شرح العلامة الأخضري على سلمه في علم المنطق
(في آخر الشرح المنظومة كاملة مع الضبط والشكل)
ـ نقلها الوهراني باعتماد طبعة البابي الحلبي ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل قلوب العلماء سموات تتجلى فيها شموس المعارف، ووسع دوائر أفهامهم فأولجهم قباب المخدرات من عرائس المعاني واللطائف، وحباهم بحدائق العقول فتناولوا من ثمراتها فأصبحت آفاق قلوبهم مشرقة بسائر العلوم، ففاقوا من عداهم من الورى واستقروا على ذرى المجد وحلوا منابر العز بما سبق لهم في الكتاب المرقوم، فتاهوا في رحاب العلم وعرصات الفهم على بساط حجج المعقول متبعين آثار الأصول طلباً لتحقيق المنقول، فأصبحوا على بصيرة من الدين، وفي أبهج السبل سالكين؛
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الكريم الذي تقدّس وتعالى عن أن يُحاط رفيع مجده وعظيم جلاله وكبريائه؛ وأشهد أن سيدنا ومولانا وحبيبنا وشفيعنا وذخرنا محمداً عبده ورسوله قطب الجمال وتاج الكمال وديوان الشرف وبدر الترف خاتم رسله وأنبيائه وسيد أصفيائه وأزكى أوليائه صلى الله عليه وآله وأصحابه صلاة أرقى بها مراقي الإخلاص وأنال بها غاية الاختصاص.
(أما بعد) فلما وضعت الأرجوزة المسماة بالسلم المرونق في علم المنطق وجاءت بحمد الله كافية، ولمقاصد من فنها حاوية راودني بعض الإخوان من الطلبة أكرمهم الله المرة بعد المرة على أن أضع عليها شرحاً مفيداً يبث ما انطوت عليه من المعاني ويشيد ما تقاصر فيها من المباني فأجبته لذلك طالباً من الله تعالى حسن التوفيق إلى مهايع التحقيق وإن كنت لست أهلاً لذلك ولكني حملني عليه تفاؤلي ولم أضعه لمن هو أعلى مني بل لأمثالي من المبتدئين؛ واللهَ اللهَ يا أخي في الاعتذار وترك الاعتراض، المؤمن يلتمس العذر لأخيه المؤمن، واللهَ واللهَ في العاء لي ولوالديّ بالمغفرة والرحمة وبالله التوفيق.(1/1)
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي قَدْ أَخْرَجا ... - ... نَتائِجَ الفِكْرِ لأَرْبابِ الحِجَا
قال المحققون الحمد هو الثناء بالكلام على المحمود بجميل صفاته مطلقاً سواء كانت من باب الإحسان أو الكمال؛ والشكر هو الثناء بالكلام وغيره على المنعم بسبب إنعامه على الشاكر. فتبين من هذا أن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه يجتمعان في صورة ويتفرد كل قسم بصورة، فالحمد أعم سبباً وأخص محلاًّ، والشكر بالعكس. وإنما عبرنا بالكلام دون اللسان كما فعل بعض ليشمل الحمد المحامد الأربعة، وفي كون أل في الحمد جنسية أو عهدية اضطراب والأصح أنها جنسية واختار بعضهم العهدية محتجاً بما يخرجنا بسطه عن الغرض من الإيجاز والاختصار.
ولما كان اسم الجلالة أعظم الأسماء لكونه جامعاً للذات والصفات اقترن به الحمد دون غيره من الأسماء. وإنما افتتحنا هذا الرجز بالحمد اقتداء بالقرآن العظيم وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كان يفعله في خطبه ولما روي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر"، وبعضهم يكتفي بالبسملة عن الحمد بناء على أن المراد بالحمد في الحديث معناه بأي لفظ كان وبه أجيب عن مالك وغيره من المصنفين كابن الحاجب.
وفي البيت براعة استهلال ومعناها عند أهل البلاغة أن يذكر المؤلف في طالعة كتابه ما يشعر بمقصوده وتسمى بالإلماع؛ والحجا العقل، وبالله التوفيق.
وَحَطَّ عَنْهُمْ مِنْ سَمَاءِ العَقْلِ ... - ... كُلَّ حِجَابٍ مِنْ سَحابِ الجَهْلِ
وحط معطوف على أخرج، والضمير في عنهم معطوف يعود على أرباب الحجا، وسمى العقل سماء مجازاً لكونه محلا لطلوع شمس المعارف المنيرة كما أن السماء محل لظهور شمس الإشراق الحسية.(1/2)
وسمى الجهل أيضاً سحاباً مجازاً لكونه يحجب العقل عن الإدراكات المعنوية كما أن السحاب يحجب الناظر عن مطالعة الشمس الحسية، هذا وجه المشاكلة بينهما. فإن قلت إن السحاب أمر وجودي والجهل أمر عدمي إذ هو نفي العلم، وتشبيه الوجودي بالعدمي غير سديد فلا مشاكلة إذن بينهما. قلت سقوط هذا السؤال لا يخفى على كل ذي بال إذ لا نسلم أن الجهل أمر عدمي بل هو أمر وجودي بدليل أن الإنسان أي الروح قبل حجبه بالحجاب الناشئ عن التراب كان مدركاً لدقائق المعاني وهو الأصل في نفوس الأحياء وإنما عاقها عن ذلك وجود الحجب الجسمانية والنفسانية التي على عدد الأطوار، ويدلك على إدراكه قبل الحجاب إقراره في الظهور يوم ألست بربكم بالوحدانية لانتفاء الحجاب الحائل بينه وبين الصواب، وذلك أن الأرواح من العوالم الملكوتية والأبدان من العوالم الملكية فوضع العالم الروحاني في القالب الجسماني ليتم الوعد الرباني فصارت أطوار البدن حجباً للروح فنسيت ما أدركته بسبب تلك الحجب فخوطبت بعد الظهور بما أقرت به في الظهور فتبين من هذا أن الجهل أمر وجودي وهو الناشئ عن الحجاب الحائل بين الروح والمعاني الدقيقة حتى صارت لا تدركها إلا بالتفكر وخرق الحجب العادية لمن وفقه الله تعالى وبه أستعين.
حَتى بَدَتْ لَهُمْ شُمُوسُ المَعْرِفهْ ... - ... رَأَوْا مُخَدَّراتِها مُنْكَشِفَهْ
هذا البيت من تمام ما قبله بين فيه ثمرة رفع الحجاب عن قلوب أولي الألباب، والمعنى حط عنهم ذلك حتى انتهى بهم الأمر إلى أن ظهرت لهم شموس من الأفهام والمعارف فنظروا مخدرات عرائس المعاني واللطائف. وقولنا رأوا مخدراتها على حذف مضاف أي رأوا مخدرات عرائس المعرفة منكشفة؛ وهذا النوع من المجاز الذي يعرف بلزوم تقييده كجناح الذل؛ والخدر الستر قال امرؤ القيس:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... - ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي(1/3)
والضمير في قوله رأوا عائد أيضا لأرباب الحجا؛ وهذا البيت نظير قولنا في الأرجوزة الموسومة بالزهرة السنية:
فأصبحت شمس القلوب مشرقه ... - ... وبجلال ربها محققه
نَحْمَدُهُ جَلَّ عَلى الإِنْعامِ ... - ... بِنِعْمَةِ الإِيمانِ وَالإِسْلامِ
عبر بالمضارع في نحمده دون الماضي إشعاراً منه بدوام الحمد واستمراره إذ هو مشعر بالثبوت، والماضي بالانقطاع؛ وقوله على الإنعام متعلق بنحمده، وجلّ بمعنى عظم، والحمد هنا مقيد. ولا شك أن من أجل النعم التي يجب أن يحمد عليها تبارك وتعالى نعمة الإيمان والإسلام، إذ هي محل الفائدة ونجاة العائده نسأله سبحانه أن يختم لنا بأكمل حالات الإيمان والإسلام وبالله التوفيق.
مَنْ خَصَّنا بِخَيْرِ مَنْ قَدْ أَرْسَلا ... - ... وَخَيْرِ مَنْ حَازَ المَقامَاتِ العُلَى
هذا إقرار بنعمة أخرى من أعظم النعم التي يجب علينا أن نحمد الله تعالى عليها وهي أن جعلنا من أمة سيد أهل السموات والأرض رئيس الأشراف وسلطان الموقف - صلى الله عليه وسلم - تسليماً كثيراً لأنه خيرة المرسلين وأمته خير الأمم، قال الله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } الآية، وقال { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } الآية؛ ومن في قولنا من خصنا موصولة خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي خصنا ثم فسره - صلى الله عليه وسلم - باسمه الأعظم بقوله:
مُحَمَّدٍ سَيِّدِ كُلِّ مُقْتَفَى ... - ... العَرَبِيِّ الهَاشِمِيِّ المُصْطَفى
محمد بدل من لفظ خير في البيت المتقدم، وسيد نعته، والمقتفى المتبع، والمراد به المرسلون ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - أشرف المرسلين لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، وقوله: "أنا العاقب".(1/4)
وتقديم العربي في البيت على الهاشمي من حسن الترتيب العقلي لأن بني هاشم نوع من العرب وتقديم الجنس على نوعه أولى، ثم قال المصطفى أي من بني هاشم إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار" وبالله التوفيق.
صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ ما دامَ الحِجا ... - ... يَخُوضُ مِنْ بَحْرِ المَعاني لُجَجا
لما ذكرنا اسمه - صلى الله عليه وسلم - في البيت المتقدم وجب أن نصلي عليه لأن من ذكره أو ذُكر بين يديه ولم يصل عليه بخيل؛ والصلاة على النبي واجبة على كل مسلم مرة في عمره وتبقى بعد ذلك مؤكدة قال الله تعالى: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيُّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } وفال - صلى الله عليه وسلم - : "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة"، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"، وقال عليه الصلاة والسلام: "الصلاة علي نور يوم القيامة ونور في القلب ونور في القبر ونور على الصراط"، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه:؛ والأحاديث في فضلها جمة لا تنحصر وخصائصها لا تنضبط، فمن ذلك قضاء الحاجات وكشف الكرب المعضلات ونزول الرحمة في جميع الأوقات، واتفق العلماء على أن جميع الأعمال منها مقبول ومردود إلا الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فإنها مقطوع بقولها إكراماً له عليه الصلاة والسلام؛ وورد أن كل دعاء مفتتح ومختتم بها لا يرد، وناهيك بهذا شرفاً وكفى به تفضيلاً.
والصلاة من الله تعالى زيادة تشريف وإكرام ورفع درجة وإنعام؛ ومن الملائكة تسبيح، ومنا دعاء.(1/5)
وما من قولنا (ما دام الحجا) مصدرية ظرفية أي مدة دوام الحجا يخوض الحجا(1)من بحر المعاني؛ واللجج جمع لجة وهي البركة، وفي هذا تنبيه على أنه لا يحتوي على جميع المعاني إلا الله تعالى كما قال تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } الآية، وقال { وفوق كل ذي علم عليم } ، وقال تعالى { وقل رب زدني علماً } ؛ وهذا البيت من تمام البراعة المذكورة في أوّل بيت وبالله تعالى التوفيق.
وآلِهِ وَصَحْبِه ذَوِي الهُدَى ... - ... مَنْ شُبِّهُوا بَأَنْجُمٍ في الاهْتِدا
ورد في الحديث أنهم قالوا: "أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك" فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". فلذلك وجب أن نصلي عليه وعلى آله كما أمرنا.
واختلف في معنى الآل فقيل هم أهل بيته وعترته، وقيل بنو هاشم وقيل بنو عبد المطلب؛ واختلف في إضافته إلى الضمير فمنعها الكسائي والنحاس وأجازها الجمهور، وزعم الزبيدي أن إضافته إلى الضمير من لحن العامة؛ قال المرادي: والصحيح أنها من كلام العرب.
واختلف في الصلاة على غيره عليه الصلاة والسلام على أقوال ثالثها الأصح تجوز بالتبعية.
وأما صحبه فهم كل من اجتمع معه مؤمناً به، وعبارة من اجتمع أولى من عبارة من رأى ليدخل مثل ابن أم مكتوم، ولفظ الصحب اسم جمع لصاحب.
__________
(1) لعلها (اللجج).(1/6)
وقولنا (من شبهوا بأنجم في الاهتدا) إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، وفي البيت العطف على الضمير الخفض من غير إعادة حرف الجر وهو ممنوع عند جمهور البصريين وأجازه الكوفيون والشلوبين والأخفش وهو الصحيح عند المحققين كابن مالك، أما دليله عندهم نثراً فقراءة حمزة { تساءلون به والأرحام } بخفض الأرحام، وقولهم ما فيها غيره وفرسه بخفض فرسه، وأما نظماً فما أنشده سيبويه:
فاليوم قد صرت تهجونا وتشتمنا ... - ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
وَبَعْدُ فَالمَنْطِقُ لِلْجَنَانِ ... - ... نِسْبَتُهُ كَالنَّحْوِ لِلِّسانِ
فَيَعْصِمُ الأفكارَ عَنْ غَيِّ الخَطا ... - ... وَعَنْ دَقيقِ الفَهْمِ يَكْشِفُ الغِطَا
في هذين البيتين إشارة إلى تعريف المنطق وثمرته وفيه خلاف فمن قال إنه آلة عرّفه بأن قال: المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر.
فقولهم "مراعاتها" تنبيه على أن المنطق نفسه لا يعصم الفكر بل بقيد المراعاة إذ قد يخطئ المنطقي لذهوله عن المراعاة، كما أن النحوي قد يلحن لذهوله أيضاً.
ومن قال إنه علم قال: المنطق علم يعرف به كيفية الانتقال من أمور حاصلة في الذهن لأمور مستحصلة فيه؛ وهذا الخلاف حكاه في المطالب وهو لفظي وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فهَاكَ مِنْ أُصُولِهِ قَواعِدا ... - ... تَجْمَعُ مِنْ فُنُونِهِ فَوائِدا
سَمَّيْتُهُ بِالسُّلَّمِ المُنَوْرَقِ ... - ... يُرْقَى بِهِ سَماءُ عِلْمِ المَنْطِقِ(1/7)
هاك بمعنى خذ، والقاعدة ما يبنى عليه الشيء، والفنون الفروع، والضمير في سميته عائد على التأليف المفهوم من السياق، والسلم المعراج وهو في الحس ما له أدراج ليتوصل به إلى سطح وشبهه، قال تعالى { أو سُلَّماً في السماء } ؛ وهو في المعاني كل ما يتوصل به من قريب إلى بعيد، وهو المراد هنا على أنه حقيقة في الحس مجاز في المعاني، ووجه العلاقة هنا أن هذا التأليف لصغر جرمه وقربه وسهولة فهمه بالنسبة إلى غيره من مصنفات المنطق الصعبة المطولة بمثابة السلم الذي يرقى به من أرض إلى سماء لأنه يعين على فهمها والدخول في علمها.
قلت: المراد أن هذا الكتاب سلم لغيره من كتب المنطق كما مر، وأيضا فإن المنطق منه سهل ومنه صعب، فالمعاني السهلة سلم للصعبة فلا اعتراض.
والمرونق: المزين، قال الشاعر:
فهذا عليه رونق الخط وحده ... - ... وهذا عليه رونق الخط والملك
وَاللَّهَ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَالِصَا ... - ... لِوَجْهِهِ الكَريمِ لَيْسَ قالِصَا
وَأَنْ يَكونَ نافِعاً لِلْمُبْتدي ... - ... بِهِ إِلى المُطَوَّلاتِ يَهْتدي
اسم الجلالة منصوب على التعظيم بأرجو، والقالص: الناقص
ولما كان هذا الكتاب سبباً إلى المطولات وسلماً يرقى به من هذا الفن درجات وباباً يدخل به من هذا الفن على المخدَّرات قلت في آخر البيت الثاني: (به إلى المطولات يهتدي)، ولا شكَّ أن من حفظه وفهمه يكون له سبباً في الدخول في هذا الفن ويضمن له جلّ مهماته ويعينه على فهم مطوَّلاته وبالله التوفيق.
