِي" وَيَعْصِمَ "مَنْ قَرَأَهُ مِنْ الزَّلَلِ" أَيْ مِنْ السَّقْطَةِ4 فِي الْمَنْطِقِ وَالْخَطِيئَةِ5 "وَأَنْ يُوَفِّقَنَا" أَيْ يُوَفِّقَنِي وَمَنْ قَرَأَهُ "وَالْمُسْلِمِينَ لِمَا يُرْضِيهِ" أَيْ يُرْضِي اللَّهَ عَنَّا6 "مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ" إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَبِالإِجَابَةِ جَدِيرٌ.
وَرَتَّبْته - كَأَصْلِهِ- عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَابًا، لا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ عَدَدِ الْفُصُولِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. كَالتَّنَابِيهِ وَالتَّذَانِيبِ.
ـــــــ
1 في ع ب: الكلم.
2 أخرجه البيهقي في الشعب وأبو يعلى في مسنده عن عمر بن الخطاب، وأخرجه الدارقطني عن ابن عباس. وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، فأخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة بلفظ "بعثت بجوامع الكلم" وأخرجه أحمد عن عمرو بن العاص بلفظ "أوتيت فوتح الكلم وخواتمه وجوامعه" . "انظر كشف الخفا 1/ 15، فيض القدير 1/ 563، جامع العلوم والحكم ص2".
قال المناوي: ومعنى أعطيت جوامع الكلم، أي ملكة أقتدر بها على إيجاز اللفظ مع سعة المعنى، بنظم لطيف لاتعقيد فيه يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذهن في فهمه. واختصر لي الكلام اختصاراً: أي صار ما أتكلم به كثير المعاني قليل الألفاظ. "فيض القدير 1/ 563".
3 في ع ب: اختصرت ذلك.
4 في ض: السقط.
5 في ض: الخبط. وفي ع: الخبطه.
6 ساقطة من ز.(1/31)
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ، فَتَشْتَمِلُ عَلَى تَعْرِيفِ هَذَا الْعِلْمِ وَفَائِدَتِهِ، وَاسْتِمْدَادِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَلَوَاحِقَ، كَالدَّلِيلِ، وَالنَّظَرِ، وَالإِدْرَاكِ. وَالْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحَدِّ، وَاللُّغَةِ وَمَسَائِلِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَأَحْكَامِ خِطَابِ الشَّرْعِ، وَخِطَابِ الْوَضْعِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَأَقُولُ وَمِنْ اللَّهِ أَسْتَمِدُّ الْمَعُونَةَ:
"مُقَدِّمَةٌ"
الْمُقَدِّمَةُ فِي الأَصْلِ صِفَةٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا اسْمًا لِكُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ التَّقْدِيمُ، كَمُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ وَالْكِتَابِ، وَمُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ وَالْقِيَاسِ؛ وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي1 تُنْتِجُ ذَلِكَ مَعَ قَضِيَّةٍ أُخْرَى، نَحْوُ "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ" ، وَ "كُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ" وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَ "الْعَالِمُ مُؤَلِّفٌ" وَ "كُلُّ مُؤَلِّفٍ مُحَدِّثٌ"، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّ مُقَدِّمَةَ الْعِلْمِ هِيَ2 اسْمٌ3 لِمَا4 تَقَدَّمَ أَمَامَهُ، وَلِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ كَمَعْرِفَةِ حُدُودِهِ وَغَايَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ. وَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ لِطَائِفَةٍ مِنْ كَلامِهِ تُقَدَّمُ أَمَامَ الْمَقْصُودِ، لارْتِبَاطٍ لَهُ بِهَا، وَانْتِفَاعٍ بِهَا فِيهِ. سَوَاءٌ تَوَقَّفَ عَلَيْهَا الْعِلْمُ أَوْ لا5.
وَهِيَ - بِكَسْرِ الدَّالِ-: مِنْ قَدَّمَ بِمَعْنَى6 تَقَدَّمَ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ش.
3 ساقطة من ع ز.
4 في ع: ما وعبارة "لما تقدم أمامه" ساقطة من ز.
5 انظر معنى المقدمة في "تعريفات الجرجاني ص242، شرح الروضة لبدران 1/ 23، تحرير القواعد المنطقية للرازي ص4 وما بعدها".
6 في ب، يعني.(1/32)
{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 أَيْ: لا تَتَقَدَّمُوا. وَبِفَتْحِهَا، لأَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ أَوْ أَمِيرَ الْجَيْشِ قَدَّمَهَا، وَمَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكَسْرَ. وَبَعْضُهُمْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ كُلُّ عِلْمٍ لا يَتَمَيَّزُ فِي نَفْسِهِ عَنْ بَقِيَّةِ الْعُلُومِ إلاَّ بِتَمييزِ2 مَوْضُوعِهِ. وَكَانَ مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ: أَخَصَّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَوْضُوعِ. وَكَانَ الْعِلْمُ بِالْخَاصِّ مَسْبُوقًا بِالْعِلْمِ بالْعَامِّ3، بَدَأَ بِتَعْرِيفِ مُطْلَقِ الْمَوْضُوعِ بِقَوْلِهِ:
"مَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ" شَرْعِيًّا كَانَ أَوْ عَقْلِيًّا "مَا" أَيْ الشَّيْءُ الَّذِي "يُبْحَثُ فِيهِ" أَيْ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ "عَنْ عَوَارِضِهِ" أَيْ عَوَارِضِ مَوْضُوعِهِ "الذَّاتِيَّةِ" أَيْ الأَحْوَالِ4 الْعَارِضَةِ لِلذَّاتِ، دُونَ الْعَوَارِضِ اللاَّحِقَةِ لأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الذَّاتِ5.
وَمَسَائِلُ كُلِّ عِلْمٍ مَعْرِفَةُ الأَحْوَالِ4 الْعَارِضَةِ لِذَاتِ مَوْضُوعِ ذَلِكَ الْعِلْمِ6.
فَمَوْضُوعُ عِلْمِ الطِّبِّ مَثَلاً: هُوَ بَدَنُ الإِنْسَانِ، لأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ الأَمْرَاضِ اللاَّحِقَةِ لَهُ، وَمَسَائِلُهُ: هِيَ مَعْرِفَةُ تِلْكَ الأَمْرَاضِ.
ـــــــ
1 الآية 1 من الحجرات.
2 في ش ز ب: بتميز.
3 في ش: العام.
4 في ز: الأصول.
5 انظر في موضوعات العلوم "تعريفات الجرجاني ص256، إرشاد الفحول ص5، فواتح الرحموت 1/ 8، تحرير القواعد المنطقية ص23".
6 انظر في مسائل العلوم التعريفات للجرجاني ص225.(1/33)
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ النَّحْوِ: الْكَلِمَاتُ، فَإِنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِهَا مِنْ حَيْثُ الإِعْرَابُ وَالْبِنَاءُ. وَمَسَائِلُهُ: هِيَ مَعْرِفَةُ الإِعْرَابِ وَالْبِنَاءِ1.
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ الْفَرَائِضِ: التَّرِكَاتُ، فَإِنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ2 مِنْ حَيْثُ قِسْمَتُهَا، وَمَسَائِلُهُ: هِيَ مَعْرِفَةُ حُكْمِ قِسْمَتِهَا.
وَالْعِلْمُ بِمَوْضُوعِ عِلْمٍ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْعِلْمِ كَمَا قُلْنَا فِي بَدَنِ الإِنْسَانِ وَالْكَلِمَاتِ وَالتَّرِكَاتِ.
إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ: فَالْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُلْحِقُ الشَّيْءَ لِمَا هُوَ هُوَ - أَيْ لِذَاتِهِ- كَالتَّعَجُّبِ اللاَّحِقِ لِذَاتِ الإِنْسَانِ، أَوْ تَلْحَقُ الشَّيْءَ لِجُزْئِهِ، كَالْحَرَكَةِ بِالإِرَادَةِ اللاَّحِقَةِ لِلإِنْسَانِ "بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، أَوْ تَلْحَقُهُ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْمَعْرُوضِ مُسَاوٍ لِلْمَعْرُوضِ، كَالضَّحِكِ الْعَارِضِ لِلإِنْسَانِ"3 بِوَاسِطَةِ التَّعَجُّبِ4.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَارِضَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِذَاتِ الشَّيْءِ، أَوْ لِجُزْئِهِ، أَوْ لأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ5. وَالأَمْرُ الْخَارِجُ: إمَّا مُسَاوٍ لِلْمَعْرُوضِ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ، أَوْ أَخَصُّ، أَوْ مُبَايِنٌ.
أَمَّا الثَّلاثَةُ الأُوَلُ - وَهِيَ الْعَارِضُ لِذَاتِ الْمَعْرُوضِ، وَالْعَارِضُ لِجُزْئِهِ،
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش ز د ع ض ب: فيها.
3 ساقطة من ز.
4 قاله الشريف الجرجاني. "التعريفات ص164".
5 في ب: عنه مساو.(1/34)
وَالْعَارِضُ الْمُسَاوِي1- فَتُسَمَّى2 "أَعْرَاضًا ذَاتِيَّةً"، لاسْتِنَادِهَا إلَى ذَاتِ3 الْمَعْرُوضِ.
أَمَّا الْعَارِضُ لِلذَّاتِ: فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْعَارِضُ لِلْجُزْءِ: فَلأَنَّ الْجُزْءَ دَاخِلٌ فِي الذَّاتِ، وَالْمُسْتَنِدُ إلَى مَا فِي الذَّاتِ مُسْتَنِدٌ إلَى الذَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ4.
وَأَمَّا الْعَارِضُ لِلأَمْرِ5 الْمُسَاوِي: "فَلأَنَّ الْمُسَاوِيَ"6 يَكُونُ مُسْتَنِدًا إلَى ذَاتِ الْمَعْرُوضِ، وَالْعَارِضُ مُسْتَنِدٌ7 إلَى الْمُسَاوِي، وَالْمُسْتَنِدُ إلَى الْمُسْتَنِدِ إلَى الشَّيْءِ مُسْتَنِدٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ الْعَارِضُ أَيْضًا مُسْتَنِدًا إلَى الذَّاتِ.
وَالثَّلاثَةُ الأَخِيرَةُ الْعَارِضَةُ لأَمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ مُسَاوٍ لِلْمَعْرُوضِ تُسَمَّى "أَعْرَاضًا غَرِيبَةً" لِمَا فِيهَا مِنْ الْغَرَابَةِ بِالْقِيَاسِ إلَى ذَاتِ الْمَعْرُوضِ.
ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ الأَمْرُ الْخَارِجُ8 أَعَمَّ مِنْ الْمَعْرُوضِ، كَالْحَرَكَةِ اللاَّحِقَةِ لِلأَبْيَضِ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ جِسْمٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ. وَتَارَةً يَكُونُ أَخَصَّ، كَالضَّحِكِ الْعَارِضِ لِلْحَيَوَانِ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ إنْسَانٌ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ
ـــــــ
1 أي العارض للأمر الخارج المساوي.
2 في ع ز ض ب: تسمى.
3 في ش: ذاتية.
4 في ش: جملة.
5 أي للأمر الخارج المساوي.
6 ساقطة من ز.
7 في ش ز: مستنداً.
8 المراد العارض لأمر خارج.(1/35)
الْحَيَوَانِ. وَتَارَةً يَكُونُ مُبَايِنًا لِلْمَعْرُوضِ كَالْحَرَارَةِ الْعَارِضَةِ لِلْمَاءِ بِوَاسِطَةِ النَّارِ1.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ:
"فَمَوْضُوعُ ذَا" أَيْ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ أُصُول الْفِقْهُ "الأَدِلَّةُ2 الْمُوَصِّلَةُ إلَى الْفِقْهِ" مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَنَحْوِهَا؛ لأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ3 عَنْ الْعَوَارِضِ اللاَّحِقَةِ لَهَا، مِنْ كَوْنِهَا عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً، أَوْ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً، أَوْ مُجْمَلَةً، أَوْ مُبَيِّنَةً، أَوْ ظَاهِرَةً أَوْ نَصًّا، أَوْ مَنْطُوقَةً، أَوْ مَفْهُومَةً، وَكَوْنُ اللَّفْظِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ اخْتِلافِ مَرَاتِبِهَا، وَكَيْفِيَّةِ الاسْتِدْلالِ بِهَا4، وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ هِيَ5 مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ الْفِقْهِ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَا. وَمَسَائِلُهُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مِنْ وَاجِبٍ وَحَرَامٍ، وَمُسْتَحَبٍّ وَمَكْرُوهٍ وَمُبَاحٍ.
"وَلا بُدَّ" أَيْ لا فِرَاقَ "لِمَنْ طَلَبَ عِلْمًا" أَيْ6 حَاوَلَ أَنْ يَعْرِفَهُ مِنْ ثَلاثَةِ أُمُورٍ:
ـــــــ
1 وهي مباينة للماء. وانظر الكلام على العوارض الذاتية والغريبة في تحرير القواعد المنطقية وحاشية الجرجاني عليه ص23.
2 في ب: الدلالة.
3 في د ع ض ز ب: فيها.
4 انظر الإحكام للآمدي 1/ 7. ويقول الشوكاني: "وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات أعراض ذاتية للأدلة والأحكام، من حيث إثبات الأدلة للأحكام، ثبوت الأحكام بالأدلة. بمعنى أن جميع مسائل هذا الفن هي لاإثبات والثبوت". "ارشاد الفحول ص5".
5 ساقطة من ب.
6 ساقطة من ب.(1/36)
أَحَدُهَا: "أَنْ يَتَصَوَّرَهُ بِوَجْهٍ مَا" أَيْ بِوَجْهٍ مِنْ الإِجْمَالِ؛ لأَنَّ طَلَبَ الإِنْسَانِ مَا لا يَتَصَوَّرُهُ مُحَالٌ بِبَدِيهَةِ1 الْعَقْلِ، وَطَلَبُ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهِ مُحَالٌ أَيْضًا؛ لأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
"وَ" الأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ "يَعْرِفَ غَايَتَهُ" لِئَلاَّ يَكُونَ "سَعْيُهُ فِي طَلَبِهِ عَابِثًا"2.
"وَ" الأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِفَ "مَادَّتَهُ" أَيْ مَا يَسْتَمِدُّ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْهُ؛ لِيَرْجِعَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ إلَى مَحَلِّهَا.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ كُلَّ مَعْدُومٍ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى أَرْبَعِ عِلَلٍ3:
- صُورِيَّةٍ: وَهِيَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا صُورَتُهُ. فَتَصَوُّرُ الْمُرَكَّبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَوُّرِ أَرْكَانِهِ. وَانْتِظَامِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْصُودِ.
- وَغَائِيَّةٍ: وَهِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى4 إيجَادِهِ. وَهِيَ الأُولَى فِي الْفِكْرِ، وَإِنْ كَانَتْ آخِرًا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ. وَلِهَذَا يُقَالُ: "مَبْدَأُ الْعِلْمِ مُنْتَهَى الْعَمَلِ".
- وَمَادِّيَّةٍ5: وَهِيَ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْمُرَكَّبَاتُ، أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا.
ـــــــ
1 في ب: ببديه.
2 في ش: في طلبه عابثاً.
3 جاء في لقطة العجلان وشرحها الأنصاري: كل موجود ممكن لا بدّ له من أسباب –أي علل- أربعة؛ المادة: وهي ما يكون الشيء موجوداً به بالقوة. وتسميتها مادة باعتبار توارد الصور المختلفة عليها. والصورة: هي ما يكون الشيء موجوداً به بالفعل. والفاعلية: وهي ما يؤثر في وجود الشيء. والغائية: وهي ما يصير الفاعل لأجله فاعلاً. ويقال هي الداعي للفعل. كالسرير: مادته الخشب، وصورته الانسطاح –أن انسطاحه-. أي هيئته التي هو عليها، وفاعليته النجّار، وغايته الاضطجاع عليه. "فتح الرحمن ص39 وما بعدها".
4 في ب: إلى.
5 في ش: ومادته. وفي د ض ب: وماديته.(1/37)
- وَفَاعِلِيَّةٍ: وَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي إيجَادِ ذَلِكَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ "أُصُولِ الْفِقْهِ" مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إلَيْهِ، ثُمَّ صَارَ لِكَثْرَةِ1 الاسْتِعْمَالِ فِي عُرْفِ الأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ لَهُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ الْعِلْمِيَّةُ. فَيَنْبَغِي تَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ الإِضَافِيُّ، وَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِلْمًا. فَبَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بَدَأَ "بِتَعْرِيفِ كَوْنِهِ"2 مُرَكَّبًا، وَبَعْضُهُمْ بَدَأَ "بِتَعْرِيفِ كَوْنِهِ"2 مُضَافًا، كَمَا فِي الْمَتْنِ.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ:
"فَأُصُولٌ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ" أَيْ الأَصْلُ "لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ "مَا يُبْنَى عَلَيْهِ" أَيْ عَلَى الأَصْلِ "غَيْرُهُ" قَالَهُ الأَكْثَرُ3.
وَقِيلَ: أَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ4. وَقِيلَ: مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ5. وَقِيلَ: مَنْشَأُ الشَّيْءِ. وَقِيلَ: مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إلَيْهِ6.
"وَ" الأَصْلُ "اصْطِلاحًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ الْعُلَمَاءِ "مَا لَهُ فَرْعٌ" لأَنَّ الْفَرْعَ لا يَنْشَأُ إلاَّ عَنْ أَصْلٍ.
ـــــــ
1 في ش ز ع: بكثرة.
2 في ش: بتعريفه.
3 كالجويني والمحلي والشريف الجرجاني والعضد والشوكاني وابن عبد الشكور وأبي الحسين البصري. "انظر المحلي على الورقات ص9، فواتح الرحموت 1/ 8، إرشاد الفحول ص3، العضد على ابن الحاجب 1/ 25، المعتمد للبصري 1/ 9، التعريفات للجرجاني ص28".
4 قاله الطوفي "مختصر الروضة ص7".
5 في ش: غيره. وقيل ما يحتاج إليه.
6 قاله الآمدي "الإحكام 1/ 7".(1/38)
"وَيُطْلَقُ" الأَصْلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ 1.
الأَوَّلِ2: "عَلَى الدَّلِيلِ غَالِبًا" أَيْ فِي الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِمْ "أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ". أَيْ دَلِيلُهَا، "وَ" هَذَا الإِطْلاقُ "هُوَ الْمُرَادُ هُنَا" أَيْ فِي عِلْمِ3 الأُصُولِ.
"وَ" الإِطْلاقُ الثَّانِي: "عَلَى الرُّجْحَانِ" أَيْ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ الأَمْرَيْنِ. كَقَوْلِهِمْ: "الأَصْلُ فِي الْكَلامِ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْمَجَازِ"4 وَ "الأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ"5 وَ "الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ"6.
"وَ" الإِطْلاقُ الثَّالِثُ: عَلَى "الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ" كَقَوْلِهِمْ "أَكْلُ الْمَيْتَةِ عَلَى7 خِلافِ الأَصْلِ" أَيْ عَلَى خِلافِ الْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ.
ـــــــ
1 انظر معنى الأصل في الصطلاح في "فواتح الرحموت 1/ 8، إرشاد الفحول ص3".
2 ساقطة من ش.
3 ساقطة من ش.
4 انظر الكلام على هذه القاعدة وفروعها في "الأشباه والنظائر للسيوطي ص63، المدخل الفقهي للزرقاء ص1003".
5 انظر تفسير هذه القاعدة وما يتفرع عليها من المسائل في "الأشباه والنظائر للسيوطي ص53، المدخل الفقهي للزرقاء ص 970".
6 انظر في الكلام على هذا الأصل وما يتفرع عنه من المسائل التمهيد الأسنوي ص149. وهذا الأصل يسمى في الاصطلاح بالاستصحاب، وهو اعتبار الحالة الثابتة في وقت ما مستمرة في سائر الأوقات حتى يثبت انقطاعها أو تبدلها. "انظر المدخل الفقهي للزرقاء ص968".
7 ساقطة من ض ب.(1/39)
"وَ" الإِطْلاقُ الرَّابِعُ: عَلَى "الْمَقِيسِ عَلَيْهِ" وَهُوَ1 مَا يُقَابِلُ الْفَرْعَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ2.
"وَالْفِقْهُ لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ: "الْفَهْمُ" عِنْدَ الأَكْثَرِ3، لأَنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ عَنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} 4.
"وَهُوَ" أَيْ الْفَهْمُ: "إدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلامِ" لِجَوْدَةِ5 الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهَيُّئِهِ لاقْتِبَاسِ6 مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَطَالِبِ.
وَالذِّهْنُ: قُوَّةُ النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لاكْتِسَابِ الْعُلُومِ7 وَالآرَاءِ8.
ـــــــ
1 في ش: صورة وهو.
2 وعلى هذا عرف الباجي الأصل بقوله: "ما قيس عليه الفرع بعلة مسنتبطة منه". أي من الأصل. "الحدود للباجي ص70".
3 قاله الآمدي وابن قدامة والطوفي والجويني والشوكاني وغيرهم. "انظر الإحكام للآمدي 1/ 6، روضة الناضر ص4، إرشاد الفحول ص3، شرح المحلي على الورقات ص12، مختصر الروضة ض7".
4 الآية 78 من النساء.
5 في ش ز ع ض ب: لا جودة، وهو خطأ. انظر الإحكام للآمدي 1/ 6.
6 كذا في ش ز ع ض ب. وفي الإحكام للآمدي: لاقتناص.
7 في ش ز ع ض ب: الحدود.
8 وقد عرف الشريف الجرجاني الذهن بأنه: قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة، معدة لاكتساب العلوم. ثم أورد له تعريفاً آخر بأنه: الاستعداد التام لإدراك العلوم والمعارف بالفكر. "التعريفات ص113 وما بعدها".(1/40)
وَقِيلَ: إنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ1. وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ2. وَقِيلَ: فَهْمُ مَا يَدِقُّ. وَقِيلَ: اسْتِخْرَاجُ الْغَوَامِضِ وَالاطِّلاعُ عَلَيْهَا.
"وَ" الْفِقْهُ "شَرْعًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ فُقَهَاءِ الشَّرْعِ "مَعْرِفَةُ3 الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ" دُونَ الْعَقْلِيَّةِ "الْفَرْعِيَّةِ" لا الأُصُولِيَّةِ4، وَمَعْرِفَتُهَا إمَّا "بِالْفِعْلِ" أَيْ بِالاسْتِدْلالِ "أَوْ" بِ"الْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ" مِنْ الْفِعْلِ، أَيْ بِالتَّهَيُّؤِ لِمَعْرِفَتِهَا بِالاسْتِدْلالِ. وَهَذَا الْحَدُّ لأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ الشَّرْعِيَّةِ - دُونَ الْعَقْلِيَّةِ- مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ5. وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنْ الأَحْكَامِ عُرْفًا.
وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ6 جُمَلٍ كَثِيرَةٍ عُرْفًا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْحَاصِلَةِ بِهَا. وَقِيلَ: الْعِلْمُ بِهَا عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالاسْتِدْلالِ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْحُدُودِ لا تَخْلُو عَنْ مُؤَاخَذَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ7.
ـــــــ
1انظر الاحكام للآمدي 1/ 6، المستصفي 1/ 4، لسان العرب 13/ 522.
2 قاله الشريف الجرجاني وأبو الحسين البصري. "التعريفات ص157، المعتمد 1/ 8".
3 في ش: "معرفة" المجتهد جميع.
4 كأصول الدين وأصول الفقه. "القواعد والفوائد الأصولية ص4".
5 قاله الباجي "انظر الحدود ص35 وما بعدها".
6 ساقطة من ش.
7 انظر تعريف الفقه في الاصطلاح الشرعي في "الإحكام للآمدي 1/ 6، الروضة وشرحها لبدران 1/ 19، التمهيد للأسنوي ص5 وما بعدها، إرشاد الفحول ص3، العبادي على شرح الورقات ص12 وما بعدها، القواعد والفوائد الأصولية ص4، الحدود للباجي ص35 وما بعدها، المستصفى 1/ 4 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 10 وما بعدها، للمعتمد للبصري 1/ 8، العضد على ابن الحاجب 1/ 25، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 42 وما بعدها، مختصر الروضة للطوفي ص7 وما بعدها، التعريفات للجرجاني ص175".(1/41)
ثُمَّ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْفَرْعِيُّ: هُوَ الَّذِي لا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَإِ فِي اعْتِقَادِ مُقْتَضَاهُ، وَلا فِي الْعَمَلِ بِهِ قَدْحٌ فِي الدِّينِ، وَلا وَعِيدٌ فِي الآخِرَةِ، كَالنِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالنِّكَاحِ بِلا وَلِيٍّ وَنَحْوِهِمَا.
"وَالْفَقِيهُ" فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "مَنْ عَرَفَ جُمْلَةً غَالِبَةً" أَيْ كَثِيرَةً "مِنْهَا" أَيْ مِنْ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ1 الْفَرْعِيَّةِ "كَذَلِكَ" أَيْ بِالْفِعْلِ، أَوْ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْفِعْلِ، - وَهِيَ التَّهَيُّؤُ لِمَعْرِفَتِهَا- عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ. فَلا يُطْلَقُ الْفَقِيهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهَا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا لا يُطْلَقُ الْفَقِيهُ عَلَى مُحَدِّثٍ وَلا مُفَسِّرٍ، وَلا مُتَكَلِّمٍ وَلا نَحْوِيٍّ وَنَحْوِهِمْ.
وَقِيلَ: الْفَقِيهُ2 مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ تَامَّةٌ، يَعْرِفُ الْحُكْمَ بِهَا إذَا شَاءَ، مَعَ مَعْرِفَتِهِ3 جُمَلاً كَثِيرَةً مِنْ الأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَحُضُورِهَا عِنْدَهُ بِأَدِلَّتِهَا الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ4.
فَخَرَجَ بِقَيْدِ "الأَحْكَامِ" الذَّوَاتُ وَالصِّفَاتُ وَالأَفْعَالُ5.
ـــــــ
1 فخرج بقيد "الشرعية" الأحكام العقلية: ككون الواحد نصف الاثنين، والحسية: ككون النار محرقة، واللغوية: ككون الفاعل مرفوعاً، وكذلك نسبة الشيء إلى غيره إيجاباً: كقام زيد، أو سالباً: نحو لم يقم. فلا يسمى شيء من ذلك فقهاً. "انظر التمهيد للأسنوي ص5، العبادي على شرح الورقات ص15".
2 ساقطة من ب.
3 في ش: معرفة جمل.
4 انظر المسودة ص571، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص14.
5 مراده احترز "بالأحكام" عن العلم بالذوات: كزيد، وبالصفات: كسواده، وبالأفعال: كقيامه. "التمهيد للأسنوي ص5".(1/42)
وَالْحُكْمُ هُوَ النِّسْبَةُ بَيْنَ الأَفْعَالِ وَالذَّوَاتِ؛ إذْ كُلُّ مَعْلُومٍ إمَّا أَلاَّ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ، فَهُوَ الْجَوْهَرُ، كَجَمِيعِ الأَجْسَامِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا. فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلتَّأْثِيرِ فِي غَيْرِهِ، فَهُوَ الْفِعْلُ، كَالضَّرْبِ مَثَلاً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا. فَإِنْ كَانَ لِنِسْبَةٍ بَيْنَ الأَفْعَالِ وَالذَّوَاتِ، فَهُوَ الْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَهُوَ الصِّفَةُ، كَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ.
وَخَرَجَ بِقَيْدٍ "الْفِعْلُ" الَّذِي هُوَ الاسْتِدْلال: عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرُسُلِهِ فِيمَا لَيْسَ عَنْ اجْتِهَادِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ1؛ لِجَوَازِ اجْتِهَادِهِمْ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِ الاجْتِهَادِ.
وَخَرَجَ بِقَيْدِ "الْفَرْعِيَّةِ" الأَدِلَّةُ الأُصُولِيَّةُ الإِجْمَالِيَّةُ، الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي فَنِّ الْخِلافِ، نَحْوُ: "ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمُقْتَضَى، وَانْتَفَى بِوُجُودِ النَّافِي". فَإِنَّ هَذِهِ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ إجْمَالِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي غَالِبِ الأَحْكَامِ؛ إذْ يُقَالُ مَثَلاً: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَى، وَهُوَ تَمْيِيزُ2 الْعِبَادَةِ عَنْ الْعَادَةِ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: عَدَمُ وُجُوبِهَا، وَالاقْتِصَارُ عَلَى مَسْنُونِيَّتِهَا: حُكْمٌ3 ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَيْ. وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ مِفْتَاحُ الصَّلاةِ. وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي فَنِّ الْخِلافِ4: إمَّا إثْبَاتُ الْحُكْمِ، فَهُوَ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ نَفْيُهُ فَهُوَ بِالدَّلِيلِ النَّافِي. أَوْ بِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ بِوُجُودِ الْمَانِعِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ. فَهَذِهِ أَرْبَعُ قَوَاعِدَ ضَابِطَةٌ لِمَجَارِي الْكَلامِ عَلَى تَعَدُّدِ جَرَيَانِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا.
ـــــــ
1 كما خرج بهذا القيد علم الملائكة، لكونه غير حاصل بالاستدلال.
2 في ع: تمييزه.
3 ساقطة من ب.
4 قال ابن بدران: أما فن الخلاف، فهو علم يُعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشُبَه وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية. وهو الجدل الذي هو قسم من أقسام المنطق، إلا أنه خُصّ بالمقاصد الدينية. "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص231".(1/43)
وَخَرَجَ بِقَيْدِ "الأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ" عِلْمُ الْمُقَلِّدِ؛ لأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِبَعْضِ الأَحْكَامِ لَيْسَتْ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلاً، لا إجْمَالِيٍّ وَلا تَفْصِيلِيٍّ1.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلامِ عَلَى تَعْرِيفِ "أُصُولِ الْفِقْهِ" مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ الإِضَافِيُّ: شَرَعَ فِي تَعْرِيفِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِلْمًا، فَقَالَ: "وَأُصُولُ الْفِقْهِ عِلْمًا" أَيْ: مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا صَارَتْ2 لَقَبًا لِهَذَا الْعِلْمِ: "الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ" أَيْ يُقْصَدُ الْوُصُولُ "بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ"3.
وَقِيلَ: مَجْمُوعُ طُرُقِ الْفِقْهِ إجْمَالاً، وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، وَحَالُ الْمُسْتَفِيدِ. وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ دَلائِلِ الْفِقْهِ إجْمَالاً، وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، وَحَالُ الْمُسْتَفِيدِ. وَقِيلَ: مَا تُبْنَى4 عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْفِقْهِ، وَتُعْلَمُ أَحْكَامُهَا بِهِ. وَقِيلَ: هِيَ أَدِلَّتُهُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تُفِيدُهُ بِالنَّظَرِ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ:
فَالْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ. وَهِيَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ صُوَرٍ5 كُلِّيَّةٍ تَنْطَبِقُ
ـــــــ
1 ذكر في فوتح الرحموت "1/ 11" أنه يخرج بقيد "الأدلة التفصيلية" علم المقلد وعلم جبريل وعلم الله عز وجل، حتى أنه لا يحتاج لزيادة قيد "الاستدلال" إلا لزيادة الكشف والإيضاح.
2 ساقطة من ش.
3 انظر تعريف أصول الفقه بمعناه اللقبي في "المستصفى 1/ 4، اللمع ص4، فواتح الرحموت 1/ 14، الحدود للباجي ص36 وما بعدها، روضة الناظر وشرحها لبدران 1/ 20، إرشاد الفحول ص3، مختصر الروضة ص6، الإحكام للآمدي 1/ 7، التعريفات للجرجاني ص28، المعتمد 1/ 9، المحلي على جمع الجوامع 1/ 32 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 19".
4 في ش: ما تنبني.
5 صور: جمع صورة. والمراد بها في هذا المقام "القضية" أو "الأمر". "انظر إيضاح المبهم ص4، التعريفات ص177".(1/44)
كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي تَحْتَهَا. وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إلَى تَقْيِيدِهَا1 بِالْكُلِّيَّةِ؛ لأَنَّهَا لا تَكُونُ إلاَّ كَذَلِكَ. وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا: "حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ" وَكَقَوْلِنَا: "الْحِيَلُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ". فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٌ.
فَمِمَّا يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ فِي الْقَضِيَّةِ الأُولَى: أَنَّ عُهْدَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ: حَنِثَ. وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ: لَمْ يَصِحَّ.
وَمِمَّا يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ2 فِي الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ: عَدَمُ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَبَيْعِ الْعِينَةِ، وَعَدَمُ سُقُوطِ الشُّفْعَةِ بِالْحِيلَةِ عَلَى إبْطَالِهَا، وَعَدَمُ حِلِّ الْخَمْرِ3 بِتَخْلِيلِهَا عِلاجًا4.
وَكَذَا قَوْلُنَا - وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا-: "الأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ5" وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ "إلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ" عَنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ غَيْرِ6 الأَحْكَامِ، مِنْ الصَّنَائِعِ وَالْعِلْمِ بِالْهَيْئَاتِ وَالصِّفَاتِ.
ـــــــ
1 أي تقييد كلمة "القواعد" التي جاءت في التعريف.
2 ساقطة من ش.
3 في ب: الخمرة.
4 أي بمعالجة الخمر حتى تصير خلاً.
5 في ش: للفور.
6 ساقطة من ب.(1/45)
وَ "بِالشَّرْعِيَّةِ" عَنْ الاصْطِلاحِيَّةِ1، وَالْعَقْلِيَّةِ: كَقَوَاعِدِ عِلْمِ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ.
وَ "بِالْفَرْعِيَّةِ" عَنْ الأَحْكَامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الأُصُولِ، كَمَعْرِفَةِ وُجُوبِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ} 2.
"وَالأُصُولِيُّ" فِي عُرْفِ أَهْلِ3 هَذَا الْفَنِّ: "مَنْ عَرَفَهَا" أَيْ عَرَفَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ. لأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى الأُصُولِ، كَنِسْبَةِ الأَنْصَارِيِّ إلَى الأَنْصَارِ وَنَحْوِهِ؛ وَلا تَصِحُّ النِّسْبَةُ إلاَّ مَعَ قِيَامِ مَعْرِفَتِهِ4 بِهَا وَإِتْقَانِهِ لَهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ أَتْقَنَ الْفِقْهَ يُسَمَّى فَقِيهًا، وَمَنْ أَتْقَنَ الطِّبَّ يُسَمَّى طَبِيبًا وَنَحْوُ ذَلِكَ5.
"وَغَايَتُهَا" أَيْ غَايَةُ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، إذَا صَارَ الْمُشْتَغِلُ بِهَا قَادِرًا عَلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا: "مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَمَلُ بِهَا" أَيْ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ6؛ لأَنَّ ذَلِكَ مُوَصِّلٌ إلَى الْعِلْمِ، وَبِالْعِلْمِ يَتَمَكَّنُ الْمُتَّصِفُ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ إلَى خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ7.
ـــــــ
1 ككون الفاعل مرفوعاً.
2 الآية 19 من محمد.
3 ساقطة من ش ز.
4 في ب ز د: معرفتها به.
5 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 34 وما بعدها.
6 في ش: الشرعية قال.
7 انظر الإحكام للآمدي 1/ 7، إرشاد الفحول ص5.(1/46)
"وَمَعْرِفَتُهَا" أَيْ: مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ "فَرْضُ كِفَايَةٍ1، كَالْفِقْهِ" قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ2": وَهَذَا3 الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ. قَالَ فِي "آدَابِ الْمُفْتِي"4: "وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالْفِقْهِ"5 اهـ .
وَقِيلَ: فَرْضُ عَيْنٍ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ6 فِي "أُصُولِهِ" - لَمَّا حَكَى هَذَا الْقَوْلَ-: وَالْمُرَادُ لِلاجْتِهَادِ. فَعَلَى هَذَا الْمُرَادِ يَكُونُ الْخِلافُ لَفْظِيًّا.
"وَالأَوْلَى" وَقِيلَ: يَجِبُ "تَقْدِيمُهَا" أَيْ تَقْدِيمُ تَعَلُّمِ أُصُولِ الْفِقْهِ
ـــــــ
1 وهو ما اختاره العلامة تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. "انظر المسودة ص571".
2 المراد به كتاب "التحبير في شرح التحرير" للإمام علي بن سليمان المرداوي الحنبلي المتوفي سنة 885هـ. شرح فيه كتابه "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول". "انظر الضوء اللامع 5/ 225، البدر الطالع 1/ 446، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص239".
3 في ش: وهذا هو.
4 كتاب "آداب المفتي" للعلامة أحمد بن حمدان الحرني الحنبلي المتوفي سنة 695هـ. وتذكره كتب الفقه والتراجم بهذا الاسم وباسم "صفة المفتي المستفتي". وقد طبع بدمشق سنة 1380هـ، باسم "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي".
5 صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص14.
6 هو محمد بن مفلح بن مفرج المقدسي الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله، شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام. قال ابن كثير: "كام بارعاً فاضلاً متقناً في علوم كثيرة" وقال ابن القيم: "ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح". وهو صاحب التصانيف النافعة كـ"الفروع" في الفقه و "الآداب الشرعية" و "شرح المقنع" الذي بلغ ثلاثين مجلداً. وله كتاب قيم في الأصول ذكره ابن العماد فقال: "وله كتاب جليل في أصول الفقه، حذا فيه حذو ابن الحاجب في مختصره". وقد اعتمد عليه المرادي. وجعله أصلاً لكتابه "التحرير". توفي سنة 763هـ. "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 5/ 30، شذرات الذهب 6/ 199، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص223، 237، 241".(1/47)
"عَلَيْهِ" أَيْ عَلَى تَعَلُّمِ الْفِقْهِ، لِيُتَمَكَّنَ بِمَعْرِفَةِ1 الأُصُولِ إلَى اسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ2.
قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ3: "أَبْلَغُ4 مَا يُتَوَصَّلُ5 بِهِ إلَى إحْكَامِ الأَحْكَامِ: إتْقَانُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَطَرَفٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ"6.
"وَيُسْتَمَدُّ" عِلْمُ أُصُول الْفِقْهِ مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ: "مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَ" مِنْ "الْعَرَبِيَّةِ، وَ" مِنْ "تَصَوُّرِ الأَحْكَامِ". وَوَجْهُ الْحَصْرِ: الاسْتِقْرَاءُ7.
وَأَيْضًا: فَالتَّوَقُّفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ الأَدِلَّةِ8. فَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ مِنْ جِهَةِ دَلالَةِ الأَلْفَاظِ عَلَى الأَحْكَامِ، فَهُوَ الْعَرَبِيَّةُ بِأَنْوَاعِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ مِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ مَا يَدُلُّ بِهِ
ـــــــ
1 في ش: من معرفة.
2 قال تقي الدين بن تيمية: "وتقديم معرفته –أي أصول الفقه- أولى عند ابن عقيل وغيره؛ لبناء الفروع عليها. وعند القاضي –إي أبي يعلى-: تقديم الفروع أولى؛ لأنها الثمرة المرادة من الأصول". "المسودة ص571، وانظر صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص14 وما بعدها".
3 هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري البغدادي الحنبلي، كان فقيهاً مفسراً فرضياً نحوياً لغوياً. قال الداودي: "كان صدوقاً، غزير الفضل، كامل الأوصاف، كثير المحفوظ... وكان لا تمضي عليه ساعة من نهار أو ليل إلا في العلم". ألف كتباً كثيرة منها "تفسير القرآن" و "البيان في إعراب القرآن" و "التعليق في مسائل الخلاف في الفقه" و "المرام في نهاية الأحكام" و "مذاهب الفقهاء" توفي سنة 616هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 109 وما بعدها، وفيات الأعيان 2/ 286، بغية الوعاة 2/ 38، طبقات المفسرين للداودي 1/ 224 وما بعدها".
4 في ب: اكبر.
5 في ش ز ع: توصل.
6 انظر صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص14.
7 انظر الإحكام للآمدي 1/ 7، إرشاد الفحول ص6.
8 في ش: الأدلة وهو علم الكلام.(1/48)
عَلَيْهِ، فَهُوَ1 تَصَوُّرُ الأَحْكَامِ.
أَمَّا تَوَقُّفُهُ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ الأَدِلَّةِ: فَلِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ كَوْنِ الأَدِلَّةِ2 الْكُلِّيَّةِ حُجَّةً شَرْعًا عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ3، وَصِدْقِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْهُ4 وَيَتَوَقَّفُ صِدْقُهُ عَلَى دَلالَةِ الْمُعْجِزَةِ.
أَمَّا تَوَقُّفُهُ مِنْ جِهَةِ دَلالَةِ الأَلْفَاظِ عَلَى الأَحْكَامِ: فَلِتَوَقُّفِ5 فَهْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَدْلُولُ: فَهُوَ عِلْمُ اللُّغَةِ6، أَوْ مِنْ أَحْكَامِ تَرْكِيبِهَا7: فَعِلْمُ النَّحْوِ8، أَوْ مِنْ أَحْكَامِ أَفْرَادِهَا: فَعِلْمُ التَّصْرِيفِ9، أَوْ مِنْ جِهَةِ مُطَابِقَتِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ،
ـــــــ
1 في ش ز: وهو.
2 في ب. أدلة.
3 ساقطة من ب.
4 ساقطة من ش.
5 في ش ز: فلتعلق.
6 علم اللعة: هو علم باحث عن مدلولات جواهر المفردات وهيئاتها الجزيئية التي وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي. وعماً حصل من تركيب لكل جوهر. وهيئاتها الجزئية على وجه جزئي، وعن معانيها الموضوعة لها بالوضع الشخصي. "مفتاح السعادة 1/ 100".
7 في ز: تركبها.
8 النحو: هو علم بقوانين يعرف بها التراكيب العربية، من الاعراب والبناء وغيرهما وقيل: هو علم بأصول يعرف بها صحيح الكلام وفاسده. "التعريفات للجرجاني ص259 وما بعدها".
9 قال ابن الحاجب: التصريف علم بأصول تعرف بها أحوال أبنية الكلم التي ليست بإعراب. "انظر الشافية وشرحها للاستراباذي 1/ 1 وما بعدها، مفتاح السعادة 1/ 131، تسهيل الفوائد ص290، الطراز 1/ 21".(1/49)
وَسَلامَتِهِ مِنْ التَّعْقِيدِ، وَوُجُوهِ الْحُسْنِ: فَعِلْمُ الْبَيَانِ1 بِأَنْوَاعِهِ الثَّلاثَةِ2.
وَأَمَّا تَوَقُّفُهُ مِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَيْهِ، مِنْ تَصَوُّرِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ3: فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إثْبَاتِهَا، وَلا مِنْ نَفْيِهَا4. لأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لا بُدَّ لِكُلِّ مَنْ طَلَبَ عِلْمًا أَنْ يَتَصَوَّرَهُ بِوَجْهٍ مَا، وَيَعْرِفَ غَايَتَهُ وَمَادَّتَهُ: ذَكَرَ فِي أَوَّلِ5 هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ حَدَّ6 أُصُولَ الْفِقْهِ، مِنْ حَيْثُ إضَافَتُهُ، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِلْمًا. وَحَدُّ الْمُتَّصِفَ بِمَعْرِفَتِهِ. لِيَتَصَوَّرَهُ طَالِبُهُ، مِنْ جِهَةِ تَعْرِيفِهِ بِحَدِّهِ، لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي طَلَبِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ غَايَتَهُ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ سَعْيُهُ فِي طَلَبِهِ عَبَثًا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُسْتَمَدُّ مِنْهُ؛ لِيُرْجَعَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ إلَى مَحَلِّهَا "وَبِهِ خُتِمَ هَذَا الْفَصْلُ"7.
ـــــــ
1 علم البيان: هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراتيب مختلفة في وضوح الدلالة على المقصود. بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض. "كشف الظنون 1/ 259، الإيضاح للقزويني ص150".
2 وهي التشبه والمجاز والكناية "الإضاح ص151".
3 ذكر الأصوليون أن استمداد أصول الفقه من ثلاثة أشياء: علم الكلام، واللغة العربية، وتصور الأحكام الشرعية بالمعنى الذي يعم الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، لا الأحكام التكليفية وحدها كما اقتصر المصنف. "انظر الإحكام للآمدي 1/ 8، إرشاد الفحول ص6".
4 لأن المقصود إثباتها أو نفيها، كقولنا: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصلاة واجبة، والربا حرام، وما إلى ذلك. "إرشاد الفحول ص6".
5 ساقطة من ش ب، وفي ز: في هذا الفصل.
6 ساقطة من ش.
7 ساقطة من ش.(1/50)
"فَصْلٌ"
الْفَصْلُ لُغَةً: الْحَجْزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَمِنْهُ فَصْلُ الرَّبِيعِ؛ لأَنَّهُ يَحْجِزُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَهُوَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ؛ لأَنَّهُ يَحْجِزُ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْمَسَائِلِ وَأَنْوَاعِهَا1.
وَلَمَّا كَانَ مَوْضُوعُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ: الأَدِلَّةَ الْمُوَصِّلَةَ إلَى الْفِقْهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الدَّلِيلِ، وَلا عَلَى نَاصِبِهِ، أَخَذَ فِي تَعْرِيفِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
"الدَّالُّ: النَّاصِبُ لِلدَّلِيلِ"2 وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. قَالَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَأَنَّ الدَّلِيلَ الْقُرْآنُ3.
وَقِيلَ: إنَّ الدَّالَّ وَالدَّلِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَإِنَّ "دَلِيلَ" فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، كَعَلِيمٍ وَسَمِيعٍ، بِمَعْنَى عَالِمٍ وَسَامِعٍ4.
"وَهُوَ" أَيْ وَالدَّلِيلُ "لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ: "الْمُرْشِدُ" يَعْنِي أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُرْشِدِ حَقِيقَةً "وَ" عَلَى "مَا" يَحْصُلُ "بِهِ الإِرْشَادُ" مَجَازًا. فَالْمُرْشِدُ: هُوَ النَّاصِبُ لِلْعَلامَةِ أَوْ الذَّاكِرُ لَهَا. وَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الإِرْشَادُ هُوَ الْعَلامَةُ الَّتِي نُصِبَتْ لِلتَّعْرِيفِ5.
ـــــــ
1 انظر المطلع للبعلي ص7.
2 قاله الآمدي والشيرازي والباجي والباقلاني وغيرهم "انظر الإحكام للآمدي 1/ 9، اللمع ص3، الحدود ص39، الإنصاف ص15".
3 في ش: هو القرآن.
4 حكاه الشيرازي والآمدي. "انظر الإحكام للآمدي 1/ 9، اللمع ص3".
5 انظر تفصيل الموضوع في "العبادي على شرح الورقات ص47، اللمع ص3، العضد على ابن الحاجب 1/ 39، الحدود ص37، التعريفات ص109".(1/51)
"وَ" الدَّلِيلُ "شَرْعًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ عُلَمَاءِ1 الشَّرِيعَةِ: "مَا" أَيْ الشَّيْءُ الَّذِي "يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ" - مُتَعَلِّقٌ بِالتَّوَصُّلِ- أَيْ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ؛ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ "فِيهِ" أَيْ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ "إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ"2 مُتَعَلِّقٌ بِالتَّوَصُّلِ.
وَقَوْلُهُ "خَبَرِيٍّ" أَيْ تَصْدِيقِيٍّ.
وَإِنَّمَا قَالُوا "مَا يُمْكِنُ" وَلَمْ يَقُولُوا مَا "يُتَوَصَّلُ"، لِلإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّوَصُّلُ بِالْقُوَّةِ، لأَنَّهُ يَكُونُ دَلِيلاً، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ3.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: "مَا يُمْكِنُ" مَا لا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى الْمَطْلُوبِ، كَالْمَطْلُوبِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ [بِهِ] إلَيْهِ، أَوْ4 يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ "بِهِ" إلَى الْمَطْلُوبِ، لَكِنْ لا بِالنَّظَرِ كَسُلُوكِ طَرِيقٍ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهَا إلَى مَطْلُوبِهِ.
ـــــــ
1 في ش: أهل.
2 هذا التعريف الاصطلاحي للدليل حكاه الآمدي وابن الحاجب والسبكي والعبادي وزكريا الأنصاري والشوكاني وغيرهم "انظر الإحكام 1/ 9، العبادي على شرح الورقات ص48، المحلي على جمع الجوامع 1/ 124، العضد على ابن الحاجب 1/ 36، إرشاد الفحول ص5، فتح الرحمن ص33" وحدّه الباجي بأنه "ماصح أن يرشد إلى المطلوب الغائب عن الحواس" "الحدود ص38" وعرفه الباقلاني بأنه "ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطراره" "الإنصاف ص5" وقال الزركشي: "هو ما يتوقف عليه العلم أو الظن بثبوت الحكم بالنظر الصحيح" "لقطة العجلان ص33" وقال الشريف الجرجاني: "هو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر". "التعريفات ص109".
3 قال الباجي: "إن الدليل هو الذي يصح أن يُستدل به ويسترشد ويتوصل به إلى المطلوب، وإن لم يكن استدلالٌ ولا توصَّل به أحد. ولو كان الباري جل وعلا خلق جماداً، ولم يخلق مَنْ يستدل به على أن له محدثاً، لكان دليلاً على ذلك وإن لم يستدل به أحد. فالدليل دليل لنفسه، وإن لم يُستدل به". "الحدود ص38".
4 في ش: و.(1/52)
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ "بِصَحِيحِ النَّظَرِ" فَاسِدُهُ1، كَكَاذِبِ الْمَادَّةِ فِي اعْتِقَادِ النَّاظِرِ.
وَخَرَجَ بِوَصْفِ "الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ" الْمَطْلُوبُ التَّصَوُّرِيُّ، كَالْحَدِّ وَالرَّسْمِ2.
وَيَدْخُلُ فِي "الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ" مَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَالظَّنَّ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ3.
وَالْقَوْلُ الأول: أَنَّ4 مَا5 أَفَادَ الْقَطْعَ يُسَمَّى دَلِيلاً، وَمَا6 أَفَادَ الظَّنَّ يُسَمَّى أَمَارَةً7.
ـــــــ
1 لأن النظر الفاسد لا يمكن التوصل به إلى المطلوب، لانتفاء وجه الدلالة عنه. "المحلي على جمع الجوامع 1/ 128" وفي ش: فاسد.
2 بعد أن ذكر الآمدي حد الدليل في الاصطلاح الشرعي وَشَرَحَه قال: وهو منقسم إلى عقلي محض، وسمعي محض، ومركب من الأمرين. فالأول: كقولنا في الدلالة على حدوث العالم: العالم مؤلف، وكل مؤلف حادث، فيلزم عنه: العالم حادث. والثاني: كالنصوص من الكتاب والسنة والإجماع والقياس كما يأتي تحقيقه. الثالث: كقولنا في الدلالة على تحريم النبيذ: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام". فيلزم عنه: النبيذ حرام. "الإحكام للآمدي 1/ 9 وما بعدها".
3 حكاه الآمدي عن الفقهاء "الإحكام 1/ 9" واختاره الزركشي ومجد الدين بن تيمية. "انظر فتح الرحمن ص33، المسودة ص573".
4 ساقطة من ع ز.
5 ساقطة من ش.
6 في ش: وإن.
7 قاله أبو الحسين البصري "المعتمد 1/ 10" وحكاه المجد بن تيمية عن بعض المتكلمين، ثم أضاف ولده شهاب الدين بن تيمية فقال: إنه ظاهر كلام القاضي في "الكفاية" أيضاً "المسودة ص573 وما بعدها" وحكاه الآمدي عن الأصوليين وأطلق "الإحكام 1/ 9" وحكاه الباجي عن بعض المالكية وردّه "الحدود ص38" وحكاه الشيرازي عن أكثر المتكلمين ثم قال: وهذا خطأ، لأن العرب لا تفرق في تسميةٍ بين ما يؤدي إلى العلم أو الظن، فلم يكن لهذا الفرق وجه. "اللمع ص3".(1/53)
وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ الْمُكْتَسَبُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي الدَّلِيلِ "عَقِبَهُ" أَيْ عَقِبَ النَّظَرِ "عَادَةً" أَيْ فِي الْعَادَةِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ؛ لأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَفِيضَ1 عَلَى نَفْسِ الْمُسْتَدِلِّ بَعْدَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مَادَّةُ مَطْلُوبِهِ، وَصُورَةُ مَطْلُوبِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ بِنَظَرِهِ إلَى تَحْصِيلِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ عَقِبَ النَّظَرِ ضَرُورَةً2. لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ تَرْكُهُ3.
"وَالْمُسْتَدِلُّ": هُوَ "الطَّالِبُ لَهُ" أَيْ لِلدَّلِيلِ4 "مِنْ سَائِلٍ وَمَسْئُولٍ"، قَالَهُ الْقَاضِي5 فِي "الْعُدَّةِ"6، وَأَبُو الْخَطَّابِ7 فِي "التَّمْهِيدِ"، وَابْنُ
ـــــــ
1 في ش: يفيد.
2 أي من دون اختياره وقصده. ولا قدرة له على دفعه أو الانفكاك عنه.
3 انظر تحقيق الموضوع وآراء العلماء فيه في "المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 129 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 23 وما بعدها، فتح الرحمن ص21".
4 في ش: الدليل.
5 هو القاضي محمد بن الحسين بن محمد، أبو يعلى الفراء الحنبلي، كان عالم زمانه وفريد عصره، إماماً في الأصول والفروع. عارفاً بالقرآن وعلومه والحديث وفنونه والفتاوى والجدل، مع الزهد والورع والعفة والقناعة. ألف التصانيف الكثيرة في فنون شتى، فمما ألفه في أصول الفقه "العدة" و "مختصر العدة" و "الكفاية" و "مختصر الكفاية" و "والمعتمد" و "مختصر المعتمد"، وله "أحكام القرآن" و "عيون المسائل" و "الأحكام السلطانية" و "شرح الخرقي" و "المجرد في المذاهب" و "الخلاف الكبير" وغيرها. توفي سنة 458هـ. "انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/ 193-230، النهج الأحمدي 2/ 105-118، المطلع للبعلي ص454، المدخل إلى مذهب أحمد ص210، 241".
6 في د ض: العمدة.
7 هو محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني، أبو الخطاب البغدادي الحنبلي، أحد أئمة المذهب وأعيانه. كان فقيهاً أصولياً فرضياً أديباً شاعراً عدلاً ثقة. صنف كتباً حساناً في الفقه والأصول والخلاف، منها "التمهيد" في أصول الفقه، سلك فيه مسالك المتقدمين، وأكثر من ذكر الدليل والتعليل، و "الهداية" في الفقه، و "الخلاف الكبير" و"الخلاف الصغير"، و "التهذيب" في الفرائض. توفي سنة 510هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 116، المنهج الأحمد 2/ 198، المطلع ص453، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص211، 139".(1/54)
عَقِيلٍ1 فِي "الْوَاضِحِ"، وَذَلِكَ لأَنَّ السَّائِلَ يَطْلُبُ الدَّلِيلَ مِنْ الْمَسْئُولِ، وَالْمَسْئُولَ يَطْلُبُ الدَّلِيلَ مِنْ الأُصُولِ2.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ:
"فَالدَّالُّ: اللَّهُ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ: الْقُرْآنُ، وَالْمُبَيِّنُ: الرَّسُولُ، وَالْمُسْتَدِلُّ: أُولُو الْعِلْمِ، هَذِهِ قَوَاعِدُ الإِسْلامِ" قَالَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ـــــــ
1 هو أبو الوفاء على بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي، المقرئ الفقيه الأصولي الواعظ المتكلم، أحد الأئمة الأعلام. قال ابن رجب: "كان رحمه الله بارعاً في الفقه وأصوله، وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة، وكانت له يد طولي في الوعظ والمعارف". وله مؤلفات قيّمة، أكبرها كتابه "الفنون" ويقع في مئتي مجلدة –كما قال الجوري- جعله مناطاُ لخواطره وواقعاته، وضَمَّنَه الفوائد الجليلة في العلوم المختلفة. وله كتاب "الواضح" في أصول الفقه، وهو كتاب كبير ضخم. قال عنه ابن بدران: "أبان فيه عن علم كالبحر الزاخر، وفضل يَّفحم مَنْ في فضله يكابر، وهو أعظم كتاب في هذا الفن، حذا فيه حذو المجتهدين". وله كتاب "الفصول" و "التذكرة" و "عمد الأدلة" في الفقه، وله كتب كثيرة غيرها. توفي سنة 513هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 1/ 142-166، المنهج الأحمد 1/ 215-233، المطلع ص444، المدخل إلى مذهب أحمد ص209، 239".
2 قاله الشيرازي. "اللمع ص3"، وعرّف الباقلاني المستدل بأنه: "الناظر في الدليل، واستدلاله نظره في الدليل، وطلبه به علم ماغاب عنه". "الإنصاف ص15" وقال الباجي: "المستدل في الحقيقة هو الذي يطلب ما يُستدل به على ما يريد الوصول إليه. كما يَسْتَدِل المكلف بالمحدثات على محدثها، ويَسْتَدِل بالأدلة الشرعية على الأحكام التي جعلت أدلة عليها. وقد سمى الفقهاء المحتج بالدليل مستدلاً؛ ولعلهم أرادوا بذلك أنه محتج به الآن، وقد تقدم استدلاله به على الحكم الذي توصل به إليه، ويحتج الأن به على ثبوته". "الحدود ص40".(1/55)
وَإِنَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ1، لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَتَبَرُّكًا بِنَصِّ الإِمَامِ.
وَقَوْلُهُ "هَذِهِ قَوَاعِدُ الإِسْلامِ" قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ قَوَاعِدَ الإِسْلامِ تَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى قَوْلِهِ "وَهُوَ الْقُرْآنِ"2، وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَالإِسْلامِ عَنْهَا3. انْتَهَى.
"وَالْمُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ" أَيْ عَلَى الشَّيْءِ بِكَوْنِهِ حَلالاً أَوْ حَرَامًا، أَوْ وَاجِبًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا "الْحُكْمُ" بِذَلِكَ4.
"وَ" الْمُسْتَدَلُّ "بِهِ مَا يُوجِبُهُ" أَيْ الْعِلَّةُ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ.
"وَالْمُسْتَدَلُّ لَهُ" أَيْ لِخِلافِهِ وَقَطْعِ جِدَالِهِ "الْخَصْمُ" وَقِيلَ:
ـــــــ
1 في ش: الناس.
2 ساقطة من ش.
3 ساقطة من ش.
4 حكاه الشيرازي. "اللمع ص3" وذكر الباجي أنه يقع على الحكم، وقد يقع عل السائل أيضاً. ثم قال: "حقيقة المستدل عليه هو الحكم؛ لأن المستدل إنما يستدل بالأدلة على الأحكام، وإنما يصح هذا بإسناده إلى عرف الخاطبين الفقهاء. فقد يُستدل بأثر الإنسان على مكانه، وليس ذلك بحكم؛ لأن هذا ليس من الأدلة التي يريد الفقهاء تحديدها وتمييزها مما ليست بأدلة. بل الأدلة عندهم في عرف تخاطبهم ما اشتمل عليه هذا الحد مما يوصف بأنه أدلة عندهم. وقد يوصف المحتج عليه بأنه مستَدَلّ عليه، لما تقدم من وصف المحتج بأنه مستَدِل. فإذا كان المحتج مستدِلاً. صح أن يُوصَفَ المحتج عليه بأنه مستَدَلّ عليه. "الحدود ص40".(1/56)
الْحُكْمُ1.
"وَالنَّظَرُ هُنَا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "فِكْرٌ يُطْلَبُ بِهِ" أَيْ بِالْفِكْرِ "عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ"2 وَإِنَّمَا قُلْت "هُنَا" لأَنَّ النَّظَرَ لَهُ مُسَمَّيَاتٌ غَيْرُ ذَلِكَ.
"وَالْفِكْرُ هُنَا: حَرَكَةُ النَّفْسِ مِنْ الْمَطَالِبِ إلَى الْمَبَادِئِ، وَرُجُوعُهَا" أَيْ حَرَكَةُ النَّفْسِ "مِنْهَا إلَيْهَا" أَيْ مِنْ الْمَبَادِئِ إلَى الْمَطَالِبِ.
وَيَرْسُمُ الْفِكْرُ بِهَذَا الْمَعْنَى "بِتَرْتِيبِ أُصُولٍ حَاصِلَةٍ فِي الذِّهْنِ؛ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى تَحْصِيلِ غَيْرِ الْحَاصِلِ".
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى حَرَكَةِ النَّفْسِ، الَّتِي يَلِيهَا الْبَطْنُ3 الأَوْسَطُ مِنْ الدِّمَاغِ الْمُسَمَّى بِالدُّودَةِ، وَتُسَمَّى فِي الْمَعْقُولاتِ فِكْرًا4، وَفِي الْمَحْسُوسَاتِ تَخْيِيلاً.
ـــــــ
1 حكى الشيرازي أن المستدل له يقع على الحكم؛ لأن الدليل يطلب له ويقع على السائل –الذي هو أعم من الخصم- لأنَّ الدليل يطلب له. "اللمع ص3".
2 قاله الشوكاني "إرشاد الفحول ص5" حكاه الآمدي عن القاضي إبي بكر الباقلاني وعرفه الشيرازي بقوله: "هو الفكر في حال المنطور فيه" "اللمع ص3" وذهب الآمدي إلى أن النظر "عبارة عن التصرف بالعقل في الأمور السابقة بالعلم والظن، المناسبة للمطلوب بتأليف خاص قصداً، لتحصيل ماليس حاصلاً في العقل". "الإحكام 1/ 10" وحكى القرافي للناظر تعريفات أخرى وأفاض في الكلام عليها في كتابه "شرح تنقيح الفصول" ص429 وما بعدها.
أما شروط النظر، فقد ذكر الشيرازي له شروطاً ثلاثة: "أحدها" أن يكون الناظر كامل الآلة. "والثاني" أن يكون نظره في دليل لا فيه شبهة. "والثالث" أن يستوفي الدليل ويرتبه على حقه، فيقدم ما يجب تقديمه، ويؤخر ما يجب تأخيره. "اللمع ص3".
3 في ش: البطين.
4 وعلى هذا حكى العبادي تعريف الفكر بأنه "حركة النفس في المعقولات. أي انتقالها فيها انتقالاً تدريجياً قصدياً" وشَرَحَه. "انظر العبادي على شرح الورقات ص44".(1/57)
"وَالإِدْرَاكُ" أَيْ إدْرَاكُ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ "بِلا حُكْمِ" عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ، "تَصَوُّرٌ" لأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ سِوَى صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ. "وَبِهِ" أَيْ وَبِالْحُكْمِ؛ يَعْنِي أَنَّ تَصَوُّرَ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِإِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ "تَصْدِيقٌ" أَيْ يُسَمَّى تَصْدِيقًا1.
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّصَوُّرَ إدْرَاكُ الْحَقَائِقِ مُجَرَّدَةً عَنْ الأَحْكَامِ، وَأَنَّ التَّصْدِيقَ "إدْرَاكٌ" نِسْبَةٌ حُكْمِيَّةٌ بَيْنَ الْحَقَائِقِ بِالإِيجَابِ أَوْ السَّلْبِ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّصَوُّرُ تَصَوُّرًا؛ لأَخْذِهِ مِنْ الصُّورَةِ، لأَنَّ حُصُولَ صُورَةِ "2الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ. وَسُمِّيَ التَّصْدِيقُ تَصْدِيقًا: لأَنَّ فِيهِ حُكْمًا، يَصْدُقُ فِيهِ أَوْ يَكْذِبُ. سُمِّيَ بِأَشْرَفِ لازِمَيْ الْحُكْمِ3 فِي النِّسْبَةِ"2.
"فَكُلُّ تَصْدِيقٍ مُتَضَمِّنٌ مِنْ مُطْلَقِ"4 التَّصَوُّرِ ثَلاثَ تَصَوُّرَاتٍ: تَصَوُّرَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْمَحْكُومِ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُمَا5، ثُمَّ تَصَوُّرُ نِسْبَةِ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ، فَالْحُكْمُ يَكُونُ تَصَوُّرًا رَابِعًا؛ لأَنَّهُ تَصَوُّرُ تِلْكَ النِّسْبَةِ مُوجَبَةً، أَوْ تَصَوُّرُهَا مَنْفِيَّةً6.
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على التصور والتصديق في "إيضاح المبهم ص6، فتح الرحمن ص43، المنطلق لمحمد المبارك عبد الله ص12 وما بعدها".
2 ساقطة من ش.
3 في ع: الحكمة.
4 ساقطة من ش.
5 في ش: هو.
6 وهذا على مذهب الحكماء. وذلك أننا إذا قلنا "زيد قائم"، فقد اشتمل قولنا على تصورات أربعة: 1- تصور الموضوع: وهو زيد. 2- تصور المحمول: وهو قائم. 3- تصور النسبة =(1/58)
وَكُلٌّ مِنْ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ ضَرُورِيٌّ وَنَظَرِيٌّ1. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
= بينهما؛ وهو تعليق المحمول بالموضوع، أي تصور قيام زيد. 4- تصور وقوعها: أي تصور وقوع القيام من زيد. فالتصور الرابع يسمى تصديقاً، والثلاثة قبله شروط له. وهذا مذهب الحكماء. وخالف الإمام الرازي في ذلك وقال إن التصديق هو التصورات الأربعة. وعلى هذا يكوة التصديق بسيطاً على مذهب الحكماء؛ لأن الشروط خارجة عن الماهية. ومركباً على مذهب الرازي من الحكم والتصورات الثلاثة, باعتبارها أجزاء له. "انظر فتح الرحمن ص43، إيضاح المبهم ص6، المنطق للمبارك ص14، تحرير القواعد المنطقية للرازي ص8 وما بعدها"...
1 النظري من كل من التصور والتصديق: ما احتاج للتأمل والنظر. والضروري عكسه: وهو مالا يحتاج إلى ذلك. ومثال التصور الضروري: إدراك معنى البياض والحرارة والصوت. ومثال التصور النظري، إدراك معنى العقل والجوهر الفرد والجاذبية وعكس النقيض. ومثال التصديق الضروري: إدراك وقوع النسبة في قولنا "الواحد نصف الاثنين" و "النار محرقة". ومثال التصديق النظري: إدراك وقوع النسبة في قولنا "الواحد نصف سدس الاثني عشر" و "العالم حادث". "انظر إيضاح المبهم ص6، المنطق للمبارك ص15".(1/59)
"فَصْلٌ"
"الْعِلْمُ لا يُحَدُّ1 فِي وَجْهٍ" قَالَ بَعْضُهُمْ2: لِعُسْرِهِ3 وَيُمَيَّزُ بِتَمْثِيلٍ4 وَتَقْسِيمٍ5 وَقَالَ بَعْضُهُمْ6: لأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ7. وَقَدْ عَلِمْت
ـــــــ
1 أي بالحدّ الحقيقي المكون من الحنس والفصل. "فتح الرحمن 41".
2 وهو الجويني والغزالي، واعتبرا العلم نظرياً لا ضرورياً "انظر الإحكام للآمدي 1/ 11، المستصفى 1/ 25، فتح الرحمن ص41".
3 أي بسبب عسر تصوره بحقيقته، إذ لا يحصل إلا بنظر دقيق لخفائه. "المحلي على جمع الجوامع 1/ 159".
4 في ش د ع ض ب: ببحث. وليس بصواب، والصواب ما ذكرناه. والمراد بالتمثيل، كأن يقال: العلم إدراك البصيرة المشابه لإدراك الباصرة، أويقال: هو كاعتقادنا أن الواحد نصف الاثنين. "انظر العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 47، المستصفى 1/ 25 وما بعدها، إرشاد الفحول ص3، الإحكام للآمدي 1/ 11، فتح الرحمن ص41" وعبارة "ويميز ببحث وتقسيم" ساقطة من ز.
5 فالتقسيم "هو أن نميزه عما يلتبس به". ولما كان العلم يلتبس بالاعتقاد، فإنه يقال: الاعتقاد إما جازم أو لا، والجازم إما مطابق أو لا، والمطابق إما ثابت أو لا. فخرج من القسمة "اعتقاد جازم مطابق ثابت" وهو العلم بمعنى اليقين. وخرج بالجزم الظن، وبالمطابق الجهل المركب، وهو الاعتقاد الفاسد، وبالثابت تقليد المصيب الجازم، وهو الاعتقاد الصحيح، لأنه قد يزول بالتشكيك. "انظر فتح الرحمن ص41، المستصفى 1/ 25، إرشاد الفحول ص3".
6 وهو الرازي في المحصول وجماعة. "المحلي على جمع الجوامع 1/ 155، إرشاد الفحول ص3، فتح الرحمن ص41".
7 قال الشيخ زكريا الأنصاري: أي يحصل بمجرد التفات النفس إليه من غير نظر واكتساب، فيستحيل أن يكون غيره كاشفاً له. "فتح الرحمن ص41، وانظر المحلي على جمع الجوامع 1/ 155".(1/60)
مِنْ خُطْبَةِ الْكِتَابِ أَنِّي1 مَتَى قُلْت عَنْ شَيْءٍ 2"فِي وَجْهٍ"2 فَالْمُقَدَّمُ وَالْمُعْتَمَدُ غَيْرُهُ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا:
فَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالأَكْثَرُ: أَنَّهُ يُحَدُّ. وَلَهُمْ فِي حَدِّهِ عِبَارَاتٌ. "وَ" الْمُخْتَارُ مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: "هُوَ صِفَةٌ يُمَيِّزُ الْمُتَّصِفُ بِهَا" بَيْنَ الْجَوَاهِرِ وَالأَجْسَامِ وَالأَعْرَاضِ، وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ "تَمْيِيزًا جَازِمًا مُطَابِقًا" أَيْ لا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ3.
"فَلا يَدْخُلُ إدْرَاكُ الْحَوَاسِّ" لِجِوَازِ4 غَلَطِ الْحِسِّ؛ لأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ الشَّيْءَ لا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، كَالْمُسْتَدِيرِ مُسْتَوِيًا، وَالْمُتَحَرِّكِ سَاكِنًا وَنَحْوِهِمَا.
"وَيَتَفَاوَتُ" الْعِلْمُ عَلَى الأَصَحِّ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ إمَامِنَا5 رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَعَلَيْهِ الأَكْثَرُ.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ6 فِي "أُصُولِهِ": الأَصَحُّ التَّفَاوُتُ؛ فَإِنَّا نَجِدُ
ـــــــ
1 في ش: اين.
2 ساقطة من ش.
3 انظر تعريفات الأصوليين للعلم وتفصيل الكلام عليها في "إرشاد الفحول ص4، المعتمد 1/ 10، العبادي على شرح الورقات ص34، فتح الرحمن ص42، للمع ص2، المسودة ص575، الإحكام للآمدي 1/ 11، الحدود ص24، التعريفات ص160، المستصفى 1/ 24 وما بعدها. مفردات الراغب الأصبهاني ص348 وما بعدها، أصول الدين للبغدادي ص5 وما بعدها".
4 في ش: بجواز.
5 في ش: إمامنا أحمد.
6 هو أحمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي الحنبلي، من تلامذة شيخ الإسلام ابن =(1/61)
بِالضَّرُورَةِ الْفَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الاثْنَيْنِ، وَبَيْنَ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ، مَعَ كَوْنِ الْيَقِينِ حَاصِلاً فِيهِمَا1.
"كَالْمَعْلُومِ" أَيْ كَمَا تَتَفَاوَتُ الْمَعْلُومَاتُ "وَ" كَمَا يَتَفَاوَتُ "الإِيمَانُ".
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": "وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي"أُصُولِهِ" - فِي الْكَلامِ عَلَى الْوَاجِبِ-: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - يَعْنِي بِهِ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ2-: وَالصَّوَابُ3 أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ4 تَقْبَلُ التَّزَايُدَ.
ـــــــ
= تيمية. قال ابن رجب: "كان من أهل البراعة والفهم والرياسة في العلم، متقناً عالماً بالحديث وعلله والنحو والفقه والأصلين والمنطق وغير ذلك". وهو صاحب كتاب "الفائق" في الفقه، وله كتب كثيرة منها كتابه في "أصول الفقه" يقع في مجلد كبير، لكنه لم يتمه، ووصل فيه إلى أوائل القياس. توفي سنة 771هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 453، المنهل الصافي 1/ 268، المدخل إلى مذهب أحمد ص205".
1 وأما الرواية الثانية بمنع تفاوت العلوم فهي ما ذهب إليه إمام الحرمين الجويني والأبياري وابن عبد السلام، وعليها فليس بعض العلوم ولو ضرورياً أقوى في الجزم من بعضها ولو نظرياً. "فتح الرحمن ص44".
2 هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي الحنبلي، تقي الدين، أبو العباس، شيخ الإسلام وبحر العلوم، كان واسع العلم محيطاً بالفنون والمعارف النقلية والعقلية، صالحا تقياً مجاهداً. قال عنه ابن الزملكاني: "كان إذا سئل عن فن الفنون، ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرف مثله". تصانيفه كثرة قيمة منها "الفتاوى" و "الإيمان" و "الموافقة بين المعقول والمنقول" و "منهاج السنة النبوية" و "اقتضاء الصراط المستقيم" و "السياسة الشرعية" و "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" وغيرها. توفي سنة 728هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 387. فوات الوفيات 1/ 62، البدر الطالع 1/ 63، طبقات المفسيرين للدوادي 1/ 45، المنهل الصافي 1/336".
3 في ش: والصحيح.
4 في باب: في الحياة.(1/62)
وَعَنْ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي1 الْقَلْبِ فِي الإِيمَانِ: هل تَقَبُّلِ التَّزَايُدِ وَالنَّقْصِ؟ رِوَايَتَانِ2. وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ جُمْهُورِ3 أَهْلِ السُّنَّةِ: إمْكَانُ4 الزِّيَادَةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ" انْتَهَى.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ يُطْلَقُ لُغَةً وَعُرْفًا عَلَى أَرْبَعَةِ5 أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: إطْلاقُهُ حَقِيقَةً عَلَى مَا لا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، وَتَقَدَّمَ.
الأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ6 يُطْلَقَ "وَيُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الإِدْرَاكِ" يَعْنِي سَوَاءً كَانَ الإِدْرَاكُ "جَازِمًا، أَوْ مَعَ احْتِمَالٍ رَاجِحٍ، أَوْ مَرْجُوحٍ، أَوْ مُسَاوٍ" عَلَى
ـــــــ
1 في ش: بالقلب.
2 أشار إلى ذلك الشيخ تقي الذين بن تيمية في "المسودة" ص558، وإن كانت الرواية المشهورة والراجحة عندالإمام أحمد أن الإيمان يزيد وينقص، ذكرها في كتابه "السنّة" وأقام على صحتها الحجج والبراهين والأدلة في أكثر من ثلاثين صفحة. ونصها: قال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: سمعت أبي سُئل عن الإرجاء فقال: "نحن نقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، إذا زنى وشرب الخمر نقص أيمانه". وقد ذكر ابن الجوزي في كتابه "مناقب الإمام أحمد" مذهب الإمام أحمد في الإيمان، فلم ينقل عنه إلا قولاً واحداً بأنَّ الإيمان يزيد وينقص. ونص الرواية: عن سليمان ين الأشعث، قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: "الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والبرّ كله من الإيمان، والمعاصي تنقص من الإيمان". "انظر كتاب السنة للإمام أحمد ص72-160، الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلّام ص72 وما بعدها، الإيمان لابن تيمية ص186-198، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص153، أصول مذهب أحمد بن حنبل للدكتور عبد الله التركي ص85، وما بعدها، المدخل إلى مذهب أحمد لبدران ص9 وما بعدها".
3 ساقطة من ض.
4 في ع: أن إمكان.
5 في ش: ثلاثة.
6 في ش: أن.(1/63)
سَبِيلِ الْمَجَازِ. فَشَمِلَ الأَرْبَعَةَ قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} 1، إذْ الْمُرَادُ: نَفْيُ كُلِّ إدْرَاكٍ.
الأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُطْلَقُ "وَ" يُرَادُ بِهِ "التَّصْدِيقُ، قَطْعِيًّا" كَانَ التَّصْدِيقُ "أَوْ ظَنِّيًّا".
أَمَّا التَّصْدِيقُ الْقَطْعِيُّ: فَإِطْلاقُهُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً. وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا التَّصْدِيقُ الظَّنِّيُّ: فَإِطْلاقُهُ عَلَيْهِ2 عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 3.
الأَمْرُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُطْلَقُ "وَ" يُرَادُ بِهِ "مَعْنَى الْمَعْرِفَةِ" وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} 4.
وَتُطْلَقُ الْمَعْرِفَةُ "وَيُرَادُ بِهَا" الْعِلْمُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ} 5، أَيْ عَلِمُوا.
"وَ" يُرَادُ الْعِلْمُ أَيْضًا "بِظَنٍّ" يَعْنِي أَنَّ الظَّنَّ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} 6، أَيْ يَعْلَمُونَ.
ـــــــ
1 الآية 51 من يوسف.
2 ساقطة من ع.
3 الآية 10 من الممتحنة.
4 الآية 101 من التوبة.
5 الآية 83 من المائدة.
6 الآية 46 من البقرة.(1/64)
"وَهِيَ" أَيْ الْمَعْرِفَةُ "مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِلْمٌ مُسْتَحْدَثٌ، أَوْ انْكِشَافٌ بَعْدَ لَبْسٍ أَخَصُّ مِنْهُ" أَيْ مِنْ الْعِلْمِ. لأَنَّهُ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُسْتَحْدَثِ. وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَشْمَلُ الْمُسْتَحْدَثَ، وَهُوَ عِلْمُ الْعِبَادِ "وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا يَقِينٌ وَظَنٌّ أَعَمُّ" مِنْ الْعِلْمِ لاخْتِصَاصِهِ حَقِيقَةً بِالْيَقِينِيِّ1.
وَقَالَ جَمْعٌ: إنَّ الْمَعْرِفَةَ مُرَادِفَةٌ لِلْعِلْمِ. قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": "فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ غَيْرَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِالْمَعْرِفَةِ أَنَّهَا2 تُطْلَقُ عَلَى الْقَدِيمِ، وَلا تُطْلَقُ عَلَى الْمُسْتَحْدَثِ. وَالأَوَّلُ أَوْلَى". انْتَهَى.
"وَتُطْلَقُ" الْمَعْرِفَةُ "عَلَى مُجَرَّدِ التَّصَوُّرِ" الَّذِي لا حُكْمَ مَعَهُ "فَتُقَابِلُهُ" أَيْ تُقَابِلُ الْعِلْمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِلْمَ يُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ الشَّامِلِ لِلْيَقِينِيِّ وَالظَّنِّيِّ. وَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمَعْرِفَةُ عَلَى التَّصَوُّرِ الْمُجَرَّدِ عَنْ التَّصْدِيقِ: كَانَتْ قَسِيمًا لِلْعِلْمِ، أَيْ مُقَابِلَةً3 لَهُ.
"وَعِلْمُ اللَّهِ" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "قَدِيمٌ" لأَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَصِفَاتُهُ قَدِيمَةٌ "لَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلا نَظَرِيًّا" بِلا نِزَاعٍ بَيْنَ الأَئِمَّةِ، أَحَاطَ بِكُلِّ4 مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ5.
"وَلا يُوصَفُ" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "بِأَنَّهُ عَارِفٌ"6 قَالَ ابْنُ
ـــــــ
1 في ب ع ز: باليقين.
2 في ش ز ض: بأنها.
3 في ش: مقابلاً.
4 في ب: بكل شيء.
5 انظر اللمع ص2.
6 انظر إرشاد الفحول ص4. التعريفات للجرجاني ص236.(1/65)
حَمْدَانَ1 فِي "نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ": "عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى لا يُسَمَّى مَعْرِفَةً. حَكَاهُ الْقَاضِي إجْمَاعًا". انْتَهَى.
"وَعِلْمُ الْمَخْلُوقِ مُحْدَثٌ، وَهُوَ" قِسْمَانِ:
- قِسْمٌ "ضَرُورِيٌّ" 2: وَهُوَ مَا "يُعْلَمُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ" كَتَصَوُّرِنَا مَعْنَى النَّارِ، وَأَنَّهَا حَارَّةٌ.
- "وَ" قِسْمٌ "نَظَرِيٌّ": وَهُوَ مَا لا يُعْلَمُ إلاَّ بِنَظَرٍ، وَهُوَ "عَكْسُهُ" أَيْ عَكْسُ الضَّرُورِيِّ.
ـــــــ
1 هو أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان الحراني الحنبلي، نجم الدين، أبو عبد الله، الفقيه الأصولي الأديب، نزيل القاهرة، وصاحب التصانيف النافعة، من كنبه "نهاية المبتدئين" في أصول الدين و "المقنع" في أصول الفقه و "الرعاية الكبرى" و "الرعاية الصغرى" في الفقه، وفيهما نقول كثيرة ولكنها غير محررة و "صفة المفتي والمستفتي". توفي سنة 695هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 331، المنهل الصافي 1/ 272، شذرات الذهب 5/ 428، المدخل إلى مذهب أحمد ص205، 229، 241".
2 قال الباجي: "وصف هذا العلم بأنه ضروري معناه أنه يوجد بالعالم دون اختياره ولا قصده. ويوصف الإنسان أنه مضطر إلى الشيء على وجهين: "أحدهما" أن يوجد به دون قصده. كما يوجد به العمى والخرس والصحة والمرض وسائر المعاني الموجودة به وليست بموقوفة على اختياره وقصده. "والثاني" مايوجد به بقصده، وإن لم يكن مختاراً له. من قولهم: اضطر فلان إلى أكل الميتة وإلى تكفف الناس. وإن كان الأكل إنما يوجد به بقصده. وَوَصْفُنَا للعِلْم بأنه ضروري من القسم الأول، لأن وجوده بالعالم ليس بموقوف على قصده". "الحدود ص25 وما بعدها".(1/66)
وَقَالَ الأَكْثَرُ: الضَّرُورِيُّ مَا لا يَتَقَدَّمُهُ تَصْدِيقٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرِيُّ بِخِلافِهِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَدَّ الْعِلْمِ1 الضَّرُورِيِّ فِي اللُّغَةِ: الْحَمْلُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالإِلْجَاءُ إلَيْهِ. وَحَدُّهُ فِي الشَّرْعِ: مَا لَزِمَ نَفْسَ الْمُكَلَّفِ لُزُومًا لا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ2.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 أي لا يمكنه دفعه عن نفسه بشكّ ولا شيهة. قال الشيرازي: "وذلك كالعلم الحاصل عن الحواس الخمس التي هي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والعلم بما تواترت به الأخبار من ذكر الأمم السالفة والبلاد النائية، وما يحصل في النفس من العلم بحال نفسه من الصحة والسقم والغم والفرج، وما يعلمه من غيره من النشاط والفرح والغم والترح وخجَلِ الخَجِلِ ووجَلِ الوَجِلِ وما أشبهه مما يُضطر إلى معرفته. والمكتسب –إي النظري-: كل علم يقع عن نظر واستدلال، كالعلم بحدوث العالم وإثبات الصانع وصدق الرسل ووجوب الصلاة وأعدادها ووجوب الزكاة ونُصُبها، وغير ذلك مما يعلم بالنظر والاستدلال". "اللمع ص2 وما بعدها" وانظر تفصيل الكلام على العلم الضروري والنظري في "الحدود للباجي ص25 وما بعدها، العبادي على شرح الورقات ص40 وما بعدها، فتح الرحمن ص42 وما بعدها".(1/67)
"فَصْلٌ"
لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ لا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَعْلُومٍ، نَاسَبَ أَنْ نَذْكُرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ "طَرَفًا مِنْ"1 أَحْوَالِ الْمَعْلُومِ2. وَلَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ فِي الأَصْلِ3 إلاَّ فِي بَابِ الأَمْرِ. "وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي ذِكْرِهِ هُنَاكَ: أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ الأَمْرَ عَيْنُ النَّهْيِ قَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَيْنًا4 لَكَانَ ضِدًّا، أَوْ مِثْلاً أَوْ خِلافًا"5.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ:
فَـ"الْمَعْلُومَانِ: إمَّا نَقِيضَانِ لا يَجْتَمِعَانِ وَلا يَرْتَفِعَانِ" كَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ الْمُضَافَيْنِ إلَى مُعَيَّنٍ6 وَاحِدٍ.
"أَوْ خِلافَانِ: يَجْتَمِعَانِ وَيَرْتَفِعَانِ" كَالْحَرَكَةِ وَالْبَيَاضِ فِي الْجِسْمِ7 الْوَاحِدِ.
"أَوْ ضِدَّانِ: لا يَجْتَمِعَانِ8، وَيَرْتَفِعَانِ لاخْتِلافِ الْحَقِيقَةِ" كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، لا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا، لأَنَّ الشَّيْءَ لا يَكُونُ أَسْوَدَ9 أَبْيَضَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ لا أَسْوَدَ وَلا أَبْيَضَ10 لاخْتِلافِ حَقِيقَتِهِمَا.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: العلوم.
3 أي في أصل المختصر، وهو كتاب التحرير للمزداوي.
4 ساقطة من ب.
5 في ز: ولم أعرف وجه المناسبة في ذكره هناك.
6 في ش: حين.
7 في ش: الجسد.
8 في ش: لا يجتمعان ويختلفان.
9 في ب: اسودا.
10 في ش ب ع ض: ولا أبيض في هذا المثال، وكالحركة والسكون في كل جسم. وهذه الزيادة كلها غير موجودة في ز.(1/68)
"أَوْ مِثْلانِ: لا يَجْتَمِعَانِ وَيَرْتَفِعَانِ "لِتَسَاوِي الْحَقِيقَةِ"1" كَبَيَاضٍ وَبَيَاضٍ، وَلا يَخْرُجُ فَرْضُ وُجُودِ مَعْلُومَيْنِ عَنْ هَذِهِ الأَرْبَعِ صُوَرٍ2.
وَدَلِيلُ الْحَصْرِ: أَنَّ3 الْمَعْلُومَيْنِ: إمَّا أَنْ يُمْكِنَ اجْتِمَاعُهُمَا أَوْ لا، فَإِنْ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا فَهُمَا الْخِلافَانِ كَالْحَرَكَةِ وَالْبَيَاضِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اجْتِمَاعُهُمَا فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ ارْتِفَاعُهُمَا أَوْ لا.
[فَـ] الثَّانِي: النَّقِيضَانِ، كَوُجُودِ زَيْدٍ وَعَدَمِهِ. "وَوُجُودِ الْحَرَكَةِ مَعَ السُّكُونِ"4.
وَالأَوَّلُ: لا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ لا. [فَـ] الأَوَّلُ: الضِّدَّانِ، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ لاخْتِلافِ الْحَقِيقَةِ، وَالثَّانِي: الْمِثْلانِ كَبَيَاضٍ وَبَيَاضٍ.
لَكِنْ الْخِلافَانِ قَدْ يَتَعَذَّرُ ارْتِفَاعُهُمَا، لِخُصُوصِ حَقِيقَةِ غَيْرِ كَوْنِهِمَا خِلافَيْنِ، كَذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ سُبْحَانَهُ مَعَ صِفَاتِهِ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ افْتِرَاقُهُمَا، كَالْعَشَرَةِ مَعَ الزَّوْجِيَّةِ خِلافَانِ وَيَسْتَحِيلُ افْتِرَاقُهُمَا، وَالْخَمْسَةِ5 مَعَ الْفَرْدِيَّةِ، وَالْجَوْهَرِ6 مَعَ الأَلْوَانِ، وَهُوَ كَثِيرٌ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 انظر الكلام على هذا الموضوع في "شرح تنقيح الفصول ص97 وما بعدها، فتح الرحمن ص40 وما بعدها".
3 في ش: أن هذين.
4 ساقطة من ش.
5 في ش: والخمس.
6 قال في كشاف اصطلاحات الفنون "1/ 203": "ولجوهر عند المتكلمين: هو الحادث المتحيز بالذات. والمتحيز بالذات هو القابل للإشارة الحسية بالذات بأنه هنا أو هناك. ويقابله العرض". والعرض –كما قال الشريف الجرجاني-: "هو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع –إي محل- يقوم به، كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحلَه ويقوم هو به". "التعريفات ص153".(1/69)
وَلا تَنَافِي بَيْنَ إمْكَانِ الافْتِرَاقِ وَالارْتِفَاعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الذَّاتِ، وَتَعَذَّرَ الارْتِفَاعُ [وَالافْتِرَاقُ] بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرٍ خَارِجِيٍّ عَنْهُمَا1.
وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ كُلُّهُ فِي مُمْكِنِ الْوُجُودِ. أَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتُهُ: فَإِنَّهُ لا يُقَالُ بِإِمْكَانِ رَفْعِ2 شَيْءٍ مِنْهَا، لِتَعَذُّرِ رَفْعِهِ بِسَبَبِ وُجُوبِ وُجُودِهِ3.
"وَكُلُّ شَيْئَيْنِ حَقِيقَتَاهُمَا4 إمَّا مُتَسَاوِيَتَانِ؛ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ كُلِّ" وَاحِدَةٍ "وُجُودُ الأُخْرَى وَعَكْسُهُ" يَعْنِي: وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَدَمُ الأُخْرَى كَالإِنْسَانِ وَالضَّاحِكِ بِالْقُوَّةِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُودُ الآخَرِ، وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ، فَلا إنْسَانَ إلاَّ وَهُوَ ضَاحِكٌ بِالْقُوَّةِ، وَلا ضَاحِكَ بِالْقُوَّةِ إلاَّ وَهُوَ إنْسَانٌ5.
وَنَعْنِي بِالْقُوَّةِ كَوْنَهُ قَابِلاً وَلَوْ لَمْ يَقَعْ، وَيُقَابِلُهُ الضَّاحِكُ6 بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلضَّحِكِ.
"أَوْ" إمَّا "مُتَبَايِنَتَانِ7؛ لا تَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ" كَالإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، فَمَا هُوَ إنْسَانٌ لَيْسَ بِفَرَسٍ، وَمَا هُوَ فَرَسٌ8 فَلَيْسَ9 بِإِنْسَانٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَحَلٍّ عَدَمُ صِدْقِ الآخَرِ.
ـــــــ
1 في ض: عنها.
2 في ش: دفع.
3 انظر شرح تنفيح الفصول ص98.
4 في ش: حقيقتين.
5 فيصدق كل منهما على كل ما يصدق عليه الآخر. "انظر فتح الرحمن ص40، تحرير القواعد المنطقية ص63".
6 في ز: الضحك.
7 في ش ب ع ض: متباينان.
8 في ب ص: بفرس.
9 في ش: ليس.(1/70)
"أَوْ" إمَّا "إحْدَاهُمَا أَعَمُّ مُطْلَقًا، وَالأُخْرَى أَخَصُّ مُطْلَقًا، تُوجَدُ إحْدَاهُمَا مَعَ وُجُودِ كُلِّ1 أَفْرَادِ الأُخْرَى" كَالْحَيَوَانِ2 وَالإِنْسَانِ، فَالْحَيَوَانُ أَعَمُّ مُطْلَقًا لِصِدْقِهِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الإِنْسَانِ، فَلا يُوجَدُ إنْسَانٌ بِدُونِ حَيَوَانِيَّةٍ أَلْبَتَّةَ. فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الإِنْسَانِ - الَّذِي هُوَ أَخَصُّ3- وُجُودُ الْحَيَوَانِ، الَّذِي هُوَ أَعَمُّ، "بِلا عَكْسٍ" يَعْنِي: فَلا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ عَدَمُ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ"4؛ لأَنَّ الْحَيَوَانَ قَدْ يَبْقَى مَوْجُودًا فِي الْفَرَسِ وَغَيْرِهِ.
"أَوْ" إمَّا " 5 كُلُّ وَاحِدَةٍ6 مِنْهُمَا" أَيْ مِنْ الْحَقِيقَتَيْنِ "أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ" 5 مِنْ" وَجْهٍ "آخَرَ تُوجَدُ كُلُّ" وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَقِيقَتَيْنِ "مَعَ الأُخْرَى وَبِدُونِهَا" أَيْ وَبِدُونِ الأُخْرَى.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي صُورَةٍ، وَتَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ الأُخْرَى بِصُورَةٍ: كَالْحَيَوَانِ وَالأَبْيَضِ * فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يُوجَدُ بِدُونِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 المراد بالحيوان في هذا المقام: الجسم النامي الحسّاس المتحرك بالارادة. "انظر التعريفات ص100، حاشية الجرجاني على تحرير القواعد المنطقية ص62، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/ 21".
3 في ز: أخص مطلقاً.
4 ساقطة من ش.
5 في ش ب: واحد
6. في ز: احدا أعم من وجه والأخرى أخصّ.(1/71)
الأَبْيَضِ" 1 فِي السُّودَانِ2، وَيُوجَدُ الأَبْيَضُ بِدُونِ الْحَيَوَانِ فِي الثَّلْجِ وَالْقُطْنِ وَغَيْرِهِمَا3، مِمَّا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ. وَيَجْتَمِعَانِ فِي الْحَيَوَانِ الأَبْيَضِ. فَلا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الأَبْيَضِ وُجُودُ الْحَيَوَانِ، وَلا4 مِنْ وُجُودِ5 الْحَيَوَانِ وُجُودُ الأَبْيَضِ، وَلا مِنْ عَدَمِ "أَحَدِهِمَا عَدَمُ الآخَرِ"6.
فَفَائِدَةُ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ: الاسْتِدْلال بِبَعْضِ الْحَقَائِقِ عَلَى بَعْضٍ7. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
*-1 ساقطة من ش.
2 في ع: السواد.
3 في ش: ونحو غيرهما.
4 في ز: ولا يلزم.
5 ساقطة من ز.
6 في ش: احداهما عدم الاخرى. وفي د: احديهما عدم الاخر.
7 انظر موضوع النسب بين الحقائق في "شرح تنقيح الفصول ص96 وما بعدها، فتح الرحمن ص40، تحرير القواعد المنطقية ص63 وما بعدها".(1/72)
"فَصْلٌ"
"مَا عَنْهُ الذِّكْرُ الْحُكْمِيُّ" أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَلامِ الْخَبَرِيِّ، مِنْ إثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ تَخَيَّلَهُ، أَوْ لَفَظَ بِهِ، فَمَا عَنْهُ الذِّكْرُ الْحُكْمِيُّ: هُوَ مَفْهُومُ الْكَلامِ الْخَبَرِيِّ1.
قَالَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ2: "الذِّكْرُ الْحُكْمِيُّ3 يُنْبِئُ عَنْ" 3 أَمْرٍ فِي نَفْسِك مِنْ إثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَهُوَ مَا عَنْهُ الذِّكْرُ الْحُكْمِيُّ4".
وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ الْحُكْمُ مَوْرِدَ الْقِسْمَةِ لِئَلاَّ يَلْزَمَ خُرُوجُ الْوَهْمِ وَالشَّكِّ عَنْ مَوْرِدِ الْقِسْمَةِ، عِنْدَ مَنْ مَنَعَ مُقَارَنَتَهُمَا لِلْحُكْمِ.
وَقَالَ أَيْضًا: "إنَّمَا جُعِلَ الْمَوْرِدُ "مَا عَنْهُ الذِّكْرُ الْحُكْمِيُّ"، دُونَ الاعْتِقَادِ أَوْ الْحُكْمِ، لِيَتَنَاوَلَ الشَّكَّ وَالْوَهْمَ مِمَّا لا اعْتِقَادَ وَلا حُكْمَ لِلذِّهْنِ فِيهِ"5.
"إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ مُتَعَلِّقَهُ" أَيْ مُتَعَلِّقَ مَا عَنْهُ الذِّكْرُ الْحُكْمِيُّ؛ وَهُوَ النِّسْبَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ طَرَفَيْ الْخَبَرِ فِي الذِّهْنِ "النَّقِيضَ بِوَجْهٍ" مِنْ الْوُجُوهِ، سَوَاءً كَانَ فِي الْخَارِجِ، أَوْ عِنْدَ الذَّاكِرِ، إمَّا بِتَقْدِيرِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِتَشْكِيكِ مُشَكِّكٍ إيَّاهُ "أَوْ لا" يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَصْلاً.
ـــــــ
1 فإذا قلت "زيد قائم" أو "ليس بقائم" فقد ذكرت حكماً. فهذا المقول هو الذكر الحكمي. "العضد وحاشية الجرجاني عليه 1/ 58".
2 هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الأيجي الشافعي. قال الحافظ ابن حجر: "كان إماماً في المعقول، قائماً بالأصول والمعاني والعربية، مشاركاً في الفنون". أشهر كتبه "شرح مختصر ابن الحاجب" في أصول الفقه و "المواقف" في علم الكلام و "الفوئد الغياثية" في المعاني والبيان. توفي سنة 756هـ. "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 429، بغية الوعاة 2/ 75، شذرات الذهب 6/ 174، البدر الطالع 1/ 326".
3 في ش: يبني على.
4 شرح العضد على مختضر ابن الحاجب 1/ 58.
5 شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 61.(1/73)
"وَالثَّانِي" وَهُوَ الَّذِي لا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ هُوَ "الْعِلْمُ".
"وَالأَوَّلُ" وَهُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ "إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَهُ" أَيْ يَحْتَمِلَ النَّقِيضَ "عِنْدَ الذَّاكِرِ لَوْ قَدَّرَهُ" أَيْ: بِتَقْدِيرِ الذَّاكِرِ النَّقِيضَ فِي نَفْسِهِ "أَوْ لا" يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ عِنْدَ الذَّاكِرِ لَوْ قَدَّرَهُ.
"وَالثَّانِي" وَهُوَ الَّذِي لا يَحْتَمِلُ مُتَعَلِّقُهُ1 النَّقِيضَ عِنْدَ الذَّاكِرِ لَوْ قَدَّرَهُ فِي نَفْسِهِ هُوَ "لاعْتِقَادٍ"2.
"فَإِنْ طَابَقَ" هَذَا الاعْتِقَادَ لِمَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ "فَـ" ـهُوَ اعْتِقَادٌ "صَحِيحٌ، وَإِلاَّ" أَيْ وَإِنْ لِمَ يَكُنْ الاعْتِقَادُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ "فَـ" ـهُوَ اعْتِقَادٌ "فَاسِدٌ".
"وَالأَوَّلُ" وَهُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ عِنْدَ الذَّاكِرِ لَوْ قَدَّرَهُ "الرَّاجِحُ مِنْهُ" وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مُتَعَلَّقُهُ رَاجِحًا عِنْدَ الذَّاكِرِ عَلَى احْتِمَالِ النَّقِيضِ "ظَنٌّ" وَيَتَفَاوَتُ الظَّنُّ، حَتَّى يُقَالَ: غَلَبَةُ الظَّنِّ.
"وَالْمَرْجُوحُ" وَهُوَ الْمُقَابِلُ3 لِلظَّنِّ "وَهْمٌ".
"وَالْمُسَاوِي" وَهُوَ الَّذِي يَتَسَاوَى مُتَعَلَّقُهُ وَاحْتِمَالُ نَقِيضِهِ عِنْدَ الذَّاكِرِ "شَكٌّ"4.
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ: فَالْعِلْمُ قَسِيمُهُ الاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ، وَالظَّنُّ قَسِيمُهُ الشَّكُّ وَالْوَهْمُ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش ز ع.
2 انظر في الكلام على الاعتقاد وأقسامه كتاب الحدود للباجي ص28 وما بعدها.
3 في ع: القابل.
4 انظر العضد على ابن الحاجب 1/ 61.(1/74)
وَأَشَارَ1 بِقَوْلِهِ "وَقَدْ عَلِمْت حُدُودَهَا" إلَى أَنَّ مَا عَنْهُ الذِّكْرُ الْحُكْمِيُّ، الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ الْقِسْمَةِ، لَمَّا قَيَّدَ كُلَّ قِسْمٍ مِنْهُ بِمَا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الأَقْسَامِ: كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الأَقْسَامِ؛ لأَنَّ الْحَدَّ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ: كُلُّ لَفْظٍ مُرَكَّبٍ يُمَيِّزُ الْمَاهِيَّةَ عَنْ أَغْيَارِهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالذَّاتِيَّاتِ أَوْ بِالْعَرَضِيَّاتِ، أَوْ بِالْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا2.
فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْعِلْمِ: مَا3 عَنْهُ ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ، لا يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ؛ لا فِي الْوَاقِعِ، وَلا عِنْدَ4 الذَّاكِرِ، وَلا بِالتَّشْكِيكِ5.
وَيَكُونُ حَدُّ الاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ: مَا عَنْهُ ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ، لا6 يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ عِنْدَ الذَّاكِرِ بِتَشْكِيكٍ مُشَكِّكٍ إيَّاهُ، وَلا يَحْتَمِلُهُ عِنْدَ الذَّاكِرِ لَوْ قَدَّرَهُ7.
ـــــــ
1 في د ض: وأشار إليه.
2 وقد احترز بقوله "عند الأصوليين" عما عليه المنطقيون من أن الحد لا يكون إلا بالذاتيات، وأنه يقابل الرسمي واللفظي. "انظر في الفرق بين اصطلاح المناطقة والأصوليين في المراد بالحد حاشية التفتازاني على شرح العضد 1/ 68، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 133، حاشية الجرجاني على تحرير القواعد المنطقية ص80".
3 في ع: مما.
4 في ش: في.
5 في ض: بتشكيك. وانظر العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 62، وقد سبق الكلام على حد العلم في ص61 من الكتاب.
6 ساقطة من ش.
7 في د ض: قدرة إلا بتقدير الذاكر فقط.(1/75)
وَيَكُونُ حَدُّ الاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ1: مَا عَنْهُ ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ لا2 يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ عِنْدَ الذَّاكِرِ بِتَشْكِيكٍ مُشَكِّكٍ، لا بِتَقْدِيرِ3 الذَّاكِرِ إيَّاهُ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ4.
وَالظَّنُّ: مَا عَنْهُ ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ، يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ بِتَقْدِيرِهِ5، مَعَ كَوْنِهِ رَاجِحًا6.
وَالْوَهْمُ: مَا عَنْهُ ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ، يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ بِتَقْدِيرِهِ، مَعَ كَوْنِهِ مَرْجُوحًا.
وَالشَّكُّ: مَا عَنْهُ ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ، يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ7، مَعَ تَسَاوِي طَرَفَيْهِ عِنْدَ الذَّاكِرِ8.
ـــــــ
1 في ش: غير الصحيح.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: لا يتغير.
4 انظر في الكلام على الاعتقاد الصحيح والفاسد "الحدود للباجي ص28 وما بعدها، شرح الأخضري في السلم ص25".
5 أي لو قدّر الذاكر النقيض لكان محتملاً عنده.
6 انظر العضد على ابن الحاجب 1/ 62، الإحكام للآمدي 1/ 12، اللمع ص3، الحدود ص30، فتح الرحمن ص40، التعريفات ث149.
7 ساقطة من ش.
8 انظر اللمع ص3، التعريفات ص134، العبادي على شرح الورقات ص49، الحدود ص29، العضد على ابن الحاجب 1/ 61.(1/76)
وَلَمَّا انْتَهَى1 الْكَلامَ عَلَى الْعِلْمِ، وَكَانَ الْجَهْلُ ضِدًّا لَهُ، اسْتَطْرَدَ الْكَلامَ إلَى ذِكْرِهِ، وَذَكَرَ مَا يَتَنَوَّعُ إلَيْهِ، فَقَالَ: "وَالاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ" مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ: "تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ هَيْئَتِهِ. وَ" مِنْ حَيْثُ تَسْمِيَتُهُ: "هُوَ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ" لأَنَّهُ مَرْكَبٌ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ، وَمِنْ الاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا فِي الْخَارِجِ.
2وَالْجَهْلُ نَوْعَانِ:
مُرَكَّبٌ: وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ2.
"وَ" الثَّانِي مِنْ نَوْعَيْ الْجَهْلِ هُوَ "الْبَسِيطُ": وَهُوَ "عَدَمُ الْعِلْمِ" وَهُوَ انْتِفَاءُ إدْرَاكِ الشَّيْءِ بِالْكُلِّيَّةِ.
فَمَنْ سُئِلَ: هَلْ تَجُوزُ الصَّلاةُ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ؟ فَقَالَ: لا، كَانَ ذَلِكَ جَهْلاً مُرَكَّبًا مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ، وَمِنْ الْفُتْيَا بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ3. وَإِنْ قَالَ: لا أَعْلَمُ، كَانَ ذَلِكَ4 جَهْلاً بَسِيطًا.
"وَمِنْهُ" أَيْ وَمِنْ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ "سَهْوٌ، وَغَفْلَةٌ، وَنِسْيَانٌ" وَالْجَمِيعُ "بِمَعْنًى" وَاحِدٍ عِنْدَ كَثِيرٍ5 مِنْ الْعُلَمَاءِ "وَ" ذَلِكَ الْمَعْنَى "هُوَ ذُهُولُ الْقَلْبِ عَنْ مَعْلُومٍ"6.
ـــــــ
1 في ش: أنهى.
2 ساقطة من ز.
3 في د ع ض: الباطل جهلاً.
4 ساقطة من ز.
5 في ض: الأكثر.
6 انظر تفصيل الكلام على الجهل البسيط والمركب في "المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 161 وما بعدها، العبادي على شرح الورقات ص37 وما بعدها".(1/77)
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ1: السَّهْوُ الْغَفْلَةُ2، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: سَهَا فِي الأَمْرِ: نَسِيَهُ وَغَفَلَ عَنْهُ، وَذَهَبَ قَلْبُهُ إلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ سَاهٍ وَسَهْوَانُ3، وَقَالَ: غَفَلَ عَنْهُ غُفُولاً: تَرَكَهُ وَسَهَا عَنْهُ4، انْتَهَى.
ـــــــ
1 هو اسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر الفارابي اللغوي، قال ياقوت: "كان من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلماً" أشهر كتبه "الصحاح" في اللغة. توفي في حدود سنة أربعمائة. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/ 446، إنباه الرواة 1/ 194، شذرات الذهب 3/ 142".
2 الصحاح 1/ 2386.
3 القاموس المحيط 4/ 348.
4 القاموس المحيط 4/ 26.(1/78)
"فَصْلٌ"
لَمَّا كَانَتْ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ لا تُدْرَكُ بِدُونِ الْعَقْلِ، أَخَذَ فِي الْكَلامِ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
"الْعَقْلُ: مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَيْزُ" أَيْ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ، قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": قَالَهُ صَاحِبُ "رَوْضَةِ الْفِقْهِ" مِنْ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ شَامِلٌ لأَكْثَرِ الأَقْوَالِ الآتِيَةِ1.
ـــــــ
1 اختلف العلماء في تعريف العقل وحقيقته اختلافاً كثيراً، ولعل أجمع وأدق ما قيل فيه قول الغزالي ومن وافقه بعدم إمكان حده بحد واحد يحيط به، لأنه يطلق بالاشتراك على خمسة معان: "أحدها" إطلاقه على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية وتدبير الأمور الخفية. "والثاني" إطلاقه على بعض الأمور الضرورية. وهي التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. "والثالث" إطلاقه على العلوم المستفادة من التجربة. فإنّ من حنكته التجارب يقال عنه أنه عاقل. من لا يتصف بذلك يقال عنه غبي جاهل. "الرابع" إطلاقه على ما يوصل إلى ثمرة معرفة عواقب الأمور، بقمع الشهوات الداعية إلى اللذات العاجلة التي تعقبها الندامة. فإذا حصلت هذه القوة سمي صاحبها عاقلاً. "والخامس" إطلاقه على الهدوء والوقار. وهي هيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه. فيقال: فلان عاقل. أي عنده هدوء ورزانة. "انظر المستصفى 1/ 23، إحياء علوم الدين 1/ 118، عمدة القاري 3/ 271، المسودة ص558".
وقد ذكر الراغب الأصبهاني وغيره أن العقل يطلق على القوة المتهيئة لقبول العلم، كما يقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة. فكل موضع ذم الله الكفار بعدم العقل، فأشار إلى الثاني. وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل، فأشار إلى الأول. "المفردات في غريب القرآن ص346، الكليّات ص249".
ولمعرفة أقوال العلماء وتفصيلاتهم في موضوع العقل انظر "إحياء علوم الدين 1/ 117 وما بعدها، كشاف اصطلاحات الفنون 4/ 1027 وما بعدها، الحدود للباجي ص31 وما بعدها، الكليات ص249، التعريفات للجرجاني ص157 وما بعدها، المسودة ص556 وما بعدها، عمدة القارى 3/ 270 وما بعدها، كشف الأسرار للبخاري 2/ 394، 4/ 232، مفردات الراغب ص346، فتح الرحمن وحاشية العليمي عليه ص20، 23، ذم الهوى لابن الجوزي ص5، مائية العقل للمحاسبي ص201 وما بعدها، أدب الدنيا والدين للماوردي ص2 وما بعدها، أعلام النبوة للماوردي ص7".(1/79)
وَعَنْ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ1رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: آلَةُ التَّمْيِيزِ وَالإِدْرَاكِ2.
"وَهُوَ غَرِيزَةٌ" نَصًّا. قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ3. وَقَالَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ4، فَقَالَ: الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ، لَيْسَ مُكْتَسَبًا5، بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَارِقُ بِهِ الإِنْسَانُ الْبَهِيمَةَ، وَيَسْتَعِدُّ بِهِ لِقَبُولِ الْعِلْمِ، وَتَدْبِيرِ الصَّنَائِعِ الْفِكْرِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ نُورٌ يُقْذَفُ
ـــــــ
1 هو عبد الله، محمد بن ادريس بن العباس بن شافع القرشي المطّلبي، الإمام الجليل، صاحب المذهب المعروف والمناقب الكثيرة، أشهر مصنفاته "الأم" في الفقه و "الرسالة" في أصول الفقه و "أحكام القرآن" و "اختلاف الحديث" و "جماع العلم". توفي سنة 204هـ. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللفات 1/ 44، طبقات الشافعية للسبكي 1/ 192، شذرات الذهب 2/ 9، المنهج الأحمد 1/ 63، وفيات الأعيان 3/ 305، طبقات المفسرين للداودي 2/ 98، الديباج المذهب 2/ 156، صفة الصفوة 2/ 248".
2 ساقطة من ش.
3 رواه عنه إبراهيم الحربي، ونص قول الإمام أحمد: "العقل غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف". "انظر المسودة ص556، ذم الهوى ص5".
4 هو الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله، قال ابن الصلاح: "كان إمام المسلمين في الفقه والتصوف والحديث والكلام". له مصنفات كثيرة في الزهد وأصول الدين والرد على المعتزلة والرافضة، وأشهر كتبه "الرعاية لحقوق الله" و "مائية العقل" توفي سنة 243هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 2/ 275، وفيات الأعيان 1/ 348، صفة الصفوة 2/ 367، شذرات الذهب 2/ 103".
5 في ش: بمكتسب.(1/80)
فِي الْقَلْبِ، كَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَالصِّبَا1 وَنَحْوُهُ حِجَابٌ لَهُ2.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: إنَّهُ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ، كَالضَّرُورِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَرْبَهَارِيُّ3 - مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا-: لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلا عَرَضٍ وَلا اكْتِسَابٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى4، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: "هَذَا5 يَقْتَضِي أَنَّهُ الْقُوَّةُ الْمُدْرِكَةُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلامُ أَحْمَدَ، لا الإِدْرَاكُ6".
"وَ" هُوَ أَيْضًا "بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ" عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَالأَكْثَرُ7. قَالَ فِي: "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَالأَكْثَرُ إلَى أَنَّهُ "بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. يُسْتَعَدُّ بِهَا لِفَهْمِ دَقِيقِ الْعُلُومِ، وَتَدْبِيرِ الصَّنَائِعِ الْفِكْرِيَّةِ".
ـــــــ
1 المراد بالصّبا حجاب له "أن العقل يكون ضعيفاً في مبتدأ العمر، فلا يزال يربي حتى تتم الأربعون، فينتهي نماؤه لاكتماله" فقبل اكتماله يكون الصبا حجاباً له. كما يكون حجاباً له طروء بعض العوارض كالجنون والعتة ونحوها. "انظر المسودة ص559".
2 قول المحاسبي هذا موجود بمعناه لا بلفظه في كتابه "مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه" ص201-238.
3 هو الحسن بن علي بن خلف، أبو محمد البربهاري، شيخ الحنابلة في زمانه. قال ابن أبي يعلى "كان أحد الأئمة العارفين والحفاظ للأصول المتقنين والثقات المؤمنين". أشهر مصنفاته "شرح كتاب السنة". توفي سنة 329هـ. "انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/ 18، المنهج الأحمد 2/ 21، شذرات الذهب 2/ 319، المنتظم 6/ 323".
4 انظر طبقات الحنابلة 2/ 26، المسودة ص556.
5 وعبارة المسودة: "والبربهاري كلامه يقتضي... الخ".
6 المسودة ص558.
7 انظر المسودة ص556 وما بعدها. والمراد بالعلوم الضرورية: كالعلم باستحالة اجتماع الضدين، ونقصان الواحد عن الاثنين، والعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. "المستصفى 1/ 23، إحياء علوم الدين 1/ 118".(1/81)
وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِنَا: الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ1، وَابْنُ الصَّبَّاغِ2، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيّ3. فَخَرَجَتْ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ4، لأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ عَاقِلاً، مَعَ انْتِفَاءِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ.
وَإِنَّمَا قَالُوا: "بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ". لأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعَهَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ5 بِالْمُدْرَكَاتِ، - لِعَدَمِ الإِدْرَاكِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا- غَيْرَ
ـــــــ
1 هو محمد بن الطيب بن محمد، القاضي أبو بكر الباقلاني، البصري المالكي الأشعري، الأصولي المتكلم، صاحب المصنفات الكثيرة في علم الكلام وغيره. قال ابن تيمية: "وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله، لا قبله ولا بعده". توفي سنة 403هـ. "انظر ترجمته في الديباج المذهب 2/ 228، شذرات الذهب 3/ 168، وفيات الأعيان 3/ 400 ترتيب المدارك 3/ 585".
2 هو عبد السيد بن محمد بن عبد الوحيد، أبو ناصر المعروف بابن الصباغ الشافعي، فقيه العراق في عصره، قال ابن عقيل: "لم أدرك فيمن رأيت وحاضرت من العلماء على اختلاف مذاهبهم من كملت لها شرائط الاجتهاد المطلق إلا ثلاثة: أبا يعلى بن الفراء، وأبا الفضل الهمذاني الفرضي، وأبا نصر بن الصباغ". أشهر كبته "الشامل" و "الكامل" في الفقه و "العدة" في أصول الفقه. توفي سنة 477هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 5/ 122، وفيات الأعيان 2/ 385، شذرات الذهب 3/ 355، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 299".
3 هو سُلَيْم بن أيوب بن سليم، أبو الفتح الرازي، الفقيه الأصولي، الأديب اللغوي المفسر. قال النووي: "كان إماماً جامعاً لأنواع من العلوم ومحافظاً على أوقاته لا يصرفها في غير طاعة". من مصنفاته "ضياء القلوب" في التفسير و "التقريب" و "الإشارة" و "المجرد" و "الكافي" في الفقه. توفي سنة 447هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 4/ 388، إنباه الرواة 2/ 69, وفيات الأعيان 2/ 133، طبقات المفسيرين للداودي 1/ 196, تهذيب الأسماء واللغات 1/ 231، شذارت الذهب 3/ 275".
4 في ش: السببية.
5 في ز: للعلوم.(1/82)
عَاقِلٍ1.
"وَمَحَلُّهُ"2 أَيْ مَحَلُّ الْعَقْلِ "الْقَلْبُ" عِنْدَ أَصْحَابِنَا3 وَالشَّافِعِيَّةِ وَالأَطِبَّاءِ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 4 أَيْ عَقْلٌ. فَعَبَّرَ بِالْقَلْبِ عَنْ الْعَقْلِ، لأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 5 وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} 6 فَجَعَلَ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ7. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ
ـــــــ
1 قال الباجي: "وأما ماحدّ به العقل "بأنه بعض العلوم الضرورية" فعندي أنه ينتقض بخبر أخبار التواتر وما يدرك بالحواس من العلوم، فإنه بعض العلوم الضرورية، ومع ذلك فإنه ليس بعقل. وأيضاً: فإن هذا ليس بطريق للتحديد، لأن التحديد إنما يراد به تفسير المحدود وتبيينه. وقولنا "عقل" أبين وأكثر تمييزاً مما ليس بعقل من قولنا "بعض العلوم الضرورية" فإنه لا يفهم من لفظ الحد ولا يتميز به عن غيره. ولذلك لا يجوز أن يقال في حد الجوهر إنه بعض المحدثات". ولهذا اتجه الباجي في تعريفه إلى أنه "العلم الضروري الذي يقع إبتداءً ويعم العقلاء" ليخرج بقيد "يقع ابتداءً وإنما ويعم العقلاء" العلم الواقع عن ادراك الحواس، وعلم الإنسان بصحته وسقمه وفرحه وحزنه، فإنه لا يقع ابتداءً، وإنما يقع بعد أن يوجد ذلك به، كما أنه لا يعم العقلاء، وإنما يختص بمن وجد به. وكذلك خبر أخبار التواتر، فإنه لا يعم العقلاء، وإنما يقع العلم به لمن سمع بذلك الخبر دون غيره. "انظر الحدود ص31-43".
2 في ب: وأصل.
3 قاله أبو الحسن التميمي والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وابن البنا وغيرهم. "انظر المسودة ص559 وما بعدها".
4 الآية 27 من ق.
5 الآية 46 من الحج.
6 الآية 179 من الأعراف. وفي ش ب ع ض: "ام لهم قلوب يعقلون بها" وفي ز: "ام لم قلوب يفقهون بها" وليس في القرآن آية كذلك.
7 فلولا أن العقل موجود في القلب لم وصُف بذلك حقيقة في قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} إذ لا يتصور أن توصف الأذن بأن يُرى بها أو يُشم بها؛ لأن الأصل إضافة منفعة كل عضو إليه، إلا ترى تتمة الآية {.. قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ، وكذا في قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ، "195 الأعراف"؛ فقد أضاف الله سبحانه إلى كل عضو المنفعة المخصوصة به، مما يثبت أن العقل منفعة القلب ومختص به. وممن ذهب إلى أن العقل محله القلب الإمام مالك والمتكلمون من أهل السنة. "انظر الحدود للباجي ص35".(1/83)
بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ: لا تَكُونُ إلاَّ فِي الْقَلْبِ.
"وَ" مَعَ هَذَا "لَهُ اتِّصَالٌ1 بِالدِّمَاغِ" قَالَهُ التَّمِيمِيُّ2 وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ فِي "شَرْحِ3 التَّحْرِيرِ": وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ فِي الدِّمَاغِ4. وَقَالَهُ الطُّوفِيُّ5 وَالْحَنَفِيَّةُ.
ـــــــ
1 في ز: الاتصال.
2 هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي، قال ابن أبي يعلى: "صحب أبا القاسم الخرقي وأبا بكر عبد العزيز، وصنف في الأصول والفروع والفرائض". توفي سنة 371هـ. "انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/ 139، المنهج الأحمد 2/ 66".
ونص كلام أبي الحسن التميمي: "والذي نقول به إن العقل في القلب، يعلو نوره إلى الدماغ، فيفيض منه إلى الحواس ما جرى في العقل". "انظر المسودة ص559".
3 ساقطة من ع ز.
4 نص على ذلك أحمد فيما ذكره أبو حفص بن شاهين بإسناده عن الفضل بن زياد، وقد سأله رجل عن العقل، أين منتهاه من البدن؟ فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: العقل في الرأس. أما سمعت إلى قولهم "وافر الدماغ والعقل". "انظر المسودة ص559 وما بعدها، ذم الهوى ص5 وما بعدها".
5 هو سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم، نجم الدين الطوفي الحنبلي، الفقيه الأصولي المتفنن. قال ابن رجب: "وكان شيعياً منحرفاً في الاعتقاد عن السنّة". له مصنفات كثيرة في فنون شتى، منها "مختصر روضة الناظر" في أصول الفقه، وقد شرح هذا المختصر في مجلدين و "معراج الوصول إلى علم الأصول" في أصول الفقه، و "بغية السائل في أمهات المسائل" في أصول الدين و "الاكسير في قواعد التفسير" و "الرياض النواضر في الأشياء والنظائر" و "دفع التعارض عما يوهم التناقض" في الكتاب والسنة. توفي سنة 716هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 366، الدرر الكامنة 2/ 249، شذرات الذهب 6/ 39، بغية الوعاة 1/ 599".(1/84)
وَقِيلَ1: إنْ قُلْنَا جَوْهَرٌ، وَإِلاَّ فِي الْقَلْبِ2.
"وَيَخْتَلِفُ" "الْعَقْلُ "كَالْمُدْرَكِ"3 بِهِ" أَيْ بِالْعَقْلِ، لأَنَّا نُشَاهِدُ قَطْعًا آثَارَ الْعُقُولِ فِي الآرَاءِ، وَالْحِكَمِ وَالْحِيَلِ وَغَيْرِهَا مُتَفَاوِتَةً4، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى "تَفَاوُتِ الْعُقُولِ فِي نَفْسِهَا. وَأَجْمَعَ الْعُقَلاءُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: "فُلانٌ أَعْقَلُ مِنْ فُلانٍ أَوْ5 أَكْمَلُ عَقْلاً" وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى"6 اخْتِلافِ مَا يُدْرَكُ بِهِ7.
ـــــــ
1 قال الماوردي: "وكل من نفى أن يكون العقل جوهراً أثبت محله في القلب، لأن القلب محل العلوم كلها". "أدب الدنيا والدين ص4".
2 وتظهر ثمرة الخلاف في محل العقل في مسألة من الفقه، وهي ما إذا شج رجل آخر موضحة "كشفت عظم رأسه" فذهب عقله! فالإمام مالك القائل بأن محله القلب ألزم الجاني دية العقل وأرش الموضحة، لأنه أتلف عليه منفعةً ليست في عضو الشجة فلا تكون الشجة تبعاً لها. والإمام أبو حنيفة الذاهب إلى أن محله الدماغ جعل عليه دية العقل فقط، لأنه لما شجّ رأسه وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج، دخل أرش الشجة في الدية. "الحدود للباجي ص34". ونظر الكلام على محل العقل "الكليات للكفوي ص250، فتح الرحمن ص22، ذم الهوى ص5، عمدة القاري 3/ 270".
3 في ز: ما يدرك.
4 ساقطة من ش ز.
5 في ش: و.
6 ساقطة من ش.
7 القول بتفاوت العقول وأن بعضها أكمل وأرجح من بعض ذهب إليه أبو محمد البربهاري والقاضي أبو يعلى وأبو الحسن التميمي من الحنابلة وغيرهم "انظر المسودة ص560، الكليات ص250، طبقات الحنابلة 2/ 26".(1/85)
وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ1 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنِّسَاءِ: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ مِثْلَ 2 نِصْفِ شَهَادَةِ 2 الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا"3.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْعَقْلُ لا يَخْتَلِفُ، لأَنَّهُ حُجَّةٌ عَامَّةٌ يَرْجِعُ إلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ اخْتِلافِهِمْ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْعُقُولُ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ4.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ5 - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ-: "إنَّ الْعَقْلَ الْغَرِيزِيَّ
ـــــــ
1 هو الصحابي الجليل سعد بن مالك بن سنان، أبو سعيد الخُدْري الأنصاري الخزرجي، استُصْغِر يوم أحد، فَرُدّ، ثم غزا بعد ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشر غزوة. وروى عنه الكثير من الأحاديث. قال ابن عبد البر: "كان بن نجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم" توفي سنة 74هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في الإصابة 2/ 35، الاستيعاب 2/ 47، صفة الصفوة 1/ 714، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 237".
2 في ش ز ض ب، شهادة نصف.
3 روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عمر، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد في مسنده. ولفظ البخاري: عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمرَّ على النساء فقال: يا معشر النساء تصدّقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها. "انظر صحيح البخاري وشرحه للعيني 3/ 270، سنن أبي داود 4/ 219، تحفة الأحوذي 7/ 358، مسند الأمام أحمد 2/ 67، 374".
4 انظر المسودة ص560.
5 هو علي بن محمد بن حبيب، القاضي أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي، أحد الأئمة الأعلام، صاحب المصنفات القيمة في مختلف الفنون. قال ابن العماد: "كان إماماً في الفقه والأصول والتفسير، بصيراً بالعربية". أهم مصنفاته "الحاوي" في الفقه و "النكت" في التفسير و "الأحكام السلطانية" و "أدب الدنيا والدين" و "أعلام النبوة". توفي سنة 450هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 423، طبقات المفسرين للسيوطي ص25، شذرات الذهب 3/ 286، وفيات الأعيان 2/ 444، طبقات الشافعية للسبكي 5/ 267".(1/86)
لا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّ التَّجَرُّبِيَّ1 يَخْتَلِفُ"2. وَحَمَلَ الطُّوفِيُّ الْخِلافَ عَلَى ذَلِكَ3.
وَ "لا" يَخْتَلِفُ مَا يُدْرَكُ "بِالْحَوَاسِّ. وَلا" 4يَخْتَلِفُ أَيْضًا "الإِحْسَاسُ4 قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: "الإِحْسَاسُ وَمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ
ـــــــ
1 في ش: التجزؤ، وهو خطأ. والمراد بالتجربي: ما يستفاد من التجارب، فإنه يسمى عقلاً، حكى ذلك الشهاب بن تيمية في المسودة ص559، وذكره الغزالي فقال: يطلق العقل على العلوم المستفادة من التجربة، حتى إن الم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلاً. "المستصفى 1/ 23، وانظر عمدة القاري 3/ 271".
2 ونص كلام الماوردي: "واعلم أنه بالعقل تعرف حقائق الأمور، ويفصل بين الحسنات والسيئات. وقد ينقسم قسمين: غريزي ومكتسب. فالغريزي: هو العقل الحقيقي، وله حدّ يتعلق به التكليف، لا يجاوزه إلى زيادة، ولا يقصر عنه إلى نقصان، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان، فإذا تمَّ في الإنسان سمي عقلاً، وخرج به إلى حدّ الكمال... وأما العقل المكتسب: فهو نتيجة العقل الغريزي، وهو نهاية المعرفة وصحة السياسة وإصابة الفكرة، وليس لهذا حدّ، لأنه ينمو إن استعمل، وينقص إن أهمل... الخ" "أدب الدنيا والدين ص3، 5".
3 قال الشيخ زكريا الأنصاري: "وفي تفاوت العقول قولان "أحدهما" نعم، نظراً إلى كثرة التعليقات، لتفاوت العلم بها. وعليه المحققون. "الثاني": لا، لأن العقل في ذاته واحد. وفي الحقيقة لا خلاف، لأن الأول ينظر إلى التعليقات، والثاني لا ينظر إليها". "فتح الرحمن ص22" وقد بحث الغزالي في "الإحياء" موضوع تفاوت العقول بحثاً مستفيضاً، وخلاصته أن العقول تتفاوت إذا أردنا بالعقل الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لإدراك العلوم النظرية، أو أردنا به علوم التجارب، أو أردنا به استيلاء القوة على قمع الشهوات المفضية إلى الندامة. أما إذا عنينا به العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، فإنه لا يتطرق إليه التفاوت بهذا المعنى. "انظر إحياة علوم الدين 1/ 121 وما بعدها".
4 في ز: ما يدرك بالإحساس.(1/87)
لا1 يَخْتَلِفُ، بِخِلافِ مَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ2. فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ مَا يُدْرَكُ بِهِ. وَهُوَ التَّمْيِيزُ وَالْفِكْرُ. [فَيَقِلُّ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ، وَيَكْثُرُ فِي حَقِّ بَعْضٍ]3 فَلِهَذَا يَخْتَلِفُ"4 انْتَهَى.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: [وَهَذَا]5 يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْعِلْمَ الْحِسِّيَّ لَيْسَ مِنْ الْعَقْلِ". قَالَ: "وَلَنَا فِي الْمَعْرِفَةِ الإِيمَانِيَّةِ فِي الْقَلْبِ: هَلْ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ؟ رِوَايَتَانِ.
فَإِذَا قِيلَ: إنَّ النَّظَرِيَّ لا يَخْتَلِفُ. فَالضَّرُورِيُّ أَوْلَى.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ جِنْسِ مَسْأَلَةِ الإِيمَانِ، وَإِنَّ الأَصْوَبَ: أَنَّ الْقُوَى الَّتِي هِيَ الإِحْسَاسُ6 وَسَائِرُ الْعُلُومِ وَالْقُوَى تَخْتَلِفُ"7 انْتَهَى.
ـــــــ
1 في ش: لا وقال الشيخ تقي الدين يختلفان.
2في ز: العقل.
3 زيادة من الرواية عن إبي يعلى المذكورة في "المسودة" ص558.
4 انظر المسودة ص557 وما بعدها.
5 زيادة من المسودة.
6 في المسودة: الإحساسات.
7 المسودة ص588. ونص الشيخ تقي الدين بن تيمية بكامله ساقط من ز ع ض..(1/88)
"فَصْلٌ"
"الْحَدُّ لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ "الْمَنْعُ" وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا؛ لأَنَّهُ يَمْنَعُ مَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ، وَالْحُدُودُ حُدُودًا، لأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ الْعَوْدِ إلَى الْمَعْصِيَةِ، وَإِحْدَادُ الْمَرْأَةِ فِي عِدَّتِهَا، لأَنَّهَا1 تُمْنَعُ2 مِنْ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ، وَسُمِّيَ التَّعْرِيفُ حَدًّا لِمَنْعِهِ الدَّاخِلَ مِنْ الْخُرُوجِ، وَالْخَارِجَ مِنْ الدُّخُولِ3.
"وَ" الْحَدُّ "اصْطِلاحًا" أَيْ فِي الاصْطِلاحِ: "الْوَصْفُ الْمُحِيطُ بِمَوْصُوفِهِ". وَفِي "التَّحْرِيرِ": "الْمُحِيطُ بِمَعْنَاهُ"، أَيْ بِمَعْنَى الْمَحْدُودِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَدُّ الشَّيْءِ الْوَصْفُ الْمُحِيطُ بِمَعْنَاهُ "الْمُمَيِّزُ لَهُ" أَيْ لِلْمَحْدُودِ "عَنْ غَيْرِهِ"4. وَكِلا اللَّفْظَيْنِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. لَكِنْ مَا قُلْنَاهُ أَوْضَحُ. وَمَا فِي "التَّحْرِيرِ" حَكَاهُ عَنْ الْعَسْقَلانِيِّ5 شَارِحِ الطُّوفِيِّ6.
ـــــــ
1 ساقطة من ب.
2 في د ض ب: تمتنع.
3 انظر القاموس المحيط 1/ 296، المصباح المنير ص 194 وما بعدها، مفردات الراغب ص 108.
4 تعريف الحد الذي عزاه للتحرير هو قول الراغب الأصبهاني "انظر المفردات ص108".
5 هو علاء الدين علي بن محمد بن علي الكناني العسقلاني الحنبلي، قاضي دمشق. قال ابن العماد: "كان فاضلاً متواضعاً ديّناً عفيفاً". توفي سنة 776هـ. وذكر السخاوي في ذيله على رفع الإصر أنه شرح مختصر الطوفي، ومات عنه مسودة، فبيضه بعد وفاته حفيده من ابنته القاضي عز الدين أبو البركات أحمد بن إبراهيم بن نصر الله الكناني العسقلاني الحنبلي المتوفي سنة 876هـ. "انظر شذرات الذهب 6/ 243، الذيل على رفع الإصر ص29، المدخل إلى مذهب أحمد ص239".
6 للشيخ الطوفي سليمان بن عبد القوي المتوفي سنة 716 هـ، مختصر لروضة ابن قدامة في أصول الفقه. قال الحافظ ابن حجر عنه: "إنه اختصره على طريقة ابن الحاجب، حتى أنه استعمل أكثر ألفاظ المختصر، وشرح مختصره شرحاً حسناً". كما شرحه أيضاً القاضي علاء الدين العسقلاني. "انظر الدرر الكامنة 2/250، المدخل إلى مذهب أحمد ص238 وما بعدها".(1/89)
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ1: "قِيلَ حَدُّ الشَّيْءِ نَفْسُهُ2 وَذَاتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُفَسِّرُ لِمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ وَيَمْنَعُ"3. انْتَهَى.
وَقِيلَ: هُوَ شَرْحُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِطَرِيقِ الإِجْمَالِ4. وَقَدَّمَ5 فِي6 "نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ": أَنَّهُ قَوْلٌ يَكْشِفُ حَقِيقَةَ الْمَحْدُودِ وَذَكَرَ فِيهِ ثَمَانِيَةَ أَقْوَالٍ7.
"وَهُوَ" أَيْ الْحَدُّ "أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ" قَالَ الْفَخْرُ إسْمَاعِيلُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ8 - مِنْ أَصْحَابِنَا-: الْحَدُّ عَلَى9 الْحَقِيقَةِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ فَمَنْ لا
ـــــــ
1 هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي، أبو حامد، الملقب بحجة الإسلام. قال ابن السبكي: "جامع أشتات العلوم، والبرِّز في المنقول منها والمفهوم". صاحب التصانيف المفيدة في الفنون العديدة كـ"المستصفى" و "المنخول" في أصول الفقه و "الوسيط" و "البسيط" و "الوجيز" و "الخلاصة" في الفقه و "إحياء علوم الدين" و "تهافت الفلاسفة" و "معيار العلم" و "المنقذ من الضلال". توفي سنة 505هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 6/ 191-389، وفيات الأعيان 3/ 353، شذرات الذهب 4/ 10".
2 في المستصفى: حقيقته.
3 المستصفى 1/ 21.
4 قاله القرافي. "شرح تنقيح الفصول ص4".
5 أي ابن حمدان، أحمد بن حمدان بن شبيب الحنبلي المتوفي سنة 695هـ.
6 في ش: في طريق.
7 انظر تفصيل الكلام على الحد وأقسامه وشروطه "المستضفى 1/ 12، روضة الناظر وشرحها لبدران 1/ 26، العضد على ابن الحاجب 1/ 68، المحلي على جمع الجوامع 1/ 132، شرح تنقيح الفصول ص4، تحرير القواعد المنطقية ص78، فتح الرحمن ص45، إيضاح المبهم ص9، كشف الأسرار 1/ 21، مفردات الراغب ص108، التعريفات ص87، اللمع ص2، الحدود ص23، عليش على شرح ايساغوجي ص60".
8 هو اسماعيل بن علي بن الحسين البغدادي الأزجي الحنبلي، الفقيه الأصولي النظّار المتكلم، الملقب بفخر الدين، والمشهور بغلام ابن المنّي. قال المنذري: "وكانت له معرفة حسنة بالفقه والجدل، وتكلم في مسائل الكلام. وكان حسن الكلام". له تصانيف في الخلاف والجدل، منا "التعليقة" المشهورة و "والمفردات" و "جَنّة الناظر وجُنّة المناظر" في الجدل. توفي سنة 610هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 66، شذرات الذهب 5/ 41، التكملة لوفيات النقلة 4/ 59".
9 في ض: في.(1/90)
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ1: "قِيلَ حَدُّ الشَّيْءِ نَفْسُهُ2 وَذَاتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُفَسِّرُ لِمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ وَيَمْنَعُ"3. انْتَهَى.
وَقِيلَ: هُوَ شَرْحُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِطَرِيقِ الإِجْمَالِ4. وَقَدَّمَ5 فِي6 "نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ": أَنَّهُ قَوْلٌ يَكْشِفُ حَقِيقَةَ الْمَحْدُودِ وَذَكَرَ فِيهِ ثَمَانِيَةَ أَقْوَالٍ7.
"وَهُوَ" أَيْ الْحَدُّ "أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ" قَالَ الْفَخْرُ إسْمَاعِيلُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ8 - مِنْ أَصْحَابِنَا-: الْحَدُّ عَلَى9 الْحَقِيقَةِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ فَمَنْ لا
ـــــــ
1 هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي، أبو حامد، الملقب بحجة الإسلام. قال ابن السبكي: "جامع أشتات العلوم، والبرِّز في المنقول منها والمفهوم". صاحب التصانيف المفيدة في الفنون العديدة كـ"المستصفى" و "المنخول" في أصول الفقه و "الوسيط" و "البسيط" و "الوجيز" و "الخلاصة" في الفقه و "إحياء علوم الدين" و "تهافت الفلاسفة" و "معيار العلم" و "المنقذ من الضلال". توفي سنة 505هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 6/ 191-389، وفيات الأعيان 3/ 353، شذرات الذهب 4/ 10".
2 في المستصفى: حقيقته.
3 المستصفى 1/ 21.
4 قاله القرافي. "شرح تنقيح الفصول ص4".
5 أي ابن حمدان، أحمد بن حمدان بن شبيب الحنبلي المتوفي سنة 695هـ.
6 في ش: في طريق.
7 انظر تفصيل الكلام على الحد وأقسامه وشروطه "المستضفى 1/ 12، روضة الناظر وشرحها لبدران 1/ 26، العضد على ابن الحاجب 1/ 68، المحلي على جمع الجوامع 1/ 132، شرح تنقيح الفصول ص4، تحرير القواعد المنطقية ص78، فتح الرحمن ص45، إيضاح المبهم ص9، كشف الأسرار 1/ 21، مفردات الراغب ص108، التعريفات ص87، اللمع ص2، الحدود ص23، عليش على شرح ايساغوجي ص60".
8 هو اسماعيل بن علي بن الحسين البغدادي الأزجي الحنبلي، الفقيه الأصولي النظّار المتكلم، الملقب بفخر الدين، والمشهور بغلام ابن المنّي. قال المنذري: "وكانت له معرفة حسنة بالفقه والجدل، وتكلم في مسائل الكلام. وكان حسن الكلام". له تصانيف في الخلاف والجدل، منا "التعليقة" المشهورة و "والمفردات" و "جَنّة الناظر وجُنّة المناظر" في الجدل. توفي سنة 610هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 66، شذرات الذهب 5/ 41، التكملة لوفيات النقلة 4/ 59".
9 في ض: في.(1/91)
الدِّينِ"، وَالطُّوفِيُّ فِي "شَرْحِهِ"1. فَقَالُوا: كَوْنُهُ مُطَّرِدًا هُوَ الْجَامِعِ. وَكَوْنُهُ مُنْعَكِسًا هُوَ الْمَانِعُ2.
وَيَجِبُ مُسَاوَاةُ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ، لأَنَّهُ إنْ كَانَ أَعَمَّ فَلا دَلالَةَ لَهُ عَلَى الأَخَصِّ وَلا يُفِيدُ التَّمْيِيزَ. وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ فَلأَنَّهُ أَخْفَى. لأَنَّهُ أَقَلُّ وُجُودًا مِنْهُ، وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ لا يَكُونَ فِي لَفْظِهِ مَجَازٌ وَلا مُشْتَرَكٌ، لأَنَّ الْحَدَّ مُمَيِّزٌ لِلْمَحْدُودِ، وَلا يَحْصُلُ الْمَيْزُ3 مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا4.
"وَهُوَ" أَيْ: الْحَدُّ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:
الأَوَّلُ : "حَقِيقِيٌّ تَامٌّ"5 وَهُوَ الأَصْلُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ حَقِيقًا تَامًّا "إنْ
ـــــــ
1 بعد أن اختصر الطوفي روضة ابن قدامة، شرح مختصره هذا في مجلدين، قال الحافظ ابن حجر عنه: إنه شرح حسن، وقال ابن بدران: "إنه حقق فيه فن الأصول، وأبان فيه عن باع واسع في هذا الفن واطلاع وافر، وبالجملة فهو أحسن ما صنف في هذا الفن وأجمعه وأنفعه. مع سهولة العبارة وسبكها في قالب يدخل القلوب بلا استئذان". "انظر المدخل إلى مذهب أحمد ص238، الدرر الكامنة 2/ 250".
2 انظر شرح تنقيح الفصول للقرفي ص7.
3 في ش د ع: المميز.
4 إذا الاشتراك مخل بفهم المعنى المقصود، كما أن الغالب تبادر المعاني الحقيقية إلى الفهم دون المجازية، بَيْدَ أنَّ المحققين من الأصوليين والمتكلمين ذهبوا إلى جواز دخول الألفاظ المجازية والمشتركة في الحدود إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد. "انظر المستصفى 1/ 16، شرح تنقيح الفصول ص9، تحرير القواعد المنطقية ص81، إيضاح المبهم ص9، فتح الرحمن ص47، العضد على ابن الحاجب 1/ 38، كشف الأسرار 1/ 21".
5 ويتركب من الجنس والفصل القريبين. وإنما سُمَي تامّاً لذكر جميع الذاتيات فيه. "انظر تحرير القواعد المنطقية ص79، شرح زكريا الأنصاري على إيساغوجي ص63، فتح الرحمن ص45".(1/92)
أَنْبَأَ عَنْ ذَاتِيَّاتِ1 الْمَحْدُودِ الْكُلِّيَّةِ2 الْمُرَكَّبَةِ3" كَقَوْلِك: مَا الإِنْسَانُ ؟ فَيُقَالُ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ4. "وَلِذَا" أَيْ وَلِهَذَا الْقِسْمِ "حَدٌّ وَاحِدٌ" لأَنَّ ذَاتَ الشَّيْءِ لا يَكُونُ لَهَا حَدَّانِ.
فَإِنْ قِيلَ: جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِ الشَّيْءِ عَيْنُ الشَّيْءِ، وَالشَّيْءُ لا يُفَسِّرُ نَفْسَهُ؟
فَالْجَوَابُ: إنَّ دَلالَةَ الْمَحْدُودِ: مِنْ حَيْثُ الإِجْمَالُ، وَدَلالَةُ الْحَدِّ: مِنْ حَيْثُ
ـــــــ
1 المراد بالذاتي: كل وصف يدخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولاً لا يتصور فهم معناه بدون فهمه. كالجسمية للفرس، واللونية للسوداء. فإن من فهم الفرس، فقد فهم جسماً مخصوصاً؛ فالجسمية دَاخلة في ذات الفرسية دخولاً به قوامها في الوجود والعقل، بحيث لو قُدّر عدمها في العقل، لبطل وجود الفرس، ولو خرجت عن الذهن لبطل فهم الفرس. وقد احترز المصنف بقوله "ذاتيات المحدود" عن عرضياته. "انظر المستصفى 1/ 13، العضد على ابن الحاجب 1/ 72، روضة الناظر وشرحها لبدران 1/ 29".
2 المراد بالكلّي: مالا يمنع نفس تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، بحيث يصح حمله على كل فرد من أفراده: كالإنسان: فإنَّ مفهومه إذا تصور لم يمنع من صدقه على كثيرين، بأن تقول: زيد إنسان، وعمرو إنسان، وبكر إنسان.. الخ "شرح الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص39، فتح الرحمن ص53". قال الجراجاني: وقد احترز بالكليّة عن المشَخَّصات التي هي ذاتيات للأشخاص من حيث هي أشخاص، إذ لا يتركب الحد منها، فإن الأشخاص لا تحدّ، بل طريق إدراكها الحواس الظاهرة أو الباطنة، وإنما الحدّ للكليات المرتسمة في العقل دون الجزئيات المنطبعة في الآلات. "حاشية الجرجاني على شرح العضد 1/ 69 وما بعدها".
3 المراد بالمركبة: أي التي رُكَب بعضها مع بعض على ما ينبغي، لأنها فرادى لا تفيد الحقيقة لفقد الصورة، فينتفي الحد الحقيقي التام. "انظر شرح العضد وحاشية الجرجاني عليه 1/ 69 وما بعدها".
4 سبق أن بينا المراد بالحيوان في ص71، أما الناطق، فالمراد به في هذا المقام: المحصّل للعلوم بقوة الفكر، وليس المقصود به النطق اللساني، لأن الأخرس والساكت يعتبر إنساناً. "شرح تنقيح الفصول ص13".(1/93)
التَّفْصِيلُ. فَلَيْسَ عَيْنَهُ1 مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَصَحَّ تَعْرِيفُهُ بِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ اللَّفْظَانِ مُتَرَادِفَيْنِ إلاَّ إذَا كَانَ الْحَدُّ2 لَفْظِيًّا عَلَى مَا يَأْتِي:
"وَ" الْقِسْمُ الثَّانِي: حَقِيقِيٌّ "نَاقِصٌ"3 وَلَهُ صُورَتَانِ، أُشِيرَ إلَى الأُولَى مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ "إنْ كَانَ بِفَصْلٍ قَرِيبٍ فَقَطْ" كَقَوْلِنَا: مَا الإِنْسَانُ؟ فَيُقَالُ: النَّاطِقُ وَأُشِيرَ إلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ "أَوْ مَعَ جِنْسٍ بَعِيدٍ" أَيْ إنْ كَانَ الْحَدُّ بِفَصْلٍ قَرِيبٍ مَعَ جِنْسٍ بَعِيدٍ، كَقَوْلِنَا: مَا الإِنْسَانُ؟ فَيُقَالُ: جِسْمٌ نَاطِقٌ. فَالْجِنْسُ الْبَعِيدُ: هُوَ الْجِسْمُ. وَالْفَصْلُ الْقَرِيبُ هُوَ النَّاطِقُ4.
ـــــــ
1 في ش: عليه.
2 في ش: المحدود.
3 وإنما سمي ناقصاً لعدم ذكر جميع الذاتيات فيه. "شرح الأنصاري على إيساغوجي ص66، تحرير القواعد المنطقية ص80".
4 تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الكلي إن كان داخلاً في الذات، بحيث يكون جزءاً من المعنى المدلول للّفظ، فيقال له كلي ذاتي، كالحيوان الناطق بالنسبة للإنسان. وإن كان خارجاً عن الذات بأن لم يكن كذلك، فيسمى كلّياً عرضياً، كالماشي والضاحك بالنسبة له. والكلي الذاتي: إما أن يكون مشتركاً بين الماهية وبين غيرها وإما يكون مختصاً بها. فالأول يسمى "جنساً"، كالحيوان بالنسبة للإنسان. والثاني يسمى "فصلاً" كالناطق بالنسبة له. والكلّي العرضي إما أن يكون مشتركاً بين الماهية وبين غيرها وإما أن يكون مختصاً بها. فإن كان مشتركاً بين الماهية وغيرها، فيسمى "عرضاً عامّاً" كالماشي بالنسبة للإنسان. وإن كان خاصاً بها فيسمى "خاصّة"، كالضحك بالنسبة له. والكلّي الذي هو عبارة عن نفس الماهية، كالإنسان، فإنه عبارة عن مجموع الحيوان الناطق، فيسمى "نوعاً".
فهذه هي الكليات الخمس التي هي مبادئ التصورات. ثم إن الجنس ثلاثة أقسام: قريب كالحيوان بالنسبة للإنسان. وبعيد: كالجسم بالنسبة له. ومتوسط: كالجسم النامي بالنسبة له. أما الفصل فينقسم إلى قسمين: قريب وبعيد. فالقريب كالناطق بالنسبة للإنسان. والبعيد كالحسّاس بالنسبة له. "انظر تفصيل الموضوع في تحرير القواعد المنطقية ص46 وما بعدها، شرح الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص43 وما بعدها. إيضاح المبهم ص7. العضد على ابن الحاجب 1/ 76 وما بعدها، فتح الرحمن ص54، المنطق لمحمد المبارك عبد الله ص27 وما بعدها".(1/94)
"وَ" الْقِسْمُ الثَّالِثُ: "رَسْمِيٌّ" أَيْ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ، وَهُوَ "تَامٌّ إنْ كَانَ بِخَاصَّةٍ مَعَ جِنْسٍ قَرِيبٍ" كَقَوْلِنَا: مَا الإِنْسَانُ؟ فَيُقَالُ: حَيَوَانٌ ضَاحِكٌ. فَالْجِنْسُ الْقَرِيبُ: هُوَ الْحَيَوَانُ، وَالْخَاصَّةُ: هُوَ الضَّاحِكُ.
"وَ" الْقِسْمُ الرَّابِعُ: رَسْمِيٌّ "نَاقِصٌ" وَلَهُ صُورَتَانِ، أُشِيرَ إلَى الأُولَى مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ "إنْ كَانَ بِهَا" أَيْ بِالْخَاصَّةِ "فَقَطْ" كَـ"الإِنْسَانِ1 ضَاحِكٌ2". وَأُشِيرَ إلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الرَّسْمِيِّ النَّاقِصِ بِقَوْلِهِ "أَوْ مَعَ جِنْسٍ بَعِيدٍ": أَيْ إنْ كَانَ الْحَدُّ بِالْخَاصَّةِ مَعَ جِنْسٍ3 بَعِيدٍ. كَـ"الإِنْسَانِ جِسْمٌ ضَاحِكٌ".
"وَ" الْقِسْمُ الْخَامِسُ: مِنْ أَقْسَامِ الْحَدِّ: "لَفْظِيٌّ: إنْ كَانَ" الْحَدُّ "بِـ" لَفْظٍ "مُرَادِفٍ أَظْهَرَ" أَيْ هُوَ أَشْهَرُ عِنْدَ السَّائِلِ مِنْ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْخَنْدَرِيسُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ4 الْخَمْرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
"وَيَرِدُ عَلَيْهِ": أَيْ عَلَى الْحَدِّ فِي فَنِّ الْجَدَلِ "النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ" قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": عِنْدَ الأَكْثَرِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي "شَرْحِ التَّنْقِيحِ": "فَإِنْ قُلْت: إذَا لَمْ يُطَالِبْ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِّ بِالدَّلِيلِ5 وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ بُطْلانَهُ فَكَيْفَ الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ؟ قُلْت: الطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَمْرَانِ:
ـــــــ
1 في ش: كالإنسان جسم.
2 ساقطة من ع.
3 في ب: الجنس.
4 ساقطة من ش.
5 في ش: بدليل.(1/95)
أَحَدُهُمَا: النَّقْضُ كَمَا لَوْ قَالَ: الإِنْسَانُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَيَوَانِ. فَيُقَالُ: [لَهُ]1 : يُنْتَقَضُ عَلَيْك بِالْفَرَسِ. فَإِنَّهُ حَيَوَانٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ.
وَثَانِيهِمَا: الْمُعَارَضَةُ: كَمَا لَوْ قَالَ: الْغَاصِبُ مِنْ الْغَاصِبِ يَضْمَنُ، لأَنَّهُ غَاصِبٌ، أَوْ وَلَدُ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ، لأَنَّهُ مَغْصُوبٌ، لأَنَّ2 حَدَّ الْغَاصِبِ: "مَنْ وَضَعَ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ". وَهَذَا وَضَعَ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَكُونُ غَاصِبًا. فَيَقُولُ الْخَصْمُ: أُعَارِضُ هَذَا الْحَدَّ بِحَدٍّ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْغَاصِبِ: "مَنْ رَفَعَ الْيَدَ الْمُحِقَّةَ وَوَضَعَ الْيَدَ الْمُبْطِلَةَ". وَهَذَا لَمْ يَرْفَعْ الْيَدَ الْمُحِقَّةَ، فَلا يَكُونُ غَاصِبًا"3.
"لا الْمَنْعُ" يَعْنِي أَنَّهُ لا يَرِدُ الْمَنْعُ عَلَى4 الْحَدِّ. قَالَ فِي "التَّحْرِيرِ": فِي الأَصَحِّ. ثُمَّ قَالَ فِي "الشَّرْحِ": وَمَا قِيلَ بِالْجَوَازِ فَخَطَأٌ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ غَالِبًا. وَلِهَذَا لا يَجُوزُ مَنْعُ النَّقْلِ لِتَكْذِيبِ5 النَّاقِلِ، وَلأَنَّهُ لا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلاَّ بِالْبُرْهَانِ، وَهُمَا مُقَدِّمَتَانِ. فَطَالِبُ الْحَدِّ يَطْلُبُ تَصَوُّرَ كُلِّ مُفْرَدٍ. فَإِذَا أَتَى الْمَسْئُولُ بِحَدِّهِ وَمُنِعَ، احْتَاجَ فِي إثْبَاتِهِ إلَى6 مِثْلِ7 الأَوَّلِ، وَتَسَلْسَلَ.
ثُمَّ لِلْجَدَلِ اصْطِلاحٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى أَرْبَابِهِ.
ـــــــ
1 زيادة من شرح التنقيح.
2 في ع ض: لأن بيان.
3 شرح تنقيح الفصول ص7، 8. والفقرة السابقة لهذا النص: "قاعدة: أربعة لايقام عليها برهان، ولا يُطلب عليها دليل، ولا يقال فيها لِمَ؟ فإن ذلك كله نمط واحد، وهي: الحدود والعوئد والإجماع والاعتقادات الكائنة في النفوس. فلا يطلب دليل على كونها في النفوس، بل على صحة وقوعها في نفس الأمر. فإن قلت:... الخ".
4 في ش: في.
5 في ب ض ع: كتكذيب.
6 ساقطة من ش.
7 ساقطة من ب.(1/96)
"فَصْلٌ"فِي اللُّغَةِ
وَأَصْلُهَا: لِغْوَةٌ، عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٌ. مِنْ لَغَوْت: إذَا تَكَلَّمْت. وَهِيَ تَوْقِيفٌ وَوَحْيٌ، لا اصْطِلاحٌ وَتَوَاطُؤٌ عَلَى الأَشْهَرِ1. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى وَكِيعٌ2 فِي "تَفْسِيرِهِ" بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ3 فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 4. قَالَ "عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ. حَتَّى عَلَّمَهُ الْقَصْعَةَ وَالْقُصَيْعَةَ، وَالْفَسْوَةَ وَالْفُسَيَّةَ"5 وَلِمَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ6 فِي "تَفْسِيرِهِ" مِنْ
ـــــــ
1 انظر تحقيق مسألة اللغة هل هي توقيف أم اصطلاح في "المزهر 1/ 16 وما بعدها، المستصفى 1/ 318 وما بعدها، إرشاد الفحول ص12 وما بعدها، المسودة ص562، المحلي على جمع الجوامع 1/ 269 وما بعدها، نهاية السول 1/ 211، العضد على ابن الحاجب 1/ 194 وما بعدها، الخصائص 1/ 40 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 73 وما بعدها، الصاحبي ص31 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 183، التمهيد للأسنوي ص31".
2 هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي، الإمام الحافظ الثبت، محدث العراق. قال أحمد: "ما رأيت أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع". أشهر مصنفاته "التفسير" توفي سنة 197هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 2/ 357، طبقات الحنابلة 1/ 391، شذرات الذهب 1/ 349".
3 هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، حبر الأمة، وترجمان القرآن، وأحد الستة المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بقوله "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" توفي بالطائف سنة 68هـ. "انظر ترجمته في الإصابة 2/ 232، الاستيعاب 2/ 350، شذرات الذهب 1/ 75، طبقات المفسرين للداودي 1/ 232، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 274".
4 الآية 31 من البقرة.
5 تفسير الطبري 1/ 215.
6 هو محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبري، الإمام الجليل والمجتهد المطلق. قال الخطيب البغدادي: "كان أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم مالم يشاركه فيه أحد من أهل عصره". له كتاب "التفسير" و "التاريخ" و "اختلاف العلماء" و "التبصير في أصول الدين" وغيرها. توفي سنة 310هـ. "نظر ترجمته في وفيات الأعيان 3/ 332، طبقات الشافعية للسبكي 3/ 120، شذرات الذهب 2/ 260، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 78، المنتظم 6/ 170".(1/97)
طَرِيقِ الضَّحَّاكِ1 إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}. قَالَ: "هِيَ هَذِهِ الأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ الآنَ نَحْوُ2: إنْسَانٌ، دَابَّةٌ، أَرْضٌ، سَهْلٌ، بَحْرٌ، جَبَلٌ، حِمَارٌ. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ الأَسْمَاءِ3 وَغَيْرِهَا"4.
ثُمَّ إنَّ أَلْفَاظَ اللُّغَةِ5 تَنْقَسِمُ إلَى مُتَوَارِدَةٍ، وَإِلَى مُتَرَادِفَةٍ.
فَالْمُتَوَارِدَةُ: كَمَا تُسَمَّى الْخَمْرُ عُقَارًا. تُسَمَّى6 صَهْبَاءَ وَقَهْوَةً، وَالسَّبُعَ: لَيْثًا، وَأَسَدًا وَضِرْغَامًا.
وَالْمُتَرَادِفَةُ: هِيَ الَّتِي يُقَامُ لَفْظٌ مَقَامَ لَفْظٍ، لَمَعَانٍ مُتَقَارِبَةٍ، يَجْمَعُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ، كَمَا يُقَالُ: أَصْلَحَ الْفَاسِدَ. وَلَمَّ الشَّعَثَ، وَرَتَقَ الْفَتْقَ، وَشَعَبَ الصَّدْعَ7. وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَلِيغُ فِي بَلاغَتِهِ. فَبِحُسْنِ الأَلْفَاظِ وَاخْتِلافِهَا
ـــــــ
1 هو الضحاك بن مز احم الهلالي، أبو القاسم الخراساني المفسر، روى عنه تفسيره عبيد بن سليمان. توفي سنة 102هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 216، شذرات الذهب 1/ 124".
2 ساقطة من ش ز ع.
3 في ش: الأمم.
4 تفسير الطبري 1/ 215.
5 أي التي بمعنى واحد. "المزهر 1/ 406".
6 في ش: تسميه.
7 تقسيم الألفاظ التي بمعنى واحد إلى متواردة ومترادفة قاله الكيا الهراسي في تعليقته في الأصول، ونقله عنه السيوطي في المزهر وقال عنه: إنه تقسيم غريب. "انظر المزهر 1/ 406".(1/98)
عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ تُرَصَّعُ الْمَعَانِي فِي الْقُلُوبِ، وَتَلْتَصِقُ بِالصُّدُورِ، وَتَزِيدُ حُسْنَهُ وَحَلاوَتَهُ بِضَرْبِ الأَمْثِلَةِ وَالتَّشْبِيهَاتِ الْمَجَازِيَّةِ1.
ثُمَّ تَنْقَسِمُ الأَلْفَاظُ أَيْضًا إلَى مُشْتَرَكَةٍ، وَإِلَى عَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ، - وَتُسَمَّى مُسْتَغْرِقَةً- وَإِلَى مَا هُوَ مُفْرَدٌ بِإِزَاءِ مُفْرَدٍ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ2.
وَالدَّاعِي إلَى ذِكْرِ اللُّغَةِ هَاهُنَا: لِكَوْنِهَا مِنْ الأُمُورِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْهَا هَذَا الْعِلْمُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الاسْتِدْلال مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، اللَّذَيْنِ هُمَا أَصْلُ الإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَكَانَا أَفْصَحَ الْكَلامِ الْعَرَبِيِّ: اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْعَرَبِ، لِتَوَقُّفِ الاسْتِدْلالِ مِنْهُمَا عَلَيْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: مَنْ سَبَقَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، إنَّمَا كَانَ مَبْعُوثًا لِقَوْمِهِ خَاصَّةً فَهُوَ مَبْعُوثٌ بِلِسَانِهِمْ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3 مَبْعُوثٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. فَلِمَ لَمْ يُبْعَثْ بِجَمِيعِ الأَلْسِنَةِ، وَلَمْ يُبْعَثْ إلاَّ بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ، وَهُمْ الْعَرَبُ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَوْ بُعِثَ بِلِسَانِ جَمِيعِهِمْ، لَكَانَ كَلامُهُ خَارِجًا عَنْ الْمَعْهُودِ، وَيَبْعُدُ بَلْ يَسْتَحِيلُ - أَنْ تَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مُكَرَّرَةً بِكُلِّ الأَلْسِنَةِ. فَيَتَعَيَّنُ الْبَعْضُ. وَكَانَ لِسَانُ الْعَرَبِ أَحَقَّ، لأَنَّهُ أَوْسَعُ وَأَفْصَحُ، وَلأَنَّهُ لِسَانُ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ.
ـــــــ
1 انظر المزهر 1/ 37.
2 انظر المزهر 1/ 38.
3 في ش: مثلهم.(1/99)
وَلَمَّا خَلْقَ اللَّهُ تَعَالَى النَّوْعَ الإِنْسَانِيَّ، وَجَعَلَهُ مُحْتَاجًا لأُمُورٍ لا يَسْتَقِلُّ بِهَا، بَلْ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْمُعَاوَنَةِ: كَانَ لا بُدَّ لِلْمُعَاوِنِ مِنْ الاطِّلاعِ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْمُحْتَاجِ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ: مِنْ لَفْظٍ، أَوْ إشَارَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ مِثَالٍ أَوْ نَحْوِهِ1.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَ "اللُّغَةُ" فِي الدَّلالَةِ عَلَى ذَلِكَ "أَفْيَدُ" أَيْ أَكْثَرُ فَائِدَةً "مِنْ غَيْرِهَا" لأَنَّ اللَّفْظَ يَقَعُ عَلَى الْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ، وَالْحَاضِرِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ "وَأَيْسَرُ لِخِفَّتِهَا" لأَنَّ الْحُرُوفَ كَيْفِيَّاتٌ تَعْرِضُ لِلنَّفَسِ الضَّرُورِيِّ، فَلا يَتَكَلَّفُ لَهَا مَا يَتَكَلَّفُ لِغَيْرِهَا2.
"وَسَبَبُهَا" أَيْ سَبَبُ وَضْعِهَا "حَاجَةُ النَّاسِ" إلَيْهَا. قَالَ3 إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ4: "إنَّ الإِنْسَانَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ فِي مُهِمَّاتِهِ وَمُقِيمَاتِ مَعَاشِهِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَسْتَرْفِدَ الْمُعَاوَنَةَ5 مِنْ غَيْرِهِ * وَلِهَذَا الْمَعْنَى اتَّخَذَ النَّاسُ الْمُدُنَ لِيَجْتَمِعُوا وَيَتَعَاوَنُوا"6. انْتَهَى.
ـــــــ
1 انظر إرشاد الفحول ص14، نهاية السول 1/ 208.
2 انظر المحلي على جمع الجوامع 1/ 261، نهاية السول 1/ 205، إرشاد الفحول ص14.
3 من هنا حتى نص الماوردي في الصفحة التالية ساقطة من ز.
4 هو على بن محمد بن علي، أبو الحسن، عماد الدين الطبري المعروف بالكِيَا الهرّاسي، أحد فحول العلماء فقهاً وأصولاً وجدلاً وحفضاً للحديث. له كتاب في أصول الفقه وله كتاب في الجدل سماه "شفاء المسترشدين" وله كتب غيرها. توفي سنة 504هـ. "انظر ترجمته في وفيات الأعيان 2/ 448، طبقات الشافعية للسبكي 7/ 231، شذرات الذهب 4/ 8، المنتظم 9/ 167".
5 في ش ع: المعاون.
6 انظر المزهر 1/ 36.(1/100)
قَالَ: بَعْضُهُمْ 1: "وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَوَزَّعَتْ الصَّنَائِعُ وَانْقَسَمَتْ الْحِرَفُ عَلَى2 الْخَلْقِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ قَصَرَ وَقْتَهُ عَلَى حِرْفَةٍ يَسْتَقِلُّ3 بِهَا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِجُمْلَةِ مَقَاصِدِهِ. فَحِينَئِذٍ لا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ حَاجَتِهِ حَاضِرَةً 4 عِنْدَهُ أَوْ غَائِبَةً بَعِيدَةً عَنْهُ. فَإِنْ 4 5 كَانَتْ حَاضِرَةً 5 أَشَارَ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً، فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَدُلَّ بِشَيْءٍ6 عَلَى مَحَلِّ حَاجَتِهِ. فَوَضَعُوا الْكَلامَ دَلالَةً، وَوَجَدُوا7 اللِّسَانَ أَسْرَعَ الأَعْضَاءِ حَرَكَةً وَقَبُولاً لِلتَّرْدَادِ، وَكَانَ الْكَلامُ إنَّمَا يَدُلُّ بِالصَّوْتِ. وَكَانَ الصَّوْتُ إنْ تُرِكَ سُدًى، امْتَدَّ وَطَالَ، وَإِنْ قُطِعَ تَقَطَّعَ، قَطَّعُوهُ8 وَجَزَّءُوهُ عَلَى حَرَكَاتِ أَعْضَاءِ الإِنْسَانِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الصَّوْتُ، - وَهِيَ مِنْ أَقْصَى الرِّئَةِ إلَى مُنْتَهَى الْفَمِ-. فَوَجَدُوهُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ حَرْفًا، قَسَّمُوهَا عَلَى الْحَلْقِ وَالصَّدْرِ، وَالشَّفَةِ وَاللِّثَةِ.
ثُمَّ لَمَّا رَأَوْا9 أَنَّ الْكِفَايَةَ10 لا تَقَعُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ رَكَّبُوا مِنْهَا ثُنَائِيًّا وَثُلاثِيًّا وَرُبَاعِيًّا وَخُمَاسِيًّا وَاسْتَثْقَلُوا11 مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ"12.
ـــــــ
1-* ساقطة من ش.
2 في ش: إلى.
3 في ب: يشتغل.
4 ساقطة من ش.
5 ساقطة من ش.
6 في ض: شيئاً.
7 في ش: وجعلوا.
8 في ش: قطعوه.
9 في ش: رئي.
10 في ش: الكناية.
