في الإيمان حتى إذا أداه كان فرضا لا نفلا حتى إذا بلغ لا يجب عليه الإعادة لكن التكليف، والعهدة عنه ساقطان فلا يحرم الميراث بالقتل ولا يلزم على هذا الحرمان بالكفر والرق؛ لأنهما ينافيان الإرث فعدم الحق لعدم سببه أو لعدم الأهلية لا يعد جزاء.
ـــــــ
وهو أن يكون من مبدأ الفطرة وافر العقل تام القدرة كامل القوى, والصغر حالة منافية لهذه الأمور فتكون من العوارض "فقبل أن يعقل كالمجنون أما بعده, فيحدث له ضرب من أهلية الأداء لكن الصبا عذر مع ذلك, فيسقط عنه ما يحتمل السقوط عن البالغ فلا يسقط نفس الوجوب في الإيمان حتى إذا أداه كان فرضا لا نفلا حتى إذا بلغ لا يجب عليه الإعادة لكن التكليف, والعهدة عنه ساقطان فلا يحرم الميراث بالقتل" تعقيب لقوله: لكن التكليف والعهدة عنه ساقطان بالقتل "ولا يلزم على هذا الحرمان بالكفر والرق; لأنهما ينافيان الإرث فعدم الحق لعدم سببه أو لعدم الأهلية لا يعد جزاء" إنما قال هذا; لأن الحرمان بسبب القتل إنما هو بطريق الجزاء فإن القاتل تعجل بأخذ الميراث فجوزي بحرمانه لكن الصبي ليس من أهل الجزاء بالشر فلم يحرم, ولا يشكل على هذا الحرمان بالكفر, والرق; لأن الحرمان بهما ليس بطريق الجزاء بل لعدم سببه في الكفر, وعدم الأهلية في الرق.
................................................................................................
قوله: "ولا يلزم على هذا الحرمان بالكفر, والرق" كما إذا ارتد الصبي العاقل أو استرق فإنه لا يستحق الإرث أما الكافر; فلأنه لا ولاية له, وهي السبب للإرث على ما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن حال زكريا عليه الصلاة والسلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي}, وأما الرقيق فلأنه ليس أهلا للملك.(2/352)
حكم العته
ومنها العته وحكمه حكم الصبي مع العقل فيما ذكرنا إلا أن امرأة المعتوه إذا أسلمت لا يؤخر عرض الإسلام عليه كما لا يؤخر عرضه على ولي المجنون بخلاف الصبي والفرق أنهما غير مقدرين والصبا مقدر.
ـــــــ
"ومنها العته" وهو اختلال في العقل بحيث يختلط كلامه فيشبه مرة كلام العقلاء, ومرة كلام المجانين "وحكمه حكم الصبي
................................................................................................
قوله: "وحكمه" أي: حكم العته حكم الصبا مع العقل, وذلك; لأن الصبي في أول حاله عديم العقل فألحق به المجنون, وفي الآخر ناقص العقل فألحق به المعتوه فلا يمنع صحة القول, والفعل حتى يصح إسلامه, وتوكيله في بيع مال الغير, والشراء له, وفي طلاق امرأته, وإعتاق عبده, ويمنع ما يوجب إلزام شيء يحتمل السقوط فلا يصح طلاق امرأته, وإعتاق عبده, ولو بإذن الولي, ولا بيعه, ولا شراؤه لنفسه بدون إذن الولي, ويطالب بالحقوق الواجبة بالإتلاف, لا بالعقود كثمن المشترى, وتسليم المبيع, ولا يجب عليه العقوبات, والعبادات, وفي التقويم أنه يجب عليه العبادات احتياطا.(2/352)
حكم النسيان
ومنها النسيان وهو لا ينافي الوجوب لكنه لما كان من جهة صاحب الشرع يكون عذرا في حقه فيما يقع فيه غالبا لا في حق العباد.