)فَصْلٌ في جَوازِ الاشْتِغَالِ بهِ(
وَالخُلْفُ في جَوازِ الاشْتِغالِ ... - ... بِهِ عَلى ثَلاثَةٍ أَقْوالِ
فَابْنُ الصَّلاحِ وَالنَّواوي حَرَّما ... - ... وَقالَ قَوْمٌ يَنْبَغي أَنْ يُعْلَما
وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحهْ ... - ... جَوَازُهُ لِكامِلِ القَريحَهْ
مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتابِ ... - ... لِيَهْتَدي بِهِ إِلى الصَّوابِ(1/8)
هذا الفصل موضوع لذكر الخلاف المذكور في جواز الاشتغال بعلم المنطق ليكون المبتدي على بصيرة من مقصوده؛ وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال كما ذكر، فمنعه النووي وابن الصلاح، واستحبه الغزالي ومن تبعه قائلاً من لا يعرفه لا يوثق بعلمه؛ والمختار الصحيح جوازه لذكي القريحة صحيح الذهن سليم الطبع ممارس الكتاب والسنة لئلا يؤول به إلى اتباع بعض الطرق الوهمية فيفسد المقدمات والأقيسة النظرية فتزل قدمه في بعض الدركات السفلية ومنه ضلت المعتزلة والقدرية وغيرهم من الطوائف البدعية فخاضوا في ذلك حتى بدّلوا وغيروا في السنة الشرعية والملة المحمدية فباؤوا بضلالة جلية وجهالة غبية، اللهم وفقنا لاتباع النبيين وتوفنا مسلمين لا مبدلين ولا مغيرين يا رب العالمين وبالله التوفيق.
)أَنْواعُ العِلْمِ الحَادِثِ(
إِدْراكُ مُفْرَدٍ تَصَوُّراً عُلِمْ ... - ... وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْديقٍ وُسِمْ
وَقُدِّمَ الأَوَّلُ عِنْدَ الوَضْعِ ... - ... لأَنَّهُ مُقَّدَّمٌ بِالطَّبْعِ
وصف العلم بالحادث إخراج للعلم القديم إذ لا يوصف بضرورة ولا نظر.
والإدراك: وصول النفس للمعنى بتمامه من نسبة أو غيرها، وهو قسمان: إدراك مفرد وإدراك نسبة، فالأول يسمى تصوراً وهو حصول الشيء في الذهن كإدراكنا معنى العلم؛ والثاني يسمى تصديقاً.
وفيه خلاف فذهب الإمام أن التصديق إدراك الماهية مع الحكم عليها بالنفي أو الإثبات، ومذهب الحكماء أنه مجرد إدراك النسبة خاصة؛ والتصورات الثلاثة عندهم شروط. هذا معنى قولهم التصديق بسيط على مذهب الحكماء ومركب على مذهب الإمام، فمذهب الحكماء أن التصديق من قولك العلم حادث مجرد إدراك نسبة الحدوث إلى العالم، ومذهب الإمام أنه المجموع من إدراك وقوع النسبة وتصور العالم والحدوث والنسبة.
ثم التصديق جازم وغير جازم،(1/9)
فالأول: إن لم يقبل التغير فعلمٌ كالحكم بأن الجبل حجر والإنسان متحرك؛ وإن قبل فاعتقاد؛ إما صحيح إن طابق كتوحيد المقلدين من المسلمين؛ وإما فاسد إن لم يطابق كاعتقاد المعتزلة منع الرؤية والفلاسفة قدم العالم.
و[الثاني]: غير الجازم ما قارنه احتمال إما ظن إن ترجح على مقابله أو وهم وهو مقابله أو شك إن تساويا.
تنبيه: قال إمام الحرمين: لا يعرّف العلم بالحقيقة لتعذّره بل بالقسمة والمثال؛ وقال الرازي: هو ضروري يستحيل أن يكون غيره كاشفاً له، واختير أنه معرفة المعلوم فيشمل الموجود والمعدوم، قيل ولا يضر الاشتقاق هنا حتى يلزم الدور. انتهى
قوله (وقدم الأول عند الوضع) البيت هذا من الترتيب العقلي يعني أنه يجب تقديم التصور على التصديق وضعاً كما أنه مقدم عليه طبعاً، لأن كل تصديق لا بد معه من تصوّر إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره.
فإن قلت: ما ذكرته من منع تقديم التصديق على التصوّر قد نقله ابن الحاجب في تأليفه الفرعي والشيخ ابن أبي زيد وغيرهما. قلت: أجابوا عن ذلك بأجوبة منها أن المطلوب إنما هو مطلق الشعور لا تحصيل كل الماهية، وذلك يحصل بالحكم، ومنها أن المطلوب التصوّر الذهني وقد حصل وبالله التوفيق.
وَالنَّظَريْ ما احْتاجَ لِلتَّأَمُّلِ ... - ... وَعَكْسُهُ هُوَ الضَّروريُّ الجَلي
أعني أن العلم الحادث قسمان ضروري ونظري، فالضروري ما يدرك بديهةً بلا تأمل كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين والنار محرقة، والنظري ما يحصل بالنظر والاستدلال كالعلم بأن الواحد عشر عشر المائة وبأن العالم حادث.
تنبيه: في العلوم مذاهب ثالثها أن بعضها ضروري وبعضها كسبي، وفصل في المطالع بين التصور فجعله ضرورياً وبين التصديق فجوّز فيه الأمرين.
والنَّظر: ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم. والياء في قوله (والنظري) للنسبة وسكنت للضرورة وبالله التوفيق.(1/10)
وَما بِهِ إِلى تَصَوُّرٍ وُصِلْ ... - ... يُدْعَى بِقَوْلٍ شَارِحٍ فَلْتَبْتَهِلْ
وَمَا لِتَصْدِيقٍ بِهِ تُوُصِّلا ... - ... بِحُجَّةٍ يُعْرَفُ عِنْدَ العُقَلا
اعلم أن الموصل إلى التصوّرات يدعى بالقول الشارح كالحدّ والرسم والمثال وسيأتي بيانه في فصل المعرّفات إن شاء الله تعالى، والموصل إلى التصديقات يسمى حجة كالقياس والاستقراء والتمثيل وسيأتي أيضاً في محله إن شاء الله.
وما في البيتين موصولة عائدها الضمير المجرور بالباء، وبه في البيت الأول يتعلق بوصل، وفي الثاني بتوصلا، وهو بضم التاء والواو وكسر الصاد مبني للمفعول وبالله التوفيق.
)أنوَاعُ الدّلالةِ الوَضْعِيَّةِ(
دَلالةُ اللَّفْظِ عَلى مَا وافَقَهْ ... - ... يَدْعُونَها دَِلالَةَ المُطابَقَةْ
وَجُزْئِهِ تَضَمُّناً وَما لَزِمْ ... - ... فَهْوَ الْتِزَامٌ إنْ بِعَقْلٍ التَزَمْ
هذا الفصل موضوع لذكر أنواع الدلالة الوضعية وهي التي تكون للوضع فيها مدخل وهي ثلاثة أنواع:
لأن اللفظ إما أن يدل على جميع المعنى الموضوع له فدلالة المطابقة لمطابقة الدال على المدلول؛
أو على جزء معناه فدلالة التضمن، سميت بذلك لتضمن المعنى لجزء المدلول؛
أو على لازم معناه الذهني لزم مع ذلك في الخارج أم لا فدلالة الالتزام لاستلزام المعنى للمدلول،
فالأول كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق إذ هو موضوع لذلك المعنى؛ والثاني كدلالة الإنسان على الحيوان؛ والثالث كدلالة الإنسان على قابل للعلم، وهذا لازم ذهناً وخارجاً ولا يشترط فيه اللزوم الخارجي لحصول الفهم بدونه كدلالة العمى على البصر، وهذا لازم له في الذهن أي مهما ذكر ذكر معه فهو مناف له في الخارج.
ودلالة المطابقة نقلية اتفاقاً وفي الآخرين أقوال، ثالثها الالتزامية عقلية والتضمن نقلية.
والتضمن والاستلزام يستلزمان المطابقة دون العكس خلافاً للإمام.(1/11)
وقولنا (دلالة اللفظ) البيت أي دلالة اللفظ على المعنى الذي وافقه لكونه موضوعاً له تدعى دلالة المطابقة في اصطلاحهم. وقولنا (وجزئه تضمنا) مجرور معطوف على ما وافقه. أي دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له تسمى تضمناً. وقولنا (وما لزم) معطوف أيضا أي ودلالة اللفظ على ما لزم معناه تسمى التزاماً. وقولنا (إن بعقل التزم) أي يشترط في الدلالة الالتزامية أن يكون اللزوم ذهناً سواء لزم مع ذلك في الخارج كالأربعة للزوجية أو عقلياً خاصة كما في الضدين، أما إذا كان اللزوم خارجياً فقط كالسواد للغراب فليس بدلالة الالتزام.
وترتيب هذه الدلالات في القوة بحسب ترتيبها في البداءة فالأولى أقواها وهلم جرا.
)فَصْلٌ في مباحِثِ الأَلْفاظِ(
مُسْتَعْمَلُ الأَلْفاظِ حيثُ يوجدُ ... - ... إِمَّا مُرَكَّبٌ وَإِمَّا مُفْرَدُ
فَأَوَّلٌ ما دَلَّ جُزْؤُهُ عَلى ... - ... جُزُءِ مَعْناهُ بِعَكْسِ ما تلا
وَهْوَ عَلى قِسْمَيْنِ أَعْني المُفْرَدا ... - ... كُلِّيٌّ أَوْ جُزْئِيُّ حَيْثُ وُجِدا
فَمُفْهِمُ اشْتِراكٍ الكُلِّيُّ ... - ... كَأَسَدٍ وَعَكْسُهُ الجُزْئِيُّ
وَأَوَّلاً لِلذَّاتِ إِنْ فيها انْدَرَجْ ... - ... فَانْسِبْهُ أَوْْ لِعارِضٍ إِذا خَرَجْ
هذا الفصل في مباحث الألفاظ:
اعلم أن اللفظ قسمان: مهمل كأسماء حروف الهجاء،ومستعمل وهو قسمان:
مركب وهو ما دل جزؤه على جزؤه معناه وهو تقييدي نحو الحيوان الناطق وهو المفيد في اكتساب التصور فهو في قوة المفرد؛ وخبري في نحو زيد قائم.
ومفرد وهو عكس المركب أي ما لا يدل جزؤه على جزء معناه كزيد وقام وهل، وهي أقسام المفرد الثلاثة لأنه إما أن لا يستقل بالمفهومية كالحرف والأداة، وإلا فإن دلّ على زمان معين فالفعل وإلا فالاسم.(1/12)
ثم المفرد إما كلي أو جزئي: فالكلي هو الذي لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه سواء استحال وجوده في الخارج كاجتماع الضدين أو أمكن ولم يوجد كبحر من زئبق وجبل من ياقوت، أو وجد منه واحد مع إمكان غيره كالشمس أو استحالته كالإله، أو كان كثيراً متناهياً كالإنسان أو غير متناه كالعدد.
والجزئي ما يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه ويسمى الحقيقي كزيد فإن ذاته يستحيل جعلها لغيره.
ثم الكلي إن كان مندرجاً في حقيقة جزئياته سمي ذاتياً كالحيوان بالنسبة لزيد وعمرو مثلاً إذ هو جزء حقيقتها؛ وإن لم يندرج بل كان خارجاً عن الحقيقة سمي عرضياً كالكاتب مثلاً فإنه ليس داخلاً في حقيقة زيد وعمرو.
وأما ما كان عبارة عن مجموع الحقيقة فلا يسمى ذاتياً ولا عرضياً بل واسطة ونوعاً كالإنسان فإنه عبارة عن مجموع الحيوانية والناطقية.
وقولنا (مستعمل الألفاظ) البيت احترازاً من المهمل. وأول في البيت الثاني مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل. وقولنا (جُزُءِ معناه) وهو بضم الزاي لغة في الجزء وبها قرئ قوله تعالى { ثم اجعل على كل جبل منها جزءا } وهي سبعية. وقولنا (بعكس ما تلا) عائد ما محذوف لأنه متصل منصوب بفعل؛ وتلا أي تبع. و(جزئي) في البيت الثالث محذوف التنوين للضرورة. وقولنا في البيت الرابع (فمفهم اشتراك) خبر مقدم على الكلي. وقولنا (وعكسه الجزئي) كذلك ويحتمل العكس. والأسد مثال للكثير المتناهي. وقولنا (وأوَّلاً للذات) البيت أولا منصوب على الاشتغال وهو الأرجح لكونه قبل فعل ذي طلب؛ والمعنى: أنسب الأول وهو الكلي للذات إن اندرج فيها أو للعرض إن لم يندرج فيها بل خرج، وبالله التوفيق.
وَالكُلِّيَّاتُ خَمْسَةٌ دُونَ انْتِقاصْ ... - ... جِنْسٌ وَفَصْلٌ عَرَضٌ نَوْعٌ وَخاصْ
وَأَوَّلٌ ثَلاثَةٌ بِلا شَطَطْ ... - ... جِنْسٌ قَريبٌ أَوْ بَعيدٌ أَوْ وَسَطْ(1/13)
أعني أن الكلي على خمسة أقسام: جنس وفصل وعروض ونوع وخاصة لأنه إما أن يكون تمام ما تحته من الجزئيات أو مندرجاً فيها أو خارجاً عنها.
فالأول النوع: وهو المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو؟
والثاني الجنس: إن كان مقولاً على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب ما هو؟ في حال الشركة.
والفصل: إن كان مقولاً على كثيرين متفقين بالحقيقة.
والثالث إن كان مقولا على كثيرين متفقين بالحقيقة في جواب أي شيء هو في ذاته فالخاصة؛ وإن كان مقولاً على كثيرين مختلفين بالحقيقة فالعرض العام.
فمثال الجنس الحيوان للإنسان، والفصل كالناطق، والنوع كالإنسان بالنسبة إلى الحيوان، والخاصة كالضحك، والعرض العام كالمتحرك وهو ثلاثة أقسام: لازم كالتنفس والتحرك للإنسان وسريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل وبطيء كالشيب والشباب.
ثم الجنس على ثلاثة أقسام: بعيد لا جنس فوقه كالجوهر ويسمى الجنس العالي وجنس الأجناس؛ وقريب لا جنس تحته وهو الأسفل والأخير كالحيوان للإنسان؛ ومتوسط وهو ما بينهما كالجسم.
وقولنا الكليات خمسة بلا نقص ولا زيادة بدليل الحصر المتقدم. وجنس وما بعده خبر مبتدأ محذوف أي وهو جنس إلى آخره. وحذف لفظ العام الذي هو نعت لعرض للعلم به. وحذفت تاء الخاصة للترخيم وإن لم تكن منادى إلاّ أنها تصلح للنداء فرخمت للضرورة كقول امرئ القيس:
لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره ... - ... طريف بن مال ليلة الجوع والحصر
وأول في البيت الثاني مبتدأ نكرة والمسوغ التفصيل. و"لا" في قوله (بلا شطط) زحلقت عن محلها، والشطط الزيادة كما في حديث "لها مهرها لا وكس ولا شطط" أي لا نقص ولا زيادة. و"أو" للتقسيم؛ وبالله التوفيق.
)فَصْلٌ في بَيانِ نِسْبَةِ الأَلْفاظِ لِلْمَعاني(
وَنِسْبَةُ الأَلْفاظِ لِلْمَعاني ... - ... خَمْسَةُ أَقْسَامٍ بلا نُقْصانِ
تَواطُؤٌ تَشَاكُكٌ تَخَالُفُ ... - ... وَالاشْتِراكُ عَكْسُهُ التَّرادُفُ(1/14)
اعلم أن نسبة الكلي إلى معناه خمسة أقسام وهي التواطؤ والتشاكك والتخالف والاشتراك والترادف لأنه إما أن تستوي أفراده فيه كالإنسان بالنسبة إلى أفراده فمتواطئ لتوافق أفراد معناه فيه.
وإما أن يكون بعض معانيه أقدم من البعض كالوجود فإن معناه في الواجب قبله في الممكن فمشكك لتشكيكه الناظر أنه متواطئ نظراً إلى اشتراك جهة الأفراد في أصل المعنى أو غير متواطئ نظراً إلى جهة الاختلاف.
وإما أن يتعدد اللفظ والمعنى كالإنسان والفرس فمتباين أي أحد اللفظين مباين للآخر لتباين معناهما.
وإما أن يتحد المعنى دون اللفظ كالإنسان والبشر فمترادف لترادفهما أي لتواليهما على معنى واحد.
وإما أن يتحد اللفظ دون المعنى كالعين فمشترك لاشتراك المعنى فيه.
وَاللَّفْظُ إِمَّا طَلَبٌ أَوْ خَبَرُ ... - ... وَأَوَّلٌ ثَلاثَةٌ سَتُذْكَرُ
أَمْرٌ مَعَ اسْتِعْلا وَعَكْسُهُ دُعا ... - ... وَفي التَّساوِي فَالْتِماسٌ وَقَعا
أعني أن اللفظ المركب قسمان طلب وخبر، والطلب إن كان فعلاً كان مع الاستعلاء أمراً ومع الخضوع دعاء ومع التساوي التماساً؛ وإلا فإن لم يحتمل صدقاً ولا كذباً كان تنبيهاً وكل ذلك إنشاء؛ ولا كلام للمناطقة في الإنشاء لأن الصدق والكذب لا يعرضان له ومدار فنهم عليهما؛ والخبر يحتمل الكذب والصدق لذاته وسيأتي إن شاء الله.