11 فلم يضعوا كلمة أصلية زائدة على خمس أحرف إلا بطريق الإلحاق والزيادة لحاجة. "المزهر 1/ 37".
12 انظر المزهر 1/ 36 وما بعدها.(1/101)
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: "وَإِنَّمَا كَانَ نَوْعُ الإِنْسَانِ أَكْثَرَ حَاجَةً مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، لأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ عَنْ جِنْسِهِ. أَمَّا الإِنْسَانُ: فَمَطْبُوعٌ عَلَى الافْتِقَارِ إلَى جِنْسِهِ فِي الاسْتِعَانَةِ، فَهُوَ صِفَةٌ لازِمَةٌ لِطَبْعِهِ وَخَلْقِهِ، قَائِمَةٌ فِي جَوْهَرِهِ".
وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَغَيْرُهُ: "سَبَبُ وُجُودِهَا. حَاجَةُ النَّاسِ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ مُرَادَ بَعْضٍ لِلتَّسَاعُدِ1 وَالتَّعَاضُدِ2 بِمَا لا مُؤْنَةَ فِيهِ لِخِفَّتِهَا، وَكَثْرَةِ فَائِدَتِهَا، وَلا مَحْذُورَ. وَهَذَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ. فَمِنْ تَمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْنَا: أَنْ جَعَلَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ دُونَ غَيْرِهِ"3.
"وَهِيَ" أَيْ وَحَقِيقَةُ اللُّغَةِ "أَلْفَاظٌ وُضِعَتْ لِمَعَانٍ" يُعَبِّرُ بِهَا كُلُّ قَوْمٍ عَنْ أَغْرَاضِهِمْ، فَلا يَدْخُلُ الْمُهْمَلُ؛ لأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِمَعْنًى4.
"فَمَا الْحَاجَةُ إلَيْهِ" أَيْ فَالْمَعْنَى الَّذِي يَحْتَاجُ الإِنْسَانُ إلَى الاطِّلاعِ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ دَائِمًا، كَطَلَبِ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَلَمِ جُوعٍ، أَوْ عَطَشٍ، أَوْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ "وَالظَّاهِرُ: أَوْ كَثُرَتْ" حَاجَتُهُ إلَيْهِ. كَالْمُعَامَلاتِ "لَمْ تَخْلُ مِنْ" وَضْعِ "لَفْظٍ لَهُ".
"وَيَجُوزُ خُلُوُّهَا مِنْ لَفْظٍ لِعَكْسِهِمَا5" وَهُمَا6: مَا لا يُحْتَاجُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، أَوْ تَقِلُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ.
ـــــــ
1 في ز: للمساعد.
2 في ش: والتضاد. وفي ز: والمعاضد.
3 انظر العضد على ابن الحاجب 1/ 115، المحلي على جمع الجوالمع 1/ 261.
4 انظر إرشاد الفحول ص14، المحلي على جمع الجوامع 1/ 261.
5 في ش ب: كعكسهما. وفي ع ض: لعكسها.
6 في ع: وهي.(1/102)
قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي "مُقَنَّعِهِ": مَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِ لَمْ تَخْلُ اللُّغَةُ1 مِنْ لَفْظٍ يُفِيدُهُ، وَمَا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ يَجُوزُ خُلُوُّهَا عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ غَالِبًا. فَالظَّاهِرُ عَدَمُ خُلُوِّهَا عَنْهُ2، وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ" انْتَهَى.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَحَاصِلُهُ3 أَنَّ مَعَنَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا احْتَاجَهُ النَّاسُ وَاضْطُرُّوا إلَيْهِ. فَلا بُدَّ لَهُمْ مِنْ وَضْعِهِ.
الثَّانِي: عَكْسُهُ؛ مَا لا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، يَجُوزُ خُلُوُّهَا عَنْهُ، وَخُلُوُّهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَكْثَرَ.
الثَّالِثُ: مَا كَثُرَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، الظَّاهِرُ عَدَمُ خُلُوِّهَا، بَلْ هُوَ كَالْمَقْطُوعِ بِهِ.
الرَّابِعُ: عَكْسُهُ؛ مَا قَلَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، يَجُوزُ خُلُوُّهَا عَنْهُ4، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ.
"وَالصَّوْتُ" الْحَاصِلُ عِنْدَ اصْطِكَاكِ الأَجْرَامِ "عَرَضٌ مَسْمُوعٌ" وَسَبَبُهُ انْضِغَاطُ الْهَوَاءِ بَيْنَ الْجِرْمَيْنِ، فَيَتَمَوَّجُ تَمَوُّجًا شَدِيدًا، فَيَخْرُجُ، فَيَقْرَعُ5 صِمَاخَ الأُذُنِ، فَتُدْرِكُهُ قُوَّةُ السَّمْعِ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: منه.
3 ساقطة من ب.
4 في ش ز: منه.
5 في ب: يقرع. وفي ز: ليقرع.(1/103)
فَصَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ: عَرَضٌ حَاصِلٌ عَنْد1 اصْطِكَاكِ2 أَجْرَامِ الْفَمِ - وَهِيَ مَخَارِجُ الْحُرُوفِ- وَدَفْعُ3 النَّفَسِ لِلْهَوَاءِ، مُتَكَيِّفًا4 بِصُورَةِ كَلامِ الْمُتَكَلِّمِ إلَى أُذُنِ السَّامِعِ.
وَقَوْلُهُمْ "الصَّوْتُ عَرَضٌ"، يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الأَعْرَاضِ، وَقَوْلُهُمْ "مَسْمُوعٌ" أخَرَجَ5 جَمِيعُهَا، إلاَّ مَا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ.
"قُلْت: بَلْ" الأَخْلَصُ فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: الصَّوْتُ "صِفَةٌ مَسْمُوعَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ".
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَإِنَّمَا بَدَأْنَا6 بِالصَّوْتِ؛ لأَنَّهُ الْجِنْسُ الأَعْلَى لِلْكَلامِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ الْكَلامِ عَلَيْهِ.
"وَاللَّفْظُ" فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ، وَفِي الاصْطِلاحِ "صَوْتٌ مُعْتَمِدٌ عَلَى بَعْضِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ" لأَنَّ الصَّوْتَ لِخُرُوجِهِ مِنْ الْفَمِ صَارَ كَالْجَوْهَرِ الْمَرْمِيِّ مِنْهُ. فَهُوَ مَلْفُوظٌ. فَأُطْلِقَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِمْ7: نَسْجُ الْيَمِينِ: أَيْ مَنْسُوجُهُ.
ـــــــ
1 في ش ز ع: عن.
2 في ش: انصكاك.
3 في ع ض: ورفع.
4 في ش: مكيفاً. وفي ع: متكيف.
5 في جميع النسخ: خرج.
6 في ش: بدأ.
7 في ش: كقوله.(1/104)
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَاللَّفْظُ الاصْطِلاحِيُّ: نَوْعٌ لِلصَّوْتِ، لأَنَّهُ صَوْتٌ مَخْصُوصٌ. وَلِهَذَا أُخِذَ الصَّوْتُ فِي حَدِّ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ فِي حَدِّ الشَّيْءِ جِنْسُ ذَلِكَ الشَّيْءِ.
"وَالْقَوْلُ" فِي اللُّغَةِ: مُجَرَّدُ النُّطْقِ، وَفِي الاصْطِلاحِ: "لَفْظٌ وُضِعَ لِمَعْنًى ذِهْنِيٍّ". لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ أَعَمَّ مِنْ الْقَوْلِ لِشُمُولِهِ الْمُهْمَلَ، وَالْمُسْتَعْمَلَ أُخْرِجَ1 الْمُهْمَلُ بِقَوْلِهِ "وُضِعَ لِمَعْنًى".
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ "وُضِعَ لِمَعْنًى" عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ2.
أَحَدُهَا: مَا فِي الْمَتْنِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الذِّهْنِيُّ؛ وَهُوَ مَا يَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ، سَوَاءً طَابَقَ مَا فِي الْخَارِجِ أَوْ لا، لِدَوَرَانِ الأَلْفَاظِ مَعَ الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا3.
وَهَذَا4 الْقَوْلُ اخْتَارَهُ الرَّازِيّ5 وَأَتْبَاعُهُ، وَابْنُ حَمْدَانَ، وَابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ مِنْ أَصْحَابِنَا.
ـــــــ
1 في ش: خرج.
2 انظر تفصيل الكلام على هذه الأقوال في "المزهر 1/ 43، نهاية السول 1/ 206، إرشاد الفحول ص14، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 266، وما بعدها".
3 فإنْ من رأى شبحاً من بعيد، وظنه حجراً، أطلق عليه لفظ الحجر. فإذا دنا منه، وظنه شجراً، أطلق عليه لفظ الشجر. فإذا دنا منه وظنه فرساً، أطلق عليه اسم الفرس. فإذا تحقق أنه إنسان، أطلق عليه لفظ الإنسان. فبان بهذا أن إطلاق اللفظ دائر مع المعاني الذهنية دون الخارجية. فَدَلَّ على أن الوضع للمعنى الذهبي لا الخارجي. وأجيب عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذهنية لاعتقاد أنها في الخارج كذلك. لا لمجرد اختلافها في الذهن. "انظر المزهر 1/ 42، نهاية السول 1/ 206، المحلي على جمع الجوامع 1/ 266".
4 ساقطة من ش.
5 هو محمد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله، فخر الدين الرازي الشافعي، المعروف بابن الخطيب. قال الداودي عنه: "المفسر المتكلم، إمام وقته في العلوم العقلية، وأحد الأئمة في العلوم الشرعية، صاحب المصنفات المشهورة، والفضائل الغزيرة المذكروة" أشهر مؤلفاته "التفسير" و "المحصول" و "المعالم" في أصول الفقه و "المطالب العالية" و "نهاية العقول" في أصول الدين. توفي سنة 606هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 8/ 81، وفيات الأعيان 3/ 381، شذرات الذهب 5/ 21، طبقات المفسرين للداودي 2/ 214".(1/105)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ وُضِعَ لِلْمَعْنَى1 الْخَارِجِيِّ، أَيْ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ. وَبِهِ قَطَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ2.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وُضِعَ لِلْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ غَيْرِ مُلاحَظَةِ كَوْنِهِ3 فِي الذِّهْنِ، أَوْ فِي الْخَارِجِ. وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ4.
وَمَحَلُّ الْخِلافُ فِي الاسْمِ النَّكِرَةِ5.
ـــــــ
1 في ض: لمعنى.
2 هو ابراهيم بن علي بن يوسف، جمال الدين الفيروز ابادي الشافعي. قال النووي: "الإمام المحقق المتقن المدقق، ذو الفنون من العلوم المتكاثرات والتصانيف النافعة المستجادات". أشهر مصنفاته "المهذب" و "التنبيه" في الفقه و "النكت" في الخلاف و "اللمع" وشرحه و "التبصرة" في أصول الفقه. توفي سنة 476هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 4/ 215، شذرات الذهب 3/ 349، وفيات الأعيان 1/ 9، المنتظم 9/ 7، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 172".
3 ساقطة من ش.
4 هو على بن عبد الكافي بن علي، أبو الحسن، تقي الدين السبكي الشافعي. كان فقيهاً أصولياً مفسراً محققاً مدققاً نظّاراً جدلياً بارعاً في العلوم، له في الفقه وغيره الاستنباطات الجليلة والدقائق اللطيفة والقواعد المحررة التي لم يسبق إليها. أشهر كتبه "التفسير" و "الابتهاج في شرح المنهاج" في الفقه و "شفاء السقام في زيادة خير الأنام". توفي سنة 756هـ. "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 134، شذرات الذهب 6/ 180، بغية الوعاة 2/ 176، البدر الطالع 1/ 467، طبقات المفسرين للداودي 1/ 142".
5 لأن المعرفة منه ما وضع للمعنى الخارجي ومنه ما وضع للذهني. "المحلي على جمع الجوامع 1/ 267".(1/106)
"وَالْوَضْعُ" نَوْعَانِ1.
وَضْعٌ "خَاصٌّ: وَهُوَ جَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلاً عَلَى الْمَعْنَى" الْمَوْضُوعِ لَهُ، أَيْ جَعْلُ اللَّفْظِ مُتَهَيِّئًا لأَنْ يُفِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
وَقَوْلُنَا "وَلَوْ مَجَازًا" لِيَشْمَلَ2 الْمَنْقُولَ مِنْ شَرْعِيٍّ وَعُرْفِيٍّ3. قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
"وَ" نَوْعٌ "عَامٌّ، وَهُوَ تَخْصِيصُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ. كَالْمَقَادِيرِ" أَيْ كَجَعْلِ الْمَقَادِيرِ دَالَّةً عَلَى مُقَدَّرَاتِهَا مِنْ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَعْدُودٍ وَمَذْرُوعٍ4 وَغَيْرِهَا5.
وَفِي كِلا النَّوْعَيْنِ الْوَضْعُ: أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَاضِعِ.
"وَالاسْتِعْمَالُ إطْلاقُ اللَّفْظِ وَإِرَادَةُ الْمَعْنَى" أَيْ إرَادَةُ مُسَمَّى اللَّفْظِ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ، أَوْ غَيْرِ مُسَمَّاهُ لِعَلاقَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْمَجَازُ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ6.
ـــــــ
1 انظر تعريفات الوضع وأنواعه وشروطه في "المزهر 1/ 38، 39, 46، شرح تنقيح الفصول ص20 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 264، التعريفات للجرجاني ص273، نهاية السول 1/ 296".
2 في ع ض: يشمل.
3 أما الشرعي فنحو الصلاة والصيام والحج. وأما العرفي فهو نوعان: عرفي عام: نحو الدابة. وعرفي خاص: نحو الجوهر والعرض عند المتكلمين. وقد سمي العرف خاصاً لاختصاصه ببعض الفرق كالمتكلمين والنحاة وما إلى ذلك. بخلاف العرف العام، فإنه يعم الجميع. والمراد بالوضع في هذه المنقولات غلبة استعمال اللفظ في المعنى المنقول إليه، حتى يصير هو المتبادر إلى الذهن، ولا يحمل على غيره إلا بقرينة. فتصير المنقولات حقائق عرفية وشرعية مع كونها مجازات لغوية. "انظر شرح تنقيح الفصول ص20 وما بعدها".
4 في ش: ومزروع.
5 في ش: وغيرهما.
6 انظر شرح تنقيح الفصول ص20، نهاية السول 1/ 296.(1/107)
"وَالْحَمْلُ: اعْتِقَادُ السَّامِعِ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ لَفْظِهِ" أَوْ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُرَادِهِ. فَالْمُرَادُ: كَاعْتِقَادِ الْحَنْبَلِيِّ وَالْحَنَفِيِّ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِلَفْظِ الْقُرْءِ: الْحَيْضَ، وَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِهِ: الطُّهْرَ1. وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ السَّامِعِ2.
فَالْوَضْعُ سَابِقٌ، وَالْحَمْلُ لاحِقٌ، وَالاسْتِعْمَالُ مُتَوَسِّطٌ.
"وَهِيَ" أَيْ اللُّغَةُ نَوْعَانِ3:
"مُفْرَدٌ، كَزَيْدٍ، وَمُرَكَّبٌ، كَعَبْدِ اللَّهِ" أَمَّا الْمُفْرَدُ، فَلا نِزَاعَ فِي وَضْعِ الْعَرَبِ لَهُ، وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مِنْ اللُّغَةِ. وَعَلَيْهِ الأَكْثَرُ، وَأَنَّ الْمُرَكَّبَ مُرَادِفٌ لِلْمُؤَلَّفِ، لِتَرَادُفِ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُفْرَدَ فِي اصْطِلاحِ النُّحَاةِ: هُوَ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ، كَمَا مَثَّلْنَا فِي الْمَتْنِ، وَعِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ وَالأُصُولِيِّينَ: لَفْظٌ وُضِعَ لِمَعْنًى، وَلا جُزْءَ لِذَلِكَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى جُزْءِ4 الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ5. فَشَمِلَ ذَلِكَ6 أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ7:
الأَوَّلُ: مَا لا جُزْءَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، كَبَاءِ الْجَرِّ.
ـــــــ
1 وأما المشتمل على المراد فنحو حمل الشافعي اللفظ المشترك على جملة معانيه عند تجرده عن القرئن، لاشتماله على مراد المتكلم احتياطياً. "شرح تنقيح الفصول ص21".
2 انظر تفصيل الكلام على الحمل في "شرح تنقيح الفصول ص20-22، نهاية السول 1/ 296".
3 في ز: منها. وفي ع: نوعان منها.
4 ساقطة من ش.
5 ساقطة من ش.
6 ساقطة من ش ز.
7 انظر تفصيل الكلام على هذه الأقسام الأربعة في "تحرير القواعد المنطقية وحاشية الجرجاني عليه ص33 وما بعدها، فتح الرحمن وحاشية العليمي عليه ص49 وما بعدها، شرح الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص33 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 14".(1/108)
الثَّانِي: مَا لَهُ جُزْءٌ، وَلَكِنْ لا يَدُلُّ مُطْلَقًا1، كَالزَّايِ مِنْ زَيْدٍ.
الثَّالِثُ: مَا لَهُ جُزْءٌ يَدُلُّ، لَكِنْ لا عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى. كَإِنْ مِنْ حُرُوفِ إنْسَانٍ؛ فَإِنَّهَا لا تَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الإِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَتْ بِانْفِرَادِهَا2 تَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِ أَوْ النَّفْيِ.
الرَّابِعُ: مَا لَهُ جُزْءٌ يَدُلُّ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى، لَكِنْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَضْعِ كَقَوْلِنَا: "حَيَوَانٌ نَاطِقٌ" عَلَمًا عَلَى شَخْصٍ.
وَاعْلَمْ أَيْضًا: أَنَّ الْمُرَكَّبَ عِنْدَ النُّحَاةِ: مَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَةٍ، فَشَمِلَ التَّرْكِيبَ الْمَزْجِيَّ، كَبَعْلَبَكّ، وَسِيبَوَيْهِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَنَحْوِهَا، وَالْمُضَافَ، وَلَوْ عَلَمًا، كَمَا مَثَّلْنَا فِي الْمَتْنِ.
وَعِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ وَالأُصُولِيِّينَ: مَا دَلَّ 3 جُزْؤُهُ عَلَى 3 جُزْءِ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ، فَشَمِلَ الإِسْنَادِيَّ، كَقَامَ زَيْدٌ، وَالإِضَافِيَّ: كَغُلامِ زَيْدٍ، وَالتَّقْيِيدِيَّ، كَزَيْدٍ الْعَالِمِ4.
وَأَمَّا نَحْوُ "يَضْرِبُ" فَمُفْرَدٌ عَلَى مَذْهَبِ النُّحَاةِ، وَمُرَكَّبٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمَنَاطِقَةِ وَالأُصُولِيِّينَ؛ لأَنَّ الْيَاءَ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْمُضَارَعَةُ5.
"وَالْمُفْرَدُ" 6 مِنْ حَيْثُ هُوَ 6 قِسْمَانِ:
ـــــــ
1 أي على معنى.
2 في ش: بايرادها.
3 ساقطة من ز.
4 في ش: العلم.
5 انظر تفصيل الكلام على المفرد والمركب في الاصطلاحين في "العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 117 وما بعدها، تحرير القواعد المنطقية ص33 وما بعدها، فتح الرحمن ص49 وما بعدها، نهاية السول 1/ 223 وما بعدها".
6 ساقطة من ز.(1/109)
قِسْمٌ1 "مُهْمَلٌ": كَأَسْمَاءِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ؛ لأَنَّ مَدْلُولاتِهَا هِيَ2 عَيْنُهَا. فَإِنَّ مَدْلُولَ الأَلِفِ: "أَ" وَمَدْلُولَ الْبَاءِ "بَ". وَهَكَذَا إلَى آخِرِهَا. وَهَذِهِ الْمَدْلُولاتُ لَمْ تُوضَعْ بِإِزَاءِ شَيْءٍ.
قَالَ ابْنُ الْعِرَاقِيِّ3 وَغَيْرُهُ: أَلا تَرَى أَنَّ الصَّادَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْحَرْفِ، وَهُوَ مُهْمَلٌ، لا مَعْنَى لَهُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّمُهُ الصِّغَارُ فِي الابْتِدَاءِ لِلتَّوَصُّلِ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ غَيْرِهِ!
"وَ" قِسْمٌ "مُسْتَعْمَلٌ"4 .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا: "فَـ" الْمُفْرَدُ الْمُسْتَعْمَلُ "إنْ اسْتَقَلَّ5 بِمَعْنَاهُ. فَإِنْ6 دَلَّ بِهَيْئَتِهِ7 عَلَى زَمَنٍ" مِنْ الأَزْمِنَةِ "الثَّلاثَةِ" وَهِيَ الْمَاضِي وَالْحَالُ وَالاسْتِقْبَالُ8 "فَـ" ـهُوَ "الْفِعْلُ"9
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ع: هو.
3 هو أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين، ولي الدين، أبو زرعة بن الحافظ زين الدين العراقي الشافعي. كام عالماً بارعاً بالحديث وعلومه والفقه وأصوله واللغة وفنونها. من كتبه "شرح جمع الجوامع" و "شرح المنهاج" في أصول الفقه و "شرح البهجة" و "مختصر المهذب" و "النكت" في الفقه و "مختصر الكشاف" في التفسير مع تخريج أحاديثه. توفي سنة 826هـ. "انظر ترجمته في المنهال الصافي 1/ 312، طبقات المفسرين للداودي 1/ 49، شذرات الذهب 7/ 173، البدر الطالع 1/ 72".
4 وهو ما دلّ على معنى، بخلاف المهمل، فإنه لا يدل على معنى. "انظر تفصيل الكلام على المفرد المهمل والمستعمل في همع الهومع 1/ 31، الصاحبي ص82، نهاية السول 1/ 243، المحلي على جمع الجوامع 1/ 263، فتح الرحمن ص49، اللمع ص4".
5 في ز: استعمل.
6 في ز: ودل.
7 في ع: بهيئة.
8 في ع ز ض: والمستقبل.
9 انظر همع الهوامع 1/ 6، 15 وما بعدها، تسهيل الفوائد ص3-6، الصاحبي ص85، الإحكام للآمدي 1/ 60، التعريفات للجرجاني ص175.(1/110)
"هُوَ"1 أَيْ الْفِعْلُ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: "مَاضٍ" كَقَامَ وَنَحْوِهِ "وَيَعْرِضُ لَهُ الاسْتِقْبَالُ بِالشَّرْطِ" نَحْوَ: "إنْ قَامَ زَيْدٌ قُمْت". فَأَصْلُ وَضْعِهِ لِلْمَاضِي، وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ أَصْلِهِ لِمَا يَعْرِضُ لَهُ2.
"وَ" النَّوْعُ الثَّانِي: "مُضَارِعٌ" كَيَقُومُ وَنَحْوِهِ "وَيَعْرِضُ لَهُ الْمُضِيُّ بِلَمْ" نَحْوَ: "لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ". فَأَصْلُ وَضْعِهِ لِلْحَالِ وَالاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ أَصْلِهِ لِمَا يَعْرِضُ لَهُ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ الْمُضَارِعُ مَذَاهِبُ خَمْسَةٌ3:
الْمَشْهُورُ مِنْهَا: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَالِ وَالاسْتِقْبَالِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ4: إلاَّ أَنَّ الْحَالَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَ التَّجَرُّدِ5.
الثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، مَجَازٌ فِي الاسْتِقْبَالِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الاسْتِقْبَالِ، مَجَازٌ فِي الْحَالِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، وَلا يُسْتَعْمَلُ فِي الاسْتِقْبَالِ أَصْلاً، لا حَقِيقَةً وَلا مَجَازًا.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ش.
3 انظر تفصيل الكلام على هذه المذاهب في "همع الهوامع للسيوطي 1/ 17، التمهيد للأسنوي ص33".
4 هو محمد بن عبد الله بن عبد الله، جمال الدين الطائي الجيّاني الشافعي، الإمام الحجة في اللغة والنحو والصرف والقراءات وعللها وأشعار العرب. من تصانيفه "تسهيل الفوائد" في النحو و "الكافية الشافعية" و "إعراب مشكل البخاري" وغيرها. توفي سنة 672هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 8/ 67، فوات الوفيات 2/ 452، بغية الوعاة 1/ 130، شذرات الذهب 5/ 339، البلغة ص229".
5 تسهيل الفوائد ص5.(1/111)
الْخَامِسُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الاسْتِقْبَالِ، وَلا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَالِ أَصْلاً، لا حَقِيقَةً وَلا مَجَازًا. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ، فَمَجَازٌ وِفَاقًا.
"وَأَمْرٌ" أَيْ وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الأَفْعَالِ: فِعْلُ1 الأَمْرِ2 كَقُمْ.
"وَتَجَرُّدُهُ" أَيْ تَجَرُّدُ الْفِعْلِ "عَنْ الزَّمَانِ" أَيْ عَنْ أَحَدِ الأَزْمِنَةِ الثَّلاثَةِ "لِلإِنْشَاءِ" كَزَوَّجْتُ وَقَبِلْت "عَارِضٌ" بِوَضْعِ الْعُرْفِ.
"وَقَدْ يَلْزَمُهُ" أَيْ يَلْزَمُ الْفِعْلَ التَّجَرُّدُ3 عَنْ4 الزَّمَانِ "كَعَسَى" فَإِنَّهُ وُضِعَ أَوَّلاً لِلْمَاضِي، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ قَطُّ، بَلْ فِي الإِنْشَاءِ. قَالَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ: وَكَذَا "حَبَّذَا" فَإِنَّهُ لا مَعْنَى لَهَا فِي الأَزْمِنَةِ.
"وَقَدْ" يَتَجَرَّدُ الْفِعْلُ عَنْ الزَّمَانِ وَ "لا" يَلْزَمُهُ التَّجَرُّدُ5 "كَنِعْمَ" وَبِئْسَ، فَإِنَّهُمَا تَارَةً يُسْتَعْمَلانِ عَلَى أَصْلِهِمَا، كَـ"نِعْمَ زَيْدٌ أَمْسِ"، "وَبِئْسَ زَيْدٌ أَمْسِ". وَتَارَةً يُسْتَعْمَلانِ لا بِنَظَرٍ إلَى زَمَانٍ، بَلْ لِقَصْدِ6 الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ مُطْلَقًا كَنِعْمَ زَيْدٌ، وَبِئْسَ زَيْدٌ.
"وَإِلاَّ" أَيْ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ الْمُفْرَدُ الْمُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَاهُ7 بِهَيْئَتِهِ عَلَى أَحَدِ الأَزْمِنَةِ "فَـ" ـهُوَ "الاسْمُ"8.
ـــــــ
1 ساقطة من ب.
2 في ش: أمر.
3 في ب: تجرد.
4 في ع: من.
5 في ب: تجرد.
6 في ش: بقصد. وفي ب: لمقصد.
7 في ش ب: بمعناه و.
8 انظر في الكلام على الاسم "همع الهوامع 1/ 7 وما بعدها, الصاحبي ص82, فتح الرحمن ص50, اللمع ص4, تسهيل الفوئد ص3, شرح العضد وحاشية الجرجاني عليه 1/120, التعريفات للجرجاني ص24". وفي ض: اسم.(1/112)
فَصَبُوحٌ1، وَغَبُوقٌ2. وَأَمْسُ، وَغَدٌ: وَضَارِبُ أَمْسِ، وَضَارِبُ الْيَوْمِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ: يَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى الزَّمَانِ، لَكِنْ لَمْ يَدُلَّ وَضْعًا، بَلْ لِعَارِضٍ3. كَاللَّفْظِ بِالاسْمِ وَمَدْلُولِهِ. فَإِنَّهُ لازِمٌ كَالْمَكَانِ، وَنَحْوُ: صَهٍ، دَلَّ عَلَى "اُسْكُتْ" وَبِوَاسِطَتِهِ عَلَى سُكُوتٍ مُقْتَرِنٍ بِالاسْتِقْبَالِ4.
وَالْمُضَارِعُ إنْ قِيلَ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَالِ وَالاسْتِقْبَالِ، فَوَضْعُهُ لأَحَدِهِمَا، وَاللُّبْسُ عِنْدَ السَّامِعِ.
"وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ" اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ بِمَعْنَاهُ، كَعَنْ وَلَنْ "فَـ" ـهُوَ "الْحَرْفُ".
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُحَدُّ "وَهُوَ: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي غَيْرِهِ" لِيَخْرُجَ الاسْمُ وَالْفِعْلُ5. وَقِيلَ: لا يَحْتَاجُ إلَى حَدٍّ، لأَنَّ تَرْكَ الْعَلامَةِ لَهُ6 عَلامَةٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَدَّ لِتَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ، وَلا تُعْرَفُ حَقِيقَةٌ بِتَرْكِ تَعْرِيفِهَا.
"وَ" أَمَّا "الْمُرَكَّبُ" 7 مِنْ حَيْثُ هُوَ أَيْضًا 7 فَقِسْمَانِ:
ـــــــ
1 الصَبُوح: هو الشرب بالغداة. "فتح الرحمن ص50".
2 الغَبُوق: هو الشرب بالعشي. "فتح الرحمن ص50".
3 والعبرة بالدلالة بأصل الوضع. "همع الهوامع 1/ 8".
4 لكنّ هذه الدلالة على المعنى المقترنة بزمان معين ليست دلالة وضعية أولية "فتح الرحمن ص50".
5 انظر في الكلام على الحرف "اللمع ص4، فتح الرحمن ص50، العضد على ابن الحاجب 1/ 185 وما بعدها، تسهيل الفوائد ص3، التعريقات للجرجاني ص90، الصاحبي ص86، الإحكام للآمدي 1/ 61، همع الهوامع 1/ 6".
6 ساقطة من ش.
7 ساقطة من ز.(1/113)
قِسْمٌ "مُهْمَلٌ": وَهُوَ1 "مَوْجُودٌ" فِي اخْتِيَارِ الْبَيْضَاوِيِّ2 وَالتَّاجِ السُّبْكِيّ3. وَمَثَّلاهُ بِالْهَذَيَانِ. فَإِنَّهُ لَفْظٌ مَدْلُولُهُ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مُهْمَلٌ4.
وَقَالَ الرَّازِيّ: وَالأَشْبَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، لأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّرْكِيبِ5 الإِفَادَةُ6. وَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُهْمَلَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ، لا عَلَى
ـــــــ
1 ساقطة من ز.
2 هو عبد الله بن عمر بن محمد، أبو الخير، ناصر الدين البيضاوي الشافعي. قال الداودي: "كان إماماً علامة، عارفاً بالفقه والتفسير والأصلين والعربية والمنطق نظّاراً صالحاً" أشهر مصنفاته "مختصر الكشاف" في الفسير، و "المنهاج" وشرحه في أصول الفقه و "الإيضاح" في أصول الدين و "شرح الكافية" لابن الحاجب. توفي سنة 685هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 242، بغية الوعاة 2/ 50، شذرات الذهب 5/ 392، طبقات الشافعية للسبكي 8/ 157".
3 هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، أبو نصر، تاج الدين السبكي الشافعي، الفقيه الأصولي اللغوي، صاحب التصانيف النافعة كـ"شرح منهاج البيصاوي" و "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" و "جمع الجوامع" وشرحه في أصول الفقه و "الأشباه والنظائر" و "طبقات الفقهاء" الكبرى والوسطى والصغرى. توفي سنة 771هـ. "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 39، البدر الطالع 1/ 410، شذرات الذهب 6/ 221".
4 سواء كان هذا المدلول مركباً من لفظتين مهملتين أو من لفظة مهملة ولفظة مستعملة، وهو غير دال على المعنى المركب. "حاشية العليمي على فتح الرحمن ص49" وانظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/ 102، نهاية السول 1/ 243، مناهج العقول 1/ 241.
5 في ض: التراكيب.
6 فإذا انتفت الإفادة فلا تركيب. وكلام الفخر الرازي حَقّ إن عُني بالمركب "ما يكون جزؤه دالاً على جزء المعنى الذي وضع له" إذ لا يتصور بهذا الاعتبار وجود مركب مهمل لا يدل على معنى. أما إذا عُني به "ما يكون لجزئه دلالة في الجملة ولو في غير معناه، وما يكون مؤلفاً من لفظين كيف كان التأليف، ولو لم يكن لشيء من أجزائه دلالة" فلا يكون نفي الرازي لوجوده صحيحاً. ولا يخفى أن المصنف في ص109 عَرَّف المركب بالمعنى الأول، فكان ينبغي عليه أن يختار قول الرازي، لأنه القول المنسجم مع ما اعتمده في تعريف المركب. "انظر العليمي على فتح الرحمن ص49، حاشية البناني 2/ 102، نهاية السول 1/ 243".(1/114)
أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ اسْمٌ1.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُهْمَلَ "لَمْ تَضَعْهُ الْعَرَبُ قَطْعًا"2.
"وَ" الْقِسْمُ الثَّانِي: "مُسْتَعْمَلٌ وَضَعَتْهُ" الْعَرَبُ، خِلافًا لِلرَّازِيِّ، وَابْنِ مَالِكٍ وَجَمْعٍ.
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ وَضْعِهِ: أَنَّ لَهُ قَوَانِينَ فِي الْعَرَبِيَّةِ لا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا، وَمَتَى غُيِّرَتْ حُكِمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً، كَتَقْدِيمِ الْمُضَافِ إلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَكَتَقْدِيمِ الصِّلَةِ أَوْ مَعْمُولِهَا عَلَى الْمَوْصُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لا يَنْحَصِرُ فَحَجَرُوا3 فِي التَّرْكِيبِ. كَمَا فِي الْمُفْرَدَاتِ4.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَزَاهُ غَيْرُهُ إلَى الْجُمْهُورِ5.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ الْمُرَكَّبَ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ يَعْرِفُ لَفْظَيْنِ لا يَفْتَقِرُ عِنْدَ سَمَاعِهِمَا مَعَ إسْنَادٍ إلَى مُعَرَّفٍ لِمَعْنَى الإِسْنَادِ، بَلْ يُدْرِكُهُ ضَرُورَةً6، [وَ] لأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَكَّبُ مَوْضُوعًا لافْتَقَرَ كُلُّ مُرَكَّبٍ إلَى سَمَاعٍ مِنْ الْعَرَبِ كَالْمُفْرَدَاتِ7.
ـــــــ
1 انظر نهاية السول 1/ 243.
2 انظر المحلي علي جمع الجوامع 2/102.
3 ساقطه من ش.
4فقالوا: من قال "إنَّ قائم زيداً" فليس من كلامنا، ومن قال "إنَّ زيداً قائم" فهو من كلامنا، ومن قال "في الدار رجل" فهو من كلامنا، ومن قال "رجل في الدار" فليس من كلامنا... إلى مالا نهاية له من تراكيب الكلام. وذلك يدل على تعرضها بالوضع للمركبات. "المزهر 1/ 45".
5 انظر المزهر 1/ 40-45.
6 فإن من عرف مسمى "زيد" وعرف مسمى "قائم" وسمع "زيد قائم" بإعرابه المخصوص فهم بالضرورة معنى هذا الكلام، وهو نسبة القيام إلى زيد. "المزهر 1/ 44".
7 انظر المزهر 1/ 40-44.(1/115)
قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ1: وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إنْ أُرِيدَ أَنْوَاعُ الْمُرَكَّبَاتِ فَالْحَقُّ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ أَوْ جُزْئِيَّاتُ النَّوْعِ فَالْحَقُّ الْمَنْعُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ الْمَذْهَبَانِ عَلَى ذَلِكَ2.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى 3 الْخِلافِ مَا سَيَأْتِي أَنَّ الْمَجَازَ هَلْ يَكُونُ فِي التَّرْكِيبِ؟ وَأَنَّ الْعَلاقَةَ هَلْ تُشْتَرَطُ فِي آحَادِهِ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
"وَهُوَ" أَيْ الْمُرَكَّبُ الَّذِي وَضَعَتْهُ 3 الْعَرَبُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: "غَيْرُ جُمْلَةٍ: كَمُثَنَّى" لأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ مُفْرَدِهِ وَمِنْ عَلامَةِ التَّثْنِيَةِ "وَجَمْعٍ4" لِتَرَكُّبِهِ5 مِنْ الْمُفْرَدِ وَعَلامَةِ الْجَمْعِ6.
ـــــــ
1 هو محمد بن عبد الدايم بن موسى النعيمي، شمس الدين البرماوي الشافعي. قال الشوكاني: "كان إماماً في الفقه وأصوله والعرية وغير ذلك". من كتبه "شرح البخاري" و "شرح العمدة" و "ألفية" وشرحها في أصول الفقه. توفي سنة 831هـ. "انظر ترجمته في البدر الطالع 2/ 181، شذرات الذهب 7/ 197".
2 قال الزركشي: "والحق أن العرب إنما وضعت أنواع المركبات، أما جزئيات الأنواع فلا. فوضعت باب الفاعل، لإسناد كل فعلٍ إلى مَنْ صدر منه، أما الفاعل المخصوص فلا. وكذلك باب "إنّ وأخواتها"، أما اسمها المخصوص فلا. وكذلك سائر أنواع التراكيب، وأحالت المعنى على اختيار المتكلم، فإن أراد القائل بوضع المركبات هذا المعنى فصحيح، وإلا فممنوع". "المزهر 1/ 45".
3 ساقطة من ش.
4 في ز ض: وكجمع.
5 في ش ز ب ض: لتركيبه.
6 انظر العضد على ابن الحاجب 1/ 126.(1/116)
"وَ" النَّوْعُ الثَّانِي: "جُمْلَةٌ، وَتَنْقَسِمُ" الْجُمْلَةُ "إلَى مَا" أَيْ إلَى لَفْظٍ "وُضِعَ لإِفَادَةِ نِسْبَةٍ. وَهُوَ" أَيْ وَاللَّفْظُ الَّذِي وُضِعَ لإِفَادَةِ نِسْبَةٍ هُوَ "الْكَلامُ" لا غَيْرُهُ.
"وَلا يَتَأَلَّفُ" الْكَلامُ "إلاَّ مِنْ اسْمَيْنِ" نَحْوُ "زَيْدٌ قَائِمٌ" "أَوْ" مِنْ "اسْمٍ وَفِعْلٍ" نَحْوُ "قَامَ زَيْدٌ"؛ لأَنَّ الْكَلامَ يَتَضَمَّنُ الإِسْنَادَ، وَهُوَ يَقْتَضِي مُسْنَدًا وَمُسْنَدًا إلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ الاسْمُ يَصِحُّ1 أَنْ يُسْنَدَ 2 وَأَنْ يُسْنَدَ 2 إلَيْهِ، 3 صَحَّ تَأْلِيفُ الْكَلامِ 3 مِنْ جِنْسِ الاسْمِ فَقَطْ. وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ يَصْلُحُ أَنْ يُسْنَدَ، وَلا يَصْلُحُ أَنْ يُسْنَدَ إلَيْهِ: صَحَّ تَأْلِيفُ الْكَلامِ مِنْهُ4، إذَا كَانَ مَعَ اسْمٍ لا بِدُونِهِ5، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ وَالْمُسْنَدُ إلَيْهِ "مِنْ" مُتَكَلِّمٍ "وَاحِدٍ" قَالَهُ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ مُفْلِحٍ وَغَيْرُهُمْ6.
وَقَالَ جَمْعٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُتَكَلِّمَيْنِ فَأَكْثَرَ، بِأَنْ يَتَّفِقَا عَلَى7 أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمَا الْفِعْلَ وَالآخَرُ الْفَاعِلَ، أَوْ أَحَدُهُمَا الْمُبْتَدَأَ، وَالآخَرُ الْخَبَرَ8.
ـــــــ
1 في ش: يصلح.
2 ساقطة من ش، وفي ع ز: ويسند.
3 ساقطة من ش.
4 في ض: معه.
5 انظر العضد على ابن الحاجب 1/ 125، المستصفى 1/ 334، الإحكام للآمدي 1/72 ، همع الهوامع 1/33.
6 ساقطة من ض.
7 ساقطة من ز.
8 حكى السيوطي في إشتراط اتحاد الناطق في الكلام قولين "أحدهما" أنه يشترط كون المسند والمسند إليه من متكلم واحد. فلو اصطلح رجلان على أن يذكر أحدهما فعلاً والأخر فاعلاً أو مبتدأ والآخر خبراً، لم يسمّ ذلك كلاماً؛ لأن الكلام عمل واحد، فلا يكون عامله إلا واحداً. "والثاني" أنه لايشترط. وصححه ابن مالك وأبو حيان. قياساً على الكاتب؛ فإنه لا يعتبر اتحاد في كون الخط خطأ. وقال ابن أم قاسم المرادي: صدور الكلام من ناطقين لا يتصور، لأن كل واحد من المتكلمين إنما اقتصر على كلمة واحدة اتكالاً على نطق الآخر بالأخرى فكأنها مقدرة في كلامه. "همع الهوامع 1/ 30 وما بعدها، وانظر التمهيد للأسنوي ص 35".(1/117)
وَرُدَّ بِأَنَّ الْكَلامَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ إسْنَادٍ، وَهُوَ لا يَكُونُ إلاَّ مِنْ وَاحِدٍ. فَإِنْ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إسْنَادٌ بِالإِرَادَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ مُرَكَّبٍ، وَلَكِنْ حُذِفَ بَعْضُهُ لِدَلالَةِ الآخَرِ عَلَيْهِ. فَلَمْ يُوجَدْ كَلامٌ مِنْ مُتَكَلِّمَيْنِ، بَلْ كَلامَانِ مِنْ اثْنَيْنِ. انْتَهَى.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهُوَ التَّحْقِيقُ1، ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فَرْعًا مُتَرَتِّبًا عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ مَا إذَا قَالَ رَجُلٌ: امْرَأَةُ فُلانٍ طَالِقٌ. فَقَالَ الزَّوْجُ: ثَلاثًا.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هِيَ تُشْبِهُ مَا لَوْ قَالَ: لِي2 عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَقَالَ: صِحَاحٌ. وَفِيهَا وَجْهَانِ. قَالَ: وَهَذَا3 أَصْلٌ فِي الْكَلامِ مِنْ اثْنَيْنِ، إنْ أَتَى الثَّانِي بِالصِّفَةِ وَنَحْوِهَا: هَلْ يَكُونُ مُتَمِّمًا لِلأَوَّلِ، أَمْ لا؟ انْتَهَى.
"وَحَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَكَاتِبٌ، فِي "زَيْدٌ كَاتِبٌ"، لَمْ يُفِدْ نِسْبَةً" قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: أَنَّ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ لِلْجُمْلَةِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ ضَرُورَةَ صِدْقِهِ عَلَى الْمُرَكَّبِ التَّقْيِيدِيِّ، وَعَلَى نَحْوِ "كَاتِبٌ" فِي قَوْلِه4: "زَيْدٌ كَاتِبٌ".
وَالْمُرَادُ بِالْمُرَكَّبِ التَّقْيِيدِيِّ: الْمُرَكَّبُ مِنْ اسْمَيْنِ، أَوْ مِنْ اسْمٍ وَفِعْلٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ الثَّانِي قَيْدًا فِي الأَوَّلِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُمَا لَفْظٌ مُفْرَدٌ، مِثْلُ "حَيَوَانٌ
ـــــــ
1 انظر القواعد والفوائد الأصولية ص155.
2 ساقطة من ش.
3 في ع: فهذا.
4 في ش: نحو قولك.(1/118)
نَاطِقٌ"، وَ "اَلَّذِي يَكْتُبُ". فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الأَوَّلِ: "الإِنْسَانُ"، وَمَقَامَ الثَّانِي: "الْكَاتِبُ".
وَإِنَّمَا قُلْنَا1: الْحَدُّ يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا؛ لأَنَّ الأَوَّلَ لَفْظٌ وُضِعَ لإِفَادَةِ نِسْبَةٍ تَقْيِيدِيَّةٍ2، وَالثَّانِي: وُضِعَ لإِفَادَةِ نِسْبَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ إلَى الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ أَنْ يُقَالَ: لا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَدَّ يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا؛ لأَنَّ الْمُرَادَ بِإِفَادَةِ النِّسْبَةِ: إفَادَةُ نِسْبَةٍ3 يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا، وَهُمَا لَمْ يُوضَعَا لإِفَادَةِ نِسْبَةٍ كَذَلِكَ4. انْتَهَى.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْجُمْلَةَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا وُضِعَ لإِفَادَةِ نِسْبَةٍ5، وَإِلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لإِفَادَةِ نِسْبَةٍ6، وَانْتَهَى7 الْكَلامُ عَلَى الأَوَّلِ. شَرَعَ فِي الْكَلامِ عَلَى الثَّانِي، * فَقَالَ:
ـــــــ
1 في ض: قلت.
2 في ش: مقيديه.
3 في ش: نسبته.
4 وأجاب العضد على توهم صدق الحد عليهما بأنه غير وارد؛ لأن كل واحد من هذين المثالين لم يوضع لإفادة النسبة، بل وضع لذاتٍ باعتبار نسبة، وهذه النسبة إنما تفهم منهما بالغرض. وقال الشريف الجرجاني: ولا شك أن اللفظ إنما وضع لإفادة ما يفهم منه بالذات لا ما يفهم منه بالعرض. "انظر الضد على ابن الحاجب وحاشية الجرجاني عليه 1/ 125 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 73".
5 في ع: نسبته.
6 في ع: نسبته.
7 في ز: وأنهى.(1/119)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ: كَلِمَةُ لَبِيدٍ1: أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلٌ2" فَسَمَّى ذَلِكَ كُلَّهُ كَلِمَةً.
وَهُوَ مَجَازٌ، مُهْمَلٌ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ، فَقِيلَ: هُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ بَعْضِهِ، وَقِيلَ: لَمَّا ارْتَبَطَتْ أَجْزَاءُ الْكَلامِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، حَصَلَ لَهُ3 بِذَلِكَ وَحْدَهُ، فَشَابَهَ بِهِ4 الْكَلِمَةَ5. فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ كَلِمَةً.
"وَ" يُرَادُ بِهِ، أَيْ بِالْكَلامِ "الْكَلِمَةُ" عَكْسُ مَا قَبْلَهُ، فَيُقَالُ: تَكَلَّمَ بِكَلامٍ، وَمُرَادُهُمْ "بِكَلِمَةٍ"6 قَالَ سِيبَوَيْهِ7 فِي قَوْلِهِمْ: "مَنْ أَنْتَ زَيْدٌ"، مَعْنَاهُ: مَنْ أَنْتَ، كَلامُك زَيْدٌ.
ـــــــ
1 هو الصحابي الجليل لبيد بن ربيعة العامري، أبو عقيل، من فحول الشعراء المجودين، كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان فارساً شجاعاً سخياً، وَفَدَ على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، وروي أنه لم يقل شعراً بعد إسلامه. توفي سنة 41هـ. "انظر ترجمته في الإصابة 3/ 326، الاستيعاب 3/ 324، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 70" و "كلمة لبيد" في النص ساقطة من ش.
2 رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة بهذا اللفظ، ورواه أحمد والترمذي عن أبي هريرة بلفظ "أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد" وعجز البيت:... وكل نعيم لا محالة زائل. "انظر كشف الخفا 1/ 131، الإصابة 3/ 327".
3 في ش: لك.
4 ساقط من ش.
5 في ش: لكلمة.
6 انظر همع الهوامع 1/ 29، الإحكام للآمدي 1/ 72.
7 هو عمرو بن عثمان بن قنبر، إمام البصريين، أبو بشر. قال الأزهري: "كان سيبويه علاّمة حسنَ التصنيف، جالسَ الخليل وأخذ عنه" صنف "الكتاب" في النحو، وهو من أجلّ ما ألف في هذا الشأن. توفي سنة 180هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/ 229، شذرات الذهب 1/ 252، إنباه الرواة 2/ 346، طبقات النحويين واللغويين ص66، البلغة ص173".(1/121)
"وَ" يُرَادُ بِالْكَلامِ أَيْضًا "الْكَلِمُ الَّذِي لَمْ يُفِدْ"1، وَمِنْهُ حَدِيثُ "الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ"2: "أُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنْ الْكَلامِ3" .فَيَشْمَلُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ، وَالْكَلِمَ الَّذِي لَمْ يُفِدْ.
وَالْحَالِفُ أَنْ لا يَتَكَلَّمَ، يَحْنَثُ بِمُطْلَقِ اللَّفْظِ.
"وَتَنَاوُلُ الْكَلامِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ الإِطْلاقِ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، كَالإِنْسَانِ" أَيْ كَتَنَاوُلِ لَفْظِ الإِنْسَانِ "لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ". قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: عِنْدَ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ، وَالأَكْثَرِ4.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلامِ: مُسَمَّى الْكَلامِ هُوَ اللَّفْظُ، وَأَمَّا الْمَعْنَى: فَلَيْسَ جُزْأَهُ، بَلْ مَدْلُولَهُ، وَقَالَهُ النُّحَاةُ: لِتَعَلُّقِ صِنَاعَتِهِمْ بِاللَّفْظِ فَقَطْ5.
ـــــــ
1 انظر همع الهوامع 1/ 31.
2 في ش: البراز. وهو تصحيف قبيح.
والمذكور هو الصحابي الجليل البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري، أبو عمارة، من كرام الصحابة وخيارهم، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فرده عنها لصغر سنّه، فلم يشهدها، ثم شهد أحداً وغيرها من المشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً من الأحاديث. توفي سنة 72هـ. "انظر ترجمته في الإصابة 1/ 142، الاستيعاب 1/ 139".
3 هذ الحديث لم يُعرف من رواية البراء، بل من رواية زيد بن أرقم. وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترميذي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة 238] "فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" وليس في رواية البخاري "ونهينا عن الكلام". وقد أشار المجد بن تيمية في "منتقى الأخبار" إلى أنه أخرجه النسائي أيضاً عن زيد بن أرقم. قال الشوكاني: "وفي الباب عن جابر بن عبد الله عند الشيخين، وعن عمار عند الطبراني، وعن أبي أمامة عند الطبراني أيضاً، وعن أبي سعيد عند البزار، وعن معاوية بن الحكم وابن مسعود". "انظر صحيح البخاري 2/ 79، 6/ 38، صحيح مسلم 1/ 383، تحفة الأحوذي 8/ 330، سنن أبي داود 1/ 344، نيل الأوطار 2/ 354".
4 فتاوى ابن تيمية 12/ 35.
5 انظر فتاوى ابن تيمية 13/ 67.(1/122)
وَعَكَسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِلابٍ1 وَأَتْبَاعُهُ ذَلِكَ، فَقَالُوا: مُسَمَّى الْكَلامِ الْمَعْنَى فَقَطْ2.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ كِلابٍ: الْكَلامُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، فَيُسَمَّى اللَّفْظُ كَلامًا3 حَقِيقَةً، وَيُسَمَّى الْمَعْنَى كَلامًا حَقِيقَةً4.
وَرُوِيَ عَنْ الأَشْعَرِيِّ5 وَبَعْضِ الْكِلابِيَّةِ: أَنَّ الْكَلامَ حَقِيقَةٌ فِي لَفْظِ الآدَمِيِّينَ، لأَنَّ حُرُوفَ الآدَمِيِّينَ تَقُومُ بِهِمْ، مَجَازٌ6 فِي كَلامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأَنَّ الْكَلامَ الْعَرَبِيَّ عِنْدَهُمْ لا يَقُومُ بِهِ تَعَالَى7.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: "اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى، 8 فَإِنْ كَانَ 8 كَلامُهُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ. وَالنَّظْمُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي يَدُلُّ
ـــــــ
1 هو عبد الله بن سعيد بن محمد بن كُلاّب، القطان البصري، أحد أئمة المتكلمين. توفي بعد سنة 240هـ بقليل. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 1/ 299، لسان الميزان 3/ 290".
2 انظر فتاوى ابن تيمية 12/ 67.
3 في ع: الكلام.
4 انظر الإحكام للآمدي 1/ 71، القواد والفوائد الأصولية ص154، التمهيد للأسنوي ص30.
5 هو علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن الأشعري البصري، المتكلم النظّار الشهير. من كتبه "اللمع" و "مقالات الإسلاميين" و "الأسماء والصفات" و "الرد على المجسمة" و "الفصول في الرد على الملحدين" وغيرها. توفي سنة 324هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 3/ 347-444، وفيات الأعيان 2/ 446، المنتظم 6/ 332، شذرات الذهب 2/ 303، طبقات المفسرين للداودي 1/ 390، الذيباج المذهب 2/ 94".
6 في ع: مجازاً.
7 انظر فتاوى ابن تيمية 12/ 526. وفي ش: تعالى بل كلام غيره ومن العلوم.
8 في ش: لا أن.(1/123)
عَلَى الْمَعْنَى لَيْسَ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى، كَانَ مَخْلُوقًا، خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِهِ، فَيَكُونُ كَلامًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ، لأَنَّ الْكَلامَ إذَا خُلِقَ فِي مَحَلٍّ كَانَ كَلامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ، فَيَكُونُ الْكَلامُ الْعَرَبِيُّ لَيْسَ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كَلامُ غَيْرِهِ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الإِسْلامِ: أَنَّ الْكَلامَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَمَ أُمَّتَهُ أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى، لا كَلامُ غَيْرِهِ1. انْتَهَى.
ـــــــ
1 انظر فتاوى ابن تيمية 12/ 74، 297، 407. ويقول اين تيمية في هذا المقالم: "ولهذا قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] فأخبر أن ما يسمعه المستجير هو كلام الله. والمستجير يسمعه بصوت القارىء، فالصوت صوت القارىء، والكلام كلام الباري... الخ" "الرد على المنطقيين ص542" ويقول العز بن عبد السلام: "ومذهبنا أن كلام الله سبحانه قديم أزلي قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق، كما لا تشبه ذاته ذات الخلق، ولا يتصور في شيء من صفاته أن تفارق ذاته، إذ لو فارقته لصار ناقصاً، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهو مع ذلك مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، وصفة الله القديمة ليست بمداد الكاتبين، والا ألفاظ اللافظين". "طبقات الشافعية للسبكي 8/ 233، طبقات المفسرين للداودي 1/ 320".(1/124)
فصل في الدلالة
...
"فَصْلٌ" " الدَّلالَةُ" بِفَتْحِ الدَّالِ - عَلَى الأَفْصَحِ- مَصْدَرُ دَلَّ يَدُلُّ دَلالَةً.
"وَهِيَ" أَيْ الدَّلالَةُ الْمُرَادَةُ هُنَا "مَا" يَعْنِي الَّتِي "يَلْزَمُ مِنْ فَهْمِ شَيْءٍ" أَيِّ شَيْءٍ كَانَ "فَهْمُ" شَيْءٍ "آخَرَ" يَعْنِي كَوْنَ الشَّيْءِ يَلْزَمُ مِنْ فَهْمِهِ فَهْمُ شَيْءٍ آخَرَ. فَالشَّيْءُ الأَوَّلُ: هُوَ الدَّالُّ، وَالشَّيْءُ الثَّانِي: هُوَ الْمَدْلُولُ1.
"وَهِيَ" أَيْ الدَّلالَةُ الْمُطْلَقَةُ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ2:
الأَوَّلُ: مَا دَلالَتُهُ "وَضْعِيَّةٌ" كَدَلالَةِ الأَقْدَارِ عَلَى مَقْدُورَاتِهَا، وَمِنْهُ: دَلالَةُ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، كَالدُّلُوكِ3 عَلَى وُجُوبِ الصَّلاةِ، وَكَدَلالَةِ الْمَشْرُوطِ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ، كَالصَّلاةِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِلاَّ لَمَا صَحَّتْ.
"وَ" النَّوْعُ الثَّانِي: مَا دَلالَتُهُ "عَقْلِيَّةٌ" كَدَلالَةِ الأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَمِنْهُ: دَلالَةُ الْعَالَمِ عَلَى مُوجِدِهِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ـــــــ
1 انظر تعريف الدلالة في "شرح تنقيح الفصول ص23، التعريفات للجرجاني ص109، شرح الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص27 وما بعدها، تحرير القواعد المنطقية ص28، إيضاح المبهم ص6، المنطق لمحمد المبارك العبد الله ص16".
2 جرت عادة المناطقة في بحث الدلالة تقسيمها إلى قسمين: دلالة لفظية، ودلالة غير لفظية. وتقسيم كل منهما إلى ثلاثة أقسام: وضعية، وعقلية، وطبيعية. وقد فات المصنف في تقسيمه هذا: الدلالة الطبيعية غير اللفظية، كدلالة الحمرة على الخجل، والصفرة على الوجل، ودلالة الأعراض الخاصة بكل مرض عليه، ونحوها. "انظر المراجع المنطقية السابقة".
3 في ش: كالمدلول.(1/125)
"وَ" النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا دَلالَتُهُ "لَفْظِيَّةٌ" أَيْ مُسْتَنِدَةٌ1 إلَى وُجُودِ اللَّفْظِ. "وَ" هَذِهِ "اللَّفْظِيَّةُ" ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ:
- "طَبِيعِيَّةٌ": كَدَلالَةِ: أَحْ أَحْ.. عَلَى وَجَعِ الصَّدْرِ.
- "وَ" الْقِسْمُ الثَّانِي "عَقْلِيَّةٌ": كَدَلالَةِ الصَّوْتِ عَلَى حَيَاةِ صَاحِبِهِ.
- "وَ" الْقِسْمُ الثَّالِثُ "وَضْعِيَّةٌ، وَهَذِهِ" الدَّلالَةُ الْوَضْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَقْسَامِ اللَّفْظِيَّةِ "كَوْنُ اللَّفْظِ إذَا أُطْلِقَ فُهِمَ" مِنْ إطْلاقِهِ "مَا وُضِعَ لَهُ" 2.
"وَهِيَ" أَيْ وَدَلالَةُ اللَّفْظِ الْوَضْعِيَّةُ "عَلَى مُسَمَّاهُ" أَيْ مُسَمَّى ذَلِكَ اللَّفْظِ "مُطَابَقَةٌ" أَيْ: دَلالَةُ مُطَابَقَةٍ، كَدَلالَةِ الإِنْسَانِ عَلَى الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الدَّلالَةُ مُطَابَقَةً. لأَنَّ اللَّفْظَ مُوَافِقٌ لِتَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: "طَابَقَ النَّعْلُ النَّعْلَ" إذَا تَوَافَقَتَا. فَاللَّفْظُ. مُوَافِقٌ لِلْمَعْنَى، لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا بِإِزَائِهِ.
"وَجُزْئِهِ3" أَيْ4 وَدَلالَةُ اللَّفْظِ الْوَضْعِيَّةُ عَلَى جُزْءِ مُسَمَّاهُ "تَضَمُّنٌ" أَيْ دَلالَةُ تَضَمُّنٍ، كَدَلالَةِ الإِنْسَانِ5 عَلَى حَيَوَانٍ فَقَطْ6، أَوْ عَلَى نَاطِقٍ فَقَطْ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لأَنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى مَا فِي ضِمْنِ الْمُسَمَّى.
ـــــــ
1 في ع ض ب: مسنده. وفي ز: مستند.
2 انظر تعريفات الجرجاني ص110، الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص29، تحرير القواعد المنطقية ص29.
3 في ع ض: جزئية.
4 ساقطة من ب.
5 في ع: إنسان.
6 في ز: ناطق.(1/126)
"وَلازِمِهِ" أَيْ وَدَلالَةِ1 اللَّفْظِ عَلَى لازِمِ مُسَمَّاهُ "الْخَارِجِ" كَدَلالَةِ الإِنْسَانِ2 عَلَى كَوْنِهِ ضَاحِكًا، أَوْ قَابِلاً صَنْعَةَ الْكِتَابَةِ "الْتِزَامٌ" أَيْ دَلالَةُ الْتِزَامٍ3.
"وَهِيَ عَلَيْهِ4" أَيْ وَدَلالَةُ اللَّفْظِ عَلَى لازِمِ مُسَمَّاهُ الْخَارِجِ عَنْهُ دَلالَةٌ "عَقْلِيَّةٌ"5.
وَكَوْنُ دَلالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ لَفْظِيَّتَيْنِ، وَدَلالَةِ الالْتِزَامِ عَقْلِيَّةٌ، هُوَ الَّذِي6 قَدَّمَهُ فِي "التَّحْرِيرِ"، وَاخْتَارَهُ الآمِدِيُّ7 وَابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ مُفْلِحٍ وَابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ8.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ع: انسان.
3 انظر تفصيل الكلام على دلالة المطابقة والتضمن والالتزام في "شرح تنقيح الفصول ص24، المستصفى 1/ 30، الإحكام للآمدي 1/ 15، شرح العضد وحواشيه 1/ 120 وما بعدها، الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص23 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 237 وما بعدها، فتح الرحمن ص52 وما بعدها، تحرير القواعد المنطقية ص29، إيضاح المبهم ص6".
4 في ع ز: عقلية.
5 انظر فتح الرحمن ص53.
6 في ش: ما.
7 هو علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي، أبو الحسن، سيف الدين الآمدي، الفقيه الأصولي المتكلم. قال سبط ابن الجوزي: "لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام". من كتبه "أبكار الأفكار" في علم الكلام و "الإحكام في أصول الأحكام" في أصول الفقه وغيرها، توفي سنة 631هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 8/ 306، وفيات الأعيان 2/ 455، شذرات الذهب 5/ 144".
8 انظر شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 121 وما بعدها ، الإحكام للآمدي 1/ 15.(1/127)
وَقِيلَ: الثَّلاثُ لَفْظِيَّةٌ1. وَحَكَاهُ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ" عَنْ الأَكْثَرِ، وَقِيلَ: الْمُطَابَقَةُ لَفْظِيَّةٌ، وَالتَّضَمُّنُ وَالالْتِزَامُ: عَقْلِيَّتَانِ2.
"وَالْمُطَابَقَةُ" أَيْ وَدَلالَةُ الْمُطَابَقَةِ "أَعَمُّ" مِنْ دَلالَةِ التَّضَمُّنِ وَالالْتِزَامِ، لِجَوَازِ كَوْنِ الْمُطَابَقَةِ بَسِيطَةً، لا تَضَمُّنَ فِيهَا، وَلا لَهَا3 لازِمٌ4 خَارِجِيٌّ.
"وَ" قَدْ "يُوجَدُ مَعَهَا تَضَمُّنٌ بِلا الْتِزَامٍ" بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى مُرَكَّبٍ، وَلا يَكُونُ لَهُ لازِمٌ خَارِجِيٌّ، فَيُوجَدُ "مَعَ الْمُطَابَقَةِ دَلالَةُ تَضَمُّنٍ بِدُونِ دَلالَةِ الْتِزَامِ5 "وَعَكْسُهُ" بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا "لِمَعْنًى بَسِيطٍ"6 وَلَهُ7 لازِمٌ خَارِجِيٌّ فَيُوجَدُ"8 مَعَ الْمُطَابَقَةِ دَلالَةُ الْتِزَامٍ بِدُونِ دَلالَةِ التَّضَمُّنِ9.
"وَالتَّضَمُّنُ" أَيْ وَدَلالَةُ التَّضَمُّنِ "أَخَصُّ" مِنْ دَلالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَدَلالَةِ الالْتِزَامِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: دَلالَةُ الالْتِزَامِ مُسَاوِيَةٌ لِدَلالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَهُمَا أَعَمُّ
ـــــــ
1 انظر فتح الرحمن ص53، الأنصاري على إساغوجي ص31.
2 المحلي على جمع الجوامع 1/ 238، الأنصاري على إيساغوجي ص31، الطراز ص1/ 38، فتح الرحمن ص53.
3 في ض: دلالتها.
4 في ش: لزوم.
5 في ش ز: الالتزام.
6 والمعنى البسيط لا جزء له. "تحرير القواعد المنطقية ص32". وفي ش: من بسيط الكلام.
7 في د ع: ولا له.
8 ساقطة من ش.
9 انظر تحرير القواعد المنطقية وحاشية الجرجاني عليه ص32، الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص30، فتح الرحمن ص53.(1/128)
مِنْ التَّضَمُّنِ، لِجَوَازِ كَوْنِ الْمَدْلُولِ1 وَاللاَّزِمِ بَسِيطًا لا جُزْءَ لَهُ2، انْتَهَى.
وَإِذْ قَدْ3 فَرَغْنَا مِنْ الْكَلامِ عَلَى دَلالَةِ اللَّفْظِ، فَلْنَشْرَعْ الآنَ4 عَلَى الدَّلالَةِ بِاللَّفْظِ.
"وَالدَّلالَةُ بِاللَّفْظِ: اسْتِعْمَالُهُ" أَيْ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَوْضُوعِهِ الأَوَّلِ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "فِي الْحَقِيقَةِ" أَوْ5 اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ الأَوَّلِ لِعَلاقَةٍ بَيْنَ الْغَيْرِ وَبَيْنَ مَوْضُوعِهِ الأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "وَالْمَجَازُ"6.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ "بِاللَّفْظِ" لِلاسْتِعَانَةِ وَالسَّبَبِيَّةِ؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ يَدُلُّنَا عَلَى
ـــــــ
1 في ش: المضمون.
2 هذه الفقرة مناقضة للفقرة التي سبقتها، حيث ذكر في الأول أن دلالة المطابقة أعم من دلالة الالتزام، إذ قد توجد المطابقة بلا التزام، وذكر في الثانية أن دلالة المطابقة مساوية لدلالة الالتزام، ومقتضاه استلزام المطابقة للالتزام.
ومنشأ هذا التناقض أنه جرى في الأولى على رأي عموم المناطقة من أن المطابقة أعم من التضمن والالتزام. وجرى في الثانية على رأي ابن مفلح بأن بين المطابقة والالتزام تساوٍ. وهو مذهب الفخر الرازي الذي خالف فيه عامة المناطقة.
وقد كان الأول بالمصنف بعد أن سار على رأي جمهور المناطقة في الفقرة الأولى أن يسير عليه في الثانية، فيقول: إن التضمن والالتزام أخص من المطابقة، أو أن يبدأ الفقرة الثانية بـ"قيل" دفعاً للتناقض والالتباس.
"انظر تحرير القواعد المنطقية وحاشية الجرجاني عليه ص32، فتح الرحمن ص53، الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص30".
3 ساقطة من ش.
4 في ش: الآن في الكلام.
5 في ض ب ع: و.
6 انظر شرح الفصول ص26.(1/129)
مَا فِي نَفْسِهِ بِإِطْلاقِ لَفْظِهِ، فَإِطْلاقُ اللَّفْظِ1 "آلَةٌ" لِلدَّلالَةِ، كَالْقَلَمِ لِلْكِتَابَةِ.
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ: فَالْفَرْقُ بَيْنَ دَلالَةِ اللَّفْظِ وَالدَّلالَةِ بِاللَّفْظِ مِنْ وُجُوهٍ2:
أَوَّلُهَا: مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ: فَإِنَّ مَحَلَّ دَلالَةِ اللَّفْظِ الْقَلْبُ، وَمَحَلَّ الدَّلالَةِ بِاللَّفْظِ اللِّسَانُ.
الثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ: فَدَلالَةُ اللَّفْظِ3، صِفَةٌ لِلسَّامِعِ، وَالدَّلالَةُ بِاللَّفْظِ صِفَةٌ لِلْمُتَكَلِّمِ.
الثَّالِثُ: مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ: فَالدَّلالَةُ بِاللَّفْظِ سَبَبٌ، وَدَلالَةُ اللَّفْظِ مُسَبَّبٌ عَنْهَا.
الرَّابِعُ: مِنْ جِهَةِ الْوُجُودِ: فَكُلَّمَا وُجِدَتْ دَلالَةُ اللَّفْظِ وُجِدَتْ الدَّلالَةُ بِاللَّفْظِ، بِخِلافِ الْعَكْسِ.
الْخَامِسُ: مِنْ جِهَةِ الأَنْوَاعِ: فَدَلالَةُ اللَّفْظِ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ: مُطَابَقَةٌ، وَتَضَمُّنٌ، وَالْتِزَامٌ. وَالدَّلالَةُ بِاللَّفْظِ نَوْعَانِ: حَقِيقَةٌ، وَمَجَازٌ
"وَالْمُلازَمَةُ" الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَلازِمِهِ الْخَارِجِ أَنْوَاعٌ:
- "عَقْلِيَّةٌ": كَالزَّوْجِيَّةِ اللاَّزِمَةِ لِلاثْنَيْنِ.
- "وَشَرْعِيَّةٌ": كَالْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ اللاَّزِمَيْنِ لِلْمُكَلَّفِ.
- وَعَادِيَةٌ كَالارْتِفَاعِ اللاَّزِمِ لِلسَّرِيرِ.
ـــــــ
1 في ش: لفظه.
2 انظر شرح تنقيح الفصول ص26.
3 في ش: الوصف.(1/130)
"وَ" قَدْ "تَكُونُ" الْمُلازَمَةُ "قَطْعِيَّةً" كَالْوُجُودِ اللاَّزِمِ لِلْمَوْجُودِ "وَ" قَدْ تَكُونُ الْمُلازَمَةُ "ضَعِيفَةً1 جِدًّا" كَالْعَادَةِ اللاَّزِمَةِ لِزَيْدٍ، مِنْ كَوْنِهِ إذَا أَتَى لِمَحَلِّ كَذَا يَحْجُبُهُ عَمْرٌو2.
"وَ" قَدْ تَكُونُ الْمُلازَمَةُ "كُلِّيَّةً" كَالزَّوْجِيَّةِ اللاَّزِمَةِ لِكُلِّ عَدَدٍ لَهُ نِصْفٌ صَحِيحٌ "وَ" قَدْ تَكُونُ الْمُلازَمَةُ "جُزْئِيَّةً" كَمُلازَمَةِ الْمُؤَثِّرِ لِلأَثَرِ حَالَ حُدُوثِهِ.
ـــــــ
1 في ب: وضعية.
2 انظر شرح تنقيح الفصول ص25.(1/131)
فصل في الكلي والجزئي
...
"فَصْلٌ"
"إذَا اتَّحَدَ اللَّفْظُ وَمَعْنَاهُ" الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ "وَاشْتَرَكَ فِي مَفْهُومِهِ" أَيْ مَفْهُومِ لَفْظِهِ "كَثِيرٌ" يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِمْ1 إيجَابًا2؛ لأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ "وَلَوْ" كَانَ الاشْتِرَاكُ "بِالْقُوَّةِ" دُونَ الْحَقِيقَةِ، بِأَنْ لَمْ يَمْنَعْ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ3. وَلَمْ تَتَفَاوَتْ أَفْرَادُهُ بِاسْتِغْنَاءٍ وَافْتِقَارٍ، أَوْ شِدَّةٍ وَضَعْفٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ "فَـ" ـهُوَ "كُلِّيٌّ" كَالْحَيَوَانِ الصَّادِقِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ4.
"وَهُوَ" أَيْ الْكُلِّيُّ قِسْمَانِ:
- قِسْمٌ "ذَاتِيٌّ": وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِيقَةِ ذَاتِ الشَّيْءِ، مِثْلُ الْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الإِنْسَانِ5.
- "وَ" قِسْمٌ "عَرَضِيٌّ": مَنْسُوبٌ إلَى الْعَرَضِ، مِثْلُ الضَّاحِكِ
ـــــــ
1 في ش, على.
2 قال الشريف الجرجاني: أي يمكن حمله عليهم, بأن يشترك في مفهومه كثيرون, لا في نفس الأمر، بل بمجرد ملاحظة العقل لذلك المفهوم. وإنما قُيَّدَ الحمل بالإيجاب, لأن الجزئي يمكن حمله على كثيرين سلبأ. "حاشية الجرجاني على شرح العضد 1/126".
3 أي من اشتراكه بين كثيرين وصدقه عليهم. "تحرير القواعد المنطقية ص45".
4 انظر تفصيل الكلام على على الكلي في "تحرير القواع المنطقية وحاشية الجرجاني عليه ص44 وما بعدها, المحلي على جمع الجوامع1/274, الإحكام للآمدي 1/16, شرح تنقيح الفصول ص27 وما بعدها، فتح الرحمن ص53 وما بعدها، الأنصاري على إيساغوجي وحاشية عليش عليه ص39 وما بعدها".
5 فإنه داخل في حقيقة جزئياته، لتركب الإنسان من الحيوان والناطق. "عليش على إيساغوجي ص44".(1/132)
بِالنِّسْبَةِ إلَى الإِنْسَانِ، لأَنَّ الضَّحِكَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الإِنْسَانِ1.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا "فَإِنْ تَفَاوَتَ2" أَيْ تَفَاوَتَتْ أَفْرَادُ الْكُلِّيِّ بِقِلَّةٍ وَكَثْرَةٍ، كَنُورِ السِّرَاجِ وَالشَّمْسِ3، أَوْ بِإِمْكَانِ التَّغَيُّرِ4 وَاسْتِحَالَتِهِ5، كَالْوُجُودِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ6، أَوْ الاسْتِغْنَاءِ وَالافْتِقَارِ، كَالْوُجُودِ7 بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ8، أَوْ بِشِدَّةٍ وَضَعْفٍ، كَبَيَاضِ الثَّلْجِ وَبَيَاضِ الْعَاجِ، أَوْ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ، كَالْوُجُودِ لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ "فَمُشَكِّكٌ" لأَنَّهُ يَتَشَكَّكُ9 النَّاظِرُ فِيهِ: هَلْ هُوَ مُتَوَاطِئٌ10 لِوُجُودِ11 الْكُلِّيِّ12 فِي أَفْرَادِهِ، أَوْ مُشْتَرَكٌ لِتَغَايُرِ أَفْرَادِهِ؟ فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ "شَكَّكَ"
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على الذاتي والعرضي في "العضد على ابن الحاجب 1/ 71، 80، الإحكام للآمدي 1/ 17، تحرير القواعد المنطقية ص46-60، شرحا إيساغوجي للأنصاري وعليش ص44 وما بعدها".
2 في ش ع: تفاوتت.
3 فإن أفراد النور في الشمس أكثر وفي السراج أقل. "شرح تنقيح الفصول ص30".
4 في ز: التغيير.
5 في ع: واستحالة.
6 فإن الوجود الوجب لا يقبل التغير ولا الفناء ولا العدم ولا الزوال، والوجود الممكن بخلاف ذلك. "شرح نيقيح الفصول ص30".
7 في ش: كالموجود.
8 فالجوهر مستغن عن محل يقوم به، والعرض مفتقر إلى محل يقوم به. "شرح تنقيح الفصول ص31".
9 في ش ع ب: يشكك.
10 في ش: منوط.
11 في ش: بوجود.
12 ف ع: الكل.(1/133)
الْمُضَاعَفُ 1 مِنْ شَكَّ 1 إذَا تَرَدَّدَ2.
وَقَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَتَمْثِيلُنَا بِالْوُجُودِ لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ لِلْمُشَكِّكِ: ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ، تَبَعًا لِلآمِدِيِّ3، وَابْنِ الْحَاجِبِ4، لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرَهُ الآمِدِيُّ إجْمَاعًا.
"وَإِلاَّ" أَيْ وَإِنْ لَمْ تَتَفَاوَتْ أَفْرَادُ الْكُلِّيِّ "فَـ" ـهُوَ "مُتَوَاطِئٌ"5، لأَنَّهُ الَّذِي تَتَسَاوَى6 أَفْرَادُهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ الَّذِي تَشَارَكَتْ فِيهِ، كَالإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِهِ. فَإِنَّ الْكُلِّيَّ فِيهَا - وَهُوَ الْحَيَوَانِيَّةُ وَالنَّاطِقِيَّةُ- لا يَتَفَاوَتُ فِيهَا بِزِيَادَةٍ وَلا نَقْصٍ. وَسُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ التَّوَاطُؤِ، وَهُوَ التَّوَافُقُ7.
[وَ] لا يُقَالُ: إنَّهُ لا حَقِيقَةَ لِلْمُشَكِّكِ؛ لأَنَّ مَا حَصَلَ بِهِ الاخْتِلافُ؛ إنْ دَخَلَ فِي التَّسْمِيَةِ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا، وَإِلاَّ كَانَ مُتَوَاطِئًا! لأَنَّا نَقُولُ: إنَّهُ دَاخِلٌ فِي التَّسْمِيَةِ، وَلا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا؛ لأَنَّ الْمُشْتَرَكَ مَا لَيْسَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، كَلَفْظِ الْعَيْنِ الصَّادِقِ بِالْبَاصِرَةِ وَالذَّهَبِ،
ـــــــ
1 ساقطة من ض.
2 انظر تفصيل الكلام على المشكك في "تحرير القواعد المنطقية ص39، شرح تنقيح الفصول ص30، المحلي على جمع الجوامع 1/ 275، إرشاد الفحول ص17، فتح الرحمن ص52".
3 الإحكام في أصول الأحكام 1/ 17.
4 مختصر ابن الحاجب وشرحه للعضد 1/ 126.
5 في ب: المتواطىء.
6 في ض: تساوي.
7 وذلك لتوافق أفراده في معناه. انظر تفصيل الكلام على المتواطىء في "المحلي على جمع الجوامع /274، تحرير القواعد المنطقية ص39، فتح الرحمن ص52، شرح تنقيح الفصول ص20، حاشية عليش على شرح إيساغوجي ص41".(1/134)
سُمِّيَ بِذَلِكَ الاسْمِ، وَلا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الْمُتَوَاطِئِ1؛ لأَنَّ الْمُتَوَاطِئَ2 أَعَمُّ مِمَّا تَسَاوَتْ أَفْرَادُهُ أَوْ تَفَاوَتَتْ: إلاَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ تَفَاوُتٌ: فَهُوَ مُشَكِّكٌ3.
"وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِكْ" فِي مَفْهُومِ اللَّفْظِ كَثِيرٌ4 "كَمُضْمَرٍ" فِي الأَصَحِّ عِنْدَ الأَكْثَرِ5 لِوَجْهَيْنِ:
الأَوَّلِ: إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ. فَلَوْ كَانَ مُسَمَّاهُ كُلِّيًّا لَكَانَ نَكِرَةً.
الثَّانِي: أَنَّ مُسَمَّى الْمُضْمَرِ لَوْ كَانَ كُلِّيًّا كَانَ دَالاًّ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ. وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ: "أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى
ـــــــ
1 في ش: التواطؤ.
2 في ش: التواطؤ.
3 قال الشيخ عليش: "قال ابن التلمساني: لا حقيقة للمشكك لأن ما به التفاوت إن دخل في التسمية فمشترك، وإلا فمتواطىء! وأجاب عنه القرفي بأن كُلاَّ من المتواطىء والمشكك موضوع للقدر المشترك، ولكن التفاوت إن كان بأمور من جنس المسمى فمشكك، وإن كان بأمور خارجة عنه كالذكورة والأنوثة والعلم والجهل فمتواطىء. وسمى مشككاً لأن الناظر فيه إن نظر لأصل المعنى عرف أنه متواطىء، وإن نظر إلى تفاوته ظن أنه مشترك، فيشكك في كونه متواطئاً أو مشتركاً". "انظر حاشية عليش على شرح إيساغوجي ص42، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1/ 275، حاشية العليمي على فتح الرحمن ص52".
4 ساقطة من ع.
5 اختلف المناطقة في كون الضمير جزئياً أو كلياً على ثلاثة أقوال: "احداها" أنه جزئي كالأعلام. وهو قول أكثر المناطقة. "والثاني" أنه كلّي لصدقه على كثيرين من حيث هو. وهو قول القرافي. "والثالث" أنه كلّي وضعاً وجزئي استعمالاً. وهو قول أبي حيان. "انظر فتح الرحمن وحاشية العليمي عليه ص54، شرح تنقيح الفصول ص34 وما بعدها".(1/135)
الأَخَصِّ"، فَيَلْزَمُ أَنْ لا يَدُلَّ الْمُضْمَرُ عَلَى شَخْصٍ خَاصٍّ أَلْبَتَّةَ1. وَلَيْسَ كَذَلِكَ2.
وَمِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو. وَهَذَا الإِنْسَانُ "فَجُزْئِيٌّ"3 لانْدِرَاجِهِ تَحْتَ الْكُلِّيِّ.
"وَيُسَمَّى النَّوْعُ" الْمُنْدَرِجُ تَحْتَ الْجِنْسِ مِثْلُ نَوْعِ الإِنْسَانِ الْمُنْدَرِجِ تَحْتَ جِنْسِ4 الْحَيَوَانِ "جُزْئِيًّا إضَافِيًّا"5.
فَكُلُّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ - عَالٍ أَوْ وَسَطٍ أَوْ سَافِلٍ-: كُلِّيٌّ لِمَا تَحْتَهُ، جُزْئِيٌّ لِمَا فَوْقَهُ، لَكِنْ لا بُدَّ فِي الْجُزْئِيِّ مِنْ مُلاحَظَةِ قَيْدِ الشَّخْصِ وَالتَّعْيِينِ فِي التَّصَوُّرِ، وَإِلاَّ لَصَدَقَ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ، إذْ لا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاكٍ6، وَلَوْ فِي أَخَصِّ صِفَاتِ النَّفْسِ7.
"وَ" الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ "مُتَعَدِّدُ اللَّفْظِ فَقَطْ" أَيْ دُونَ أَنْ يَتَعَدَّدَ مَعْنَاهُ كَالْبُرِّ وَالْقَمْحِ الْمُسَمَّى بِهِ الْحَبُّ الْمَعْرُوفُ. وَكَاللَّيْثِ وَالأَسَدِ "مُتَرَادِفٌ" لِتَرَادُفِ اللَّفْظَيْنِ بِتَوَارُدِهِمَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ8.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 انظر شرح تنقيح الفصول ص34.
3 أي جزئي حقيقي بقرينة مقابلته بالكلي. "شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 126".
4 في ش:جزئي.
5 أي بالإضافة إلى جنسه الذي هو أعم منه. "الجرجاني على شرح العضد 1/ 126، عليش على شرح إيساغوجي ص42".
6 في ش: اشترك.
7 انظر تفصيل الكلام على الجزئي الحقيقي والإضافي في تحرير القواعد المنطقية وحاشية الجرجاني عليه ص69 وما بعدها.
8 انظر تفصيل الكلام على المترادف في "المزهر 1/ 402 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 23 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع 1/ 275".(1/136)
"وَ" مُتَعَدِّدُ "الْمَعْنَى فَقَطْ" أَيْ دُونَ اللَّفْظِ "مُشْتَرَكٌ" كَالذَّهَبِ وَالْبَاصِرَةِ. فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي لَفْظِ "الْعَيْنِ" لِصِدْقِهِ عَلَيْهِمَا1.
وَلا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا إلاَّ "إنْ كَانَ" اللَّفْظُ وُضِعَ "حَقِيقَةً لِلْمُتَعَدِّدِ" كَمَا مَثَّلْنَا "وَإِلاَّ" أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُضِعَ حَقِيقَةً لِلْمُتَعَدِّدِ، بَلْ كَانَ مَوْضُوعًا لأَحَدِهِمَا، ثُمَّ نُقِلَ إلَى الثَّانِي لِمُنَاسَبَةٍ "فَـ" ـهُوَ "حَقِيقَةٌ" بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ2 "وَمَجَازٌ" بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْقُولِ إلَيْهِ، كَلَفْظِ "السَّمَاءِ" فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي السَّمَاءِ الْمَعْهُودَةِ، وَمَجَازٌ فِي الْمَطَرِ. قَالَ الشَّاعِرُ3:
إذَا نَزَلَ4 السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا5
وَكَالأَسَدِ، فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ حَقِيقَةٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَجَازٌ6.
"وَهُمَا" أَيْ وَمُتَعَدِّدُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى: أَلْفَاظٌ "مُتَبَايِنَةٌ" لَمَعَانٍ مُتَبَايِنَةٍ،
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على المشترك في "شرح تنقيح الفصول ص29، العضد على ابن لحاجب 1/ 127 وما بعدها، المزهر 1/ 369 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 19 وما بعدها".
2 ساقطة من ع.
3 هو مُعَوَّد الحكماء، معاوية بن مالك بن جعفر بن كلاب كما في لسان العرب 14/ 399 والاقتضاب ص320 والمفضليات ص359 ومعجم الشعراء ص391 وغيرها "انظر تحقيق العلامة السيد أحمد صقر لتأويل مشكل القرآن ص135".
4 قال ابن البطليوسي في "شرح أدب الكاتب": المراد "إذا نزل المطر بأرض قوم فأخصبت بلادهم وأجدبت بلادنا سرنا إليها فرعينا نباتها، وإن غضب أهلها لم تبالِ بغضبهم لعزّنا ومنعتنا". "الاقتضاب ص320".
5 جاء في بعض الرويات: إذا سقط السماء، وفي بعضها: إذا نزل السحاب.
6 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 276، إرشاد الفحول ص17.(1/137)
سَوَاءٌ "تَفَاصَلَتْ" تِلْكَ الْمَعَانِي1، كَمُسَمَّى إنْسَانٍ، وَمُسَمَّى فَرَسٍ "أَوْ تَوَاصَلَتْ" بِأَنْ كَانَ بَعْضُ الْمَعَانِي صِفَةً لِلْبَعْضِ الآخَرِ. كَالسَّيْفِ وَ2 الصَّارِمِ. فَإِنَّ "السَّيْفَ" اسْمٌ لِلْحَدِيدَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَلَوْ مَعَ كَوْنِهَا كَآلَةٍ، و "وَالصَّارِمُ" اسْمٌ لِلْقَاطِعَ3، وَالنَّاطِقِ4 وَالْفَصِيحِ وَالْبَلِيغِ5.
وَالْمُرَادُ بِتَوَاصُلِهِا6: أَنَّهُ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُا7 فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَنَحْوُ8 ذَلِكَ، لَوْ9 كَانَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا مِنْ الآخَرِ، كَالإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.
"وَكُلُّهَا" أَيْ: وَكُلُّ الأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثِيَّةِ الاشْتِقَاقِ وَعَدَمِهِ قِسْمَانِ:
- قِسْمٌ "مُشْتَقٌّ": وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى ذِي صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، كَضَارِبٍ وَعَالِمٍ "وَنَحْوِهِمَا.
- "وَ" قِسْمٌ "غَيْرُهُ" أَيْ غَيْرُ مُشْتَقٌّ: وَهُوَ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذِي صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَالْجِسْمِ وَالإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ.
"وَ" مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَصْفٌ أَوْ غَيْرُ وَصْفٍ قِسْمَانِ أَيْضًا:
ـــــــ
1 في ش: المعاني أي لم يرتبط أحدهما بالآخر كضرب زيد عمراً و.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: للقطع.
4 في ش: والناطق.
5 ساقطة من ز ع.
6 في ش ز ع: بتوصيلهما.
7 في ش ز ع: اجتماعهما.
8 في ض ب: ونحوه.
9 في ش: ولو.(1/138)
- قِسْمٌ "صِفَةٌ": إنْ دَلَّ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِذَاتٍ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَقَالَ الْعَضُدُ: "هُنَا الصِّفَةُ مَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى مُعَيَّنٍ كَضَارِبٍ"1.
- "وَ" قِسْمٌ "غَيْرُهَا" أَيْ غَيْرُ صِفَةٍ2: إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالإِنْسَانِ وَزَيْدٍ"3 وَنَحْوُهُمَا.
"وَيَكُونُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُتَوَاطِئًا مُشْتَرَكًا" بِاعْتِبَارَيْنِ، كَإِطْلاقِ لَفْظِ "الْخَمْرِ" عَلَى التَّمْرِ وَالْعِنَبِ. فَيَكُونُ لَفْظُ "الْخَمْرِ" بِاعْتِبَارِ نِسْبَةِ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ إلَيْهِ مُتَوَاطِئًا، وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ النِّسْبَةِ مُشْتَرَكًا.
"وَ" يَكُونُ "اللَّفْظَانِ مُتَبَايِنَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ" كَلَفْظَيْ "صَارِمٍ" وَ "مُهَنَّدٍ"، فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى 4 الصِّفَةِ مُتَرَادِفَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى 4 صِدْقِهِمَا عَلَى الْحَدِيدَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالسَّيْفِ. وَكَذَا "نَاطِقٌ" وَ "وَفَصِيحٌ"، فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الاخْتِلافِ فِي الْمَعْنَى، مُتَرَادِفَانِ لِصِدْقِهِمَا عَلَى مَوْصُوفِهِمَا مِنْ إنْسَانٍ أَوْ لِسَانٍ.
"وَ" اللَّفْظُ "الْمُشْتَرَكُ" فِيهِ "وَاقِعٌ لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالأَكْثَرِ مِنْ طَوَائِفِ الْعُلَمَاءِ فِي الأَسْمَاءِ. - كَالْقُرْءِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْعَيْنِ: فِي الْبَاصِرَةِ وَالْجَارِيَةِ وَالذَّهَبِ وَعَيْنِ الشَّمْسِ وَعَيْنِ الْمِيزَانِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ- وَفِي الأَفْعَالِ - كَعَسْعَسَ: لأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَعَسَى: لِلتَّرَجِّي وَالإِشْفَاقِ، وَالْمُضَارِعِ لِلْحَالِ وَالاسْتِقْبَالِ. وَوُقُوعِ الْمَاضِي خَبَرًا وَدُعَاءً. كَغَفَرَ اللَّهُ لَنَا- وَفِي الْحُرُوفِ كَالْبَاءِ: لِلتَّبْعِيضِ وَبَيَانِ الْجِنْسِ
ـــــــ
1 شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 128.
2 في ش ز: الصفة.
3 ساقطة من ش.
4 ساقطة من ش.(1/139)
وَالاسْتِعَانَةِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَنَحْوِهَا.
"جَوَازًا" لأَنَّهُ لا يَمْتَنِعُ وَضْعُ لَفْظٍ وَاحِدٍ1 لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ وَيَشْتَهِرُ الْوَضْعُ.
وَمَنَعَ جَمْعٌ وُقُوعَ الْمُشْتَرَكِ فِي اللُّغَةِ. وَرَدُّوا مَا قَالَ الأَكْثَرُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ2 إلَى3 التَّوَاطُؤِ أَوْ4 الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَعَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ كَوْنُ الْمُشْتَرَكِ وَاقِعًا فِي اللُّغَةِ: لا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ مَفْهُومَيْهِ "تَبَايَنَا" وَهُوَ أَنْ لا يَصْدُقَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ. فَإِنْ لِمَ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فَهُمَا مُتَضَادَّانِ، كَالْقُرْءِ الْمَوْضُوعِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ. وَإِنْ صَحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فَهُمَا مُتَخَالِفَانِ.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ" عَنْ الإِسْنَوِيِّ5: إنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ لَهُمَا بِمِثَالٍ6.
"أَوْ" بَيْنَ كَوْنِ مَفْهُومَيْهِ "تَوَاصَلا" بِصِدْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: اشترك.
3 في ش: في.
4 في ش: و.
5 هو عبد الرحيم بن الحسن بن علي، جمال الدين، أبو محمد، الأسنوي المصري الشافعي، الفقيه الأصولي المفسر النحوي، أشهر كبته "نهاية السول" شرح المنهاج في أصول الفقه و "الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية" و "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" و "طبقات الشافعية". توفي سنة 772هـ. "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 463، شذرات الذهب 6/ 223، البدر الطالع 1/ 352، بغية الوعاة 2/ 92".
6 انظر نهاية السول 1/ 287.(1/140)
"بِكَوْنِهِ" أَيْ بِكَوْنِ أَحَدِ الْمَفْهُومَيْنِ "جُزْءَ" الْمَفْهُومِ "الآخَرِ" كَلَفْظِ "الْمُمْكِنِ" فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمُمْكِنِ بِالإِمْكَانِ الْعَامِّ وَالْمُمْكِنِ بِالإِمْكَانِ الْخَاصِّ1.
"أَوْ" بِكَوْنِهِ "لازِمَهُ" أَيْ لازِمَ الآخَرِ. كَقَوْلِهِمْ: طَلَعَتْ الشَّمْسُ. وَجَلَسْنَا فِي الشَّمْسِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ: "جَلَسْنَا فِي الشَّمْسِ": ضَوْءُ الشَّمْسِ اللاَّزِمُ لَهَا.
"2 وَكَذَا مُتَرَادِفٌ 2 وُقُوعًا" يَعْنِي وَكَذَا3 الْخِلافِ فِي وُقُوعِ الْمُتَرَادِفِ فِي اللُّغَةِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ فِي الأَسْمَاءِ، وَالأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الأَسْمَاءِ: الأَسَدُ وَالسَّبُعُ وَاللَّيْثُ وَالْغَضَنْفَرُ. فَإِنَّهَا كُلَّهَا لِلْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ الْمَعْرُوفِ، وَفِي الأَفْعَالِ: قَعَدَ وَجَلَسَ، وَكَذَا: مَضَى وَذَهَبَ وَفِي الْحُرُوفِ: إلَى، وَحَتَّى. لانْتِهَاءِ الْغَايَةِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ4، فِي "رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ": "الأَسْمَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ نَوْعَانِ:
ـــــــ
1 انظر نهاية السول 1/ 287.
2 في ش: ولذا يترادف.
3 في ش: وقوع.
4 هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزراعي الدمشقي، شمس الدين، أبو عبد الله، ابن قيم الجوزية الحنبلي، الفقيه الأصولي المفسر النحوي. قال عنه الشوكاني: "برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الأفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف". من كتبه "مدارج السالكين" و "زاد المعاد" و "إعلام الموقعين" و "الطرق الحكيمة" و "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" توفي سنة 751هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 447، البدر الطالع 2/ 143، شذرات الذهب 6/ 168، الدرر الكامنة 4/ 21، طبقات المفسرين للداودي 2/ 90، بغية الوعاة 1/ 62".(1/141)
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ فَقَطْ. فَهَذَا هُوَ الْمُتَرَادِفُ تَرَادُفًا مَحْضًا. كَالْحِنْطَةِ وَالْبُرِّ وَالْقَمْحِ، [وَالاسْمُ وَالْكُنْيَةُ]1 وَاللَّقَبُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ2 مَدْحٌ وَلا ذَمٌّ، وَإِنَّمَا أَتَى3 لِمُجَرَّدِ4 التَّعْرِيفِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ تدُلَّ عَلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ تَبَايُنِ صِفَاتِهَا. كَأَسْمَاءِ الرَّبِّ، وَأَسْمَاءِ كَلامِهِ وَ [أَسْمَاءِ]5 نَبِيِّهِ، وَأَسْمَاءِ الْيَوْمِ الآخِرِ، فَهَذَا النَّوْعُ مُتَرَادِفٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الذَّاتِ، مُتَبَايِنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصِّفَاتِ.
فَالرَّبُّ وَالرَّحْمَنُ وَالْعَزِيزُ وَالْقَدِيرُ وَنَحْوُهَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَكَذَلِكَ: الْبَشِيرُ وَالنَّذِيرُ، وَالْحَاشِرُ وَالْعَاقِبُ وَنَحْوُهَا، وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَيَوْمُ الْبَعْثِ وَيَوْمُ الْجَمْعِ وَيَوْمُ التَّغَابُنِ وَيَوْمُ الآزِفَةِ وَنَحْوُهَا. وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْفُرْقَانُ وَالْكِتَابُ وَالْهُدَى وَنَحْوُهَا، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ السَّيْفِ. فَإِنَّ تَعَدُّدَهَا بِحَسَبِ "أَوْصَافِهَا، وَأَوْصَافُهَا"6 مُخْتَلِفَةٌ، كَالْمُهَنَّدِ وَالْعَضْبِ7 وَالصَّارِمِ وَنَحْوِهَا.
قَالَ: وَقَدْ أَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ مَا مِنْ اسْمَيْنِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ إلاَّ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي صِفَةٍ أَوْ نِسْبَةٍ أَوْ إضَافَةٍ. سَوَاءٌ عُلِمَتْ لَنَا أَوْ لَمْ تُعْلَمْ.
ـــــــ
1 زيادة من روضة المحبين.
2 في ض: به.
3 في روضة المحبين: أتى به.
4 في ش: بمجرد.
5 زيادة من روضة المحبين.
6 في روضة المحبين: أوصافٍ وإضافات.
7 في ش: المعضب.(1/142)
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْوَاضِعِ الْوَاحِدِ، وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ التَّرَادُفُ بِاعْتِبَارِ وَاضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، يُسَمَّى أَحَدُهُمَا الْمُسَمَّى بِاسْمٍ، وَيُسَمِّيهِ الْوَاضِعُ الآخَرُ بِاسْمٍ غَيْرِهِ، وَيُشْتَهَرُ الْوَضْعَانِ عَنْ1 الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ.
وَمِنْ هَذَا2 يَقَعُ الاشْتِرَاكُ أَيْضًا فَالأَصْلُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ التَّبَايُنُ، وَهُوَ أَكْثَرُ اللُّغَةِ"3 انْتَهَى.
"وَلا تَرَادُفَ فِي حَدٍّ غَيْرِ لَفْظِيٍّ وَمَحْدُودٍ" أَمَّا الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ: كَالْحِنْطَةِ وَالْقَمْحِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلامُ أَنَّهُ مِنْ الْمُتَرَادِفِ. وَأَمَّا غَيْرُ اللَّفْظِيِّ: كَالإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ: فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَرَادِفٍ؛ لأَنَّ التَّرَادُفَ مِنْ عَوَارِضِ الْمُفْرَدَاتِ؛ لأَنَّهَا الْمَوْضُوعَةُ. وَالْحَدُّ مُرَكَّبٌ، وَلأَنَّ دَلالَةَ الْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ عَلَى الْمَعْنَى غَيْرُ مُتَّحِدَةٍ. فَإِنَّ الْحَدَّ يَدُلُّ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَحْدُودِ بِالْمُطَابَقَةِ، وَالْمَحْدُودُ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِالتَّضَمُّنِ، وَلأَنَّ الْمَحْدُودَ يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَالْوَحْدَةُ4 الْمُجْتَمِعَةُ، وَالْحَدُّ يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ الْمَادَّةِ، وَالصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ وَحْدَةٍ.
"وَلا" تَرَادُفَ أَيْضًا فِي نَحْوِ "شَذَرٌ مَذَرٌ"5 عَلَى الصَّحِيحِ، وَنَحْوُ شَذَرٍ مَذَرٍ: حَسَنٌ بَسَنٌ، وَعَطْشَانُ نَطْشَانُ، وَشَغَرٌ بَغَرٌ6، وَشَيْطَانٌ
ـــــــ
1 في ز: عند.
2 في روضة المحبين: ههنا.
3 روضة المحبين ص61، 62.
4 في ع: الواحدة. وفي ض: ولوحدة.
5 يقال: ذهب ماله شَذَرَ مَذَرَ: أي تفرق في كل وجه. "الإتباع للحلبي ص87".
6 يقال: تفرق القوم شَغَرَ بَغَرَ: إذا تفرقوا في كل وجه. "الإتباع للحلبي ص17".(1/143)
لَيْطَانٌ1، وَحَارٌّ يَارٌّ2، وَجَائِعٌ نَائِعٌ، وَثَقِفٌ لَقِفٌ، وَحَيَّاك اللَّهُ وَبَيَّاكَ، وَأُسْوَانُ أَتْوَانُ3: أَيْ حَزِينٌ. وَتَافِهٌ نَافِهٌ4، وَحَلٌّ5 بَلٌّ، وَحَقِيرٌ نَقِيرٌ، وَعَيْنٌ حَدِرَةٌ بَدِرَةٌ: أَيْ عَظِيمَةٌ، وَغَضٌّ بَضٌّ6، وَخَرَابٌ يَبَابٌ، وَسَمْجٌ لَمْجٌ7، وَسَبُعٌ لَبُعٌ، وَشَكِسٌ لَكِسٌ8، وَيَوْمٌ عَكٌّ أَكٌّ9: إذَا كَانَ حُاراً10، وَعِفْرِيتٌ نِفْرِيتٌ، وَكَثِيرٌ بَثِيرٌ، وَشقيح11 لَقِيحٌ، وَثِقَةٌ نقَةٌ12، وَهُوَ أَشَقٌّ أَمَقٌّ خَنِقٌ: لِلطَّوِيلِ13، وَفَعَلْت ذَلِكَ عَلَى رَغْمِهِ وَدَغْمِهِ؛ لأَنَّ الَّذِي 14 بَعْدَ الأَوَّلِ تَابِعٌ 14 لا يُفِيدُ شَيْئًا غَيْرَ التَّقْوِيَةِ، وَشَرْطُ التَّرَادُفِ أَنْ يُفِيدَ أَحَدَ الْمُتَرَادِفَيْنِ لَوْ انْفَرَدَ، لأَنَّهُ مِثْلُ15 مُرَادِفِهِ فِي الرُّتْبَةِ16.
ـــــــ
1 يقال: هو شَيْطَانٌ لَيْطَانٌ: وهو الذي يلزق بالشر، من قولك: ما يليطُ بي هذا، أي ما يلزَق. "الإتباع للحلبي ص75".
2 في ش: حان بان، وفي ز: جان بان، وفي ع ض ب: جاز باز.
3 في ش ز ع ض: أفوان.
4 يقال للشيء تافهٌ نافهٌ: إذا كان قليلاً حقيراً. "الاتباع للحلبي ص93".
5 في ز ع ض: وكل.
6 كذا في الإتباع للحلبي ص22, وفي ش: حض مض, وفي ز ع ض ب: خض مض.
7في ش ز د ع: سمح لمح.
8يقال: إنه لشَكِسٌ لَكِسٌ: إذا كان ضيق الخلق. "الإتباع للحلبي ص78" وفي ز ع ب ض:شكش لكش.
9في ش ز ع ب ض: لك.
10 في ش: حلواً.
11 في ش ز ع ب ض: فسيح.
12 في ز: بقة, وفي ش: لقة, وفي ض: تفه نفه. وفي ع: نقة لقة.
13 في ش: الطويل.
14 في ز: بعده.
15 ساقطة من ش.
16 انظر تفصل الكلام على الإتباع والفرق بينه وبين الترادف في "المزهر 1/414-425, نهاية السول 1/ 271" وانظركتاب الاتباع لأبي الطيب الحلبي والاتباع والمزاوجة لابن فارس.(1/144)
"وَلا" تَرَادُفَ أَيْضًا فِي "تَأْكِيدٍ" لأَنَّ اللَّفْظَ الْمُؤَكَّدَ بِهِ تَابِعٌ لِلْمُؤَكَّدِ، فَلا يُرَادِفُهُ لِعَدَمِ اسْتِقْلالِهِ. "وَأَفَادَ التَّابِعُ التَّقْوِيَةَ" لأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ عَبَثًا1.
"وَهُوَ" أَيْ التَّابِعُ "عَلَى زِنَةِ مَتْبُوعِهِ" حَتَّى لَوْ وُجِدَ مَا لَيْسَ عَلَى زِنَتِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ "وَ" اللَّفْظُ "الْمُؤَكِّدُ" لِمَتْبُوعِهِ "يُقَوِّي" مَتْبُوعَهُ، لأَنَّ التَّأْكِيدَ هُوَ التَّقْوِيَةُ بِاللَّفْظِ "وَ" يَزِيدُ عَلَى التَّقْوِيَةِ بِكَوْنِهِ "يَنْفِي احْتِمَالَ الْمَجَازِ"2.
وَأَنْكَرَتْ الْمَلاحِدَةُ كَوْنَ الْقُرْآنِ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ وُقُوعِ التَّوْكِيدِ فِيهِ، لِزَعْمِهِمْ الْقُصُورَ عَنْ تَأْدِيَةِ3 مَا فِي النَّفْسِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَجَهِلُوا4 كَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ خَاطَبَ عِبَادَهُ عَلَى نَهْجِ لُغَةِ الْعَرَبِ.
"وَيَقُومُ كُلُّ مُتَرَادِفٍ" مِنْ مُتَرَادِفَيْنِ5 "مَقَامَ الآخَرِ فِي التَّرْكِيبِ" لأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّرْكِيبِ إنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. فَإِذَا صَحَّ الْمَعْنَى مَعَ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مَعَ الآخَرِ؛ لاتِّحَادِ مَعْنَاهُمَا6. وَلا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَا تُعُبِّدَ7 بِلَفْظِهِ، كَالتَّكْبِيرِ وَنَحْوِهِ؛ لأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِعَارِضٍ شَرْعِيٍّ8. وَالْبَحْثُ هُنَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ.
ـــــــ
1 انظر المزهر 1/ 402 وما بعدها.
2 انظر نهاية السول 1/ 271، المزهر 1/ 416.
3 في ش: تأكيده.
4 في ش: وحعلوا.
5 في ش: المترادفين.
6 في ش: معناهما من حيث اللغة.
7 في ش: تعدد.
8 في ع ب: شرع.(1/145)
"فَائِدَةٌ"
الْفَائِدَةُ فِي الأَصْلِ: الزِّيَادَةُ تَحْصُلُ لِلإِنْسَانِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِك "فَادَتْ لَهُ فَائِدَةٌ" مِنْ بَابِ بَاعَ، وَأَفَدْته إفَادَةً أَعْطَيْتُهُ، وَأَفَدْت1 مِنْهُ مَالاً أَخَذْتُهُ. وَفَائِدَةُ الْعِلْمِ وَالأَدَبِ مِنْ هَذَا.
"الْعَلَمُ" مِنْ أَقْسَامِ الْجُزْئِيِّ لا الْكُلِّيِّ، وَهُوَ "اسْمٌ يُعَيِّنُ مُسَمَّاهُ".
فَقَوْلُنَا "اسْمُ" جِنْسٍ مُخْرِجٌ لِمَا سِوَاهُ مِنْ الأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ. وَقَوْلُنَا "يُعَيِّنُ مُسَمَّاهُ" فَصْلٌ مُخْرِجٌ لِلنَّكِرَاتِ. وَقَوْلُنَا "مُطْلَقًا" مُخْرِجٌ لِمَا سِوَى الْعَلَمِ مِنْ الْمَعَارِفِ. فَإِنَّهُ لا يُعَيِّنُهُ إلاَّ بِقَرِينَةٍ: إمَّا لَفْظِيَّةٍ، مِثْلُ "أَلْ" أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، كَالْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ، "فِي أَنْتَ"2 وَهُوَ. وَهَذَا الْحَدُّ لابْنِ مَالِكٍ3.
وَهُوَ قِسْمَانِ:
- قِسْمٌ شَخْصِيٌّ: وَهُوَ الْمَوْضُوعُ لِلْحَقِيقَةِ بِقَيْدِ الشَّخْصِ الْخَارِجِيِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "فَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ خَارِجِيًّا فَعَلَمُ شَخْصٍ" كَجَعْفَرٍ: عَلَمُ رَجُلٍ، وَخِرْنَقَ: عَلَمَ امْرَأَةٍ.
- وَأُشِيرَ4 إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ "وَإِلاَّ" أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّعْيِينُ خَارِجِيًّا، بِأَنْ لَمْ يُوضَعْ عَلَى شَخْصٍ مَوْجُودٍ5 فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ
ـــــــ
1 في ع: وأخذت.
2 في ش: كأنت.
3 عَرَّف ابن مالك في "التسهيل" الاسم العلم بقوله: "هو المخصوص مطلقاً، غلبة أو تعليقاً بمسمى غير مقدر الشياع أو الشائع الجاري مجراه". "تسهيل الفوائد ص30" ولعل المصنف نقل تعريفه عن بعض كتبه الأخرى.
4 في ش: وأشار.
5 في ش: موضوع.(1/146)
لِلْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الشَّخْصِ1 الذِّهْنِيِّ "فَـ" عَلَمُ "جِنْسٍ" كَأُسَامَةَ، فَإِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الأَسَدِ بِقَيْدِ تَشَخُّصِ مَاهِيَّتِه فِي ذِهْنِ الْوَاضِعِ. وَكَذَا ثُعَالَةُ عَلَى الثَّعْلَبِ، فَإِنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا لَمْ يُوضَعْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جِنْسِهِ2 بِعَيْنِهِ. "فَتَشْمَلُ الْمَاهِيَّةُ كُلَّ"3 أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَلا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا لا يُؤْلَفُ مِنْ الْوُحُوشِ، بَلْ يَكُونُ أَيْضًا لِبَعْضِ الْمَأْلُوفَاتِ. كَأَبِي الْمَضَاءِ لِجِنْسِ الْفَرَسِ4.
"وَ" الاسْمُ "الْمَوْضُوعُ لِلْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ" أَيْ لا بِقَيْدِ تَشَخُّصِهَا5 فِي الذِّهْنِ، وَلا عَدَمِ تَشَخُّصِهَا6. - كَأَسَدٍ- فَهُوَ "اسْمُ جِنْسٍ"7.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَعَلَمُ الْجِنْسِ يُسَاوِي عَلَمَ الشَّخْصِ فِي أَحْكَامِهِ اللَّفْظِيَّةِ: مِنْ كَوْنِهِ لا يُضَافُ، وَلا يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ، وَلا يُنْعَتُ بِنَكِرَةٍ، وَلا يَقْبُحُ مَجِيئُهُ مُبْتَدَأً، وَلا انْتِصَابُ النَّكِرَةِ بَعْدَهُ عَلَى الْحَالِ، وَلا يُصْرَفُ مِنْهُ مَا فِيهِ سَبَبٌ زَائِدٌ عَلَى الْعَلَمِيَّةِ.
وَيُفَارِقُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِعُمُومِهِ، إذْ هُوَ خَاصٌّ شَائِعٌ فِي حَالَةٍ8 وَاحِدَةٍ. فَخُصُوصُهُ بِاعْتِبَارِ تَعْيِينِهِ الْحَقِيقَةَ فِي الذِّهْنِ، وَشِيَاعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ مِنْ أَشْخَاصِ نَوْعِهِ قِسْطًا مِنْ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ فِي الْخَارِجِ9.
ـــــــ
1 في ش: التشخص.
2 في ع: جنس.
3 في ز: فتشمل الماهية على.
4 انظر شرح تنقيح الفصول ص32 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 278.
5 في ض: شخصا.
6 في ض: شخصا.
7 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 278.
8 في ش: جهة.
9 انظر شرح تنقيح الفصول ص33.(1/147)
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ وَاسْمِ الْجِنْسِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ اسْمَ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ أَسَدٌ: مَوْضُوعٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ لا1 بِعَيْنِهِ، فَالتَّعَدُّدُ فِيهِ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ، وَإِنْ عَلَمَ الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ أُسَامَةُ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الذِّهْنِ. فَإِذَا أَطْلَقْت أَسَدًا عَلَى وَاحِدٍ أَطْلَقْتَهُ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، وَإِذَا أَطْلَقْت أُسَامَةَ عَلَى الْوَاحِدِ2 فَإِنَّمَا أَرَدْت الْحَقِيقَةَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّعَدُّدُ فِي الْخَارِجِ. فَالتَّعَدُّدُ3 فِيهِ ضِمْنًا لا قَصْدًا بِالْوَضْعِ.
وَيَتَسَاوَيَانِ فِي صِدْقِهِمَا عَلَى صُورَةِ الأَسَدِ، إلاَّ أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ وُضِعَ لَهَا مِنْ حَيْثُ خُصُوصُهَا بِاسْتِحْضَارِهَا فِي الذِّهْنِ، وَاسْمَ الْجِنْسِ وُضِعَ لَهَا مِنْ حَيْثُ عُمُومُهَا.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: واحد.
3 في ش ز: فالمتعدد.(1/148)
فصل في الحقيقة والمجاز
...
"فَصْلٌ" "الْحَقِيقَةُ" فَعِيلَةٌ مِنْ الْحَقِّ، ثُمَّ إنْ كَانَ بِمَعْنَى الثَّابِتِ، فَهِيَ1 اسْمُ فَاعِلٍ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُثْبَتِ، فَهِيَ2 اسْمُ مَفْعُولٍ.
وَهِيَ 3 أَقْسَامٌ: "لُغَوِيَّةٌ" أَيْ مَنْسُوبَةٌ إلَى اللُّغَةِ "وَهِيَ" مِنْ حَيْثُ نِسْبَتُهَا إلَى اللُّغَةِ 3، "قَوْلٌ" أَيْ لَفْظٌ غَيْرُ مُهْمَلٍ "مُسْتَعْمَلٌ" لأَنَّهُ قَبْلَ الاسْتِعْمَالِ لا حَقِيقَةَ وَلا مَجَازَ "فِي وَضْعٍ4 أَوَّلٍ" مُخْرِجٍ لِلْمَجَازِ؛ لأَنَّهُ بِوَضْعِ ثَانٍ، وَدَخَلَ فِيهِ أَسْمَاءُ الأَجْنَاسِ5.
"6وَهِيَ" أَقْسَامٌ:
الأَوَّلُ7: "لُغَوِيَّةٌ" أَيْ مَنْسُوبَةٌ إلَى اللُّغَةِ. "وَهِيَ" مِنْ حَيْثُ نِسْبَتُهَا إلَيْهَا - بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُرْفِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ- "الأَصْلُ" أَيْ الأَسْبَقُ 6 "كَأَسَدٍ" وَأَعْلامُهَا كَأُسَامَةَ8.
ـــــــ
1 في ب: فهو.
2 في ب: فهو.
3 ساقطة من ش، وفي ب: وهي أقسام "لغلوية" أي منسوبة إلى اللغة.
4 في ش: موضع.
5 انظر تفصيل الكلام على الحقيقة وأقسامها في "شرح تنقيح الفصول ص42 وما بعددها، المحلي على جمع الجوامع 1/ 200 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 138 وما بعدها، المزهر 1/ 355 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 26 وما بعدها، إرشاد الفحول ص21، روضة الناظر وشرحها لبدران 2/ 8 وما بعدها، المعتمد للبصري 1/ 16 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 203، الطراز 1/ 46-59، الصاحبي ص196، مقدمة التفسير للراغب الأصبهاني ص589".
6 ساقطة من ز.
7 في ض: الفسم الأول. وكلمة "الأول" ساقطة من ب.
8 في ش: كأسد.(1/149)
"وَ" الْقِسْمُ الثَّانِي: حَقِيقَةٌ "عُرْفِيَّةٌ" وَهِيَ "مَا" أَيُّ قَوْلٍ "خُصَّ عُرْفًا" أَيْ فِي الْعُرْفِ "بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ" وَإِنْ كَانَ وَضْعُهَا لِلْجَمِيعِ حَقِيقَةً.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، وَهِيَ أَنْ لا يَخْتَصَّ تَخْصِيصُهَا بِطَائِفَةٍ دُونَ أُخْرَى "كَدَابَّةٍ" فَإِنَّ وَضْعَهَا بِأَصْلِ اللُّغَةِ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ مِنْ ذِي حَافِرٍ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ هُجِرَ الْوَضْعُ الأَوَّلُ، وَصَارَتْ فِي الْعُرْفِ حَقِيقَةً "لِلْفَرَسِ" وَلِكُلِّ ذَاتِ حَافِرٍ.
وَكَذَا مَا شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ، كَالْغَائِطِ وَالْعَذِرَةِ وَالرَّاوِيَةِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْغَائِطِ1: الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الأَرْضِ، وَالْعَذِرَةُ: فِنَاءُ الدَّارِ، وَالرَّاوِيَةُ: الْجَمَلُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ الْمَاءُ.
"أَوْ" تَكُونُ "خَاصَّةً" وَهِيَ مَا خَصَّتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ2 الأَسْمَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ مُصْطَلَحَاتِهِمْ، كَمُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ، وَفَاعِلٍ وَمَفْعُولٍ. وَنَعْتٍ وَتَوْكِيدٍ فِي اصْطِلاحِ النُّحَاةِ، وَنَقْضٍ وَكَسْرٍ وَقَلْبٍ فِي اصْطِلاحِ الأُصُولِيِّينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَرْبَابُ كُلِّ فَنٍّ.
"وَ" الْقِسْمُ الثَّالِثُ: حَقِيقَةٌ "شَرْعِيَّةٌ وَاقِعَةٌ مَنْقُولَةٌ" وَهِيَ "مَا اسْتَعْمَلَهُ3 الشَّرْعُ كَصَلاةٍ، لِلأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَ" اسْتِعْمَالُ "إيمَانٍ لِعَقْدٍ بِالْجَنَانِ، وَنُطْقٍ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٍ بِالأَرْكَانِ، فَدَخَلَ كُلُّ الطَّاعَاتِ".
"وَهُمَا" أَيْ الصَّلاةُ وَالإِيمَانُ "لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ: "الدُّعَاءُ وَالتَّصْدِيقُ بِمَا غَابَ" يَعْنِي أَنَّ الصَّلاةَ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، وَالإِيمَانُ "فِي اللُّغَةِ"4: التَّصْدِيقُ بِمَا غَابَ.
ـــــــ
1 في ش: العذرة.
2 ساقطة من ز.
3 في ش: يستعمله.
4 ساقطة من ض.(1/150)
وَيَجُوزُ الاسْتِثْنَاءُ فِيهِ، - أَيْ فِي الإِيمَانِ- بِأَنْ تَقُولَ: "أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ". نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تعالى، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ1 رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ2.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُسْتَحَبُّ وَلا يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ.
وَمَنَعَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ3 وَأَصْحَابُهُ وَالأَكْثَرُ؛ لأَنَّ التَّصْدِيقَ مَعْلُومٌ4 لا يُتَرَدَّدُ فِيهِ عِنْدَ تَحَقُّقِهِ، وَمَنْ تَرَدَّدْ فِي تَحَقُّقِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ فَالأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: "أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا"، دَفْعًا لِلإِيهَامِ.
وَاسْتُدِلَّ لِلْقَوْلِ الأَوَّلِ بِوُجُوهِ:
ـــــــ
1 هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب، أحد السابقين إلى الإسلام، والمهاجرين إلى الحبشة والمدينة، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد، وشهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة. توفي سنة 32هـ. "انظر ترجمته في الإصابة 2/ 368 وما بعدها، الاستيعاب 2/ 326 وما بعدها، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 288 وما بعدها".
2 انظر كتاب السنة للأمام أحمد ص72-85، الإيمان لابن تيمية ص374، الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلاّم ص67 وما بعدها، فتاوى السبكي 1/ 63 وما بعدها، وقد حكى ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه سئل، هل تقول: نحن المؤمنون؟ فقال: نقول نحن المسلمون، ثم عقب التقي على ذلك بقوله: "ومع هذا فلم ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة أن الإيمان مجرد القول، بل تركه لما يعلم أن في قلبه إيماناً، وإن كان لا يجزم بكمال إيمانه". "انظر الإيمان لابن تيمية ص383".
3 هو النعمان بن ثابت بن زوطى من ماه مولى تيم الله بن ثعلبة، الإمام الفقيه والمجتهد الكبير، وصاحب الفضائل الكثيرة. قال ابن المبارك "ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة, وما رأيت أروع منه". ولد سنة 80هـ، وتوفي ببغداد سنة 150هـ. "انظر ترجمته في الطبقات السنية 1/ 86-195، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 216 وما بعدها، وفيات الأعيان 5/ 39 وما بعدها، شذرات الذهب 1/ 227 وما بعدها".
4 ساقطة من ش.(1/151)
أَحَدُهَا: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ لِلتَّبَرُّكِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّأَدُّبِ بِإِحَالَةِ الأُمُورِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّبَرِّي مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالإِعْجَابِ بِحَالِهَا.
الثَّانِي: أَنَّ التَّصْدِيقَ الإِيمَانِيَّ الْمَنُوطَ بِهِ النَّجَاةُ: أَمْرٌ قَلْبِيٌّ خَفِيٌّ، لَهُ مُعَارَضَاتٌ خَفِيَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ وَالْخِذْلانِ. فَالْمَرْءُ - وَإِنْ كَانَ جَازِمًا بِحُصُولِهِ- لَكِنَّهُ1 لا يَأْمَنُ أَنْ يَشُوبَهُ شَيْءٌ مِنْ مُنَافِيَاتِ النَّجَاةِ، وَلا سِيَّمَا عِنْدَ2 تَفَاصِيلِ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الصَّعْبَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْهَوَى وَالْمُسْتَلَذَّات مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لَهُ بِذَلِكَ. فَلِذَلِكَ يُفَوِّضُ حُصُولَهُ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: أَنَّ الإِيمَانَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِيهِ، لَكِنَّ3 الإِيمَانَ الَّذِي 4 هُوَ عَلَمُ 4 الْفَوْزِ وَآيَةُ النَّجَاةِ: إيمَانُ الْمُوَافَاةِ5.
فَاعْتَنَى السَّلَفُ بِهِ وَقَرَنُوهُ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يَقْصِدُوا الشَّكَّ فِي الإِيمَانِ النَّاجِزِ6.
وَأَمَّا الإِسْلامُ: فَلا يَجُوزُ الاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بِأَنْ يَقُولَ: "أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ"، بَلْ يَجْزِمُ بِهِ. قَالَهُ 7 ابْنُ حَمْدَانَ 7 فِي "نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ" وَقِيلَ: يَجُوزُ إنْ شَرَطْنَا فِيهِ الْعَمَلَ.
ـــــــ
1 في ض ب ز: لكن.
2 ساقطة من ع.
3 في ش: لأن.
4 في ش: على.
5 أي أن من وافى ربه على الإيمان فهو مؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا عُلِمَ في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمناً. "انظر الإيمان لابن تيمية ص367، أصول الدين للبغدادي ص253، فتاوى السبكي 1/ 66".
6 انظر تفصيل الكلام على الاستثناء في الإيمان في "فتاوى السبكي 1/ 63-73، أصول الدين للبغدادي ص253، السنة للإمام أحمد ص72-85، الإيمان لابن تيمية ص366-393".
7 في ش: الإمام أحمد.(1/152)
"وَقَدْ تَصِيرُ الْحَقِيقَةُ" اللُّغَوِيَّةُ وَهِيَ وَضْعُ الدَّابَّةِ لِكُلِّ مَا دَبَّ "مَجَازًا" فِي الْعُرْفِ. يَعْنِي أَنَّا إذَا أَطْلَقْنَا "الدَّابَّةَ" فِي الْعُرْفِ لِكُلِّ مَا دَبَّ كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا فِيهِ، "وَبِالْعَكْسِ" أَيْ وَقَدْ يَصِيرُ الْمَجَازُ، - وَهُوَ إطْلاقُ "الدَّابَّةِ" عَلَى ذَوَاتِ الأَرْبَعِ- فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةً فِي الْعُرْفِ1.
"وَالْمَجَازُ" وَزْنُهُ مَفْعَلٌ مِنْ الْجَوَازِ: وَهُوَ الْعُبُورُ وَالانْتِقَالُ. فَأَصْلُهُ2 "مَجْوَزٌ" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إلَى الْجِيمِ، فَسَكَنَتْ الْوَاوُ3، وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ الْجِيمُ. فَانْقَلَبَتْ الْوَاوُ أَلِفًا عَلَى الْقَاعِدَةِ. فَصَارَ مَجَازًا.
وَالْمَفْعَلُ يَكُونُ مَصْدَرًا وَاسْمَ مَكَان وَاسْمَ زَمَانٍ. فَالْمَجَازُ بِالْمَعْنَى الاصْطِلاحِيِّ: إمَّا مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَصْدَرِ، أَوْ مِنْ اسْمِ الْمَكَانِ، لا مِنْ اسْمِ الزَّمَانِ، لِعَدَمِ الْعَلاقَةِ فِيهِ بِخِلافِهِمَا. فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْمَصْدَرِ فَهُوَ مُتَجَوِّزٌ بِهِ4 إلَى الْفَاعِلِ لِلْمُلابَسَةِ، كَعَدْلٍ بِمَعْنَى عَادِلٍ، أَوْ مِنْ الْمَكَانِ لَهُ، فَهُوَ مِنْ إطْلاقِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ5.
وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهِ تَجَوُّزٌ آخَرُ، لأَنَّ "الْجَوَازَ" حَقِيقَةٌ لِلْجِسْمِ لا لِلَّفْظِ، لأَنَّهُ عَرَضٌ لا يَقْبَلُ الانْتِقَالَ. فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارَيْنِ؛ لأَنَّهُ6 مَجَازٌ مَنْقُولٌ مِنْ مَجَازٍ آخَرَ، فَيَكُونُ بِمَرْتَبَتَيْنِ. فَالْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الْجَائِزُ مِنْ شَيْءٍ إلَى آخَرَ،
ـــــــ
1 في ز: العرف وهو والمجاز.
2 في ز: وأصله.
3 في ش: حركة الواو.
4 ساقطة من ش.
5 انظر العضد على ابن الحاجب وحاشية الجرجاني عليه 1/ 141، شرح تنقيح الفصول ص42، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1/ 304.
6 في ش: لا أنه.(1/153)
تَشْبِيهًا بِالْجِسْمِ الْمُنْتَقِلِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ1.
وَحَدُّهُ فِي الاصْطِلاحِ2 "قَوْلٌ مُسْتَعْمَلٌ" احْتَرَزَ3 بِهِ عَنْ الْمُهْمَلِ، وَعَنْ اللَّفْظِ قَبْلَ الاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّهُ لا حَقِيقَةٌ وَلا مَجَازٌ.
وَقَوْلُنَا "بِوَضْعٍ ثَانٍ" احْتِرَازٌ مِنْ الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيهَا بِوَضْعٍ أَوَّلٍ.
وَقَوْلُنَا "لِعَلاقَةٍ" احْتِرَازٌ مِنْ الأَعْلامِ الْمَنْقُولَةِ؛ لأَنَّ نَقْلَهَا لَيْسَ لِعَلاقَةٍ4.
وَالْعَلاقَةُ هُنَا: الْمُشَابَهَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْمَعْنَى الأَوَّلِ وَالْمَعْنَى الثَّانِي، بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ بِوَاسِطَتِهَا عَنْ مَحَلِّ الْمَجَازِ إلَى الْحَقِيقَةِ5.
ـــــــ
1 انظر كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/ 62، الطراز 1/ 68، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن لابن القيم ص11.
2 انظر تفصيل الكلام على المجاز في الاصلاح في "شرح تنقيح الفصول ص44 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 28 وما بعدها، الحدود للباجي ص52، شرح الروضة لبدران 1/ 15، المزهر 1/ 355-368، المعتمد للبصري 1/ 17 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 141 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 305 وما بعدها، إرشاد الفحول ص21 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 203، المستصفى 1/ 341، الخصائص 2/ 442 وما بعدها، الطرز 1/64 وما بعدها، الإشارة إلى الإيجاز ص28، التمهيد للأسنوي ص46، الصاحبي ص197".
3 في ش: احترازاً.
4 ويستثنى من ذلك الأعلام التي تلمح فيها الصفة. قال التاج السبكي في شرح المنهاج: "إن المجاز يدخل في الأعلام التي تلمح فيها الصفة كالأسود والحارث" وحكاه عن الغزالي. "انظر المزهر 1/ 361، المستصفى 1/ 344". كما أنه لا مانع من التجوز باستعمال العَلَم في معنى مناسب للمعنى العَلَمي، كقولك: رأيت اليوم حاتماً، تريد به شخصاً غيره شبيهاً له في الجود، فيكون مجازاً. "البناني حلى جمع الجوامع 1/ 322".
5 قال الشريف الجرجاني: فيفهم المعنى المجازي باعتبار ثبوت الصفة له، كإطلاق الأسد على الشجاع. للاشتراك في صفة الشجاعة، إذا لها فيه ظهور ومزيد اختصاص، فينتقل الذهن منه إلى هذه الصفة. "حاشية الجرجاني على شرح العضد 1/ 142" وفي ش: المحل.(1/154)
لأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ عَلاقَةٌ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لَكَانَ الْوَضْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى الثَّانِي أَوَّلَ1. فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِمَا2، وَتُعْتَبَرُ فِي اصْطِلاحِ التَّخَاطُبِ بِحَسَبِ النَّوْعِ.
وَهِيَ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ- عَلَى الأَصْلِ فِي الْمَعَانِي، - وَبِكَسْرِهَا- عَلَى التَّشْبِيهِ بِالأَجْسَامِ مِنْ عَلاقَةِ السَّوْطِ.
"وَلا يُعْتَبَرُ لزومٌ3 ذِهْنِيٌّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ" فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَجَازَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ عَارِيَّةٌ عَنْ اللُّزُومِ الذِّهْنِيِّ.
"وَصِيرَ إلَيْهِ" أَيْ إلَى الْمَجَازِ "لِبَلاغَتِهِ" أَيْ بَلاغَةِ الْمَجَازِ. كَصَلاحِيَتِهِ لِلسَّجْعِ وَالتَّجْنِيسِ وَنَحْوِهِمَا4، أَوْ "ثِقَلِهَا" عَلَى اللِّسَانِ، كَالْعُدُولِ عَنْ لَفْظِ الْخَنْفَقِيقِ5 - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَكَسْرِ
ـــــــ
1 في ع: أولى.
2 ويكون اللفظ مشتركاً لا مجازاً. "الآمدي 1/ 29" وقال في الطرز: "لأنّا إذا قلنا أسد، ونريد به الرجل الشجاع، فإنه مجاز، لأنه أفاد معنى غير مصطلح عليه في الوضع الذي وقع فيه التخاطب، والخطاب إنما هو خطاب أهل اللغة.. وهو غير مفيد لما وضع له أولاً، فإنه وضع أولاً بإزاء حقيقة الحيوان المخصوص. وقولنا لعلاقة بينهما، لأنه لولا توهم كون الرجل بمنزلة الأسد في الشجاعة، لم يكن إطلاق اللفظ عليه مجازاً، بل كان وضعاً مستقلاً". "الطراز 1/ 64".
3 في ش: لازم.
4 قال في الطرز "2/8": "اعلم أن أرباب البلاغة وجهابذة أهل الصناعة مطبقون على أن المجاز في الاستعمال أبلغ من الحقيقة، وأنه يلطف الكلام ويكسبه حلاوة ويكسوه رشاقة. والعَلَمُ فيه قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وقوله: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} فلو استعمل الحقائق في هذه المواضع لم تعط ما أعطى المجاز من البلاغة... ". وانظر المحلي على جمع الجوامع 1/ 309 وما بعدها.
5 في ش: الخنفقين.(1/155)
الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَآخِرُهُ قَافٌ-: اسْمٌ لِلدَّاهِيَةِ، إلَى لَفْظِ النَّائِبَةِ1 أَوْ2 الْحَادِثَةِ "وَنَحْوِهِمَا" أَيْ نَحْوِ بَلاغَةِ الْمَجَازِ وَثِقَلِ الْحَقِيقَةِ مِنْ3 بَشَاعَةِ اللَّفْظِ4، كَالتَّعْبِيرِ بِالْغَائِطِ عَنْ الْخَارِجِ5.
وَمِنْ ذَلِكَ جَهْلُ الْمُخَاطَبِ الْحَقِيقَةَ، أَوْ كَوْنُ الْمَجَازِ أَشْهَرَ مِنْهَا، أَوْ كَوْنُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ6، وَيَقْصِدَانِ إخْفَاءَهُ عَنْ غَيْرِهِمَا، أَوْ عِظَمُ مَعْنَاهُ، "كَسَلامِ اللَّهِ عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي". فَهُوَ أَرْفَعُ فِي الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ "سَلامُ اللَّهِ عَلَيْك"7 أَوْ كَوْنُ الْمَجَازِ أَدْخَلَ8 فِي التَّحْقِير لِمَنْ يُرِيدُهُ9.
"وَيُتَجَوَّزُ" أَيْ وَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَلاقَةِ.
ـــــــ
1 في ش: الداهية.
2 في ع: و.
3 شاقطة من ش ز ع.
4 في ش: اللفظ به.
5 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 309.
6 في ش ض ب ع: المخاطبين.
7 قاله في الطراز "1/ 80" –في معرض كلامه عن أسباب العدول إلى المجاز-: "أما أولاً: فلأجل التعظيم، كما يقال: سلام الله على الحضرة العالية والمجلس الكريم، فيعدل عن اللقب الصريح إلى المجاز تعظيماً لحال المخاطب، وتشريفاً لذكر اسمه عن أن يخاطب بلقبه، فيقال سلام الله على فلان. وأما ثانياً: فلأجل التحقير، كما يعبر عن قضاه الوطر من النساء بالوطء، وعن الاستطابة بالغائط، ويترك لفظ الحقيقة استحقاراً له وتنزهاً عن التلفظ به لما فيه من البشاعة والغلط... ".
8 في ش: داخلاً.
9 انظر في أسباب العدول إلى المجاز "الخصائص لابن جني 2/ 443-447، الطراز 1/ 80 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 309 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 158 وما بعدها".(1/156)
فصل في أنواع المجاز
...
[النَّوْعُ] الأَوَّلُ إطْلاقُ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ
وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ1:
الْقِسْمُ الأَوَّلُ: الْقَابِلِيُّ، وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ "بِسَبَبٍ قَابِلِيٍّ" أَيْ عَنْ مُسَبَّبٍ، وَهُوَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ قَابِلِهِ2، كَقَوْلِهِمْ: "سَالَ الْوَادِي"، وَالأَصْلُ: سَالَ الْمَاءُ فِي الْوَادِي، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَادِي سَبَبًا قَابِلاً لِسَيَلانِ الْمَاءِ فِيهِ، صَارَ الْمَاءُ مِنْ حَيْثُ الْقَابِلِيَّةُ كَالْمُسَبَّبِ3 لَهُ. فَوُضِعَ لَفْظُ الْوَادِي مَوْضِعَهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: السَّبَبُ الصُّورِيُّ،4 وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ "وَصُورِيٌّ" أَيْ وَبِسَبَبٍ 5 صُورِيٍّ 4،كَقَوْلِهِمْ: "هَذِهِ صُورَةُ الأَمْرِ وَالْحَالُ6"، أَيْ حَقِيقَتُهُ7.
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام في إطلاق السبب على المسبَّب في "الإشارة إلى الإيجاز ص52-55، الفوائد المشوق إلى علوم القرأن ص16 وما بعدها، البرهان 2/ 260 وما بعدها، شرح الروضة لبدران 2/ 17، الطراز 1/ 69 وما بعدها، المزهر 1/ 359، التمهيد للآسنوي ص47".
2 في ش: قائلة.
3 في ش ز ع ض ب: السبب. وهو تصحيف.
4 ساقطة من ش.
5 في ض د: وسبب.
6 ساقطة من ش.
7 هذا المثال لإطلاق السبب الصوري على المسبب غير واضح. وقد مثَل له الفجر الرازي والأسنوي والشوكاني بإطلاق اليد على القدرة. قتل الأسنوي،: قإن اليد لها صورة خاصة يتأتى بها الاقتدار على الشيء، وهو تجويف راحتها. وصغر عضمها، وانفصال بعضها عن بعض ليتأتى =(1/157)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: السَّبَبُ الْفَاعِلِيُّ، وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "وَفَاعِلِيٍّ" أَيْ وَبِسَبَبٍ1 فَاعِلِيٍّ، كَقَوْلِهِمْ: "نَزَلَ السَّحَابُ"، أَيْ الْمَطَرُ، لَكِنَّ فَاعِلِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ2 كَمَا تَقُولُ: "أَحْرَقَتْ النَّارُ"، وَكَقَوْلِهِمْ لِلْمَطَرِ: سَمَاءٌ، لأَنَّ السَّمَاءَ فَاعِلٌ3 مَجَازِيٌّ لِلْمَطَرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: "أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ"، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا4
أَيْ الْمَطَرُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْغَائِيُّ5، وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ "وَغَائِيٌّ" أَيْ: وَيُتَجَوَّزُ بِسَبَبٍ غَائِيٍّ "عَنْ مُسَبَّبٍ" كَتَسْمِيَةِ الْعَصِيرِ خَمْرًا، وَالْحَدِيدِ خَاتَمًا، وَالْعَقْدِ نِكَاحًا لأَنَّهُ غَايَتُهُ.
ـــــــ
= به وضع الشيء في الراحة، وتنقبض عليه العظام الدقاق المنفصلة، ويأتي دخولها في المنافذ الضيقة. "انظر التمهيد للأسنوي ص47، المزهر 1/ 359، إرشاد الفحول ص24" والتعبير باليد عن القدرة كما يقول العلامة ابن القيم جاء في القرآن الكريم في مواضيع كثيرة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} وقوله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} . "انظر الفوائد المشوق إلى علوم القرآن لابن القيم ص29، الإشارة إلى الإيجاز للعز ابن عبد السلام ص81".
1 في ش ز: وسبب.
2 قال الأسنوي: فإن الفاعل حقيقة هو الرب سبحانه. "التمهيدي ص48".
3 ساقطة من ض.
4 سبق تخريج البيت وشرحه في ص137.
5 في ش: وهو الغائي.(1/158)
النَّوْعُ1 الثَّانِي
إطْلاقُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "وَبِعِلَّةٍ" أَيْ عَنْ مَعْلُولٍ كَمَا يَأْتِي فِي الْمَتْنِ، كَقَوْلِهِمْ: "رَأَيْت اللَّهَ فِي كُلِّ شَيْءٍ"؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُوجِدُ كُلِّ شَيْءٍ وَعِلَّتُهُ، فَأُطْلِقَ لَفْظُهُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَاهُ: رَأَيْت كُلَّ شَيْءٍ. فَاسْتَدْلَلْت بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
النَّوْعُ الثَّالِثُ
إطْلاقُ اللاَّزِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "وَلازِمٍ" أَيْ وَيُتَجَوَّزُ بِلازِمٍ عَنْ مَلْزُومٍ، كَتَسْمِيَةِ السَّقْفِ جِدَارًا2، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ3:
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ
يُرِيدُ بِشَدِّ الإِزَارِ: الاعْتِزَالَ عَنْ النِّسَاءِ. وَمِنْهُ إطْلاقُ الْمَسِّ عَلَى الْجِمَاعِ غَالِبًا، 4 لأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْجِمَاعُ بِحَائِلٍ 4.
ـــــــ
1 ساقطة من ز.
2 انظر في الكلام على هذا النوع "معترك الأقران 1/ 251، البرهان 2/ 270".
3 هو الأخطل التغلبي. "انظر ديوان الأخطل ص84".
4 ساقطة من ش.(1/159)
النَّوْعُ الرَّابِعُ
إطْلاقُ1 الأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "وَأَثَرٍ" أَيْ عَنْ مُؤَثِّرٍ، كَتَسْمِيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ مَوْتًا، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ يَصِفُ ظَبْيَةً2:
فَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
النَّوْعُ الْخَامِسُ
إطْلاقُ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "وَمَحَلٍّ" أَيْ عَنْ حَالٍّ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ3 "لا يَفْضُضْ اللَّهُ فَاك4" أَيْ: أَسْنَانَك، إذْ الْفَمُ مَحَلُّ الأَسْنَانِ. وَكَتَسْمِيَةِ الْمَالِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 البيت للخنساء في قصيدة طويلة ترثي أخاها صخراً، وصدره:
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ، حتى إذَا ادَّكَرَتْ.
والمعنى: أنها هي ذات إقبال وإدبار. "انظر ديوان الخنساء ص48، الكامل للمبرد 1/ 287".
3 هو الصحابي الجليل العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو الفضل، عم النبي صلى الله عليه وسلم، أجود قريش كفّاً، وأوصلهم رحماً، وفيه قال عليه الصلاة والسلام: "من آذى العباس فقد آذاني، فإنما عمُّ الرجل صنو أبيه" . وقد كان رئيساً في قومه زمن الجاهلية، وإليه كانت عمارة المسجد الحرام ولساقية قبل الإسلام. توفي في المدينة سنة 32هـ. "انظر ترجمته في الإصابة 2/ 271، الاستيعاب 3/ 94 وما بعدها، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 257، صفة الصفوة 1/ 506 وما بعدها".
4 الحديث أورده ابن الأثير في النهاية وابن منظور في للسان على أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله للعباس في رواية وللنابغة الجعدي في رواية أخرى، وحكى ابن قتيبة في الشعر والشعراء وابن كثير في البداية والنهاية وأبو نُعيم في أخبار أصبهان وابن عبد البر في الاستيعاب وابن حجر في الإصابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله للنابغة الجعدي، ثم قال ابن عبد البر: روينا هذا الخبر من وجوه كثيرة عن النابغة الجعدي من طريق يعلى بن الأشدق. وقال ابن كثير: أخرجه البزار والبيهقي. وقال الحافظ ابن حجر: أخرجه البزار والحسن بن سفيان في مسنديهما وأبو نعيم في تاريخ أصبهان والشيرازي في الألقاب كلهم من رواية يعلى بن الأشدق. وأخرجه الدارقطني في المؤتلف والمختلف وابن السكن في الصحابة والسلفي في الأربعين البلدانية والمرحبي في كتاب العلم من طرق أخرى. اهـ. "انظر الإصابة 3/ 539، الاستيعاب 3/ 584، أخبار أصبهان 1/ 73، البداية والنهاية 6/ 168, الشعر والشعراء 1/ 289, النهاية 3/ 453، الفائق 3/ 123، لسان العرب 7/ 207".(1/160)
كِيسًا، كَقَوْلِهِمْ1: "هَاتِ الْكِيسَ"، وَالْمُرَادُ: الْمَالُ الَّذِي فِيهِ2.
النَّوْعُ السَّادِسُ
إطْلاقُ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "وَكُلٍّ" أَيْ عَنْ بَعْضٍ3. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} 4 أَيْ أَنَامِلَهُمْ5.
ـــــــ
1 في ض ب: لقولهم.
2 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الإشارة إلى الإيجاز ص81، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص29 وما بعدها، معترك الأقران 1/ 252، التمهيدي للأسنوي ص50، البرهان 2/ 281".
3 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "معترك الأقران 1/ 249، الطراز 1/ 72، اللإشارة إلى الإيجاز ص68، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص23، البرهان 2/ 262، المحلي على جمع الجوامع 1/ 319".
4 الآية 19 من البقرة.
5 قال السيوطي: ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد مبالغة في الفرار. فكأنهم جعلوا فيها الأصابع. "معترك الأقران 1/ 249".(1/161)
النَّوْعُ السَّابِعُ
إطْلاقُ الْمُتَعَلِّقِ - بِكَسْرِ اللاَّمِ - عَلَى الْمُتَعَلَّقِ – بِفَتْحِهَا -
وَالْمُرَادُ التَّعَلُّقُ الْحَاصِلُ بَيْنَ1 الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ. فَشَمِلَ سِتَّةَ أَقْسَامٍ2 وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "وَمُتَعَلِّقٍ" بِكَسْرِ اللاَّمِ، أَيْ عَنْ مُتَعَلَّقٍ، بِفَتْحِهَا.
الْقِسْمُ الأَوَّلُ - مِنْ السِّتَّةِ-: إطْلاقُ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} 3 أَيْ مَخْلُوقُهُ.
الثَّانِي: عَكْسُهُ، وَهُوَ إطْلاقُ اسْمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {بِأَيِّكُمْ الْمَفْتُونُ}4 أَيْ الْفِتْنَةُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إطْلاقُ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ5 الْفَاعِلِ. كَقَوْلِهِمْ: "رَجُلٌ عَدْلٌ" أَيْ عَادِلٌ.
الرَّابِعُ: عَكْسُهُ. وَهُوَ إطْلاقُ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَصْدَرِ. كَقَوْلِهِمْ: "قُمْ قَائِمًا"6، وَكَقَوْلِهِمْ: "يَخْشَى اللاَّئِمَةَ" يَعْنِي اللَّوْمَ.
ـــــــ
1 في ش: من.
2 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص11-16، الإشارة إلى الإيجاز ص43 وما بعدها، معترك الأقران 1/ 255 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع 1/ 319، البرهان 2/ 285".
3 الآية 11 من لقمان.
4 الآية 6 من القلم.
5 ساقطة من ض ب.
6 أي قياماً. "المحلي على جمع الجوامع 1/ 319".(1/162)
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: إطْلاقُ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى [اسْمِ] الْمَفْعُولِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} 1 أَيْ مَدْفُوقٍ، و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 2. أَيْ مَرْضِيَّةٍ.
السَّادِسُ: عَكْسُهُ، إطْلاقُ3 اسْمِ الْمَفْعُولِ عَلَى اسْمِ4 الْفَاعِلِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {حِجَابًا مَسْتُورًا} 5 أَيْ سَاتِرًا.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَقَوْلُهُ "عَنْ مَعْلُولٍ" مُتَمِّمٌ لِقَوْلِهِ "بِعِلَّةٍ" وَرَاجِعٌ إلَيْهِ. فَإِذَا قُدِّرَ كُلٌّ مِنْ ذَلِكَ بِإِزَاءِ مَا هُوَ رَاجِعٌ إلَيْهِ كَانَ الْكَلامُ: وَيُتَجَوَّزُ بِعِلَّةٍ عَنْ مَعْلُولِ "وَ" لازِمٍ عَنْ "مَلْزُومٍ، وَ" أَثَرٍ عَنْ "مُؤَثِّرٍ، وَ" مَحَلٍّ عَنْ "حَالٍّ، وَ" كُلٍّ عَنْ "بَعْضٍ، وَ" مُتَعَلِّقٍ - بِكَسْرِ اللاَّمِ - عَنْ "مُتَعَلَّقٍ" بِفَتْحِهَا.
النَّوْعُ الثَّامِنُ
إطْلاقُ مَا بِالْقُوَّةِ عَلَى مَا بِالْفِعْلِ6
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "وَبِمَا بِالْقُوَّةِ عَنْ مَا بِالْفِعْلِ" كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ فِي الدَّنِّ
ـــــــ
1 الآية 6 من الطارق.
2 الآية 21 من الحاقّة و 7 من القارعة.
3 في ش: وهو إطلاق.
4 ساقطة من ض ز ب.
5 الآية 45 من الإسراء.
6 تعبير المصنف هذا غير سليم، وهو يفيد عكس مقصوده، حيث إن مراده بهذا النوع هو "إطلاق لفظ الشيء المتصف بصفةٍ بالفعل على الشيء المتصف بتلك الصفة بالقوة" وهو ما يسمى بمجاز الاستعداد. وقد عبّر عنه الفخر الرازي بإطلاق اسم الفعل على القوة. "انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 319، المزهر 1/ 360".(1/163)
مُسْكِرًا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ" 1 لأَنَّ فِيهِ قُوَّةَ الإِسْكَارِ.
وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ "وَبِالْعَكْسِ فِي الْكُلِّ":
النَّوْعُ التَّاسِعُ
وَهُوَ إطْلاقُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ
كَإِطْلاقِ الْمَوْتِ عَلَى الْمَرَضِ الشَّدِيدِ2.
وَالنَّوْعُ الْعَاشِرُ
وَهُوَ إطْلاقُ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ 3
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إذَا قَضَى أَمْرًا} 4 أَيْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ أَمْرًا، فَالْقَضَاءُ مَعْلُولُ الإِرَادَةِ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ} 5 أَيْ إذَا أَرَدْت أَنْ تَحْكُمَ.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد في مسنده عن ابن عمر مرفوعاً. "انظر نيل الأوطار 8/ 195، كشف الخفا 2/ 125".
2 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص18-20، الإشارة إلى الإيجاز ص56-59، المزهر 1/ 359، المحلي على جمع الجوامع 1/ 319، معترك الأقران 1/ 251، البرهان 2/ 259، المسودة ص169".
3 وقد عنون العز بن عبد السلام وابن القيم لهذا النوع "بالتجوز المراد عن الإدارة" وأفاض العلامة العزّ في الكلام عليه. "انظر الإشارة إلى الإيجاز ص44 وما بعدها، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص12".
4 الآية 47 من آل عمران.
5 الآية 42 من المائدة.(1/164)
وَالنَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ
وَهُوَ إطْلاقُ الْمَلْزُومِ عَلَى اللاَّزِمِ
كَتَسْمِيَةِ الْعِلْمِ حَيَاةً1. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} 2 أَيْ بُرْهَانًا فَهُوَ يَدُلُّهُمْ. سُمِّيَتْ الدَّلالَةُ3 كَلامًا، لأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ: "كُلُّ صَامِتٍ نَاطِقٌ بِمُوجِدِهِ". أَيْ الصَّنْعَةُ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى مُحْدِثِهِ. فَكَأَنَّهُ يَنْطِقُ4.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ
وَهُوَ إطْلاقُ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الأَثَرِ
كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "رَأَيْت اللَّهَ"، وَ "مَا أَرَى فِي الْوُجُودِ إلاَّ اللَّهَ تَعَالَى"، يُرِيدُ آثَارَهُ. وَالدَّلالَةَ عَلَيْهِ فِي الْعَالَمِ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الأُمُورِ الْمُهِمَّةِ: "هَذِهِ إرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى"، أَيْ مُرَادُهُ النَّاشِئُ عَنْ إرَادَتِهِ.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ
وَهُوَ إطْلاقُ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ
كَتَسْمِيَةِ الْكِيسِ مَالاً وَالْكَأْسِ خَمْرًا5. وَمِنْهُ {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 6 أَيْ فِي الْجَنَّةِ؛ لأَنَّهَا مَحَلُّ الرَّحْمَةِ.
ـــــــ
1 انظر البرهان للركشي 2/ 269.
2 الآية 35 من الروم.
3 في ش: الدلالة برهاناً.
4 في ز: نطق.
5 انظر في الكلام على هذا النوع "البرهان 2/ 282، معترك الأقران 1/ 252".
6 الآية 107 من آل عمران.(1/165)
وَالنَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ
وَهُوَ إطْلاقُ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ1
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2 وَالْعِتْقُ إنَّمَا هُوَ لِلْكُلِّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ" 3 فَالْمُرَادُ صَاحِبُ الْيَدِ بِكَمَالِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} 4.
وَالنَّوْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ
وَهُوَ إطْلاقُ الْمُتَعَلَّقِ - بِفَتْحِ اللاَّمِ- عَلَى الْمُتَعَلِّقِ - بِكَسْرِهَا-
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا" 5 فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: تَحِيضِي سِتًّا أَوْ سَبْعًا. وَهُوَ مَعْلُومُ اللَّهِ تَعَالَى6.
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الإشارة إلى الإيجاز ص66-68، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص22 وما بعدها، التمهيد ص48، معترك الأفران 1/ 248، البرهان 2/ 263-269".
2 الآية 92 من النساء.
3 أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم وأحمد من حذيث الحسين عن سمرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه. "انظر تلخيص الحبير 3/ 53، تحفة الأحوذي 4/ 482، سنن أبي داود 3/ 400، مسند الإمام أحمد 5/ 8، المستدرك 2/ 47، سنن ابن ماجة 2/ 802".
4 الآية 88 من القصص، والمراد ذاته.
5 أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارقطني والحاكم عن حمنة بنت جحش في حديث طويل. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد بن حنبل: هو حديث حسن صحيح. "انظر سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 1/ 395 وما بعدها، سنن ابن ماجة 1/ 205، سنن أبي داود 1/ 120، مستدرك الحاكم 1/ 172، التحقيق لابن الجوزي 1/ 195".
6 هذا المثال من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول، وقد سبق ذكره في القسم الأول من النوع السابق ص162 فتأمل!.(1/166)
وَالنَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ
وَهُوَ إطْلاقُ مَا بِالْفِعْلِ عَلَى مَا بِالْقُوَّةِ1
كَتَسْمِيَةِ الإِنْسَانِ الْحَقِيقِيِّ نُطْفَةً. وَهَذَا آخِرُ مَا دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ "وَبِالْعَكْسِ فِي الْكُلِّ".
وَالنَّوْعُ السَّابِعَ عَشَرَ
أَنْ يُتَجَوَّزَ "بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ زَائِلٍ"
كَإِطْلاقِ الْعَبْدِ عَلَى الْعَتِيقِ2. وَمِنْهُ {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} 3 عِنْدَ الأَكْثَرِ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} 4 وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ" 5.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: "الَّذِي كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ، وَاَلَّتِي6 كَانَتْ
ـــــــ
1 صواب العبارة أن يقال "إطلاق ما بالقوة على ما بالفعل"، وانظر النوع الثامن ص163.
2 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الإشارة إلى الإيجاز ص70، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص25، معترك الأقران 1/ 251، الطراز 1/ 72، العضد على ابن الحاجب 1/ 142، البرهان 2/ 280".
3 الآية 27 من الأحزاب.
4 الآية 13 من النساء.
5 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والدارقطني ومالك في الموطأ والطحاوي في شرح معاني الآثار عن أبي هريرة مرفوعاً. "انظر صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 221، سنن الدارقطني 3/ 29، سنن أبي داود 3/ 388، شرح معاني الآثار 4/ 164، أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن فرج القرطبي ص77، الموطأ بشرح الباجي 5/ 81، صحيح البخاري بشرح العيني 12/ 237".
6 في ش: واللاتي.(1/167)
أَرْضُهُمْ: وَاَللاَّتِي1 كُنَّ أَزْوَاجًا، وَهُوَ مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ يَجْرِي مَجْرَى الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَرْبُ فُلانٍ، وَقَطِيعَةُ2 فُلانٍ، وَنَهْرُ فُلانٍ"3.
وَمَحَلُّ صِحَّةِ الإِطْلاقِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ زَائِلٍ إذَا "لَمْ يَلْتَبِسْ4 حَالَ الإِطْلاقِ بِضِدِّهِ" أَيْ بِضِدِّ الْوَصْفِ الزَّائِلِ. فَلا يُقَالُ لِلشَّيْخِ طِفْلٌ، بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَلا لِلثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ أَبْيَضُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ.
النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ
أَنْ يُتَجَوَّزَ بِوَصْفٍ يَؤُولُ5 قَطْعًا، أَوْ ظَنًّا
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "أَوْ آيِلٍ" أَيْ الْوَصْفِ "قَطْعًا" كَإِطْلاقِ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَيِّ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 6.
"أَوْ" آيِلٍ "ظَنًّا" كَإِطْلاقِ الْخَمْرِ عَلَى الْعَصِيرِ "بِفِعْلٍ" مُتَعَلِّقٌ بِآيِلٍ، أَيْ بِوَصْفٍ آيِلٍ بِفِعْلٍ، كَإِطْلاقِ الْخَمْرِ عَلَى الْعِنَبِ بِاعْتِبَارِ أَيْلُولَتِهِ بِعَصْرِ الْعَصَّارِ7. "أَوْ قُوَّةٍ" يَعْنِي: أَوْ وَصْفٍ آيِلٍ بِالْقُوَّةِ دُونَ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ز: وقطعه.
3 انظر القواعد والفوائد الأصوليه للبعلي ص130، المسودة ص569.
4 في ع: يتلبس.
5 في ش: يزول.
6 الآية 30 من الزمر.
7 كما في قوله تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} . قال العز بن عبد السلام: أي أعصر عنباً، فإن الخمر لا يعصر، فتجوّز بالخمر عن العنب، لأن أمره يؤول إليها. "الإشارة على الإيجاز ص71".(1/168)
الْفِعْلِ، كَإِطْلاقِ الْمُسْكِرِ عَلَى الْخَمْرِ، بِاعْتِبَارِ أَيْلُولَيةِ1 الْخَمْرِ إلَى الإِسْكَارِ2.
وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ: أَنَّهُ لا يَتَجَوَّزُ بِوَصْفٍ آيِلٍ شَكًّا، كَالْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لا يُطْلَقُ عَلَيْهِ حُرٌّ مَعَ احْتِمَالِ عِتْقِهِ وَعَدَمِهِ3.
"وَ" النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ
أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ "زِيَادَةٍ" 4
وَذَكَرُوا أَنَّ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5. قَالُوا: إنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَأَنَّ6 الْمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَهُ. وَقِيلَ: الزَّائِدُ "مِثْلُ" أَيْ7: لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ.
ـــــــ
1 في ش: أيلولة.
2 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الإشارة إلى الإيجاز ص70 وما بعدها، معترك الأقران 1/ 252، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص25، المحلي على جمع الجوامع 1/ 317، البرهان 2/ 278".
3 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 317.
4 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "البرهان 2/ 274-278، المحلي على جمع الجوامع 1/ 317، الطراز 1/ 72، اللمع ص5، العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 167 وما بعدها".
5 الآية 11 من الشورى.
6 ساقطة من ز.
7 في ش: والمعنى.(1/169)
قَالُوا: وَإِنَّمَا حُكِمَ بِزِيَادَةِ أَحَدِهِمَا لِئَلاَّ يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِثْلٌ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، لأَنَّ نَفْيَ مِثْلِ الْمِثْلِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ مِثْلٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ يَلْزَمُ نَفْيُ الذَّاتِ؛ لأَنَّ مِثْلَ1 مِثْلِ الشَّيْءِ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَثُبُوتُهُ وَاجِبٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ لا يُرَادَ نَفْيُ ذَلِكَ إمَّا بِزِيَادَةِ الْكَافِ، أَوْ بِزِيَادَةِ "مِثْلِ".
قَالَ ابْنُ جِنِّي2: "كُلُّ حَرْفٍ زِيدَ فِي الْكَلامِ3 الْعَرَبِيِّ، فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ إعَادَةِ الْجُمْلَةِ مَرَّةً أُخْرَى"4. فَيَكُونُ مَعْنَى الآيَةِ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ –مَرَّتَيْنِ- لِلتَّأْكِيدِ.
وَقَدْ ادَّعَى كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَدَمَ الزِّيَادَةِ وَالتَّخَلُّصَ مِنْ الْمَحْذُورِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لا يُطْلَقُ فِي5 الْقُرْآنِ وَلا فِي السُّنَّةِ زَائِدٌ. وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ سَلْبَ الْمَعْنَى عَنْ الْمَعْدُومِ6 جَائِزٌ كَسَلْبِ الْكِتَابَةِ عَنْ ابْنِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش. وفي ز: نفي مثلِ مثلِ.
2 هو عثمان ين جنّي، أبو الفتح الموصلي النحوي اللغوي، من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف. أشهر كتبه "الخصائص" في النحو و "سر الصناعة" و "شرح تصريف المازني" و "اللمع" وغيرها. توفي سنة 392هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/ 132، إنباه الرواة 2/ 335، وفيات الأعيان 2/ 410، المنتظم 7/ 220، شذرات الذهب 3/ 140، معجم الأدباء 12/ 81".
3 في ع: المثال.
4 قول ابن جنّي هذا ورد بمعناه لا بلفظه في كتابه "الخصائص"، إذ جاء فيه –أثناء الكلام على زيادة الحروف-: "وأما ريادتها فلإرادة التوكيد بها، وذلك أنه قد سبق أن الغرض في استعمالها إنما هو الإيجاز والاختصار، والاكتفاء من الأفعال وفاعليتها، فإذا زيد ما هذه سبيله. فهو تناهٍ في التوكيد به" "الخصائص 2/ 284".
5 في ش: على ما في.
6 في ش: المعنى.(1/170)
فُلانٍ الَّذِي هُوَ مَعْدُومٌ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمِثْلِ 1 عَنْ الْمِثْلِ 1 ثُبُوتُ الْمِثْلِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِلَفْظِ "الْمِثْلِ" الصِّفَةُ2 كَالْمَثَلِ – بِفَتْحَتَيْنِ - كَمَا 3 فِي قَوْله تَعَالَى:"3 {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} 4. فَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ كَصِفَتِهِ شَيْءٌ.
قَالَ الرَّاغِبُ5: "الْمِثْلُ هُنَا بِمَعْنَى الصِّفَةِ 2، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ كَصِفَتِهِ صِفَةٌ"6.
قَالَ فِي "الْبَدْرِ الْمُنِيرِ": "مِثْلُ: يُوصَفُ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَيْ لَيْسَ كَوَصْفِهِ
ـــــــ
1 ساقطة من ب.
2. ساقطة من ش
3 في ش ز: قال تعالى
4 الآية 35 من الرعد.
5 هو الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم، المعروف بالراغب الأصبهاني، المتوفى سنة 502هـ كما قال حاجي خليفة، وذكر السيوطي والداودي أن اسمه المفضل بن محمد الأصبهاني، وأنه كان في أوائل المائة الخامسة. أهم مؤلفاته "مفردات القرآن" و "محاضرات الأدباء" و "أفانين البلاغة" و "الذريعة إلى مكارم الشريعة". "انظر ترجمته في كشف الظنون 2/ 177، بغية الوعاة 2/ 297، طبقات المفسرين للداودي 2/ 329".
6 المفردات في غريب القرآن ص478، وتتمة العبارة: "تنبيهاً على أنه وإن وُصف بكثير مما يوصف به البشر، فليس تلك الصفات له على حَسَب ما يُستعمل في البشر".
وهذا القول الذي عزاه المصنف إلى الراغب ليس في الحقيقة قوله، بل هو مجرد قول ساقه على سبيل الحكاية عن غيره بصيغة "وقيل". أما ما اتجه إليه الراغب فقد عبّر عنه بقوله: "لما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال "ليس كمثله شيء". وأما الجمع بين الكاف والمثال، فقد قيل ذلك لتأكيد النفي، تنبيهاً على أنه لا يصح استعمال المثل ولا الكاف، فنفى بليس الأمرين جميعاً". "المفردات ص478" وهذا هو نفس قول ابن هبيرة الذي ساقه المصنف في الوجه الخامس، فتأمل!(1/171)
شَيْءٌ1، وَقَالَ: هُوَ أَوْلَى مِنْ الْقَوْلِ بِزِيَادَتِهَا2؛ لأَنَّهَا عَلَى خِلافِ الأَصْلِ"3.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِهِ4 ذَاتُهُ5، كَقَوْلِك: مِثْلُك لا يَبْخَلُ، أَيْ: أَنْتَ لا تَبْخَلُ6.
قَالَ الشَّاعِرُ7:
وَلَمْ أَقُلْ مِثْلَك أَعْنِي بِهِ ... غَيْرَك8 يَا فَرْدُ9 بِلا مُشْبِهِ
وَقَوْلُهُ:
أَيُّهَا الْعَاذِلُ دَعْ10 مِنْ11 عَذْلِكَا ... مِثْلِي لا يُصْغِي إلَى مِثْلِكَا
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: بالزيادة.
3 المصباح المنير 2/ 768.
4 في ش ز: بمثل.
5 في ش ز: ذات.
6 قال البناني: لاستلزام نفي البخل عن مثله نفيه عنه. "البناني على شرح جمع الجوامع 1/ 317".
7 البيت للمتنبي في قصيدته التي رثى فيها عمه عضد الدولة وعزّاه فيها، وقد سبق هذا البيت في القصيدة قوله:
مثلُكَ يَثْني الحزنَ عَنْ صَوْبِهِ ... ويَسْتَرِدُّ الدَمْعَ عَنْ غَرْبِهِ
"انظر ديوان المتنبي ص559".
8 في الديوان: سواك.
9 في الديوان: يا فرداً.
10 في ش ز ب ع: دعني.
11 ساقطة من ض.(1/172)
وَقَدْ1 قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوْا} 2 أَيْ بِاَلَّذِي3 آمَنْتُمْ بِهِ؛ لأَنَّ إيمَانَهُمْ لا مِثْلَ لَهُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَبْدِ السَّلامِ4 فَالتَّقْدِيرُ فِي الآيَةِ: لَيْسَ كَذَاتِهِ شَيْءٌ، بَلْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْكِنَايَةِ أَبْلَغُ مِنْ التَّصْرِيحِ5، لِتَضَمُّنِهِ إثْبَاتَ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ.
قَالَ فِي "الْبَدْرِ الْمُنِيرِ"6: "وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ كَذَاتِهِ شَيْءٌ. كَمَا يُقَالُ: مِثْلُك مَنْ يَعْرِفُ الْجَمِيلَ، وَمِثْلُك لا يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ أَنْتَ تَكُونُ كَذَا. وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} 7 [أَيْ كَمَنْ هُوَ"8].
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ لِشَيْءٍ مِثْلٌ، وَلِذَلِكَ الْمِثْلِ مِثْلٌ، كَانَ كِلاهُمَا مِثْلاً لِلأَصْلِ، فَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ مِثْلِ الْمِثْلِ: نَفْيُهُمَا مَعًا، وَيَبْقَى الْمَسْكُوتُ عَنْهُ؛ لأَنَّهُ الْمَوْضُوعُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُقَدَّرٌ مِثْلِيَّتُهُ. وَقَدْ نُفِيَا عَنْهُ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 الآية 137 من البقرة.
3 في ش: الذي.
4 هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي الشافعي، أبو محمد، شيخ الإسلام وأحد الأئمة الأعلام، الملقب بسلطان العلماء. أشهر كتبه "القواعد الكبرى" و "مجاز القرآن المسمى بالإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز" و "شجرة المعارف" و "التفسير" توفي سنة 660هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 8/ 209، فوات الوفيات 1/ 594، شذرات الذهب 5/ 301، طبقات المفسرين للداودي 1/ 309".
أما نقل المصنف عن العز بن عبد السلام فهو غير دقيق، حيث إن العز فَسَّرَ المِثْلَ بالذات والصفات، فقال: "قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} معناه ليس مثله شيء في ذاته ولا في شيء من صفاته". "انظر الإشارة إلى الإيجاز ص272".
5 في ز ب: الصريح.
6 المصباح المنير 2/ 868.
7 الآية 122 من الأنعام.