وهو إما أن يقع فيه المرء بتقصيره كالأكل في الصلاة مثلا فإن حالها مذكرة، وإما لا بتقصيره إما بأن يدعو إليه الطبع كالأكل في الصوم أو بمجرد أنه مركوز في الإنسان كما هو في تسمية الذبيحة، والأول ليس بعذر بخلاف الأخيرين فسلام الناسي يكون عذرا؛ لأنه غالب الوجود.
ـــــــ
مع العقل فيما ذكرنا إلا أن امرأة المعتوه إذا أسلمت لا يؤخر عرض الإسلام عليه كما لا يؤخر عرضه على ولي المجنون بخلاف الصبي والفرق أنهما" أي: الجنون والعته "غير مقدرين والصبا مقدر".
"ومنها النسيان وهو لا ينافي الوجوب لكنه لما كان من جهة صاحب الشرع يكون عذرا في حقه" أي: في حق صاحب الشرع "فيما يقع فيه غالبا لا في حق العباد وهو إما أن يقع فيه المرء بتقصيره كالأكل في الصلاة مثلا فإن حالها مذكرة, وإما لا بتقصيره إما بأن يدعو إليه
................................................................................................
قوله: "إلا أن امرأة المعتوه إذا أسلمت لا يؤخر عرض الإسلام" على المعتوه إلى كمال العقل هذا الاستدراك ليس كما ينبغي; لأنه لا فرق بين المعتوه, والصبي العاقل في عدم تأخير عرض الإسلام; لأن إسلامهما صحيح فصح خطابهما, وإلزامهما; لأن ذلك الحق العبد, وهو الزوجة, وإنما سقط عنهما خطاب الأداء فيما يرجع إلى حق الله تعالى خاصة, وإنما التأخير في حق الصغير خاصة كذا في شرح الجامع, وغيره.
قوله: "ومنها النسيان", وهو عدم ما في الصورة الحاصلة عند العقل عما من شأنه الملاحظة في الجملة أعم من أن يكون بحيث يتمكن من ملاحظتها أي وقت شاء, ويسمى هذا ذهولا, وسهوا أو يكون بحيث لا يتمكن من ملاحظتها إلا بعد تجشم كسب جديد, وهذا هو النسيان في عرف الحكماء, والنسيان لا ينافي الوجوب لبقاء القدرة بكمال العقل, ويكون عذرا في حقوق العباد; لأنها محترمة لحاجتهم لا للابتلاء, وبالنسيان لا يفوت هذا الاحترام فلو أتلف مال إنسان ناسيا يجب عليه الضمان, وأما في حقوق الله تعالى, فإما أن يقع المرء في النسيان بتقصير منه كالأكل في الصلاة حيث لم يتذكر مع وجود المذكر, وهو هيئة الصلاة فلا يكون عذرا, وإما لا بتقصير منه, فيكون عذرا سواء كان معه ما يكون داعيا إلى النسيان, ومنافيا للتذكر كالأكل في الصوم لما في الطبيعة من النزوع إلى الأكل أو لم يكن كترك التسمية عند الذبح فإنه لا داعي إلى تركها لكن ليس هناك ما يذكر إخطارها بالبال, وإجراءها على اللسان فسلام الناسي في القعدة يكون عذرا حتى لا تبطل صلاته إذ لا تقصير من جهته, والنسيان غالب في تلك الحالة لكثرة تسليم المصلي في القعدة فهي داعية إلى السلام.(2/353)
حكم النوم
ومنها النوم، وهو لما كان عجزا عن الإدراكات والحركات الإرادية أوجب تأخير الخطاب لا الوجوب لاحتمال الأداء بعده بلا حرج لعدم امتداده قال عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة" الحديث، وأبطل عباراته لعدم الاختيار فإذا قرأ في صلاته نائما لا تصح القراءة، وإذا تكلم لا تفسد، وإذا قهقه لا يبطل الوضوء ولا الصلاة.