)فَصْلٌ في بَيانِ الكُلِّ والكُلِّيَّةِ وَالجُزْءِ وَالجُزْئِيَّةِ(
الكُلُّ حُكْمُنا عَلى المَجْمُوعِ ... - ... كَكُلِّ ذاكَ لَيْسَ ذا وُقُوعِ
وَحَيْثُما لِكُلِّ فَرْدٍ حُكِما ... - ... فَإِنَّهُ كُلِّيَّةٌ قَدْ عُلِما
وَالحُكْمُ لِلْبَعْضِ هُوَ الجُزْئِيَّهْ ... - ... وَالجُزْءُ مَعْرِفَتُهُ جَلِيَّهْ
قد تقدم بيان الكلي والجزئي ونتكلم هنا على اصطلاحهم في الكل والكلية والجزء والجزئية:
فالكل: هو الحكم على المجموع كقولنا كل بني تميم يحملون الصخرة، وكقوله تعالى { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } .(1/15)
والكلية: هي الحكم على كل فرد، ككل بني تميم يأكل الرغيف.
والجزئية: هي الحكم على بعض الأفراد.
والجزء: ما تركب منه ومن غيره كل.
وقولنا (ككل ذاك ليس ذا وقوع) إشارة إلى ما تؤوّل به حديث ذي اليدين "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله، قال كل ذلك لم يقع" أي مجموعه وإلا فبعضه وقع، ويروى أن الراوي قال: "بل بعضه وقع".
واللام في قولنا (لكل فرد) بمعنى على أي. وحيثما حكمنا على كل فرد فذلك الكلية. واللام في (للبعض) كذلك أيضاً.
وفي البيت الأول نقل الحديث بالمعنى والجمهور على جوازه للعارف، وقال الماوردي إن نسي اللفظ جاز وإلا فلا، وقيل بجوازه بلفظ مرادف، وقيل بجوازه إن كان موجبه علماً، وقيل بالمنع مطلقاً؛ والله الهادي للصواب.
)فَصْلٌ في المُعَرِّفاتِ(
لما فرغ من الكلام على مبادئ التصورات وما يتعلق بها شرع الآن يتكلم على مقاصد التصورات؛ ولما كان التصديق مسبوقاً بالتصور طبعاً بدأ بمبادئ التصورات ومقاصدها وضعاً، وسيأتي الكلام على التصديقات إن شاء الله.
واعلم أن مدار هذا الفن على العلم، إذ العلم تصور أو تصديق معه تصور، ولا يتوصل إلى التصور إلا بالقول الشارح وهو الحدود؛ كما أنه لا يتوصل إلى التصديق إلا بالحجة وهي البراهين.
ثم تلك الحدود والبراهين لها صورة ومادة وغاية؛ فمادتها معرفة الكليات الخمس وما يتعلق بها وتقدم الكلام عليها، وغايتها معرفة المحدود.
وها نحن نتكلم على صورته وكيفية تركيبه في هذا الفصل.
وذكر الغزالي في المستصفى قولين هل الحد عين المحدود أو خلافه، وجعله القرافي لفظياً قائلاً هو غيره إن أريد به اللفظ وعينه إن أريد به المعنى، والمُعرِّف للشيء هو الذي يلزم من تصوره تصوره أو امتيازه عن غيره، قال ولا يجوز أن يكون نفس الماهية لأن المعرف موجود قبل المعرف، والشيء لا يعرف قبل نفسه ولا أعم لقصوره عن إفادة التعريف، ولا أخص لكونه أخفى، فهو مساويه في العموم والخصوص. انتهى كلام القرافي.(1/16)
مُعَرِّفٌ على ثَلاثَةٍ قُسِمْ ... - ... حَدٌّ وَرَسْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ عُلِمْ
فَالحَدُّ بِالجِنْسِ وَفَصْلٍ وَقَعا ... - ... وَالرَّسْمُ بِالجِنْسِ وَخاصَةٍ مَعا
وَناقِصُ الحَدِّ بِفَصْلٍ أَوْ مَعا ... - ... جِنْسٍ بَعيدٍ لا قَريبٍ وَقَعا
وَناقِصُ الرَّسْمِ بِخَاصَةٍ فَقَطْ ... - ... أَوْ مَعَ جِنْسٍ أَبْعَدٍ قَدِ ارْتَبَطْ
وَمَا بِلَفْظِيٍّ لَدَيْهِم شُهِرا ... - ... تَبْديلُ لَفْظٍ بِرَديفٍ أَشْهَرا
اعلم أم المعرف على ثلاثة أقسام: حقيقي ورسمي ولفظي؛ فالحقيقي قسمان: تام وناقص. فالتام ذكر الجنس القريب والفصل كالحيوان الناطق للإنسان؛ والناقص ذكر الفصل فقط أو مع جنس بعيد، وسمي هذا النوع حقيقياً لأنه مشتمل على الأوصاف الذاتية التي تركبت منها الحقيقة فنسب للحقيقة لهذا المعنى.
والرسم قسمان: تام وناقص؛ فالتام ذكر الجنس القريب والخاصة كالحيوان الضاحك للإنسان. والناقص ذكر الخاصة وحدها أو مع جنس بعيد كالضاحك بالقابلية لا بالفعل.
والخاصة معنى كلي يلزم الشيء ولا يوحد في غيره، وهي خارجية بخلاف الفصل والجنس فإنهما ذاتيان كما تقدم، ويعرف ذلك بوضع اللغة وفرض العقل.
واللفظي تبديل لفظ بالفظ مرادف له أشهر منه عند السامع كالقمح للبر، والتقييد بالسامع زاده العراقي لعروض انعكاس الشهرة في الغة.
تنبيه: الحد لغة المنع، والرسم العلامة؛ ومنه قول جميل بن معمر:
رسم دار وقفت في طلله ... - ... كدت أقضي الحياة من جلله
أي علامتها وآثارها من رماد ونحوه.
وسمي الحد التام تاماًّ لكونه بالذاتيات؛ والناقص منه أي من الحد ما كان ببعض الأجزاء، وسمي ناقصاً لنقص بعضها، فالتام هو الكاشف للحقيقة كلِّها.
والرسم إنما هو باللوازم الخارجية وسمي بذلك لكونها علامة على الحقيقة لا كاشفة لها؛ وفي هذا المحل كلام وبحث يطول تتبعه فليطالع في محلّه من المطولات.(1/17)
وقولنا (معرف) في البيت الأول مبتدأ وحذفت منه أل للضرورة. وقولنا (ناقص الحد) و(ناقص الرسم) دليل على أن المراد في البيت الثاني الحد التام والرسم التام، وهذا من الحذف من الأوائل لدلالة الأواخر وهو واقع في العربية كعكسه. وأزلنا تضعيف الصاد من الخاصة للضرورة كقول ابن البناء:
مهما تر في مادة الموضوع
خفف دال المادة للضرورة. وقولنا (مع جنس أبعد) صرف أبعد للضرورة. وارتبط معناه اقترن. وقولنا (وما بلفظي) البيت ما موصولة مبتدأ صلتها شهر؛ وفصل بين الصلة والموصول بالظرف والمجرور لأن العرب توسعت في الظروف والمجرورات ما لم تتوسع في غيرها، والخبر تبديل الخ. ورديف صفة لموصوف محذوف أي بلفظ رديف. وأشهرا صفة لرديف، وحذف لفظ منه للعلم به، وتقدير البيت: والمعرف الذي اشتهر في اصطلاحهم باللفظي هو تبديل لفظ بلفظ مرادف له أشهر منه.
تنبيه: ما ذكرنا من التعريف بالفصل وحده أو الخاصة وحدها مبني على القول بجواز التعريف بالمفرد؛ وقال الزركشي والأصح خلافه، ولذلك عدوا التعريف من الأقوال المؤلفة.
فائدة: قيل أربعة لا يقام عليها برهان ولا تطلب بدليل وهي الحدود والعوائد والإجماع والاعتقادات الكامنة في النفوس، فلا يقال ما الدليل على صحتها في نفس الأمر، ولا يقال ما الدليل على صحة هذا الحد، وإنما يرد بالنقض والمعارضة والله الموفق للصواب.
وَشَرْطُ كُلٍّ أَنْ يُرى مُطَّرداً ... - ... مُنْعَكِساً وَظاهِراً لا أَبْعَدا
وَلا مُساوِياً وَلا تُجُوِّزا ... - ... بِلا قَرِيْنَةٍ بِها تُحُرِّزا
وَلا بِما يُدْرَى بِمَحْدُودٍ وَلا ... - ... مُشْتَرَكٍ مِنَ القَرينَةِ خَلا
وَعِنْدَهُم مِنْ جُمْلَةِ المَرْدودِ ... - ... أَنْ تَدْخُلَ الأَحْكامُ في الحُدُودِ
وَلا يَجُوزُ في الحُدُودِ ذِكْرُ أَوْ ... - ... وَجَائِزٌ في الرَّسْمِ فَادْرِ ما رَوَوْا
اعلم أنه يشترط في كل واحد من المعرفات:
ـ أن يكون جامعاً لأفراد المحدود وهو معنى مطرداً،(1/18)
ـ ومانعاً من دخول غيره في الحد وهو معنى منعكساً، هذا معناه عند القرافي. وقال الغزالي وابن الحاجب المطرد المانع والمنعكس الجامع وهو الجاري على ألسنة الفقهاء.
ـ وأن يكون أظهر من المحدود لا أخفى منه ولا مساوياً له؛ فالخفي كقولنا ما هو البر فتقول الحنطة، والمساوي كقولنا المتحرك ما ليس بساكن.
ـ ويحتنب فيها أيضاً الألفاظ الغريبة والمشتركة والمجازية وكل ما فيه إجمال؛ قال الغزالي إلا إذا كانت قرينة تدل على تفصيله فيجوز.
ـ ولا يجوز أيضا بما تتوقف معرفته على معرفة المحدود للزوم الدور؛ قالوا كالعلم لا يقال فيه معرفة المعلوم لأن المعلوم مشتق من العلم، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه، فمعرفة المعلوم إذن تتوقف على معرفة على معرفة العلم، والعلم على معرفة المعلوم فجاء الدور. وقال الزركشي لا يلزم الدور من الاشتقاق يعني لاختلاف جهة التوقف أو لكونه معية وذلك يخرج عن الدور.
ـ ويجتنب أيضا في الحدود دخول الحكم لأن التصديق فرع التصور، والتصور فرع الحد فيلزم الدور.
ـ ولا يجوز أيضاً دخول "أو" في الحقيقي، قال الأصبهاني لئلا يلزم أن يكون للنوع الواحد فصلان على البدل وذلك محال، وأما في الرسم فجائز.
وقولنا (وشرط كل) البيت شرطُ: مبتدأ. وتنوين كلٍّ للعوض عن اسم. وأنْ وصِلَتُها: خبر. ومطَّرِداً: حال من ضمير يرى. ومنعكساً كذلك.
وقولنا (لا أبعدا) أي لا أبعدا منه في الفهم لكونه أخفى، وتقديم الأبعد أولى من تقديم مساوياً لأنه إذا كان يتحرز من فيه من التحديد بالمساوي فلأن يتحرز فيه من الأخفى أحرى.
وقولنا (ولا تجوزا) أي ولا بلفظ تجوز فهو على حذف مضاف. وتحرز على صيغة المجهول نعت لقرينة. ويدرى أي يعرف. وقولنا (أن تدخل الأحكام في الحدود) في محل المبتدأ، ومن جملة خبر مقدم.
وقولنا (وجائز في الرسم) خبر مبتدأ محذوف أي وذكر "أو" جائز.
وقولنا (فادر ما رووا) أي فاعلم ما رووه من التعليل.(1/19)
والفرق بين الحقيقي والرسمي وهو ما تقدم من أن النوع الواحد لا يكون له فصلان، ويكون له خواص كثيرة فيجوز في قولنا الحيوان الضاحك أو الكاتب لا في الحيوان الناطق، ولا يجوز أيضاً جعل جزء المحدود جنساً له كالعشرة خمسة وخمسة وبالله التوفيق.
)بَابٌ في القَضايا وَأَحْكامِها(
لما فرغ من الكلام على مبادئ التصورات ومقاصدها وهو الجزء الأول طفق الآن يتكلم على مبادئ التصديقات وسيأتي الكلام على مقاصدها إن شاء الله تعالى.
واعلم أنه لا يتوصل إلى التصديق إلا بالحجة كما مرّ، ولها أيضاً مادة وصورة وغاية، فغايتها أنها تفيد معرفة صحيح التصديق من سقيمه؛ كما أن القول الشارح يفيد معرفة صحيح التصوّر من سقيمه، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على صور الحجج ولنتكلم الآن على مباديها وبالله التوفيق.
ما احْتَمَلَ الصِّدْقَ لِذاتِهِ جَرى ... - ... بَيْنَهُمُ قَضِيَّةً وَخَبَرا
قد تقدم أن اللفظ المركب قسمان: طلب وخبر، وقد قدمنا الكلام على الطلب؛ وها نحن نتكلم على الخبر:
اعلم رحمك الله تعالى أن ما يحتمل الصدق والكذب لذاته يسمى في الاصطلاح قضية وخبر؛ وإنما قلنا لذاته ليدخل نحو السماء تحتنا والأرض فوقنا فإن هذا بالنظر إلى تركيبه يحتملهما، وإنما جزمنا بكذبه لمشاهدة نقيضه والله تعالى الموفق للصواب.
ثُمَّ القَضَايا عِنْدَهُم قِسْمانِ ... - ... شَرْطِيَّةٌ حَمْلِيَّةٌ وَالثَّاني
كُلِّيَّةٌ شَخْصِيَّةٌ وَالأَوَّلُ ... - ... إِمَّا مُسَوَّرٌ وَإِمَّا مُهْمَلُ
وَالسُّورُ كُلِّيًّا وَجُزْئِياًّ يُرَى ... - ... وَأَرْبَعٌ أَقْسَامُهُ حَيْثُ جَرى
إِمَّا بِكُلٍّ أَوْ بِبَعْضٍ أَوْ بلا ... - ... شَيْءَ وَلَيْسَ بَعْضٌ اَوْ شِبْهٍ جَلا
وَكُلُّها مُوجَبَةٌ أَوْ سالِبَهْ ... - ... فَهْيَ إِذنْ إِلى الثَمانِ آيِبَهْ
يعني أن القضية فسمان شرطية وحملية:(1/20)
والحملية إما شخصية وهي التي يكون المحكوم عليه فيها جزئياً معيناً كزيد كاتب، وإما أن تتميز جزئيته بذكر السور كبعض الإنسان كاتب فهي محصورة الجزئية أو تتميز كليته بذكره ككل إنسان حيوان فالمحصورة الكلية. وإما أن تكون مهملة كإنسان كاتب وهي في قوة الجزئية لتحققها فيها فتلك أربع، وكلها إما موجبة أو سالبة فصارت ثمانية.
واعلم أن السور هو اللفظ الدال على كمية الأفراد وهو أربعة أقسام سور إيجاب كلي ككل إنسان حيوان، وسور إيجاب جزئي كبعض الإنسان حيوان، وسور سلب كلي كلا شيء من الإنسان بحجر، وسور سلب جزئي كليس بعض الإنسان بحجر. فهذه الأربع هي معاني السور وغلب التعبير باللفظ المذكور، ويجوز التعبير بغيره مع حفظ معناه ولذلك قال (أو شبه جلا) أي ظهر معناه فيه. وقوله (ثم القضايا) البيت ثم للترتيب الذكرى خاصة. وحملية معطوف على شرطية وحذف العاطف ضرورة.
(والثاني) أي والقسم الثاني من قسمي القضايا وهو الحملية قسمان أيضاً كلية وشخصية، وحذف العاطف أيضاً للضرورة؛ والأول أي القسم الأول من قسمي الحملي وهو الكلي قسمان أيضاً: إما مسور أي تقدمه سور كلي أو جزئي، وإما مهمل أي لم يسبقه سور كلي ولا جزئي.
وقولنا (وأربع) حذفت التاء من أربع وإن كان المعدود مذكراً للضرورة أي وأقسام السور أربعة حيث وجد. وقولنا (وكلها) البيت أي وكل تلك القضايا الأربع إما موجبة أو سالبة صارت ثمانية من ضرب اثنين في أربعة. وآيبة أي راجعة.