8 زيادة من المصباح المنير.(1/173)
قَالَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ1: اجْعَلْ الْكَافَ أَصْلِيَّةً، وَلا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ. قَالَ: لأَنَّ نَفْيَ الْمِثْلِ لَهُ طَرِيقَانِ: إمَّا بِنَفْيِ الشَّيْءِ، أَوْ بِنَفْيِ لازِمِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ اللاَّزِمِ نَفْيُ الْمَلْزُومِ، وَمِنْ لَوَازِمِ الْمِثْلِ: أَنَّ لَهُ مِثْلاً فَإِذَا نَفَيْنَا مِثْلَ الْمِثْلِ، انْتَفَى لازِمُ الْمِثْلِ، فَيَنْتَفِي الْمِثْلُ لِنَفْيِ لازِمِهِ.
الْخَامِسُ: قَالَ يَحْيَى بْنُ إبْرَاهِيمَ السَّلامِاسِيُّ2 فِي كِتَابِهِ "الْعَدْلِ فِي مَنَازِلِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ": إنَّ الْكَافَ لِتَشْبِيهِ الصِّفَاتِ، وَ "مِثْلَ" لِتَشْبِيهِ الذَّوَاتِ. فَنَفَى3 الشَّبِيهَيْنِ كِلاهُمَا عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى. فَقَالَ تَعَالَى4: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَيْ: لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ وَلا كَهُوَ شَيْءٌ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ5 - مِنْ أَصْحَابِنَا-: آلَتَا6 التَّشْبِيهِ فِي كَلامِ الْعَرَبِ:
ـــــــ
1 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي، شرف الدين، أبو عبد الله، العلامة النحوي الأديب، المفسر المحدث الفقيه الأصولي. قال ابن النجار: "هو من الأئمة الفضلاء في فنون العلم والحديث والقراءات والفقه والخلاف والأصلين والنحو واللغة، وله قريحة حسنة وذهن ثاقب وتدقيق في المعاني ومصنفات في جميع ما ذكرنا". من كتبه "التفسير الكبير" و "الأوسط" و "الصغير" و "مختصر صحيح مسلم" و "الضوابط النحوية في علم العربية" وكتاب في أصول الفقه وكتاب في البديع والبلاغة. توفي سنة 655هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/ 144، طبقات الشافعية للسبكي 8/ 69، شذرات الذهب 5/ 269، معجم الأدباء 18/ 209، طبقات المفسرين للداودي 2/ 168".
2 في ش: السلاميسي.
3 في ش: فنفي المثلين.
4 ساقطة من ش.
5 هو يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعد، عون الدين، أبو المظفر، العالم الوزير العادل. قال ابن الجوزي: "كانت له معرفة حسنة بالنحو واللغة والعروض، وصنف في تلك العلوم، وكان متشدداً في اتباع السنّة وسير السلف". أشهر كتبه "الإفصاح عن معاني الصحاح" شرح فيه صحيحي البخاري ومسلم و "المقتصد" في النحو وغيرهما. توفي سنة 560هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 1/ 251، المنهج الأحمد 2/ 286، شذرات الذهب 4/ 191، المنتظم 10/ 214، وفيات الأعيان 5/ 274".
6 في ش: أداة.(1/174)
الْكَافُ، وَمِثْلُ، تَقُولُ هَذَا مِثْلُ هَذَا، وَهَذَا كَهَذَا، فَجَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آلَتَيْ1 التَّشْبِيهِ وَنَفَى عَنْهُ بِهِمَا الشَّبِيهَ2.
3"وَ" النَّوْعُ الْعِشْرُونَ
أَنْ4 يَكُونَ الْكَلامُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ "نَقْصِ" لَفْظٍ مِنْ الْكَلامِ الْمُرَكَّبِ
وَيَكُونُ مَا نَقَصَ كَالْمَوْجُودِ لِلافْتِقَارِ إلَيْهِ. سَوَاءٌ كَانَ النَّاقِصُ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا، جُمْلَةً أَوْ غَيْرَهَا5. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} 6 أَيْ يُحَارِبُونَ عِبَادَ اللَّهِ وَأَهْلَ دِينِهِ. وَمِثْلُهُ {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} 7 أَيْ: مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ وَبِهِ قُرِئَ شَاذًّا، وَمِثْلُهُ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 8 أَيْ فَأَفْطَرَ. وَمِثْلُهُ {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} 9 وَاسْأَلْ الْعِيرَ10، أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَأَهْلَ الْعِيرِ. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} 11 أَيْ حُبَّ12 الْعِجْلِ
ـــــــ
1 في ش: أداتي.
2 في ع ب: الشبه. وفي ز: الشبهه.
3 ساقطة من ش.
4 في ش: أن لا.
5 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "البرهان 2/ 274، الإشارة إلى الإيجاز ص14، معترك الأقران 1/ 264، الطراز 1/ 73".
6 الآية 33 من المائدة.
7 الآية 96 من طه.
8 الآية 184 من البقرة.
9 الآية 82 من يوسف.
10 كما جاء في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [82 يوسف].
11 الآية 93 من البقرة.
12 في ش: صاحب. وفي ض: أشربوا حب.(1/175)
"وَ" النَّوْعُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ
أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مُشَابَهَةِ "شَكْلٍ1"
كَإِطْلاقِ لَفْظِ الأَسَدِ عَلَى مَا هُوَ بشَكْلِهِ2، مِنْ مُجَسَّدٍ أَوْ مَنْقُوشٍ، وَرُبَّمَا تُوجَدُ الْعَلاقَتَانِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} 3.
"وَ" النَّوْعُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ
أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مُشَابَهَةٍ فِي الْمَعْنَى فِي "صِفَةٍ ظَاهِرَةٍ"
كَإِطْلاقِ الأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ. وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا "ظَاهِرَةٍ" الصِّفَةُ الْخَفِيَّةُ، كَالْبَخَرِ، فَلا يُطْلَقُ أَسَدٌ عَلَى الأَبْخَرِ، لأَنَّ الْبَخَرَ فِي الأَسَدِ خَفِيٌّ4.
"وَ" النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ
أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ إطْلاقِ "اسْمِ" الْبَدَلِ عَلَى الْمُبْدَلِ5
كَتَسْمِيَةِ الدِّيَةِ دَمًا، لِقَوْلِهِ6 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَحْلِفُونَ7 وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ"8!
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الإشارة إلى الإيجاز ص30، 87، الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن ص31، المحلي على جمع الجوامع 1/ 317".
2 في ش: كشكله.
3 الآية 88 من طه.
4 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الإشارة إلى الإيجاز ص30، المستصفى 1/ 341، روضة الناظر وشرحها لبدران 2/ 16، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 317".
5 صواب العبارة أن يقال: "إطلاق اسم المبدل على البدل". وما أثبتناه في النص هو المذكور في الأصول الخطية كلها.
6 في ش: كقوله.
7 في ش ز: أتحلفون.
8 الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأحمد في مسنده ومالك في الموطأ عن سهل بن أبي خَثْمَةَ مرفوعاً في موضوع القسامة. "انظر صحيح البخاري 9/ 12، مسلم بشرح النووي 11/ 146، 152، سنن أبي داود 4/ 248، سنن النسائي 8/6، تحفة الأحوذي 4/ 683، الموطأ 2/ 878، سنن البيهقي 8/ 117، سنن ابن ماجة 2/ 893، مسند أحمد 4/ 3، نيل الأوطار 7/ 37، إحكام الأحكام الابن دقيق العيد 2/ 238، أقضية النبي صلى الله عليه وسلم ص10".(1/176)
"وَ" النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ
أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ إطْلاقِ اسْمٍ مُقَيَّدٍ عَلَى 1 مُطْلَقٍ 1
كَقَوْلِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ2: "أَصْبَحْت وَنِصْفُ النَّاسِ عَلَيَّ غَضْبَانُ" الْمُرَادُ: مُطْلَقُ الْبَعْضِ لا خُصُوصُ النِّصْفِ3.
أَوْ بِاعْتِبَارِ إطْلاقِ اسْمِ "ضِدٍّ" عَلَى ضِدِّهِ4، وَتُسَمَّى الْعَلاقَةُ هُنَا عَلاقَةَ الْمُضَادَّةِ كَإِطْلاقِ الْبَصِيرِ عَلَى الأَعْمَى، وَالسَّلِيمِ عَلَى اللَّدِيغِ، وَالْمَفَازَةِ عَلَى الْمَهْلَكَةِ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 هو شرح بن الحارث بن قيس الكندي الكوفي، المخضرم التابعي، أبو أمية. أدراك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه على القول المشهور، ورى عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وغيرهم من الصحابة. ولّاه عمر قصاء الكوفة، وأقرّه على ذلك مَنْ جاء بعده، فبقي على قضائها ستين سنة. يقول النووي: "واتفقوا على توثيق شريح ودينه وفضله والاحتجاج برواياته وذكائه وأنه أعلمهم بالقضاء" توفي سنة 78هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في صفة الصفوة 3/ 38 وما بعدها، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 243 وما بعدها، وفيات الأعيان 2/ 167 وما بعدها، شذرات الذهب 1/ 85".
3 انظر في التجوز بإطلاق المقيد على المطلق البرهان للزركشي 2/ 270.
4 انظر في التجوز بإطلاق اسم الضد على ضده "معترك الأقران 1/ 253، البرهان 2/ 283، الطراز 1/ 71، المسودة ص169، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 317".
.(1/177)
"وَ" النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ
أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ نَقْلِ اسْمٍ لِعَلاقَةِ1 "مُجَاوَرَةٍ"
كَإِطْلاقِ لَفْظِ "الرَّاوِيَةِ" عَلَى ظَرْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الأَصْلِ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ2.
"وَنَحْوِهِ" أَيْ نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ3، وَذَكَرُوا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحَوَى} 4 وَالْغُثَاءُ: مَا احْتَمَلَهُ السَّيْلُ مِنْ الْحَشِيشِ، وَالأَحْوَى: الشَّدِيدُ الْخُضْرَةِ. وَذَلِكَ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ5.
وَكَذَا الاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ بِتَأْوِيلِهِ بِدُخُولِهِ تَحْتَ الْجِنْسِ يَكُونُ مِنْ مَجَازِ الْمُشَابَهَةِ.
وَمِنْهَا: وُرُودُ الأَمْرِ بِصُورَةِ الْخَبَرِ وَعَكْسِهِ6، نَحْوُ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} 7 وقَوْله تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}8 وَقَدْ يُقَالُ:
ـــــــ
1 في ش: علاقة.
2 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 317، المزهر 1/ 360، روضة الناظر وشرحها لبدران 2/ 17 وما بعدها".
3 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص82-86، معترك الأقران 1/ 266، اللمع للشيرازي ص5".
4 الآية 4، 5 من الأعلى.
5 قال الشيرازي: "والمراد أخراج المرعى أحوى، فجعله غُثَاءً، فقدّم وأخّر" "اللمع ص5" وانظر معترك الأقران 2/ 684، مفردات الراغب ص140.
6 انظر تفصيل الكلام على هذا النوع في "معترك الأقران 1/ 259، الإشارة إلى الإيجاز ص39، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص34، البرهان 2/ 289".
7 الآية 233 من البقرة. وقال العز بن عبد السلام: أي لترضع الوالدات أولادهن حولين كاملين.
8 الآية 38 من مريم.(1/178)
إنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَالَغَةِ أَوْ الْمُضَادَّةِ، بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِيهِ1 حَقِيقَةً بِسَبَبِ اعْتِقَادِهِ.
"وَشُرِطَ" لِصِحَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ "نَقْلٌ" عَنْ الْعَرَبِ "فِي" كُلِّ "نَوْعٍ" مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ "لا" فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ "آحَادِ" الْمَجَازِ، بَلْ يَكْفِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي كُلِّ صُورَةٍ ظُهُورُ نَوْعٍ مِنْ الْعَلاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ2.
وَقَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: إطْلاقُ اسْمٍ عَلَى مُسَمَّاهُ الْمَجَازِيِّ لا يَفْتَقِرُ فِي الآحَادِ إلَى النَّقْلِ عَنْ "الْعَرَبِ، بَلْ"3 الْمُعْتَبَرُ ظُهُورُ الْعَلاقَةِ عَلَى الأَصَحِّ، وَأَمَّا فِي الأَنْوَاعِ: فَمُعْتَبَرٌ وِفَاقًا. انْتَهَى.
"وَهُوَ" أَيْ الْمَجَازُ، ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ4.
- قِسْمٌ "لُغَوِيٌّ: كَأَسَدٍ لِشُجَاعٍ" لِعَلاقَةِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْجُرْأَةُ5، فَكَأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ بِاعْتِبَارِهِمْ النَّقْلِ لِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ وَضَعُوا الاسْمَ ثَانِيًا لِلْمَجَازِ.
- "وَ" الْقِسْمُ الثَّانِي: مَجَازٌ "عُرْفِيٌّ" وَهُوَ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ "عَامٌّ، كَدَابَّةٍ لِمَا دَبَّ" فَإِطْلاقُهَا6 عَلَى ذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ، مَجَازٌ فِي الْعُرْفِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الدَّابَّةِ فِي الْعُرْفِ لِذَاتِ الْحَافِرِ، فَإِطْلاقُهَا عَلَى كُلِّ مَا دَبَّ مَجَازٌ فِيهِ.
ـــــــ
1 في ش: في.
2 انظر: شرح مسلم الثبوت 1/ 203 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 326، العضد على ابن الحاجب 1/ 143 وما بعدها، الطراز 1/ 86، المعتمد 1/ 37، إرشاد الفحول ص24.
3 ساقطة من ش.
4 انظر تفصيل الكلام على أقسام المجاز الثلاثة في "شرح تنقيح الفصول ص44، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 327 وما بعدها، إحكام الأحكام للآمدي 1/ 29، إرشاد الفحول ص21 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 163 وما بعدها".
5 في ع: الجراءة.
6 في ع: فاطلاقه.(1/179)
"وَ" النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمَجَازِ الْعُرْفِيِّ: مَجَازٌ خَاصٌّ، كَإِطْلاقِ لَفْظِ "جَوْهَرٍ" فِي الْعُرْفِ "لِـ" كُلِّ "نَفِيسٍ" انْتِقَالاً فِي الْعُرْفِ مِنْ ذَاتِ الْحَافِرِ، وَمِنْ النَّفَاسَةِ لِلْمَعْنَى الْمُتَضَمِّنِ لِذَاتِ الْحَافِرِ مِنْ الدَّبِّ فِي الأَرْضِ، وَلِلشَّيْءِ النَّفِيسِ مِنْ غُلُوِّ الْقِيمَةِ الَّتِي فِي الْجَوْهَرِ1 الْحَقِيقِيِّ.
- "وَ" الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَجَازٌ "شَرْعِيٌّ: كَـ" إطْلاقِ "صَلاةٍ" فِي الشَّرْعِ "لِـ" مُطْلَقِ "دُعَاءٍ" انْتِقَالاً مِنْ ذَاتِ الأَرْكَانِ لِلْمَعْنَى الْمُتَضَمِّنِ2 لَهَا مِنْ الْخُضُوعِ وَالسُّؤَالِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقُوَّةِ، فَكَأَنَّ الشَّارِعَ بِهَذَا الاعْتِبَارِ وَضَعَ الاسْمَ ثَانِيًا لِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللُّغَوِيِّ3 هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، فَكُلُّ مَعْنًى حَقِيقِيٍّ فِي وَضْعٍ هُوَ4 مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعٍ آخَرَ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِاعْتِبَارين5.
"وَيُعْرَفُ" الْمَجَازُ "بِصِحَّةِ نَفْيِهِ" كَقَوْلِكَ6 "الشُّجَاعُ لَيْسَ بِأَسَدٍ"، وَ "الْجَدُّ لَيْسَ بِأَبٍ"، وَ "الْبَلِيدُ لَيْسَ بِحِمَارٍ"؛ لأَنَّ الْحَقِيقَةَ لا تُنْفَى. فَلا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْحِمَارَ لَيْسَ بِحِمَارٍ، وَإِنَّ الأَبَ لَيْسَ بِأَبٍ، وَإِنَّ الْبَلِيدَ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ7
ـــــــ
1 في ع ب: الجوهري.
2 في ز ب ع: المضمن.
3 في ش: اللغوي من.
4 في ش: مجاز هو.
5 في ش: باعتباره.
6 في ش: كقولك في.
7 انظر فواح الرحموت 1/ 205، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 323، العضد على ابن الحاجب 1/ 146، إرشاد الفحول ص25، الإحكام للآمدي 1/ 30،المسودة ص570، القواعد والفوائد الأصولية ص127.(1/180)
"وَ" يُعْرَفُ أَيْضًا "بِتَبَادُرِ غَيْرِهِ". أَيْ تَبَادُرِ1 غَيْرِ الْمَجَازِ إلَى ذِهْنِ السَّامِعِ "لَوْلا الْقَرِينَةُ" الْحَاضِرَةُ2.
"وَ" يُعْرَفُ أَيْضًا بِـ "عَدَمِ وُجُوبِ3 اطِّرَادِهِ4" أَيْ اطِّرَادِ5 عَلاقَتِهِ، فَالْعَلاقَةُ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } 6 لا تَطَّرِدُ، فَلا يُقَالُ: اسْأَلْ الْبِسَاطَ وَلا الْحَصِيرَ7.
"وَ" يُعْرَفُ أَيْضًا بِـ "الْتِزَامِ تَقْيِيدِهِ" كَجَنَاحِ الذُّلِّ، وَنَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ "الْجَنَاحَ وَالنَّارَ" يُسْتَعْمَلانِ فِي مَدْلُولِهِما8 الْحَقِيقِيِّ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ9.
وَإِنَّمَا قِيلَ بِالْتِزَامِ تَقْيِيدِهِ، وَلَمْ يُقَلْ بِتَقْيِيدِهِ، لأَنَّ الْمُشْتَرَكَ قَدْ يقيد10 فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَقَوْلِك: "عَيْنٌ جَارِيَةٌ"، لَكِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ التَّقْيِيدُ فِيهِ.
ـــــــ
1 في ض ب: يتبادر.
2 انظر العضد على ابن الحاجب 1/ 147، المزهر 1/ 363، اللمع ص5، إرشاد الفحول ص25، الإحكام للآمدي 1/ 33، المعتمد 1/ 32، الروضة وشرحها لبدران 1/ 23، فواتح الرحموت 1/ 206، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 323.
3 في ع: وجود.
4 في ش: المراده.
5 في ش: المراد.
6 الآية 82 من يوسف.
7 انظر فواتح الرحموت 1/ 206، المستصفى 1/ 342، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 323، العضد على ابن الحاجب 1/ 149، المزهر 1/ 362، 364، اللمع ص5، إرشاد الفحول ص25، الإحكام للآمدي 1/ 31، المعتمد 1/ 32.
8 في ش: مدلوله.
9 انظر إرشاد الفحول ص25، العضد على ابن الحاجب 1/ 153، فواتح الرحموت 1/ 207، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 325.
10 في ش: قيد.(1/181)
"وَ" يُعْرَفُ أَيْضًا1 بِـ "تَوَقُّفِهِ" أَيْ تَوَقُّفِ اسْتِعْمَالِهِ "عَلَى مُقَابِلِهِ" أَيْ عَلَى الْمُسَمَّى2 الآخَرِ الْحَقِيقِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ:
-مَلْفُوظًا بِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 3 أَيْ جَازَاهُمْ4 عَلَى مَكْرِهِمْ، حَيْثُ تَوَاطَئُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ أَلْقَى، شَبَهَهُ عَلَى مَنْ وَكَلُوا5 بِهِ قَتْلَهُ، وَرَفَعَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَتَلُوا الْمُلْقَى عَلَيْهِ الشَّبَهُ. ظَنًّا أَنَّهُ عِيسَى. وَلَمْ يَرْجِعُوا لِقَوْلِهِ "أَنَا صَاحِبُكُمْ" ثُمَّ شَكُّوا فِيهِ لَمَّا لَمْ يَرَوْا الآخَرَ، فَلا يُقَالُ: "مَكَرَ اللَّهُ" ابْتِدَاءً.
- أَوْ كَانَ مُقَدَّرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} 6، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لِمَكْرِهِمْ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ، لَكِنْ تَضَمَّنَهُ الْمَعْنَى، وَالْعَلاقَةُ الْمُصَاحَبَةُ فِي الذِّكْرِ7.
"وَ" يُعْرَفُ أَيْضًا بِـ "إضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ قَابِلٍ" * كَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ وَاسْأَلْ الْعِيرَ وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالإِطْلاقِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ فَإِنَّ الاسْتِحَالَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٌ لَهُ فَيَكُونُ مَجَازًا8.
ـــــــ
1 ساقطة من ض.
2 في ع: مسمى.
3 الآية 54 من آل عمران.
4 في ش: جزاهم.
5 في ش: وكل إليه.
6 الآية 21 من يونس.
7 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 325، فواتح الرحموت 1/ 207، العضد على ابن الحاجب 1/ 145، 153، إرشاد الفحول ص25.
8 انظر الإحكام للآمدي 1/ 32، اللمع ص5، المزهر 1/ 363، الطراز 1/ 93، المعتمد 1/ 34، حاشية البناني 1/ 326.(1/182)
"وَ" يُعْرَفُ أَيْضًا 1 بِـ "كَوْنِهِ لا يُؤَكَّدُ" 2 أَيْ بِالْمَصْدَرِ 2؛ لأَنَّ التَّأْكِيدَ يَنْفِي احْتِمَالَ الْمَجَازِ3.
"وَفِي قَوْلٍ، وَ" وَهُوَ قَوْلُ الْبَاقِلاَّنِيِّ وَالْغَزَالِيِّ، وَالْمُوَفَّقِ4، وَالطُّوفِيِّ، وَابْنِ مُفْلِحٍ، وَابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ: إنَّ الْمَجَازَ "لا يُشْتَقُّ مِنْهُ" 5.
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 6 بِمَعْنَى الشَّأْنِ مَجَازٌ7، فَلا يُشْتَقُّ مِنْهُ آمِرٌ وَلا مَأْمُورٌ، وَلا غَيْرُهَا8.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ الأَكْثَرِ وَيَدُلُّ لَهُ9 إجْمَاعُ الْبَيَانِيِّينَ عَلَى صِحَّةِ الاسْتِعَارَةِ بِالتَّبَعِيَّةِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمَجَازِ، لأَنَّ الاسْتِعَارَةَ تَكُونُ فِي الْمَصْدَرِ. ثُمَّ يُشْتَقُّ مِنْهُ10.
ـــــــ
*-1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ز.
3 انظر المزهر 1/ 363.
4 هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الدمشقي الحنبلي، موفق الدين، أبو محمد، أحد الأئمة الأعلام. قال ابن النجار: "كان ثقة حجة نبيلاً، غزير الفضل، كامل العقل، شديد التثبت، دائم السكوت، حسن السمت، ورعاً عابداً على قانون السلف، على وجهه النور، وعليه الوقار والهيبة... الخ". وقد ألف التصانيف النافعة، وأشهرها "المغني" و "الكافي" و "المقنع" و "العمدة" في الفقه و "روضة الناظر" في أصول الفقه و "التوابين" و "المتحابين في الله" في الزهد والفضائل. توفي سنة 620هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 133 وما بعدها، شذرات الذهب 5/ 88 وما بعدها، فوات الوفيات 1/ 433".
5 انظر الإحكام للآمدي 1/ 32، المستصفى 1/ 343، المزهر 1/ 362، روضة الناظر وشرحها لبدران 1/ 24، إرشاد الفحول ص25، المعتمد 1/ 33، العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 160.
6 الآية 97 من هود.
7 في ع: مجازاً.
8 المستصفى 1/ 343.
9 في ش: عليه.
10 انظر الطراز 1/ 96.(1/183)
وَاسْتُدِلَّ عَلَى صِحَّةِ الاشْتِقَاقِ مِنْ الْمَجَازِ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: "نَطَقَتْ الْحَالُ بِكَذَا"، أَيْ دَلَّتْ؛ لأَنَّ النُّطْقَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدَّلالَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ اُشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ الْفَاعِلِ1 عَلَى مَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي الاسْتِعَارَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ فِي الْمُشْتَقَّاتِ.
"وَيُثَنَّى" الْمَجَازُ "وَيُجْمَعُ" وَمَنَعَهُمَا بَعْضُهُمْ وَأَبْطَلَهُ الآمِدِيُّ. بِأَنَّ لَفْظَ الْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ إجْمَاعًا2.
"وَيَكُونُ" الْمَجَازُ "فِي مُفْرَدٍ" كَإِطْلاقِ لَفْظِ الأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ، وَالْحِمَارِ عَلَى الْبَلِيدِ، وَالْبَحْرِ عَلَى الْعَالِمِ، "وَ" يَكُونُ أَيْضًا فِي "إسْنَادٍ" عَلَى الصَّحِيحِ3، وَعَلَيْهِ الْمُعْظَمُ. فَيَجْرِي فِيهِ، وَإِنْ لِمَ يَكُنْ فِي لَفْظَيْ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إلَيْهِ تَجَوُّزٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْنَدَ الشَّيْءُ إلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ بِلا وَاسِطَةِ وَضْعٍ. كَقَوْلِ الشَّاعِرِ4:
أَشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الْكَبِـ ... ـيَرَ كَرُّ الْغَدَاةِ وَمَرُّ الْعَشِيْ
فَلَفْظُ "الإِشَابَةِ" حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِ، - وَهُوَ تَبْيِيضُ الشَّعْرِ-، وَالزَّمَانُ الَّذِي هُوَ مُرُورُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِ أَيْضًا، لَكِنْ إسْنَادُ الإِشَابَةِ إلَى الزَّمَانِ
ـــــــ
1 في ش: فاعل.
2 الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 32، وانظر أيضاً "المعتمد 1/ 33، المزهر 1/ 362".
3 انظر تفصيل الكلام على المجاز في الإفراد والتركيب وآراء العلماء فيه في "فواتح الرحموت 1/ 208 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 320، إرشاد الفحول ص26، شرح تنقيح الفصول ص45 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 154 وما بعدها، الطراز 1/ 74 وما بعدها، أسرار البلاغة ص416 وما بعدها، التمهيد للأسنوي ص51، البرهان 2/ 256 وما بعدها، معترك الأقران 1/ 247".
4 البيت للصَلَتَان العبدي، قُثَم بن خَبِيئَةَ، نسبه له ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" "1/ 478". كما نسبه له البغدادي في "خزانة الأدب" "1/ 308" نقلاً عن ابن قتيبة، ونسبه له أيضاً الأسنوي في "التمهيد" ص51، وقد نسبه الجاحظ في "الحيوان" "3/ 477" للصَلَتَان السعدي، وقال: هو غير الصلتان العبدي.(1/184)
مَجَازٌ، إذْ الْمُشَيِّبُ1 لِلنَّاسِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَهَذَا مَجَازٌ فِي الإِسْنَادِ، لا فِي نَفْسِ مَدْلُولاتِ الأَلْفَاظِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} 2 {إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ} 3، فَكُلٌّ مِنْ طَرَفَيْ الإِسْنَادِ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي إسْنَادِ الزِّيَادَةِ إلَى الآيَاتِ، وَالإِضْلالِ إلَى الأَصْنَامِ4، وَكَذَا {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} 5 وَالْفَاعِلُ 6 لِذَلِكَ فِي الْكُلِّ 6 هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
"وَ" يَكُونُ الْمَجَازُ "فِيهِمَا" أَيْ فِي الْمُفْرَدِ وَفِي الإِسْنَادِ "مَعًا" أَيْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: "أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِك" إذْ7 حَقِيقَتُهُ: سَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ، لَكِنْ8 أَطْلَقَ لَفْظَ "الإِحْيَاءِ" عَلَى "السُّرُورِ" "مَجَازًا إفْرَادِيًّا"9. لأَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطُ صِحَّةِ السُّرُورِ وَهُوَ مِنْ آثَارِهَا.
وَكَذَا لَفْظُ "الاكْتِحَالِ" 10 عَلَى الرُّؤْيَةِ مَجَازٌ إفْرَادِيٌّ؛ لأَنَّ الاكْتِحَالَ 10: جَعْلُ الْعَيْنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْكُحْلِ، كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ: جَعْلُ الْعَيْنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى صُورَةِ الْمَرْئِيِّ.
ـــــــ
1 في ش: المسبب.
2 الأية 2 من الأنفال.
3 الآية 36 من إبراهيم.
4 فقد أسْنِدَتْ الزيادة، وهي فعل الله تعالى إلى الآيات المتلوة لكونها سبباً لها عادةً، كما أسْنِدَ الإضلال، وهو فعله سبحانه إلى الأصنام باعتبارها سبباً للأظلال كذلك. "انظر المحلي على جمع الجوامع 1/ 320".
5 الآية 27 من الأعراف.
6 في ش: كذلك.
7 في ش: أن.
8 ساقطة من ش.
9 في ش: مجاز إفرادي.
10 ساقطة من ز.(1/185)
فَلَفْظُ "الإِحْيَاءِ وَالاكْتِحَالِ" حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِمَا، وَهُوَ سُلُوكُ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ، وَوَضْعُ الْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ "الإِحْيَاءِ وَالاكْتِحَالِ" فِي السُّرُورِ وَالرُّؤْيَةِ مَجَازٌ إفْرَادِيٌّ1، وَإِسْنَادُ الإِحْيَاءِ إلَى الاكْتِحَالِ مَجَازٌ تَرْكِيبِيٌّ. لأَنَّ لَفْظَ "الإِحْيَاءِ" لَمْ يُوضَعْ لِيُسْنَدَ إلَى الاكْتِحَالِ، بَلْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَنَّ الإِحْيَاءَ وَالإِمَاتَةَ الْحَقِيقِيَّتَيْنِ2 مِنْ خَوَاصِّ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
"وَ" يَكُونُ الْمَجَازُ فِي "فِعْلٍ" تَارَةً بِالتَّبَعِيَّةِ. كَصَلَّى بِمَعْنَى دَعَا، تَبَعًا لإِطْلاقِ الصَّلاةِ مَجَازًا عَلَى الدُّعَاءِ، وَتَارَةً بِدُونِ التَّبَعِيَّةِ، كَإِطْلاقِ الْفِعْلِ الْمَاضِي بِمَعْنَى الاسْتِقْبَالِ3 نَحْوِ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} 4 وَ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} 5 وَ {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} 6 أَيْ: وَيُنْفَخُ، وَيَأْتِي، وَيُنَادِي.
وَإِطْلاقُ الْمُضَارِعِ7 بِمَعْنَى الْمَاضِي8، نَحْوُ {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} 9، وَ {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ؟} 10 أَيْ مَا تَلَتْهُ، وَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ؟
ـــــــ
1 في ش: إفرادي ومجازي.
2 في ض ب: الحقيقتين.
3 انظر الإشارة إلى الإيجاز ص37 وما بعدها، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص32، معترك الأقران 1/ 258، المحلي على جمع الجوامع 1/ 321.
4 الآية 68 من الزمر.
5 الآية الأولى من النحل.
6 الآية 44 من الأعراف.
7 في ع: الفعل المضارع.
8 انظر معترك الأقران 1/ 258، المحلي على جمع الجوامع 1/321، الإشارة إلى الإيجاز ص38، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص33.
9 الآية 102 من البقرة.
10 الآية 91 من البقرة.(1/186)
وَالتَّعْبِيرُ بِالْخَبَرِ عَنْ الأَمْرِ1 نَحْوُ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} 2، وَعَكْسُهُ [نَحْوُ] {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} 3 [وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]: "فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" 4.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْخَبَرِ عَنْ النَّهْيِ5 نَحْوُ {لا يَمَسُّهُ إلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 6.
قَالَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ: هُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لِشِدَّةِ تَأَكُّدِ طَلَبِهِ نَزَّلَ الْمَطْلُوبَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ لا مَحَالَةَ7.
"وَ" يَكُونُ الْمَجَازُ فِي "مُشْتَقٍّ" كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُشْتَقُّ مِنْ الْمَصْدَرِ، كَإِطْلاقِ "مُصَلٍّ" فِي الشَّرْعِ عَلَى الدَّاعِي8.
ـــــــ
1 انظر البرهان 2/ 289، معترك الأقران 1/ 259، الإشارة إلى الإيجاز ص39، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص34.
2 الآية 233 من البقرة.
3 الآية 75 من مريم.
4 هذا الوعيد ورد في آحاديث كثيرة مختلفة الموضوعات، ولعل أصحها وأشهرها قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترميذي والنسائي وابن ماجة وأحمد في مسنده وغيرهم، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جمع كبير من الصحابة منهم أنس وأبو هريرة وعلي وجابر وابن مسعود والزبير ومعاوية. "انظر فيض القدير 6/ 214 وما بعدها، صحيح البخاري 1/ 3، صحيح مسلم 1/ 10، سنن أبي داود 2/ 287، تحفة الأحوذي 7/ 419، سنن ابن ماجة 1/ 13".
5 انظر معترك الأقران 1/ 259، البرهان 2/ 291، الإشارة إلى الإيجاز ص40، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص34.
6 الآية 79 من الواقعة.
7 انظر الإشارة إلى الإيجاز ص40، البرهان 2/ 290، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص32 وما بعدها، معترك الأقران 1/ 260.
8 انظر المحلي على جمع الجوامع 1/ 321 وما بعدها.(1/187)
"وَ" يَكُونُ الْمَجَازُ أَيْضًا فِي "حَرْفٍ" فَإِنَّهُ قَدْ تَجُوزُ بِـ "هَلْ" عَنْ الأَمْرِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1 {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2 أَيْ فَأَسْلِمُوا وَانْتَهُوا، وَعَنْ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} 3 أَيْ مَا تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ، وَعَنْ التَّقْرِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ} 4.
وَقِيلَ: لا يَجْرِي الْمَجَازُ فِي الْحُرُوفِ إلاَّ بِالتَّبَعِيَّةِ، كَوُقُوعِ الْمَجَازِ فِي مُتَعَلِّقِهِ5.
"وَيُحْتَجُّ بِهِ" أَيْ بِالْمَجَازِ، حَكَاهُ بَعْضُهُمْ إجْمَاعًا6. لأَنَّهُ يُفِيدُ الْمَعْنَى مِنْ طَرِيقِ الْوَضْعِ، كَالْحَقِيقَةِ، أَلا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} 7 فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَجَازًا، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 8 وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُرَادَ: الأَعْيُنُ الَّتِي فِي الْوُجُوهِ وَقَدْ احْتَجَّ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى وُجُوبِ9 النَّظَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ10.
ـــــــ
1 الآية 14 من هود و108 من الأنبياء.
2 الآية 91 من المائدة، وهي ساقطة من ش.
3 الآية 8 من الحاقة.
4 الآية 28 من الروم.
5 انظر تفصيل الكلام على التجوز في الحروف في "الإشارة إلى الإيجاز ص30 وما بعدها، الطراز 1/ 88، التمهيد للأسنوي ص51، الفؤاد المشوق إلى علوم القرآن ص36 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع 1/ 321".
6 المسودة ص173.
7 الآية 6 من المائدة.
8 الآية 22، 23 من القيامة.
9 في ش: وجود.
10 الرد على الجهمية والزنادقة للأمام أحمد ص214، 243، وقد حكاه عنه المجد في المسودة ص170 والبعلي في القواعد والفوائد الأصوليه ص129.(1/188)
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَكُونُ أَسْبَقَ إلَى الْقَلْبِ، كَقَوْلِ الإِنْسَانِ: "لِزَيْدٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ"، فَإِنَّهُ مَجَازٌ وَهُوَ أَسْبَقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ قَوْلِهِ: "يَلْزَمُنِي1 لِزَيْدٍ دِرْهَمٌ"2.
"وَلا يُقَاسَ عَلَيْهِ" أَيْ عَلَى الْمَجَازِ. لأَنَّ عَلاقَتَهُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً3.
"وَيَسْتَلْزِمُ" الْمَجَازُ "الْحَقِيقَةَ" لأَنَّهُ فَرْعٌ وَالْحَقِيقَةُ أَصْلٌ، وَمَتَى وُجِدَ الْفَرْعُ وُجِدَ الأَصْلُ4. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْهَا لَعَرِيَ الْوَضْعُ عَنْ الْفَائِدَةِ5.
"وَلا تَسْتَلْزِمُهُ" أَيْ وَلا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةُ الْمَجَازَ، لأَنَّ اللُّغَةَ طَافِحَةٌ بِحَقَائِقَ لا مَجَازَاتٍ لَهَا6.
"وَلَفْظَاهُمَا"7 أَيْ لَفْظُ حَقِيقَةٍ، وَلَفْظُ مَجَازٍ "حَقِيقَتَانِ عُرْفًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الْعُرْفِ؛ لأَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُمَا فِيمَا اسْتَعْمَلَهُمَا فِيهِ أَهْلُ
ـــــــ
1 في ش: يلزمه.
2 انظر المسودة ص170 وما بعدها، القواعد والفوائد الأصولية للبعلي ص128 وما بعدها.
3 انظر المزهر للسيوطي 1/ 364، المسودة ص173، 174.
4 انظر اختلاف الأصوليين في استلزام المجاز الحقيقة في "فواتح الرحموت 1/ 208، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 305 وما بعدها، الطراز 1/ 99، المعتمد 1/ 35، العضد على ابن الحاجب 1/ 153، الإحكام للآمدي 1/ 34".
5 أي الوضع الأول. وكلام المصنف هذا جوابٌ على استدلال الأصوليين الذاهبين إلى أن المجاز لا يستلزم الحقيقة، بأن اللفظ قبل استعماله فيما وضع له أولاً، لا يوصف بالحقيقة، ولا مانع من أن يتجوز في اللفظ قبل استعماله فيما وضع له أولاً... وقد ردّ الأصوليين المخالفون لما ذهب إليه المصنف على جوابه: بأن الفائدة حاصلةٌ باستعماله فيما وضع له ثانياً، إذ لولا الوضع الأول لما وجد الثاني. "انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 306 وما عبدها، الإحكام للآمدي 1/ 34".
6 ساقطة من ش.
7 في ش: ولفظا.(1/189)
الْعُرْفِ وَ "مَجَازَانِ لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ، لأَنَّهُمَا مَنْقُولانِ1 مِنْهَا2. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ نَقْلِهِمَا3.
"وَهُمَا" أَيْ وَكَوْنُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا "مِنْ عَوَارِضِ الأَلْفَاظِ"4. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَذَا التَّقْسِيمُ حَادِثٌ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ، يَعْنِي تَقْسِيمَ اللَّفْظِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ.
"وَلَيْسَ مِنْهُمَا" أَيْ مِنْ الْحَقِيقَة، وَلا مِنْ الْمَجَازِ "لَفْظٌ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ" لِعَدَمِ رُكْنِ تَعْرِيفِهِمَا5، وَهُوَ الاسْتِعْمَالُ؛ لأَنَّ الاسْتِعْمَالَ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِ كُلٍّ مِنْهُمَا6.
"وَلا" مِنْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ "عَلَمٌ مُتَجَدِّدٌ"7. قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": اخْتَارَهُ الأَكْثَرُ، لأَنَّ الأَعْلامَ وُضِعَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ ذَاتٍ وَذَاتٍ. فَلَوْ تُجُوِّزَ فِيهَا، لَبَطَلَ هَذَا الْغَرَضُ. وَأَيْضًا، فَنَقْلُهَا إلَى مُسَمًّى آخَرَ إنَّمَا هُوَ بِوَضْعٍ مُسْتَقِلٍّ لا لِعَلاقَةٍ.
ـــــــ
1 في ض ب ز ش: منقولتان.
2 في ش: عنها.
3 لم يتقيد الكلام إلا على نقل لفظ مجازك من استعماله في الوضع الأول إلى الثاني وذلك في ص153.
4 أي مما يعرض للفظ بعد استعماله، فإن استعمال فيما وضع له أولاً فهو الحقيقة، وأن استعمل فيما وضع له ثانياً لعلاقة. فهو المجاز.
5 في ش: تصريفهما.
6 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 328، العضد على ابن الحاجب 1/ 153، إرشاد الفحول ص26، فواتح الرحموت 1/ 208، معترك الأقران 1/ 267، المزهر 1/ 367، الطراز 1/ 101.
7 فالأعلام المتجدد بالنسبة إلى مسمياتها لست بحقيقة، لأن مستعملها لم يستعملها فيما وضعت له أولاً، بل إما أنه اخترعها من غير سبق وضع –كما في الأعلام المرتجلة- ولا مجاز في ذلك، أو نقلها عما وضعت له –كما في الأعلام المنقولة- وهي بمجاز، لأنها لم تنقل لعلاقة. "المزهر 1/ 367، وانظر الطراز 1/ 89، 100" وكلمة متجدد وردت في ش: متجرد.(1/190)
فصل في وقوع المجاز وتعارضة مع الحقيقة
...
"فَصْلٌ" "الْمَجَازُ وَاقِعٌ" فِي اللُّغَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَاحْتُجَّ عَلَى ذَلِكَ بِالأَسَدِ لِلشُّجَاعِ، وَالْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ، وَقَامَتْ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَشَابَتْ لَمَّةُ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لا يُحْصَرُ1.
"وَلَيْسَ" الْمَجَازُ "بِأَغْلَبَ"2 مِنْ الْحَقِيقَةِ3، خِلافًا لابْنِ جِنِّي4 وَمَنْ تَبِعَهُ.
"وَهُوَ" أَيْ الْمَجَازُ "فِي الْحَدِيثِ" أَيْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَ" فِي "الْقُرْآنِ" لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 5 وَ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}6 ، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} 7، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 8 {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 9، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 10 وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ11. وَهَذَا الصَّحِيحُ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي 1/ 45، المزهر 1/ 364 وما بعدها، المحلي علىجمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 308، إرشاد الفحول ص22 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 167، فواتح الرحموت 1/ 211، المعتمد 1/ 29، المسودة ص564.
2 في ش: بالقلب.
3 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 310، المزهر 1/ 361.
4 الخصائص 2/ 447.
5 الآية 119 من المائدة.
6 الآية 197 من البقرة.
7 الآية 24 من الإسراء.
8 الآية 4 من مريم.
9 الآية 40 من الشورى.
10 الآية 15 من البقرة.
11 انظر البرهان 2/ 255، الطراز 1/ 83 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 47 وما بعدها، المحلي على جمع الجومع 1/ 308، إرشاد الفحول ص23، العضد على ابن الحاجب 1/ 167 وما بعدها، المعتمد 1/ 30 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 211 وما بعدها، اللمع ص5، وانظر مجاز القرآن لمعمر بن المثنى والإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام والفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البينان لابن القيم الجوزية والمجازات النبوية للشريف الرضي...(1/191)
قَالَ الْقَاضِي: نَصَّ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ. فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} 1 وَ "نَعْلَمُ" وَ "مُنْتَقِمُونَ": هَذَا مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ يَقُولُ الرَّجُلُ: إنَّا سَنُجْرِي عَلَيْكَ2 رِزْقَك3.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ شَيْءٌ. حَكَاهُ الْفَخْرُ إسْمَاعِيلُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ4.
"وَلَيْسَ فِيهِ" أَيْ فِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ "غَيْرُ عَلَمٍ إلاَّ عَرَبِيٌّ" اخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ5، وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَقِيلٍ،
ـــــــ
1 الآية 43 من ق.
2 ساقطة من ش.
3 انظر المسودة ص164.
4 انظر المسودة ص165، وابن حامد: هو الحسن بن حامد بن علي بن مروان، أبو عبد الله البغدادي، إمام الحنابلة في زمانه ومدرسهم ومفتيهم، له مصنفات في العلوم المختلفة، أشهرها "الجامع" في الفقه في نحو أربعمائة مجلد و "شرح الخرقي" و "شرح أصول الدين" و "أصول الفقه" وغيرها، توفي سنة 403هـ. "انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/ 171 وما بعدها، المنهج الأحمد 2/ 82 وما بعدها، المنتظم 7/ 263، شذرات الذهب 3/ 166، المطلع على أبواب المقنع ص432، المدخل إلى مذهب أحمد لبدران ص206".
5 هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد الحنبلي، أبو بكر، المعروف بغلام الخلاّل، الفقيه الأصولي المفسر. قال ابن أبي يعلى: "كان أحد أهل الفهم، موثوقاً به في العلم، متسع الرواية، مشهوراً بالديانية، موصوفاً بالأمانة، مذكوراً بالعبادة". أشهر كتبه "الشافي" و "المقنع" و "التنبيه" و "زاد المسافر" في الفقه و "تفسير القرآن"، توفي سنة 363هـ. "انظر ترجمته في المنهج الأحمد 2/ 56 وما بعدها، طبقات الحنابلة 2/ 119 وما بعدها، المطلع ص437، شذرات الذهب 3/ 45، المدخل إلى مذهب أحمد ص208".(1/192)
وَالْمَجْدُ1، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ2، وَأَبُو عُبَيْدٍة3، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَاقِلاَّنِيّ، وَابْنُ فَارِسٍ4، وَغَيْرُهُمْ، لِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ5.
ـــــــ
1 هو عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن تيمية الحراني الحنبلي، أبو البركات، مجد الدين، الإمام المقرئ المحدث المفسر الفقيه الأصولي النحوي، صاحب "الأحكام الكبرى" و "المحرر" في الفقه و "المنتقي من أحاديث الأحكام" و "المسودة" في أصول الفقه التي زاد فيها ولده عبد الحليم ثم حفيده تقي الدين أحمد، توفي سنة 652هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 297، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 249 وما بعدها، شذرات الذهب 5/ 257، فوات الوفيات 1/ 570، الفتح المبين 2/ 68".
2 الرسالة للشافعي ص40.
3 كذا في الصاحبي ص59 والمعرّب ص4 والبرهان 1/ 287 ومعترك الأقران 1/ 195 والإتقان 2/ 105 والمزهر 1/ 266، وفي الأصول الخطية كلها والمطبوعة: أبو عبيد، وليس بصواب، لأن أبا عبيد لا يذهب إلى المنع، ورأيه المنقول والمشهور عنه غير ذلك، إذ فيه توفيق بين المذهبين وتصويب لكلا القولين، بخلاف أبي عبيدة، فهو الذي نُقل عنه المنع واشتهر.
وأبو عبيدة: هو مُعَمَّر بن المثني التيمي البصري، اللغوي النحوي العلامة، قال الزيدي: "كان من أجمع الناس للعلم، وأعلمهم بأيام العرب وأخبارها, وأكثر الناس رواية" أشهر مصنفاته "مجاز القرآن" و "غريب القرآن" و "غريب الحديث" و "نقائض جرير والفرزدق" توفي سنة 209هـ قيل غير ذلك. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/ 294، إنباه الرواة 3/ 276، وفيات الأعيان 4/ 323، شذرات الذهب 2/ 24، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 260، المزهر 2/ 403، 413، المعارف ص543، طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص175، طبقات المفسرين للداودي 2/ 326، معجم الأدباء 19/ 154".
4 هو أحمد بن فارس بن زكريا، أبو الحسين، الإمام اللغوي المفسر. أشهر مصنفاته "جامع التأويل في تفسير القرآن" و "سيرة النبي صلي عليه وسلم" و "المجل" في اللغة و "مقاييس للغة" و "غريب إعراب القرآن" و "متخير الألفاظ" و "حليلة الفقهاء". توفي سنة 395هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 59، إنباه الرواة 1/ 92، بغية الوعاة 1/ 352، شذرات الذهب 3/ 132، معجم الأدباء 4/ 80، فيات الإعيان 1/ 100، ترتيب المدارك 4/ 610".
5 كقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الآية 2 من يوسف و113 من طه و28 من الزمر و2 من فصلت و7 من الشورى و2 من الزخرف] وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الآية 195 من الشعراء] وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [الآية 44 من فصلت].(1/193)
وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَعِكْرِمَةُ1 وَمُجَاهِد2ٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ3، وَعَطَاءٌ4، وَغَيْرُهُمْ: إلَى أَنَّ فِيهِ أَلْفَاظًا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ5.
وَنُقِلَ6 عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ7 أَنَّهُ قَالَ: الصَّوَابُ عِنْدِي مَذْهَبٌ فِيهِ
ـــــــ
1 هو عكرمة بن عبد الله، مولى ابن عباس، أبو عبد الله، أحد فقهاء مكة من التابعين الأعلام، أصله بربري من أهل المغرب، توفي سنة 104هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 1/340، شذرات الذهب 1/ 130، المعارف ص455، وفيات الإعيان 2/ 427، طبقات المفسرين للداودي 1/ 380، معجم الأدباء 13/ 181".
2 هو مجاهد بن جبر المكي المخزومي مولاهم، أبو الحجاج، الإمام التابعي الشهير، قال النووي: "اتفق العلماء على إمامته وجلالته وتوثيقه، وهو إمام في الفقه والتفسير والحديث، توفي سنة 103هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 2/ 83، شذرات الذهب 1/ 125، المعارف ص444".
3 هو سعيد بن جبير بن هشام الكوفي الأسدي مولاهم، أبو عبد الله، من كبار أئمة التابعين ومتقدميهم في التفسير والحديث والفقه والعبادة والورع، قتله الحجاج ظلماً سنة 95هـ. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 1/ 216، شذرات الذهب 1/ 108، المعارف ص445".
4 هو عطاء بن أبي رباح أسلم بن صفوان المكي، أبو محمد، من أئمة التابعين وأجلة الفقهاء وكبار الزهاد. توفي سنة 115هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في شذرات الذهب 1/ 148، وفيات الأعيان 2/ 422، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 333، المعارف ص444".
5 انظر اختلاف العلماء في اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية في "الإحكام للآمدي 1/ 50 وما بعدها، المسودة ص174، فواتح الرحموت 1/ 212، العضد على ابن الحاجب 1/ 170، إرشاد الفحول ص32، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 326، المزهر 1/ 266 وما بعدها، معترك الأقران 1/ 195 وما بعدها، الإتقان في علوم القرآن 1/ 105 وما بعدها، مقدمة تفسير الطبري 1/ 8 وما بعدها، البرهان 1/ 287 وما بعدها، الصاحبي لابن فارس ص57 وما بعدها، المعرّب للجواليقي ص4 وما بعدها".
6 نقله الزركشي في البرهان 1/ 290، والسيوطي في معترك الأقران 1/ 198 والاتقان 2/ 108 والمزهر 1/ 269، وابن فارس في الصاحبي ص61، والجواليقي في المعرّب ص5.
7 هو القاسم بن سَلّام البغدادي، الإمام البارع في اللغة والنحو والتفسير والقراءات والحديث والفقه، أشهر كتبه "الآموال" و "غريب القرآن" و "غريب الحديث" و "معاني القرآن" و "أدب القاضي" توفي سنة 224هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 2/ 257، بغية الوعاة 2/ 253، طبقات الشافعية للسبكي 2/ 153، المنهج الأحمد 1/ 80، طبقات المفسرين للداودي 2/ 32، معجم الأدباء 16/ 254، طبقات الحنابلة 1/ 259، وفيات الإعيان 3/ 225، إنباه الرواة 3/ 12".(1/194)
تَصْدِيقُ1 الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. وَذَلِكَ: أَنَّ هَذِهِ [الأَحْرُفَ]2 أُصُولُهَا أَعْجَمِيَّةٌ - كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ-، لَكِنَّهَا وَقَعَتْ لِلْعَرَبِ. فَعُرِّبَتْ3 بِأَلْسِنَتِهَا، وَحَوَّلَتْهَا عَنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ إلَى أَلْفَاظِهَا فَصَارَتْ عَرَبِيَّةً، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ - وَقَدْ اخْتَلَطَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ بِكَلامِ الْعَرَبِ- فَمَنْ قَالَ4: إنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَهُوَ صَادِقٌ، [وَمَنْ قَالَ أَعْجَمِيَّةٌ فَصَادِقٌ]5.
"وَمَجَازٌ رَاجِحٌ" أَيْ وَالْعَمَلُ بِمَجَازٍ رَاجِحٍ "أَوْلَى" بِالْحُكْمِ "مِنْ 6 حَقِيقَةٍ مَرْجُوحَةٍ6 " وَقِيلَ: هِيَ مَا لَمْ تُهْجَرْ7. وَتَنْقَسِمُ مَسْأَلَةُ تَعَارُضِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ8:
الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَجَازُ مَرْجُوحًا لا يُفْهَمُ إلاَّ بِقَرِينَةٍ9. - كَالأَسَدِ لِلشُّجَاعِ - فَيُقَدَّمُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْحَقِيقَةُ لِرُجْحَانِهَا.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 زيادة من الإتقان والمزهر ومعترك الأقران والبرهان والصاحبي من كلام أبي عبيد.
3 في الإتقان ومعترك الإقران والبرهان: فَعَرَّبتها، وفي الصاحبي والمزهر: فأعربتها.
4 في ع: قالها.
5 زيادة من الإتقان والمزهر ومعترك الأقران والبرهان والصاحبي م كلام أبي عبيد.
6 في ش: حقيقته بالمرجوحية.
7 انظر القواعد والفوائد الإصولية ص122. فواتح الرحموت 1/ 220 وما بعدها، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/ 77 وما بعدها.
8 انظر تفصيل الكلام على هذا الأقسام الأربعة في "القواعد والفوائد الإصولية ص123 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص119 وما بعدها".
9 في ع: بقرينته.(1/195)
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ اسْتِعْمَالُهُ، حَتَّى يُسَاوِيَ الْحَقِيقَةَ. فَتُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ أَيْضًا 1 عَدَمِ رُجْحَانِ الْمَجَازِ1 .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَجَازُ رَاجِحًا، وَالْحَقِيقَةُ مُمَاتَةً، لا تُرَادُ فِي الْعُرْفِ فَيُقَدَّمُ الْمَجَازُ؛ لأَنَّهُ إمَّا حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالصَّلاةِ، أَوْ عُرْفِيَّةٌ كَالدَّابَّةِ. فَلا خِلافَ فِي تَقْدِيمِهِ2 عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
مِثَالُهُ: لَوْ حَلَفَ لا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ. فَأَكَلَ مِنْ ثَمَرِهَا حَنِثَ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ خَشَبِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ الْخَشَبُ هُوَ الْحَقِيقَةُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَجَازُ رَاجِحًا، وَالْحَقِيقَةُ تَتَعَاهَدُ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ. فَهَذِهِ مَحَلُّ3 الْخِلافِ عِنْدَ الأَكْثَرِ. كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مِنْ هَذَا النَّهْرِ. فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْكَرْعِ مِنْهُ بِفِيهِ، وَلَوْ اغْتَرَفَ بِكُوزٍ وَشَرِبَ فَهُوَ مَجَازٌ ؛ لأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ الْكُوزِ، لا مِنْ النَّهْرِ، لَكِنَّهُ مَجَازٌ رَاجِحٌ يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ. فَيَكُونُ4 أَوْلَى مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تُرَادُ ؛ لأَنَّ كَثِيرًا5 مِنْ الرِّعَاءِ6 وَغَيْرِهِمْ يَكْرَعُ 5 بِفِيهِ.
"وَلَوْ لَمْ يَنْتَظِمْ كَلامٌ" أَيْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ الْكَلامُ "إلاَّ بِارْتِكَابِ مَجَازِ زِيَادَةٍ أَوْ" بِارْتِكَابِ مَجَازِ "نَقْصٍ، فَنَقْصٌ" أَيْ فَارْتِكَابُ مَجَازِ نَقْصٍ "أَوْلَى" لأَنَّ الْحَذْفَ فِي كَلامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ الزِّيَادَةِ. قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ7.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: تقديمها.
3 في ض ب: على.
4 في ض: فهو.
5 في ش: ما يكون الكرع
6 الرغاء: جمع راعي، وهو الذي يرعى الماشية فيحوطها ويحفظها. "لسان العرب 14/ 325" وفي ض ب: الرعاة.
7 انظر التمهيد للأسنوي ص53 والقواعد والفوائد الأصوليه ص124 وما بعدها.(1/196)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ1 مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ. وَهِيَ مَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: "إنْ حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ"، إذْ لا شَكَّ فِي اسْتِحَالَةِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي حَيْضَةٍ، وَتَصْحِيحُ الْكَلامِ هُنَا إمَّا بِدَعْوَى زِيَادَةِ لَفْظِ2 "حَيْضَةٍ" فَكَأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى "إنْ3 حِضْتُمَا"، وَإِمَّا بِدَعْوَى الإِضْمَارِ. وَتَقْدِيرُهُ: "إنْ حَاضَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَيْضَةً".
وَفِي الْمَسْأَلَةِ لأَصْحَابِنَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: سُلُوكُ الزِّيَادَةِ، وَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: "إنْ حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ"، فَإِذَا طَعَنَتَا4 فِي الْحَيْضِ طَلَقَتَا. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: سُلُوكُ النَّقْصِ، - وَهُوَ الإِضْمَارُ-، فَلا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى تَحِيضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ حَيْضَةً، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ: "إنْ حَاضَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ". نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 5 6 أَيْ اجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا7 ثَمَانِينَ جَلْدَةً 6 وَهُوَ قَوْلُ الْمُوَفَّقِ، وَالْمَجْدِ وَالشَّارِحِ وَابْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْقَاعِدَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يُطَلَّقَانِ بِحَيْضَةٍ مِنْ إحْدَاهُمَا، لأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُمَا وَجَبَ إضَافَتُهُ إلَى إحْدَاهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
ـــــــ
1 في ش: هذا.
2 ف ش: لفظة.
3 ساقطة من ش.
4 في ش: أخذتا.
5 الآية 4 من النور.
6 ساقطة من ش.
7 في ز ض: منهم.(1/197)
وَالْمَرْجَانُ} 1 وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: لا يُطَلَّقَانِ بِحَالٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لا يَقَعُ الطَّلاقُ الْمُعَلَّقُ "عَلَى الْمُحَالِ"2.
ـــــــ
1 الآية 22 من الرحمن.
2 في ش: في الحال.(1/198)
"فَصْلٌ": فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ
وَالْبَحْثُ فِيهِمَا مِنْ وَظِيفَةِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، لَكِنْ لَمَّا اُخْتُلِفَ فِي الْكِنَايَةِ، هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟. أَوْ مِنْهَا حَقِيقَةٌ وَمِنْهَا مَجَازٌ: ذُكِرَتْ لِيُعْرَفَ1 ذَلِكَ، وَذُكِرَ مَعَهَا التَّعْرِيضُ اسْتِطْرَادًا.
ثُمَّ "الْكِنَايَةُ حَقِيقَةٌ2 إنْ اُسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي مَعْنَاهُ" الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ لا "وَأُرِيدَ3 لازِمُ الْمَعْنَى" الْمَوْضُوعِ لَهُ، كَقَوْلِهِمْ "كَثِيرُ الرَّمَادِ" يُكَنُّونَ بِهِ عَنْ كَرَمِهِ. فَكَثْرَةُ الرَّمَادِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ لازِمُهُ، - وَهُوَ الْكَرَمُ - ، وَإِنْ كَانَ بِوَاسِطَةِ لازِمٍ آخَرَ، لأَنَّ لازِمَ كَثْرَةِ الرَّمَادِ كَثْرَةُ الطَّبْخِ، وَلازِمَ كَثْرَةِ الطَّبْخِ كَثْرَةُ الضَّيْفَانِ، وَلازِمَ كَثْرَةِ الضَّيْفَانِ الْكَرَمُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَادَةٌ.
فَالدَّلالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الأَصْلِيِّ بِالْوَضْعِ، وَعَلَى اللاَّزِمِ بِانْتِقَالِ4 الذِّهْنِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللاَّزِمِ.
وَمِثْلُهُ5 قَوْلُهُمْ: "طَوِيلُ النِّجَادِ" كِنَايَةً عَنْ طُولِ الْقَامَةِ، لأَنَّ نِجَادَ
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على الكناية ومذاهب العلماء فيها في "معترك الأقران 1/ 266، البرهان 2/ 300 وما بعدها، الطراز 1/ 364-379، الصاحبي ص260 وما بعدها. الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان ص126-132، الإشارة إلى الإيجاز ص85، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 333، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/ 66 وما بعدها، فواح الرحموت 1/ 226 وما بعدها".
2 في ش: حقيقية.
3 في ش: "وأريد" باللفظ.
4 في ش: بالقصد.
5 في ش: ومثل.(1/199)
الطَّوِيلِ يَكُونُ طَوِيلاً بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ حَقِيقَةٌ، لأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اللاَّزِمُ فَلا تَنَافِي بَيْنَهُمَا.
"وَمَجَازٌ" يَعْنِي وَتَكُونُ الْكِنَايَةُ مَجَازًا "إنْ لَمْ يُرِدْ الْمَعْنَى" الْحَقِيقِيَّ وَعَبَّرَ بِالْمَلْزُومِ عَنْ اللاَّزِمِ، بِأَنْ يُطْلِقَ الْمُتَكَلِّمُ كَثْرَةَ الرَّمَادِ عَلَى اللاَّزِمِ، - وَهُوَ الْكَرَمُ -وَطُولَ النِّجَادِ عَلَى اللاَّزِمِ، - وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ-، مِنْ غَيْرِ مُلاحَظَةِ الْحَقِيقَةِ أَصْلاً فَهَذَا يَكُونُ مَجَازًا، لأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ. وَالْعَلاقَةُ فِيهِ: إطْلاقُ الْمَلْزُومِ عَلَى اللاَّزِمِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ: هُوَ أَحَدُ الأَقْوَالِ فِي الْكِنَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ فِي "التَّحْرِيرِ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْكِنَايَةِ حَقِيقَةٌ مُطْلَقًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الأَصَحُّ.
قَالَ الْكُورَانِيُّ1: الْجُمْهُورُ أَنَّهَا مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَتَبِعَهُمْ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ فِي كِتَابِ "الْمَجَازِ"2. فَقَالَ: "وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِنَايَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْمَجَازِ؛ لأَنَّهَا3 وَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ [اللَّفْظُ]4 فِيمَا وُضِعَ لَهُ، لَكِنْ أُرِيدَ بِهِ الدَّلالَةُ عَلَى
ـــــــ
1 هو أحمد بن اسماعيل بن عثمان الكوراني الرومي الحنفي، شهاب الدين، الفقيه الأصولي المفسر المحدث المقرىء. أشهر مصنفاته "غية الأماني في تفسير السبع المثاني" و "الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع" في أصول الفقه و "شرح الكافية" في النحو و "الكوثر الجاري على رياض البخاري" توفي سنة 893هـ. "انظر ترجمته في الشقائق النعمانية ص51، الضوء اللامع 1/ 241، هدية العارفين 1/ 135".
2 الإشارة إلى الإيجاز ص85.
3 في ش: إلا أنها.
4 زيادة من الإشارة إلى الإيجاز.(1/200)
غَيْرِهِ. كَدَلِيلِ1 الْخِطَابِ2 فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 3 وَكَذَا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ4".
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَجَازٌ مُطْلَقًا، نَظَرًا إلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ صَاحِبِ "الْكَشَّافِ" عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 5 حَيْثُ فَسَّرَ الْكِنَايَةَ "بِأَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ"6.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ وَلا مَجَازٍ. وَهُوَ قَوْلُ
ـــــــ
1 في ز: لدليل.
2 كذا في "الإشارة إلى الإيجاز" وفي الأصول الخطيّة كلها، وهو خطأ، وصوابه "كفحوى الخطاب"، لأن دليل الخطاب في اصطلاح سائر الأصوليين هو "قصر حكم المنطوق به على ما تناوله، والحكم للمسكوت عنه بما خالفه" ويسمونه مفهوم المخالفة. وليس هذا مراد ابن عبد السلام في تعبيره، ولو أراده لكان المعنى فاسداً. بل إنه قصد مفهوم الموافقة الذي يعبر عنه الأصوليون بـ "فحوى الخطاب" وهو "إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى" كتحريم الضرب من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} بطريق الأولى. "انظر تحقيق الأوصوليين لموضوع دليل الخاطب وفحوى الخطاب في شرح تنقيح الفصول ص53 وما بعدها, الحدود للباجي ص50 وما بعدها, العضد على ابن الحاجب 2/ 172 وما بعدها, اللمع للشيرازي ص24, فواتح الرحموت 1/ 414, المحلي على جمع الجوامع وحاشياة البناني عليه 1/ 240, 245, كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/ 253".
3 الآية 32 من الإسراء.
4 أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد في مسنده ومالك في المطأ عن البراء بن عازب. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. "انظر سنن أبي داود 3/ 128، تحفة الأحوذي 5/ 81، سنن النسائي 7/ 214، سنن ابن ماجة 2/ 1050، الموطأ 2/ 482، مسند أحمد 4/ 289".
5 الآية 235 من البقرة.
6 الكشاف للزمخشري 1/ 282.(1/201)
السَّكَّاكِيِّ1 وَتَبِعَهُ فِي "التَّخْلِيصِ"2.
"وَالتَّعْرِيضُ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ مَعَ التَّلْوِيحِ بِغَيْرِهِ" أَيْ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْعُرْضِ – بِالضَّمِّ - ، وَهُوَ الْجَانِبُ. فَكَأَنَّ اللَّفْظَ وَاقِعٌ فِي جَانِبٍ3 عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي لَوَّحَ بِهِ4.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} 5 [أَيْ] غَضِبَ أَنْ عُبِدَتْ هَذِهِ الأَصْنَامُ مَعَهُ فَكَسَّرَهَا، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ التَّلْوِيحُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَغْضَبُ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ بِإِلَهٍ مِنْ طَرِيقِ الأَوْلَى.
وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ اللَّفْظَ - وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ فِي الْخَارِجِ - لا يَكُونُ كَذِبًا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى غَيْرِهِ بِكِنَايَةٍ كَمَا سَبَقَ، وَتَعْرِيضٍ
ـــــــ
1 مفتاح العلوم للسكاكي ص195. وفي ع: الكسائي.
والسكّاكي: هو يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي، السكاكي الخوارزمي الحنفي، أبو يعقوب، سراج الدين. قال السيوطي: "كان علاّمة بارعاً في فنون شتى، خصوصاً المعاني والبيان، وله كتاب "مفتاح العلوم" فيه اثنا عشر علماً من علوم العربية". توفي سنة 626هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/ 364، شذرات الذهب 5/ 122".
2 التلخيص للقزويني ص337، 346.
3 في ش: جنب.
4 انظر تفصيل الكلام على التعريض في "الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص133 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 333 وما بعدها، الطراز 1/ 380-399، البرهان 2/ 311 وما بعدها".
5 الآية 63 من الأنبياء.(1/202)
كَمَا هُنَا، وَإِنْ سُمِّيَ كَذِبًا فَمَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ، كَمَا جَاءَ [فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ] "لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلاَّ ثَلاثَ كَذَبَاتٍ"1 . الْمُرَادُ: صُورَةُ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ.
ـــــــ
1 الحديث أخرجه البخاري "فتح الباري 6/ 246" ومسلم "4/ 1840" وأبو داود "2/ 355" والترمذي "تحفة الأحوذي 9/ 6" وأحمد في مسنده "2/ 403" عن أبي هريرة مرفوعاً. وهذه الكذبات الثلاثة جاء ذكرها في سائر رواياته وهي: قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} ولم يكن سقيماً، وقوله للجبار الذي اعترضة وسأله عن سارة: إنها أختي، ويقصد أُخته في الإيمان.
قال ابن عقيل: دلالةُ العقل تصرفُ ظاهرَ إطلاق الكذب على إبراهيم، وذلك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقاً به، ليُعْلَمَ صدقُ ما جاء به عن الله، ولا ثقَةَ مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه!! وإنما أطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع وعلى تقديره. "انظر فتح الباري 6/ 246".(1/203)
فصل في الأشتقاق
...
"فَصْلٌ":الاشْتِقَاقُ: مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَدَقِّهَا وَأَنْفَعِهَا، وَأَكْثَرِهَا رَدًّا إلَى أَبْوَابِهَا، أَلا تَرَى أَنَّ مَدَارَ عِلْمِ التَّصْرِيفِ فِي مَعْرِفَةِ الزَّائِدِ مِنْ الأَصْلِيِّ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ حُذِفَتْ الْمَصَادِرُ، وَارْتَفَعَ الاشْتِقَاقُ مِنْ كُلِّ كَلامٍ: لَمْ تُوجَدْ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ، وَلا فِعْلٌ لِفَاعِلٍ1.
وَجَمِيعُ النُّحَاةِ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا الزَّائِدَ مِنْ الأَصْلِيِّ فِي الْكَلامِ، نَظَرُوا فِي الاشْتِقَاقِ.
وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ قَوْلِك: "اشْتَقَقْت" كَذَا 2 مِنْ كَذَا 2، أَيْ اقْتَطَعْته مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ3:
مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ4
ـــــــ
1 والاشتقاق: هو أخذُ صيغةٍ من أخرى، مع اتفاقهما معنىً ومادةً أصليةً، وهيئةَ تركيبٍ لها. ليُدَلُ بالثانية على معنى الأصل، بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئة، كضارب من ضَرَبَ، وحَذِر من حَذِر –الأولى اسم والثانية فعل-. "المزهر 1/ 346".
2 ساقطة من ش.
3 هو همّام بن غالب بن صعصعة المجاشعي التميمي البصري، أبو فراس. الشاعر المشهور، والتابعي المعروف، توفي سنة 110هـ. "انظر ترجمته في الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 442، تهاذيب الاسماء واللغات 2/ 280، وفيات الأعيان 5/ 135، معجم الأدباء 19/ 297، شدرات الذهب 1/ 140".
4 في ز د ض: بضعته. وما أثبتناه تؤيده رواية الديوان وابن خلكان وابن العماد. والبيت للفرزدق في قصيدة طويلة يمدح بها زين العابدين على بن الحسين رضي الله عنه، ذكرها ابن خلكان في الوفيات وابن العماد في الشذرات ونسباها إليه، وعجز البيت:
.......................
طابَتْ مَغَارِسُهُ والخِيْمُ والشَّيَمُ
ومعنى البيت: إن شجرته من أصل شجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طابت مغارسه، وطابت سجاياه وأخلاقه. "ديوان الفرزدق 2/ 180، وفيات الإعيان 5/ 146، شذرات الذهب 1/ 143".(1/204)
وَحُكِيَ فِي الاشْتِقَاقِ فِي اللُّغَةِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ1.
أَحَدُهَا: - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ اللَّفْظَ يَنْقَسِمُ إلَى مُشْتَقٍّ وَجَامِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ2 وَسِيبَوَيْهِ، وَالأَصْمَعِيِّ3 وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَقُطْرُبٍ4، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الأَلْفَاظَ كُلَّهَا جَامِدَةٌ مَوْضُوعَةٌ، وَبِهِ قَالَ نِفْطَوَيْهِ5 مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ. وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ6.
ـــــــ
1 انظر المزهر 1/ 348.
2 هو الخليل بن أحمد الأزدي الفراهيدي البصري، أبو عبد الرحمن، إمام العربية، ومستنبط علم العروض، صاحب كتاب "العين" و "العروض" و "الشواهد" توفي سنة 170هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 1/ 177، نور القبس ص56، طبقات النحويين واللغويين ص47، إنباه الرواة 1/ 341، شذرات الذهب 1/ 275، معجم الأدباء 11/ 72، وفيات الإعيان 2/ 15، المعارف ص541".
3 هو عبد الملك بن قُرَيب بن عبد الملك بن أصمع البصري، أبو سعيد، إما اللغة والحديث، مُصَنِّفُ "غريب القرآن" و "غريب الحديث" و "الاشتقاق" و "الامثال" وغيرها. توفي سنة 216هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 2/ 273، نور القبس ص125، طبقات المفسرين للداودي 1/ 354، طبقات النحويين واللغويين ص167، بغية الوعاة 2/ 112، إنباه الرواة 2/ 197، وفيات الأعيان 2/ 344، المعارف ص543، شذرات الذهب 2/ 36".
4 هو محمد بن المستنير بن أحمد، أبو علي النحوي اللغوي البصري، تلميذ سيبويه، أشهر كتبه "معان القرآن" و "إعراب القرآن" و "غريب الحديث" و "العلل في النحو". توفي سنة 206هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 2/ 254، معجم الإدباء 19/ 52، وفيات الإعيان 3/ 439، إنباه الرواة 3/ 219، طبقات النحويين واللغويين ص99، نور القبس ص174، بغية الوعاة 1/ 242، شذرات الذهب 2/ 15".
5 هو إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي الواسطي، أبو عبد الله, النحوي الشهير. قال ياقوت: "كان عالماً بالعربية واللغة والحديث، صادقاً فيما يرويه، حافظاً للقرآن، فقيهاًعلى مذهب داود الظاهري، رأساً فيه". أشهر مصنفاته "إعراب القرآن" و "غريب القرآن" و "المقنع في النحو" و "أمثال القرآن" توفي سنة 323هـ. "انظر ترجمته في وفيات الإعيان 1/ 30، نور القبس ص344، طبقات النحويين واللغويين ص154، طبقات المفسرين للداودي 1/ 19، شذرات الذهب 2/ 298، إنباه الرواة 1/ 176، بغية الوعاة 1/ 428، معجم الأدباء 1/ 254، المنتظم 6/ 277".
6 هذا خطأ، وصواب اسمه إبراهيم بن محمد.(1/205)
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الأَلْفَاظَ كُلَّهَا مُشْتَقَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ1، وَابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ2. وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى قَالَ ابْنُ جِنِّي: "الاشْتِقَاقُ يَقَعُ فِي الْحُرُوفِ فَإِنَّ "نَعَمْ" حَرْفُ جَوَابٍ، وَالنِّعَمُ وَالنَّعِيمُ وَالنَّعْمَاءُ وَنَحْوُهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ"3.
وَسَيَأْتِي فِي الْمَتْنِ انْقِسَامُهُ إلَى أَصْغَرَ وَأَكْبَرَ وَأَوْسَطَ.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ: فَحَدُّ الأَصْغَرِ "رَدُّ لَفْظٍ إلَى آخَرَ" فَدَخَلَ الاسْمُ وَالْفِعْلُ "لِمُوَافَقَتِهِ" أَيْ الْمَرْدُودِ "لَهُ" أَيْ لِلْمَرْدُودِ إلَيْهِ "فِي الْحُرُوفِ الأَصْلِيَّةِ" سَوَاءٌ كَانَتْ مَوْجُودَةً أَوْ مُقَدَّرَةً، لِيَدْخُلَ الأَمْرُ مِنْ نَحْوِ: الأَكْلِ وَالْخَوْفِ وَالْوِقَايَةِ "وَ" لِوُجُودِ4 "مُنَاسَبَتِهِ" أَيْ مُنَاسَبَةِ الْمُشْتَقِّ لِلْمُشْتَقِّ مِنْهُ "فِي الْمَعْنَى" احْتِرَازًا مِنْ مِثْلِ اللَّحْمِ وَالْمِلْحِ وَالْحِلْمِ، فَإِنَّ كُلاًّ مِنْهَا5 يُوَافِقُ الآخَرَيْنِ6 فِي حُرُوفِهِ الأَصْلِيَّةِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلا اشْتِقَاقَ بَيْنهَا، لانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعْنَى
ـــــــ
1 هو إبراهيم بن السّريّ بن سهل الزجاج، أبو إسحاق، النحوي اللغوي. قال الخطيب: "كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، له مصنفات حسان في الأدب". أشهر كتبه "معاني القرآن" و "الاشتقاق" و "شرح أبيات سيبويه" توفي سنة 311هـ. "انظر ترجمته في طبقات النحويين واللغويين ص111، طبقات المفسرين للداودي 1/ 7، تهذيب الإسماء واللغات 2/ 170، إنباه الرواة 1/ 159، بغية الوعاة 1/ 411، شذرات الذهب 2/ 259، المنتظم 6/ 176، معجم الأدباء 1/ 130، وفيات الأعيان 1/ 31" وفي ض: الزجاجي.
2 هو عبد الله بن جعفر بن دُرُسْتُويه الفارسي الفسوي النحوي، أبو محمد. قال الفقطي: "هو نحوي جليل القدر، مشهور الذكر، جيد التصانيف". أشهر كتبه "الإرشاد" في النحو و "غريب الحديث" و "شرح الفصيح" و "معاني الشعر". توفي سنة 347هـ. "انظر ترجمته في طبقات النحويين واللغويين ص116، وفيات الإعيان 2/ 247، بغية الوعاة 2/ 36، إنباه الوراة 2/ 113، شذرات الذهب 2/ 375، طبقات المفسرين للداودي 1/ 223".
3 الخصائص 2/ 34، 35، 37.
4 في ع: الوجود.
5 في ض ع: منهما.
6 في ش: الآخر.(1/206)
لاخْتِلافِ مَدْلُولاتِهَا1.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِلاشْتِقَاقِ أَرْبَعَةَ أَرْكَانٍ2. الأَوَّلُ : الْمُشْتَقُّ. وَالثَّانِي : الْمُشْتَقُّ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ : الْمُوَافَقَةُ فِي الْحُرُوفِ الأَصْلِيَّةِ. وَالرَّابِعُ: الْمُنَاسَبَةُ فِي الْمَعْنَى مَعَ التَّغْيِيرِ، لأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ تَغْيِيرٌ لَمْ يَصْدُقْ3 كَوْنُ الْمُشْتَقِّ غَيْرَ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ4 بِقَوْلِهِ "وَلا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرٍ".
وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ نَوْعًا5؛ لأَنَّهُ إمَّا بِزِيَادَةِ حَرْفٍ، أَوْ حَرَكَةٍ. أَوْ هُمَا مَعًا، أَوْ نُقْصَانِ حَرْفٍ، أَوْ حَرَكَةٍ، أَوْ هُمَا مَعًا، أَوْ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَنُقْصَانِهِ، أَوْ زِيَادَةِ حَرَكَةٍ وَنُقْصَانِهَا، أَوْ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَنُقْصَانِ حَرَكَةٍ. أَوْ زِيَادَةِ حَرَكَةٍ وَنُقْصَانِ حَرْفٍ، - عَكْسُ الَّذِي قَبْلَهُ -، أَوْ زِيَادَةِ حَرْفٍ مَعَ زِيَادَةِ حَرَكَةٍ وَنُقْصَانِهَا، أَوْ زِيَادَةِ حَرَكَةٍ مَعَ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَنُقْصَانِهِ، - عَكْسُ الَّذِي قَبْلَهُ -، أَوْ نُقْصَانِ حَرْفٍ مَعَ زِيَادَةِ حَرَكَةٍ وَنُقْصَانِهَا، أَوْ نُقْصَانِ6 حَرَكَةٍ مَعَ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَنُقْصَانِهِ. [أَوْ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَحَرَكَةٍ مَعًا مَعَ نُقْصَانِ حَرْفٍ وَحَرَكَةٍ مَعًا]7، وَذَلِكَ: لأَنَّ التَّغْيِيرَ: إمَّا تَغْيِيرٌ وَاحِدٌ، أَوْ تَغْيِيرَانِ8، أَوْ ثَلاثَةٌ، أَوْ أَرْبَعَةٌ.
ـــــــ
1 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 280 وما بعدها.
2 انظر العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 171 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع 1/ 280 وما بعدها.
3 في ش: يصلح.
4 في ش: المراد منه.
5 انظر حاشية البناني 1/283، حاشية الهروي على العضد 1/ 173، المزهر 1/ 348.
6 في ش: زيادة.
7 كذا في حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1/ 283 وحاشية الهروي على العضد 1/ 173 والمزهر 1/ 349، وفي ش: "أو زيادة حرف ونقصانه أو زيادة حركة ونقصانها" وفي ز: "فقط أو زيادة حركة ونقصانها فقط" وفي د ع ب ض: "أو زيادة حرف ونقصانه فقط أو زيادة حركة ونقصانها فقط". وكلّه تصحيف. انظر التغيرات الأربعة ص209.
8 في ش: تغيران.(1/207)
فَالتَّغْيِيرُ الْوَاحِدُ: فِي أَرْبَعَةِ أَمَاكِنَ:
الأَوَّلُ: زِيَادَةُ حَرْفٍ. نَحْوُ: كَاذِبٍ1 - مِنْ الْكَذِبِ - زِيدَتْ الأَلِفُ بَعْدَ الْكَافِ.
وَالثَّانِي: زِيَادَةُ حَرَكَةٍ. نَحْوُ: نَصَرَ – مَاضٍ -. مَأْخَذُهُ2 مِنْ النَّصْرِ.
وَالثَّالِثُ: نُقْصَانُ حَرْفٍ. كَصَهَلَ - مِنْ الصَّهِيلِ - نَقَصَتْ الْيَاءُ.
وَالرَّابِعُ: نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ، كَسَفْرٍ - بِسُكُونِ الْفَاءِ - جَمْعُ مُسَافِرٍ، مِنْ سَفَرَ.
وَأَمَّا التَّغْيِيرَانِ: فَسِتَّةُ أَنْوَاعٍ:
الأَوَّلُ: زِيَادَةُ حَرْفٍ وَنُقْصَانُهُ. كَصَاهِلٍ - مِنْ الصَّهِيلِ - ، زِيدَتْ الأَلِفُ وَنَقَصَ الْيَاءُ.
الثَّانِي : زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ وَالْحَرْفِ، كَضَارِبٍ - مِنْ الضَّرْبِ - . زِيدَتْ الأَلِفُ وَحُرِّكَتْ الرَّاءُ.
الثَّالِثُ: نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ وَالْحَرْفِ، كَغَلْيٍ3 - مِنْ الْغَلَيَانِ - . نَقْصُ الأَلِفِ وَالنُّونِ وَنَقَصَتْ فَتْحَةُ الْيَاءِ.
الرَّابِعُ: زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ وَنُقْصَانُهَا، نَحْوُ: حَذِرٍ4، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ الْحَذَرِ - بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - حُذِفَتْ فَتْحَةُ الذَّالِ وَزِيدَتْ كَسْرَتُهَا.
ـــــــ
1 في ش: كاذباً.
2 ساقطة من ز.
3 في ش: كمغلى.
4 في ع: حذار.(1/208)
الْخَامِسُ: زِيَادَةُ الْحَرْفِ وَنُقْصَانُ الْحَرَكَةِ، كَعَادٍّ - بِتَشْدِيدِ الدَّالِ - اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ الْعَدَدِ1، زِيدَتْ الأَلِفُ وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الدَّالِ.
السَّادِسُ: زِيَادَةُ حَرَكَةٍ وَنُقْصَانُ حَرْفٍ، كَرَجْعٍ مِنْ الرُّجْعَى.
وَأَمَّا التَّغْيِيرَاتُ الثَّلاثَةُ: فَفِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ2:
الأَوَّلُ: زِيَادَةُ الْحَرْفِ مَعَ زِيَادَةِ الْحَرَكَةِ وَنُقْصَانِهَا. كَمَوْعِدٍ - مِنْ الْوَعْدِ - . زِيدَتْ الْمِيمُ وَكُسِرَتْ الْعَيْنُ، وَنَقَصَ مِنْهُ فَتحة3 الْوَاوِ.
الثَّانِي: زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْحَرْفِ وَنُقْصَانِهِ، كَمُكْمِلٍ4 - اسْمُ فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ - مِنْ الْكَمَالِ، زِيدَتْ فِيهِ الْمِيمُ وَضَمَّتُهَا5، وَنَقَصَتْ الأَلِفُ.
الثَّالِثُ: نُقْصَانُ حَرْفٍ مَعَ زِيَادَةِ حَرَكَةٍ وَنُقْصَانِهَا. كَقَنِطٍ - اسْمُ فَاعِلٍ - مِنْ الْقُنُوطِ.
الرَّابِعُ: نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْحَرْفِ وَنُقْصَانِه. كَكَالٍّ - بِتَشْدِيدِ اللاَّمِ - اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ الْكَلالِ، نَقَصَتْ حَرَكَةُ اللاَّمِ الأُولَى لِلإِدْغَامِ. وَنَقَصَتْ الأَلِفُ الَّتِي بَيْنَ اللاَّمَيْنِ وَزِيدَتْ الأَلِفُ قَبْلَ اللاَّمَيْنِ.
وَأَمَّا التَّغْيِيرَاتُ الأَرْبَعَةُ فَفِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: زِيَادَةُ الْحَرْفِ وَالْحَرَكَةِ مَعًا، وَنُقْصَانُهُمَا مَعًا، كَكَامِلٍ6، مِنْ الْكَمَالِ، وَمَثَّلُوهُ أَيْضًا بِـ "ارْمِ" - "أَمْرٌ - مِنْ الرَّمْيِ"7. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في ش: العد.
2 في ش: مواضع.
3 في ش: فتح.
4 في د ض: ككمل.
5 في ش ز: وضمها.
6 ساقطة من ض.
7 في ش: من الأرمى، ثم نصب.(1/209)
ثُمَّ التَّغْيِيرُ تَارَةً 1 يَكُونُ ظَاهِرًا - كَمَا تَقَدَّمَ – وَتَارَةً 1 يَكُونُ مُقَدَّرًا، وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ "وَلَوْ" "أَيْ وَلَوْ"2 كَانَ التَّغْيِيرُ "تَقْدِيرًا" وَذَلِكَ: كَفُلْكٍ وَجُنُبٍ، - مُفْرَدًا وَجَمْعًا - ، فَإِذَا أُرِيدَ الْجَمْعُ فِي الْفُلْكِ يُؤَنَّثُ، وَإِذَا أُرِيدَ الْوَاحِدُ3 يُذَكَّرُ.
فَالْوَاحِدُ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ4 تَعَالَى: {إذْ أَبَقَ إلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} 5، وَالْجَمْعُ كَقَوْلِهِ6 تَعَالَى: {حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} 7.
وَطَلَبَ طَلَبًا، وَهَرَبَ هَرَبًا وَجَلَبَ جَلْبًا وَنَحْوِهَا. فَالتَّغْيِيرُ حَاصِلٌ، وَلَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ قَدَّرَ زَوَالَ النُّونِ الَّتِي فِي "جُنُبٍ" حَالَ إطْلاقِهِ عَلَى الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِكَ: "رَجُلٌ جُنُبٌ"، وَقَدَّرَ الإِتْيَانَ بِغَيْرِهَا حَالَ إطْلاقِهِ عَلَى الْجَمْعِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 8، وَأَنَّ ضَمَّةَ النُّونِ فِي الْمُفْرَدِ غَيْرُ ضَمَّةِ النُّونِ الَّتِي فِي الْجَمْعِ تَقْدِيرًا.
"وَ" اللَّفْظُ "الْمُشْتَقُّ فَرْعٌ وَافَقَ أَصْلاً" وَالأَصْلُ هُنَا "هُوَ اللَّفْظُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ الْفَرْعُ"، وَكَانَتْ الْمُوَافَقَةُ "بِحُرُوفِهِ الأُصُولِ وَمَعْنَاهُ".
فَقَوْلُنَا "بِحُرُوفِهِ الأُصُولِ" لِتَخْرُجَ الْكَلِمَاتُ9 الَّتِي تُوَافِقُ أَصْلاً بِمَعْنَاهُ، دُونَ حُرُوفِهِ كَالْحَبْسِ وَالْمَنْعِ. وَقَوْلُنَا "وَمَعْنَاهُ" لِيُحْتَرَزَ بِهِ عَنْ مِثْلِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: الواحدة منه.
4 في ض ب ع ز: قوله.
5 الآية 140 من الصافات.
6 في ش ض ع ب: قوله.
7 الآية 22 من يونس.
8 الآية 6 من المائدة.
9 في ش: المكملات.(1/210)
الذَّهَبِ، فَإِنَّهُ يُوَافِقُ أَصْلاً. - وَهُوَ الذَّهَابُ - فِي حُرُوفِهِ الأُصُولِ، وَلَكِنْ غَيْرُ مُوَافِقٍ لَهُ1 فِي مَعْنَاهُ.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ: "فَفِي" الاشْتِقَاقِ "الأَصْغَرِ، وَهُوَ الْمَحْدُودُ" يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ "يَتَّفِقَانِ فِي الْحُرُوفِ2 وَالتَّرْتِيبِ، كَنَصَرَ مِنْ النَّصْرِ" وَهَذَا3 الَّذِي يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إطْلاقُ الاشْتِقَاقِ، مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ.
"وَ" يُشْتَرَطُ "فِي" الاشْتِقَاقِ "الأَوْسَطِ" كَوْنُ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ يَتَّفِقَانِ "فِي الْحُرُوفِ" دُونَ التَّرْتِيبِ، كَجَبَذَ مِنْ الْجَذْبِ، فَإِنَّ الْبَاءَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الذَّالِ فِي جَبَذَ، مُؤَخَّرَةٌ عَنْ الذَّالِ فِي الْجَذْبِ.
"وَ" يَكْفِي "فِي" الاشْتِقَاقِ "الأَكْبَرِ" أَنْ يَتَّفِقَ الْمُشْتَقُّ وَالْمُشْتَقُّ مِنْهُ "فِي مَخْرَجِ حُرُوفِ4 الْحَلْقِ أَوْ الشَّفَةِ، كَنَعَقَ وَثَلَمَ مِنْ النَّهِيقِ وَالثَّلْبِ".
فَصُورَةُ اتِّفَاقِهِمَا فِي مَخْرَجِ5 حُرُوفِ الْحَلْقِ. "نَعَقَ مِنْ النَّهِيقِ". فَإِنَّ الْهَاءَ وَالْعَيْنَ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ، وَصُورَةُ اتِّفَاقِهِمَا فِي مَخْرَجِ "حُرُوفِ الشَّفَةِ"6 "ثَلَمَ مِنْ الثَّلْبِ"، فَإِنَّ الْمِيمَ وَالْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الشَّفَةِ7.
وَالأَكْثَرُ لَمْ يُثْبِتُوا الاشْتِقَاقَ الأَكْبَرَ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ8: "وَلَمْ يَقُلْ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: الحروف والتركيب.
3 في ش: وهو.
4 في ش: حرف.
5 في ش: المخرج.
6 ساقطة من ش.
7 انظر في أنواع الاشتقاق الثلاثة "العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 174، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 282، المزهر 1/ 346 وما بعدها، الخصائص 2/ 132 وما بعدها".
8 هو محمد بن يوسف بن علي بن حيّان الأندلسي، أثير الدين، أبو عبد الله. إمام النحو والتفسير والحديث، أشهر مصنفاته "البحر المحيط" في الفسير و "النهر المادّ من البحر" و "إتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب" و "شرح التسهيل" و "الارتشاف" و "التذكرة" في اللغة. توفي سنة 745هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 9/ 279، بغية الوعاة 1/ 280، شذرات الذهب 6/ 145، درّة الحجال 2/ 122، البدر الطالع 2/ 288، الدرر الكامنة 5/ 70، طبقات المفسرين للداودي 2/ 286، فوات الوفيات 2/ 555".(1/211)
بِهِ1 مِنْ النُّحَاةِ إلاَّ أَبُو الْفَتْحِ2". وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ غَيْرُ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ لِعَدَمِ اطِّرَادِهِ.
"وَيَطَّرِدُ" الاشْتِقَاقُ فِيمَا هُوَ "كَاسْمِ الْفَاعِلِ" كَضَارِبٍ "وَنَحْوِهِ" كَاسْمِ 3 الْمَفْعُولِ كَمَضْرُوبٍ 3. وَالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، كَالْحَسَنِ الْوَجْهِ، وَأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ: كَأَكْبَرَ، وَاسْمِ الْمَكَانِ: كَمَلْعَبٍ4، وَاسْمِ الزَّمَانِ: كَالْمَوْسِمِ، وَاسْمِ الآلَةِ: كَالْمِيزَانِ.
"وَقَدْ يَخْتَصُّ" فَلا يَطَّرِدُ "كَالْقَارُورَةِ" فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالزُّجَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَأْخُوذَةً5 مِنْ الْقَرِّ فِي الشَّيْءِ، وَلَمْ يُطْرِدُوا ذَلِكَ إلَى كُلِّ6 مَا يُقَرُّ فِيهِ الشَّيْءُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ خَزَفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَالدَّبَرَانِ - مَنْزِلَةٌ لِلْقَمَرِ - ، وَإِنْ 7 كَانَ مِنْ الدَّبُورِ 7، فَلا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِالدَّبُورِ، بَلْ يَخْتَصُّ بِمَجْمُوعِ خَمْسَةِ كَوَاكِبَ مِنْ الثَّوْرِ، وَهُوَ الْمَنْزِلُ الرَّابِعُ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ الْمُعَاقِبِ8 لِلثُّرَيَّا.
ـــــــ
1 في ز: به أحد.
2 هو عثمان بن جنَي الموصلي النحوي المتوفي سنة 392هـ. "انظر الخصائص 2/ 133 وما بعدها، المزهر 1/ 347".
3 في ش: مضروب كمفعول. وفي ض ب ز: مفعول كمضروب.
4 في ش: كمكعب.
5 ساقطة من ش.
6 ساقطة من ض.
7 في ش: كانت منزلة للديور.
8 في ز: المعاتب وفي ش: المقابل.(1/212)
وَكَذَلِكَ الْعَيُّوقُ1 وَالسَّمَّاكُ2. قَالَهُ الْعَضُدُ3.
وَكَأَنَّ عَدَمُ الاطِّرَادِ، لِكَوْنِ التَّسْمِيَةِ لا لِهَذَا الْمَعْنَى فَقَطْ، بَلْ لِمُصَاحَبَتِهِ4 لَهُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْعَيْنِ5 لِوُجُودِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ فِيهِ، - وَهُوَ الاطِّرَادِيُّ - ، أَوْ لِوُجُودِهِ فِيهِ. وَهُوَ مَا لا يَطَّرِدُ6.
"وَإِطْلاقُهُ" أَيْ: إطْلاقُ الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ عَلَى شَيْءٍ "قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ" أَيْ قَبْلَ قِيَامِ الْوَصْفِ "الْمُشْتَقِّ مِنْهَا" بِذَلِكَ الشَّيْءِ "مَجَازٌ" وَحُكِيَ إجْمَاعًا "إنْ أُرِيدَ الْفِعْلُ"7 كَقَوْلِنَا مَثَلاً: "زَيْدٌ بَائِعٌ"، قَبْلَ وُجُودِ الْبَيْعِ مِنْهُ.
وَهُوَ "حَقِيقَةٌ إنْ أُرِيدَتْ8 الصِّفَةُ" الْمُشَبَّهَةُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ "كَسَيْفٍ قَطُوعٍ
ـــــــ
1 قال الجوهري: "العَيُّوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن، يتلو الثريا، لا يتقدمه". "الصحاح 4/ 1534".
2 قال الجوهري: "السِمَاك هو من منازل القمر". "الصحاح 4/ 1592".
3 شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 175. "وانظر فواتح الرحموت 1/ 191، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 283".
4 في ع ض: لمصاحبة. وفي ز: بمصاحبته.
5 في د ع ض: المعنى.
6 هذه الفقرة في تعليل الاطُّراد وعدمه في الاشتقاق غير واضحة. وقد أوضحها البناني بقوله: "المشتق إن اعتبر في مسماه معنى المشتق منه على أن يكون داخلاً فيه، بحيث يكون المشتق اسماً لذات مبهمة انتسب إليها ذلك المعنى، فهو مطّرد لغة، كضارب ومضروب، وإن اعتبر فيه ذلك، لا على أنه داخل فيه، بل على أنه مصحح للتسمية، مرجع لتعيين الاسم من بين الأسماء بحيث يكون ذلك الاسم اسماً لذات مخصوصة يوجد فيها ذلك المعنى، فهو مختص لا يطّرد في غيرها مما وجد في ذلك المعنى، كالقارورة لا تطلق على غير الزجاجة المخصوصة مما هو مقرّ للمائع، وكالدَبَرَان لا يطلق على شيء مما فيه دبور غير الكواكب الخمس التي في الثور، وهي منزلة من منازل القمر". "حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1/ 183".
7 أي الفعل الذي يتحقق وجوده في المستقبل. "انظر المسودة ص570".
8 في ز: أريد.(1/213)
وَنَحْوِهِ1"، كَخُبْزٍ مُشْبِعٍ، وَخَمْرٍ مُسْكِرٍ وَمَاءٍ مُرْوٍ2.
"فَأَمَّا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدِيمَةٌ وَحَقِيقَةٌ" عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ. وَأَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ3.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَرٍ4 فِي "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ": "اخْتَلَفُوا هَلْ صِفَةُ الْفِعْلِ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، - مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ-: هِيَ قَدِيمَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ، - مِنْهُمْ ابْنُ كُلاَّبٍ وَالأَشْعَرِيُّ-: هِيَ حَادِثَةٌ، لِئَلاَّ [يَلْزَمَ أَنْ]5 يَكُونَ الْمَخْلُوقُ قَدِيمًا.
وَأَجَابَ الأَوَّلُونَ6: بِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الأَزَلِ صِفَةُ الْخَلْقِ، وَلا مَخْلُوقَ. فَأَجَابَ الأَشْعَرِيُّ: بِأَنَّهُ لا يَكُونُ خَلْقٌ وَلا مَخْلُوقٌ، كَمَا لا يَكُونُ ضَارِبٌ وَلا مَضْرُوبٌ. فَأَلْزَمُوهُ بِحُدُوثِ صِفَاتِهِ، فَيَلْزَمُ حُلُولُ الْحَوَادِثِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. فَأَجَابَ: بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لا تُحْدِثُ فِي الذَّاتِ شَيْئًا جَدِيدًا.
فَتُعُقِّبَ7 بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لا يُسَمَّى فِي الأَزَلِ خَالِقًا وَلا رَازِقًا. وَكَلامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِيمٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ.
ـــــــ
1 في ش: ونحوها.
2 انظر المسودة ص570، القواعد الأصولية ص127.
3 حكاه الشيخ تقي الدين بن تيمية في المسودة ص570 والبعلي في القواعد والفوائد الأصولية ص127.
4 هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني الشافعي، شهاب الدين، الحافظ الكبير، الإمام بمعرفة الحديث وعلله ورجاله، صاحب المصنفات القيّمة، أشهر كتبه "فتح الباري شرح البخاري" و "تهذيب التهذيب" و "لسان الميزان" و "الإصابة في تمييز الصحابة" و "الدرر الكامنة" و "التلخيص الحبير". توفي سنة 852هـ. "انظر ترجمته في البدر الطالع 1/ 87، شذرات الذهب 7/ 270، درّة الحجال 1/ 64".
5 زيادة من فتح الباري.
6 في ع ض ز: الأول.
7 في فتح الباري: فتعقبوه.(1/214)
فَانْفَصَلَ بَعْضُ الأَشْعَرِيَّةِ بِأَنَّ إطْلاقَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ عَدَمَهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ. وَلَمْ يَرْتَضِهِ بَعْضُهُمْ، بَلْ قَالَ - وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ-: إنَّ الأَسَامِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الأَعْلامِ، وَالْعَلَمُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلا مَجَازٍ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ: فَلَفْظُ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ صَادِقٌ عَلَيْهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْبَحْثُ إنَّمَا هُوَ فِيهَا، لا فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
فَأَلْزَمُوهُ1: بِتَجْوِيزِ إطْلاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْفِعْلُ فَأَجَابَ: بِأَنَّ الإِطْلاقَ هُنَا شَرْعِيٌّ لا لُغَوِيٌّ"2. انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ.
وَقَالَ: "تَصَرُّفُ الْبُخَارِيِّ3 فِي هَذَا الْمَوْضِعِ4 يَقْتَضِي 5 مُوَافَقَةَ الْقَوْلِ 5 الأَوَّلِ. وَالصَّائِرُ إلَيْهِ يَسْلَمُ6 مِنْ الْوُقُوعِ فِي مَسْأَلَةِ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا"7.
ـــــــ
1 في ش: قالوا معه.
2 فتح الباري 13/ 341.
3 هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري، أبو عبد الله، الإمام الحافظ الشهير، صاحب "الجامع الصحيح" و "التاريخ" و "خلق أفعال العباد" و "الضعفاء" و "الأدب المفرد" وغيرها من المصنفات النافعة. توفي سنة 256هـ. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 1/ 67 وما بعدها، النهج الأحمد 1/ 133 وما بعدها، طبقات المفسرين للداودي 2/ 100 وما بعدها، طبقات الحنابلة 1/ 271 وما بعدها، وفيات الإعيان 3/ 329 وما بعدها، طبقات الشافعية للسبكي 2/ 212 وما بعدها، شذرات الذهب 2/ 134 وما بعدها".
4 وذلك بإيراده باباً بعنوان "باب ماجاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق"، ثم قوله: "وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفته وفعله وأمره، وهو الخالق المكوّن غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول ومخلوق ومكوّن" اهـ كلام البخاري "انظر صحيح البخاري من شرحه فتح الباري 13/ 340".
5 في ش: موافقته للقول.
6 في ش: لا يسلم.
7 فتح الباري 13/ 341.(1/215)
وَنَفَتْ1 الْمُعْتَزِلَةُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ وَقَالُوا: إمَّا أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً. فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً فَيَلْزَمُ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ. وَهُوَ كُفْرٌ2.
"وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّا لا نُسَلِّمُ تَغَايُرَ الذَّاتِ مَعَ الصِّفَاتِ، وَلا الصِّفَاتِ بَعْضِهَا مَعَ الْبَعْضِ، لِيَثْبُتَ التَّعَدُّدُ. فَإِنَّ الْغَيْرَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يُمْكِنُ انْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا عَنْ الآخَرِ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ3، أَوْ بِوُجُودٍ4 وَعَدَمٍ، أَوْهَمَا ذَاتَانِ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى 5 وَتَفْسِيرُهُمَا بِالشَّيْئَيْنِ، أَوْ 5 الْمَوْجُودَيْنِ، أَوْ الاثْنَيْنِ فَاسِدٌ، لأَنَّ "الْغَيْرَ" مِنْ الأَسْمَاءِ الإِضَافِيَّةِ، وَلا إشْعَارَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ بِذَلِكَ". قَالَهُ فِي "شَرْحِ الْمَقَاصِدِ"6.
"وَ" اللَّفْظُ "الْمُشْتَقُّ حَالَ وُجُودِ الصِّفَةِ" أَيْ قِيَامِهَا بِالْمَوْصُوفِ. كَقَوْلِنَا لِمَنْ يَضْرِبُ حَالَ وُجُودِ الضَّرْبِ مِنْهُ: ضَارِبٌ "حَقِيقَةً" إجْمَاعًا.
"وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا" أَيْ انْقِضَاءِ وُجُودِ الصِّفَةِ، وَهُوَ الْفَرَاغُ مِنْ الضَّرْبِ "مَجَازٌ" عِنْدَ الْقَاضِي، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ، بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ.
وَعِنْدَ ابْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِ وَحُكِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ7، - وَاخْتَارَهُ أَبُو الطَّيِّبِ8- أَنَّهُ حَقِيقَةٌ عَقِبَ الْفِعْلِ.
ـــــــ
1 في ش: ومنعت.
2 انظر شرح المقاصد 2/ 76.
3 في شرح المقاصد: بزمان.
4 في ش: وجود.
5 في ش: وتفسير أحدهما بالشيئين و.
6 شرح المقاصد 2/ 76.
7 في ش: الحنفيين.
8 هو طاهر بن عبد الله بن طاهر، أبو الطيب الطبري الشافعي، الإمام الجليل، الفقيه الأصولي القاضي. قال ابن السبكي: "شرح المزني وصنف في الخلاف والمذهب والأصول والجدل كتباً كثيرة ليس لأحد مثلها" توفي سنة 450 هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 5/ 12، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 247، شذرات الذهب 3/ 284، وفيات الأعيان 2/ 195، المنتظم 8/ 198، الفتح المبين 1/ 238".(1/216)
وَقَالَ الْقَاضِي أَيْضًا وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَجَمْعٌ: إنْ لَمْ يُمْكِنْ بَقَاءُ الْمَعْنَى، كَالْمَصَادِرِ السَّيَّالَةِ، - كَالْكَلامِ وَالتَّحَرُّكِ وَنَحْوِهِمَا-، فَحَقِيقَةٌ، وَإِلاَّ فَمَجَازٌ، كَالْقِيَامِ وَنَحْوِهِ1.
وَاحْتَجَّ لِمَا فِي الْمَتْنِ، بِأَنَّهُ2 يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَيَصْدُقُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا: أَنَّهُ3 لَيْسَ بِضَارِبٍ فِي الْحَالِ4، وَالسَّلْبُ الْمُطْلَقُ جُزْءُ الْمُقَيَّدِ5.
وَأَمَّا إطْلاقُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمَيِّتِ فَحَقِيقَةٌ؛ لأَنَّ الإِيمَانَ لا يُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَهَذِهِ هِيَ مَسْأَلَةُ النُّبُوَّةِ6، وَلا تَزُولُ بِالْمَوْتِ. وَبِسَبَبِهَا جَرَتْ الْمِحْنَةُ عَلَى الأَشْعَرِيَّةِ فِي زَمَنِ مَلِكِ خُرَاسَانَ مَحْمُودِ7 بْنِ سُبُكْتِكِينَ8 [وَالْقَاضِي وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ
ـــــــ
1 انظر تفصيل الموضوع في "المسودة ص567 وما بعدها، القواعد والفوائد الأصولية ص127 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 286 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 176 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 193، الإحكام للآمدي 1/ 54 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص48 وما بعدها، التمهيد للأسنوي ص36".
2 في ش: وأنه.
3 في ش: أنه يصح.
4 فلو كان المشتق بعد انقضائها حقيقةً لما صحَّ نفيه، فلا بد أن يكون مجازاً.
5 في ش: جزء من.
6 في ش: البنويه.
7 في ش: محمد.
8 المكنى بأبي القاسم، الملقب بيمين الدولة وأمين الملة، صاحب المناقب الكثيرة والسيرة الحميدة. المتوفي سنة 421هـ. "انظر ترجمته في وفيات الإعيان 4/ 262، المنتظم 8/ 25، شذرات الذهب 3/ 220".(1/217)
هَذَا]1، حَتَّى صَنَّفَ الْبَيْهَقِيُّ2 "حَيَاةَ الأَنْبِيَاءِ فِي قُبُورِهِمْ" ..3".
وَيُسْتَثْنَى مِنْ مَحَلِّ الْخِلافِ ثَلاثُ مَسَائِلَ4:
الأُولَى: لَوْ طَرَأَ عَلَى الْمَحَلِّ وَصْفٌ وُجُودِيٌّ يُنَاقِضُ الأَوَّلَ، كَتَسْمِيَةِ الْيَقْظَانِ نَائِمًا - بِاعْتِبَارِ5 نَوْمٍ سَابِقٍ-، فَمَجَازٌ إجْمَاعًا.
الثَّانِيَةُ: لَوْ مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ خَارِجٍ مِنْ إطْلاقِهِ، فَلا حَقِيقَةَ وَلا مَجَازَ، كَإِطْلاقِ الْكَافِرِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِاعْتِبَارِ كُفْرٍ سَابِقٍ، وَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إهَانَةِ الْمُسْلِمِ وَالإِخْلالِ بِتَعْظِيمِهِ.
الثَّالِثَةُ6: قَالَ الْقَرَافِيُّ7: "مَحَلُّ الْخِلافِ: إذَا كَانَ الْمُشْتَقُّ مَحْكُومًا بِهِ كَزَيْدٍ مُشْرِكٌ8، أَوْ سَارِقٌ، أَمَّا إذَا 9 كَانَ تَعَلُّقُ 9 الْحُكْمِ، - وَهُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ - كَـ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} 10 {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
ـــــــ
1 زيادة من المسودة.
2 هو أحمد بن الحسين بن علي النيسابوري، أبو بكر البيهقي الشافعي قال ابن السبكي عنه: "فقيه جليل، حافظ كبير، أصولي نحرير، زاهد ورع". أشهر مصنفاته "السنن الكبير" و "معرفة السنن والآثار" و "دلائل النبوة" و "الأسماء والصفات" و "الخلافيات". توفي سنة 458هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 4/ 8، المنتظم 8/ 242، وفيات الإعيان 1/ 57، شذرات الذهب 3/ 304".
3 المسودة ص568، 569.
4 انظر القواعد والفوائد الأصولية ص128، المحلي على جمع الجوامع 1/ 289.
5 في ش: باعتباره.
6 ساقطة من ش.
7 في ش: القرافي في.
8 في ش: مشترك.
9 في ش: تعلق.
10 الآية 2 من النور.(1/218)
فَاقْطَعُوا} 1 فَهُوَ2 حَقِيقَةٌ مُطْلَقَاً3 فِيمَنْ اتَّصَفَ4 بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالاسْتِقْبَالِ، إذَا لَوْ كَانَ مَجَازًا: لَكَانَ مَنْ زَنَى، أَوْ سَرَقَ بَعْدَ زَمَانِ نُزُولِ الآيَةِ "زَانِيًا مَجَازًا"5، وَالْخِطَابُ لا يَكُونُ مَجَازًا فَلا يَدْخُلُ فِيهَا؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ6 الْمَجَازِ، وَلا قَائِلَ بِذَلِكَ7".
"وَشَرْطُهُ" أَيْ: شَرْطُ الْمُشْتَقِّ، سَوَاءٌ كَانَ اسْمًا أَوْ فِعْلاً "صِدْقُ أَصْلِهِ" وَهُوَ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ [عَلَيْهِ] خِلافًا لِلْجُبَّائِيَّةِ، لإِطْلاقِهِمْ الْعَالِمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْكَارِ حُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الأُصُولِيُّونَ لِيَرُدُّوا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا8 إلَى مَسْأَلَةٍ خَالَفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ. فَإِنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ9 وَابْنَهُ أَبَا هَاشِمٍ10 ذَهَبُوا11 إلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَئِمَّةُ الإِسْلامِ.
ـــــــ
1 الآية 38 من المائدة.
2 في ش: فهم. وفي ض: هو.
3 في ش: مطلقة.
4 في ض: وصف.
5 ساقطة من ش ع ب ض.
6 في ش: عدم محو.
7 شرح تنقيح الفصول ص49، 50.
8 في ش: يردن.
9 هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي البصري، الفيلسوف المتكلم، رأس المعتزلة وشيخهم. أشهر مصنفاته "تفسير القرآن" و "متشابه القرآن" توفي سنة 303هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 2/ 189، وفيات الإعيان 3/ 398، شذرات الذهب 2/ 241، الفرق بين الفرق ص183، فرق وطبقات المعتزلة ص85".
10 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي المتكلم، من رؤوس المعتزلة. ألف كتباً كثيرة منها "تفسير القرآن" و "الجامع الكبير" و "الإبواب الكبير" توفي سنة 321هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 301، فرق وطبقات المعتزلة ص100، الفرق بين الفرق ص184، وفيات الإعيان 2/ 355، شذرات الذهب 2/ 289، الفتح المبين 1/ 172، المنتظم 6/ 261".
11 في ش: ذهبا.(1/219)
لَكِنْ قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: تَحْرِيرُ النَّقْلِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ وَابْنِهِ - كَمَا صَرَّحَا بِهِ فِي كُتُبِهِمَا الأُصُولِيَّةِ- أَنَّهُمَا يَقُولانِ: إنَّ الْعَالَمِيَّةَ بِعِلْمٍ، لَكِنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَيْنُ ذَاتِهِ، لا أَنَّهُ عَالِمٌ بِدُونِ عِلْمٍ، كَمَا اُشْتُهِرَ فِي النَّقْلِ عَنْهُمَا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيُعَلِّلُونَ الْعَالِمَ بِوُجُودِ عِلْمٍ قَدِيمٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، وَكَذَا فِي الْبَاقِي1.
"وَكُلُّ اسْمِ مَعْنًى قَائِمٌ بِمَحَلٍّ يَجِبُ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَحَلِّهِ مِنْهُ" أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى "اسْمُ فَاعِلٍ"2.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُصُولِ حُجَجِ السَّلَفِ وَالأَئِمَّةِ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي فِطَرِ3 الْخَلْقِ: أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلٍّ اتَّصَفَ بِهَا ذَلِكَ الْمَحَلُّ لا غَيْرُهُ فَإِذَا قَامَ الْعِلْمُ بِمَحَلٍّ كَانَ هُوَ الْعَالِمُ بِهِ لا غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْقُدْرَةُ أَوْ الْحَيَاةُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، وَلا خِلافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ، فَسَمَّوْا اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِكَلامِ خَلْقِهِ فِي جِسْمٍ. وَلَمْ يُسَمُّوا ذَلِكَ الْجِسْمَ مُتَكَلِّمًا.
دَلِيلُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الاسْتِقْرَاءُ، فَإِنَّ لُغَةَ الْعَرَبَ اُسْتُقْرِئَتْ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا اسْمُ فَاعِلٍ مُطْلَقٌ عَلَى شَيْءٍ إلاَّ وَالْمَعْنَى الْمُشْتَقُّ مِنْهُ قَائِمٌ بِهِ، وَهُوَ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِذَلِكَ.
"وَ" الْمُشْتَقُّ مِثْلُ "أَبْيَضَ وَنَحْوِهِ" كَأَسْوَدَ وَضَارِبٍ وَمَضْرُوبٍ "يَدُلُّ عَلَى
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على هذه المسألة في "المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 283 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 181 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 192، الإحكام للآمدي 1/ 54، شرح تنقيح الفصول ص48، العضد على ابن الحاجب 1/ 181 وما بعدها، فواح الرحموت 1/ 192، الإحكام للآمدي 1/ 45، شرح تنقيح الفصول ص48".
2 انظر شرح تنقيح الفصول ص48، العضد على ابن الحاجب وحواشيه 1/ 181، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 286، الإحكام للآمدي 1/ 54، فواتح الرحموت 1/ 193.
3 في ش: نظر.(1/220)
ذَاتٍ مُتَّصِفَةٍ بِبَيَاضٍ" أَوْ سَوَادٍ أَوْ وُجُودِ ضَرْبٍ "لا" عَلَى 1 خُصُوصِيَّتِهَا بِهِ 1 أَيْ لا عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِذَلِكَ الْوَصْفِ2.
ثُمَّ إنْ عُلِمَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الالْتِزَامِ، لا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ مُسَمَّاهُ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَنَا "إنَّ الأَبْيَضَ جِسْمٌ" مُسْتَقِيمٌ، وَلَوْ دَلَّ الأَسْوَدُ عَلَى خُصُوصِ الاسْمِ، لَكَانَ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ؛ لأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَاهُ: "الْجِسْمُ ذُو السَّوَادِ" جِسْمٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِلُّزُومِ التَّكْرَارِ بِلا فَائِدَةٍ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: "الْمُشْتَقُّ لا إشْعَارَ لَهُ بِخُصُوصِيَّةِ الذَّاتِ". فَالأَسْوَدُ - مَثَلاً- ذَاتٌ لَهَا سَوَادٌ، وَلا يَدُلُّ عَلَى حَيَوَانٍ، وَلا غَيْرِهِ. وَالْحَيَوَانُ: ذَاتٌ لَهَا حَيَاةٌ، لا خُصُوصُ إنْسَانٍ وَلا غَيْرِهِ.
"وَالْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ" أَيْ الْخَلْقُ "فِعْلُ الرَّبِّ تَعَالَى قَائِمٌ بِهِ، مُغَايِرٌ لِصِفَةِ الْقُدْرَةِ" وَهَذَا الصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالْقَاضِي أَخِيرًا، وَأَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الأَثَرِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: "الْخَلْقُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمُ بِهِ، وَالْمَخْلُوقَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ3 عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَنَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا، فَقَالَ: قَالَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ: إنَّ خَلْقَ الرَّبِّ تَعَالَى لِلْعَالَمِ لَيْسَ هُوَ
ـــــــ
1 في ع: خصوصيته.
2 انظر تفصيل الكلام على هذه المسألة في "المحلي على جمع الجوامع 1/ 289 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 182 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 196 وما بعدها".
3 هو الحسين بن مسعود بن محمد البغوي الشافعي، أبو محمد، المعروف بالفَرَّاء، والملقب محيّي السنة. قال الداودي: "كان إماماً في التفسير، إماماً في الحديث، إماماً في الفقه، جليلاً ورعاً زاهداً". أشهر مصنفاته "معالم التنزيل في التفسير" و "شرح السنة" و "مصابيح السنة" و "التهذيب" في الفقه الشافعي. توفي سنة 516هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 157، وفيات الأعيان 1/ 403، طبقات الشافعية للسبكي 7/ 75، شذرات الهذب 4/ 48".(1/221)
الْمَخْلُوقُ، بَلْ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. انْتَهَى. ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ "خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ"1، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ"2.
وَعِنْدَ الْقَاضِي أَوَّلاً3 وَابْنِ عَقِيلٍ، وَابْنِ الزَّاغُونِيِّ4، وَالأَشْعَرِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْخَلْقَ الْمَخْلُوقُ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: "ذَهَبَ هَؤُلاءِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ، أَوْ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ، أَوْ إضَافَةٍ، وَعِنْدَ هَؤُلاءِ: حَالُ الذَّاتِ الَّتِي تَخْلُقُ وَتَرْزُقُ وَلا تَخْلُقُ وَلا تَرْزُقُ سَوَاءٌ5". انْتَهَى.
وَالرَّبُّ لا يُوصَفُ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ.
ـــــــ
1 خلق أفعال العباد ص74.
2 الرد على المنطقيين ص229 وما بعدها.
3 ساقطة من ش.
4 هو على بن عبيد الله بن نصر بن الزاغواني الحنبلي، أبو الحسن البغدادي، الفقيه الأصولي المحدث، النحوي اللغوي. أشهر مصنفاته "الإقناع" و "الواضح" و "الخلاف الكبير" و "المفردات" في الفقه و "غرر البيان" في أصول الفقه و "الإيضاح" في أصول الدين. توفي سنة 527هـ. "انظر ترجمته في المنهج الأحمد 2/ 238، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 180، شذرات الذهب 4/ 80، المنتظم 10/ 32، الفتح المبين 2/ 23".
5 فتاوى ابن تيمية 12/ 436.(1/222)
"فَائِدَةٌ"
"تَثْبُتُ اللُّغَةُ قِيَاسًا فِيمَا" أَيْ فِي لَفْظٍ "وُضِعَ لِمَعْنًى دَارَ مَعَهُ" أَيْ مَعَ اللَّفْظِ "وُجُودًا وَعَدَمًا"، "كَخَمْرٍ لِنَبِيذٍ" لِتَخْمِيرِ الْعَقْلِ "وَنَحْوِهِ" كَسَارِقٍ لِنَبَّاشٍ، لأَخْذٍ1 خُفْيَةً، وَزَانٍ لِلاَّئِطِ، لِلْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَابْنُ سُرَيْجٍ2، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْفَخْرُ الرَّازِيّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَنَقَلَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ3 عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الشُّفْعَةِ: إنَّ الشَّرِيكَ جَارٌ قِيَاسًا عَلَى تَسْمِيَةِ امْرَأَةِ الرَّجُلِ جَارُهُ4. وَكَذَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ5: إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ6 قَالَ: الشَّرِيكُ جَارٌ.
ـــــــ
1 في ش: يأخذ.
2 هو أحمد بن عمر بن سريج البغدادي القاضي، أبو العباس، الفقيه الأصولي المتكلم، شيخ الشافعية في عصره، صاحب المؤلفات الحسان. توفي سنة 306هـ. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 2/ 251، طبقات الشافعية للسبكي 3/ 21، وفيات الأعيان 1/ 49، شذرات الذهب 2/ 247، المنتظم 6/ 149، الفتح المبين 1/ 165".
3 هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي، الاستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي، الفقيه الأصولي النحوي المتكلم. أشهر مصنفاته "تفسير القرآن" و "فضائح المعتزلة" و "الفرق بين الفرق" و "التحصيل" في أصول الفقه و "الملل والنحل". توفي سنة 429هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 5/ 136، إنباه الرواة 2/ 185، بغية الوعاة 2/ 105، وفيات الأعيان 2/ 372، فوات الوفيات 1/ 613، طبقات المفسرين للداودي 1/ 327".
4 اختلاف الحديث للشافعي "مطبوع مع الأم" 4/ 6.
5 هو محمد بن الحسن بن فُورك، أبو بكر الأنصاري الأصبهاني الشافعي، الفقيه الأصولي النحوي المتكلم، صاحب التصانيف النافعة. توفي سنة 406هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 4/ 127، إنباه الرواة 3/ 110، شذرات الذهب 3/ 181، وفيات الأعيان 3/ 402، طبقات المفسرين للداودي 2/ 129".
6 في ش: لأنه.(1/223)
وَقِيلَ: لا تَثْبُتُ قِيَاسًا مُطْلَقًا. اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَالصَّيْرَفِيُّ1، وَأَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ".
وَفَائِدَةُ الْخِلافِ: أَنَّ الْمُثْبِتَ لِلْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ يَسْتَغْنِي عَنْ2 الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. فَيَكُونُ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِ النَّبِيذِ، وَالْقَطْعِ عَلَى النَّبَّاشِ بِالنَّصِّ، وَمَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ جَعَلَ ثُبُوتَ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ3.
"وَالإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِهِ" أَيْ: مَنْعِ الْقِيَاسِ "فِي عَلَمٍ وَلَقَبٍ وَصِفَةٍ. وَكَذَا مِثْلُ إنْسَانٍ وَرَجُلٍ4، وَرَفْعِ فَاعِلٍ" 5.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي "أُصُولِهِ": "الإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِهِ فِي الأَعْلامِ وَالأَلْقَابِ، وَذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ: ابْنُ عَقِيلٍ لِوَضْعِهِمَا لِغَيْرِ مَعْنًى جَامِعٍ وَالْقِيَاسُ فَرْعُهُ.
ـــــــ
1 هو محمد بن عبد الله البغدادي، أبو بكر الصيرفي الشافعي، الإمام الفقيه الأصولي، قال القفال: "كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي". أشهر مصنفاته "شرح الرسالة للشافعي" و "البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام" في أصول الفقه وكتاب "الإجماع" و "الشروط". توفي سنة 330هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 3/ 186، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 193، شذرات الذهب 2/ 325، وفيات الأعيان 3/ 337، الفتح المبين 1/ 180".
2 ساقطة من ش.
3 انظر تفصيل الكلام على القياس في اللغة في "إرشاد الفحول ص16، اللمع ص6، المسودة ص173 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 57 وما بعدها، فوتح الرحموت 1/ 185، العضد على ابن الحاجب 1/ 183 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 271 وما بعدها".
4 فقد ثبت تعميمه بالنقل. "العضد على ابن الحاجب 1/ 183".
5 قال الشريف الجرجاني: "إذ حصل لنا باستقراء جزئيات الفاعل مثلاً قاعدة كليّة، وهي أن كل فاعل مرفوع، لا شك فيها، فإذا رفعنا فاعلاً لم يُسمع رفعُهُ منهم، لم يكن قياساً لاندراجه تحتها". "انظر حاشية الجرجاني على شرح العضد 1/ 183، البناني على شرح جمع الجوامع 1/ 273".(1/224)
وَمِثْلُ1 هَذَا "سِيبَوَيْهِ زَمَانِهِ"، مَجَازٌ عَنْ حَافِظِ كِتَابِهِ2.
وَالإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِهِ فِي الصِّفَاتِ، لأَنَّ الْعَالِمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ فَيَجِبُ طَرْدُهُ، فَإِطْلاقُهُ بِوَضْعِ اللُّغَةِ3، وَكَذَا مِثْلُ: إنْسَانٍ وَرَجُلٍ وَرَفْعِ الْفَاعِلِ4، فَلا وَجْهَ لِجَعْلِهِ دَلِيلاً". انْتَهَى.
ـــــــ
1 في ش ز ب: ومثله.
2 وليس من باب القياس في التسمية. "الإحكام للآمدي 1/ 57".
3 أي إنْ أسماء الصفات الموضوعة للفرق بين الصفات، كالعالم والقادر، فإنّها واجبة الاطّراد، نَظَراً إلى تحقيق معنى الاسم، فإنَّ مسمى العالِم مَنْ قامَ به العلم، وهو متحقق في حق كل من قام به العلم، فكان إطلاق اسم العالم عليه ثابتاً بالوضع لا بالقياس، إذ ليس قياس أحد المسميين المتماثلين في المسمى على الآخر بأولى من العكس. "الإحكام للآمدي 1/ 57".
4 ساقطة من ش.(1/225)
فصل في بيان معنى الحروف
...
"الْحُرُوفُ" أَيْ هَذَا فَصْلُ بَيَانِ مَعْنَى الْحُرُوفِ.
قَالَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ: "قَدْ قَالَ النُّحَاةُ: إنَّ الْحَرْفَ لا يَسْتَقِلُّ بِالْمَعْنَى1. وَعَلَيْهِ إشْكَالٌ. فَتَقَرَّرَ الْمُرَادُ أَوَّلاً، وَالإِشَارَةُ إلَى الإِشْكَالِ ثَانِيًا، وَحَلُّهُ ثَالِثًا.
أَمَّا تَقْرِيرُهُ: فَهُوَ أَنَّ نَحْوَ "مِنْ" وَ "إلَى" مَشْرُوطٌ فِي وَضْعِهَا دَالَّةٌ2 عَلَى مَعْنَاهَا الإِفْرَادِيِّ، وَهُوَ الابْتِدَاءُ وَالانْتِهَاءُ. وَذِكْرُ مُتَعَلَّقِهَا مِنْ دَارٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، مِمَّا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَرْفُ، وَمِنْهُ الابْتِدَاءُ، وَإِلَيْهِ الانْتِهَاءُ. وَالاسْمُ نَحْوُ "الابْتِدَاءِ" وَ "الانْتِهَاءِ"، وَالْفِعْلُ نَحْوُ "ابْتَدَأَ" وَ "انْتَهَى" غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الإِشْكَالُ: فَهُوَ أَنَّ نَحْوَ: ذُو، وَأُولُو3، وأُولاتُ4، وَقَيْدٌ، وَقَيْسٌ5، وَقَابَ، وَأَيْ، وَبَعْضُ، وَكُلُّ، وَفَوْقَ، وَتَحْتَ، وَأَمَامَ، وَقُدَّامَ، وَخَلْفَ، وَوَرَاءَ... مِمَّا لا يُحْصَى كَذَلِكَ، إذْ لَمْ يُجَوِّزْ الْوَاضِعُ اسْتِعْمَالَهَا إلاَّ بِمُتَعَلِّقَاتِهَا. فَكَانَ يَجِبُ كَوْنُهَا حُرُوفًا. وَإِنَّهَا أَسْمَاءٌ.
وَأَمَّا الْحَلُّ: فَهُوَ أَنَّهَا - وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ اسْتِعْمَالُهَا إلاَّ كَذَلِكَ، لأَمْرٍ مَا عَرَضَ-. فَغَيْرُ6 مَشْرُوطٍ فِي وَضْعِهَا [دَالَّةٌ]7 ذَلِكَ لِمَا عُلِمَ أَنَّ "ذُو" بِمَعْنَى
ـــــــ
1 في شرح العضد: بالمفهومية.
2 في ش: الدلالة.
3 في ش: والواو.
4 في ش ض ب: ولات.
5 في ش ض ب: أو قيس.
6 في ش: فهو غير.
7 زيادة من شرح العضد.(1/226)
صَاحِبٍ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الإِفْرَادِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ وَضْعَهُ لَهُ لِغَرَضٍ مَا، وَهُوَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الأَجْنَاسِ، فِي نَحْوِ: زَيْدٌ ذُو مَالٍ، وَذُو فَرَسٍ، فَوَضْعُهُ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى ذَلِكَ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى ذِكْرَ الْمُضَافِ إلَيْهِ. لا أَنَّهُ1 لَوْ ذُكِرَ دُونَهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَاهُ نَعَمْ لَمْ يَحْصُلْ الْغَرَضُ مِنْ وَضْعِهِ! وَالْفَرْقُ بَيْنَ عَدَمِ فَهْمِ الْمَعْنَى، وَبَيْنَ عَدَمِ فَائِدَةِ2 الْوَضْعِ مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى ظَاهِرٌ.
وَكَذَلِكَ "فَوْقَ" وُضِعَ لِمَكَانٍ لَهُ عُلُوٌّ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الانْفِرَادِ3 ذَلِكَ، وَلَكِنَّ وَضْعَهُ لَهُ لِيُتَوَصَّلَ [بِهِ]4 إلَى عُلْوٍ خَاصٍّ، اقْتَضَى ذِكْرَ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ بَاقِي5 الأَلْفَاظِ"6.
"وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: الْحَرْفُ مَا7 وُضِعَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ النِّسْبَةِ كَالابْتِدَاءِ8 وَالانْتِهَاءِ، لِكُلِّ ابْتِدَاءٍ أَوْ انْتِهَاءٍ مُعَيَّنٍ بِخُصُوصِهِ.
وَالنِّسْبَةُ لا تَتَعَيَّنُ إلاَّ بِالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ. فَالابْتِدَاءُ الَّذِي لِلْبَصْرَةِ يَتَعَيَّنُ9 بِالْبَصْرَةِ. وَالانْتِهَاءُ الَّذِي لِلْكُوفَةِ يَتَعَيَّنُ10 بِالْكُوفَةِ، فَمَا11 لَمْ يُذْكَرْ
ـــــــ
1 كذا في شرح العضد، وفي الأصول الخطيّة كلها: لأنه.
2 في ش: فائدة المعنى.
3 في شرح العضد: الإفراد.
4 زيادة من شرح العضد.
5 في شرح العضد: بواقي.
6 شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 186.
7 ساقطة من شرح العضد.
8 كذا في شرح العضد. وفي ش: الانتهاء. وفي د ز ع ض ب: للابتداء.
9 في ش ب ض: متعين.
10 في ش ب ض: متعين.
11 في ش: فلما.(1/227)
مُتَعَلَّقُهُ، لا يَتَحَصَّلُ فَرْدٌ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي1 هُوَ مَدْلُولُ الْحَرْفِ، لا فِي الْعَقْلِ وَلا فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ، فَيَتَعَقَّلُ بِتَعَقُّلِهِ2، بِخِلافِ مَا وُضِعَ لِلنَّوْعِ بِعَيْنِهِ3 كَالابْتِدَاءِ وَالانْتِهَاءِ.
[وَ]4 بِخِلافِ مَا وُضِعَ لِذَاتٍ مَا بِاعْتِبَارِ نِسْبَةٍ. نَحْوُ "ذُو" وَ "فَوْقَ" وَ "عَلَى"، وَ "عَنْ"، وَ "الْكَافِ" إذَا أُرِيدَ بِهَا5 عُلُوٌّ وَتَجَاوُزٌ وَشَبَهٌ6 مُطْلَقًا. فَهُوَ كَالابْتِدَاءِ [وَالانْتِهَاءِ]7... 8". اهـ.
وَالْمُرَادُ بِالْحُرُوفِ هُنَا: "مَا يَحْتَاجُ الْفَقِيهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ مَعَانِي الأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ"، لا الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الاسْمِ وَالْفِعْلِ، لأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ مَعَهَا أَسْمَاءٌ. كَـ "إِذَا" وَ "إِذْ"، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْحُرُوفِ تَغْلِيبًا بِاعْتِبَارِ الأَكْثَرِ.
ـــــــ
1 ساقطة من شرح العضد.
2 في د: متعلقه.
3 في شرح العضد: نفسه.
4 زيادة من شرح العضد.
5 في شرح العضد: به.
6 في ش: ونسبة. وفي ع: وتشبيه.
7 زيادة من شرح العضد.
8 شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 189.(1/228)
"الْوَاوُ"
"الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ" تَكُونُ "لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ" أَيْ: الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ التَّرْتِيبِ وَالْمَعِيَّةِ. عِنْدَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَأَكْثَرِ النُّحَاةِ1.
وَهِيَ تَارَةً تَعْطِفُ الشَّيْءَ عَلَى صَاحِبِهِ2، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} 3 وَعَلَى سَابِقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} 4 وَعَلَى5 لاحِقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {6 كَذَلِكَ يُوحِي 6 إلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك} 7.
فَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ "قَامَ8 زَيْدٌ وَعَمْرٌو" احْتَمَلَ ثَلاثَةَ9 مَعَانٍ:
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على معاني "الواو" في "الجنى الداني ص158-174، مغني اللبيب 1/ 391-408، البرهان 4/ 435 وما بعدها، الإتقان 2/ 255 وما بعدها، الصاحبي ص117 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص99 وما بعدها، المفصل ص304، معترك الإقران 3/ 446 وما بعدها، القواعد والفوائد الأصولية ص130-137، التمهيد للأسنوي ص54 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 63 وما بعدها، المعتمد للبصري 1/ 38 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 189 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 365، فواتح الرحموت 1/ 229، كشف الأسرار 2/ 109-127، رصف المباني ص410-428، الأزهيّة ص240-249، المسودة ص355".
2 في ش: صاحبه.
3 الآية 15 من العنكبوت.
4 الآية 26 من الحديد.
5 في ش: والى.
6 في ش: ولقد أرسلنا.
7 الآية 3 من الشورى.
8 ساقطة من ش.
9 في ش: ثلاث.(1/229)
الْمَعِيَّةَ – 1 عِنْدَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَأَكْثَرِ النُّحَاةِ 1 - وَالتَّرْتِيبَ، وَعَدَمَهُ.
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: "وَكَوْنُهَا لِلْمَعِيَّةِ رَاجِحٌ، وَلِلتَّرْتِيبِ كَثِيرٌ، وَلِعَكْسِهِ قَلِيلٌ"2.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مُتَعَاطِفَيْهَا تَفَاوُتٌ أَوْ تَرَاخٍ نَحْوَ {إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} 3.
وَالتَّعْبِيرُ بِكَوْنِهَا لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، - كَمَا فِي الْمَتْنِ-: هُوَ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا مَنْ عَبَّرَ بِكَوْنِهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ4، فَلَيْسَ بِوَافٍ بِالْمُرَادِ؛ لأَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي لَمْ يُقَيَّدْ بِشَيْءٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُنَا مَثَلاً: "قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو" فَلا يَدْخُلُ فِيهِ الْقَيْدُ بِالْمَعِيَّةِ، وَلا بِالتَّقْدِيمِ، وَلا بِالتَّأْخِيرِ لِخُرُوجِهَا بِالتَّقْيِيدِ عَنْ الإِطْلاقِ. وَأَمَّا مُطْلَقُ الْجَمْعِ: فَمَعْنَاهُ: أَيُّ جَمْعٍ كَانَ. فَحِينَئِذٍ تَدْخُلُ فِيهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا.
وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ: مُطْلَقُ الأَمْرِ، وَالأَمْرُ الْمُطْلَقُ، فَإِذَا قُلْت "الأَمْرُ الْمُطْلَقُ" فَقَدْ أَدْخَلْت اللاَّمَ عَلَى الأَمْرِ، وَهِيَ تُفِيدُ الْعُمُومَ وَالشُّمُولَ، ثُمَّ وَصَفْته بَعْدَ ذَلِكَ بِالإِطْلاقِ5، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِقَيْدٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ مِنْ شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ الأَفْرَادِ الَّتِي هَذَا شَأْنُهَا. وَأَمَّا مُطْلَقُ الأَمْرِ: فَالإِضَافَةُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ، بَلْ لِلتَّمْيِيزِ. فَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مُطْلَقٍ لا عَامٌّ، فَيَصْدُقُ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش ز.
2 تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد ص174.
3 الآية 7 من القصص.
4 كالمرادي في الجنى الداني ص158 والزمخشري في المفصل ص204 والآمدي في الإحكام 1/ 63 وابن الحاجب في مختصره 1/ 189.
5 في ض: باطلاق.(1/230)
وَعَلَى هَذَا: فَمُطْلَقُ الْبَيْعِ يَنْقَسِمُ إلَى جَائِزٍ وَغَيْرِهِ. وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ لِلْجَائِزِ فَقَطْ، وَالأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْوُجُوبِ، وَمُطْلَقُ الأَمْرِ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ طَهُورٌ، وَمُطْلَقُ الْمَاءِ يَنْقَسِمُ إلَى طَهُورٍ وَغَيْرِهِ. وَالْمِلْكُ الْمُطْلَقُ هُوَ الَّذِي يَثْبُتُ لِلْحُرِّ، وَمُطْلَقُ الْمِلْكِ يَثْبُتُ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ.
فَإِذَا قِيلَ: الْعَبْدُ هَلْ يَمْلِكُ أَوْ لا؟ كَانَ الصَّوَابُ إثْبَاتَ مُطْلَقِ الْمِلْكِ لَهُ دُونَ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ.
وَإِذَا قِيلَ: الْفَاسِقُ مُؤْمِنٌ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنٍ؟ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ يَزُولُ الإِشْكَالُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنْدُوبِ. هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْ لا؟ وَفِي مَسْأَلَةِ الْفَاسِقِ: الْمُسْلِمِ1 هَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ أَمْ لا؟
"وَتَأْتِي" الْوَاوُ "بِمَعْنَى مَعَ" كَقَوْلِهِمْ: "جَاءَ الْبَرْدُ وَالطَّيَالِسَةَ"، وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَفْعُولِ مَعَهُ2.
"وَ" تَأْتِي بِمَعْنَى "أَوْ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 3 وَقَوْلِهِ: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 4.
"وَ" تَأْتِي بِمَعْنَى "رُبَّ" كَقَوْلِهِ5:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 كـ "سِرْتُ واللَّيْلَ" وتسمى واو المفعول معه، ويكون ما بعدها منصوباً. "انظر مغني اللبيب 1/ 398، الإحكام للآمدي 1/ 63، معترك الأقران 3/ 446".
3 الآية 3 من النساء.
4 الآية الأولى من فاطر. وهي بكاملها ساقطة من ع.
5 هذا صدر بيت من أرجوزة لعامر بن الحارث المعروف بـ "جرات العود" نسبة إليه البغدادي في خزانة الأدب "4/ 197" والعيني في شرح شواهد شروح الألفية "3/ 107" وعجزه:
إلاّ اليعافيرُ وإلاّ العيسُ(1/231)
وَقَوْلِ الآخَرِ:
وَنَارٍ لَوْ نَفَخَتْ بِهَا أَضَاءَتْ ... وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ
"وَ" تَأْتِي الْوَاوُ "لِقَسَمٍ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ} 1.
"وَ" تَأْتِي "لاسْتِئْنَافٍ" وَهُوَ كَثِيرٌ2.
"وَ" تَأْتِي لِ "حَالٍ" أَيْ: بِمَعْنَى الْحَالِ. نَحْوُ "جَاءَ زَيْدٌ3 وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ"، "جَاءَ زَيْدٌ وَهُوَ يَضْحَكُ".
ـــــــ
1 الآية 1-4 من الفجر.
2 وذلك كقوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً، وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} [الأنعام 2] وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً، وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ} [مريم 65-66]. "انظر الجنى الداني ص163، مغني اللبيب 2/ 397، البرهان 4/ 437، الإتقان 2/ 257، معترك الإقران 3/ 447".
3 ساقطة من ش.(1/232)
"الْفَاءُ"
"الْفَاءُ الْعَاطِفَةُ"1 تَكُونُ "لِتَرْتِيبٍ" وَهُوَ قِسْمَانِ:
- مَعْنَوِيٌّ كَـ "قَامَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو".
- وَذِكْرِيٌّ: وَهُوَ عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}2 {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 3 {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} 4 {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} 5 {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} 6 وَتَقُولُ: "تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ". وَتَقُول: "قَالَ فَأَحْسَنَ"، "وَخَطَبَ فَأَوْجَزَ"، "وَأَعْطَى فَأَجْزَلَ".
"وَ" تَأْتِي الْفَاءُ أَيْضًا لِـ "تَعْقِيبٍ" وَهُوَ كَوْنُ الثَّانِي بَعْدَ الأَوَّلِ بِغَيْرِ7 مُهْلَةٍ. فَكَأَنَّ الثَّانِيَ أَخَذَ بِعَقِبِ الأَوَّلِ فِي الْجُمْلَةِ "كُلٌّ بِحَسَبِهِ عُرْفًا" يَعْنِي أَنَّ التَّعْقِيبَ يَكُونُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. تَقُولُ: "تَزَوَّجَ فُلانٌ فَوُلِدَ لَهُ"
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على معاني الفاء في "مغني اللبيب 1/ 173-182، الجنى الداني ص61-78، البرهان 4/ 294-301، الإتقان 2/ 209 وما بعدها، الصاحبي ص109 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص101، الإحكام للآمدي 1/ 68، التمهيد للآسنوي ص56، القواعد والفوائد الأصولية ص137، المفصل ص304، المعتمد 1/ 39، كشف الأسرار للبخاري 2/ 127 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 234، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 348، الأزهيّة ص250-257، رصف المباني ص376-387".
2 الآية 36 من البقرة.
3 الآية 54 من البقرة.
4 الآية 136 من الأعراف.
5 الآية 153 من النساء.
6 الآية 45 من هود.
7 في ز: بلا.(1/233)
إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إلاَّ مُدَّةُ الْحَمْلِ وَإِنْ طَالَتْ. وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ هِشَامٍ1 فِي "مُغْنِي اللَّبِيبِ"2.
وَنَقَلَ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعُهُ. الإِجْمَاعَ: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ، لَكِنْ قَالَ الْفَرَّاءُ: إنَّهَا لا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، بَلْ تُسْتَعْمَلُ فِي انْتِفَائِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} 3 4 مَعَ أَنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى الإِهْلاكِ5.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، أَوْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: "أَرَدْنَا إهْلاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا" 4. وَمِثْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ} 6.
"وَتَأْتِي" الْفَاءُ أَيْضًا "سَبَبِيَّةٌ" وَهُوَ كَثِيرٌ 7 فِي عَطْفِ الْجُمَلِ 7، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} 8 {فَتَلَقَّى آدَم مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 9، وَكَذَا فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ} 10.
ـــــــ
1 هو عبد الله بن يوسف بن هشام, جمال الدين, ابو محمد, علاّمة النحو وإمام العربية, قال ابن خلدون: "مازلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه قد ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه". أشهر كتبه "مغني اللبيب" و "شذور الذهب" و "قطر الندى" و "التذكرة" توفي سنة 761 هـ "انظر ترجمته في البدر الطالع 1/400, الدرر الكامنة 2/ 415, بغية الوعاة 2/ 68, شذرات الذهب 6/ 191".
2 مغني اللبيب 1/ 174.
3 الآية 4 من الأعراف.
4 ساقطة من ز.
5معاني القرآن للفراء 1/ 371.
6 الآية 98 من النحل.
7 ساقطة من ش.
8 الآيه 15 من القصص.
9 الآية 37 من البقرة.
10 الآيات 52- 54 من الواقعة.(1/234)
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا "رَابِطَةً" لِلْجَوَابِ. وَذَلِكَ فِي سِتِّ مَسَائِلَ:
الأُولَى1: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْك بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2 وَقَوْلِهِ: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ فِعْلِيَّةً، وَهِيَ الَّتِي فِعْلُهَا جَامِدٌ نَحْوُ: {إنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْك مَالاً وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ} 4 {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} 5 {وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} 6 {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 7.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا إنْشَاءً نَحْوُ: {إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 8 {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} 9 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} 10 فِيهِ أَمْرَانِ: الاسْمِيَّةُ، وَالإِنْشَاءُ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى. إمَّا حَقِيقَةً نَحْوَ: {إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} 11، {إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 الآية 17 من الأنعام.
3 الآية 118 من المائدة.
4 الآيتان 39-40 من الكهف.
5 الآية 271 من البقرة.
6 الآية 38 من النساء.
7 الآية 28 من آل عمران.
8 الآية 31 من آل عمران.
9 الآية 150 من الآنعام.
10 الآية 30 من الملك.
11 الآية 77 من يوسف.(1/235)
وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} 1، وَإِمَّا مَجَازًا نَحْوَ: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} 2، نَزَلَ هَذَا الْفِعْلُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ مَا قَدْ وَقَعَ.
الْخَامِسَةُ: أَنْ تَقْتَرِنَ بِحَرْفِ اسْتِقْبَالٍ نَحْوُ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دَيْنِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} 3 {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} 4.
السَّادِسَةُ: أَنْ تَقْتَرِنَ بِحَرْفٍ لَهُ الصَّدْرُ، كَقَوْلِهِ:
فَإِنْ أَهْلَكْ فَذِي لَهَبٍ لَظَاهُ ... عَلَيَّ يَكَادُ يَلْتَهِبُ الْتِهَابَا5
لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ "رُبَّ" مُقَدَّرَةٌ وَأَنَّ لَهَا الصَّدْرَ.
وَأَمَّا إتْيَانُهَا زَائِدَةً فَاخْتَلَفُوا فِيهِ6: فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ7 أَنَّهَا لا تَكُونُ زَائِدَةً. وَأَجَازَهُ الأَخْفَشُ8 فِي الْخَبَرِ مُطْلَقًا. وَحُكِيَ: "أَخُوك فَوَجَدَ".
ـــــــ
1 الآية 26 من يوسف.
2 الآية 90 من النمل.
3 الآية 54 من المائدة.
4 الآية 115 من آل عمران.
5 البيت لربيعة بن مقروم الضبّيِ، نسبه له البغدادي في خزانة الأدب "4/ 201" وشرح شواهد مغني اللبيب "4/ 35" بلفظ:
فإن أهلك فذي حَنَقِ لظاه
عليّ تكاد تلتهب التهاباً
وفي مغني اللبيب "1/ 176": "فذي لهب".
وهذا البيت للشاعر في قصيدة يسلي بها عن نفسه بعد قضاء مأربه وإدراك ثأره، يقول فيه: إنْ متُّ فرب رجل ذي غيظ وغضب، تكاد نار عداوته تتوقد توقداً لما لقى مني وما فعلت به...
6 ساقطة من ز ض ب ع.
7 في ش: تبعه إلى.
8 هو سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي النحوي، أبو الحسن الأخفش الأوسط، أخذ النحو عن سيبويه، وصحب الخليل، وكان معلماً لولد الكسائي. وقد سمي بالأخفش أحد عشر نحوياً ذكرهم السيوطي في "المزهر" ثم قال: "حيث أطلق في كتب النحو الأخفش، فهو الأوسط"، أشهر كتبه "تفسير معاني القرآن" و "المقاييس في النحو" و "الاشتقاق" وغيرها توفي سنة 210هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 185، المزهر 2/ 405، 453، 456، بغية الوعاة 1/ 590، إنباه الرواة 2/ 36، طبقات النحويين للزبيدي ص72، وفيات الإعيان 2/ 122، شذرات الذهب 2/ 36، معجم الإدباء 11/ 224".(1/236)
"ثُمَّ"
"ثُمَّ" حَرْفُ عَطْفٍ1 تَكُونُ "لِتَشْرِيكٍ" فِي الأَصَحِّ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي الْحُكْمِ "وَ" تَكُونُ أَيْضًا لِـ "تَرْتِيبٍ بِمُهْلَةٍ" أَيْ بِتَرَاخٍ عِنْدَ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنَّهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ مَعْنَوِيٌّ وَفِي الْجُمَلِ2 "ذِكْرِيٌّ"3 نَحْوُ:
إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ4
فَهُوَ تَرْتِيبٌ فِي الإِخْبَارِ لا فِي الْمَوْجُودِ5.
ـــــــ
1انظر معاني "ثُمَّ" في "الجنى الداني ص426-432، رصف المباني ص173 وما بعدها، الإتفاق 2/ 189، مغني اللبيب 1/ 124-127، البرهان 4/ 266-270، الإحكام للآمدي 1/ 69، شرح تنقيح الفصول ص101، الصاحبي ص148، القواعد والفوائد الأصولية ص138 وما بعدها، التمهيد للأسنوي ص57، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 344 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 234 وما بعدها، كشف الإسرار 2/ 131 وما بعدها، معترك الأقران 2/ 52، الإشارة إلى الإيجاز ص35، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص40 وما بعدها، المفصل ص304، المسودة ص356".
2 في ض: الجملة.
3 في ش: ذاتي.
4 البيت لأبي نواس الحسن بن هانىء، نسبه له البغدادي في خزانة الأدب "4/ 412" شرح أبيات مغني اللبيب "3/ 40" ، وهو مروي في ديوانه "ص493" في قصيدة يمدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر، ولفظه في الخزانة وشرح أبيات المغني والديوان:
قُلْ لمن سادَ ثُمَّ سادَ أبوهُ ... قَبْلَهُ، ثُمَّ قبلَ ذلكَ جَدُّه
5 في ش: الموجود.(1/237)
"حتّى"
"حَتَّى، الْعَاطِفَةُ لِلْغَايَةِ"1 نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} 2، فَلا يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا إلاَّ غَايَةً لِمَا قَبْلَهَا - مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ3- نَحْوُ: "مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الأَنْبِيَاءُ" وَ "قَدِمَ الْحُجَّاجُ4 حَتَّى الْمُشَاةُ".
"وَلا تَرْتِيبَ فِيهَا" فَهِيَ كَالْوَاوِ، فَإِنَّك تَقُولُ: "حَفِظْت الْقُرْآنَ حَتَّى سُورَةَ الْبَقَرَةِ"، وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلَ مَا حَفِظْت أَوْ مُتَوَسِّطًا وَقِيلَ: هِيَ كَالْفَاءِ. وَقِيلَ: كَـ "ثُمَّ".
"وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ مَعْطُوفِهَا جُزْءًا مِنْ مَتْبُوعِهِ" نَحْوَ "قَدِمَ الْحُجَّاجُ5 حَتَّى الْمُشَاةُ6" "أَوْ كَجُزْئِهِ" نَحْوَ "أَعْجَبَتْنِي7 الْجَارِيَةُ حَتَّى حَدِيثُهَا". فَإِنَّ حَدِيثَهَا لَيْسَ بَعْضًا مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ كَالْبَعْضِ، لأَنَّهُ مَعْنًى، مِنْ مَعَانِيهَا.
ـــــــ
1 انظر في الكلام على "حتى" "الجنى الداني ص542-558، الاتقان 2/ 192، مغني اللبيب 1/ 131-139، الأزهيّة ص223 وما بعدها، رصف المباني ص180-185، شرح تنقيح الفصول ص102، الإحكام للآمدي 1/ 69، البرهان 4/ 272 وما بعدها، معترك الأقران 2/ 78 وما بعدها، القواعد والفوائد الإصولية ص143، الصاحبي ص150 وما بعدها، تسهيل الفوائد ص146-175، كشف الأسرار 2/ 160 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 240 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 345 وما بعدها، المفصل ص304".
2 الآية 5 من القدر.
3 قال المرادي: والزيادة تشمل القوة والتعظيم، والنقص يشمل الضعف والتحقير. "الجنى الداني ص548" وعلى ذلك فلا بدّ أن يكون الثاني عظيماً إن كان الأول حقيراً، أو حقيراً إن كان الأول عظيماً، أو قوياً إن كان الأول ضعيفاً، أو ضعيفاً إن كان قوياً، لأن معناها الغاية، "انظر رصف المباني ص181، الأزهيّة ص223، تسهيل الفوائد ص175، المفصل ص304".
4 في ش ز ض ب: الحاج.
5 في ش: الناس. وفي ض: الحاج.
6 في ش: الحجاج.
7 في ش: حجبتني.(1/238)
وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِحَتَّى مُبَايِنًا لِمَتْبُوعِهِ فِي الْجِنْسِ مُوَافِقًا لَهُ فِي الْمَعْنَى فَتُقَدَّرُ بَعْضِيَّتُهُ1 كَقَوْلِهِ:
أَلْقَى الصَّحِيفَةَ كَيْ يُخَفِّفَ رَحْلَهُ ... وَالزَّادَ، حَتَّى نَعْلَهُ أَلْقَاهَا2
لأَنَّ الْمَعْنَى: أَلْقَى مَا يَثْقُلُهُ3 حَتَّى نَعْلَهُ.
"وَتَأْتِي" حَتَّى "لِتَعْلِيلٍ" كَقَوْلِهِ: "كَلَّمْته حَتَّى يَأْمُرَ لِي بِشَيْءٍ"، وَعَلامَتُهَا: أَنْ يَصْلُحَ مَوْضِعَهَا "كَيْ"، وَمِنْهُ: "أَسْلِمْ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ".
"وَقَلَّ" أَنْ تَأْتِيَ "لاسْتِثْنَاءٍ مُنْقَطِعٍ" كَقَوْلِهِ:
لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنْ الْفُضُولِ سَمَاحَةً ... حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ4
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي "الْمُغْنِي": "حَتَّى تَأْتِي لأَحَدِ ثَلاثَةِ مَعَانٍ: "انْتِهَاءُ الْغَايَةِ"، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَ "التَّعْلِيلُ"، وَ "بِمَعْنَى "إلاَّ" فِي الاسْتِثْنَاءِ"، وَهُوَ أَقَلُّهَا.
ـــــــ
1 في ب ع ض: بعضيه.
2 هذا البيت لأبي مروان النحوي، نسبه إليه سيبويه في الكتاب "1/ 50" والبغدادي في خزانة الأدب "1/ 446"، وحكى البغدادي في شرح أبيات المغني "3/ 98" نسبته إليه عن الأخفش، ونَسَبَهُ البعض إلى الملتمس، ونسبه ياقوت في معجم الأدباء "19/ 146" إلى مروان النحوي لا أبي مروان.
وفي هذا البيت وصف الشاعر راكباً جهدت راحلته، فخاف إن تنقطع به، أو كان خائفاً من عدوٍ يطلبه، فخفف رحله بإلقاء ما كان معه من كتاب وزاد ونعل.
3 في ش: ما يستثقله.
4 البيت للمُقَنَّع الكِنْدي، نسبه إليه أبو تمام في الحماسة "شرح الحماسة للمرزوقي ص1734" والسيوطي في شرح شواهد المغني "1/ 372" والبغدادي في شرح أبيات مغني اللبيب "3/ 102".
والمعنى: إن إعطاءك من زيادات مالك لا يعدّ سماحة، إلاّ أن تعطي في حالة قِلّة المال.(1/239)
وَتُسْتَعْمَلُ عَلَى ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حَرْفَ جَرٍّ بِمَنْزِلِهِ "إلَى" فِي الْمَعْنَى [وَالْعَمَلِ]1.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ، إلاَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ. وَذَكَرَهَا.
الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ، أَيْ حَرْفًا تُبْتَدَأُ بَعْدَهُ الْجُمَلُ، أَيْ تُسْتَأْنَفُ"2.
ـــــــ
1 زيادة من مغني اللبيب.
2 مغني اللبيب 1/ 131 وما بعدها.(1/240)
"مِنْ"
"مِنْ" الْجَارَّةُ1 "لابْتِدَاءِ الْغَايَةِ" فِي الْمَكَانِ اتِّفَاقًا. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 2، وَفِي الزَّمَانِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُبَرِّدِ3، وَابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} 4 {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ} 5 {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 6 وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَالِكٍ7، وَأَبُو حَيَّانَ لِكَثْرَةِ شَوَاهِدِهِ.
فَتَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ حَقِيقَةً. وَتَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَانِي مَجَازًا، هَذَا
ـــــــ
1 انظر تفصيل الكلام على مِنْ في "الجنى الداني ص308-321، أوضح المسالك 3/ 21 وما بعدها، رصف المباني ص322-326، الأزهيّة ص293 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 61، الإشارة إلى الإيجاز ص35، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص40، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 362، البرهان 4/ 415-426، مغني اللبيب 1/ 353-363، الاتقان 2/ 247 وما بعدها، التمهيد ص58، الصاحبي ص172، القواعد والفوائد الأصولية ص150 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 244، المفصل ص283".
2 الآية الأولى من سورة الإسراء.
3 هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي البصري، أبو العباس المبرِّد، إمام النحو واللغة. أشهر مصنفاته "الكامل" و "الروضة" و "المقتضب" و "معاني القرآن" و "إعراب القرآن" و "الاشتقاق". توفي سنة 258هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في طبقات النحويين واللغويين ص101، وفيات الإعيان 3/ 441، نور القبس ص324، معجم الأدباء 19/ 111، طبقات المفسرين للداودي 2/ 267، شذرات الذهب 2/ 190، إنباه الرواة 3/ 241، بغية الوغاة 1/ 269، المنتظم 6/ 9".
4 الآية 108 من التوبة.
5 الآية 79 من الإسراء.
6 الآية 4 من الروم.
7 انظر تسهيل الفوائد ص144.(1/241)
قَوْلُ الأَكْثَرِ. وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِي التَّبْعِيضِ1، مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ. وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِي التَّبَيُّنِ2، مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ.
"وَلَهَا" أَيْ وَلِمَنْ "مَعَانٍ" غَيْرِ ذَلِكَ:
- مِنْهَا: التَّعْلِيلُ، نَحْوُ {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ} 3 أَيْ لأَجْلِ الصَّوَاعِقِ.
- وَمِنْهَا: الْبَدَلُ، [نَحْوُ]: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ} 4 {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} 5 أَيْ بَدَلَكُمْ.
- وَمِنْهَا: انْتِهَاءُ الْغَايَةِ، - مِثْلَ "إلَى"- فَتَكُونُ لابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مِنْ الْفَاعِلِ6، وَلانْتِهَاءِ7 غَايَةِ الْفِعْلِ مِنْ الْمَفْعُولِ، نَحْوُ "رَأَيْت الْهِلالَ مِنْ دَارِي مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ" 8 أَيْ مِنْ مَكَانِي إلَى خَلَلِ السَّحَابِ 8. فَابْتِدَاءُ الرُّؤْيَةِ وَقَعَ مِنْ9 الدَّارِ، وَانْتِهَاؤُهَا10 فِي خَلَلِ السَّحَابِ.
ـــــــ
1 نحو "كل من هذا الطعام، والبس من هذه الثياب، وخذ من هذه الدراهم.. الخ" "رصف المباني ص323".
2 نحو "قبضت رطلاً من القمح، وكرّاً من شعير، ونَنَّاً من سمن، وخاتماً من حديد، ومشيت ميلاً من الأرض.. الخ". "رصف المباني ص323".
3 الآية 19 من البقرة.
4 الآية 38 من التوبة.
5 الآية 60 من الزخرف.
6 في ش: الفعل.
7 في ع ض: والانتهاء.
8 ساقطة من ش.
9 في ش: في.
10 في ش: وانتهاؤها وقع.(1/242)
ذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ: أَنَّ سِيبَوَيْهِ أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ وَقَالُوا: هِيَ لابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لَكِنْ فِي حَقِّ1 الْمَفْعُولِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا فِي هَذَا الْمِثَالِ لابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي حَقِّ الْفَاعِلِ، بِتَقْدِيرِ: "رَأَيْت الْهِلالَ مِنْ دَارِي ظَاهِرًا مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ".
- وَمِنْهَا تَنْصِيصُ الْعُمُومِ، وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى نَكِرَةٍ لا تَخْتَصُّ بِالنَّفْيِ، نَحْوُ "مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ" فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ دُخُولِهَا مُحْتَمِلاً لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَلِنَفْيِ الْوَحْدَةِ2. وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ، يَقُولَ3: بَلْ رَجُلانِ. [وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِ "مِنْ"]4.
- وَمِنْهَا: الْفَصْلُ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} 5 وَتُعْرَفُ بِدُخُولِهَا عَلَى ثَانِي الْمُتَضَادَّيْنِ.
- وَمِنْهَا: مَجِيئُهَا بِمَعْنَى "الْبَاءِ". نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} 6. قَالَ يُونُسُ7: أَيْ بِطَرْفٍ.
- وَمِنْهَا مَجِيئُهَا بِمَعْنَى "فِي" نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ
ـــــــ
1 في ش: ابتداء.
2 أي نفي واحد من هذا الجنس، دون ما فوق الواحد. "الجنى الداني ص317".
3 في ض: يقال.
4 زيادة من مغني اللبيب 1/ 358.
5 الآية 220 من البقرة.
6 الآية 45 من الشورى.
7 هو يونس بن حبيب الضبي النحوي البصري, أبو عبد الرحمن, الإمام البارع في النحو والأدب, أشهر مصنفاته كتاب "معاني القرآن" و "اللغات" و "الأمثال" وغيرها. توفي سنة 182 هـ "انظر ترجمته في إنباه الرواة 4/68, بغية الوعاة 2/ 365, شذرات الذهب 1/ 301، طبقات النحويين واللغويين ص51، وفيات الإعيان 6/ 242، المعارف ص541, المزهر 2/ 399, 423, 461, معجم الأدباء 20/ 64".(1/243)
الأَرْضِ} 1. أَيْ فِي الأَرْضِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} 2 بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: "{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} "3.
- "وَمِنْهَا: مَجِيئُهَا بِمَعْنَى "عِنْدَ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى:"4 {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا} 5 وَمِثْلُهُ [قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] "وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ" 6.
- وَمِنْهَا: مَجِيئُهَا بِمَعْنَى "عَلَى"، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} 7 أَيْ عَلَى الْقَوْمِ.
- وَمِنْهَا: مَجِيئُهَا بِمَعْنَى "عَنْ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} 8.
ـــــــ
1 الآية 40 من فاطر.
2 الآية 92 من النساء.
3 ساقطة من ش.
4 ساقطة من ش.
5 الآية 10 من آل عمران.
6 الحديث أخرجه البخاري "1/ 214" ومسلم "1/ 415" وأبو داود "2/ 110" والترمذي "تحفة الأحوذي 2/ 194" والنسائي "3/ 70" عن المغيرة مرفوعاً، وأخرجه مالك في الموطأ "2/ 900" وأحمد في مسنده "4/ 97" عن معاوية بن أبي سفيان مرفوعاً. ونصه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة قال: "الا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ" .
والجَدّ –بفتح الجيم-: هو الغنى. وقيل: هو الخظ. ومعنى "ولا ينفع ذا الجد منك الجَدّ" أي لا ينفع صاحب الحظ في الدنيا من نزول العذاب حظُه وإنما ينفعه العمل الصالح. وقال أبو عبيد: معناه لا ينفع ذا الغنى منه غناه، إنما تنفعه طاعته.
7 الآية 77 من الأنبياء.
8 الآية 22 من الزمر.(1/244)
"إلَى"
"إلَى1: لانْتِهَائِهَا" أَيْ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ 2 عِنْدَ الْجُمْهُورِ 2.
"وَ" تَأْتِي "بِمَعْنَى "مَعَ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ} 3 أَيْ مَعَ اللَّهِ4، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ} 5 أَيْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ6. وَقَوْلُ الْعَرَبِ "الذَّوْدُ إلَى الذَّوْدِ إبِلٌ"7 أَيْ مَعَ الذَّوْدِ.
ـــــــ
1 انظر معاني "إلى" في "مغني اللبيب 1/78 وما بعدها, الجنى الداني ص385-390, الاًزهيًة ص282 وما بعدها, رصف المباني ص80-83, القواعد والفوائد الأصولية ص144-149, المعتمد 1/ 40, الإحكام للآمدي 1/ 62, البرهان 4/ 232-234, أوضح المسالك 3/47. الصاحبي ص132, فواتح الرحموت1/244 وما بعدها, الإتقان 2/ 161 وما بعدها, التمهيد للأسنوي ص59 وما بعدها, شرح تنقيح الفصول ص102 وما بعدها, كشف الأسرار 2/ 177 وما بعدها, المفصل ص283, المسودة ص356 وما بعدها".
2 ساقطة من ش.
3 الآية 52 من آل عمران.
4 روى ذلك الطبري في تفسيره عن السدي وابن جريج واعتمده وقال: "وأنما حَسُنَ أن يقال "إلى الله" بمعنى "مع الله" لأن من شأن العرب إذا ضمّوا الشيء إلى غيره, ثم أرادوا الخبر عنهما بضمّ أحدهما مع الآخر إذا ضُمَّ إليه, جعلوا مكان "مع" "إلى" أحياناً". "انظر تفسير الطبري 3/ 284, تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص571".
5 الآية 2 من النساء.
6 انظر الأزهيّة ص282, رصف المباني ص83, تأويل مشكل القرآن ص571, الصاحبي ص132, المفصل ص283.
7 المثل ورد في معاني القرآن للفراء "1/218" وتأويل مشكل القرآن "ص571" ولسان العرب "3/ 167" وتفسير الطبري "3/ 284" والجنى الداني "ص386" ومغني اللبيب "1/ 78" وغيرها. وهو يضرب في اجتماع القيليل إلى القليل حتى يؤدي إلى الكثير، والذود: هو القطيع من الإبل، من الثلاثة إلى العشرة.(1/245)
وَقَالَ الْحَسَنُ1 وَأَبُو عُبَيْدَةَ: "إلَى" فِي قَوْله تَعَالَى: {مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ} بِمَعْنَى "فِي"، أَيْ: مَنْ أَعْوَانِي فِي ذَاتِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ2.
"وَابْتِدَاؤُهَا" أَيْ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ "دَاخِلٌ" فِي الْمُغَيَّا3 "لا انْتِهَاؤُهَا" وَهُوَ مَا بَعْدَ "إلَى" فَلَوْ قَالَ: "لَهُ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ". لَزِمَهُ4 تِسْعَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، لِدُخُولِ الأَوَّلِ وَعَدَمِ دُخُولِ الْعَاشِرِ.
وَقِيلَ: لا يَدْخُلانِ فَيَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ. وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ الْغَايَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ، "كَالْمَرَافِقِ"5 دَخَلَتْ، وَإِلاَّ فَلا تَدْخُلُ كَـ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} 6.
ـــــــ
1 هو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، إمام أهل البصرة المجمع على جلالته في كل فن، وهو من سادات التابعين وفضلائهم، جمع العلم والزهد والورع والعبادة، أشهر كتبه "تفسير القرآن". توفي سنة 110هـ. "انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي 1/ 147، وفيات الأعيان 1/ 354، شذرات الذهب 1/ 136، المعارف ص440، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 161، صفة الصفوة 3/ 233".