ـــــــ
الطبع كالأكل في الصوم أو بمجرد أنه مركوز في الإنسان كما هو في تسمية الذبيحة, والأول ليس بعذر بخلاف الأخيرين فسلام الناسي يكون عذرا; لأنه غالب الوجود".
"ومنها النوم, وهو لما كان عجزا عن الإدراكات والحركات الإرادية أوجب تأخير الخطاب لا الوجوب" أي: نفس الوجوب "لاحتمال الأداء بعده بلا حرج لعدم امتداده قال عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة" الحديث, وأبطل عباراته" أي: أبطل النوم عبارات النائم وهو عطف على قوله أوجب تأخير الخطاب "لعدم الاختيار فإذا قرأ في صلاته نائما لا تصح القراءة, وإذا تكلم لا تفسد, وإذا قهقه لا يبطل الوضوء ولا الصلاة".
"ومنها الإغماء" وهو تعطل القوى المدركة,
................................................................................................
قوله: "وهو" أي: النوم لما كان عجزا عن الإدراكات أي: الإحساسات الظاهرة إذ الحواس الباطنة لا تسكن في النوم, وعن الحركات الإرادية أي: الصادرة عن قصد, واختيار بخلاف الحركات الطبيعية كالتنفس, ونحوها أوجب تأخير الخطاب بالأداء إلى وقت الانتباه لامتناع الفهم, وإيجاد الفعل حالة النوم, ولم يوجب تأخير نفس الوجوب, وأسقطها حال النوم لعدم إخلال النوم بالذمة, والإسلام, ولإمكان الأداء حقيقة بالانتباه أو خلفا بالقضاء, والعجز عن الأداء, إنما يسقط الوجوب حيث يتحقق الحرج بتكثير الواجبات, وامتداد الزمان, والنوم ليس كذلك عادة, واستدل على بقاء نفس الوجوب بقوله عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" 1 فإنه لو لم تكن الصلاة واجبة لما أمر بقضائها قيل: وفي لفظ "عن" إشارة إلى وجوبها حال النوم, وإلا لما كان نائما عن الصلاة.
قوله: "وأبطل" أي: النوم عبارات النائم فيما يعتبر فيه الاختيار كالبيع, والشراء, والإسلام, والردة, والطلاق, والعتاق لانتفاء الإرادة والاختيار في النوم حتى أن كلامه بمنزلة ألحان الطيور, ولهذا ذهب المحققون إلى أنه ليس بخبر, ولا إنشاء, ولا يتصف بصدق, ولا كذب.
قوله: "فإذا قرأ في صلاته نائما لا تصح" هذا هو مختار فخر الإسلام رحمه الله تعالى, وذكر في النوادر أن قراءة النائم تنوب عن الفرض, وفي النوازل إن تكلم النائم يفسد صلاته, وذلك; لأن الشرع جعل النائم كالمستيقظ في حق الصلاة, وذكر في المغني أن عامة المتأخرين على أن قهقهة
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 37. مسلم في كتاب المساجد حديث 309، 314-316. الترمذي في كتاب الصلاة باب 16، 17. النسائي في كتاب المواقيت باب 52- 54. ابن ماجه في كتاب الصلاة باب 10، 11. الموطأ في كتاب المواقيت حديث 25. أحمد في مسنده 3/31، 44.(2/354)
حكم الإغماء
ومنها الإغماء وهو ضرب من المرض.
فيبطل العبادات ويوجب الحدث في كل حال ولما كان نادرا في الصلاة يمنع البناء وهو في القياس لا يسقط شيئا من الواجبات كالنوم وفي الاستحسان يسقط ما فيه حرج، وهو في الصلاة بأن يمتد حتى يزيد على يوم وليلة وفي الصوم والزكاة لا يعتبر؛ لأنه يندر وجوده شهرا أو سنة.