والأَوَّلُ الموضوعُ في الحَملِيَّهْ ... - ... والآخرُ المحمولُ بالسَّويَّهْ
لما فرغ من تقسيم الحملية أخذ يتكلم على تسمية جزئها، ويعني أن المناطقة اصطلحوا على تسمية المحكوم عليه وهو الجزء الأول موضوعاً، والمحكوم به وهو الجزء الآخر محمولاً؛ وهذا معنى قولنا (والأوَّلُ الموضوع) البيت أي والجزء الأول وهو المحكوم عليه يسمى موضوعاً والجزء الآخر وهو المحكوم به يسمى محمولاً.(1/21)
فإن قلت: فلم سمي هذا أول وهذا آخر مع أنا قد نجد المحكوم به مقدماً كقام زيد. فالجواب: أنه وإن كان متقدماً وضعاً فهو متأخر طبعاً.
تنبيه: الحملية هي التي ينحل طرفاها إلى مفردين، وهي ثمانية كما تقدم. والشرطية هي التي ينحل طرفاها إلى جملتين وإليه أشار بقوله:
وَإِنْ عَلى التَّعْليقِ فيها قَدْ حُكِمْ ... - ... فَإِنَّها شَرْطِيَّةٌ وَ تَنْقَسِمْ
أَيْضاً إِلى شَرْطِيَّةٍ مُتَّصِلَهْ ... - ... وَمِثْلُها شَرْطِيَّةٌ مُنْفَصِلهْ
جُزءاهما مُقَدَّمٌ وتالِي ... - ... أَمَّا بَيَانُ ذاتِ الاتِّصالِ
ما أَوْجَبَتْ تَلازُمَ الجُزْأَيْنِ ... - ... وَذاتُ الانفِصالِ دُونَ مَيْنِ
ما أَوْجَبَتْ تَنَافُراً بَيْنَهُما ... - ... أَقْسامُها ثَلاثَةٌ فَلْتُعْلَما
مانِعُ جَمْعٍ أَوْ خُلُوٍّ أَوْ هُمَا ... - ... وَهْوَ الحَقِيقِيُّ الأَخَصُّ فَاعْلَما
القضية الشرطية هي التي يحكم فيها على التعليق أي وجود إحدى قضيتيها معلق على وجود الأخرى أو على نفيها؛ وهي على قسمان: متصلة ومنفصلة، والجزء الأول منمها يسمى مقدماً والثاني تالياً.
فالمتصلة هي التي يحكم فيها بلزوم قضية لأخرى أو لا لزومها وهي التي توجب التلازم بين جزءيها، نحو: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، وكقولنا: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود؛ فجزآهما متلازمان.
والمنفصلة هي التي يحكم فيها بامتناع اجتماع قضيتين فأكثر في الصدق، وهي التي جزءاها متعاندان نحو: العالم إما قديم أو حديث، وزيد إما حي أو ميت، وهي على ثلاثة أقسام:
مانعة الجمع، نحو: هذا العدد إما مساو لذلك أو أكثر فيمتنع اجتماعهما، ويمكن الخلو عنهما بأن يكون أقل.
ومانعة الخلو، نحو: إما أن يكون زيد في البحر وإما أن لا يغرق، فيمكن الجمع بينهما بأن يكون في البحر ولا يغرق، ويمتنع خلوه عنهما بأن لا يكون في البحر ويغرق.(1/22)
ومانعتهما كالعدد إما زوج أو فرد فيمتنع اجتماع الزوج والفرد في عدد واحد ويمتنع خلوه عنهما؛ وهذا القسم هو الحقيقي وهو أخص من قسميه لأنه مهما حكم فيه بالتنافر بين طرفيه وضعاً ورفعاً فإنه يشاركه في مثال مانع الجمع لصدقه عليه، ومانع الرفع لصدقه عليه، ويبقى كل قسم منهما مختصاً بمثاله فهما أعم وهو أخص منهما.
وقولنا (وإن على التعليق) البيت إن شرطية، و(حُكِم) شرطها، والجواب (فإنها) ولذلك قرن بالفاء وجوباً لأنه لا يصلح لأن يكون شرطاً. و(أيضاً) منصوب على المصدرية من آض يئيض أيضاً إذا رجع.
وقولنا (أما بيان ذات الاتصال) البيت جواب أما: (ما أوجبت تلازم)، وحذفت الفاء من جوابها وذلك واقع نثراً ونظماً؛ أما نثراً فكما وقع في خطبته - صلى الله عليه وسلم - : "أما بعد ما بال رجال"، وأما نظماً فكقول الشاعر:
فأما القتال لا قتال لديكم ... - ... ولكن سيراً في عراض المواكب
فحذفت الفاء من قوله لا قتال وهو جواب أما.
وقولنا (أو هما) أي ومانعتهما أي مانعة الجمع والخلو والله أعلم.
)فَصْلٌ في التَّناقُضِ(
لما فرغ من القضايا وأقسامها طفق يتكلم على أحكامها، فمن ذلك التناقض وهو اختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب بحيث يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة والله أعلم.
تَنَاقُضٌ خُلْفُ القَضِيَّتَيْنِ فِيْ ... - ... كَيْفٍ وَصِدْقُ واحِدٍ أَمْرٌ قُفِيْ
فَإِنْ تَكُنْ شَخْصِيَّةً أَوْ مُهْمَلَهْ ... - ... فَنَقْضُها بِالْكَيْفِ أَنْ تُبَدِّلَهْ
وَإِنْ تَكُنْ مَحْصُورَةً بِالسُّورِ ... - ... فَانْقُضْ بِضِدِّ سُورِها المَذْكُورِ
فَإِنْ تَكُنْ مُوجِِبَةً كُلِّيَّةْ ... - ... نَقِيضُها سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةْ
وَإِنْ تَكُنْ سَالِبةً كُلِّيَّةْ ... - ... نَقيضُها موجِبَةٌ جُزْئِيَّةْ
يعني أن التناقض عبارة عن اختلاف قضيتين في الصدق، والكيف وهو الإيجاب والسلب، فشرطه أن لا يختلفا إلا بالإيجاب والسلب، ولابد أن تكون إحدى القضيتين صادقة والأخرى كاذبة.(1/23)
فقولنا (تناقض) مبتدأ وسوغه بالنكرة التفصيل. وقولنا (فإن تكن شخصية..) هذه قاعدة تعين في كيفية التناقض على ما اشتهر تقريره وصعب تحصيله وهي أن القضية إما أن تكون عارية عن السور فهذه إن كانت سالبة كان نقيضها موجبة كزيد قائم ليس بقائم أو الإنسان حيوان ليس بحيوان، وهذا معنى قولنا (فنقضها بالكيف) البيت أي فإن كانت القضية شخصية أو مهملة فتناقضها بحسب الكيف وهو الإيجاب والسلب بأن تبدله فإن كان إيجاباً فتناقضها بضد سورها بأن تعوّض عن سورها سوراً يناقضه، وإليه الإشارة بقولنا (وإن تكن محصورة) البيت أي وإن كانت القضية محصورة بأت تقدمها سور فتناقضها بذكر نقيض سورها.
وأقسام السور أربعة كما تقدم، فالمسوّرات أربع موجبة كلية ككل إنسان حيوان فنقيضها سالبة جزئية كليس بعض الإنسان بحيوان، وسالبة كلية كلا شيء من الإنسان بحجر فنقيضها موجبة جزئية نحو بعض الإنسان حجر.
وإن في البيتين شرطية وجوابها نقيضها فحذفت الفاء من جوابها للضرورة كقول حسان - رضي الله عنه - :
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... - ... والشرّ بالشرّ ع عند الله سيان
فكان من حقه أن يقول (فالله) لكن حذف الفاء للضرورة، وورد حذفها نثراً كما في الصحيح "فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها" أي فاستمتع.
)فَصْلٌ في العَكْسِ المُسْتَوي(
تكلم في هذا الفصل على حكم من أحكام القضايا وهو العكس المستوي، فالعكس المستوي عبارة عن تحويل جزأي القضية مع بقاء الصدق والكيف والكم إلا الإيجاب الكلي فيعوّض عنه الإيجاب الجزئي، وإلى هذا المعنى أشرنا بقولنا:
العَكْسُ قَلْبُ جُزْأَيِ القَضِيَّهْ ... - ... مَعَ بَقَاءِ الصِّدْقِ وَالكَيْفِيَّهْ
وَالكَمِّ إِلاّ المُوجِبَ الكُلِّيَّهْ ... - ... فَعَوْضُها المُوجِبَةُ الجُزْئِيَّهْ
وَالعَكْسُ لازِمٌ لِغَيْرِ مَا وُجِدْ ... - ... بِهِ اجْتِمَاعُ الخِسَّتَيْنِ فَاقْتَصِدْ
وَمثلُها المُهْمَلَةُ السَّلبيَّهْ ... - ... لأنَّهَا في قُوَّةِ الجُزئيَّهْ(1/24)
وَالعَكْسُ في مُرَ تَّبٍ بِالطَّبْع ... - ... وَ لَيْسَ في مُرَ تَّبٍ بِالوَضْعِ
اعلم أن المقصود من العكس ما كان لازماً من جهة الترتيب لا ما يتفق في بعض الأمور وإن لم يلزم في القانون الكلي؛ وكل قضية يلزمها العكس فعكسها تحويل طرفيها خاصة من غير تغيير كيف ولا كم إلا الموجبة الكلية فتنعكس موجبة جزئية، لأنا لو عكسناها مثل نفسها لم تصدق.
والمقصود من هذا الفصل إنما هو ما كان لازماً على جهة الصدق فتقول في عكس كل إنسان حيوان بعض الحيوان إنسان فلو عكستها مثل نفسها فقلت كل حيوان إنسان لم تصدق. ثم إن العكس لازم لكل قضية طبيعية الترتيب إلا التي تجتمع فيها الخستان وهما السالبة والجزئية كليس بعض الحيوان إنساناً فلا يصدق عكسها وتلحق بها المهملة السالبة لأنها في قوّتها تحقيقاً فيها كما مضى.
والسالبة الكلية تنعكس صادقة مثل نفسها كلا شيء من الإنسان بحجر ولا شيء من الحجر بإنسان؛ والموجبة الكلية تنعكس صادقة موجبة جزئية كما تقدم؛ والموجبة الجزئية تنعكس صادقة مثل نفسها أيضاً كبعض الحيوان إنسان وبعض الإنسان حيوان؛ والموجبة المهملة كالجزئية الموجبة تنعكس مثل نفسها كالإنسان كاتب، والكاتب إنسان.
واعلم أن العكس لا يكون إلا في القضايا ذات الترتيب الطبيعي وإليه الإشارة بقولنا (والعكس في مرتب بالطبع) احترازاً من المنفصلات فإن تحويل طرفيها ليس عكساً، لأن كلا من طرفيها صالح لأن يكون مقدماً وتالياً فلا يتعين ترتيبها إلا بالوضع بخلاف الحملية والمتصلة فإن ترتيبها طبيعي، وإن انعكس طرفاها فهي مرتبة بالقوة؛ واحترز بالمستوى من عكس النقيض.
)بابٌ في القِيَاسِ(
لما فرغ من الكلام على ما يتعلق بمبادئ التصديقات شرع يتكلم هنا على مقاصد التصديقات وهي القياس وما يتعلق به.(1/25)
فالقياس: قول مؤلف من قضايا مستلزم بالذات لقول آخر، وهو قسمان: الأول ما يشتمل على النتيجة أو على نقيضها بالقوة ويسمى اقترانياً وحملياً؛ والثاني ما يشتمل على النتيجة أو نقيضها بالفعل ويسمى استثنائياً وشرطياً.
إِنَّ القِياسَ مِنْ قَضايا صُوِّرا ... - ... مُسْتَلْزِماً بِالذَّاتِ قَوْلاً آخَرا
ثُمَّ القِيَاسُ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ ... - ... فَمِنْهُ مَا يُدْعى بِالاقْتِراني
وَهْوَ الَّذي دَلَّ على النَتيجَةِ ... - ... بِقُوَّة ٍوَاخْتَصَّ بالحَمْلِيَّةِ
أي أن القياس عند المناطقة هو المركب من قضايا يستلزم لذاته قولاً آخر؛ والاقتراني منه ما كان مشتملاً على النتيجة أو نقيضها بالقوة، نحو: العالم متغير وكل متغير حادث وهو خاص بالقضايا الحملية فلهذا سمي حملياً. و(مستلزماً) حال من ضمير (صورا). و(قولاً) معمول الحال.
فَإِنْ تُرِدْ ترْكيبَهُ فَرَكِّبا ... - ... مُقَدِّماتِهِ عَلى مَا وَجَبَا
وَرَ تِّبِ المُقَدِّماتِ وَانْظُرا ... - ... صَحِيحَهَا مِنْ فَاسِدٍ مُخْتَبِرا
فَإِنَّ لازِمَ المُقَدِّماتِ ... - ... بِحَسَبِ المُقَدِّماتِ آتِ
أي إذا أردت أن تعلم كيفية تركيب القياس فركب مقدماته على ما يجب من اندراج الصغرى تحت الكبرى كما سيأتي من دلالتها على النتيجة وتأمل تلك المقدمات هل هي صحيحة أم لا لئلا يفسد القياس فإن اللازم بحسب ملزومه.
واعلم أنه لابد أن يشتمل على مقدمتين صغرى وكبرى، والصغرى مندرجة في الكبرى أي داخلة فيها وإلى هذا المعنى أشرنا بقولنا:
وَما مِنَ المُقَدِّماتِ صُغْرَى ... - ... فَيَجِبُ انْدِراجُها فِي الْكُبْرى
وَذاتُ حَدٍّ أَصْغَرٍ صُغْراهُما ... - ... وَذاتُ حَدٍّ أَكْبَرٍ كُبْراهُما
وَأَصْغَرٌ فَذاكَ ذُو انْدِراجِ ... - ... وَوَسَطٌ يُلْغَى لَدَى الإِنْتاجِ
أي لابد أن تكون الكبرى أعم الصغرى وإلا لم يحصل اللزوم إذ يلزم من الحكم على الأعم الحكم على الأخص لا العكس.(1/26)
ثم اعلم أن الصغرى هي المشتملة على موضوع النتيجة المسمى بالحد الأصغر، والكبرى هي المشتملة على محمولها المسمى بالحد الأكبر، والطرف المكرر المشترك بينهما يسمى الحد الأوسط وهو الجامع بينهما، والحد الأصغر مندرج في الأكبر؛ وعند الانتاج يلغى الحد الأوسط ويبقى الأصغر والأكبر.
هذا مضمون الأبيات، فقولنا (وما من المقدمات) البيت ما موصولة مبتدأ وخبرها (فيجب) وصغراهما خبر مبتدأ محذوف. وتنوين أصغر وأكبر للضرورة، والله الموفق.
)فَصْلٌ في الأَشْكالِ(
الشَّكْلُ عِنْدَ هؤُلاءِ النَّاسِ ... - ... يُطْلَقُ عَنْ قَضِيَّتَيْ قِيَاسِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْتَبَرَ الأَسْوارُ ... - ... إِذْ ذَاكَ بِالضَّرْبِ لَهُ يُشَارُ
يعني أن المناطقة اصطلحوا على تسمية قضيتي القياس من غير اعتبار الأسوار شكلاً، ومع اعتبارها ضرباً أي نوعاً من أنواع الشكل. وقوله (عند هؤلاء الناس) البيت الناس بدل أو نعت أو عطف بيان على الوجوه في المحلى بأل بعد اسم الإشارة. وعن بمعنى على. وقولنا (إذ ذاك) البيت أي وقت اعتبار الأسوار أي يشار لمجموع القضيتين بالضرب فيسمى ضرباً.
ثم اعلم أن الأشكال أربعة باعتبار الأوسط، وبعضها أقوى من بعض، بينتها بقولي:
وللمُقدِّماتِ أَشْكالٌ فَقَطْ ... - ... أرْبَعَةٌ بِحَسَبِ الحَدِّ الوَسَطْ
حَمْلٌ بِصُغْرَى وَضْعُهُ بِكُبْرَى ... - ... يُدْعَى بِشَكْلٍ أَوَّلٍ وَيُدْرَى
وَحَمْلُهُ فِي الْكُلِّ ثَانِياً عُرِفْ ... - ... وَوَضْعُهُ فِي الْكُلِّ ثَالِثاً أُلِفْ
وَرَابِعُ الأَشْكَالِ عَكْسُ الأَوَّلِ ... - ... وَهْيَ عَلى التَّرْتِيبِ فِي التَّكَمُّلِ
يعني أن الأشكال بحسب الحد المكرر أربعة أقسام:
لأنه إما أن يكون موضوعاً في الكبرى محمولاً في الصغرى كالإنسان حيوان والحيوان حادث فهو الشكل الأول المسمى بالنطم الكامل لأنه أقواها وهي ترجع إليه في الحقيقة.(1/27)
وإن كان محمولاً فيهما كالإنسان حيوان، الفرس حيوان فهو الشكل الثاني القريب من الأوّل لأنه وافقه في طرف الحمل الذي هو أقوى من طرف الوضع.