2 نقل المصنف عن الحسن وأبي عبيدة فيه دمج للقولين معاً، لأن قول أبي عبيدة في قوله سبحانه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي من أعواني في ذات الله. ذكره في كتابه "مجاز القرآن" "1/ 94" وحكاه عنه أبو حيان في "البحر المحيط" "2/ 471". أما الحسن فقد نقل إبو حيان عنه أنه قال في الآية: أي من أنصاري في السبيل إلى الله. "البحر المحيط 2/ 471".
3 في ش: المعنى.
4 ساقطة من ض.
5 أي في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة 6].
6 الآية 187 من البقرة.(1/246)
"عَلَى"
"عَلَى"1 أَشْهَرُ مَعَانِيهَا أَنْ تَكُونَ "لاسْتِعْلاءٍ" سَوَاءٌ كَانَ ذَاتِيًّا2. نَحْوُ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}3 أَوْ مَعْنَوِيًّا نَحْوُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} 4.
"وَ" تَكُونُ أَيْضًا "هِيَ لِلإِيجَابِ" عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي "فُرُوعِهِ" - فِي بَابِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ - : "وَ "عَلَى" ظَاهِرَةٌ فِي الْوُجُوبِ"5.
"وَلَهَا مَعَانٍ" غَيْرُ ذَلِكَ.
- أَحَدُهَا: التَّفْوِيضُ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي "النَّهْرِ" فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 6: "إذَا عَقَدْت قَلْبَك عَلَى أَمْرٍ بَعْدَ الاسْتِشَارَةِ، فَاجْعَلْ تَفْوِيضَك فِيهِ إلَى اللَّهِ"7.
- الثَّانِي: الْمُصَاحَبَةُ8: نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} 9.
ـــــــ
1 انظر معاني "على" في "الجنى الداني ص470-480، مغني اللبيب 1/ 152-157، الأزهيّة ص285-288، رصف المباني ص371 وما بعدها، الصاحبي ص156، الإشارة إلى الإيجاز ص34، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص39، تأويل مشاكل القرآن ص573، 587، معترك الإقران 2/ 201 وما بعدها، البرهان 4/ 284 وما بعدها، أوضح المسالك 3/ 40 وما بعدها، الإتقان 2/ 201 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 63، كشف الأسرار 2/ 173 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 243، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 347، المفصل ص287".
2 أي حسيّاً.
3 الآية 44 من هود.
4 الآية 45 من المائدة.
5 الفروع 2/ 554.
6 الآية 159 من آل عمران.
7 تفسير النهر 3/ 99.
8 إي كـ "مَعْ". "انظر مغني اللبيب 1/ 153، معترك الأقران 2/ 670".
9 الآية 177 من البقرة.(1/247)
الثَّالِثُ: الْمُجَاوَزَةُ1 نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا2
أَيْ: إذَا رَضِيَتْ عَنِّي.
الرَّابِعُ: التَّعْلِيلُ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 3 أَيْ: لِهِدَايَتِكُمْ.
الْخَامِسُ: الظَّرْفِيَّةُ4، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} 5 6 أَيْ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ 6.
السَّادِسُ: الاسْتِدْرَاكُ، كَقَوْلِك7: "فُلانٌ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِسُوءِ صُنْعِهِ، عَلَى أَنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" أَيْ لَكِنْ لا يَيْأَسُ.
السَّابِعُ: الزِّيَادَةُ، نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ8".
ـــــــ
1 أي كـ "عَنْ". "مغني اللبيب 1/ 153، المحلي على جمع الجوامع 1/ 347". وفي ع: للمجاوزة.
2 البيب للقُحَيْف العقيلي، نسبه له الجواليقي في شرح أدب الكاتب "شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 232" والسيوطي في شرح شواهد المغني "1/ 416" والبغدادي في خزانة الأدب "4/ 249" والهروي في الأزهيّة "ص287" وغيرهم.
3 الآية 185 من البقرة.
4 أي كـ "في". "معترك الأقران 2/ 670".
5 الآية 102 من البقرة.
6 ساقطة من ش.
7 في ش ض: كقوله.
8 رواه عديّ بن حاتم وأبو هريرة وعبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه" . إخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد في مسنده وغيرهم. "انظر صحيح البخاري 8/ 159، صحيح مسلم 3/ 1272، سنن ابن ماجة 1/ 681، مسند أحمد 4/ 256، سنن الدارمي 2/ 186، نيل الأوطار 8/ 267 وما بعدها، كشف الخفا 2/ 247".(1/248)
أَيْ1 يَمِينًا.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ: فَفِي "عَلَى" أَرْبَعَةُ مَذَاهِبُ2.
أَحَدُهَا - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ - : أَنَّهَا حَرْفٌ، إلاَّ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ جَرٍّ. فَتَكُونُ اسْمًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظَمَؤُهَا3
الثَّانِي - وَبِهِ قَالَ الأَخْفَشُ - : أَنها4 تَكُونَ اسْمًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورُهَا وَفَاعِلُ مُتَعَلَّقِهَا ضَمِيرَيْنِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك} 5.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا اسْمٌ دَائِمًا عِنْدَ ابْنِ طَاهِرٍ6 وَابْنِ خَرُوفٍ7 وَابْنِ
ـــــــ
1 في ض: أي من حلف.
2 انظر شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 266 وما بعدها.
3 هذا صدر بيت لمزاحم العقيلي يصف فيه القطا، نسبه له ابن منظور في اللسان "11/ 383" وابن السيد البطليوسي في الاقتضاب "ص428" والعيني في شرح شواهد شروح الألفية "3/ 301" والبغدادي في شرح أبيات المغني "3/ 267" وجزانة الأدب "4/ 255"، وحكى نسبته إليه السيوطي في شرح شواهد المغني "1/ 426"، وعجزه:
تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِبيْدَاءَ مَجْهَلِ
4 في ش: أن.
5 الآية 37 من الآحزاب.
6 هو محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي، أبو بكر، المعروف بالخِدَبّ. والخِدَبّ: هو الرجل الطويل. وقد كان من حذاق النحويين وأئمتهم، وعليه تتلمذ ابن خروف. توفي في حدود 580هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/ 28، إنباه الرواة 4/ 188".
7 هو علي بن محمد بن علي، نظام الدين، أبو الحسن بن خَرُوف الأندلسي النحوي، كان إماماً في العربية، ماهراً في الأصول، أشهر مصنفاته "شرح كتاب سيبويه" و "شرح الجمل" وفي سنة 609هـ وقيل غير ذلك. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/ 203، إنباه الرواة 4/ 186،وفيات الأعيان 3/ 22".(1/249)
الطَّرَاوَةِ1 وَالشَّلُوبِينَ2 وَالآمِدِيِّ وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ3.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا حَرْفٌ دَائِمًا. وَبِهِ قَالَ السِّيرَافِيُّ4: وَتُقَدَّرُ5 بِحَرْفِ جَرٍّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَجْرُورٌ مَحْذُوفٌ.
ـــــــ
1 هو سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي، أبو الحسين بن الطَّرَاوة، النحوي الماهر، والأديب البارع، والشاعر المجيد. قال السيوطي: "له آراء في النحو تفرد بها وخالف فيها جمهور النحاة" توفي سنة 528هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/ 602، إنباه الرواة 4/ 107".
2 هو عمر بن محمد بن عبم الأندلسي، أبو علي الأزدي الإشبيلي النحوي، إمام العربية في عصره. والشلوبين تعني بلغة الأندلس: الأبيض الأشقر. من كتبه "تعليق على كتاب سيبويه" و "شرحان على الجزولية" و "التوطئة" في النحو. توفي سنة 645هـ. "انظر ترجمته في إنباه الرواة 2/332، بغية الوعاة 2/ 224، شذرات الذهب 5/ 232، وفيات الأعيان 3/ 123".
3 انظر الكتاب لسيبويه 2/ 310.
4 هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد السيرافي القاضي، النحوي الفقيه العلامة، أشهر مصنفاته "شرح كتاب سيبويه" و "أخبار النحويين البصريين" و "الوقف والابتداء" و "شرح مقصورة ابن دريد". توفي سنة 638هـ. "انظر ترجمته في معجم الأدباء 8/ 145-233، المنتظم 7/ 95، بغية الوعاة 1/ 507، وفيات الأعيان 1/ 360، طبقات النحويين واللغويين ص119، إنباه الرواة 1/ 313، شذرات الذهب 3/ 65".
5 ساقطة من ش.(1/250)
"فِي"
"فِي"1 تَكُونُ "لِظَرْفٍ" زَمَانًا وَمَكَانًا مِثَالُهُمَا قَوْله تَعَالَى: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} 2، فَالأُولَى: لِلْمَكَانِ، وَالثَّانِيَةُ: لِلزَّمَانِ.
وَقَدْ يَكُونُ الظَّرْفُ وَمَظْرُوفُهُ جِسْمَيْنِ، كَقَوْلِك "زَيْدٌ فِي الدَّارِ". وَقَدْ يَكُونَانِ مَعْنَيَيْنِ، كَقَوْلِك: "الْبَرَكَةُ فِي الْقَنَاعَةِ". وَقَدْ يَكُونُ الظَّرْفُ جِسْمًا، وَالْمَظْرُوفُ مَعْنًى كَقَوْلِك: "الإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ"، وَعَكْسُهُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} 3.
"وَهِيَ بِمَعْنَاهُ" أَيْ وَهِيَ لِلظَّرْفِيَّةِ "عَلَى قَوْلٍ" أَبِي4 الْبَقَاءِ5. وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ6 "فِي" قَوْله تَعَالَى: {وَلأَصْلُبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 7.
ـــــــ
1 انظر معاني "في" في "نهاية السول 1/ 376 وما بعدها، الجنى الداني ص250-253، رصف المباني ص388-391، الأزهيّة ص277-282، مغني اللبيب 1/ 182 وما بعدها، أوضح المسالك 3/ 38 وما بعدها، البرهان 4/ 302 وما بعدها، تأويل مشكل القرآن ص567، الإشارة إلى الإيجاز ص31 وما بعدها، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص37 وما بعدها، الصاحبي ص157، شرح تنقيح الفصول ص103، الإحكام للآمدي 1/ 62، التمهيد ص60، القواعد والفوائد الأصولية ص149 وما بعدها، الإتقان 2/ 211 وما بعدها، كشف الأسرار 2/ 181 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 348 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 247 وما بعدها، المفصّل ص284، معترك الأقران 3/ 170 وما بعدها".
2 الآية 1-4 من الروم.
3 الآية 19 من البروج.
4 في ش: لأبي.
5 إملاء ما مَنْ به الرحمن 2/ 124.
6 في ش: النحويين.
7 الآية 71 من طه.(1/251)
وَجَعَلَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ1 وَالْبَيْضَاوِيُّ: لِلظَّرْفِ مَجَازًا2. كَأَنَّ الْجِذْعَ صَارَ ظَرْفًا لِلْمَصْلُوبِ. لَمَّا تَمَكَّنَ عَلَيْهِ تَمَكَّنَ3 الْمَظْرُوفُ مِنْ الظَّرْفِ4.
وَقَالَ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ: هِيَ بِمَعْنَى "عَلَى"، كَقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَابْنِ مَالِكٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} 5 أَيْ عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} 6 أَيْ: عَلَيْهَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 7 أَيْ عَلَى السَّمَاءِ.
"وَ" تَأْتِي "فِي" "لاسْتِعْلاءٍ" وَتَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ8.
"وَتَعْلِيلٍ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} 9 أَيْ لأَجْلِهِ.
ـــــــ
1 هو محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري، جار الله، أبو القاسم، علاّمة التفسير والحديث والنحو واللغة والبيان، صاحب المصنفات الحسان في الفنون المختلفة. أشهر كتبه "الكشاف" في التفسير و "الفائق" في غريب الحديث و "أساس البلاغة" في اللغة و "المفصّل" في النحو و "المستقصى" في الأمثال و "المنهاج" في الأصول و "معجم الحدود" وغيرها. توفي سنة 538هـ. "انظر ترجمته في وفيات الأعيان 4/ 254 وما بعدها، طبقات المفسرين للداودي 2/ 314 وما بعدها، بغية الوعاة 2/ 279، إنباه الرواة 3/ 265، المنتظم 10/ 112، شذرات الذهب 4/ 118، معجم الأدباء 19/ 126 وما بعدها".
2 في ش: مجاز.
3 ساقطة من ش.
4 انظر المفصّل للزمخشري ص284 ومنهاج الوصول للبيضاوي مع شرحه نهاية السول 1/ 375.
5 الآية 38 من الطور.
6 الآية 11 من الأنعام.
7 الآية 16 من الملك.
8 نحو قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه 71] وما إلى ذلك. "انظر مغني اللبيب 1/ 183".
9 الآية 32 من يوسف.(1/252)
وَمِنْهُ: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وَأَنْكَرَهُ الرَّازِيّ وَالْبَيْضَاوِيُّ2.
"وَ" تَأْتِي "فِي" أَيْضًا "سَبَبِيَّةً" كَقَوْلِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]: "فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ3 مِائَةٌ" 4 وَ "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ" 5 أَيْ بِسَبَبِ هِرَّةٍ6.
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا لِـ "مُصَاحَبَةٍ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} 7 {اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} 8 أَيْ مَعَهُمْ مُصَاحِبِينَ.
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا لِـ "تَوْكِيدٍ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} 9 إذْ الرُّكُوبُ يُسْتَعْمَلُ بِدُونِ "فِي" فَهِيَ مَزِيدَةٌ تَوْكِيدًا.
ـــــــ
1 الآية 14 من النور.
2 انظر النهاج للبيضاوي وشرحه للأسنوي 1/ 375، 377.
3 في ش: المؤمنة نحر.
4 الحديث قطعه من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع عمرو بن حزم إلى أهل اليمن، وبيّن فيه الفرائض والسنن والديات، ولفظه "وأنَّ في النفس الديَةَ مائة من الإبل". وقد أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود في المراسيل والنسائي وابن حبان وعبد الرزاق والحاكم والبيهقي والدارقطني وأحمد وابن خزيمة وابن الجارود. قال الحاكم: إسناده صحيح، وهو من قواعد الإسلام. وقال أحمد بن حنبل: كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح. "انظر نصب الراية 2/ 339-342، سنن البيهقي 8/ 73، موطأ مالك 2/ 849، نيل الأوطار 7/ 65، سبيل السلام 3/ 245".
5 الحديث أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد في مسنده عن أبي هريرة مرفوعاً، وأخرجه الدارمي والبخاري أيضاً عن ابن عمر مرفوعاً. "انظر صحيح البخاري 4/ 157، صحيح مسلم 4/ 2110، سنن ابن ماجة 2/ 1421، مسند أحمد 2/ 269، سنن الدارمي 2/ 331، كشف الخفا 1/ 403".
6 في ش: مصاحبة.
7 الآية 79 من القصص.
8 الآية 28 من الأعراف.
9 الآية 41 من هود.(1/253)
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا لِـ "تَعْوِيضٍ" وَهِيَ الزَّائِدَةُ عِوَضًا عَنْ أُخْرَى مَحْذُوفَةٍ. كَقَوْلِهِ: "رَغِبْتُ فِيمَنْ رَغِبْتُ"، أَيْ فِيهِ.
"وَ" تَأْتِي "فِي" "بِمَعْنَى الْبَاءِ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} 1 أَيْ يُلْزِمُكُمْ2 بِهِ.
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى "إلَى" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} 3 أَيْ إلَيْهَا غَيْظًا.
"وَ" بِمَعْنَى "مِنْ" الْجَارَّةِ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ4:
وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ أَحْدَثُ عَهْدِهِ ... ثَلاثِينَ شَهْرًا5 فِي ثَلاثَةِ أَحْوَالِ6
أَيْ مِنْ ثَلاثَةِ أَحْوَالٍ.
ـــــــ
1 الآية 11 من الشورى.
2 كذا في الأصول الخطية كلها، وليس بصواب. والصواب قول ابن هشام في "المغني" والمرادي في "الجنى الداني" والحلي في "شرح جمع الجوامع" حيث قالوا: إن معناها "يكثّركم به"، حيث أن سياق الآية {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} . "انظر المحلي على جمع الجوامع 1/ 349، مغني اللبيب 1/ 183، الجنى الداني ص251".
3 الآية 9 من إبراهيم.
4 هو أمرؤ القيس بن حُجْر بن عمرو الكِنْدي، الشاعر الجاهلي المشهور، الملقب بذي القروح. قال ابن خالوية: لأن قيصر أرسل إليه حلة مسمومة، فلما لبسها أسرع السُمّ إليه، فتثقب لحمه، فسمي ذا القروح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: "هو قائد الشعراء إلى النار". "انظر ترجمته في الشعر والشعراء 1/ 52-86، تهذيب الأساء واللغات 1/ 125، المزهر 2/ 443".
5 في ش: حولاً.
6 البيت لامرئ القيس مروي في ديوانه ص27، ونسبه له البغدادي في "شرح شواهد المغني" "4/ 79" والمرادي في "الجنى الداني" ص252. ومعناه: كيف ينعم من كان أقرب عهده بالرفاهية والنعيم ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال! قاله الأصمعي وابن السكيت.(1/254)
"اللاَّمُ"
"وَ" تَأْتِي "اللاَّمُ" الْجَارَّةُ1 "لِلْمِلْكِ حَقِيقَةً، لا يُعْدَلُ عَنْهُ" أَيْ عَنْ الْمِلْكِ إلاَّ بِدَلِيلٍ. قَالَهُ أَبُو2 الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي "التَّمْهِيدِ".
"وَلَهَا مَعَانٍ كَثِيرَةٌ3":
أَحَدُهَا: التَّعْلِيلُ4. نَحْوُ "زُرْتُك لِشَرَفِكَ"، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} 5، وَقَوْلِهِ: "أَنْتِ طَالِقٌ لِرِضَى زَيْدٍ"، فَتَطْلُقُ فِي الْحَالِ، رَضِيَ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَرْضَ، لأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لا تَعْلِيقٌ.
الثَّانِي: الاسْتِحْقَاقُ6، نَحْوُ: "النَّارُ لِلْكَافِرِينَ".
الثَّالِثُ: الاخْتِصَاصُ7، نَحْوُ "الْجَنَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ".
وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الاسْتِحْقَاقِ وَالاخْتِصَاصِ، بِأَنَّ الاسْتِحْقَاقَ8 أَخَصُّ. فَإِنَّ
ـــــــ
1 انظر معاني اللام في "الجنى الداني ص95-139، معترك الأقران 2/ 239-243، الأزهيّة ص298 وما بعدها، تسهيل الفوائد ص145، اللامات لابن فارس ص15-26، رصف المباني ص218-256، تأويل مشكل القرآن ص569-572، مغني اللبيب 1/ 228-261، المفصّل ص286-326 وما بعدها، الإتقان 2/ 224-227، البرهان 4/339-350، أوضح المسالك 3/ 29-35، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 350 وما بعدها، الصاحبي ص112-116، شرح تنقيح الفصول ص103 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/62".
2 في ش: ابن.
3 ساقطة من ش.
4 وهي التي يصلح موضعها "من أجل". "البرهان 4/ 340".
5 الآية 105 من النساء.
6 قال ابن هاشم: "وهي الواقعة بين معنى وذات". "مغني اللبيب 1/ 228".
7 ومعناه أنها تدلّ على أن بين الأول والثاني نسبة باعتبار ما دَلَّ عليه متعَلَّقُهُ. "البرهان 4/ 339".
8 كذا في شرح تنقيح الفصول. وفي الأصول الخطية كلها: الاختصاص.(1/255)
ضَابِطَهُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْعَادَةُ، كَمَا شَهِدَتْ لِلْفَرَسِ بِالسَّرْجِ، وَبِالْبَابِ1 لِلدَّارِ. وَقَدْ يَخْتَصُّ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ عَادَةً، نَحْوُ: "هَذَا ابْنٌ لِزَيْدٍ". فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ2.
الرَّابِعُ: لامُ الْعَاقِبَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا فَاللاَّمُ الصَّيْرُورَةِ، وَبِلامِ الْمَآلِ نَحْوُ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 3.
الْخَامِسُ: التَّمْلِيكُ. نَحْوُ: "وَهَبْت لِزَيْدٍ دِينَارًا". وَمِنْهُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} 4.
السَّادِسُ: شِبْهُ الْمِلْكِ. نَحْوُ: {وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} 5.
السَّابِعُ: تَوْكِيدُ النَّفْيِ، أَيُّ نَفْيٍ كَانَ، نَحْوُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} 6، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا فَاللاَّمُ الْجُحُودِ، لِمَجِيئِهَا بَعْدَ نَفْيٍ؛ لأَنَّ الْجَحْدَ هُوَ نَفْيُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ7.
الثَّامِنُ: لِمُطْلَقِ التَّوْكِيدِ. وَهِيَ الدَّاخِلَةُ لِتَقْوِيَةِ عَامِلٍ ضَعِيفٍ بِالتَّأْخِيرِ. نَحْوُ: {إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} 8 الأَصْلُ: تَعْبُرُونَ الرُّؤْيَا، أَوْ لِكَوْنِهِ فَرْعًا فِي الْعَمَلِ نَحْوُ: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 9 وَهَذَانِ مَقِيسَانِ.
ـــــــ
1 كذا في شرح تنقيح الفصول. وفي الأصول الخطية كلها: الباب.
2 شرح تنقيح الفصول ص104.
3 الآية 8 من القصص.
4 الآية 60 من التوبة.
5 الآية 72 من النحل.
6 الآية 33 من الأنفال.
7 قال الزركشي: "وضابطها أنها لو سقطت تمَّ الكلام بدونها، وإنما ذكرتْ توكيداً لنفي الكون". "البرهان 4/ 344"
8 الآية 43 من يوسف.
9 الآية 16 من البروج.(1/256)
وَرُبَّمَا أَكَّدَ بِهَا1 بِدُخُولِهَا عَلَى الْمَفْعُولِ "نَحْوُ {رَدِفَ لَكُمْ}" 2. وَلَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ زِيَادَةَ اللاَّمِ، وَتَابَعَهُ الْفَارِسِيُّ3.
التَّاسِعُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى "إلَى" نَحْوُ: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} 4 {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 5.
الْعَاشِرُ: التَّعْدِيَةُ، نَحْوُ "مَا أَضْرِبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو". وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ مَالِكٍ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا} 6. وَقِيلَ: إنَّهَا تُشْبِهُ الْمِلْكَ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: بِمَعْنَى "عَلَى" نَحْوُ: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} 7، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَرْمَلَةَ8 عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلاءَ" 9 أَنَّ الْمُرَادَ: عَلَيْهِمْ.
ـــــــ
1 في ض: بهما.
2 الآية 72 من النمل، وهي ساقطة من ش.
3 هو الحسن بن احمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي النحوي، إمام عصره في علوم العربية. أشهر مصنفاته "الإيضاح" في النحو و "التذكرة" و "المقصور والممدود" و "الحجة في القراءات" توفي سنة 377هـ. "انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 361 وما بعدها، معجم الادباء 7/ 232 وما بعدها، إنباه الرواة 1/ 273 وما بعدها، شذرات الذهب 3/ 88، المنتظم 7/ 138، بغية الوعاة 1/ 496".
4 الآية 57 من الأعراف.
5 الآية 5 من الزلزلة.
6 الآية 5 من مريم.
7 الآية 107 من الإسراء.
8 هو حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبي المصري، أبو عبد الله، وقيل أبو حفص، صاحب الإمام الشافعي وأحد رواة كتبه، كان إماماً حافظاً للحديث والفقه، صنف المبسوط والمختصر، وروى عنه مسلم في صحيحه وابن ماجة وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وغيرهم. توفي سنة 243هـ. "انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 1/ 155، شذرات الذهب 2/ 103، وفيات الأعيان 1/ 353، طبقات الشافعية للسبكي 2/ 127 وما بعدها".
9 الحديث ورد في قصة بريرة لما أرادت عائشة أن تشتريها فتعتقها، إذا اشترط أهلها أن يكون =(1/257)
الثَّانِي عَشَرَ: بِمَعْنَى "فِي" نَحْوُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 1.
الثَّالِثَ عَشَرَ: بِمَعْنَى "عِنْدَ" أَيْ الْوَقْتِيَّةِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" 2. وَمِنْهُ قَوْلُهُ3: "كَتَبْتُهُ لِخَمْسِ لَيَالٍ مِنْ كَذَا" أَيْ عِنْدَ انْقِضَائِهَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ4: وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 5، {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْت لِحَيَاتِي} 6.
الرَّابِعَ عَشَرَ: بِمَعْنَى "مِنْ" نَحْوُ "سَمِعْت لَهُ صُرَاخًا" أَيْ مِنْهُ.
ـــــــ
= الولاء لهم، فرفضت عائشة شراءها على هذا الشرط، فقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: "خذيها واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن إعتق" ففعلت عائشة ذلك، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس فقال: "أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرطه أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق" . أخرجه البخاري والترمذي والبيهقي والشافعي في الأم عن عائشة، واللفظ للبيهقي والشافعي. "انظر صحيح البخاري 3/ 250، تحفة الأحوذي 4/ 468، سنن البيهقي 10/ 295، الأم 4/ 126، أقضية النبي صلى الله عليه وسلم للقرطبي ص102".
1 الآية 47 من الأنبياء.
2 رواه أبو هريرة وابن عمر وابن عباس والبراء بن عازب مرفوعاً، وأخرجه البخاري مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأحمد في مسنده. "انظر صحيح البخاري 3/ 35، صحيح مسلم 2/ 759، تحفة الأحوذي 3/ 369، سنن النسائي 4/ 132، سنن ابن ماجة 1/ 530، كشف الخفا 2/ 33، نصب الراية 2/ 437".
3 في ش: قولك.
4 انظر الكشاف 1/ 686، 4/ 600.
5 الآية 78 من الإسراء.
6 الآية 24 من الفجر.(1/258)
الْخَامِسَ عَشَرَ: بِمَعْنَى "عَنْ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إلَيْهِ} 1 أَيْ قَالُوا عَنْهُمْ ذَلِكَ.
وَضَابِطُهَا: أَنْ تَجُرَّ اسْمَ مَنْ غَابَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا عَنْ قَوْلِ قَائِلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَا بَعْدَ الْقَوْلِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ دَلالَةَ حَرْفٍ عَلَى مَعْنَى حَرْفٍ: هُوَ طَرِيقُ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ: فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى تَضْمِينِ2 الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ ذَلِكَ الْحَرْفُ 3 مَا يَصْلُحُ مَعَهُ مَعْنَى ذَلِكَ الْحَرْفِ 3 عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَرَوْنَ التَّجَوُّزَ فِي الْفِعْلِ أَسْهَلَ مِنْ التَّجَوُّزِ فِي الْحَرْفِ.
ـــــــ
1 الآية 11 من الأحقاف.
2 في ش: تضمن.
3 ساقطة من ش.(1/259)
"بَلْ"
"بَلْ"1 تَأْتِي "لِعَطْفٍ وَإِضْرَابٍ، إنْ وَلِيَهَا مُفْرَدٌ فِي إثْبَاتٍ" نَحْوُ: "جَاءَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو"، وَ "أَكْرِمْ زَيْدًا بَلْ عَمْرًا" "فَتُعْطَى حُكْمَ مَا قَبْلَهَا" وَهِيَ مَجِيءُ زَيْدٍ فِي الْمِثَالِ الأَوَّلِ، وَإِكْرَامُ زَيْدٍ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي "لِمَا بَعْدَهَا" أَيْ2 بَعْدَ "بَلْ" فِي الْمِثَالَيْنِ، وَهُوَ عَمْرٌو.
"وَ" إنْ وَلِيَهَا مُفْرَدٌ "فِي نَفْيٍ" نَحْوُ "مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو"، وَ "لا تَضْرِبْ زَيْدًا بَلْ عَمْرًا" "فَـ" إنَّهَا "تُقَرِّرُ" حُكْمَ "مَا قَبْلَهَا" وَهُوَ نَفْيُ قِيَامِ زَيْدٍ فِي الْمِثَالِ الأَوَّلِ، وَالنَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ زَيْدٍ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي "وَ" تُقَرِّرُ "ضِدَّهُ" أَيْ ضِدَّ حُكْمِ مَا قَبْلَهَا "لِمَا بَعْدَهَا".
هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ [وَابْنُ] عَبْدِ الْوَارِثِ3، وَتِلْمِيذُهُ4
ـــــــ
1 انظر معاني "بل" في "البرهان 4/ 258-260، معترك الأقران 1/ 637 وما بعدها، مغني اللبيب 1/ 119 وما بعدها، الإتقان 2/ 185 وما بعدها، الجنى الداني ص235 وما بعدها، رصف المباني ص153-157، الأزهيّة ص228-231، تأويل مشكل القرآن ص536، المفصل ص305، فواتح الرحموت 1/ 236 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص109 وما بعدها، الصاحبي ص145 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع 1/ 343 وما بعدها، كشف الأسرار 2/135 وما بعدها".
2 في ش: أي لما.
3 هو محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الوارث، أبو الحسين الفارسي النحوي، ابن اخت أبي علي الفارسي وتلميذه، وإمام النحو من بعده، أشهر تصانيفه "كتاب الهجاء" و "كتاب الشعر". توفي سنة 421هـ. "انظر ترجمته في إنباه الرواة 3/ 116، بغية الوعاة 1/ 94، معجم الادباء 18/ 186".
4 في ش: وتلميذ.(1/260)
الْجُرْجَانِيُّ1 - مَعَ ذَلِكَ- أَنْ تَكُونَ نَاقِلَةً الْحُكْمَ2 الأَوَّلِ لِمَا بَعْدَهَا، كَمَا فِي الإِثْبَاتِ وَمَا فِي حُكْمِهِ. فَيُحْتَمَلُ عِنْدَهُمْ فِي نَحْوِ: "مَا قَامَ عَمْرٌو، بَلْ زَيْدٌ"، وَفِي: "لا تَضْرِبْ زَيْدًا، بَلْ عَمْرًا" أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ "لا تَضْرِبْ عَمْرًا" أَيْضًا.
"وَ" لا تَكُونُ "بَلْ" عَاطِفَةً إنْ وَقَعَتْ "قَبْلَ جُمْلَةٍ" وَإِنَّمَا تَكُونُ "لابْتِدَاءٍ وَإِضْرَابٍ" وَهُوَ ضَرْبَانِ:
- ضَرْبٌ "لإِبْطَالِ" الْحُكْمِ السَّابِقِ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} 3. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} 4.
- وَالضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ "أَوْ انْتِقَالٍ" أَيْ إضْرَابٌ لانْتِقَالٍ مِنْ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ الأَوَّلِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} 5 وقَوْله6 تَعَالَى: {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا
ـــــــ
1 هو عبد القاهر بن عبد الرحمن، أبو بكر الجرجاني الشافعي النحوي، الإمام المشهور، أخذ عن أبي الحسين بن عبد الوارث ابن اخت أبي علي الفارسي ولم يأخذ عن غيره، وكان من كبار أئمة العربية والبيان، أشهر كتبه "إعجاز القرآن" و "المقتصد في شرح الإيضاح" و "الجمل" وغيرها. توفي سنة 471هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/ 106، إنباه الرواة 2/188، شذرات الذهب 3/ 340، طبقات الشافعية للسبكي 5/ 149، الوافي بالوفيات 1/ 612، طبقات المفسرين للداودي 1/ 320".
2 في ش: حكم.
3 الآية 70 من المؤمنون.
4 الآية 26 من الأنبياء.
5 الآيتان 62، 63 من المؤمنون.
6 في ش: وقال.(1/261)
عَمُونَ} 1. فَفِي هَذِهِ الأَمْثِلَةِ لَمْ تُبْطِلْ شَيْئًا مِمَّا سَبَقَ، وَإِنَّمَا فِيهِ انْتِقَالٌ 2 مِنْ خَبَرٍ عَنْهُمْ 2 إلَى خَبَرٍ آخَرَ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الإِضْرَابَ الانْتِقَالِيَّ قَطْعٌ لِلْخَبَرِ لا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ مَالِكٍ: أَنَّ هَذِهِ عَاطِفَةٌ أَيْضًا، لَكِنْ جُمْلَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ3 وَصَرَّحَ بِهِ وَلَدُهُ4 فِي "شَرْحِ الأَلْفِيَّةِ".
ـــــــ
1 الآية 66 من النمل.
2 في ش: عنهم من خبر.
3 انظر تسهيل الفوائد ص177.
4 وولد ابن مالك هذا: هو محمد بن محمد بن عبد الله، بدر الدين بن مالك. قال الصفدي: "كان إماماً فهماً ذكياً حادّ الخاطر إماماً في النحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والمنطق، جيد المشاركة في الفقه والأصول". أشهر مصنفاته "شرح ألفية والده" و "شرح كافيته" وشرح الحاجبية. توفي سنة 686هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/ 225، شذرات الذهب 5/ 398، طبقات الشافعية للسبكي 8/ 98". و كلمة "ولده" ساقطة من ش.(1/262)
"أَوْ"
"أَوْ"1 حَرْفُ عَطْفٍ، وَتَأْتِي "لِشَكٍّ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} 2 وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ "إمَّا" الَّتِي لِلشَّكِّ: أَنَّ الْكَلامَ مَعَ "إمَّا" لا يَكُونُ إلاَّ مَبْنِيًّا عَلَى الشَّكِّ، بِخِلافِ "أَوْ" فَقَدْ يَبْنِي الْمُتَكَلِّمُ كَلامَهُ عَلَى الْيَقِينِ، ثُمَّ يُدْرِكُهُ الشَّكُّ.
"وَ" تَأْتِي لِـ "إبْهَامٍ" وَيُعَبَّرُ عَنْهُ3 أَيْضًا بِالتَّشْكِيكِ، نَحْوُ "قَامَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو". إذَا عَلِمْت الْقَائِمَ مِنْهُمَا. وَلَكِنْ قَصَدْت الإِيهَامَ عَلَى الْمُخَاطَبِ. فَهَذَا تَشْكِيكٌ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِبْهَامٌ مِنْ جِهَةِ السَّامِعِ.
"وَ" تَأْتِي "أَوْ"4 أَيْضًا5 لِـ "إبَاحَةٍ" نَحْوُ "جَالِسْ الْحَسَنَ، أَوْ ابْنَ سِيرِينَ".
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا لِـ "تَخْيِيرٍ" نَحْوُ6 "خُذْ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا". وَمِنْهُ "تَزَوَّجْ هِنْدًا أَوْ أُخْتَهَا". وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
ـــــــ
1 انظر معاني "أو" في "معترك الأقران 1/ 612-615، الجنى الداني ص227-232، رصف المباني ص131-134، كشف الأسرار 2/ 143 وما بعدها، تأويل مشكل القرآن ص543 وما بعدها، الأزهيّة ص115-130، مغني اللبيب 1/ 64-71، الإتقان 2/ 175-178، المحلي على جمع الجوامع 1/ 336 وما بعدها، البرهان 4/ 209-214، الصاحبي ص127 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص105، فواتح الرحموت 1/ 238 وما بعدها، المفصل ص204 وما بعدها".
2 الآية 113 من المؤمنون.
3 في ز: عنها.
4 ساقطة من ش ع.
5 ساقطة من ع.
6 ساقطة من ز.(1/263)
مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1 وَحَدِيثِ الْجُبْرَانِ: "فِي الْمَاشِيَةِ شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا"2.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: امْتِنَاعُ الْجَمْعِ فِي التَّخْيِيرِ، وَجَوَازُهُ فِي الإِبَاحَةِ.
"وَ" تَأْتِي "أَوْ"3 أَيْضًا لِـ "مُطْلَقِ جَمْعٍ"4 كَالْوَاوِ نَحْوُ5 قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} 6 عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ.
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا لِـ "تَقْسِيمٍ" نَحْوُ "الْكَلِمَةُ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ حَرْفٌ". وَعَبَّرَ عَنْهُ ابْنُ مَالِكٍ بِالتَّفْرِيقِ7. وَقَالَ: "إنَّهُ أَوْلَى مِنْ لَفْظِ التَّقْسِيمِ".
"وَ" تَأْتِي "أَوْ" أَيْضًا "بِمَعْنَى إلَى" نَحْوُ "لأَلْزَمَنَّك أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي".
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى "إلاَّ" نَحْوُ "لأَقْتُلَنَّ الْكَافِرَ أَوْ يُسْلِمَ"، أَيْ إلاَّ
ـــــــ
1 الآية 89 من المائدة.
2 هذا جزء من حديث طويل رواه أنس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعاً في بيان زكاة المواشي. وقد أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي والشافعي، وصححه ابن حبان والدارقطني وغيرهما. قال ابن حزم: هذا كتاب في نهاية الصحة، عمل به الصديق بحضرة العلماء، ولم يخالفه أحد. "انظر نيل الأوطار 4/ 140، سنن أبي داود 1/ 359، صحيح البخاري بحاشية السندي 1/ 251، مستدرك الحاكم 1/ 360، سنن البيهقي 4/ 100، سنن النسائي 5/ 13".
3 ساقطة من ش.
4 في ش ع: الجمع.
5 في ش: في.
6 الآية 147 من الصافات.
7 انظر تسهيل الفوائد ص176.(1/264)
أَنْ1 يُسْلِمَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ2:
وَكُنْت إذَا غَمَزْت قَنَاةَ قَوْمٍ ... كَسَرْت كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا
أَيْ إلاَّ أَنْ تَسْتَقِيمَ.
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا "أَوْ" بِمَعْنَى "إضْرَابٍ كَـ بَلْ" وَمَثَّلُوهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَزِيدُونَ} 3 عَلَى رَأْيِ مَنْ لَمْ4 يَجْعَلْهَا فِي الآيَةِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 البيت لأبي أمامة زياد الأعجم, نسبه إليه سيبويه "1/428" والأصبهاني في الأغاني "13/ 90" والهروي في الأزهية "ص128" والسيرافي في شرح أبيات سيبويه "2/162" والعيني في شرح شواهد شروح الألفية "4/385" والسيوطي في شرح شواهد المغني "1/205" وحكى نسبته إليه البغدادي في شرح أبيات المغني "2/70". ومعنى البيت: أنه إذا هجا قوماً أبادهم بالهجاء وأهلكهم, إلا أن يتركوا سبّه وهجاءه.
3 الآية 147 من الصافات.
4 ساقطة من ش.(1/265)
"لَكِنْ"
"لَكِنْ"1 تَكُونُ "لِعَطْفٍ وَاسْتِدْرَاكٍ" وَمَعْنَى الاسْتِدْرَاكِ: أَنْ تَنْسُبَ لِمَا بَعْدَهَا حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ2 لا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا كَلامٌ مُنَاقِضٌ لِمَا بَعْدَهَا.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ، فَإِنَّمَا تَكُونُ حَرْفَ عَطْفٍ وَاسْتِدْرَاكٍ بِشَرْطَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ لا تَقْتَرِنَ بِالْوَاوِ - عِنْدَ أَكْثَرِ النُّحَاةِ- وَالتَّالِي لَهَا3 مُفْرَدٌ، وَإِلَى ذَلِكَ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ: "إنْ وَلِيَهَا مُفْرَدٌ فِي نَفْيٍ أَوْ نَهْيٍ" نَحْوُ "مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو" وَ "لا يَقُمْ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو".
"وَ" تَكُونُ لَكِنْ "قَبْلَ جُمْلَةٍ لابْتِدَاءٍ" لا حَرْفِ عَطْفٍ، وَتَقَعُ هُنَا بَعْدَ إيجَابٍ وَنَفْيٍ وَنَهْيٍ وَأَمْرٍ لا4 اسْتِفْهَامٍ.
ـــــــ
1 انظر معاني "لكن" في "مغني اللبيب 1/ 323 وما بعدها، الجنى الداني ص586-592، رصف المباني ص274-278، كشف الأسرار 2/ 139 وما بعدها، الإتقان 2/ 232، معترك الأقران 2/ 248، المفصل ص305، فواتح الرحموت 1/ 237 وما بعدها، الصاحبي ص170، البرهان 4/389 وما بعدها".
2 في ش: وكذلك.
3 ساقطة من ش.
4 في ش: و.(1/266)
"الْبَاءُ"
"الْبَاءُ"1 تَكُونُ "لإِلْصَاقٍ حَقِيقَةً" نَحْوُ "أَمْسَكْت 2 الْحَبْلِ بِيَدِي 2" "وَمَجَازًا" نَحْوُ "مَرَرْت بِزَيْدٍ" فَإِنَّ الْمُرُورَ لَمْ يُلْصَقْ بِهِ، وَإِنَّمَا أُلْصِقَ بِمَكَانٍ يَقْرُبُ مِنْ زَيْدٍ.
وَمَعْنَى الإِلْصَاقِ: أَنْ يُضَافَ الْفِعْلُ إلَى الاسْمِ، فَيُلْصَقُ بِهِ بَعْدَ مَا كَانَ لا يُضَافُ إلَيْهِ لَوْلا دُخُولُهَا، نَحْوُ "خُضْت الْمَاءَ بِرِجْلِي"، وَ "مَسَحْت بِرَأْسِي".
وَالْبَاءُ لا تَنْفَكُّ عَنْ الإِلْصَاقِ، إلاَّ أَنَّهَا قَدْ تَتَجَرَّدُ3 لَهُ، وَقَدْ يَدْخُلُهَا مَعَ ذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ لَهَا سِيبَوَيْهِ4 مَعْنًى غَيْرَهُ.
"وَلَهَا مَعَانٍ" أُخَرُ:
أَحَدُهَا: التَّعْدِيَةُ، وَتُسَمَّى بَاءَ النَّقْلِ وَهِيَ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْهَمْزَةِ فِي تَصْيِيرِ الْفَاعِلِ مَفْعُولاً نَحْوُ5 قَوْله تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ
ـــــــ
1 انظر معاني الباء في "الجنى الداني ص36- 56، الأزهيّة ص294-297، رصف المباني ص142-152، مغني اللبيب 1/ 106-118، تأويل مشكل القرآن ص568، 575، 578، البرهان 4/ 252-257، معترك الأقران 1/ 634-637، أوضح المسالك 3/ 35-38، الصاحبي ص105-107، الإشارة إلى الإيجاز ص36 وما بعدها، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ص41 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص104 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 62، القواعد والفوائد الأصولية ص140، 143، فواتح الرحموت 1/ 242، الاتقان 2/ 182-185، المفصل ص285، المحلي على جمع الجوامع 1/ 342 وما بعدها، كشف الأسرار 2/ 167 وما بعدها، المسودة ص356".
2 في ش: بالحبل.
3 في ش: تجرد.
4 انظر الكتاب لسيبويه 2/ 304.
5 في ش: في.(1/267)
بِنُورِهِمْ} 1 وَأَصْلُهُ: 2 ذهَبَ نُورَهُمْ 2.
الثَّانِي: الاسْتِعَانَةُ: وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى آلَةِ الْفِعْلِ وَنَحْوِهَا، نَحْوُ: "كَتَبْت بِالْقَلَمِ"، وَ "قَطَعْت بِالسِّكِّينِ"، وَمِنْهُ {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} 3.
الثَّالِثُ: السَّبَبِيَّةُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} 4 وَأَدْرَجَ فِي "التَّسْهِيلِ" بَاءَ الاسْتِعَانَةِ فِي بَاءِ السَّبَبِيَّةِ5.
الرَّابِعُ: التَّعْلِيلِيَّةُ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا} 6.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ مُوجِبَةٌ لِمَعْلُولِهَا، بِخِلافِ السَّبَبِ لِمُسَبَّبِهِ، فَهُوَ كَالأَمَارَةِ7.
الْخَامِسُ: الْمُصَاحَبَةُ، "وَهِيَ الَّتِي"8 يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا9 "مَعَ" أَوْ يُغْنِي عَنْهَا وَعَنْ مَصْحُوبِهَا الْحَالُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} 10 أَيْ مَعَ الْحَقِّ، أَوْ مُحِقًّا11.
السَّادِسُ: الظَّرْفِيَّةُ 12 بِمَعْنَى "فِي" لِلزَّمَانِ 12، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى:
ـــــــ
1 الآية 17 من البقرة.
2 في ش: أذهب الله نورهم.
3 الآية 45 من البقرة.
4 الآية 40 من العنكبوت.
5 انظر تسهيل الفوائد لابن مالك ص145.
6 الآية 160 من النساء.
7 في ش: كالإشارة.
8 في ع ض ز ب: وهو الذي.
9 في ض: موضوعها.
10 الآية 170 من النساء.
11 في ش: حقاً.
12 في ش: معنى في الزمان.(1/268)
{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} 1 وَلِلْمَكَانِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ} 2، وَرُبَّمَا كَانَتْ الظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةً، نَحْوُ "بِكَلامِك بَهْجَةٌ".
السَّابِعُ: الْبَدَلِيَّةُ بِأَنْ يَجِيءَ مَوْضِعُهَا "بَدَلَ"، نَحْوُ قَوْلِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فِي الْحَدِيث: "مَا يَسُرُّنِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ" 3 أَيْ بَدَلَهَا.
الثَّامِنُ: الْمُقَابَلَةُ، وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الأَثْمَانِ وَالأَعْوَاضِ4. نَحْوُ "اشْتَرَيْت الْفَرَسَ بِأَلْفٍ"، وَدُخُولُهَا غَالِبًا عَلَى الثَّمَنِ. وَرُبَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُثَمَّنِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} 5 وَلَمْ يَقُلْ: وَلا تَشْتَرُوا آيَاتِي بِثَمَنٍ قَلِيلٍ.
التَّاسِعُ: الْمُجَاوَزَةُ بِمَعْنَى "عَنْ" وَتَكْثُرُ بَعْدَ السُّؤَالِ نَحْوُ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} 6 وَتَقِلُّ بَعْدَ غَيْرِهِ نَحْوُ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} 7 وَهُوَ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ، وَتَأَوَّلَهُ الشَّلَوْبِينَ عَلَى أَنَّهَا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ.
ـــــــ
1 الآيتان 137، 138 من الصافات.
2 الآية 123 من آل عمران.
3 الحديث رواة محمد بن إسحاق عن محمد بن زيد بن المهاجر عن طلحة بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن حلف الفضول: "لقد شهد في دار عبد الله بن جُدعان حِلْفَاً ما أحبُّ أنْ لي به حُمُرَ النُعَم، ولو أدعى به في الإسلام الأجبت". كما روي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين.
والمراد بقوله "ما أحبُّ أن لي به حمر النعم" أنني لا أحب نقضه وإن دُفع لي حمر النعم في مقابلة ذلك، وهذ الحلف كان في الجاهلية وتعاقدت فيه قبائل من قريش وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه على مَنْ ظلمه حتى ترد إليه مظلمته. "انظر سيرة ابن هشام 1/ 145، البداية والنهاية 2/ 293، شفاء الغرام 2/ 99 وما بعدها، الاكتفاء للكلاعي 1/ 89".
4 في ع: الأعراض.
5 الآية 41 من البقرة.
6 الآية 59 من الفرقان.
7 الآية 25 من الفرقان.(1/269)
الْعَاشِرُ: الاسْتِعْلاءُ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} 1 أَيْ عَلَى دِينَارٍ. وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي2 فِي "الْبُرْهَانِ" عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: الْقَسَمُ، وَهُوَ أَصْلُ حُرُوفِهِ، نَحْوُ "بِاَللَّهِ لأَفْعَلَنَّ".
الثَّانِي3 عَشَرَ: الْغَايَةُ. نَحْوُ {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} 4 أَيْ إلَيَّ.
الثَّالِثَ 3 عَشَرَ: التَّوْكِيدُ وَهِيَ الزَّائِدَةُ إمَّا مَعَ الْفَاعِلِ5، نَحْوُ "أَحْسِنْ بِزَيْدٍ"6، عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ فَاعِلٌ، أَوْ مَعَ7 الْمَفْعُولِ، نَحْوُ8: {وَهُزِّي إلَيْك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} 9، أَوْ مَعَ الْمُبْتَدَأِ. نَحْوُ "بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ"، أَوْ الْخَبَرُ نَحْوُ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 10.
ـــــــ
1 الآية 75 من آل عمران.
2 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي، أبو المعالي، الملقب بضياء الدين، المعروف بإمام الحرمين. قال ابن خلكان: "إعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم، أشهر مصنفاته "نهاية المطلب" في الفقه و "البرهان" في أصول الفقه و "الإرشاد" و "الشامل" في أصول الدين و "غياث الأمم" في الأحكام السلطانية. توفي سنة 478هـ. "انظر ترجمته في وفيات الأعيان 2/ 341 وما بعدها، طبقات الشافعية للسبكي 5/ 165 وما بعدها، المنتظم 9/ 18، شذرات الذهب 3/ 358".
3 ساقطة من ش.
4 الآية 100 من يوسف.
5 في الأصول الخطية كلها: الفعل. ليس بصواب.
6 قال ابن هاشم: إن الأصل "أحسن زيدّ" بمعنى صار ذا حُسْنٍ، ثم غْيّرت صيعة الخبر إلى الطلب، وزيدت الباء إصلاحاً للفظ، "مغني اللبيب 1/ 112".
7 في الأصول الخطية كلها: معنى. وليس بصواب.
8 في ش: ونحو.
9 الآية 25 من مريم.
10 الآية 36 من الزمر.(1/270)
الرَّابِعَ1 عَشَرَ: التَّبْعِيضُ. قَالَ بِهِ الْكُوفِيُّونَ وَالأَصْمَعِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وَابْنُ مَالِكٍ2 نَحْوُ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} 3 أَيْ مِنْهَا.
وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} 4 وَأَنْكَرَهُ ابْنُ جِنِّي5 وَغَيْرُهُ6.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ7: "إنَّهَا هُنَا تُفِيدُ فَائِدَةً غَيْرَ التَّبْعِيضِ، وَهُوَ الدَّلالَةُ عَلَى مَمْسُوحٍ8 بِهِ. قَالَ: وَالأَصْلُ فِيهِ: "امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ الْمَاءَ". فَتَكُونُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ. وَالأَصْلُ: رُءُوسَكُمْ بِالْمَاءِ"9.
ـــــــ
1 في ش: الثالث.
2 انظر تسهيل الفوائد ص145.
3 الآية 6 من الإنسان.
4 الآية 6 من المائدة.
5 فقال: "فأما ما يحكيه أصحاب الشافعي رحمه الله عنه من أن الباء للتبعيض، فشيء لا يعرفه أصحابنا، ولا ورد به ثَبَتٌ". "سر صناعة الإعراب 1/ 139".
6 كابن دريد وابن عرفة وابن برهان وغيرهم. "انظر القواعد والفوئد الأصولية ص140 وما بعدها".
7 هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأندلسي الا شبيلي، المعروف بأبي بكر بن العربي القاضي، كان إماماُ من أئمة المالكية، أقرب إلى الاجتهاد منه إلى التقليد، محدثاً فقيهاً أصولياً مفسراً. أديباً متكلماً، أشهر كتبه "أحكام القرآن" و "الإنصاف في مسائل الخلاف" و "المحصول في علم الأصول" و "عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي" وغيرها, توفي سنة 543هـ. "انظر ترجمته في وفيات الأعيان 3/ 423, الديباج المذهب 2/ 252, شذرات الذهب 4/ 141, طبقات المفسرين للداودي 2/ 162, الفتح المبين 2/28".
8 في ش: الممسوح.
9 ونص كلام ابن العربي كما جاء في كتابه "أحكام القرآن": "ظن ً بعض الشافعية وحشوية النحوية أن الباء للتبعيض, ولم يبق ذو لسان رطب إلاً وقد أفاض في ذلك, حتى صار الكلام فيها إخلالاً با لمتكلم ولايجوز لمن شدا طرفاً من العربية أن يعتقد في الباء ذلك... إلى أن يقول: وذلك أن قوله "وامسحوا" يقتضي ممسوحا به, والممسوح الأول هو المكان, والممسوح الثاني هو الآلة التي بين الماسح والممسوح كاليد، والمحصّل للمقصود من المسح وهو المنديل، وهذه ظاهرة لا خفاء به. فإذا ثبت هذا، فلو قال "امسحوا رءوسكم" لأجراً المسح باليد إمرار من غير شيء على الرأس ، لا ماء ولا سواه، فجاء بالباء ليفيد ممسوحاً به وهو الماء، فكأنه قال "فاسمحوا برءوسكم الماء" من باب المقلوب، والعرب تستعمله... الح". "أحكام القرآن 2/ 569".(1/271)
"إذَا"
"إذَا"1 تَأْتِي "لِمُفَاجَأَةٍ حَرْفًا" وَهِيَ الَّتِي يَقَعُ بَعْدَهَا الْمُبْتَدَأُ، فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّرْطِيَّةِ. فَإِنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَهَا الْفِعْلُ. وَقَدْ اجْتَمَعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} 2.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُفَاجَأَةِ: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} 3، وَلا تَحْتَاجُ "إذًا" الْمُفَاجَأَةُ إلَى جَوَابٍ. وَمَعْنَاهَا الْحَالُ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: "وَمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ: حُضُورُ الشَّيْءِ مَعَك فِي وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِك الْفِعْلِيَّةِ، وَتَصْوِيرُهُ فِي قَوْلِك4: "خَرَجْت فَإِذَا الأَسَدُ" [فَمَعْنَاهُ]5، حُضُورُ الأَسَدِ مَعَك فِي زَمَنِ وَصْفِك بِالْخُرُوجِ، أَوْ فِي مَكَان خُرُوجَك6، وَحُضُورُهُ7 مَعَك8 فِي مَكَانِ خُرُوجِك أَلْصَقُ بِك مِنْ
ـــــــ
1 انظر معاني "إذا" في "مغني اللبيب 1/ 92-105، رصف المباني ص61 وما بعدها، الأزهيّة ص211 وما بعدها، الجنى الداني ص367-380، البرهان 4/ 190-206، كشف الأسرار 2/ 193 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 341، الإتقان 2/ 147-152، فواتح الرحموت 1/ 248 وما بعدها، معترك الأقران 1/ 580-585".
2 الآية 25 من الروم.
3 الآية 20 من طه.
4 في ش: قوله.
5 زيادة من نص كلام ابن الحاجب الذي نقله عنه السيوطي في الاتقان 2/ 148 ومعترك الأقران 1/ 580، بيد أنَّها في المعترك "معناه".
6 في ش: يخرج خروجك.
7 كذا في نص ابن الحاجب كما نقله عنه السيوطي في الاتقان 2/ 148 ومعترك الأقران 1/ 580، وفي ش ز: أو. وفي د ع ب ض: إذ.
8 في ش: معه.(1/272)
حُضُورِهِ فِي زَمَنِ خُرُوجِك1؛ لأَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ يَحْصُك2 دُونَ مَنْ أَشْبَهَك. وَذَلِكَ الزَّمَانُ لا يَخُصُّكَ3 دُونَ مَنْ أَشْبَهَك. وَكُلَّمَا كَانَ أَلْصَقَ كَانَتْ الْمُفَاجَأَةُ فِيهِ أَقْوَى".
"وَ" تَأْتِي "إذَا" "ظَرْفًا لِـ" زَمَنٍ "مُسْتَقْبَلٍ لا مَاضٍ وَحَالٍ، مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا" وَلِذَلِكَ تُجَابُ هِيَ بِمَا تُجَابُ بِهِ أَدَوَاتُ الشَّرْطِ نَحْوُ "إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَقُمْ إلَيْهِ"، فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى ظَرْفِيَّتِهَا، إلاَّ أَنَّهَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا سَائِرُ أَحْكَامِ الشَّرْطِ: فَلَمْ يُجْزَمْ بِهَا الْمُضَارِعُ، وَلا تَكُونُ إلاَّ فِي الْمُحَقَّقِ. وَمِنْهُ: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} 4 لأَنَّ مَسَّ الضُّرِّ فِي الْبَحْرِ مُحَقَّقٌ.
وَلَمَّا لَمْ يُقَيَّدْ بِالْبَحْرِ أَتَى5 بِـ "إِنْ" الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَشْكُوكِ فِيهِ نَحْوُ: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} 6.
وَتَخْتَصُّ بِالدُّخُولِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ7 الْمَعْنَى.
وَمَا قُلْنَاهُ فِي الْمَتْنِ مِنْ كَوْنِ "إذَا" لا تَجِيءُ لِمَاضٍ وَلا لِحَالٍ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَتَأَوَّلُوا مَا أَوْهَمَ خِلافَ ذَلِكَ.
ـــــــ
1 في ش: خروجه.
2 في ش: يحصل.
3 في ش: لا يحصل.
4 الآية 67 من الإسراء.
5 في ش: أي.
6 الآية 51 من فصلت. وقد جاء في الأصول الخطية كلها "وإن مسه الشر فذو دعاء عريض" وهو خطأ في الآية. فذكرنا الصواب، الآية لا تصلح شاهداً لكلامه، وإنما الذي يشهد له قوله تعالى: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} الآية 49 من فصلت.
7 في ش: الاسمية الفعليه.(1/273)
وَمِمَّا 1 أَوْهَمَ مَجِيئَهَا لِلْمَاضِي: نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} 2 {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} 3 وَمِمَّا 1 أَوْهَمَ مَجِيئَهَا لِلْحَالِ4 نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى} 5، {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} 6.
وَقَالُوا: إنَّهَا لَمَّا جُرِّدَتْ هُنَا عَنْ الشَّرْطِ جُرِّدَتْ عَنْ الظَّرْفِ. فَتَكُونُ هُنَا لِمُجَرَّدِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا مُخْتَصَّةً بِأَحَدِ الأَزْمِنَةِ الثَّلاثَةِ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 الآية 92 من التوبة.
3 الآية 11 من الجمعة.
4 في ز: لحال.
5 الآية الأولى من الليل.
6 الآية الأولى من النجم.(1/274)
"إذْ"
"إذْ"1 بِإِسْكَانِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ "اسْمٌ" لإِضَافَتِهَا فِي نَحْوِ: {بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} 2 وَلِتَنْوِينِهَا3 فِي نَحْوِ "يَوْمَئِذٍ"4 "لِـ" زَمَنٍ "مَاضٍ" فَقَطْ.
"وَفِي قَوْلٍ" لِزَمَنٍ "مُسْتَقْبَلٍ" مِثْلُ "إذَا" وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَالِكٍ5 وَطَائِفَةٌ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} 6.
وَأَجَابَ الأَكْثَرُ عَنْ الآيَةِ وَنَحْوِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. مِثْلُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} 7.
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ: فَتَأْتِي "ظَرْفًا" لِزَمَنٍ مَاضٍ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 8.
"وَ" تَأْتِي "مَفْعُولاً بِهِ" نَحْوُ: {وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} 9.
ـــــــ
1 انظر معاني "إذ" في "معترك الأقران 1/ 576-580، الإتقان 2/ 144-147، الجنى الداني ص185-192، البرهان 4/ 207 وما بعدها، رصف المباني ص59 وما بعدها، مغني اللبيب 1/ 84-92، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 339 وما بعدها، الصاحبي ص140".
2 الآية 8 من آل عمران.
3 في ش ض: وتنوينها.
4 في ش: حينئذ.
5 انظر تسهيل الفوائد ص93.
6 الآيتان 70، 71 من غافر.
7 الآية الأولى من النحل.
8 الآية 40 من التوبة.
9 الآية 86 من الأعراف.(1/275)
"وَ" تَأْتِي "بَدَلاً مِنْهُ" أَيْ مِنْ الْمَفْعُولِ. نَحْوُ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إذْ انْتَبَذَتْ} 1 فَإِذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَرْيَمَ.
"وَ" تَأْتِي "لِتَعْلِيلٍ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ} 2. وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ} 3.
"وَ" تَأْتِي لِ "مُفَاجَأَةٍ" وَهِيَ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ "بَيْنَا"4 وَ "بَيْنَمَا"، نَحْوُ قَوْلِك: "بَيْنَا أَنَا5 كَذَا إذْ جَاءَ زَيْدٌ" وَ:
فَبَيْنَمَا6 الْعُسْرُ إذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ7
نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ8.
وَتَكُونُ "حَرْفًا" فِي مَجِيئِهَا لِلتَّعْلِيلِ وَالْمُفَاجَأَةِ.
ـــــــ
1 الآية 16 من مريم.
2 الآية 39 من الزخرف.
3 الآية 11 من الأحقاف.
4 كذا في الجنى الداني ومغني اللبيب والمحلي على جمع الجوامع. وفي الأصول الخطية كلها: بين.
5 ساقطة من ش.
6 كذا في الكتاب لسيبويه ومغني اللبيب والشذور وغيرها, وفي الأصول الخطية كلها: بنما.
7 هذا عجز البيت, وصدره:
استقدر الله خيراً وارضين به
وقد اختلف5 في قائله, فنسبه أبو حاتم السجستاني في كتابه "المعمرين" على حريث بن جبلة العذري وحكى ابن الأنباري أنه لعثير بن لبيد العذري, ونسبه البعض إلى عثمان بن لبيد, ونسبه غيرهم إلى جبلة بن الحويرث العذري. وقيل غير ذلك في...وقد استشهد به سيبويه في الكتاب وابن هشام في شذور الذهب ومغني اللبيب ولم ينسباه. "انظر شرح شواهد المغني للبغدادي 2/ 168 وما بعدها, تحقيق العلامة عبد العزيز الميمني في هذا البيت في هامش سمط اللآلي 2/ 800".
8 الكتاب لسيبويه 2/ 158".(1/276)
"لَوْ"
"لَوْ"1 حَرْفُ امْتِنَاعٍ لامْتِنَاعٍ" فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الثَّانِي لامْتِنَاعِ الأَوَّلِ، فَقَوْلُك: "لَوْ جِئْتَنِي لأَكْرَمْتُك". دَالٌّ عَلَى انْتِفَاءِ الإِكْرَامِ، لانْتِفَاءِ الْمَجِيءِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ جَوَابَهَا قَدْ لا يَكُونُ مُمْتَنِعًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ2 فِي "الْحِلْيَةِ": أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ3: "إنَّهُ شَدِيدُ 4 الْحُبِّ لِلَّهِ 4 لَوْ كَانَ لا يَخَافُ اللَّهَ مَا عَصَاهُ" 5.
ـــــــ
1 انظر معاني "لو" في "رضف المباني ص289-292، معترك الأقران 2/ 253-257، الإتقان 2/ 236-239، مغني اللبيب 1/ 283-301، الجنى الداني ص272-290، البرهان 4/ 363-375، الطراز 2/ 211-215، الصاحبي ص163، المفصل ص320 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص107 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 249، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 352-360".
2 هو أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني الشافعي الحافظ، أحد الأفذاذ الذين جمعوا بن الرواية والدراية. قال ابن النجار: "هو تاج المحدثين وأحد أعلام الدين". أشهر مصنفاته "حلية الأولياء" و "تاريخ أصبهان" و "دلائل النبوة" و "معرفة الصحابة" و "المستخرج على صحيح البخاري" توفي سنة 430هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 4/ 18 وما بعدها، وفيات الأعيان 1/ 75، المنتظم 8/ 100، شذرات الذهب 3/ 245".
3 هو سالم بن معقل، مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، أبو عبد الله، أصله من فارس، وهو من فضلاء الصحابة والمهاجرين. قال النووي: "والأحاديث الصحيحة في فضله كثيرة". وقد أعتقته مولاته بثينة امرأة أبي حذيفة الأنصاري، فتولاه أبو حذيفة وتبناه، شهد بدراً وأحداً والخندق وسائر المشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل شهيداً يوم اليمامة وهو يحمل لواء المسلمين وذلك في سنة 12هـ. "انظر ترجمته في الإصابة 2/ 6، الاستيعات 2/ 70، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 206، حلية الأولياء 1/ 176".
4 في ش: المحبة.
5 حلية الأولياء 1/ 177، وقد قال العجلوني أن سنده في رواية أبى نعيم ضعيف، وأنه رواه الديلمي أيضاً. "كشف الخفا 2/ 323".(1/277)
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ لانْتِفَاءِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبَيْنِ: الْمَحَبَّةَ وَالْخَوْفَ. فَلَوْ انْتَفَى الْخَوْفُ لَمْ تُوجَدْ الْمَعْصِيَةُ لِوُجُودِ الآخَرِ، وَهُوَ الْمَحَبَّةُ.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: "إنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ"1، يَعْنِي أَنَّهَا تَقْتَضِي فِعْلاً مَاضِيًا كَانَ يُتَوَقَّعُ ثُبُوتُهُ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ. وَالْمُتَوَقَّعُ غَيْرُ وَاقِعٍ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَرْفٌ يَقْتَضِي فِعْلاً امْتَنَعَ لامْتِنَاعِ مَا كَانَ ثَبَتَ لِثُبُوتِهِ.
وَقِيلَ: إنَّهَا لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ، أَيْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيقِ فِي الْمَاضِي كَمَا تَدُلُّ "إنْ" عَلَى التَّعْلِيقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلا تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ شَرْطٍ وَلا جَوَابٍ.
وَقِيلَ: إنَّهَا حَرْفٌ يَقْتَضِي فِي الْمَاضِي امْتِنَاعَ مَا يَلِيهِ، وَاسْتِلْزَامَهُ لِتَالِيهِ، أَيْ تَقْتَضِي أَمْرَيْنِ:
- أَحَدُهُمَا: امْتِنَاعُ مَا يَلِيهِ، وَهُوَ شَرْطُهُ.
- وَالأَمْرُ الثَّانِي: كَوْنُ مَا يَلِيهِ مُسْتَلْزِمًا لِتَالِيهِ، وَهُوَ جَوَابُهُ، وَلا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْجَوَابِ فِي نَفْسِ الأَمْرِ وَلا ثُبُوتِهِ. فَإِذَا قُلْت: "لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ2 عَمْرٌو". فَقِيَامُ زَيْدٍ مَحْكُومٌ3 بِانْتِفَائِهِ فِي مَا مَضَى4، وَيَكُونُ ثُبُوتُهُ مُسْتَلْزِمًا لِثُبُوتِ قِيَامِ عَمْرٍو، وَهَلْ لِعَمْرٍو قِيَامٌ أَوْ لا5؟ لَيْسَ فِي الْكَلامِ تَعَرُّضٌ لَهُ.
وَصَحَّحَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ السُّبْكِيُّ وَوَلَدُهُ التَّاجُ6. وَهِيَ فِي بَعْضِ نُسَخِ "التَّسْهِيلِ".
ـــــــ
1 انظر الكتاب لسيبويه 2/ 307.
2 في ش: لكان.
3 في ش: المحكوم.
4 في ش: ماض.
5 ساقطة من ع.
6 انظر جمع الجوامع للتاج السبكي وشرحه للمحلي 1/ 354 وما بعدها.(1/278)
قَالَ الْمُرَادِيُّ1 فِي "شَرْحِ الأَلْفِيَّةِ": "قَالَ فِي "شَرْحِ الْكَافِيَةِ"2: الْعِبَارَةُ الْجَيِّدَةُ3 فِي "لَوْ" أَنْ يُقَالَ: "حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ تَالٍ4: يَلْزَمُ لِثُبُوتِهِ ثُبُوتُ تَالِيهِ".
فَقِيَامُ5 زَيْدٍ مِنْ قَوْلِك: "لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ عَمْرٌو"، مَحْكُومٌ بِانْتِفَائِهِ6 فِيمَا مَضَى. وَكَوْنُهُ مُسْتَلْزِمًا ثُبُوتَهُ لِثُبُوتِ7 قِيَامَ عَمْرٍو. وَهَلْ لِعَمْرٍو قِيَامٌ آخَرُ غَيْرُ اللاَّزِمِ عَنْ قِيَامِ8 زَيْدٍ، أَوْ لَيْسَ لَهُ؟ لا تَعَرُّضَ9 لِذَلِكَ، بَلْ الأَكْثَرُ كَوْنُ10 الأَوَّلِ. وَالثَّانِي غَيْرُ وَاقِعَيْنِ"11.
"وَ" تَأْتِي "لَوْ" "شَرْطًا لِـ" فِعْلٍ "مَاضٍ، فَيُصْرَفُ12 الْمُضَارِعُ إلَيْهِ" أَيْ إلَى الْمُضِيِّ13، عَكْسُ "إنْ" الشَّرْطِيَّةِ. فَإِنَّهَا تَصْرِفُ الْمَاضِيَ إلَى الاسْتِقْبَالِ.
ـــــــ
1 هو الحسن بن قاسم بن عبد الله المرادي المالكي، بدر الدين، المعروف بابن أم قاسم، النحوي اللغوي، المفسر المقرىء، الفقيه الأصولي. أشهر مصنفاته "تفسير القرآن" و "إعراب القرآن" و "شرح التسهيل" و "شرح المفصل" و "شرح الألفية" و "الجنى الداني في حروف المعاني" توفي سنة 749هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/ 517، طبقات المفسرين للداودي 1/ 139، الدرر الكامنة 2/ 116، شذرات الذهب 6/ 160".
2 في ع: الكافي.
3 في ش: المجيدة.
4 في ش ز: قال.
5 في ش: فقام.
6 في ش: بامتناعه.
7 ساقطة من ش.
8 في ش: قياس.
9 في شرح المرادي: لا يتعرض.
10 ساقطة من ش.
11 شرح المرادي على الألفية 4/ 272.
12 في ش ز: فينصرف.
13 في ش: المعنى.(1/279)
وَأَنْكَرَ قَوْمٌ كَوْنَهَا حَرْفَ شَرْطٍ؛ 1 لأَنَّ الشَّرْطَ فِي الاسْتِقْبَالِ. وَ "لَوْ" لِلتَّعْلِيقِ فِي الْمَاضِي، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالشَّرْطِ الرَّبْطُ الْمَعْنَوِيُّ الْحُكْمِيُّ فَهُوَ شَرْطٌ 1، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَعْمَلُ فِي الْجُزْأَيْنِ فَلا.
"وَ" تَأْتِي شَرْطًا "لِمُسْتَقْبَلٍ قَلِيلاً، فَيُصْرَفُ الْمَاضِي إلَيْهِ" أَيْ إلَى الاسْتِقْبَالِ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 2 قَالَ جَمَاعَةٌ.
وَخَطَّأَهُمْ ابْنُ الْحَاجِّ3 بِأَنَّك لا تَقُولُ: "لَوْ يَقُومُ زَيْدٌ فَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ" كَمَا تَقُولُ: "إنْ لا4 يَقُمْ زَيْدٌ فَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ".
وَكَذَا5 قَالَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ: عِنْدِي أَنَّهَا لا تَكُونُ لِغَيْرِ الشَّرْطِ فِي الْمَاضِي وَلا حُجَّةَ فِيمَا تَمَسَّكُوا بِهِ لِصِحَّةِ حَمْلِهِ عَلَى الْمُضِيِّ6.
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا "لَوْ"7 "لِتَمَنٍّ" نَحْوُ: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} 8 أَيْ "فَلَيْتَ لَنَا كَرَّةً". وَلِهَذَا نُصِبَ "فَنَكُونَ".
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 الآية 17 من يوسف.
3 هو أحمد بن محمد بن أحمد الأزدي، أبو العباس الإشبيلي، المعروف بابن الحاج، فرأ على الشلوبين وأمثاله. وكان بارعاً في النحو والأدب مشاركاً في الفقه والأصول. قال في البدر السافر: "برع في لسان العرب حتى لم يبق فيه من يفوقه أو يدانيه". أشهر كتبه "شرح كتاب سيبويه" و "مختصر خصائص ابن جني" و "مختصر المستصفى" توفي سنة 647هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/ 359، درّة الحجال 1/ 43، الدرر الكامنة 1/ 262".
4 كذا في ش ب ض. وفي ز: "إن" ساقطة. وفي ع: أن لا يقوم.
5 في ب ض: ولذا.
6 في ش: المعنى.
7 ساقطة من ع.
8 الآية 102 من الشعراء.(1/280)
وَهَلْ هِيَ امْتِنَاعِيَّةٌ أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي، أَوْ قِسْمٌ بِرَأْسِهِ، أَوْ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ أَغْنَتْ عَنْ التَّمَنِّي؟ فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ.
"وَ" تَأْتِي "لَوْ"1 أَيْضًا لِـ "عَرْضٍ" نَحْوُ: "لَوْ تَنْزِلُ عِنْدَنَا2، فَتُصِيبُ خَيْرًا".
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا لِ "تَحْضِيضٍ" نَحْوُ "لَوْ فَعَلْت كَذَا"، أَيْ: افْعَلْ كَذَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعَرْضَ طَلَبٌ بِلِينٍ وَرِفْقٍ، وَالتَّحْضِيضُ: طَلَبٌ بِحَثٍّ.
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا لِ "تَقْلِيلٍ" نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُدُّوا السَّائِلَ، وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ" 3 وَ "الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ" 4 وَ "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" 5.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: علينا.
3 أخرجه النسائي ومالك في الموطأ وأحمد في مسنده والبخاري في تاريخه عن ابن بُجيد الأنصاري عن جدته مرفوعاً. والظِلْفُ: هو للبقر والغنم كالحافر للفرس. ومعنى مُحرَق: أي مشوي. "انظر الموطأ 2/ 923، سنن النسائي 5/ 18، مسند أحمد 4/ 70، الفتح الكبير 2/ 134".
4 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد في مسنده عن سهل ابن سعد الساعدي مرفوعاً. "انظر صحيح البخاري 7/ 8، صحيح مسلم 2/ 1041، سنن أبي داود 2/ 318، تحفة الأحوذي 4/ 254، سنن النسائي 6/ 123، سنن ابن ماجة 1/ 608، مسند أحمد 5/ 336، أقضية النبي صلى الله عليه وسلم ص58".
5 أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد في مسنده عن عدي بن حاتم مرفوعاً. وأخرجه الحاكم عن ابن عباس والبزار عن أبي بكر الصديق ورفعاه. "انظر صحيح البخاري 8/ 14، صحيح مسلم 2/ 703، سنن ابن ماجة 1/ 66، تحفة الأحوذي 7/ 98، مسند أحمد 4/ 258، كشف الحفا 1/ 42".(1/281)
أَثْبَتَهُ ابْنُ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيُّ1 وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ2 فِي "الْقَوَاطِعِ" قَالَ الزَّرْكَشِيُّ3، - شَارِحُ "جَمْعِ الْجَوَامِعِ" - : وَالْحَقُّ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِمَّا بَعْدَهَا. لا مِنْ الصِّيغَةِ.
"وَ" تَأْتِي أَيْضًا "لَوْ" لِمَعْنًى "مَصْدَرِيٍّ" أَثْبَتَهُ الْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ وَالتَّبْرِيزِيُّ4 وَأَبُو الْبَقَاءِ وَابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ. وَعَلامَتُهَا5: أَنْ يَصْلُحَ فِي مَوْضِعِهَا
ـــــــ
1 هو محمد بن يحيى بن هاشم الخضراوي، أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي الأندلسي، ويعرف بابن البرذعي، كان أماماً في العربية والقراءات، عاكفاً على التعليم والتعلم، أشهر كتبه "فصل المقال في أبنية الأفعال" و "الإفصاح بفوائد الإيضاح" و "نقض الممتع لابن عصفورة" توفي سنة 646هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/ 267".
2 هو منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي الشافعي، الشهير بابن السَّمعاني، أبو المظفر، ابن الإمام أبي منصور، الفقيه الأصولي الثبت. قال ابن السبكي عنه: "الإمام الجليل، العَلَم الزاهد الورع، أحد أئمة الدنيا"، ثم قال: "وصنف في أصول الفقه "القواطع" وهو يغني عن كل ما صنف في ذلك الفن... ولا أعرف في أصول الفقه أحسن من كتاب القواطع ولا اجمع". وله مصنفات أخرى أشهرها "البرهان" في الخلاف و "الأوساط" و "المختصر". توفي سنة 489هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 5/ 335-346، النجوم الزاهرة 5/ 160، شذرات الذهب 3/ 393".
3 هو محمد بن بهادر بن عبد الله، بدر الدين، أبو عبد الله الزركشي الشافعي، الفقيه الأصولي المحدث، أشهر كتبه "شرح جمع الجوامع" و "البحر" في أصول الفقه و "تخريج أحاديث الرافعي". توفي سنة 794هـ. "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 4/ 17، الفتح المبين 2/ 209، شذرات الذهب 6/ 335".
4 هو يحيى بن علي بن محمد الشيباني، أبو زكريا التبريزي، أحد أئمة اللغة والنحو والأدب، وصاحب التصانيف القيمة النافعة كـ "شرح الحماسة" و "شرح المفضليات" و "شرح ديوان المتنبي" و "شرح سقط الزند" و "شرح اللمع لابن جني" و "إعراب القرآن" و "تفسير القرآن" وغيرها. توفي سنة 502هـ. "انظر ترجمته في وفيات الأعيان 5/ 238 وما بعدها، شذرات الذهب 4/ 5، المنتظم 9/ 161، معجم الأدباء 20/ 25 وما بعدها، طبقات المفسرين للداودي 2/ 372، بغية الوعاة 2/ 338، إنباه الرواة 4/ 22 وما بعدها".
5 في ع: وعلاقتها.(1/282)
"أَنْ"، وَأَكْثَرُ وُقُوعِهَا بَعْدَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَمَنٍّ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}1 .
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الأَكْثَرُ. وَقَالُوا: الآيَةُ وَنَحْوُهَا عَلَى2 حَذْفِ مَفْعُولِ "يَوَدُّ". وَجَوَابُ "لَوْ" أَيْ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ طُولَ الْعُمُرِ3، لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ لَسُرَّ بِذَلِكَ.
ـــــــ
1 الآية 96 من البقرة.
2 أي تُحمل.
3 في ع: التعمير.(1/283)
"لَوْلا"
"لَوْلا"1 حَرْفٌ يَقْتَضِي فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ امْتِنَاعَ جَوَابِهِ لِوُجُودِ شَرْطٍ" نَحْوُ: "لَوْلا زَيْدٌ لأَكْرَمْتُك"، أَيْ لَوْلا زَيْدٌ مَوْجُودٌ. فَامْتِنَاعُ الإِكْرَامِ لِوُجُودِ زَيْدٍ.
"وَ" تَقْتَضِي "فِي" جُمْلَةٍ "مُضَارِعَةٍ" أَيْ مُصَدَّرَةٍ بِفِعْلٍ مُضَارِعٍ "تَحْضِيضًا" نَحْوُ: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} 2. فَهُوَ لِلتَّحْضِيضِ، وَهُوَ طَلَبٌ بِحَثٍّ.
"وَ" وَتَقْتَضِي فِي جُمْلَةٍ "مَاضِيَةٍ" أَيْ مُصَدَّرَةٍ بِفِعْلٍ مَاضٍ "تَوْبِيخًا" نَحْوُ: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} 3.
"وَ" تَقْتَضِي أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ الْمَاضِيَةِ "عَرْضًا" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} 4.
ـــــــ
1 انظر معاني "لولا" في "معترك الأقران 2/ 257 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع 1/ 351 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص109، الصاحبي ص163 وما بعدها، البرهان 4/ 376-379، مغني اللبيب 1/ 302-306، الإتقان 2/ 239 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 249، المفضل ص315 وما بعدها، تأويل مشكل القرآن ص540، الجنى الداني ص597-608، الأزهيّة ص175-181، رصف المباني ص292-297".
2 الآية 46 من النمل.
3 الآية 13 من النور.
4 الآية 10 من المنافقون.(1/284)
فصل في مبدأ اللغة وطريق معرفتها
...
"فَصْلٌ" "مَبْدَأُ اللُّغَاتِ تَوْقِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِإِلْهَامٍ، أَوْ وَحْيٍ أَوْ كَلامٍ"1 عِنْدَ أَبِي الْفَرَجِ2 وَالْمُوَفَّقِ وَالطُّوفِيِّ، وَابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَالأَشْعَرِيَّةِ.
قَالَ فِي "الْمُقْنِعِ": وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى" {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 3 أَيْ 4 أَنَّ اللَّهَ 4 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَعَهَا. فَعَبَّرُوا عَنْ وَضْعِهِ بِالتَّوْقِيفِ لإِدْرَاكِ الْوَضْعِ5.
وَقِيلَ: أَوْ عَلَّمَهُ بَعْضَهَا، أَوْ اصْطِلاحًا سَابِقًا أَوْ عَلَّمَهُ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ وَصِفَتَهُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} 6.
وَرُدَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَلَّمَهُ بَعْضَهَا، أَوْ اصْطِلاحًا سَابِقًا، أَوْ عَلَّمَهُ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ وَصِفَتَهُ بِأَنَّ الأَصْلَ اتِّحَادُ الْعِلْمِ وَعَدَمُ اصْطِلاحٍ سَابِقٍ. وَأَنَّهُ عَلَّمَهُ
ـــــــ
1 انظر تحقيق مسألة مبدأ اللغات في "المزهر 1/ 16 وما بعدها، المستصفى 1/ 318 وما بعدها، إرشاد الفحول ص12 وما بعدها، المسودة ص562، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 269 وما بعدها، نهاية السول 1/ 211، العضد على ابن الحاجب 1/ 194 وما بعدها، الخصائص لابن جني 1/ 40 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 73 وما بعدها، الصاحبي ص31 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 183، التمهيد للآسنوي ص31".
2 هو عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي المقدسي الدمشقي الحنبلي، الفقيه الزاهد، شيخ الشام في وقته. قال العليمي: "كان أماماً عالماً بالفقه والأصول، شديداً في السنّة، زاهداً عارفاً عابداً". أشهر كتبه "المبهج" و "الإيضاح" و "التبصرة في أصول الدين" توفي سنة 486هـ. "انظر ترجمته في المنهج الأحمد 2/ 160 وما بعدها، طبقات الحنابلة 2/ 248، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 68 وما بعدها، شذرات الذهب 3/ 378".
3 الآية 31 من البقرة.
4 في د ض: أنه ألهمه.
5 في ش: الوضع بالتوقيف، أي أن الله تعالى الهمه.
6 الآية 31 من البقرة.(1/285)
حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ بِـ "كُلِّهَا". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ "وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ"1، وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} 2 فَالتَّعْلِيمُ لِلأَسْمَاءِ. وَضَمِيرُ عَرْضِهِمْ لِلْمُسَمَّيَاتِ، وَلِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}3 وَلِقَوْلِهِ4 تَعَالَى: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 5 وقَوْله تَعَالَى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} 6، وَحَمْلُهُ عَلَى اللُّغَةِ أَبْلَغُ مِنْ الْجَارِحَةِ7 وَحَمْلُهُ عَلَى اخْتِلافِ اللُّغَاتِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الإِقْدَارِ عَلَيْهَا لِعِلَّةِ الإِضْمَارِ.
وَقَالَ جَمْعٌ: إنَّ اللُّغَةَ اصْطِلاحِيَّةٌ وَضَعَهَا وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ، وَعَرَفَ الْبَاقُونَ بِإِشَارَةٍ وَتَكْرَارٍ.
وَقِيلَ: مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ تَوْقِيفٌ، وَغَيْرُهُ مُحْتَمَلٌ أَوْ اصْطِلاحٌ.
وَقِيلَ: عَكْسُهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْكُلُّ مُمْكِنٌ.
وَوَقَفَ جَمْعٌ8 عَنْ الْقَطْعِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الاحْتِمَالاتِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ لِهَذَا الْخِلافِ فَائِدَةٌ، أَوْ لا؟
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في كتاب التفسير عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً في حديث الشفاعة "انظر صحيح البخاري 6/ 21، فتح الباري 8/ 113". أما مسلم فقد أخرج حديث الشفاعة بروايات متعددة، ولكن ليس فيها هذا النص. "انظر صحيح مسلم 1/ 180 وما بعدها".
2 الآية 31 من البقرة.
3 الآية 38 من الأنعام.
4 في ش: وبأنه يلزم إضافة ولقوله.
5 الآية 5 من العلق.
6 الآية 22 من الروم.
7 في ش: الحاجة.
8 في ز: جماعة.(1/286)
فَذَهَبَ جَمْعٌ إلَى أَنَّهُ لا فَائِدَةَ لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ1 الْمَسْأَلَةُ لِتَكْمِيلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، أَوْ جَوَازِ قَلْبِ2 مَا لا يُطْلَقُ3 لَهُ بِالشَّرْعِ، كَتَسْمِيَةِ الْفَرَسِ ثَوْرًا وَعَكْسِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا جَرَتْ فِي الأُصُولِ مَجْرَى الرِّيَاضِيَّاتِ4، كَمَسَائِلِ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَائِدَةُ الْخِلافِ أَنَّ5 مَنْ قَالَ بِالتَّوْقِيفِ جَعَلَ التَّكْلِيفَ مُقَارِنًا لِكَمَالِ الْعَقْلِ وَمَنْ جَعَلَهُ اصْطِلاحًا جَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا مُدَّةَ الاصْطِلاحِ.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالتَّوْقِيفِ، وَعَزَى الاصْطِلاحَ لِلشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلافِ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْلِيقُ6 بِاللُّغَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لإِثْبَاتِ حُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى الشَّرْعِ.
"وَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَبْقَى لَهُ اسْمَانِ" اسْمٌ تَوْقِيفِيٌّ، وَاسْمٌ اصْطِلاحِيٌّ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ تَبَعًا لابْنِ الْبَاقِلاَّنِيِّ وَجَمْعٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الظَّاهِرِيَّةُ7.
"وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى" سُبْحَانَهُ "تَوْقِيفِيَّةٌ لا تَثْبُتُ بِقِيَاسٍ" نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ8 عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: طلب.
3 في ش: تعلق.
4 في ش: أي مضاف.
5 ساقطة من ع ض ز ب.
6 في ش: التعليق.
7 انظر المسودة ص563.
8 هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز، أبو بكر المروذي، كانت أمه مروذية وأبوه خوارزمياً، وهو المقدم من أصحاب الإمام أحمد لورعه وفضله. قال ابن العماد: "كان أجل أصحاب الإمام أحمد، إماماً في الفقه والحديث، كثير التصانيف" توفي سنة 275هـ. "انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 1/ 56 وما بعدها، المنهج الأحمد 1/ 172 وما بعدها، شذرات الذهب 2/ 166".(1/287)
بِأَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ سَمَّاهُ1 رَسُولَهُ. وَعَنْهُ وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ، بَلْ وَالْبَاقِلاَّنِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ فِي الصِّفَاتِ لا2 الأَسْمَاءِ.
قَالَ الْحَافِظُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ حَجَرٍ فِي "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ": "اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الأَسْمَاءِ الْحُسْنَى: هَلْ هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ3، بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَشْتَقَّ مِنْ الأَفْعَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى اسْمًا4 إلاَّ إذَا وَرَدَ نَصٌّ "فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ"5؟
فَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ: إذَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ إطْلاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الْقَاضِي [أَبُو بَكْرٍ]6 وَالْغَزَالِيُّ: الأَسْمَاءُ تَوْقِيفِيَّةٌ دُونَ الصِّفَاتِ. قَالَ: وَهَذَا [هُوَ]7 الْمُخْتَارُ.
وَاحْتَجَّ الْغَزَالِيُّ بِالاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمٍ لَمْ يُسَمِّهِ بِهِ أَبُوهُ، وَلا سَمَّى8 بِهِ نَفْسَهُ، وَكَذَا كُلُّ كَبِيرٍ مِنْ
ـــــــ
1 في ش: سماه به.
2 في ش: لا في.
3 في ش: توقيفة.
4 في فتح الباري: أسماء.
5 في فتح الباري: إما في الكتاب أو السنة.
6 زيادة من فتح الباري.
7 زيادة من فتح الباري.
8 في ع ز: يسمي.(1/288)
الْخَلْقِ قَالَ: فَإِذَا امْتَنَعَ [ذَلِكَ]1 فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ فَامْتِنَاعُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى.
وَاتَّفَقُوا عَلَى2 أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ تَعَالَى اسْمٌ وَلا صِفَةٌ تُوهِمُ نَقْصًا. وَلَوْ وَرَدَ ذَلِكَ نَصًّا، فَلا يُقَالُ: "مَاهِدٌ" وَلا "زَارِعٌ" وَلا "فَالِقٌ"، وَلا نَحْوُ ذَلِكَ. وَإِنْ ثَبَتَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} 3 {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 4 {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} 5 وَنَحْوِهَا. وَلا يُقَالُ لَهُ: "مَاكِرٌ"، وَلا "بَنَّاءٌ". وَإِنْ وَرَدَ {وَمَكَرَ اللَّهُ} 6 {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} 7.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ8: الأَسْمَاءُ9 تُؤْخَذُ تَوْقِيفًا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ فَكُلُّ اسْمٍ وَرَدَ فِيهَا وَجَبَ إطْلاقُهُ فِي وَصْفِهِ، وَمَا لَمْ يَرِدْ لا يَجُوزُ. وَلَوْ صَحَّ مَعْنَاهُ.
ـــــــ
1 زيادة من فتح الباري.
2 ساقطة من ش.
3 الآية 48 من الذاريات.
4 الآية 64 من الواقعة.
5 الآية 95 من الأنعام.
6 الآية 54 من آل عمران.
7 الآية 47 من الذاريات.
8 هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك النيسابوري الشافعي، الملقب بـ "زين الإسلام" قال ابن السبكي: "كان فقيهاً بارعاً، أصولياً محققاً، متكلماً سنياً، محدثاً حافظاً، مفسراً متقناً، نحوياً لغوياً أديباً". أشهر كتبه "التفسير الكبير" و "الرسالة" و "التحبير في التذكير" و "لطائف الإشارات" وغيرها. توفي سنة 465هـ. "انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 5/ 153 وما بعدها، المنتظم 8/ 280، إنباه الرواة 2/ 193، وفيات الأعيان 2/ 375 وما بعدها، شذرات الذهب 3/ 319، طبقات المفسرين للداودي 1/ 338 وما بعدها".
9 ساقطة من ش.(1/289)
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ1: لا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ.
وَالضَّابِطُ: أَنَّ كُلَّ مَا أَذِنَ الشَّارِعُ2 أَنْ يُدْعَى بِهِ، - سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَقًّا أَوْ غَيْرَ مُشْتَقٍّ-، فَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ، - سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيلُ أَوْ لا-، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ. وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمٌ أَيْضًا"3. انْتَهَى.
"وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ" قِسْمَانِ4:
أَحَدُهُمَا: "النَّقْلُ" فَقَطْ "تَوَاتُرًا5 فِيمَا لا يَقْبَلُ تَشْكِيكًا" كَالسَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ. وَنَحْوُهَا6 وَلُغَاتُ الْقُرْآنِ "وَآحَادًا فِي غَيْرِهِ" أَيْ غَيْرِ مَا لا يَقْبَلُ تَشْكِيكًا. وَهُوَ أَكْثَرُ اللُّغَةِ. فَيَتَمَسَّكُ7 بِهِ فِي الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ دُونَ الْقَطْعِيَّةِ8.
"وَ" الْقِسْمُ الثَّانِي: "الْمُرَكَّبُ مِنْهُ" أَيْ: مِنْ النَّقْلِ "وَمِنْ الْعَقْلِ" وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ الْعَقْلِ مِنْ النَّقْلِ.
مِثَالُهُ: كَوْنُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِأَلْ لِلْعُمُومِ، فَإِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ
ـــــــ
1 في ش: الزجاجي.
2 في فتح الباري: الشرع.
3 فتح الباري 11/ 175.
4 انظر "العضد على ابن الحاجب 1/ 197 وما بعدها، الإحكام للآمدي 1/ 78، المسودة ص564، المزهر 1/ 57، 113-120".
5 ساقطة من ش.
6 مما يُعْلَمْ وضعه لما يستعمل فيه قطعاً. "العضد على ابن الحاجب 1/ 198".
7 في ش: فيتمسكوا.
8 في ش: العقلية.(1/290)
نَقْلِيَّتَيْنِ حَكَمَ الْعَقْلُ بِوَاسِطَتِهِمَا. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَدْخُلَهُ الاسْتِثْنَاءُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ. فَحَكَمَ الْعَقْلُ عِنْدَ وُجُودِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِأَنَّهُ لِلْعُمُومِ.
وَلا اعْتِبَارَ بِمَا1 يُخَالِفُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَقُولُ: إذَا كَانَتْ الْمُقَدِّمَتَانِ نَقْلِيَّتَيْنِ كَانَتْ النَّتِيجَةُ أَيْضًا نَقْلِيَّةً. وَإِنَّمَا الْعَقْلُ تَفَطَّنَ لِنَتِيجَتِهَا؛ لأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الدَّلِيلُ مُرَكَّبًا مِنْ نَقْلِيَّتَيْنِ، لِعَدَمِ تَكَرُّرِ2 الْحَدِّ الأَوْسَطِ فِيهِمَا. وَإِنَّمَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ مُقَدِّمَةٍ نَقْلِيَّةٍ. وَهِيَ3 الاسْتِثْنَاءُ، - وَهُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ-، وَمُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ لازِمَةٍ لِمُقَدِّمَةٍ أُخْرَى نَقْلِيَّةٍ. وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَهُ الاسْتِثْنَاءُ عَامٌّ؛ لأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لَمْ يَدْخُلْ الاسْتِثْنَاءُ فِيهِ، ثُمَّ جُعِلَتْ 4 هَذِهِ الْقَضِيَّةُ 4 كُبْرَى لِلْمُقَدِّمَةِ الأُخْرَى النَّقْلِيَّةِ فَصَارَ صُورَةُ الدَّلِيلِ هَكَذَا: الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِأَلْ يَدْخُلُهُ الاسْتِثْنَاءُ، وَكُلُّ مَا يَدْخُلُهُ الاسْتِثْنَاءُ عَامٌّ يَنْتِجُ: أَنَّ الْمُحَلَّى بِأَلْ عَامٌ5.
"وَزِيدَ" طَرِيقٌ ثَالِثٌ لِمَعْرِفَةِ اللُّغَةِ: "وَ" هُوَ "الْقَرَائِنُ".
قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي "الْخَصَائِصِ": "مَنْ قَالَ: إنَّ اللُّغَةَ لا تُعْرَفُ إلاَّ نَقْلاً. فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِنَّهَا تُعْرَفُ بِالْقَرَائِنِ أَيْضًا. فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا سَمِعَ6 قَوْلَ الشَّاعِرِ:
قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ ... طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا7
ـــــــ
1 في ش: بمن.
2 في ش: تكرر.
3 في ش: وهو.
4 في ض: العقلية.
5 في ش: علم.
6 في ش: دخل وسمع.
7 البيت لقريط بن أنيف، نسبه له التبريزي في شرح ديوان الحماسة "1/ 5". ومعنى البيت: أنهم لحرصهم على القتال لا ينتظر بعضهم بعضاً، لأنَّ كلاً منهم يعتقد أنَّ الإجابة تعينت عليه، فاذا سمعوا بذكر الحرب أسرعوا إليها مجتمعين ومتفرقين. "شرح الحماسة 1/ 9".(1/291)
عُلِمَ أَنَّ "زَرَافَاتٍ" بِمَعْنَى جَمَاعَاتٍ"1. انْتَهَى.
"وَالأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ قَدْ تُفِيدُ الْيَقِينَ" فَتُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْمُرَادِ قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهَذَا الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدْ حَكَى الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلاثَةَ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُفِيدُهُ مُطْلَقًا.
وَالثَّانِي: لا تُفِيدُهُ مُطْلَقًا. قَالُوا: لِتَوَقُّفِ الْيَقِينِ عَلَى أُمُورٍ لا طَرِيقَ إلَى الْقَطْعِ بِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا قَدْ2 تُفِيدُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا تَوَاتُرٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ، وَلا عِبْرَةَ بِالاحْتِمَالِ. فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَإِلاَّ لَمْ يُوثَقْ بِمَحْسُوسٍ. قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ3.
"وَ" عِنْدَ السَّلَفِ "لا يُعَارِضُ الْقُرْآنَ غَيْرُهُ بِحَالٍ. وَحَدَثَ مَا قِيلَ أُمُورٌ قَطْعِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ تُخَالِفُ الْقُرْآنَ".
فَائِدَةٌ4: قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: يُقَالُ: مَا الْمَعْنَى بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ! 5 هَلْ هُوَ 5 الظَّوَاهِرُ مَعَ النُّصُوصِ، أَوْ الظَّوَاهِرُ بِمُفْرَدِهَا؟
ـــــــ
1 قول ابن جنيّ هذا لم نعثر عليه في كتابه "الخصائص". وقد ذكره السيوطي في المزهر "1/ 59" وعزاه لابن جني في "الخصائص". ولعل المصنف نقله عن السيوطي دون أن يرجع إلى الأصل! أو أن طبعه الخصائص فيها نقص!
2 ساقطة من ش ز.
3 انظر المسودة ص240.
4 في ش: انتهى.
5 ساقطة من ش.(1/292)
وَيُقَالُ أَيْضًا: الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ مُرَادَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَلَنَا أَلْفَاظٌ نَقْطَعُ بِمَدْلُولِهَا بِمُفْرَدِهَا. وَتَارَةً بِانْضِمَامِ قَرَائِنَ أَوْ شَهَادَةِ1 الْعَادَاتِ، ثُمَّ نَمْنَعُ مُعَارَضَةَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَطْعِيِّ لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ.
وَقَوْلُهُمْ: "الْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَظْنُونِ مَظْنُونٌ" بَاطِلٌ، لأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ الظَّنِّيَّةِ قَدْ يَكُونُ قَطْعِيًّا، بَلْ الْمَوْقُوفُ عَلَى الشَّكِّ قَدْ يَكُونُ قَطْعِيًّا، فَضْلاً عَنْ الظَّنِّ. وَيُعْرَفُ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ قَطْعِيَّةٌ.
الثَّانِي: أَنَّ الشَّكَّ فِي الرَّكَعَاتِ يُوجِبُ الإِتْيَانَ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى. فَيُقْطَعُ بِالْوُجُوبِ عِنْدَ الشَّكِّ، وَكَذَا لَوْ شَكَكْنَا فِي عَيْنِ الْحَلالِ، كَاشْتِبَاهِ مَيْتَةٍ بِمُذَكَّاةٍ، وَأَجْنَبِيَّةٍ بِأُخْتِهِ.
الثَّالِثُ: إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَانْتِفَاءُ الرَّيْبِ يَقْطَعُ بِوُجُوبِ2 الْحُكْمِ، حَتَّى لَوْ جَحَدَ وُجُوبَهُ3 كَفَرَ فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ: الْقَطْعُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى غَيْرِ قَطْعِيٍّ. انْتَهَى.
"وَلا مُنَاسَبَةَ" أَيْ لا يُلْتَفَتُ إلى4 اعْتِبَارُ وُجُودِ مُنَاسَبَةٍ "ذَاتِيَّةٍ" أَيْ طَبِيعِيَّةٍ "بَيْنَ لَفْظٍ وَمَدْلُولِهِ" أَيْ مَدْلُولِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، لِمَا5 تَقَدَّمَ مِنْ6 الْمُشْتَرَكِ
ـــــــ
1 في ش: شهادات.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: بوجوبه.
4 ساقطة من ش.
5 في ش: كما.
6 في ش: في.(1/293)
الْمَوْضُوعِ لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ، كَالْقُرْءِ1 وَالْجَوْنِ2 وَنَحْوِهِمَا وَلاخْتِلافِ الاسْمِ 3 لاختلاف الأمم 3 مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ كُلُّ اسْمٍ بِمَعْنًى بِإِرَادَةِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ4.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ عَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ5 الْمُعْتَزِلِيُّ الصَّيْمَرِيُّ6 - بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْمِيمِ-.
"وَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ" إذَا دَارَ بَيْنَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، مَعَ7 الاحْتِمَالِ 8 "عَلَى حَقِيقَتِهِ" كَالأَسَدِ مَثَلاً فَإِنَّهُ لِلْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ حَقِيقَةً وَلِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَجَازًا فَإِذَا أُطْلِقَ وَلا قَرِينَةَ كَانَ لِلْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ الْحَقِيقَةُ، وَالْمَجَازُ 8 خِلافُ الأَصْلِ9.
ـــــــ
1 فهو موضوع للحيض والطهر، وهما نقيضان. فلو كانت الدلالة لمناسبة ذاتية لما كان ذلك. "انظر شرح العضد 1/ 192".
2 فهو موضوع الأسود والأبيض، وهما ضدان. فلو كانت الدلالة لمناسبة ذاتية لما كان ذلك. "انظر شرح العضد 1/ 193".
3 ساقطة من ش. وفي ع: لاختلاف الاسم.
4 انظر المسودة ص563، الإحكام للآمدي 1/ 73، العضد على ابن الحاجب 1/ 192 وما بعدها، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 265، المزهر 1/ 47 وما بعدها.
5 في ش ب: سلمان.
6 هو عبّاد بن سليمان بن علي، أبو سهل، معتزلي من أهل البصرة، من أصحاب هشام بن عمرو، قال ابن النديم: "كان يخالف المعتزلة بأشياء اخترعها لنفسه". عاش في القرن الثالث الهجري، ولم نعثر على تاريخ وفاته. "انظر ترجمته في الفهرست لابن النديم ص215، فرق وطبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار ص83، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1/ 265".
7 في ش: نعم.
8 ساقطة من ش.
9 انظر شرح تنقيح الفصول ص112، روضة الناظر وشرحها لبدران 2/ 21.(1/294)
"وَ" كَذَلِكَ إذَا دَارَ الأَمْرُ فِي 1 اللَّفْظِ بَيْنَ 1 جَرَيَانِهِ عَلَى عُمُومِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى "عُمُومِهِ"؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَقَاءُ الْعُمُومِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} 2 يُدْخِلُ فِي عُمُومِهِ الْحُرَّتَيْنِ وَالأَمَتَيْنِ. وَإِذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَمَةً وَالأُخْرَى حُرَّةً، وَلا يُخَصَّصُ3 بِالْحُرَّتَيْنِ4.
"وَ" كَذَا إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا أَوْ مُفْرَدًا. فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى "إفْرَادِهِ" كَالنِّكَاحِ. فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ وَسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ الْعَقْدُ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْوَطْءِ دُونَ الْعَقْدِ، أَوْ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ، لا عَلَى الاشْتِرَاكِ5.
"وَ" كَذَا إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُضْمَرًا أَوْ مُسْتَقِلاًّ. فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى "اسْتِقْلالِهِ" وَهُوَ عَدَمُ التَّقْدِيرِ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الأَرْضِ} 6 فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُقَدِّرُ لِيُقَتَّلُوا: "إنْ قَتَلُوا"؛ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ "إنْ سَرَقُوا"، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الأَصْلُ الاسْتِقْلالُ. وَهُوَ عَدَمُ التَّقْدِيرِ7.
ـــــــ
1 في ش: اللفظين.
2 الآية 23 من النساء.
3 في ز: ولا يختص.
4 انظر شرح تنقيح الفصول ص112.
5 انظر شرح تنقيح الفصول ص112.
6 الآية 33 من المائدة.
7 انظر تفصيل الموضوع في أحكام القرآن لابن العربي 2/ 596، وانظر شرح تنقيح الفصول ص112.(1/295)
"وَ" كَذَا إذَا1 دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا أَوْ مُطْلَقًا. فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى "إطْلاقِهِ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} 2 فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُقَيِّدُهُ بِالْمَوْتِ عَلَى الشِّرْكِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْمِلُهُ عَلَى إطْلاقِهِ؛ لأَنَّهُ الأَصْلُ. فَيَكُونُ مُجَرَّدُ الشِّرْكِ مُحْبِطًا لِمَا سَبَقَهُ مِنْ الأَعْمَالِ3.
"وَ" كَذَا إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا أَوْ مُتَأَصِّلاً فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى "تَأْصِيلِهِ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} 4. قِيلَ5: "لا" زَائِدَةٌ، وَأَصْلُ الْكَلامِ: "أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ". وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ؛ لأَنَّ الأَصْلَ فِي الْكَلامِ التَّأْصِيلُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ لَسْت فِيهِ، بَلْ لا يُعَظَّمُ وَلا يَصْلُحُ لِلْقَسَمِ إلاَّ إذَا كُنْت فِيهِ6.
"وَ" كَذَا إذَا دَارَ الأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُؤَخَّرًا أَوْ مُقَدَّمًا. فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى "تَقْدِيمِهِ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 7. فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إنَّ فِي الآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: "وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا كَانُوا8 قَبْلَ الظِّهَارِ سَالِمِينَ مِنْ الإِثْمِ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ". وَعَلَى هَذَا: فَلا يَكُونُ الْعَوْدُ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. وَبَعْضُهُمْ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 الآية 65 من الزمر.
3 انظر شرح تنقيح الفصول ص112.
4 الآية الأولي من البلد.
5 ساقطة من ش.
6 انظر شرح تنقيح الفصول ص112، 113.
7 الآية 3 من المجادلة.
8 في ع ب: قالوا.(1/296)
يَحْمِلُهَا عَلَى الأَصْلِ، وَهُوَ التَّرْتِيبُ. وَعَلَى هَذَا: فَلا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إلاَّ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ1.
"وَ" كَذَا إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُؤَكَّدًا أَوْ مُؤَسَّسًا. فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى "تَأْسِيسِهِ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ إلَى آخِرِهَا فَإِنْ جُعِلَ تَأْكِيدًا لَزِمَ تَكْرَارُ التَّأْكِيدِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِ مَرَّاتٍ. وَالْعَرَبُ لا تَزِيدُ فِي التَّأْكِيدِ عَلَى ثَلاثٍ، فَيُحْمَلُ فِي كُلِّ مَحَلٍّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ2.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} فِي سُورَةِ الْمُرْسَلاتِ. فَيَكُونُ الْجَمْعُ3 تَأْسِيسًا لا تَأْكِيدًا4.
"وَ" كَذَا إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَرَادِفًا أَوْ مُتَبَايِنًا. نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلامِ وَالنُّهَى" 5. فَالنُّهَى: جَمْعُ نُهْيَةٍ - بِالضَّمِّ- وَهِيَ الْعَقْلُ، فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَسَّرَ "أُولُو الأَحْلامِ" بِالْعُقَلاءِ. فَيَكُونُ اللَّفْظَانِ مُتَرَادِفَيْنِ. وَبَعْضُهُمْ فَسَّرَ "أُولُو الأَحْلامِ" بِالْبَالِغِينَ. فَيَكُونُ اللَّفْظَانِ مُتَبَايِنَيْنِ. فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى "تَبَايُنِهِ".
ـــــــ
1 انظر شرح تنقيح الفصول ص112، 113.
2 أي على ما تقدم قبل لفظ ذلك التكذيب، ويكون التكذيب ذُكِرَ باعتبار ما قبل ذلك اللفظ خاصة، فلا يتكرر منها لفظّ، ولا يكون تأكيدّ البتة في السورة كلها. فقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} المراد آلاء خروج اللؤلؤ والمرجان خاصة وكذلك الأمر في جميع السورة. "شرح تنقيح الفصول ص111".
3 في ش: اللفظ.
4 انظر شرح تنقيح الفصول ص112، 113.
5 قال الزيلعي: روى من حديث ابن مسعود ومن حديث أبي مسعود ومن حديث البراء بن عازب. فأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عنه مرفوعاً، وأما حديث أبي مسعود فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عنه مرفوعاً، وأما حديث البراء فأخرجه الحاكم في المستدرك عنه مرفوعاً. "انظر نصب الراية 2/ 37، صحيح مسلم 1/323، سنن أبي داود 1/ 254، سنن النسائي 2/ 87، سنن ابن ماجة 1/ 313، تحفة الأحوذي 2/ 19".(1/297)
فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ مَعَ احْتِمَالِ1 حَقِيقَتِهِ عَلَيْهَا "دُونَ مَجَازِهِ، وَ" عَلَى عُمُومِهِ دُونَ "تَخْصِيصِهِ، وَ" عَلَى إفْرَادِهِ دُونَ "اشْتِرَاكِهِ، وَ" عَلَى اسْتِقْلالِهِ دُونَ "إضْمَارِهِ، وَ" عَلَى إطْلاقِهِ دُونَ "تَقْيِيدِهِ، وَ" عَلَى تَأْصِيلِهِ دُونَ "زِيَادَتِهِ، وَ" عَلَى تَقْدِيمِهِ دُونَ "تَأْخِيرِهِ، وَ" كَذَا إذَا دَارَ الأَمْرُ بَيْنَ كَوْنِ اللَّفْظِ مُؤَكِّدًا أَوْ مُؤَسِّسًا. فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى تَأْسِيسِهِ دُونَ "تَوْكِيدِهِ. وَ" عَلَى تَبَايُنِهِ دُونَ "تَرَادُفِهِ".
"وَ" كَذَا إذَا دَارَ الأَمْرُ بَيْنَ نَسْخِ2 الْحُكْمِ وَبَقَائِهِ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 3. فَحَصْرُ الْمُحَرَّمِ فِي هَذِهِ الأَرْبَعَةِ يَقْتَضِي إبَاحَةَ مَا عَدَاهَا وَمِنْ جُمْلَتِهِ4 السِّبَاعُ. وَقَدْ وَرَدَ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي5 نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ" 6. فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ نَاسِخٌ لِلإِبَاحَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَيْسَ بِنَاسِخٍ، وَالأَكْلُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ الأَصْلُ فِي
ـــــــ
1 في ش: احتمال محل.
2 في ش: فسخ.
3 الآية 145 من الأنعام.
4 في ع: جملة.
5 ساقطة من ش.
6 اخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة في مسنده عن ابن عباس. "انظر صحيح مسلم 3/ 1534، سنن أبي داود 3/ 485، سنن ابن ماجة 2/ 1077، مسند أحمد 1/ 244، 147، فيض القدير 6/ 304".(1/298)
إضَافَةِ الْمَصْدَرِ بِنَصِّ النُّحَاةِ. فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} 1 فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا2.
وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فَيُحْمَلُ "عَلَى بَقَائِهِ دُونَ نَسْخِهِ، إلاَّ لِدَلِيلٍ رَاجِحٍ" يَدُلُّ عَلَى خِلافِ مَا قُلْنَا، أَنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، فَيُعْمَلُ بِهِ وَيُتْرَكُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
"وَيُحْمَلُ" اللَّفْظُ الصَّادِرُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ لَهُ عُرْفٌ "عَلَى عُرْفِ مُتَكَلِّمٍ" كَالْفَقِيهِ مَثَلاً. فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى 3عُرْفِهِ فِي 3 كَلامِهِ وَمُصْطَلَحَاتِهِ وَكَذَا الأُصُولِيُّ وَالْمُحَدِّثُ وَالْمُفَسِّرُ وَاللُّغَوِيُّ، وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْعُلُومِ.
وَكَذَلِكَ إذَا سُمِعَ مِنْ الشَّارِعِ شَيْءٌ لَهُ مَدْلُولٌ شَرْعِيٌّ4 وَمَدْلُولٌ لُغَوِيٌّ. فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَدْلُولِهِ الشَّرْعِيِّ. كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ" 5. فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، - وَهُوَ الدُّعَاءُ-، لَزِمَ أَنْ لا يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءً بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّلاةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الشَّرْعِ. وَهِيَ الْعِبَادَةُ الْمَخْصُوصَةُ6، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 الآية 3 من المائدة.
2 انظر شرح تنقيح الفصول ص112-114.
3 في ش: عرف.
4 في ش: لفظي.
5 أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر مرفوعاً. والمراد بالطهور المصدر وهو التطهير الأعم من الوضوء والغسل. "انظر صحيح مسلم 1/ 204، سنن أبي داود 1/ 14، سنن النسائي 1/ 75، تحفة الأحوذي 1/ 23، سنن ابن ماجة 1/ 100، فيض القدير 6/ 415".
6 انظر التمهيد للأسنوي ص61، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص139 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص112، 114، اللمع للشيرازي ص6.(1/299)
فصل في الأحكام
...
فصل :"الأَحْكَامُ"
أَيْ: هَذَا فَصْلٌ نَذْكَرُ1 فِيهِ هُنَا نُبْذَةً مِنْ مَعَانِي الأَحْكَامِ. وَحَيْثُ انْتَهَى الْكَلامُ عَلَى مَا يُسْتَمَدُّ مِنْهُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ اللُّغَةِ، شَرَعْنَا فِي ذِكْرِ مَا يُسْتَمَدُّ مِنْهُ مِنْ الأَحْكَامِ، إذْ لا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ، وَحَاكِمٍ، وَمَحْكُومٍ فِيهِ، وَمَحْكُومٍ عَلَيْهِ.
وَالْكَلامُ الآنَ فِي الْحُكْمِ2 فَنَقُولُ:
"الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ" يُطْلَقُ بِثَلاثَةِ3 اعْتِبَارَاتٍ:
أَحَدُهَا: "بِمَعْنَى مُلاءَمَةِ الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتِهِ4". كَقَوْلِنَا: إنْقَاذُ الْغَرِيقِ حَسَنٌ، وَاتِّهَامُ الْبَرِيءِ قَبِيحٌ.
الثَّانِي: مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "أَوْ" بِمَعْنَى "صِفَةِ كَمَالٍ وَنَقْصٍ" كَقَوْلِنَا: الْعِلْمُ حَسَنٌ، وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ.
ـــــــ
1 في ش: يذكر.
2 بدأ المؤلف رحمه الله الكلام على الحكم، وضمنه الحديث عن الحاكم، لأن الحكم والحاكم متلازمان، وقد تبع في ذلك ابن السبكي الذي عرف الحكم بأنه خطاب الله. ثم قال: لا حاكم إلا الله "جمع الجوامع 1/ 47، 53" والكلام عن الحاكم من اختصاص علم أصول الدين. ولكن علماء أصول الفقه يتعرضون لبعض بحوثه التي تتصل بالحكم. يقول الآمدي: اعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى، ولا حكم إلا ما حكم به، ويتفرع عليه: أن العقل لا يحسن ولا يقبح. ولا يوجب شكر المنْعم، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع "الإحكام له 1/ 79".
3 في ز ب ض: لثلاث.
4 قال البناني: "ليس المراد بالطبع المزاج، بل الطبيعة الإنسانية المائلة إلى جلب المنافع ودفع المضار. "حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 57". وقال الغزالي: "إنْ المراد هو ما يوافق غرض الفاعل أو يخالفه". "المستصفى 1/ 56"(1/300)
وَكُلٌّ مِنْهُمَا1 "عَقْلِيٌّ" أَيْ إنَّ الْعَقْلَ يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الشَّرْعِ2.
"وَ" الثَّالِثُ: إطْلاقُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ "بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ، وَ" بِمَعْنَى "الذَّمِّ وَالْعِقَابِ: شَرْعِيٌّ، فَلا حَاكِمَ إلاَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعَقْلُ لا يُحَسِّنُ وَلا يُقَبِّحُ وَلا يُوجِبُ وَلا يُحَرِّمُ3" عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَالأَشْعَرِيَّةِ4.5 قَالَهُ6 ابْنُ عَقِيلٍ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْفُقَهَاءِ7.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ5 : لَيْسَ فِي السُّنَّةِ قِيَاسٌ، وَلا يُضْرَبُ لَهَا الأَمْثَالُ، وَلا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ الاتِّبَاعُ.
ـــــــ
1 أي من المعنيين السابقين للحسن والقبيح.
2 انظر: نهاية السول 1/ 145، شرح تنقيح الفصول ص89، فواتح الرحموت 1/ 25، التوضيح على التنقيح 3/ 103، كتاب الأربعين ص246.
3 انظر: الإحكام للآمدي 1/ 79.
4 نقل ابن حجر عن السمعاني قوله: "إن العقل لا يوجب شيئاً، ولا يحرم شيئاً، ولا حظَّ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء..." ثم ذكر الأدلة. "فتح الباري 13/ 274".
5 في ز ب: قال ابنْ عقيل وأهل السنة والإمام أحمد رحمه الله تعالى.
6 في ع ض: قال.
7 انظر معنى الحسن والقبيح وكلام العلماء فيه قي "المسودة ص473، 577، التعريفات ص91، 178، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 57، التوضيح على التنقيح 2/ 103، إرشاد الفحول ص7، الإحكام، الآمدي 1/ 79، مختصر ابن الحاجب وشرحه وحواشيه 1/ 200، نهاية السول 1/ 145، تيسير التحرير 2/ 152، شرح البدخشي 1/ 144، الإحكام، ابن حزم 1/ 51، الإرشاد للجويني ص258 غاية المرام ص234، نهاية الأقدام ص370، الأربعين ص246".(1/301)
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ1، مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَالْكَرَّامِيَّةُ: الْعَقْلُ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، وَيُوجِبُ وَيُحَرِّمُ2.
وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ قَوْلانِ3.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: قَالَ شَيْخُنَا - يَعْنِي4 الشَّيْخَ5 تَقِيَّ الدِّينِ- وَغَيْرُهُ: الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ ثَابِتَانِ، وَالإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ بِالْخِطَابِ وَالتَّعْذِيبُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الإِرْسَالِ وَرَدُّ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الشَّرْعِيَّيْنِ إلَى الْمُلاءَمَةِ وَالْمُنَافَرَةِ؛ لأَنَّ الْحُسْنَ الشَّرْعِيَّ: يَتَضَمَّنُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ الْمُلائِمَيْنِ. وَالْقُبْحُ الشَّرْعِيُّ: يَتَضَمَّنُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الْمُنَافِرَيْنِ.
وَاخْتَارَ ابْنُ الْخَطِيبِ6 فِي آخِرِ كُتُبِهِ: أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ ثَابِتَانِ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ. انْتَهَى.
ـــــــ
1 هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي. ولد سنة 317هـ. وصنف في الأصول والفروع والفرائض. توفي سنة 371هـ. "انظر: طبقات الحنابلة 2/ 139، المنهج الأحمد 2/ 66".
2 انظر: المعتمد 1/ 365، 2/ 868، الإحكام، الآمدي 1/ 80، إرشاد الفحول ص7، شرح البدخشي 1/ 146، المسودة ص473، 480، شرح العضد وحواشيه 1/ 122، تيسير التحرير 2/ 152، كشف الأسرار 4/ 230، شرح تنقيح الفصول ص88، مدارج السالكين 1/ 231، الرد على المنطقيين ص420، الإرشاد للجويني ص258.
3 انظر: تيسير التحرير 2/ 150، كشف الأسرار 4/ 231، فواتح الرحموت 1/ 25، المنخول ص15، غاية المرام في علم الكلام ص235، التوضيح على النتقيح 2/ 104.
4 في ب ع ض: يعني به.
5 ساقطة من ز.
6 هو الفخر الرازي. "انظر: طبقات الشافعية الكبراى للسبكي 8/ 18، وفيات الأعيان 3/ 381" وقد مرت ترجمته سابقاً.(1/302)
وَقَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ أَيْضًا: لَيْسَ مُرَادُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ الأَحْكَامَ عَقْلِيَّةٌ: 1 أَنَّ الأَوْصَافَ 1 مُسْتَقِلَّةٌ بِالأَحْكَامِ، 2 وَلا أَنَّ "2 الْعَقْلَ هُوَ الْمُوجِبُ، أَوْ الْمُحَرِّمُ3، بَلْ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ كَلَّفَ4 بِتَرْكِ الْمَفَاسِدِ5 وَتَحْصِيلِ6 الْمَصَالِحِ. فَالْعَقْلُ أَدْرَكَ الإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ7، 8 لا أَنَّهُ 8 أَوْجَبَ وَحَرَّمَ فَالنِّزَاعُ 9 مَعَهُمْ: فِي 9 أَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ ذَلِكَ أَمْ لا؟
فَخُصُومُهُمْ يَقُولُونَ10: ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلا يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ الْوُقُوعُ.
وَهُمْ يَقُولُونَ: بَلْ هَذَا عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْ قِبَلِ الْوَاجِبَاتِ. فَكَمَا11 يُوجِبُ الْعَقْلُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلِيمًا12 قَدِيرًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، كَذَلِكَ أَدْرَكَ وُجُوبَ مُرَاعَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَصَالِحِ وَلِلْمَفَاسِدِ. فَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ13. انْتَهَى.
ـــــــ
1في ش: إلا إذا أصبحت. وفي ز ع ب ض: إذ الأوصاف.
2 في ش ع: ولا. وفي ز: وأن.
3 في ش: المحرام.
4 في ش: كان.
5 في ش: الفاسد.
6 في ش: زمن تحصيل.
7 انظر: نهاية السول 1/ 145، شرح تنقيح الفصول ص90.
8 في ش: لأنه.
9 في ش: منهم.
10 في ز ع ض: تقول.
11 في ش: فكل ما.
12 في ش: عليا.
13 انظر: حاشية البناني 1/ 56، المستصفى 1/ 57، شرح تنقيح الفصول ص90.(1/303)
وَمِنْ قَوَاعِدِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ1 "لا حَاكِمَ إلاَّ اللَّهُ تَعَالَى": أَنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ وَقُبْحَهُ لَيْسَا لِذَاتِ الْفِعْلِ، وَلا لأَمْرٍ دَاخِلٍ فِي ذَاتِهِ2، وَلا خَارِجٍ3 لازِمٍ لِذَاتِهِ، حَتَّى يَحْكُمَ الْعَقْلُ بِحُسْنِ الْفِعْلِ، أَوْ قُبْحِهِ بِنَاءً عَلَى تَحَقُّقِ4 مَا بِهِ مِنْ5 الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ6.
وَالْحَنَفِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلُوا الْعَقْلَ حَاكِمًا صَرِيحًا فَقَدْ قَالُوا: حُسْنُ بَعْضِ الأَشْيَاءِ وَقُبْحُهَا لا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ فِي بَعْضِ الأَشْيَاءِ بِأَنَّهَا مَنَاطٌ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ نَبِيٌّ وَلا كِتَابٌ7.
وَبَعْضُ تِلْكَ الأَحْكَامِ بَدِيهِيٌّ8، وَبَعْضُهَا كَسْبِيٌّ9، "وَلا يَرِدُ الشَّرْعُ
ـــــــ
1 ساقطة من ش ز.
2 كالزوجية للأربعة "فواتح الرحموت 1/ 31"
3 في ب ع ض: لخارج.
4 في ش: تحقيق.
5 ساقطة من ز ع ب ض.
6 انظر: الإحكام للآمدي 1/ 79، مختصر ابن الحاجب وشرحه 1/ 202، شرح البدخشي 1/ 144، المنخول ص8، كتاب الأربعين ص246، الإرشاد ص258.
7 يقول محمد بن نظام الدين الأنصاري الحنفي: أنَّ العقل معرّف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا، وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضاً. وقال أيضاً: من الحنفية من قال: إن العقل قد يستقل في إدراك بعض أحكامه تعالى. "فواتح الرحموت، له: 1/ 25" وقال بعض الحنفية: إن الحسن والقبيح عقليان، ولكن لا يوجبان حكماً "تيسير التحرير 2/ 153" وانظر: كشف الأسرار 4/ 231، العضد على ابن الحاجب 1/ 201، وهذا ما رجحه ابن القيم وقال: لا تلازم بينهما. "مدارج السالكين 1/ 231".
8 في ش: بديعي.
9 يقول الآمدي، نقلاً عن القائلين بالحْسن والقبيح العقليين: فما يدرك بالعقل: منه بديهي، كحسن العلم والإيمان، وقبح الجهل والكفران، ومنه نظري، كحسن الصدق المضر، وقبح الكذب النافع. "غاية المرام في علم الكلام ص234".(1/304)
بِمَا يُخَالِفُ مَا يُعْرَفُ بِبَدَاهَةِ1 الْعُقُولِ وَضَرُورِيَّاتِهَا2".
قَالَ الْقَاضِي وَالْحَلْوَانِيُّ3 وَغَيْرُهُمَا: مَا يُعْرَفُ بِبَدَاهَةِ4 الْعُقُولِ وَضَرُورِيَّاتِهَا5 - كَالتَّوْحِيدِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَقُبْحِ الظُّلْمِ- لا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِخِلافِهِ. وَمَا يُعْرَفُ بِتَوْلِيدِ الْعَقْلِ اسْتِنْبَاطًا أَوْ اسْتِدْلالاً، فَلا يُمْتَنَعُ أَنْ يَرِدَ بِخِلافِهِ6.
وَمَعْنَاهُ لأَبِي الْخَطَّابِ. فَإِنَّهُ قَالَ: مَا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ7:
- فَمَا كَانَ مِنْهُ وَاجِبًا لِعَيْنِهِ - كَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالإِنْصَافِ وَقُبْحِ الظُّلْمِ- فَلا يَصِحُّ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِخِلافِ ذَلِكَ.
- وَمَا كَانَ وَاجِبًا8 لِعِلَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ، مِثْلِ: الأَعْيَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا الَّتِي فِيهَا الْخِلافُ. فَيَصِحُّ أَنْ يَرْتَفِعَ الدَّلِيلُ وَالْعِلَّةُ، فَيَرْتَفِعَ9 ذَلِكَ الْحُكْمُ. وَهَذَا غَيْرُ
ـــــــ
1 في ز ش ض: ببدائه. "كذا".
2 في ز ع ب ض: وضروراتها.
3 هو محمد بن علي بن محمد بن عثمان، أبو الفتح، الفقيه الزاهد، كان من فقهاء الحنابلة ببغداد، وكان مشهوراً بالورع والدين المتين وكثرة العبادة، له كتاب "كفاية المبتدي" في الفقه، ومصنف في أصول الفقه في مجلدين، و "مختصر العبادات" ولد سنة 439هـ وتوفي سنة 505هـ.
"انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/ 106، طبقات الحنابلة 2/ 257، المدخل إلى مذهب أحمد ص210".
4 في ز ش ب ض: ببدائة. "كذا".
5 في ز ع ب ض: وضروراتها.
6 انظر: المسودة ص476-477، مدارج الساكين 1/ 239 وما بعدها.
7 في ش ز: قسمان.
8 في ش ز ع: وجب.
9 في ش: ويرتفع.(1/305)
مُمْتَنِعٍ. كَفُرُوعِ الدِّينِ كُلِّهَا. تَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ ثُمَّ تُنْسَخُ الأَدِلَّةُ فَيَرْتَفِعُ الْحُكْمُ1.
وَقَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الشَّرْعَ يَرِدُ بِمَا لا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ إذَا كَانَ الْعَقْلُ لا يُحِيلُهُ كَتَكْلِيفِ مَا لا يُطَاقُ2، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَسَنِهَا وَقَبِيحِهَا وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى الْقَبِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
"وَالْحُسْنُ" شَرْعًا "وَالْقُبْحُ شَرْعًا: مَا أَمَرَ بِهِ" اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا رَاجِعٌ لِلْحُسْنِ "وَمَا نَهَى عَنْهُ" اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا3 رَاجِعٌ لِلْقَبِيحِ4.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: إذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلٍ، فَهُوَ حَسَنٌ بِالاتِّفَاقِ. وَإِذَا نَهَى عَنْ فِعْلٍ 5 فَهُوَ قَبِيحٌ 5 بِالاتِّفَاقِ، وَلَكِنَّ6 حُسْنَهُ وَقُبْحَهُ 7 إمَّا أَنْ 7 يَنْشَأَ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ، كَمَا يُقَالُ، أَوْ8 يَنْشَأَ
ـــــــ
1 انظر: المسودة ص483-484.
2 ذهب جمهور الأصوليين إلى عدم اشتراط القدرة للتكليف. وأنه يجوز التكليف بالمحال، سواء كان محالاً لذاته أو محالاً لغيره، وقال بعضهم بشرط القدرة في التكليف، وأنه لا تكليف إلا بما يطاق. "انظر: حاشية البناني 1/ 206، تيسير التحرير 2/ 137، التوضيح على التنقيح 2/ 177، المنخول ص22، المسودة ص484". وسيأتي الكلام عن هذه المسألة تفصيلاً في مبحث المحكوم فيه.
3 في ز: هذا.
4 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 79، التوضيح على التنقيح 2/ 104، غاية المرام ص234، الإرشاد ص259.
5 في ز ع ض: فقبيح.
6 في ز ب: لكن.
7 في ش: إنما.
8 في ش: و.(1/306)
عَنْ تَعَلُّقِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ1، أَوْ مِنْ الْمَجْمُوعِ.
فَالأَوَّلُ: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِهَذَا لا يَجُوزُ نَسْخُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا2.
وَالثَّانِي: قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الطَّوَائِفِ3.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَنْشَأُ عَنْ الأَمْرَيْنِ. فَتَارَةً يَأْمُرُ بِالْفِعْلِ لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِنْ نَفْسِ الأَمْرِ، دُونَ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَهُوَ4 الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ5، كَنَسْخِ الصَّلاةِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ إلَى خَمْسٍ6. وَكَمَا نُسِخَ أَمْرُ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ7 بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَتَارَةً لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِنْ8 الْفِعْلِ نَفْسِهِ، وَتَارَةً لِحِكْمَةٍ مِنْ الْفِعْلِ حَصَلَتْ بِالأَمْرِ9.
"وَ" الْحَسَنُ "عُرْفًا" أَيْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ "مَا لِفَاعِلِهِ فِعْلُهُ" أَيْ أَنْ يَفْعَلَهُ، "وَعَكْسُهُ" أَيْ: وَالْقَبِيحُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا لَيْسَ لِفَاعِله10 أَنْ يَفْعَلَهُ11.
ـــــــ
1 فالحسن حسن لأن الشارع أمر به، والقبيح قبيح لأن الشارع نهى عنه.
2 لأن الأمر بالصلاة –مثلاً- حسن لذاته، فلا يصح عندهم بطلان الحسن بذاته، لأن ما بالذات لا يتغير ولا يبطل ولا يختلف من وقت لوقت. "فواتح الرحموت 1/ 27".
3 يقول الآمدي –بناء على تحسين الشرع وتقبيحه-: ولهذا صح القول بنسخ الشرائع، ولو كان الفضاء فيه بالحسن أو القبح على شيء ما لذاته ونفسه، لا لنفس الخطاب، لما تصور أن يختلف ذلك باختلاف الأمم والأعصار. "غاية المرام في علم الكلام ص236".
4 في ع ب ض: وهذا.
5 انظر: غاية المرام ص358.
6 في ش: حسن.
7 في ب ض: عليه الصلاة والسلام.
8 في ش ز: عن.
9 في ز: من الأمر.
10 في ش د ع ض: لفاعل.
11 انظر: المسودة ص577، الإحكام، الآمدي 1/ 80، المعتمد 1/ 365.(1/307)
"وَلا1 يُوصَفُ فِعْلُ غَيْرِ مُكَلَّفٍ" مِنْ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ "بِحُسْنٍ وَلا قُبْحٍ"؛ لأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلا مَحْظُورٍ2.
"وَشُكْرُ الْمُنْعِمِ" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ3 جَمِيعِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الْقُوَى وَالأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الْمُدْرِكَةِ وَالْمُحَرِّكَةِ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لأَجْلِهِ4، كَاسْتِعْمَالِ النَّظَرِ فِي مُشَاهَدَةِ مَصْنُوعَاتِهِ وَآثَارِ رَحْمَتِهِ، لِيُسْتَدَلَّ عَلَى صَانِعِهَا، وَكَذَا السَّمْعُ وَغَيْرُهُ.
"وَمَعْرِفَتُهُ تَعَالَى" وَهِيَ5 عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ وُجُودِ ذَاتِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ6 فِيمَا يَزَلْ وَلا يَزَالُ دُونَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، لاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَقْلاً عِنْدَ الأَكْثَرِينَ.
"وَهِيَ" أَيْ مَعْرِفَتُهُ جَلَّ وَعَلا "أَوَّلُ وَاجِبٍ لِنَفْسِهِ" عَلَى الْمُكَلَّفِ بِالنَّظَرِ فِي الْوُجُودِ وَالْمَوْجُودِ7.
ـــــــ
1 في ش ز: ولم.
2 إن فعل غير المكلف ليس حسناً ولا قبيحاً بمعنى أن الحَسَن ما أمر الله به، والقبيح ما نهى الله عنه، والصغير أو المجنون غير مكلف، كما أن فعله لا يوصف بحُسْن ولا قبح بمعنى أن ما لفاعله فعله مع كونه متمكناً منه، عالماً بحالة، والقبيح عكسه، لأن غير الكلف ليس عالماً بحاله، ولا متمكناً من فعله، فلا يوصف فعله بحُسْن ولا قبح، كما لا يوصف فعل الصغير أو المجنون بالحسن والقبيح بمعنى الثوات والعقاب، لأن هؤلاء لا يكتب لهم ثوت، ولا ينزل به عقاب. "انظر: شرح العضد وحاشية الجرجاني 1/ 200، المعتمد 1/ 365-366، التوضيح على التنقيح 28/ 105". وسيأتي كلام المصنف في ذلك "ص422" في فصل المباح.
3 في ش: استعماله.
4 انظر: التعريفات ص133.
5 في ز: هو.
6 في ز: الكمالات.
7 اختلف العلماء في أول واجب على الإنسان، فقال قوم: أو واجب المعرفة، لأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الأمتثال، والانكفاف عن شيء من النهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الأمر والناهي، واستدلوا بحديث معاذ رضي الله عنه عندما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له: فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله... وقال آخرون: أول واجب النظر والاستدلال لأن المعرفة لا تتأتى إلا بهما، والنظر والاستدلال مقدمة الواجب فيجب، فيكون أول واجب النظر، وجمع بعضهم بين القولين بأن من قال أول واجب المعرفة أراد طلباً وتكليفاً، ومن قال النظر أو القصد أراد امتثالاً، وخالف آخرون هذه الأقوال وقالوا إن المعرفة حصلت بالفطرة للآيات والأحاديث فيها، "كل مولود يولد على الفطرة" . انظر هذه الآراء ومناقشتها في: "فتح الباري 13/ 270-275، الشامل في أصول الدين ص120، شرح الأصول الخمسة ص39، فواتح الرحموت 1/ 44، الإرشاد لنجويني ص8".(1/308)
"وَاجِبَانِ" أَيْ شُكْرُ الْمُنْعِمِ1 وَمَعْرِفَتُهُ "شَرْعًا" أَيْ: بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ لا يُوجِبُ وَلا يُحَرِّمُ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ2.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: بِالْعَقْلِ دُونَ الشَّرْعِ3.
ـــــــ
1 مسألة شكر المنعم فرع عن مسألة الحسن والقبح، ويبحث الأصوليون من أهل السنة هذه المسألة على التسليم جدلاً بالحسن والقبح العقليين، مع أنه إذا بطل هذا الأصل لم يجب شكر المنعم عقلاً. "انظر: مناهج العقول للبدخشي 1/ 147، الإحكام، الآمدي 1/ 87، شرح العضد 1/ 216، حاشية البناني 1/ 60، المسودة ص473".
2 قال الإسنوي: شكر المنعم ليس بواجب عقلاً، إذ لا تعذيب قبل الشرع لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء / 15]، ولأنه لو وجب إما لفائدة للمشكور وهو منزه. أو للشاكر في الدينا وأنه مشقة بلا حظ، أو في الآخرة، ولا استقلال للعقل بها. "نهاية السول 1/ 147 وما بعدها" ونقل ابن مفلح عن أبي بعلى: "أن معرفة الله لا تجب عقلاً، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل" "الفروع 6/ 185"، وانظر: الإحكام، الآمدي 1/87، الإحكام ابن حزم 2/ 1153، إرشاد الفحول ص8، مناهج العقول 1/ 147، شرح العضد وحواشيه 1/ 217، تيسير التحرير 2/ 165، جمع الجوامع 1/ 62، المستصفى 1/ 61، المسودة ص473، الشامل 115، 119.
3 يقول القاضي عبد الجبار: إن سأل سائل فقال: ما أولُ ما أوجب الله عليك؟ فقل النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، لأنه تعالى لا يعرف بالضرورة، فيجب أن يعرف بالتفكير والنظر "شرح الأصول الخمسة ص39"، وانظر: فواتح الرحموت 1/ 44.(1/309)
وَعَنْ الأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. نَقَلَهُ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابِ "جَامِعِ الأَنوار1، لِتَوْحِيدِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ".
وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّظَرَ وَالْمَعْرِفَةَ لا يَقَعَانِ ضَرُورَةً2. قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدَّمَهُ3 ابْنُ مُفْلِحٍ فِي "بَابِ الْمُرْتَدِّ"4 وَابْنُ حَمْدَانَ فِي "نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ" وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ5 الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: بَلْ هُمَا كَسْبِيَّانِ. انْتَهَى.
وَقَالَ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ6: إنَّهُمَا يَقَعَانِ ضَرُورَةً7، فَلا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِمَا بِأَدِلَّةِ8 الْعَقْلِ. وَحَمَلَ9 ذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ10 الْفِطْرِيَّةِ. كَمَعْرِفَةِ إبْلِيسَ. لا الْمَعْرِفَةِ الإِيمَانِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: لا يَتَأَتَّى أَنَّهُ مُطِيعٌ فِي نَظَرِهِ، لأَنَّهُ
ـــــــ
1 في ش: الألغاز.
2 العلم الضروري هو العلم الذي يلزم نفس المخلوق لزوماً لا يمكنه معه الانفكاك عنه "فتاوي ابن تيمية 13/ 70" وانظر: شرح الأصول الخمسة 51 وما بعدها، الشامل للجويني ص115، 119.
3 في ش: وقيده.
4 قال ابن مفلح: "والمشهور في أصول الدين عن أصحابنا أن معرفة الله تعالى وجبت شرعاً، نص عليه، وقيل: عقلاً، وهي أول واجب لنفسه، ويجب قبلها النظر لتوقفها عليه، فهو أول واجب لغيره، ولا يقعان ضرورة، وقيل: بلى "الفروع 6/ 186".
5 في ش: فقال. وفي د ز ع ض: وقاله.
6 منهم أبو القاسم البلخي "انظر: شرح الأصول الخمسة ص52، 57".
7 انظر بيان هذا القول مناقشته في "شرح الأصول الخمسة ص57".
8 في ش: بأداة.
9 في ز ش: حمل
10 في ز ش: على العقل والمعرفة.(1/310)
لا تَصِحُّ طَاعَةُ مَنْ لا يَعْرِفُ، وَلا مَعْرِفَةُ مَنْ1 لَمْ يَنْظُرْ2.
"وَ" اُخْتُلِفَ: هَلْ بَيْنَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، أَمْ لا؟
فَـ3 "فِي قَوْلٍ: لا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عَقْلاً" قَالَ الرَّازِيّ: لا فَرْقَ بَيْنَ الشُّكْرِ وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَقْلاً. فَمَنْ أَوْجَبَ الشُّكْرَ عَقْلاً أَوْجَبَ الْمَعْرِفَةَ، وَمَنْ لا فَلا، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّظَرِيَّاتِ، لا مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ. قَالَ الأُرْمَوِيُّ4 فِي "الْحَاصِلِ": هُمَا مُتَلازِمَانِ5.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الشُّكْرَ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ6؛ لأَنَّ الشُّكْرَ عِنْدَهُمْ إتْعَابُ النَّفْسِ بِفِعْلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْعَقْلِيَّاتِ7، كَالنَّظَرِ إلَى مَصْنُوعَاتِهِ وَالسَّمْعِ إلَى الآيَاتِ، وَالذِّهْنِ إلَى فَهْمِ مَعَانِيهَا8. فَعِنْدَهُمْ مُدْرِكُ وُجُوبِ الشُّكْرِ عَقْلِيٌّ لِلْبُرْهَانِ الْكُلِّيِّ9 الْعَقْلِيِّ، وَمُخَالِفُوهُمْ
ـــــــ
1 في ع ب ض: لمن.
2 انظر: شرح الأصول الخمسة ص87.
3 في ش ز: و.
4 هو محمد بن حسين بن عبد الله الأزْمَوي، الفقيه الأصولي القاضي، كان من أكبر تلامذة الإمام فخر الدين الرازي، واختصر "المحصول"، وسماه "الحاصل" وكانت له شهرة وثروة ووجاهة، وكان متواضعاً، استوطن بغداد، ودرّس بالمدرسة الأشرفية، توفي في بغداد سنة 656هـ وقيل 653هـ. "انظر: طبقات الشافعية، الإسنوي 1/ 451، كشف الظنون 2/ 1615، معجم المؤلفين 9/ 244".
5 انظر: مناهج العقول 1/ 152 وما بعدها، الشامل في أصول الدين ص120.
6 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 87، مناهج العقول 1/ 152، شرح الأصول الخمسة ص87.
7 معنى الشكر عندهم: اجتناب المستخبثات العقلية، والإتيان بالمستحبات العقلية. "نهاية السول 1/ 150".
8 في ض: معناها.
9 ساقطة من ز ع ب ض.(1/311)
يَقُولُونَ: مُدْرِكُهُ السَّمْعُ لا الْعَقْلُ1.
"وَفِعْلُهُ تَعَالَى" وَتَقَدَّسَ "وَأَمْرُهُ لا لِعِلَّةٍ وَلا لِحِكْمَةٍ2 فِي قَوْلٍ " اخْتَارَهُ الْكَثِيرُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ3. وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّةُ4، وَالأَشْعَرِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ5.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا لِعِلَّةٍ وَحِكْمَةٍ. اخْتَارَهُ الطُّوفِيُّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ6، وَابْنُ الْقَيِّمِ7، وَابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ. وَحَكَاهُ عَنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَقُولُ8 بِوُجُوبِ الصَّلاحِ. وَلَهُمْ فِي
ـــــــ
1 انظر: مناهج العقول 1/ 148.
2 هذه المسألة فرع عن الاختلاف في الحسن والقبيح، وهي جواب لاعتراض المعتزلة على رد أهل السنة عليهم، بأن شكر المنعم لا يجب عقلاً، لأنه لو وجب لوجب إما لفائدة للمشكور وهو منزه. أو للشاكر في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ، أو في الآخرة لا استقلال للعقل بها، فاعترض المعتزلة على هذا الدليل بأنه ينطبق على الأحكام الشرعية، فأجاب أهل السنة بأن أفعال الله تعالى غير معللة بالأغراض والفائدة، لكن أحكام الله تعالى جاءت لرعاية مصالح العباد تفضلاً واحساناً، لا إيجاباً كما يقول المعتزلة. "انظر: نهاية السول 1/ 147، 150، مناهج العقول 1/ 150 وما بعدها، المستصفى 1/ 58، مقالات الإسلاميين 1/ 292". وفي ز ع ض: حكمة.
3 نقل الإسنوي الشافعي مذهبه فقال: إنّ مذهبنا أنه لا يجبُ تعليل أحكام الله تعالى، وأفعاله بالأعراض، فله بحكم المالكية أن يوجب ماشاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلاً "نهاية السول 1/ 152" وانظر: غاية المرام ص224، نهاية الاقدام ص397، الأربعين ص249.
4 انظر: ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان، لابن حزم ص47، الإحكام، لابن حزم 2/ 1110، 1126، 1131، 1148.
5 انظر: نهاية السول 1/ 152، مدارج السالكين 1/ 91، مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 115، غاية المرام ص224، المسودة ص65.
6 مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 119، المسودة ص63، منهاج السنة 1/ 34.
7 مدارج السالكين 1/ 97، 242، إعلام الموقعين 2/ 52.
8 في ز ع ب ش: لا تقول.(1/312)
الأَصْلَحِ قَوْلانِ1.
وَالْمُخَالِفُونَ لَهُمْ يَقُولُونَ بِالتَّعْلِيلِ، لا عَلَى مَنْهَجِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ2 الأَمْرَيْنِ. قَالَ3 الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَعْلِيلِ4 أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ قَوْلانِ، وَالأَكْثَرُونَ عَلَى التَّعْلِيلِ5.
وَالْحِكْمَةِ: هَلْ هِيَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الرَّبِّ تَعَالَى، لا تَقُومُ بِهِ، أَوْ قَائِمَةٌ [بِهِ]6، مَعَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمُنْفَصِلِ أَيْضًا؟ لَهُمْ فِيهِ قَوْلانِ. وَهَلْ تَتَسَلْسَلُ7 الْحِكَمُ، أَوْ لا تَتَسَلْسَلُ8؟ أَوْ تَتَسَلْسَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي؟ فِيهِ أَقْوَالٌ9.
احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ لِلْحِكْمَةِ وَالْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ} 10، وقَوْله تَعَالَى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 11، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلاَّ
ـــــــ
1 قال الجويني: القول في الصلاح والأصلح: اختلف مذاهب البغداديين والبصريين من المعتزلة في عقود هذا الباب، واضطربت آراؤهم "الإرشاد ص278" وانظر عرض الفكرة ومناقشتها في "غاية المرام ص224، 228، نهاية الاقدام ص404 وما بعدها".
2 في ع: طائفة منهم.
3 في ش: فقال.
4 ساقطة من ش.
5 منهاج السنة 2/ 239 مطبعة المدني، وانظر: اللمع ص55، الموافقات 2/ 3ط صبيح، شرح تنقيح الفصول ص406، منهاج السنة 1/ 35 "هذه طبعة بولاق، وكذلك في جميع ما سيأتي إلا إذا قيدناها بطبعة المدني التي فيها إضافات وزيادات عند التحقيق".
6 من منهاج السنة.
7 في ش ض: يتسلسل.
8 في ش ض: يتسلسل.
9 منهاج السنة 2/ 239 مطبعة المدني.
10 الآية 32 من المائدة.
11 الآية 7 من الحشر.(1/313)
لِنَعْلَمَ} 1، وَنَظَائِرِهَا.
وَلأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَكِيمٌ، شَرَعَ الأَحْكَامَ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2، وَالإِجْمَاعُ3 وَاقِعٌ عَلَى اشْتِمَالِ الأَفْعَالِ عَلَى الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، إمَّا وُجُوبًا كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ4، وَإِمَّا5 جَوَازًا كَقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ6، فَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِحِكْمَتِهِ7.
وَاحْتَجَّ النَّافُونَ بِوُجُوهٍ:
ـــــــ
1 الآية 143 من البقرة.
2 الآية 107 من الأنبياء.
3 الاجماع المقصود هنا إجماع أهل السنة والمعتزلة القائلين بإثبات الحكمة والعلة، وليس الإجماع الشرعي، لأنه سبق ذكر الاختلاف في هذا الموضوع في الصفحة السابقة.
4 انظر بحث رعاية الأصلح عند المعتزلة ومناقشته في "غاية المرام ص228، الإرشاد ص287، نهاية الاقدام ص404 وما بعدها".
5 في ش: أو.
6 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 121، 122، غاية المرام ص224، 231، فتاوى ابن تيمية 13/ 96.
7 قال البيضاوي: إيجاب الشرع لا يستدعي فائدة...، لكن نص في القياس على أن: الاستقراء دال على أن الله سبحانه وتعالى شرح أحكامه لمصالح العباد تفضلاً وإحساناً، وهذا يقتضي أن الله تعالى لا يفعل إلا لحكمة، وإن كان على سبيل التفضيل "نهاية السول 1/ 150" وقال ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجب عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكنة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتمَّ دلالة وأصدقها، "إعلام الموقعين 3/ 14" وقال ابن تيمية: إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها "الفتاوى 20/ 48" وانظر: شرح تنقيح الفصول ص91، الموافقات 2/ 3، المعتمد 2/ 887، مدارج السالكين 1/ 98، 242، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية ص73، المسودة ص64، منهاج السنة 1/ 35، فتاوى ابن تيمية 13/ 96.(1/314)
أَحَدُهَا: مَا1 قَالَ الرَّازِيّ: إنَّ الْعِلَّةَ إنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ مِنْ قِدَمِهَا قِدَمُ الْفِعْلِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً افْتَقَرَتْ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ2. وَهُوَ مُرَادُ الْمَشَايِخِ3 بِقَوْلِهِمْ: كُلُّ شَيْءٍ صُنْعُهُ، وَلا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ4.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: "لَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الْفِعْلِ": غَيْرُ مُسَلَّمٍ، إذْ لا يَلْزَمُ مِنْ قِدَمِهَا قِدَمُ الْمَعْلُولِ. كَالإِرَادَةِ قَدِيمَةٌ وَمُتَعَلِّقُهَا حَادِثٌ. وَلَوْ كَانَتْ حَادِثَةً لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ قِيلَ: كُلُّ حَادِثٍ مُفْتَقِرٌ إلَى عِلَّةٍ. وَهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ. بَلْ قَالُوا: يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ فَإِنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الأَوَّلِ مُرَادًا لِغَيْرِهِ كَوْنُ الثَّانِي كَذَلِكَ5، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي [مُحْدَثًا]6 لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ الأَوَّلُ كَذَلِكَ فَلا يَتَسَلْسَلُ7.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهِ النُّفَاة: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلاً8 لأَجْلِ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ9، أَوْ دَفْعِ10 مَفْسَدَةٍ. فَإِنْ كَانَ تَحْصِيلُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ أَوْلَى لَهُ مِنْ عَدَمِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 انظر: منهاج السنة 1/ 35.
3 في كتاب الأربعين: مشايخ الأصول.
4 الأربعين ص250، وانظر: الإحكام، ابن حزم 2/ 1148، مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 116، الشامل في أصول الدين ص678.
5 ساقطة من ش.
6 في جميع النسخ محبوباً، وهو خطأ.
7 قال ابن تيمية: والجواب عن التسلسل أن يقال هذا تسلسل في الحوادث المستقبلة، لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلاً لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل، فإذا كانت تلك الحكمة يطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلاً في المستقبل... والتسلسل في المستقبل جائز عند الجماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل... "منهاج السنة 1/ 35".
8 ساقطة من ش ز.
9 في ش ز: مسألة.
10 في الأربعين: لدفع، والنص منقول حرفياً من الأربعين ص249.(1/315)
تَحْصِيلِهَا كَانَ ذَلِكَ الْفَاعِلُ قَدْ اسْتَفَادَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ تَحْصِيلَ تِلْكَ1 الأَوْلَوِيَّةِ. وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ نَاقِصًا بِذَاتِهِ، مُسْتَكْمِلاً بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ تَحْصِيلُهَا وَعَدَمُهُ سَوَاءً بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، فَمَعَ الاسْتِوَاءِ لا يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ. فَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ2.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْحَصْرِ، وَبِالنَّقْصِ بِالأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ. كَإِيجَادِ الْعِلْمِ3.
فَإِنْ قَالُوا بِخُلُوِّهِ عَنْ النَّقْصِ4.
قِيلَ: كَذَا فِي التَّعْلِيلِ، نَمْنَعُ كَوْنَهُ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ، وَمُسْتَكْمِلاً بِغَيْرِهِ فِي ذَاتِهِ أَوْ 5 صِفَاتِ ذَاتِهِ 5، بَلْ اللاَّزِمُ حُصُولُ كَمَالاتٍ نَاشِئَةٍ مِنْ، جِهَةِ الْفِعْلِ، وَلا امْتِنَاعَ فِيهِ6. فَإِنَّ كَوْنَهُ مُحْسِنًا إلَى الْمُمْكِنَاتِ مِنْ جُمْلَةِ7 صِفَاتِ الْكَمَالِ8. وَكَذَا الْكَمَالُ فِي كَوْنِهِ خَالِقًا وَرَازِقًا عَلَى مَذْهَبِ الأَشْعَرِيِّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ أَوْجُهِ النَّفَّاة: أَنَّهُ9 لَوْ فَعَلَ فِعْلاً لِغَرَضٍ. فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِهِ بِدُونِ ذَلِكَ الْفِعْلِ. كَانَ تَوَسُّطُهُ عَبَثًا. وَإِلاَّ لَزِمَ الْعَجْزُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش ز.
2 كذا في الأربعين ص249-250، وانظر: غاية المرام ص226، مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 115، منهاج السنة 1/ 35.
3 كذا في د ض، وفي ش ز ع ب: العلم.
4 في ز ب ض: نقص، وفي ع: نقض.
5 في ب ض: صفاته.
6 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 162.
7 في ش ز: جهات.
8 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 162.
9 ساقطة من ش.(1/316)
وَلأَنَّ ذَلِكَ الْغَرَضَ مَشْرُوطٌ بِتِلْكَ الْوَسِيلَةِ، - لَكِنَّهُ1 بَاطِلٌ2-، لأَنَّ أَكْثَرَ الأَغْرَاضِ إنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْوَسَائِلِ، فَيُمْتَنَعُ اشْتِرَاطُهُ.
وَأُجِيبَ3 بِأَنَّ إطْلاقَ الْغَرَضِ لا يَجُوزُ، لِمَا يُوهِمُهُ4 عُرْفًا، وَلْيُعْدَلْ عَنْهُ إلَى لَفْظِ الْعِلَّةِ.
فَيُقَالُ: لا نُسَلِّمُ لُزُومَ5 الْعَبَثِ، لأَنَّ الْعَبَثَ الْخَالِيَ6 عَنْ الْفَائِدَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ بِدُونِ تَوَسُّطِ السَّبَبِ7 لا يَقْتَضِي عَبَثَ الْفِعْلِ وَإِلاَّ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الشَّرْعِيَّاتُ عَبَثًا؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إيصَالِ مَا حَصَلَتْ8 لأَجْلِهِ مِنْ إيصَالِ الثَّوَابِ بِدُونِ تَوَسُّطِهَا.
وَقَوْلُهُمْ: "إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى9 تَحْصِيلِهِ10 لَزِمَ الْعَجْزُ"، مَمْنُوعٌ؛ لأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ مَا [شُرِعَ]11 لأَجْلِهِ بِدُونِ الْفِعْلِ، وَبِأَنَّ12 إمْكَانَ تَحْصِيلِهِ بِدُونِ الْعَجْزِ دَوْرٌ.
"وَعَلَيْهِ": أَيْ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْعِلَّةِ "مُجَرَّدُ مَشِيئَتِهِ" تَعَالَى "مُرَجِّحٌ"
ـــــــ
1 في ش ز: لكونه.
2 انظر الأربعين ص250 وفي ز ش د: باطلاً.
3 في ع ز ب ض: أجيب.
4 في ع ب ض: توهمه.
5 ساقطة من ش.
6 أي: هو الخالي.
7 في ش: النسب.
8 لعلها: ما شرعت.
9 في ب: عن.
10 في ش: تسليمه.
11 إضافة يقتضيها السياق.
12 في ع ض: ولأن.(1/317)
لإِيجَادِ فِعْلِ1 مَا شَاءَهُ. 2 فَإِذَا شَاءَ 2 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَيْئًا مِنْ الأَشْيَاءِ تَرَجَّحَ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الإِشَاءَةِ3.
وَيَقُولُونَ: عِلَلُ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ مَحْضَةٌ4.
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بِالْمُنَاسَبَةِ، ثَبَتَ الْحُكْمُ عِنْدَهَا لا بِهَا5.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ الْمُنَى6 وَالشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ وَالْغَزَالِيُّ7: بِقَوْلِ الشَّارِعِ: جُعِلَ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ مُوجِبًا لِحُسْنِ الْفِعْلِ وَقُبْحِهِ، لا8 أَنَّهُ كَانَ حَسَنًا وَقَبِيحًا قَبْلَهُ، كَمَا يَقُولُ الْمُثْبِتُونَ.
"وَهِيَ" أَيْ 9 مَشِيئَةُ اللَّهِ 9 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "وَإِرَادَتُهُ لَيْسَتَا بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ،
ـــــــ
1 في ش: الفعل.
2 ساقطة من ب. وفي ش ز: فإن شاء.
3 انظر فواتح الرحموت 1/ 34.
4 هذا القول لنفاة التعليل الذين ينكرون تعليل الأحكام، ثم يقولون بالقياس القائم على العلة، فعرفوا العلة بما سبق أعلاه، للتوفيق بين مذهبهم ينفي التعليل، وبين إقرارهم بالقياس وعلته، وأن الله تعالى شرع أحكامه لتحقيق مصالح عباده. "انظر: ضوابط المصلحة ص90، كشف الأسرار 3/ 367".
5 سيأتي تفصيل الكلام عن العلة وأنواعها في آخر الكتاب في فصل القياس.
6 هو نَصْر بن فتيان بن مَطَر، أبو الفتح، النهرواني ثم البغدادي، الفقيه الزاهدُ، المعروف بابن المنّى، أحد الأعلام، وفقيه العراق، وشيخ الحنابلة على الإطلاق، ولد سنة 501هـ. وصرف همته طول عمره للفقه أصولاً وفروعاً، ودرس وأفتى نحو سبعين سنة. قال الموفق: "شيخنا أبو الفتح كان رجلاً صالحاً حسن النية والتعليم، وكانت له بركة في التعليم، وكان روعاً زاهداً متعبداً على منهاج السلف". توفي سنة 583هـ. انظر ترجمته مطولة في "ذيل طبقات الحنابلة 1/ 358، شذرات الذهب 4/ 276".
7 المستصفى 2/ 230.
8 في ش: إلا.
9 في ز ع ب ض: ومشيئته.(1/318)
وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَبُغْضِهِ1، فَيُحِبُّ وَيَرْضَى مَا أَمَرَ بِهِ فَقَطْ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى2" فَيَكُونُ مَا يَشَاءُ3 لِمَشِيئَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ4 لا يُحِبُّهُ5، وَهَذَا مَذْهَبُ 6 أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ 6 وَالْمُحَدِّثِينَ وَالصُّوفِيَّةِ وَالنُّظَّارِ وَابْنِ كُلاَّبٍ7.
وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالأَشْعَرِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - كَابْنِ حَمْدَانَ فِي "نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ"- إلَى أَنَّ الْكُلَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ8.
ثُمَّ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ لا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَلا يَشَاؤُهُ، وَإِنَّهُ9 يَكُونُ بِلا مَشِيئَتِهِ10.
وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ: بَلْ هُوَ يَشَاءُ ذَلِكَ. فَهُوَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ11.
ـــــــ
1 هذه المسألة للرد على نفاة التعليل والحكمة الذين يقولون بمَحْض المشيئة، وأن الإحكام هي متعلق المشيئة والإرادة والأمر والنهي، دون اشتراط العلة والحكمة. "انظر: مدارج السالكين 1/ 242".
2 سساقطة من ز ع ب ض.
3 في ع: شاء.
4 ساقطة من ع ب ض.
5 قال تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر / 7].
6 في ش: الفقهاء من السلف.
7 انظر: أصول السرخسي 1/ 82، المسودة ص63، الفضل في الملل والنحل 3/ 142، نهاية الاقدام ص256، الأربعين ص244، منهاج السنة 2/ 34.
8 انظر: فتح الباري 13/ 345، فتاوي ابن تيمية 13/ 37.
9 في ش: والكفر.
10 قالت المعتزلة: إن الإرادة توافق الأمر، وكل ما أمر الله به فقد أراده، وكل ما نهى عنه فقد كرهه "الأربعين ص244" وانظر: نهاية الاقدام ص254، 258.
11 يقول ابن القيم: إن الحكمة ترجع عندهم إلى مطابقة العلم الأزلي لمعلومه، والإرادة الأزلية لمرادها، والقدرة لمقدورها، فإذا الأفعال بالنسبة إلى المشيئة والارادة مستوية، ثم ينقل عنهم: أن إرادة الرب هي عين محبته ورضاه. فكل ما شاءه فقد أحبه ورضيه "مدارج السالكين 1/ 228". وانظر: مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 127، جواب أهل العلم والإيمان ص100، الأربعين ص244.(1/319)
وَأَبُو الْحَسَنِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَافَقُوا هَؤُلاءِ1.
وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ: أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا سَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، وَأَكَابِرُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ، وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ كَالْكُلاَّبِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَيَرْضَى بِهِ، كَمَا يَأْمُرُ بِهِ. وَلا يَرْضَى بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَلا يُحِبُّهُ، كَمَا لا يَأْمُرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَشَاؤُهُ2.
وَلِهَذَا كَانَ حَمَلَةُ الشَّرْعِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا. كَقَضَاءِ دَيْنٍ تَضَيَّقَ وَقْتُهُ 3 أَوْ عِبَادَةٍ تَضَيَّقَ وَقْتُهَا"3. وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ4 لَمْ يَحْنَثْ. وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ يَنْدُبُ إلَى ذَلِكَ وَيُرَغِّبُ فِيهِ، أَوْ يَأْمُرُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ.
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي "تَفْسِيرِهِ"، عِنْدَ قَوْله سبحانه وتَعَالَى: {سَيَقُولُ5 الَّذِينَ
ـــــــ
1 قالو: المحبة هي الإرادة نفسها، وكذلك الرضا والاصطفاء، وهو سبحانه يريد الكفر ويرضاه "جواب أهل العلم والإيمان ص101".
2 انظر: مدارج السالكين 1/ 243، مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 127، أصول السرخي 1/ 82، منهاج السنة 1/ 35، نهاية الاقدام ص258، وفي ز ع ب ض: شاءه.
3 ساقطة من ش.
4 في ش: يفعل.
5 في ش: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة / 142]، {سَيَقُولُ .(1/320)
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا، وَلا آبَاؤُنَا، وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 1: "وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْزِلٍ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. فَإِنَّهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، غَيْرُ آمِرٍ بِجَمِيعِ 2 مَا يُرِيدُ، وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ"2 يَتَّبِعَ أَمْرَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَشِيئَةٍ. فَإِنَّ مَشِيئَتَهُ لا تَكُونُ عُذْرًا لأَحَدٍ"3.
وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ، عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كَافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 4: "وَجُمْلَةُ5 الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْكَافِرَ، وَكُفْرُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ6، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَ، وَإِيمَانُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ. فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ. وَكَسْبُهُ وَاخْتِيَارُهُ بِتَقْدِيرِ7 اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ"8. انْتَهَى.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ إرَادَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ لِمَا خَلَقَ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 9.
وَنَوْعٌ بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ لِمَا أَمَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُقْهُ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} 10، وقَوْله تَعَالَى:
ـــــــ
1 الآية 184 من الأنعام.
2 في ش: ما يريده على أن.
3 معالم التنزيل 2/ 197، وانظر: نهاية الاقدام ص257، الأسماء والصفات للبيهقي ص173.
4 الآية 2 من سورة التغابن.
5 كذا في تفسير البغوي، وفي ش ز: ومن جملة، وفي ع ب ض: من جملة.
6 في ش ز: كسب.
7 في ش: تقرير.
8 تفسير البغوي: 7/ 103.
9 الآية 125من الأنعام.
10 الآية 185 من البقرة.(1/321)
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ1 مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2، فِي آيٍ كَثِيرَةٍ.
وَبِهَذَا يُفْصَلُ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةِ الأَمْرِ: هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلإِرَادَةِ أَمْ3 لا؟.
فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ تَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَشِيئَةِ. فَيَكُونُ قَدْ شَاءَ الْمَأْمُورَ بِهِ4، وَ [لَوْ] لَمْ يَكُنْ5.
وَالْجَهْمِيَّةُ قَالُوا: إنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِشَيْءٍ مِنْ الإِرَادَةِ. وَلا مَحَبَّتُهُ6 لَهُ وَلا رِضَاهُ بِهِ إلاَّ إذَا وَقَعَ. فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ7.
"فَائِدَةٌ":
"الأَعْيَانُ"8 الْمُنْتَفَعُ بِهَا9، "وَالْعُقُودُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا قَبْلَ" وُرُودِ "الشَّرْعِ"
ـــــــ
1 في ش ض: عليكم في الدين.
2 الآية 6 من المائدة.
3 في ش: أو.
4 ساقطة من ش.
5 قالت المعتزلة: كل آمر بالشيء فهو مريد له، والرب تعالى آمر عباده بالطاعة فهو مريد لها. "نهاية الاقدام ص254".
6 في ش ز: ولا محبة.
7 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الإرادة نوعان إرادة الخلق وإرادة الأمر، فإرادة الأمر أن يريد من المأمور فعل ما أمر به، وإرادة الخلق أن يريد هو خلق ما يحدثه من أفعال العباد وغيرها، والأمر مستلزم اللإرادة الأولى دون الثانية، والله تعالى أمر الكافر بما أراده منه بهذا الاعتبار، وهو ما يحبه ويرضاه، ونهاه عن المعصية التي لم يردها منه، أي لم يحبها ولم يرضها بهذا الاعتبار، فإنه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وإرادة الخلق هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد، فهذه الإرادة لا تتعلق إلا بالموجود، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن... "منهاج السنة 2/ 34"، وانظر مبحث الإرادة في "الإربعين ص145 وما بعدها، نهاية الأقدام ص238 وما بعدها، الأسماء والصفات ص160 وما بعدها".
8 في ش ع ب ض: الأعيان والمعاملات.
9 في ش ب ع: بهما.(1/322)
بِحُكْمِهَا1، "إنْ" فُرِضَ أَنَّهُ "خَلا وَقْتٌ عَنْهُ" أَيْ عَنْ الشَّرْعِ، مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ: أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ وَقْتٌ مِنْ شَرْعٍ. قَالَهُ2 الْقَاضِي، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ، لأَنَّهُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ: {اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} 3. أَمَرَهُمَا وَنَهَاهُمَا عَقِبَ خَلْقِهِمَا. فَكَذَلِكَ كُلُّ زَمَانٍ4.