ـــــــ
والمحركة حركة إرادية بسبب مرض يعرض للدماغ أو القلب "وهو ضرب من المرض" حتى لم يعصم منه النبي عليه الصلاة والسلام وهو فوق النوم فيما ذكرنا; لأن النوم حالة طبيعية يتعطل معها القوى المدركة بسبب ترقي البخارات إلى الدماغ, ولما كان النوم حالة طبيعية كثيرة الوقوع, وسببه شيء لطيف سريع الزوال والإغماء على خلافه في جميع هذه الأمور كان الإغماء فوق النوم ألا ترى أن التنبيه والانتباه من النوم في غاية السرعة أما التنبيه من الإغماء فغير ممكن ", فيبطل العبادات ويوجب الحدث في كل حال" أي: سواء كان قائما أو راكعا أو ساجدا أو متكئا أو مستندا بخلاف النوم, وإنما جعلناه كذلك لما ذكرنا من قوة سبب الإغماء وكثافته, ولطافة سبب النوم فمنافاة الإغماء تماسك اليقظة أشد من منافاة النوم إياه فجعل الإغماء حدثا في كل حال لا النوم, وأيضا كثرة وقوع النوم وقلة الإغماء توجب ذلك دفعا للحرج
................................................................................................
النائم في الصلاة تبطل الوضوء والصلاة جميعا أما الوضوء فبالنص الغير الفارق بين النوم, واليقظة, وأما الصلاة فلأن النائم فيها بمنزلة المستيقظ, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تفسد الوضوء دون الصلاة حتى كان له أن يتوضأ, ويبني على صلاته; لأن فساد الصلاة بالقهقهة مبني على أن فيها معنى الكلام, وقد زال ذلك بزوال الاختيار في النوم بخلاف الحدث فإنه لا يفتقر إلى الاختيار, وقيل: على العكس, ولما كان في القهقهة من معنى الكلام حتى كأنها من جنس العبارات صح تفريع مسألة القهقهة على إبطال النوم عبارات النائم.
قوله: "ومنها الإغماء" اعلم أنه ينبعث عن القلب بخار لطيف يتكون من ألطف أجزاء الأغذية يسمى روحا حيوانيا, وقد أفيضت عليه قوة تسري بسريانه في الأعصاب السارية في أعضاء الإنسان, فينتشر في كل عضو قوة تليق به, ويتم بها منافعه, وهي تنقسم إلى مدركة, ومحركة, أما المدركة فهي: الحواس الظاهرة, والباطنة على ما مر, وأما المحركة فهي التي تحرك الأعضاء بتمديد الأعصاب أو إرخائها لينبسط إلى المطلوب أو ينقبض عن المنافي فمنها ما هي مبدأ الحركة إلى جلب المنافع, ويسمى قوة شهوانية, ومنها ما هي مبدأ الحركة إلى دفع المضار, ويسمى قوة غضبية, وأكثر تعلق المدركة بالدماغ, والمحركة بالقلب فإذا وقعت في القلب أو الدماغ آفة بحيث تتعطل تلك القوى عن أفعالها أو إظهار آثارها كان ذلك إغماء فهو مرض, وليس زوالا للعقل كالجنون, وإلا لعصم منه(2/355)
حكم الرق
ومنها الرق وهو عجز حكمي شرع في الأصل جزاء عن الكفر، فيكون حق الله تعالى لكنه في البقاء أمر حكمي به يصير المرء عرضة للتملك فحينئذ يكون حق العبد وهو لا يحتمل التجزي حتى إن أقر مجهول النسب أن نصفه ملك فلان يجعل عبدا في شهادته، وجميع أحكامه.
ـــــــ
."ولما كان نادرا في الصلاة يمنع البناء وهو في القياس لا يسقط شيئا من الواجبات كالنوم وفي الاستحسان يسقط ما فيه حرج, وهو في الصلاة بأن يمتد حتى يزيد على يوم وليلة وفي الصوم والزكاة لا يعتبر; لأنه يندر وجوده شهرا أو سنة".