وإما أن يكون موضوعاً فيهما كالإنسان حيوان، الإنسان حادث فهو الشكل الثالث لموافقته من طرف الوضع.
وإما أن يكون موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى وهو عكس الأول كالإنسان حيوان، الكاتب إنسان فهو الشكل الرابع وهو أضعفها لبعده عن الأول لكونه لم يوافقه لا في الحمل ولا في وضع، وهذا معنى قولنا (وهي على الترتيب) البيت، وأربعة نعت لأشكال وقد قدم فقط للضرورة.
فَحَيْثُ عَنْ هذا النِّظَامِ يُعْدَلُ ... - ... فَفَاسِدُ النِّظَام ِأَمَّا الأَوَّلُ
فَشَرْطُهُ الإِيْجَابُ فِي صُغْرَاهُ ... - ... وَأَنْ تُرَى كُلِّيَّةً كُبْرَاهُ
وَالثَّانِ أَنْ يَخْتَلِفا فِي الْكَيْفِ مَعْ ... - ... كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى لَهُ شَرْطٌ وَقَعْ
وَالثَّالِثُ الإِيْجَابُ فِي صُغْرَاهُمَا ... - ... وَأَنْ تُرَى كُلِّيَّةً إِحْدَاهُمَا
وَرَابِعٌ عَدَمُ جَمْعِ الخِسَّتَيْنْ ... - ... إِلاّ بِصُورَةٍ فَفِيها يَسْتَبينْ
صُغْرَاهُمَا مُوجِبَةٌ جُزْئِيَّهْ ... - ... كُبْرَاهُمَا سَالِبَةٌ كُلِّيَّهْ
أي إذا عدل عن هذه الأشكال وعن هذا الترتيب فذلك فاسد كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ثم ذكر شرط إنتاج كل شكل واستغنى عن ذكر ضروبه بذكر شروطه لاستلزامه لتلك.
والضرب عبارة عن نوع الشكل بحسب تعاقب الأسوار عليه، وها نحن نذكر ضروب كل شكل أعني المنتجة منها ليبدو لك ما كان حاصلاً بالقوة حاصلاً بالفعل.
فشرط إنتاج الشكل الأول إيجاب الصغرى وكلية الكبرى فضروبه المنتجة إذن أربعة:
الأول: موجبتان كليتان ككل (ج ب) وكل (ب ا) ينتج كل (ج ا).
الضرب الثاني: كليتان الصغرى موجبة ككل (ج ب) ولا شيء من (ب ا) ينتج لا شيء من (ج ا).
الضرب الثالث: موجبتان والصغرى جزئية كبعض (ج ب) وكل (ب ا) ينتج بعض (ج ا).(1/28)
الضرب الرابع: الصغرى موجبة والكبرى سالبة كلية كبعض (ج ب) ولا شيء من (ب ا) ينتج ليس بعض (ج ا) .
وإنما كانت نتيجة الضرب الأول كل والثاني لا شيء والثالث بعض والرابع ليس بعض لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين كما سيأتي.
وشرط إنتاج الشكل الثاني اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب مع كلية الكبرى فضروبه المنتجة أيضاً أربع:
الضرب الأول:كليتان صغراهما موجبة ككل (جب) ولا شيء من (ا ب).
الضرب الثاني:كليتان وصغراهما سالبة كلا شيء من (ج ب) وكل (ا ب).
فالنتيجة في هذين الضربين كلية سالبة وهي لا شيء من (ج ا).
الضرب الثالث: صغرى موجبة جزئية وكبرى سالبة كلية كبعض (ج ب) ولا شيء من (ا ب).
الضرب الرابع: صغرى سالبة جزئية وكبرى موجبة كلية كليس بعض (ج ب) وكل (ا ب).
فالنتيجة في هذين الأخيرين سالبة جزئية وهي ليس بعض (ج ب).
وشرط إنتاج الشكل الثالث إيجاب الصغرى وكلية إحدى المقدمتين فضروبه المنتجة إذن ستة :
الضرب الأول: كليتان موجبتان ككل (ب ج) وكل (ب ا).
الضرب الثاني: موجبتان صغراهما جزئية كبعض (ب ج) وكل (ب ا).
الضرب الثالث: موجبتان صغراهما كلية ككل (ب ج) وبعض (ب ا).
فالنتيجة في هذه الثلاث موجبة جزئية وهي بعض (ج ا).
الضرب الرابع:كليتان صغراهما موجبة ككل (ب ج) ولا شيء من (ب ا).
الضرب الخامس: موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى كبعض (ب ج) ولا شيء من (ب ا).
الضرب السادس: موجبة كلية صغرى وسالبة جزئية كبرى ككل (ب ج) وبعض (ب ا).
والنتيجة في هذه الثلاث الأخيرة سالبة جزئية وهي ليس بعض (ج ا).
وشرط انتاج الشكل الرابع عدم اجتماع الخستين فيه ولو في مقدمة واحدة إلا في صورة واحدة من ضروبه وهي أن تكون الصعرى موجبة جزئية فيجب فيها حينئذ أن تكون الكبرى سالبة كلية إذ لو جعلناها موجبة جزئية لم ينتج لعد دلالة المقدمتين على النتيجة، فضروب الرابع المنتجة إذن خمسة:
الضرب الأول: كليتان موجبتان ككل (ب ج) وكل (ا ب).(1/29)
الضرب الثاني: موجبتان صغراهما كلية ككل (ب ج) وبعض (ا ب).
والنتيجة في هذين الضربين موجبة جزئية وهي بعض (ج ا).
الضرب الثالث: كليتان صغراهما سالبة نحو لا شيء من (ب ج) وكل (ا ب). والنتيجة سالبة كلية وهي لا شيء من (ج ا).
الضرب الرابع:كليتان صغراهما موجبة ككل (ب ج) ولا شيء من (ا ب).
الضرب الخامس:صغرى موجبة جزئية وكبرى سالبة كلية كبعض ( ب ج) ولا شيء من (ا ب).
ونتيجة هذين الضربين سالبة جزئية وهي ليس بعض (ج ا).
(تنبيهات) الأول: هذه الحروف المذكورة قد اشتهر اصطلاح المناطقة على التعبير بها للاختصار فمعنى كل (ج ب) مثلاً كل إنسان حيوان.
الثاني: زعم بعضهم أن الأشكال ثلاثة وأن الرابع هو الأول منها بعينه قدمت فيه الكبرى لموافقته له في الصورة، وليس كذلك: إذ الأشكال تتغير باعتبار موضوع النتيجة ومحمولها ولا يتغير ذلك إلا بتغير النتيجة ولو كان هو الأول لاتحدت نتائجها ونتائج هذا عكس الأول لأن المطلوب في قولنا كل (ج ب) وكل (ا ج) بعض (اب) ولو جعلناه من الأول لنتج كل (ا ب).
وقولنا (والثان أن يختلفا) البيت حذفت الياء من لفظ الثاني للوزن وذلك جائز حتى نثراً كقوله تعالى { الكبير المتعال } . والثاني مبتدأ وأَنْ وصِلَتُها مبتدأ ثان وله شرط خبره. وقولنا (إلا في صورة) البيت أي شرط الرابع انتفاء اجتماع الخستين أي السلب والجزئية إلا في صورة ففيها تستبين الخستان أي تظهر فيها لزوماً. وقولنا (صغراهما موجبة) البيت أي وتلك الصورة أن تكون صغراهما كذا الخ والله الموفق للصواب.
فَمُنْتِجٌ لِأَوَّلٍ أَرْبَعَةٌ ... - ... كَالثَّانِ ثُمَّ ثَالِثٌ فَسِتَّةٌ
وَرَابِعٌ بِخَمْسَةٍ قَدْ أَنْتَجَا ... - ... وَغَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ لَمْ يُنْتِجا
وَتَتْبَعُ النَّتِيجَةُ الأَخَسَّ مِنْ ... - ... تِلْكَ المُقَدِّماتِ هكَذا زُكِنْ
وَهذِهِ الأَشْكالُ بِالحَمْلِيِّ ... - ... مُخْتَصَّةٌ وَلَيْسَ بِالشَّرْطِيِّ(1/30)
وَالحَذْفُ في بَعْضِ المُقَدِّماتِ ... - ... أَوْ النَّتيجَةِ لِعِلْمٍ آتِ
يعني أن ضروب الشكل الأول المنتجة أربعة كما تقدم، والضروب المنتجة للثاني أربعة أيضاً، وهذا معنى قولنا (كالثاني) أي كعدد ضروب الثاني فهو على حذف مضافين.
ثم قال (فستة) أي ثم الشكل الثالث ضروبه المنتجة فثُمَّ للترتيب الذكرى.
ثم قال (ورابع) البيت أي والشكل الرابع منتج لخمسة ضروب، فرابع مبتدأ نكرة والمسوّغ التفصيل.
وقوله (وغير ما ذكرته..) أي هذا الذي ذكرته من ضروب الأشكال إنما هو المنتج، وإلا فضروب كل شكل منتجها وعقيمها ستة عشر لأن كل مقدمة لابد أن تكون مسورة بإحدى الأسوار الأربعة ثم تتعاقب الأسوار فيقع بعضها في محل الآخر أربع تعاقبات وأربعة في أربعة بستة عشر، لكن ما فصلناه منها منتج وغيره عقيم، وليس هذا المختصر محلاً لاستيفاء عقيمها؛ وأيضاً فهذا المختصر إنما وضعناه في معظم أوقات العجلة والضيق، وذلك في وسط الشتاء سنة 941هـ، وقد وضع أهل هذا الفن لتفصيل المنتج من العقيم جداول فلتطالع من محلها، وغرضنا الاختصار.
وقولنا (وتتبع النتيجة الأخس) البيت هو السلبية والجزئية. و(زكن) أي علم.
ثم اعلم أن الأشكال مختصة بالقياس الحملي وإليه أشار بقوله (وهذه الأشكال) البيت.
ثم اعلم أنه يجوز حذف بعض المقدمات للعلم بها وهكذا النتيجة، وإليه الإشارة بقولنا (والحذف) البيت، والحذف مبتدأ وخبره آت. فمثال حذف الصغرى هذا يحد لأن كل زان يحد؛ ومثال حذف الكبرى هذا يحد لأنه زان. ومثال حذف النتيجة هذا زان وكل زان يحد، وهذا رمان وكل رمان يحبس القيء.
وَتَنْتَهي إِلى ضَرُورَةٍ لِمَا ... - ... مِنْ دَوْرٍ أَوْ تَسَلْسُلٍ قَدْ لَزِمَا(1/31)
يعني أن المقدمات لابد أن تنتهي إلى ضرورة قاطعة للدور والتسلسل اللازمين لذلك، وهما مستحيلان. والدور: توقف كل واحد من الشيئين على الآخر. والتسلسل: توقف الشيء على أشياء غير متناهية. واللام في قولنا لم للتعليل. ومن لبيان الجنس وهو مصدوق ما.
)فَصْلٌ في الاستثنائي(
هذا هو القسم الثاني من قسمي القياس وهو القياس الشرطي المسمى بالاستثنائي، وهو قسمان أيضاً متصل ومنفصل. فالمتصل هو الذي يحكم فيه بلزوم قضية أخرى أولا للزومها وهو الذي يكون فيه حرف شرط نحو { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } ؛ وتسمى المقدمة المشتملة على الشرط شرطية ولا يجوز أن يكون المقدم أعم من التالي كما لا يكون الموضوع أعم من المحمول إذ يلزم من الحكم على الأعم الحكم على الأخص لا العكس.
وَمِنْهُ مَا يُدْعَى بِالاسْتِثْنائيِ ... - ... يُعْرَفُ بِالشَّرْطِ بِلا امْتِرَاءِ
وَهْوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى النَّتِيْجَةِ ... - ... أَوْ ضِدِّها بِالفِعْلِ لا بِالقُوَّةِ
أي من القياس قسم يسمى بالقياس الاستثنائي وهو المعروف بالشرطي لكونه مركباً من قضايا شرطية وهو المشتمل على النتيجة أو نقيضها بالفعل، نحو لو كان النهار موجوداً لكانت الشمس طالعة ولو لم يكن النهار موجوداً لما كانت الشمس طالعة، والنتيجة في الأخير ونقيضها في الأول مذكوران بالفعل.
وقولنا (بالقوة) احترازاً من الاقتراني وقد تقدم. وقولنا (ومنه) معطوف على (منه) المتقدم.
ثم اعلم أن المتصل إما أن يستثنى عين مقدمه أو نقيضه أو نقيض التالي أو عينه:
فاستثناء عين مقدمه ينتج عين تاليه نحو كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن الشمس طالعة فالنهار موجود.
واستثناء نقيض تاليه يستلزم نقيض مقدمه نحو { لو كان فيهما آلهة } الآية،(1/32)
وأما عكس هاتين الصورتين وهما استثناء نقيض المقدم أو عين التالي فلا يلزم فيهما إنتاج لاحتمال أن يكون التالي أعم من مقدمه إذ يلزم من ثبوت الأخص ثبوت الأعم ومن نفي الأعم نفي الأخص بخلاف العكس، فإذا قلت: مهما كان هذا إنساناً فهو حيوان فلا يلزم منه لكنه حيوان فهو إنسان أو لكنه ليس بإنسان فليس بحيوان لما تقدم. وإلى هذا أشرنا بقولنا:
فَإِنْ يَكُ الشَّرْطِيُّ ذَا اتِّصَالِ ... - ... أَنْتَجَ وَضْعُ ذَاكَ وَضْعَ التَّالِي
وَرَفْعُ تَالٍ رَفْعَ أَوَّلٍ وَلا ... - ... يَلْزَمُ فِي عَكْسِهِمَا لِمَا انْجَلَى
يعني إن كان الشرطي متصلاً أنتج وضع مقدمه أي ثبوته وضع تاليه. وقولنا (وضع ذاك) إشارة إلى المقدم بدليل ذكر التالي؛ ورفع تاليه ينتج رفع مقدمه بخلاف العكس فلا يلزم فيهما إنتاج وتقدمت الأمثلة.
وقولنا (لما انجلى) إشارة إلى الفرق بينهما وهو التعليل المذكور قبل، فاللام للتعليل، وحيث لم يكن التالي أعم بل تساويا لزم من ثبوت هذا ثبوت هذا والعكس، وإنما كان كذلك لخصوص المادة لا لخصوص صورة الدليل.
تنبيه: حيث يستثنى عين المقدم فأكثر ما يستعمل في الشرطية بلفظ "إن" فإنها موضوعة لتعليق الوجود بالوجود؛ وحيث يستثنى نقيض التالي فأكثر ما يؤتى بـ"لو" فإنها وضعت لتعليق العدم بالعدم وهذا يسمى بقياس الخلف وهو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه.
ثم اعلم أن القياس المنفصل ما كان مؤلفاً من قضايا منفصلة وهي المتعاندة وهي ثلاثة أقسام: مانع الجمع والرفع وهو الحقيقي؛ ومانع جمع؛ ومانع رفع.
فإن كان حقيقياً وهو مانع الجمع والرفع نحو العدد إما زوج أو فرد أنتج وضع كلّ من طرفيه رفع الآخر لامتناع الجمع والعكس لامتناع الخلو.
وإن كان مانع جمع أنتج وضع أحد الطرفين رفع الآخر لامتناع الجمع بخلاف العكس لإمكان الخلو.
وإن كان مانع الخلو فعكسه أن ينتج رفع أحدهما وضع الآخر لامتناع الخلو لا العكس لإمكان الجمع وإليه أشرنا بقولنا:(1/33)
وَإِنْ يَكُنْ مُنْفَصِلاً فَوَضْعُ ذا ... - ... يُنْتِجُ رَفْعَ ذَاكَ وَالعَكْسُ كَذا
وَذَاكَ فِيْ الأَخَصِّ ثُمَّ إِنْ يَكُنْ ... - ... مَانِعَ جَمْعٍ فَبِوَضْع ِذَا زُكِنْ
رَفْعٌ لِذَاكَ دُونَ عَكْسٍ وَإِذَا ... - ... مَانِعَ رَفْعٍ كَانَ فَهْوَ عَكْسُ ذَا
أي وإن يكن القياس الشرطي منفصلاً فوضع كل من طرفيه ينتج رفع الآخر والعكس إن كان حقيقياً، هذا معنى قوله (وذاك في الأخص)؛ وإن يكن مانع جمع فوضع كل يوجب رفع الآخر دون عكس أي لا يوجب رفع كل وضع الآخر لجواز الخلو، وإن كان مانع رفع فهو عكس مانع الجمع كما تقدم.
وقوله (فبوضع...) جواب إن يكن. و(رفعٌ) نائب فاعل زكن. و(مانعَ) خبر كان مقدم. (فهو عكس) جواب إذا.