قَالَ الْجَزَرِيُّ5: لَمْ تَخْلُ الأُمَمُ 6 مِنْ حُجَّةٍ 6، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} 7، وَالسُّدَى: الَّذِي لا يُؤْمَرُ وَلا
ـــــــ
1 هذا هو الفراغ الثاني الذي يبحثه العلماء فرعاً عن الحسن والقبيح على سبيل التنزل مع المعتزلة، قال الإسنوي: لما أبطل الأصحاب قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، لزوم من إبطالها إبطال وجوب شكر المتعم عقلاً، وإبطال حكم الأفعال الاختيارية قبل البعثة. "نهاية السول 1/ 150" وانظر: شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 216.
2 في ز ع ض: قال.
3 الآية 35 من البقرة، وفي ش سقطت "رعدا"، وفي ش: حيثما، وفي ع ب ض: وكلا من حيث شئتما.
4 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص109-110، المسودة ص486 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 49، تيسير التحرير 2/ 172، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 63.
5 هو أحمد بن نصر بن محمد، أبو الحسن الجزري، الزهري، البغدادي، من قدماء الحنابلة، وكان له قدم في المناظرة، ومعرفة في الأصول والفروع، ومن اختياراته: أنه لا مجاز في القرآن، ويجوزُ تخصيصُ الكتاب والسنة بالقياس، وأن ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر، وأن المني نجس، قال عنه ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة": "صحب الجماعة من أشياخنا وتخصص بصحبة أبي علي النجاد، وكانت له حلقة في جامع القصر"، توفي سنة 380هـ.
"انظر: طبقات الحنابلة 2/ 167، تاريخ بغداد 5/ 184، اللباب في تهذيب الأنساب 1/ 354، الأنساب للسمعاني 5/ 87". وفي ش: الخوري، وفي ز د ض: الخزري.
6 ساقطة من ش. وانظر: الروضة ص22، القواعد والفوائد الأصولية ص110، المسودة ص474.
7 الآية 36 من القيامة.(1/323)
يُنْهَى1، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} 2، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 3.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا ظَاهِرُ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ4 فِيمَا خَرَّجَهُ5 فِي مَجْلِسِهِ6: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ7 زَمَانِ فَتْرَةٍ8 مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ".
فَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ9.
ـــــــ
1 انظر تفسير ابن كثير 7/ 174، تفسير الخازن 7/ 188، تفسير البغوي 7/ 188.
2 الآية 36 من النحل.
3 الآية 24 من فاطر.
4 هو عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الرحمن، كان إماماً بالحديث وعلله، ومن أروى الناس عن أبيه، ورتب مسند والده، وكان ثقة فهماً ثبتاً صالحاً صادق اللهجة، كثير الحياء، مات سنة 290هـ ببغداد. انظر ترجمته في "طبقات الحنابلة 1/ 180، شذرات الذهب 2/ 203، المنهد الأحمد 1/ 206، طبقات الحفاظ ص288، الخلاصة ص190، تذكرة الحفاظ 2/ 565، تاريخ بغداد 9/ 375، طبقات الفقهاء، الشيرازي ص169".
5 أي عن أبيه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
6 هكذا في ش ز د ع ب ض، ولعل الصواب في محنته، كما نقله البعلي في "القواعد والفوائد الأصولية" "ص110"، وانظر النص الكامل في كتاب "المدخل إلى مذهب أحمد" "ص9" وأوله: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم.... "، وجاء في كتاب الإمام أحمد "الرد على الجهمية والزنادقة" "ص205" مايلي: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم"، وانظر: المسودة ص486.
7 ساقطة من ز ع.
8 ساقطة من ز ع ب.
9 ويتأكد هذا في الرسالة الخاتمة، لأن العلماء ورثة الأنبياء، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" ، وفي رواية: "قائمة على الحق..." رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة عن ثوبان، ورواه البخاري ومسلم وأحمد عن معاوية"، "انظر: صحيح البخاري 1/ 24، صحيح مسلم 3/ 1523، سنن ابن ماجة 1/ 4، سنن أبي داود 3/ 8، مسند أحمد 4/ 93، كشف الخفا 2/ 64".(1/324)
"أَوْ بَعْدَهُ" أَيْ بَعْدَ وُرُودِ1 الشَّرْعِ2 "وَخَلا عَنْ حُكْمِهَا".
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَوْ قَدَّرْنَا خُلُوَّ شَرْعٍ عَنْ حُكْمٍ، مَا حُكْمُهَا؟
"أَوْ لا": أَيْ أَوْ لَمْ يَخْلُ الشَّرْعُ عَنْ حُكْمِهَا "وَجُهِلَ" قَالَ الْقَاضِي: وَيُتَصَوَّرُ فَائِدَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَنْ نَشَأَ بِبَرِّيَّةٍ وَلَمْ يَعْرِفْ شَرْعًا. وَعِنْدَهُ فَوَاكِهُ وَأَطْعِمَةٌ. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ.
"مُبَاحَةٌ"3 خَبَرٌ4 لِقَوْلِهِ: "الأَعْيَانُ".
وَبِالإِبَاحَةِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مُقَدِّمَةِ "الْمُجَرَّدِ"5، وَأَبُو6 الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ، وَأَبُو7 الْخَطَّابِ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَابْنُ سُرَيْجٍ. وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ8 وَغَيْرُهُمْ؛ لأَنَّ خَلْقَهَا - لا
ـــــــ
1 ساقطة من ز ع ب ض.
2 يفرق كثير من العلماء بين حالة قبل ورود الشرع وحالة بعد ورود الشرع، ولم يعرف الحكم، ولكل حالة عندهم حكم منفصل عن الآخر. بينما سوّى المصنف بين الحالتين وهو قول البعض.
3 انظر: الروضة ص22، نهاية السول 1/ 154، مناهج العقول 1/ 158، تيسير التحرير 1/ 172، التمهيد ص24، مختصر الطوفي ص29، المسودة ص474، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، الإحكام لابن حزم 2/ 871، وانظر مناقشة القول بالإباحة قبل الشرع في "الإحكام، الآمدي 1/ 93، نهاية السول 1/ 162، المستصفى 1/ 63، مختصر الطوفي ص30".
4 في ش: خير.
5 المجرد في الفقه الحنبلي، للقاضي أبي يعلى. "انظر: طبقات الحنابلة 2/ 205".
6 في ش: وأبي.
7 في ش: وأبي.
8 هو أحمد بن بشير بن عامر، العامري، القاضي، أحد أئمة الشافعية، شرح "مختصر المزني" وصنف في الأصول، وله كتاب "الجامع" أحاط فيه بالأصول والفروع، وكان معتمد الشافعية في المشكلات والعقد، قال النووي: "ويعرف بالقاضي أبي حامد" مات سنة 362هـ. ألف في الأصول: "الإشراف على الأصول"، وفي الفقه "الجامع الكبير".
"انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/ 12، شذرات الذهب 3/ 40، وفيات الأعيان 1/ 52، تهذيب الأسماء 2/ 112، المجموع للنووي 1/ 145، طبقات الفقهاء الشافعية، للعبادي ص76، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 114، الفتح المبين 1/ 199". وفي ش ز: أبو حامد والمروزي.(1/325)
لِحِكْمَةٍ1- عَبَثٌ، وَلا حِكْمَةَ إلاَّ انْتِفَاعُنَا بِهَا، إذْ هُوَ خَالٍ عَنْ الْمَفْسَدَةِ2. كَالشَّاهِدِ3. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} 4.
قَالَ الْقَاضِي: وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، حَيْثُ سُئِلَ عَنْ قَطْعِ النَّخْلِ؟ قَالَ: لا بَأْسَ، لَمْ نَسْمَعْ فِي قَطْعِهِ شَيْئًا5.
وَفِي "الرَّوْضَةِ" مَا يَقْتَضِي: أَنَّهُ عُرِفَ بِالسَّمْعِ إبَاحَتُهَا قَبْلَهُ6.
وَقَالَهُ7 بَعْضُهُمْ: كَمَا فِي الآيَاتِ وَالأَخْبَارِ.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ وَغَيْرُهُ: الأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى الإِبَاحَةِ لِقَوْلِهِ8 تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} 9، وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} 10،
ـــــــ
1 في ش ز: بحكمة.
2 انظر: نهاية السول 1/ 160 وما بعدها، تسير التحرير 2/ 150، جمع الجوامع 1/ 68، مختصر الطوفي ص29، المسودة ص474، القواعد والفوائد الأصولية ص107، وفي ب ض: مفسدة.
3 الشاهد أي المشاهد المرئي الذي تراه العين أو تدركه الحواس، والغائب هو المُغُيَّب أو هو الغيب الذي لا تدركه العين أو الحواس في الدنيا، ويستعمل العلماء قياس الغائب وصفاته، وهو الله سبحانه وتعالى، على الشاهد وهو الإنسان وصفاته وأحواله.
4 الآية 29 من البقرة.
5 أنظر القواعد والفوائد الأصولية ص107، المسودة ص484-478.
6 الروضة ص22، وانظر: شرح تنقيح الفصول ص92.
7 في ش: قال.
8 في ع ب: كقوله.
9 الآية 29 من البقرة. وفي ش: الآية 9 من الحج، وهو خطأ.
10 الآية 32 من الأعراف، و {الطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} غير موجودة في ز ع ب ض.(1/326)
وَقَوْلُهُ1 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا: مَنْ سَأَلَ2 عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ لأَجْلِ مَسْأَلَتِهِ" 3، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا سَكَتَ عَنْهُ: 4 فَهُوَ عَفْوٌ 4 "5.
وَعِنْدَ ابْنِ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي فِي "الْعُدَّةِ"6، وَالْحَلْوَانِيِّ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ7، وَالأَبْهَرِيِّ8 مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: مُحَرَّمَةٌ. لأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَحَرُمَ كَالشَّاهِدِ9.
ـــــــ
1 في ش: وقال.
2 في ش: سئل.
3 رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد عن سعد مرفوعاً بلفظ "أعظم" أو "إن أعظم". "انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي 4/ 258، صحيح مسلم 4/ 1831، سنن أبي داود 4/ 282، الفتح الكبير 1/ 292، مسند أحمد 1/ 179".
4 في ز ع ب ض: فهو كاعفاء عنه.
5 رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وهو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن السمن والجبن والفراء، فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه" وفي رواية "وما سكت عنه فهو عفو" . "انظر: سنن أبي داود 3/ 485، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 5/ 396، سنن ابن ماجة 2/ 1117".
6 في ش: "العمدة".
7 وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، "انظر: نهاية السول 1/ 155، جمع الجوامع 1/ 68، المسودة ص474".
8 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح بن عمر، التميمي الأبهري، أبو بكر، انتهت إليه رئاسة المالكية في بغداد في عصره، وكان من أئمة القراء، وكان ورعاً زاهداً ثقة يتصدر مجالس العلم، ومن مؤلفاته: "كتاب في الأصول" و "إجماع أهل المدينة" و "الرد على المزني" و "إثبات حكم القافة" و "فضل المدينة على مكة" توفي سنة 375هـ ببغداد، "انظر: الديباج المذهب 2/ 206، شذرات الذهب 3/ 85، الفتح المبين 1/ 208، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 273، شجرة النور ص91".
9 الشاهد أي العبد المخلوق، والغائب هو الله سبحانه وتعالى، فكما لا يجوز التصرف في ملك الإنسان الذي يعبر عنه بالشاهد بغير إذنه، لا يجوز التصرف والانتفاع فيما يخلقه الله تعالى بغير إذنه، انظر تفصيل الكلام مع الأدلة في "الروضة ص22، نهاية السول 1/ 164، مناهج العقول 1/ 160، شرح العضد وحواشيه 1/ 218، جمع الجوامع 1/ 68، شرح تنقيح الفصول ص88، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، المستصفى 1/ 65، المسودة ص 474".(1/327)
ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ: يَخْرُجُ مِنْ مَحَلِّ1 الْخِلافِ عَلَى2 الصَّحِيحِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ - وَحَكَى إجْمَاعًا - مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ3، كَتَنَفُّسٍ وَسَدِّ رَمَقٍ وَنَحْوِهِ4.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ سَاقِطٌ لا يُعْتَدُّ بِهِ5.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَمْ يُوَافِقْ الْمُعْتَزِلَةَ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَقَالَ بِالإِبَاحَةِ أَوْ6 الْحَظْرِ: فَقَدْ نَاقَضَ7. فَاحْتَاجَ مَنْ قَالَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَى اسْتِنَادٍ إلَى سَبَبٍ غَيْرِ مَا اسْتَنَدَتْ8 إلَيْهِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ب: في.
3 ساقطة من ش.
4 أي ونحو ذلك من الأفعال الأضطرارية التي تدعو الحاجة إليها، ويترتب على تركها الهلاك أو الأذى الشديد، "انظر: نهاية السول 1/ 155، حاشية التفتازاني على شرح العضد 1/ 218، التمهيد ص24، حاشية البناني 1/ 65، فواتح الرحموت 1/ 50، القواعد والفوائد الأصولية ص109، المسودة ص474، 476، 479، المدخل إلى مذهب أحمد ص64".
5 اقتصر المصنف على ذكر قولين في أفعال العباد قبل ورود الشرع، وهناك قول ثالث، وهو أنه لا حكم لها، إذ معنى الحكم الخطاب، ولا خطاب قبل ورود الشرع، وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة والأشاعرة وابن حزم الظاهري وأكثر أهل الحق، كما سماهم الآمدي، وقول رابع بالوقف، وهو قول أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وأبي الحسن الجزري من الحنابلة، وقال الرازي والبيضاوي بعدم العلم، أما بعد ورود الشرع فهي على الإباحة، "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 91، 94، الروضة ص22، نهاية السول 1/ 154، 155، 3/ 153، شرح البدخشي 1/ 154، شرح العضد 1/ 218، تيسير التحرير 2/ 150، 168، التمهيد ص24، جمع الجوامع 1/ 63، 64، المستصفى 1/ 65، فوتح الرحموت 1/ 49، مختصر الطوفي ص29، الإحكام، ابن حزم 1/ 47، المسودة ص474-475".
6 في ش: و.
7 أي ناقض نفسه، وفي ش: نافق.
8 في ش: استند.(1/328)
الْمُعْتَزِلَةُ، وَهُوَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "بِإِلْهَامٍ"1.
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ وَغَيْرُهُ: عَرَفْنَا الْحَظْرَ وَالإِبَاحَةَ بِالإِلْهَامِ، كَمَا أُلْهِمَ أَبُو بَكْرٍ2 وَعُمَرُ3 رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَشْيَاءَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمُوَافَقَتِهِمَا4.
"وَهُوَ مَا يُحَرِّكُ الْقَلْبَ بِعِلْمٍ يَطْمَئِنُّ5" الْقَلْبُ "بِهِ" أَيْ بِذَلِكَ الْعِلْمِ
ـــــــ
1 لعل المصنف يشير إلى كلام الشيخ تقي الدين بن تيمية، وهو: اختلف جواب القاضي وغيره من أصحابنا في مسألة الأعيان، مع قولهم بأن العقل لا يحظر ولا يقبح، وفقال القاضي وأبو الخطاب والحلوني: إنما علمنا أن العقل لا يحظر ولا يبيح بالشرع، وخلافنا في هذه المسألة قبل ورود الشرع، ولا يمتنع أن نقول قبل ورود الشرع: إن العقل يحظر ويبيح إلى أن ورد الشرع فيمنع ذلك، إذ ليس قبل ورود الشرع ما يمنع ذلك، قال الحلواني: وأجاب بعض الناس عن ذلك بأنا علمنا ذلك عن طريق شرعي، وهو الإلهام من قبل الله لعباده... "المسودة ص477". وانظر: شرح تنقيح الفصول ص92.
2 هو الصحابي عبد الله بن عثمان بن عامر بن كعب القرشي التميمي، أبو بكر الصديق، ابن أبي قحافة، ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، صحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسبق إلى الإسلام، واستمر معه طوال إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة وفي الغار والمشاهد كلها، استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في إمامة الصلاة، ورضيه المسلمون خليفة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، حارب المرتدين، ومكن الإسلام في الجزيرة العربية، وهو من المبشرين بالجنة، مناقبه كثيرة رضي الله عنه، توفي سنة 13هـ. "انظر: الإصابة 2/ 341، الاستيعاب 4/ 17، صفة الصفوة 1/ 235، تاريخ الخلفاء ص27، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 181، العقد الثمين 5/ 206".
3 هو الفاروق، عمر بن الخطاب بن نفيل، العدوي، أبو حفص، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد فقهاء الصحابة، وأحد المبشرين بالجنة، أول من سمي بأمير المؤمنين، وأول من دون الدواوين، وأول من اتخذ التاريخ، أسلم سنة ست من البعثة، وأعز الله به الإسلام، وهاجر جهاراً، روى 539 حديثاً، وكان شديداً في الحق، ولد قبل البعثة بثلاثين سنة، تولى الخلافة بعد أبي بكر، وفتح الله في أيامه عدة أمصار، واستشهد في آخر سنة 23هـ، مناقبه كثيرة "انظر: الإصابة 2/ 518، الاستيعات 2/ 458، صفة الصفوة 1/ 68، العقد الثمين 6/ 291، تاريخ الخلفاء ص108، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 3".
4 انظر: المسودة ص 477، فتاوى ابن تيمية 13/ 73.
5 في ز د ع: ويطمئن.(1/329)
حَتَّى "يَدْعُوَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ1" أَيْ بِالْعِلْمِ الَّذِي اطْمَأَنَّ بِهِ.
"وَهُوَ" أَيْ الإِلْهَامُ "فِي قَوْلٍ: طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ".
حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الإِلْهَامِ: - هَلْ هُوَ طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ؟- عَلَى قَوْلَيْنِ2.
وَحُكِيَ فِي "جَمْعِ3 الْجَوَامِعِ": "أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ بِهِ"4.
وَقَالَ5 ابْنُ السَّمْعَانِيِّ نَقْلاً عَنْ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ6: وَحَدَّهُ 7 أَبُو زَيْدٍ 7: "بِأَنَّهُ مَا حَرَّكَ الْقَلْبَ بِعِلْمٍ يَدْعُوك إلَى الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلالٍ وَلا نَظَرٍ فِي حُجَّةٍ"8.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ حُجَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ الْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
ـــــــ
1 انظر تعريف الإلهام في حاشية البناني على جمع الجوامع 2/ 356، التعريفات ص35.
2 انظر تفصيل هذا البحث في "مدارج السالكين 1/ 44-50، المسودة ص487، فتاوي ابن تيمية 10/ 766، 477، 478، 11/ 65-66، 13/ 68-70".
3 ساقطة من ش.
4 جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/ 356.
قال الشريف الجرجاني: وهو ليس بحجةٍ عند العلماء إلا عند الصوفية "التعريفات ص35".
5 في ز ع: وقاله.
6 هو القاضي عبد الله أو عبيد الله بن عمر بن عيسى، أبو زيد الدبّوسي، من أكابر فقهاء الحنفية، ويضرب به المثل في النظر واستخراج الحجج، من مؤلفاته "تأسيس النظر" و "تقويم الأدلة" في أصول الفقه، و "تحديد أدلة الشرع" وكتاب "الأسرار" في الأصول والفروع، توفي ببخارى سنة 430هـ.
"انظر: شذرات الذهب 3/ 245، الفتح المبين 1/ 236، وفيات الأعيان 2/ 251، تاج التراجم ص36، الفوائد البهية ص109".
7 ساقطة من ش.
8 في ع ب: حجته.(1/330)
وَتَقْوَاهَا} 1، أَيْ عَرَّفَهَا بِالإِيقَاعِ فِي الْقَلْبِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 2 وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك" 3، فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ قَلْبِهِ بِلا حُجَّةٍ أَوْلَى مِنْ الْفَتْوَى4.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ5 خَيَالٌ لا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إلاَّ عِنْدَ فَقْدِ الْحُجَجِ كُلِّهَا، وَلا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الإِيقَاعَ فِي الْقَلْبِ بِلا دَلِيلٍ، بَلْ الْهِدَايَةُ إلَى الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ6 رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:
ـــــــ
1 الآيتان 7-8 من الشمس.
2 الآية 125 من الأنعام.
3 رواه الإمام أحمد بروايات كثيرة، والترمذي والدارمي والطبراني وأبو نعيم وأبو يعلى، عن وابصة، بألفاظ مختلفة، قال الهيثمي: رجاله ثقات، وأوله: "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم..." "انظر: تخريج أحاديث أصول البزدوي ص160، كشف الخفا 1/124، فيض القدير 3/ 218، مسند أحمد 4/ 182، 228، جامع العلوم والحكم ص236 وما بعدها، سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 7/ 64، سنن الدارمي 2/ 246".
4 قال المناوي: وذلك لأن على قلب المؤمن نوراً يتقيد، فإذا ورد عليه الحق التقى هو ونور القلب فامتزجا وائتلفا، فاطمأن القلب وهش، وإذا ورد عليه الباطل نفر نور القلب ولم يمازجه، فاضطرب القلب. "فيض القدير 3/ 218" وانظر: فتاوي ابن تيمية 10/ 479، 13/ 68.
5 في ز: هو.
6 هو الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، أبو الحسن القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأول الناس إسلاماً، ولد قبل البعثة بعشر سنوات، وربي في حجر رسول الله، شهد جميع المشاهد إلا تبوك، استخلفه الرسول صلى الله عيله وسلم وقال له: "وأما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة" ، وكان اللواء بيده في معظم الغزوات، اشتهر بالفروسية والشجاعة والقضاء، وكان عالماً بالقرآن والفرائض والأحكام واللغة والشعر، تزوج فاطمة الزهراء. وكان من أهل الشورى، وبايع عثمان رضي الله عنهما، فلما قتل عثمان بايعه الناس سنة 35هـ، واستشهد في رمضان سنة 40هـ. مناقبه كثيرة. "انظر: الإصابة 2/ 507، الاستعاب 3/ 26، صفة الصفوة 1/ 308، أسد الغابة 4/ 91، تاريخ الخلفاء ص 166، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 344".(1/331)
"إلاَّ أَنْ1 يُؤْتِيَ اللَّهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ"2.
ـــــــ
1 في ب: من.
2 سئل الإمام علي رضي الله عنه: هل خصّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبراً النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه، وما في هذه الصحيفة، وكان فيها العقل، وهو الديات، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر". رواه البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي وأحمد والدارمي عن أبي جحيفة، "انظر: نيل الأوطار 7/ 10، صحيح البخاري بحاشية السندي 4/ 194، سنن النسائي 8/ 21، تحفة الأحوذي 4/ 688، سنن أبي داود 4/ 252، مسند أحمد 1/ 79، سنن الدارمي2/ 190". وانظر: مدارج السالكين 1/ 41.(1/332)
فصل الحكم الشرعي
...
"فَصْلٌ" "الْحُكْمُ1 الشَّرْعِيُّ" فِي اصْطِلاحِ الْفُقَهَاءِ: "مَدْلُولُ خِطَابِ الشَّرْعِ".
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ خِطَابُ الشَّرْعِ وَقَوْلُهُ2.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَالظَّاهِرُ أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ أَرَادَ بِزِيَادَةِ: "وَقَوْلُهُ" عَلَى خِطَابُ الشَّرْعِ: التَّأْكِيدَ، مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لأَنَّ كُلَّ خِطَابٍ قَوْلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ قَوْلٍ خِطَابًا. انْتَهَى.
وَشَمِلَ "مَدْلُولُ الْخِطَابِ" الأَحْكَامَ3 الْخَمْسَةَ، وَالْمَعْدُومَ حِينَ الْخِطَابِ4. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ صِفَةُ الْحَاكِمِ، فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلاةَ} 5 يُسَمَّى بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إلَى نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى إيجَابًا، وَيُسَمَّى بِالنَّظَرِ إلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ فِعْلُ مُكَلَّفٍ: وُجُوبًا. فَهُمَا مُتَّحِدَانِ بِالذَّاتِ مُخْتَلِفَانِ بِالاعْتِبَارِ. فَتَرَى الْعُلَمَاءَ تَارَةً يُعَرِّفُونَ الإِيجَابَ، وَتَارَةً
ـــــــ
1 الحكم لغة: المنع والقضاء، يقال حكمت عليه بكذا أي منعته من خلافه، وحكمت بين الناس قضيت بينهم وفصلت، ومنه الحِكمةُ لأنها تمنع صاحبها عن أخلاق الأراذل والفساد، "انظر: المصباح المنير 1/ 226، القاموس المحيط 4/ 99".
2 هذا تعريفه عند علماء الأصول، والأول تعريفه عند الفقهاء، والسبب في اختلاف التعريفين أن علماء الأصول نظروا إليه من ناحية مصدره، وهو الله تعالى، فالحكم صفة له، فقالوا: إن الحكم خطابٌ، والفقهاء نظروا إليه من ناحية متعلق، وهو فعل المكلف، فقالوا: إن الحكم مدلول الخطاب وأثره. "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 59، فوتح الرحموت 1/ 54".
3 في ش: الأسماء.
4 إن تعلق الخطاب بالمعدوم هو تعلق معنوي، بحيث إذا وجد بشروط التكليف يكون مأمرراً، لا تعليق تنجيزي بأن يكون حالة عدمه مأموراً. "انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 77، فواتح الرحموت 1/ 60، تيسير التحرير 2/ 131".
5 الآية 78 من الإسراء.(1/333)
يُعَرِّفُونَ الْوُجُوبَ نَظَرًا إلَى الاعْتِبَارَيْنِ1.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ خِطَابُهُ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ2، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الأَوَّلِ، إلاَّ أَنَّ هَذَا أَصْرَحُ وَأَخَصُّ.
فَـ "خِطَابٌ" جِنْسٌ، وَهُوَ مَصْدَرُ خَاطَبَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ3 هُنَا الْمُخَاطَبُ بِهِ، لا مَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ تَوْجِيهُ الْكَلامِ لِمُخَاطَبٍ4. فَهُوَ مِنْ إطْلاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ5.
ـــــــ
1 وتارة يعرفون الواجب، وهو وصف لفعل المكلف الذي طلب الشارع فعله، وكذا الحرام أو المحرم، فهو وصف لفعل المكلف الذي طلب الشارع تركه. "انظر: نهاية السول 1/ 52، 55، فواتح الرحموت 1/ 59، تيسير التحرير 2/ 134، شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 225، 228".
2 هذا تعريف الغزالي "المستصفى 1/ 55" واعترض عليه العلماء بأنه غير مانع: لأنه يدخل فيه مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات / 96] فإنه دخل في الحد وليس بحكم، فزاد العلماء على التعريف قيداً يخصصه، ويخرج عنه ما دخل فيه، وهو قولهم: بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، ليندفع النقض، فإن قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ليس فيه اقتضاء أو تخيير أو وضع، وإنما هو إخبار بحال، ولكن العضد دافع عن التعريف بأن الألفاظ المستعملة في الحدود تعتبر فيها الحيثية، وإن لم يصرح بها، فيصير المعنى: المتعلق بأفعال المكلفين من حيث هم مكلفون، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} لم يتعلق به من حيث هو فعل المكلف، ولذلك عم المكلف وغيره. "انظر: شرح تنقيح الفصول ص67، التمهيد ص5، فواتح الرحموت 1/ 54، نهاية السول 1/ 38، إرشاد الفحول ص6، شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 222، التعريفات ص97".
3 في ع ب ض: المراد به.
4 في ش: إلى مخاطب.
5 المخاطب به هو كلام الله تعالى، مع اختلاف العلماء في كون المراد الكلام النفسي الأزلي أم الألفاظ والحروف أم غيرها، فيه أقوال سيذكرها المصنف فيما بعد في المجلد الثاني "وانظر: جمع الجوامع 1/ 47، نهاية السول 1/ 39، تيسير التحرير 2/ 131، كشاف اصطلاحات الفنون 2/ 403".(1/334)
وَخَرَجَ خِطَابُ غَيْرِ الشَّارِعِ؛ إذْ لا حُكْمَ إلاَّ لِلشَّارِعِ1.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: "الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ" خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَتِهِ وَفِعْلِهِ. وَبِذَاتِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْجَمَادِ2.
فَالأَوَّلُ: مَا تَعَلَّقَ بِذَاتِهِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ} 3.
وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ بِصِفَتِهِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 4.
الثَّالِثُ: مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِهِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 5.
الرَّابِعُ: مَا تَعَلَّقَ بِذَاتِ الْمُكَلَّفِينَ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} 6، وقَوْله تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 7.
الْخَامِسُ: مَا تَعَلَّقَ بِالْجَمَادِ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
ـــــــ
1 خطاب الشرع إما أن يكون صريحاً ومباشراً بالقرآن الكريم، وأما أن يكون غير مباشر بأن يدل عليه دليل آخر كالسنة والإجماع والقياس وغيرها، وهذه الأصول تكشف عن الخطاب الإلهي فقط "انظر: فواتح الرحموت 1/ 56، نهاية السول 1/ 39، العضد على ابن الحاجب 1/ 221".
2 انظر: المحلي على جمع الجوامع والبناني عليه 1/ 50، نهاية السول 1/ 40، تيسير التحرير 2/ 129.
3 الآية 18 من آل عمران.
4 الآية 2 من آل عمران.
5 الآية 62 من الزمر، وفي ش: {اللَّهُ رَبُّكُمْ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية 102 من الأنعام.
6 الآية 11 من الأعراف.
7 الآية 189 من لأعراف.(1/335)
الْجِبَالَ} 1، وَنَحْوُهَا.
وَالْمُرَادُ "بِالتَّعَلُّقِ" الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ2، وَإِلاَّ فَيَلْزَمُ3 أَنَّهُ قَبْلَ التَّعَلُّقِ لا يَكُونُ حُكْمًا؛ إذْ التَّعَلُّقُ حَادِثٌ عِنْدَ الرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ4. فَيَكُونُ مَجَازًا. وَلا يَضُرُّ وُقُوعُهُ فِي التَّعْرِيفِ إذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ5، وَالْقَرَافِيِّ6.
وَإِنْ قِيلَ: إنَّ التَّعَلُّقَ قَدِيمٌ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي الْقِيَاسِ وَالسُّبْكِيُّ7، أَوْ8 قُلْنَا: لَهُ اعْتِبَارَانِ9 قَبْلَ وُجُوبِ التَّكْلِيفِ وَبَعْدَهُ. كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنْهُمْ10، فَلا مَجَازَ فِي التَّعْرِيفِ.
ـــــــ
1 الآية 47 من الكهف.
2 أي إذا وجد مستجمعاً لشروط التكليف كان متعلقاً به "حاشية البناني 1/ 48، نهاية السول 1/ 40".
3 في ع: فلا يلزم.
4 انظر: فواتح الرحموت 1/ 55، نهاية السول 1/ 40، تيسير التحرير 2/ 131.
5 المستصفى 1/ 16، 55.
6 شرح تنقيح الفصول ص9، 68.
7 جمع الجوامع 1/ 77.
8 في ز: و.
9 في ش: اعتبارات.
10 إن تعلق الخطاب بفعل المكلف له اعتباران، الاعتبار الأول قبل وجود المكلف، فالتعلق معنوي، أي إذا وجد الكلف مستجمعاً لشروط التكليف كان متعلقاً به، وهذا التعلق قديم، والاعتبار الثاني بعد وجود المكلف فالتعلق تنجيزي أي تعلق بالمكلف بالفعل بعد وجوده، وهذا التعلق حادث، قال البناني: فللكلام المتعلق بفعل المكلف تعلقان صلوحي وتنجيزي، والأول قديم، والثاني حادث، بخلاف المتعلق بذات الله وصفاته فليس له إلا تعليق تنجيزي قديم "حاشية البناني 1/ 48".(1/336)
وَالْمُرَادُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ الأَعَمُّ1 مِنْ الْقَوْلِ وَالاعْتِقَادِ2، لِتَدْخُلَ3 عَقَائِدُ الدِّينِ وَالنِّيَّاتُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْقصُودُ4 عِنْدَ اعْتِبَارِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَقُلْنَا: "الْمُكَلَّفُ" بِالإِفْرَادِ لِيَشْمَلَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ5، كَخَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ6، وَإِجْزَاءِ الْعَنَاقِ7 فِي الأُضْحِيَّةِ لأَبِي بُرْدَةَ8 وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ لِزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ9، وَعُقْبَةَ بْنِ
ـــــــ
1 الفعل لغة ما يقال القول والاعتقاد والنية، وعرفاً: كل ما يصدر عن المكلف وتتعلق به قدرتهُ من قولٍ أو فعل أو اعتقاد أو نية "انظر: حاشية البناني 1/49، نهاية السول 1/ 40، تيسير التحرير 2/ 129".
2 في ش ز ب ض: الاعتبار، وكذلك في أصل ع، ولكنها صححت بالهامش ومن د.
3 في ش ز ب ض ع: ليدخل.
4 في د ز ع ب: المقصود.
5 انظر نهاية السول 1/ 41.
6 هو الصحابي خُزَيْمَةُ بن ثابت الأنصاري الأوسي، أبو عمارة، من السابقين الأولين للإسلام، شهد بدراً وما بعدها، استشهد بصفين بعد عمارة رضي لله عنهما سنة 37هـ، وقد روى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادته رجلين، وفي البخاري قال: وجدتها مع خزيمة بن ثابت الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين، وروى أبو داود أن النبي صلى الله عيله وسلم ابتاع فرساً من أعرابي... وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شَهدَ له خزيمةُ فهو حسبه . "انظر: الإصابة 1/ 425، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 175، شذرات الذهب 1/ 48، سنن أبي داود 3/ 417، سنن النسائي 7/ 266، سنن البيهقي 10/ 146".
7 العَنَاقُ: الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول "المصباح المنير 2/ 662، تهذيب اللغات 2/ 46".
8 هو الصحابي هانيء بن نِيّار الأنصاري، خال البراء بن عازب، شهد أبو بردة بدراً وما بعدها، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مات في أول خلافة معاوية بعد أن شهد مع على حروبه كلها، قيل سنة 41، 42، 45هـ، وهو مشهور بكنيته، وخصوصيته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اذبحها، ولا تصلح لغيرك، متفق عليه، "انظر: الإصابة 4/ 18، 3/ 596، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 178، نيل الأوطار 5/ 127، مسند أحمد 3/ 466، صحيح البخاري 3/ 317، صحيح مسلم 3/ 1552".
9 هو الصحابي زيد بن خالد الجهني، مختلف في كنيته، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، وحديثه في الصحيحين وغيرهما، مات سنة 78هـ بالمدينة، وله 85 سنة، وقيل غير ذلك. "انظر: الإصابة 1/ 565، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 203، المعارف ص279، شذرات الذهب 1/ 84، مشاهير علماء الأمطار ص54".(1/337)
عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ1. ذَكَرَهُ فِي "حَيَاةِ الْحَيَوَانِ"2، وَالْبِرْمَاوِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُكَلَّفِ: الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الذاكَرُ3، غَيْرُ الْمُلْجَأِ4، لا مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَإِلاَّ لَزِمَ الدَّوْرُ. إذْ لا يَكُونُ مُكَلَّفًا حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ5 التَّكْلِيفُ، وَلا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ إلاَّ بِمُكَلَّفٍ6.
ـــــــ
1 هو الصحابي عقبة بن عامر الجُهَني، أبو حماد الأنصاري المشهور، وقيل في كتيته غير ذلك، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه كثير من الصحابة، كان عالماً بالفرائض والفقه، ومن أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان فصيح اللسان، شاعراً كاتباً، شهد الفتوح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هو البريد إلى عمر بفتح الشام، وسكن دمشق، وشهد صفين مع معاوية، وأمره بعد ذلك على مصر، وكان له فيها الخراج والصلاة، مات في خلافة معاوية على الصحيح سنة 58هـ بمصر. "انظر الإصابة 2/ 489، الاستيعاب 2/ 155، تهذيب الأسماء 1/ 336، شذرات الذهب 1/ 64، مشاهير علماء الأمصار ص55".
2 حياة الحيوان الكبرى 2/ 155، للدميري، محمد بن موسى بن عيسى، أبو البقاء الشافعي المصري المتوفى سنة 808هـ، والخصوصية التي ثبتت لعقبة بن عامر وقيل لزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عنماً يقسمها على أصحابه ضحايا فبقي عَتُودّ "ما بلغ سنة من المعز" فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضح به أنت" ، رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لهما قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا فأصابني جَذَع، فقلت يارسول الله، إنه أصابني جَذَع؟ فقال: ضح به. "انظر: فتح الباري 10/ 3، 7، صحيح مسلم 3/ 1556".
3 في ش: الذكر.
4 أي غير المكره، وهو الطائع المختار، قال البعلي: المكره المحمول كالآلة غير مكلف "القواعد والفوائد الأصولية ص39".
5 ساقطة من ش.
6 انظر: نهاية السول 1/ 42، تيسير التحرير 2/ 131، المحلي على جمع الجوامع 1/ 48".(1/338)
"وَالْخِطَابُ: قَوْلٌ يَفْهَمُ مِنْهُ مَنْ سَمِعَهُ شَيْئًا مُفِيدًا1 مُطْلَقًا"2.
فَالْقَوْلُ: اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الإِشَارَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الْمُفْهِمَةِ.
وَخَرَجَ بِقَيْدِ "الْفَهْمِ" مَنْ لا يَفْهَمُ، كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ؛ إذْ لا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ خِطَابٌ. وَقَوْلُهُ "مَنْ سَمِعَهُ" لِيَعُمَّ الْمُوَاجَهَةَ بِالْخِطَابِ وَغَيْرِهِ، وَلِيَخْرُجَ النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَنَحْوُهُمَا.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ "مُفِيدًا"3 الْمُهْمَلُ،
وَقَوْلُهُ: "مُطْلَقًا" لِيَعُمَّ حَالَةَ قَصْدِ إفْهَامِ السَّامِعِ وَعَدَمَهَا.
وَقِيلَ: لا بُدَّ مِنْ قَصْدِ إفْهَامِهِ. فَعَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ إفْهَامَهُ لا يُسَمَّى خِطَابًا4.
"وَيُسَمَّى بِهِ" أَيْ الْخِطَابُ5 "الْكَلامُ فِي الأَزَلِ فِي قَوْلٍ" ذَهَبَ إلَيْهِ الأَشْعَرِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ6.
وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَالآمِدِيُّ7: أَنَّهُ لا يُسَمَّى خِطَابًا، لِعَدَمِ الْمُخَاطَبِ8 حِينَئِذٍ، بِخِلافِ تَسْمِيَتِهِ فِي الأَزَلِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَنَحْوَهُمَا9؛
ـــــــ
1 قي ش: مقيداً.
2 انظر في تعريف الخطاب "الإحكام، الآمدي 1/ 95، حاشية الجرجاني على العضد 1/ 95، حاشية الجرجاني على العضد 1/ 221".
3 في ش ز: مقيداً.
4 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 95.
5 في ع ب: بالخطاب.
6 انظر: شرح تنقيح الفصول ص69.
7 الإحكام: له1 ص95.
8 في ش: المخاطب في الأزل.
9 الخلاف في تسمية الكلام في الأزل خطاباً وعدم تسمية مبني على تفيسر الخطاب، فمن قال: إن الخطاب هو الكلام الذي يُفهم، فيسميه خطاباً، ومن قال: إنه الكلام الذي أفهم، لم يكن خطاباً، "حاشية البناني 1/ 49" ويقول ابن عبد الشكور: الخلاف لفظي "فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1/ 56" ويوضح ذلك الكمال بن الهمام بأن المانع من التسمية هو كون المراد من الخطاب التنجيزي الشفاهي، فهذا ليس موجهاً في الأزل، أما إرادة طلب الفعل ممن سيوجد ويتهيأ لفهمه فيصح في الأزل من هذه الحيثية من الأزل، ويوجه إلى المعدوم "تيسير التحرير 2/ 131" وانظر: نهاية السول 1/ 39، شرح تنقيح الفصول ص70.(1/339)
لأَنَّ م ِثْلَهُ يَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بِدُونِ مَنْ1 يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْمُوصِي2:
أَمَرَ فِي وَصِيَّتِهِ وَنَهَى.
"ثُمَّ إنْ وَرَدَ" خِطَابُ الشَّرْعِ "بِطَلَبِ فِعْلٍ مَعَ جَزْمٍ" أَيْ قَطْعٍ مُقْتَضٍ لِلْوَعِيدِ عَلَى التَّرْكِ "فَإِيجَابٌ" عَلَى الْمُكَلَّفِ. نَحْوُ: قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3.
"أَوْ" وَرَدَ بِطَلَبِ فِعْلٍ "لا مَعَهُ" أَيْ لَيْسَ مَعَهُ جَزْمٌ "فَنَدْبٌ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} 4، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ-فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} 5، "وَقَوْلِ النَّبِيِّ"6 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَاكُوا" 7.
ـــــــ
1 في ز: ما.
2 في ش د ب ض: الوصي.
3 الآية 43 من البقرة.
4 الآية 282 من البقرة.
5 الآية 6 من النساء.
6 في ز: وقوله.
7 هذا طَرَفٌ من حديث رواه ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط عن سليمان بن صُرَّد مرفوعاً بلفظ "استاكوا، وتنظفوا، وأوتروا فإن الله عز وجل يحب الوتر" . والحديث حسن لغيره، قال الهيثمي: فيه اسماعيل بن عمرو البجلي، ضعفه أبو حاتم والدارقطني، ووثقه ابن حبان، وقد ورد الحديث بألفاظ أخرى، "انظر: فيض القدير 1/ 485، كشف الخفا 1/ 121، مجمع الزوائد 1/ 221، 2/ 97 وما بعدها".(1/340)
"أَوْ" وَرَدَ خِطَابٌ بِالشَّرْعِ1 "بِطَلَبِ تَرْكٍ مَعَهُ" أَيْ مَعَ جَزْمٍ، أَيْ قَطْعٍ2 مُقْتَضٍ لِلْوَعِيدِ عَلَى الْفِعْلِ "فَتَحْرِيمٌ" نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} 3، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} 4.
"أَوْ" وَرَدَ بِطَلَبِ تَرْكٍ "لا مَعَهُ" أَيْ لَيْسَ مَعَهُ جَزْمٌ "فَكَرَاهَةٌ"، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ: فَلا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ5؛ فَإِنَّهُ فِي صَلاةٍ" ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ6 وَابْنُ مَاجَهْ7.
ـــــــ
1 في ش ز: بالشرع.
2 في ز: بقطع.
3 الآية 130 من آل عمران.
4 الآية 32 من الإسراء.
5 قال المناوي: أي ندباً، لما فيه من التشبه بالشيطان، أو لدلالته على ذلك، أو لكونه دالاً على تشبيك الأحوال والامور "فيض القدير 1/ 322".
6 تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 2/ 394.
والترمذي هو محمد بن عيسى بن سَوْرَة السُّلمي، أبو عيسى، الحافظ الضرير العلامة المشهور، أحد الأئمة في الحديث، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر"، صنف كتابه "الجامع" و "العلل" و "التواريخ" تصنيف رجل متقن، وكان يضرب به المثل في الحفظ، توفي سنة 279هـ. انظر في ترجمته "وفيات الأعيان 3/ 407، شذرات الذهب 2/ 174، نكت الهميان ص264، طبقات الحفاظ ص278، تذكرة الحفاظ 2/ 633، الخلاصة ص355، ميزان الاعتدال 3/ 678".
7 سنن ابن ماجة 1/ 254، وليس في رواية ابن ماجة: "فلا يشبك بين أصابعه".
وابن ماجة هو محمد بن يزيد بن ماجة القزويني، الحافظ الإمام أبو عبد الله، الربعي مولاهم، قال الخليلي: "ثقة كبير متفق عليه، محتج به" له مصنفات منها "السنن" و "التفسير" و "التاريخ" توفي سنة 273هـ. انظر ترجمته في "طبقات الحفاظ ص278، شذرات الذهب 2/ 164، طبقات المفسرين 2/ 272، وفيات الأعيان 3/ 407، الخلاصة ص365، تذكرة الحفاظ 2/ 636".(1/341)
"أَوْ" وَرَدَ خِطَابُ1 الشَّرْعِ2 "بِتَخْيِيرٍ" بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ "فَإِبَاحَةٌ"3، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ: "إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْت فَلا تَتَوَضَّأْ" 4.
"وَإِلاَّ" أَيْ وَإِنْ5 لَمْ6 يَرِدْ خِطَابُ الشَّرْعِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ الْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَوَرَدَ بِنَحْوِ صِحَّةٍ7، أَوْ فَسَادٍ، أَوْ نَصْبِ الشَّيْءِ سَبَبًا، أَوْ مَانِعًا أَوْ شَرْطًا، أَوْ كَوْنِ الْفِعْلِ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً، أَوْ رُخْصَةً أَوْ عَزِيمَةً "فَوَضْعِيٌّ"8 أَيْ فَيُسَمَّى خِطَابَ الْوَضْعِ9، وَيُسَمَّى الأَوَّلُ خِطَابَ التَّكْلِيفِ10.
ـــــــ
1 في ش: خطاباً.
2 في ش: للشرع.
3 انظر تقسيم الحكم التكليفي في "الروضة ص16، المستصفى 1/ 65، فواتح الرحموت 1/ 61، نهاية السول 1/ 51، تيسير التحرير 2/ 129، إرشاد الفحول ص60، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد وحواشيه 1/ 225".
4 رواه أحمد ومسلم عن جابر بن سَمُرَة مرفوعاً أن رجلاً سأل... "انظر: مسند أحمد 5/ 86، صحيح مسلم 1/ 275، نيل الأوطار 1/ 237".
5 في ش: إن.
6 ساقطة من ش.
7 في ش: صالحة.
8 انظر في الكلام عن الحكم الوضعي "الإحكام، الآمدي 1/ 96، التمهيد ص 5، شرح تنقيح الفصول ص70، الروضة ص30، فوتح الرحموت 1/ 57، تيسير التحرير 2/ 128، إرشاد الفحول ص6، مختصر ابن الحاجب 1/ 225".
9 يشمل خطاب الوضع السبب والشرط والمانع والعلة والصحة والفساد والأداء والقضاء والرخصة والعزيمة، ويسمى الحكم الوضعي، والثلاثة الأول تدخل فيه باتفاق الأصوليين، أما الباقي فاختلفوا في دخولها وعدم دخولها فيه على أقوال، كما سيأتي.
10 يشمل خطاب التكليف الإيجات والندب والتخيير والتحريم والكراهية، ويُسمى الحكم التكليفي. "انظر إرشاد الفحول ص6".(1/342)
وَلا تَتَقَيَّدُ اسْتِفَادَةُ الأَحْكَامِ مِنْ صَرِيحِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ تَكُونُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ.
وَالنَّصُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا، أَوْ نَهْيًا، أَوْ إذْنًا، أَوْ خَبَرًا بِمَعْنَاهَا، أَوْ إخْبَارًا بِالْحُكْمِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} 1 وقَوْله تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} 2، [وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]: "إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" 3 وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} 4، أَوْ بِذِكْرِ خَاصَّةٍ لأَحَدِ الأَحْكَامِ، كَوَعِيدٍ5 عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ "6أَوْ وَعْدٍ7 عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ 6 أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَجْتَمِعُ خِطَابُ التَّكْلِيفِ8 وَخِطَابُ الْوَضْعِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَالزِّنَا،
ـــــــ
1 الآية 183 من البقرة.
2 الآية 58 من النساء.
3 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومالك واحمد والدارمي عن ابن عمر مرفوعاً، ويحرم الحلفُ بالآباء لأن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمةُ الحقيقية إنما هي لله وحده، وتخصيص الآباء خرج على مقتضى العادة، وإلا فحقيقة النهي عامة في كل تعظيم لغير الله. "انظر: صحيح البخاري 4/ 102، صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 105، سنن أبي داود 3/ 303، سنن النسائي 7/ 5، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 5/ 132، سنن ابن ماجة 1/ 677، الموطأ 2/ 480، مسند أحمد 2/ 7، فيض القدير 2/ 319، سنن الدارمي 2/ 185".
4 الآية 96 من المائدة.
5 في ز: كوعيده.
6 ساقطة من ش.
7 في ز: وعده.
8 في جميع النسخ ش ز د ع ب ض: الشرع، وهو خطأ، لأنَّه ذكرَ خطاب التكليف في مقابلة خطاب الوضع، وكلاهما يدخل في خطاب الشرع، وقد ذكر المصنف في الصفحة التالية، عندما أراد التفصيل: "وقد ينفرد خطاب الوضع" ثم قال: "وأما انفراد خطاب التكليف"، مما يدل على أن المراد هنا في الأعلى، خطاب التكليف.
قال القرافي: "اعلم أن خطاب الوضع قد يجتمع مع خطاب التكليف، وقد ينفرد كل واحد منها بنفسه" "الفروق 1/ 163".(1/343)
فَإِنَّهُ حَرَامٌ، وَسَبَبٌ لِلْحَدِّ1.
وَقَدْ يَنْفَرِدُ خِطَابُ الْوَضْعِ، كَأَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ وَكَوْنِ الْحَيْضِ مَانِعًا مِنْ الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا. وَكَوْنِ الْبُلُوغِ شَرْطًا2 لِلتَّكْلِيفِ، وَحَوَلانِ الْحَوْلِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ3.
وَأَمَّا انْفِرَادُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ: فَقَالَ فِي "شَرْحِ التَّنْقِيحِ": لا يُتَصَوَّرُ، إذْ لا تَكْلِيفَ إلاَّ لَهُ سَبَبٌ، أَوْ شَرْطٌ أَوْ مَانِعٌ4.
قَالَ الطُّوفِيُّ فِي5 "شَرْحِهِ": هُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهُوَ كَمَا قَالَ.
"وَ" الشَّيْءُ6 "الْمَشْكُوكُ لَيْسَ بِحُكْمٍ" وَهُوَ الصَّحِيحُ7. قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.
وَالشَّاكُّ لا مَذْهَبَ لَهُ 8 وَالْوَاقِفُ لَهُ مَذْهَبٌ"8؛ لأَنَّهُ يُفْتِي بِهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهَذَا الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
وَقِيلَ: لا.
ـــــــ
1 انظر: الفروق 1/ 163.
2 في ش: شرعاً.
3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص80-81، الفروق 1/ 163.
4 شرح تنقيح الفصول ص81، وقارن ما قاله القرافي نفسه في "الفروق 1/ 163".
5 ساقطة من ع.
6 ساقطة من ز ب ض, وفي ع: والشيء و.
7 نقل المجد بن تيمية عن الرازي أن المشكوك في وجوبه يخاف على تاركه بالعقاب، وليس بواجب "المسودة ص 575".
8 في ز ع ب ض: والوقف مذهب.(1/344)
فصل الواجب
...
"فَصْلٌ"
لَمَّا أَنْهَى1 الْكَلامَ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ وَتَقْسِيمِهِ إلَى خَمْسَةٍ2، أَخَذَ يُبَيِّنُ تَعْرِيفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَالأَحْكَامِ، فَقَالَ:
"الْوَاجِبُ لُغَةً:" أَيْ فِي اللُّغَةِ "السَّاقِطُ وَالثَّابِتُ".
قَالَ فِي "الْقَامُوسِ": وَجَبَ يَجِبُ وَجْبَةً: سَقَطَ. وَالشَّمْسُ وَجْبًا وَوُجُوبًا: غَابَتْ. وَالْوَجْبَةُ: السَّقْطَةُ مَعَ الْهَدَّةِ، أَوْ صَوْتُ السَّاقِطِ3.
وَقَالَ فِي "الْمِصْبَاحِ": وَجَبَ الْحَقُّ، وَالْبَيْعُ يَجِبُ وُجُوبًا وَوَجْبَةً: لَزِمَ وَثَبَتَ4.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الثُّبُوتِ:[قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]: "أَسْأَلُك مُوجِبَاتِ رَحْمَتِك" 5.
"وَ". أَمَّا الْوَاجِبُ "شَرْعًا:" أَيْ: فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَلَهُمْ فِيهِ حُدُودٌ كَثِيرَةٌ، اقْتَصَرَ مِنْهَا فِي الأَصْلِ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ6 .
- أَحَدُهَا: وَهُوَ مَا قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": أَنَّهُ أُولاهَا: "مَا ذُمَّ شَرْعًا
ـــــــ
1 في نسخة ع، ب: انتهى.
2 ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين: تكليفي ووضعي، والحكم التكليفي ينقسم إلى خمسة أقسام، وهذا رأي الجمهور العلماء، خلافاً للحنفية الذين يقسمون الحكم التكليفي إلى سبعة أقسام، فيزيدون الفرض والمكروه تحريماً. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 58". وعبارة "إلى خمسة" ساقطة من ب.
3 القاموس المحيط 1/ 141.
4 المصباح المنير 2/ 1003، وانظر الصحاح، للجوهري 1/ 231-232.
5 هذا جزء من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: رواه الحاكم عن ابن مسعود مرفوعاً، والموجبات: جمع موجب، وهي الكلمة التي أوجبت لقائلها الرحمة من الله سبحانه وتعالى. "انظر: فيض القدير 2/ 121، الأذكار ص21".
6 ساقطة من ز ع ب ض.(1/345)
تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا" وَهُوَ لِلْبَيْضَاوِيِّ1. وَنَقَلَهُ فِي "الْمَحْصُولِ" عَنْ ابْنِ الْبَاقِلاَّنِيِّ. وَقَالَ فِي "الْمُنْتَخَبِ"2: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الرُّسُومِ، لَكِنْ فِيهِ نَقْصٌ وَتَغْيِيرٌ3. وَتَبِعَهُ الطُّوفِيُّ فِي "مُخْتَصَرِهِ"، وَلَمْ يَقُلْ "قَصْدًا"4.
فَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ "مَا ذُمَّ" خَيْرٌ مِنْ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ "مَا يُعَاقَبُ" لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ تَارِكِهِ5.
وَقَوْلُنَا "شَرْعًا": أَيْ مَا وَرَدَ ذَمُّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِي إجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَلأَنَّ الذَّمَّ لا يَثْبُتُ إلاَّ بِالشَّرْعِ6، 7 خِلافًا لِمَا"7 قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ.
وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ، لأَنَّهُ8 لا ذَمَّ فِيهَا9.
وَقَوْلُهُ: "تَارِكُهُ": اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْحَرَامِ. فَإِنَّهُ لا يُذَمُّ إلاَّ فَاعِلُهُ10.
ـــــــ
1 منهاج الوصول، للبيضاوي، مع شرحه للأسنوي 1/ 52.
2 هو "منتخب المحصول" في الأصول المنسوب للرازي، فخر الدين محمد بن عمر الرازي الشافعي المتوفي سنة 606هـ، والأكثر أنه لبعض تلامذة الإمام الرازي وليس له، "انظر: طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي 8/ 93، إيضاح المكنون 2/ 569".
3 التغيير في التعريف هو أن الإمام الرازي عبر في "المحصول" و "المنتخب" بقوله: "على بعض الوجوه" وتبعه صاحب التحصيل والشوكاني في إرشاد الفحول ص6، لكن صاحب الحاصل أبدله بقوله: "مطلقاً" فتبعه البيضاوي. "انظر: نهاية السول 1/ 55، 57، المسودة ص576"، وفي د ز ع ب ض: تعبير.
4 مختصر الطوفي ص19.
5 انظر: شرح الورقات ص23.
6 انظر: نهاية السول 1/ 56.
7 في ش ز د: خلاف ما.
8 ساقطة من ش.
9 انظر: نهاية السول 1/ 55.
10 انظر: نهاية السول 1/ 56.(1/346)
وَقَوْلُهُ: "قَصْدًا" فِيهِ تَقْدِيرَانِ1 مَوْقُوفَانِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْرِيفَ إنَّمَا هُوَ بِالْحَيْثِيَّةِ، أَيْ الَّذِي بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ لَذُمَّ تَارِكُهُ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِالْحَيْثِيَّةِ لاقْتَضَى أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ لا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الذَّمِّ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ2.
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَأَحَدُ التَّقْدِيرَيْنِ: أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِالْقَصْدِ؛ لأَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ؛ إذْ التَّارِكُ لا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ لا يُذَمُّ3.
الثَّانِي: أَنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ فِعْلِ الصَّلاةِ ثُمَّ تَرَكَهَا بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَقَدْ تَمَكَّنَ4. وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُذَمَّ شَرْعًا تَارِكُهَا، لأَنَّهُ مَا تَرَكَهَا قَصْدًا. فَأَتَى بِهَذَا الْقَيْدِ لإِدْخَالِ5 هَذَا الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ، وَيَصِيرُ بِهِ جَامِعًا6.
وَقَوْلُهُ "مُطْلَقًا" فِيهِ تَقْدِيرَانِ أَيْضًا مَوْقُوفَانِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الإِيجَابَ بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَعَلَى الْعَيْنِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَفْعُولِ7 قَدْ يَكُونُ مُخَيَّرًا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، [وَقَدْ يَكُونُ مُحَتَّمًا، كَالصَّلاةِ أَيْضًا وَبِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ الْمَفْعُولِ فِيهِ قَدْ يَكُونُ مُوَسَّعًا كَالصَّلاةِ]8، وَقَدْ
ـــــــ
1 في ش ب ع ض د: تقريران، وكذلك في الحالات التالية.
2 انظر: نهاية السول 1/ 56.
3 انظر: نهاية السول 1/ 56.
4 يقول الأسنوي: لأن الصلاة تجب عندنا بأول الوقت وجوباً موسعاً بشرط الإمكان، وقد تمكن. "نهاية السول 1/ 56".
5 في ش: لادخاله.
6 انظر: نهاية السول 1/ 56، البدخشي 1/ 53، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 230.
7 في ش: المعقول.
8 زيادة ضرورية من نهاية السول 1/ 57.(1/347)
يَكُونُ مُضَيَّقًا كَالصَّوْمِ. فَإِذَا تَرَكَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا صَدَقَ أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا، إذْ الصَّلاةُ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ. وَمَعَ ذَلِكَ لا يُذَمُّ عَلَيْهَا إذَا أَتَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ. وَيُذَمُّ إذَا أَخْرَجَهَا عَنْ جَمِيعِهِ، وَإِذَا تَرَكَ إحْدَى1 خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَقَدْ تَرَكَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لا ذم2 فِيهِ إذَا أَتَى بِغَيْرِهِ. وَإِذَا تَرَكَ صَلاةَ جِنَازَةٍ فَقَدْ تَرَكَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلا يُذَمُّ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَهُ غَيْرُهُ3.
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَأَحَدُ التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّ قَوْلَهُ4: "مُطْلَقًا" عَائِدٌ إلَى الذَّمِّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ5 قَدْ تَلَخَّصَ أَنَّ الذَّمَّ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ عَلَى الْمُخَيَّرِ وَعَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَالذَّمَّ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُضَيَّقِ وَالْمُحَتَّمِ وَالْوَاجِبِ عَلَى الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَلِذَلِكَ قَالَ: "مُطْلَقًا" لِيَشْمَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِشَرْطِهِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَوَرَدَ عَلَيْهِ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ6.
وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي: أَنَّ "مُطْلَقًا" عَائِدٌ إلَى التَّرْكِ، وَالتَّقْدِيرُ تَرْكًا مُطْلَقًا7، لِيَدْخُلَ الْمُخَيَّرُ وَالْمُوَسَّعُ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ. فَإِنَّهُ إذَا تَرَكَ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لا يَأْثَمُ، وَإِنْ صَدَقَ أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا، وَكَذَلِكَ الآتِي بِهِ آتٍ بِالْوَاجِبِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَأْثَمْ. وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إذَا حَصَلَ التَّرْكُ الْمُطْلَقُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَهَكَذَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُوَسَّعِ. وَدَخَلَ فِيهِ أَيْضًا الْوَاجِبُ الْمُحَتَّمُ وَالْمُضَيَّقُ وَفَرْضُ
ـــــــ
1 في ز ع ب ض: أحد.
2 في ش: لازم.
3 انظر: نهاية السول 1/ 57، البدخشي 1/ 54، العضد على ابن الحاجب 1/ 230، الحدود، للباجي ص54.
4 في ز: قولنا.
5 في ع ب ض: لأنه.
6 انظر: نهاية السول 1/ 57.
7 في ش زيادة: ليشمل ذلك كله بشرطه، ولو لم يذكر ذلك لورد عليه من ترك شيئاً من ذلك. اهـ. وهو مكرر مع السطر الذي قبله.(1/348)
الْعَيْنِ، لأَنَّ كُلَّ مَا ذُمَّ الشَّخْصُ عَلَيْهِ 1 إذَا تَرَكَهُ وَحْدَهُ ذُمَّ عَلَيْهِ"1 أَيْضًا إذَا تَرَكَهُ هُوَ وَغَيْرَهُ2.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْحُدُودِ السِّتَّةِ:
فَالْحَدُّ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ مَا يُعَاقَبُ تَارِكُهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاجِبَ مَا تُوُعِّدَ عَلَى تَرْكِهِ بِالْعِقَابِ.
الرَّابِعُ: مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا.
الْخَامِسُ: مَا يُخَافُ الْعِقَابُ بِتَرْكِهِ.
السَّادِسُ: لابْنِ عَقِيلٍ، فَإِنَّهُ حَدَّهُ بِأَنَّهُ إلْزَامُ الشَّرْعِ. وَقَالَ: الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ أَحْكَامُهُ وَمُتَعَلَّقَاتُهُ. قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": فَحَدُّهُ بِهِ يَأْبَاهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَهُوَ حَسَنٌ3.
"وَمِنْهُ" أَيْ مِنْ الْوَاجِبِ: "مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، كَنَفَقَةٍ وَاجِبَةٍ4، وَرَدِّ وَدِيعَةٍ وَغَصْبٍ وَنَحْوِهِ" كَعَارِيَّةٍ، وَدَيْنٍ "إذ5 فَعَلَ" ذَلِكَ "مَعَ غَفْلَةٍ6" لِعَدَمِ النِّيَّةِ الْمُتَرَتِّبِ7 عَلَيْهَا الثَّوَابُ8.
ـــــــ
1 ساقطة من ش، وكذا في د مع تقديم وتأخير، وانظر: نهاية السول 1/ 58.
2 انظر: نهاية السول 1/ 58.
3 انظر في تعريف الواجب: "التعريفات ص319، الحدود للباجي ص53، المستصفى 1/ 65، شرح الورقات ص22، الإحكام لابن حزم 1/ 323، فواتح الرحموت 1/ 61، المسودة ص575، إرشاد الفحول ص6، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 1/ 225، 229".
4 ساقطة من ش.
5 في ش د: إن.
6 في ز: غفلته.
7 في ب ض: المرتب.
8 نرى أن هذا الكلام غير دقيق، لأنه يخالف النصوص الشرعية التي تثبت الأجر للمؤمن، ولو كان فعله واجباً شرعياً، أي مفروضاً عليه لغيره، كالأمثلة التي ذكرها المصنف، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على =(1/349)
"وَمِنْ الْمُحَرَّمِ مَا لا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، كتركه1" أَيْ كَأَنْ يَتْرُكَ الْمُكَلَّفُ الْمُحَرَّمَ "غَافِلاً" عَنْ كَوْنِ تَرْكِهِ طَاعَةً بِامْتِثَالِ الأَمْرِ بِالتَّرْكِ. لأَنَّ شَرْطَ تَرْتِيبِ الثَّوَابِ عَلَى تَرْكِهِ، نِيَّةُ2 التَّقَرُّبِ بِهِ، فَتَرَتُّبُ3 الثَّوَابِ وَعَدَمُهُ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمِ رَاجِعٌ إلَى وُجُودِ شَرْطِ الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ4.
"وَالْفَرْضُ لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ:
- "التَّقْدِيرُ"، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 5، أَيْ قَدَّرْتُمْ. وَمِنْهُ6 قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِك نَصِيبًا مَفْرُوضًا} 7 أَيْ مَعْلُومًا.
ـــــــ
= مساكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك" رواه مسلم، وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل دينار ينفقه الرجل: دينار ينفقه على عياله" . وقال عليه الصلاة والسلام: "إنّ من الذنوب ذنوباً لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الصدقة، ولكنها يكفرها الهم على كسب العيال" . وقال أيضاً: "السعي على نفقة العيال جهاد في سبيل الله" وقال أيضاً: "حتى اللقمة تضعها في في زوجتك صدقة" . "انظر: مسند أحمد: 1/ 172، 173، صحيح مسلم 2/ 691-692".
كل هذه النصوص، وغيرها كثيرة، تثبت وتؤكد الثواب في النفقة، وكذلك فإن حفظ الأمانة والوديقة صدقة، وردها حسنة، ورد المغصوب لصاحبه توبة وعدول عن الظلم والعدوان، فهو عمل حسن وله أجر وثواب.
وأما تقييدها بأنها مع غفلة، وبدون نية، فهذا يشمل كل الواجبات، وخاصة العبادات، كما لو أدى الزكاة جبراً، والبقاء بدون طعام وشراب طوال النهار، فالعبادة لا تصح إلا بالنية، وقد ذكر المصنف ما يؤيد ذلك ص385، 397، فقال: ولو بدون نية.
1 ساقطة من ش د ز.
2 ساقطة من ش.
3 في ز ع ض: فترتيب.
4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص71.
5 الآية 237 من البقرة.
6 ساقطة من ز ع ب ض.
7 الآية 118 من النساء.(1/350)
- "وَالتَّأْثِيرُ" قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفَرْضُ: الْحَزُّ فِي الشَّيْءِ، وَفَرْضُ الْقَوْسِ: الْحَزُّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْوَتَرُ1.
- "وَالإِلْزَامُ"، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 2، أَيْ أَوْجَبْنَا الْعَمَلَ بِهَا3.
- "وَالْعَطِيَّةُ" يُقَالُ، فَرَضْت لَهُ4 كَذَا وَافْتَرَضْته أَيْ أَعْطَيْته، وَفَرَضْت لَهُ فِي الدِّيوَانِ. قَالَهُ5 فِي "الصِّحَاحِ"6.
- "وَالإِنْزَالُ" وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلَى مَعَادٍ} 7، أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْك الْقُرْآنَ. قَالَ الْبَغَوِيّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ8.
- "وَالإِبَاحَةُ" وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 9، 10 أَيْ: أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ"10.
- "وَيُرَادِفُ11" الْفَرْضَ "الْوَاجِبُ شَرْعًا" أَيْ فِي12 عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى
ـــــــ
1 الصحاح، له 3/ 1097، وانظر: القاموس المحيط 2/ 352.
2 الآية 1 من النور.
3 انظر: القاموس المحيط: 2/ 352.
4 في ش: لك.
5 في ش: قال.
6 الصحاح، للجوهري 3/ 1097، وانظر: القاموس المحيط 2/ 352.
7 الآية 85 من القصص.
8 تفسير البغوي 5/ 186.
9 الآية 38 من الأحزاب.
10 ساقطة من ش. وانظر: الإحكام، الآمدي 1/ 99.
11 في ش: ويراد به.
12 في ش: من.(1/351)
الصَّحِيحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ1 وَالأَكْثَرِ2 لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 3، أَيْ أَوْجَبَهُ. وَالأَصْلُ تَنَاوُلُهُ حَقِيقَةً وَعَدَمُ غَيْرِهِ، نَفْيًا لِلْمَجَازِ وَالاشْتِرَاكِ4. وَفِي الصَّحِيحِ5: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ" 6، وَلأَنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا، وَالاسْتِدْعَاءُ لا يَقْبَلُ التَّزَايُدَ. كَجَائِزٍ وَلازِمٍ، وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ. فَلا يُقَالُ: أُجَوِّزُ وَلا أُلْزِمُ؛ لأَنَّهُ7 انْتَظَمَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الْفَرْضَ آكَدُ8. وَاخْتَارَهَا
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 انظر: مختصر الطوفي ص19، الروضة ص16، التمهيد ص7، الحدود للباجي ص55، المستصفي 1/ 66، القواعد والفوائد الأصولية ص63، نهاية السول 1/ 58، شرح البدخشي 1/ 58، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 1/ 228، 232، إرشاد الفحول ص6، الإحكام، الآمدي 1/ 97، لابن حزم 1/ 323.
3 الآية 197 من البقرة.
4 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 99.
5 أي صحيح البخاري، وكتب الأحاديث الصحيحة كثيرة، ولكن المصنف إذا أطلق الصحيح فيريد به صحيح البخاري، لأنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم، لما بذل فيه مؤلفه رحمه الله من الجهد والدقة والتمحيص في أسانيده ومتونه، وفي ض ز ع ب: الصحيحين، وهو خطأ، لأن هذا الحديث لم يروه إلا البخاري.
6 هذا جزء من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً، وأوله: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه..." الحديث، وما تقرب إلي عبدي بشيء، أي بفعل طاعة، مما افترضته عليه: أي من أدائه عيناً أو كفاية، لأنها الأصل الذي ترجع إليه جميع الفروع، والأمر بها جازم، ويتضمن أمرين: الثواب على فعلها، والعقاب على تركها. "انظر: صحيح البخاري 4/ 129، فيض القدير 2/ 241".
7 في ز: الأن.
8 انظر: الروضة ص16، القواعد والفوائد الأصولية ص63، المسودة ص50.(1/352)
مِنْ أَصْحَابِنَا: ابْنُ شَاقِلا وَالْحَلْوَانِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ1، وَابْنُ الْبَاقِلاَّنِيِّ.
وَلِلْقَاضِي2 مِنْ أَصْحَابِنَا الْقَوْلانِ.
قَالَ3 الطُّوفِيُّ: وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ، إذْ لا نِزَاعَ فِي انْقِسَامِ الْوَاجِبِ إلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ4. فَلْيُسَمُّوا هُمْ الْقَطْعِيَّ مَا شَاءُوا5،
ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ أَنَّ الْخِلافَ لَيْسَ بِلَفْظِيٍّ، يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: بَعْضُ الْوَاجِبِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْحَلْوَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا6، وَأَنَّ فَائِدَتَهُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ7.
ـــــــ
1 الفرق بينهما عند الحنفية أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه، والواجب ما ثبت بدليل ظني فيه شبهة العدم. "انظر: التعريفات للجرجاني ص173، 319، كشف الأسرار 2/ 303، الإحكام للآمدي 1/ 99، أصول السرخسي 1/ 110، فواتح الرحموت 1/ 58، القواعد والفوائد الأصولية ص63، البدخشي 1/ 55، التوضيح على التنقيح 3/ 75".
2 في ش: والقاضي.
3 في ز: وقال.
4 في ش دع: ظني وقطعي.
5 مختصر الطوفي ص19، وهذا ما ذهب إليه ابن قدامة في "الروضة" "ص 16"، والغزالي في "المستصفي" "1/ 66"، والأرْمَوي في الحاصل "نهاية السول 1/ 58" والعضد في "شرح مختصر ابن الحاجب" "1/ 232"، قال ابن اللحام: إن أريد أن المأمور به ينقسم إلى مقطوع به ومظنون فلا نزاع في ذلك، وإن أريد أنه لا تختلف أحكامها فهذا محل نظر "القواعد والفوائد الأصولية ص64" وانظر: الإحكام للآمدي 1/ 99.
6 انظر: القواعد والفوئد الأصولية ص64، المسودة ص50، 58.
7 رتب الحنفية على الفرق بينهما آثاراً كثيرة منها أن حكم الفرض لازم علماً وتصديقاً بالقلب، وعملاً بالبدن، وأنه من أركان الشرائع، ويكفر جاحده، ويفسق تاركه بلا عذر، أما حكم الواجب فهو لازم عملاً بالبدن لا تصديقاً، ولا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إن استخف به، أما إذا تأول فلا، وإذا ترك المكلف فرضاً كالركوع أو السجود بطلت صلاته، ولا يسقط في عمد ولا في سهو، ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة، أما إذا ترك واجباً فإن عمله صحيح، ولكنه ناقص، وعليه الإعادة، فإن لم يُعد برئت ذمته مع الإثم. "انظر: كشف الأسرار 2/ 303، أصول السرخسي 1/ 111، فواتح الرحموت 1/ 58، القواعد والفوائد الأصولية ص64، شرح البدخشي 1/ 55، تيسير التحرير 2/ 135، المسودة ص50، 58، التوضيح على التنقيح 3/ 75".(1/353)
"وَ" عَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ "ثَوَابَهُمَا1 سَوَاءٌ" وَلَيْسَ بَعْضُهَا2 آكَدَ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا عَلَى الأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا آكَدَ مِنْ بَعْضٍ. وَأَنَّ فَائِدَتَهُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الآخَرِ، وَأَنَّ طَرِيقَ أَحَدِهِمَا مَقْطُوعٌ بِهِ، وَطَرِيقَ الآخَرِ مَظْنُونٌ. كَمَا قُلْنَا. عَلَى3 الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّهُمَا4 مُتَبَايِنَانِ5.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": قُلْت6: وَالنَّفْسُ تَمِيلُ إلَى هَذَا - سَوَاءٌ قُلْنَا بِالتَّبَايُنِ أَوْ التَّرَادُفِ7-: إنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا آكَدَ مِنْ الآخَرِ، وَأَنَّهُ8 يُثَابُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الآخَرِ9. انْتَهَى.
"وَصِيغَتُهُمَا" أَيْ صِيغَةُ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِ. كَوَجَبَ10 وَفَرَضَ. وَكَذَا وَاجِبٌ وَفَرْضٌ.
ـــــــ
1 في ش د: ثواباهما.
2 في ش د: بعضهما.
3 ساقطة من ش د.
4 في ع ز ب ض: وأنهما.
5 انظر: البدخشي 1/ 56 وما بعدها، المسودة ص50.
6 ساقطة من ز، وفي ع ض: وقلت.
7 في ز: بالترادف.
8 في ز: أنه.
9 انظر المسودة ص50، 58.
10 في ش: كموجب.(1/354)
"وَحَتْمٌ" وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَانَ عَلَى رَبِّك حَتْمًا مَقْضِيًّا} 1 أَيْ وَاجِبَ الْوُقُوعِ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ، وَإِلاَّ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَيُقَالُ فِي الْوَاجِبِ: حَتْمٌ وَمَحْتُومٌ وَمُحَتَّمٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَالَ فِي "الْمِصْبَاحِ": حَتَمَ عَلَيْهِ الأَمْرُ حَتْمًا - مِنْ بَابِ ضَرَبَ- أَوْجَبَهُ جَزْمًا، وَتَحَتَّمْ: وَجَبَ وُجُوبًا لا يُمْكِنُ سُقُوطُهُ2. انْتَهَى.
"وَ" كَذَا "لازِمٌ" قَالَ فِي3 "الْحَاوِي"4 وَغَيْرِهِ: حَتْمٌ وَلازِمٌ كَوَاجِبٍ5 قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَلا يُقْبَلُ التَّأْوِيلُ عِنْدَ الأَكْثَرِ، وَهُوَ مِنْ اللُّزُومِ وَهُوَ لُغَةً: عَدَمُ الانْفِكَاكِ عَنْ الشَّيْءِ6. فَيُقَالُ لِلْوَاجِبِ لازِمٌ وَمَلْزُومٌ بِهِ7، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الصَّدَقَةِ: "وَمَنْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ أُخِذَ مِنْهُ ابْنُ لَبُونٍ" 8.
ـــــــ
1 الآية 17 من مريم.
2 المصباح المنير 1/ 188، وانظر: الصحاح 5/ 1892.
3 ساقطة من ش.
4 تصنيف الفقيه عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم بن علي، الضرير البصري، المتوفى سنة 684هـ. "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص208".
5 انظر: المستصفى 1/ 66.
6 انظر: المصباح المنير 2/ 850، لسان العرب 12/ 541، القاموس المحيط 4/ 175.
7 انظر: الصحاح 1/ 231.
8 هذا جزء من حديث طويل، رواه احمد والنسائي وأبو داود والبخاري، وقطعه في عشرة مواضع، والدارقطني، وأخرجه الشافعي والبيهقي والحاكم والدارمي عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما مرفوعاً، قال ابن حزم: هذا كتاب في غاية الصحة، وقال الدارقطني: هذا إسناده صحيح، ورواته كلهم ثقات.
"انظر: نيل الأوطار 4/ 140، سنن أبي داود 2/ 129، صحيح البخاري مع حاشية السندي 1/ 251، المستدرك 1/ 390، السنن الكبرى 4/ 100، سنن النسائي 5/ 13، مسند أحمد 1/ 11، سنن الدارمي 1/ 382".(1/355)
"وَ" كَذَا "إطْلاقُ الْوَعِيدِ" لأَنَّ خَاصَّةَ الْوَاجِبِ مَا تُوُعِّدَ بِالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ. وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ خَاصَّةِ الشَّيْءِ بِدُونِ ثُبُوتِهِ إلاَّ فِي كَلامِ مَجَازٍ.
"وَ" وَكَذَا "كُتِبَ عَلَيْكُمْ" مَأْخُوذٌ مِنْ كَتَبَ الشَّيْءَ إذَا حَتَّمَهُ وَأَلْزَمَ بِهِ، وَتُسَمَّى الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ لِذَلِكَ. وَمِنْهُ حَدِيثُ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ1"، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} 2، وقَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ} 3، كُلُّ ذَلِكَ "نَصٌّ فِي الْوُجُوبِ"4.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ-الآيَةَ} 5، فَقِيلَ: الْمُرَادُ وَجَبَ. وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ فَرْضًا وَنُسِخَتْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ6 بِالْوَصِيَّةِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. فَلا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ7.
"وَإِنْ كَنَّى الشَّارِعُ عَنْ عِبَادَةٍ بِبَعْضِ 8 مَا فِيهَا"8" نَحْوِ9 تَسْمِيَةِ الصَّلاةِ قُرْآنًا
ـــــــ
1 رواه أحمد ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عبادة بن الصامت مرفوعاً، قال الزين العراقي، وصححه ابن عبد البر. "انظر: سنن أبي داود 2/ 84، سنن ابن ماجة 1/ 448، سنن النسائي 1/ 186، فيض القدير 3/ 453، مسند أحمد 5/ 319".
2 الآية 183 من البقرة.
3 الآية 216 من البقرة.
4 في ش: الوجود.
5 الآية 180 من البقرة.
6 في ز: والمراد.
7 انظر: تفسير ابن كثير 1/ 372، أحكام القرآن لابن العربي 1/ 61، 70، تفسير القرطبي 2/ 244، 1: تفسير ابن كثير 1/ 372، أحكام القرآن لابن العربي 1/ 61، 70، تفسير القرطبي 2/ 244، 258 وما بعدها، تفسير الطبري 2/ 115 وما بعدها، تفسير الخازن 1/ 148، تفسير البغوي 1/ 148".
8 ساقطة من ش.
9 ساقطة من د، والقوس في ش ز وبعدها.(1/356)
فِي قَوْله1 تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} 2، وَنَحْوِ 3 التَّعْبِيرِ عَنْ الإِحْرَامِ بِالنُّسُكِ"3 بِأَخْذِ الشَّعْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} 4، "دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ" أَيْ فَرْضِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنْ 5 تِلْكَ الْعِبَادَةِ"5. فَيَدُلُّ قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} عَلَى فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ6 فِي الصَّلاةِ وَيَدُلُّ قَوْله تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} عَلَى فَرْضِيَّةِ الْحَلْقِ فِي الْحَجِّ، لأَنَّ الْعَرَبَ لا تُكَنِّي عَنْ الشَّيْءِ إلاَّ بِالأَخَصِّ بِهِ.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ7 بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} 8 يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ فِي الصَّلاةِ. ذَكَرَهُ9 الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ.
"وَمَا لا يَتِمُّ الْوُجُوبُ10 إلاَّ بِهِ" سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ. كَاكْتِسَابِ الْمَالِ لِلْحَجِّ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ، كَحُضُورِ الإِمَامِ
ـــــــ
1 في ز ع ب: بقوله.
2 الآية 78 من الإسراء.
3 في ش: التعبير في النسك، وفي د ع: التعبير في الإحرام والنسك، وفي ب: التعبير بالنسك عن الإحرام، وفي ض: التعبير عن الإحرام والنسك.
4 الآية 27 من الفتح.
5 في ش: ذلك العبارة.
6 في ش: القرآن.
7 في ش ع ز ب: فسبح!؟ وهو خطأ.
8 الآية 39 من السورة ق.
9 في ش: وذكره.
10 في ش: الواجب، والصواب ما في المتن، وهو ما عبر عنه المجد بن تيمية والبعلي بقولهما: إن مالا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب كالمال في الحج والكفارات، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب مطلقاً "المسودة ص61، القواعد والفوئد الأصولية ص94" وانظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص61، اللمع ص10، والمقصود أن مالا يتم الوجوب، أي التكليف "انظر: نهاية السول 1/ 120، التمهيد ص15".(1/357)
الْجُمُعَةَ وَحُضُورِ الْعَدَدِ الْمُشْتَرِطِ فِيهَا، لأَنَّهُ مِنْ صُنْعِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ "لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُطْلَقًا"1 وَحُكِيَ إجْمَاعًا.
"وَمَا لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ" إيجَابُهُ2 "إلاَّ بِهِ وَهُوَ3" أَيْ وَاَلَّذِي لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ إلاَّ بِهِ "مَقْدُورٌ لِمُكَلَّفٍ فَوَاجِبٌ، يُعَاقَبُ" الْمُكَلَّفُ "بِتَرْكِهِ، وَيُثَابُ4 بِفِعْلِهِ" كَالْوَاجِبِ الأَصْلِيِّ5.
ـــــــ
1 مطلقاً أي سواء كان شرطاً أم سبباً، وسواء كان في مقدور المكلف أم لا.
2 الواجب المطلق هو الذي يكون وجوبه غير مشروط الوجوب بذلك الغير، بل مشروط الوقوع به، وهو مقدمة الوجود، كما سيأتي "في هـ5"، قال البناني: المراد بالمطلق ما لا يكون مقيداً بما يتوقف عليه وجوده، وإن كان مقيداً بما يتوقف عليه وجوبه، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} فإن وجوب الصلاة مقيد بما يتوقف عليه ذلك الوجوب، وهو الدلوك، وليس مقيداً بما يتوقف عليه وجود الواجب، وهو الوضوء والاستقبال ونحوهما "حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 193". وانظر: تقرير الشربيني 1/ 192، فواتح الرحموت 1/ 95، المسودة ص 61، المدخل إلى مذهب أحمد ص61، الإحكام للآمدي 1/ 111".
3 ساقطة من ش.
4 في ش: ثياب.
5 تنقسم مقدمة الواجب إلى قسمين: القسم الأول: مدمة الوجوب، وهي التي يتعلق بها التكليف بالواجب، أو يتوقف شغل الذمة عليها كدخول الوقت بالنسبة للصلاة، فهو مقدمة لوجوب الواجب في ذمة المكلف، وكالاستطاعة لوجوب الحج، وحولان الحول لوجوب الزكاة، فهذه المقدمة ليست واجبة على المكلف باتفاق.
والقسم الثاني: مقدمة الوجود، وهي التي يتوقف عليها وجود الواجب بشكل شرعي صحيح، لتبرأ منه الذمة، كالوضوء بالنسبة للصلاة، فلا توجد الصلاة الصحيحة إلا بوجود الوضوء، ولا تبرأ ذمة المكلف بالصلاة إلا بالوضوء، ومقدمة الوجود قد تكون في مقدور المكلف فتجب، وقد لا تكون في مقدوره فلا تجب، واختلاف العلماء في القسم الثاني فقط. "انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 110، مختصر الطوفي ص23، المستصفى 1/ 71، حاشية البناني 1/ 193، تقرير الشربيني 1/ 193، العضد على ابن الحاجب 1/244، المسودة ص60، نهاية السول 1/ 170، شرح البدخشي 1/ 122، اللمع ص10، شرح تنقيح الفصول ص160، تيسير التحرير 2/ 215".(1/358)
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ، فَلا يَخْلُو.
إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلاَّ بِهِ جُزْءًا مِنْ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ، كَالسُّجُودِ فِي الصَّلاةِ. فَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، لأَنَّ الأَمْرَ بِالْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ أَمْرٌ1 بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُ. كَالسَّبَبِ2 الشَّرْعِيِّ، وَالسَّبَبِ الْعَقْلِيِّ، وَالسَّبَبِ الْعَادِيِّ. وَكَالشَّرْطِ3 الشَّرْعِيِّ، وَالشَّرْطِ4 الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْطِ5 الْعَادِيِّ. فَهَذِهِ السِّتَّةُ مَحَلُّ الْخِلافِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الأَكْثَرِ وُجُوبُهَا6.
فَمِثَالُ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ: صِيغَةُ الْعِتْقِ في7 الْوَاجِبِ مِنْ كَفَّارَةٍ وَنَحْوِهَا.
وَمِثَالُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ: الطَّهَارَةُ لِلصَّلاةِ وَنَحْوِهَا.
وَمِثَالُ السَّبَبِ الْعَقْلِيِّ: الصُّعُودُ إلَى مَوْضِعٍ عَالٍ. فِيمَا إذَا وَجَبَ إلْقَاءُ الشَّيْءِ مِنْهُ.
ـــــــ
1 في ز: أمر كلي.
2 السبب: هو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص94، نهاية السول 1/ 123".
3 الشرط: هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. "القواعد والفوائد الأصولية ص94، نهاية السول 1/ 123".
4 في ز: وكالشرط.
5 في ز: وكالشرط.
6 وهو مذهب الإمام الرازي وأتباعه والآمدي وأكثر الشافعية والحنابلة، خلافاً للمعتزلة الذين منعوا ذلك، وهناك أقوال أخرى، منها أن الأمر بالشيء يكون أمراً بالمقدمة إذا كانت سبباً لا شرطاً، ومنها أنه ليس أمراً لا بالسب ولا بالشرط، ومنها أن الأمر بالشيء يكون أمراً بالشرط الشرعي دون العقلي والعادي ودون السبب بأنواعه، وهذا رأي الطوفي وإمام الحرمين وابن الحاجب. "انظر: التمهيد ص15-16، مختصر الطوفي ض24، الروضة ص19، المستصفى 1/ 71، جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 193، تيسير التحرير 2/ 215، مختصر ابن الحاجب 1/ 244، المسودة ص60-61، فواتح الرحموت 1/ 95، المدخل إلى مذهب أحمد ص61".
7 في ش: من.(1/359)
وَمِثَالُ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ: تَرْكُ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَمِثَالُ السَّبَبِ الْعَادِيِّ1: وُجُودُ النَّارِ فِيمَا إذَا وَجَبَ إحْرَاقُ شَخْصٍ.
وَمِثَالُ الشَّرْطِ الْعَادِيِّ: غَسْلُ الزَّائِدِ عَلَى حَدِّ الْوَجْهِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ لِيَتَحَقَّقَ غَسْلُ جَمِيعِهِ.
فَالشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ: مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ شَرْطًا، وَإِنْ أَمْكَنَ وُجُودُ الْفِعْلِ بِدُونِهِ 2 وَالشَّرْطُ الْعَقْلِيُّ: مَا لا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ بِدُونِهِ"2 عَقْلاً، وَالشَّرْطُ الْعَادِيُّ: مَا لا يُمْكِنُ 3 وُجُودُ الْفِعْلِ بِدُونِهِ"3 عَادَةً4.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَتَارَةً يُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ5، وَتَارَةً بِمَا لا يَتِمُّ الأَمْرُ6 إلاَّ بِهِ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ7، لَكِنَّ الْعِبَارَةَ الأُولَى أَشْهَرُ. وَالثَّانِيَةُ أَشْمَلُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الأَمْرَ قَدْ يَكُونُ لِلنَّدْبِ. فَتَكُونُ مُقَدِّمَتُهُ مَنْدُوبَةً، وَرُبَّمَا كَانَتْ وَاجِبَةً. كَالشَّرْطِ8 فِي صَلاةِ التَّطَوُّعِ، إلاَّ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْكَفُّ عَنْ فَاسِدِ الصَّلاةِ عِنْدَ إرَادَةِ التَّلَبُّسِ بِالصَّلاةِ مَثَلاً وَجَبَ مَا لا يَتِمُّ الْكَفُّ مَعَ التَّلَبُّسِ إلاَّ بِهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَمَّا لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلاَّ بِهِ فَهُوَ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ش، وموجودة في ز د ب وعلى هامش ع.
3 ساقطة من ز.
4 انظر: حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 195.
5 وتسمى أيضاً مقدمة الواجب، وغير ذلك "انظر: التمهيد للإسنوي ص15، المستصفى 1/ 71، تقرير الشربيني على جمع الجوامع 1/ 192".
6 في ع ب ض: المأمور.
7 يعبر البيضاوي عنها بقوله: وجوب الشيء مطلقاً يوجب وجوب ما لا يتم إلا به، ويقول الإسنوي في شرحه على منهاج البيضاوي: فالواجب الأول والأخير بمعنى التكليف، والوجوب الثاني بمعنى الاقتضاء. "نهاية السول 1/ 120، 123، وانظر: التمهيد ص15".
8 في ع ب ض: كالشروط.(1/360)
وَاجِبٌ1.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ الْمَتْنِ: أَنَّهُ لا يَجِبُ إلاَّ إذَا كَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ2، لِحَدِيثِ: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" 3، لَكِنْ لَوْ سَقَطَ وُجُوبُ الْبَعْضِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، هَلْ يَبْقَى4 وُجُوبُ الْبَاقِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. أَمْ لا5؟
قَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي بَقَاءَ الْوُجُوبِ لِلْحَدِيثِ الْمُوَافِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 6، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ النُّطْقُ فِي الصَّلاةِ لِعُذْرٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ. خِلافًا لِلْقَاضِي مِنْ أَصْحَابِنَا. وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ7، لِوُجُوبِهِ ضَرُورَةً كَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ، وَشُرُوطِ الصَّلاةِ8.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَيَتَوَجَّهُ الْخِلافُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ فِي قَوْلِ مَنْ اسْتَحَبَّ غَسْلَ مَوْضِعِ الْقَطْعِ فِي الطَّهَارَةِ9. وَكَذَا إمْرَارُ الْمُوسَى فِيمَنْ
ـــــــ
1 يشترط لوجوب المقدمة عند الجمهور شرطان: أن يكون الواجب مطلقاً، أي غير معلق على حصول ما يتوقف عليه، وإن تكون المقدمة في مقدور المكلف، وهذا ما أشار إليه المصنف. "انظر: نهاية السول 1/ 123، 124".
2 انظر: مختصر الطوفي ص24، الروضة ص19، المستصفى 1/ 71، حاشية البناني وتقرير الشربيني 1/ 192، العضد على ابن الحاجب 1/ 245، نهاية السول 1/ 124.
3 هذا جزء من حديث صحيح رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة، ومعنى "إذا أمرتكم بأمر فأئتوا منه" أي وجوباً في الواجب، وندباً في المندوب، ما استطعتم: أي ما أطلقتم، لأن فعله هو إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك يتوقف على شرائط وأسباب كالقدرة على الفعل. "انظر: صحيح مسلم 2/ 975، سنن ابن ماجة 1/ 3، فيض القدير: 3/ 563، سنن السنائي 5/ 83، مسند أحمد 2/ 247".
4 في ز: بقي.
5 ساقطة من ش.
6 الآية 16 من التغابن.
7 انظر: المغني لابن قدامة 1/ 350.
8 انظر: الإحكام للآمدي 1/ 111.
9 انظر: المغني 1/ 19.(1/361)
لا شَعْرَ لَهُ1، وَرُدَّ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي "عُمْدَةِ الأَدِلَّةِ": يُمِرُّ الْمُوسَى. وَلا يَجِبُ ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَشَيْخُنَا2. وَأَمَّا كَلامُ أَحْمَدَ: فَخَارِجٌ مَخْرَجَ الأَمْرِ، لَكِنَّهُ حَمَلَهُ شَيْخُنَا عَلَى النَّدْبِ. انْتَهَى كَلامُ ابْنِ مُفْلِحٍ3.
وَلَنَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ شَبِيهَةٌ بِذَلِكَ. كَوُجُوبِ الْقِيَامِ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِعِلَّةٍ فِي ظَهْرِهِ وَوَاجِدٍ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ مِنْ الْمَاءِ4، وَبَعْضِ صَاعٍ فِي5 الْفِطْرَةِ6.
وَرُبَّمَا خَرَجَ عَنْ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ، الرَّاجِحُ فِيهَا خِلافُ ذَلِكَ، لِمَدَارِكَ فِقْهِيَّةٍ، مَحَلُّهَا الْفِقْهُ7.
ـــــــ
1 وذلك للتحلل من الإحرام بالحلق في الحج والعمرة. "انظر: المغني 3/ 388".
2 جاء في هامش ب: يعني به الشيخ تقي الدين إن كان من تتمة كلام ابن المفلح، والقاضي إن كان من كلام ابن عقيل، لأن القاضي أبا يعلى شيخه.
3 لعل كلام ابن مفلح في "أصوله" المخطوط، وانظر عدم لزوم القراءة وتحريك اللسان عن المعذور في "الفروع 1/ 417".
4 انظر: المغني 1/ 175.
5 في ش: من.
6 يقول ابن اللحام: وضابطه "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" إما أن يكون بالأداء لتبرأ الذمة، أو بالاجتناب ليحصل ترك الحرام، إذ تركه واجب. "القواعد والفوائد الأصولية ص104"، وانظر: "الروضة ص20، نهاية السول 1/ 127، البدخشي 1/ 126".
7 انظر أمثلة عنها في كتاب "القواعد والفوائد الأصولية، لابن اللحام البعلي ص94 وما بعدها، التمهيد ص16، مختصر الطوفي ص24، المسودة ص65".(1/362)
فصل العبادة والوقت
...
"فَصْلٌ" "الْعِبَادَةُ إنْ لَمْ يُعَيَّنْ وَقْتُهَا" أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا1 وَقْتٌ مُعَيَّنٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ2،"لَمْ تُوصَفْ بِأَدَاءٍ وَلا قَضَاءٍ وَلا إعَادَةٍ" كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ، مِنْ صَلاةٍ وَصَوْمٍ وَصَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا لَهَا سَبَبٌ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ التِّلاوَةِ، أَوْ لا سَبَبَ لَهَا3.
وَقَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: قَدْ4 تُوصَفُ مَا لَهَا سَبَبٌ بِالإِعَادَةِ. كَمَنْ أَتَى بِذَاتِ السَّبَبِ مَثَلاً مُخْتَلَّةً5، فَتَدَارَكَهَا حَيْثُ يُمْكِنُ التَّدَارُكُ6.
"وَإِنْ عُيِّنَ" وَقْتُهَا7 "وَلَمْ يُحَدَّ، كَحَجٍّ وَكَفَّارَةٍ" وَزَكَاةِ مَالٍ، لا فِطْرَةٍ "تُوصَفُ بِأَدَاءٍ فَقَطْ" أَيْ دُونَ قَضَاءٍ، لأَنَّ وَقْتَ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ8.
وَ "الْقَضَاءُ" فِعْلُ الْوَاجِبِ خَارِجَ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا. وَلأَنَّ9 كُلَّ
ـــــــ
1 ساقطة من ش ز د.
2 قسم علماء الأصول الواجب باعتبار الوقت إلى قسمين: واجب مؤقت وواجب مطلق عن التوقيت، ثم قسموا الواجب المؤقت إلى أنواع، وهذا ما تناوله المصنف بالبيان.
3 كالصلاة المطلقة والأذكار المطلقة. "انظر: نهاية السول 1/ 84، البناني وشرح جمع الجوامع 1/ 109، العضد على ابن الحاجب 1/ 233، الأشباه والنظائر، السيوطي ص395".
4 في ع: وقد.
5 في ش: مختلفة.
6 انظر: نهاية السول 1/ 84، فواتح الرحموت 1/ 85، وانظر ما يوصف بالأداء والقضاء، وما لا يوصف به في "الأشباه والنظائر، للسيوطي ص395 وما بعدها".
7 الوقت هو الزمن المقدر شرعاً مطلقاً، أي موسعاً "شرح جمع الجوامع 1/ 109".
8 انظر: كشف الأسرار 1/ 146، المستصفى 1/ 95، مناهج العقول للبدخشي 1/ 81، حاشية الجرجاني على شرح العضد 1/ 233، شرح تنقيح الفصول ص275.
9 هكذا في جميع النسخ، ولعل الأصح: لأن.(1/363)
وَقْتٍ مِنْ الأَوْقَاتِ الَّتِي يُؤَخَّرُ فِعْلُهَا إلَيْهِ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْفِعْلِ فِيهِ. وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. فَلَوْ قُلْنَا: إنَّ أَدَاءَهَا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي بَعْدَ تَأْخِيرِهَا قَضَاءٌ، لَزِمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُمَا1.
"وَإِطْلاقُ الْقَضَاءِ فِي حَجٍّ فَاسِدٍ لِشَبَهِهِ2 بِمَقْضِيٍّ" فِي اسْتِدْرَاكِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ فِيهِ وَتَلَبَّسَ بِأَفْعَالِهِ تَضَيَّقَ الْوَقْتُ عَلَيْهِ3. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ تَلَبَّسَ بِأَفْعَالِ الصَّلاةِ، مَعَ أَنَّ الصَّلاةَ وَاجِبٌ مُوَسَّعٌ4.
وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمْ قُلْتُمْ: إنَّ5 الْحَجَّ لا يُوصَفُ بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ6 وَصَفْتُمُوهُ هُنَا؟
"وَفِعْلُ صَلاةٍ بَعْدَ تَأْخِيرِ قَضَائِهَا لا يُسَمَّى قَضَاءَ الْقَضَاءِ" لِتَسَلْسُلِهِ وَهُوَ مُمْتَنَعٌ7.
ـــــــ
1 انظر كشف الأسرار 1/ 147، وفي ز ع ب ض: بعده.
2 في ش: يشبه.
3 الأن الأصل أن وقت الحج هو العمر كله، لكنه تضيق وقته بالشروع، "انظر: تيسير التحرير 2/ 200، فواتح الرحموت 1/ 85، التمهيد ص9، نهاية السول: 1/ 85، شرح تنقيح الفصول ص73، الأشباه والنظائر، للسيوطي ص396".
4 قال الإسنوي: "إذا أحرم بالصلاة وأفسدها، ثم أتى بها في الوقت فإنه يكون قضاء، يترتب عليه جميع أحكام القضاء، لفوات وقت الإحرام بها، لأجل امتناع الخروج، نص على ذلك القاضي حسين في "تعليقه" والمتولي في "التتمة" و الرُوْياني في "البحر" في باب صفة الصلاة" "نهاية السول 1/ 85" وقال أيضاً: "وسببه أن وقت الإحرام بها قد فات، والدليل عليه: أنه لو أراد الخروج منها لم يجز على المعروف، وخالفهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فجزم بأنها تكون أداء" "التمهيد ص9-10" وانظر: "اللمع ص9، تيسير التحرير 1/ 200، الأشباه والنظائر، للسيوطي ص396، الفروع، ابن مفلح 3/ 139".
5 ساقطة من ش.
6 في ش د ع: فقد.
7 انظر: مختصر الطوفي ص34، الروضة ص32، المستصفى 1/ 96، تيسير التحرير 2/ 198.(1/364)
"وَإِنْ حُدَّ" وَقْتُ الْعِبَادَةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَصَلاةِ الظُّهْرِ "وُصِفَتْ بِالثَّلاثَةِ" الَّتِي هِيَ الأَدَاءُ، وَالْقَضَاءُ، وَالإِعَادَةُ1؛ لأَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ فِي وَقْتِهَا كَانَتْ أَدَاءً، وَإِنْ فُعِلَتْ بَعْدَهُ كَانَتْ قَضَاءً وَإِنْ تَكَرَّرَ فِعْلُهَا كَانَتْ مُعَادَةً2، "سِوَى جُمُعَةٍ" فَإِنَّهَا تُوصَفُ بِالأَدَاءِ وَالإِعَادَةِ إذَا3 حَصَلَ فِيهَا خَلَلٌ وَأَمْكَنَ تَدَارُكُهَا فِي وَقْتِهَا، وَلا تُوصَفُ بِالْقَضَاءِ، لأَنَّهَا إذَا فَاتَتْ صُلِّيَتْ ظُهْرًا.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا. "فَالأَدَاءُ: مَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ أَوَّلاً شَرْعًا" 4.
فَقَوْلُنَا "مَا فُعِلَ" جِنْسٌ لِلأَدَاءِ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُنَا "فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ5" يَخْرُجُ الْقَضَاءُ وَمَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ وَقْتٌ كَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ إذَا ظَهَرَ. وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ إذَا وُجِدَ. وَالْجِهَادِ إذَا تَحَرَّكَ الْعَدُوُّ وَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ التِّلاوَةِ.
ـــــــ
1 زاد الشافعية قسماً رابعاً وهو التعجيل، وذلك في الحالات التي أجاز الشارع فيها أداء الواجب قبل وقته، مثل إخراج زكاة الفطر قبل انتهاء رمضان، ودفع الزكاه قبل حولان الحول. "انظر: نهاية السول 1/ 84، القواعد الكبرى، للعز بن عبد السلام 1/ 241، التلويح على التوضيح 2/ 191، حاشية الجرجاني 1/ 234، الأشباه والنظائر، للسيوطي ص395-402، الفروق 1/ 196 وما بعدها".
2 الإعادة: هي تكرار العبادة في الوقت لعذر، وسيذكر المصنف تعريف الإعادة فيما بعد ص368.
3 في ز ع ب ض: إن.
4 انظر تعريف الأداء في "التمهيد ص9، التعريفات ص13، مختصر الطوفي ص33، الروضة ص31، كشف الأسرار 1/ 134، المستصفى 1/ 95، فواتح الرحموت 1/ 85، البدخشي 1/ 81، نهاية السول 1/ 84، مختصر ابن الحاجب 1/ 232، شرح تنقيح الفصول ص72".
5 يكتفي في الصلاة بوقوع أول الواجب في الوقت، مثل تكبيرة الإحرام عند الحنفية والراجح عند الحنابلة، والركعة الأولى من الصلاة عند الجمهور، لحديث الصحيحين: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". "انظر: فواتح الرحموت 1/ 85، حاشية البناني 1/ 108، تيسير التحرير 2/ 198، حاشية الجرجاني على شرح العضد 1/ 234، فيض القدير 6/ 44، روضة الطالبين، للنووي 1/ 183، الفروع، لابن مفلح 1/ 305، سنن الدارمي 1/ 277، فتح الباري 2/ 38، صحيح مسلم 1/ 423، الموطأ 1/ 105".(1/365)
وَقَوْلُنَا "أَوَّلاً" لِيَخْرُجَ مَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا، لَكِنَّهُ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي قُدِّرَ لَهُ أَوَّلاً شَرْعًا، كَالصَّلاةِ إذَا ذَكَرَهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، أَوْ اسْتَيْقَظَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لِقَوْلِهِ1 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا. فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا" 2، فَإِذَا فَعَلَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ وَقْتٌ ثَانٍ، لا أَوَّلُ3. فَلَمْ يَكُنْ أَدَاءً.
وَيَخْرُجُ بِهِ أَيْضًا: قَضَاءُ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ لَهُ وَقْتًا مُقَدَّرًا، لا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ. وَهُوَ مِنْ حِينِ الْفَوَاتِ إلَى رَمَضَانَ السَّنَةِ الآتِيَةِ، فَإِذَا فَعَلَهُ كَانَ قَضَاءً، لأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ4 لَهُ ثَانِيًا، لا أَوَّلاً5.
وَقَوْلُنَا "شَرْعًا" لِيَخْرُجَ مَا قُدِّرَ لَهُ وَقْتٌ لا بِأَصْلِ الشَّرْعِ، كَمَنْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ –لِعَارِضِ6- [الْوَقْتِ]7 الْمُوَسَّعِ8، إنْ لَمْ يُبَادِرْ9.
ـــــــ
1 في ع ض: كقوله.
2 هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك مرفوعاً بألفاظ مختلفة. "انظر: صحيح البخاري مع شرح السندي 1/ 122، صحيح مسلم 1/ 477، سنن أبي داود، 1/ 175، سنن ابن ماجة 1/ 227، التيسير بشرح الجامع الصغير 2/ 445، فيض القدير 6/ 230، 231، سنن النسائي 1/ 236، مسند أحمد 3/ 31، سنن الدارمي 1/ 280".
3 هذا الشرح على اعتبار "أولاً" حالا من "وقته المقدر"، ويصح أنْ تكون حالاً من "فعل" أي ما فعل أولاً في الوقت المقدر، لتخريج الإعادة، كما لو صلى الظهر في وقته، ثم صلاه مرة ثانية، فالفعل الأول أداء، والثاني إعادة. "انظر: نهاية السول 1/ 84، العضد على ابن الحاجب 1/ 232، وانظر تعريف المصنف للإعادة –فيما بعد- وأنه قيدها بالفعل ثانياً ص368".
4 في ز: المقدور.
5 انظر: التمهيد ص9، نهاية السول 1/ 84، العضد على ابن الحاجب 1/ 233.
6 في ش: لعارض هبة، وفي ز ع ب ض: ظنه.
7 في جميح النسخ: الفوات
8 ساقطة من ش ع ز ب.
9 وكذا لو قدر الوقت من الحاكم، كما لو حَدَّد شهر رمضان لدفع الزكاة، فإنّ هذا الوقت المقدر ليس من قبل الشارع، ويسمى فعلُ المكلف أداء، سواء دفع الزكاة في الوقت أم خارجه.
"انظر: تيسير التحرير 2/ 198، البدخشي 1/ 81، شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 233".(1/366)
"وَالْقَضَاءُ: مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الأَدَاءِ"1 عَلَى2 قَوْلِ الْجُمْهُورِ "وَلَوْ" كَانَ التَّأْخِيرُ "لِعُذْرٍ" سَوَاءٌ "تَمَكَّنَ مِنْهُ" أَيْ مِنْ فِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ "كَمُسَافِرٍ" يُفْطِرُ "أَوْ لا" أَيْ3 أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْفِعْلِ فِي وَقْتِهِ، "لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ كَحَيْضٍ" وَنِفَاسٍ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْفِعْلِ شَرْعًا مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، "أَوْ" لِمَانِعٍ "عَقْلِيٍّ، كَنَوْمٍ لِوُجُوبِهِ" أَيْ وُجُوبِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ "عَلَيْهِمْ" وَهُوَ الصَّوْمُ حَالَةَ وُجُودِ الْعُذْرِ، وَهُوَ السَّفَرُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ.
وَحَيْثُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ، كَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ زَوَالِهِ قَضَاءً لِخُرُوجِ وَقْتِ الأَدَاءِ، وَكَوْنُهُ قَضَاءً مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ حَالَ الْعُذْرِ4.
ـــــــ
1 انظر تعريف القضاء في "التمهيد ص90، مختصر الطوفي ص33، التعريفات ص185، الروضة ص31، كشف الأسرار 1/ 135، شرح تنقيح الفصول ص73، المستصفى 1/ 95، فواتح الرحموت 1/ 85، مناهج العقول، للبدخشي 1/ 82، نهاية السول 1/ 85، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 111، للمع ص9".
2 في ز ع ب: وعلى.
3 في ع ب ض: يعني.
4 يرى بعض العلماء أن فعل الواجب إذا فات لعذر لا يسمى قضاء، لعدم وجوبه عليهم حال العذر، بدليل عدم عصيانهم لو ماتوا فيه، ويرد عليهم أن نية القضاء واجبة، وأن السيدة عائشة قالت: "كنا نحيضُ فنؤمر بقضاء الصوم" وأن العباداة تثبت في الذمة كالدين، ومن ثم يجب قضاؤها، وهو قضاء حقيقي أو مجازي علىقولين، وقال القرافي: لا يشترط في القضاء تقديم الوجوب، بل تقديم سببه. "انظر: مختصر الطوفي ص33، الروضة ص32، الإحكام لابن حزم 1/ 306، 283، 301، الإحكام، الآمدي 1/ 109، 110، شرح تنقيح الفصول ص74، القواعد والفوائد الأصولية ص31، المستصفى 1/ 96، فواتح الرحموت 1/ 85، البدخشي 1/ 83، نهاية السول 1/ 86، تيسير التحرير 2/ 199، حاشية البناني 1/ 112، شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 233".(1/367)
وَإِطْلاقُ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْمُؤَدَّى وَالْمَقْضِيِّ، مِنْ إطْلاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَقَدْ اشْتَهَرَ ذَلِكَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ، حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً.
"وَعِبَادَةُ صَغِيرٍ" لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ "لا تُسَمَّى قَضَاءً" إجْمَاعًا1، "وَلا أَدَاءً" عَلَى الصَّحِيحِ، لأَنَّ الصَّغِيرَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ عِبَادَةٌ، حَتَّى تُقْضَى2.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي "فُرُوعِهِ": تَصِحُّ الصَّلاةُ مِنْ مُمَيِّزٍ نَفْلاً، وَيُقَالُ: لِمَا فَعَلَهُ: 3 صَلاةُ كَذَا. وَفِي"3 "التَّعْلِيقِ" مَجَازاً4. اهـ .
"وَالإِعَادَةُ: مَا فُعِلَ" أَيْ فِعْلُ5 مَا فُعِلَ مِنْ الْعِبَادَةِ "فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ" أَيْ الْمَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ، "ثَانِيًا" أَيْ بَعْدَ فِعْلِهِ أَوَّلاً "مُطْلَقًا"6 أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ الإِعَادَةُ لِخَلَلٍ فِي الْفِعْلِ الأَوَّلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: لَوْ صَلَّى الصَّلاةَ فِي وَقْتِهَا صَحِيحَةً، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى. فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ تُسَمَّى مُعَادَةً عِنْدَ الأَصْحَابِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ7 خَلَلٍ وَلا عُذْرٍ8.
"وَالْوَقْتُ" الْمُقَدَّرُ:
ـــــــ
1 في ش: وجوباً.
2 في ش ز د: يقضي.
3 في ش: كذا صلاة وكذا في.
4 الفروع: 1/ 290-291، وانظر الفروع أيضاً: 2/ 18، في ش ز: مجاز، وكذا في الفروع.
5 ساقطة من د. وفي ش: نقل.
6 انظر: التمهيد ص9، مختصر الطوفي ص33، الروضة ص31، المستصفى 1/ 95، فواتح الرحموت 1/ 85، تيسير التحرير 1/ 199، حاشية البناني 1/ 117، شرح تنقيح الفصول ص86.
7 ساقطة من ش.
8 خالف الحنفية في هذا القول، وقيدوا الإعادة بحالة الخلل في الفعل الأول دون العذر، بينما ذكر الجمهور من العذر طلب الفضيلة في صلاة الجماعة مثلاً. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 85، مناهج العقول للبدخشي 1/ 83، تيسير التحرير 2/ 199، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 118، شرح العضد 1/ 233".(1/368)
- "إمَّا" أَنْ يَكُونَ 1 بِقَدْرِ الْفِعْلِ"1 كَصَوْمِ" رَمَضَانَ "فَـ" ـهُوَ الْوَقْتُ "الْمُضَيَّقُ".
- "أَوْ" أَنْ يَكُونَ "أَقَلَّ، فَـ2" ـهُوَ "مُحَالٌ" أَيْ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ مِنْ الْمُحَالِ، نَحْوِ إيجَابِ صَلاةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَنَحْوِهِ3.
- "أَوْ" أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّرُ لِلْعِبَادَةِ "أَكْثَرَ" مِنْ وَقْتِ فِعْلِهَا "فَـ" ـهُوَ "الْمُوَسَّعُ" كَالصَّلَوَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ4، "فَيَتَعَلَّقُ" الْوُجُوبُ "بِجَمِيعِهِ5" أَيْ جَمِيعِ الْوَقْتِ "مُوَسَّعًا أَدَاءً" عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ6 الْمُتَكَلِّمِينَ7.
"وَيَجِبُ الْعَزْمُ" 8 عَلَى بَدَلِ"8 الْفِعْلِ أَوَّلَ الْوَقْتِ "إذَا أُخِّرَ" 9. "وَيَتَعَيَّنُ" الْفِعْلُ "آخِرَهُ" أَيْ آخِرَ الْوَقْتِ.
ـــــــ
1 في ش بتقدير فعل.
2 في ش: و.
3 التكليف بالمحال جائز عند بعض العلماء كما سبق، أما الذين منعوا التكليف بالمحال فقالوا يجوز في الحالة المذكورة أعلاه، إذا كان لغرض التكميل خارج الوقت، كوجوب الظهر عند من زال عذره في آخر الوقت، كالجنون والحيض والصبا، وقد بقي مقدار تكبيرة، خلافاً لزفر من الحنفية. "انظر: نهاية السول 1/ 112، مناهج العقول 1/ 108، كشف الأسرار 1/ 215".
4 انظر: تخريج الفروع على الأصول ص31، مختصر الطوفي ص21، الروضة ص18، المدخل إلى مذهب أحمد ص60، القواعد والفوائد الأصولية ص69، شرح جمع الجوامع 1/ 187.
5 في ز: جميعه.
6 في ز ع ب ض: والأكثر من.
7 انظر: مختصر ابن الحاجب 1/ 241، الإحكام، الآمدي 1/ 105، المدخل إلى مذهب أحمد ص60، مختصر الطوفي ص21، نهاية السول 1/ 112، اللمع ص9، القواعد والفوائد الأصولية ص70، حاشية البناني 1/ 187، المسودة ص26، 28، تخريج الفروع على الأصول ص31.
8 ساقطة من ش: ويوجد مكانها: به قبل، وفي ز ب ض: يدل الفعل، وعلى هامش ب: على الفعل.
9 اشترط أكثر الحنابلة والمالكية والشافعية والجبائي وابنه من المعتزلة وجوب العزم على بدل =(1/369)
"وَيَسْتَقِرُّ وُجُوبُ" فِعْلِ الْعِبَادَةِ "بِأَوَّلِهِ" أَيْ أَوَّلِ وَقْتِهَا الْمُقَدَّرِ1، لأَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهَا فِيهِ2، فَلَوْ طَرَأَ مَانِعٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَ الْقَضَاءُ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ. فَإِنْ أُخِّرَتْ عَنْهُ: صَارَتْ قَضَاءً3.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ: يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ4. زَادَ الْكَرْخِيُّ: أَوْ
ـــــــ
= الفعل لتمييزه عن المندوب الذي يجوز تركه مطلقاً، أما الواجب الموسع فلا يجوز تركه في أول الوقت إلا بشرط الفعل بعده أو العزم على الفعل، وما جاز تركه بشرط فليس بندب كالواجب المخير أيضاً. "انظر: الروضة ص18، مختصر الطوفي ص21، الإحكام، الآمدي 1/ 106، القواعد والفوئد الأصولية ص70، كشف الأسرار 1/ 220".
ولم يشترط العزم على الفعل أبو الخطاب ومجد الدين بن تيمية من الحنابلة، وأبو الحسين البصري من المعتزلة، والإمام الرازي وأتباعه وابن السبكي من الشافعية، وابن الحاجب من المالكية، "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص60، الإحكام، الآمدي 1/ 105، نهاية السول 1/ 112، مناهج العقول 1/ 109، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 1/ 241، حاشية البناني: 1/ 188، فواتح الرحموت 1/ 47، المسودة 28، المجموع، للنووي 3/ 49".
1 قال البعلي: ونعني بالاستقرار وجوب القضاء، ثم ذكر أمثلة من الفروع الفقهية لذلك "القواعد الفوائد الأصولية ص71 وما بعدها، وانظر: المسودة ص29، المجموع، للنووي 3/ 47".
2 في أول الوقت "انظر: القواعد والفوئد الأصولية ص71، الروضة ص18، تيسير التحرير 2/ 189، 191، 193، أصول السرخسي 1/ 31".
3 وهو قول بعض الشافعية وبعض الحنفية العراقيين. "انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 105، فواتح الرحموت 1/ 74، شرح جمع الجوامع 1/ 188، القواعد والفوائد الأصولية ص71، تيسير التحرير 2/ 191 نهاية السول 1/ 114، مختصر ابن الحاجب 1/ 241".
4 وهذا ما نقله السرخسي عن العراقيين فقال: وأكثر العراقيين من مشايخنا يقولون: الوجوب لا يثبت في أول والوقت، وإنما يتعلق الوجوب بآخر الوقت، "أصول السرخسي 1/ 31".وانظر: تخريج الفروع على الأصول ص31.(1/370)
بِالدُّخُولِ فِيهَا1.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ - بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ-: إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِهِ. وَزِيَادَةُ الْكَرْخِيِّ: بِالدُّخُولِ. فَإِنْ قَدَّمَهُ فَنَفْلٌ يُسْقِطُ الْفَرْضَ، وَأَكْثَرُهُمْ قَالَ2: إنْ بَقِيَ مُكَلَّفًا، فَمَا قَدَّمَهُ وَاجِبٌ. وَعِنْدَهُمْ إنْ طَرَأَ مَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ فَلا وُجُوبَ3. انْتَهَى.
وَلَنَا عَلَى الأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلاةَ-الآيَةَ} 4، قُيِّدَ5: بِجَمِيعِ وَقْتِهَا. لأَنَّ جِبْرِيلَ أَمَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 6 أَوَّلَ الْوَقْتِ"6 وَآخِرَهُ. وَقَالَ لَهُ7:
ـــــــ
1 الواقع أن للحنفية رأيين، فقال بعض الحنفية العراقيين: ليس كل الوقت وقتاً للواجب بل آخره، فإن قدمه فنفل يسقط به المرض، وهذا ما ذكره المصنف أعلاه، وقال الأنصاري في شرح مسلم الثبوت: ونسب هذا القول للحنفية، وهذه النسبة غلط، وقال أكثر الحنفية: إذا كان الواجب موسعاً فجميع الوقت لأدائه، وأن سبب الوجوب هو الجزء الأول من الوقت إن اتصل به الأداء، وإلا انتقل إلى ما يليه، وإلا تعين الجزء الأخير. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 73، 74، تيسير التحرير 2/ 189، التوضيح على التنقيح 2/ 205، أصول السرخسي 1/ 30، 32، 33، كشف الأسرار 1/ 215، 219، وانظر: الإحكام، للآمدي 1/ 105، المدخل إلى مذهب إحمد ص60، نهاية السول 1/ 114، شرح تنقيح الفصول ص150، شرح تنقيح الفصول ص150".
2 ساقطة من ش ز ع ب ض.
3 قال الكمال بن الهمام: فلو كانت طاهرة أول الوقت فلم تُصلِ حتى حاضت اخره لا قضاء عليها "تيسير التحرير 2/ 192، 194، وانظر: القواعد والفوائد الأصولية ص71، نهاية السول 1/ 114، فواتح الرحموت 1/ 74، مناهج العقول 1/ 111 وبعدها، كشف الأسرار 1/ 216، أصول السرخسي 1/ 31، جمع الجوامع 1/ 189".
4 الآية 78 من الأسراء، وهي {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}.
5 في ش د ع: قيل.
6 في ز ع ب: أوله.
7 ساقطة من ز: وفي ع ب: وقال: الوقت ما بينهما، وقاله له جبريل أيضاً عليه الصلاة والسلام.(1/371)
"الْوَقْتُ مَا بَيْنَهُمَا"1. وَلأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ لِلْفِعْلِ جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ لَمْ يَصِحَّ الْفِعْلُ قَبْلَهُ، وَيَكُونُ2 الْفِعْلُ بَعْدَهُ قَضَاءً. فَيَعْصِي بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ، وَهُوَ خِلافُ الإِجْمَاعِ3.
"وَمَنْ أَخَّرَ" الْفِعْلَ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ "مَعَ ظَنِّ مَانِعٍ" مِنْهُ "كَعَدَمِ الْبَقَاءِ4" بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَبْقَى مِنْ الْوَقْتِ زَمَنٌ يَتَّسِعُ لِلْفِعْلِ فِيهِ "أَثِمَ" إجْمَاعًا، لِتَضْيِيقِهِ عَلَيْهِ بِظَنِّهِ5.
"ثُمَّ إنْ بَقِيَ" مِنْ ظَنِّ عَدَمِ الْبَقَاءِ "فَفَعَلَهَا" أَيْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ "فِي وَقْتِهَا
ـــــــ
1 هذا الحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس مرفوعاًً، ورواه الإمام أحمد عن جابر مرفوعاً. "انظر: صحيح البخاري 1/ 101، سنن أبي داود 1/ 161، سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 1/ 464، سنن النسائي 1/ 197، 209، المستدرك 1/ 193، نيل الأوطار 1/ 351"، قال الطوفي: النص قُيَّد بجميع الوقت، فتخصيص بعضه بالإيجاب تحكم "مختصر الطوفي ص21"، وفي ز: وقاله جبريل أيضاً عليه السلام.
2 في ش: ويكره.
3 قال البدخشي: ثم حقيقة الموسع ترجع إلى المخير بالنسبة إلى الوقت، كأن قيل للمكلف: افعل إما في أول الوقت أو وسطه أو آخره، فهو مخير في الإتيان به في أول جزء منها "منهاج العقول 1/ 109" وهو ما صرح به البزدوي والسرخسي "كشف الأسرار 1/ 220، 229، أصول السرخسي 1/ 33"، وانظر: "الروضة ص18، الإحكام، الآمدي 1/ 108، نهاية السول 1/ 115، مختصر ابن الحاجب 1/ 242، تخريج الفروع على الأصول ص31، شرح تنقيح الفصول ص150".
4 في ش: البناء.
5 كما لو كان محكوماً عليه بالقتل، وأن التنفيذ سيتم في ساعة معينة، وكما لو كانت المرأة تعرف أن عادتها تأتيها في ساعة معينة من الوقت، فيتضيق الوقت عليهما، "انظر: جمع الجوامع 1/ 190، مختصر ابن الحاجب 1/ 243، نهاية السول 1/ 87، فواتح الرحموت 1/ 86، الإحكام، الآمدي 1/ 109، القواعد والفوائد الأصولية ص82، المستصفى 1/ 95، الروضة صي31، تيسير التحرير 2/ 200، مختصر الطوفي ص23، التمهيد ص10، الفروع، ابن المفلح 1/ 293".(1/372)
فَـ" ـهِيَ "أَدَاءٌ" عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ لِبَقَاءِ الْوَقْتِ. وَلا يُلْتَفَتُ إلَى ظَنِّهِ الَّذِي بَانَ خَطَؤُهُ.
"وَمَنْ لَهُ تَأْخِيرٌ" فَمَاتَ1 قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهَا فَإِنَّهَا "تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ" عِنْدَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، لأَنَّهَا لا تَدْخُلُهَا2 النِّيَابَةُ فَلا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا فِي الذِّمَّةِ، بِخِلافِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ3، "وَلَمْ يَعْصِ" بِالتَّأْخِيرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ4. وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ إجْمَاعًا، لأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ. وَاعْتِبَارُ سَلامَةِ الْعَاقِبَةِ مَمْنُوعٌ لأَنَّهُ غَيْبٌ5.
"وَمَتَى طُلِبَ6" أَيْ طُلِبَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ "مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِالذَّاتِ، أَوْ مِنْ مُعَيَّنٍ كَالْخَصَائِصِ" النَّبَوِيَّةِ7. قَالَ الإِمَامُ8 أَحْمَدُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خُصَّ
ـــــــ
1 في هامش ب: كمن به سَلَسُ بول مثلاً ومستحاضة، وانظر أمثلة أخرى في "القواعد والفوائد الأصولية ص76".
2 في ش: تسقطها.
3 انظر حكم هذه المسألة، مع بيان الأحكام التي تدخلها النيابة في "التمهيد ص11، الإحكام، الآمدي 1/ 149، شرح جمع الجوامع 1/ 191، روضة الطالبين للنووي 1/ 183، الفروع، لابن مفلح 1/ 293، تخريج الفروع على الأصول ص60".
4 تدخل هذه المسألة في القاعدة الأصولية وهي "الأمر الذي أريد به التراخي، إذا مات المأمور به بعد تمكنه منه وقبل الفعل" لم يمت عاصياً عند الجمهور، وقال قوم يموت عاصياً، واختاره الجويني وأبو الخطاب، "انظر: القواعد والفوائد الأصلية ص76، المسودة ص41، الفروع 1/ 293"، وفي ز: جماهير العلماء.
5 انظر رأي الجمهور في "مختصر الطوفي ص23، الروضة ص19، الإحكام، للآمدي 1/ 191، المدخل إلى مذهب أحمد ص60، مختصر ابن الحاجب 1/ 243، المستصفى 1/ 70، شرح جمع الجوامع 1/ 191" والمراجع السابقة.
6 في ش د: طلب.
7 في ز: أي خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
8 في ش د: إمامنا.(1/373)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِواجَبَاتٍ1 وَمَحْظُورَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ وَكَرَامَاتٍ2، "فَـ" إنْ كَانَ الطَّلَبُ "مَعَ جَزْمٍ" كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ3 رَمَضَانَ. فَالْمَطْلُوبُ "فَرْضُ عَيْنٍ4. وَ" إنْ كَانَ الطَّلَبُ "بِدُونِهِ" أَيْ بِدُونِ جَزْمٍ، كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَصَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ، فَالْمَطْلُوبُ "سُنَّةُ عَيْنٍ"5.
"وَإِنْ طُلِبَ الْفِعْلُ" أَيْ حُصُولُهُ "فَقَطْ، فَـ" طَلَبُهُ "مَعَ جَزْمٍ" كَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِ "فَرْضُ كِفَايَةٍ6، وَ" طَلَبُ حُصُولِهِ "بِدُونِهِ" أَيْ بِدُونِ جَزْمٍ. كَابْتِدَاءِ السَّلامِ مِنْ جَمْعٍ فَهُوَ "سُنَّةُ كِفَايَةٍ"7.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ: أَنَّ 8 فَرْضَ الْعَيْنِ"8 مَا تَكَرَّرَتْ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا. فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُضُوعُ لِلَّهِ، وَتَعْظِيمُهُ وَمُنَاجَاتُهُ وَالتَّذَلُّلُ وَالْمُثُولُ9 بَيْنَ يَدَيْهِ. وَهَذِهِ الآدَابُ تُكَرَّرُ10 كُلَّمَا كُرِّرَتْ الصَّلاةُ11.
ـــــــ
1 في ش: بموجبات.
2 انظر كتاب الخصائص الكبرى للسيوطي، مطبوع في ثلاثة أجزاء، والشامل للترمذي وغيره.
3 في ز ع ب ض: صوم.
4 سمي فرض عين لأن خطاب الشارع يتوجه إلى كل مكلف بعينه، ولا تبرأ ذمة المكلف منه إلا بأدائه بنفسه.
5 انظر: الفروق 1/ 117.
6 سمي فرض كفاية لأن قيام بعض المكلفين به يكفي للوصول إلى مقصد الشارع في وجود الفعل، ويكفي في سقوط الإثم عن الباقين، مع كونه واجباً على الجميع كما سيأتي. "انظر: التمهيد ص13، نهاية السول 1/ 118".
7 انظر: التمهيد ص13، نهاية السول 1/ 117، حاشية البناني 1/ 182، القواعد والفوائد الأصولية ص186، الفروق 1/ 117.
8 في ش: الأول.
9 في ش: والتضرع.
10 في ش ز: تكثر.
11 في ز: الصلوات.(1/374)
وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ: مَا لا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ. كَإِنْجَاءِ الْغَرِيقِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ وَنَحْوِهَا، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ تَبَايُنَ النَّوْعَيْنِ1.
"وَهُمَا" أَيْ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَسُنَّةُ الْكِفَايَةِ "مُهِمٌّ" أَيْ. أَمْرٌ يُهْتَمُّ بِهِ، "يُقْصَدُ" مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ "حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ بِالذَّاتِ إلَى فَاعِلِهِ2" فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ نَحْوُ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ.
وَقَوْلُهُ: "مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ - إلَخْ3" مُخْرِجٌ4 لِفَرْضِ الْعَيْنِ وَسُنَّةِ الْعَيْنِ، لأَنَّ مَا مِنْ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ إلاَّ5 وَيَنْظُرُ فِيهِ الْفَاعِلُ، حَتَّى يُثَابَ عَلَى وَاجِبِهِ وَمَنْدُوبِهِ، وَيُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ - إنْ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ-. وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي كَوْنِ الْمَطْلُوبِ عَيْنًا يُخْتَبَرُ بِهِ الْفَاعِلُ وَيُمْتَحَنُ، لِيُثَابَ أَوْ يُعَاقَبَ. وَالْمَطْلُوبُ عَلَى الْكِفَايَةِ يُقْصَدُ حُصُولُهُ قَصْدًا ذَاتِيًّا، وَقَصْدُ الْفَاعِلِ فِيهِ تَبَعٌ6 لا ذَاتِيٌّ7.
"وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ" وَاجِبٌ "عَلَى الْجَمِيعِ" عِنْدَ الْجُمْهُورِ8. قَالَ الإِمَامُ
ـــــــ
1 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص186، الفروق 1/ 116، شرح تنقيح الفصول ص157.
2 المقصود في فرض الكفاية إيقاعُ الفعل مع قطع النظر عن الفاعل. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص186، المحلي على جمع الجوامع 1/ 183، تيسير التحرير 2/ 213، الفروق 1/ 117".
3 في ز ع ب ض: بالذات إلى فاعله.
4 في ش: جامع.
5 ساقطة من ش.
6 في ش: يقع.
7 أي من غير نظر بالأصالة والأولية إلى الفاعل، وإنما المنظور إليه أولاً وبالذات هو الفعل والفاعل إنما ينظر إليه تبعاً لضرورة توقف الفعل على فاعل. "انظر حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 183".
8 الواجب الكفائي يتعلق بجميع المكلفين عند الجمهور، فالقادر عليه يقوم بنفسه به، وغير القادر يحثُ غيره على القيام به، لأن الخطاب موجهٌ لكل مكلف، وأن التأثيم يتعلق بالكل عند الترك، لكنه يسقط بفعل البعض لحصول المقصود، وقال الإمام الرازي والبيضاوي والتاج السبكي: إن فرض الكفاية يتعلق بطائفة غير معينة، لأنه لو تعلق بالكل لم سقط إلا بفعل =(1/375)
أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْغَزْوُ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَإِذَا غَزَا بَعْضُهُمْ أَجْزَأَ عَنْهُمْ1.
وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي "الأُمِّ": حَقٌّ عَلَى النَّاسِ غُسْلُ الْمَيِّتِ، وَالصَّلاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ، لا يَسَعُ عَامَّتَهُمْ تَرْكُهُ. وَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى2.
"وَيَسْقُطُ الطَّلَبُ الْجَازِمُ وَالإِثْمُ" فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ "بِفِعْلِ مَنْ يَكْفِي" رُخْصَةً وَتَخْفِيفًا3، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ4.
"وَيَجِبُ" عَيْنًا "عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ غَيْرَهُ لا يَقُومُ بِهِ" أَيْ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ5، لأَنَّ الظَّنَّ مَنَاطُ التَّعَبُّدِ6.
ـــــــ
= الكل، وأنه يجوز الأمر لواحد مبهم اتفاقاً، كفوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة / 122]، وهناك أقوال أخرى. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص12، 187، نهاية السول 1/ 118، مناهج العقول 1/ 118، فواتح الرحموت 1/ 63، 64، مختصر ابن الحاجب 1/ 234، جمع الجوامع وشرح المحلي عليه 1/ 184، تيسير التحرير 2/ 213، الروضة ص108، المستصفى 2/ 15، المسودة ص30، شرح تنقيح الفصول ص155"، وفي ض: على وفاق الأمر.
1 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص187، المسودة ص30.
2 الأم 1/ 274.
3 في ش: تحقيقاً.
4 انظر: نهاية السول 1/ 119، فواتح الرحموت 1/ 66، حاشية الجرجاني على شرح العضد 1/ 234، الفروق 1/ 116.
5 كما إذا انحصر الواجب الكفائي بشخص واحد فيصير عليه واجباً عينياً، ويجب عليه القيام به، مثل وجود عالم واحد يصلح للفتوى أو للقضاء، وشاهد واحد في القضية، وطبيب واحد في البلدة، وسباح واحد أمام الغريق، كما ينقلب الواجب الكفائي من جهة أخرى إلى واجب عيني على كل مسلم في بعض الحالات، كالجهاد في سبيل الله، فهو واجب كفائي، ولكن إذا تعرضت بلاد المسلمين للغزو أو الاعتداء أو الاحتلال، فإنه يصبح واجباً عينياً على كل مكلف قادر يستطيع حمل السلاح وحماية الوطن والذود عن حياضه. "انظر: منهاج العقول 1/ 117".
6 وكذلك العكس، فإن غلب على ظن جماعة أن غيرهم يقوم بذلك سقط عنهم، فالتكليف بفرض الكفاية دائر مع الظن. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص12، 189، نهاية السول 1/ 118، مناهج العقول 1/ 117، 118، فواتح الرحموت 1/ 63، تيسير التحرير 2/ 214، المسودة ص30، شرح تنقيح الفصول ص156، الفروق 1/ 117".(1/376)
"وَإِنْ فَعَلَهُ" أَيْ فَعَلَ الْمَطْلُوبَ حُصُولُهُ "الْجَمِيعُ مَعًا" أَيْ غَيْرَ مُرَتَّبٍ "كَانَ فَرْضًا" فِي حَقِّ الْجَمِيعِ لِعَدَمِ مَا يَقْتَضِي تَمْيِيزَ بَعْضِهِمْ1.
"وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَفْضَلُ" مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، لأَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ أَهَمُّ، وَلأَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الأَعْيَانِ. وَهَذَا قَوْلُ الأَكْثَرِ. وَقِيلَ عَكْسُهُ2.
"وَلا فَرْقَ بَيْنَهُمَا" أَيْ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ "ابْتِدَاءً"3 قَالَهُ الْمُوَفَّقُ وَغَيْرُهُ4، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي ثَانِي الْحَالِ5، وَهُوَ فَرْقٌ حُكْمِيٌّ6.
ـــــــ
1 ولأن فرض الكفاية يتعلق بالجميع، ولترغيب الناس فيه. "انظر: التمهيد ص13، فواتح الرحموت 1/ 64، القواعد والفوائد الأصولية ص189، المستصفى 2/ 15، الروضة ص108، المسودة ص31".
2 وهو قول أكثر الشافعية، ونقل الطويق في شرحه قولين، قال إمام الحرمين: إن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأن فاعله ساعٍ في صيانة الأمة كلها عن المأثم، ولا شك في رجحان من حلّ محل المسلمين أحمعين في القيام بمهم من مهمات الدين، خلافاً للتاج السبكي والمحلي وغيرهما الذين قالوا: إن فرض العين أفضل لشدة اعتناء الشارع به لقصده حصوله من كل مكلف. "انظر: التمهيد ص13، المحلي على جمع الجوامع 1/ 183، 184، القواعد والفوائد الأصولية ص188، 189".
3 أي من جهة الوجوب، لشمول حد الواجب لهما "الإحكم، الآمدي 1/ 100".
4 وهو قول الجمهور. "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 100، الروضة ص108، المسودة ص30".
5 أي من جهة الإسقاط، فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، خلافاً لفرض العين، فلا يسقط بفعل البعض، بل لا بد أن يقوم به كل مكلف بعينه. "انظر: الإحسكام، الآمدي 1/ 100، القواعد والفوائد الأصولية ص187".
6 أي من حيث الأثر، لا من حيث الحقيقة والذات. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص187"، وفي ض: فرض حكمي.(1/377)
"وَيَلْزَمَانِ" أَيْ فَرْضُ الْعَيْنِ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ "بِشُرُوعٍ مُطْلَقًا1" أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ جِهَادًا، أَوْ صَلاةً عَلَى جِنَازَةٍ، أَوْ غَيْرَهُمَا2. قَالَ فِي "شَرْحِ3 التَّحْرِيرِ": فِي الأَظْهَرِ.
وَيُؤْخَذُ4 لُزُومُهُ بِالشُّرُوعِ5 مِنْ6 مَسْأَلَةِ حِفْظِ الْقُرْآنِ. فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إجْمَاعًا، فَإِذَا حَفِظَهُ إنْسَانٌ7 وَأَخَّرَ تِلاوَتَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى نَسِيَهُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا أَشَدَّ مَا جَاءَ فِيمَنْ حَفِظَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ8. وَفِيهِ وَجْهٌ يُكْرَهُ9.
ـــــــ
1 وهو قول الشافعية بأن يصير فرض الكفاية كفرض العين في وجوب الإتمام على الإصح بجامع الفرضية. وقيل: لا يجب إتمامه، لأن القصد من فرض الكفاية حصوله في الجملة، فلا يتعين حصوله ممن شرع فيه، وقيل: يتعين فرض الكفاية بالشروع في الجهاد وصلاة الجنازة دون غيرهما. "انظر: شرح جمع الجوامع 1/ 185-186، القواعد والفوائد الإصولية ص188".
2 في ب: غيرهما.
3 ساقطة من ش.
4 في ش: يؤخذ من.
5 في ع ب: بالشرع.
6 ساقطة من ش.
7 ساقطة من ش.
8 ويؤخذ اللزوم بالشرع أيضاً من الجهاد، فهو فرض كفاية لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة / 122] ولكن إذا دخل به إنسان فيحرم عليه التراجع والتوالي، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال / 15-16]، فيجب الاستمرار في صف القتال، لما في الانصراف عنه من كسر قلوب الجند. "انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 186".
9 قال البعلي بعد كلام الإمام أحمد: وقدمه بعضهم "القواعد والفوائد الإصولية ص118-189".(1/378)
"وَإِنْ طُلِبَ" شَيْءٌ1 "وَاحِدٌ مِنْ أَشْيَاءَ2، كَخِصَالِ كَفَّارَةِ" يَمِينٍ "وَنَحْوِهَا" 3 كَجَزَاءِ الصَّيْدِ فِي قَوْله تَعَالَى 3: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} 4، وَكَفِدْيَةِ الأَذَى فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 5، وَكَالْجُبْرَانِ فِي الزَّكَاةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 6 "شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ 6 دِرْهَمًا". وَمِثْلُهُ7 الْوَاجِبُ8 فِي الْمِائَتَيْنِ مِنْ الإِبِلِ أَرْبَعُ حِقَاقٍ9، أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ10. وَكَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ11 غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ لِلابِسِ
ـــــــ
1 في ش: مفتي.
2 ينقسم الواجب من حيث نوع الفعل المطلوب القيام به إلى قسمين: واجب معين كالصلاة والحج، وواجب مخير أو مبهم، كخصال الكفارة وغيرها. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص65، الروضة ص17، المدخل إلى مذهب أحمد ص59، التمهيد ص14، نهاية السول 1/ 96، تيسير التحرير: 2/ 211".
3 في ش د: اية.
4 الآية 95 من المائدة، وفي د تتمة الآية، وهي {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} .
5 الآية 196 من البقرة، وفي ش تتمة الآية، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
6 في ز ب ض: شاتين أو عشرين، وهذا موافق لبعض روايات الحديث، وقد سبق تخريجه ص355.
7 في ز ب ض: ومثل.
8 في ش: كواجب.
9 الحقائق جمع حِقّة من الإبل، وهي التي طبعنت في السنة الرابعة، لأنها استحقت أن يحمل عليها. "المصباح المنير 1/ 224".
10 بنيت اللبون هي بنت الناقة التي دخلت في السنة الثالثة، سميت بذلك لأن أمها ولدت غيرها فصار لها لبن. "المصباح المنير 1/ 845".
11 في ش: من.(1/379)
الْخُفِّ أَوْ الْمَسْحِ عَلَيْهِ،وَنَحْوِ ذَلِكَ،"فَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ لا بِعَيْنِهِ" عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ1.
قَالَ الْبَاقِلاَّنِيُّ: إنَّهُ إجْمَاعُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ.
"وَيَتَعَيَّنُ" ذَلِكَ الْوَاحِدُ "بِالْفِعْلِ2" ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَالأَشْعَرِيَّةِ، لأَنَّهُ يَجُوزُ3 التَّكْلِيفُ بِذَلِكَ عَقْلاً، كَتَكْلِيفِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِفِعْلِ هَذَا الشَّيْءِ أَوْ ذَاكَ4، عَلَى أَنْ يُثِيبَهُ عَلَى أَيِّهِمَا فَعَلَ. وَيُعَاقِبَهُ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ. وَلَوْ أَطْلَقَ لَمْ يُفْهَمْ وُجُوبُهُمَا. وَالنَّصُّ دَلَّ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْجَمِيعَ وَلا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ؛ لأَنَّهُ خَيَّرَهُ. وَلَوْ أَوْجَبَ التَّخْيِيرَ الجَمِيعِ5 لَوَجَبَ عِتْقُ الْجَمِيعِ، إذَا وَكَّلَهُ فِي إعْتَاقِ أَحَدِ عَبْدَيْهِ، وَتَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ6 بِالْخَاطِبَيْنِ، إذَا وَكَّلَتْهُ7 فِي التَّزْوِيجِ بِأَحَدِهِمَا8.
وَمُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ: هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْخِصَالِ، وَلا تَخْيِيرَ فِيهِ، لأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَلا يَجُوزُ تَرْكُهُ. وَمُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ خُصُوصِيَّاتُ الْخِصَالِ الَّتِي فِيهَا التَّعَدُّدُ9، وَلا وُجُوبَ فِيهَا. قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ10.
ـــــــ
1 انظر: جمع الجوامع 1/ 175، الإحكام، للآمدي 1/ 100، المدخل إلى مذهب أحمد ص60، الروضة ص17، المسودة ص27، التمهيد ص14، نهاية السول 1/ 97، المستصفى 1/ 67، اللمع ص9، المعتمد 1/ 84.
2 أي بفعل المكلف. "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 100، تيسير التحرير 2/ 213".
3 في ع: لا يجوز.
4 في ز: وذلك، وفي ب ض: أو ذاك.
5 في ش: في الجميع.
6 في ز ش: وليتيه.
7 في ش: إذا وكله.
8 انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 104، الروضة ص17، العضد على ابن الحاجب 1/ 236، المستصفى 1/ 67.
9 وهي خصوص الإعتاق مثلاً، أو الكسوة، أو الطعام. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص67، التمهيد ص14، المحلي على جمع الجوامع 1/ 176، شرح تنقيح الفصول ص152".
10 مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 1/ 235، وانظر: التمهيد ص14.(1/380)
وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: وَعِنْدِي زِيَادَةٌ أُخْرَى فِي التَّخْيِيرِ1، وَهِيَ2 أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ يُقَالُ عَلَى الْمُتَوَاطِئِ3، كَالرَّجُلِ، وَلا إبْهَامَ فِيهِ. فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ مَعْلُومَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْحَقَائِقِ4، وَيُقَالُ عَلَى الْمُبْهَمِ مِنْ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ. كَأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الأَوَّلَ لَمْ تُقْصَدْ فِيهِ إلاَّ الْحَقِيقَةُ. وَالثَّانِي: قُصِدَ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ بِعَيْنِهِ، أَيْ 5 لا بِاعْتِبَارِ 5 مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مُبْهَمًا؛ لأَنَّهُ أُبْهِمَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ.
فَلا يُقَالُ فِي الأَوَّلِ الَّذِي نَحْوُ أَعْتِقْ رَقَبَةً، إنَّهُ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ، لأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِيهِ بِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِخُصُوصِيَّاتِهِ، بِخِلافِ الثَّانِي. فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَتِهِ مُخَيَّرًا. وَمِنْ الأَوَّلِ: أَكْثَرُ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ6، فَيَتَعَيَّنُ7 أَنَّهُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي الأَوَّلِ، وَإِلَيْهِ يُرْشِدُ قَوْلُهُمْ: "مِنْ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ"، وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّظَرَ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنُهَا وَتَمَيُّزُهَا مَعَ الإِبْهَامِ احْتِرَازًا8 عَنْ9 الْقِسْمِ الأَوَّلِ. انْتَهَى.
ـــــــ
1 في ش ز ع ب ض: التحير.
2 في ش ع: وهو.
3 المتواطىء هو الكلي الذي لم تتفاوت أفراده، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده، فإن الكلي فيها، وهو الحيوانية والناطقة، لا يتفاوت فيها بزيادة ولا نقص، وسمي بذلك من التواطؤ، وهو التوافق.
4 قال الإسنوي: أحد الأشباه قدر مشترك بين الخصال كلها لصدقه على كل واحد منها، وهو واحد لا تعدد فيه، وإنما التعدد في محالِّه، لأن المتواطىء موضوع لمعنى واحد صادق على أفراد، كالإنسان، وليس موضوعاً لمعان متعددة، وإذا كان واحد استحال فيه التخيير، وإنما التخيير في الخصوصيات، وهو خصوص الإعتاق مثلاً أو الكسوة أو الإطعام. "التمهيد ص14".
5 في ش ع: لاعتبار.
6 في ش: الشيء بعينه.
7 في ش: فتعين، وفي د: فتبين.
8 في ب ض: احتراز.
9 في ز ع ض: من.(1/381)
وَقِيلَ: يَجِبُ جَمِيعُ الْخِصَالِ1، وَيَسْقُطُ2 بِفِعْلِ3 وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَقِيلَ: الْوَاجِبُ4 مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ فَعَلَ غَيْرَهُ مِنْهَا سَقَطَ5.
وَقِيلَ: الْوَاجِبُ مَا يَخْتَارُهُ الْمُكَلَّفُ6.
وَمَحَلُّ الْخِلافِ فِي صِيغَةٍ وَرَدَتْ يُرَادُ بِهَا التَّخْيِيرُ أَوْ7 مَا فِي مَعْنَاهُ8. وَأَمَّا نَحْوُ تَخْيِيرِ الْمُسْتَنْجِي بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَمُرِيدِ الْحَجِّ9 بَيْنَ الإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، لأَنَّهُ لَمْ 10 يَرِدْ تَخْيِيرٌ فِيهِ بِلَفْظٍ"10 وَلا بِمَعْنَاهُ11.
ـــــــ
1 وهو قول الحبائي وابنه أبي هاشم من المعتزلة، وقال أبو الحسن البصري المعتزلي: يجب الجميع على البدل. "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 100، القواعد والفوائد الأصولية ص65، المعتمد 1/ 84، 87".
2 أي الواجب.
3 في ش: فعل.
4 في ش: الواحد.
5 هذا القول ينسبه الأشاعرة إلى المعتزلة، ينسبه المعتزلة إلى الأشاعرة، ولذلك سمي قول التراجُم. "انظر: القواعد والفوئد الأصولية ص65، المسودة ص28، نهاية السول 1/ 98، التمهيد ص14، تيسير التحرير 2/ 212، حاشية البناني 1/ 179، فواتح الرحموت 1/ 66، المعتمد 1/ 87". وفي ز ب: يسقط.
6 انظر مناقشة هذه الأقوال في "شرح العضد وحاشية التفتازاني 1/ 235 وما بعدها، نهاية السول 1/ 97، 102، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 177 وما بعدها، المستصفى 1/ 68، المعتمد 1/ 91".
7 في ب ض: و.
8 انظر: المسودة ص27، فواتح 1/ 66، اللمع ص9.
9 في ز ع ب ض: النسك.
10 في ش: يخير فيه بلفظه.
11 في ب ض: معناه.(1/382)
"وَ" إذَا عَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ الْمُكَلَّفِ فِيهَا1، "إنْ2 كَفَّرَ بِهَا" كُلِّهَا، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ "مُتَرَتِّبَةً3" أَيْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ "فَالْوَاجِبُ الأَوَّلُ" أَيْ الْمُخْرَجُ أَوَّلاً إجْمَاعًا، لأَنَّهُ الَّذِي أَسْقَطَ الْفَرْضَ. وَاَلَّذِي بَعْدَهُ لَمْ يُصَادِفْ وُجُوبًا فِي الذِّمَّةِ.
"وَ" إنْ أَخْرَجَ الْكُلَّ "مَعًا" أَيْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. قَالَ4 فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَصَوَّرَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "شَرْحِ اللُّمَعِ"5: بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ يَوْمٌ وَوَكَّلَ فِي الإِطْعَامِ وَالْعِتْقِ. ثُمَّ قَالَ قُلْت: وَأَوْلَى مِنْهَا6 فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِأَنْ يُوَكِّلَ شَخْصًا يُطْعِمُ، وَشَخْصًا يَكْسُو وَيَعْتِقُ، هُوَ7 فِي آنٍ وَاحِدٍ، أَوْ8 أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْكُلِّ، وَتُفْعَلَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، "أُثِيبَ ثَوَابَ وَاجِبٍ عَلَى أَعْلاهَا فَقَطْ9"؛ لأَنَّهُ لا يُنْقِصُهُ مَا انْضَمَّ10 إلَيْهِ وَ11 تَرْجِيحُ الأَعْلَى، لِكَوْنِ الزِّيَادَةِ فِيهِ لا يَلِيقُ بِكَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى تَضْيِيعُهَا عَلَى
ـــــــ
1 في ز: بها.
2 في ش: و "إن.
3 في ش: مترتبة.
4 في ش: قاله.
5 قال الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" ص9: فالحواجب منها واحدّ غير معين، فأيها فعل فقد فعل الواجب، وإن فعل الجميع سقط الفرض عنه بواحد منها، والباقي تطوع.
6 في ش: فيها.
7 في ش: وهو.
8 في ش: و.
9 انظر: القواعد والفوئد الأصولية ص67، المسودة ص28، المحلي على جمع الجوامع 1/ 179، الإحكام، الآمدي 1/ 102.
10 في ش: فانضم.
11 ساقطة من ش.(1/383)
الْفَاعِلِ مَعَ الإِمْكَانِ وَقَصْدُهَا بِالْوُجُوبِ. وَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ1 آخَرُ2.
"كَمَا" أَنَّهُ "لا يَأْثَمُ لَوْ تَرَكَهَا" كُلَّهَا "سِوَى بِقَدْرِ" عِقَابِ أَدْنَاهَا "لا نَفْسِ عِقَابِ أَدْنَاهَا فِي قَوْلِ" الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ3.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعَاقَبُ عَلَى نَفْسِ الأَدْنَى، لأَنَّ الْوُجُوبَ يَسْقُطُ بِهِ4.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ: يُثَابُ عَلَى وَاحِدٍ وَيَأْثَمُ بِهِ5.
وَقِيلَ: يَأْثَمُ عَلَى وَاحِدٍ لا بِعَيْنِهِ، كَمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ6.
"تَنْبِيهٌ7":
"الْعِبَادَةُ" هِيَ "الطَّاعَةُ8".
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي آخِرِ "الْمُسَوَّدَةِ": "كُلُّ مَا كَانَ طَاعَةً وَمَأْمُورًا بِهِ، فَهُوَ عِبَادَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْعِبَادَةُ:
ـــــــ
1 ساقطة من ش، وفي ز: بها، ومعنى به أي بالأعلى.
2 ولأنه لو اقتصر عليه لحصل له بذلك، فإضافة غيره إليه لا تُنقصه. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص67، المحلي على جمع الجوامع 1/ 179".
3 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص67، المسودة ص28.
4 انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 180.
5 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص67، الإحكام، الآمدي 1/ 102.
6 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص67.
7 في ش: تكفيه.
8 قال الباجي: العبادة هي الطاعة والتذلل لله تعالى باتباع ما شُرع، قولنا: هي الطاعة يحتمل معنيين، أحداهما: امتثال الأمر، وهو مقتضاه في اللغة، إلا أنه في اللغة واقع على كل امتثالٍ لأمر في طاعة أو معصية، لكننا قد احترزنا من المعصية بقولنا: والتذلل لله تعالى، لأن طاعة الباري تعالى لا يصح أن تكون معصية، والثاني: أن الطاعة إذا أطلقت في الشرع فإنها تقتضي القربة، وطاعة الله تعالى دون طاعة غيره. "الحدود ص58".(1/384)
مَا كَانَ مِنْ شَرْطِهَا1 النِّيَّةُ2".
فَدَخَلَ فِي كَلامِ أَصْحَابِنَا وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الأَفْعَالُ وَالتُّرُوكُ، كَتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالنَّجَاسَةِ وَالزِّنَا وَالرِّبَا وَكُلِّ مُحَرَّمٍ، وَالأَفْعَالُ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالزَّكَاةِ مَعَ النِّيَّةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعِ وَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَلَوْ بِلا نِيَّةٍ3.
"وَ" أَمَّا "الطَّاعَةُ" فَهِيَ "مُوَافَقَةُ الأَمْرِ" أَيْ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وِفَاقِ الأَمْرِ بِهِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الإِرَادَةِ.
"وَالْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَتُهُ" أَيْ مُخَالَفَةُ الأَمْرِ بِارْتِكَابِ ضِدِّ مَا كُلِّفَ بِهِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الإِرَادَةِ4.
"وَكُلُّ قُرْبَةٍ" وَهِيَ مَا قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَفْقِ أَمْرِهِ أَوْ نَهْيِهِ "طَاعَةٌ، وَلا عَكْسَ5" أَيْ وَلَيْسَ كُلُّ طَاعَةٍ قُرْبَةً، لاشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فِي الْقُرْبَةِ6 دُونَ الطَّاعَةِ7، فَتَكُونُ الْقُرْبَةُ أَخَصَّ مِنْ الطَّاعَةِ8. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 كذا في المسودة و ز، وفي ش د ع ب ض: شرطه.
2 المسودة ص576، وانظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص62، أصول السرخسي 1/ 97.
3 انظر: المسودة ص43، وقال الجرجاني عن المحرم: وحكمه الثواب بالترك لله تعالى، والعقاب بالفعل. "التعريفات ص181".
4 انظر: المسودة ص576، التعريفات للجرجاني ص145، كشاف اصطلاحات الفنون 4/ 915، المدخل إلى مذهب أحمد ص62، تيسير التحرير 2/ 223-224، الأربعين ص246.
5 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص62.
6 في ش: الطاعة.
7 في ش: القربة.
8 انظر: كشاف اصطلاحات الفنون 4/ 915.(1/385)
"فَصْلٌ" "الْحَرَامُ ضِدُّ الْوَاجِبِ" ، وَإِنَّمَا كَانَ ضِدُّهُ بِاعْتِبَارِ تَقْسِيمِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، وَإِلاَّ فَالْحَرَامُ1 فِي الْحَقِيقَةِ: ضِدُّ الْحَلالِ، إذْ يُقَالُ: هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، 2 كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ 2: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} 3.
"وَهُوَ" أَيْ وَحَدُّهُ "مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ، وَلَوْ قَوْلاً، وَ" لَوْ4 "عَمَلَ قَلْبٍ شَرْعًا".
فَخَرَجَ "بِالذَّمِّ": الْمَكْرُوهُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ، وَبِقَوْلِهِ: "فَاعِلُهُ": الْوَاجِبُ. فَإِنَّهُ يُذَمُّ تَارِكُهُ. وَالْمُرَادُ: مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَذُمَّ عَلَى فِعْلِهِ.
وَدَخَلَ بِقَوْلِهِ: "وَلَوْ قَوْلاً": الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَنَحْوُهُمَا مِمَّا يَحْرُمُ التَّلَفُّظُ5 بِهِ.
وَدَخَلَ بِقَوْلِهِ: "وَلَوْ عَمَلَ قَلْبٍ": النِّفَاقُ وَالْحِقْدُ وَنَحْوُهُمَا.
وَلَفْظَةُ "شَرْعًا" مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "ذُمَّ". وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الذَّمَّ لا يَكُونُ إلاَّ مِنْ الشَّرْعِ6.
"وَيُسَمَّى" الْحَرَامُ "مَحْظُورًا وَمَمْنُوعًا وَمَزْجُورًا وَمَعْصِيَةً وَذَنْبًا وَقَبِيحًا
ـــــــ
1 في ز: الحرم.
2 في ش: لقوله تعالى.
3 الآية 116 من النحل.
4 ساقطة من ز ع ب ض.
5 في ش: اللفظ.
6 انظر في تعريف الحرام "التعريفات للجرجاني ص217، مختصر الطوفي ص26، المدخل إلى مذهب أحمد ص62، الإحكام، الآمدي 1/ 113، المستصفى 1/ 76، نهاية السول 1/ 61، التوضيح على التنقيح 3/ 80".(1/386)
وَسَيِّئَةً وَفَاحِشَةً وَإِثْمًا وَحَرَجًا وَتَحْرِيجًا1 وَعُقُوبَةً".
فَتَسْمِيَتُهُ2 مَحْظُورًا مِنْ الْحَظْرِ. وَهُوَ الْمَنْعُ. فَيُسَمَّى3 الْفِعْلُ بِالْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، وَتَسْمِيَتُهُ مَعْصِيَةً لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَذَنْبًا لِتَوَقُّعِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ، وَبَاقِي ذَلِكَ لِتَرَتُّبِهَا4 عَلَى فِعْلِهِ5.
"وَيَجُوزُ النَّهْيُ عَنْ وَاحِدٍ لا بِعَيْنِهِ، كَمِلْكِهِ أُخْتَيْنِ وَوَطْئِهِمَا" فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ إحْدَاهُمَا لا بِعَيْنِهَا6. وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ الزَّائِدِ عَلَى الأَرْبَعَةِ، لا بِعَيْنِهِ7.
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ: فَقَدْ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: يَجُوزُ تَحْرِيمُ وَاحِدٍ لا بِعَيْنِهِ، وَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ وَاحِدٍ عَلَى التَّخْيِيرِ "وَلَهُ فِعْلُ أَحَدِهِمَا" عَلَى التَّخْيِيرِ8.
قَالَ9 ابْنُ بُرْهَانٍ10: وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، لأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ
ـــــــ
1 في ش: وتحريجاً وحراجاً.
2 في ز: وتسميته.
3 في ز: فسمي.
4 في ع: لترتبه.
5 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص62، الإحكام، الآمدي 1/ 113، إرشاد الفحول ص6، نهاية السول 1/ 61.
6 انظر: التمهيد ص15، القواعد والفوائد الأصولية ص69، الإحكام 1/ 114، جمع الجوامع 1/ 181.
7 انظر: التمهيد ص15، المدخل إلى مذهب أحمد ص63، القواعد والفوائد الأصولية ص70.
8 انظر: المسودة ص81، شرح العضد 2/ 2، تيسير التحرير 2/ 218، المحلي على جمع الجوامع 1/ 181، الإحكام، الآمدي 1/ 114، التمهيد ص15، المدخل إلى مذهب أحمد ص62، القواعد والفوائد الأصولية ص69.
9 في ز: وقال.
10 هو أحمد بن علي بن محمد، المعروف بابن بَرْهان، بفتح الباء، أبو الفتح، الفقيه الشافعي الأصولي المحدث، كان حنبلي المذهب ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، كان حاد الذهن، لا يسمع شيئاً إلا حفظه، وكان يُضرب به المثل في تبحره في الأصول والفروع، صنف في أصول الفقه، "البسيط" و "الوسيط" و "الأوسط" و "الوجيز"، توفي سنة 518هـ، وقيل غير ذلك. "انظر: طبقات الشافعية للسبكي 6/ 30، وفيات الأعيان 1/ 82، شذرات الذهب 4/ 62، الفتح المبين 2/ 16".(1/387)
كَمَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، إلاَّ أَنَّ التَّخْيِيرَ هُنَا فِي التَّرْكِ، وَهُنَاكَ فِي الْفِعْلِ. فَكَمَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْجَمِيعِ، وَأَنْ1 يَأْتِيَ بِالْبَعْضِ، وَيَتْرُكَ الْبَعْضَ2 الْبَاقِيَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْجَمِيعَ، وَأَنْ يَتْرُكَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ هُنَا، عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالأَكْثَرِ3.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ جَوَّزُوا النَّهْيَ عَنْ وَاحِدٍ لا بِعَيْنِهِ4، وَجَوَّزُوا فِعْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّخْيِيرِ. وَمَا دَامَ لا يُعَيِّنُ: لا يَجُوزُ لَهُ الإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا5.
وَيَأْتِي الْخِلافُ فِي كَوْنِ الْمُحَرَّمِ وَاحِدًا لا بِعَيْنِهِ، أَوْ الْكُلَّ أَوْ مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ6.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي النَّهْي، بَلْ يَجِبُ اجْتِنَابُ كُلِّ وَاحِدٍ، وَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ7 قَبِيحٍ. فَإِذَا نَهَى عَنْ أَحَدِهِمَا لا
ـــــــ
1 في ع ب: وبين أن.
2 ساقطة من ش.
3 انظر: فواح الرحموت 1/ 110، المحلي على جمع الجوامع 1/ 181.
4 وخالف في ذلك القرافي، وذهب إلى صحة التخيير في المأمور به، وعدم صحته في المنهي عنه، لأن القاعدة تقتضي أن النهي متعلق بمشترك حرمت أفراده كلها، وقال: إن متعلق النهي في الآختين هو الجمع بينهما، وكل واحد منهما ليس منهياً عنها، بل المحرم هو الجمع فقط "شرح تنقيح الفصول ص172، وانظر: القواعد والفوائد الأصولية ص69".
5 أي إذا فعل أنواع المحرم المخير فلا يجوز له الإقدام بقية الأنواع. "انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 181".
6 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 114، المسودة ص81، فواتح الرحموت 1/ 110، تيسير التحرير 2/ 218، المحلي على جمع الجوامع 1/ 181.
7 ساقطة من ز.(1/388)
بِعَيْنِهِ، ثَبَتَ الْقُبْحُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَيَمْتَنِعَانِ جَمِيعًا. 1 وَلَوْ وَرَدَ 1 ذَلِكَ بِصِيغَةِ التَّخْيِيرِ2. كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 3.
"وَلَوْ اشْتَبَهَ مُحَرَّمٌ بِمُبَاحٍ" كَمَيْتَةٍ بِمُذَكَّاةٍ "وَجَبَ الْكَفُّ4. وَلا يَحْرُمُ الْمُبَاحُ" عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ؛ لأَنَّ الْمُبَاحَ لَمْ يَحْرُمْ. وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ: أَنَّهُ اشْتَبَهَ. فَمَنَعْنَا لأَجْلِ الاشْتِبَاهِ، لا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ. فَإِذَا تَبَيَّنَ الْمُحَرَّمَ زَالَ ذَلِكَ. فَوُجُوبُ الْكَفِّ ظَاهِرًا لا يَدُلُّ عَلَى شُمُولِ التَّحْرِيمِ. وَلِهَذَا لَوْ أَكَلَهُمَا لَمْ يُعَاقَبْ إلاَّ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ وَاحِدَةٍ5.
"وَفِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ"6 كَنَوْعِ الآدَمِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً، لأَنَّهُ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَتُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ. وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ: فَإِنْ تَابَ مِنْهَا غُفِرَتْ. وَكَذَا إنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِلاَّ فَهُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.
وَخَالَفَ7 الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا بِخُلُودِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ، وَلَوْ عَمِلُوا حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً.
وَهَذَا 8 يُصَادِمُ الْقُرْآنَ 8 وَالأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الْوَارِدَةَ عَنْ
ـــــــ
1 في ع: ولورود.
2 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 114، المعتمد 1/ 183، المحلي على جمع الجوامع 1/ 182.
3 الآية 24 من سورة الإنسان.
4 أي حرمتا، إحداهما بالأصالة، والأخرى بعارض الاشتباه. "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص61، مختصر الطوفي ص24، الروضة ص20، نهاية السول 1/ 106، 129، جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 197، 221".
5 انظر أمثلة أخرى في "القواعد والفوائد الأصولية ص94-104، المستصفى 1/ 72".
6 أي يجمتع في الشخص الواحد، ويصدر منه ما يوجب الثواب والعقاب، كما يجتمع ذلك من شخصين من بني آدم. "انظر: الإرشاد للجويني ص392، الأربعين ص293 وما بعدها".
7 في ش: وخالفت.
8 في ز ب: مصادم للقرآن.(1/389)
الْمَعْصُومِ الَّذِي لا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى فِي الشَّفَاعَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ وَدُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ1.
"وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ" كَالسُّجُودِ مَثَلاً "مِنْهُ وَاجِبٌ وَ" مِنْهُ "حَرَامٌ2، كَسُجُودٍ لِلَّهِ" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "وَ" سُجُودٍ "لِغَيْرِهِ" كَالصَّنَمِ3، لِتَغَايُرِهِمَا4 بِالشَّخْصِيَّةِ، فَلا اسْتِلْزَامَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَئِمَّةِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّ السُّجُودَ نَوْعٌ مِنْ الأَفْعَالِ ذُو أَشْخَاصٍ كَثِيرَةٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى وَاجِبٍ وَحَرَامٍ. فَيَكُونَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَاجِبًا، كَالسُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا حَرَامٌ، كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ5. وَلا امْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ الْمَجْدُ فِي "الْمُسَوَّدَةِ": "السُّجُودُ بَيْنَ يَدَيْ الصَّنَمِ مَعَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ
ـــــــ
1 روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". والإضافة بمعنى أل العهدية أي الشفاعة التي وعدني الله بها لأهل الكبائر الذين استوجبوا النار بذنوبهم الكبيرة. "انظر: فيض القدير 4/ 162، سنن أبي داود 4/ 325، تحفة الأحوذي 7/ 127، سنن ابن ماجة 2/ 1441، مسند أحمد 3/ 213، المستدرك 1/ 69".