"ومنها الرق وهو عجز حكمي شرع في الأصل جزاء عن الكفر, فيكون حق الله تعالى لكنه في البقاء أمر حكمي به يصير
................................................................................................
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ثم الإغماء فوق النوم في إيجاب تأثير الخطاب, وإبطال العبادات; لأن النوم حالة طبيعية كثيرة الوقوع حتى عده الأطباء من ضروريات الحيوان استراحة لقواه, والإغماء ليس كذلك, فيكون أشد في العارضية, ولأن تعطل القوى, وسلب الاختيار في الإغماء أشد; لأن مواده غليظة بطيئة التحلل, ولهذا يمتنع فيه التنبيه, ويبطؤ الانتباه بخلاف النوم فإن سببه تصاعد أبخرة لطيفة سريعة التحلل إلى الدماغ فلذا ينتبه بنفسه أو بأدنى تنبيه, ولقلة وقوع الإغماء, وندرته لا سيما في الصلاة كان مانعا للبناء حتى لو انتقض الوضوء بالإغماء في الصلاة لم يجز البناء عليها قليلا كان أو كثيرا بخلاف ما إذا انتقض الوضوء بالنوم مضطجعا من غير تعمد فإنه يجوز له أن يبني على صلاته; لأن النص بجواز البناء إنما ورد في الحدث الغالب الوقوع.
قوله: "ومنها الرق" هو في اللغة الضعف, ومنه رقة القلب, وثوب رقيق ضعيف النسج, وفي الشرع عجز حكمي بمعنى أن الشارع لم يجعله أهلا لكثير مما يملكه الحر مثل الشهادة, والقضاء, والولاية, ونحو ذلك, وهو حق الله تعالى ابتداء بمعنى أنه ثبت جزاء للكفر فإن الكفار لما استنكفوا عن عبادة الله تعالى, وألحقوا أنفسهم بالبهائم في عدم النظر, والتأمل في آيات التوحيد جازاهم الله تعالى بجعلهم عبيد عبيده متملكين مبتذلين بمنزلة البهائم, ولهذا لا يثبت الرق على المسلم ابتداء, ثم صار حقا للعبد بقاء بمعنى أن الشارع جعل الرقيق ملكا من غير نظر إلى معنى الجزاء, وجهة العقوبة حتى إنه يبقى رقيقا, وإن أسلم, واتقى.
قوله: "وهو" أي: الرق لا يحتمل التجزي بأن يصير المرء بعضه رقيقا, ويبقى البعض حرا; لأنه أثر الكفر, ونتيجة القهر, ولا يتصور فيهما التجزي وكذا لا يتصور إيجاب العقوبة على البعض مشاعا وكذا العتق الذي هو ضد الرق لا يحتمل التجزي بأن يعتق بعض العبد, ويبقى بعضه رقيقا; لأن فيه تجزي الرق ضرورة, وقد يقال: سلمنا امتناع تجزي الرق ابتداء لكن لا نسلم امتناعه بقاء; لأن وصف الملك يقبل التجزي, فيجوز أن يثبت الشرع للمولى حق الخدمة في البعض, ويعمل العبد لنفسه في البعض الآخر مشاعا, ولا يثبت الشهادة, والولاية, ونحو ذلك; لأنها لا تقبل التجزي, ولأنها مبنية على(2/356)
هل العتق يتجزأ؟
وكذا العتق الذي هو ضده لأنه يلزم من تجزيه تجزي الرق، وكذا الإعتاق عندهما لعدم تجزي لازمه اتفاقا فمعتق البعض معتق الكل عندهما، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى متجزئ إذ الإعتاق إزالة الملك؛ لأن العبد إنما يتصرف في حقه ثم يلزم من إزالة كله زوال الرق، وهو العتق فإعتاق البعض إيجاد شطر العلة، ففي الابتداء ثبوت حق العبد يتبع ثبوت حق الله تعالى، وفي البقاء على العكس حتى أن زواله يتبع زوال حق العبد.