)لَوَاحِقُ القِيَاسِ(
لما فرغ من القياس أي المفرد شرع فيما يلحق به فمن ذلك القياس المركب، وهو تركيب مقدمات ينتج بعضها نتيجة يلزم منها ومن مقدم أخرى نتيجة أخرى إاى هلم جرَّا.
وسمي مركباً لكونه مركباً من حجج متعددة نحو قولك: كل (ج ب)، وكل (ب ا)، وكل (ا د)، وكل (د ط)، فكل (ج ط).
وهو قسمان: متصل النتائج وهو ما تذكر فيه النتائج؛ ومنفصلها وهو ما لم تذكر نتائجها.
وَمِنْهُ مَا يَدْعُونَهُ مُرَكَّبَا ... - ... لِكَوْنِهِ مِنْ حُجَجٍ قَدْ رُكِّبَا
فَرَكِّبَنْهُ إِنْ تُرِدْ أَنْ تَعْلَمَهْ ... - ... وَاقْلِبْ نَتِيْجَةً بِهِ مُقَدِّمَهْ
يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِيْبِهَا بِأُخْرَى ... - ... نَتِيْجَةٌ إِلَى هَلُمَّ جَرَّا
مُتَّصِلَ النَّتَائِج ِالَّذِي حَوَى ... - ... يَكُونُ أَوْ مَفْصُولَها كُلٌّ سَوَا
أي ومن القياس قسم يسمى بالقياس المركب سمي بذلك لتركبه من حجج متعددة. و(منه) خبر (ما) مقدم. و(ما) موصولة مبتدأ. واللام للتعليل. وإن شرطية شرطها (تُرِد). وجوابها محذوف لدلالة ما تقدم قبله عليه وهو قولنا (فركبنه)؛ هذا مذهب جمهور البصريين ومذهب الكوفيين والمبرد وأبي زيد من البصريين أنه إذا تقدم هو الجواب نفسه، والأول أصح.(1/34)
وقوله (واقلب) البيت، نتيجة مفعول أول لاقلب والثاني مقدمه. ويلزم نعتها. ومتصل خبر يكون. وحوى أي اشتمل عليها؛ والله الموفق للصواب.
وَإِنْ بِجُزْئِيٍّ عَلَى كُلِّيْ اسْتُدِلْ ... - ... فَذَا بِالاسْتِقْرَاءِ عِنْدَهُمْ عُقِلْ
وَعَكْسُهُ يُدْعَى القِيَاسَ المَنْطِقِيْ ... - ... وَهْوَ الَّذِيْ قَدَّمْتُهُ فَحَقِّقِ
وَحَيْثُ جُزْئِيٌّ عَلَى جُزْئِيْ حُمِلْ ... - ... لِجَامِعٍ فَذَاكَ تَمْثِيْلٌ جُعِلْ
وَلا يُفِيْدُ القَطْعَ بِالدَّلِيْلِ ... - ... قِيَاسُ الاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيْلِ
نبه في هذه الأبيات على نوعين مما يلحق القياس وهما الاستقراء والتمثيل.
فالاستقراء: هو الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته، كقولنا كل حيوان يحرك فكَّه الأسفل عند المضغ لأن الإنسان والبهائم والسباع كذلك، وهذا لا يفيد القطع لاحتمال عدم العموم كهذا المثال لخروج التمساح من الحيوان.
وعكس الاستقراء هو الاستدلال بالكلي على الجزئي المفيد للقطع وهو القياس المنطقي المراد من هذا الفن وقد تقدم ذكره.
والتمثيل: إثبات حكم في جزئي لوجوده في جزئي لمعنى مشترك بينهما، وهو ضعيف أيضاً لأن الدليل إذا قام في المستدل عليه أغنى عن النظر في جزئي غيره لكن يصلح لتطبيب النفس وتحصيل الاعتقاد.
وإلى هذا كله أشرنا بقولنا: (وإن بجزئي...) أي وإن استدل بجزئي على كلي فهو المعروف عندهم بالاستقراء.
وقوله (وحيث..) البيت أي وإن حمل جزئي على جزئي لعلة جامعة بينهما فهو التمثيل.
وهو والاستقراء لا يصلحان إلا لبحث الفقهاء، ولا يفيدان إلا الظن، وإلى هذا أشرنا بقولنا (ولا يفيد القطع) البيت والله الموفق للصواب.
...
)أَقْسامُ الحُجَّةِ(
ذكر في هذا الفصل تقسيم الحجة باعتبار مادتها فإن الحجة قسمان نقلية وعقلية.
والحجة العقلية خمسة أقسام برهانية وجدلية وخطابية وشعرية وسفسطائية وتسمى المغالطة، وإلى هذا أشار بقوله:(1/35)
وَحُجَّةٌ نَقْلِيَّةٌ عَقْلِيَّهْ ... - ... أَقْسَامُ هَذِي خَمْسَةٌ جَلِيَّهْ
خَطَابَةٌ شِعْرٌ وَبُرْهَانٌ جَدَلْ ... - ... وَخَامِسٌ سَفْسَطَةٌ نِلْتَ الأَمَلْ
فالخطابة ما تألف من مقدمات مقبولة وهي قضايا تؤخذ ممن يعتقد فيه الصدق وليس بنبي أو لصفة جميلة كزيادة علم أو زهد؛ أو من مقدمات مظنونة نحو هذا يدور في الليل بالسلاح فهو لص فهذا لص.
والغرض من الخطابة ترغيب السامع فيما ينفعه.
والشعر ما تألف من مقدمات متخيلة لترغيب السامع في شيء أو تنفيره عنه نحو الخمر ياقوتة سيالة والعسل مرة مهوعة.
والغرض من الشعر تاثر النفس.
والجدل ما تألف من مقدمات مشهورة وهي ما اعترف بها الجمهور لمصلحة عامة أو بسبب رقة أو حمية، نحو: هذا ظلم وكل ظلم قبيح فهذا قبيح، وهذا كاشف عورته كل كاشف عورته مذموم فهذا مذموم.
والغرض من الجدل إما إقناع قاصر عن البرهان أو إلزام الخصم ودفعه.
والسفسطة ما تألف من مقدمات شبيهة بالحق وليست به، وتسمى مغالطة كقولنا في صورة فرس في حائط هذا فرس وكل فرس صهال فهذا صهال؛ أو شبيه بالمقدمات المشهورة وتسمى مشاغبة كقولنا في شخص يخبط في البحث هذا يكلم العلماء بألفاظ العلم وكل من كان كذلك فهو عالم فهذا عالم؛ أو من مقدمات وهمية كاذبة نحو هذا ميت وكل ميت جماد.
فهذه أربعة من أقسام الحجة والخامس البرهان وهو المفيد للعلم اليقيني كما تقدم وإليه أشرنا إلى قولنا:
أَجَلُّهَا الْبُرْهَانُ مَا أُلِّفَ مِنْ ... - ... مُقَدِّمَاتٍ بِاليَقِيْنِ تَقْتَرِنْ
مِنْ أَوَّلِيَّاتٍ مُشَاهَدَاتِ ... - ... مُجَرَّبَاتٍ مُتَوَاتِرَاتِ
وَحَدَسِيَّاتٍ وَمَحْسُوسَاتِ ... - ... فَتِلْكَ جُمْلَةُ اليَقِيْنِيَّاتِ
أي أجل الحجج الخمس البرهان وهو ما تركب من مقدمات يقينية.
ثم ذكر أن اليقينيات ستة.
أولها: الأوليات وتسمى البديهيات وهو ما يجزم به العقل بمجرد تصور طرفيه نحو الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من جزأيه.(1/36)
ثانيها: المشاهدات الباطنة وهو ما لا يفتقر إلى عقل كجوع الإنسان وعطشه وألمه، فإن البهائم تدركه.
ثالثها: التجريبات وهي ما يحصل من العادات كقولنا الرمان يحبس القيء والنانخاه تهضم الشبع والتبخير يبزر البصل يسقط سوس الأضراس، وقد يعم كعلم العامة بأن الخمر مسكر، وقد يخص كعلم الطبيب بإسهال المسهلات.
رابعها: المتواترات وهي ما يحصل بنفس الأخبار تواتراً كالعلم بوجود مكة وبغداد لمن لم يرهما.
خامسها: الحدسيات وهي ما يجزم به لعقل الترتيب دون ترتيب التجريبات مع القرائن كقولنا نور القمر مستفاد من نور الشمس.
سادسها: المحسوسات وهي ما تحصل بالحس الظاهر أعني بالمشاهدة كالنار حارة والشمس مضيئة.
فهذه جملة اليقينيات التي يتألف البرهان منها.
فقوله (من أوليات) من لبيان الجنس وهو اليقين.
ثم اعلم أن المتكلمين اختلفوا في الربط بين الدليل والنتيجة على أربعة أقوال أشرنا إليها بقولنا:
وَفِيْ دَلالَةِ المُقَدِّمَاتِ ... - ... عَلَى النَّتِيْجَةِ خِلافٌ آتِ
عَقْلِيٌّ أَوْ عَادِيٌّ أَوْ تََولُّدُ ... - ... أَوْ وَاجِبٌ وَالأَوَّلُ المُؤَيَّدُ
الأول: مذهب إمام الحرمين وهو الصحيح فلا يمكن تخلفه وإليه أشرت بقولي (والأول المؤيد) أي المقوى.
والثاني: مذهب الأشعري قال عادي يمكن تخلفه، والقولان للقاضي أيضاً.
والثالث: للمعتزلة قالوا بالتولد بمعنى أن القدرة الحادثة أثرت في وجود النتيجة بواسطة تأثرها بالنظر.
والرابع: للحكماء.
وإنما ذكرت هذا الخلاف تتميماً للفائدة.
)خَاتِمَةٌ(
خاتمة الشيء ما يختم به، ولما كان هذا الفصل آخر الموضوع قلت فيه خاتمة، ولما كان الخطأ كثيراً ما يعرض للبرهان لاختلال شرط من شروطها أو حكم من أحكامها جعل للتنبيه على ذلك فصل يخصه.
واعلم أن الخطأ قسمان، تارة يكون بخطأ مادته وتارة يكون بخطأ صورته؛ والأول إما من جهة اللفظ أو المعنى.(1/37)
أما اللفظ فكالاشتراك نحو هذا عين، وكاستعمال المتباينة كالمترادفة نحو السيف والصارم فيغفل الذهن عما به الافتراق فيجري اللفظين مجرى واحد فيظن أن الوسط متحد .
وأما المعنى فكالتباس الصادقة بالكاذبة أيضاً، وذلك نحو الحكم على الجنس بحكم النوع المندرج تحته نحو هذا لون واللون سواد فهذا سواد، وهذا سيال أصفر والسيال الأصفر مرة فهذا مرة؛ ويسمى مثله إيهام العكس لأنه لما رأى كل مرة سيالاً أصفر ظن أن كل سيال أصفرمرة.
ومنه الحكم على المطلق بحكم المقيد بحال أو وقت نحو هذه رقبة وكل رقبة مؤمنة؛ وفي الأعشى هذا مبصر والمبصر مبصر بالليل.
ومنه إجراء غير القطعي كالوهميات وغيرها مما ليس قطعياً مجرى القطعي.
ونحو جعل العرضي كالذاتي نحو هذا إنسان والإنسان كاتب.
ونحو جعل النتيجة إحدى مقدمتي البرهان بتغييرها ويسمى مصادرة عن المطلوب كهذا نقلة وكل نقلة حركة فهذا حركة.
والقسم الثاني من قسمي الخطأ يكون خطؤه في صورته، وذلك كالخروج عن الأشكال الأربعة بأن لا يكون على تأليفها لا فعلاً ولا قوةً. وكانتفاء شرط من شروط الإنتاج كما تقدم، وإلى هذا أشرنا بقولنا:
وَخَطَأُ الْبُرْهَانِ حَيْثُ وُجِدَا ... - ... فِيْ مَادَّةٍ أَوْ صُورَةٍ فَالمُبْتَدَا
فِيْ اللَّفْظِ كَاشْتِرَاكٍ أَوْ كَجَعْلِ ذَا ... - ... تَبَايُنٍ مِثْلَ الرَّدِيْفِ مَأْخَذَا
وَفِيْ المَعَانِيْ لالْتِبَاسِ الكَاذِبَهْ ... - ... بِذَاتِ صِدْقٍ فَافْهَمِ المُخَاطَبَةْ
كَمِثْلِ جَعْلِ العَرَضِيْ كَالذَّاتِيْ ... - ... أَوْ ناتِجٍ إِحْدَى المُقَدِّمَاتِ
وَالحُكْمِ لِلْجِنْسِ بِحُكْمِ النَّوْعِ ... - ... وَجَعْلِ كَالقَطْعِيِّ غَيْرِ القَطْعِيْ
وَالثَّانِ كَالخُرُوجِ عَنْ أَشْكَالِهِ ... - ... وَتَرْكِ شَرْطِ النُّتْجِ مِنْ إِكْمَالِهِ
قد تقدم جميع ذلك مستوفى، وقوله (كجعل ذا) على لغة القصر في الأسماء الستة. و(مأخذا) تمييز لمثل. واللام في (للجنس) بمعنى على.(1/38)
وقوله (كالقطعي غير القطعي) فيه فصل مضاف شبيه بالفعل بمعمول المجرور وهو واقع نظماً ونثراً أما نثراً فكقوله - عليه السلام - : "هل أنتم تاركوا لي صاحبي"، وأما نظماً فكقول الشاعر:
لأنت تعتاد في الهيجا مصابرة ... - ... يصلى بها كل من عاداك نيرانا
والضمير في قولنا (من إكماله) يعود إلى القسم الثاني وهو خطأ في الصورة والسلام.
وهذا آخر ما قصدنا جمعه من أمهات المسائل المنطقية، فالحمد لله على ما أنعم وألهم على إكمال هذا الموضوع على الهيئة المرضية، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وسبباً في نيل الثواب الجسيم، ومن الأعمال التي لا تنقطع بالاضطجاع تحت التراب، وأن يجعله من الأعمال التي تكون سبباً في صرف العذاب ومناقشة الحساب. إنه رؤوف رحيم تواب، وهو الموفق للصواب وعنده حسن المآب.
هَذا تَمَامُ الغَرَضِ المَقْصُودِ ... - ... مِنْ أُمَّهَاتِ المَنْطِقِ المَحْمُودِ
أمهات المنطق أصول مسائله، وأم الشيء أصله، ولذلك قيل لمكة أم القرى لأنها أم الأرض ومنها نشأت.
وكان هذا الفن محموداً لأنه يصون الفكر عن الخطأ، ويميز صحيح العلم النظري من سقيمه، ولا جرم أن ما كان بهذه الصفة في غاية ما يكون من الشرف والمحمدة والله الموفق للصواب.
قَدِ انْتَهَى بِحَمْدِ رَبِّ الفَلَقِ ... - ... مَا رُمْتُهُ مِنْ فَنِّ عِلْمِ المَنْطِقِ
هذا البيت لوالدنا سيدي الصغير بن محمد - رضي الله عنه - وأرضاه وجعل الجنة مثواه ومن عذاب النار صانه ووقاه، أخبرني بأنه قاله في منامه بعد أن أخبرته بهذا الموضوع فأمرني بإدخاله فيه فأدخلته رجاء بركته طالباً من الله حصول الملكة متوسلاً إليه بخير من على سبيل الهدى سلكه.
نَظَمَهُ العَبْدُ الذَّلِيْلُ المُفْتَقِر ... - ... لِرَحْمَةِ المَوْلَى العَظِيْمِ المُقْتَدِرْ
الأَخْضَرِيُّ عَابِدُ الرَّحْمنِ ... - ... المُرْتَجِيْ مِنْ رَبِّهِ المَنَّانِ
مَغْفِرَةً تُحِيْطُ باِلذُّنُوبِ ... - ... وَتَكْشِفُ الغِطَا عَنِ القُلُوبِ(1/39)
وَأَنْ يُثِيْبَنَا بِجَنَّةِ العُلَىْ ... - ... فَإِنَّهُ أَكْرَمُ مَنْ تَفَضَّلا
المفتقر بالتاء أبلغ من الفقير لدلالة التاء على الطلب، والأخضري نعت لعبد وهو تعريف لنسبنا على ما اشتهر في ألسنة الناس وليس كذلك بل المتواتر عن أعالي أسلافنا أن نسبنا للعباس بن مرداس السلمي الذي قال منشداً:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... - ... ـد بين عيينيه والأقرع
فما كان حصن ولا حابس ... - ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... - ... ومن يخفض اليوم لا يرفع
لقد كنت في الحرب ذا أدرع ... - ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
وقولنا (وتكسف الغطا) البيت أي تزيل حجب رين الذنوب، المحدقة بأنوار القلوب، الحائلة بين القلب وبين علام الغيوب؛ فكم من قلب بذلك محجوب، فانحصر في سجن الدائرة الجسمانية، لعزوبه وجهله بالدائرة الروحانية، والحقائق النورانية، والفتوحات الربانية، فصار مملوكاً للشهوات النفسانية، فسلك المسالك الشيطانية، فبقي مغموراً في ظلمات جهله، مكبلاً في سجن هواه وقبيح فعله، محجوباً عن لطائف عقله، إلا من وفقه الله وغفر له، وتاب عليه بجوده وفضله، نسأله سبحانه وتعالى وهو خير مسؤول، وخير مأمول، أن يزيل عنا بفضله ظلمات بصائرنا التي عاقتنا عن إصلاح بواطننا، وشغلتنا بظواهرنا، وأن يقذف في قلوبنا نوراً يهدينا به عند تراكم الهوى إلى صراط مستقيم. إنه غفور رحيم.