2 هذا الكلام متفرع عن قوله: "الحرام ضد الواجب"، قال ابن قدامة: الحرام ضد الواجب، فيستحيل أن يكون الشيء الواحد واجباً وحراماً، طاعة معصية من وجه واحد، إلا أن الواحد بالجنس ينقسم إلى واحد بالنوع، وإلى واحد بالعين أي بالعدد، والواحد بالنوع يجوز أن ينقسم إلى واجب وحرام، ويكون أنقسامه بالإضافة، لأن اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة، والمغايرة تكون تارة بالنوع كالسجود، وتارة بالوصف. "الروضة ص23، المستصفى 1/ 76، وانظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص63، فواتح الرحموت 1/ 104".
3 في ز ب: كللصنم.
4 في ز: المتغاير هنا.
5 استدل أهل السنة بقوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الآية 37 من فصلت، "وانظر: الإحكام، الآمدي 1/ 115، المستصفى 1/ 76، شرح العضد 2/ 2، المسودة ص84".(1/390)
إلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَرَّمٌ عَلَى مَذَاهِبِ1 عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ السُّجُودَ لا تَخْتَلِفُ2 صِفَتُهُ، وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ الْقَصْدُ"3.
"وَ" الْفِعْلُ الْوَاحِدُ "بِالشَّخْصِ" فِيهِ تَفْصِيلٌ، "فَمِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ: يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ وَاجِبًا وَحَرَامًا4" لِتَنَافِيهِمَا إلاَّ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ عَقْلاً وَشَرْعًا5.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِهِ 6 شَرْعًا لا 6 عَقْلاً فَلا يُجَوِّزُونَهُ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} 7.
"وَ" الْفِعْلُ الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ "مِنْ جِهَتَيْنِ، كَصَلاةٍ فِي مَغْصُوبٍ، لا" يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ وَاجِبًا وَحَرَامًا8، وَلا9 "تَصِحُّ، وَلا يَسْقُطُ الطَّلَبُ بِهَا" أَيْ بِالصَّلاةِ فِي الْمَغْصُوبَةِ مِنْ بُقْعَةٍ أَوْ سُتْرَةٍ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَالزَّيْدِيَّةُ وَالْجُبَّائِيَّةُ. وَقَالَهُ أَبُو شِمْرٍ
ـــــــ
1 كذا في المسودة، وفي ش ز ض ع ب: مذهب، قال ابن قدامة: فالإجماع منعقد على أن الساجد للصنم عاص بنفس السجود والقصد جميعاً، والساجد لله مطيع بهما جميعاً "الروضة ص24، المستصفى 1/ 76".
2 في ع: يختلف.
3 المسودة ص84، وانظر: فواتح الرحموت 1/ 104.
4 في ز ب ع ض: حراماً.
5 انظر: مختصر الطوفي ص26، المدخل إلى مذهب أحمد ص63، الإحكام، الآمدي 1/ 115، فواتح الرحموت 1/ 105، شرح العضد 2/ 2، تيسير التحرير 2/ 219.
6 ساقطة من ش.
7 الآية 268 من البقرة.
8 في ش: ولا حراماً، وفي ع ب ض: حراماً.
9 ساقطة من ب، وفي ش: "ولا.(1/391)
الْحَنَفِيُّ1. وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَصَبْغَ الْمَالِكِيِّ2. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ3. وَوَجْهٌ لأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، "وَ" كَذَا "لا" يَسْقُطُ الطَّلَبُ "عِنْدَهَا" أَيْ عِنْدَ فِعْلِهَا4.
ـــــــ
1 أبو شمر أحد أئمة القدرية المرجئة، جمع بين الإرجاء في الإيمان ونفي القول بالقدر، وهو من تلاميذ النظام، كان يناظر دون أن يتحرك في شيء، ويرى كثرة الحركات عيباً، قال الجاحظ: وكان إذا نازع لم يحرك يديه ولا منكبيه، ولم يقلب عينيه، ولم يحرك رأسه، حتى كأن كلامه يخرج من صَدْغ صخرة، وهو من رجال منتصف القرن الثالث، انظر ترجمته في "طبقات المعتزلة ص57، الملل والنحل، للشهرستاني 1/ 32، البيان والتبيين 1/ 91".
2 هو أصْبَغُ بنُ الفرج بن سعيد، أبو عبد الله المصري، الثقة، مفتي أهل مصر، دخل المدينة يوم وفاة الإمام مالك، فسمع من أشهب وابن القاسم وابن وهب، كان فقيهاً محدثاً قوياً في الجدل والمناظرة، له كتب كثيرة منها كتاب في الأصول، و "تفسير غريب الموطأ" و "أداب القضاء" توفي بمصر سنة 225هـ وقيل 221هـ، انظر ترجمته في "الديباج المذهب 1/ 299، وفيات الإعيان 1/ 217، شذرات الذهب 2/ 56، الفتح المبين 1/ 144، حسن المحاضرة 1/ 123، تذكرة الحفاظ 2/ 457، طبقات الحفاظ ص200".
3 هو الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، جمع بين الفقه والحديث والرأي، ولا يفتي أحد ومالك في المدينة، وكان يعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يركب دابة في المدينة، مناقبه كثيرة جداً، جمع الحديث في "الموطأ"، روى له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة 179هـ، انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 3/ 284، طبقات الفقهاء ص68، الديباج المذهب 1/ 62، شذرات الذهب 1/ 289، صفة الصفوة 2/ 177، طبقات الحفاظ صن89، طبقات القراء 1/ 35، تهذيب الأسماء 2/ 75، طبقات المفسرين 2/ 293، الفتح المبين 1/ 122، تذكرة الخفاظ 1/ 207، الخلاصة ص366".
4 قال ابن قدامة: "فروي أنها لا تصح إذ يؤدي أن تكون العين الواحدة من الأفعال حراماً واجباً، وهو متناقض، فإن فعله في الدار، وهو الكون في الدار، وركوعه وسجوده وقيامه وقعوده أفعال اختيارية، وهو معاقب عليها، منهي عنها، فكيف يكون متقرباً بما هو معاقب عليه، مطيعاً بما هو عاص به، ثم قال: ارتكاب النهي متى أخل بشرط العبادة أفسدها بالإجماع، كما لو نهى المحدث عن الصلاة فخالف وصلى، ونية التقرب للصلاة شرط، والقرب بالمعصية محالٌ، فكيف يمكن التقرب به، وقيامه وقعوده في الدار فعل هو عاص به، فكيف يكون متقرباً بما هو عاص به، وهذا محالٌ" "الروضة ص24، المستصفى 1/ 77"، وانظر: مختصر الطوفي ص26، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، الإحكام، الآمدي 1/ 115، المسودة ص83، 85، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 3، تيسير التحرير 2/ 219، المحلي على جمع الجوامع 1/ 203، مقالات الإسلاميين 2/ 124، الفروق 2/ 183".(1/392)
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيّ: يَسْقُطُ الطَّلَبُ عِنْدَهَا،لا بِهَا1.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": لأَنَّ السَّلَفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الظَّلَمَةَ لا يُؤْمَرُونَ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ الْمُؤَدَّاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلا طَرِيقَ إلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا إلاَّ بِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ2.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ3: "الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَقُولُ بِذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ. فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فَلا يَقُولُ4 بِسُقُوطِ الطَّلَبِ بِهَا، وَلا عِنْدَهَا". انْتَهَى.
وَقَدْ مَنَعَ الإِجْمَاعَ أَبُو الْمَعَالِي وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا5.
ـــــــ
1 أي إن الصلاة ليست صحيحة، ولكن تسقط عن المكلف وتبرأ بها ذمته، ولا يطالب بها يوم القيامة، "انظر: تيسير التحرير 2/ 219، المحلي على جمع الجوامع 1/ 202، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، الإحكام، الآمدي 1/ 115، المستصفى 1/ 77، شرح العضد 2/ 3".
2 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 118، الفروق 2/ 183.
3 هو محمد بن عبد الرحيم بن محمد، أبو عبد الله، الملقب بصفي الدين الهندي، الأرْمَوي، الفقيه الشافعي الأصولي، ولد بالهند سنة 644هـ، وقدم اليمن والحجاز ومصر وسورية، واستقر فيها للتدريس والفتوى، وكان قوي الحجة، ناظر الإمام ابن تيمية في دمشق، ومن مصنفاته "الزبدة" في علم الكلام، و "الفائق" في التوحيد، و "نهاية الوصول إلى علم الإصلول" توفي سنة 715هـ بدمشق، مصنفاته جيدة، لا سيما "النهاية". "انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 9/ 162، البدر الطالع 2/ 187، شذرات الذهب 6/ 37، الدرر الكامنة 4/ 132، الفتح المبين 2/ 116".
4 في ش ض: نقول.
5 انظر: الروضة ص24، شرح العضد وحاشية الجرجاني 2/ 3، تيسير التحرير 2/ 221، المحلي على جمع الجوامع 1/ 203.(1/393)
وَقَدْ رَدَّ الطُّوفِيُّ مَا قَالَهُ الْبَاقِلاَّنِيُّ1، فَقَالَ: "لأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَ الْبَاقِلاَّنِيِّ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ، ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْخَصْمُ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوا الظَّلَمَةَ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ2، مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ فِي أَمَاكِنِ الْغَصْبِ، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ، فَحَاوَلَ الْخَلاصَ بِهَذَا التَّوَسُّطِ، فَقَالَ3: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَ هَذِهِ الصَّلاةِ لِلإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ لا بِهَا. لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا4.
ثُمَّ قَالَ: وَأَحْسِبُ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ادَّعَوْا الإِجْمَاعَ بَنَوْهُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:
- إحْدَاهُمَا: أَنَّ مَعَ كَثْرَةِ الظَّلَمَةِ فِي تِلْكَ5 الأَعْصَارِ عَادَةً لا تَخْلُو6 منْ7 إيقَاعِ الصَّلاةِ فِي مَكَان غُصِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ.
- الثَّانِيَةُ: أَنَّ السَّلَفَ يَمْتَنِعُ عَادَةً تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى تَرْكِ الإِنْكَارِ، وَالأَمْرُ بِالإِعَادَةِ مِنْ بِنَاءِ هَؤُلاءِ عَلَى مَا ظَنُّوهُ مِنْ دَلِيلِ الْبُطْلانِ، وَإِلاَّ فَلا إجْمَاعَ فِي ذَلِكَ مَنْقُولٌ، تَوَاتُرًا وَلا آحَادًا.
وَالْمُقَدَّمَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ". انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: "قَالَ الْبَاقِلاَّنِيُّ: لَوْ لَمْ تَصِحَّ لَمَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وَقَدْ سَقَطَ بِالإِجْمَاعِ8، لأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ، قِيلَ: لا إجْمَاعَ فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ ذِكْرِهِ وَنَقْلِهِ9. كَيْفَ؟ وَقَدْ خَالَفَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَمَنْ
ـــــــ
1 انظر: مختصر الطوفي ص27، ولم يذكر الطوفي الرد على الباقلاني صراحة ومفصلاً في هذا المختصر، ولعله ذكره في "شرحه على المختصر".
2 في ز: الصلاة.
3 في ب ض: وقال.
4 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 118.
5 في ش: هذه.
6 في ع: يخلو.
7 في ش: عن.
8 في ش: الاجماع.
9 يقول ابن قدامة: "وقد غلط من زعم أن في هذه المسألة إجماعاً، لأن السلف لم يكونوا =(1/394)
مَعَهُ، وَهُوَ إمَامُ النَّقْلِ، وَأَعْلَمُ بِأَحْوَالِ السَّلَفِ؟ 1 وَلأَنَّهُ يُنْقَضُ الإِجْمَاعُ بِدُونِهِ"1.
وَقَالَ أَيْضًا: قَوْلُ الْبَاقِلاَّنِيِّ: "يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لا بِهَا" بَاطِلٌ؛ لأَنَّ مُسْقِطَاتِ الْفَرْضِ مَحْصُورَةٌ، مِنْ نَسْخٍ أَوْ عَجْزٍ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ. كَالْكِفَايَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا"2. انْتَهَى.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ فِعْلَ الصَّلاةِ يَحْرُمُ، وَتَصِحُّ3، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا4 وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْخَلاَّلُ5 وَابْنُ
ـــــــ
= يأمرون من تاب من الظلمة بقضاء الصلاة في أماكن الغصب، إذ هذا جهل بحقيقة الإجمعاع، فإن حقيقتة الاتفاق من علماء أهل العصر، وعدم النقل عنهم ليس باتفاق، ولو نقل عنهم أنهم سكتوا فيحتاج إلى أنه اشتهر فيما بينهم القولُ ينفي وجوب القضاء فلم ينكروه، فيكون حينئذ اختلاف هل هو إجماع أم لا؟" "الروضة ص24"، وانظر مناقشة ذلك في "المستصفى 1/ 79، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 2/ 3، المحلي على جمع الجوامع 1/ 203، الفروق 2/ 183".
1 ساقطة من ش، وفي ز: ولأنه تعليل ينقض الإجماع بدونه، والمعنى أن الإجماع لا يتحقق بدون موافقة الإمام أحمد في هذه المسألة، وقد ثبت عنه أنه خالف، فلا إجماع.
2 انظر: فواتح الرحموت 1/ 106.
3 في ش: ويصح.
4 وهو قول الحنفية، "انظر: فواتح الرحموت 1/ 105، الفروق 2/ 85، تيسير التحرير 2/ 219، أصول السرخسي 1/ 81" وقال الحنفية: تصح مع الكراهة، "التوضيح على التنقيح 2/ 228، كشف الأسرار 2/ 278"، قال نجم الدين الطوفي: مذهب الحنفية في هذا الأصل أدخلُ في التدقيق، وأشبهُ بالتحقيق "المدخل إلى مذهب أحمد ص63".
5 هو أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر الخلال، البغدادي، الفقيه، جمع مذهب أحمد وصنفه، وكان واسع العلم، شديد الاعتناء بالآثار، من كتبه "السنة" و "العلل" و "الجامع لعلوم الإمام أحمد" و "الطبقات" و "تفسير الغريب" و "أخلاق أحمد" توفي سنة 311هـ. انظر ترجمته في "طبقات الحنابلة 2/ 12، المنهج الأحمد 2/ 5، شذرات الذهب 2/ 261، طبقات الحفاظ ص329، تذكرة الحفاظ 3/ 785".(1/395)
عَقِيلٍ وَالطُّوفِيُّ1، "نَظَرًا2 إلَى جِنْسِهَا، لا إلَى عَيْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ"3 فَتَكُونُ هَذِهِ الصَّلاةُ وَاجِبَةً حَرَامًا بِاعْتِبَارَيْنِ، فَتَكُونُ صَحِيحَةً، لأَنَّ مُتَعَلِّقَ الطَّلَبِ وَمُتَعَلِّقَ النَّهْيِ فِي ذَلِكَ مُتَغَايِرَانِ، فَكَانَا كَاخْتِلافِ الْمَحَلَّيْنِ، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِهَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ الأُخْرَى، وَاجْتِمَاعُهُمَا إنَّمَا هُوَ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ. فَلَيْسَا مُتَلازِمَيْنِ فَلا تَنَاقُضَ4.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ لا ثَوَابَ فِيهَا5. نَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ6 عَنْ أَحْمَدَ: لا أَجْرَ لِمَنْ غَزَا عَلَى فَرَسِ غَصْبٍ. وَصَرَّحَ بِعَدَمِ الثَّوَابِ فِي الصَّلاةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي "التَّمْهِيدِ" وَجَمْعٌ. ذَكَرَهُ فِي "الْفُرُوعِ" فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ7، وَقَالَهُ8 الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُ: فِي حَجّ، وَقَدَّمَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ.
ـــــــ
1 مختصر الطوفي ص27.
2 في د: نظر.
3 ساقطة من ش.
4 انظر: الروضة ص24، مختصر الطوفي ص27، الإحكام، للآمدي 1/ 116، المستصفى 1/ 77، الفروق 2/ 85، 183، فواتح الرحموت 1/ 106، شرح العضد 2/ 2، التلويح على التوضيح 2/ 228.
5 لا يثاب فاعلها عقوبة له عليها من جهة الغصب، وقيل من جهة الخلاة وإن عوقب من جهة الغصب، فقد يعاقب بغير حرمان الثواب، أو بحرمان بعضه، "انظر: المحلي علي جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 202، المدخل إلى مذهب أحمد ص63".
6 هو أحمد بن القاسم صاحب أبي عبيد القاسم بن سلاّم، قال ابن أبي يعلى: حدث عن أبي عبيد، وعن إمامنا بمسائل كثيرة، وذكره العليمي فيمن لم تؤرخ وفاته من أصحاب الإمام أحمد، وعده المرداوي في الإنصاف ضمن من نقل الفقه عن الإمام أحمد من أصحابه ونقله عنه إلى من بعده "انظر: طبقات الحنابلة 1/ 55، المنهج الأحمد 1/ 290، الإنصاف 12/ 277، 280".
7 الفروع 1/ 332.
8 في ش: وقال.(1/396)
وَعَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رِوَايَةٌ1 ثَالِثَةٌ2: أَنَّ الْمُصَلِّيَ إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ لَمْ تَصِحَّ، وَإِلاَّ صَحَّتْ3.
وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ - وَهُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا4- أَنَّهُ مَتَى أَخَلَّ مُرْتَكِبُ النَّهْيِ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ أَفْسَدَهَا، وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالصَّلاةِ شَرْطٌ، وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ5.
وَأَيْضًا مِنْ شَرْطِ الصَّلاةِ: الطَّاعَةُ وَنِيَّتُهُ بِهَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ، وَحَرَكَتُهُ مَعْصِيَةٌ، وَنِيَّةُ6 أَدَاءِ الْوَاجِبِ7، بِمَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ مُحَالٌ.
وَأَيْضًا مِنْ شَرْطِ الصَّلاةِ: إبَاحَةُ الْمَوْضِعِ، وَهُوَ8 مُحَرَّمٌ. فَهُوَ كَالنَّجَسِ. وَلأَنَّ الأَمْرَ بِالصَّلاةِ لَمْ يَتَنَاوَلْ هَذِهِ9 الْمَنْهِيَّ عَنْهَا، فَلا يَجُوزُ كَوْنُهَا وَاجِبَةً مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى10.
"وَتَصِحُّ تَوْبَةُ خَارِجٍ مِنْهُ" أَيْ تَوْبَةُ غَاصِبٍ لِمَكَانِ مَنْ غَصَبَهُ حَالَ
ـــــــ
1 في ش: في رواية.
2 في ب: الثالثة.
3 انظر: الفروع 1/ 332.
4 جاء في هامش ز: قوله: "ووجه المذهب وهو عدم الصحة مطلقاً" أي علم التحريم أو لا، أقول: هذا غير مسلم، إذ المنصوص عليه في كتب الفروع كالمنتهى وغيره أن من صلى في غصب، ثوباً أو بقعة، أو حج بغصب، عالماً ذاكراً لم تصح، وإلا صحت، انتهى لمحرره عبد الله السفرايني "المخطوط ز صفحة 51"، وانظر: شرح منتهى الإرادات 2/ 422، وقال الشيخ ابن تيمية: فمن فرق بين من يعلم ومن لا يعلم فقد أصاب، ومن لا أخطأ "مجموعة الفتاوي 29/ 293".
5 انظر: مختصر الطوفي ص27، الروضة ص11، المستصفى 1/ 78.
6 في ع: ونيته.
7 في ع ض: الوجوب.
8 أي الموضع المغصوب.
9 أي هذه الصلاة المنهي عنها.
10 انظر: مختصر الطوفي ص27، الروضة ص24، المستصفى 1/ 78.(1/397)
خُرُوجِهِ مِنْهُ، وَهُوَ "فِيهِ" قَبْلَ إتْمَامِ خُرُوجِهِ.
"وَلَمْ يَعْصِ بِخُرُوجِهِ" عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْظَمِ. وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالأَشْعَرِيَّةُ1.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لا يُعَدُّ وَاطِئًا بِنَزْعِهِ، فِي الإِثْمِ. بَلْ فِي التَّكْفِيرِ. وَكَإِزَالَةِ2 مُحْرِمٍ طِيبًا بِيَدِهِ، أَوْ غَصَبَ عَيْنًا ثُمَّ نَدِمَ وَشَرَعَ فِي حَمْلِهَا عَلَى رَأْسِهِ إلَى صَاحِبِهَا3، أَوْ4 أَرْسَلَ صَيْدًا صَادَهُ مُحْرِمٌ أَوْ فِي حَرَمٍ مِنْ شِرْكٍ، وَالرَّامِي بِالسَّهْمِ إذَا خَرَجَ السَّهْمُ عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِ5 فَنَدِمَ. وَإِذَا جُرِحَ ثُمَّ تَابَ وَالْجُرْحُ مَا زَالَ إلَى السِّرَايَةِ6.
قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: وَقَدْ نَقَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ7 فِي "الْفُرُوقِ" فِي كِتَابِ الصَّوْمِ: "أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّ عَلَى تَأْثِيمِ مَنْ دَخَلَ أَرْضًا غَاصِبًا. قَالَ: فَإِذَا قَصَدَ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِخُرُوجِهِ، لأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْغَصْبِ".
ـــــــ
1 وهو قول الحنفية. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 110، المستصفى 1/ 89، شرح العضد، 2/ 4، تيسير التحرير 2/ 221، المحلي على جمع الجوامع 1/ 203".
وقال قوم من المعتزلة والمتكلمين، لا تصح توبته حتى يفارقها، وهو عاص بمشية في خروجه، كما سيأتي، "انظر: المسودة ص85، المحلي على جمع الجوامع 1/ 203".
2 في ز: كإزالة.
3 في ض: صاحبه.
4 في ع ب: و.
5 في ش: فرزته، وفي المسودة مقدرته، ولعل الصواب: فَرْضَته، لأن فَرْض القوس لغة: هو الحَزُّ الذي يقع فيه الوتر. "الصحاح، للجوهري 3/ 1097".
6 وتمام الكلام في "المسودة" حكاية عن ابن عقيل: فعنده في جميع هذه المواضع، الإثمُ ارتفع بالتوبة، والضمانُ باقٍ، وعند المخالف "وهم المعتزلة والمتكلمون" هو عاضٍ إلى أن ينقضي أثرُ المعصية "المسودة ص86-87".
7 هو عبد الله بن محمد بن أبي بكر، الزريراني، ثم البغدادي، الحنبلي، فقيه العراق، ومفتي الآفاق، كان عارفاً بأصلول الدين ومعرفة المذهب والخلاف والفرائض وأسماء الرجال والتاريخ واللغة العربية، وبرع في الفقه وأصوله، له كتاب "الوجيز" و "الفروق"، توفي سنة 729هـ. "انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 410، الدرر الكامنة 2/ 494، المدخل إلى مذهب أحمد ص207، شذرات الذهب 6/ 89".(1/398)
وَمَا نَقَلَهُ مَوْجُودٌ فِي "الأُمِّ" فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي الْمُحْرِمِ إذَا تَطَيَّبَ، فَقَالَ: "وَلَوْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُ. وَكَانَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَلَمْ أَزْعُمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا1، وَإِنْ كَانَ يَمْشِي بِمَا2 لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ3، لأَنَّ مَشْيَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الذَّنْبِ، لا "لِزِيَادَةٍ مِنْهُ"4، فَهَكَذَا هَذَا الْبَابُ"5.
وَخَالَفَ ذَلِكَ6 أَبُو هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَبُو شِمْرٍ الْمُرْجِئُ، وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِنَا7.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: "حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الآدَمِيِّ يَزُولُ بِزَوَالِ أَثَرِ الظُّلْمِ"8.
وَاسْتَصْحَبَ أَبُو الْمَعَالِي حُكْمَ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْخُرُوجِ9، مَعَ10 أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ
ـــــــ
1 ساقطة من ش ب ز، وفي ض سقط: بالخروج منها.
2 في ش ز ض ب: ما، وفي الأم: فيما.
3 كذا في الأم، وساقطة من جميع النسخ.
4 في الأم: للزيادة فيه.
5 الأم 2/ 154.
6 في ب ض: في ذلك.
7 المسودة ص85، 87، لكن أبا الخطاب قيدها أنها أقل المعصيتين، قال: وإنما هي معصية، إلا أنه يفعلها لدفع أكثر المعصيتين بأقلها، لأن دوامه في الدار معصية تطول، وخروجه معصية قليلة. "انظر: المسودة ص85، 87، المستصفى 1/ 89".
8 المسودة ص88، وانظر: فتاوي ابن تيمية 29/ 286.
9 استصحاب المعصية في هذا الخروج حتى بفرغ، زجراً له عن هذا الفعل الشنيع "انظر: فواتح الرحموت 1/ 110، جمع الجوامع 1/ 203، 204.
10 في ش: فقال.(1/399)
عَنْهُ1.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: "كَذَا قِيلَ عَنْهُ. وَقِيلَ عَنْهُ: إنَّهُ طَاعَةٌ، لأَخْذِهِ فِي تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، لأَنَّهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَمُسْتَنِدٌ2 إلَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى فِيهِ كَالصَّلاةِ"3.
"وَالسَّاقِطُ عَلَى جَرِيحٍ" وَالْحَالُ أَنَّهُ "إنْ بَقِيَ" عَلَى الْجَرِيحِ "قَتَلَهُ" بِسَبَبِ عَدَمِ انْتِقَالِهِ "وَ" يَقْتُلُ "مِثْلُهُ" أَيْ كُفْءُ الَّذِي سَقَطَ عَلَيْهِ 4 إنْ انْتَقَلَ" عَمَّنْ سَقَطَ عَلَيْهِ"4، "يَضْمَنُ" مَا تَلِفَ بِسَبَبِ عَدَمِ انْتِقَالِهِ.
"وَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ إذًا" أَيْ فِي حَالَةِ5 بَقَائِهِ عَلَى الْجَرِيحِ، لأَنَّهُ إذَا بَقِيَ مُتَنَدِّمًا مُتَمَنِّيًا أَنْ يَكُونَ لَهُ جَنَاحَانِ يَطِيرُ بِهِمَا عَنْهُ6، أَوْ يُدْلِي إلَيْهِ بِحَبْلٍ7 يَتَعَلَّقُ بِهِ. فَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ جَهْدِهِ. وَصَارَ كَحَجَرٍ أَلْقَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الْجَرِيحِ8.
"وَيَحْرُمُ انْتِقَالُهُ" عَنْهُ9، مَا دَامَ أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ قَتَلَ كُفْءَ مَنْ كَانَ
ـــــــ
1 انظر: شرح العضد 2/ 4.
2 في ز: ومستنداً.
3 انظر: المسودة ص85.
4 ساقطة من ش.
5 في ز: حال.
6 في ز ع ب ض: من عليه.
7 في ع: حبلاً، وفي ض: حبل.
8 انظر: المسودة ص87.
9 وهذا ما أكده شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي، وقال: يجب أن يستمر، وينبغي ترجيحه إن كان السقوط بغير اختياره، لأن الانتقال استئنافُ فعل بالاختيار بخلاف المكث، فإنه بقاء، ويغتفر فيه مالا يغتفر في الابتداء، وقال الشيخ البناني: ولا بيتعد ترجحه إذا كان السقوط باختياره أيضاً، لأن الانتقال استئناف قتل بغير حق، وتكميل القتل أهون من استئنافه، وقال إمام الحرمين: لا حكم فيه، لأن التخيير بالاستمرار أو الانتقال، أو بوجوب الاستمرار أو الانتقال يؤدي إلى القتل المحرم، والمنع منهما لا قدرة على امتثاله، وقال باستمرار عصيانه ببقاء ما تسبب فيه من الضرر بسقوطه، إن كان باختياره، وإلا فلا عصيان. "انظر: جمع الجوامع والمحلي عليه وحاشية البناني 1/ 205".(1/400)
عَلَيْهِ1.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى آخَرَ، قَوْلاً وَاحِدًا2. وَوَجْهُهُ: حُصُولُ الضَّرَرِ عَلَى الثَّانِي بِانْتِقَالِ السَّاقِطِ إلَيْهِ. وَالضَّرَرُ لا يُزَالُ بِالضَّرَرِ.
وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ، وَالانْتِقَالِ إلَى كُفْئِهِ3، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الضَّرَرِ4.
"وَ" أَمَّا لَوْ كَانَ الَّذِي سَقَطَ عَلَيْهِ، أَدْنَى مِنْ الَّذِي لَوْ5 انْتَقَلَ إلَيْهِ قَتَلَهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ عَلَى كَافِرٍ مَعْصُومٍ. وَمَتَى انْتَقَلَ عَنْهُ قَتَلَ مُسْلِمًا مَعْصُومًا فَإِنَّهُ "يَلْزَمُ الأَدْنَى قَطْعًا" أَيْ بِلا خِلافٍ.
وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: "وَيَلْزَمُ الأَدْنَى": أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَمَنْ يَقْتُلُهُ لَوْ لَمْ يَسْتَمِرَّ كَافِرًا، لَزِمَهُ الانْتِقَالُ إلَيْهِ، لِكَوْنِ6 ذَلِكَ أَخَفَّ مَفْسَدَةً7 فِي الصُّورَتَيْنِ8. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ9.
ـــــــ
1 انظر: المسودة ص86.
2 انظر: المسودة ص87.
3 في ع: كفؤ.
4 انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 205. المستصفى 1/ 89.
5 ساقطة من ش.
6 في ز: لكونه .
7 في ب: مضرة.
8 انظر:المحلي على جمع الجموع 1/ 206.
9 في ش: علم.(1/401)
فصل في المندوب
...
"فَصْلٌ":"الْمَنْدُوبُ لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ: "الْمَدْعُوُّ لِمُهِمٍّ" أَيْ لأَمْرٍ مُهِمٍّ "مِنْ النَّدْبِ، وَهُوَ الدُّعَاءُ" لأَمْرٍ مُهِمٍّ. قَالَ الشَّاعِرُ1:
لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وَمِنْهُ2 الْحَدِيثُ: "انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ يَخْرُجُ فِي سَبِيلِهِ" 3 أَيْ أَجَابَ لَهُ طَلَبَ مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ4.
وَالاسْمُ النُّدْبَةُ - مِثْلُ غُرْفَةٍ-، وَنَدَبَتْ الْمَرْأَةُ الْمَيِّتَ، فَهِيَ نَادِبَةٌ، وَالْجَمْعُ نَوَادِبُ؛ لأَنَّهُ كَالدُّعَاءِ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ عَلَى تَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ، كَأَنَّهُ يَسْمَعُهَا5.
"وَ" الْمَنْدُوبُ "شَرْعًا" أَيْ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ6" كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ "وَلَوْ" كَانَ "قَوْلاً" كَأَذْكَارِ الْحَجِّ "وَ" لَوْ كَانَ "عَمَلَ قَلْبٍ" كَالْخُشُوعِ فِي الصَّلاةِ.
ـــــــ
1 البيت لقرِيْطِ بن أنَيْف العَنْبري، نسبه له التبريزي في شرح ديوان الحماسة "1/ 5".
2 في ش: وفي.
3 رواه البخاري والنسائي وأحمد ومالك وابن ماجة والبيهقي والدارمي والطبراني في الأوسط، "انطر: صحيح البخاري 1/ 16، سنن النسائي 6/ 15، سنن ابن ماجة 2/ 920، السنن الكبرى 9/ 159، مجمع الزوائد 5/ 276، مسند أحمد 2/ 231" ورواه مسلم بلفظ تضمن "صحيح مسلم 4/ 1495" ورواه الدارمي ومسلم والبخاري والنسائي بلفظ تكفل "سنن الدارمي 2/ 200، صحيح مسلم 4/ 1496، فتح الباري 13/ 342، سنن النسائي 6/ 15، الموطأ 2/ 443".
4 انظر: النهاية في غريب الحديث 5/ 34.
5 انظر: المصباح المنير 2/ 921.
6 يخرج من التعريف المباح، فإن فاعله لا يثاب ولا يعاقب، ويخرج المحرم والمكروه، فإن تاركهما يثاب، "نهاية السول 1/ 59".(1/402)
وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: "وَلَمْ يُعَاقَبْ تَارِكُهُ": الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ.
وَبِقَوْلِهِ: "مُطْلَقًا": الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ1، كَخِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ كَصَلاةِ الْجِنَازَةِ2.
"وَيُسَمَّى" الْمَنْدُوبُ "سُنَّةً وَمُسْتَحَبًّا وَتَطَوُّعًا وَطَاعَةً وَنَفْلاً وَقُرْبَةً وَمُرَغَّبًا فِيهِ وَإِحْسَانًا".
قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي "مُقْنِعِهِ": "وَيُسَمَّى النَّدْبُ تَطَوُّعًا وَطَاعَةً وَنَفْلاً وَقُرْبَةً إجْمَاعًا"3.
لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَخْبَرْنَا الشَّيْخَ 4 أَبُو تَمَّامٍ بِمَكَّةَ أَنَّهُ سَأَلَ الشَّيْخَ"4 أَبَا إِسْحَاقَ بِبَغْدَادَ عَنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: سُنَّةً وَفَضِيلَةً وَنَفْلاً وَرَغِيبَةً5، فَقَالَ: هَذَا عَامَّةً6 فِي الْفُقَهَاءِ، وَلا يُقَالُ: إلاَّ فَرْضٌ وَسُنَّةٌ لا غَيْرُ.
قَالَ: وَأَمَّا أَنَا فَسَأَلْت أَبَا الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيِّ7 بِالْبَصْرَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ
ـــــــ
1 في ش: المخبر.
2 انظر تعريف المندوب في "المدخل إلى نذهب أحمد ص62، مختصر الطوفي ص25، الروضة ص20، شرح تنقيح الفصول ص71، الحدود للباجي ص55، التعريفات ص250، الإحكام، الآمدي 1/ 119، المسودة ص576، جمع الجوامع 1/ 80، التوضيح على التنقيح 2/ 75، التلويح 3/ 78، نهاية السول 1/ 58، شرح العضد على ابن الحاجب 1/ 225، كشف الأسرار 2/ 311، إرشاد الفحول ص6، شرح الورقات ص26".
3 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص62، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 89، التوضيح على التنقيح 3/ 76، نهاية السول 1/ 59، مختصر الطوفي ص25، إرشاد الفحول ص6.
4 ساقطة من ش.
5 في ش ز ع ب ض: وهيئة.
6 في ش ز: عامته.
7 هو أحمد بن محمد بن أحمد، القاضي أبو العباس، الجرجاني، كان قاضياً بالبصرة ومُدرساً فيها، وكان إماماً في الفقه والأدب، تقفه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، له تصانيف حسنة، منها: "المعاياة" و "الشافي" و "التحرير"، و "كنايات الأدباء وإشارات البلغاء" جمع فيه محاسن النظم والنشر، توفي سنة 482هـ، "انظر: طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي 4/ 74، طبقات ابن هداية ص178، المنتظم، ابن الجوزي 9/ 50".(1/403)
أَلْقَابٌ لا أَصْلَ لَهَا، وَلا نَعْرِفُهَا فِي الشَّرْعِ1. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
"وَأَعْلاهُ" أَيْ أَعَلا الْمَنْدُوبِ "سُنَّةٌ، ثُمَّ فَضِيلَةٌ، ثُمَّ نَافِلَةٌ"2.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ3 - مُدَرِّسُ المستنصرية، مِنْ أَئِمَّةِ4 أَصْحَابِنَا فِي "حَاوِيهِ الْكَبِيرِ"-: إنَّ5 الْمَنْدُوبَ يَنْقَسِمُ ثَلاثَةَ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: مَا يَعْظُمُ أَجْرُهُ، فَيُسَمَّى6 سُنَّةً.
ـــــــ
1 قال أكثر الشافعية والحنابلة: إن هذه الألفاظ مترادفة وهي أقسام، وقال بعض الشافعية كالقاضي حسين وبعض الحنابلة وأكثر الحنفية، إنها على مراتب، ثم قال السبكي والخلاف لفظي. "انظر: حاشية الناني 1/ 89، 90، المدخل إلى مذهب أحمد ص62، مختصر الطوفي ص25، التوضيح على التنقيح 3/ 76، مناهج العقول 1/ 59".
2 أسماء المراتب محل اختلاف بين علماء الأصول، فبعضهم يسميها، سنة مؤكدة ثم سنة غير مؤكدة ثم سنة زائدة، وبعضهم يسميها، سنة ومستحباً وتطوعاً، وبعضهم يسميها: سنة الهادي وسنة الزوائد، ولهذا قال السبكي فيما سبق: "والخلاف لفظي" أي اختلاف اصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، "انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 90، التوضيح على التنقيح 3/ 76، الممدخل إلى مذهب أحمد ص62، إرشاد الفحول ص60".
3 هو عبد الله بن عمر بن ابي قاسم، أبو طالب، الفقيه البصري، الضرير، نور الدين، نزيل بغداد، حفظ القرآن بالبصرة، وقدم بغداد، ودرس الفقه حتى أذن له بالفتوى، سمع من الشيخ مجد الدين بن تيمية، ثم درَّي بالمستنصرية، وكان بارعاً في الفقه، وله معرفة بالحديث والتفسير، له تصانيف عديدة، منها "الحاوي" في الفقه في مجلدين، و "جامع العلوم، في تفسير كتاب الله الحي القيوم" و "الكافي" في شرح الخرقي، و "الواضح" و "الشافي" في المذهب، توفي سنة 684هـ. "انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 313، نكت الهميان ص189، طبقات المفسرين 1/ 277، شذرات الذهب 5/ 386".
4 ساقطة من ش.
5 ساقطة من ع.
6 في ز ض: يسمى.(1/404)
وَالثَّانِي: مَا يَقِلُّ أَجْرُهُ، فَيُسَمَّى1 نَافِلَةً.
وَالثَّالِثُ: مَا يَتَوَسَّطُ 2 فِي الأَجْرِ بَيْنَ هَذَيْنِ"2، فَيُسَمَّى فَضِيلَةً وَرَغِيبَةً3.
"وَهُوَ" أَيْ الْمَنْدُوبُ "تَكْلِيفٌ".
قَالَهُ4 الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإسْفَرايِينِيّ5، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلاَّنِيِّ، وَابْنُ عَقِيلٍ وَالْمُوَفَّقُ، وَالطُّوفِيُّ، وَابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ وَغَيْرُهُمْ6، إذْ مَعْنَاهُ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ. وَقَدْ يَكُونُ أَشَقَّ مِنْ الْوَاجِبِ. وَلَيْسَتْ الْمَشَقَّةُ مُنْحَصِرَةً فِي الْمَمْنُوعِ عَنْ نَقِيضِهِ، حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ.
وَمَنَعَهُ ابْنُ حَمْدَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ7. قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي "أُصُولِهِ".
"وَ" هُوَ "مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً" عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِمَا.
ـــــــ
1 في ز: ويسمى، وفي ض: يسمى.
2 في ش: بين هذين الأجرين.
3 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص62.
4 في ش ز ع ب: قال.
5 هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، الاستاذ أبو إسحاق، الإسفراييني، كان فقيهاً متكلماً أصولياً، وكان ثقة ثبتاً في الحديث، أقر له أهل بغداد ونيسابور بالتقدم والفضل، درّس بمدرسة نيسابور، وكان يلقب بركن الدين، وهو أول من لقب من العلماء، له تصانيف فائقة منها "الجامع" في أصول الدين والرد على الملحدين، و "العسفة" في أصول الفقه، توفي بنيسابور سنة 418هـ وقيل 417هـ. "انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص126، طبقات الشافعية الكبرى، السبكي 4/ 256، وفيات الأعيان 1/ 8، الفتح المبين 1/ 228، البداية والنهاية 12/ 24، شذرات الذهب 2/ 209".
6 انظر: الروضة ص6، مختصر الطوفي ص11، الإحكام، الآمدي1/ 121 المسودة ص35، المحلي على جمع الجوامع 1/ 171.
7 انظر: فواتح الرحموت 1/ 112، الإحكام، الآمدي 1/ 121، تيسير التحرير 2/ 224، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 5، المحلي على جمع الجوامع 1/ 171، شرح تنقيح الفصول ص79".(1/405)
وَحَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ عُلَمَاءِ الأُصُولِ وَالْفُقَهَاءِ1، لِدُخُولِهِ فِي حَدِّ الأَمْرِ، لانْقِسَامِ2 الأَمْرِ إلَيْهِمَا3.
وَهُوَ مُسْتَدْعًى وَمَطْلُوبٌ4. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} 5، وَإِطْلاقُ الأَمْرِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالأَصْلُ: الْحَقِيقَةُ، وَلأَنَّهُ طَاعَةٌ لامْتِثَالِ الأَمْرِ6.
وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْحَلْوَانِيِّ7 وَالْحَنَفِيَّةِ8 وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ - مِنْهُمْ أَبُو
ـــــــ
1 انظر: الروضة ص20، المستصفى 1/ 75، فواتح الرحموت 1/ 111، الإحكام، الآمدي، 1/ 120، تيسير التحرير 2/ 222، المسودة ص6، 8، 15، المدخل إلى مذهب أحمد ص62، مختصر الطوفي ص25، القواعد والفوائد الأصولية ص146، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 5.
2 في ش د ع ب ض: وانقسام.
3 إذا ينقسم الأمر لغة إلى أمر إيجاب وأمر ندب، فكما أن الواجب مأمور به حقيقة، فإن المندوب مأمور به حقيقة ايضاً، "انظر: مختصر الطوفي ص25، الروضة ص21، الإحكام، الآمدي 1/ 120، المستصفى 1/ 75، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد 2/ 5".
4 أي المندوب مستدعى فعله ومطلوب كالواجب، لكنّ الواجب مطلوب مع ذم تاركه، والمندوب مطلوب مع عدم ذم تاركه، والمطلوب أمر من الشارع، فالمندوب مأمور به حقيقة. "انظر: الروضة ص21، المستصفى 1/ 75".
5 الآية 90 من النحل.
6 اتفق العلماء على أن المندوب طاعة، والطاعة تكون من امتثال أمر الله تعالى، فكان المندوب مأموراً به على الحقيقة، "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 120، مختصر الطوفي ص25، الروضة ص21، المسودة ص7، 44، المستصفى 1/ 76، شرح العضد 2/ 5".
7 نص ابن تيمية في "المسودة" "ص6" والبعلي في "القواعد والفوائد الأصولية" "ص164"، أن صاحب هذا الرأي هو عبد الرحمن الحلواني، وهو ابن الحلواني، ابي الفتح، الذي مر معنا سابقاً "ص305"، والابن هو عبد الرحمن بن محمد بن علي، أبو محمد، ولد سنة 490هـ، وبرع في الفقه والأصول، وصنف فيهما، وهو من شيوخ الحنابلة، ومن مصنفاته "التبصير" في الفقه، و "الهداية" في أصول الفقه، وله "تفسير القرآن"، توفي سنة 546هـ. "انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/ 221، طبقات المفسرين 1/ 274، شذرات الذهب 1/ 144".
8 النقل عن الحنفية فيه تساهل، لأن المحققين من الحنفية يقولون: إن المندوب مأمور به حقيقة، كالجمهور، خلافاً للكرخي وأبي بكر الرازي من الحنفية اللذين سارت على رأيهما أكثر كتب الحنفية، بأن المندوب مأمور به مجازاً. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 111، تيسير التحرير: 2/ 222، أصول السرخسي 1/ 14".(1/406)
حَامِدٍ وَغَيْرُهُ- أَنَّهُ مَجَازٌ1.
"فَـ" عَلَى الأَوَّلِ "يَكُونُ لِلْفَوْرِ".
قَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: قِيَاسًا عَلَى الْوَاجِبِ.
لَكِنْ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَى الْفَوْرِ، مَاذَا يَكُونُ؟ يَحْتَمِلُ مَا أَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: تَكْرَارُهُ كَالْوَاجِبِ، يَعْنِي كَالأَمْرِ الْمُرَادِ لِلْوُجُوبِ2.
فَعِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ: أَنَّ أَمْرَ النَّدْبِ هَلْ يَتَكَرَّرُ؟ قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الأَمْرِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَى مَا يَأْتِي3 فِي مَسَائِلِ الأَمْرِ4.
"وَلا يَلْزَمُ" الْمَنْدُوبُ "بِشُرُوعٍ" بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ إتْمَامِهِ وَقَطْعِهِ5.
وَذَلِكَ: لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ يَنْوِي صَوْمَ التَّطَوُّعِ، ثُمَّ يُفْطِرُ" رَوَاهُ
ـــــــ
1 أي المندوب مأمور به مجازاً، وليس حقيقة، انظر تفصيل هذا القول وأدلته ومناقشته في "الإحكام، الآمدي 1/ 120، المسودة ص6، القواعد والفوائد الأصولية ص164، المستصفى 1/ 75، حاشية التفتازاني على العضد 2/ 4، أصول السرخسي 1/ 14 وما بعدها".
2 في ش: به الوجوب، وفي ز: به للوجوب.
3 في ع: أتى.
4 انظر: المسودة ص26.
5 وهو مذهب الشافعية والحنابلة. "انظر: حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 90، 93، كشف الأسرار 2/ 311، مختصر الطوفي ص25، المسودة ص60، فواتح الرحموت 1/ 115،تخريج الفروع على الأصول ص59".(1/407)
مُسْلِمٌ1 وَغَيْرُهُ2.
وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 3 فَيُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ، جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ4.
هَذَا إنْ لَمْ يُفَسَّرْ بُطْلانُهَا بِالرِّدَّةِ، بِدَلِيلِ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا5، أَوْ أَنَّ
ـــــــ
1 هو مسلم بن الحجاج بن مسلم، أبو الحسين القشيري، النيسابوري، أحد الأئمة من حفاظ الحديث، وهو صاحب الصحيح المشهور الذي صنفه من ثلاثمائة ألف حديث، وله تصانيف كثيرة، منها "المسند الكبير" على أسماء الرجال، و "الجامع الكبير" على الأبواب، وكتاب "العلل" و "الكنى" و "أوهام المحدثين"، توفي سنة 261هـ. "انظر: وفيات الإعيان 4/ 280، المنهج الأحمد 1/ 147، طبقات الحنابلة 1/ 337، شذرات الذهب 2/ 144، طبقات الحفاظ ص260، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 89، تذكرة الحفاظ 2/ 588، الخلاصة ص375".
2 رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي وروى البخاري أن أبا الدرداء وأبا طلحة وأبا هريرة وابن عباس وحذيفة كانوا يفعلون ذلك، وفي رواية لمسلم: "فقد أصبحت صائماً فأكل" . وفي رواية عن عائشة: "فجئت به فأكل، ثم قال: "قد كنت أصبحت صائماً" . "انظر: صحيح مسلم 2/ 808، 809، صحيح البخاري 1/ 329، سنن أبي داود 2/ 442، سنن ابن ماجة 1/ 543، سنن النسائي 4/ 164"، وروى الترمذي والحاكم وأحمد والدارمي عن أم هانىء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر" وفي رواية: "أمين نفسه" . "انظر: سنن أبي داود 2/ 442، سنن الترمذي 3/ 81، كشف الخفا 2/ 26، فيض القدير 4/ 231، مسند أحمد 6/ 341، المستدرك 1/ 439، سنن الدارمي 2/ 16".
3 الآية 32 من سورة محمد.
4 انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 93.
5 وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [الآيتان 32-33 من سورة محمد]، وانظر: تفسير ابن كثير 6/ 324.(1/408)
الْمُرَادَ: وَلا1 تُبْطِلُوهَا بِالرِّيَاءِ2، نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ3 عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَنُقِلَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ تَفْسِيرُهَا بِمَعْنَى لا تُبْطِلُوهَا بِالْكَبَائِرِ4، لَكِنَّ الظَّاهِرَ تَفْسِيرُهَا بِمَا تَقَدَّمَ5.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ6، وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ الأَعْرَابِيِّ: "هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لا، إلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ"7 أَيْ فَيَلْزَمُك التَّطَوُّعُ إنْ تَطَوَّعْت، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فِي أَصْلِهِ.
ـــــــ
1 في ش ض ب: فلا.
2 وهو رأي ابن عباس رضي الله عنه وابن جريج ومقاتل. "انظر: الكشاف 3/ 539، فواتح الرحموت 1/ 115، تفسير القرطبي 16/ 254".
3 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، أبو عمر، الحافظ، القرطبي، أحد أعلام الأندلس، وكبير محدثيها، كان ثقة نزيهاً متبحراً في الفقه والعربية والحديث والتاريخ، قال الباجي: لم يكن بالأندلس مثله في الحديث، وقال أيضاً: أبو عمر أحفظ أهل المغرب، له كتب كثيرة نافعة ومفيدة، منها: "التمهيد" و "الاستذكار" و "الاستيعاب" في معرفة الصحابة، و "جامعة بيان العلم وفضله" و "الدرر في اختصار المغازي والسير" و "بهجة المجالس" توفي سنة 463هـ وقيل 458هـ، "انظر: وفيات الأعيان 6/ 64، الديباج المذهب 2/ 367، شذرات الذهب 4/ 314، طبقات الحفاظ 432 ص432، شجرة النور الزكية ص119، تذكرة الحفاظ 3/ 1128".
4 انظر: كشاف 3/ 538.
5 انظر رد ابن المنير الإسكندراني على رأي الزمخشري في حاشية الكشاف "3/ 538" وفيه: "قال الإمام أحمد: قاعدة أهل السنة على أن الكبائر ما دون الشرك لا تحبط حسنة مكتوبة، لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً... وقاعدة المعتزلة موضعة على أن كبيرة واحدة تحبط ما تقدمها من الحسنات، ولو كانت مثل زبد البحر.
6 انظر: كشف الأسرار 2/ 311، 312، التلويح على التوضيح 3/ 79، تقريرات الشربيني على جمع الجوامع 1/ 90، فواتح الرحموت 1/ 114، تفسير القرطبي 16/ 255، أصول السرخسي 1/ 115.
7 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي ومالك والحاكم وأحمد عن طلحة بن عبيد الله قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس، يُسمع دويّ صوته، ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة" ... الحديث"، "انظر: صحيح البخاري 1/ 17، صحيح مسلم 1/ 41، سنن أبي داود 1/ 160، سنن النسائي 1/ 184، سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 1/ 246، المستدرك 1/ 201، الموطأ 1/ 175، مسند أحمد 1/ 162".(1/409)
وَعِنْدَنَا أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَبْطَلَ1 تَطَوُّعَهُ بِفِطْرِهِ بَعْدَ نِيَّةِ الصَّوْمِ.
وَمَحَلُّ الْخِلافِ "غَيْرُ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، لِوُجُوبِ مُضِيٍّ فِي فَاسِدِهِمَا" فَإِتْمَامُ صَحِيحِ تَطَوُّعِهِمَا أَوْلَى بِوُجُوبِ الْمُضِيِّ فِيهِ، "وَ" لِـ "ـمُسَاوَاةِ نَفْلِهِمَا" لِـ "فَرْضِهِمَا نِيَّةً" أَيْ فِي النِّيَّةِ2 "وَكَفَّارَةً" أَيْ: 3 وَفِي الْكَفَّارَةِ"3، "وَغَيْرَهُمَا" كَانْعِقَادِ الإِحْرَامِ لازِمًا فِي حَقِّ مَنْ لَزِمَهُ الْحَجُّ وَغَيْرِهِ4.
وَعَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: رِوَايَةٌ أُخْرَى بِوُجُوبِ إتْمَامِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَلُزُومِ الْقَضَاءِ إنْ أَفْطَرَ5.
وَعَنْهُ ثَالِثَةٌ: يَلْزَمُ إتْمَامُ الصَّلاةِ دُونَ الصَّوْمِ؛ لأَنَّهَا ذَاتُ إحْرَامٍ وَإِحْلالٍ. كَالْحَجِّ6.
ـــــــ
1 في ز: أبدل.
2 أن النية في كل منهما هي قصد الدخول في الحج والتلبس فيه "المحلي على جمع الجوامع 1/ 93".
3 في ش ض: في الكفارة، وفي ز: والكفارة.
والكفارة تجب في الحج والواجب، والحج التطوع بالجماع المفسد له "انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 94".
4 أي في حق من وجب عليه الحج، وفي حق المتنفل والمتطوع. "انظر: حاشية البناني وجمع الجوامع 1/ 93، 49، كشف الأسرار 2/ 315، فواتح الرحموت 1/ 116، المغني 9/ 160، أصول السرخسي 1/ 116".
5 وهي رواية حنبل عن الإمام أحمد "انظر: المغني 3/ 159".
6 انظر: المغني 3/ 160.(1/410)
وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ؛ كَالصَّدَقَةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا، وَالْقِرَاءَةِ وَالأَذْكَارِ: فَلا يَلْزَمُ إتْمَامُهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا، وِفَاقًا لِلأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ1.
"فَرْعٌ"2:
"الزَّائِدُ عَلَى قَدْرٍ وَاجِبٍ فِي رُكُوعٍ3 وَنَحْوِهِ" كَسُجُودٍ وَقِيَامٍ وَجُلُوسٍ فِي الصَّلاةِ "نَفْلٌ"4 عِنْدَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ5، وَعِنْدَ6 أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، لِجَوَازِ تَرْكِهِ مُطْلَقًا. وَهَذَا شَأْنُ النَّفْلِ7.
وَأَوْجَبَهُ الْكَرْخِيُّ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ8.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ. وَأَخَذَهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ إذَا أَطَالَ الرُّكُوعَ، فَأَدْرَكَهُ فِيهِ مَسْبُوقٌ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكُلُّ وَاجِبًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ9.
ـــــــ
1 انظر: المغني 3/ 160، حاشية البناني 1/ 90، 93، المحلي على جمع الجوامع 1/ 94، تقريرات الشربيني 1/ 90.
2 في ش: فروع.
3 في ش: ركوح.
4 في ش: مطلقاً!؟.
5 انظر: التمهيد ص 14، 17، التلويح على التوضيح 3/ 78، نهاية السول 1/ 131، مناهج العقول 1/ 129، المستصفى 1/ 73، كشف الأسرار 2/ 311، شرح تنقيح الفصول ص160، المسودة 58.
6 ساقطة من ز ع ب ض.
7 قال الطوفي: الزيادة على الواجب إن تميزت كصلاة التطوع فندب اتفاقاً، وإن لم تتميز كالزيادة في الطمأنينة والركوع والسجود، ومدة القيام، والقعود على أقل الواجب فهو واجب عند القاضي، ندب عند أبي الخطاب، وهو الصواب "مختصر الطوفي ص25" وعند الشافعية قولان، والأصح أنه مندوب "التمهيد ص17" وانظر: المسودة ص58، المدخل إلى مذهب أحمد ص20، القواعد والفوائد الأصولية ص105، نهاية السول 1/ 131.
8 انظر المسودة ص58، 59، المستصفى 1/ 73، كشف الأسرار 2/ 311.
9 رد المجد بن تيمية كلام القاضي وقال: وليس هذا بمأخذ صحيح، لأن الكل قد اتفقوا على هذا الحكم، مع خلافهم في المسألة، وفي مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل، ولذلك ذكر ابن عقيل =(1/411)
"وَمَنْ" "أَدْرَكَ رُكُوعَ إمَامٍ" وَلَوْ بَعْدَ طُمَأْنِينَتِهِ "أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ"1، قَالُوا: لأَنَّ الاتِّبَاعَ يُسْقِطُ الْوَاجِبَ، كَمَسْبُوقٍ وَصَلاةِ امْرَأَةٍ الْجُمُعَةَ2. وَيُوجِبُ الاتِّبَاعُ مَا كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ، كَمُسَافِرٍ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ، فَيَلْزَمُهُ الإِتْمَامُ وَلَوْ نَوَى الْقَصْرَ.
وَلا يُشْتَرَطُ فِي إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ إدْرَاكُ 3 الطُّمَأْنِينَةِ مَعَ الإِمَامِ"3، خِلافًا لِمَالِكٍ4 رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
ـــــــ
= فساد هذا المأخذ، واعتذر عن نص الإمام أحمد بكلام آخر ذكره، وكذلك أبو الخطاب غلط شيخه في ذلك، قال ابن عقيعل: نص أحمد لا يدل عندي على هذا، بل يجوز أن يعطي أحد أمرين، أما جواز ائتمام المفترض بمتنفل، ويحتمل أن يجري مجرى الواجب في باب الاتباع خاصة "المسودة ص58".
وجواز ائتمام المفترض بمتنفل هو أحد القولين عند الإمام أحمد ورجحه ابن قدامة، وهو قول الشافعية. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص106، المسودة ص59، المعني 2/ 166".
1 لما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة". ورى البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد ومالك والدارمي والبيهقي عن أبي هريرة مرفواعاً: "ومن أدرك الركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" أي ومن أدرك ركوع الركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. "انظر: فتح الباري 2/ 38، صحيح مسلم 1/ 432، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي: 1/ 554، سنن أبي داود 1/ 326، سنن الدارمي 1/ 277، الموطأ 1/ 105، مسند أحمد 2/ 241، فيض القدير 6/ 44، المغني 1/ 363، سنن النسائي 1/ 206، سنن ابن ماجة 1/ 256".
2 صلاة الجمعة غير واجبة على المرأة، وإنما الواجب عليها صلاة الظهر، ولكن إذا حضرت المرأة الجمعة سقط عنها الظهر. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص106".
3 انظر: المغني 1/ 363، وفي ع ب ض: طمأنينة الإمام.
4 قال المالكية: إن المصلي يدرك الركعة متى مكَّن يديه من ركبتيه أو مما قاربهما قبل رفع الإمام، وأن لم يطمئن إلا بعد رفعه، قال الإمام مالك: وحدُّها: إمكان يديه بركبتيه قبل رفع إمامه. "انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 295، حاشية العدوي على شرح الخرشي 2/ 17، التاج والإكليل للمواق 2/ 82".
وقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال: إذا مكّن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام فقد أدرك. "مسائل الإمام أحمد ص35".(1/412)
"فَصْلٌ":"الْمَكْرُوهُ ضِدُّ الْمَنْدُوبِ"1 .
"وَهُوَ" لُغَةً ضِدُّ الْمَحْبُوبِ، أَخْذًا مِنْ الْكَرَاهَةِ. وَقِيلَ: مِنْ الْكَرِيهَةِ، وَهِيَ الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ2.
وَفِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "مَا مُدِحَ تَارِكُهُ، وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ"3.
فَخَرَجَ بِـ "مَا مُدِحَ": الْمُبَاحُ، فَإِنَّهُ لا مَدْحَ فِيهِ وَلا ذَمَّ.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: "تَارِكُهُ": الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، فَإِنَّ فَاعِلَهُمَا يُمْدَحُ لا تَارِكُهُمَا.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: "وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ": الْحَرَامُ، فَإِنَّهُ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، لأَنَّهُ - وَإِنْ شَارَكَ الْمَكْرُوهَ فِي الْمَدْحِ بِالتَّرْكِ- فَإِنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي ذَمِّ فَاعِلِهِ4.
"وَلا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ".
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي "فُرُوعِهِ": قَالُوا فِي الأُصُولِ: الْمَكْرُوهُ لا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُمْ: مَا كُرِهَ بِالذَّاتِ لا بِالْعَرَضِ. قَالَ وَقَدْ يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا احْتَجَّ مَنْ كَرِهَ صَلاةَ الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ
ـــــــ
1 في ش: الواجب، والمكروه ضد المندوب لأن المندوب هو ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم، والمكروه هو ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم. "اننظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص63". كما أن المكروه ضد الواجب، قال الغزالي: "وكما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب فلا يدخل مكروه تحت الأمر" "المستصفى 1/ 79".
2 انظر: المصباح المنير 2/ 818.
3 انظر في تعريف المكروه "المدخل إلى مذهب أحمد ص63، الإحكام، الآمدي 1/ 122، مختصر الطوفي ص28، نهاية السول 1/ 61، إرشاد الفحول ص6، شرح الورقات ص29، التلويح على التوضيح 3/ 81، التعريفات، للجرجاني ص246".
4 انظر: نهاية السول 1/ 62.(1/413)
بِالْخَبَرِ الضَّعِيفِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: "مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ شَيْءٌ"1، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالأَجْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لا اعْتِقَادًا وَلا بَحْثًا.
"وَهُوَ" أَيْ الْمَكْرُوهُ "تَكْلِيفٌ وَمَنْهِيٌّ2 3 عَنْ حَقِيقَةٍ 3"، لأَنَّ الْعُلَمَاءَ
ـــــــ
1 رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي وابن شيبه، قال ابن الجوزي: "حديث لا يصح"، وقال النووي: "إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به"، وسبب ضعفه أن كل طرقه عن صالح بن أبي صالح مولى التوأمة بنت أمية بن خلف، وصالح اختلط كلامه في آخر عمره، قال البيهقي: "وصالح مختلف في عدالته، كان مالك بن أنس يجرحه"، وفي رواية أبي داود وابن ماجة: "فلا شيء عليه"، وقال البنا الساعاتي: إن الحديث صحيح لأنه سمع من صالح قبل أن يخرف، وحَمل الحديث على نقص الأخر في حق من صلى في المسجد، ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة، لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه. "انظر: سنن أبي داود 3/ 282، الفتح الرباني 7/ 248، 249، فيض القدير 6/ 171، سنن ابن ماجة 1/ 486، السنن الكبرى 4/ 52، مسند أحمد: 2/ 444".
2 جمع المصنف رحمه الله تعالى بين حكم التكليف وحكم النهي للمكروه، وفاسه على المندوب، والعبارة توهم بأن الحكم متفق عليه في الأمرين، وقد رأينا سابقاً "ص405-406".
أن المندوب تكليف عند الحنابلة وأبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الإسفراييني، بينما قال أكثر المذاهب والعلماء، إن المندوب ليس تكليفاً، وكذلك قال الجمهور: إن المكروه ليس تكليفاً، خلافاً للحنابلة.
أما كون الأمر حقيقة في المندوب، وكون النهي حقيقة في المكروه فهو رأي حماهير الأئمة والمذاهب، خلافاً للحنفية وبعض الحنابلة وبعض الشافعية الذين يرون أن المندوب مأمور به مجازاً، كما سبق "ص406-407"، ويأتي هذا الخلاف في المكروه، قال ابن الحاجب: المكروه منهي عنه، غير مكلف به كالمندوب، وقال عبد الشكور: المكروه كالمندوب، لا نهي ولا تكليف، والدليل والاختلاف "مسلم الثبوت مع شحه فواتح الرحموت 1/ 112" انظر: مختصر ابن الحاجب وشرح العضد 2/ 5، المسودة ص35، تيسير التحرير 2/ 225، الإحكام، الآمدي 1/ 122، مناهج العقول 1/ 161، حاشية البناني 2/ 225، شرح تنقيح الفصول ص79.
3 في ش: عن حقيقة.(1/414)
ذَكَرُوا أَنَّهُ عَلَى وِزَانِ1 الْمَنْدُوبِ2. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ تَكْلِيفٌ وَمَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً3 عَلَى الأَصَحِّ4.
"وَمُطْلَقُ الأَمْرِ5 لا يَتَنَاوَلُهُ" أَيْ لا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ6.
وَقِيلَ: بَلَى. وَنَقَلَهُ ابْنُ7 السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ8 مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا9.
وَاسْتُدِلَّ لِلأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبُ التَّرْكِ وَالْمَأْمُورَ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ، فَيَتَنَافَيَانِ10، وَلا يَصِحُّ الاسْتِدْلال لِصِحَّةِ طَوَافِ الْمُحْدِثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
ـــــــ
1 في ش: زان.
2 انظر: مناهج العقول 1/ 61، المدخل إلى مذهب أحمد ص63، مختصر الطوفي ص28، تيسير التحرير 2/ 225، الإحكام، الآمدي 1/ 122، شرح العضد 2/ 5.
3 ساقطة من ش.
4 صفحة 405-407.
5 انظر بيان ذلك في "المحلي على جمع الجوامع, وتقريرات الشربيني عليه 1/ 197".
6 وهو قول الشافعية وأكثر الحنابلة والجرجاني من الحنفية، لأن مطلق الأمر بالصلاة مثلاً لا يتناول الصلاة المشتملة على السدل ورفع البصر إلى السماء والالتفات ونحو ذلك من المكروهات "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص63، القواعد والفوائد الأصولية ص107، المستصفى 1/ 79، المحلي على جمع الجوامع 1/ 197، المسودة ص15".
7 ساقطة من ز ع ب ض.
8 هو رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز، أبو محمد التميمي، البغدادي، الفقيه، الواعظ، شيخ الحنابلة، تقديم في الفقه والأصول والتفسير والعربية توفي سنة 488هـ. "انظر: شذرات الذهب 3/ 384، طبقات الحنابلة 2/ 250، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 77، المنهج الأحمد 2/ 162، طبقات المفسرين 1/ 171، طبقات القراء 1/ 284".
9 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص907، وهذا ما نقله السبكي عن الحنفية أيضاً "جمع الجوامع 1/ 198".
10 انظر: مختصر الطوفي ص28، القواعد والفوائد الأصولية ص107، المستصفى 1/ 79، المحلي على جمع الجوامع 1/ 199.(1/415)
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1، وَلا لِعَدَمِ التَّرْتِيبِ وَالْمُولاةِ2 بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} 3.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَكَذَا4 وَطْءُ الزَّوْجِ الثَّانِي فِي حَيْضٍ لا يُحِلُّهَا لِلأَوَّلِ5.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلافِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 6 فَعِنْدَنَا لا يَتَنَاوَلُ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلا مَنْكُوسًا7. وَعِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُهُ، فَإِنَّهُمْ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا كَرَاهَتَهُ- قَالُوا فِيهِ: يُجْزِئُ، لِدُخُولِهِ تَحْتَ الأَمْرِ. وَعِنْدَنَا لا يَدْخُلُ، لأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَصْلاً، فَلا طَوَافَ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَوُقُوعُهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ8.
وَعِبَارَةُ "جَمْعِ الْجَوَامِعِ" كَمَا فِي الْمَتْنِ. وَزَادَ: "خِلافًا لِلْحَنَفِيَّةِ"9.
وَاعْتَرَضَهَا10 شَارِحُهُ الْكُورَانِيُّ بِأَنَّ عَدَمَ التَّنَاوُلِ يُشْعِرُ بِصَلاحِ الْمَحَلِّ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ11 فِي الْخَارِجِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ عَدَمُ التَّنَاوُلِ لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ
ـــــــ
1 الآية 29 من الحج.
2 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص107، المسودة ص51.
3 الآية 6 من المائدة.
4 في ش: وإذا.
5 قال ابن قدامة: واشترط أكثر أصحابنا أن يكون الوطء حلالاً، فإن وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام من أحدهما أو منهما، أو أحدهما صائمُ فرضٍ لم تحل، لأنه وطء حرام لحقّ الله تعالى، فلم يحصل به الإحلال. "المغني 7/ 517".
6 الآية 29 من الحج.
7 المنكوس: المقلوب، وهو الذي رجلاه إلى الأعلى، ورأسه إلى الأسفل. "المصباح المنير 2/ 966".
8 انظر: المستصفى 1/ 80.
9 جمع الجوامع 1/ 197-198.
10 في ش: واعتراضهما.
11 في ش: يصح.(1/416)
الْمَحَلِّ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْكَرَاهَةِ1.
وَقَوْلُهُ: "خِلافًا لِلْحَنَفِيَّةِ": صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَائِلُونَ بِأَنَّ الأَمْرَ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ، وَهَذَا أَمْرٌ لا يُعْقَلُ؛ لأَنَّ الْمُبَاحَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، مَعَ كَوْنِ2 طَرَفَيْهِ عَلَى حَدِّ الْجَوَازِ. فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ3 يَكُونَ الْمَكْرُوهُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ4 الْمَأْمُورِ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ؟ وَكُتُبُهُمْ - أُصُولاً وَفُرُوعًا - مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الصَّلاةَ فِي الأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَاسِدَةٌ، حَتَّى الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُطْلَقًا5 انْتَهَى.
ـــــــ
1 هذه المسألة فرع عن مسألة الأمر والنهي في شيء واحد، والعلماء متفقون على أن الأمر والنهي أو الإيجاب والتحريم لا يحتمعان في أمر واحد بالذات، أما إذا كان له جهتان، فإن كانتا متلازمتين فلا يجتمعان كالأول، وإن كانت الجهتان غير متلازمتين فلا مانع من اجتماع الأمر والنهي أو الإيجاب والتحريم في الشيء الواحد لكن العلماء اختلفوا في تلازم الجهتين وعدم تلازمهما، كما اختلف العلماء في متعلق النهي، فقال الجمهور: إن النهي يقتضي الفساد والبطلان، بينما فرق الحنفية بين النهي الوارد على الأصول فإنه يوجب البطلان، وبين النهي الوارد على الوصف فإنه يوجب الفساد، أما النهي الوارد على أمر آخر يجاور الشيء أو يتعلق به، فلا يؤثر عليه، وبناء على ذلك اختلف العلماء في فروع كثيرة كالصلاة في الأرض المغصوبة، فقال الحنابلة بعدم صحتها، لأن الصلاة لا تكون واجبة ومحرومة في أن واحد، وقال الجمهور بصحتها، لأن الوجوب يتعلق بالصلاة، والنهي يتعلق بالغصب، وكالصلاة في الأوقات المكروهة، فقال الحنفية والمالكية بصحتها، لأن النهي على الوقت، وليس على ذات الصلاة، وقال الشافعية والحنابلة بعدم صحتها، لأن الوقت ملازم للصلاة، ثم قال الشافعية تصح الصلاة في الأماكن المكروهة، لأن المكان غير ملازم للصلاة، خلافاً للوقت، واتفق الجميع على عدم صحة الصوم في يوم النحر، لأن صوم يوم النحر لا ينفك في اليوم، ويلخص الشربيي ذلك فيقول: وحاصله تخصيص الدعوى بما يجوز انفكاك الجهتين فيه. "انظر: تقريرات الشربيني على جمع الجوامع 1/ 197-198، حاشية البناني 1/ 201، أصول السرخسي 1/ 89، المسودة ص81، كشف الأسرار 1/ 177 وما بعدها، حاشية ابن عابدين 5/ 49، بدائع الصنائع 5/ 299، الفروق للقرفي 2/ 83، 183، المستصفى 1/ 95".
2 في ع: كونه.
3 في ش: بأن.
4 في ش: جزئياته.
5 إن اعتراض الكوراني على جمع الجوامع غير دقيق، وأن الصلاة في الأوقات المكروهة صحيحة =(1/417)
"وَهُوَ" أَيْ الْمَكْرُوهُ "فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لِلتَّنْزِيهِ"، يَعْنِي أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوا الْكَرَاهَةَ، فَمُرَادُهُمْ التَّنْزِيهُ، لا التَّحْرِيمُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ لا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْحَرَامِ1، لَكِنْ قَدْ جَرَتْ
ـــــــ
= ناقصة عند الحنفية وليست فاسدة، لأن الحنفية يرون أنّ الوقت ظرف للصلاة، ولذلك فأن تعلق الصلاة بالوقت تعلق مجاورة، فإن شرع المصلي بأداء العصر مثلاً، واستمرت صلاته إلى الوقت المكروه فإن صلاته صحيحة، وليست مكروهة، قال عبيد الله بن مسعود: "لما كان الوقت متسعاً جاز له شغل كل الوقت، فبعض الفساد الذي يتصل بالبناء" ثم يقول: "فاعترض الفساد بالغروب على البعض الفاسد فلا يفسد" "التوضيح على التنقيح 11/ 202". وقال البزدوي: "منها الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها، مشروعية بأصلها إذ لا قبح في أركانها وشروطها، والوقت صحيح باصله، فاسد بوصفه، وهو أنه منسوب إلى الشيطان، كما جاءت به السنة، إلا أن الصلاة لا توجد بالوقت لأنها ظرفها، لا معيارها، وهو سببها، فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة"، ثم عقب البخاري فقال: "بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة، فإن المكان ليس بسبب ولا وصف، فلا يؤثر في الفساد ولا في النقصان "كشف الأسرار 1/ 277-278"، وقال السرخسي الحنفي: "لأن النهي باعتبار وصف الوقت الذي هو ظرف للأداء يُمَكّنُ نقصاناً في الأداء" "أصول السرخسي 1/ 89"، وأكد الكاساني أن صلاة النفل والتطوع مكروهة في الأوقات المكروهة، "بدائع الصنائع 1/ 295 وما بعدها"، وهذا يبين أن الأمر يتناول المكروه عند الحنفية كما جاء في "جمع الجوامع"، وأن اعترض الكوراني غير صحيح، وأن نقله عن الحنفية غير دقيق، ولذلك قال الشربيني: "فمنازعة النقل عنهم مردودة" "تقريرات الشربيني على جمع الجوامع 1/ 198"، ولكن ابن اللحام نقل عن الحنفية قولين، فقال: قال الجرجاني من الحنفية لا يتناوله، وقال الرازي الحنفي يتناوله "القواعد والفوائد الأصولية ص107" وهو ما نقله المجد بن تيمية في "المسودة ص51".
1 قسم الحنفية المكروه إلى قسمين: مكروه تحريمي، ومكروه تنزيهي، والمكروه التحريمي هو ما طلب الشارع تركه طلباً جازماً بدليل ظني، مثل لبس الحرير والذهب على الرجال الثابت بالحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي حلّ لإناثهم" ومثل البيع علىالبيع، والخطبة على الخطبة، وحكمه أنه إلى الحرام أقرب، وهو قسم من الحرام عند الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف، ويأخذ أحكام الحرام تقريباً من تحريم الفعل وطلب الترك واستحقاق العقاب على الفعل، ولكن لا يكفر جاحده، والمكروه التنزيهي هو ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم "انظر: =(1/418)
عَادَتُهُمْ وَعُرْفُهُمْ: أَنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوهُ أَرَادُوا التَّنْزِيهَ 1 لا التَّحْرِيمَ"1. وَهَذَا مُصْطَلَحٌ لا مُشَاحَّةَ فِيهِ.
"وَيُطْلَقُ" الْمَكْرُوهُ "عَلَى الْحَرَامِ"2، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلامِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ3. وَمِنْ كَلامِهِ "أَكْرَهُ الْمُتْعَةَ، وَالصَّلاةَ فِي الْمَقَابِرِ" وَهُمَا مُحَرَّمَانِ.
لَكِنْ لَوْ وَرَدَ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ الْكَرَاهَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ عَلَى التَّحْرِيمِ وَلا عَلَى التَّنْزِيهِ: فَلِلأَصْحَابِ فِيهَا وَجْهَانِ:
- أَحَدُهُمَا: - وَاخْتَارَهُ الْخَلاَّلُ وَصَاحِبُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُمْ- أَنَّ الْمُرَادَ التَّحْرِيمُ4.
ـــــــ
= التوضيح 3/ 80، التعريفات للجرجاني ص249، الفتح الكبير 1/ 428".
وقسم بعض الشافعية المكروه إلى قسمين بحسب محل دليل النهي غير الجازم، فإن كان محل النهي مخصوصاً بأمر معين، فهو مكروه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" رواه الستة وأحمد، وأن كان النهي غير الجازم غيرَ مخصوص بأمر معين فيكون فعله خلاف الأولى، كالنهي عن ترك المندوبات. "انظر: حاشية البناني 1/ 80، الإحكام، الآمدي 1/ 122، شرح الورقات ص29، الفتح الكبير 1/ 106، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد 2/ 5، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، الروضة ص23، القواعد والفوائد الأصولية ص107".
1 ساقطة من ش.
2 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص63، مختصر الطوفي ص29، الروضة ص23، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد 2/ 5، إعلان الموقعين 1/ 40 وما بعدها.
3 قال ابن بدران: إن الإمامين أحمد ومالكاً يطلقانه على الحرام الذي يكون ذليله ظنياً تورعاً منهما "المدخل إلى مذهب أحمد ص64" وقال ابن القيم: وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقو لفظ الكراهية، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهية "إعلان الموقعين 1/ 39".
4 انظر: الإنصاف 12/ 248.(1/419)
- وَالثَّانِي: - وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ-: أَنَّ الْمُرَادَ التَّنْزِيهُ1.
وَمِنْ كَلامِ أَحْمَدَ: "أَكْرَهُ النَّفْخَ فِي الطَّعَامِ، وَإِدْمَانَ اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ الْكِبَارِ"2، وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ.
وَقَدْ وَرَدَ الْمَكْرُوهُ بِمَعْنَى الْحَرَامِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} 3.
"وَتَرْكُ الأَوْلَى4، وَهُوَ" أَيْ تَرْكُ الأَوْلَى "تَرْكُ مَا فِعْلُهُ رَاجِحٌ" عَلَى تَرْكِهِ "أَوْ عَكْسُهُ" وَهُوَ فِعْلُ مَا تَرْكُهُ رَاجِحٌ عَلَى فِعْلِهِ "وَلَوْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ" أَيْ عَنْ التَّرْكِ "كَتَرْكِ مَنْدُوبٍ".
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: وَتُطْلَقُ الْكَرَاهَةُ فِي الشَّرْعِ بِالاشْتِرَاكِ عَلَى الْحَرَامِ، وَعَلَى تَرْكِ الأَوْلَى، وَعَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ. وَقَدْ يُزَادُ: مَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَتَرَدُّدٌ5.
"وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ" أَيْ فَاعِلِ الْمَكْرُوهِ "مُخَالِفٌ، وَمُسِيءٌ، وَغَيْرُ مُمْتَثِلٍ"6، مَعَ أَنَّهُ لا يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَلا يَأْثَمُ عَلَى الأَصَحِّ.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيمَنْ زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ7-: أساء.
ـــــــ
1 وهو قول الطوفي "انظر: مختصر الطوفي ص29، الإنصاف 12/ 247".
2 وكراهية الخبز الكبار لأنه ليس فيه بركة كما قال الإمام أحمد "انظر: كشاف القناع 6/ 195".
3 الآية 38 من الإسراء.
4 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص63، مختصر الطوفي ص29، تيسير التحرير 2/ 225، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد: 2/ 5.
5 وهذا ما قاله الآمدي، "الإحكام، له 1/ 122" وانظر: إرشاد الفحول ص6، تيسير التحرير 2/ 225.
6 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص64.
7 ساقطة من ش.(1/420)
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ - فِيمَنْ أُمِرَ بِحَجَّةٍ1 أَوْ عُمْرَةٍ فِي شَهْرٍ، فَفَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ-: أَسَاءَ لِمُخَالَفَتِهِ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ - فِي مَأْمُومٍ وَافَقَ إمَامًا فِي أَفْعَالِهِ -: أَسَاءَ.
وَظَاهِرُ كَلامِ بَعْضِهِمْ: تَخْتَصُّ الإِسَاءَةُ بِالْحَرَامِ. فَلا يُقَالُ: أَسَاءَ، إلاَّ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ2.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يَأْثَمُ بِتَرْكِ السُّنَنِ أَكْثَرَ عُمْرِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ3. وَلأَنَّهُ مُتَّهَمٌ أَنْ يَعْتَقِدَهُ غَيْرَ سُنَّةٍ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ-: رَجُلُ سُوءٍ، مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ4.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَاَلَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ إطْلاقَ الإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ رَجُلُ سُوءٍ، إنَّمَا مُرَادُهُ مَنْ اعْتَقَدَ5 أَنَّهُ غَيْرُ6 سُنَّةٍ، وَتَرَكَهُ لِذَلِكَ. فَيَبْقَى كَأَنَّهُ اعْتَقَدَ السُّنَّةَ الَّتِي سَنّهَا الرَّسُولُ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] غَيْرَ سُنَّةٍ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَمُعَانِدٌ لِمَا سَنَّهُ، أَوْ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَرْكُهُ لَهُ7 كَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي قَلْبِهِ مَا لا يُرِيدُهُ الرَّسُولُ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]8.
ـــــــ
1 في ش: بحجّ.
2 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص64.
3 رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد من حديث طويل عن أنس، ورواه مسلم وأبو داود والدارمي عن عائشة.. وأوله: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته..." والمراد بالسنة: الطريقة، والرغبة عن السنة: الإعراض عنها، وأراد صلى الله عليه وسلم أن التارك لهديه القويم، المائل إلى الرهبانية خارج عن الاتباع، أو معناه: من تركها إعراضاً عنها، غير معتقد لها على ما هي عليه. "انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي 3/ 237، صحيح مسلم 2/ 102، نيل الأوطار 6/ 113، 117، سنن النسائي 6/ 50، مسند أحمد 3/ 241، سنن الدارمي 2/ 133".
4 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص64.
5 في ب: اعتقده.
6 في ب: غيره.
7 ساقطة من ش.
8 انظر: شرح الورقات ص26.(1/421)
"فَصْلٌ":"الْمُبَاحُ لُغَةً: الْمُعْلَنُ وَالْمَأْذُونُ".
قَالَ فِي الْبَدْرِ1 الْمُنِيرِ: "بَاحَ الشَّيْءُ بَوْحًا - مِنْ بَابِ قَالَ- ظَهَرَ، وَيَتَعَدَّى بِالْحَرْفِ، فَيُقَالُ: بَاحَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَبِالْهَمْزَةِ أَيْضًا، فَيُقَالُ: أَبَاحَهُ، وَأَبَاحَ الرَّجُلُ مَالَهُ: أَذِنَ فِي الأَخْذِ2 وَالتَّرْكِ، وَجَعَلَهُ مُطْلَقَ الطَّرَفَيْنِ، وَاسْتَبَاحَهُ النَّاسُ: أَقْدَمُوا3 عَلَيْهِ"4.
"وَشَرْعًا" أَيْ وَ5 فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "مَا" أَيُّ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ "خَلا مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ".
فَخَرَجَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ: لأَنَّ كُلاًّ مِنْ الأَرْبَعَةِ لا يَخْلُو مِنْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، إمَّا فِي الْفِعْلِ، وَإِمَّا6 فِي التَّرْكِ.
وَقَوْلُهُ "لِذَاتِهِ"7 مُخْرِجٌ لِمَا تَرَكَ بِهِ حَرَامًا. فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْحَرَامِ، وَمُخْرِجٌ أَيْضًا لِمَا تَرَكَ بِهِ وَاجِبًا، فَإِنَّهُ يُذَمُّ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، فَلا يَكُونُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ لِذَاتِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ8.
ـــــــ
1 كذا في جميع النسخ، والصواب: المصباح.
2 في ش: الأخذ منه.
3 في ز: قدموا.
4 المصباح المنير 1/ 105، وانظر: القاموس المحيط 1/ 224.
5 ساقطة من ع.
6 في ع: أو.
7 في ش "لذاته"، مما يشعر أنها من الشرع وليست من المتن.
8 انظر في تعريف المباح، "الحدود للباجي ص55-56، نهاية السول 1/ 61، جمع الجوامع 1/ 83، إرشاد الفحول ص6، المستصفى 1/ 66، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، الإحكام، الآمدي 1/ 133، تيسير التحرير 2/ 225، المسودة ص557، الروضة ص21، مختصر الطوفي ص29، شرح تنقيح الفصول ص71".(1/422)
"وَهُوَ" أَيْ وَ1 الْمُبَاحُ "وَوَاجِبٌ نَوْعَانِ" مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ جِنْسٍ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ "لِلْحُكْمِ" مَجَازًا2.
وَقِيلَ: إنَّ الْمُبَاحَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهِ بِأَنَّ الْمُبَاحَ وَالْوَاجِبَ مَأْذُونٌ فِيهِمَا. وَاخْتَصَّ الْوَاجِبُ بِفَصْلِ3 "الْمَنْعِ مِنْ التَّرْكِ"، وَالْمَأْذُونُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْمُبَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ4. فَيَكُونُ جِنْسًا5 لَهُ6.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ فَصْلَ7 الْمُبَاحِ، لأَنَّ الْمُبَاحَ لَيْسَ هُوَ الْمَأْذُونُ8 فَقَطْ9، بَلْ الْمَأْذُونُ مَعَ عَدَمِ الْمَنْعِ مِنْ التَّرْكِ، وَالْمَأْذُونُ بِهَذَا الْقَيْدِ: لا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، بَلْ يَكُونُ مُبَايِنًا لِلْوَاجِبِ10.
قَالَ الأَصْفَهَانِيُّ11 فِي "شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ": وَالْحَقُّ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ. وَذَلِكَ
ـــــــ
1 ساقطة من ش ض.
2 انظر: مختصر ابن الحاجب وشرح العضد 2/ 6، الإحكام للآمدي 1/ 125، المستصفى 1/ 73، تيسير التحرير 2/ 228، المحلي على جمع الجوامع 1/ 172، فواتح الرحموت 1/ 113.
3 في ش: بفعل. وانظر: الإحكام: 1/ 125.
4 في ز: وغيره بل يكون مبيناً للواجب.
5 في ش: جنسياً.
6 انظر: شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 6، الإحكام، للآمدي 1/ 125، المستصفى 1/ 73، تيسير التحرير 2/ 227، المحلي على جمع الجوامع 1/ 172، فواتح الرحموت 1/ 113.
7 في ش: فعل.
8 في ب: فصل المأذون.
9 في ز: فقط فلا شك أنه مشترك بين الواجب وغيره فيكون جنساً.
10 انظر: شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 7، الإحكام للآمدي 1/ 125، المستصفى 1/ 74، تيسير التحرير 2/ 228.
11 هو محمد بن محمود بن محمد بن عباد العجلي، الملقب بشمس الدين الأصفهاني، أبو عبد الله، ولد بأصفهان ثم رحل إلى بغداد فتعلم فيها، ودرس بمصر، وتولى القضاء فيها، وكان =(1/423)
لأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْمُبَاحِ الْمَأْذُونُ فَقَطْ، فَلا شَكَّ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، فَيَكُونُ جِنْسًا. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُبَاحِ الْمَأْذُونُ، مَعَ عَدَمِ الْمَنْعِ مِنْ التَّرْكِ، فَلا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ نَوْعًا مُبَايِنًا لِلْوَاجِبِ، 1 وَلا يَكُونُ 1 جِنْسًا2.
"وَلَيْسَ" الْمُبَاحُ "مَأْمُورًا بِهِ" عِنْدَ الأَرْبَعَةِ3. وَخَالَفَ الْكَعْبِيُّ4 وَمَنْ تَبِعَهُ5.
وَجْهُ قَوْلِ الأَرْبَعَةِ: أَنَّ الأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ تَرْجِيحَ الْفِعْلِ، 6 وَلا تَرْجِيحَ فِي 6 الْمُبَاحِ7.
ـــــــ
= إماماً متكلماً فقيهاً أصولياً أدبياً شاعراً، منطقياً ورعاً متديناً كثير العبادة والمراقبة، صنف في المنطق والخلاف وأصول الفقه، شرح "المحصول" للإمام الرازي، وهو شرح حافل، وله "غاية المطلب" في المنطق، وكتاب "القواعد" في العلوم الأربعة: علم أصول الفقه وأصول الدين والخلاف والمنطق، وشرح "مختصر ابن الحاجب" وشرح "الطوالع والتجريد" في علم الكلام، وشرح "منهاج الأصول" للبيضاوي في الأصول، توفي سنة 688هـ بالقاهرةز انظر ترجمته في "طبقات الشافعية الكبرى 7/ 100، شذرات الذهب 5/ 406، الفتح المبين 2/ 90، فهارس المكتبة الأحمدية بتونس، حسن المحاضرة 1/ 542، بغية الوعاة 1/ 240".
1 في ش ع ب ض: فلم يكن.
2 وهذا ما ايده الامدي فقال: "وعلى كل تقدير فالمسألة لفظية، وهي محل الاجتهاد، "الإحكام 1/ 126" وهو رأي ابن عبد الشكور أيضاً. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 113".
3 انظر: المستصفى 1/ 74، تيسير التحرير 2/ 226، الإحكام، الآمدي 1/ 124، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 6، الروضة ص23، مختصر الطوفي ص29، نهاية السول 1/ 140، مناهج العقول 1/ 140، المحلي على جمع الجوامع 1/ 172، فواتح الرحموت 1/ 113.
4 هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعْبي، البلْخي، أبو القاسم، وهو رأس طائفة من المعتزلة، تسمى الكعبية، له آراء خاصة في علم الكلام والأصول، وله مؤلفات في علم الكلام، توفي سنة 319هـ. وقال ابن خلكان وابن كثير: 317هـ. "انظر: وفيات الأعيان 2/ 248، شذرات الذهب 2/ 281، البداية والنهاية 11/ 284، الفتح المبين 1/ 170".
5 في ش: وافقه وتبعه.
6 في ش: لا ترجيح.
7 انظر: شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 7، الإحكام، للأمدي 1/ 125، المستصفى 1/ 74، تيسير التحرير 2/ 228.(1/424)
قَالَ ابْنُ الْعِرَاقِيِّ: وَمِنْ الْعَجَبِ 1 مَا حُكِيَ عَنْ الْكَعْبِيِّ وَ 1 إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ بُرْهَانٍ وَالآمِدِيِّ2: مِنْ إنْكَارِ الْمُبَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُ لا وُجُودَ لَهُ أَصْلاً، وَهُوَ خِلافُ الإِجْمَاعِ3.
"وَلا مِنْهُ" أَيْ مِنْ الْمُبَاحِ "فِعْلُ غَيْرِ مُكَلَّفٍ"4 قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ،
ـــــــ
1 في ز: ما حكى الكعبي عن. وفي ع ب ض/ ما حكى عن الكعبي.
2 قال الآمدي: "وقد اعترض عليه "على الكعبي" من لا يعلم غور كلامه"، ثم قال: "وبالجملة وإن استبعده من استبعده فهو في غاية الغوص والإشكال، وعسى أن يكون عند غيري حله" "الإحكام 1/ 124، 135"، وقد اعتبر ابن السبكي والمحلي وابن الحاجب أن الخلاف لفظي بناء على توجيه الكعبي لمذهبه "جمع الجوامع، والمحلي عليه 1/ 173، مختصر ابن الحاجب 1/ 6" وانظر: تيسير التحرير 2/ 227، نهاية السول 1/ 142، وقال المجد بن تيمية: "وقوّي ابنْ بَرْهان مذهبه "الكعبي" بناء على تقدير صحة من قال: إن النهي عن الشيء ذي الأضداد أمر بواحد منها، ورد الجوني عليه هذا الأصل، وهذا لا إشكال فيه" "المسودة ص65".
3 أجمعت الأمة على انقسام الأحكام الشرعية إلى إيجاب وندب وإباحة وكراهية وتحريم، فمنكر المباح يكون خارقاً للإجماع، وأوَّل الكعبي الإجماع بأنه إجماع على وجود المباح باعتبار الفعل في ذاته، مع قطع النظر عما يستلزمه ويحصل به: من ترك حرام، أما ما يلزم عن الفعل من ترك حرام فلا إجماع فيه.
واحتج الكعبي بأن كل فعل يوصف بالإباحة يكون وسيلة لترك الحرام، وذلك بالاشتغال به، وترك الحرام واجب، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وردّ عليه: بأن المباح ليس هو نفس ترك الحرام، وإنما هو شيء يترك به الحرام، مع إمكان ترك الحرام بغيره، فهو أخص من ترك الحرام، وأنَّ كلام الكعبي يترتب عليه أن يكون المندوب واجباً، لأنه يشغل به عن الحرام، وأن يكون الحرام واجباً، إذا شغل به عن حرام آخر، وأن يكون الواجب حراماً إذا شغل به عن واجب آخر.
"انظر: المسودة ص65، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 6، الإحكام، الآمدي 1/ 124، تيسير التحرير 2/ 226، نهاية السول 1/ 142، المستصفى 1/ 74، فواتح الرحموت 1/ 114".
4 هذا الحكم فرع عن أصل مختلف فيه بين أهل السنة والمعتزلة، وهو: هل المباح حكم شرعي؟ قالت المعتزلة: الإجابة ليست حكماً شرعياً، بل حكم عقلي، لأن المباح ما انتفى الحرج =(1/425)
فَإِنَّهُ قَالَ: "الْمُبَاحُ هُوَ1 كُلُّ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لِفَاعِلِهِ، لا ثَوَابَ لَهُ عَلَى فِعْلِهِ وَلا عِقَابَ فِي تَرْكِهِ".
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: "فِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ فِعْلِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ2.
"وَيُسَمَّى" الْمُبَاحُ "طِلْقًا وَحَلالاً"3.
قَالَ فِي "الْقَامُوسِ": "الطِّلْقُ: الْحَلالُ"4.
وَقَالَ5 فِي الْبَدْرِ6 الْمُنِيرِ: "وَشَيْءٌ طِلْقٌ - وِزَانُ حِمْلٍ- أَيْ حَلالٌ7. وَافْعَلْ هَذَا طَلْقًا لَكَ: أَيْ حَلالاً8، وَيُقَالُ: الطِّلْقُ الْمُطْلَقُ، الَّذِي يَتَمَكَّنُ
ـــــــ
= عن فعله وتركه، وذلك ثابت قبل ورود الشرع، ومستمر بعده، فلا يكون حكماً شرعياً، ومعنى إباحة الشيء تركه على ما كان قبل الشرع، وقال أهل السنة، الإباحة حكمٌ شرعيٌ، وهي خطاب الله تعالى بتخيير المكلف بين الفعل وبين الترك مطلقاً، أو خطاب الله تعالى بعدم المدح والذم على فاعله مطلقاً، أو لا ثواب على فعله، ولا عقاب على تركه، وبناء على ذلك فالخطاب موجه إلى المكلفين، أما غير المكلف فلا يوصف فعله بالإباحة، وهذا الاختلاف مع المعتزلة متفرع عن الاختلاف معهم في الحسن والقبيح، ولذلك قال المصنف سابقاً "ص 307": "الحسن ما لفاعله، وعكسه"، ثم قال: "ولا يوصف فعل غير مكلف من صغير ومجنون بحسن ولا قبح". "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص64، الإحكام، للآمدي 1/ 124، الروضة ص21، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 2/ 6، شرح تنقيح الفصول ص70، نهاية السول 1/ 63"، وسيذكر الاختلاف مع المعتزلة في ذلك ص428.
1 ساقطة من ش.
2 المسودة ص577.
3 انظر: إرشاد الفحول ص6، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، نهاية السول 1/ 63.
4 القاموس المحيط 3/ 267.
5 في ع: قال.
6 كذا في ش ز ع ب ض د: والصواب: المصباح.
7 في ش: حلال، ويقال: الطلق المطلق.
8 في ز ع: حلالا لك.(1/426)
صَاحِبُهُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، فَيَكُونُ: فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِثْلُ: الذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ. وَأَعْطَيْته مِنْ طِلْقِ مَالِي: أَيْ مِنْ حِلِّهِ1، أَوْ مِنْ مُطْلَقِهِ2". انْتَهَى.
"وَيُطْلَقُ" مُبَاحٌ "وَحَلالٌ عَلَى غَيْرِ الْحَرَامِ"3، فَيَعُمُّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمَكْرُوهَ وَالْمُبَاحَ4، لَكِنَّ الْمُبَاحَ يُطْلَقُ عَلَى الثَّلاثَةِ، وَالْحَلالَ عَلَى الأَرْبَعَةِ. فَيُقَالُ لِلْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ: مُبَاحٌ5. وَيُقَالُ لِهَذِهِ الثَّلاثَة، وَلِلْمُبَاحِ6: حَلالٌ، لَكِنْ إطْلاقُ الْمُبَاحِ عَلَى مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ هُوَ الأَصْلُ7. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً} 8.
قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: "وَسَلَكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ فِي تَقْسِيمِ الْحُكْمِ، فَقَالَ: الْحُكْمُ قِسْمَانِ: تَحْرِيمٌ وَإِبَاحَةٌ"9.
وَفِي "تَعْلِيقَةِ" الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: إنَّهَا ثَلاثَةٌ: إيجَابٌ، وَحَظْرٌ، وَإِبَاحَةٌ".
"وَالإِبَاحَةُ: إنْ أُرِيدَ بِهَا خِطَابُ" الشَّرْعِ "فَـ" ـهِيَ "شَرْعِيَّةٌ، وَإِلاَّ"
ـــــــ
1 في ش: جله.
2 المصباح المنير 2/ 575.
3 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص64، شرح تنقيح الفصول ص70.
4 في ش: والمباح، ويقال لهذه الثلاثة.
5 وقد وردت السنة في ذلك، روى أبو داود وابن ماجة والحاكم عن ابن عمر رصي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" . فالطلاق من الحلال الجائز الفعل ولكنه من أشد المكروهات. "انظر: شرح تنقيح الفصول ص71، سنن ابي داود 2/ 343، سنن ابن ماجة 1/ 650، المستدرك 2/ 196".
6 في ز: والمباح.
7 انظر: شرح تنقيح الفصول ص71.
8 الآية 59 من يونس.
9 انظر: شرح تنقيح الفصول ص70.(1/427)
أَيْ وَإِنْ لَمْ يُرَدْ بِهَا ذَلِكَ لِتَحَقُّقِهَا قَبْلَ الشَّرْعِ "فَعَقْلِيَّةٌ" وَهَذَا الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ1.
وَخَالَفَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ. فَقَالُوا: الْمُبَاحُ مَا اقْتَضَى نَفْيَ الْحَرَجِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ قَبْلَ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ2.
قَالَ الأَصْفَهَانِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ النِّزَاعَ فِيهِ لَفْظِيٌّ. فَإِنْ أُرِيدَ بِالإِبَاحَةِ عَدَمُ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ: فَلَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، لأَنَّهُ قَبْلَ الشَّرْعِ مُتَحَقِّقٌ وَلا حُكْمَ قَبْلَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا3 الْخِطَابُ الْوَارِدُ مِنْ الشَّرْعِ بِانْتِفَاءِ الْحَرَجِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، فَهِيَ مِنْ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ4.
"وَتُسَمَّى" الإِبَاحَةُ "شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، أَوْ" بِمَعْنَى "الإِذْنِ" قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ5.
وَقَالَ الْمُوَفَّقُ فِي "الرَّوْضَةِ" - لَمَّا قَسَّمَ الأَفْعَالَ-: "وَقِسْمٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِدَلِيلٍ مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ6 طَلَبُ فِعْلٍ وَلا تَرْكٍ. فَالْمُكَلَّفُ بِهِ مُخَيَّرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لا حُكْمَ لَهُ7".
"وَالْجَائِزُ8 لُغَةً: الْعَابِرُ".
ـــــــ
1 انظر: الروضة ص21، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 2/ 6، شرح تنقيح الفصول ص70، تيسير التحرير 2/ 225، المسودة ص36، المستصفى 1/ 75، الإحكام، الآمدي 1/ 124، نهاية السول 1/ 63، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، مختصر الطوفي ص19.
2 المراجع السابقة.
3 في ش: بالإباحة عدم الفعل عن الحرج.
4 وهذا ما صرح به الآمدي "الإحكام، له 1/ 124" وانظر: المسودة ص36، المستصفى 1/ 75.
5 انظر: المسودة ص36-37.
6 كذا في الروضة، وفي ش: به، وساقطة من ز ع ب ض.
7 الروضة ص22، وانظر: المستصفى 1/ 75.
8 ذكر المصنف الجائز بعد المباح، لأن المباح اسم من أسماء الجائز "شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 6".(1/428)
قَالَ فِي الْبَدْرِ1 الْمُنِيرِ: "جَازَ الْمَكَانَ يَجُوزُهُ جَوْزًا وَجَوَازًا. سَارَ فِيهِ، وَأَجَازَهُ بِالأَلِفِ: قَطَعَهُ، وَأَجَازَهُ أَنْفَذَهُ، وَجَازَ الْعَقْدُ وَغَيْرُهُ: نَفَذَ2 وَمَضَى عَلَى الصِّحَّةِ. وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ أَمْضَيْتُهُ. وَجَعَلْته جَائِزًا نَافِذًا"3.
"وَ" الْجَائِزُ "اصْطِلاحًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ الْفُقَهَاءِ: "يُطْلَقُ عَلَى مَا لا يَمْتَنِعُ شَرْعًا، فَيَعُمُّ غَيْرَ الْحَرَامِ4" مُبَاحًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا، أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مَكْرُوهًا.
"وَ" يُطْلَقُ الْجَائِزُ فِي عُرْفِ الْمَنْطِقِيِّينَ عَلَى مَا لا يَمْتَنِعُ "عَقْلاً"5، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُمْكِنِ الْعَامِّ "فَيَعُمُّ كُلَّ مُمْكِنٍ".
"وَهُوَ" أَيْ وَالْمُمْكِنُ "مَا جَازَ وُقُوعُهُ حِسًّا" أَيْ مَا جَازَ أَنْ يَقَعَ وُقُوعًا يُدْرَكُ بِإِحْدَى الْحَوَاسِّ "أَوْ وَهْمًا" يَعْنِي أَوْ مَا جَازَ أَنْ يَقَعَ فِي الْوَهْمِ "أَوْ شَرْعًا" يَعْنِي أَوْ مَا جَازَ أَنْ يَقَعَ فِي الشَّرْعِ6.
"وَ" يُطْلَقُ الْجَائِزُ أَيْضًا "عَلَى مَا اسْتَوَى فِيهِ الأَمْرَانِ شَرْعًا كَمُبَاحٍ، وَ" عَلَى مَا اسْتَوَى فِيهِ الأَمْرَانِ "عَقْلاً7، كَفِعْلِ صَغِيرٍ".
ـــــــ
1 كذا في جميع النسخ، والصواب: المصباح.
2 في ع: نفذه.
3 المصباح المنير 1/ 180، وانظر: القاموس المحيط 2/ 176.
4 انظر تعريف الجائز في الاصطلاح الشرعي في "الحدود للباجي ص59، المدخل إلى مذهب أحمد ص65، المسودة ص577، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 6، الإحكام، للآمدي 1/ 126، تيسير التحرير 2/ 225".
5 أي سواء كان واجباً أو راجحاً أو متساوي الطرفين أو مرجوحاً. "انظر: شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 6".
6 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص65.
7 ما استوى فيه الأمران شرعاً وعقلاً عند المخْبر بجوازه وبالنظر إلى عقله، وإن كان أحدهما في نفس الأمر واجباً أو راجحاً. "انظر: حاشية التفتازاني على العضد 2/ 6".(1/429)
"وَ" يُطْلَقُ الْجَائِزُ أَيْضًا "عَلَى مَشْكُوكٍ فِيهِ فِيهِمَا" أَيْ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ1 "بِالاعْتِبَارَيْنِ"2.
وَالأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْخَمْسَةُ لَهَا نَظَائِرُ مِنْ الأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ، نَظِيرُ3 الْوَاجِبِ الشَّرْعِيِّ: ضَرُورِيُّ الْوُجُودِ4، وَهُوَ الْوَاجِبُ عَقْلاً، وَنَظِيرُ الْمُحَرَّمِ: الْمُمْتَنِعُ، وَنَظِيرُ الْمَنْدُوبِ: الْمُمْكِنُ الأَكْثَرِيُّ، وَنَظِيرُ الْمَكْرُوهِ: الْمُمْكِنُ الأَقَلِّيُّ، وَنَظِيرُ الْمُبَاحِ: الْمُمْكِنُ الْمُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ.
"وَلَوْ نُسِخَ وُجُوبُ" فِعْلٍ "بَقِيَ الْجَوَازُ" فِيهِ "مُشْتَرَكًا بَيْنَ نَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ"5 فَيَبْقَى6 الْفِعْلُ إمَّا مُبَاحًا، أَوْ مَنْدُوبًا. لأَنَّ الْمَاهِيَةَ الْحَاصِلَةَ بَعْدَ النَّسْخِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَيْدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: زَوَالُ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الأَمْرِ.
وَالثَّانِي: زَوَالُ الْحَرَجِ عَنْ التَّرْكِ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ النَّاسِخِ.
وَهَذِهِ الْمَاهِيَّةُ صَادِقَةٌ عَلَى الْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، فَلا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِخُصُوصِهِ7. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمَجْدِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَرَجَّحَهُ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعُهُ وَالْمُتَأَخِّرُونَ. وَحُكِيَ عَنْ الأَكْثَرِ8.
ـــــــ
1 انظر استعمال الجائز في معان أخرى في "الحدود للباجي ص59، المسودة ص577".
2 أي باعتبار العقل أو الشرع، وهما استواء الطرفين وعدم الامتناع، يعني في النفس، ولا يجزم بعدمه إذا كان جانب وجوده راجحاً. "انظر: حاشية التفتازاني على العضد 2/ 5، المدخل إلى مذهب أحمد ص65، مختصر ابن الحاجب 2/ 5، تيسير التحرير 2/ 225".
3 في ش: نظير.
4 في ش: الوجوب.
5 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص65، القواعد والفوائد الأصولية ص163، نهاية السول 1/ 136، مناهج العقول للبدخشي 1/ 136، جمع الجوامع 1/ 174.
6 في ع: فبقي.
7 انظر: نهاية السول 1/ 139، المحلي على جمع الجوامع 1/ 174.
8 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص65، القواعد والفوائد الأصولية ص163، المسودة ص16، نهاية السول 1/ 138.(1/430)
وَقَالَ1 الْقَاضِي فِي "الْعُدَّةِ"، وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي "التَّمْهِيدِ"، وَابْنُ عَقِيلٍ فِي "الْوَاضِحِ"، وَابْنُ حَمْدَانَ فِي "الْمُقْنِعِ". يَبْقَى النَّدْبُ2، لأَنَّ الْمُرْتَفِعَ: التَّحَتُّمُ3 بِالطَّلَبِ، فَإِذَا زَالَ التَّحَتُّمُ، بَقِيَ أَصْلُ الطَّلَبِ، وَهُوَ النَّدْبُ، فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَنْدُوبًا4.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ، فَذَهَبَتْ5 طَائِفَةٌ: إلَى أَنَّ الْخِلافَ لَفْظِيٌّ، مِنْهُمْ: ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ6، وَالْهِنْدِيُّ، لأَنَّا إنْ7 فَسَّرْنَا الْجَوَازَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ، فَلا شَكَّ أَنَّهُ
ـــــــ
1 في ش: وقاله.
2 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص65، جمع الجوامع 1/ 175.
3 في ع: تحتم.
4 نقل ابن بدران قولا ثالثاً، ورجحه، فقال: وقيل: تبقى الإباحة، وهو مثل القول بالجواز. وهو المختار "المدخل إلى مذهب أحمد ص65". وذهب القاضي أبو يعلى وأبو محمد التميمي، واختاره ابن برْهان والإمام الغزالي والحنفية، إلى أنه لا يدل على الندب أو الإباحة، وإنما يرجع إلى ماكان عليه من البراءة الأصلية، أو الإباحة، أو التحريم، لأن اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز، وإنما الجواز تبع، للوجوب، إذ لا يجوز أن يكون واجباً لا يجوز فعله، فإذا نسخ الوجوب وسقط، سقط التابع له، وهو نظير قول الفقهاء، إذا بطل الخصوص بقي العموم. "وانظر: القواعد والفوائد الأصولية ص163، المسودة ص16، المستصفى 1/ 73، نهاية السول 1/ 136، 140، مناهج العقول 1/ 136، المدخل إلى مذهب أحمد ص56".
5 في ز: فذهب.
6 هو عبد الله بن محمد بن أحمد، الشريف الحسني، أبو محمد، الإمام العلامة المحقق الحافظ الجليل المتفنن المتقن، أبن الإمام العلامة الجحة النظار أبي عبد الله الشريف التلمساني إمام وقته بلا مدافع، وكان أبوه محمد من أكابر علماء تلمسان ومحققيهم كأبيه، ولد سنة 748هـ فنشأ على عفة وصيانة وجدِّ، مرضي الأخلاق، محمود الأحوال، موصوفاً بالنبل والفهم والحذق والحرص على طلب العلم، أخذ عن أبيه، وتوفي غريقاً سنة 792هـ أثناء انصرافه من مالقة إلى تلمسان. "انظر: نيل الابتهاج ص150، شجرة النور الزكية ص234، الفكر السامي، للحجوري 4/ 83"، وفي ش: التلمساني.
7 ساقطة من ش.(1/431)
جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ، فَإِذَا1 رُفِعَ الْوُجُوبُ وَحْدَهُ، فَلا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُهُ. وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالأَعَمِّ2، أَوْ بِالإِبَاحَةِ، أَوْ بِالنَّدْبِ: فَخَاصَّتُهَا فِي خَاصَّةِ الْوُجُوبِ. فَلَيْسَ شَيْءٌ3 مِنْهَا جِنْسًا لِلْوُجُوبِ. فَإِذَا رُفِعَ الْوُجُوبُ لا يُوجَدُ إلاَّ بِدَلِيلٍ يَخُصُّهَا فَلا نِزَاعَ، لأَنَّ الأَقْوَالَ لَمْ تَتَوَارَدْ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ يَخُصُّهَا4.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الَّذِي يُعِيدُ5 الْحَالَ إلَى6 مَا كَانَ قَبْلَ الإِيجَابِ: مِنْ إبَاحَةٍ، أَوْ تَحْرِيمٍ، أَوْ كَرَاهَةٍ7، غَيْرُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ حُدُوثِ الإِيجَابِ بَعْدَ ذَلِكَ: أَنْ تَبْقَى إبَاحَةٌ8 شَرْعِيَّةٌ، أَوْ نَدْبٌ كَمَا قُرِّرَ، حَتَّى يُسْتَدَلَّ أَنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ بِذَلِكَ الأَمْرِ الَّذِي نُسِخَتْ خَاصَّةُ التَّحَتُّمِ9 بِهِ، وَبَقِيَّةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ10 بَاقِيَةٌ، فَلا يَكُونُ الْخِلافُ لَفْظِيًّا، بَلْ مَعْنَوِيًّا11، لأَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ مَجِيءِ أَمْرِ الإِيجَابِ حَرَامًا، وَأُعِيدَ الْحَالُ إلَى ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا. وَمَنْ يَقُولُ: يَبْقَى12 الْجَوَازُ، لا يَكُونُ حَرَامًا.
ـــــــ
1 في ز ع: وإذا.
2 أي بالمعنى الأعم: وهو الإذن بالفعل "انظر: مناهج العقول 1/ 137"، وفي ع ب ز ض: بالإباحة أو بالأعم.
3 في ع: في شيء.
4 ساقطة من ز ع ض.
5 في ش: يفيد.
6 في ع: على.
7 هذا الجواب بناء على القول الذي ذكرناه سابقاً في "ص431 هامش 4" عن القاضي أبي يعلى وأبي محمد التميمي وابن برهان والغزالي والحنفية بعودة الباقي إلى أصله قبل ورود الشرع.
8 في ع: اباحته.
9 في ش: التحريم.
10 في ش ز ع ب: تضمنه.
11 انظر: نهاية السول 1/ 138.
12 في ش: ينفي.(1/432)
"وَلَوْ صُرِفَ نَهْيٌ عَنْ تَحْرِيمِ" شَيْءٍ "بَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ" فِيهِ "حَقِيقَةً" عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ1.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي "الْمُسَوَّدَةِ": "إذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ2 لَيْسَ لِلْفَسَادِ، لَمْ يَكُنْ مَجَازًا، لأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ جَمِيعِ مُوجِبِهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ عَنْ بَعْضِ مُوجِبِهِ، كَالْعُمُومِ الَّذِي خَرَجَ3 بَعْضُهُ، بَقِيَ حَقِيقَةً4 فِيمَا بَقِيَ5، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. قَالَ: وَكَذَا إذَا قَامَتْ الدَّلالَةُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى نَهْيًا حَقِيقَةً عَلَى التَّنْزِيهِ، كَمَا إذَا قَامَتْ دَلالَةُ الأَمْرِ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ"6.
ـــــــ
1 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص56، القواعد والفوائد الأصولية ص193.
2 في ش: الفساد للنهي.
3 كذا في جميع النسخ، وفي المسودة: إذا خرج.
4 كذا في المسودة، وفي ض، وفي بقية النسخ: حقيقته.
5 في د ض: يقي له.
6 المسودة ص84.(1/433)
"فَصْلٌ":"خِطَابُ الْوَضْعِ" فِي اصْطِلاحِ الأُصُولِيِّينَ: "خَبَرٌ" أَيْ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ، بِخِلافِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ "اُسْتُفِيدَ مِنْ نَصْبِ1 الشَّارِعِ2عَلَمًا3 مُعَرِّفًا لِحُكْمِهِ"4.
وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ خِطَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ5 وَفِي كُلِّ وَاقِعَةٍ، بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، حَذَرًا6 مِنْ تَعْطِيلِ أَكْثَرِ الْوَقَائِعِ عَنْ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ7.
وَ8 سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنَّهُ شَيْءٌ وَضَعَهُ اللَّهُ9 فِي شَرَائِعِهِ. أَيْ جَعَلَهُ دَلِيلاً وَسَبَبًا وَشَرْطًا، لا أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَلا أَنَاطَهُ بِأَفْعَالِهِمْ، مِنْ حَيْثُ هُوَ خِطَابُ وَضْعٍ، وَلِذَلِكَ لا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فِي أَكْثَرِ خِطَابِ الْوَضْعِ10، كَالتَّوْرِيثِ وَنَحْوِهِ11.
ـــــــ
1 في ز: نصيب.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: علم.
4 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص65، مختصر الطوفي ص30، التوضيح على التنقيح 3/ 90، تيسير التحرير 2/ 128، المحلي على جمع الجوامع 1/ 86، وفي ض: للحكم.
5 انظر: مختصر الطوفي ص30.
6 في ز: جذارا.
7 قال ابن قدامة: "اعلم أنه لما عسْر على الخلق معرفةٌ خطاب الله تعالى في كل حال أظهر خطابه لهم بأمور محسوسة جعلها مقتضية لأحكامها، على مثال أقتضاء العلة المحسوسة معلولها، وذلك شيئان، أحداهما: العلة، والثاني السبب، ونصبْهما مقتضيين لأحكامهما حكمٌ من الشارع" "الروضة ص30" وانظر: المستصفى 1/ 93، أصول السرخسي 2/ 302.
8 ساقطة من ش ع ب ض.
9 غير موجودة في ش ع ب ض.
10 في ش: العلم لوضع.
11 انظر: تنقيح الفصول ص89-80، الإحكام، للآمدي 1/ 127.(1/434)
قَالَ الطُّوفِيُّ فِي "شَرْحِهِ": وَيُسَمَّى1 هَذَا2 النَّوْعُ خِطَابَ الْوَضْعِ وَالإِخْبَارِ3.
أَمَّا مَعْنَى الْوَضْعِ: فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ - أَيْ شَرَعَ- أُمُورًا، سُمِّيَتْ أَسْبَابًا وَشُرُوطًا وَمَوَانِعَ، يُعْرَفُ عِنْدَ وُجُودِهَا أَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنْ إثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ. فَالأَحْكَامُ تُوجَدُ بِوُجُودِ الأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ، وَتَنْتَفِي4 بِوُجُودِ الْمَانِعِ وَانْتِفَاءِ الأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ.
وَأَمَّا مَعْنَى الإِخْبَارِ: فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ بِوَضْعِ هَذِهِ الأُمُورِ: أَخْبَرَنَا بِوُجُودِ أَحْكَامِهِ وَانْتِفَائِهَا، عِنْدَ وُجُودِ تِلْكَ الأُمُورِ5 وَانْتِفَائِهَا. كَأَنَّهُ قَالَ مَثَلاً: إذَا وُجِدَ النِّصَابُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْحَوْلُ الَّذِي هُوَ شَرْطُهُ، فَاعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت عَلَيْكُمْ أَدَاءَ الزَّكَاةِ، وَإِنْ وُجِدَ الدَّيْنُ الَّذِي هُوَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِهَا، أَوْ انْتَفَى السَّوْمُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِوُجُوبِهَا فِي السَّائِمَةِ. فَاعْلَمُوا أَنِّي لَمْ أُوجِبْ عَلَيْكُمْ الزَّكَاةَ. وَكَذَا الْكَلامُ فِي الْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَغَيْرِهَا، بِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ أَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا وَعَكْسِهِ"6. انْتَهَى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ خِطَابِ الْوَضْعِ وَخِطَابِ التَّكْلِيفِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ هُوَ قَضَاءُ الشَّرْعِ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مَانِعًا، وَخِطَابِ التَّكْلِيفِ: لِطَلَبِ أَدَاءِ مَا تَقَرَّرَ7 بِالأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش، وفي ب ض: وسمي.
2 في ش: وهذا.
3 وهو تسمية المجد بن تيمية "المسودة ص80".
4 في ز ب: وتنفى.
5 في د ض: أو.
6 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص65، المسودة ص80.
7 في ز: قرر.(1/435)
وَالْمَوَانِعِ1.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ: أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ وَكَوْنُهُ مِنْ كَسْبِهِ2، كَالصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا، عَلَى مَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ3. وَأَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ: فَلا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ مَا اُسْتُثْنِيَ4.
أَمَّا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ: فَكَالنَّائِمِ يُتْلِفُ شَيْئًا حَالَ نَوْمِهِ، وَالرَّامِي إلَى صَيْدٍ فِي ظُلْمَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، فَيَقْتُلُ إنْسَانًا، فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا، وَكَالْمَرْأَةِ تَحِلُّ بِعَقْدِ وَلِيِّهَا عَلَيْهَا، وَتَحْرُمُ بِطَلاقِ زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لا تَعْلَمُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ وَالْكَسْبِ5: فَكَالدَّابَّةِ تُتْلِفُ شَيْئًا، وَالصَّبِيِّ أَوْ6 الْبَالِغِ يَقْتُلُ خَطَأً، فَيَضْمَنُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَالْعَاقِلَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ وَالإِتْلافُ مَقْدُورًا وَلا مُكْتَسَبًا لَهُمْ7.
وَطَلاقُ الْمُكْرَهِ عِنْدَ مَنْ يُوقِعُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ بِمُطْلَقِ الإِكْرَاهِ أَوْ مَعَ الإِلْجَاءِ8.
ـــــــ
1 انظر: تيسير التحرير 2/ 128، حاشية البناني وشرح المحلي على جمع الجوامع 1/ 84، الفروق 1/ 116.
2 انظر: أدلة ذلك في "شرح تنقيح الفصول ص78، وما بعدها، الفروق 1/ 161".
3 لم يسبق للمصنف ذكر شروط التكليف، لكنه ذكرها فيما بعد في فصل التكليف.
4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص78، التمهيد ص25.
5 في ز: على الكسب.
6 في ز: و.
7 انظر: الفروق 1/ 162.
8 إذا كان الإكراه بحق فقد اتفق الفقهاء على وقوع الطلاق، كما إذا أكرهه الحاكم على الطلاق، أما إذا كان الإكراه بغير حق، فقال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة بعدم وقوع الطلاق، لاشتراط القصد فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا =(1/436)
وَإِلَى ذَلِكَ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ:
"وَلا يُشْتَرَطُ لَهُ تَكْلِيفٌ، وَلا كَسْبٌ، وَلا عِلْمٌ، وَلا قُدْرَةٌ"1.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ قَاعِدَتَانِ:
أُشِيرَ إلَى الأُولَى مِنْهُمَا2 بِقَوْلِهِ: "إلاَّ سَبَبَ عُقُوبَةٍ"3 كَالْقِصَاصِ. فَإِنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى مُخْطِئٍ فِي الْقَتْلِ، لِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَحَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى مِنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ، لِعَدَمِ الْعِلْمِ أَيْضًا، وَلا عَلَى مَنْ أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الامْتِنَاعِ؛ إذْ الْعُقُوبَاتُ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تُنْتَهَكُ بِهَا حُرْمَةُ الشَّرْعِ، زَجْرًا عَنْهَا وَرَدْعًا، وَالانْتِهَاكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالاخْتِيَارِ. وَالْمُخْتَارُ لِلْفِعْلِ: هُوَ الَّذِي إنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَالْجَاهِلُ وَالْمُكْرَهُ قَدْ انْتَفَى ذَلِكَ فِيهِمَا، وَهُوَ شَرْطُ تَحَقُّقِ الانْتِهَاكِ لانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، فَتَنْتَفِي الْعُقُوبَةُ لانْتِفَاءِ سَبَبِهَا.
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: فَأُشِيرَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: "أَوْ" إلاَّ "نَقْلُ مِلْكٍ" كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ. فَلَوْ تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ
ـــــــ
= عليه" رواه ابن ماجة عن ابن عباس مرفوعاً، وصححه ابن حبان، واستنكره أبو حاتم، ورواه ابن عدي وضعفه، ورواه البهقي عن ابن عمر، ورواه الطبراني عن ثوبان، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" ورواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وأحمد عن عائشة مرفوعاً، وقال الحنفية يقع طلاق المكره، لأنهم لا يشترطون الرضا للطلاق، وقالوا: إن الإكراه يزيل الرضا لا الاختيار، والمكره اختار الطلاق دون غيره.
1 انظر: التمهيد ص25، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 85، الفروق 1/ 161.
2 ساقطة من ض.
3 انظر: مختصر الطوفي ص80، شرح تنقيح الفصول ص79، 80، الفروق 1/ 162.(1/437)
نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ مُقْتَضَاهُ، لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا بَيْنَ الْعَرَبِ1، أَوْ عَرَبِيًّا بَيْنَ الْعَجَمِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ: لَمْ يَلْزَمْهُ مُقْتَضَاهُ2.
وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِثْنَاءِ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ: عَدَمُ تَعَدِّي الشَّرْعِ قَانُونَ الْعَدْلِ فِي الْخَلْقِ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَإِعْفَائِهِمْ عَنْ تَكْلِيفِ الْمَشَاقِّ، أَوْ التَّكْلِيفِ بِمَا لا يُطَاقُ، وَهُوَ حَلِيمٌ3.
"وَأَقْسَامُهُ" أَيْ أَقْسَامُ خِطَابِ الْوَضْعِ أَرْبَعَةٌ "عِلَّةٌ، وَسَبَبٌ، وَشَرْطٌ، وَمَانِعٌ".
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": "وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْعِلَّةِ: هَلْ هِيَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَمْ لا؟ قَالَ: فَنَحْنُ تَابَعْنَا 4 بِذِكْرِهَا هُنَا الشَّيْخَ"4 - يَعْنِي الْمُوَفَّقَ- فِي "الرَّوْضَةِ"5، وَالطُّوفِيَّ6 وَابْنَ قَاضِي الْجَبَلِ"7.
ـــــــ
1 في ش: العجم.
2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص80، الفروق 1/ 162.
3 ويؤيد ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد عن خيفة الرقاشي مرفوعاً: "لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس". "انظر: الفتح الكبير 3/ 359، الفروق 1/ 162، مسند أحمد 5/ 72".
4 في ز: الشيخ بذكرها هنا.
5 الروضة ص30.
6 مختصر الطوفي ص31.
7 أن الاختلاف في اعتبار العلة من خطاب الوضع أم لا يعود إلى اختلاف العلماء في العلاقة بين العلة والسبب، فقال بعض العلماء، إنهما بمعنى واحد. وقال آخرون: إنهما متغايران، وخصوا العلة بالأمارة المؤثرة التي تظهر فيها المناسبة بينهما وبين الحكم، وخصوا السبب بالإمارة غير المؤثرة في الحكم، وقال أكثر العلماء: إن السبب أعم من العلة مطلقاً، فكل علة سبب ولا عكس، وأن السبب يشمل الأسباب التي ترد في المعاملات والعقوبات، ويشمل العلة التي تدرس في القياس، والفرق بينهما أن الصفة التي يرتبط بها الحكم إن كانت لا يدرك أثيرها في الحكم بالعقل، ولا تكون من صنع المكلف، كالوقت للصلاة المكتوبة فتسمى سبباً، أما إذا أدرك العقل تأثير الوصف بالحكم فيسمى علةٌ، ويسمى سبباً، فالسبب يشمل القسمين، وهو أعم من العلة مطلقاً.
قال المحلي –بعد تعريف السبب-: "تنبيهاً على أن المعبر عنه هنا بالسبب، هو المعبر عنه في القياس بالعلة كالزنا لوجوب الجلد، والزوال لوجوب الظهر، والإسكار لحرمة الخمر". "المحلي على جمع الجوامع 1/ 95" وانظر: المستصفى 1/ 94، الموافقات 1/ 179، الحدود للباجي ص72، التوضيح على التنقيح 3/ 91، 118، تيسير التحرير 2/ 128، الإحكام، للآمدي 1/ 128.(1/438)
"وَالْعِلَّةُ أَصْلاً" أَيْ فِي الأَصْلِ "عَرَضٌ مُوجِبٌ لِخُرُوجِ الْبَدَنِ الْحَيَوَانِيِّ عَنْ الاعْتِدَالِ الطَّبِيعِيِّ"1، وَذَلِكَ لأَنَّ الْعِلَّةَ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْمَرَضُ2، وَالْمَرَضُ هُوَ هَذَا الْعَرَضُ الْمَذْكُورُ.
وَالْعَرَضُ فِي اللُّغَةِ: مَا ظَهَرَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ3.
وَفِي اصْطِلاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ: مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، كَالأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْحَرَكَاتِ وَالأَصْوَاتِ.
وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الأَطِبَّاءِ، لأَنَّهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ حَادِثٍ مَا، إذَا قَامَ بِالْبَدَنِ أَخْرَجَهُ عَنْ الاعْتِدَالِ4.
وَقَوْلُنَا: "مُوجِبٌ لِخُرُوجِ الْبَدَنِ": هُوَ إيجَابٌ حِسِّيٌّ، كَإِيجَابِ الْكَسْرِ لِلانْكِسَارِ، وَالتَّسْوِيدِ لِلاسْوِدَادِ. فَكَذَلِكَ الأَمْرَاضُ الْبَدَنِيَّةُ مُوجِبَةٌ لاضْطِرَابِ الْبَدَنِ إيجَابًا مَحْسُوسًا.
وَقَوْلُنَا: "الْبَدَنِ الْحَيَوَانِيِّ": احْتِرَازٌ5 عَنْ النَّبَاتِيِّ وَالْجَمَادِيِّ، فَإِنَّ الأَعْرَاضَ الْمُخْرِجَةَ لَهَا6 عَنْ حَالِ الاعْتِدَالِ - مَا مِنْ شَأْنِهِ الاعْتِدَالُ مِنْهَا-: لا
ـــــــ
1 انظر: مختصر الطوفي ص31، المدخل إلى مذهب أحمد ص66.
2 انظر: المصباح المنير 2/ 652، الصحاح 5/ 1773،القاموس المحيط 4/ 21.
3 انظر: الصحاح 3/ 1082، القاموس المحيط 2/ 347.
4 انظر: التعريفات للجرجاني ص160، كشاف اصطلاحات الفنون 4/ 1036.
5 في ش ع: احترازاً.
6 ساقطة من ش.(1/439)
يُسَمَّى فِي الاصْطِلاحِ عَلِيلاً.
وَقَوْلُنَا "عَنْ الاعْتِدَالِ الطَّبِيعِيِّ": هُوَ إشَارَةٌ إلَى حَقِيقَةِ الْمِزَاجِ، وَهُوَ الْحَالُ الْمُتَوَسِّطَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ تَفَاعُلِ كَيْفِيَّاتِ الْعَنَاصِرِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ. فَتِلْكَ الْحَالُ هِيَ الاعْتِدَالُ الطَّبِيعِيُّ. فَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ التَّوَسُّطِ لِغَلَبَةِ الْحَرَارَةِ1 أَوْ غَيْرِهَا: كَانَ ذَلِكَ هُوَ انْحِرَافُ الْمِزَاجِ، وَانْحِرَافُ الْمِزَاجِ هُوَ الْعِلَّةُ وَالْمَرَضُ وَالسَّقَمُ.
"ثُمَّ اُسْتُعِيرَتْ" الْعِلَّةُ "عَقْلاً" أَيْ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ "لِمَا أَوْجَبَ حُكْمًا عَقْلِيًّا" كَالْكَسْرِ لِلانْكِسَارِ، وَالتَّسْوِيدِ الْمُوجِبِ، أَيْ الْمُؤَثِّرِ لِلسَّوَادِ. "لِذَاتِهِ 2 كَكَسْرٍ لانْكِسَارٍ"2" أَيْ لِكَوْنِهِ كَسْرًا أَوْ3 تَسْوِيدًا، لا4 لأَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ وَضْعِيٍّ أَوْ اصْطِلاحِيٍّ5.
وَهَكَذَا الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ. هِيَ مُؤَثِّرَةٌ لِذَوَاتِهَا بِهَذَا6 الْمَعْنَى. كَالتَّحْرِيكِ7 الْمُوجِبِ لِلْحَرَكَةِ، وَ8 التَّسْكِينِ الْمُوجِبِ لِلسُّكُونِ.
"ثُمَّ" اُسْتُعِيرَتْ الْعِلَّةُ "شَرْعًا" أَيْ مِنْ التَّصَرُّفِ الْعَقْلِيِّ إلَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ9، فَجُعِلَتْ فِيهِ "لِـ" مَعَانٍ ثَلاثَةٍ:
ـــــــ
1 في ش ز: المرارة.
2 ساقطة من ش ز ض.
3 في ع ب: و.
4 ساقطة من ب.
5 انظر: الروضة ص30، مختصر الطوفي ص31، المدخل إلى مذهب أحمد ص66.
6 في ش: هذا.
7 في ز ع ب ض: كالتحرك.
8 في ز: أو.
9 سيأتي الكلام مفصلاً على العلة في بحث القياس، وهو المكان الذي تعرض فيه معظم الأصوليين لتعريف العلة وأنواعها وما يتعلق بها.(1/440)
أَحَدُهَا: "مَا أَوْجَبَ حُكْمًا شَرْعِيًّا" أَيْ مَا وُجِدَ عِنْدَهُ الْحُكْمُ "لا مَحَالَةَ" أَيْ قَطْعًا1، "وَهُوَ" الْمَجْمُوعُ "الْمُرَكَّبُ مِنْ مُقْتَضِيهِ" أَيْ من2 مُقْتَضِي الْحُكْمِ. "وَشَرْطِهِ، وَمَحَلِّهِ، وَأَهْلِهِ"3 تَشْبِيهًا بِأَجْزَاءِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ4.
وَذَلِكَ لأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرَهُمْ.قَالُوا: كُلُّ حَادِثٍ لا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ، لَكِنَّ الْعِلَّةَ5:
- إمَّا مَادِّيَّةٌ: كَالْفِضَّةِ لِلْخَاتَمِ، وَالْخَشَبِ لِلسَّرِيرِ.
- أَوْ صُورِيَّةٌ: كَاسْتِدَارَةِ الْخَاتَمِ، وَتَرْبِيعِ السَّرِيرِ.
- أَوْ فَاعِلِيَّةٌ: كَالصَّانِعِ وَالنَّجَّارِ.
- أَوْ غَائِيَّةٌ: كَالتَّحَلِّي بِالْخَاتَمِ، وَالنَّوْمِ عَلَى السَّرِيرِ.
فَهَذِهِ أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ6. وَلَمَّا كَانَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ هُوَ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَةَ "الْعِلَّةِ" بِإِزَاءِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْمُوجِبُ لا مَحَالَةَ: هُوَ مُقْتَضِيهِ وَشَرْطُهُ وَمَحَلُّهُ وَأَهْلُهُ.
مِثَالُهُ: وُجُوبُ الصَّلاةِ، حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَمُقْتَضِيهِ: أَمْرُ الشَّارِعِ بِالصَّلاةِ، وَشَرْطُهُ: أَهْلِيَّةُ الْمُصَلِّي لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إلَيْهِ، بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلاً بَالِغًا، وَمَحَلُّهُ الصَّلاةُ، [وَأَهْلُهُ: الْمُصَلِّي]7.
ـــــــ
1 انظر: مختصر الطوفي ص31، الروضة ص30، المدخل إلى مذهب أحمد ص66، أصول السرخسي 2/ 301.
2 ساقطة من ش ز.
3 مقتضي الحكم: هو المعنى الطالب له، وشرطه: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، ومحله: ما تعلق به، وأهله: هو المخاطب به "المدخل إلى مذهب أحمد ص66".
4 انظر: مختصر الطوفي ص31، المدخل إلى مذهب أحمد ص66.
5 ساقطة من ض.
6 انظر: ص31.
7 زيادة لاستكمال التقسيم والمعنى. "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص66".(1/441)
وَكَذَلِكَ حُصُولُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَمُقْتَضِيهِ: كَوْنُ الْحَاجَةِ دَاعِيَةً إلَيْهِمَا1. وَصُورَتُهُ2: الإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِيهِمَا. وَشَرْطُهُ: مَا ذُكِرَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَمَحَلُّهُ: هُوَ الْعَيْنُ الْمَبِيعَةُ وَالْمَرْأَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَأَهْلِيَّتُهُ: كَوْنُ الْعَاقِدِ صَحِيحَ الْعِبَارَةِ3 وَالتَّصَرُّفِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ: لا فَرْقَ بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالشَّرْطِ وَالْمَحَلِّ وَالأَهْلِ، بَلْ الْعِلَّةُ الْمَجْمُوعُ، وَالأَهْلُ وَالْمَحَلُّ: وَصْفَانِ مِنْ أَوْصَافِهَا4.
وَقَالَ الطُّوفِيُّ فِي "شَرْحِهِ": "قُلْت: الأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُمَا رُكْنَانِ مِنْ أَرْكَانِهَا، لأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمَا جُزْآنِ مِنْ أَجْزَائِهَا. وَرُكْنُ الشَّيْءِ هُوَ جُزْؤُهُ الدَّاخِلُ فِي حَقِيقَتِهِ".
وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذِهِ الأَشْيَاءُ الأَرْبَعَةُ مَجْمُوعُهَا يُسَمَّى عِلَّةً5.
- وَالْمَعْنَى الثَّانِي مِمَّا اُسْتُعِيرَتْ لَهُ الْعِلَّةُ مِنْ التَّصَرُّفِ الْعَقْلِيِّ إلَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ: اسْتِعَارَتُهَا "لِمُقْتَضِيهِ" أَيْ مُقْتَضِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْمَعْنَى الطَّالِبُ لِلْحُكْمِ، "وَإِنْ تَخَلَّفَ" الْحُكْمُ عَنْ مُقْتَضِيهِ "لِمَانِعٍ" مِنْ الْحُكْمِ "أَوْ فَوَاتِ شَرْطِ" الْحُكْمِ6.
مِثَالُهُ: الْيَمِينُ. هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَتُسَمَّى عِلَّةً لِلْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِ أَمْرَيْنِ: الْحَلِفُ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ، وَالْحِنْثُ فِيهَا، لَكِنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَالْحَلِفَ هُوَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي
ـــــــ
1 في د: إليها، وفي ش: إليه.
2 ساقطة من ز.
3 في ش: العبادة.
4 انظر: روضة الناظر ص30، وأضاف ابن قدامة فقال: "أخذاً من العلة العقلية".
5 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص66.
6 انظر: الحدود للباجي ص72، مختصر الطوفي ص31، الروضة ص30، المدخل إلى مذهب أحمد ص66، كشف الأسرار 4/ 171، أصول السرخسي 2/ 302.(1/442)
لَهُ، فَقَالُوا: إنَّهُ عِلَّةٌ. فَإِذَا حَلَفَ الإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ، قِيلَ: قَدْ وُجِدَتْ مِنْهُ عِلَّةُ وُجُوبِ1 الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ لا يُوجَدُ حَتَّى يَحْنَثَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّدِ2 الْحَلِفِ3 انْعَقَدَ سَبَبُهُ4.
وَكَذَلِكَ الْكَلامُ فِي مُجَرَّدِ مِلْكِ النِّصَابِ وَنَحْوِهِ.
وَلِهَذَا لَمَّا انْعَقَدَتْ أَسْبَابُ الْوُجُوب5 مُجَرَّدِ هَذِهِ الْمُقْتَضَيَاتِ جَازَ فِعْلُ الْوَاجِبِ بَعْدَ6 وُجُودِهَا، وَقَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهَا عِنْدَنَا، كَالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ7، وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ8.
وَقَوْلُهُ: "وَإِنْ تَخَلَّفَ لِمَانِعٍ"9 مِثْلِ: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَبًا لِلْمَقْتُولِ، فَإِنَّ الإِيلادَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ10 الْقِصَاصِ. وَكَذَا النِّصَابُ يُسَمَّى عِلَّةً لِوُجُوبِ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: لمجرد.
3 في ش ز ع: الحنث.
4 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص66.
5 في ش: الوجود.
6 في ش ب: بغير.
7 لحديث مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمين، ثم أرى خيراً منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير" "انظر: صحيح مسلم 3/ 1368". وقال الحنفية: لا يجوز التكفير قبل الحنث، لأن اليمين ليس بسبب للكفارة مغنى، والاداء قبل تحقيق السبب لا يجوز. "انظر: أصول السرخسي 2/ 305".
8 وهو من قبيل تعجيل الواجب قبل وقت أدائه، كإخراج كفارة الفطر قبل انتهاء رمضان، واخراج زكاة المال قبل تمام الحول، وإخراج الكفارة قبل الحنث، وتعجيل الأجرة وغيرها، "انظر: نهاية السول 1/ 84، التلويح على التوضيح 2/ 191، 3/ 94، 105، حاشية الجرجاني على ابن الحاجب 1/ 234، أصول السرخسي 2/ 305، الموافقات 1/ 182، 189، الفروق 1/ 196 وما بعدها".
9 في ش: المانع.
10 في ش ع ب ض: وجود.(1/443)
الزَّكَاةِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ وُجُوبُهَا لِوُجُودِ مَانِعٍ كَالدَّيْنِ.
وَقَوْلُهُ: "أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ" مِثْلُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ. فَإِنَّهُ يُسَمَّى عِلَّةً لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ وُجُوبُهُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ، بِأَنْ يكون1 الْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا، وَالْقَاتِلُ حُرًّا أَوْ مُسْلِمًا. وَكَذَا مِلْكُ النِّصَابِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، وَهُوَ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ.
- "وَ" الْمَعْنَى الثَّالِثُ مِمَّا اُسْتُعِيرَتْ لَهُ الْعِلَّةُ مِنْ التَّصَرُّفِ الْعَقْلِيِّ إلَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ: اسْتِعَارَتُهَا "لِلْحِكْمَةِ" أَيْ حِكْمَةِ الْحُكْمِ "وَهِيَ2 الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الْحُكْمُ، كَمَشَقَّةِ سَفَرٍ لِقَصْرٍ وَفِطْرٍ"3.
وَبَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ: أَنَّ حُصُولَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسَافِرِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِتَخْفِيفِ الصَّلاةِ عَنْهُ بِالْقَصْرِ، وَتَخْفِيفِ مَشَقَّةِ الصَّوْمِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ.
"وَ كَـ" وُجُودِ "دَيْنٍ وَأُبُوَّةٍ4 لِمَنْعِ" وُجُوبِ "زَكَاةٍ وَقِصَاصٍ"5.
وَبَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ: أَنَّ انْقِهَارَ مَالِكِ النِّصَابِ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَعْنًى6 مُنَاسِبٌ لإِسْقَاطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَنْهُ، وَكَوْنَ الأَبِ سَبَبًا لِوُجُودِ الابْنِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنْهُ؛ لأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لإِيجَادِهِ لَمْ تَقْتَضِ الْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ سَبَبًا لإِعْدَامِ أَبِيهِ وَهَلاكِهِ7 لِمَحْضِ حَقِّ الابْنِ8.
ـــــــ
1 في ش: كان.
2 في ش: وهو.
3 انظر: مختصر الطوفي ص31، الروضة 30، المدخل إلى مذهب أحمد ص66.
4 في ش: وأبوه.
5 وانظر: مختصر الطوفي ص31، المدخل إلى مذهب أحمد ص66.
6 في ش: مامع.
7 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص66.
8 الحقيقة أن لابن ليس سبب لإعدام والقصاص، وإنما وجود القتل عمداً عدواناً هو السبب =(1/444)
وَاحْتَرَزَ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ أَنَّهُ لا يَمْتَنِعُ رَجْمُهُ إذَا زَنَى بِابْنَتِهِ1، لِكَوْنِ ذَلِكَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دُونَهَا.
"وَ" الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ خِطَابِ الْوَضْعِ "السَّبَبُ".
وَهُوَ "لُغَةً" أَيْ فِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ: "مَا تُوُصِّلَ بِهِ إلَى غَيْرِهِ"2: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: "السَّبَبُ: الْحَبْلُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَمْرٍ مِنْ الأُمُورِ"3. فَقِيلَ: هَذَا سَبَبٌ، وَهَذَا مُسَبَّبٌ عَنْ هَذَا.
"وَشَرْعًا" أَيْ: وَالسَّبَبُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَ" يَلْزَمُ "مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ"4.
فَالأَوَّلُ: احْتِرَازٌ5 مِنْ الشَّرْطِ: فَإِنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ.
وَالثَّانِي: احْتِرَازٌ6 مِنْ الْمَانِعِ7؛ لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلا عَدَمٌ.
ـــــــ
= الموجب للقصاص والإعدام، ولعل سبب منع القصاص أن ولي الدم للابن هو الأب وحده، أو مع غيره، وإذا عفا بعض الأولياء سقط القصاص، قال الشوكاني: "وفي هذا المثال الذي أصبق عليه جمهور أهل الأصول نظر، لأن السبب المقتضي للقصاص هو فعله، لا وجود الابن ولا عدمه، ولا يصح أن يكون ذلك حكمة مانعة للقصاص، ولكنه ورد الشرع بعدم ثبوت القصاص لفرع من أصل، وقيل إن المراد هنا السبب البعيد، فإن الولد سبب يعيد في القتل إذ لولاه ثم يتصور قتله أياه، فله مدخل في القتل، لتوفقه عليه" "إرشاد الفحول ص7" وانظر: حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 98.
1 في ز ب ع: ببنته.
2 انظر: المصباح المنير 1/ 400.
3 الصحاح 1/ 145، وكذا في المصباح المنير 1/ 400.
4 انظر في تعريف السبب "المدخل إلى مذهب أحمد ص67، التعريفات للجرجاني ص121، شرح تنقيح الفصول ص81، جمع الجوامع 1/ 94، مناهج العقول 1/ 68، المستصفى 1/ 94، إرشاد الفحول ص6، التلويح على التوضيح 3/ 102".
5 في ش: احترازاً.
6 في ش: احترازاً.
7 في ش: مما لو قارن المانع.(1/445)
وَالثَّالِثُ: احْتِرَازٌ1 مِمَّا لَوْ قَارَنَ السَّبَبُ فِقْدَانَ الشَّرْطِ، أَوْ2 وُجُودَ الْمَانِعِ. كَالنِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، أَوْ مَعَ وُجُودِ الدَّيْنِ. 3 فَإِنَّهُ لا"3 يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، لَكِنْ لا لِذَاتِهِ، بَلْ لأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الشَّرْطِ وَوُجُودُ الْمَانِعِ4. فَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِ ذَلِكَ لِذَاتِهِ لِلاسْتِظْهَارِ5 عَلَى مَا لَوْ تَخَلَّفَ وُجُودُ الْمُسَبَّبِ مَعَ وُجْدَانِ السَّبَبِ6 لِفَقْدِ شَرْطٍ7 8 أَوْ [وُجُودِ] مَانِعٍ 8، كَمَنْ بِهِ سَبَبُ الإِرْثِ، وَلَكِنَّهُ قَاتِلٌ، أَوْ رَقِيقٌ أَوْ نَحْوُهُمَا، وَعَلَى مَا لَوْ وُجِدَ الْمُسَبَّبُ9 مَعَ فُقْدَانِ السَّبَبِ10، لَكِنْ 11 لِوُجُودِ سَبَبٍ 11 آخَرَ. كَالرِّدَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْقَتْلِ إذَا فُقِدَتْ وَوُجِدَ قَتْلٌ يُوجِبُ الْقِصَاصَ، أَوْ زِنَا مُحْصَنٍ12. فَتَخَلَّفَ هَذَا التَّرْتِيبُ عَنْ السَّبَبِ لا لِذَاتِهِ، بَلْ لِمَعْنًى خَارِجٍ13.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا "فَـ" اعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ "يُوجَدُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ، لا بِهِ"14 وَهُوَ
ـــــــ
1 في ش: احترازاً.
2 في ز: و.
3 في ز: فلا.
4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص81، الفروق 1/ 109.
5 في ع: لا للاستظهار.
6 في ش ع: المسبب.
7 في ع: شرطه.
8 في ع: أو ما.
9 في ش: السبب.
10 في ش: المسبب.
11 في ز: بسبب لوجود.
12 في ز: محض.
13 انظر: شرح تنقيح الفصول ص81-82.
14 أي إن السبب لا يكون سبباً إلا يجعل الشارع له سبباً، لأنه وضعه علامة على الحكم التكليفي، والتكليف من الله تعالى الذي يكلف المرء بالحكم، ويضع السبب الذي يرتبط به الحكم، وهذه الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في وجود الأحكام، بل هي علامة وأمارة لظهورها =(1/446)
الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ1، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}2 . وَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ 3 مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ 3} 4؛ إذْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي دُلُوكِ الشَّمْسِ حُكْمَانِ. أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الدُّلُوكِ سَبَبًا، وَالآخَرُ: وُجُوبُ الصَّلاةِ عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الزَّانِي حُكْمَانِ. أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الرَّجْمِ. وَالثَّانِي: كَوْنُ الزِّنَى 5 الَّذِي نِيطَ 5 بِهِ6 سَبَبًا7.
وَلا شَكَّ أَنَّ الأَسْبَابَ مُعَرِّفَاتٌ8، إذْ الْمُمْكِنَاتُ مُسْتَنِدَةٌ9 إلَى اللَّهِ تَعَالَى
ـــــــ
= ووجودها ومعرفة لها عند جمهور العلماء، ولهذا عرّف الإمام الغزالي السبب فقال: "هو ما يحصل الشيء عنده لا به"، ويقول الشاطبي: "إن السبب غير فاعل بنفسه، إنما وقع المسبب عنده لا به". "انظر: المستصفى 1/ 94، الموفقات 1/ 129، الإحكم للآمدي 1/ 128، إرشاد الفحول ص6، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 95، نهاية السول 1/ 73، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، الروضة ص30، أصول السرخسي 2/ 301".
1 يعرف السبب بإضافة الحكم إليه، كحد الزنا، فالحد حكم شرعي أضيف إلى الزنا، فعرفنا أن الرنا هو سبب الحد، ومثل صلاة المغرب، فالصلاة حكم شرعي أضيف إلى المغرب، فعرفنا أن الغروب هو السبب الذي يوجد عنده الحكم. "انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 95، كشف الأسرار 2/ 343".
2 الآية 78 من الإسراء.
3 غير موجودة في ز، وفي ع ب: تنتهي الآية بلفظ فاجلدوا.
4 الآية 2 من النور.
5 ساقطة من ش.
6 ساقطة من ز د ب.
7 الزنا ليس موجباً للحد بعينه، بل يجعل الشارع له موجباً، ولذلك يصح تعليله به "انظر: الروضة ص30، المستصفى 1/ 93-94، مختصر ابن الحاجب 2/ 7، نهاية السول 1/ 71، مناهج العقول 1/ 67".
8 وذلك أن الشرع جعل وجود السبب علامة على وجود مسببه وهو الحكم، وجعل تخلفه وانتفاءه علامة على تخلف ذلك الحكم، فالشارع ربط وجود الحكم بوجود السبب، وعدمه بعدمه "انظر: التلويح على التوضيح على 3/ 102، إرشاد الفحول ص6، المدخل إلى مذهب أحمد ص67".
9 في ع: مسندة.(1/447)
ابْتِدَاءً عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ1. وَبَيْنَ الْمُعَرِّفِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ، وَبَيْنَ الْحُكْمِ الَّذِي نِيطَ بِهِ: ارْتِبَاطٌ ظَاهِرٌ. فَالإِضَافَةُ إلَيْهِ وَاضِحَةٌ.
"وَيُرَادُ بِهِ" أَيْ بِالسَّبَبِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ أَشْيَاءُ:
- أَحَدُهَا: "مَا يُقَابِلُ الْمُبَاشَرَةَ. كَحَفْرِ بِئْرٍ مَعَ تَرْدِيَةٍ. فَأَوَّلٌ سَبَبٌ. وَثَانٍ عِلَّةٌ"2 فَإِذَا حَفَرَ إنْسَانٌ3 بِئْرًا، وَدَفَعَ آخَرُ إنْسَانًا فَتَرَدَّى فِيهَا فَهَلَكَ. فَالأَوَّلُ - وَهُوَ الْحَافِرُ - مُتَسَبِّبٌ إلَى هَلاكِهِ. وَالثَّانِي - وَهُوَ الدَّافِعُ - مُبَاشِرٌ. فَأَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ السَّبَبَ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُبَاشَرَةَ. فَقَالُوا: إذَا اجْتَمَعَ الْمُتَسَبِّبُ وَالْمُبَاشِرُ: غَلَبَتْ الْمُبَاشَرَةُ وَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ، وَانْقَطَعَ حُكْمُ التَّسَبُّبِ4.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: لَوْ أَلْقَاهُ مِنْ شَاهِقٍ فَتَلَقَّاهُ آخَرُ بِسَيْفٍ فَقَدَّهُ. فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتَلَقِّي بِالسَّيْفِ. وَلَوْ5 أَلْقَاهُ فِي 6 مَاءٍ مُغْرِقٍ 6 فَتَلَقَّاهُ حُوتٌ فَابْتَلَعَهُ. فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُلْقِي، لِعَدَمِ قَبُولِ الْحُوتِ الضَّمَانَ. وَكَذَا لَوْ أَلْقَاهُ فِي
ـــــــ
1 قال جمهور العلماء: الحكم يحصل عند السبب لا به، وأن السبب غير فاعل بنفسه، بل معرف للشيء وعلامة عليه، قال المعتزلة: إن السبب مؤثر في الأحكام بذاته، بواسطة قوة أودعها الله فيه. وقال بعض العلماء: إن الأسباب تؤثر في الأحكام لا بذاتها، بل يجعل الله تعالى، وهو قول الغزالي، وقال الآمدي: السبب باعث على الحكم. "انظر: المستصفى 1/ 94، ارشاد الفحول ص6، الإحكام للآمدي 1/ 127، المحلي على جمع الجوامع 1/ 95، نهاية السول 1/ 70، 73، مختصر الطوفي ص32، تقريرات الشربيني 1/ 94".
2 انظر: مختصر الطوفي ص31، الروضة ص30، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، المستصفى 1/ 94، أصول السرخسي 2/ 303.
3 في ع ب: شخص.
4 في ش: المتسبب، وانظر: المدخل إلى مذهب أحمد 67.
5 في ز: وان.
6 في ز: ما يغرق.(1/448)
زُبْيَةِ1 أَسَدٍ. فَقَتَلَهُ.
- "وَ" الشَّيْءُ الثَّانِي مِمَّا يُرَادُ بِلَفْظِ السَّبَبِ "عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَرَمْيٍ2، هُوَ سَبَبٌ لِقَتْلٍ، وَعِلَّةٌ لِلإِصَابَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ لِلزُّهُوقِ3" أَيْ زُهُوقِ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ4. فَالرَّمْيُ هُوَ5 عِلَّةُ عِلَّةِ الْقَتْلِ. وَقَدْ سَمَّوْهُ6 سَبَبًا7.
- "وَ" الشَّيْءُ الثَّالِثُ مِمَّا يُرَادُ بِلَفْظِ السَّبَبِ "الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ بِدُونِ شَرْطِهَا كَـ" مِلْكِ "نِصَابٍ8 بِدُونِ" حَوَلانِ "الْحَوْلِ"9.
- "وَ" الشَّيْءُ الرَّابِعُ مِمَّا يُرَادُ بِلَفْظِ السَّبَبِ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ "كَامِلَةً" وَهِيَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ مُقْتَضَى الْحُكْمِ وَشَرْطِهِ، وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَوُجُودِ الأَهْلِ وَالْمَحَلِّ.
سُمِّيَ ذَلِكَ سَبَبًا اسْتِعَارَةً؛ لأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ ذَلِكَ فِي حَالٍ مِنْ الأَحْوَالِ. كَالْكَسْرِ لِلانْكِسَارِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَامِلَةُ سَبَبًا؛ لأَنَّ عَلِيَّتَهَا لَيْسَتْ
ـــــــ
1 الزبْيَةُ: حفرة في موضع عالٍ يُصاد فيها الأسد ونحوه، والجميع زُبي، مثل مُدية ومدى. "المصباح المنير 1/ 383".
2 في ش: لرمي.
3 في ش: لزهوق، وفي ع ب: الزهوق.
4 انظر: مختصر الطوفي ص32، الروضة ص30، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، المستصفى 1/ 94، أصول السرخسي 2/ 316.
5 ساقطة من ش.
6 في ع: سمَّاه.
7 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص67.
8 في ع: لنصاب.
9 انظر: مختصر الطوفي ص32، الروضة ص30، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، المستصفى 1/ 94، أصول السرخسي 2/ 305، وما بعدها.(1/449)
لِذَاتِهَا، بَلْ بِنَصَبِ الشَّارِعِ لَهَا أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ1، بِدَلِيلِ وُجُودِهَا دُونَهُ، كَالإِسْكَارِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَلَوْ كَانَ الإِسْكَارُ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ لِذَاتِهِ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ فِي حَالٍ، كَالْكَسْرِ لِلانْكِسَارِ فِي الْعَقْلِيَّةِ.
وَالْحَالُ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَوُجُوبَ الْحَدِّ مَوْجُودَانِ بِدُونِ2 مَا لا يُسْكِرُ. فَأَشْبَهَتْ بِذَلِكَ السَّبَبَ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لا بِهِ. فَهُوَ مُعَرِّفٌ لِلْحُكْمِ لا مُوجِبٌ لَهُ لِذَاتِهِ، وَإِلاَّ لَوَجَبَ قَبْلَ الشَّرْعِ.
"وَهُوَ" أَيْ السَّبَبُ قِسْمَانِ:
- أَحَدُهُمَا: "وَقْتِيٌّ" وَهُوَ مَا لا يَسْتَلْزِمُ فِي تَعْرِيفِهِ لِلْحُكْمِ3 حِكْمَةً بَاعِثَةً "كَزَوَالِ" الشَّمْسِ "لِـ" وُجُوبِ الـ "ظُّهْرِ" فَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَلْزِمَ حِكْمَةً بَاعِثَةً عَلَى الْفِعْلِ4.
- "وَ" الْقِسْمُ الثَّانِي "مَعْنَوِيٌّ" وَهُوَ مَا "يَسْتَلْزِمُ حِكْمَةً بَاعِثَةً" فِي تَعْرِيفِهِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ "كَإِسْكَارٍ" فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ جُهِلَ عِلَّةً "لِتَحْرِيمِ" كُلِّ مُسْكِر5، وَكَوُجُودِ الْمِلْكِ. فَإِنَّهُ جُعِلَ سَبَبًا لإِبَاحَةِ الانْتِفَاعِ.
ـــــــ
1 انظر: مختصر الطوفي ص32، الروضة ص30، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، المستصفى 1/ 94، أصول السرخسي 2/ 311، وفي ع ز ب: الحكم به.
2 في ش ع ب: بشرب.
3 في ع: للحكم الشرعي.
4 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص67، الإحكام للآمدي 1/ 127، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 7، مناهج العقول 1/ 68، فواتح الرحموت 1/ 61، إرشاد الفحول ص7.
5 أضاف ابن بدران توضيحا فقال: "وسميت هذه العلة سبباً فرقاً بينها وبين العلة العقلية، لأن العقلية موجبة لوجود معلولها كالكسر للانكسار وسائر الأفعال مع الانفعالات، فإنه متى وجد الفعل القابل، وانتفى المانع، وجد الانفعال، بخلاف الأسباب، فأنه لا يلزم من وجودها وجود مسبباتها، وأما العلة الشرعية الكاملة فإنها، وإن كان يلزم من وجودها وجود معلولها سبباً، مع أن السبب لا يلزم من وجوده وجود مسببه، لكن لما كان تأثيرها ليس لذاتها، بل بواسطة نصب الشارع له ضعفت لذلك عن العلة العقلية فأشبهت السبب الذي حكمه أن يحصل عنده لا به، فلذلك سميت سبباً" "المدخل إلى مذهب أحمد ص67-68".(1/450)
وَكَالضَّمَانِ، فَإِنَّهُ جُعِلَ سَبَبًا لِمُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِالدَّيْنِ، وَكَالْجِنَايَاتِ. فَإِنَّهَا جُعِلَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، أَوْ الدِّيَةِ1.
قَالَ الآمِدِيُّ: "السَّبَبُ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٌ دَلَّ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعَرِّفًا 2 لِثُبُوتِ حُكْمٍ 2 شَرْعِيٍّ"3، طَرْدِيًّا، كَجَعْلِ4 زَوَالِ الشَّمْسِ سَبَبًا لِلصَّلاةِ، أَوْ غَيْرَ طَرْدِيٍّ كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، سَوَاءٌ اطَّرَدَ الْحُكْمُ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَطَّرِدْ5، لأَنَّ السَّبَبَ الشَّرْعِيَّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، إذْ لا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ إلاَّ وُجُودُ حُكْمِهَا فِي بَعْضِ صُوَرِ وُجُودِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ عَدَمُ الاطِّرَادِ.
- "وَ" الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ خِطَابِ الْوَضْعِ "الشَّرْطُ".
وَهُوَ "لُغَةً" أَيْ فِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ: "الْعَلامَةُ": لأَنَّه6 عَلامَةٌ لِلْمَشْرُوطِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} 7، أَيْ عَلامَاتُهَا. قَالَهُ الْمُوَفَّقُ وَغَيْرُهُ8.
ـــــــ
1 انظر: فواتح الرحموت 1/ 61، مناهج العقول 1/ 68، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 2/ 7، إرشاد الفحول ص7، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، الإحكام للآمدي 1/ 127.
2 في الإحكام: لحكم.
3 الإحكام، له 1/ 127.
4 في ع: كأن جعل.
5 يقول الآمدي عن السبب، بعد تعريفه: "وهو منقسم إلى مالا يستلزم في تعريفه حكمةٌ باعثة عليه، كجعل زوال الشمس أمارة معرفة لوجوب الصلاة.... وإلى ما يستلزم حكمة باعثة على شرع الحكم المسبب كالشدة المطربة المعرفة لتحريم شرب النبيذ "أي قياساً على الخمر". لا لتحريم شرب الخمر في الأصل المقيس عليه، فإنّ تحريم شرب الخمر معروف بالنص أو "كذا" الاجماع" "الإحكام 1/ 127".
6 في ش: لأنها.
7 الآية 18 من سورة محمد.
8 انظر: الروضة ص31، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، تفسير الرازي 28/ 60، تفسير القرطبي 16/ 240، تفسير ابن كثير 6/ 317، أصول السرخسي 2/ 302.(1/451)
1 قَالَ: فِي 1 "الْمِصْبَاحِ": "الشَّرْطُ - مُخَفَّفٌ- مِنْ الشَّرَطِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ- وَهُوَ الْعَلامَةُ. وَجَمْعُهُ: أَشْرَاطٌ. وَجَمْعُ الشَّرْطِ - بِالسُّكُونِ- شُرُوطٌ، وَيُقَالُ لَهُ: شَرِيطَةٌ. وَجَمْعُهُ شَرَائِطُ"2.
"وَ" الشَّرْطُ "شَرْعًا" أَيْ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ" وَ "لا" يَلْزَمُ "مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلا عَدَمٌ لِذَاتِهِ"3.
فَالأَوَّلُ: احْتِرَازٌ4 مِنْ الْمَانِعِ، لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلا عَدَمٌ.
وَالثَّانِي: احْتِرَازٌ5 مِنْ السَّبَبِ وَمِنْ الْمَانِعِ أَيْضًا. أَمَّا مِنْ السَّبَبِ: فَلأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ6 الْوُجُودُ لِذَاتِهِ. كَمَا سَبَقَ7، وَأَمَّا مِنْ الْمَانِعِ: فَلأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: "لِذَاتِهِ" احْتِرَازٌ8 مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّرْطِ وُجُودَ السَّبَبِ. فَيَلْزَمُ الْوُجُودُ، أَوْ مُقَارَنَةِ الشَّرْطِ قِيَامَ الْمَانِعِ. فَيَلْزَمُ الْعَدَمُ، لَكِنْ لا لِذَاتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ شَرْطًا، بَلْ لأَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ مُقَارَنَةُ السَّبَبِ، أَوْ قِيَامُ الْمَانِعِ9.
ـــــــ
1 في ش: وفي.
2 المصباح المنير 1/ 472-473، وانظر: القاموس المحيط: 2/ 381.
3 انظر: تعريف الشرط شرعاً في "الحدود للباجي ص60، التعريفات للجرجاني ص131، شرح تنقيح الفصول ص82، الإحكام، الآمدي 1/ 130، أصول السرخسي 2/ 303، إرشاد الفحول ص7، المدخل ألى مذهب أحمد ص68، مختصر ابن الحاجب 2/ 7، مختصر الطوفي ص32، الروضة ص31".
4 في ش: احترازاً.
5 في ش: احترازاً.
6 في ش: عدم وجوده.
7 صفحة 396.
8 في ش: احترازاً.
9 انظر: شرح تنقيح الفصول ص82.(1/452)
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ: فَلِلشَّرْطِ ثَلاثُة1 إطْلاقَاتٍ:
- فَالأَوَّلُ2: مَا يُذْكَرُ فِي الأُصُولِ هُنَا مُقَابِلاً لِلسَّبَبِ وَالْمَانِعِ، وَمَا يُذْكَرُ فِي قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: "شَرْطُ الْعِلْمِ الْحَيَاةُ". وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: "شَرْطُ الصَّلاةِ الطَّهَارَةُ". "شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ التَّرَاضِي"، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
- الإِطْلاقُ الثَّانِي: اللُّغَوِيُّ. وَالْمُرَادُ بِهِ: صِيَغُ التَّعْلِيقِ بِـ "إِنْ" وَنَحْوِهَا3، وَهُوَ مَا يُذْكَرُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ لِلْعُمُومِ4، نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 5، وَمَا يُذْكَرُ فِي الْفِقْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: "لا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ عَلَى شَرْطٍ". وَنَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَيْسَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلاقِ شَرْعًا وَلا عَقْلاً، بَلْ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي وَضَعَهَا أَهْلُ اللُّغَةِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ: يَرْجِعُ6 إلَى كَوْنِهِ سَبَبًا وُضِعَ7 لِلتَّعْلِيقِ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ8. وَوَهَمَ مَنْ فَسَّرَهُ هُنَاكَ بِتَفْسِيرِ الشَّرْطِ الْمُقَابِلِ لِلسَّبَبِ وَالْمَانِعِ. كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنْ الأُصُولِيِّينَ.
- الإِطْلاقُ الثَّالِثُ: جَعْلُ الشَّيْءِ9 قَيْدًا فِي شَيْءٍ. كَشِرَاءِ الدَّابَّةِ
ـــــــ
1 في ش د ز ع ب: ثلاث، وهو خطأ.
2 في ش د ع ب: الأول.
3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص259.
4 انظر: جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 97، أصول السرخسي 2/ 303، 320، تيسير التحرير 2/ 120.
5 الآية 6 من سورة الطلاق.
6 في ز: ويرجع.
7 في ز ع ب: يوضع.
8 انظر: أصول السرخسي 2/ 320، شرح تنقيح الفصول ص261.
9 في ز ع ب: شيء.(1/453)
بِشَرْطِ كَوْنِهَا حَامِلاً، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُعَادَ إلَى الأَوَّلِ بِسَبَبِ مُوَاضَعَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. كَأَنَّهُمَا قَالا: جَعَلْنَاهُ مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِنَا يُعْدَمُ بِعَدَمِهِ، وَإِنْ أَلْغَاهُ الشَّرْعُ. فَهَلْ1 يَلْغُو2 الْعَقْدُ، أَوْ يُثْبِتُ الْخِيَارَ؟ مَحَلُّ تَفْصِيلِ ذَلِكَ كُتُبُ الْفِقْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَادَ إلَى الثَّانِي، كَأَنَّهُمَا قَالا: إنْ كَانَ كَذَا فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَإِلاَّ فَلا3.
إذَا عَرَفْت4 ذَلِكَ، فَالْمَقْصُودُ هُنَا: هُوَ5 الْقِسْمُ الأَوَّلُ، "فَإِنْ أَخَلَّ عَدَمُهُ" أَيْ عَدَمُ الشَّرْطِ "بِحِكْمَةِ السَّبَبِ فَـ" ـهُوَ "شَرْطُ السَّبَبِ" وَذَلِكَ "كَقُدْرَةٍ عَلَى تَسْلِيمِ مَبِيعٍ" فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ 6 شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ 6، الَّذِي هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَصْلَحَةٍ، وَهُوَ حَاجَةُ الابْتِيَاعِ 7 لِعِلَّةِ الانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ 7. وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ. فَكَانَ عَدَمُهُ مُخِلاًّ بِحِكْمَةِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا الْبَيْعُ8.
"وَإِنْ اسْتَلْزَمَ عَدَمُهُ" أَيْ عَدَمُ الشَّرْطِ "حِكْمَةً تَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ" كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلاةِ "فَـ" ذَلِكَ "شَرْطُ الْحُكْمِ" فَإِنَّ عَدَمَ الطَّهَارَةِ حَالَ الْقُدْرَةِ
ـــــــ
1 في ش: فهو.
2 في ش: يلغى.