ـــــــ
المرء عرضة للتملك فحينئذ يكون حق العبد وهو لا يحتمل التجزي حتى إن أقر مجهول النسب أن نصفه ملك فلان يجعل عبدا في شهادته, وجميع أحكامه وكذا العتق الذي هو ضده" أي: لا يحتمل التجزي "لأنه يلزم من تجزيه تجزي الرق, وكذا الإعتاق عندهما لعدم تجزي لازمه اتفاقا فمعتق البعض معتق الكل عندهما, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى متجزئ إذ الإعتاق إزالة الملك; لأن العبد إنما يتصرف في حقه ثم يلزم من إزالة كله زوال الرق, وهو
................................................................................................
كمال الأهلية فتنعدم برق البعض فإن قيل الرق, والحرية متضادان فلا يجتمعان أجيب بأنه لا يدل على امتناع أن يكون الموصوف بالحرية بعينه موصوفا بالرق, ولا قائل بذلك بل المحل متصف بهما مشاعا كما إذا ملك زيد نصف العبد مشاعا فإنه قد اجتمع فيه ملكية زيد, وعدم ملكيته باعتبار النصفين.
قوله: "وكذا الإعتاق" اختلف القائلون بعدم تجزي العتق في تجزي الإعتاق فذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إلى عدم تجزيه بمعنى أن إعتاق البعض إعتاق للكل; لأن العتق لازم الإعتاق; لأنه مطاوعة يقال أعتقته فعتق مثل كسرته فانكسر, والمطاوعة هي حصول الأثر من تعلق الفعل المتعدي بمفعوله, وأثر الشيء لازم له, والعتق ليس بمنجز اتفاقا بين علمائنا فكذا الإعتاق إذ لو تجزأ الإعتاق بأن يقع من المحل على جزء دون جزء لزم تجزي العتق ضرورة, والحاصل أن محل الإعتاق, والعتق هو العبد, وتجزيهما إنما هو باعتبار المحل فتجزي أحدهما تجزي الآخر, وذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى أن الإعتاق متجزي, وأنه لا يستلزم العتق حتى لو أعتق البعض لا يثبت للعبد الحرية في البعض, ولا في الكل بل يكون رقيقا في الشهادة, وسائر الأحكام إذ لو ثبت العتق لثبت في الكل لعدم التجزي, ولا سبب لذلك مع تضرر المالك به, فيتوقف في الحكم بالعتق إلى أن يؤدي السعاية, ويسقط الملك بالكلية فيعتق, وذلك; لأن الإعتاق إزالة الملك إذ لا تصرف للمولى في حقه, وحقه في الرقيق هو المالية, والملك, وهو متجزئ فكذا إزالته كما إذا باع نصف العبد ثم زوال الملك بالكلية يستلزم زوال الرق; لأن الملك لازم له إذ الرق إنما يثبت جزاء للكفر, وإنما بقي بعد الإسلام لقيام ملك المولى, وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم, وزوال بعض الملك لا يستلزم العتق لبقاء المملوكية في الجملة بل زوال بعض الملك من غير نقله إلى(2/357)
حكم معتق البعض عند الإمام
فمعتق البعض مكاتب عنده إلا في الرد إلى الرق والرق يبطل مالكية المال؛ لأنه مملوك مالا فلا يملك المكاتب التسري ولا يصح منهما الحج لأن منافع بدنهما ملك المولى إلا ما استثنى من الصلاة والصوم ويصح من الفقير؛ لأن أصل القدرة ثابت له، وإنما الزاد، والراحلة لنفي الحرج ولا يبطل مالكية غير المال كالنكاح والدم والحياة، فيصح إقراره بالحدود والقصاص، وبالسرقة المستهلكة وبالقائمة المأذون، وأما من المحجور، فيصح عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى مطلقا وعند محمد رحمه الله تعالى لا يصح مطلقا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يصح في حق القطع دون المال.