وَكُنْ أَخِيْ لِلْمُبْتَدِيْ مُسَامِحَا ... - ... وَكُنْ لإِصْلاحِ الفَسَادِ نَاصِحَا
وَأَصْلِحِ الفَسَادَ بِالتَّأَمُّلِ ... - ... وَإِنْ بَدِيْهَةً فَلا تُبَدِّلِ
إِذْ قِيْلَ كَمْ مُزَيِّفٍ صَحِيْحَا ... - ... لأَجْلِ كَوْنِ فَهْمِهِ قَبِيْحَا
وَقُلْ لِمَنْ لَمْ يَنْتَصِفْ لِمَقْصِدِيْ ... - ... العُذْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمُبْتَدِيْ
وَلِبَنيْ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ سَنَهْ ... - ... مَعْذِرَةٌ مَقْبُولَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ
لا سِيَّمَا فِيْ عَاشِرِ القُرُونِ ... - ... ذِيْ الجَهْلِ وَالفَسَادِ وَالفُتُونِ(1/40)
وَكَانَ فِيْ أَوَائِلِ المُحَرَّمِ ... - ... تَأْلِيْفُ هَذا الرَّجَزِ المُنَظَّمِ
مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنْ ... - ... مِنْ بَعْدِ تِسْعَةٍ مِنَ المَئِيْنْ
لا شك أن مسامحة المبتدي والاعتذار له مما ينبغي لكل عاقل، وذلك لقصور همته وعدم كمال عقله وتوغله في العلم، وأنا أذنت لكل من رأى هذا الموضوع فوجد فيه خللاً أن يصلحه إن كان أهلاً لذلك بعد أن يتأمل وإلا فقد قيل:
كم من مزيف قولاً صحيحاَ ... - ... وآفته من الفهم السقيم
فاعذرني يا أخي، وانظره بعين الرضا؛ وإنما ذكرت هذا تنبيهاً على شياطين الطلبة الذين يمرضون الصحيح ويصححون السقيم، وما ذاك إلا لعدم إنصافهم وقلة تقواهم وعدم مراقبتهم للجليل الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ويعلم خائنة الأعين.
والمؤمن يلتمس العذر لأخيه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "حسب المؤمن من الشر أن يحقر أخاه المسلم"، ويقال من ضاق صدره اتسع لسانه، والحق لا يعرف بالرجال، والمؤمن يقبل الحق ولو من الرعاة فضلاً عن غيرهم.
وإذا كان العذر من حق المبتدئ في الزمن المتقدم فكيف في هذا الزمان الصعب الذي انقرض فيه أكابر العلماء ولم يبق فيه إلا حثالة الحثالة، وغلبت العجمة على قلوب الأنام حتى كاد العلم ينقرض بانقراض أهله.
فإن قلت: إذا كان الأمر كما ذكرت فلم تجاسرت وتجارأت على شيء لا تقدر عليه. قلت: حملني على ذلك تفاؤلي ورجائي من الله عز وجلّ حصول المأمول من الفنون.
قوله (عاشر القرون) يعني من سني الهجرة. وفي القرن أحد عشر قولاً قيل لكل عقد من العشرة إلى الثمانين فتلك ثمانية أقوال، وقيل مائة وإياه أعني، وقيل مائة وعشرة، وقيل من إلى مائة وعشرين.(1/41)
وعاشر القرون هو قرننا هذا الذي ظهرت فيه الفتن واشتد فيه البأس وقوي فيه النحس، واشتد فيه طغيان الكافرين وانتشر فيه ظلم الظالمين وكثرت فيه شرار الخلائق ولم يبق إلا آثار الطرائق، والناس فيه ساهون مهطعون لحطام الدنيا معرضون عن الدرجات العليا مسابقون فيه إلى هواهم ليوقعهم في أهوى المهاوي وأسوأ المساوي، وليس لهم تفكر في هاذم اللذات ولا تأهب فيما بعد الممات، كأنهم في الدنيا مخلدون وهم للفناء مشاهدون يخدم الواحد منهم يخدم الواحد منهم طول عمره على منفعة ساعة ويضيع منفعة الأبد، فما أشغلها من إضاعة!.
فلو استيقظ هذا النائم ونظر بعين قلبه وفكّر في مآل أمره لسارع للطاعة، واشتغل بالسنة والجماعة، لكن كثر ذنبه وقسا قلبه وظهر عيبه فخذله ربه فلم تنفع فيه موعظة ولا صار من أهل اليقظة. إن كان قبل هذا الزمان عبدة الأوثان فأهل هذا الزمان عبدة الشيطان، شاع الشر وانتشر لقرب هجوم الآيات الكبر.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه ولا تجعلنا ممن اتخذ إلهه هواه واحشرنا في زمرة أوليائك وجملة أصفيائك يوم لا يستغنى إلا بك، يوم لا ملجأ منك إلا إليك، يوم لا خير إلا لديك، وأعنا على هذا الزمان الصعب الذي كسفت فيه شموس الحق وشاع فيه ظلام الباطل بين الخلق، وسدّ الأفق دخان الهوى وانتشر في الأقاليم واستوى فلا حرص ولا حزن إلا على الدنيا.
ترى الواحد إذا ضيع من الدنيا مثقال حبة تأسف عليه وتحيّر، وتكدّر قلبه وتغيّر، ويضيع من خير الآخرة ما لا نسبة للدنيا بحذافيرها منه فلا يخطر له ذلك ببال؛ وما ذلك إلا من علامة الخذلان والضلال، ومن علامات الخسران والنكال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
زماننا هذا هو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه"
اللهم وفقنا لاتباع السنة يا ذا الفضل والمنة، وأسعدنا بلقائك بلا محنة، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(1/42)
ثُمَّ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ سَرْمَدَا ... - ... عَلَى رَسُولِ اللَّهِ خَيْرِ مَنْ هَدَى
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الثِّقَاتِ ... - ... السَّالِكِيْنَ سُبُلَ النَّجَاةِ
مَا قَطَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ أَبْرُجَا ... - ... وَطَلَعَ البَدْرُ المُنِيْرُ فِيْ الدُّجَى
قد تقدم في الخطبة الكلام على ما يتعلق بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - .
وقولنا (ما قطعت) البيت، ما مصدرية ظرفية. ولفظ أبرج جمع قلة والمراد الكثرة لأنها اثنا عشر برجاً، في كل برج ثلاثون درجة تقطع الشمس كل يوم درجة، وتقطع الفلك في سنة، ويكون طول الملوين وقصرهما بحسب الميل الشمالي والجنوبي لاتساع القوس وضيقه في الآفاق الماثلة التي لها عرض، وأما القمر فيقيم في كل برج ليلتين وثلثاً، ويقطع الفلك في شهر.فسبحان مكون الأكوان.
تم بحمد الله وكفى والصلاة والسلام على مولانا محمد المصطفى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
)مُقَدِّمَةٌ(
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي قَدْ أَخْرَجا ... - ... نَتائِجَ الفِكْرِ لأَرْبابِ الحِجَا
وَحَطَّ عَنْهُمْ مِنْ سَمَاءِ العَقْلِ ... - ... كُلَّ حِجَابٍ مِنْ سَحابِ الجَهْلِ
حَتى بَدَتْ لَهُمْ شُمُوسُ المَعْرِفهْ ... - ... رَأَوْا مُخَدَّراتِها مُنْكَشِفَهْ
نَحْمَدُهُ جَلَّ عَلى الإِنْعامِ ... - ... بِنِعْمَةِ الإِيمانِ وَالإِسْلامِ
مَنْ خَصَّنا بِخَيْرِ مَنْ قَدْ أَرْسَلا ... - ... وَخَيْرِ مَنْ حَازَ المَقامَاتِ العُلَى
مُحَمَّدٍ سَيِّدِ كُلِّ مُقْتَفَى ... - ... العَرَبِيِّ الهَاشِمِيِّ المُصْطَفى
صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ ما دامَ الحِجا ... - ... يَخُوضُ مِنْ بَحْرِ المَعاني لُجَجا
وآلِهِ وَصَحْبِه ذَوِي الهُدَى ... - ... مَنْ شُبِّهُوا بَأَنْجُمٍ في الاهْتِدا
وَبَعْدُ فَالمَنْطِقُ لِلْجَنَانِ ... - ... نِسْبَتُهُ كَالنَّحْوِ لِلِّسانِ
فَيَعْصِمُ الأفكارَ عَنْ غَيِّ الخَطا ... - ... وَعَنْ دَقيقِ الفَهْمِ يَكْشِفُ الغِطَا(1/43)
فهَاكَ مِنْ أُصُولِهِ قَواعِدا ... - ... تَجْمَعُ مِنْ فُنُونِهِ فَوائِدا
سَمَّيْتُهُ بِالسُّلَّمِ المُنَوْرَقِ ... - ... يُرْقَى بِهِ سَماءُ عِلْمِ المَنْطِقِ
وَاللَّهَ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَالِصَا ... - ... لِوَجْهِهِ الكَريمِ لَيْسَ قالِصَا
وَأَنْ يَكونَ نافِعاً لِلْمُبْتدي ... - ... بِهِ إِلى المُطَوَّلاتِ يَهْتدي
فَصْلٌ في جَوازِ الاشْتِغَالِ بهِ
وَالخُلْفُ في جَوازِ الاشْتِغالِ ... - ... بِهِ عَلى ثَلاثَةٍ أَقْوالِ
فَابْنُ الصَّلاحِ وَالنَّواوي حَرَّما ... - ... وَقالَ قَوْمٌ يَنْبَغي أَنْ يُعْلَما
وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحهْ ... - ... جَوَازُهُ لِكامِلِ القَريحَهْ
مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتابِ ... - ... لِيَهْتَدي بِهِ إِلى الصَّوابِ
أَنْواعُ العِلْمِ الحَادِثِ
إِدْراكُ مُفْرَدٍ تَصَوُّراً عُلِمْ ... - ... وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْديقٍ وُسِمْ
وَقُدِّمَ الأَوَّلُ عِنْدَ الوَضْعِ ... - ... لأَنَّهُ مُقَّدَّمٌ بِالطَّبْعِ
وَالنَّظَريْ ما احْتاجَ لِلتَّأَمُّلِ ... - ... وَعَكْسُهُ هُوَ الضَّروريُّ الجَلي
وَما بِهِ إِلى تَصَوُّرٍ وُصِلْ ... - ... يُدْعَى بِقَوْلٍ شَارِحٍ فَلْتَبْتَهِلْ
وَمَا لِتَصْدِيقٍ بِهِ تُوُصِّلا ... - ... بِحُجَّةٍ يُعْرَفُ عِنْدَ العُقَلا
أنوَاعُ الدّلالةِ الوَضْعِيَّةِ
دَلالةُ اللَّفْظِ عَلى مَا وافَقَهْ ... - ... يَدْعُونَها دَلالَةَ المُطابَقَةْ
وَجُزْئِهِ تَضَمُّناً وَما لَزِمْ ... - ... فَهْوَ الْتِزَامٌ إنْ بِعَقْلٍ التَزَمْ
فَصْلٌ في مباحِثِ الأَلْفاظِ
مُسْتَعْمَلُ الأَلْفاظِ حيثُ يوجدُ ... - ... إِمَّا مُرَكَّبٌ وَإِمَّا مُفْرَدُ
فَأَوَّلٌ ما دَلَّ جُزْؤُهُ عَلى ... - ... جُزُءِ مَعْناهُ بِعَكْسِ ما تلا
وَهْوَ عَلى قِسْمَيْنِ أَعْني المُفْرَدا ... - ... كُلِّيٌّ أَوْ جُزْئِيُّ حَيْثُ وُجِدا
فَمُفْهِمُ اشْتِراكٍ الكُلِّيُّ ... - ... كَأَسَدٍ وَعَكْسُهُ الجُزْئِيُّ
وَأَوَّلاً لِلذَّاتِ إِنْ فيها انْدَرَجْ ... - ... فَانْسِبْهُ أَوْْ لِعارِضٍ إِذا خَرَجْ(1/44)
وَالكُلِّيَّاتُ خَمْسَةٌ دُونَ انْتِقاصْ ... - ... جِنْسٌ وَفَصْلٌ عَرَضٌ نَوْعٌ وَخاصْ
وَأَوَّلٌ ثَلاثَةٌ بِلا شَطَطْ ... - ... جِنْسٌ قَريبٌ أَوْ بَعيدٌ أَوْ وَسَطْ
فَصْلٌ في بَيانِ نِسْبَةِ الأَلْفاظِ لِلْمَعاني
وَنِسْبَةُ الأَلْفاظِ لِلْمَعاني ... - ... خَمْسَةُ أَقْسَامٍ بلا نُقْصانِ
تَواطُؤٌ تَشَاكُكٌ تَخَالُفُ ... - ... وَالاشْتِراكُ عَكْسُهُ التَّرادُفُ
وَاللَّفْظُ إِمَّا طَلَبٌ أَوْ خَبَرُ ... - ... وَأَوَّلٌ ثَلاثَةٌ سَتُذْكَرُ
أَمْرٌ مَعَ اسْتِعْلا وَعَكْسُهُ دُعا ... - ... وَفي التَّساوِي فَالْتِماسٌ وَقَعا
فَصْلٌ في بَيانِ الكُلِّ والكُلِّيَّةِ وَالجُزْءِ وَالجُزْئِيَّةِ
الكُلُّ حُكْمُنا عَلى المَجْمُوعِ ... - ... كَكُلِّ ذاكَ لَيْسَ ذا وُقُوعِ
وَحَيْثُما لِكُلِّ فَرْدٍ حُكِما ... - ... فَإِنَّهُ كُلِّيَّةٌ قَدْ عُلِما
وَالحُكْمُ لِلْبَعْضِ هُوَ الجُزْئِيَّةْ ... - ... وَالجُزْءُ مَعْرِفَتُُهُ جَلِيَّةْ
فَصْلٌ في المُعَرِّفاتِ
مُعَرِّفٌ على ثَلاثَةٍ قُسِمْ ... - ... حَدٌّ وَرَسْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ عُلِمْ
فَالحَدُّ بِالجِنْسِ وَفَصْلٍ وَقَعا ... - ... وَالرَّسْمُ بِالجِنْسِ وَخاصَةٍ مَعا
وَناقِصُ الحَدِّ بِفَصْلٍ أَوْ مَعا ... - ... جِنْسٍ بَعيدٍ لا قَريبٍ وَقَعا
وَناقِصُ الرَّسْمِ بِخَاصَةٍ فَقَطْ ... - ... أَوْ مَعَ جِنْسٍ أَبْعَدٍ قَدِ ارْتَبَطْ
وَمَا بِلَفْظِيٍّ لَدَيْهِم شُهِرا ... - ... تَبْديلُ لَفْظٍ بِرَديفٍ أَشْهَرا
وَشَرْطُ كُلٍّ أَنْ يُرى مُطَّرداً ... - ... مُنْعَكِساً وَظاهِراً لا أَبْعَدا
وَلا مُساوِياً وَلا تُجُوِّزا ... - ... بِلا قَرِيْنَةٍ بِها تُحُرِّزا
وَلا بِما يُدْرَى بِمَحْدُودٍ وَلا ... - ... مُشْتَرَكٍ مِنَ القَرينَةِ خَلا