3 انظر أنواع الشروط الفقهية وأثرها على التصرفات ومدى قبول العقود لها وما يتعلق فيها من آراء المذاهب في الكتب الفقهية لكل مذهب في كتاب "البيع"، "وانظر: نظرية الشروط المقترنة بالعقد، للشيخ زكي الدين شعبان، المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا 1/ 481، وما بعدها، الموافقات 1/ 187، أصول الفقه، للخضري ص69، الفقه الإسلامي في أسلوبه الجديد للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 154".
4 في ز: عرف.
5 ساقطة من ع ب.
6 في ش: شرط صحته، وفي د: شرط صحة البيع.
7 في ش: في المبيع، وفي ز: وهو علة الانتفاع بالمبيع، وفي ع: وهو حاجة الانتفاع بالمبيع.
8 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص68.(1/454)
عَلَيْهَا مَعَ الإِتْيَانِ بِالصَّلاةِ: يَقْتَضِي نَقِيضَ حِكْمَةِ الصَّلاةِ، وَهُوَ الْعِقَابُ، فَإِنَّهُ نَقِيضُ وُصُولِ الثَّوَابِ1.
"وَهُوَ" أَيْ الشَّرْطُ مُنْحَصِرٌ فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ2:
- الأَوَّلُ: شَرْطٌ "عَقْلِيٌّ كَحَيَاةٍ لِعِلْمٍ"؛ لأَنَّه3 إذَا انْتَفَتْ الْحَيَاةُ انْتَفَى الْعِلْمُ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُهُ4.
- وَالثَّانِي "شَرْعِيٌّ، كَطَهَارَةٍ لِصَلاةٍ"5.
- "وَ" الثَّالِثَ "لُغَوِيٌّ، كَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ قُمْت، وَهَذَا" النَّوْعُ "كَالسَّبَبِ" فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْقِيَامِ وُجُودُ الطَّلاقِ. وَمِنْ عَدَمِ الْقِيَامِ عَدَمُ الطَّلاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ6.
- "وَ" الرَّابِعُ "عَادِيٌّ، كَغِذَاءِ الْحَيَوَانِ" إذْ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْغِذَاءِ انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ. وَمِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهَا؛ إذْ لا يَتَغَذَّى إلاَّ الْحَيُّ7. فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ الشَّرْطُ الْعَادِيُّ كَالشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ فِي كَوْنِهِ مُطَّرِدًا
ـــــــ
1 هذا تقسيم للشرط باعتبار المشروط، أو باعتبار السبب والمسبب، أو السبب والحكم. "انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 130، فواتح الرحموت 1/ 61، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، شرح العضد على ابن الحاجب، وحاشية التفتازاني عليه 2/ 7".
2 هذا تقسيم للشرط باعتبار إدراك العلاقة مع المشروط. "انظر: الموافقات 1/ 180، المدخل إلى مذهب أحمد ص67، مختصر الطوفي ص32، الروضة ص30".
3 في ش: لأنها.
4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص85، مختصر الطوفي ص32، المدخل إلى مذهب أحمد ص68، الروضة ص31.
5 انظر: شرح تنقيح الفصول ص85، مختصر الطوفي ص32، المحلي على جمع الجوامع 1/ 98، أصول السرخسي 2/ 328، الروضة ص31، وفي ع: للصلاة.
6 انظر: شرح تنقيح الفصول ص85، المدخل إلى مذهب أحمد ص68. مختصر الطوفي ص32، الروضة ص31.
7 انظر: شرح تنقيح الفصول ص85، المدخل إلى مذهب أحمد ص68.(1/455)
مُنْعَكِسًا1.
"وَمَا جُعِلَ قَيْدًا فِي شَيْءٍ لِمَعْنًى" فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ "كَشَرْطٍ فِي عَقْدٍ فَـ" حُكْمُهُ "كَـ" شَرْطٍ "شَرْعِيٍّ"2.
"وَ" الشَّرْطُ "اللُّغَوِيُّ: أَغْلَبُ اسْتِعْمَالِهِ فِي" أُمُورٍ "سَبَبِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ"3، نَحْوُ4: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَالْعَالَمُ مُضِيءٌ، "وَ" سَبَبِيَّةٍ "شَرْعِيَّةٍ" نَحْوُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 5، فَإِنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ سَبَبُ ضَوْءِ الْعَالَمِ عَقْلاً. وَالْجَنَابَةَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ6 التَّطْهِيرِ شَرْعًا7.
"وَاسْتُعْمِلَ" الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ "لُغَةً" أَيْ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ: "فِي شَرْطٍ لَمْ يَبْقَ لِمُسَبِّبٍ شَرْطٌ سِوَاهُ" نَحْوُ: إنْ تَأْتِنِي أُكْرِمْك. فَإِنَّ الإِتْيَانَ شَرْطٌ لَمْ يَبْقَ لِلإِكْرَامِ سِوَاهُ، لأَنَّهُ إذَا دَخَلَ8 الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ عَلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ أَسْبَابَ الإِكْرَامِ حَاصِلَةٌ، لَكِنْ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى حُصُولِ الإِتْيَانِ9.
- "وَ" الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَقْسَامِ خِطَابِ الْوَضْعِ "الْمَانِعُ" وَهُوَ10 اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ الْمَنْعِ11.
وَهُوَ "مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلا عَدَمٌ".
ـــــــ
1 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص68.
2 وقيل كاللغوي، "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص68".
3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص85، المدخل إلى مذهب أحمد 68.
4 في ع: كنحو.
5 الآية 6 من المائدة.
6 في ش ز: لوجود.
7 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص68.
8 في ش ز: أدخل على، وفي ب: أدخل.
9 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص68.
10 ساقطة من ش ز.
11 انظر: المصباح المنير 2/ 897. القاموس المحيط 3/ 89.(1/456)
فَالأَوَّلُ: احْتِرَازٌ1 مِنْ السَّبَبِ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ.
وَالثَّانِي: احْتِرَازٌ2 مِنْ الشَّرْطِ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ.
3 وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُنَا 3: "لِذَاتِهِ": احْتِرَازٌ4 مِنْ مُقَارَنَةِ الْمَانِعِ لِوُجُودِ سَبَبٍ آخَرَ. فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْوُجُودُ لا لِعَدَمِ الْمَانِعِ، بَلْ لِوُجُودِ السَّبَبِ الآخَرِ، كَالْمُرْتَدِّ الْقَاتِلِ لِوَلَدِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ قِصَاصًا، لأَنَّ الْمَانِعَ لأَحَدِ السَّبَبَيْنِ فَقَطْ5.
"وَهُوَ" 6 أَيْ الْمَانِعُ 6 "إمَّا لِحُكْمِ"7 وَتَعْرِيفُهُ بِأَنَّهُ "وَصْفٌ وُجُودِيٌّ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ مُسْتَلْزِمٌ لِحِكْمَةٍ تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِ السَّبَبِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْمُسَبِّبِ"8، "كَأُبُوَّةٍ فِي قِصَاصٍ" مَعَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ. وَهُوَ كَوْنُ الأَبِ سَبَبًا لِوُجُودِ الْوَلَدِ، فَلا يَحْسُنُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِعَدَمِهِ9. فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ 10 وَهُوَ الْقِصَاصُ 10 مَعَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ الْقَتْلُ11.
ـــــــ
1 في ش: احترازا.
2 في ش: احترازا.
3 ف ع ب: وقولنا.
4 في ش: احترازا.
5 انظر في تعريف المانع "التعريفات للجرجاني ص207، إرشاد الفحول ص7، جمع الجوامع 1/ 98، الموافقات 1/ 179، المدخل إلى مذهب أحمد ص68-69، مختصر الطوفي ص32، الروضة ص31".
6 في ز: أي المنع المدلول عليه بالمانع.
7 في ش: الحكم.
8 هذه عبارة الآمدي مع تغيير في آخرها: "مع بقاء حكمة السبب" "الإحكام، له 1/ 130"، وانظر: فواتح الرحموت 1/ 61، المدخل إلى مذهب أحمد ص69، تقريرات الشربيني على جمع الجوامع 1/ 98.
9 انظر: شرح العضد 2/ 7، المحلي على جمع الجوامع 1/ 89.
10 ساقطة من ش ز ب.
11 انظر هامش صفحة 444 من هذا الكتاب.(1/457)
"أَوْ" يَكُونُ الْمَانِعُ1 "لِسَبَبِهِ" أَيْ سَبَبِ الْحُكْمِ، وَالْمَانِعُ هُنَا: "وَصْفٌ يُخِلُّ وُجُودُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ" "كَدَيْنٍ مَعَ مِلْكِ نِصَابٍ"، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ حِكْمَةَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ - الَّذِي هُوَ السَّبَبُ- كَثْرَةُ تَحَمُّلِ الْمُوَاسَاةِ مِنْهُ2، شُكْرًا عَلَى نِعْمَةِ ذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ 3 الْمَدِينُ مُطَالَبًا 3 بِصَرْفِ الَّذِي يَمْلِكُهُ فِي الدَّيْنِ صَارَ كَالْعَدَمِ4.
وَسُمِّيَ5 الأَوَّلُ: مَانِعَ الْحُكْمِ؛ لأَنَّ سَبَبَهُ مَعَ بَقَاءِ حِكْمَتِهِ لا يُؤَثِّرُ. وَالثَّانِي: مَانِعُ السَّبَبِ، لأَنَّ حِكْمَتَهُ فُقِدَتْ مَعَ وُجُودِ صُورَتِهِ فَقَطْ، فَالْمَانِعُ: يَنْتَفِي الْحُكْمُ لِوُجُودِهِ. وَالشَّرْطُ: يَنْتَفِي الْحُكْمُ لانْتِفَائِهِ.
"وَنَصْبُ هَذِهِ" الأَشْيَاءِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ وَالشَّرْطُ وَالْمَانِعُ "مُفِيدَةً" أَيْ حَالَ إفَادَتِهَا "مُقْتَضَيَاتِهَا" وَالْمَعْنَى: أَنَّ نَصْبَهَا لِتُفِيدَ مَا اقْتَضَتْهُ مِنْ الأَحْكَامِ "حُكْمٌ شَرْعِيٌّ" أَيْ قَضَاءٌ مِنْ الشَّارِعِ بِذَلِكَ6. فَجَعْلُ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَوُجُوبُ الْحَدِّ حُكْمٌ آخَرُ. وَكَذَا وُجُوبُ حَدِّ الْقَذْفِ مَعَ جَعْلِ الْقَذْفِ سَبَبًا لَهُ. وَوُجُوبُ الْقَطْعِ مَعَ نَصْبِ السَّرِقَةِ سَبَبًا لَهُ، وَوُجُوبُ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ أَوْ الْقِصَاصِ، مَعَ نَصْبِ الرِّدَّةِ أَوْ الْقَتْلِ سَبَبًا. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
ـــــــ
1 في ز: المنع.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: الدين مطابقاً.
4انظر: مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 2/ 7، الإحكام، للآمدي 1/ 130، المدخل إلى مذهب أحمد ص69، تقريرات الشربيني على جمع الجوامع 1/ 97، فواتح الرحموت 1/ 61، مناهج العقول 1/ 69، حاشية التفتازاني على العضد 2/ 7، إرشاد الفحول ص7.
5 في ش: ومسمى، وفي ض: سُمّي.
6 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 130، نهاية السول 1/ 70، وما بعدها، مختصر الطوفي ص32، الروضة ص31، المدخل إلى مذهب أحمد ص69.(1/458)
فَوَائِدُ1:
الأُولَى: قَدْ يَلْتَبِسُ السَّبَبُ بِالشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِهِمَا. وَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِمَا كَالْحَدَثِ2، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهُ، بِخِلافِ الشَّرْطِ. فَإِذَا شُكَّ فِي وَصْفٍ: هَلْ هُوَ3 سَبَبٌ أَوْ شَرْطٌ؟
نَظَرْت: فَإِنْ كَانَتْ كُلَّهَا مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ، كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ الْعُدْوَانِ، فَالْكُلُّ سَبَبٌ.
وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا4 مُنَاسِبًا، كَأَسْبَابِ الْحَدَثِ، فَكُلِّ5 وَاحِدٍ سَبَبٌ.
وَإِنْ نَاسَبَ الْبَعْضَ فِي ذَاتِهِ وَالْبَعْضَ فِي غَيْرِهِ، فَالأَوَّلُ: سَبَبٌ. وَالثَّانِي: شَرْطٌ. كَالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ. فَإِنَّ النِّصَابَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْغِنَى وَنِعْمَةِ الْمِلْكِ فِي نَفْسِهِ. فَهُوَ6 السَّبَبُ، وَالْحَوْلُ مُكَمِّلٌ لِنِعْمَةِ الْمِلْكِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ التَّنْمِيَةِ فِي مُدَّتِهِ. فَهُوَ شَرْطٌ. قَالَهُ الْقَرَافِيُّ7.
قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: "وَلَكِنَّ هَذَا لا يَكُونُ إلاَّ فِي السَّبَبِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي يَكُونُ عِلَّةً، لا فِي السَّبَبِ الزَّمَانِيِّ وَنَحْوِهِ. فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ الْوَصْفُ هُوَ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي تَعْرِيفِهِ أَوْ تَأْثِيرِهِ عَلَى الْخِلافِ. فَالسَّبَبُ، وَإِلاَّ فَالشَّرْطُ". اهـ.
ـــــــ
1 انظر هذه الفوائد في "شرح تنقيح الفصول ص82 وما بعدها".
2 ساقطة من ش ز ب ض.
3 ساقطة من ز.
4 في ش: منهما.
5 في ش: كلكل.
6 في ز: وهو.
7 شرح تنقيح الفصول ص84.(1/459)
الثَّانِيَةُ: الشَّرْطُ وَعَدَمُ الْمَانِعِ، كِلاهُمَا يُعْتَبَرُ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ. فَقَدْ يَلْتَبِسَانِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ جَعَلَهُ إيَّاهُ1. كَمَا عَدَّ الْفُورَانِيُّ2 وَالْغَزَالِيُّ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاةِ: تَرْكُ الْمَنَاهِي مِنْ الأَفْعَالِ وَالْكَلامِ وَالأَكْلِ وَنَحْوِهِ. وَتَبِعَهُمَا الرَّافِعِيُّ3 فِي "شَرْحِ الْوَجِيزِ"4 وَغَيْرُهُ. وَالنَّوَوِيُّ5 فِي "الرَّوْضَةِ"6. لَكِنْ قَالَ فِي "شَرْحِ الْمُهَذَّبِ": "الصَّوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ شُرُوطًا. وَإِنْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ
ـــــــ
1 انظر: الفروق للقرافي 1/ 111.
2 هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الشافعي، أبو القاسم، الإمام الكبير، الحافظ للمذهب، وهو شيخ أهل مرو، صنف في الأصول والفروع والخلاف والجدل والملل والنحل، ومن مصنفاته "الإبانة" و "العمد" في الفقه، وقد تتبعه فيهما الجويني، ونال منه كثيراً. توفي سنة 461هـ. انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 2/ 314، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 5/ 109، شذرات الذهب 3/ 309، البداية والنهاية 12/ 98، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 280".
3 هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، القزويني، الرافعي، أبو القاسم، كان متضلعاً من علوم الشريعة تفسيراً و حديثاً وأصولاً، وكان ورعاً تقياً زاهداً، طاهر الذيل، مراقباً لله، ويعتبر مع النووي من محرري المذهب الشافعي ومحققيه في القرن السابع، له مصنفات، ومنها "الشرح الكبير" المسمى بـ "فتح العزيز في شرح الوجيز" و "الشرح الصغير" و "المحرر" و "شرح مسند الشافعي" و "الأمالي الشارحة على مفردات الفاتحة" و "الإيجاز في أخبار الحجاز" توفي سنة 623هـ. انظر ترجمته في "طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 8/ 281، شذرات الذهب 5/ 108، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 264، فوات الوفيات 2/ 7، طبقات المفسرين 1/ 335".
4 فتح العزيز، شرح الوجيز 4/ 105، 118، 134.
5 هو يحيى بن شرف بن مري النووي، شيخ الإسلام، أبو زكريا، أستاذ المتأخرين، قال السبكي: "كان يحيى رحمه الله سيداً حصوراً، وليناً على النفس هصوراً، وزاهداً لم يبال بخراب الدنيا إذا صير دينه ربعا معموراً، له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة، هذا مع التفنن في أصناف العلوم فقها ومتون حديث وأسماء رجال ولغة وتصوفاً"، له مصنفات فاخرة نفيسة، أهمها: "رياض الصالحين" و "شرح صحيح مسلم" و "الأذكار" و "الأربعين" في الحديث، و "المجموع شرح المهذب" و "الروضة" و "لغات التنبيه" و "المناسك" و "المنهاج" في الفقه، و"تهذيب الأسماء وللغات" و "طبقات الفقهاء". توفي سنة 676هـ. انظر ترجمته في "طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 8/ 395، شذرات الذهب 5/ 354، الفتح المبين 2/ 81، طبقات الحفاظ ص510، تذكرة الحفاظ 4/ 1470".
6 روضة الطالبين 1/ 289، 293، 296.(1/460)
فَمَجَازٌ، وَإِنَّمَا هِيَ مُبْطِلاتٌ"1.
وَقَالَ فِي "التَّحْقِيقِ": غَلِطَ مَنْ عَدَّهَا شُرُوطًا". اهَـ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا - عَلَى تَقْدِيرِ التَّغَايُرِ - أَنَّ الشَّرْطَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا وُجُودِيًّا. وَأَمَّا عَدَمُ الْمَانِعِ2 فَعَدَمِيٌّ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي التَّغَايُرِ3: إنْ عُدِمَ الْمَانِعُ يُكْتَفَى فِيهِ بِالأَصْلِ. وَالشَّرْطُ لا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ. فَإِذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ يَرْجِعُ لِهَذَا4 الأَصْلِ5. وَلِذَلِكَ عُدَّتْ الطَّهَارَةُ شَرْطًا، لأَنَّ الشَّكَّ فِيهَا مَعَ تَيَقُّنِ ضِدِّهَا الْمُسْتَصْحَبِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الصَّلاةِ.
قَالُوا: وَيَلْزَمُ مَنْ ادَّعَى اتِّحَادَهُمَا اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فِيمَا إذَا شَكَكْنَا فِي طَرَيَانِ الْمَانِعِ، لأَنَّا حِينَئِذٍ نَشُكُّ فِي عَدَمِهِ. وَالْفَرْضُ أَنَّ عَدَمَهُ شَرْطٌ. فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرْطٌ لا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ. وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّكَّ فِي طَرَيَانِ الْمَانِعِ 6 لا أَثَرَ 6 لَهُ، فَيُوجَدُ الْمَشْرُوطُ. وَهُوَ تَنَاقُضٌ.
الثَّالِثَةُ: سَبَبُ السَّبَبِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ، لأَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ مُتَوَقِّفٌ7 عَلَيْهِ. كَالإِعْتَاقِ فِي الْكَفَّارَةِ، سَبَبُ السُّقُوطِ8 عَنْ الذِّمَّةِ، وَالإِعْتَاقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُحَصِّلِ لَهُ.
ـــــــ
1 المجموع شرح المهذب 3/ 518.
2 ساقطة من ش.
3 ساقطة من ز ع ب ض.
4 في ش ز: في هذا.
5 بيّن القرافي الفرق بينهما فقال: "الفرق بينهما يظهر بتقرير قاعدة، وهي أن كل مشكوك فيه ملغي في الشريعة، فإذا شككنا في السبب لم نرتب عليه حكماً، أو في الشرط لم نرتب الحكم أيضاً، أو في المانع رتبنا الحكم" ثم يقول: "فهذه القاعدة مجمع عليها، وهي أن كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه" "الفروق 1/ 111".
6 في ع: لاثر.
7 في ب: يتوقف.
8 في ش: السقوط.(1/461)
وَقَالَ الطُّوفِيُّ فِي "شَرْحِهِ": الشَّرْطُ1 وَجُزْؤُهُ وَجُزْءُ الْعِلَّةِ، كُلٌّ مِنْهَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ2 وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلا عَدَمٌ. فَهِيَ تَلْتَبِسُ3، وَالْفَرْقُ: أَنَّ مُنَاسَبَةَ الشَّرْطِ وَجُزْئِهِ: فِي غَيْرِهِ. وَمُنَاسَبَةَ جُزْءِ الْعِلَّةِ: فِي نَفْسِهِ"4.
"مِثَالُهُ: الْحَوْلُ، مُنَاسَبَتُهُ5 فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ النِّصَابُ لِتَكْمِلَتِهِ الْغِنَى الْحَاصِلُ بِهِ التَّنْمِيَةُ. وَجُزْءُ الْعِلَّةِ الَّذِي هُوَ النِّصَابُ مُنَاسَبَتُهُ6 فِي نَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَعْضِ الْغِنَى. فَالْعِلَّةُ وَجُزْؤُهَا مُؤَثِّرَانِ. وَالشَّرْطُ مُكَمِّلٌ لِتَأْثِيرِ الْعِلَّةِ. وَمِنْ ثَمَّ عَرَّفَ بَعْضُهُمْ الشَّرْطَ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ".
قَالَ: "وَمِنْهَا: الْحُكْمُ. كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ. فَمَا الْفَرْقُ؟"7.
"الْجَوَابُ: بِمَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِ السَّبَبِ مُؤَثِّرًا مُنَاسِبًا فِي نَفْسِهِ. وَالشَّرْطُ مُكَمِّلٌ مُنَاسِبٌ فِي غَيْرِهِ".
قَالَ: "وَمِنْهَا: أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ. يَتَرَتَّبُ8 عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَالْعِلَلُ الْمُتَعَدِّدَةُ إذَا وُجِدَتْ 9 تَرَتَّبَ الْحُكْمُ 9، فَمَا الْفَرْقُ؟".
"وَالْجَوَابُ: أَنَّ جُزْءَ10 الْعِلَّةِ إذَا انْفَرَدَ لا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ، بَلْ لا بُدَّ مِنْ
ـــــــ
1 في ش: الجزء.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: تلبيس.
4 انظر: الفورق 1/ 109.
5 في ع: مناسبه.
6 في ع: مناسبه.
7 في ع: الفرق بينهما.
8 في ش ز: ترتب.
9 ساقطة من ش.
10 في ع: أجزاء.(1/462)
وُجُودِ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهَا. كَأَوْصَافِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، إذَا اجْتَمَعَتْ وَجَبَ الْقَوَدُ، وَلَوْ انْفَرَدَ بَعْضُهَا، كَالْقَتْلِ خَطَأً، أَوْ عَمْدًا فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ قَتَلَ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ: لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ، بِخِلافِ الْعِلَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ. فَإِنَّ بَعْضَهَا إذَا انْفَرَدَ اسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ. كَمَنْ لَمَسَ وَنَامَ وَبَالَ، وَجَبَ الْوُضُوءُ بِجَمِيعِهَا. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. نَعَمْ إذَا اجْتَمَعَتْ كَانَ حُكْمًا ثَابِتًا بِعِلَلٍ1. 2 كَمَا يَأْتِي 2. اهـ.
الرَّابِعَةُ: الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ، مِنْهَا: مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ وَاسْتِمْرَارَهُ، كَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَاسْتِمْرَارَهُ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ3.
وَمِنْهَا: مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ فَقَطْ. كَالْعِدَّةِ تَمْنَعَ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلا تُبْطِلُ اسْتِمْرَارَهُ4.
وَمِنْهَا: مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، كَالإِحْرَامِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الصَّيْدِ. فَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ، فَهَلْ تَجِبُ5 إزَالَةُ6 الْيَدِ عَنْهُ7؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا تَجِبُ8، وَكَالطَّوْلِ يَمْنَعُ
ـــــــ
1 انظر: الفروق 1/ 109-110.
2 في ع: كما ذكروه في موضعه.
3 مثال طروء الرضاع على النكاح أن يتزوج بنتاً في المهد فترضعها أمه فتصير أخته من الرضاع، فتحرم عليه، فيبطل النكاح بينهما، "شرح تنقيح الفصول ص84، الفروق 1/ 110".
4 لا يجوز العقد على المعتقدة لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} "البقرة/ 235" ولكن العدة لا تبطل استمرار النكاح، كما إذا غصبت امرأة متزوجة، أو زنت اختيارا، أو وطئت بشبهة، فإنها تستبرأ من هذا الماء، ليتبين هل خلق منه ولد فيلحق بالغير، أو يلاعن منه الزنا، ومع ذلك فالنكاح لا يبطل بهذا الاستبراء. "شرح تنقيح الفصول ص84، الفروق 1/ 110".
5 في ش ز ب: يجب.
6 في ش: ابتداء إزالة.
7 انظر: شرح تنقيح الفصول ص84.
8 انظر: الفروق 1/ 110.(1/463)
ابْتِدَاءَ نِكَاحِ الأَمَةِ1. فَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ، فَهَلْ يُبْطِلُهُ2؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لا يُبْطِلُهُ3. وَكَوُجُودِ الْمَاءِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ التَّيَمُّمِ. فَلَوْ طَرَأَ وُجُودُ الْمَاءِ عَلَيْهِ فِي الصَّلاةِ فَهَلْ يَبْطُلُ4؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُبْطِلُهُ5.
"وَمِنْهُ" أَيْ وَمِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ "فَسَادٌ وَصِحَّةٌ"، لأَنَّهُمَا مِنْ الأَحْكَامِ6، وَلَيْسَا دَاخِلَيْنِ فِي الاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ، لأَنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَبُطْلانِهَا، وَبِصِحَّةِ الْمُعَامَلَةِ وَبُطْلانِهَا: لا يُفْهَمُ مِنْهُ اقْتِضَاءٌ وَلا تَخْيِيرٌ، فَكَانَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ. وَهَذَا قَوْلُ الأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ7.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى الصِّحَّةِ: الإِبَاحَةُ، وَمَعْنَى الْبُطْلانِ: الْحُرْمَةُ8.
وَذَهَبَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَجَمْعٌ إلَى أَنَّ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلانَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ الشَّرْعِ. فَلا يَكُونُ دَاخِلاً فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ9.
ـــــــ
1 لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء / 25]، والطوْل: القدرة على تكاليف الزواج.
2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص84.
3 انظر: الفروق 1/ 110.
4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص84.
5 انظر: الفروق 1/ 110.
6 هذا تقسيم للحكم باعتبار اجتماع الشروط المعتبرة في الفعل في الفعل، وعدم اجتماعها فيه "نهاية السول 1/ 74".
7 هناك أقوال أخرى في اعتبار الفساد والصحة من خطاب الوضع أو التكليف أو غير ذلك "انظر: فواتح الرحموت 1/ 121 وما بعدها، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 99".
8 في ش: الحرمان.
9 لأن الفعل إما أن يكون مسقطاً للقضاء أو موافقاً لأمر الشارع فيكون صحيحا بحكم العقل، واما أن لا يسقط القضاء أو لا يوافق أمر الشارع فهو باطل وفاسد بحكم العقل، "انظر: مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 2/ 7، فواتح الرحموت 1/ 55، 120، 121، تيسير التحرير 2/ 238".(1/464)
"وَهِيَ" أَيْ الصِّحَّةُ "فِي عِبَادَةٍ: سُقُوطُ الْقَضَاءِ" أَيْ قَضَاءُ الْعِبَادَةِ "بِالْفِعْلِ" أَيْ: بِفِعْلِهَا1. بِمَعْنَى أَنْ لا يَحْتَاجَ إلَى فِعْلِهَا ثَانِيًا2. وَهَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ3.
وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ: مُوَافَقَةُ الأَمْرِ4، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ الْقَضَاءُ5. فَصَلاةُ مَنْ ظَنَّ الطَّهَارَةَ صَحِيحَةٌ عَلَى قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَاسِدَةٌ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ6. فَالْمُتَكَلِّمُونَ نَظَرُوا لِظَنِّ الْمُكَلَّفِ. وَالْفُقَهَاءُ لِمَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ7.
ـــــــ
1 في ش ز: بعملها.
2 المقصود بالقضاء هنا فعل العبادة ثانياً في الوقت، وهو الإعادة اصطلاحا، وليس القضاء بالمعنى الاصطلاحي الأصولي السابق، وهو فعل العبادة خارج الوقت، ولذلك فسر المصنف سقوط القضاء "بمعنى أن لا يحتاج إلى فعلها ثانياً". "انظر: حاشية البناني 1/ 100".
3 مراد المصنف بالفقهاء هنا طريقة الحنفية ومن سار على نهجهم في كتابة علم الأصول، ويقابلها طريقة المتكلمين التي سار عليها معظم علماء الأصول من المذاهب الثلاثة المالكية والشافعية والحنابلة.
وانظر معنى الصحة في العبادة في "الإحكام للآمدي 1/ 130، نهاية السول 1/ 75، شرح تنقيح الفصول ص76، المستصفى 1/ 94، فواتح الرحموت 1/ 122، تيسير التحرير 2/ 235، الموفقات 1/ 197، الروضة ص31، مختصر الطوفي ص33، المدخل إلى مذهب أحمد ص69، إرشاد الفحصول ص105، شرح الورقات ص30، حاشية البناني 1/ 100".
4 أي أن يوافق فعل المكلف أمر الشارع، والمراد بالموافقة أعم من أن تكون بحسب الواقع أو بحسب الظن، بشرط عدم ظهور فساده، لأنا أمرنا باتباع الظن مالم يظهر فساده، والمسقط للقضاء هو الموافقة الواقعية. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 121".
5 انظر: الإحكام للآمدي 1/ 130، حاشية البناني 1/ 99، نهاية السول 1/ 75، المستصفى 1/ 94، شرح تنقيح الفصول ص76، تيسير التحرير 2/ 235، الروضة ص31، مختصر الطوفي ص33، إرشاد الفحول ص105.
6 انظر: المستصفى 1/ 94، الإحكام للآمدي 1/ 130، المحلي على جمع الجوامع 1/ 100، نهاية السول 1/ 75، تيسير التحرير 2/ 235، حاشية البناني 1/ 99، شرح تنقيح الفصول ص76، الروضة ص31، مختصر الطوفي ص33، إرشاد الفحول ص105، المدخل إلى مذهب أحمد ص69.
7 يرى جلال الدين المحلي الجميع بين القولين باعتبار آخر، وهو أن النظر في العبادة بحسب اعتقاد الفاعل، وأن لزوم القضاء لا ينافي ذلك، وأن النظر في المعاملات بحسب الواقع ونفس الأمر. "انظر: شرح الورقات ص30".(1/465)
لَكِنْ قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: "اللاَّئِقُ بِقَوَاعِدِ الْفَرِيقَيْنِ الْعَكْسُ".
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ1: "هَذَا الْبِنَاءُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لأَنَّ 2 مَنْ قَالَ 2: مُوَافَقَةُ الأَمْرِ إنْ أَرَادَ الأَمْرَ الأَصْلِيَّ: فَلَمْ تَسْقُطْ3، أَوْ الأَمْرَ بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ: فَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُ الظَّنِّ4. فَيَلْزَمُ أَنْ لا تَكُونَ صَحِيحَةً مِنْ حَيْثُ عَدَمُ مُوَافَقَةِ الأَمْرِ الأَصْلِيِّ وَلا5 الأَمْرِ بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ"6.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ7. قَالَ: وَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ وَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ عِنْدَ الأَكْثَرِ8، وَقَطَعُوا بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ،
ـــــــ
1 هو محمد بن علي بن وهْب، تقي الدين، القشيْري، أبو الفتح، المنفلوطي المصري المالكي، ثم الشافعي، اشتهر بالتقوى حتى سمي بتقي الدين، وكان عالما زاهدا ورعا عارفا بالمذهب المالكي والمذهب الشافعي، متقناً لأصول الدين وأصول الفقه والنحو واللغة، له تصانيف كثيرة، منها: "الالمام" في آحاديث الأحكام، شرحه "الإمام" و "مقدمة المطرزي" في أصول الفقه، وشرح بعض "مختصر ابن الحاجب"، و "شرح العمدة" و "الاقتراح في علوم الحديث" و "الأربعين التساعية"، ولي فضاء الديار المصرية، وتوفي سنة 702هـ. انظر ترجمته في "شذرات الذهب 6/ 5، الدرر الكامنة 4/ 210، طبقات الشافعة الكبرى للسبكي 9/ 207، البدر الطالع 2/ 229، الديباج المذهب 2/ 318، الفتح المبين 2/ 102، طبقات الحفاظ ص513، حسن المحاضرة 1/ 317، شجرة النور ص189، تذكرة الحفاظ 4/ 1481".
2 ساقطة من ش.
3 في ع: يسقط.
4 في ز: النظر.
5 ساقطة من ب.
6 يقول الأنصاري في فواتح الرحموت "1/ 121": "فموافقة الأمر، وسقوط القضاء متلازمان عند التحقيق، ثم نقاش أدلة المتكلمين في ذلك.
7 في ع: الظاهر.
8 خلافاً للقاضي عبد الجبار وأتباعه. "انظر: ارشاد الفحول ص150".(1/466)
وَيَكُونُ الْخِلافُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا1. اهـ.
"وَ" الصِّحَّةُ "فِي مُعَامَلَةٍ: تَرَتُّبُ أَحْكَامِهَا" أَيْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَةِ "الْمَقْصُودَةِ بِهَا" أَيْ بِالْمُعَامَلَةِ، "عَلَيْهَا"2 وَذَلِكَ لأَنَّ3 الْعَقْدَ لَمْ يُوضَعْ إلاَّ لإِفَادَةِ مَقْصُودِ كَمَالِ النَّفْعِ فِي الْبَيْعِ. وَمِلْكِ الْبُضْعِ فِي النِّكَاحِ. فَإِذَا أَفَادَ مَقْصُودَهُ فَهُوَ صَحِيحٌ. وَحُصُولُ مَقْصُودِهِ: هُوَ تَرَتُّبُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، لأَنَّ الْعَقْدَ مُؤَثِّرٌ لِحُكْمِهِ وَمُوجِبٌ لَهُ4.
قَالَ الآمِدِيُّ: "وَلا بَأْسَ بِتَفْسِيرِ الصِّحَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ بِهَذَا"5.
قَالَ الطُّوفِيُّ: "لأَنَّ مَقْصُودَ الْعِبَادَةِ رَسْمُ6 التَّعَبُّدِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْهَا. فَإِذَا أَفَادَتْ ذَلِكَ كَانَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهَا كَافِيَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، فَتَكُونُ صَحِيحَةً"7.
ـــــــ
1 قال علماء الأصول: والقضاء واجب على القولين، ومن هنا نرى أن الخلاف بينهما لفظي لا حقيقي، لأن الصحة على قول المتكلمين في موافقة الأمر المتوجه على المكلف في الحال، وأن الفضاء يجب بأمر جديد، كما أن الصلاة على قول الفقهاء غير مجزئة، فليست صحيحة، ويجب قضاؤها، ولذلك قال القرافي: "فاتفقوا على أنه لا يجب الفضاء إذا لم يطلع على الحدث، وأنه يجب عليه القضاء إذا اطلع" "شرح تنقيح الفصول ص77" وانظر: المستصفى 1/ 95، نهاية السول 1/ 75، شرح الورقات ص30، تيسير التحرير 1/ 235، المدخل إلى مذهب أحمد ص69، مختصر الطوفي ص33.
2 انظر: المستصفى 1/ 94، فواتح الرحموت 1/ 122، شرح تنقيح الفصول ص76، الموافقات 1/ 197، شرح الورقات ص30، الإحكام، الآمدي 1/ 131، حاشة البناني على جمع الجوامع 1/ 100، مناهج العقول 1/ 73، التعريفات للجرجاني ص137، الروضة ص31، مختصر الطوفي ص33.
3 في ز: أن.
4 انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 101، نهاية السول 1/ 74، المدخل إلى مذهب أحمد ص69.
5 عبارة الآمدي: "ولو قيل للعبادة صحيحة بهذا التفسير فلا حرج" "الإحكام، له 1/ 131".
6 في ش: وسم.
7 قال الطوفي في مختصره: "الصحة في العبادات وقوع الفعل كافياً في سقوط القضاء" "مختصر الطوفي ص33"، وانظر: إرشاد الفحول ص105، المدخل إلى مذهب أحمد ص69.(1/467)
"وَيَجْمَعُهُمَا" أَيْ وَيَجْمَعُ الْعِبَادَةَ وَالْمُعَامَلَةَ فِي حَدِّ صِحَّتِهِمَا قَوْلُهُ: "تَرَتُّبُ أَثَرٍ مَطْلُوبٍ مِنْ فِعْلٍ عَلَيْهِ" أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ1. فَالْفُقَهَاءُ فَسَّرُوا الأَثَرَ الْمَطْلُوبَ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ بِمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ.
"فَبِصِحَّةِ عَقْدٍ يَتَرَتَّبُ أَثَرُهُ" مِنْ2 التَّمَكُّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ لَهُ3، كَالْبَيْعِ إذَا صَحَّ الْعَقْدُ تَرَتَّبَ أَثَرُهُ مِنْ مِلْكٍ، وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ هِبَةٍ وَوَقْفٍ وَأَكْلٍ وَلُبْسٍ وَانْتِفَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَا إذَا صَحَّ عَقْدُ النِّكَاحِ وَالإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَثَرُهَا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ لَهُ بِهِ. فَيَنْشَأُ ذَلِكَ عَنْ الْعَقْدِ.
وَتَرَتُّبُ الْعِتْقِ عَلَى الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ4 لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَتَرَتُّبُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، لِوُجُودِ الإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ، لا مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ فِي الثَّلاثِ.
"وَ" بِصِحَّةِ "عِبَادَةٍ" يَتَرَتَّبُ "إجْزَاؤُهَا، وَهُوَ" أَيْ إجْزَاؤُهَا "كِفَايَتُهَا فِي إسْقَاطِ التَّعَبُّدِ"5.
"وَيَخْتَصُّ" الإِجْزَاءُ "بِهَا" أَيْ بِالْعِبَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً6.
ـــــــ
1 انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 131، حاشية البناني 1/ 99، تيسير التحرير 2/ 234.
2 في ض: أي من.
3 انظر: الموافقات 1/ 197، المحلي على جمع الجوامع 1/ 101، الإحكام، للآمدي 1/ 131.
4 ساقطة من ز.
5 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 131، المحلي على جمع الجوامع 1/ 103، تيسير التحرير 2/ 228، نهاية السول 1/ 199.
6 ذهب القرافي وغيره إلى أن الإجزاء وصف للعبادة الوجبة فقط. وأن النوافل من العبادات توصف بالصحة دون الإجزاء كالعقود، وقال الجمهور إن الإجزاء يشمل العبادة الواجبة والمستحبة. "انظر: شرح تنقيح الفصول ص78، المحلي على جمع الجوامع 1/ 103 وما بعدها، نهاية السول 1/ 77، تيسير التحرير 2/ 236".(1/468)
وَتَفْسِيرُ إجْزَائِهَا بِكِفَايَتِهَا فِي إسْقَاطِ التَّعَبُّدِ يُنْقَلُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ1.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهُوَ أَظْهَرُ.
وَقِيلَ: الإِجْزَاءُ هُوَ الْكِفَايَةُ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ. وَيُنْقَلُ عَنْ الْفُقَهَاءِ2.
فَعَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ: فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِشُرُوطِهِ يَسْتَلْزِمُ الإِجْزَاءَ بِلا3 خِلافٍ. وَعَلَى الثَّانِي: يَسْتَلْزِمُهُ عِنْدَ الأَكْثَرِ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: "وَإِلاَّ لَكَانَ الأَمْرُ بَعْدَ الامْتِثَالِ مُقْتَضِيًا4 إمَّا لِمَا فُعِلَ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِ، فَالْمَجْمُوعُ مَأْمُورٌ بِهِ، فَلَمْ يُفْعَلْ إلاَّ بَعْضُهُ. وَالْفَرْضُ خِلافُهُ"5.
"وَكَصِحَّةِ قَبُولٍ وَنَفْيِهِ، كَنَفْيِ إجْزَاءٍ" يَعْنِي أَنَّ الْقَبُولَ مِثْلُ الصِّحَّةِ، فَلا يُفَارِقُهَا فِي إثْبَاتٍ وَلا نَفْيٍ. فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وُجِدَ الآخَرُ، وَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا انْتَفَى الآخَرُ. وَهَذَا6 الْمُقَدَّمُ فِي "التَّحْرِيرِ". وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ عَقِيلٍ
ـــــــ
1 انظر: الموافقات 1/ 197، الإحكام، الآمدي 1/ 131، تيسير التحرير 2/ 235، المحلي على جمع الجوامع 1/ 103، نهاية السول 1/ 199، إرشاد الفحول ص105، شرح تنقيح الفصول ص77، المدخل إلى مذهب أحمد ص71".
2 الإجزاء في العبادة بمعنى الصحة، والفرق بينهما أن الصحة وصف للعبادة والعقود، أما الإجزء فهو وصف للعبادة فقط فالصحة أعم من الإجزاء مطقاً، وقيل: الإجزاء شمل العبادة وغيرها، فعلى هذا فهما متسايان "انظر: شرح تنقيح الفصول ص77-78، نهاية السول 1/ 77 وما بعدها، شرح الورقات ص31، الإحكام، الآمدي 1/ 131، تيسير التحرير 2/ 235، المحلي على جمع الجوامع 1/ 103، مناهج العقول 1/ 86".
3 في ش: ولا.
4 في ع: يكون مقتضياً.
5 انظر أدلة الجمهور على سقوط القضاء بمجرد الإتيان بالمأمور به على وجهه، وأدلة المخالفين ومناقشتها في "إرشاد الفحول ص105، تيسير التحرير 2/ 238، نهاية السول 1/ 199".
6 في ش: وهو.(1/469)
فِي "الْوَاضِحِ".
وَقِيلَ: إنَّ الْقَبُولَ أَخَصُّ مِنْ الصِّحَّةِ، إذْ كُلُّ مَقْبُولٍ صَحِيحٌ وَلا عَكْسَ. وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ 1 أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" 2 وَ 1 "إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَوَالِيهِ" 3 وَ4 "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" 5 وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَيَكُونُ الْقَبُولُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ. وَالصِّحَّةُ قَدْ تُوجَدُ فِي الْفِعْلِ وَلا ثَوَابَ فِيهِ6.
لَكِنْ قَدْ أَتَى نَفْيُ الْقَبُولِ فِي الشَّرْعِ تَارَةً بِمَعْنَى نَفْيِ7 الصِّحَّةِ، كَمَا فِي
ـــــــ
1 ساقطة من ز ع ب ض.
2 رواه مسلم وأحمد، وهو حديث صحيح، وقد خص العدد بالأربعين، على عادة العرب، للتكثير، وخص الليلية لأن من عادة العرب ابتداء الحساب بالليالي، وخص الصلاة لكونها عماد الدين، ومعني عدم القبول عدم الثواب لا استحقاق العقاب، فالصلاة المقبولة يستحق فاعلها الثواب، والصلاة غير المقبولة لايستحق الثواب ولا العقاب، كما قال النووي، وقيل: إن عدم القبول يحبط تضيعف الأجر مع براءة الذمة من المطالبة. "انظر: صحيح مسلم 4/ 1751، فيض القدير 6/ 22، مسند أحمد 4/ 68".
3 حديث صحيح رواه مسلم عن جرير، والمعنى أن لا يثاب عليها مع صحتها لعدم التلازم بين القبول والصحة، فالصلاة غير مقبولة لاقترانها بمعصية، وصحيحة لوجود شروطها وأركانها. "انظر: صحيح مسلم 1/ 83، فيض القدير 1/ 238".
4 ساقطة من ش ع ب ض.
5 رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والطراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وراه أحمد وزاد: فإن مات مات كافراً. "انظر: تحفة الأحوذي 5/ 601، سنن النسائي 8/ 281، سنن ابن ماجة 2/ 1121، الترغيب والترهيب 3/ 264، فيض القدير 6/ 157، مسند أحمد 2/ 176".
6 انظر: المسودة ص52.
7 ساقطة من ز.(1/470)
حَدِيثِ1: "لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ" 2. وَ "لا تُقْبَلُ صَلاةُ حَائِضٍ إلاَّ بِخِمَارٍ" 3 وَ "لا تُقْبَلُ صَلاةُ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ" 4، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} 5.
وَتَارَةً بِمَعْنَى نَفْيِ الْقَبُولِ مَعَ وُجُودِ الصِّحَّةِ، كَمَا فِي الأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي الآبِقِ، وَشَارِبِ الْخَمْرِ، وَمَنْ أَتَى عَرَّافًا.
وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ فِي "الْوَاضِحِ". وَرَجَّحَ أَنَّ الصَّحِيحَ لا يَكُونُ إلاَّ
ـــــــ
1 في ش: الحديث.
2 رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماحه وأحمد والدرامي، وعَنْوَن به البخاري، والطهور –بضم الطاء- المراد به المصدر أي التطهير، والمراد هنا ما هو أعم من الوضوء والغسل، قال النووي: والقبول هنا يرادف الصحة، وهو الإجزاء... وعدم القبول عدم الصحة، والغُلُول: ما يؤخذ من جهة الخيانة في الغنيمة أو الغصب أو السرقة، والمعنى أن الله تعالى لا يقبلُ صدقة من مال غُلول. "انظر: صحيح مسلم 1/ 204، سنن أبي داود 1/ 47، سنن النسائي 1/ 75، سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 1/ 23، صحيح البخاري 1/ 38، سنن أبن ماجة 1/ 100، سنن الدارمي 1/ 175، فيض القدير 6/ 415، مسند أحمد 2/ 20".
3 رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وابن حبان عن عائشة مرفوعاً، والمقصود بالحائض المرأة التي بلغت سنّ الحيض، والخمار ما تستر به الرأس، خصّ الحيض لأنه أكثر ما يبلغ به الإناث، لا للاحتراز، فالصبية المميزة لا تقبل صلاتها إلا بخمار. "انظر: تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 2/ 377، سنن أبي داود 1/ 244، سنن ابن ماجة 1/ 215، فيض القدير 6/ 415-416، مسند أحمد 6/ 150".
4 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد عن أبي هريرة مرفوعاً، والقبول هنا يرادف الصحة أيضاً، ولما كان الإتيان بشروط الصلاة مظنة الإجزاء، وأن القبول ثمرته، عبر عن الصحة بالقبول مجازاً. "انظر: صحيح البخاري 1/ 38، صحيح مسلم 1/ 204، سنن أبي داود 1/ 47، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 1/ 102، فيض القدير 6/ 452، مسند أحمد 2/ 308".
5 الآية 91 من آل عمران.(1/471)
مَقْبُولاً، وَلا يَكُونُ مَرْدُودًا، إلاَّ1 وَهُوَ بَاطِلٌ2.
قَالَ3 ابْنُ الْعِرَاقِيِّ: ظَهَرَ لِي4 فِي الأَحَادِيثِ الَّتِي نُفِيَ فِيهَا الْقَبُولَ وَلَمْ تَنْتَفِ مَعَهُ الصِّحَّةُ - كَصَلاةِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ- أَنَّا نَنْظُرُ فِيمَا نُفِيَ، فَإِنْ قَارَنَتْ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَعْصِيَةٌ، - كَحَدِيثِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ-؛ انْتَفَى، الْقَبُولُ. أَيْ الثَّوَابُ، لأَنَّ إثْمَ الْمَعْصِيَةِ أَحْبَطَهُ، وَإِنْ لَمْ تُقَارِنْهُ مَعْصِيَةٌ. كَحَدِيثِ: "لا صَلاةَ إلاَّ بِطُهُورٍ" وَنَحْوِهِ، فَانْتِفَاءُ الْقَبُولِ سَبَبُهُ انْتِفَاءُ الشَّرْطِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَنَحْوُهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الشَّرْطِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ. انْتَهَى.
"وَ" الصِّحَّةُ - بِاعْتِبَارِ إطْلاقَاتِهَا- ثَلاث:
- "شَرْعِيَّةٌ، كَمَا هُنَا" وَتُرْسَمُ بِـ "مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِي جَوَازِ الإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُتَّصِفِ بِهَا"، وَهُوَ يَشْمَلُ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إلاَّ التَّحْرِيمَ، فَإِنَّهُ لا إذْنَ فِيهِ، وَالأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ: فِيهَا5 الإِذْنُ اتِّفَاقًا6 فِي جَوَازِ الإِقْدَامِ 7 عَلَى الْفِعْلِ الْمُتَّصِفِ بِهَا 7.
- "وَ" الثَّانِيَةُ: "عَقْلِيَّةٌ، كَإِمْكَانِ الشَّيْءِ وُجُودًا وَعَدَمًا" يَعْنِي بِأَنْ يَتَعَلَّقَ8 وُجُودُ الْمُمْكِنِ وَعَدَمُ الْمُمْتَنِعِ.
- "وَ" الثَّالِثَةُ: "عَادِيَّةٌ، كَمَشْيٍ وَنَحْوِهِ" كَجُلُوسٍ وَاضْطِجَاعٍ. وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلا مَأْمُورٌ بِهِ، وَلا مَشْرُوعٌ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 انظر: المسودة ص52.
3 في ز ع ض: وقال.
4 ساقطة من ش.
5 ساقطة من ش.
6 ساقطة من ش.
7 ساقطة من ز ع ب ض.
8 في ش: يتعلق.(1/472)
عَلَى الإِطْلاقِ، إلاَّ وَفِيهِ الصِّحَّةُ الْعَادِيَّةُ. وَلِذَلِكَ حَصَلَ الاتِّفَاقُ1 عَلَى أَنَّ اللُّغَةَ لَمْ يَقَعْ فِيهَا طَلَبُ وُجُودٍ وَلا عَدَمٍ، إلاَّ فِيمَا يَصِحُّ عَادَةً. وَإِنْ جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ مَا لا يُطَاقُ.
"وَبُطْلانٌ وَفَسَادٌ مُتَرَادِفَانِ، يُقَابِلانِ الصِّحَّةَ2 الشَّرْعِيَّةَ" سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوْ فِي الْمُعَامَلاتِ3.
فَهُمَا فِي الْعِبَادَاتِ4: عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ تَرَتُّبِ الأَثَرِ عَلَيْهَا، أَوْ عَدَمِ سُقُوطِ الْقَضَاءِ، أَوْ5 عَدَمِ6 مُوَافَقَةِ الأَمْرِ، وَفِي الْمُعَامَلاتِ: عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ تَرَتُّبِ الأَثَرِ عَلَيْهَا7.
وَفَرَّقَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الْبُطْلانِ وَالْفَسَادِ8.
ـــــــ
1 في ع: اتفاق الناس.
2 ساقطة من ش ز.
3 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 131، المحلي على جمع الجوامع 1/ 105، نهاية السول 1/ 84، شرح العضد 2/ 7، الموافقات 1/ 198، المسودة ص80، المستصفى 1/ 95، الروضة ص31، مختصر الطوفي ص33، المدخل إلى مذهب أحمد ص69، التمهيد ص8.
4 في ز ض ع: العبادة.
5 في ب: و.
6 في ع: أعدم.
7 انظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 105، نهاية السول 1/ 74، الإحكام، الآمدي 1/ 131، شرح الورقات ص31، المستصفى 1/ 95، شرح تنقيح الفصول ص76، التعريفات للجرجاني ص43، المدخل إلى مذهب أحمد ص69.
8 يرى الحنفية أن الفاسد والباطل بمعنى واحد في العبادات، ولكنهم يفرقون بينهما في المعاملات، فقال أبو حنيفة: الفاسد: هو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه، ويفيد الملك عند اتصال القبض به، والباطل مالم يشرع بأصله ولا بوضعه. "انظر: التعريفات للجرجاني ص170، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 7، تيسير التحرير 2/ 236، شرح تنقيح الفصول ص77، المحلي على جمع الجوامع 1/ 106، نهاية السول 1/ 75، التمهيد ص8، المسودة ص80، القواعد والفوائد الأصولية ص110، الإحكام، الآمدي 1/ 131، الفروق 2/ 82".(1/473)
وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ فِي الْفِقْهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ1.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": قُلْت غَالِبُ الْمَسَائِلِ الَّتِي حَكَمُوا عَلَيْهَا بِالْفَسَادِ إذَا كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَاَلَّتِي حَكَمُوا عَلَيْهَا بِالْبُطْلانِ إذَا كَانَتْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، أَوْ الْخِلافُ فِيهَا شَاذٌّ، ثُمَّ وَجَدْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: الْفَاسِدُ مِنْ النِّكَاحِ مَا يَسُوغُ فِيهِ الاجْتِهَادُ، وَالْبَاطِلُ مَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى بُطْلانِهِ2.
"فَوَائِدُ":
"النُّفُوذُ3: تَصَرُّفٌ لا يَقْدِرُ فَاعِلُهُ عَلَى رَفْعِهِ" كَالْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ مِنْ الْبَيْعِ وَالإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا4، إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهَا، وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهَا5، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَالطَّلاقُ وَالْفَسْخُ وَنَحْوُهَا.
وَقِيلَ: إنَّهُ مُرَادِفٌ لِلصِّحَّةِ6.
ـــــــ
1 إن التفريق بين الفاسد والباطل عند الجمهور بسبب الدليل، وليس كما يقول الحنفية: "إن الباطل ما لم يشرع بالكلية، والفاسد ما شرع أصله، وامتنع لاشتماله على وصف محرم"، ولذلك قال الجمهور: المنهي عنه فاسد وباطل، سواء كان النهي لعينه أو لوصفه.
ومن المسائل التي فرق فيها الجمهور بين الفاسد والباطل الحج والنكاح والوكالة والخلع والإجارة... "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص111 وما بعدها، التمهيد ص8، شرح الورقات ص32، نهاية السول 1/ 74، الفروق 3/ 82".
2 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص70، القواعد والفوائد الأصولية ص112.
3 في د: العقود.
4 ومناسبة هذه الفائدة أن الإجزاء يختص بالعبادة عند الأكثر، والنفوذ يختص بالعقود، عند الأكثر. "انظر: شرح الورقات ص31".
5 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص71.
6 انظر: شرح الورقات ص31.(1/474)
قَالَ ابْنُ الْفِرْكَاحِ1: "نُفُوذُ الْعَقْدِ: أَصْلُهُ: مِنْ نُفُوذِ السَّهْمِ، وَهُوَ بُلُوغُ الْمَقْصُودِ مِنْ الرَّمْيِ، وَكَذَلِكَ الْعَقْدُ إذَا أَفَادَ الْمَقْصُودَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ نُفُوذًا، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْعَقْدِ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ، مِثْلُ: الْبَيْعِ إذَا أَفَادَ الْمِلْكَ وَنَحْوَهُ قِيلَ لَهُ صَحِيحٌ، وَيُعْتَدُّ بِهِ. فَالاعْتِدَادُ بِالْعَقْدِ هُوَ الْمُرَادُ بِوَصْفِهِ، بِكَوْنِهِ2 نَافِذًا".
وَقَالَ فِي "مَتْنِ الْوَرَقَاتِ": وَالصَّحِيحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ3.
"وَالْعَزِيمَةُ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ".
قَالَ فِي "الْقَامُوسِ": "عَزَمَ عَلَى الأَمْرِ يَعْزِمُ عَزْمًا4 - وَيُضَمُّ- وَمَعْزَمًا وَعُزْمَانًا5 - بِالضَّمِّ- وَعَزِيمًا وَعَزِيمَةً، 6 وَعَزَمَهُ وَاعْتَزَمَهُ 6، وَعَلَيْهِ، وَتَعَزَّمَ أَرَادَ فِعْلَهُ، وَقَطَعَ عَلَيْهِ أَوْ7 جَدَّ فِي الأَمْرِ، وَعَزَمَ الأَمْرُ نَفْسُهُ عُزِمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى
ـــــــ
1 هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم، الشيخ برهان الدين بن الفِرْكاح، الفَزاري، العلامة فقيه الشام، شيخ الشافيعة في زمانه، قال ابن السبكي: "وكان ملازماً للشغل بالعلم والإفادة والتعليق سديد السيرة، كثيرة الورع، مُجمعاً على تقدمه في الفقه ومشاركته في الأصول والنحو والحديث" أخذ الكثير عن والده، وخلفه في تدريس الطلبة ولإفتاء، وعرض عليه القضاء فامتنع، وتولى الخطابة بعد موت عمه، له مصنفات كثيرة، منها: "التعليقة" على التنبيه للشيرازي في عشر مجلدات، و "تعليقة على مختصر ابن الحاجب" في الأصول، وعلق على "المنهاج" توفي بدمشق سنة 729هـ. "انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 9/ 312، الدرر الكامنة 1/ 35، شذرات الذهب 6/ 88، المنهل الصافي 1/ 80، طبقات الشافعيه، للأسنوي 2/ 290، مرآة الجنان 4/ 279، الفتح المبين 2/ 135".
2 في ش ز: وبكونه.
3 انظر: شرح الورقات ص31.
4 كذا في القاموس و ع، وفي ش ز ب ض: عزمه، وهي صواب لغة، كما جاء في "لسان العرب 12/ 399".
5 في ش ز ب: وعزماً.
6 في ش ض: وعزمة وأعزامه.
7 كذا في القاموس، وفي ش ز ض ع ب: و.(1/475)
الرَّجُلِ: أَقْسَمَ، وَالرَّاقِي قَرَأَ1 الْعَزَائِمَ: أَيْ الرُّقَى. وَ2 هِيَ آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ تُقْرَأُ عَلَى ذَوِي الآفَاتِ رَجَاءَ الْبُرْءِ، وَأُولُو الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ: الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فِيمَا عَهِدَ إلَيْهِمْ. وَهُمْ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ"3.
"وَ" الْعَزِيمَةُ "شَرْعًا" أَيْ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "حُكْمٌ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَالٍ عَنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ4".
"فَشَمِلَ"5 الأَحْكَامَ "الْخَمْسَةَ": لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. فَيَكُونُ فِي الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى مَعْنَى التَّرْكِ. فَيَعُودُ الْمَعْنَى فِي تَرْكِ الْحَرَامِ إلَى الْوُجُوبِ6.
وَقَوْلُهُ: "بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ": احْتِرَازٌ عَنْ7 الثَّابِتِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ.
ـــــــ
1 كذا في القاموس، وفي ش: وفي ز ض ع ب: في.
2 في ض: إذ.
3 القاموس المحيط 4/ 151، وانظر: المصباح المنير 2/ 626، لسان 12/ 399.
4 ساقطة من ز.
5 في ض: فتشمل.
6 قال الطوفي: "إن العزيمة تشمل الواجب والحرام والمكروه". وقال الآمدي وابن قدامة: إن العزيمة تختص بالواجب، وقال القرافي: تخص بالواجب والمندوب، وقال الحنفية: العزيمة تشمل الفرض والواجب والسنة والنقل، "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص114 وما بعدها، الإحكام، الآمدي 1/ 131، الروضة ص32، شرح تنقيح الفصول ص87، فواتح الرحموت 1/ 119، التوضيح على التنقيح 3/ 82، كشف الأسرار 2/ 300، حاشية البناني على جمع الجوامع وتقريرات الشربيني 1/ 123، تيسير التحرير 2/ 229" وانظر مناقشة التفتازاني للقرافي والحنفية في "التلويح على التوضيح 3/ 83".
7 في ع ب ض: من.(1/476)
وَقَوْلُهُ: "خَالٍ1 عَنْ مُعَارِضٍ": احْتِرَازٌ عَمَّا2 يَثْبُتُ3 بِدَلِيلٍ، لَكِنْ لِذَلِكَ الدَّلِيلِ مُعَارِضٌ، مُسَاوٍ أَوْ رَاجِحٌ؛ لأَنَّهُ إنْ4 كَانَ الْمُعَارِضُ مُسَاوِيًا لَزِمَ الْوَقْفُ5 وَانْتَفَتْ الْعَزِيمَةُ. وَوَجَبَ طَلَبُ الْمُرَجِّحِ الْخَارِجِيِّ، وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا، لَزِمَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَانْتَفَتْ الْعَزِيمَةُ، وَثَبَتَتْ6 الرُّخْصَةُ كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَخْمَصَةِ فَالتَّحْرِيمُ فِيهَا عَزِيمَةٌ، لأَنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَالٍ عَنْ مُعَارِضٍ. فَإِذَا وُجِدَتْ الْمَخْمَصَةُ حَصَلَ الْمُعَارِضُ7 لِدَلِيلِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ رَاجِحٌ عَلَيْهِ، حِفْظًا لِلنَّفْسِ، فَجَازَ الأَكْلُ، وَحَصَلَتْ الرُّخْصَةُ8.
"وَالرُّخْصَةُ لُغَةً: السُّهُولَةُ".
قَالَ فِي "الْمِصْبَاحِ": يُقَالُ: رَخَّصَ الشَّارِعُ لَنَا فِي كَذَا تَرْخِيصًا. وَأَرْخَصَ إرْخَاصًا: إذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ، وَفُلانٌ يَتَرَخَّصُ فِي الأَمْرِ إذَا لَمْ يَسْتَقْصِ، وَقَضِيبٌ رَخْصٌ أَيْ طَرِيٌّ9 لَيِّنٌ، وَرَخُصَ الْبَدَنُ - بِالضَّمِّ- رَخَاصَةً
ـــــــ
1 ساقطة من ز.
2 في ز ض ع ب: مما.
3 في ب: ثبت.
4 في ش: إذا.
5 في ش: التوقف.
6 في ش: وتثبت.
7 في ز العارض.
8 انظر في تعريف العزيمة "الإحكام، الآمدي 1/ 131، جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 124، كشف الأسرار 2/ 298، أصول السرخسي 1/ 117، نهاية السول 1/ 91، مناهج العقول 1/ 89، التعريفات للجرجاني ص155، المستصفى 1/ 98، القواع والفوائد الأصولية ص114، مختصر الطوفي ص34، الروضة ص32، المدخل إلى مذهب أحمد ص71، شرح تنقيح الفصول ص85، 87، التوضيح على التنقيح 3/ 82".
9 في ش: طرف.(1/477)
وَرُخُوصَةً: إذَا نَعُمَ وَلانَ مَلْمَسُهُ، فَهُوَ رَخِيصٌ1.
"وَ" الرُّخْصَةُ "شَرْعًا: مَا ثَبَتَ عَلَى خِلافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ2".
فَقَوْلُهُ: "مَا ثَبَتَ عَلَى خِلافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ". احْتِرَازٌ عَمَّا3 ثَبَتَ4 عَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ. فَإِنَّهُ لا يَكُونُ رُخْصَةً، بَلْ عَزِيمَةً. كَالصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ5.
وَقَوْلُهُ: "لِمُعَارِضٍ6 رَاجِحٍ": احْتِرَازٌ عَمَّا7 كَانَ لِمُعَارِضٍ غَيْرِ رَاجِحٍ، بَلْ إمَّا مُسَاوٍ، فَيَلْزَمُ الْوَقْفُ8 عَلَى حُصُولِ الْمُرَجِّحِ، أَوْ قَاصِرٍ عَنْ مُسَاوَاةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَلا يُؤَثِّرُ، وَتَبْقَى الْعَزِيمَةُ بِحَالِهَا9. وَهَذَا الَّذِي فِي الْمَتْنِ ذَكَرَهُ الطُّوفِيُّ فِي "مُخْتَصَرِهِ"10.
ـــــــ
1 كذا في المصباح المنير 1/ 342، 343، وفي جميع النسخ: رخيص، لكن جاء في المصباح المنير: رخُص الشيء رُخْصاً فهو رخيص من باب قَرُب، "واننظر: القاموس المحيط 2/ 316".
2 انظر في تعريف الرخصة "نهاية السول 1/ 87، المستصفى 1/ 98، تيسير التحرير 2/ 228، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 7، كشف الأسرار 2/ 298، الإحكام، الآمدي 1/ 132، التلويح على التوضيح 3/ 81، الموفقات 1/ 205، أصول السرخسي 1/ 117، مناهج العقول 1/ 87، التعريفات ص115، شرح تنقيح الفصول ص85، حاشية البناني 1/ 120، المدخل إلى مذهب أحمد ص71، القواعد والفوائد الأصولية ص 115، الروضة ص32".
3 في ز ع ب ض: مما.
4 في ع ب: يثبت.
5 قال الإسنوي: "هذا تقسيم للحكم باعتبار كونه على وفق الدليل أو خلافه" "نهاية السول 1/ 189".
6 المعارض هو العذر "مناهج العقول 1/ 87".
7 في ز ع ب ض: مما
8 في ش: التوقف.
9 إنْ الرخصة لا تثبت إلا بدليل، وإلا يلزم ترك العمل بالدليل الأصلي السالم عن المعارص، "انظر: نهاية السول 1/ 89، الإحكام، الآمدي 1/ 132".
10 مختصر الطوفي ص34.(1/478)
وَقَالَ الطُّوفِيُّ فِي 1 شَرْحِ مُخْتَصَرِهِ 1: "فَلَوْ قَيلَ2: اسْتِبَاحَةَ الْمَحْظُورِ شَرْعًا مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ3. صَحَّ وَسَاوَى الأَوَّلَ".
وَقَالَ الْعَسْقَلانِيُّ فِي "شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطُّوفِيِّ": "أَجْوَدُ مَا يُقَالُ فِي الرُّخْصَةِ: "ثُبُوتُ حُكْمٍ لِحَالَةٍ تَقْتَضِيهِ، مُخَالَفَةُ مُقْتَضَيْ دَلِيلٍ يَعُمُّهَا". وَهَذَا الْحَدُّ لابْنِ حَمْدَانَ فِي "الْمُقْنِعِ".
"وَمِنْهَا" أَيْ مِنْ4 الرُّخْصَةِ "وَاجِبٌ" كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ. فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الأَكْثَرُ؛ لأَنَّهُ سَبَبٌ لإِحْيَاءِ النَّفْسِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ وَاجِبٌ5، وَذَلِكَ: لأَنَّ النُّفُوسَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُكَلَّفِينَ، 6 فَيَجِبُ حِفْظُهَا 6، لِيَسْتَوْفِيَ7 اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَقَّهُ مِنْهَا بِالْعِبَادَاتِ وَالتَّكَالِيفِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} 8، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 9.
"وَ" مِنْهَا " مَنْدُوبٌ" كَقَصْرِ الْمُسَافِرِ10 الصَّلاةَ إذَا اجْتَمَعَتْ الشُّرُوطُ،
ـــــــ
1 في ب: شرحه.
2 في ش: قبل.
3 انظر: القواعد والفوئد الأصولية ص115، كشف الآسرار 2/ 298، 299، وفي ع ض: الحاضر.
4 ساقطة من ع ض ب.
5 انظر: شرح تنقيح الفصول ص87، الإحكام، الآمدي 1/ 132، التوضيح على التنقيح 3/ 83، تيسير التحرير 2/ 232، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 122، التمهيد ص12، الروضة ص33، مختصر الطوفي ص35، القواعد والفوائد الأصولية ص117.
6 ساقطة من ز.
7 في ز: ليوفي.
8 الآية 195 من البقرة.
9 الآية 29 من النساء.
10 ساقطة من ض.(1/479)
وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ1.
"وَ" مِنْهَا "مُبَاحٌ" كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ2. وَكَذَا مَنْ3 أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ4. وَكَذَا بَيْعُ الْعَرَايَا5، لِلْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ6.
وَفُهِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ: أَنَّ الرُّخْصَةَ لا تَكُونُ مُحَرَّمَةً وَلا مَكْرُوهَةً7، وَهُوَ
ـــــــ
1 خلافاً للحنفية، فإنهم يعتبرون القصر للمسافر عزيمة، وليس له أنْ يصلي أربعاً. "انظر: مناهج العقول 1/ 88".
2 إن الجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة مباحّ ورخصة للمكلف عند الجمهور، خلافاً للحنفية الذين يمنعون الجمع إلا في مزدلفة وعرفة. "انظر: نهاية السول 1/ 190، التمهيد ص13".
3 في ع: لمن.
4 يرى بعض العلماء أن الأفضل عدمُ النطق بكلمة الكفر، والنطق بها خلاف الأولى، والأولى الصبر وتحمل الأذى في سبيل الإيمان. "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص118، فواتح الرحموت 1/ 117".
5 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص120، كشف الأسرار 2/ 222، تيسير التحرير 2/ 228، العضد على ابن الحاجب 2/ 9، حاشية البناني 1/ 121، التمهيد ص13، الروضة ص33، مختصر الطوفي ص35.
6 وهو ما رواه البخاري والترمذي وأحمد عن رافع بن خُديج وسهل بن ابي حثمة، وروى البخاري ومسلم ومالك حديثاً بلفظ: "إلا أنه رخص في بيع العرية: النخلة والنخلتين يأخذهما أهل البيت يخرصها تمراً، يأكلون رطباً"، والعرية في الأصل ثمر النخل دون الرقبة، كانت العرب في الجدب تتطوع بذلك على من لا تمر له، وقال مالك: العرية: أن يعري الرجل النخلة، أي يهبها له، أو يهب له ثمرها ثم يتأذى بدخوله عليه، ويرخص الموهوب له للواهب أن يشتري رطبها منه بتمر يابس. "انظر: نيل الأوطار 5/ 225، مسند أحمد 4/ 140، الموطأ 2/ 620، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 4/ 527، فتح الباري بشرح البخاري 4/ 263، صحيح مسلم 3/ 1167".
7 قال البعلي: "ومن الرخص ما هو مكروه، كالسفر للترخص" "القواعد والفوائد الأصولية ص118، 119". وانظر: أصول السرخسي 1/ 118، 119، التوضيح على التنقيح 3/ 85، تيسير التحرير 2/ 228، حاشية البناني 1/ 121، فواتح الرحموت 1/ 117، التمهيد ص13، مختصر الطوفي ص35، المدخل إلى مذهب أحمد ص72.(1/480)
ظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ" 1.
وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا خُفِّفَ عَنَّا مِنْ التَّغْلِيظِ الَّذِي كان2 عَلَى الأُمَمِ قَبْلَنَا لَيْسَ بِرُخْصَةٍ شَرْعِيَّةٍ، لَكِنْ قَدْ يُسَمَّى رُخْصَةً مَجَازًا3، بِمَعْنَى أَنَّهُ سُهِّلَ عَلَيْنَا مَا شُدِّدَ عَلَيْهِمْ، رِفْقًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَةً بِنَا مَعَ جَوَازِ إيجَابِهِ عَلَيْنَا، كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ، لا عَلَى مَعْنَى أَنَّا اسْتَبَحْنَا شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمِ4 عَلَيْهِمْ، مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ فِي حَقِّنَا، لأَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لا عَلَيْنَا. فَهَذَا وَجْهُ التَّجَوُّزِ، وَعَدَمُ كَوْنِ الأَوَّلِ لَيْسَ بِرُخْصَةٍ، لأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ5.
"وَالاثْنَتَانِ" أَيْ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ "وَصْفَانِ لِلْحُكْمِ" لا لِلْفِعْلِ فَتَكُونُ الْعَزِيمَةُ بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ، وَتَكُونُ الرُّخْصَةُ بِمَعْنَى التَّرْخِيصِ6. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَاقْبَلُوا رُخْصَةَ اللَّهِ" 7، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ
ـــــــ
1 رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر، ورواه الطبراني عن ابن عباس وابن مسعود، وهو حديث ضعيفن، وقال ابن طاهر: وفقه على ابن مسعود أصح. "انظر: فيض القدير 2/ 292، مسند أحمد 2/ 108".
2 ساقطة من ش ز.
3 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 133، المستصفى 1/ 98، فواتح الرحموت 1/ 118، أصول السرخسي 1/ 120، تيسير التحرير 2/ 232، مختصر الطوفي ص34.
4 في ض: العزم.
5 انظر: الموافقات 1/ 207، أصول السرخسي 1/ 130 التوضيخ على التنقيح 3/ 86، كشف الأسرار 2/ 320، تيسير التحرير 2/ 232، المستصفى 1/ 98.
6 انظر: المستصفى 1/ 98، 100، حاشية البناني 1/ 124، الإحكام، الآمدي 1/ 131، تيسير التحرير 2/ 228، التمهيد ص12، القواعد والفوائد الأصولية ص116، المدخل إلى مذهب أحمد ص71.
7 رواه مسلم اللفظ، وروى معناه أصحاب السنن وأحمد في صيام المسافر. "انظر: صحيح مسلم 1/ 478، 2/ 786، سنن النسائي 4/ 147، فيض القدير 5/ 381، تفيسر ابن كثير 2/ 374، مسند أحمد 5/ 58، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 3/ 397، سنن أبي داود 2/ 426، سنن ابن ماجة 1/ 531".(1/481)
عَطِيَّةَ1: "نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا"2.
وَقِيلَ: هُمَا وَصْفَانِ لِلْفِعْلِ3.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمَا وَصْفان4 لِلْحُكْمِ. فَقَالَ جَمْعٌ: هُمَا وَصْفَانِ لِلْحُكْمِ "الْوَضْعِيِّ" 5 أَيْ فَيَكُونَانِ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ لا مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ 5، مِنْهُمْ. الآمِدِيُّ6. وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ حَمْدَانَ فِي "مُقْنِعِهِ"7. وَقَالَ جَمْعٌ: لِلْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ8 لِمَا فِيهِمَا مِنْ مَعْنَى الاقْتِضَاءِ9.
ـــــــ
1 هي نُسَيبةُ بنت الحارث، الصحابية، أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاركت بالجهاد، قال: "عزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وكنت أخالفهم في الرجال، وأصنع لهم الطعام، وأقوم على المرضى، وأداوي الجرحى"، روت عدة أحاديث في الصحيحين وغيرهما. "انظر: الإصابة 4/ 476، الاستيعاب 4/ 471، صفة الصفوة 2/ 71، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 364".
2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد، "انظر: صحيح البخاري 1/ 221، صحيح مسلم 2/ 646، سنن أبي داود 3/ 274، سنن ابن ماجة 1/ 502، مسند أحمد 5/ 85، الفتح الرباني 8/ 21".
3 وهو قول ابن الحاجب والرازي وغير هما، وقالوا: إن الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به إما أن يكون عزيمة أو رخصة. "انظر: مختصر ابن الحاجب وشرح العضد عليه 2/ 8، التمهيد ص12، حاشية البناني 1/ 124". وقارن ما نقله البعلي عن الرازي وابن الحاجب في "القواعد والفوائد الأصولية ص116".
4 في ش: وصف.
5 ساقطة من ز ع ض، لكن كتبت في ع بعد سطرين.
6 الإحكام، له 1/ 131.
7 انظر: المستصفى 1/ 89، الموافقات 1/ 122، المسودة ص80، فواتح الرحموت 1/ 116، القواعد والفوائد الأصولية ص116.
8 في ع: التكليفي أي فيكونان من خطاب الوضع، لا من خطاب التكليف.
9 وهو رأي ابن السبكي والإسنوي والعضد من الشافعية، وصدر الشريعة من الحنفية, "انظر: جمع الجوامع مع حاشية البناني 1/ 119، كشف الأسرار 2/ 298، شرح العضد على ابن الحاجب وحاشية التفتازاني 2/ 8، القواعد والفوائد الأصولية ص116".(1/482)
"فَصْلٌ":"التَّكْلِيفُ لُغَةً: إلْزَامُ1 مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ" فَإِلْزَامُ الشَّيْءِ، وَالإِلْزَامُ بِهِ: هُوَ تَصْيِيرُهُ لازِمًا لِغَيْرِهِ، لا2 يَنْفَكُّ عَنْهُ مُطْلَقًا، أَوْ وَقْتًا مَا.
قَالَ فِي "الْقَامُوسِ": "وَالتَّكْلِيفُ: الأَمْرُ بِمَا يَشُقُّ، وَتَكَلَّفَهُ تَجَشَّمَهُ"3. وَقَالَ أَيْضًا: "أَلْزَمَهُ إيَّاهُ فَالْتَزَمَهُ، إذَا لَزِمَ شَيْئًا لا يُفَارِقُهُ"4.
"وَ" التَّكْلِيفُ "شَرْعًا" أَيْ: فِي اصْطِلاحِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ: "إلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ" فَيَتَنَاوَلُ الأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ: الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ، الْحَاصِلَيْنِ عَنْ الأَمْرِ، وَالْحَظْرَ وَالْكَرَاهَةَ، الْحَاصِلَيْنِ عَنْ النَّهْيِ. وَالإِبَاحَةَ الْحَاصِلَةَ عَنْ التَّخْيِيرِ، إذَا قُلْنَا إنَّهَا مِنْ خِطَابِ الشَّرْعِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ فِي الْمُبَاحِ وُجُوبَ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ مُبَاحًا5، أَوْ6 اخْتِصَاصَ اتِّصَافِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِمَا دُونَ فِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ7.
ـــــــ
1 في ع: الالزام.
2 في ع: ولا.
3 القاموس المحيط: 3/ 198، وانطر: المصباح المنير 2/ 828.
4 القاموس المحيط 4/ 177، وانظر: المصباح المنير 2/ 852.
5 وهذا من مقتضيات الخطاب المذكور، وفي قولٍ إنّ الإباحة ليست تكليفاً، لأن التكليف هو الخطاب بأمر أو نهي. "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص58، مختصر الطوفي ص11، الفروق 1/ 161، تهذيب الفروق 1/ 176".
6 في ع: و.
7 انظر تعريف التكليف في "التعريفات ص58، طبعة الحلبي، المدخل إلى مذهب أحمد ص58، الروضة ص26،مختصر الطوفي ص11،الفروق 1/ 161".(1/483)
"وَالْمَحْكُومُ بِهِ" 1 عَلَى الْمُكَلَّفِ "فِعْلٌ بِشَرْطِ إمْكَانِهِ2".
الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْثِ فِيهِ النَّظَرُ فِي أَشْيَاءَ:
- الأَوَّلُ: النَّظَرُ فِي الْحَاكِمِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
- الثَّانِي: النَّظَرُ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعَبْدُ الْمُكَلَّفُ.
- الثَّالِثُ: النَّظَرُ فِي الْمَحْكُومِ بِهِ، وَهُوَ الْفِعْلُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا3.
وَيَسْتَدْعِي ذَلِكَ: أَنَّ الْفِعْلَ 4 غَيْرُ الْمَقْدُورِ 4 عَلَيْهِ هَلْ يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ أَوْ لا؟ وَيُسَمَّى التَّكْلِيفُ بِهِ: التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ، وَهُوَ أَقْسَامٌ:
- أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، كَجَمْعِ الضِّدَّيْنِ، وَإِيجَادِ الْقَدِيمِ وَإِعْدَامِهِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَمْتَنِعُ تَصَوُّرُهُ. فَإِنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةٌ مُطْلَقًا5.
- ثَانِيهَا: مَا يَكُونُ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى كَالتَّكْلِيفِ بِخَلْقِ الأَجْسَامِ وَبَعْضِ الأَعْرَاضِ.
- ثَالِثُهَا: مَا 6 لَمْ تَجْرِ 6 عَادَةٌ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ عَلَى مِثْلِهِ لِلْعَبْدِ مَعَ جَوَازِهِ،
ـــــــ
1 المحكوم به هو فعل المكلف، وذلك لأن فعل المكلف يوصف بأنه مأمور به أو منهي عنه، بينما يطلق أكثر علماء الأصول على المحكوم به لفظ "المحكوم فيه" لأن الشارع جعل الفعل محكوماً فيه بالوجوب أو التحريم. "انظر: المستصفى 1/ 86، التوضيح على التنقيح 3/ 129، تيسير التحرير 2/ 184، فواتح الرحموت 1/ 123، مناهج العقول 1/ 181، العضد على ابن الحاجب 2/ 9، المسودة ص80".
2 في ض: إحكامه.
3 انظر: المستصفى 1/ 86، العضد على ابن الحاجب 2/ 9، إرشاد الفحول ص9، الروضة ص28، مختصر الطوفي ص15، المدخل إلى مذهب أحمد ص59.
4 في ز ع ض ب: الغير مقدور.
5 انظر: نهاية السول 1/ 185، المسودة ص76.
6 في ش: لا تجري.(1/484)
كَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ، وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ1.
- رَابِعُهَا: مَا لا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ حَالَ2 تَوَجُّهِ الأَمْرِ، وَلَهُ الْقُدْرَةُ3 عَلَيْهِ عِنْدَ الامْتِثَالِ. كَبَعْضِ الْحَرَكَاتِ4.
- خَامِسُهَا: مَا فِي امْتِثَالِهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ كَالتَّوْبَةِ بِقَتْلِ النَّفْسِ5.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا "فَيَصِحُّ" مِنْ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ "بِمُحَالٍ لِغَيْرِهِ" إجْمَاعًا، كَتَكْلِيفِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ لا يُؤْمِنُ بِالإِيمَانِ وَذَلِكَ لأَنَّ6 اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَبَعَثَ الرُّسُلَ بِطَلَبِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَعَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لا يُؤْمِنُ7.
وَ "لا" يَصِحُّ التَّكْلِيفُ مِنْ ذَلِكَ8 بِمُحَالٍ "لِذَاتِهِ"، وَهُوَ الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، "وَ" لا بِمُحَالٍ "عَادَةً" كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ، وَنَحْوِهِمَا عِنْدَ الأَكْثَرِ9. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ
ـــــــ
1 انظر: نهاية السول 1/ 185.
2 في ز ب ع ض: بحال.
3 في ض: قدرة.
4 انظر: نهاية السول 1/ 185.
5 المرجع السابق.
6 في ش: أن.
7 انظر: نهاية السول 1/ 185، 188، شرح تنقيح الفصول ص143، المحلي وحاشية البناني 1/ 206، 208، فواتح الرحموت 1/ 127، العضد على ابن الحاجب وحاشية التفتازاني 2/ 9، الإحكام، الآمدي 1/ 134، تيسير التحرير 2/ 139، 140، إرشاد الفحول ص9، المسودة ص89، الروضة ص28، مختصر الطوفي ص15.
8 في ش: جهة، وفي ب: سقطت "من ذلك".
9 انظر: الموافقات 2/ 76، الإحكام، الآمدي 1/ 135، تيسير التحرير 2/ 137، المستصفى 1/ 86، المحلي على جمع الجوامع 1/ 206، فواتح الرحموت 1/ 123، العضد على ابن الحاجب 2/ 9، إرشاد الفحول ص9، الروضة ص28، مختصر الطوفي ص15، المدخل إلى مذهب أحمد ص59، نهاية السول 1/ 186، المسودة ص79.(1/485)
وَالأَصْفَهَانِيّ، وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَحُكِيَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ وَأَبِي الْمَعَالِي، وَابْنِ حَمْدَانَ فِي "نِهَايَةِ الْمُبْتَدَئِينَ"1.
وَقَالَ أَكْثَرُ الأَشْعَرِيَّةِ وَالطُّوفِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: بِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ مُطْلَقًا2، قَالَ الآمِدِيُّ: وَهُوَ لازِمُ أَصْلِ الأَشْعَرِيَّةِ فِي وُجُوبِ مُقَارَنَةِ الْقُدْرَةِ لِلْمَقْدُورِ بِهَا وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ3 تَعَالَى4.
وَقَالَ الآمِدِيُّ وَجَمْعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ عَادَةً5، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا6 "إلاَّ" الْمُحَالَ "عَقْلاً" وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ أُشِيرَ فِي الْمَتْنِ بِقَوْلِهِ7 "فِي وَجْهٍ".
وَجْهِ الْمَذْهَبِ الأَوَّلِ - وَهُوَ الْمَنْعُ فِي الْمُحَالِ لِذَاتِهِ وَعَادَةً-8 قَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} 9، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ10 رَضِيَ
ـــــــ
1 وهو رأي الحنفية وأيده ابن السبكي. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 123، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 207، العضد على ابن الحاجب 2/ 9، نهاية السول 1/ 186".
2 أي سواء كان محالاً لذاته "عقلاً" أم محالاً للعادة، أم محلاً لغيره، وهو اختيار الإمام الرازي ومن تبعه. "انظر: نهاية السول 1/ 185، التمهيد ص24، المستصفى 1/ 86، الإحكام، الآمدي 1/ 133، إرشاد الفحول ص9، مختصر الطوفي ص15".
3 في ض: الله.
4 وقد عبر الآمدي بلازم الأشعري إذ لم يثبت تصريح الأشعري بالتكليف بالمحال، وإنما أخذ من مضمون كلامه. "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 134"، وانظر: العضد على ابن الحاجب 2/ 9، 11، المستصفى 1/ 86.
5 الإحكام، الآمدي 1/ 134، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 207.
6 في ز: يثبتوا.
7 في ز ب ع ض: يقولي.
8 انظر: نهاية السول 1/ 186، 187، الإحكام، الآمدي 1/ 135، الروضة ص28 وما بعدها.
9 الآية 286 من البقرة.
10 هو عبد الرحمن أو عبد الله بن صَخْر الدَوّسي، صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة سنة سبع، وأسلم، وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكني بأبي هريرة لأنه وجد هرة فحملها في كمه، ولزمَ رسول الله وواظب عليه رغبة في العلم، وكان أحفظ الصحابة، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حريص على العلم والحديث ودعا له بالحفظ، روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل، توفي بالمدينة سنة 57هـ، وهو ابن 78 سنة. "انظر: الاستيعات 4/ 202، الإصابة 4/ 202، صفة الصفوة 1/ 685، مشاهير علماء الأمصار ص15،شذرات الذهب1/ 63".(1/486)
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ. وَقَالُوا: "لا نُطِيقُهَا"2، وَفِيهِ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَهَا"3، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا4 لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 5، وَفِيهِ عَقِبَ كُلِّ دَعْوَةٍ: "قَالَ: نَعَمْ"6، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: "قَدْ قُلْت"7.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا يَثْقُلُ وَيَشُقُّ8، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
ـــــــ
1 الآية 284 من البقرة.
2 هذا جزء من حديث رواه الإمام أحمد ومسلم، وتكملته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم، سمعنا وعصينا"؟ بل قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك اللمصير، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم" "انظر: صحيح مسلم 1/ 115، مسند أحمد 2/ 413، تفسير ابن كثير 1/ 600".
3 ونصها: "فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل.... " صحيح مسلم 1/ 115".
4 في ز ع ض ب: إلى آخر السورة، والتكملة من صحيح مسلم، ومن ش.
5 الآية 286 من البقرة.
6 أي قال الله تعالى. "انظر صحيح مسلم 1/ 116".
7 صحيح مسلم 1/ 116.
8 انظر: المستصفى 1/ 87، الروضة ص29.(1/487)
الْمَمْلُوكِ: "لا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لا يُطِيقُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ1، وَكَقَوْلِهِ2: "لا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ. فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ3.
وَاحْتَجَّتْ الأَشْعَرِيَّةُ بِسُؤَالِ رَفْعِ التَّكْلِيفِ4 عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيلِ لِغَيْرِهِ5.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَالآمِدِيُّ6 وَغَيْرُهُمَا7: بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُسْتَحِيلِ لَكَانَ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ، لأَنَّهُ مَعْنَاهُ. وَهُوَ مُحَالٌ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ وُقُوعِهِ، لأَنَّهُ يَلْزَمُ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلافِ مَاهِيَّتِهِ، وَاسْتِدْعَاءُ حُصُولِهِ فَرْعُ تَصَوُّرِ وُقُوعِهِ8.
ـــــــ
1 رواه مسلم عن أبي هريرة، وأوله: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق" . رواه أحمد والبيهقي ومالك والشافعي، ومعنى: لا يكلف: نفي بمعنى النهي، إلا ما يطيق الدوام عليه. "انظر: صحيح مسلم 3/ 138، الموطأ 2/ 980، مسند أحمد 2/ 247، فيض القدير 5/ 292".
2 في ز: ولقوله.
3 رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أبي ذر، وهذا لفظ البخاري وابن ماجة، قال المناوي: ولا يكلفه: من التكليف وهو تحميل الشخص شيئاً معه كلفة، وقيل: هو الأمر بما يشق، أي لا يكلف من العمل "ما يغلبه" أي يعجز عنه، وتصر قدرته فيه مغلوبة، بعجزه عنه لمعظمه أو لصعوبته، فيحرم ذلك. "انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي 1/ 15، صحيح مسلم 3/ 1283، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 6/ 75، سنن أبي داود 4/ 462، سنن ابن ماجة 2/ 1216، فيض القدير 1/ 221، مسند أحمد 5/ 158".
4 أي رفع التكليف بما لا يطاق في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} البقرة 276.
5 انظر: نهاية السول 1/ 188، الإحكام، الآمدي 1/ 135، 138، الروضة ص28.
6 الإحكام، له 1/ 135.
7 في ض: وغيرهم.
8 انظر: فواتح الرحموت 1/ 123، العضد على ابن الحاجب 2/ 9، تيسير التحرير 2/ 138، إرشاد الفحول ص9، مختصر الطوفي ص15.(1/488)
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ لَمْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهِ مُحَالاً. لأَنَّ الْحُكْمَ بِصِفَةِ الشَّيْءِ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ1؟
قِيلَ: الْجَمْعُ الْمُتَصَوَّرُ الْمَحْكُومُ بِنَفْيِهِ عَلَى الضِّدَّيْنِ: هُوَ جَمْعُ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَضَادَّةٍ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِهِ مَنْفِيًّا عَنْ الضِّدَّيْنِ تَصَوُّرُهُ ثَابِتًا لَهُمَا، لاسْتِلْزَامِهِ التَّصَوُّرَ عَلَى خِلافِ الْمَاهِيَّةِ2.
وَحَيْثُ قِيلَ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ، فَعِنْدَ الأَكْثَرِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ3.
قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ وَالْمَجْدُ: "الْمُحَالُ لِذَاتِهِ مُمْتَنِعٌ سَمْعًا إجْمَاعًا، وَإِنَّمَا الْخِلافُ فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ وَالاسْمِ اللُّغَوِيِّ"4.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاقِعٌ5 قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِنَا: اللَّهُ تَعَالَى يَتَعَبَّدُ خَلْقَهُ بِمَا يُطِيقُونَ، وَمَا لا يُطِيقُونَ. وَكَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلا6، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلا
ـــــــ
1 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 136، نهاية السول 1/ 187، العضد على ابن الحاجب 2/ 9، تقريرات الشربيني على جمع الجوامع 1/ 207، فواتح الرحموت 1/ 125، 126.
2 يقول التفتازاني: "فحاصلة أن المستحيل هو الخارجي، وليس الذهني، وهو ظاهر، والمتصور هو الذهني لأنه الحاصل في العقل، فليس المتسحيل هو المتصور. "حاشية التفتازاني على العضد 2/ 9" وانظر: الإحكام، الآمدي 1/ 136، العضد على ابن الحاجب 2/ 9، 10، إرشاد الفحول ص9.
3 انظر: نهاية السول 1/ 186، الموافقات 2/ 76، فواتح الرحموت 1/ 123، العضد على ابن الحاجب 2/ 11، شرح تنقيح الفصول ص143، تيسير التحرير 2/ 137، 139، المسودة ص79، إرشاد الفحول ص9.
4 انظر: المسودة ص79.
5 وهو قول الإمام فخر الدين الرازي. "المراجع السابقة هـ 2، 3".
6 هو إبراهم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقُلا، أبو إسحاق البراز، كان جليل القدر، كثير الرواية، حسن الكلام في الأصول والفروع، شيخ الحنابلة في وقته، وهو تلميذ أبي بكر عبد العزيز، وكان له حلقتان في بغداد، توفي سنة 369هـ عن 54 سنة. "انظر: المنهج الأحمد 2/ 64، شذرات الذهب 3/ 68، طبقات الحنابلة 2/ 128، المدخل إلى مذهب أحمد ص206، المطلع على أبواب المقنع ص429".(1/489)
يَسْتَطِيعُونَ} 1.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ عَادَةً، قِيلَ: إنَّهُ وَاقِعٌ. وَقِيلَ: لَمْ يَقَعْ2.
"وَلا" يَصِحُّ التَّكْلِيفُ "بِغَيْرِ فِعْلٍ"3.
"وَشُرِطَ" لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ4 "عِلْمُ مُكَلَّفٍ حَقِيقَتَهُ5" أَيْ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ، وَإِلاَّ لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إلَيْهِ، لِعَدَمِ تَصَوُّرِ قَصْدِ مَا لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ، وَإِذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ وُجُودُهُ مِنْهُ، لأَنَّ تَوَجُّهَ الْقَصْدِ إلَى الْفِعْلِ مِنْ لَوَازِمِ إيجَادِهِ. فَإِذَا انْتَفَى اللاَّزِمُ - وَهُوَ الْقَصْدُ- انْتَفَى الْمَلْزُومُ، وَهُوَ الإِيجَادُ6.
ـــــــ
1 الآية 42 من القلم.
2 انظر: نهاية السول 1/ 186، العضد على ابن الحاجب 2/ 11، فواتح الرحموت 1/ 123.
3 وضع علماء الأصول قاعدة أصولية وهي: "لاتكليف إلا بفعل". "انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص62، العضد على ابن الحاجب 2/ 13، الإحكام، الآمدي 1/ 137، المستصفى 1/ 90، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 213، فواتح الرحموت 1/ 132، تيسير التحرير 2/ 135، المسودة ص80، مختصر الطوفي ص17، المدخل إلى مذهب أحمد ص59".
4 يشترط في التكليف شروط، بعضها يتعلق بالمكلف به، وهو الفعل المحكوم به، وبعضها يتعلق بالمكلف المحكوم عليه، وقد شرع المصنف بشروط الفعل، وسبق له بيان أحد شروطه "ص 484": وهو أن يكون الفعل ممكناً، ثم ذكر شروط المكلف فيما بعد، "انظر: الروضة ص26، مختصر الطوفي ص11، المدخل إلى مذهب أحمد ص58".
5 في ز: حقيقة.
6 انظر: المستصفى 1/ 86، الروضة ص28، مختصر الطوفي ص15، القواعد والفوائد الأصولية ص57-58، المدخل إلى مذهب أحمد ص58.(1/490)
"وَ" مِنْ شَرْطِهِ أَيْضًا: أَنْ1 يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ "أَنَّهُ" أَيْ الْفِعْلُ "مَأْمُورٌ بِهِ، وَ" أَنَّهُ "مِنْ اللَّهِ تَعَالَى" وَإِلاَّ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالامْتِثَالِ بِفِعْلِهِ2.
وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ قَصْدُ الطَّاعَةِ "فَلا يَكْفِي مُجَرَّدُهُ" أَيْ مُجَرَّدُ حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الامْتِثَالِ بِفِعْلِهِ3. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 4.
"وَمُتَعَلِّقُهُ" أَيْ: مُتَعَلِّقُ الْمَأْمُورِ بِهِ "فِي نَهْيٍ"5، نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ} 6، "كَفُّ النَّفْسِ7" عِنْدَ الأَكْثَرِ،
ـــــــ
1 في ز: أنه.
2 انظر: المستصفى 1/ 86، الروضة ص28، مختصر الطوفي ص15، المدخل إلى مذهب أحمد ص95.
3 أضاف الغزالي شرطاً في الفعل المحكوم به، وهو: أن يكون الفعلُ معدوماً، إذ إيجاد الموجود محال، وتبعه ابن قدامة والطوفي فيه، كما أضاف الغزالي شرطاً آخر، وهو: أن يكون الفعل مكتسباً للعبد حاصلاً باختياره. "انظر: المستصفى 1/ 86، الروضة ص28، مختصر الطوفي ص15، نهاية السول 1/ 172، فواتح الرحموت 1/ 132، المحلي على جمع الجوامع 1/ 216".
4 هذا طرف من حديث مشهور رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد وغيرهم، عن عمر ابن الخطاب رصي الله عنه مرفوعاً، والحديث مجمع على صحته، وهو أحمد الأحاديث التي عليها مدار الدين، والغرض أن ذات العمل الخالي عن النية موجود، والمراد نفي أحكامها كالصحة والفضيلة. "انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي 1/ 6، صحيح مسلم 3/ 1515، سنن أبي داود 1/ 510، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 5/ 283، سنن النسائي 1/ 50، سنن ابن ماجة 2/ 1412، كشف الخفا 1/ 11، فيض القدير 1/ 30، جامع العلوم والحكم ص5، مسند أحمد 1/ 25". وفي ع ب: بالنية، ورواية الحديث وردت باللفظين.
5 إن متعلق التكليف هو الأمر والنهي، وكلاهما لا يكون إلا فعلاً، وبما أن التكليف في الأمر ظاهر، لأن مقتصاه إيجاد فعل مأمور به كالصلاة والصيام، فتركه المصنف، وشرع في متعلق التكليف في النهي. "انظر: المستصفى 1/ 90، العضد على ابن الحاجب 2/ 13، مختصر الطوفي ص17، المدخل إلى مذهب أحمد ص59".
6 الآية 151 من الأنعام.
7 إن كف النفس عن المنهي عنه فعل، والتكليف في المنهي عنه تكليف بفعل إذن. "انظر: العضد على ابن الحاجب 2/ 14، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 214، تيسير التحرير 2/ 135، الإحكام، الآمدي 1/ 147، مختصر الطوفي ص17، المدخل إلى مذهب أحمد ص59".(1/491)
وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ1.
وَقِيلَ: 2 مَعْنَاهُ: فِعْلٌ 2 ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَنُسِبَ إلَى الْجُمْهُورِ3.
قَالَ الْكُورَانِيُّ: هَذَا عَيْنُ الأَوَّلِ، إذْ كَفُّ النَّفْسِ مِنْ جُزْئِيَّاتِ فِعْلِ الضِّدِّ.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَهُوَ كَذَلِكَ.
قَالَ فِي "الرَّوْضَةِ": "وَقِيلَ: لا يَقْتَضِي الْكَفَّ إلاَّ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِضِدِّهِ، فَيُثَابَ عَلَيْهِ، لا عَلَى التَّرْكِ"4.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَابْنِ أَبِي الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ5 وَغَيْرِهِمْ. قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ الإِيمَانِ: التَّرْكُ فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلٌ، لأَنَّهُ ضِدُّ الْحَالِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا6.
ـــــــ
1 انظر: تيسير التحرير 2/ 135، المسودة ص80، الروضة ص29، مختصر الطوفي ص17، المدخل إلى مذهب أحمد ص59.
2 ساقطة من ز ع ب، وفي ض: فعل.
3 انظر: المستصفى 1/ 90، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 215، المسودة ص80، الروضة ص29، مختصر الطوفي ص17، التمهيد ص20.
4 الروضة ص29، وانظر: المستصفى 1/ 90، المسودة ص80.
5 هو عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد بن علي، شيخ الإسلام، أبو القاسم، المعروف بابن الحنبلي، الفقيه الواعظ المفسر، له مصنفات في الفقه والأصول، منها: "المنتخب" في الفقه، و "المفردات" و "البرهان" في أصول الدين، و "الرسالة في الرد على الأشعرية"، كان شيخ الحنابلة بالشام في وقته، وهو ابن شيخ الإسلام أبي الفرج المقدسي الزاهد، توفي سنة 536هـ بدمشق. "انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/ 198، طبقات المفسرين 1/ 362، شذرات الذهب 4/ 113".
6 انظر: المسودة ص80.(1/492)
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَوَجْهُ الْقَوْلِ الأَوَّلِ الَّذِي فِي الْمَتْنِ: أَنَّهُ لَوْ كُلِّفَ بِنَفْيِ الْفِعْلِ لَكَانَ مُسْتَدْعًى حُصُولُهُ مِنْهُ، وَلا يُتَصَوَّرُ، لأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، لأَنَّهُ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَرَدَّهُ أَبُو هَاشِمٍ فَقَالَ: بَلْ هُوَ مَقْدُورٌ1، وَلِهَذَا يُمْدَحُ بِتَرْكِ الزِّنَا، وَرَدُّوهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ مُسْتَمِرٌّ فَلَمْ تُؤَثِّرْ الْقُدْرَةُ فِيهِ2.
"وَيَصِحُّ" التَّكْلِيفُ "بِهِ" أَيْ بِالْفِعْلِ "حَقِيقَةً" أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ لا الْمَجَازِ "قَبْلَ حُدُوثِهِ" أَيْ الْفِعْلِ3.
قَالَ الآمِدِيُّ: "اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ، سِوَى شُذُوذٍ مِنْ أَصْحَابِنَا"4.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إذَا تَقَدَّمَ الأَمْرُ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ أَمْرًا عِنْدَنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ5: نَقَلَ الأَكْثَرُونَ6 أَنَّهُ حَقِيقَةٌ. نَقَلَهُ
ـــــــ
1 يقول أبو هاشم، إن متعلق التكليف في النهي: هو العدم الأصلي، لأن تارك الزانى ممدوح حتى مع الغفلة عن ضدية ترك الزنا، وردَّ عليه بأن المدح إنما يكون عن كف النفس عن المعصية. "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 147، تيسير التحرير 2/ 135، التمهيد ص20، مختصر الطوفي ص17".
2 انظر: الإحكام، الآمدمي 1/ 147، المستصفى 1/ 90، العضد على ابن الحاجب 2/ 14.
3 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 148، العضد على ابن الحاجب 2/ 14، فواتح الرحموت 1/ 134، تيسير التحرير 2/ 141، المسودة ص55، إرشاد الفحول ص10.
4 الإحكام، له 1/ 148.
5 هو عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين، البغدادي، أبو محمد، الفقيه المالكي الأصولي الشاعر، الأديب العابد الزاهد، تولى القضاء بالعراق ومصر، له مؤلفات في الفقه، منها: "المعونة في شرح الرسالة" و "النصرة لمذهب مالك" مائة جزء، و "الإشراف على مسائل الخلاف"، و "شرح المدونة"، وله مؤلفات في الأصول منها: "أوائل الأدلة" و "الإفادة" و "التلخيص" و "التلقين"، وله "عين المسائل" توفي سنة 422 هـ بمصر "انظر: الديباج المذهب 2/ 26، وفيات الأعيان 2/ 387، شذرات الذهب 3/ 223، الفتح المبين 1/ 230، فوات الوفيات 2/ 44".
6 في ع: أكثرون.(1/493)
بْنُ قَاضِي الْجَبَلِ.
وَقِيلَ: أَمْرُ إعْلامٍ وَإِيذَانٍ لا حَقِيقَةٌ1، وَضَعَّفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ" بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ عَنْ أَصْحَابِ الأَشْعَرِيِّ بِمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَأَنَّهُ لا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ2.
وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ الإِمَامُ الرَّازِيّ: لا يَتَوَجَّهُ الأَمْرُ بِأَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ إلْزَامًا إلاَّ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لَهُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ التَّحْقِيقُ، إذْ لا قُدْرَةَ عَلَيْهِ إلاَّ حِينَئِذٍ3. وَمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَدَمُ الْعِصْيَانِ بِتَرْكِهِ؟
فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمَلامَ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالْكَفِّ عَنْ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ ذَلِكَ الْكَفُّ عَنْهُ4.
وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الأَخِيرِ. تَقْدِيرُهُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى سَلْبِ التَّكَالِيفِ. فَإِنَّهُ يَقُولُ: لا أَفْعَلُ حَتَّى أُكَلَّفَ. وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لا يُكَلَّفُ حَتَّى يَفْعَلَ5.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ مُتَلَبِّسٌ بِالتَّرْكِ، وَهُوَ فِعْلٌ فَإِنْ6 كَفَّ النَّفْسَ عَنْ الْفِعْلِ فَقَدْ بَاشَرَ التَّرْكَ. فَتَوَجَّهَ إلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِتَرْكِ التَّرْكِ حَالَةَ
ـــــــ
1 انظر: شرح تنقيح الفصول ص147.
2 انظر: المحلي علىجمع الجوامع 1/ 217، فوتح الرحموت 1/ 134، نهاية السول 1/ 178، تيسير التحرير 2/ 142.
3 وهذا ما أيده البيضاوي في "المنهاج"، والسبكي في "جمع الجوامع"، لكن الإسنوي رده وضعفه، كما ضعفه البناني. "انظر: نهاية السول 1/ 175، المحلي على جمع الجوامع وحاسية البناين عليه 1/ 217، مناهج العقول 1/ 175".
4 انظر: المحلي علىجمع الجوامع 1/ 217-218.
5 انظر: نهاية السول 1/ 177.
6 في ع ب: فإنه.(1/494)
مُبَاشَرَتِهِ لِلتَّرْكِ. وَذَلِكَ بِالْفِعْلِ وَصَارَ الْمَلامُ عَلَى ذَلِكَ1. وَهَذَا جَوَابٌ نَفِيسٌ أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لا يُطَاقُ.
"وَلا يَنْقَطِعُ" التَّكْلِيفُ "بِهِ" أَيْ بِحُدُوثِ الْفِعْلِ عِنْدَ الأَشْعَرِيِّ وَالأَكْثَرِ2؛ لأَنَّ الْفِعْلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ، وَكُلُّ مَقْدُورٍ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَالتَّكْلِيفُ هُنَا تَعَلَّقَ بِمَجْمُوعِ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، لا3 بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ. فَلا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ إلاَّ بِتَمَامِ الْفِعْلِ، وَيَكُونُ التَّكْلِيفُ بِإِيجَادِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ لا بِإِيجَادِ مَا قَدْ وُجِدَ، فَلا تَكْلِيفَ بِإِيجَادِ مَوْجُودٍ فَلا مُحَالَ4.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الأَمْرِ بِالْفِعْلِ الْمَوْجُودِ، وَالأَصَحُّ عَدَمُهَا5.
قَالَ الْمَجْدُ فِي "الْمُسَوَّدَةِ"، وَتَبِعَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ: "لا يَصِحُّ الأَمْرُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْجُمْهُورِ"6. انْتَهَى.
لَكِنْ لا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ إلاَّ بِتَمَامِ الْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ7.
ـــــــ
1 انظر: تقريرات الشربيني على حاشية البناني 1/ 218.
2 خلافاً للمعتزلة وإمام الحرمين ومن وافقهم من الحنابلة، وقد صرح الطوفي وابن بدران بانطاع التكليف حال حدوث الفعل. "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 148، تيسير التحرير 2/ 141، 143، العضد على ابن الحاجب 2/ 14، شرح تنقيح الفصول ص147، إرشاد الفحول ص11، مختصر الطوفي ص15، المدخل إلى مذهب أحمد ص59".
3 ساقطة من ض.
4 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 148، شرح تنقيح الفصول ص147، فواتح الرحموت 1/ 134، تيسير التحرير 2/ 142 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 2/ 14، إرشاد الفحول ص11.
5 انظر: المسودة ص57.
6 المسودة ص57.
7 قد يتبادر للقارئ التناقض بين منع الأمر بالموجود، وبين استمرار التكليف بالفعل بعد حدوثه، والواقع أنه لا تناقض، لأن المنع منحصر في ابتداء الأمر حال الوجود، أما استمرار التكليف فيعني أن الأمر تقدم على الفعل، ويستمر هذا الأمر إلى تمام الفعل. "انظر: المسودة ص56، تيسير التحرير 2/ 141، إرشاد الفحول ص10".(1/495)
"وَ" يَصِحُّ التَّكْلِيفُ "بِغَيْرِ مَا عَلِمَ آمِرٌ وَمَأْمُورٌ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ" فَيَصِحُّ بِمَا عَلِمَ آمِرٌ وَحْدَهُ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ فِي وَقْتِهِ عِنْدَ الأَكْثَرِ1.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي "أُصُولِهِ": يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لا يُمَكَّنُ مِنْهُ مَعَ بُلُوغِهِ حَالَ التَّمَكُّنِ عِنْدَ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ. وَقَالَ: إنَّهُ يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا. فَلِهَذَا يَعْلَمُ الْمُكَلَّفُ بِالتَّكْلِيفِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ. وِفَاقًا لِلأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ2. انْتَهَى.
وَقَالَ الْمُوَفَّقُ وَغَيْرُهُ: يُبْنَى3 عَلَى النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ4.
قَالَ بَعْضُهُمْ: تُشْبِهُهَا؛ لأَنَّ ذَلِكَ رَفْعُ الْحُكْمَ بِخِطَابٍ. وَهَذَا بِتَعْجِيزٍ. وَنَبَّهَ5 ابْنُ عَقِيلٍ عَلَيْهِ.
وَنَفَى ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي وَالْمُعْتَزِلَةُ6.
وَزَعَمَ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ كَمَعْبَدِ الْجُهَنِيِّ7، وَعَمْرِو بْنِ
ـــــــ
1 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 155، نهاية السول 1/ 180، المحلي على ابن الحاجب وحاشية البناني عليه 1/ 218، فواتح الرحموت 1/ 151، تيسير التحرير 2/ 240، القواعد والفوائد الأصولية ص189، إرشاد الفحول ص10، المسودة ص52، 54.
2 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 155، تيسير التحرير 2/ 240، المسودة ص52.
3 في ز ع: بنيني.
4 وعبارة الموفق: "ولا يبعد النسخ قبل المتمكن من الامتثال" "الروصة ص28"، وانظر: المسودة ص53، تيسير التحرير 2/ 240، الإحكام، ابن حزم 1/ 472-474، بينما قال المعتزلة: "لا يجوز نسخ الشيء قبل وقته" "المعتمد 1/ 407".
5 في ع: وتبعه.
6 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 155، العضد على ابن الحاجب 2/ 16، المحلي على جمع الجوامع 1/ 219، المسودة ص53.
7 هو عبد الله بن عكيم أو عديم، تابعي، روى عن أبي ذر ومعاوية، وهو أول من تكلم بالقدر، قال أبو حاتم: كان صدوقاً في الحديث، وكان أول من تكلم بالقدر بالبصرة، قدم المدينة فأفسد فيها أناساً، وكان الحسن يقول: إياكم ومعبد، فإنه ضالّ مُضِلّ، قتله عبد الملك في القدر، وصلبه سنة 80هـ. وقيل: بل عذبه الحجاج ثم قتله. "انظر: تهذيب التهذيب 10/ 225، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص89، شذرات الذهب 1/ 88، المعارف ص625، جمهرة أنساب العرب، أبن حزم ص445، الجرح والتعديل 8/ 208".(1/496)
عُبَيْدٍ1: أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ حَتَّى فَعَلُوهَا2. وَهَذَا كُفْرٌ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى قَائِلِهِ إنْ لَمْ يَتُبْ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلافِ: الابْتِلاءُ وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي تَرِكَةِ مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، ثُمَّ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ النَّهَارِ، وَكَذَا مَنْ عَلَّقَ طَلاقَ زَوْجَتِهِ بِشُرُوعِهِ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلاةٍ وَاجِبَيْنِ وَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا3 تَطْلُقُ إجْمَاعًا4.
وَجْهُ الصِّحَّةِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ التَّكْلِيفُ لَمْ يَعْصَ أَحَدٌ، لأَنَّ شَرْطَ الْفِعْلِ إرَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إيَّاهُ، لاسْتِحَالَةِ تَخَلُّفِ الْمُرَادِ عَنْ إرَادَتِهِ تَعَالَى، فَإِذَا تَرَكَهُ 5 عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ 5 لا يُرِيدُهُ، وَأَنَّ الْعَاصِيَ لا يُرِيدُهُ.
قَالَ الْمُخَالِفُ: لَوْ جَازَ التَّكْلِيفُ مَعَ عِلْمِ الآمِرِ انْتِفَاءَ6 شَرْطِ وُقُوعِهِ لَجَازَ
ـــــــ
1 هو عمر بن عبيد بن باب، أبو عثمان، من أهل البصرة، وأصله من كابل، كان متكلماً زاهداً مشهوراً، وهو من جلة أصحاب الحسن، كان متعبداً، وكان شيخ المعتزلة في وقته مع واصل بن عطاء، له رسائل وخطب، وكتاب في التفسير عن الحسن البصري، والرد على القدرية، وكلام كثير في العدل والتوحيد، توفي سنة 144هـ، وهو راجع إلى مكة. "انظر: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص68، طبقات المعتزلة ص35، وفيات الأعيان 3/ 130".
2 انظر: المسودة ص54، القواعد والفوائد الأصولية ص189.
3 في ز: فإنه.
4 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 157، القواعد والفوائد الأصولية ص189، المسودة ص53، شرح العضد على ابن الحاجب 2/ 17.
5 في ز ع ب: علم الله أنه.
6 في ع: انتفى.(1/497)
مَعَ عِلْمِ الْمَأْمُورِ بِذَلِكَ، اعْتِبَارًا بِالأَمْرِ، وَالْجَامِعُ: الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْحُصُولِ1.
رُدَّ بِأَنَّ هَذَا يَمْتَنِعُ امْتِثَالُهُ، فَلا يَعْزِمُ وَلا2 يُطِيعُ وَلا يَعْصِي وَلا ابْتِلاءَ، بِخِلافِ مَسْأَلَتِنَا3. وَقَدْ قَطَعَ الأُصُولِيُّونَ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَكْلِيفِ مَا عَلِمَ آمِرٌ وَمَأْمُورٌ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ4.
"وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ أَمْرٍ بِاخْتِيَارِ مُكَلَّفٍ فِي وُجُوبِ وَعَدَمِهِ" ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ حَمْدَانَ وَغَيْرُهُمْ5.
وَقِيلَ: لا.
لَفْظُ ابْنِ عَقِيلٍ: يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الأَمْرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّقًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ بِفِعْلٍ أَوْ بِتَرْكٍ مُفَوَّضًا6 إلَى اخْتِيَارِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ7.
"لا أَمْرٍ بِمَوْجُودٍ" فَإِنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ8.
"وَشُرِطَ" بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ "فِي مَحْكُومٍ عَلَيْهِ" وَهُوَ الْمُكَلَّفُ بِالْفِعْلِ "عَقْلٌ وَفَهْمُ خِطَابٍ"9.
ـــــــ
1 انظر: حاشية البناني 1/ 220، فوتح الرحموت 1/ 153.
2 في ز ب ع: فلا.
3 انظر: فواتح الرحموت 1/ 153.
4 انظر تفصيل الموضوع في "تيسير التحرير 2/ 240-243، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 220، فوتح الرحموت 1/ 151".
5 انظر: المسودة ص54.
6 في ع: متوطا.
7 انظر: المسودة ص54.
8 انظر: السودة ص57.
9 انظر: أصول السرخسي 2/ 340، المستصفى 1/ 83، مناهج العقول 1/ 170، العضد على ابن الحاجب 2/ 15، الإحكام، الآمدي 1/ 150، فواتح الرحموت 6/ 143، 154، تيسير التحرير 2/ 243، التلويح على التوضيح 3/ 143، إرشاد الفحول ص11، الروضة ص26، مختصر الطوفي ص11، المدخل إلى مذهب أحمد ص58، القواعد والفوائد الأصولية ص15.(1/498)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَأَحْكَامِ الْمَحْكُومِ فِيهِ، شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الآدَمِيُّ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَقْلُ وَفَهْمُ الْخِطَابِ، لأَنَّ التَّكْلِيفَ خِطَابٌ، وَخِطَابُ مَنْ لا عَقْلَ لَهُ وَلا فَهْمَ مُحَالٌ1، وَلأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ مَطْلُوبٌ حُصُولُهُ مِنْ الْمُكَلَّفِ طَاعَةً وَامْتِثَالاً. لأَنَّهُ مَأْمُورٌ، وَالْمَأْمُورُ يَجِبُ أَنْ يَقْصِدَ إيقَاعَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ وَالامْتِثَالِ، وَالْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْفَهْمِ، لأَنَّ مَنْ لا يَفْهَمُ لا يُقَالُ لَهُ: افْهَمْ، وَلا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ2 يَسْمَعْ: اسْمَعْ، وَلا لِمَنْ لا3 يُبْصِرُ: أَبْصِرْ4.
فَلا يُكَلَّفُ مُرَاهِقٌ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، لأَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ فَهْمُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَقْصُودِ5. فَجَعَلَ الشَّارِعُ الْبُلُوغَ عَلامَةً لِظُهُورِ الْعَقْلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ: عَنْ6 النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ - وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى7 يَحْتَلِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يَبْلُغَ- وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ" 8، وَلأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ ضَعِيفُ الْعَقْلِ وَالْبِنْيَةِ، وَلا بُدَّ مِنْ
ـــــــ
1 انظر: مناهج العقول 1/ 170، المستصفى 1/ 83، الروضة ص26.
2 كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: لا.
3 في ع: لم.
4 انظر: المستصفى 1/ 83، الإحكام، الآمدي 1/ 150، أصول السرخسي 2/ 340، فواتح الرحموت 1/ 153، المسودة ص35، القواعد والفوائد الأصولية ص15، 16، الروضة ص26، مختصر الطوفي ص11، المدخل إلى مذهب أحمد ص58، إرشاد الفحول ص11.
5 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 151، العضد على ابن الحاجب 1/ 15، المراجع السابقة.
6 ساقطة من ز ب ع.
7 ساقطة من ش.
8 رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم عن عائشة وعلي وعمر بألفاظ متقاربة. قال السيوطي: حديث صحيح. "انظر: سنن أبي داود 4/ 198، سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 4/ 685، سنن ابن ماجة 1/ 658، المستدرك 4/ 389، كشف الخفا 1/ 434، فيض القدير 4/ 35، مسند أحمد 6/ 100".(1/499)
ضَابِطٍ يَضْبِطُ الْحَدَّ الَّذِي تَتَكَامَلُ فِيهِ بِنْيَتُهُ وَعَقْلُهُ، فَإِنَّهُ يَتَزَايَدُ تَزَايُدًا خَفِيَّ التَّدْرِيجِ فَلا يَعْلَمُ بِنَفْسِهِ. وَالْبُلُوغُ ضَابِطٌ لِذَلِكَ. وَلِهَذَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَكْثَرُ الأَحْكَامِ1.
وَعَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: أَنَّ الْمُرَاهِقَ مُكَلَّفٌ بِالصَّلاةِ.
وَثَالِثَةٌ: أَنَّ ابْنَ عَشْرٍ مُكَلَّفٌ بِهَا.
وَرَابِعَةٌ: أَنَّ الْمُمَيِّزَ مُكَلَّفٌ بِالصَّوْمِ2.
وَ "لا" يُشْتَرَطُ فِي مَحْكُومٍ عَلَيْهِ "حُصُولُ شَرْطٍ شَرْعِيٍّ" لِصِحَّةِ الْفِعْلِ. كَاشْتِرَاطِ الإِسْلامِ لِصِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، وَالطَّهَارَةِ: لِصِحَّةِ الصَّلاةِ3.
"وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ" أَيْ بِفُرُوعِ4 الإِسْلامِ5. كَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ
ـــــــ
1 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 151، المستصفى 1/ 84، فوتح الرحموت 1/ 154، تيسير التحرير 2/ 248، التوضيح على التنقيح 3/ 150، أصول السرخسي 2/ 341، إرشاد الفحول ص11.
2 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص16، 17، الروضة ص26، مختصر الطوفي ص12، وانظر أحكام الصغر المميز في" أصول السرخسي 2/341وما بعدها, تسير التحرير 2/ 248وما بعدها, 2/255, الا شباه والنظائر, ابن نجيم ص306".
3 انظر: المستصفى 1/ 91، المحلي على جمع الجوامع 1/ 210، العضد على ابن الحاجب 2/ 12، الإحكام، الآمدي 1/ 144، إرشاد الفحول ص10، مختصر الطوفي ص14.
4 في ب: فروع.
5 هذه المسألة فرع ومثال للشرط السابق، وهو حصول الشرط الشرعي، وهل هو شرط بصحة التكليف أم لا؟ "انظر: التمهيد ص28، نهاية السول 1/ 195، العضد على ابن الحاجب 2/ 12، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 211" ويرى الشاطبي أن الإيمان ليس شرطاً للعبادة والتكليف، بل هو العمدة في التكليف، لأن معنى العبادة هو التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح، وهذا فرع الإيمان، فكيف يكون أصل الشيء وقاعدته شرطاً فيه؟! ثم يقول: وإذا توسعنا في معنى الشرط، فيكون الإيمان شرطاً عقلياً، وليس شرطاً شرعياً، أو هو شرط في المكلف، وليس في التكليف. "الموافقات 1/ 181"، وانظر: تيسير التحرير 2/ 148-149، حاشية التفتازاني على العضد 2/ 12-13.(1/500)
وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَالأَشْعَرِيَّةِ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ1 وَالْكَرْخِيِّ2 وَظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ3 - فِيمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ-4.
ـــــــ
1 هو أحمد بن علي، أبو بكر الرازي، الإمام الكبير، المعروف بالجصاص، انتهب إليه رئاية الحنفية ببغداد، قال الخطيب: "كان إمام أصحاب أبي حنيفة في وقته، وكان مشهوراً بالزهد والدين والورع"، له مصنفات كثيرة، منها: "أحكام القرآن" و "شرح الجامع" لمحمد بن الحسن، و "شرح مختصر الكرخي" و "شرح مختصر الطحاوي" و "شرح الأسماء الحسنى"، وله كتاب مفيد في أصول الفقه، وكتاب "جوابات المسائل"، و "المناسك"، توفي سنة 370هـ ببغداد. "انظر: شذرات الذهب 3/ 71، الجوهر المضيئة 1/ 84، الطبقات السنية 1/ 380، الفوائد البهية ص27، تاج التراجم ص6، طبقات المفسرين 1/ 55".
2 هو عبد الله بن الحسن بن دلال بن دلهم، أبو الحسن الكرخي الحنفي، كان زاهداً ورعاً صبوراً على العسر، صواماً قواماً، وصل إلى طبقة المجتهدين، وكان شيخ الحنفية بالعراق، له مؤلفات منها: "المختصر"، و "شرح الجامع الكبير" و "شرح الجامع الصغير" و "رسالة في الأصول"، توفي سنة 340هـ ببغداد وعاش ثمانين سنة. "انظر: الفوائد البهية ص108، تاج التراجم ص39، شذرات الذهب 2/ 358، التفح المبين 1/ 186".
3 انظر: المستصفى 1/ 91، العضد على ابن الحاجب 2/ 12، شرح تنقيح الفصول ص162، نهاية السول 1/ 194، كشف الأسرار 4/ 243، فواتح الرحموت 1/ 128، تيسير التحرير 2/ 148، الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص325، تخريج الفروع على الأصول ص35، الأشباه والنظائر، للسيوطي ص253، القواعد والفوائد الأصولية ص49، التمهيد ص28، الروضة ص28، مختصر الطوفي ص13، المدخل إلى مذهب أحمد ص58.
4 هو سليمان بن خلف بن سعد، التجيبي، أبو الوليد الباجي، القرطبي المالكي، أحد الأئمة الأعلام في الحديث والفقه والمناظرة والأصول، ولي القضاء في الأندلس، وكان صالحاً ورعاً مخلصاً، له مؤلفات كثيرة، منها: "المنتقى" شرح الموطأ، و "الإشارات" في أصول الفقه، و "الحدود في الأصول" و "إحكام الفصول في أحكام الأصول" و "الناسخ والمنسوخ" توفي في الرباط سنة 474هـ. انظر ترجمته في "الديباج المذهب 1/ 277، تذكرة الحفاظ 3/ 1178، وفيات الأعيان 1/ 215، طبقات المفسرين 1/ 202، شذرات الذهب 3/ 344، وفيات الأعيان 2/ 142، فوات الوفيات 1/ 356، الفتح المبين 1/ 252، طبقات الحفاظ ص440".(1/501)
وَذَلِكَ لِوُرُودِ الآيَاتِ الشَّامِلَةِ لَهُمْ، مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ} 1، {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 2، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} 4، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 5، {يَا بَنِي آدَمَ} 6، {يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 7.
"كَـ" ـمَا أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ "بِالإِيمَانِ" وَالإِسْلامِ إجْمَاعًا لإِمْكَانِ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الإِيمَانُ8.
وَأَيْضًا: فَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} 9، أَيْ: فَوْقَ عَذَابِ الْكُفْرِ. وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عَلَى بَقِيَّةِ عِبَادَاتِ الشَّرْعِ10.
وَاحْتَجَّ فِي "الْعُدَّةِ"11 وَ "التَّمْهِيدِ" بِأَنَّ الْكَافِرَ مُخَاطَبٌ بِالإِيمَانِ، وَهُوَ: شَرْطُ الْعِبَادَةِ وَمَنْ خُوطِبَ بِالشَّرْطِ كَالطَّهَارَةِ كَانَ مُخَاطَبًا بِالصَّلاةِ، وَكَذَا احْتَجَّ ابْنُ عَقِيلٍ بِخِطَابِهِ12 بِصِدْقِ الرُّسُلِ، وَهِيَ مَشْرُوطَةٌ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ
ـــــــ
1 الآية 21 من البقرة.
2 الآية 16 من الزمر.
3 الآية 43 من البقرة.
4 الآية 183 من البقرة، وهذه الآية خارجة عن محل النزاع، ولا يصح الاستشهاد بها على مخاطبة الكفار، لأن مطلعها خطاب للمؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}.
5 الآية 97 من آل عمران.
6 الآية 31 من الأعراف.
7 الآية 2 من الحشر، وفي ب ض زيادة: "يا أولي الألباب".
8 انظر: شرح تنقيح الفصول ص162، والمراجع السابقة في الصفحة 501 هامش 3.
9 الآية 88 من النحل.
10 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 145 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 131.
11 في ش ز ب ض: العمدة، وهو تصحيف.
12 أي خطاب الله للكافر.(1/502)
تَعَالَى، وَهِيَ عَلَى النَّظَرِ، وَأَنَّ هَذَا لِقُوَّتِهِ مُفْسِدٌ لِكُلِّ شُبْهَةٍ لِلْخَصْمِ1.
"وَالْفَائِدَةُ" أَيْ فَائِدَةُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الإِسْلامِ "كَثْرَةُ عِقَابِهِمْ فِي الآخِرَةِ" لا الْمُطَالَبَةُ بِفِعْلِ الْفُرُوعِ فِي الدُّنْيَا، وَلا قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهَا2.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي "شَرْحِ الْمُهَذَّبِ": اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ الأَصْلِيَّ لا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَغَيْرُهَا مِنْ فُرُوعِ الإِسْلامِ، وَالصَّحِيحُ فِي كُتُبِ الأُصُولِ: أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْفُرُوعِ، كَمَا هُوَ مُخَاطَبٌ بِأَصْلِ الإِيمَانِ...، قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ3 مُخَالِفًا لِمَا تَقَدَّمَ، لأَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ غَيْرُ الْمُرَادِ هُنَا، فَالْمُرَادُ هُنَاكَ: أَنَّهُمْ لا يُطَالَبُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مَعَ كُفْرِهِمْ، وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْمَاضِي، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِعِقَابِ4 الآخِرَةِ. وَمُرَادُهُمْ فِي كُتُبِ الأُصُولِ: أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَيْهَا فِي الآخِرَةِ زِيَادَةً عَلَى عَذَابِ الْكُفْرِ. فَيُعَذَّبُونَ عَلَيْهَا وَعَلَى الْكُفْرِ جَمِيعًا، لا عَلَى الْكُفْرِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا. فَذَكَرُوا فِي الأُصُولِ حُكْمَ طَرَفٍ، وَفِي الْفُرُوعِ حُكْمَ الطَّرَفِ الآخَرِ5. انْتَهَى.
وَعَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ6.
ـــــــ
1 انظر: الروضة ص28، القواعد والفوائد الأصولية ص50، نهاية السول 1/ 194.
2 في ب ش ض: منهما في الآخرة.
وانظر: كشف الأسرار 4/ 243، نهاية السول 1/ 197، شرح تنقيح الفصول ص165، فواتح الرحموت 1/ 126، القواعد والفوائد الأصولية ص50، إرشاد الفحول ص10، الروضة ص28، مختصر الطوفي ص14.
3 كذا في المجموع شرح المهذب، وساقطة من النسخ.
4 في ش: الخطاب.
5 المجموع شرح المهذب 3/ 4، وانظر نفس المرجع 4/ 328.
6 وهو المشهور عن أكثر الحنفية أيضاً، وهو قول الشافعي اختاره أبو حامد الاسفراييني والرازي =(1/503)
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الأَوَامِرِ1.
وَقِيلَ: إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِمَا سِوَى الْجِهَادِ2.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ3 أَيْضًا: أَنَّ مِنْ فَوَائِدِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ: تَيْسِيرُ الإِسْلامِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ، وَالْحُكْمُ بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهَا أَوْ4 بِفِعْلِهَا5.
"وَمُلْتَزِمُهُمْ" أَيْ وَالْمُلْتَزِمُ مِنْ الْكُفَّارِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ الْحَرْبِيِّ حُكْمُهُ "فِي إتْلافٍ" لِمَالِ غَيْرِهِ "وَجِنَايَةٍ" عَلَى آدَمِيٍّ وَ6 بَهِيمَةٍ "وَتَرَتُّبِ أَثَرِ عَقْدِ" مُعَاوَضَةٍ وَغَيْرِهِ "كَمُسْلِمٍ" لَكِنَّ هَذِهِ الأَحْكَامَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ لا مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، بَلْ هُمْ أَوْلَى مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي الضَّمَانِ
ـــــــ
= من الشافعية وأبو زيد والسرخسي من الحنفية. "انظر: فواتح الرحموت 1/ 128، تيسير التحرير 2/ 148، الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص325، كشف الأسرار 4/ 243، نهاية السول 1/ 194، العضد على ابن الحاجب 2/ 12، شرح تنقيح الفصول ص163، المحلي على جمع الجوامع 1/ 212، التمهيد ص28، الأشباه والنظائر، للسيوطي ص253، الروضة ص27، مختصر الطوفي ص24، القواعد والفوائد الأصولية ص49، الإحكام، الآمدي 1/ 144، إرشاد الفحول ص10، المستصفى 1/ 91".
1 انظر: شرح تنقيح الفصول ص163، المحلي وحاشية البناني 1/ 212، نهاية السول 1/ 195، التمهيد ص28، الروضة ص27، مختصر الطوفي ص14، ارشاد الفحول ص10.
2 وهناك قول خامس أن المرتد مكلف دون الكافر الأصلي، حكاه القرافي عن القاضي عبد الوهاب في "الملخص". "انظر: شرح تنقيح الفصول ص166، المحلي على جمع الجوامع 1/ 212، التمهيد ص28، نهاية السول 1/ 195، القواعد والفوائد الأصولية ص50".
3 وهو القرافي في كتبه "انظر: شرح تنقيح الفصول ص165 وما بعدها".
4 في ع ب: و.
5 انظر: نهاية السول 1/ 197، شرح تنقيح الفصول ص165، المحلي على جمع الجوامع 1/ 211، القواعد والفوائد الأصولية ص50 وما بعدها".
6 في ب ع ض: أو.(1/504)
بِالإِتْلافِ وَالْجِنَايَةِ1.
وَلا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشُّرُوطِ فِي مُعَامَلاتِهِمْ، وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ، وَالْحُكْمِ بِصِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِهَا وَتَرَتُّبِ آثَارِ كُلٍّ عَلَيْهِ، مِنْ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ وَطَلاقٍ وَغَيْرِهَا. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بِصِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ مَعَ قَوْلِهِ بِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ2.
"وَيُكَلَّفُ" الْعَاقِلُ "مَعَ سُكْرٍ لَمْ يُعْذَرْ بِهِ" وَهُوَ مَا إذَا اسْتَعْمَلَ مَا يُسْكِرُهُ مُخْتَارًا عَالِمًا بِأَنَّهُ يُسْكِرُ3.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ4 عَبْدِ اللَّهِ: السَّكْرَانُ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ5. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ هَانِئٍ6: أَنَّ7 السَّكْرَانَ لَيْسَ
ـــــــ
1 قال الإسنوي: لا يشترط التكليف في خطاب الوضع، كجعل الإتلاف موجباً للضمان، ونحو ذلك، ولهذا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون والضمان بفعلهما، وفعل الساهي والبهيمة "التنهيد ص25"، وانظر: المحلي على جمع الجوامع 1/ 166.
2 اختلف العلماء في أنكحة الكفار على ثلاثة أقوالٍ، أصحها: أنها صحيحة، والثاني: فاسدة والثالث: إن اجتمعت شرائط المسلمين كانت صحيحة، وإلا ففاسدة. "انظر: التمهيد ص30، القواعد والفوائد الأصولية ص55، الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص325، 375".
3 وهو رأي الحنفية، ، "انظر: التوضيح على التنقيح 3/ 205، المسودة ص35، الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص311".
4 ساقطة من ز ع ب.
5 انظر: القواعد والفوئد الأصولية ص37، المسودة ص37.
6 هو أحمد بن محمد بن هانئ، أبو بكر الطائي، ويقال الكلبي، الأثرم، الإسكافي، كان جليل القدر، حافظاً، إماماً، كثير الرواية عن الإمام أحمد، قال ابن حبان: كان من خيار عباد الله، وقال إبراهيم الأصفهاني: هو أحفظ من أبي زرعة الرازي وأتقن، له كتاب "العلل"، اختلف في تاريخ وفاته، والغالب بعد سنة 260 هـ، قال ابن حجر 2619هـ، وقال الحافظ العراقي: توفي سنة 273هـ. "انظر: طبقات الحنابلة 1/ 66، المنهج الأحمد 1/ 206، شذرات الذهب 2/ 141، المدخل إلى مذهب أحمد ص205، طبقات الحفاظ ص256، الخلاصة ص12، تذكرة الحفاظ 2/ 570".
7 ساقطة من ع ب.(1/505)
بِمَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ، 1 فَلا يَسْقُطَ 1 عَنْهُ مَا صَنَعَ2 وَفِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ3: لَيْسَ السَّكْرَانُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْفُوعِ عَنْهُ الْقَلَمُ، هَذَا جِنَايَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ4.
وَحَكَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَجَدْت السَّكْرَانَ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ5. وَنَصَّ عَلَيْهِ 6 فِي الأُمِّ 6 أَيْضًا7. فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الصَّاحِي فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ8.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: * أَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ9.
ـــــــ
1 كذا في القواعد والفوائد الأصولية، وفي ش ز ض ب: فيسقط.
2 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص37، المسودة ص37.
3 هو حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيباني، ابن عم الإمام أحمد وتلميذه، له "تاريخ" حسن، وله عن أحمد "سؤالات" يأتي فيها بغرائب ويخالف رفاقه، وسمع المسند كاملاً من الإمام أحمد، وكان ثقة ثبتاً، توفي بواسط سنة 273هـ. "انظر: شذرات الذهب 2/ 162، طبقات الحنابلة 1/ 143، المنهج الأحمد 1/ 166، المدخل إلى مذهب أحمد ص207، طبقات الحفاظ ص268، تذكرة الحفاظ 2/ 600".
4 انظر: القواعد والفوائد الأصولية 2/ 600".
5 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص37، نهاية السول 1/ 171.
6 في ش: الإمام.
7 الأم، للشافعي 5/ 253.
8 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص37، 38، 39، المسودة ص35، التمهيد ص35، وهو رأي الحنفية. "انظر: كشف الأسرار 4/ 353، فواتح الرحموت 1/ 145".
9 هذه الرواية اقتصر عليها ابن بدران فقال: "ولا يكلف النائم والناسي والسكران الذي لا يعقل. "المدخل إلى مذهب أحمد ص58" وهو رأي ابن قدامة في "الروضة ص27" والطوفي في "مختصره ص12"، وهو رأي الغزالي والجويني والمعتزلة وأكثر المتكلمين والآمدي وابن عقيل. "انظر: المستصفى 1/ 84، القواعد والفوئد الأصولية ص37، 38، الإحكام، الآمدي 1/ 152".(1/506)
وَعَنْهُ ثَالِثَةٌ 1: أَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ فِي أَقْوَالِهِ. وَكَالصَّاحِي فِي أَفْعَالِهِ2.
وَعَنْهُ رَابِعَةٌ: أَنَّهُ فِي الْحُدُودِ كَالصَّاحِي، وَفِي غَيْرِهَا: كَالْمَجْنُونِ3.
وَعَنْهُ خَامِسَةٌ: أَنَّهُ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ. - كَقَتْلِهِ وَعِتْقِهِ وَنَحْوِهِمَا4- كَالصَّاحِي، وَفِيمَا لا يَسْتَقِلُّ بِهِ كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَمُعَاوَضَاتِهِ كَالْمَجْنُونِ5.
وَعَنْهُ سَادِسَةٌ: لا أَقُولُ فِي طَلاقِ السَّكْرَانِ وَعِتْقِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ.
وَعَنْهُ سَابِعَةٌ: لا تَصِحُّ رِدَّتُهُ فَقَطْ.
وَأَمَّا قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ زَمَنَ سُكْرِهِ فَلَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ إلاَّ أَبُو ثَوْرٍ6، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
وَحَدُّ السَّكْرَانِ الَّذِي فِيهِ الْخِلافُ: هُوَ الَّذِي يَخْلِطُ7 فِي كَلامِهِ وَيَسْقُطُ
ـــــــ
*1 ساقطة من ض ع.
2 انظر: القواعد والفوائد الأصلية ص38.
3 المرجع السابق.
4 في ز: ونحوهما.
5 القواعد والفوائد الأصولية ص38.
6 هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، أبو ثور البغدادي الكلبي، كان إماماً جليلاً، وفقيهاً ورعاً خيراً، كان من أصحاب الرأي حتى حضر الشافعي إلى بغداد فاختلف إليه ورجع عن الرأي إلى الحديث، وصار صاحب قول عند الشافعية، وهو ناقل الأقوال القديمة عن الشافعي، توفي في سنة 240هـ ببغداد. "انظر: وفيات الأعيان 1/ 7، طبقات الفقهاء ص101، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2/ 74، البداية والنهاية 10/ 322، شذرات الذهب 2/ 93، طبقات الحفاظ ص223، الخلاصة ص17، ميزان الاعتدال 1/ 29، طبقات المفسرين 1/ 7، طبقات الفقهاء الشافعية، العبادي ص22".
7 في ع ض ب: يختلط.(1/507)
تَمْيِيزُهُ بَيْنَ الأَعْيَانِ. وَلَوْ كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَبَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى1.
"وَيُكَلَّفُ" الْعَاقِلُ أَيْضًا مَعَ "إكْرَاهٍ وَيُبِيحُ" الإِكْرَاهُ "مَا فُتِحَ ابْتِدَاءً" أَيْ مَا قَبُحَ ابْتِدَاءُ فِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ. كَالتَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ2.
وَمَحَلُّ الْخِلافِ فِي تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ: إذَا كَانَ الإِكْرَاهُ "بِضَرْبٍ أَوْ تَهْدِيدٍ بِحَقٍّ أَوْ غَيْرِهِ" وَكَوْنُ الْمُكْرَهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مُكَلَّفًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ3، - خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالطُّوفِيِّ4- لِصِحَّةِ الْفِعْلِ مِنْهُ، وَصِحَّةِ التَّرْكِ وَنِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا يَأْثَمُ الْمُكْرَهُ بِالْقَتْلِ بِلا خِلافٍ5. قَالَهُ الْمُوَفَّقُ فِي "الْمُغْنِي"6، مَعَ أَنَّهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَنَا وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إذَا عَلَّقَ طَلاقًا
ـــــــ
1 انظر: الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص311، القواعد والفوائد الأصولية ص38، التوضيح على التنقيح 3/ 207.
2 انظر: التمهيد ص28، المستصفى 1/ 90، فواتح الرحموت 1/ 166، الإحكام، ابن حزم 2/ 719، نهاية السول 1/ 174، كشف الأسرار 4/ 384، التوضيح على التنقيح 3/ 227، القواعد والفوائد الأصولية ص47، المسودة ص35.
3 وهو الذي أكره فباشر الفعل بنفسه، وهنا زال الرضى فقط دون الاختيار، أما إذا زال الرضى والاختيار وصار كالآلة فله حكم آخر سيذكره المصنف في الصفحة التالية. "انظر: نهاية السول 1/ 174، مناهج العقول 1/ 174، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 72، التوضيح على التنقيح 3/ 227، فواتح الرحموت 1/ 166، تيسير التحرير 2/ 307، الإحكام، الآمدي 1/ 154، المستصفى 1/ 90، القواعد والفوائد الأصولية ص39، التمهيد ص27، الروضة ص27، مختصر الطوفي ص12، المدخل إلى مذهب أحمد ص58، المسودة ص35".
4 وهو قول السبكي ومن تبعه. "انظر: جمع الجوامع وشرح المحلي وحاشية البناني 1/ 73، نهاية السول 1/ 174، التمهيد ص27، مختصر الطوفي ص12-13".
5 قال السبكي والمحلي: يمتنع تكليفه حالة القتل والاكراه، وأثم القاتل لإيثاره نفسه بالبقاء على مكافئه. "المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 74".
6 المغني 8/ 267، وانظر: الروضة ص27.(1/508)
بِقُدُومِ زَيْدٍ، فَقَدِمَ مُكْرَهًا: لا يَحْنَثُ، لِزَوَالِ اخْتِيَارِهِ بِالإِكْرَاهِ.
وَمَسْأَلَةُ أَفْعَالِ الْمُكْرَهِ مُخْتَلِفَةُ الْحُكْمِ فِي الْفُرُوعِ1.
قَالَ فِي"شَرْحِ التَّحْرِيرِ":وَالأَشْهَرُ عِنْدَنَا نَفْيُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَثُبُوتُهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ. وَضَابِطُ الْمَذْهَبِ أَنَّ2 الإِكْرَاهُ لا يُبِيحُ الأَفْعَالَ، وَإِنَّمَا يُبِيحُ الأَقْوَالَ، وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي بَعْضِ الأَفْعَالِ، وَاخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ3.
وَ "لا" يُكَلَّفُ "مَنْ" انْتَهَى الإِكْرَاهُ إلَى سَلْبِ قُدْرَتِهِ حَتَّى صَارَ "كَآلَةٍ تُحْمَلُ"4.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: إذَا انْتَهَى الإِكْرَاهُ إلَى سَلْبِ الْقُدْرَةِ وَالاخْتِيَارِ، فَهَذَا غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
وَ5 قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: الْمُكْرَهُ كَالآلَةِ يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُهُ قِيلَ: بِاتِّفَاقٍ، لَكِنْ الآمِدِيُّ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ يَطْرُقُهُ الْخِلافُ مِنْ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ6 لِتَصَوُّرِ الابْتِلاءِ مِنْهُ، بِخِلافِ الْغَافِلِ، وَحِينَئِذٍ فَلا تَكْلِيفَ بِفِعْلِ الْمُلْجَأِ إلَيْهِ. لأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَلا بِتَرْكِ الْمُلْجَأِ إلَى تَرْكِهِ، لأَنَّهُ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ7.
ـــــــ
1 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص39، الروض المربع 2/ 362، التمهيد ص27، التوضيح على التنقيح 3/ 227 وما بعدها، كشف الأسرار 4/ 384 وما بعدها.
2 ساقطة من ش.
3 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص39، التمهيد ص27 وما بعدها، التوضيح على التنقيح 3/ 228.
4 انظر: المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 70، نهاية السول 1/ 173، الإحكام، الآمدي 1/ 154، مناهج العقول 1/ 173، التمهيد ص26، مختصر الطوفي ص12، المدخل إلى مذهب أحمد ص58، القواعد والفوائد الأصولية ص39. وفي ع ز: بحمل.
5 ساقطة من ع.
6 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 154.
7 انظر: تيسير التحرير 2/ 309.(1/509)
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا: تَقَدَّمَ: أَنَّهُ يَصِحُّ التَّكْلِيفُ مَعَ سُكْرٍ لَمْ يُعْذَرْ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ عُذِرَ بِالسُّكْرِ، كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ. فَإِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِي حَالِ سُكْرِهِ الْمَعْذُورِ بِهِ. وَإِلَى ذَلِكَ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ: "أَوْ عُذِرَ بِسُكْرٍ"1.
"وَ" كَذَا لا يُكَلَّفُ "آكِلٌ بَنْجًا وَمُغْمًى عَلَيْهِ وَنَائِمٌ وَنَاسٍ وَمُخْطِئٌ وَمَجْنُونٌ وَغَيْرُ بَالِغٍ"2 مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى3.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ4 مَسَائِلَ لا يُكَلَّفُ صَاحِبُهَا عَلَى الأَصَحِّ مِنْ الْمَذْهَبِ.
- أَحَدُهَا5: الْمَعْذُورُ بِالسُّكْرِ كَالْمُكْرَهِ، هَلْ يُكَلَّفُ أَمْ لا؟ فِيهِ خِلافٌ، وَالصَّحِيحُ6 مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّ7 حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ فِي تَكْلِيفِهِ وَعَدَمِهِ8، ثُمَّ قَالَ:
- الثَّانِيَةُ: الْمُغْمَى عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ حَالَ
ـــــــ
1 انظر: التوضيح على التنقيح 3/ 204، نهاية السول 1/ 171.
2 هذه الموانع التي تمنع التكليف أو تسقطه يدرسها علماء الأصول، وخاصة الحنفية، بعنوان عوارض الأهلية، ويبحثون كلاً منها على حده، وقد يجمعونها تحت عنوان "منع تكليف الغافل". "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 152، 154، المستصفى 1/ 84، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 68، فوتح الرحموت 1/ 156، التوضيح على التنفيح 3/ 161، أصول السرخسي 2/ 338، 341، تيسير التحرير 2/ 264، وما بعدها، كشف الأسرار 4/ 262 وما بعدها، نهاية السول 1/ 171، الروضة ص27، مختصر الطوفي ص12، المدخل إلى مذهب أحمد ص59، القواعد والفوئد الأصولية ص16، 30، 35، 37، 39، المسودة ص35".
3 في ع: أو أنثى.
4 ساقطة من ز.
5 في ش: أحدهما.
6 في ع: والأصح.
7 في ض ب: أن المكره في عدم التكليف.
8 انظر: القواعد والقوائد الأصولية ص39، التوضيح على التنقيح 3/ 204، كشف الأسرار 4/ 351.(1/510)
إغْمَائِهِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ السَّكْرَانِ الْمُكْرَهِ فِي عَدَمِ التَّكْلِيفِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ1، ثُمَّ قَالَ:
- الثَّالِثَةُ: آكِلُ الْبَنْجِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّ أَكْلَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إذَا 2 أَزَالَ الْعَقْلَ 2 كَالْمَجْنُونِ. وَلا يَقَعُ طَلاقُ مَنْ تَنَاوَلَهُ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ، لأَنَّهُ لا لَذَّةَ فِيهِ3، ثُمَّ قَالَ:
- وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ: النَّائِمُ وَالنَّاسِي، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُمَا غَيْرُ مُكَلَّفَيْنِ حَالَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ، لأَنَّ الإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ عَلَى وَجْهِ الامْتِثَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لأَنَّ الامْتِثَالَ عِبَارَةٌ عَنْ إيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الطَّاعَةِ4.
وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمُ الْمَأْمُورِ بِتَوَجُّهِ الأَمْرِ نَحْوَهُ وَبِالْفِعْلِ. فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلاً لِعَدَمِ الْفَهْمِ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّكْرَانِ، بِدَلِيلِ عَدَمِ تَحَرُّزِهِمْ مِنْ الْمَضَارِّ وَقَصْدِ الْفِعْلِ بِلُطْفٍ وَمُدَارَاةٍ، بِخِلافِ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّهُمَا يَفْهَمَانِ وَيَقْصِدَانِ الْفِعْلَ عِنْدَ التَّلَطُّفِ5 بِهِمَا، وَيَحْتَرِزَانِ مِنْ الْمَضَارِّ، بَلْ وَالْبَهِيمَةُ كَذَلِكَ، وَيُخَصُّ النَّائِمُ وَالنَّاسِي بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ النَّائِمِ
ـــــــ
1 انظر: القواعد والقوائد الأصولية ص35، التوضيح على التنقيح 3/ 168، كشف الأسرار 4/ 280.
2 في ض: زال عقله، وفي ب: زال العقل.
3 وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أيضاً أن الرجل إذا كان عالماً بفعل البنج فأكله يصح طلاقه وعتاقه. "انظر: التلويح على التوضيح 3/ 205، كشف الأسرار 4/ 352".
4 انظر: التوضيح على التنقيح 3/ 167، تيسير التحرير 2/ 263 وما بعدها، كشف الأسرار 4/ 276، 278، نهاية السول 1/ 171، تخريج الفروع على الأصول ص33، الروضة ص27، التمهيد ص24، مختصر الطوفي ص12، القواعد والفوائد الأصولية ص30، الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص302.
5 في ب: التلفظ.(1/511)
حَتَّى يَسْتَيْقِظَ"1، وَ "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ"2، وَأَلْحَقَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي "مُقْنِعِهِ" الْمُخْطِئَ بِهِمَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ3، انْتَهَى.
"وَوُجُوبُ زَكَاةٍ وَ" وُجُوبُ "نَفَقَةٍ وَ" وُجُوبُ "ضَمَانِ" مُتْلَفٍ "مِنْ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ" لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ الإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا يَسْتَعِدُّ لِقُوَّةِ الْفَهْمِ بَعْدَ الْحَالَةِ الَّتِي امْتَنَعَ تَكْلِيفُهُ مِنْ أَجْلِهَا، بِخِلافِ الْبَهِيمَةِ4.
ـــــــ
1 هذا طرف من حديث سبق تخريجه ص499.
2 رواه ابن ماجة والحاكم وابن حبان والطبراني عن ثوبان بألفاظ مختلفة، واضطربت أقوال العلماء في صحته وضعفه، قال المناوي: "رمز المصنف "السيوطي" لصحته، وهو غير صحيح، فقد تعقبه الهيثمي، وقصارى أمر الحديث أن النووي ذكر أنه حسن، ولم يسلم له ذلك، وذكر عبد لله بن أحمد في العلل أن أباه أنكره"، ورواه ابن ماجة عن ابن عباس بلفظ "إن الله وضع عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وفي زوائد ابن ماجة: إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع، ورواه ابن ماجة عن أبي ذر بلفظ: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان..." وفي الزوائد إسناده صعيف، لاتفاقهم على ضعف أبي بكر الهذلي في سنده، بينما قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ورواه البيهقي عن ابن عمر بلفظ "وضع..." وصححه، كما صححة ابن حبان، واستنكره أبو حاتم، ورواه ابن عدي من حديث أبي بكرة مرفوعاً بلفظ "رفع عن هذه الأمة ثلاثاً، الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه" وضعفه، وقوله: "رفع عن أمتي الخطأ" : أي إثمه، لا حكمه، إذ حكمه في الضمان لا يرتفع. "انظر: سنن ابن ماجة 1/ 659، فيض القدير 4/ 34، 6/ 326، كشف الخفا 1/ 433، تخريج أحاديث أصول البزدوي ص89".
3 وأيده الآمدي فقال: "وأما الخاطيء فغير مكلف إجماعاً، فيما هو مخطىء فيه" "الإحكام، له 1/ 154" وانظر: تيسير التحرير 2/ 305، التوضيح على التنقيح 3/ 224، كشف الأسرار 4/ 380، فواتح الرحموت 1/ 165.
4 أي هذا من خطاب الوضع، وقد سبق أنه لا يشترط في خطاب الوضع التكليف بالبلوغ والعقل. "انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 152، التمهيد ص25، شرح تنقيح الفصول ص145، المستصفى 1/ 84، مناهج العقول 1/ 173، الروضة ص27، مختصر الطوفي ص12، إرشاد الفحول ص11".(1/512)
"وَلا" يُكَلَّفُ "مَعْدُومٌ حَالَ عُدْمِهِ" إجْمَاعًا "وَيَعُمُّهُ الْخِطَابُ إذَا كُلِّفَ كَغَيْرِهِ" أَيْ كَغَيْرِ الْمَعْدُومِ مِنْ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ، وَلا يَحْتَاجُ إلَى خِطَابٍ آخَرَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَحُكِيَ عَنْ الأَشْعَرِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَحَكَاهُ الآمِدِيُّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ1.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ. وَنُسِبَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَجَمْعٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَعْدُومَ لا يَعُمُّهُ الْخِطَابُ مُطْلَقًا2.
وَاسْتَدَلَّ لِلْقَوْلِ الأَوَّلِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 3، قَالَ السَّلَفُ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَقَدْ أُنْذِرَ بِإِنْذَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إذَا امْتَنَعَ خِطَابُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَالْمَعْدُومُ أَجْدَرُ: ضَعِيفٌ، لأَنَّهُ فَهِمَ عَنْ الْحَنَابِلَةِ تَنْجِيزَ5 التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَعْلَمْ التَّعْلِيقَ. وَأَنَّ حُكْمَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَحُكْمِ الْمَعْدُومِ6.
ـــــــ
1 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 153، فوتح الرحموت 1/ 147، نهاية السول 1/ 165، مناهج العقول 1/ 165، العضد على ابن الحاجب 2/ 15، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 77، المستصفى 1/ 85، تيسير التحرير 2/ 131، 239، المسودة ص44، إرشاد الفحول ص11، منهاج السنة 2/ 81.
2 انظر: أصول السرخسي 2/ 334، فوتح الرحموت 1/ 146، تيسير التحرير 2/ 131، نهاية السول 1/ 167، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني 1/ 78.
3 الآية 19 من الأنعام.
4 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 153، تفسير ابن كثير 3/ 12، تفسير القرطبي 6/ 399، تفسير الخازن 2/ 102.
5 في ع: بتخير.
6 إن هذا الاختلاف ثابت بالنسبة للصبي والمجنون بتقدير فهمه، بل أولى، من حيث إن المشترط في حقه الفهم فقط، وفي حق المعدوم الوجود والفهم "انظر: الإحكام، الآمدمي 1/ 153، تيسير التحرير 2/ 131، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني وتقريرات الشربيني 1/ 77، المستصفى 1/ 85، فواتح الرحموت 1/ 148".(1/513)
وَمِنْ الأَدِلَّةِ أَيْضًا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} 1، وَكَالأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ لِمَعْدُومٍ مُتَأَهِّلٍ، وَخَيفُة2 الْمُوصَي الْفَوْتَ3 لا أَثَرَ لَهُ4.
وَيَحْسُنُ لَوْمُ الْمَأْمُورِ فِي الْجُمْلَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلاءِ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْ الْفِعْلِ مَعَ قُدْرَتِهِ5 وَتَقَدُّمِ أَمْرِهِ6.
وَلأَنَّهُ أَزَلِيٌّ، وَتَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ جُزْءٌ مِنْ حَقِيقَتِهِ. وَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ، وَكَلامُ الْقَدِيمِ صِفَتُهُ7، وَإِنَّمَا تُطْلَبُ الْفَائِدَةُ فِي سَمَاعِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ إذَا وُجِدَ، وَلأَنَّ التَّابِعِينَ وَالأَئِمَّةَ لَمْ يَزَالُوا يَحْتَجُّونَ بِالأَدِلَّةِ، وَهُوَ دَلِيلُ التَّعْمِيمِ وَالأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ.
قَالَ الْمُخَالِفُونَ: تَكْلِيفٌ وَلا مُكَلَّفٌ مُحَالٌ8.
ـــــــ
1 الآية 153 من الأنعام.
2 في ش: خوف.
3 في ض: الفوات.
4 انظر: الإحكام، الآمدي 1/ 153.
5 ساقطة من ش.
6 هذا فرع عن تكليف المعدوم بأن ينجز التكليف عند البلوغ والقدرة، وإلا استحق اللوم، "انظر: حاشية التفتازاني على العضد 2/ 14، شرح تنقيح الفصول ص146".
7 هذا الكلام جواب عن اعتراض المخالفين الذين قالوا، الأمر بالمعدوم فرع قدم الكلام بأقسامه، وأنه محال، لأنه يلزم تعدد القديم باعتبار أنواعه وأفراده، فأن المتعلق يزيد غير المتعلق بعمرو، والجواب: أن التعدد ههنا بحسب تعدد المتعلقات وأنه تعدد اعتباري لا يوجب تعدداً وجودياً، وذلك هو المحال، ومثاله الإبصار فإنه وصف واحد، لا يتعدد في الوجود بكثرة المبصرات، إنما يتعدد تعلقه، والوصف واحد "انظر: العضد على ابن الحاجب 2/ 16، تيسير التحرير 2/ 239، نهاية السول 1/ 168، مناهج العقول 1/ 168". قال القرافي: "هذه المسألة أغمض مسألة في أصول الفقه". "شرح تنقيح الفصول ص145، 146".
8 هذا قول المعتزلة. "انظر: تيسير التحرير 2/ 239، نهاية السول 1/ 169، العضد على ابن الحاجب 2/ 15".(1/514)
رُدَّ بِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، ثُمَّ بِالْمَنْعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْكَاتِبِ يُخَاطِبُ مَنْ يُكَاتِبُهُ بِشَرْطِ وُصُولِهِ وَيُنَادِيهِ، وَأَمْرِ الْمُوصِي وَالْوَاقِفِ حَقِيقَةٍ، لأَنَّهُ لا يَحْسُنُ نَفْيَهُ1.
قَالُوا: لا يُقَالُ لِلْمَعْدُومِ نَاسٍ.
رُدَّ: بِأَنْ2 يُقَالَ: بِشَرْطِ وُجُودِهِ.
قَالُوا: الْعَاجِزُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَهَذَا3 أَوْلَى.
رُدَّ: بِالْمَنْعِ عِنْدَ كُلِّ قَائِلٍ بِقَوْلِنَا، بَلْ مُكَلَّفٌ بِشَرْطِ قُدْرَتِهِ وَبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ4. وَإِنَّمَا رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فِي الْحَالِ، أَوْ قَلَمُ الإِثْمِ، بِدَلِيلِ النَّائِمِ.
"وَلا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "شَيْءٌ" لا "عَقْلاً وَلا شَرْعًا" عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ: مِنْهُمْ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، بَلْ يُثِيبُ الْمُطِيعَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ5.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَمَعْنَى كَلامِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ. وَلِهَذَا أَوْجَبُوا إخْرَاجَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ بِوَعْدِهِ.
وَقَالَ6 ابْنُ الْجَوْزِيِّ7 فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
ـــــــ
1 انظر: إرشاد الفحول ص12، نهاية السول 1/ 169، تقريرات الشربيني 1/ 77.
2 في ع ب: بل.
3 في ش ز ب: فهنا.
4 انظر: العضد على ابن الحاجب 2/ 15.
5 كان المصنف جاء بهذه المسألة كفرع ونتيجة على جواز التكليف للمعدوم، وجواز التكليف بالمحال عند من يقول به، من حيث أنه لا يقبح من الله شيء، ولا يجب عليه شيء. "انظر: المستصفى 1/ 87".
6 في ع ض ب: قال.
7 هو عبد الرحمن بن علي بن محمد، جمال الدين، أبو الفرج، المعروف بابن الجوزي، شيخ وقته، وإمام عصره، يتصل نسبه بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، حفظ القرآن، وكان =(1/515)
الْمُؤْمِنِينَ} 1، أَيْ وَاجِبًا أَوْجَبَهُ هُوَ2.
وَذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَالَ3 الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: أَكْثَرُ النَّاسِ يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقًا زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ الْوَعْدِ لِهَذِهِ الآيَةِ. وَلِحَدِيثِ مُعَاذٍ4 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ؟" 5.
ـــــــ
= محدثاً مفسراً فقيهاً أصولياً واعظاً أدبياً زاهداً قارئاً، له مؤلفات كثيرة منها، "المعني" و "زاد المسير" في التفسير، و "الأذكياء" و "مناقب عمر بن خطاب" و "مناقب عمر بن عبد العزيز" و "مناقب أحمد بن حنبل" و "الموضوعات" في الحديث، و"منهاج الوصول إلى علم الأصول" وغيرها، توفي سنة 597هـ ببغداد، انظر ترجمته في "شذرات الذهب 4/ 229، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 399، وفيات الأعيان 2/ 321، طبقات المفسرين 1/ 270، الفتح المبين 2/ 40، طبقات القراء 1/ 375، طبقات الحفاظ ص477، تذكرة الحفاظ 4/ 1342".
1 الآية 47 من الروم.
2 زاد المسير في علم التفسير 5/ 308.
3 في ع: قال.
4 هو مُعاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، أبو عبد الرحمن، الصحابي الأنصاري الخزرجي، الإمام المقدم في علم الحلال والحرام، قال أبو نعيم عنه: "إمام الفقهاء، وكنز العلماء، شهد العقبة وبدراً والمشاهد" وكان أفضل شباب الأنصار حلماً وحياء وسخاء، وكان جميلاً وسيماً، وقال عمر: "عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، ولولا معاذ لهلك عمر". أمره النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن ولاية القضاء، قدم من اليمن في خلافة أبي بكر، ولحق بالجهاد والجيش الإسلامي في بلاد الشام، وكانت وفاته بالطاعون سنة 17، أو 18هـ، وعاش 34 سنة. "انظر: الإصابة 3/ 426، صفة الصفوة 1/ 489، تهذيب الأسماء 2/ 98، شذرات الذهب 1/ 29".
5 هذا جزء من حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة عن معاذ مرفوعاً. "انظر: صحيح البخاري بشرح السندي 2/ 146، 4/ 129، صحيح مسلم 1/ 59، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 7/ 402، سنن ابن ماجة 2/ 1435".(1/516)
وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: يَجِبُ عَلَيْهِ1 رِعَايَةُ الأَصْلَحِ. وَهِيَ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ2.
[انتهى المجلد الأول من شرح الكوكب المنير، ويليه المجلد الثاني وأوله: الأدلة الشرعية.]
[والحمد لله رب العالمين.]
ـــــــ
1 ساقطة من ض.
2 انظر: رأي أهل السنة في هذه المسألة في "المسودة ص63-65، الإرشاد للجويني ص287، غاية المرام، الآمدي ص224، 228، نهاية الاقدام ص404 وما بعدها".(1/517)
المجلد الثاني
تنبيه: الأدلة
...
تَنْبِيهٌ: الأَدِلَّةُ
أَيْ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا عَلَى1 مَا فِي بَعْضِهَا مِنْ خِلافٍ ضَعِيفٍ جِدًّا أَرْبَعَةٌ:
الأَوَّلُ2: "الْكِتَابُ" وَهُوَ الْقُرْآنُ "وَهُوَ الأَصْلُ".
"وَ" الثَّانِي: السُّنَّةُ وَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهَا فِي بَابِهَا "وَهِيَ مُخْبِرَةٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى" سُبْحَانَهُ3.
"وَ" الثَّالِثُ: "الإِجْمَاعُ" وَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ فِي بَابِهِ "وَهُوَ" أَيْ الإِجْمَاعُ "مُسْتَنِدٌ إلَيْهِمَا" أَيْ إلَى4 الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
"و" الرَّابِعُ: "الْقِيَاسُ" عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَجَمْعٌ: لَيْسَ الْقِيَاسُ مِنْ الأُصُولِ. وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّهُ لا يُفِيدُ إلاَّ الظَّنَّ.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِير"ِ: وَ5الْحَقُّ هُوَ الأَوَّلُ. وَالثَّانِي ضَعِيفٌ جِدًّا.
ـــــــ
1 في د ض: أي على.
2 ساقطة من ز.
3 في ع: سبحانه وتعالى.
4 ساقطة من ض.
5 ساقطة من ض.(2/5)
فَإِنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يُفِيدُ الْقَطْعَ كَمَا سَيَأْتِي. وَإِنْ قُلْنَا: لا يُفِيدُ إلاَّ الظَّنَّ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَنَحْوُهُ لا يُفِيدُ إلاَّ الظَّنَّ. اهـ.
"وَهُوَ" أَيْ الْقِيَاسُ "مُسْتَنْبَطٌ مِنْ الثَّلاثَةِ" الَّتِي هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ.
وَأَمَّا الأَدِلَّةُ الَّتِي اُشْتُهِرَ الْخِلافُ فِيهَا فَخَمْسَةٌ1: الاسْتِصْحَابُ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا. وَالاسْتِقْرَاءُ، وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ، وَالاسْتِحْسَانُ،.وَقَدْ آنَ الْكَلامُ عَلَى هَذِهِ الأَدِلَّةِ.وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الأَصْلُ لِجَمِيعِهَا بَدَأْت بِهِ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَقُلْت:
ـــــــ
1 في ز: خمسة.(2/6)
"بَابٌ"
"الْكِتَابُ: الْقُرْآنُ" عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الأَعْيَانِ. بِدَلِيلِ قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ {وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْك نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} - إلَى قَوْلِهِ - {إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} 1 وَالْمَسْمُوعُ وَاحِدٌ، وَبِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ} 2 وَالإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى اتِّحَادِ اللَّفْظَيْنِ3.
وَالْكِتَابُ فِي الأَصْلِ جِنْسٌ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ. "وَهُوَ" أَيْ الْقُرْآنُ.
"كَلامٌ مُنَزَّلٌ" أَيْ نَزَّلَهُ السَّيِّدُ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ "عَلَى" قَلْبِ سَيِّدِنَا "مُحَمَّدٍ" رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِك بِإِذْنِ اللَّهِ} 4.
"مُعْجِزٌ بِنَفْسِهِ" أَيْ مَقْصُودٌ بِهِ الإِعْجَازُ5، كَمَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ بَيَانُ الأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ، وَقَصُّ أَخْبَارٍ مَنْ قُصَّ فِي الْقُرْآنِ مِنَ6 الأُمَمِ،
ـــــــ
1 الآيتان 29-30 من الأحقاف.
2 الآيتان 1-2 من سورة الجن.
3 انظر: مختصر الطوفي ص 45، جمع الجوامع 1/ 223، مناهج العقول 1/ 201، فتاوى ابن تيمية 12/ 7، الروضة ص 33.
4 الآية 97 من البقرة.
5 انظر رأي الغزالي والبزدوي في عدم تقييد التعريف بالإعجاز في "المستصفى 1/ 101، وكشف الأسرار 1/ 22".
6 ساقطة من د.(2/7)
دَلِيلُ1 التَّحَدِّي2 بِهِ، لِقَوْلِهِ3 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 4 5أَيْ فَأْتُوا بِمِثْلِهِ17، إنِ ادَّعَيْتُمْ الْقُدْرَةَ فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ 6 فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} 7 فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} 8 أَيْ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ مِثْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 9. 10أَيْ فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِهِ22.
"مُتَعَبَّدٌ بِتِلاوَتِهِ" لِتَخْرُجَ الآيَاتُ الْمَنْسُوخَةُ اللَّفْظِ سَوَاءٌ بَقِيَ حُكْمُهَا أَمْ لا. لأَنَّهَا11 صَارَتْ بَعْدَ النَّسْخِ غَيْرَ قُرْآنٍ لِسُقُوطِ التَّعَبُّدِ بِتِلاوَتِهَا. وَلِذَلِكَ لا تُعْطَى حُكْمَ الْقُرْآنِ12.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ز. وفي ش: المتحدي في.
3 في ز ع: قوله. وفي ب: في قوله.
4 الآية 88 من الإسراء.
5 ساقطة من ز. وفي ش: دليل. وفي ع سقطت لفظة أي.
6 ساقطة من ش ز.
7 الآية 13 من هود.
8 الآية 38 من يونس. وفي ز ب ع ض: من مثله. وقال تعالى في سورة البقرة 23: {وَإِنْ كُُنْتُمْ فِيْ رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوْا بِسُوْرَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}.
9 الآيتان 33-34 من الطور.
10 ساقطة من ب ع ض.
11 في ز إنها.
12 انظر في تعريف القرآن الكريم "التعريفات للجرجاني ص 152. الإحكام للآمدي 1/ 159، أصول السرخسي 1/ 279، نهاية السول 1/ 204، كشف الأسرار 1/ 21، مناهل العرفان 1/ 9، المستصفى 1/ 101، فواتح الرحموت 2/ 7، مختصر ابن الحاجب والعضد عليه 2/ 18، تيسير التحرير 3/ 3، جمع الجوامع 1/ 223، التلويح على التوضيح 1/ 154، المدخل إلى مذهب أحمد ص87، مختصر الطوفي ص 45، أصول الفقه الإسلامي ص 96 وما بعدها.(2/8)
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلامٌ مُنَزَّلٌ احْتَاجَ1 إلَى تَبْيِينِ مَوْضُوعِ2 لَفْظِ الْكَلامِ وَمَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْكَلامِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا3.
وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ الْكَلامِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ، حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يُسَمَّ عِلْمُ الْكَلامِ إلاَّ لأَجْلِهَا وَ4لِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا أَئِمَّةُ الإِسْلامِ الْمُعْتَبَرِينَ، الْمُقْتَدَى5 بِهِمْ اخْتِلافًا كَثِيرًا مُتَبَايِنًا6.
فَالْقَوْلُ الأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ الإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلاَّبٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْهُمْ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ: أَنَّ الْكَلامَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ، وَبَيْنَ الْكَلامِ النَّفْسِيِّ. وَذَلِكَ:
ـــــــ
1 في ش ز ض: احتيج.
2 ساقطة من ض.
3 ذكر العلامة البناني المراد من هذا التعريف عند علماء الأصول، وبين اختلافه عن المراد به في أصول الدين فقال: "إن القرآن عند الأصوليين أحد الأدلة الخمسة. أي أحد الأمور المحتج بها. والاحتجاج إنما هو بأبعاض اللفظ المذكور لا بمدلوله، فيكون القرآن هو اللفظ المذكور لا مدلوله، خلاف المعنى بالقرآن في أصول الدين. أي فيطلق على كل من المعنيين بالاشتراك، كما يطلق على كل منهما. حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 224".
4 ساقطة من ش.
5 في ع ض: والمقتدى.
6 انظر كشف الأسرار 1/ 22، مناهل العرفان 1/ 9، كشاف اصطلاحات الفنون 1/ 22، 5/ 1272، كشف الظنون 2/ 1503، إتمام الدراية لقراء النقاية للسيوطي ص 3 على هامش مفتاح العلوم، التعريفات للجرجاني ص 162، فتح الباري 13/ 273.(2/9)
لأَنَّهُ1 قَدْ اُسْتُعْمِلَ لُغَةً وَعُرْفًا فِيهِمَا. وَالأَصْلُ فِي الإِطْلاقِ الْحَقِيقَةُ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا2. أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعِبَارَةِ فَكَثِيرٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 3 {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} 4 وَيُقَالُ: سَمِعْت كَلامَ فُلانٍ وَفَصَاحَتَهُ، يَعْنِي أَلْفَاظَهُ الْفَصِيحَةَ.
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ وَهُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَةِ. فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} 5 {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ} 6 وَقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي يَوْمِ السَّقِيفَةِ: زَوَّرْت فِي نَفْسِي كَلامًا7 وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إنَّ الْكَلامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً8
ـــــــ
1 في ع: أنه.
2 انظر: التمهيد للإسنوي ص 30، المستصفى 1/ 100، حاشية البناني 1/ 224، فتاوى ابن تيمية 7/ 170، 12/ 67، القواعد والفوائد الأصولية ص 154، مختصر الطوفي ص 45، جمع الجوامع وشرح المحلي عليه 2/ 104، المحصول للرازي 1/ 235.
3 الآية 6 من التوبة.
4 الآية 75 من البقرة. وفي ش ز ض ع ب: "وهم يسمعون"، وهو خطأ. وتمام الآية: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}.
5 الآية 8 من المجادلة.
6 الآية 13 من الملك.
7 أي هيأت وأصلحت من التزوير، وهو إصلاح الشيء وتحسينه. وقد جاء في رواية أخرى عن عمر: ما زورت كلاماً لأقوله إلا سبقني به أبو بكر. "انظر لسان العرب 4/ 336 وما بعدها ووجه الدلالة في قول عمر أنه سمى ما في النفس كلاماً قبل التكلم به. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 110".
8 البيت للأخطل. وقال جماعة: إنه لغيره؛ لأن هذا البيت لا يوجد في ديوان الأخطل. وقد أضيف إلى ديوانه في قسم الزيادات عند طباعة شعر الأخطل في بيروت "ص ......=(2/10)
وَالأَصْلُ فِي الإِطْلاقِ: الْحَقِيقَةُ. قَالَ الأَشْعَرِيُّ: لَمَّا كَانَ يَسْمَعُهُ بِلا انْخِرَاقٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلامُهُ بِلا حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ.
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ: "أَنَّ قَوْمًا جَعَلُوا الْكَلامَ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى مَجَازًا فِي الْعِبَارَةِ. وَقَوْمًا عَكَسُوا، وَقَوْمًا قَالُوا: بِالاشْتِرَاكِ. فَهِيَ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ وَنُقِلَتْ عَنْ الأَشْعَرِيِّ1".
وَالْمَعْنَى النَّفْسِيُّ نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ قَائِمَةٌ بِالْمُتَكَلِّمِ، وَنَعْنِي بِالنِّسْبَةِ بَيْنَ الْمُفْرَدَيْنِ: أَيْ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُفْرَدَيْنِ، تَعَلُّقَ أَحَدِهِمَا بِالآخَرِ، وَإِضَافَتَهُ إلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الإِسْنَادِ الإِفَادِيِّ، بِحَيْثُ2 إذَا عُبِّرَ عَنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ بِلَفْظٍ يُطَابِقُهَا وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا: كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ إسْنَادًا إفَادِيًّا3. وَمَعْنَى قِيَامِ النِّسْبَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ: مَا قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيّ4، وَهُوَ أَنَّ الشَّخْصَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: اسْقِنِي مَاءً فَقَبْلَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ قَامَ بِنَفْسِهِ تَصَوُّرُ حَقِيقَةِ السَّقْيِ وَحَقِيقَةِ الْمَاءِ وَالنِّسْبَةِ الطَّلَبِيَّةِ بَيْنَهُمَا. فَهَذَا هُوَ الْكَلامُ النَّفْسِيُّ. وَالْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَصِيغَةُ5 قَوْلِهِ: "اسْقِنِي مَاءً"، عِبَارَةٌ عَنْهُ 6وَدَلِيلٌ عَنْهُ6.
ـــــــ
= 508. وقد نسبه إلى الأخطل ابن هشام في شذور الذهب ص 28، وابن يعيش الحلبي في "شرح المفصل للزمخشري 1/ 21"، "والجاحظ في البيان والتبيين 1/ 218" والقرافي في شرح تنقيح الفصول ص 126 وغيرهم. انظر: معجم شواهد العربية 1/ 271.
1 المستصفى 1/ 100. وانظر: فواتح الرحموت 2/ 6، فتاوى ابن تيمية 12/ 67، القواعد والفوائد الأصولية ص 154، جمع الجوامع والمحلي عليه 2/ 104.
2 في ز ض ع ب: أي بحيث.
3 انظر: فواتح الرحموت 2/ 3، مختصر ابن الحاجب 2/ 18، جمع الجوامع وشرح المحلي عليه 2/ 103.
4 انظر الأربعين في أصول الدين للرازي ص 174، غاية المرام ص 97.
5 في د: وهو صيغة.
6 ساقطة من ش.(2/11)
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: كُلُّ عَاقِلٍ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْخَبَرَ عَنْ كَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الاثْنَيْنِ، وَعَنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ وَلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَالْمُخْتَلِفُ هُوَ الْكَلامُ اللِّسَانِيُّ، وَغَيْرُ الْمُخْتَلِفِ هُوَ الْكَلامُ النَّفْسِيُّ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُسَمَّى1 ذَلِكَ الْعِلْمُ الْخَاصُّ: سَمْعًا؛ لأَنَّ إدْرَاكَ الْحَوَاسِّ إنَّمَا هِيَ عُلُومٌ خَاصَّةٌ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْعِلْمِ فَكُلُّ إحْسَاسٍ عِلْمٌ وَلَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ إحْسَاسًا2. فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْعِلْمُ الْخَاصُّ فِي نَفْسِ مُوسَى الْمُتَعَلِّقُ بِالْكَلامِ النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يُسَمَّى3 بِاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ السَّمَاعُ. اهـ.
هَذَا حَقِيقَةُ مَذْهَبِهِمْ. لَكِنَّ الأَشْعَرِيَّ وَأَتْبَاعَهُ قَالُوا: الْقُرْآنُ الْمَوْجُودُ عِنْدَنَا حِكَايَةُ كَلامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَابْنُ كُلاَّبٍ وَأَتْبَاعُهُ. قَالُوا: الْقُرْآنُ الْمَوْجُودُ بَيْنَ النَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّهِ تَعَالَى لا عَيْنِهِ4.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَ5رَأَيْت الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ عَكَسَ عَنْهُمَا. فَجَعَلَ الْعِبَارَةَ عَنْ الأَشْعَرِيِّ، وَالْحِكَايَةَ عَنْ ابْنِ كُلاَّبٍ6.
وَقَالَ الأَشْعَرِيُّ: كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ يُسْمَعُ عِنْدَ تِلاوَةِ كُلِّ تَالٍ وَقِرَاءَةِ كُلِّ قَارِئٍ.
ـــــــ
1 في ب: وسمي.
2 في ش: احساس.
3 في ب: سمي.
4 قال الآمدي: "الكتاب هو الكلام المعبر عن الكلام النفساني". "الإحكام له 1/ 159". وانظر: الفصل في الملل والنحل 3/ 6.
5 ساقطة من ع.
6 هذا ما نقله المصنف عن الشيخ تقي الدين في فتوى الأزهرية فيما بعد ص 34.(2/12)
وَقَالَ الْبَاقِلاَّنِيُّ: إنَّمَا نَسْمَعُ1 التِّلاوَةَ دُونَ الْمَتْلُوِّ، وَالْقِرَاءَةَ دُونَ الْمَقْرُوءِ2.
وَذَهَبَ الإِمَامُ أَحْمَدُ إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ، وَإِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِلا شَكٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ - قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ فِي الأَمْرِ، وَابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ - إلَى أَنَّ الْكَلامَ لَيْسَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْعِبَارَةِ وَمَدْلُولِهَا، بَلْ الْكَلامُ حَقِيقَةً: هُوَ الْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الصَّوْتِ3، وَإِلَى ذَلِكَ الإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ.
"وَالْكَلامُ حَقِيقَةً" أَيْ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ إطْلاقِهِ أَنَّهُ4 "الأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ".
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْمَعْرُوفُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ فِرَقِ الأُمَّةِ. فَإِنَّ جَمَاهِيرَ الطَّوَائِفِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ5 بِصَوْتٍ، مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي أَنَّ كَلامَهُ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ قَدِيمٌ أَوْ حَادِثٌ، أَوْ مَا زَالَ يَتَكَلَّمُ6.
ـــــــ
1 في ع ض: تسمع.
2 الإنصاف للباقلاني ص 80. والمتلو هو اللفظ. والمكتوب هو أشكال الحروف. والمسموع هو الصوت. وأما التلاوة والكتابة والسماع بالمعاني المصدرية فإنما هي نسب بين التالي والمتلو، والكاتب والمكتوب، والسامع والمسموع. فطرفا كل من هذه النسب مخلوقان. وإنما القديم هو ما قام به سبحانه. وإطلاق المتلو والمحفوظ والمكتوب والمسموع على ما قام به سبحانه من قبيل وصف المدلول بصفة الدال. "انظر تعليق الشيخ محمد زاهد الكوثري على الإنصاف ص 80". ويقول الباقلاني أيضاً: "التلاوة غير المتلو، كما أن العبادة غير المعبود، والذكر غير المذكور، والدعاء غير المدعو. الإنصاف ص 82".
3 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص 154.
4 ساقطة من ز.
5 في ش ز: تكلم.
6 انظر: فتاوى ابن تيمية 12/ 243، غاية المرام ص 88، الإنصاف للباقلاني ص 110.(2/13)
"وَإِنْ1 سُمِّيَ بِهِ" أَيْ يُسَمَّى بِالْكَلامِ "الْمَعْنَى النَّفْسِيُّ وَهُوَ" أَيْ الْمَعْنَى النَّفْسِيُّ "نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ قَائِمَةٌ" أَيْ2 تِلْكَ النِّسْبَةُ "بِالْمُتَكَلِّمِ" وَتَقَدَّمَ3 الْكَلامُ عَلَى الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ، يَعْنِي أَنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ الْكَلامُ عَلَى الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ "فَ" إطْلاقُهُ عَلَيْهِ "مَجَازٌ" وَهَذَا عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ4.
قَالَ الطُّوفِيُّ: إنَّمَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْعِبَارَةِ، مَجَازًا5 فِي مَدْلُولِهَا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَبَادَرَ إلَى فَهْمِ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ إطْلاقِ الْكَلامِ: إنَّمَا هُوَ6 الْعِبَارَاتُ، وَالْمُبَادَرَةُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْكَلامَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَلْمِ، لِتَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ إنَّمَا هُوَ الْعِبَارَاتُ، لا الْمَعَانِي النَّفْسِيَّةُ بِالْفِعْلِ، نَعَمْ هِيَ مُؤَثِّرَةٌ لِلْفَائِدَةِ بِالْقُوَّةِ، وَالْعِبَارَةُ مُؤَثِّرَةٌ بِالْفِعْلِ. فَكَانَتْ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وَمَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا بِالْقُوَّةِ مَجَازٌ.
قَالَ الْمُخَالِفُونَ: اُسْتُعْمِلَ لُغَةً وَعُرْفًا فِيهِمَا.
قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ بِالاشْتِرَاكِ أَوْ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِالْمَجَازِ7 فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ؟ وَالأَوَّلُ مَمْنُوعٌ.
ـــــــ
1 في ز ب ش: وإنما.
2 ساقطة من ب ع ض.
3 في ش: ويقدم.
4 انظر القواعد والفوائد الأصولية ص 154، فواتح الرحموت: 2/ 6.
5 في ش ز: مجاز. وهو خطأ.
6 ساقطة من ض.
7 في ش ز: والمجاز.(2/14)
قَالُوا: الأَصْلُ فِي الإِطْلاقِ الْحَقِيقَةُ.
قُلْنَا: وَالأَصْلُ عَدَمُ الاشْتِرَاكِ، ثُمَّ إذَا1 تَعَارَضَ2 الْمَجَازُ وَ3الاشْتِرَاكُ الْمُجَرَّدُ، فَالْمَجَازُ4 أَوْلَى، ثُمَّ إنَّ لَفْظَ الْكَلامِ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِبَارَاتِ، وَكَثْرَةُ مَوَارِدِ الاسْتِعْمَالِ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} 5 فَمَجَازٌ؛ لأَنَّهُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ بِالْقَرِينَةِ. وَهِيَ قَوْلُهُ: "فِي أَنْفُسِهِمْ"، وَلَوْ أُطْلِقَ لَمَا فُهِمَ إلاَّ الْعِبَارَةُ. وَكَذَلِكَ6 كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إنَّمَا يُفِيدُ مَعَ الْقَرِينَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "زَوَّرْت فِي نَفْسِي كَلامًا" إنَّمَا أَفَادَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِي نَفْسِي
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} 7 فَلا حُجَّةَ فِيهِ، لأَنَّ الإِسْرَارَ نَقِيضُ الْجَهْرِ. وَكِلاهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ إحْدَاهُمَا أَرْفَعُ صَوْتًا مِنْ الأُخْرَى8.
وَأَمَّا الشِّعْرُ: فَهُوَ لِلأَخْطَلِ9. وَيُقَالُ: إنَّ الْمَشْهُورَ فِيهِ: "إنَّ الْبَيَانَ لَفِي
ـــــــ
1 في ز: قد.
2 في ر: يعارض.
3 ساقطة من ز.
4 في ز: والمجاز.
5 الآية 8 من المجادلة. وفي ش ز ب ع: يقولون....
6 في ز: ولذلك.
7 الآية 13 من الملك.
8 انظر مناقشة هذه الأدلة بإسهاب في كتاب الإيمان "لابن تيمية ص 113 وما بعدها".
9 هو غياث بن غوث بن الصلت، أبو مالك، من بني تغلب، الشاعر المشهور في العصر الأموي، كان يُشَبّه من شعراء الجاهلية بالنابغة الذبياني. وكان يمدح بني أمية، مدح....=(2/15)
الْفُؤَادِ"، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ مَادَّةِ الْكَلامِ، وَهُوَ التَّصَوُّرَاتُ الْمُصَحِّحَةُ لَهُ؛ إذْ مَنْ لا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ1 مَعْنَى2 مَا يَقُولُ لا يُوجَدُ مِنْهُ3 كَلامٌ، ثُمَّ هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ فِي تَرْجِيحِ الْفُؤَادِ عَلَى اللِّسَانِ. اهـ كَلامُ الطُّوفِيِّ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي "النُّونِيَّةِ": أَنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ: رَدَّ كَلامَ النَّفْسِ مِنْ تِسْعِينَ وَجْهًا4.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: "مَنْ أَحَالَ سَمَاعَ مُوسَى كَلامًا لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ فَلْيُحْلِلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُؤْيَةَ ذَاتٍ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلا عَرَضٍ5". اهـ.
قَالَ الطُّوفِيُّ: كُلُّ هَذَا تَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنْ الظَّاهِرِ، بَلْ عَنْ الْقَاطِعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلاَّ خَيَالاتٌ لاغِيَةٌ. وَأَوْهَامٌ مُتَلاشِيَةٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْمَعَانِيَ لا تَقُومُ شَاهِدًا إلاَّ بِالأَجْسَامِ. فَإِنْ أَجَازُوا مَعْنًى قَامَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَتْ جِسْمًا، فَلْيُجِيزُوا خُرُوجَ صَوْتٍ مِنْ الذَّاتِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَتْ جِسْمًا،
ـــــــ
=معاوية ومن بعدهما حتى هلك. وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل عصرهم، وهم: جرير والفرزدق والأخطل. وكان حسن الديباجة، في شعره إبداع، وكان كثير العناية بشعره ينظم القصيدة، ويسقط ثلثيها، ثم يظهر مختارها. له ديوان شعر مطبوع. وقد خطله كعب بن جُعيل، وقال له: "إنك لأخطل يا غلام"، والخطل السفه وفحش القول، وكان الأخطل هجّاءً بذيئاً، مات سنة 90هـ.
انظر ترجمته في "الشعر والشعراء ص 455، الأغاني 8/ 280، طبقات فحول الشعراء للجمحي 1/ 298، شرح شواهد المغني للسيوطي 1/ 123، الأعلام للزركلي 5/ 318".
1 ساقطة من ع ض.
2 ساقطة من ض.
3 في ش ز ض: فيه.
4 انظر الكافية بشرح النونية 1/ 206، 224، 264، الإيمان لابن تيمية ص 110.
5 الأربعين في أصول الدين للغزالي ص 20.(2/16)
إذْ كِلاََ1 الأَمْرَيْنِ خِلافُ الشَّاهِدِ، وَمَنْ أَحَالَ كَلامًا لَفْظِيًّا مِنْ غَيْرِ جِسْمٍ فَلْيُحْلِلْ ذَاتًا مَرْئِيَّةً مِنْ غَيْرِ جِسْمٍ، وَلا فَرْقَ.
ثُمَّ قَالَ الطُّوفِيُّ: وَالْعَجَبُ2 مِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ - مَعَ أَنَّهُمْ عُقَلاءُ فُضَلاءُ - يُجِيزُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، وَسَمْعًا لِكَلامِهِ النَّفْسِيِّ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ 3حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ5. وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَاصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ السَّمْعِ فِي الشَّاهِدِ، إذْ حَقِيقَةُ السَّمْعِ فِي الشَّاهِدِ إيصَالُ4 الأَصْوَاتِ بِحَاسَّةٍ5، ثُمَّ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ 6بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ8 قَدِيمَيْنِ مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ، لِكَوْنِ7 ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلشَّاهِدِ8 فَإِنْ جَازَ قَلْبُ حَقِيقَةِ السَّمْعِ شَاهِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلامِهِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ910مُخَالَفَتُهُ لِلشَّاهِدِ12 بِالنِّسْبَةِ إلَى اسْتِوَائِهِ وَكَلامِهِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ؟
فَإِنْ قَالُوا: لأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ حَرْفٍ وَصَوْتٍ إلاَّ11 مِنْ جَسَدٍ وَوُجُودٌ فِي جِهَةٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ.
ـــــــ
1 ساقطة من ض.
2 في ش: والعجيب.
3 في ب ع ض: صوت ولا حرف.
4 في ش ز ب: أيضاً سماع. وفي ض: أيضاً.
5 في ش: بحاسته. وفي ب ع ض: بحاسيته.
6 في ب ع ض: بصوت وحرف.
7 في ش ز: لكونه.
8 في ز: لشاهد.
9 في ع ض: يجيزوا.
10 في ش ز ع ض: مخالفة الشاهد.
11 في ع ض: لا.(2/17)
قُلْنَا: إنْ عَنَيْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ بِالإِضَافَةِ إلَى الشَّاهِدِ. فَسَمَاعُ كَلامٍ1 بِدُونِ تَوَسُّطِ صَوْتٍ وَحَرْفٍ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ عَنَيْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ مُطْلَقًا فَلا نُسَلِّمُ، إذْ الْبَارِي جَلَّ جَلالُهُ عَلَى خِلافِ الْمُشَاهَدِ2 وَالْمَعْقُولِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَدْ وَرَدَتْ النُّصُوصُ بِمَا قُلْنَاهُ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ. اهـ.
وَ3قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ4 عَنْ قَوْلِ الأَشْعَرِيِّ: "لَمَّا كَانَ سَمْعُهُ بِلا انْخِرَاقٍ. وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلامُهُ بِلا حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ" هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلا يَقْتَضِي مَا قَالَهُ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ سَمْعَهُ لَمَّا كَانَ بِلا انْخِرَاقٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلامُهُ بِلا لِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ وَحَنَكٍ. وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ الْكَلامُ مِنْ5 غَيْرِ حَرْفٍ، وَكَانَتْ الْحُرُوفُ عِبَارَةً عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُحْكَمَ لِتِلْكَ الْعِبَارَةِ بِحُكْمٍ، إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْدَثَهَا فِي صَدْرٍ أَوْ لَوْحٍ، أَوْ أَنْطَقَ بِهَا بَعْضَ عَبِيدِهِ فَتَكُونَ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ. فَيَلْزَمَ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ: أَنْ يُفْصِحَ بِمَا عِنْدَهُ فِي6 السُّوَرِ وَالآيِ وَالْحُرُوفِ: أَهِيَ7 عِبَارَةُ جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ؟
ـــــــ
1 في ش: كلامه.
2 في ز ع ب ض: المشاهدة.
3 ساقطة من ب.
4 هو عبيد الله بن سعيد بن حاتم، أبو نصر السجستاني أو السجزي، نسبة إلى سجستان، الإمام الحافظ، كان متقناً بصيراً بالحديث والسنة، واسع الرواية، نزيل الحرم ومصر، وله كتاب "الإبانة الكبرى" في القرآن. وهو كتاب طويل يدل على إمامته وبصره بالرجال والطرق، مات بمكة سنة 444هـ.
انظر ترجمته في "العقد الثمين 5/ 307، تذكرة الحفاظ 3/ 1118، حسن المحاضرة 1/ 353، شذرات الذهب 3/ 271، طبقات الحفاظ ص 429".
5 ساقطة من ز ع ب ض.
6 في ع: من.
7 في ش: هي.(2/18)
وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1 "وَكُنْ" حَرْفَانِ، وَلا يَخْلُو الأَمْرُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {كُنْ} التَّكْوِينَ كَالْمُعْتَزِلَةِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ2 ظَاهِرَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ إيجَادَ3 شَيْءٍ قَالَ لَهُ: {كُنْ} عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَكُونُ4. وَقَدْ قَالَ الأَشْعَرِيُّ: إنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لا بِمَعْنَى التَّكْوِينِ. فَيَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ حَرْفَانِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِ وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ بِحَرْفٍ صَارَ بِمَعْنَى التَّكْوِينِ كَالْمُعْتَزِلَةِ. اهـ.
وَقَالَ الْحَافِظُ شِهَابُ الدِّينِ ابْنُ حَجَرٍ، فِي "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ" 5فِي بَابِ كَلامِ قَوْلِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} 4 وَالْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، تَلَقَّاهُ جِبْرِيلُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَلَّغَهُ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم6، وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ7 صلى الله عليه وسلم إلَى أُمَّتِهِ8، اهـ.
ـــــــ
1 الآية 40 من النحل. وفي ش: الآية 83 من يس، وهو خطأ.
2 ساقطة من ض.
3 في ب ع ض: انجاز.
4 انظر: الإنصاف للباقلاني ص 71.
5 في ش ز ب ض: في باب كلام الرب مع جبريل. وهذا النص غير موجود في هذا الباب "فتح الباري 13/ 357". وفي ع: في باب كلام الرب مع جبريل. في باب قوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ}.
6 فتح الباري 13/ 357.
7 اللفظة غير موجودة في ز ع ب ض، ولا في فتح الباري 13/ 357.
8 فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/ 357. وروى البخاري أن الزهري قال: "من الله الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم". "فتح الباري 13/ 387". وانظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 23.(2/19)
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: عَنْ الْقُرْآنِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ1.
"وَالْكِتَابَةُ كَلامٌ حَقِيقَةً2" لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "مَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمُصْحَفِ كَلامُ اللَّهِ3".
وَاخْتَلَفَ كَلامُ4 الْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا فِي تَسْمِيَةِ الْكِتَابَةِ كَلامًا حَقِيقَةً.
قَالَ الْمَجْدُ فِي "الْمُسَوَّدَةِ" عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَنَا كَلامٌ حَقِيقَةً، أَظُنُّهُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلاقِ بِالْكِتَابَةِ5". اهـ.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": قُلْت قَدْ ذَكَرَ الأَصْحَابُ: أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ صَرِيحَ الطَّلاقِ، وَنَوَى بِهِ الطَّلاقَ: يَقَعُ6 الطَّلاقُ بِذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ7، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا بَلْ كَتَبَ صَرِيحَ الطَّلاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلاقِ بِهِ8، فَلِلأَصْحَابِ فِي وُقُوعِ الطَّلاقِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ:
ـــــــ
1 قال الإمام أحمد بن حنبل في قول السلف: "منه بدأ"أي هو المتكلم به. فإن الذين قالوا: إنه مخلوق، قالوا: خلقه في غيره، فبدأ من ذلك المخلوق، فقال السلف: منه بدأ: أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره.
"انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 17، 35، 37، شرح الكافية 1/ 29، 205، فيض القدير 5/ 416".
2 قال الباقلاني: ويجب أن يُعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة. "الإنصاف ص 93".
3 انظر فتاوى ابن تيمية 12/ 240-242.
4 ساقطة من ض.
5 المسودة ص 14. وانظر: القواعد والفوائد الأصولية ص 162.
6 في ز: وقع.
7 انظر: المغني 7/ 486، المحرر في الفقه 2/ 54.
8 ساقطة من ش.(2/20)
أَحَدُهُمَا: هُوَ أَيْضًا صَرِيحٌ فَيَقَعُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَهَذَا هُوَ1 الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ2.
قَالَ نَاظِمُ "الْمُفْرَدَاتِ3": 4أَدْخَلَهُ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ فِي الصَّرِيحِ10، وَنَصَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ. وَذَكَرَهُ الْحَلْوَانِيُّ عَنْ الأَصْحَابِ5. اهـ.
وَقَالَ فِي "الإِنْصَافِ": وَفِي "تَعْلِيقِ الْقَاضِي" مَا يَقُولُونَ فِي الْعُقُودِ وَالْحُدُودِ وَالشَّهَادَاتِ هَلْ تَثْبُتُ بِالْكِتَابَةِ؟
قِيلَ: الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي الْوَصِيَّةِ تَثْبُتُ، وَهِيَ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَثْبُتَ جَمِيعُهَا؛ لأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لا تَثْبُتَ6، لأَنَّهُ لا كِنَايَةَ لَهَا فَقَوِيَتْ، وَلِلطَّلاقِ وَالْعِتْقِ كِنَايَةٌ فَضَعُفَا.
ـــــــ
1 ساقطة من ب ض.
2 في ش ز: الأصحاب في الصريح. وانظر: المغني 7/ 486، المحرر في الفقه 2/ 54.
3 هو محمد بن عبد القوي بن بدران، شمس الدين، أبو عبد الله، المرداوي، المقدسي، الحنبلي، الفقيه المحدث النحوي، سمع الحديث، وتعلم الفقه، وبرع في العربية واللغة، ودرس وأفتى وصنف. قال الذهبي: "كان حسن الديانة، دمث الأخلاق، كثير الإفادة، مطرحاً للتكلف". وله تصانيف، منها: "قصيدة في الفقه"، و"منظومة الآداب" و"نظم المفردات" وكتاب "النعمة"، و"مجمع" البحرين، و"الفروق"، وعمل طبقات للحنابلة. توفي سنة 699هـ بدمشق.
انظر ترجمته في "شذرات الذهب 5/ 425، ذيل طبقات الحنابلة 2/ 342، بغية الوعاة 1/ 167، المدخل إلى مذهب أحمد ص 210".
4 في ش: أكثر الأصحاب في الصحيح أدخله. وفي ب د ع: أدخله الأصحاب في الصريح.
5 في ش: أصحابه.
6 في ش ز ع: يثبت.(2/21)
قَالَ الْمَجْدُ: لا أَدْرِي أَرَادَ صِحَّتَهَا بِالْكِتَابَةِ. أَوْ بِنِيَّتِهَا1 بِالظَّاهِرِ2.
قَالَ فِي "الْفُرُوعِ": وَيُتَوَجَّهُ أَنَّهُ أَرَادَهُمَا،. اهـ.
وَقَالَ فِي "التَّحْرِيرِ3" - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَةَ، كَلامٌ حَقِيقَةً - وَقِيلَ: لا كَالإِشَارَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ وَأَصَحُّ. اهـ. "وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ4 تَعَالَى مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَإِذَا شَاءَ بِلا كَيْفٍ، يَأْمُرُ بِمَا شَاءَ5 وَيَحْكُمُ6".
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ7 لا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَابْنُ كُلاَّبٍ وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا: لا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، بَلْ كَلامُهُ لازِمٌ لِذَاتِهِ كَحَيَاتِهِ8، ثُمَّ مِنْ هَؤُلاءِ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْحُرُوفَ وَالأَصْوَاتَ لا تَكُونُ إلاَّ مُتَعَاقِبَةً، وَالصَّوْتُ لا يَبْقَى زَمَانَيْنِ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا. فَقَالَ: الْقَدِيمُ مَعْنًى وَاحِدٌ، لامْتِنَاعِ مَعَانٍ لا نِهَايَةَ لَهَا9، وَامْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ. فَقَالُوا: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ
ـــــــ
1 في ز: نيتها.
2 في ش ع ض: بالإيجاب.
3 في هامش ع: شرح التحرير.
4 لفظة الجلالة غير موجودة في ب.
5 في ب ع ض: يشاء.
6 انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 126.
7 في ض: أو.
8 انظر مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 27.
9 نقل السبكي عن ابن كلاب والقلانسي أن كلام الله تعالى لا يتصف بالأمر والنهي في الأزل، لحدوث هذه الأمور، وقدم الكلام النفسي. وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال. "انظر: طبقات الشافعية الكبرى 2/ 300. وانظر فتاوى ابن تيمية 12/ 49، 51، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 148، الإنصاف للباقلاني ص 99".(2/22)
تَعَالَى لا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلامِ الْعَرَبِيِّ وَالْعِبْرِيِّ، وَقَالُوا: إنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِرِ1كُتُبِ اللَّهِ1 تَعَالَى مَعْنًى وَاحِدٌ، وَقَالُوا2: مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدِّينِ مَعْنًى وَاحِدٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِيْ3 يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلاءِ إنَّهَا مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ4.
وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ، وَالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ، وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتٍ5، وَيُنَادِي6 عِبَادَهُ بِصَوْتٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حُرُوفَهُ وَمَعَانِيهِ، لَكِنْ اعْتَقَدُوا - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ7. وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَالْتَزَمُوا أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الأَعْيَانِ لَمْ تَزَلْ وَلا تَزَالُ8، وَقَالُوا: إنَّ الْبَاءَ لَمْ تَسْبِقْ السِّينَ، وَأَنَّ السِّينَ لَمْ تَسْبِقْ الْمِيمَ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْحُرُوفِ مُقْتَرِنَةٌ بِبَعْضِهَا اقْتِرَانًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا، لَمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ9، وَقَالُوا: هِيَ مُتَرَتِّبَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا، غَيْرُ مُتَرَتِّبَةٍ فِي وُجُودِهَا10.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّهَا مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلاءِ: إنَّهَا مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ.
ـــــــ
1 في ب ع: كتب كلام الله. وفي ش ز: كلامه.
2 في ش ز ع ب: و. وفي ض: وقالوا: إن.
3 في ز: الذي.
4 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 20، 148. فتاوى ابن تيمية 12/ 49.
5 في ز: بصوته.
6 في ش ز: ونادى.
7 قال الرازي: "صفة الكلام قديمة". "الأربعين في أصول الدين ص 179".
8 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 21، 44، 156، فتاوى ابن تيمية 12/ 150، 158، تفسير القرطبي 1/ 55، الإنصاف للباقلاني ص 111 وما بعدها.
9 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 156.
10 انظر: فتاوى ابن تيمية 12/ 151، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 28.(2/23)
وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ قَدِيمٌ، وَلا يَفْهَمُ مَعْنَى الْقَدِيمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ 1بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ1، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ2، لَكِنْ مِنْ هَؤُلاءِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الأَزَلِ بِمَشِيئَتِهِ3. كَمَا4 لَمْ يَكُنْ5 يُمْكِنُهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَفْعَلَ فِي الأَزَلِ شَيْئًا، فَالْتَزَمُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا، كَمَا أَنَّهُ فَعَلَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلاً، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلامِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ6.
وَأَمَّا السَّلَفُ وَالأَئِمَّةُ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدِيمَ النَّوْعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. فَإِنَّ الْكَلامَ صِفَةُ كَمَالٍ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لا7 يَتَكَلَّمُ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا مِنْهُ، أَوْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ. فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُمْتَنِعًا؟ لامْتِنَاعِ أَنْ يَصِيرَ الرَّبُّ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنْ يَكُونَ التَّكَلُّمُ وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ؟ 8 اهـ.
وَقَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ فِي "أُصُولِهِ" فِي الأَمْرِ: الأَمْرُ9 قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ
ـــــــ
1 في ب ع ض: بمشيئته وقدرته.
2 انظر: الجواب الصحيح 2/ 143، السنة ص 15، فتاوى ابن تيمية 12/ 149.
3 في ع: بمشيئة.
4 في ب: وكما.
5 ساقطة من ز ع ب ض.
6 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 29-30، 68، توضيح المقاصد 1/ 262.
7 في ع: لم.
8 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 44، 137، توضيح المقاصد 1/ 262.
9 ساقطة من ش.(2/24)
الْكَلامِ، وَالْكَلامُ الأَلْفَاظُ الْمُتَضَمِّنَةُ1 لِمَعَانِيهَا. وَالإِنْسَانُ قَبْلَ تَلَفُّظِهِ يَقُومُ بِقَلْبِهِ طَلَبٌ فَيَفْزَعُ إلَى اللَّفْظِ، كَمَا إذَا قَالَ: "اسْقِنِي مَاءً"، كَأَنَّهُ يَجِدُ طَلَبًا قَائِمًا بِقَلْبِهِ. فَيَقْصِدُ اللَّفْظَ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَقِيقَةِ ذَلِكَ الطَّلَبِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْعِلْمِ. وَقَالَتْ أُخْرَى2: إرَادَةُ الْفِعْلِ3. وَقَالَتْ الأَشْعَرِيَّةُ: هُوَ كَلامُ النَّفْسِ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ وَالإِرَادَةِ4. وَأَنْكَرَتْ5 الْجَمَاهِيرُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قِيَامَ مَعْنًى بِالنَّفْسِ غَيْرَ الْعِلْمِ وَالإِرَادَةِ2. وَقَالُوا: الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ هُوَ صُورَةُ مَا تُرِيدُ النُّطْقَ بِهِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ6: الَّذِي يَجِدُهُ الإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: هُوَ اسْتِحْضَارُ صُوَرِ الْكَلامِ وَالْعِلْمُ بِمَا7 يَقُولُهُ8 شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْعَزْمُ عَلَى إيرَادِهِ
ـــــــ
1 في ز ش ب ع: المنتظمة.
2 في ض: الأخرى.
3 انظر رد الإمام فخر الدين الرازي على كون الطلب هو الإرادة، وأنه يرى أن الطلب مغاير للإرادة، ولا يجوز أن يكون عبارة عن الإرادة. "الأربعين في أصول الدين ص 174".
4 ساقطة من ض.
5 في ش: وأنكر.
6 هو محمد بن علي بن الطيب، أبو الحسين البصري المعتزلي، أحد أئمة المعتزلة. كان مشهوراً في علمي الأصول والكلام، وكان قوي الحجة والمعارضة في المجادلة والدفاع عن آراء المعتزلة. قال ابن خلكان: "كان جيد الكلام، مليح العبارة، غزير المادة، إمام وقته". وله تصانيف، منها: "المعتمد" في أصول الفقه، و "تصفح الأدلة"، و"غرر الأدلة"، و"شرح الأصول الخمسة"، و"نقض الشافي" في الإمامة، و"نقض المقنع". توفي سنة 436هـ.
انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 3/ 401، شذرات الذهب 3/ 259، الفتح المبين / 237، فرق وطبقات المعتزلة ص 125".
7 في ز ش: بها.
8 في ض: يقوم له.(2/25)
بِاللِّسَانِ، كَمَا يَسْتَحْضِرُ صُورَةَ الْكِتَابَةِ قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ، وَلا مُقْتَضَى لإِثْبَاتِ أَمْرٍ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ كَلامًا فِي اللُّغَةِ، وَلا يُسَمَّى الإِنْسَانُ لأَجْلِهِ مُتَكَلِّمًا وَلِذَلِكَ يَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ لِلسَّاكِتِ: إنَّهُ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ، وَإِنْ جَازَ أَنْ1 يَقُومَ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. لا يَقُولُونَ لِلسَّاكِتِ: إنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ، وَلا عَالِمٍ.
قَالَ: وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ: فِي "نَفْسِي كَلامٌ مَجَازٌ". وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ عَزْمٌ عَلَى الْكَلامِ، كَقَوْلِهِمْ: فِي نَفْسِي السَّفَرُ. قَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ فِي النَّفْسِ مَعْنًى هُوَ الْكَلامُ عَنْ الاعْتِقَادَاتِ وَالْعَزْمِ، لَكَانَ مُحْدَثًا؛ لأَنَّ الَّذِي يُشِيرُونَ إلَيْهِ مُرَتَّبٌ يَتَجَدَّدُ فِي النَّفْسِ بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ، وَمُرَتَّبٌ حَسَبَ تَرْتِيبِ2 الْكَلامِ الْمَسْمُوعِ. فَإِنْ كَانَ3 كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى مَعْنَى مَا4 فِي النَّفْسِ مِنْ الْكَلامِ فِي الشَّاهِدِ: اسْتَحَالَ قِدَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ، بَطَلَ قَوْلُهُمْ: إنَّ مَا أَثْبَتْنَاهُ مَعْقُولٌ فِي الشَّاهِدِ.
وَقَالَتْ الأَشَاعِرَةُ: ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ هُوَ الْكَلامُ. وَالْحُرُوفُ وَالأَصْوَاتُ دَلالاتٌ5 عَلَيْهِ وَمُعَرِّفَاتٌ، وَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ. هِيَ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالاسْتِخْبَارُ6، وَأَنَّهَا صِفَاتٌ لَهُ7، لا أَنْوَاعٌ. فَإِنْ8 عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ
ـــــــ
1 في ش ز ب: أنه.
2 ساقطة من ش. وفي د ض: ترتب.
3 ساقطة من ض.
4 ساقطة من ع.
5 في ش: دلات.
6 يقول الباقلاني: ويجب أن يعلم أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس، لكن جعل عليه أمارات تدل عليه. "الإنصاف ص 106، 109".
7 ساقطة من ض.
8 في ز ع ب ض: إن.(2/26)
كَانَ عَرَبِيًّا، أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ كَانَ سُرْيَانِيًّا. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ، وَأَنَّهُ لا يَتَبَعَّضُ وَلا يَتَجَزَّأُ1. ثُمَّ اخْتَلَفُوا.
فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: الْكَلامُ الْمُطْلَقُ حَقِيقَةً: هُوَ مَا فِي النَّفْسِ، شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا، وَإِطْلاقُ الْكَلامِ عَلَى الْحُرُوفِ وَالأَصْوَاتِ مَجَازٌ.
وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللِّسَانِ مَجَازٌ فِي النَّفْسِيِّ.
وَلَيْسَ الْخِلافُ جَارِيًا فِي نَفْسِ الْكَلامِ، بَلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ عَوَارِضِ الْكَلامِ.
قَالَ الرَّازِيّ فِي "الأَرْبَعِينَ": "مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الطَّلَبِ مُغَايِرَةٌ لِذَلِكَ اللَّفْظِ2، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ مَاهِيَّةَ هَذَا الْمَعْنَى لا تَتَبَدَّلُ بِاخْتِلافِ الأَمْكِنَةِ وَالأَزْمِنَةِ، وَالأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ3 الأَزْمِنَةِ وَالأَمْكِنَةِ4".
ـــــــ
1 يقول الآمدي: "إن الكلام قضية واحدة، ومعلوم واحد، قائم بالنفس، وإن اختلاف العبارات والتعبيرات عنه إنما بسبب اختلاف المتعلقات والنسب والإضافات مما يقع به التضاد أو الاختلاف أو التعدد". "غاية المرام ص 115". وانظر: نفس المرجع ص 113، 115 وما بعدها، الإنصاف للباقلاني ص 106.
2 قال الرازي تحت عنوان في حقيقة الكلام: "اعلم أن الإنسان إذا أراد أن يقول: اسقني الماء، فإنه قبل أن يتلفظ بهذا اللفظ يجد في نفسه طلباً واقتضاءً لذلك الفعل، وماهية ذلك الطلب .... "الأربعين في أصول الدين ص 174".
3 في ش: باخلاف.
4 كتاب الأربعين ص 174.(2/27)
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: قِيلَ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إنْ أَرَدْت اخْتِلافَ أَجْنَاسِهَا، فَهَذَا مُسَلَّمٌ وَلا يَنْفَعُك1، وَإِنْ أَرَدْت اخْتِلافَ قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا فَمَمْنُوعٌ، لأَنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلَبَ الْحَاصِلَ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ مَعَ الصَّوْتِ الْجَهْوَرِيِّ مُمَاثِلٌ لِلطَّلَبِ بِاللَّفْظِ الأَعْجَمِيِّ2 مَعَ الصَّوْتِ الضَّعِيفِ. وَهَذَا لأَنَّ الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ قَدْ يَتَفَاوَتُ، فَيَكُونُ طَلَبٌ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ وَأَكْمَلُ.
الثَّانِي 3: هَبْ أَنَّ الْمَدْلُولَ مُتَّحِدٌ وَالدَّالَّ مُخْتَلِفٌ. لَكِنْ لِمَ لا يَجُوزُ وُجُودُ الْمَدْلُولِ مَشْرُوطًا بِالدَّلِيلِ؟ فَهُوَ وَإِنْ غَايَرَهُ لَكِنْ لا يُوجَدُ إلاَّ بِوُجُودِهِ. أَلا تَرَى أَنَّ كَوْنَ الإِنْسَانِ مُخْبِرًا لِغَيْرِهِ لا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ ظَاهِرٍ يَدُلُّ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهِ مِنْ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ الأَمْرُ الظَّاهِرُ وَإِنْ اخْتَلَفَ، لَكِنْ لا يَكُونُ مُخْبَرًا إلاَّ بِهِ. وَإِذَا لاحَ لَك ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ كَوْنِ الْمَعْنَى مُغَايِرًا كَافِيًا 4فِي مَطْلُوبِهِ6.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى قَائِمٌ بِالرُّوحِ، وَاللَّفْظُ قَائِمٌ بِالْبَدَنِ، ثُمَّ إنَّ وُجُودَ الرُّوحِ فِي هَذَا الْعَالَمِ لا يُمْكِنُ إلاَّ مَعَ الْبَدَنِ. وَأَيْضًا فَكَوْنُ كُلٍّ مِنْ الْمُتَلازِمَيْنِ دَلِيلاً عَلَى الآخَرِ لا يَقْتَضِي ذَلِكَ وُجُودَ الْمَدْلُولِ بِدُونِ الدَّلِيلِ، كَالأُمُورِ الْمُتَضَايِفَةِ، كَالأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ. قَالَ الرَّازِيّ:
"الْوَجْهُ الثَّانِي": أَنَّ جَمِيعَ الْعُقَلاءِ يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ:
ـــــــ
1 في هامش ز: ينفك.
2 في ع ض: العجمي.
3 في ع: والثاني.
4 في ع: لمطلوبه.(2/28)
"افْعَلْ"، دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ 1الطَّلَبِ بِالْقَلْبِ. وَالدَّلِيلُ7 مُغَايِرٌ لِلْمَدْلُولِ2.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: هَبْ أَنَّ الأَمْرَ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّهُ يُوجَدُ الْمَدْلُولُ بِدُونِ3 دَلِيلِهِ.
قَالَ الرَّازِيّ:
"الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ جَمِيعَ الْعُقَلاءِ يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "افْعَلْ"، لا يَكُونُ طَلَبًا وَأَمْرًا إلاَّ عِنْدَ اصْطِلاحِ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ4. فَأَمَّا5 كَوْنُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ طَلَبًا فَإِنَّهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ حَقِيقِيٌّ، لا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْوَضْعِ وَالاصْطِلاحِ6".
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: قِيلَ: مَا ذَكَرْت مَمْنُوعٌ. فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَجْعَلُونَ اللُّغَاتِ اصْطِلاحِيَّةً، بَلْ إمَّا تَوْقِيفِيَّةٌ بِإِلْهَامٍ أَوْ بِغَيْرِ7 إلْهَامٍ. وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ. وَلَوْ سُلِّمَ، فَلِمَ قُلْت بِإِمْكَانِ وُجُودِهِ بِدُونِ اللَّفْظِ؟
قَالَ الرَّازِيّ:
"الْوَجْهُ الرَّابِعُ": هُوَ8 أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ قَوْلَنَا: "ضَرَبَ، وَيَضْرِبُ9".
ـــــــ
1 في الأربعين ص 174: الطلب القائم بالقلب، ولا شك أن الدليل.
2 كتاب الأربعين في أصول الدين ص 174.
3 في ب ض: دون.
4 في "الأربعين": الموضوع.
5 في "الأربعين": وأما.
6 كتاب الأربعين ص 174.
7 في ش ز: غير.
8 في "الأربعين": وهو.
9 في ش: ويضرب.(2/29)
إخْبَارٌ، وَقَوْلَنَا: "اضْرِبْ وَلا تَضْرِبْ"، أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَلَوْ أَنَّ الْوَاضِعِينَ قَلَبُوا الأَمْرَ وَقَالُوا بِالْعَكْسِ لَكَانَ جَائِزًا1. أَمَّا لَوْ قَالُوا: إنَّ2 حَقِيقَةَ الطَّلَبِ يُمْكِنُ أَنْ تُقْلَبَ3 خَبَرًا أَوْ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ يُمْكِنُ أَنْ تُقْلَبَ4 طَلَبًا، لَكَانَ ذَلِكَ مُحَالاً5".
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: قِيلَ: لَوْ سُلِّمَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ لا يَكُونَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَشْرُوطًا بِالآخَرِ. وَأَيْضًا أَنْتُمْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ وَحَقِيقَةَ الْخَبَرِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، بَلْ ادَّعَى الرَّازِيّ أَنَّ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْخَبَرِ. فَقَالَ فِي كَوْنِ كَلامِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدًا6، أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ: إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْكَلامُ كُلُّهُ خَبَرٌ؛ 7لأَنَّ الأَمْرَ13 عِبَارَةٌ عَنْ تَعْرِيفِ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي النَّهْيِ وَإِذَا كَانَ مَرْجِعُ الْكُلِّ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ - وَهُوَ الْخَبَرُ - صَحَّ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ وَاحِدٌ8.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 9 فَلَمْ
ـــــــ
1 في "الأربعين": ذلك جائزاً ممكناً. وفي ض: جائز.
2 ساقطة من كتاب "الأربعين".
3 في "الأربعين": تنقلب.
4 في الأربعين: تنقلب.
5 كتاب الأربعين ص 174.
6 في ض: واحد.
7 في ش: لا الأمر. وفي ز: لا للأمر.
8 كتاب الأربعين ص 180.
9 الآيتان 10-11 من مريم.(2/30)
يُسَمِّ الإِشَارَةَ كَلامًا، وَقَالَ لِمَرْيَمَ: {فَقُولِي إنِّي نَذَرْت لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنْسِيًّا} 1.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا لأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ" 2.
وَقَسَّمَ أَهْلُ اللِّسَانِ الْكَلامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً عَلَى أَنَّهُ3 مَنْ حَلَفَ لا يَتَكَلَّمُ لَمْ4 يَحْنَثْ بِدُونِ النُّطْقِ، وَإِنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الأَيْمَانُ مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ.
قِيلَ: الأَصْلُ عَدَمُ التَّغْيِيرِ. وَأَهْلُ الْعُرْفِ يُسَمُّونَ النَّاطِقَ مُتَكَلِّمًا وَمَنْ عَدَاهُ سَاكِتًا أَوْ5 أَخْرَسَ.
ـــــــ
1 الآية 26 من مريم.
2 جمع المصنف رحمه الله بين حديثين؛ الأول: رواه ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وفي زوائد ابن ماجه: إسناده ضعيف، لاتفاقهم على ضعف أبي بكر الهذلي في سنده. وصححه ابن حبان، واستنكره أبو حاتم. ولابن عدي من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع الله عن هذه الأمة ثلاثاً: الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه"، وضعفه. وسبق تخريجه في المجلد الأول ص 436 هـ، 512. والثاني: رواه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به". وهذا لفظ مسلم. ولعل سبب الخلط بين الحديثين هو الحديث الثالث الذي رواه ابن ماجه: " إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها ما لم تتكلم به، وما استكرهوا عليه".
انظر: سنن ابن ماجه 1/ 659، تخريج أحاديث البزدوي ص 89، صحيح البخاري 4/ 153، صحيح مسلم 1/ 116.
3 في ع ض: أن.
4 في ز ع ض: لا.
5 في ز: و.(2/31)
فَإِنْ1 قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 2 أَكْذَبَهُمُ3 اللَّهُ تَعَالَى فِي شَهَادَتِهِمْ. وَمَعْلُومٌ صِدْقُهُمْ فِي النُّطْقِ اللِّسَانِيِّ. فَلا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ كَلامٍ فِي النَّفْسِ لِيَكُونَ الْكَلامُ عَائِدًا إلَيْهِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} 4 وقَوْله تَعَالَى: {اسْتَكْبَرُوا فِيْ أَنْفُسِهِمْ} 5 وقَوْله تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ} 6 وقَوْله تَعَالَى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} 7.
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ:
أَمَّا الأَوَّلُ: فَلأَنَّ الشَّهَادَةَ هِيَ8 الإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ مَعَ اعْتِقَادِهِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ ذَلِكَ أَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَنْ الثَّانِي وَجْهَانِ:
الأَوَّلُ: أَنَّهُ قَوْلُهُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ خَفِيَّةٍ، وَلِهَذَا فَسَّرَهُ بِمَا بَعْدَهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلٌ مُفِيدٌ، فَهُوَ مَجَازٌ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ.
ـــــــ
1 ساقطة من ز.
2 الآية الأولى من المنافقون.
3 في ض: كذبهم.
4 الآية 8 من المجادلة.
5 الآية 21 من الفرقان.
6 الآية 13 من الملك.
7 الآية 16 من ق.
8 ساقطة من ز ع ب ض.(2/32)
وَعَنْ الثَّالِثِ: أَنَّ1 الاسْتِكْبَارَ رُؤْيَةُ النَّفْسِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ.
قَالُوا: قَوْلُ عُمَرَ: "زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي كَلامًا".
قُلْنَا: "زَوَّرَ" صَوَّرَ مَا يُرِيدُ النُّطْقَ2 بِهِ، أَوْ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي بِنَاءً أَوْ سَفَرًا3.
قَالُوا: قَوْلُ الأَخْطَلِ:
إنَّ الْكَلامَ لَفِي الْفُؤَادِ4 وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً12
قُلْنَا: الْبَيْتُ مَوْضُوعٌ عَلَى الأَخْطَلِ. فَلَيْسَ هُوَ فِي نُسَخِ دِيوَانِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لابْنِ ضَمْضَمٍ5. وَلَفْظُهُ: إنَّ الْبَيَانَ6. وَسَيَأْتِي:
وَقَالَ الآمِدِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا جَعَلْتُمْ الْحَقَائِقَ - الَّتِي هِيَ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالاسْتِخْبَارُ - شَيْئًا وَاحِدًا، لَزِمَكُمْ أَنْ تَرُدُّوا الصِّفَاتِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
ـــــــ
1 ساقطة من ز ش.
2 في ز: والنطق.
3 قال ابن تيمية: "وقول عمر": "زوّرت في نفسي مقالة أردت أن أقولها"، حجة عليهم. قال أبو عبيد: التزوير إصلاح الكلام وتهيئته. قال: وقال أبو زيد: المزوَّرُ من الكلام والمزوق واحد، وهو المصلح الحسن. وقال غيره: زورت في نفسي مقالة، أي: هيأتها لأقولها. فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أن يقوله، ولم يقله. "الإيمان ص 113".
4 في ز ع ب ض: إلخ.
5 هو سعيد بن ضمضم الكلابي، أبو عثمان، وفد على الحسن بن سهل وزير الخليفة المأمون. وله فيه أشعار جياد، وكان فصيحاً، وأخذ الناس عنه اللغة.
"انظر: إنباه الرواة 4/ 187، الفهرست لابن النديم ص 69". وفي ش ز ع ب ض: ضمضام.
6 انظر: الإيمان لابن تيمية ص 116.(2/33)
قُلْنَا: هُوَ سُؤَالٌ وَارِدٌ. وَلَعَلَّ عِنْدَ غَيْرِنَا حَلَّهُ1.
وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ: قَوْلُهُمْ: لا تَتَبَعَّضُ2 يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم سَمِعَ بَعْضَ كَلامَ اللَّهِ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: سَمِعَ الْكُلَّ. وَقَالَ ابْنُ دِرْبَاسٍ الشَّافِعِيُّ3: وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} 4 مَعَ التَّصْرِيحِ بِاخْتِصَاصِ مُوسَى بِالْكَلامِ. اهـ كَلامُ ابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فِي فُتْيَا لَهُ تُسَمَّى "بِالأَزْهَرِيَّةِ". وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَعَ فِي مَحْذُورَاتٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُمْ: "إنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ5 كَلامُ اللَّهِ" فَإِنَّ نَفْيَ هَذَا الإِطْلاقِ6 خِلافُ مَا عُلِمَ بِالاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الإِسْلامِ، وَخِلافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.
ـــــــ
1 انظر: غاية المرام ص 118.
2 في ز: لا تبعيض. وفي ب ع ض: لا يتبعض.
3 هو عثمان بن عيسى بن درباس، ضياء الدين، أبو عمرو القاضي، الكردي، كان من أعلم الشافعية في زمانه في الفقه والأصول. وناب في الحكم عن أخيه قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بالديار المصرية، له مصنفات كثيرة، منها: "الاستقصاء لمذاهب الفقهاء في شرح "المهذب"، وهو شرح وافٍ لم يسبق إلى مثله في عشرين مجلداً، ولم يكمله. وله "شرح اللمع" للشيرازي في أصول الفقه في مجلدين. مات بمصر سنة 602هـ.
انظر ترجمته في "طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 8/ 338، وفيات الأعيان 2/ 406، شذرات الذهب 5/ 7، حسن المحاضرة 1/ 408".
4 الآية 79 من الأنبياء.
5 ساقطة من ب ع. وفي ز: هو ليس.
6 في ض: اطلاق.(2/34)
وَالثَّانِي: قَوْلُهُمْ: "عِبَارَةٌ" إنْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ هُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْ كَلامِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، لَزِمَ 1أَنْ يَكُونَ1 كُلُّ تَالٍ مُعَبِّرًا عَمَّا فِي نَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعَبِّرُ عَنْ غَيْرِهِ هُوَ الْمُنْشِئُ لِلْعِبَارَةِ فَيَكُونُ كُلُّ قَارِئٍ هُوَ الْمُنْشِئُ لِعِبَارَةِ الْقُرْآنِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ عِبَارَةٌ عَنْ مَعَانِيهِ، فَهَذَا حَقٌّ؛ إذْ كُلُّ كَلامٍ فَلَفْظُهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنَاهُ، لَكِنَّ هَذَا لا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ مُتَنَاوِلاً لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلامَ قَدْ قِيلَ "إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِ مَجَازٌ فِي الْمَعْنَى. وَقِيلَ: "حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى مَجَازٌ فِي اللَّفْظِ"، وَقِيلَ: "بَلْ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا". وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالأَئِمَّةُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَجْمُوعِهِمَا2، كَمَا أَنَّ الإِنْسَانَ قِيلَ: "هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَدَنِ فَقَطْ". وَقِيلَ: "بَلْ فِي الرُّوحِ فَقَطْ". وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَجْمُوعِ3. فَالنِّزَاعُ فِي النَّاطِقِ كَالنِّزَاعِ فِي مَنْطِقِهِ4. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ. فَالْمُتَكَلِّمُ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلامٍ لَهُ لَفْظٌ وَمَعْنًى، وَبُلِّغَ عَنْهُ بِلَفْظِهِ وَ5مَعْنَاهُ. فَإِذَا قِيلَ: "مَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُ مِنْ اللَّفْظِ": إنَّ6 هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْآنِ، وَأَرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِلْمُبَلَّغِ عَنْهُ نَفَى عَنْهُ اللَّفْظَ الَّذِي لِلْمُبَلَّغِ عَنْهُ. وَالْمَعْنَى الَّذِي قَامَ بِالْمُبَلِّغِ. فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ إلاَّ الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ، الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى
ـــــــ
1 ساقطة من ز.
2 انظر: كشف الأسرار 1/ 24.
3 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 3/ 55.
4 يوضح ذلك ابن تيمية فيقول: فتنازعهم في مسمى النطق كتنازعهم في مسمى الناطق، فمن سمى شخصاً محمداً وإبراهيم، وقال: جاء محمد، وجاء إبراهيم، لم يكن هذا محمداً وإبراهيم المذكورين في القرآن. "مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 56".
5 في ع: أو.
6 ساقطة من ش.(2/35)
الْقَائِمِ بِالذَّاتِ. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا الْكَلامُ الْمَنْظُومُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ هُوَ1 مَوْجُودٌ قَطْعًا وَثَابِتٌ، فَهَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْعِبَارَةِ وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ غَيْرُهُ2 أَوْ غَيْرُهُمَا؟
فَإِنْ جَعَلْته غَيْرَهُمَا: بَطَلَ اقْتِصَارُك عَلَى3 الْعِبَارَةِ وَالْمُعَبَّرِ عَنْهُ، وَإِنْ جَعَلْته أَحَدَهُمَا: لَزِمَك إنْ لَمْ تُثْبِتْ إلاَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ أَنْ تَجْعَلَهُ نَفْسَ مَا سُمِعَ4 مِنْ الْقُرَّاءِ، فَتَجْعَلَ5 عَيْنَ مَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُونَ هُوَ عَيْنُ مَا سَمِعُوهُ. وَهَذَا الَّذِي فَرَرْتَ6 مِنْهُ.
وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُ: الْقَارِئُ الْمُبَلِّغُ إذَا قَرَأَ، فَلا بُدَّ لَهُ فِيمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ لَفْظٍ وَمَعْنًى، وَإِلاَّ كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي قَامَ بِهِ عِبَارَةً عَنْ الْقُرْآنِ. فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي قَامَ بِهِ، لا عَنْ مَعْنًى قَامَ بِغَيْرِهِ.
فَقَوْلُهُمْ: "هَذَا هُوَ الْعِبَارَةُ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ" أَخْطَئُوا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَخْطَئُوا فِي بَيَانِ مَذْهَبِهِمْ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّفْظَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِئِ حِكَايَةُ اللَّفْظِ الَّذِي عُبِّرَ بِهِ عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ مُطْلَقًا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ، وَلَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ: حِكَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. ثُمَّ إذَا عُرِفَ مَذْهَبُهُمْ بَقِيَ خَطَؤُهُمْ فِي أُصُولٍ:
ـــــــ
1 في ع: هل. وفي ض: هل هو.
2 ساقطة من ب.
3 في ع: عن.
4 في ب ع ض: يسمع.
5 في ش ب ع ض: فيجعل.
6 في ش: فرت.(2/36)
مِنْهَا: زَعْمُهُمْ أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ مَعْنًى وَاحِدٌ، هُوَ1 الأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ، وَأَنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ. وَفَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ2.
وَمِنْهَا: زَعْمُهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ 3اللَّهُ بِهِ3.
وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ وَبَرْهَنَ عَلَيْهِ بِمَا يَطُولُ هُنَا ذِكْرُهُ.
وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذَا فِي الإِسْلامِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلاَّبٍ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ حِكَايَةً عَنْ ذَلِكَ" الْمَعْنَى4. فَلَمَّا جَاءَ الأَشْعَرِيُّ وَاتَّبَعَ ابْنَ كُلاَّب فِي أَكْثَرِ مَقَالَتِهِ نَاقَشَهُ عَلَى قَوْلِهِ: "إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: الْحِكَايَةُ تُمَاثِلُ الْمَحْكِيَّ. فَهَذَا اللَّفْظُ5 يَصِحُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، لأَنَّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ عِنْدَهُمْ. وَحِكَايَةُ مِثْلِهِ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ ابْنِ كُلاَّب فَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً، بَلْ نَقُولُ: إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى.
فَأَوَّلُ مَنْ قَالَ بِالْعِبَارَةِ الأَشْعَرِيُّ.
وَكَانَ الْبَاقِلاَّنِيُّ6 - فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ- إذَا دَرَسَ مَسْأَلَةَ الْقُرْآنِ يَقُولُ: هَذَا
ـــــــ
1 في ع: وهو.
2 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 20.
3 في ب: به الله تعالى.
4 انظر: الإيمان لابن تيمية ص 112.
5 في ب: إلا للفظ.
6 في ب ع ض: ابن الباقلاني.(2/37)
قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ. وَلَمْ يُبَيِّنْ1 صِحَّتَهُ - أَوْ كَلامًا هَذَا مَعْنَاهُ2.
وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسْفَرايِينِيّ3 يَقُولُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الأَئِمَّةِ فِي الْقُرْآنِ خِلافُ قَوْلِ الأَشْعَرِيِّ. وَقَوْلُهُمْ: هُوَ قَوْلُ الإِمَامِ أَحْمَدَ4. وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ5، ذَكَرَ أَنَّ الأَشْعَرِيَّ خَالَفَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلامِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ6 وَأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ.
ـــــــ
1 في ب: يتبين. وفي ش ض: تتبين.
2 يقول الباقلاني: "اعلم أن الله تعالى متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم ليس بمخلوق ... ولا يجوز أن يقال: كلام الله عبارة ولا حكاية، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق". "الإنصاف ص 71، 106، 110".
3 هو أحمد بن محمد بن أحمد، الشيخ أبو حامد الإسفراييني، الفقيه الشافعي، انتهت إليه رياسة الدين والدنيا ببغداد، وكان كثير التلاميذ والأصحاب، قوي الحجة والبرهان والمناظرة، وكان زعيم طريقة العراق في الفقه الشافعي في القرن الرابع الهجري. وكان له مكانة رفيعة. شرح مختصر المزني في "تعليقته" في نحو خمسين مجلداً، وذكر فيها خلاف العلماء وأقوالهم، ومآخذهم ومناظراتهم. وله كتاب في "أصول الفقه". توفي سنة 406هـ ببغداد.
انظر ترجمته في "طبقات الشافعية" الكبرى للسبكي 4/ 61، وفيات الأعيان 1/ 55، طبقات الفقهاء ص 123، شذرات الذهب 3/ 178، الفتح المبين 1/ 224، البداية والنهاية 12/ 2، تهذيب الأسماء 2/ 208، تاريخ بغداد 4/ 368".
4 انظر: فتاوى ابن تيمية 12/ 160-161، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 23.
5 هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله، أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين، يلقب بركن الدين. قال ابن العماد: "كان إماماً في التفسير وفي الفقه والأدب، مجتهداً في العبارة، ورعاً مهيباً، صاحب جد ووقار". وكان زاهداً متقشفاً عابداً، عالماً بالفقه، والأصول، والنحو، والتفسير، والأدب، درس وأفتى بنيسابور. ومن تصانيفه: "الفروق"، و"السلسلة"، و"التبصرة"، و"التذكرة"، "ومختصر المختصر"، و"شرح الرسالة"، و"التفسير"، و"المحيط". توفي بنيسابور سنة 438.
انظر في ترجمته: "طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 5/ 73، وفيات الأعيان 2/ 250، شذرات الذهب 3/ 261، طبقات المفسرين 1/ 253، البداية والنهاية 12/ 55، تبيين كذب المفتري ص 257".
6 ساقطة من ض.(2/38)
وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا يَذْكُرُونَ قَوْلَهُمْ فِي حَدِّ الْكَلامِ وَأَنْوَاعِهِ مِنْ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَجْعَلُونَ الْخِلافَ فِي ذَلِكَ مَعَ الأَشْعَرِيِّ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَئِمَّةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْكُلاَّبِيَّةِ: إنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ حِكَايَةُ ذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّ الْمُبَلِّغَ حَاكٍ لِذَلِكَ الْكَلامِ. وَلَفْظُ الْحِكَايَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ مُحَاكَاةُ النَّاسِ فِيمَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ اقْتِدَاءً بِهِمْ وَمُوَافَقَةً لَهُمْ، فَمَنْ قَالَ: إنَّ1 الْقُرْآنَ حِكَايَةُ كَلامِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَدْ غَلِطَ وَضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا. فَإِنَّ الْقُرْآنَ لا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَى2 أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَحْكِيهِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الْحِكَايَةِ النَّقْلُ وَالتَّبْلِيغُ. كَمَا يُقَالُ: فُلانٌ حَكَى عَنْ فُلانٍ أَنَّهُ قَالَ كَذَا، كَمَا يُقَالُ عَنْهُ نَقَلَ عَنْهُ فَهُنَا بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ لِلْمَعْنَى. وَقَدْ يُقَالُ: حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، لِمَا قَالَهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فَالْحِكَايَةُ3 هُنَا بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى، لَكِنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: حَكَيْت كَلامَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: حَكَيْت عَنْهُ كَلامَهُ، وَبَلَّغْت عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَبْلِيغٍ عَنْهُ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الآخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ بَلَّغَ عَنْهُ مَا قَالَهُ. فَإِنْ أُرِيدَ الْمَعْنَى الأَوَّلُ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: هَذَا حِكَايَةُ كَلامِ فُلانٍ، وَ4هَذَا مِثْلُ كَلامِ فُلانٍ، وَلَيْسَ
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ب.
3 في ب: من الحكاية.
4 ساقطة من ز.(2/39)
هُوَ مُبَلِّغًا عَنْهُ كَلامَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ1 الْمَعْنَى الثَّانِي - وَهُوَ مَا إذَا حَكَى الإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ مَا يَقُولُهُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ - فَهُنَا يُقَالُ: هَذَا كَلامُ فُلانٍ، وَلا يُقَالُ: هَذَا حِكَايَةُ كَلامِ فُلانٍ، كَمَا لا يُقَالُ هَذَا مِثْلُ كَلامِ فُلانٍ. بَلْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا كَلامُ فُلانٍ بِعَيْنِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ وَلَمْ يُحَرِّفْ وَلَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ. اهـ.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقُرْآنُ كَيْفَ تَصَرَّفَ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلا نَرَى الْقَوْلَ بِالْحِكَايَةِ وَالْعِبَارَةِ. وَغَلَّطَ مَنْ قَالَ بِهِمَا وَجَهَّلَهُ. فَقَالَ: مَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّهِ فَقَدْ غَلِطَ وَجَهِلَ. وَقَالَ: النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، دُونَ2 الْعِبَارَةِ وَالْحِكَايَةِ. وَقَالَ: هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَقُلْهَا السَّلَفُ. وقَوْله تَعَالَى: {تَكْلِيمًا} 3 يُبْطِلُ الْحِكَايَةَ. مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ4. نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي "نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ5".
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ مُوَفَّقُ الدِّينِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مُصَنَّفٍ لَهُ6: وَاعْتَرَضَ7 الْقَائِلُ 8بِالْكَلامِ النَّفْسِيِّ7 بِوُجُوهٍ:
ـــــــ
1 ساقطة من ض.
2 في ض: أنه دون.
3 قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوْسَى تَكْلِيْماً}. الآية 164 من النساء.
4 انظر فتاوى ابن تيمية 12/ 517، السنة للإمام أحمد ص 15، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 128، الكافية 1/ 205.
5 انظر صيد الخاطر ص 102، 103، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 21، مسائل الإمام أحمد ص 265 وما بعدها، الكافية بشرح القصيدة النونية 1/ 29.
6 ألف الشيخ ابن قدامة عدة كتب في العقيدة، منها: "الاعتقاد"، و"مسألة في تحريم النظر في كتب أهل الكلام"، و"مسألة العلو"، و"كتاب القدر"، و"البرهان في مسألة القرآن".
"انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/ 133، فوات الوفيات 1/ 203، شذرات الذهب 5/ 88، المدخل إلى مذهب أحمد ص 207".
7 في ز ع ب ض: واعتراض.
8 في ز ض: بكلام النفس.(2/40)
أَحَدُهَا: قَوْلُ الأَخْطَلِ: إنَّ الْكَلامَ لَفِي الْفُؤَادِ.
الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ كَلامَ الآدَمِيِّ حَرْفٌ وَصَوْتٌ، وَلَكِنَّ1 كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى يُخَالِفُهُ؛ لأَنَّهُ صِفَتُهُ، فَلا تُشْبِهُ صِفَتُهُ صِفَاتِ الآدَمِيِّينَ2، وَلا كَلامُهُ كَلامَهُمْ3.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَذْهَبَكُمْ فِي الصِّفَاتِ أَنْ لا تُفَسَّرَ4. فَكَيْفَ فَسَّرْتُمْ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا ذَكَرْتُمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُرُوفَ لا تَخْرُجُ إلاَّ مِنْ مَخَارِجَ وَأَدَوَاتٍ وَالصَّوْتُ لا يَكُونُ إلاَّ مِنْ جِسْمٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى5 عَنْ ذَلِكَ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْحُرُوفَ يَدْخُلُهَا التَّعَاقُبُ، فَالْبَاءُ6 تَسْبِقُ السِّينَ، وَالسِّينُ تَسْبِقُ الْمِيمَ وَكُلُّ مَسْبُوقٍ مَخْلُوقٌ.
السَّادِسُ: أَنَّ هَذَا يَدْخُلُهُ التَّجَزِّي وَالتَّعْدَادُ، وَالْقَدِيمُ لا يَتَجَزَّأُ وَلا يَتَعَدَّدُ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ الْمُوَفَّقُ: الْجَوَابُ عَنْ الأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ.
الأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا كَلامُ شَاعِرٍ نَصْرَانِيٍّ عَدُوِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدَيْنِهِ. 7فَهَلْ يَجِبُ7 إطْرَاحُ كَلامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ تَصْحِيحًا لِكَلامِهِ، وَحَمْلُ كَلامِهِمْ عَلَى الْمَجَازِ صِيَانَةً لِكَلِمَتِهِ هَذِهِ عَنْ الْمَجَازِ؟
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ز ع ض.
3 في ع: ككلامهم.
4 في ش: نفس.
5 في ع: متعال.
6 في ز: والباء.
7 في ز: فيجب. وفي ع ض: أفيجب.(2/41)
وَأَيْضًا: فَتَحْتَاجُونَ إلَى إثْبَاتِ هَذَا الشِّعْرِ بِبَيَانِ إسْنَادِهِ وَنَقْلِ الثِّقَاتِ لَهُ، وَلا نَقْنَعُ12بِدَعْوَى شُهْرَتِهِ4، وَقَدْ يَشْتَهِرُ الْفَاسِدُ. وَقَدْ سَمِعْت شَيْخَنَا أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ الْخَشَّابِ3 إمَامَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي زَمَانِهِ يَقُولُ: قَدْ فَتَّشْتُ4 دَوَاوِينَ5 الأَخْطَلِ الْعَتِيقَةَ فَلَمْ أَجِدْ هَذَا الْبَيْتَ فِيهَا6.
الثَّانِي: لا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَهُ هَكَذَا، وَ7إِنَّمَا قَالَ: "إنَّ الْبَيَانَ لَفِيْ8 الْفُؤَادِ" فَحَرَّفُوهُ وَقَالُوا: الْكَلامَ9.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مَجَازٌ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْكَلامَ مِنْ10 عُقَلاءِ النَّاسِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّرَوِّي فِيهِ، وَاسْتِحْضَارِ مَعَانِيهِ فِي الْقَلْبِ11، كَمَا قِيلَ: "لِسَانُ
ـــــــ
1 في ع: نقتنع.
2 في ز ع ض: بشهرته.
3 هو عبد الله بن أحمد بن أحمد، أبو محمد، المعروف بابن الخشاب، البغدادي الحنبلي، العالم المشهور في الأدب، والنحو، والتفسير، والحديث، والنسب، والفرائض، والحساب. وله معرفة بالمنطق، والفلسفة، والهندسة. وكان يحفظ القرآن على القراءات الكثيرة، وكان متضلعاً في العلوم والخط الحسن. له مصنفات كثيرة، منها: "المرتجل في شرح الجمل" لعبد القاهر الجرجاني، و"شرح اللمع" لابن جني، وله "الرد على التبريزي في تهذيب الإصلاح"، و"شرح مقدمة الوزير ابن هبيرة في النحو، والرد على الحريري في "مقاماته". توفي سنة 567هـ ببغداد.
"انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 2/ 288، شذرات الذهب 4/ 220، بغية الوعاة 2/ 29، إنباه الرواة 2/ 99، الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 316".
4 في ض: فتشنا.
5 في ش ب: ديوان.
6 انظر: الإيمان لابن تيمية ص 116.
7 ساقطة من ز ع ض.
8 في ز: من. وفي ع: عن.
9 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية ص 116.
10 في ش: عن.
11 انظر: الإيمان لابن تيمية ص 116.(2/42)
الْحَكِيمِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ. [فَإِذَا أَرَادَ الْكَلامَ رَجَعَ إلَى قَلْبِهِ] 1 فَإِنْ كَانَ لَهُ قَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَكَتَ، وَكَلامُ الْجَاهِلِ عَلَى طَرَفِ لِسَانِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا مَجَازٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا2، وَمَا تَرَكْنَاهُ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلامَ هُوَ النُّطْقُ، وَحَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَمْلُ3 كَلامِ4 الأَخْطَلِ عَلَى مَجَازِهَا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْحَقِيقَةَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِسَبْقِهَا إلَى الذِّهْنِ وَتَبَادُرِ الأَفْهَامِ إلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلاقِ الْكَلامِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الثَّالِثُ: تَرْتِيبُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ5 دُونَ مَا ذَكَرُوهُ.
الرَّابِعُ: قَوْلُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِهَذَا الشَّأْنِ.
الْخَامِسُ: مِنْ الاشْتِقَاقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
السَّادِسُ: لا تَصِحُّ إضَافَةُ مَا ذَكَرُوهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ جَعَلَ الْكَلامَ فِي الْفُؤَادِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يُوصَفُ بِذَلِكَ. وَجَعَلَ اللِّسَانَ دَلِيلاً عَلَيْهِ، وَلأَنَّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الأَخْطَلُ بِالْكَلامِ هُوَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرُ، وَاسْتِحْضَارُ الْمَعَانِي، وَحَدِيثُ النَّفْسِ وَوَسْوَسَتُهَا. وَلا يَجُوزُ إضَافَةُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلا خِلافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ـــــــ
1 ما بين القوسين زيادة لتمام الكلام. "انظر: أدب الدين والدنيا ص 249".
2 في ض: ذكرناه.
3 في ز ع ض: بحمل.
4 في ع ض: كلمة.
5 في ع ض: ذكرنا.(2/43)
قَالَ: وَمِنْ أَعْجَبِ الأُمُورِ أَنَّ خُصُومَنَا رَدُّوا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَخَالَفُوا جَمِيعَ الْخَلْقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فِرَارًا مِنْ التَّشْبِيهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، ثُمَّ صَارُوا إلَى تَشْبِيهٍ أَقْبَحَ وَأَفْحَشَ مِنْ كُلِّ تَشْبِيهٍ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ التَّغْفِيلِ.
وَمِنْ أَدَلِّ الأَشْيَاءِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: تَرْكُهُمْ1 قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا لا يُحْصَى مِنْ الأَدِلَّةِ، وَتَمَسَّكُوا2 بِكَلِمَةٍ قَالَهَا هَذَا الشَّاعِرُ النَّصْرَانِيُّ جَعَلُوهَا أَسَاسَ مَذْهَبِهِمْ وَقَاعِدَةَ عَقْدِهِمْ3، وَلَوْ أَنَّهَا انْفَرَدَتْ عَنْ مُبْطِلٍ وَخَلَتْ عَنْ مُعَارِضٍ لَمَا جَازَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا هَذَا الأَصْلُ الْعَظِيمُ، فَكَيْفَ وَقَدْ عَارَضَهَا مَا لا يُمْكِنُ رَدُّهُ؟ فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ بَنَى قَصْرًا مِنْ4 أَعْوَادِ الْكِبْرِيتِ فِي مَجْرَى السَّيْلِ5.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "إنَّ كَلامَ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ لا يَكُونَ حُرُوفًا يُشْبِهُ كَلامَ الآدَمِيِّينَ".
قُلْنَا: جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الاتِّفَاقَ فِي أَصْلِ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِتَشْبِيهٍ، كَمَا أَنَّ اتِّفَاقَ الْبَصَرِ فِي أَنَّهُ إدْرَاكُ6 الْمُبْصَرَاتِ، وَالسَّمْعِ فِي أَنَّهُ إدْرَاكُ7 الْمَسْمُوعَاتِ، وَالْعِلْمِ فِيْ8 أَنَّهُ إدْرَاكُ9 الْمَعْلُومَاتِ لَيْسَ بِتَشْبِيهٍ، كَذَلِكَ هَذَا.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 في ش: وتمسكهم.
3 في ض: عندهم.
4 في ز ع ض: على.
5 في ز ع ض: النيل.
6 في ز ض: أدرك.
7 في ز ض: أدرك.
8 في ض: ب.
9 في ز ض: أدرك.(2/44)
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا لَكَانَ1 تَشْبِيهُهُمْ أَقْبَحَ وَأَفْحَشَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ إنْ نَفَوْا هَذِهِ الصِّفَةَ لِكَوْنِ هَذَا تَشْبِيهًا، يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُوا سَائِرَ الصِّفَاتِ، مِنْ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهَا.
2 الرَّابِعُ: أَنَّنَا3 نَحْنُ لَمْ نُفَسِّرْ هَذَا؛ إنَّمَا فَسَّرَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ3.
وَ4أَمَّا قَوْلُهُمْ: "أَنْتُمْ فَسَّرْتُمْ هَذِهِ الصِّفَةَ"؟
فَنَقُولُ 5: إنَّمَا لا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي سَكَتَ السَّلَفُ عَنْ تَفْسِيرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَلامُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بَيْنَ الْخَلْقِ أَنْ6 لا تَشْبِيهَ فِيهِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
الثَّانِي: أَنَّنَا نَحْنُ فَسَّرْنَاهُ بِحَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ تَفْسِيرًا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُمْ فَسَّرُوهُ بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلا سُنَّةٌ وَلا يُوَافِقُ الْحَقِيقَةَ، وَلا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَ7أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْحُرُوفَ تَحْتَاجُ إلَى مَخَارِجَ وَأَدَوَاتٍ؟
فَنَقُولُ8: احْتِيَاجُهَا إلَى ذَلِكَ فِي حَقِّنَا لا يُوجِبُ ذَلِكَ فِي كَلامِ اللَّهِ
ـــــــ
1 في ز ض: كان.
2 ساقطة من ض.
3 في ز ع: أنا.
4 ساقطة من ع ض.
5 في ز ع: قلنا.
6 ساقطة من ز ع ض.
7 ساقطة من ز.
8 في ز ع ض: قلنا.(2/45)
تَعَالَى1، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ2.
فَإِنْ قَالُوا: بَلْ يَحْتَاجُ اللَّهُ تَعَالَى كَحَاجَتِنَا، قِيَاسًا لَهُ عَلَيْنَا أَخْطَؤوا مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي سَلَّمُوهَا كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ. فَإِنَّهَا3 لا تَكُونُ4 فِي حَقِّنَا إلاَّ فِي جِسْمٍ، وَ5لا يَكُونُ الْبَصَرُ إلاَّ فِي حَدَقَةٍ، وَلا السَّمْعُ إلاَّ مِنْ انْخِرَاقٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى بِخِلافِ ذَلِكَ6.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِنَا وَقِيَاسٌ لَهُ عَلَيْنَا وَهَذَا كُفْرٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى مَخَارِجَ فِي كَلامِهَا. كَالأَيْدِي وَالأَرْجُلِ، وَالْجُلُودِ الَّتِي تَتَكَلَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ7، وَالْحَجَرِ الَّذِي سَلَّمَ عَلَى
ـــــــ
1 ساقطة من ض.
2 يقول الآمدي: إذ الحروف والأصوات إنما تتصور بمخارج وأدوات وتزاحم أجرام واصطكاكات، وذلك في حق الباري محال. "غاية المرام ص 111". ثم يقول: نعم، لو قيل: "إن كلامه بحروف وأصوات لا كحروفنا وأصواتنا، كما أن ذاته وصفاته ليست كذاتنا وصفاتنا، كما قال بعض السلف، فالحق أن ذلك غير مستبعد عقلاً، لكنه مما لم يدل الدليل القاطع على إثباته من جهة المعقول، أو من جهة المنقول. فالقول به تحكم غير مقبول. "غاية المرام ص 112". وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 103.
3 ساقطة من ز ع ب ض.
4 في ض: يكون ذلك.
5 ساقطة من ع.
6 قال شيخ الإسلام ابن حجر: "فصفاته صفة من صفات ذاته، لا تشبه صفة غيره؛ إذ ليس يوجد شيء من صفاته في صفات المخلوقين. هكذا قرره المصنف "البخاري" في كتاب "خلق أفعال العباد". "فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/ 353".
7 إن كلام الأيدي والأرجل والجلود ثابت في القرآن الكريم، قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيْهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوْا يَكْسِبُوْنَ} [الآية 65] من يس. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَآؤُوْهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُوْدُهُمْ بِمَا كَانُوْا يَفْعَلُوْنَ وَقَالُوْا لِجُلُوْدِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوْا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِيْ أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}. [الآيتان 20-21 من فصلت]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيْهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ}. [الآية 24 من النور].(2/46)
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم1، وَالْحَصَا الَّذِي سَبَّحَ فِي كَفَّيْهِ2، وَالذِّرَاعِ الْمَسْمُومَةِ الَّتِي كَلَّمَتْهُ3.
ـــــــ
1 روى مسلم والترمذي وأحمد والدارمي عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم علي قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن".
"انظر: صحيح مسلم 4/ 1783، تحفة الأحوذي 10/ 98، مسند أحمد 5/ 89، سنن الدارمي 1/ 12".
وروى البزار عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما أوحي إلي جعلت لا أمرّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله". وروى الترمذي والدارمي والطبراني في الأوسط عن علي قال: "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يمر على حجر ولا شجر إلا سلم عليه".
"انظر: تحفة الأحوذي 10/ 100، سنن الدارمي 1/ 12، مجمع الزوائد 8/ 259".
2 أخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم والبيهقي عن أبي ذر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ... وبين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات، فأخذهن فوضعن في كفه، فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل". وأخرجه ابن عساكر عن أنس. وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس قال: لما قدم ملوك حضرموت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم الأشعث بن قيس ... فقالوا: "كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفًّا من حصا، فقال: "هذا يشهد أني رسول الله"، فسبّح الحصى في يده".
"انظر: الخصائص الكبرى 2/ 304، مجمع الزوائد 8/ 298".
وفي ض: كفه.
3 روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس: "أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك. قال: "ما كان الله ليسلطك على ذلك، قال عليَّ".
"انظر: صحيح البخاري 3/ 56، 4/ 22، صحيح مسلم 4/ 1721".
وزاد أنس فيما رواه البزار والطبراني: "فلما مدّ يده إليها ليأكل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عضواً من أعضائها يخبرني أنها مسمومة، فامتنع".
"انظر مجمع الزوائد 8/ 295".
وفي رواية أبي داود: أخبرتني هذه في يدي –للذراع. وفي رواية الدارمي: قال:إن هذه تخبرني أنها مسمومة.
"انظر: سنن أبي داود 2/ 483، سنن الدارمي 1/ 32".(2/47)
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ1". وَلا خِلافَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إنْطَاقِ الْحَجَرِ الأَصَمِّ بِلا أَدَوَاتٍ. قُلْت أَنَا2: الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَاجُ كَحَاجَتِنَا قِيَاسًا لَهُ عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ عَيْنُ التَّشْبِيهِ، وَهُمْ لا يَقُولُونَ ذَلِكَ 3بَلْ يَفِرُّونَ3 مِنْهُ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الشَّيْخَ قَالَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِهِمْ لَهُ4. ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُمْ: "إنَّ التَّعَاقُبَ يَدْخُلُ فِي الْحُرُوفِ"؟.
قُلْنَا: إنَّمَا كَانَ5 ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ يَنْطِقُ بِالْمَخَارِجِ وَالأَدَوَاتِ، وَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ: إنَّمَا يَتَعَيَّنُ التَّعَاقُبُ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ بِأَدَاةٍ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ شَيْءٍ إلاَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ بِلا جَارِحَةٍ فَلا يَتَعَيَّنُ فِي كَلامِهِ التَّعَاقُبُ، وَقَدْ اتَّفَقَ6 الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ7 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَوَلَّى الْحِسَابَ بَيْنَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ فِي الْحَالِ هُوَ وَحْدَهُ. وَهَذَا خِلافُ التَّعَاقُبِ. اهـ كَلامُ أَبِي نَصْرٍ.
ـــــــ
1 رواه البخاري والترمذي والدارمي عن عبد الله بن مسعود. وأوله في البخاري: "كنا نعدّ الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً ...."
"انظر: فتح الباري 6/ 383، تحفة الأحوذي 10/ 110، سنن الدارمي 1/ 14".
2 في ش: أخبرنا.
3 في ز ع ب ض: ويفرون.
4 ساقطة من ض.
5 ساقطة من ض.
6 في ع ض: اتفقت.
7 في ع ض: أن الله.(2/48)
ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ: وَقَوْلُهُمْ: "إنَّ الْقَدِيمَ لا يَتَجَزَّأُ وَلا يَتَعَدَّدُ" غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَعَدِّدَةٌ1. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2 وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 3 وَهِيَ قَدِيمَةٌ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ4 عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَنْ قَالَ: إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ كَفَرَ.
وَكَذَلِكَ كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ مُتَعَدِّدَةٌ. وَهِيَ 5كَلامُ اللَّهِ5 تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ6، وَإِنَّمَا هَذَا أَخَذُوهُ مِنْ عِلْمِ الْكَلامِ7، وَهُوَ مُطْرَحٌ عِنْدَ جَمِيعِ الأَئِمَّةِ.
ـــــــ
1 في ش ز ع ب: معدودة. وهو خطأ. ولذلك جاء في حاشية ش: "لا تدل الآية ولا الحديث على الانحصار في عدد".
2 الآية 180 من الأعراف.
3 هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
"انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي 4/ 276، صحيح مسلم 4/ 2063، تحفة الأحوذي 9/ 480، سنن ابن ماجه 2/ 1269، مسند أحمد 2/ 258.
ورواه ابن عساكر عن عمر. انظر: فيض القدير 2/ 478".
4 ساقطة من ز ع ب ض.
5 في ب ع ض: كلامه.
6 في ض: مخلوق. وانظر في أسماء الله تعالى وكتبه "الإيمان لابن تيمية ص 154".
7 انظر رأي العلماء في علم الكلام في "فتح الباري 13/ 273، التعريفات للجرجاني ص 162، تبيين كذب المفتري 336 وما بعدها، آداب الشافعي ومناقبه ص 182، والمراجع المشار إليها في الهامش، استحسان الخوض في علم الكلام لأبي الحسن الأشعري، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للسيوطي".(2/49)
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلامِ تَزَنْدَقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا ارْتَدَى بِالْكَلامِ أَحَدٌ فَأَفْلَحَ1.
وَقَالَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَحَبَّ الْكَلامَ أَحَدٌ فَكَانَ عَاقِبَتُهُ إلَى خَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيُّ2: الْبِدَعُ عِنْدَ مَالِكٍ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ هِيَ كُتُبُ الْكَلامِ وَالتَّنْجِيمِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. لا تَصِحُّ إجَارَتُهَا، وَلا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِهَا3.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ، فَإِنْ قِيلَ: "الصَّوْتُ وَالْحَرْفُ إذَا ثَبَتَا فِي الْكَلامِ اقْتَضَيَا عَدَدًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ".
قِيلَ لَهُمْ: قَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ اعْتِمَادَ أَهْلِ4 الْحَقِّ فِي هَذِهِ الأَبْوَابِ عَلَى السَّمْعِ. وَقَدْ وَرَدَ السَّمْعُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ ذُو عَدَدٍ. وَأَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِأَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً لا مَجَازًا5، وَهُوَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ6، وَقَدْ عَدَّ الأَشْعَرِيُّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى
ـــــــ
1 انظر: تبيين كذب المفتري ص 336، آداب الشافعي ومناقبه ص 182، طبقات الفقهاء الشافعية للعبادي ص 60.
2 هو محمد بن أحمد بن عبد الله، وقيل: محمد بن أحمد بن علي بن إسحاق بن خويز منداد، أبو عبد الله البصري المالكي، كان يجانب علم الكلام، وينافرُ أهلَه، ويحكم على الكل أنهم من أهل الأهواء، تفقه على الأبهري، له كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أحكام القرآن. وله اختيارات شواذّ، وتكلم فيه أبو الوليد الباجي. توفي سنة 390هـ تقريباً، وكان إماماً عالماً متكلماً فقيهاًَ أصولياً.
انظر ترجمته في "الديباج المذهب 2/ 229، طبقات المفسرين 2/ 68، الوافي بالوفيات 2/ 52، لسان الميزان 5/ 291، شجرة النور ص 103".
3 في ز ب ض: أهله.
4 في ز ع ب ض: أولي.
5 في ض: مجاز.
6 قال الباقلاني: بل كلامه قديم، صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته، ونحو ذلك من صفات الذات. "الإنصاف له ص 71".(2/50)
سَبْعَ عَشْرَة صِفَةً، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهَا مَا لا يُعْلَمُ إلاَّ بِالسَّمْعِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَاتٍ مَعْدُودَةٍ لَمْ يَلْزَمْنَا بِدُخُولِ الْعَدَدِ فِي الْحُرُوفِ شَيْءٌ. اهـ كَلامُ أَبِي نَصْرٍ.
قَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ:
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم1، وَيُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ2، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 3 وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 4 وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} 5 وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} 6 وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} 7 وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ اللَّهِ، لا مِنْ شَجَرٍ وَلا مِنْ حَجَرٍ وَلا مِنْ غَيْرِهِ8؛ لأَنَّهُ لَوْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَفْضَلَ مِنْهُ9 فِي ذَلِكَ؛ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ أَفْضَلَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ مُوسَى، لِكَوْنِهِمْ
ـــــــ
1 انظر في صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوْسَى تَكْلِيْماً}. "فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 367".
2 انظر في صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. "فتح الباري 13/ 364".
3 الآية 164 من النساء.
4 الآية 143 من الأعراف.
5 الآية 144 من الأعراف.
6 الآية 52 من مريم.
7 الآية 16 من النازعات.
8 ساقطة من ز.
9 ساقطة من ز ب ع ض. وفي شرح الكافية: أفضل في ذلك منه.(2/51)
سَمِعُوا مِنْ مُوسَى1. فَلِمَ سُمِّيَ إذَنْ كَلِيمَ الرَّحْمَنِ2؟
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى إلاَّ صَوْتًا وَحَرْفًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنًى فِي النَّفْسِ وَفِكْرَةً وَرَوِيَّةً: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَكْلِيمًا لِمُوسَى، وَلا هُوَ بِشَيْءٍ3 يُسْمَعُ، وَلا يَتَعَدَّى الْفِكْرَ وَالْمَرْئِيَّ، وَلا يُسَمَّى مُنَادَاةً4.
فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ لا نُسَمِّيهِ صَوْتًا مَعَ كَوْنِهِ مَسْمُوعًا.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مُخَالَفَةٌ فِي اللَّفْظِ مَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّنَا لا نَعْنِي بِالصَّوْتِ إلاَّ مَا كَانَ مَسْمُوعًا.
الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الصَّوْتِ قَدْ جَاءَتْ بِهِ الأَخْبَارُ وَالآثَارُ5، وَسَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِدَةٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ: النِّزَاعُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ أَمْ لا؟ وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: اتِّبَاعُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، اهـ كَلامُ الشَّيْخِ 6مُوَفَّقِ الدِّينِ7.
وَقَالَ الْحَافِظُ شِهَابُ الدِّينِ ابْنُ حَجَرٍ فِي "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ7": "قَالَ
ـــــــ
1 انظر: فتح الباري 3/ 350.
2 انظر: توضيح المقاصد بشرح الكافية النونية 1/ 225.
3 في ز ش: بنبي. وفي ب وشرح الكافية: شيء.
4 انظر: فتح الباري 13/ 367، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 36، 131 وما بعدها، 146، توضيح المقاصد بشرح الكافية 1/ 226.
5 انظر: توضيح المقاصد بشرح النونية 1/ 226.
6 في ب ع ض: الموفق.
7 فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 353-354.(2/52)
الْبَيْهَقِيُّ: الْكَلامُ مَا يَنْطِقُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي نَفْسِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - يَعْنِيْ فِي قِصَّةِ السَّقِيفَةِ1 - وَفِيهِ "وَكُنْت زَوَّرْت فِي نَفْسِي مَقَالَةً" وَفِي رِوَايَةٍ "كَلامًا" قَالَ: فَسَمَّاهُ كَلامًا قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِهِ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ ذَا مَخَارِجَ سُمِعَ كَلامُهُ ذَا حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذِي مَخَارِجَ، فَهُوَ بِخِلافِ ذَلِكَ، وَالْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِذِي مَخَارِجَ، فَلا يَكُونُ كَلامُهُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ2.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ3 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ4. وَقَالَ: اخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي5
ـــــــ
1 ق ابن حجر: وقد تقدم سياقه في كتاب الحدود "فتح الباري 13/ 353".
2 يقول الآمدي: "ذهب أهل الحق من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلماً بكلام قديم أزلي نفساني، إحدى صفات الذات، ليس بحروف ولا أصوات. "غاية المرام ص 88".
3 هو الصحابي ابن الصحابي جابر بن عبد الله بن عمرو، أبو عبد الله، الأنصاري السَّلَمي المدني، أحد المكثرين من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عنه جماعات من أئمة التابعين، ومناقبه كثيرة، استشهد أبوه يوم أحد، فأحياه الله وكلمه. وغزا جابر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، ولم يشهد بدراً ولا أحداً، منعه أبوه. وكان لجابر حلقة علم في المسجد النبوي، وكان آخر الصحابة موتاً بالمدينة سنة 78هـ. وإذا أطلق جابر في كتب الحديث والفقه فهو المقصود.
انظر ترجمته في "الإصابة 1/ 213، الاستيعاب 1/ 221، تهذيب الأسماء 1/ 142، 286، شذرات الذهب 1/ 84، الخلاصة ص 59".
4 هو الصحابي عبد الله بن أنيس بن حرام الجهني الأنصاري، القضاعي السلمي، أبو يحيى، شهد العقبة في السبعين من الأنصار، وكسر أصنام بني سلمة مع معاذ بن جبل، وشهد بدراًَ واحداً والخندق وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وحده. وهو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وهو الذي سافر إليه جابر شهراًَ فأدركه في الشام، فسمع منه حديثاً في المظالم والقصاص بين أهل الجنة والنار قبل دخولهما، توفي سنة 74هـ، وقيل غير ذلك.
انظر ترجمته في "الإصابة 2/ 278، الاستيعاب 2/ 258، تهذيب الأسماء 1/ 260، شذرات الذهب 1/ 60، مشاهير علماء الأنصار ص 56، حلية الأولياء 2/ 5".
5 في ض: بـ.(2/53)
الاحْتِجَاجِ بِرِوَايَاتِهِ1، وَلَمْ يَثْبُتْ لَفْظُ2 الصَّوْتِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ حَدِيثِهِ. فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - يَعْنِي الَّذِي يَلِيهِ3 - وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي الَّذِي بَعْدَهُ – "أَنَّ الْمَلائِكَةَ يَسْمَعُونَ عِنْدَ حُصُولِ4 الْوَحْيِ5 صَوْتًا" 6 فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ لِلسَّمَاءِ، أَوْ لِلْمَلَكِ الآتِي بِالْوَحْيِ، أَوْ لأَجْنِحَةِ الْمَلائِكَةِ. وَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ7".
"وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إلَى أَنَّ الرَّاوِيَ أَرَادَ: فَيُنَادِي نِدَاءً، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالصَّوْتِ8".
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: "وَهَذَا حَاصِلُ كَلامِ مَنْ نَفَى9 الصَّوْتَ مِنْ الأَئِمَّةِ10، وَيَلْزَمُ مِنْهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُسْمِعْ أَحَدًا مِنْ مَلائِكَتِهِ وَلا رُسُلِهِ كَلامَهُ11، بَلْ أَلْهَمَهُمْ إيَّاهُ".
"وَحَاصِلُ الاحْتِجَاجِ لِلنَّفْيِ: الرُّجُوعُ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى أَصْوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، لأَنَّهَا الَّتِي عُهِدَ أَنَّهَا ذَاتُ مَخَارِجَ، وَلا يَخْفَى مَا فِيهِ، إذْ الصَّوْتُ قَدْ يَكُونُ مِنْ
ـــــــ
1 في ع: بروايات ابن عقيل لسوء حفظه.
2 في ش ز: بلفظ. والأعلى موافق لما في فتح الباري.
3 سيأتي الحديث الأول ص 62، وسيأتي الحديث الذي يليه ص 66-67.
4 في ش ز ع ب ض: حضور، والأعلى من فتح الباري 13/ 354.
5 في ش: الرحمن.
6 سيأتي صفحة 65.
7 فتح الباري 13/ 354.
8 فتح الباري 13/ 354.
9 في فتح الباري: ينفي.
10 انظر: الإنصاف للباقلاني ص 99.
11 في فتح الباري: ورسله.(2/54)
غَيْرِ مَخَارِجَ. كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ اتِّصَالِ الأَشِعَّةِ1، كَمَا سَبَقَ".
"سَلَّمْنَا، لَكِنْ نَمْنَعُ2 الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ. وَصِفَةُ الْخَالِقِ لا تُقَاسُ عَلَى صِفَةِ الْمَخْلُوقِ3، وَإِذَا ثَبَتَ ذِكْرُ الصَّوْتِ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَجَبَ الإِيمَانُ بِهِ4".
ثُمَّ قَالَ5: "إمَّا التَّفْوِيضُ وَإِمَّا التَّأْوِيلُ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ6". اهـ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ7" قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "ثُم َّ8 يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ" 9 حَمَلَهُ بَعْضُ الأَئِمَّةِ عَلَى مَجَازِ الْحَذْفِ، أَيْ يَأْمُرُ مَنْ يُنَادِي10. وَاسْتَبْعَدَهُ11 بَعْضُ مَنْ أَثْبَتَ الصَّوْتَ بِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: "يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ" إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُ هَذَا فِيهِمْ، وَبِأَنَّ الْمَلائِكَةَ إذَا سَمِعُوهُ صُعِقُوا، وَإِذَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَمْ يُصْعَقُوا".
ـــــــ
1 في ب ع ض: أشعة.
2 في ع: يمنع.
3 في ض: المخلوقين.
4 فتح الباري 13/ 354.
5 ساقطة من ز ض ب ع.
6 فتح الباري 13/ 354.
7 العبارة توهم أن قول ابن حجر في حديث آخر، مع أنه في نفس الحديث الذي تكلم عنه ابن حجر، ونقله عنه المصنف. وقد ذكر ابن حجر هذه العبارة في أول شرح الحديث.
"انظر: فتح الباري 13/ 353".
8 ساقطة من ش.
9 رواه البخاري في خلق أفعال العباد ص 13، 59، وسيأتي أيضاً صفحة 110.
10 هذا المجاز من نسبة الفعل إلى الآمر به. "انظر: الإشارة إلى الإيجاز ص 63".
11 في ش ز ع ب ض: فاستبعده، والأعلى من فتح الباري 13/ 353.(2/55)
قَالَ: "فَعَلَى هَذَا فَصَوْتُهُ1 صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ لا يُشْبِهُ2 صَوْتَ غَيْرِهِ؛ إذْ لَيْسَ يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ3".
قَالَ: "وَهَكَذَا4 قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ - يَعْنِي بِهِ الْبُخَارِيَّ - فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ"5. اهـ.
وَحَدُّ الصَّوْتِ: مَا يَتَحَقَّقُ سَمَاعُهُ. فَكُلُّ مُتَحَقِّقٍ سَمَاعُهُ صَوْتٌ، وَكُلُّ مَا لا يَتَأَتَّى سَمَاعُهُ أَلْبَتَّةَ لَيْسَ بِصَوْتٍ6. وَصِحَّةُ الْحَدِّ كَوْنُهُ مُطَّرِدًا مُنْعَكِسًا7.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "إنَّ الصَّوْتَ هُوَ الْخَارِجُ8 مِنْ هَوَاءٍ بَيْنَ جِرْمَيْنِ. فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لأَنَّهُ يُوجَدُ سَمَاعُ الصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. كَتَسْلِيمِ الأَحْجَارِ، وَتَسْبِيحِ الطَّعَامِ وَالْجِبَالِ9، وَشَهَادَةِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلِ وَحَنِيْنِ الْجِذْعِ10. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
ـــــــ
1 في ش ز ب: صوته.
2 في ع: تشبه.
3 فتح الباري 13/ 353.
4 في ع: هذا.
5 خلق أفعال العباد ص 59. وانظر: فتح الباري 13/ 353.
6 انظر: الرد على الجهمية والمعتزلة، للإمام أحمد ص 236 من مجلة أضواء الشريعة العدد الثامن.
7 انظر في تعريف الصوت "مختصر الطوفي ص 41، التعريفات للجرجاني ص 118، شرح الكوكب المنير 1/ 103، 104".
8 في ض: خارج.
9 إن تسبيح الجبال ثابت في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} . الأنبياء/ 79. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاًَ يَا جِبَالُ أَوِّبِيْ مَعَهُ وَالطَّيْر} . سبأ/ 10. وقوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ}. الآية 18 من سورة ص.
10 وهو صوت الجذع الذي كان يخطب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اتخذوا له منبراً فخطب عليه، فحنّ الجذع كحنين الناقة. وفي البخاري عن جابر: "فصاحت النخلة صياح.............=(2/56)
تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} 1. وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 2 وَمَا لِشَيْءٍ3 مِنْ ذَلِكَ مُنْخَرَقٌ بَيْنَ جِرْمَيْنِ4.
وَقَدْ أَقَرَّ الأَشْعَرِيُّ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَالَتَا "أَتَيْنَا طَائِعِينَ"5، حَقِيقَةً لا مَجَازًا.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ6، مِنَّا: لَسْنَا نَشُكُّ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ*عَلَى
ـــــــ
= الصبي". والحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي عن عدد من الصحابة.
"انظر: فتح الباري 6/ 392، تحفة الأحوذي 3/ 22، 10/ 100، سنن النسائي 3/ 83، سنن ابن ماجه 1/ 454، مسند أحمد 1/ 249، 267، سنن الدارمي 1/ 15". وقد مرت الآيات الدالة على شهادة الأيدي والأرجل "صفحة 46". ومرت الأحاديث في تسليم الأحجار "صفحة 47".
1 الآية 44 من الإسراء.
2 الآية 30 من سورة ق.
3 في ع: شيءٌ.
4 انظر رأي الآمدي في الصوت، فإنه يقول: "إذ الصوت لا يكون إلا عن اصطكاكات أجرام، والحروف عبارة عن تقطع الأصوات". "غاية المرام ص 92".
5 قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِيْنَ}. الآية 11 من فصلت.
6 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، الكاتب النحوي اللغوي، صاحب التصانيف الحسان المفيدة. قال ابن خلكان: "كان فاضلاً ثقة، سكن بغداد وحدّث بها". ومن تصانيفه: "المعارف"، و"أدب الكاتب"، و"الشعر والشعراء"، و"غريب القرآن"، و"مشكل القرآن"، و"غريب الحديث"، و"مشكل الحديث"، و"طبقات الشعراء"، و"الأشربة" وغيرها. ولي قضاء الدينور، وتكلم به بعض العلماء، ورد الذهبي ذلك، توفي فجأة سنة 276هـ.
انظر ترجمته الوافية في "وفيات الأعيان 2/ 246، شذرات الذهب 2/ 169، إنباه الرواة 2/ 143، تهذيب الأسماء 2/ 281، طبقات المفسرين 1/ 245، بغية الوعاة 2/ 63، طبقات النحويين واللغويين ص 183، ميزان الاعتدال 2/ 503".(2/57)
الْحَقِيقَةِ لاَ عَلَى الْمَجَازِ لاَ1 كَمَا يَقُولُهُ2 بَعْضُ أَصْحَابِ الْكَلامِ: "إنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ3 دَلِيلٌ عَلَى4 الْقُرْآنِ". اهـ.
وَقَالَ الشِّهَابُ السُّهْرَوَرْدِيُّ5: أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ: الاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ وَالنَّفْسُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ وَالْقَدَمُ وَالرِّجْلُ وَالْوَجْهُ، فَلا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِتَشْبِيهٍ وَلا تَعْطِيلٍ؛ إذْ لَوْلا إخْبَارُ اللَّهِ وَ6رَسُولِهِ لَمَا7 تَمَالأَ8 عَقْلٌ أَنْ يَحُومَ9 حَوْلَ ذَلِكَ الْحِمَى، وَلَوْلا أَنَّ10 الصَّادِقَ11 الْمَعْصُومَ قَالَ ذَلِكَ لَمَا قُلْنَا، وَلا حُمْنَا حَوْلَهُ. فَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لا تُعْرَفُ إلاَّ بِالدَّلِيلِ الْمَحْضِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
ـــــــ
1 ساقطة من ز ع ب ض.
2 في د: يقول.
3-* ساقطة من ش، وموجودة في ز. وجاء بعدها نصف صفحة مكتوبة خطأ ومكررة عن إعجاز القرآن.
4 في ض: على أنه.
5 هو عمر بن محمد بن عبد الله، شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي. قال الداودي: كان فقيهاً شافعياً، شيخاً ورعاً، كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة. وكان له مجلس وعظٍ، وكان صوفيًّا. له مصنفات كثيرة، منها: "عوارف المعارف"، و"بغية البيان في تفسير القرآن"، و"المناسك"، و"رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية". عمي في آخر عمره وأقعد، توفي سنة 632هـ.
انظر ترجمته في "طبقات المفسرين 2/ 10، وفيات الأعيان 1/ 119، شذرات الذهب 5/ 153، طبقات الشافعية الكبرى 8/ 338، معجم المؤلفين 7/ 313".
وفي ش ز ع ب ض: الشهرزوري، وهو تصحيف.
6 ساقطة من ض.
7 في ع ض: ما.
8 في ض: تحاك.
9 في ع: يحول.
10 ساقطة من ش.
11 في ب ض: الصادق المصدَّق.(2/58)
قَالَ الْمُؤَلَّفُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1 {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} 2 وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي" 3 وَقَالَ الصِّدِّيقُ: مَا هَذَا كَلامِي، وَلا كَلامُ صَاحِبِي، وَلَكِنَّهُ كَلامُ اللَّهِ4.
وَالْكَلامُ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ، وَالْكَلِمَاتُ الْمَفْهُومَةُ، وَالأَصْوَاتُ الْمَلْهُومَةُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} 5، {فَقُولِي إنِّي نَذَرْت لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنْسِيًّا} {فَأَشَارَتْ إلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ 6 مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا 3 } 7 {لا
ـــــــ
1 الآية 6 من التوبة.
2 الآية 75 من البقرة.
3 سيأتي النص كاملاً مع تخريجه ص 73.
4 أخرج البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد" "ص 13" عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما نزلت: {ألم. غُلِبَتِ الرُّومُ} الروم/ 1-2]، خرج يصيح ويقول: كلام ربي، وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها إذا سمعت القرآن قالت: كلام ربي، كلام ربي. ونقل ابن حجر عن البيهقي أنه ساق حديث نيار بن مُكْرِم أن أبا بكر قرأ عليهم سورة الروم، فقالوا: هذا كلامُك أو كلام صاحبك؟ قال: ليس كلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله". وأصل هذا الحديث أخرجه الترمذي مصحِّحاً. وأخرجه أحمد في كتاب "السنة". وأخرج أحمد في كتاب "السنة" أيضاً، والحاكم، وابن المبارك في "الجهاد" عن عكرمة بن أبي جهل أنه كان يأخذ المصحف فيضعه على وجههه ويقول: كلام ربي، كلام ربي.
"انظر: فتح الباري 13/ 350، تحفة الأحوذي 9/ 53، السنة ص 20، 21، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 6، الإبانة للأشعري ص 30، المستدرك 3/ 243، الجهاد لابن المبارك ص 57".
5 الآيتان 10-11 من مريم. وأول الآية الثانية: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ...}.
6 في ز ع ض: الآية. وفي ب: {نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ} ... الآية.
7 الآيتان 26، 29 من مريم.(2/59)
يَتَكَلَّمُونَ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} 1 {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} 2، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وقَوْله تَعَالَى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} 3 يَعْنِي بِهِ النُّطْقَ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} 4، {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} 5 أَيْ: يَنْطِقُ. وَحَدِيثِ "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي" 6 وَحَدِيثُ "إنَّ صَلاتَنَا هَذِهِ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ" 7 وَحَدِيثِ "لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إلاَّ
ـــــــ
1 الآية 38 من النبأ. وفي ش ز ض: ولا يتكلمون. وهو خطأ.
2 الآية 35 من المرسلات.
3 الآية 65 من يس.
4 الآية 21 من فصلت. وفي ز ب ض: فقالوا. وهو خطأ.
5 الآية 46 من آل عمران.
6 تتمة الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". رواه البيهقي عن ابن عمر. ورواه الطبراني عن ثوبان، ورواه ابن ماجه عن ابن عباس، وصححه ابن حبان، واستنكره أبو حاتم. ورواه ابن عدي عن أبي بكرة وضعفه، ورواه الحاكم وصححه.
"انظر: سنن ابن ماجه 1/ 659، فيض القدير 4/ 34، 362، كشف الخفاء 1/ 433، تخريج أحاديث البزدوي ص 89، المستدرك 2/ 198، موارد الظمآن ص 360، تخريج أحاديث مختصر المنهاج ص 294".
وقد مرت الإشارة إلى هذا الحديث صفحة 31، كما مرت الإشارة إليه في المجلد الأول صفحة 436هـ، 512.
ولعل المؤلف يريد الإشارة إلى حديث: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به". وقد مر صفحة 31.
7 هذا طرف من حديث طويل رواه معاوية بن الحكم السُّلَمي. وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وابن حبان والبيهقي. ورواه البخاري في "خلق أفعال العباد". انظر: مسند أحمد 5/ 447، صحيح مسلم 1/ 382، سنن أبي داود 1/ 213، سنن النسائي 3/ 14، خلق أفعال العباد ص 27، نيل الأوطار 2/ 357".(2/60)
ثَلاثَةٌ" 1 وَحَدِيثِ "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ" 2 وَحَدِيثِ "مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ سَقْطُهُ" 3 وَإِجْمَاعِ النَّاسِ فِي الشِّعْرِ وَالنَّظْمِ فِي كَلامِهِمْ وَعُرْفِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ أَنَّ الْكَلامَ يَكُونُ4 حَقِيقَةً. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لا يَتَكَلَّمُ لا يَحْنَثُ إلاَّ بِالنُّطْقِ5. اهـ.
وَقَدْ بَيَّنَّا بِالأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي عِنْدَنَا هُوَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ مَسْمُوعٌ مَقْرُوءٌ مَتْلُوٌّ مَحْفُوظٌ6. وَكَيْفَمَا قُرِئَ وَتُلِيَ وَسُمِعَ وَحُفِظَ وَكُتِبَ فَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ7. اهـ.
وَثَبَتَ عَنْ الْغَيْرِ: ذِكْرُ الصَّوْتِ8 الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ الْحُفَّاظِ
ـــــــ
1 هذا طرف من حديث طويل رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً ... والثلاثة هم: عيسى، وصاحب جريج، وصبي يرضع.
"انظر: صحيح البخاري 2/ 254، صحيح مسلم 4/ 1976، مسند أحمد 2/ 307".
2 لم أجد هذا الحديث فيما اطلعت عليه من كتب الحديث، ولا في الفهارس والمفاتيح المساعدة لذلك، ولا يظهر فيه دلالة على موضوع البحث..
3 هذا طرف من حديث شريف، وتمامه: "ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به".
رواه الطبراني وأبو نعيم والعسكري وغيرهم عن ابن عمر مرفوعاً. قال العسكري: أحسبه وهماً. والصواب أنه من قول عمر رضي الله عنه، وأن الأحنف قال: قال لي عمرُ: يا أحنف، من كثر ضحكه ... ومن كثر كلامه .... وسنده ضعيف، كما قاله الزين العراقي.
"انظر كشف الخفا 2/ 274".
4 في ع ز: يكن. وهو خطأ.
5 في ض: بنطق.
6 في ع: محفوظ مكتوب.
7 في ش ز ع ب: القديم. وانظر: فواتح الرحموت 2/ 6، فتاوى ابن تيمية 12/ 164، 210، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 124.
8 في ب ز ض: المصنف.(2/61)
وَالْمُحَدِّثِينَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ، وَصَحَّحُوهُ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، بَلْ أَكْثَرَ. فَلا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِتَشْبِيهٍ، وَلا تَعْطِيلٍ1.
وَقَدْ خَرَّجَ الْفَاضِلُ النَّاقِدُ أَبُو بَكْرٍ الْمِصْرِيُّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مِنْهَا. وَذَكَرَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. نَقَلَهُ الطُّوفِيُّ فِي "شَرْحِهِ".
وَكَذَلِكَ جَمَعَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ2. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" وَ3فِي "خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ". وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ فِي "جُزْءٍ مُفْرَدٍ" لَهُ أَيْضًا4.
الْحَدِيثُ الأَوَّلُ: مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجْت إلَى الشَّامِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "5 يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ - أَوْ قَالَ10::
ـــــــ
1 قارن ما جاء في الإنصاف للباقلاني ص 129 وما بعدها.
2 هو عبد الغني بن عبد الواحد بن علي، تقي الدين، أبو محمد، المقدسي الصالحي الحنبلي، الإمام الحافظ المحدث. قال السيوطي: "كان غزير الحفظ والإتقان، وقيِّماً يجمع فنون الحديث، كثير العبادة، ورعاً، ماشياً على قانون السلف، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، له تصانيف كثيرة، منها: "المصباح"، و"نهاية المراد" و"الكمال" و"العمدة" و"تحفة الطالبين" و"الروضة" و"الذكر"، و"محنة الإمام أحمد" وغيرها. حدث في دمشق، ثم خرج إلى مصر، ومات فيها سنة 600هـ.
"انظر: طبقات الحفاظ ص 485، ذيل طبقات الحنابلة 2/ 5، شذرات الذهب 4/ 345، حسن المحاضرة 1/ 354، تذكرة الحفاظ 4/ 1372، البداية والنهاية 13/ 38".
3 ساقطة في ب ز ض.
4 قال في "شرح الكافية": "جمعها ضياء الدين المقدسي، وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي، الإمام العالم الحافظ الحجة، محدث الشام، شيخ السنة، المتوفى سنة 643هـ. "شرح الكافية 1/ 226". وسوف يشير إلى ذلك المصنف صفحة 64
5 ساقطة من ب.(2/62)
يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ" - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى الشَّامِ- "حُفَاةً 1 عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا". قَالَ: قُلْت: مَا بُهْمًا؟ قَالَ: "لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ 2، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ 3 ، لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يُطَالِبُهُ بِمَظْلِمَةٍ. وَلا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُطَالِبُهُ بِمَظْلِمَةٍ". قَالُوا: كَيْفَ؟ وَإِنَّا نَأْتِي اللَّهَ غُرْلاً4 بُهْمًا؟ قَالَ: "بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ 5".
أَخْرَجَ6 الْبُخَارِيُّ أَصْلَهُ فِي "صَحِيحِه"ِ تَعْلِيقًا مُسْتَشْهِدًا بِهِ إلَى قَوْلِهِ: "الدَّيَّانُ" 7 وَأَخْرَجَهُ شِهَابُ الدِّينِ فِي "الأَدَبِ الْمُفْرَدِ8"، وَأَخْرَجَهُ
ـــــــ
1 ساقطة من ز ع ب ض.
2 البُهْمُ في اللغة جمع بَهْمَة، وهي صغار الغنم. ومعناه هنا: أنه أمر لا قيمة له، فكأنه لا شيء معه. والغُرْلُ جمع أَغْرَل، وهو الذي لم يختن، على وزن أحمر.
"انظر: المصباح المنير 1/ 103، 2/ 684، فتح الباري 13/ 353".
3 قال الحليمي: هو مأخوذ من قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ}. وهو المحاسب والمجازي، لا يضيع عمل عامل. وقال الكرماني: "المعنى لا ملك إلا أنا"، ولا مجازي إلا أنا. "فتح الباري 13/ 354".
4 ساقطة من ض.
5 قال ابن حجر: "يعني أن القصاص بين المتظالمين إنما يقع بالحسنات والسيئات". "فتح الباري 13/ 354" ولذلك سمي هذا الحديث حديث القصاص والمظالم بين أهل الجنة وأهل النار.
6 في ع: وأخرج.
7 صحيح البخاري 4/ 294. وانظر: فتح الباري 13/ 353، الأدب المفرد ص 337.
8 أي أخرج هذا الحديث شهاب الدين ابن حجر في "فتح الباري" عن "الأدب المفرد". قال ابن حجر عند الكلام عن سند الحديث وطرقه: "وساق هنا "أي البخاري" من الحديث بعضه. وأخرجه بتمامه في "الأدب المفرد". "فتح الباري 13/ 353". وانظر: الأدب المفرد ص337 باب المعانقة.(2/63)
أَحْمَدُ1 وَأَبُو يَعْلَى2 وَالطَّبَرَانِيُّ3.
وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى ذَكَرَهَا الْحَافِظُ الضِّيَاءُ4 بِسَنَدِهِ إلَى جَابِرٍ. قَالَ
ـــــــ
1 رواه الإمام أحمد عن جابر، عن عبد الله بن أنيس. وأخرج النسائي بعضَه عن ابن عباس.
"انظر: مسند أحمد 3/ 495، سنن النسائي 4/ 92، فتح الباري 13/ 353".
2 هو أحمد بن علي بن المثنى، التميمي الموصلي، أبو يعلى، الحافظ، صاحب المسند الكبير. قال ابن العماد: "وصنف التصانيف، وكان ثقة صالحاً متقناً". وكان من أهل الصدق والأمانة والدين. وثقه ابن حبان، ووصفه بالإتقان والدين. وكان مسنده كالبحر مع غيره، ورحل إليه الناس، توفي سنة 307هـ.
انظر ترجمته في "شذرات الذهب 2/ 250، تذكرة الحفاظ 2/ 707، مرآة الجنان 2/ 249، طبقات الحفاظ ص 306".
3 هو سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، نسبة إلى طبرية، الإمام العلامة الحجة. ولد بعكا، وسمع بالشام، والحجاز، واليمن، ومصر، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وأصبهان، والجزيرة. وحدث عن ألف شيخ. وقد رحل في طلب الحديث، وكان بصيراً بالعلل، والرجال والأبواب. صنف تصانيف كثيرة، منها: "المعتجم الكبير"، وهو المسند، و"المعجم الأوسط" عن شيوخه، و"المعجم الصغير"، و"دلائل النبوة"، و"الأوائل"، و"التفسير" وغيرها من المصنفات المفيدة. قال الذهبي: "ومع سعة روايته لم ينفرد بحديث"، توفي سنة 360هـ.
انظر ترجمته في تذكرة "الحفاظ 3/ 912، طبقات الحنابلة 2/ 49، وفيات الأعيان 2/ 141، طبقات المفسرين 1/ 198، ميزان الاعتدال 2/ 195، شذرات الذهب 3/ 30، طبقات الحفاظ ص 372، البداية والنهاية 11/ 270".
4 هو محمد بن عبد الواحد بن أحمد، السعدي الحنبلي، ضياء الدين، المقدسي، أبو عبد الله، الإمام الحافظ الحجة، محدث الشام، وشيخ السنة. قال ابن العماد: "وهو حافظ متقن ثبت ثقة، نبيل الحجة، عالم بالحديث وأحوال الرجال، وهو ورع تقي زاهد عابد محتاط في أكل الحلال، مجاهد في سبيل الله". له تصانيف كثيرة مشهورة، منها: "الأحاديث المختارة"، وو"فضائل الأعمال"، و"صفة الجنة"، و"صفة النار"، و"أفراد الحديث"، و"الرواة عن البخاري"، و"دلائل النبوة" وغيرها. توفي بدمشق سنة 643هـ.
انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ 4/ 1405، طبقات الحفاظ ص 494، ذيل طبقات الحنابلة 2/ 236، شذرات الذهب 5/ 224".
وفي ب ع: أيضاً.(2/64)
جَابِرٌ: "بَلَغَنِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ فِي الْقِصَاصِ. وَكَانَ صَاحِبُ الْحَدِيثِ بِمِصْرَ1، فَاشْتَرَيْت بَعِيرًا فَشَدَدْت عَلَيْهِ رَحْلاً، وَسِرْت حَتَّى وَرَدْت مِصْرَ، فَمَضَيْتُ2 إلَى بَابِ الرَّجُلِ الَّذِي بَلَغَنِي عَنْهُ الْحَدِيثُ. فَقَرَعْت بَابَهُ، فَخَرَجَ إلَيَّ مَمْلُوكُهُ. فَنَظَرَ فِي وَجْهِي وَلَمْ يُكَلِّمْنِي، فَدَخَلَ إلَى سَيِّدِهِ. فَقَالَ: أَعْرَابِيٌّ 3عَلَى الْبَابِ3، فَقَالَ: سَلْهُ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ. فَخَرَجَ إلَيَّ مَوْلاهُ. فَلَمَّا تَرَاءَيْنَا اعْتَنَقَ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ. فَقَالَ: يَا جَابِرُ، مَا جِئْت تَعْرِفُ؟ قَالَ4: فَقُلْت: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِصَاصِ، وَلا أَظُنُّ أَنَّ5 أَحَدًا مِمَّنْ مَضَى أَوْ مِمَّنْ بَقِيَ أَحْفَظُ لَهُ مِنْك. قَالَ: نَعَمْ يَا جَابِرُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا، ثُمَّ يُنَادِي بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، غَيْرِ فَظِيعٍ، يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَنْ قَرُبَ: أَنَا الدَّيَّانُ، لا تَظَالُمَ الْيَوْمَ. أَمَا وَعِزَّتِي لا يُجَاوِرُنِي الْيَوْمَ ظَالِمٌ وَلَوْ لَطْمَةً بِكَفٍّ، أَوْ يَدٍ عَلَى يَدٍ. أَلا وَإِنَّ أَشَدَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي: عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ. فَلْتَرْتَقِبْ أُمَّتِي الْعَذَابَ إذَا تَكَافَأَ النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَالرِّجَالُ بِالرِّجَالِ".
الْحَدِيثُ الثَّانِي: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلائِكَةُ
ـــــــ
1 جاء في رواية الضياء أن عبد الله بن أنيس كان بمصر، بينما صرحت أكثر كتب التراجم والحديث أنه كان بالشام.
2 في ز: فنصبت.
3 ساقطة من ب ض.
4 ساقطة من ب ع ض.
5 ساقطة من ب ع ز.(2/65)
بِأَجْنِحَتِهَا 1خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ6. كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ. فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ - إلَى آخِرِهِ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد2 وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ3.
الثَّالِثُ: مَا رَوَى ابْنُ4 مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ5 صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا فَيُصْعَقُونَ، فَلا يَزَالُونَ كَذَلِكَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ، مَاذَا قَالَ رَبُّك؟ قَالَ: يَقُولُ: الْحَقَّ. قَالَ: فَيُنَادُونَ الْحَقَّ الْحَقَّ".
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ6.
ـــــــ
1 في ش ز ع ب: تصديقاً له، وفي البخاري: خضعاناً، وفي ض والترمذي وابن ماجه: خضعاناً لقوله.
2 هو سليمان بن الأشعث بن شداد، أبو داود السجستاني، ويقال له: السِّجْزيّ. قال النووي: "واتفق العلماء على الثناء على أبي داود، ووصفه بالحفظ التام، والعلم الوافر، والإتقان والورع، والدين، والفهم الثاقب في الحديث وغيره، وفي أعلى درجات النسك والعفاف والورع". وعده الشيرازي وابن أبي يعلى من أصحاب أحمد. وذكره العبادي والسبكي في طبقات الشافعية، وهو صاحب كتاب "السنن". توفي بالبصرة سنة 275هـ.
انظر في ترجمته "تهذيب الأسماء 2/ 224، شذرات الذهب 2/ 167، وفيات الأعيان 2/ 138، طبقات المفسرين 1/ 201، المنهج الأحمد 1/ 175، طبقات الحنابلة 1/ 159، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2/ 293، طبقات الشافعية للعبادي ص 60، تذكرة الحفاظ 2/ 591، طبقات الحفاظ ص 261، الخلاصة ص 150".
3 انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي 3/ 146، 179، 4/ 294، سنن أبي داود 2/ 358، تحفة الأحوذي 9/ 90، سنن ابن ماجه 1/ 70، خلق أفعال العباد ص 13، 60، فتح الباري 13/ 354، الأسماء والصفات للبيهقي 1/ 200.
4 في ع: عن ابن.
5 ساقطة من ض.
6 سنن أبي داود 2/ 537. وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" بعد الحديث: وقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه نحوه من حديث عكرمة مولى ابن عباس عن أبي هريرة. "مختصر سنن أبي داود 7/ 127". ولعل المنذري يشير إلى حديث أبي هريرة" السابق.(2/66)
الرَّابِعُ: مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ السَّلِسَةِ 1 عَلَى الصَّفَا. قَالَ: فَيُفَزَّعُونَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ. فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ، مَاذَا قَالَ رَبُّك؟ قَالَ فَيَقُولُ: الْحَقَّ. قَالُوا: الْحَقَّ الْحَقَّ " 2.
رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ3 الصَّبَّاحِ بْنِ أَبِي سُرَيْجٍ4 عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ5
ـــــــ
1 في ش: السلسة.
2 رواه البخاري معلقاً، ووصله البيهقي في "الأسماء والصفات". ورواه أحمد عن أبي معاوية. وقد توسع ابن حجر في ذكر طرقه وأسانيده، ورجح صحته. ورواه البخاري في "خلق أفعال العباد".
"انظر: فتح الباري 13/ 352، الأسماء والصفات 1/ 201، خلق أفعال العباد ص 60، تفسير الطبري 22/ 90".
3 في ش: عن. وفي ض: بن أبي.
4 هو أحمد بن أبي سريج الصباح، وقيل: أحمد بن عمر الصباح، النهشلي الرازي، أبو جعفر المقرئ. قرأ على الكسائي. وروى عن شعيب بن حرب وأبي معاوية الضرير وجماعة. وحدث عنه البخاري وأبو داود والنسائي في كتبهم، وأبو بكر بن أبي داود وأبو حاتم، وقال: صدوق. مات بعد سنة 240هـ، وقال ابن الجوزي: مات سنة 230هـ.
انظر في ترجمته "معرفة القراء الكبار للذهبي 1/ 178، تهذيب التهذيب 1/ 44، الخلاصة ص 6، 7، طبقات القراء 1/ 63، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2/ 25".
وفي ش ض: شريح.
5 هو محمد بن خازم، أبو معاوية الضرير، التيمي، الكوفي، الحافظ. قال ابن حبان: "كان حافظاً، ولكن كان مرجئاً خبيثاً". وقال الذهبي: "أحد الأئمة الأعلام الثقات، لم يتعرض له أحد، احتج به الشيخان، وقد اشتهر عنه غلو التشيع". توفي سنة 195هـ. انظر ترجمته في "ميزان الاعتدال 4/ 575، طبقات الحفاظ ص 122، تذكرة الحفاظ 1/ 294، شذرات الذهب 1/ 343، الخلاصة ص 334، نكت الهميان ص 247".(2/67)
الْخَامِسُ: بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ.
قَالَ الْمُوَفَّقُ فِي تَصْنِيفِهِ: رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ.قَالَ: سَأَلْت أَبِي، فَقُلْت: يَا أَبَتِ1، الْجَهْمِيَّةُ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ. فَقَالَ: كَذَبُوا، إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ2، ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ3 بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ4. قَالَ: حَدَّثَنِيْ الأَعْمَشُ5 عَنْ أَبِي
ـــــــ
1 في ض: يا أبي.
2 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 23.
3 في ش ز ع ب: عبد الله. وهو خطأ. ولم أجد في جميع كتب التراجم التي رجعت إليها اسم "عبد الله المحاربي". وإنما هو عبد الرحمن. وقد جاء في "الخلاصة" أن عبد الرحمن روى عن الأعمش، وأن أحمد روى عنه، كما أكّد الذهبي ذلك في "ميزان الاعتدال" كما سيأتي في ترجمته. وفي مسند الإمام أحمد: "حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش". وقال ابن حجر: "فقد وافقه عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش، أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب "السنة" له عن أبيه عن المحاربي".
"انظر: مسند أحمد 1/ 448، فتح الباري 13/ 356، ميزان الاعتدال 2/ 585، الخلاصة ص 234".
4 هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي، أبو محمد الكوفي. روى عن الأعمش، وروى عنه ابن أبي شيبة وأحمد بن حنبل, وثقه ابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم: صدوق إذا حدث عن الثقات، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة، فيفسد حديثه بذلك. وقال الذهبي: حدث عنه أحمد وهناد، مات بالكوفة سنة 195هـ.
انظر ترجمته في "الخلاصة ص 234، ميزان الاعتدال 2/ 585، شذرات الذهب 1/ 343، تذكرة الحفاظ 1/ 312، طبقات الحفاظ ص 129".
5 هو سليمان بن مهران، أبو محمد، مولى بني كاهل، المعروف بالأعمش. كان محدث الكوفة وعالمها، وكان أقرأهم لكتاب الله وأعلمهم بالفرائض وأحفظهم للحديث. قال ابن خلكان: "كان ثقة عالماً فاضلاً، رأى أنس بن مالك وكلمه، ولم يرزق السماع عليه، وروى عن عبد الله بن أبي أوفى حديثاً واحداً ... وكان لطيف الخلق مزاحاً". توفي سنة 148هـ. انظر في ترجمته "وفيات الأعيان 2/ 136، طبقات القراء 1/ 315، تذكرة الحفاظ 1/ 154، الخلاصة ص 155، شذرات الذهب 1/ 220، تاريخ بغداد 9/ 3، طبقات الحفاظ ص 67، مشاهير علماء الأمصار ص 111".(2/68)
الضُّحَى1 عَنْ مَسْرُوقٍ2 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ صَوْتَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ.
قَالَ السِّجْزِيُّ: "وَمَا فِي رُوَاةِ هَذَا الْخَبَرِ إلاَّ إمَامٌ مَقْبُولٌ". اهـ.
وَتَتِمَّةُ الْحَدِيثِ "فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا، حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ - قَالَ: سَكَنَ عَنْ قُلُوبِهِمْ - نَادَى أَهْلُ السَّمَاءِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ. قَالَ: كَذَا وَكَذَا".
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ3 وَغَيْرُهُ: وَمِثْلُ هَذَا لا يَقُولُهُ ابْنُ مَسْعُودٍ إلاَّ تَوْقِيفًا؛ لأَنَّهُ إثْبَاتُ صِفَةٍ لِلذَّاتِ. اهـ. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
ـــــــ
1 هو مسلم بن صبيح الهمداني مولاهم، أبو الضحى، العطار لكوفي التابعي. روى عن علي مرسلاً، وعن ابن عباس وجماعة. وروى عنه الأعمش وغيره. وثقه ابن معين وأبو زرعة، وكان ثقة كثير الحديث، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة 100هـ.
انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب 1/ 132، الخلاصة ص 375، طبقات ابن سعد 6/ 288، الجرح والتعديل للرازي 10/ 186".
2 هو مسروق بن الأجدع بن مالك، من هَمْدان، ويكنى أبا عائشة، الإمام الكوفي، القدوة الفقيه العابد، صاحب ابن مسعود، وروى عن أبي بكر وعمر ومعاذ وعلي. وروى له أصحاب الكتب الستة. كان يصلي حتى تورمت قدماه، قال الشعبي: ما رأيت أطلب للعلم منه. توفي سنة 63هـ.
انظر ترجمته في "طبقات الفقهاء ص79، طبقات القراء 2/ 294، تذكرة الحفاظ 1/ 49، شذرات الذهب 1/ 71، الخلاصة ص 374، طبقات الحفاظ ص 14، المعارف ص 432".
3 هو محمد بن محمد بن الحسين، القاضي الشهيد، أبو الحسين، ابن شيخ المذهب القاضي أبي يعلى الفراء. كان عارفاً بالمذهب، متشدداً في السنة، كثير الحط على الأشاعرة، وكان مفتياً مناظراً، له تصانيف كثيرة في الأصول والفروع، منها: "المجموع" في الفروع، و"المفردات في الفقه"، و"المفردات في أصول الفقه"، و"إيضاح الأدلة في الرد على الفرق الضالة المضلة"، و"طبقات الحنابلة" وغيرها. دخل عليه خدمه، وهو نائم في بيته، فأخذوا ماله وقتلوه سنة 526هـ.
انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 1/ 176، شذرات الذهب 4/ 79، المدخل إلى مذهب أحمد ص 210.(2/69)
السَّادِسُ: مَا رَوَى بَهْزُ1بْنُ حَكِيمِ2 بْنِ مُعَاوِيَةَ2 عَنْ أَبِيهِ3 عَنْ جَدِّهِ4: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فُزِّعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ لانْحِطَاطِهِ، وَسَمِعُوا صَوْتَ الْوَحْيِ كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنْ صَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا. فَكُلَّمَا مَرَّ بِأَهْلِ سَمَاءٍ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ، بِمَ أُمِرْت؟ فَيَقُولُ: نُورُ الْعِزَّةِ الْعَظِيمُ. كَلامُ اللَّهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ" 5.
السَّابِعُ: مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ
ـــــــ
1 ساقطة من ز ع ب ض.
2 هو بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، أبو عبد الملك، القشيري البصري. روى عن أبيه وزرارة بن أوفى. وروى عنه الزهري وابن عون وسليمان التيمي والثوري والحمادان وغيرهم. قال ابن معين: هو ثقة يحتج به. وقال يحيى: إسناده عن أبيه عن جده صحيح. ذكره البغوي في الصحابة، ولم يوافقه ابن حجر وابن عبد البر. توفي سنة 140هـ.
انظر ترجمته في "تهذيب الأسماء 1/ 138، الإصابة 1/ 166، الاستيعاب 1/ 180، ميزان الاعتدال 1/ 353، الخلاصة ص 53".
3 هو حكيم بن معاوية بن حَيْدة، والد بهز بن حكيم، وهو أبو بهز القشيري البصري التابعي، ثقة معروف، روى عنه ابنه بهز والحريري، وثقه ابن حبان.
"انظر: تهذيب الأسماء 1/ 167، الخلاصة ص 91".
4 هو معاوية بن حَيْدة بن معاوية القشيري، نزل البصرة، ومات بخراسان، له وفادة وصحبة. وأخرج له أصحاب السنن، وعلق له البخاري.
"انظر: الإصابة 3/ 432، الاستيعاب 3/ 404، الخلاصة ص 381".
5 رواه ابن مردويه. "انظر: فتح الباري 13/ 355".(2/70)
قُلُوبِهِمْ} - الآيَةَ1. قَالَ: لَمَّا أَوْحَى اللَّهُ الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم دَعَا الرَّسُولَ مِنْ الْمَلائِكَةِ لِيَبْعَثَهُ بِالْوَحْيِ. فَسَمِعَتْ الْمَلائِكَةُ صَوْتَ الْجَبَّارِ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ. فَلَمَّا2 كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ سَأَلُوهُ عَمَّا قَالَ؟ قَالُوا: الْحَقَّ، وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَقُولُ إلاَّ حَقًّا، وَأَنَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَوْتُ الرَّحْمَنِ كَصَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا - كُلَّمَا سَمِعُوهُ خَرُّوا سُجَّدًا، فَلَمَّا رَفَعُوا رُؤُوْسَهُمْ قَالُوا: مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ3: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ4.
الثَّامِنُ: مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ5 قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَم. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِك بَعْثًا إلَى النَّارِ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ6.
التَّاسِعُ: مَا رَوَاهُ النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ7. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
1 الآية 23 من سبأ. وتتمة الآية: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
2 في ع ب ز ض: ولما.
3 في ش ز ع ب: قالوا.
4 رواه الطبري في تفسيره. وروى البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "إذا قضى الله -جل ذكره- أمراً تكلم، رجفت الأرض والسماء والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجداً".
"انظر: تفسير الطبري 22/ 91، خلق أفعال العباد ص 60".
5 هو الصحابي أبو سعيد الخدري، سعد بن مالك. ومرت ترجمته في المجلد الأول.
6 هذا طرف من حديث طويل رواه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي سعيد مرفوعاً.
"انظر: صحيح البخاري 2/ 233، 4/ صحيح مسلم 2/ 201، مسند أحمد 3/ 32، فتح الباري 13/ 355، خلق أفعال العباد ص60".
ورواه الترمذي عن عمران بن حصين. "انظر: تحفة الأحوذي 9/ 10".
7 هو الصحابي النوَّاسُ بن سَمْعان بن خالد العامري الكلابي. وله ولأبيه صحبة. له سبعة عشر حديثاً، انفرد له مسلم بثلاثة. روى عنه جبير بن نفير وأبو إدريس الخولاني.
"انظر: الإصابة 3/ 579، الاستيعاب 3/ 569، الخلاصة ص 406".(2/71)
"إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ بِأَمْرٍ أَخَذَتْ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صُعِقُوا وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُهُمْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، فَيَنْتَهِي 1 بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ إلَى 2 الْمَلائِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِهِ فِي 3 سَمَاءٍ سَأَلَهُ أَهْلُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: {الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 4. فَيَقُولُونَ 5 كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ فَيَنْتَهِي بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ 6 حَيْثُ أُمِرَ مِنْ السَّمَاءِ 7 وَالأَرْضِ".
رَوَاهُ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ بِسَنَدِهِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ8 مُتَّصِلاً إلَى النَّوَّاسِ9 بْنِ سَمْعَانَ10.
ـــــــ
1 في رواية: فيمضي "فتح الباري 13/ 355".
2 في ز ع ب: على.
3 ساقطة من ز. وفي ب ع: بـ.
4 الآية 23 من سبأ.
5 في ب: فيقول.
6 ساقطة من ش.
7 في ز: بالسماء. وفي ش ب ع ض: السماء.
8 هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، أبو محمد الأصبهاني، الحافظ، الملقب بأبي الشيخ، العابد القانت، صاحب التصانيف السائرة، كان حافظاً ثبتاً ثقة مأموناً متقناً. ومن مصنفاته: "الأحكام"، و"التفسير". توفي سنة 369 هـ وله 95 سنة.
"انظر: طبقات المفسرين 1/ 240، طبقات القراء 1/ 447، شذرات الذهب 3/ 69، تذكرة الحفاظ 3/ 945".
9 في ض: نواس.
10 روى حديث النواس ابن جرير الطبري وابن خزيمة وابن أبي حاتم والبيهقي.
"انظر: تفسير ابن كثير 5/ 551، تفسير الطبري 22/ 91، الأسماء والصفات 1/ 203".(2/72)
الْعَاشِرُ: مَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ. وَيَقُولُ: "أَلا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ1 وَابْنُ مَاجَهْ2.
الْحَادِيَ عَشَرَ: مَا رَوَاهُ جَابِرٌ. قَالَ: "لَمَّا قُتِلَ أَبِيْ3 يَوْمَ أُحُدٍ. قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا جَابِرُ، أَلا أُخْبِرُك بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لأَبِيك"؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: "وَمَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، إلاَّ أَبَاك. فَكَلَّمَ اللَّهُ أَبَاك
ـــــــ
1 هو أحمد بن شعيب بن علي بن سنان الخراساني النسائي، أبو عبد الرحمن. وهو القاضي الإمام الحافظ، أحد الأئمة المبرزين، والحفاظ المتقنين، والأعلام المشهورين. قال الحاكم: "كان النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار، وأعرفهم بالرجال". له مصنفات، منها: "السنن الكبرى"، و"السنن الصغرى"، و"خصائص علي"، و"مسند علي"، و"مسند مالك" وغيرها. مات شهيداً بفلسطين سنة 303هـ.
انظر ترجمته في "طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/ 14، طبقات القراء 1/ 349، العقد الثمين 3/ 45، وفيات الأعيان 1/ 59، تذكرة الحفاظ 2/ 698، شذرات الذهب 2/ 239، طبقات الحفاظ ص 303، الخلاصة ص 7، حسن المحاضرة 1/ 349".
2 رواه أصحاب السنن وأحمد. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. ويظهر أن النسائي رواه في السنن الكبرى، لأنني لم أجده في السنن الصغرى المطبوعة، ولم يشر عبد الغني المقدسي إلى رواية النسائي له. ورواه البخاري في خلق أفعال العباد.
"انظر: سنن أبي داود 2/ 536، تحفة الأحوذي 8/ 242، سنن ابن ماجه 1/ 73، ومسند أحمد 3/ 390، المستدرك 2/ 612، خلق أفعال العباد ص 13، 28، ذخائر المواريث 1/ 128".
3 هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي السلمي، معدود في أهل العقبة وبدر، وكان من النقباء، واستشهد يوم أحد. وهو أول قتيل قتل من المسلمين يومئذ، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة، وجدع أنفه، وقطعت أذناه، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها، وأن الله تعالى كلمه كفاحاً".
"انظر: الإصابة 2/ 350، الاستيعاب 2/ 339، حلية الأولياء 2/ 4".(2/73)
كِفَاحًا. فَقَالَ: يَا 1 عَبْدَ اللَّهِ تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِك 2 . قَالَ: يَا رَبِّ تَرُدُّنِي فَأُقْتَلُ فِيك ثَانِيَةً2. فَقَالَ: سَبَقَ مِنِّي الْقَوْلُ 3 : "أَنَّهُمْ إلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ 4 ". فَقَالَ: يَا رَبِّ أَخْبِرْ مَنْ وَرَائِي". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ 5 عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 6.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ7.
الثَّانِيَ عَشَرَ: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَأَ طَهَ وَيس قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفِ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ الْمَلائِكَةُ 8، قَالَتْ: طُوبَى لأُمَّةٍ يَنْزِلُ هَذَا عَلَيْهِمْ، وَطُوبَى لأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا، وَطُوبَى لأَلْسُنٍ تَتَكَلَّمُ بِه ِ9 " .
رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ10.
ـــــــ
1 في الإصابة: يا عبدي سلني أعطك. رواه الترمذي. "انظر: الإصابة 2/ 350".
2 في ع: ثانيا.
3 في ض: القول مني.
4 قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ}. يس/ 31.
5 في ز: أحياء – الآية. وفي ب ع: أمواتا –الآية. وفي ض: في سبيل الله- الآية.
6 الآية 169 من آل عمران.
7 قال الترمذي: حديث حسن غريب. ورواه البخاري في "خلق أفعال العباد". ورواه الإمام أحمد مختصراً.
"انظر: تحفة الأحوذي 8/ 360، سنن ابن ماجه 1/ 68، 2/ 936، خلق أفعال العباد ص 14، مسند أحمد 3/ 361".
8 في مجمع الزوائد: الملائكة القران.
9 في مجمع الزوائد: بهذا.
10 هو محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري، أبو بكر، المحدث الحافظ الكبير، الثبت، إمام الأئمة حفظاً وفقهاً وزهداً، شيخ الإسلام، تفقه على المزني وغيره، وصنف ......=(2/74)
الثَّالِثَ عَشَرَ: مَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ1، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا، وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ 2 عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلاتِهِ، وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ".
قَالَ أَبُو نَضْرٍ3: يَعْنِي الْقُرْآنَ.
ـــــــ
=وجود واشتهر، وانتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان، مصنفاته تزيده عن مائة وأربعين كتاباً سوى المسائل، توفي سنة 311هـ.
انظر ترجمته في "طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/ 109، تذكرة الحفاظ 2/ 720، البداية والنهاية 11/ 149، طبقات القراء 2/ 97، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 105، شذرات الذهب 2/ 262، طبقات الحفاظ ص 310".
والحديث رواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: "وفيه إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، ضعفه البخاري بهذا الحديث، ووثقه ابن معين". "مجمع الزوائد 7/ 56". وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع. وقال ابن عدي: لم أجد لإبراهيم حديثاً أنكر من هذا، لأنه لا يرويه غيره. الموضوعات لابن الجوزي 1/ 110".
1 هو الصحابي صدي بن عجلان بن الحارث، أبو أمامة الباهلي، مشهور بكنيته، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة. أخرج الطبراني أنه شهد أحداً، لكن سنده ضعيف، وهو ممن بايع تحت الشجرة. وقال ابن حبان: كان مع علي بصفين، سكن مصر ثم انتقل إلى حمص، فسكنها ومات فيها، وهو آخر من مات من الصحابة بالشام، توفي سنة 86هـ، وله 106 سنوات.
"انظر: الإصابة 2/ 182، الاستيعاب 4/ 4، تهذيب الأسماء 2/ 176، شذرات الذهب 1/ 96، الخلاصة ص 464".
ولفظة الباهلي ساقطة من ز ع ض.
2 في ز ع ض ب: ليدور.
3 في ش ز ع ب ض: أبو نصر، وهو تصحيف. وقد نص الترمذي عليه، فروى الحديث عن أبي النضر عن بكر بن خنيس. "انظر: تحفة الأحوذي 8/ 229".
وأبو النضر هو سعيد بن أبي عَرُوبة مهران العدوي مولاهم، البصري، الحافظ العالم، شيخ البصرة في زمانه. روى عنه الأعمش وشعبة والثوري وابن المبارك. ولم يكن له كتاب، إنما كان يحفظ ذلك. وقال أبو حاتم: قبل أن يختلط ثقة. وكان أعلم الناس بحديث قتادة، وكان يقول بالقدر سراً. توفي سنة 156هـ.
"انظر: ميزان الاعتدال 2/ 151، المعارف ص 508، شذرات الذهب 1/ 239، الخلاصة ص 141، طبقات الحفاظ ص 78، تذكرة الحفاظ 1/ 177".(2/75)
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا بِلَفْظِ: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِعَبْدٍ..." وَسَاقَهُ أَيْضًا1 مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ2.
الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا رَوَاهُ عُثْمَانُ3 عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ، كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْهُ".
ـــــــ
1 ساقطة من ش.
2 رواه أحمد والترمذي. ورواه البخاري في "خلق أفعال العباد" موقوفاً على خباب بن الأرت، ثم قال: "مع أن هذا الخبر لا يصح لإرساله وانقطاعه. وقال المباركفوري: وفي سنده بكر بن خنيس وهو متكلم فيه".
وقوله: "بأفضل مما خرج منه"، يعني بأفضل من القرآن، وخرج منه، أي ظهر لنا كظهور الشيء من الشيء. وقيل: الضمير في "منه" عائد إلى العبد. وخروجه منه وجوده على لسانه محفوظاً في صدره، مكتوباً بيده، والمقصود أنه لا يوجد شيء من العبادات يتقرب العبد به إلى الله ويجعله وسيلة له أفضل من القرآن.
"انظر: تحفة الأحوذي 8/ 229، 230، مسند أحمد 5/ 268، فيض القدير 5/ 416، خلق أفعال العباد ص 13، 65".
3 هو عثمان بن عفان بن أبي العاص، القريشي الأموي، أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين، أبو عبد الله، ذو النورين، أسلم قديماً عندما دعاه أبو بكر إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة بزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد وفاته رقية تزوج أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى له 146 حديثاً. بويع بالخلافة سنة 24 هـ. وفتح في عهده شمال أفريقيا وفارس. وهو أحد المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان جواداً في سبيل الله، قتل شهيداً سنة 35هـ، ومناقبه كثيرة.
"انظر: الإصابة 2/ 462، الاستيعاب 3/ 69، تهذيب الأسماء 1/ 321، شذرات الذهب 1/ 40، الخلاصة ص 261، إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص 142، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 147".(2/76)
رَوَاهُ الْحَافِظُ أَيْضًا بِسَنَدِهِ1.
وَرَوَى أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: صَلَّيْت مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ 2عَلَى جِنَازَةٍ2 فَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: يَا رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ3. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "اُسْكُتْ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى، لَيْسَ بِمَرْبُوبٍ، مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ4".
الْخَامِسَ عَشَرَ: مَا رَوَاهُ أَبُو5 شُرَيْحٍ6. قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَبْشِرُوا، أَبْشِرُوا، أَلَسْتُمْ تَشْهَدُونَ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي
ـــــــ
1 لعله الحافظ ضياء الدين المقدسي الذي مرت ترجمته صفحة 64، أو الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، وهو المراد إذا أطلق الحافظ عند علماء الحديث. ورواه أبو يعلى في "معجمه" والبيهقي عن أبي هريرة. ورواه الترمذي في آخر حديث: "من شغله القرآن عن ذكري". ورواه البخاري عن أبي عبد الرحمن السلمي موقوفاً عليه في كتابه "خلق أفعال العباد". وأشار إلى تضعيفه فقال: "لو صح هذا الخبر لم يكن فيه ...." وقال ابن حجر: "وخرجه ابن عدي بسند ضعيف". ورواه الدارمي عن شهر بن حوشب. ورواه أحمد في كتاب "السنة" عن الحسن، وعن أبي هريرة.
"انظر: تحفة الأحوذي 8/ 244، فيض القدير 4/ 434، الفتح الكبير 2/ 268، خلق أفعال العباد ص 13، 65، السنة ص 22، سنن الدارمي 2/ 441، فتح الباري 13/ 352".
2 ساقطة من ز ش ب د ض.
3 في ش: لي.
4 وهو ما رواه الإمام أحمد عن وكيع "السنة ص 25"، ومرت الإشارة إليه صفحة 20. ومعنى "منه خرج أو بدأ" أن الله تعالى أمر به ونهى. "وإليه يعود" أي هو الذي يسأل العبد عما أمره وعما نهاه. وقال الطيبي: معنى قوله: "منه بدأ" أنه أنزله على الخلق ليكون حجة لهم وعليهم. ومعنى قوله: "إليه يعود" أن مآل أمر وعاقبته من حقيقته في ظهور صدق ما نطق به من الوعد والوعيد إليه تعالى.
"انظر فيض القدير 5/ 416، شرح الكافية 1/ 29، 205".
5 ساقطة من ز.
6 هو الصحابي خويلد بن عمرو، أبو شريح الخزاعي ثم الكعبي، أسلم قبل الفتح، وكان معه لواء خزاعة يوم الفتح. قال الواقدي: كان أبو شريح الخزاعي من عقلاء المدينة. وكان يحمل أحد ألوية بني كعب بن خزاعة يوم فتح مكة. وعندما جهز عمرو بن سعيد أمير المدينة البعث إلى مهاجمة مكة في عهد يزيد بن معاوية، جاءه أبو شريح وحذره من ذلك. رُوِيَ له عشرون حديثاً. ومات بالمدينة سنة 68هـ.
"انظر: الإصابة 4/ 101، الاستيعاب 4/ 101، تهذيب الأسماء 2/ 242، الخلاصة ص 452، شذرات الذهب 1/ 76".(2/77)
رَسُولُ اللَّهِ؟", فَقَالُوا1: بَلَى. فَقَالَ2: "فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ، طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ. فَتَمَسَّكُوا بِهِ. فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا" 3.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ4.
وَرَوَى مَعْنَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ5 فِي "الصَّحِيحِ" "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ
ـــــــ
1 في ز ع ب ض: قالوا.
2 في ع ض: قال.
3 رواه الطبراني عن جبير. "انظر: الفتح الكبير 1/ 17".
4 هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم، أبو بكر، الحافظ، الحجة، الثبت، النحرير، العبسي مولاهم، الكوفي. قال أبو عبيد: انتهى علم الحديث إلى أربعة؛ فأبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد أفقههم فيه. وقد صنف ابن أبي شيبة تصانيف كثيرة، منها: "المسند"، و"المصنف"، و"الأحكام"، و"التفسير"، و"السنن"، و"التاريخ"، و"الفتوح". مات سنة 235هـ.
انظر ترجمته في "طبقات المفسرين 1/ 246، طبقات الحفاظ ص 189، ميزان الاعتدال 2/ 490، تذكرة الحفاظ 2/ 432، تاريخ بغداد 10/ 66، البداية والنهاية 10/ 315، شذرات الذهب 2/ 85، الخلاصة ص 212، الفهرست ص 320".
5 هو سليمان بن داود بن الجارود البصري، أبو داود الطيالسي الحافظ، أحد الأعلام. قال الخطيب: "كان حافظاً مكثراً ثقة ثبتاً". وقال ابن المديني: "ما رأيت أحداً أحفظ من أبي داود". وقال أبو حاتم: "أبو داود محدث صدوق كثير الخطأ"، وهو صاحب "المسند". ماب بالبصرة سنة 203هـ، وقيل سنة 204هـ.
انظر ترجمته في "ميزان الاعتدال 2/ 203، تذكرة الحفاظ 1/ 351، تاريخ بغداد 9/ 24، الخلاصة ص 151، طبقات الحفاظ ص 149، شذرات الذهب 2/ 12".
وفي ض: والطيالسي.(2/78)
سَيُكَلِّمُهُ 1 رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ" 2.
وَفِي أَحَادِيثَ أُخَرَ تَبْلُغُ3 نَحْوَ الثَّلاثِينَ وَارِدَةٌ فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ4، بَعْضُهَا صِحَاحٌ وَبَعْضُهَا حِسَانٌ، وَيُحْتَجُّ بِهَا أَخْرَجَهَا الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ غَالِبَهَا، وَاحْتَجَّ بِهِ، وَأَخْرَجَ غَالِبَهَا أَيْضًا ابْنُ حَجَرٍ فِي "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ5". وَاحْتَجَّ بِهَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ. وَقَدْ صَحَّحُوا هَذِهِ الأَحَادِيثَ وَاعْتَقَدُوهَا مَعَ مَا فِيهَا، وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا، مُنَزِّهِينَ اللَّهَ6 عَمَّا لا يَلِيقُ بِجَلالِهِ مِنْ شُبُهَاتِ الْحُدُوثِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالُوا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ7.
فَإِذَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنْ النَّاسِ مَا يُقَدَّرُ 8عُشْرَ مِعْشَارِ هَؤُلاءِ5 يَقُولُ9: لَمْ يَصِحَّ
ـــــــ
1 في ز ش: سيكلم.
2 هذا طرف من حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد عن عدي بن حاتم.
"انظر: صحيح البخاري 2/ 54، 4/ 287، صحيح مسلم 2/ 702، تحفة الأحوذي 7/ 98، سنن ابن ماجه 1/ 66، مسند أحمد 4/ 256، السنة للإمام أحمد ص 43، الفتح الكبير 3/ 124، منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود 2/ 232.
3 في ز ع ب: تبلغ هذه.
4 جاء في "شرح الكافية": "وقد رُوي في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد عن أربعين حديثاً، بعضها صحاح، وبعضها حسان، ويحتج بها، أخرجها الإمام الحافظ ضياء الدين المقدسي وغيره. وأخرج أحمد غالبها ...." ونقل ما ذكره المصنف أعلاه. "شرح الكافية 1/ 229".
5 فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 352.
6 في ز ع ب: لله.
7 انظر: فتح الباري 13/ 356، مجموعة الرسائل والمسائل 3/ 74، وقارن ما جاء في "فواتح الرحموت 2/ 7".
8 في ض: قدر معشارهم.
9 في ز: يقوله.(2/79)
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ وَاحِدٌ1 أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ. وَرَأَيْنَا2 هَؤُلاءِ الأَئِمَّةَ أَئِمَّةَ الإِسْلامِ الَّذِينَ اعْتَمَدَ أَهْلُ الإِسْلامِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَعَمِلُوا بِهَا وَدَوَّنُوهَا وَدَانُوا3 اللَّهَ بِهَا صَرَّحُوا بِأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ لا يُشْبِهَانِ صَوْتَ مَخْلُوقٍ وَلا حَرْفَهُ بِوَجْهٍ أَلْبَتَّةَ. مُعْتَمَدِينَ عَلَى مَا صَحَّ عِنْدَهُمْ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ الْمَعْصُومِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، الَّذِي لا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى4، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ الْجَازِمِينَ بِهِ، الَّذِي لا يَعْتَرِيهِ شَكٌّ وَلا وَهْمٌ وَلا خَيَالٌ: نَفْيَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ وَالتَّكْيِيفِ5، وَأَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي صِفَةِ الْكَلامِ كَمَا يَقُولُونَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ6 تَعَالَى، مِنْ النُّزُولِ وَالاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْيَدِ وَالْقَدَمِ وَالْوَجْهِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا7، كَمَا قَالَهُ سَلَفُ الأُمَّةِ، مَعَ إثْبَاتِهِمْ لَهَا. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ} 8، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 9.
وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ السِّجِسْتَانِيُّ - رَادًّا عَلَى مُنْكِرِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ - عَنْ
ـــــــ
1 في ب ز ش: والحق.
2 في ض: ورأيت.
3 في ع: لله.
4 هذا اقتباس من قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوْحَى}. النجم/ 3-4.
5 انظر: فتح الباري 13/ 356، مجموعة الرسائل والمسائل 2/ 153.
6 في ع: التي لله.
7 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 420، 465. التعرف لمذهب أهل التصوف ص 14 وما بعدها.
8 الآية 32 من يونس.
9 الآية 40 من النور.(2/80)
الزُّهْرِيِّ1 عَنْ أَبِي بَكْرِ "بْنِ" 2 عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ3 عَنْ جَرِيرٍ4 عَنْ كَعْبٍ5 أَنَّهُ قَالَ: "لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ لِسَانِهِ،
ـــــــ
1 هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، الزهري، أبو بكر المدني التابعي، أحد الأعلام، نزل الشام. روى عن الصحابة والتابعين. رأى عشرة من الصحابة، وكان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار، فقيهاً فاضلاً، ينسب إلى جد جده "شهاب". وكان يأتي دور الأنصار فلا يبقي فيها شابًّا إلا سأله، ولا كهلاً، ولا أنثى ولا عجوزاً إلا سأله. قال الشيرازي: "كان أعلمهم بالحلال والحرام". توفي سنة 124هـ.
انظر ترجمته في "طبقات الحفاظ ص 42، تذكرة الحفاظ 1/ 108، طبقات الفقهاء ص 63، حلية الألياء 3/ 360، طبقات القراء 2/ 262، وفيات الأعيان 3/ 317، شذرات الذهب 1/ 162، الخلاصة ص 359، تهذيب الأسماء 1/ 90".
2 ساقطة من جميع النسخ، ولا بد من إضافتها.
3 هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث القرشي المخزومي، المدني التابعي، أحد فقهاء المدينة السبعة، واسمه كنيته في الصحيح. قال النووي: "وكان ثقة عالماً عاقلاً سخياً كثير الحديث". وكان يقال له راهب قريش، لفضله وكثرة صلاته. واستصغر يوم الجمل، فردَّ هو وعروة بن الزبير، وذهب بصره بعد، وكان هو وإخوته ثقات جلة، يضرب بهم المثل. دخل مغتسله فمات فجأة فيه سنة 94هـ بالمدينة.
انظر ترجمته في "تهذيب الأسماء 2/ 194، وفيات الأعيان 1/ 253، مشاهير علماء الأمصار ص 65، تذكرة الحفاظ 1/ 63، طبقات الحفاظ ص 24، طبقات الفقهاء 47، 59، 61، المعارف ص 282، نكت الهميان ص 131، الخلاصة ص 444".
4 في ش ز: بن. وهو خطأ.
5 هو كعب بن ماتع الحميري، أبو إسحاق، المعروف بكعب الأحبار. أدرك النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، وأسلم في خلافة أبي بكر أو عمر. وقيل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. والراجح أن إسلامه كان في خلافة عمر. وكان مسكنه في اليمن، ثم قدم المدينة، ثم أتى الشام فمات بحمص سنة 32هـ، وقيل غير ذلك. وكان على دين اليهود، وكان عنده علم كثير، وكان يقص على الناس ثم أمسك حتى أمره معاوية بذلك. وذكره معاوية فقال: "إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين عند أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب". أخرجه البخاري. وأوّله بعضهم بأن مراده بالكذب عدم وقوع ما يخبر به أنه سيقع، لا أنه يكذب. توفي سنة 32هـ بحمص، وقيل سنة 35هـ.
انظر ترجمته في "الإصابة 3/ 315، الخلاصة ص 321، تهذيب الأسماء 2/ 68، مشاهير علماء الأمصار ص 118، شذرات الذهب 1/ 40".(2/81)