وَعِنْدَهُم مِنْ جُمْلَةِ المَرْدودِ ... - ... أَنْ تَدْخُلَ الأَحْكامُ في الحُدُودِ
وَلا يَجُوزُ في الحُدُودِ ذِكْرُ أَوْ ... - ... وَجَائِزٌ في الرَّسْمِ فَادْرِ ما رَوَوْا
بَابٌ في القَضايا وَأَحْكامِها(1/45)
ما احْتَمَلَ الصِّدْقَ لِذاتِهِ جَرى ... - ... بَيْنَهُمُ قَضِيَّةً وَخَبَرا
ثُمَّ القَضَايا عِنْدَهُم قِسْمانِ ... - ... شَرْطِيَّةٌ حَمْلِيَّةٌ وَالثَّاني
كُلِّيَّةٌ شَخْصِيَّةٌ وَالأَوَّلُ ... - ... إِمَّا مُسَوَّرٌ وَإِمَّا مُهْمَلُ
وَالسُّورُ كُلِّيًّا وَجُزْئِياًّ يُرَى ... - ... وَأَرْبَعٌ أَقْسَامُهُ حَيْثُ جَرى
إِمَّا بِكُلٍّ أَوْ بِبَعْضٍ أَوْ بلا ... - ... شَيْءَ وَلَيْسَ بَعْضٌ اَوْ شِبْهٍ جَلا
وَكُلُّها مُوجَبَةٌ أَوْ سالِبَهْ ... - ... فَهْيَ إِذنْ إِلى الثَمانِ آيِبَهْ
والأَوَّلُ الموضوعُ في الحملِيَّهْ ... - ... والآخرُ المحمولُ بالسَّويَّهْ
وَإِنْ عَلى التَّعْليقِ فيها قَدْ حُكِمْ ... - ... فَإِنَّها شَرْطِيَّةٌ وَ تَنْقَسِمْ
أَيْضاً إِلى شَرْطِيَّةٍ مُتَّصِلَهْ ... - ... وَمِثْلُها شَرْطِيَّةٌ مُنْفَصِلهْ
جُزْ آهُما مُقَدَّمٌ وَتاليْ ... - ... أمَّا بَيَانُ ذاتِ الاتِّصَالِ
ما أَوْجَبَتْ تَلازُمَ الجُزْأَيْنِ ... - ... وَذاتُ الانفِصالِ دُونَ مَيْنِ
ما أَوْجَبَتْ تَنَافُراً بَيْنَهُما ... - ... أَقْسامُها ثَلاثَةٌ فَلْتُعْلَما
مانِعُ جَمْعٍ أَوْ خُلُوٍّ أَوْ هُمَا ... - ... وَهْوَ الحَقِيقِيُّ الأَخَصُّ فَاعْلَما
فَصْلٌ في التَّناقُضِ
تَنَاقُضٌ خُلْفُ القَضِيَّتَيْنِ فِيْ ... - ... كَيْفٍ وَصِدْقُ واحِدٍ أَمْرٌ قُفِيْ
فَإِنْ تَكُنْ شَخْصِيَّةً أَوْ مُهْمَلَهْ ... - ... فَنَقْضُها بِالْكَيْفِ أَنْ تُبَدِّلَهْ
وَإِنْ تَكُنْ مَحْصُورَةً بِالسُّورِ ... - ... فَانْقُضْ بِضِدِّ سُورِها المَذْكُورِ
فَإِنْ تَكُنْ مُوجِِبَةً كُلِّيَّةْ ... - ... نَقِيضُها سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةْ
وَإِنْ تَكُنْ سَالِبةً كُلِّيَّةْ ... - ... نَقيضُها موجَبَةٌ جُزْئِيَّةْ
فَصْلٌ في العَكْسِ المُسْتَويْ
العَكْسُ قَلْبُ جُزْأَيِ القَضِيَّهْ ... - ... مَعَ بَقَاءِ الصِّدْقِ وَالكَيْفِيَّهْ
وَالكَمِّ إِلاّ المُوجِبَ الكُلِّيَّهْ ... - ... فَعَوْضُها المُوجبَةُ الجُزْئِيَّةْ(1/46)
وَالعَكْسُ لازِمٌ لِغَيْرِ مَا وُجِدْ ... - ... بِهِ اجْتِمَاعُ الخِسَّتَيْنِ فَاقْتَصِدْ
وَمثلُها المُهْمَلَةُ السَّلبيَّهْ ... - ... لأنَّهَا في قُوَّةِ الجُزئيَّهْ
وَالعَكْسُ في مُرَ تَّبٍ بِالطَّبْع ... - ... وَ لَيْسَ في مُرَ تَّبٍ بِالوَضْعِ
بابٌ في القِيَاسِ
إِنَّ القِياسَ مِنْ قَضايا صُوِّرا ... - ... مُسْتَلْزِماً بِالذَّاتِ قَوْلاً آخَرا
ثُمَّ القِيَاسُ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ ... - ... فَمِنْهُ مَا يُدْعى بِالاقْتِراني
وَهْوَ الَّذي دَلَّ على النَتيجَةِ ... - ... بِقُوَّة ٍوَاخْتَصَّ بالحَمْلِيَّةِ
فَإِنْ تُرِدْ ترْكيبَهُ فَرَكِّبا ... - ... مُقَدِّماتِهِ عَلى مَا وَجَبَا
وَرَ تِّبِ المُقَدِّماتِ وَانْظُرا ... - ... صَحِيحَهَا مِنْ فَاسِدٍ مُخْتَبِرا
فَإِنَّ لازِمَ المُقَدِّماتِ ... - ... بِحَسَبِ المُقَدِّماتِ آتِ
وَما مِنَ المُقَدِّماتِ صُغْرَى ... - ... فَيَجِبُ انْدِراجُها فِي الْكُبْرى
وَذاتُ حَدٍّ أَصْغَرٍ صُغْراهُما ... - ... وَذاتُ حَدٍّ أَكْبَرٍ كُبْراهُما
وَأَصْغَرٌ فَذاكَ ذُو انْدِراجِ ... - ... وَوَسَطٌ يُلْغَى لَدَى الإِنْتاجِ
فَصْلٌ في الأَشْكالِ
الشَّكْلُ عِنْدَ هؤُلاءِ النَّاسِ ... - ... يُطْلَقُ عَنْ قَضِيَّتَيْ قِيَاسِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْتَبَرَ الأَسْوارُ ... - ... إِذْ ذَاكَ بِالضَّرْبِ لَهُ يُشَارُ
وللمُقدِّماتِ أَشْكالٌ فَقَطْ ... - ... أرْبَعَةٌ بِحَسَبِ الحَدِّ الوَسَطْ
حَمْلٌ بِصُغْرَى وَضْعُهُ بِكُبْرَى ... - ... يُدْعَى بِشَكْلٍ أَوَّلٍ وَيُدْرَى
وَحَمْلُهُ فِي الْكُلِّ ثَانِياً عُرِفْ ... - ... وَوَضْعُهُ فِي الْكُلِّ ثَالِثاً أُلِفْ
وَرَابِعُ الأَشْكَالِ عَكْسُ الأَوَّلِ ... - ... وَهْيَ عَلى التَّرْتِيبِ فِي التَّكَمُّلِ
فَحَيْثُ عَنْ هذا النِّظَامِ يُعْدَلُ ... - ... فَفَاسِدُ النِّظَام ِأَمَّا الأَوَّلُ
فَشَرْطُهُ الإِيْجَابُ فِي صُغْرَاهُ ... - ... وَأَنْ تُرَى كُلِّيَّةً كُبْرَاهُ
وَالثَّانِ أَنْ يَخْتَلِفا فِي الْكَيْفِ مَعْ ... - ... كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى لَهُ شَرْطٌ وَقَعْ(1/47)
وَالثَّالِثُ الإِيْجَابُ فِي صُغْرَاهُمَا ... - ... وَأَنْ تُرَى كُلِّيَّةً إِحْدَاهُمَا
وَرَابِعٌ عَدَمُ جَمْعِ الخِسَّتَيْنْ ... - ... إِلاّ بِصُورَةٍ فَفِيها يَسْتَبينْ
صُغْرَاهُمَا مُوجِبَةٌ جُزْئِيَّةْ ... - ... كُبْرَاهُمَا سَالِبَةٌ كُلِّيَّةْ
فَمُنْتِجٌ لِأَوَّلٍ أَرْبَعَةٌ ... - ... كَالثَّانِ ثُمَّ ثَالِثٌ فَسِتَّةٌ
وَرَابِعٌ بِخَمْسَةٍ قَدْ أَنْتَجَا ... - ... وَغَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ لَمْ يُنْتِجا
وَتَتْبَعُ النَّتِيجَةُ الأَخَسَّ مِنْ ... - ... تِلْكَ المُقَدِّماتِ هكَذا زُكِنْ
وَهذِهِ الأَشْكالُ بِالحَمْلِيِّ ... - ... مُخْتَصَّةٌ وَلَيْسَ بِالشَّرْطِيِّ
وَالحَذْفُ في بَعْضِ المُقَدِّماتِ ... - ... أَوْ النَّتيجَةِ لِعِلْمٍ آتِ
وَتَنْتَهي إِلى ضَرُورَةٍ لِمَا ... - ... مِنْ دَوْرٍ أَوْ تَسَلْسُلٍ قَدْ لَزِمَا
فَصْلٌ في الاستثنائي
وَمِنْهُ مَا يُدْعَى بِالاسْتِثْناءِ ... - ... يُعْرَفُ بِالشَّرْطِ بِلا امْتِرَاءِ
وَهْوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى النَّتِيْجَةِ ... - ... أَوْ ضِدِّها بِالفِعْلِ لا بِالقُوَّةِ
فَإِنْ يَكُ الشَّرْطِيُّ ذَا اتِّصَالِ ... - ... أَنْتَجَ وَضْعُ ذَاكَ وَضْعَ التَّالِي
وَرَفْعُ تَالٍ رَفْعَ أَوَّلٍ وَلا ... - ... يَلْزَمُ فِي عَكْسِهِمَا لِمَا انْجَلَى
وَإِنْ يَكُنْ مُنْفَصِلاً فَوَضْعُ ذا ... - ... يُنْتِجُ رَفْعَ ذَاكَ وَالعَكْسُ كَذا
وَذَاكَ فِيْ الأَخَصِّ ثُمَّ إِنْ يَكُنْ ... - ... مَانِعَ جَمْعٍ فَبِوَضْع ِذَا زُكِنْ
رَفْعٌ لِذَاكَ دُونَ عَكْسٍ وَإِذَا ... - ... مَانِعَ رَفْعٍ كَانَ فَهْوَ عَكْسُ ذَا
لَوَاحِقُ القِيَاسِ
وَمِنْهُ مَا يَدْعُونَهُ مُرَكَّبَا ... - ... لِكَوْنِهِ مِنْ حُجَجٍ قَدْ رُكِّبَا
فَرَكِّبَنْهُ إِنْ تُرِدْ أَنْ تَعْلَمَهْ ... - ... وَاقْلِبْ نَتِيْجَةً بِهِ مُقَدِّمَةْ
يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِيْبِهَا بِأُخْرَى ... - ... نَتِيْجَةٌ إِلَى هَلُمَّ جَرَّا
مُتَّصِلَ النَّتَائِج ِالَّذِي حَوَى ... - ... يَكُونُ أَوْ مَفْصُولَها كُلٌّ سَوَا(1/48)
وَإِنْ بِجُزْئِيٍّ عَلَى كُلِّيْ اسْتُدِلْ ... - ... فَذَا بِالاسْتِقْرَاءِ عِنْدَهُمْ عُقِلْ
وَعَكْسُهُ يُدْعَى القِيَاسَ المَنْطِقِيْ ... - ... وَهْوَ الَّذِيْ قَدَّمْتُهُ فَحَقِّقِ
وَحَيْثُ جُزْئِيٌّ عَلَى جُزْئِيْ حُمِلْ ... - ... لِجَامِعٍ فَذَاكَ تَمْثِيْلٌ جُعِلْ
وَلا يُفِيْدُ القَطْعَ بِالدَّلِيْلِ ... - ... قِيَاسُ الاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيْلِ
أَقْسامُ الحُجَّةِ
وَحُجَّةٌ نَقْلِيَّةٌ عَقْلِيَّةْ ... - ... أَقْسَامُ هَذِي خَمْسَةٌ جَلِيَّةْ
خَِطَابَةٌ شِعْرٌ وَبُرْهَانٌ جَدَلْ ... - ... وَخَامِسٌ سَفْسَطَةٌ نِلْتَ الأَمَلْ
أَجَلُّهَا الْبُرْهَانُ مَا أُلِّفَ مِنْ ... - ... مُقَدِّمَاتٍ بِاليَقِيْنِ تَقْتَرِنْ
مِنْ أَوَّلِيَّاتٍ مُشَاهَدَاتِ ... - ... مُجَرَّبَاتٍ مُتَوَاتِرَاتِ
وَحَدَسِيَّاتٍ وَمَحْسُوسَاتِ ... - ... فَتِلْكَ جُمْلَةُ اليَقِيْنِيَّاتِ
وَفِيْ دَلالَةِ المُقَدِّمَاتِ ... - ... عَلَى النَّتِيْجَةِ خِلافٌ آتِ
عَقْلِيٌّ أَوْ عَادِيٌّ أَوْ تََولُّدُ ... - ... أَوْ وَاجِبٌ وَالأَوَّلُ المُؤَيَّدُ
خَاتِمَةٌ
وَخَطَأُ الْبُرْهَانِ حَيْثُ وُجِدَا ... - ... فِيْ مَادَّةٍ أَوْ صُورَةٍ فَالمُبْتَدَا
فِيْ اللَّفْظِ كَاشْتِرَاكٍ أَوْ كَجَعْلِ ذَا ... - ... تَبَايُنٍ مِثْلَ الرَّدِيْفِ مَأْخَذَا
وَفِيْ المَعَانِيْ لالْتِبَاسِ الكَاذِبَهْ ... - ... بِذَاتِ صِدْقٍ فَافْهَمِ المُخَاطَبَهْ
كَمِثْلِ جَعْلِ العَرَضِيْ كَالذَّاتِيْ ... - ... أَوْ ناتجٍ إِحْدَى المُقَدِّمَاتِ
وَالحُكْمِ لِلْجِنْسِ بِحُكْمِ النَّوْعِ ... - ... وَجَعْلِ كَالقَطْعِيِّ غَيْرِ القَطْعِيْ
وَالثَّانِ كَالخُرُوجِ عَنْ أَشْكَالِهِ ... - ... وَتَرْكِ شَرْطِ النُّتْجِ مِنْ إِكْمَالِهِ
هَذا تَمَامُ الغَرَضِ المَقْصُودِ ... - ... مِنْ أُمَّهَاتِ المَنْطِقِ المَحْمُودِ
قَدِ انْتَهَى بِحَمْدِ رَبِّ الفَلَقِ ... - ... مَا رُمْتُهُ مِنْ فَنِّ عِلْمِ المَنْطِقِ
نَظَمَهُ العَبْدُ الذَّلِيْلُ المُفْتَقِر ... - ... لِرَحْمَةِ المَوْلَى العَظِيْمِ المُقْتَدِرْ(1/49)
الأَخْضَرِيُّ عَابِدُ الرَّحْمنِ ... - ... المُرْتَجِيْ مِنْ رَبِّهِ المَنَّانِ
مَغْفِرَةً تُحِيْطُ باِلذُّنُوبِ ... - ... وَتَكْشِفُ الغِطَا عَنِ القُلُوبِ
وَأَنْ يُثِيْبَنَا بِجَنَّةِ العُلَىْ ... - ... فَإِنَّهُ أَكْرَمُ مَنْ تَفَضَّلا
وَكُنْ أَخِيْ لِلْمُبْتَدِيْ مُسَامِحَا ... - ... وَكُنْ لإِصْلاحِ الفَسَادِ نَاصِحَا
وَأَصْلِحِ الفَسَادَ بِالتَّأَمُّلِ ... - ... وَإِنْ بَدِيْهَةً فَلا تُبَدِّلِ
إِذْ قِيْلَ كَمْ مُزَيِّفٍ صَحِيْحَا ... - ... لأَجْلِ كَوْنِ فَهْمِهِ قَبِيْحَا
وَقُلْ لِمَنْ لَمْ يَنْتَصِفْ لِمَقْصِدِيْ ... - ... العُذْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمُبْتَدِيْ
وَلِبَنيْ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ سَنَةْ ... - ... مَعْذِرَةٌ مَقْبُولَةٌ مُسْتَحْسَنَةْ
لا سِيَّمَا فِيْ عَاشِرِ القُرُونِ ... - ... ذِيْ الجَهْلِ وَالفَسَادِ وَالفُتُونِ
وَكَانَ فِيْ أَوَائِلِ المُحَرَّمِ ... - ... تَأْلِيْفُ هَذا الرَّجَزِ المُنَظَّمِ
مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنْ ... - ... مِنْ بَعْدِ تِسْعَةٍ مِنَ المَئِيْنْ
ثُمَّ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ سَرْمَدَا ... - ... عَلَى رَسُولِ اللَّهِ خَيْرِ مَنْ هَدَى
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الثِّقَاتِ ... - ... السَّالِكِيْنَ سُبُلَ النَّجَاةِ
مَا قَطَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ أَبْرُجَا ... - ... وَطَلَعَ البَدْرُ المُنِيْرُ فِيْ الدُّجَى
تم بحمد الله(1/50)