ـــــــ
العتق فإعتاق البعض إيجاد شطر العلة, ففي الابتداء ثبوت حق العبد يتبع ثبوت حق الله تعالى, وفي البقاء على العكس حتى أن زواله يتبع زوال حق العبد" أي: زوال حق الله تعالى يتبع زوال حق العبد.
"فمعتق البعض مكاتب عنده إلا في الرد إلى الرق والرق يبطل مالكية المال; لأنه مملوك مالا فلا يملك المكاتب التسري ولا يصح منهما الحج" أي: من الرقيق والمكاتب
................................................................................................
مالك آخر يكون إيجادا للبعض من علة ثبوت العتق, وهو لا يوجب العتق كالقنديل لا يسقط ما بقي شيء من المسكة.
فإن قيل ففي إزالة كل الملك عن الرقيق إزالة حق الله تعالى, وليس للعبد ذلك: أجيب بأن الممتنع للعبد إزالة حق الله تعالى قصدا, وأصلا لا ضمنا, وتبعا, وحق الله تعالى, وإن كان أصلا في ابتداء الرق جزاء على الكفر لكنه تبع بقاء, فإن الأصل هو الملكية, والمالية, ولهذا لا يزول الرق بالإسلام ففي الإعتاق إزالة حق العبد قصدا, وأصلا, ولزم منه زوال حق الله تعالى ضمنا, وتبعا, وكم من شيء يثبت ضمنا, ولا يثبت قصدا, وإلى هذا أشار بقوله: ففي الابتداء ثبوت حق العبد يتبع ثبوت حق الله تعالى, وفي البقاء بالعكس فإن قيل, فأي أثر للإعتاق عند إزالة بعض الملك أجيب بأن أثره فساد الملك في الباقي حتى لا يملك المولى بيع معتق البعض, ولا إبقاء في ملكه, ويصير هو أحق بمكاسبه, ويخرج إلى الحرية بالسعاية, وبالجملة يصير كالمكاتب إلا أن المكاتب يرد إلى الرق بالعجز عن المال; لأن السبب فيه عقد يحتمل الفسخ, وهذا لا يرد; لأن سببه إزالة الملك لا إلى أحد, وهي لا تحتمل الفسخ, وإلى هذا أشار بقوله فمعتق البعض مكاتب عنده أي: عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا في الرد إلى الرق.
قوله: "والرق يبطل مالكية المال"; لأن الرقيق مملوك مالا فلا يكون مالكا; لأن المملوكية, والمالية تنبئ عن العجز, والابتذال, والمالكية عن القدرة, والكرامة, فيتنافيان, وليس المراد أنه مملوك من حيث إنه مال فلا يصير مالكا لمال حتى يرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون مملوكا من جهة أنه مال مبتذل, ومالكا من جهة أنه آدمي مكرم, وقيد المالكية, والمملوكية بالمالية; لأنه لا تنافي بين المملوكية متعة, وبين المالكية مالا, وبالعكس فالرقيق, وإن كان مدبرا أو مكاتبا لا يملك شيئا من أحكام ملك المال, ولو بإذن المولى فلا يملك المكاتب التسري لابتنائه على ملك الرقبة دون المتعة, وخص المكاتب, والتسري بالذكر ليعلم الحكم في غير ذلك بطريق الأولى; لأن في المكاتب(2/358)
الرق ينافي كمال الأهلية
وينافي كمال أهلية الكرامات البشرية كالذمة والحل والولاية فيضعف الذمة حتى لا يحتمل الدين إلا إذا ضمنت إليها مالية الرقبة والكسب فيباع في دين لا تهمة في ثبوته كدين الاستهلاك والتجارة لا فيما كان في ثبوته تهمة كما إذا أقر المحجور أو تزوج بغير إذن مولاه، ودخل بل يؤخر إلى عتقه، وينصف الحل بتنصيف المحل في حق الرجال وباعتبار الأحوال في حق النساء كما سبق وينصف الحد والعدة والقسم والطلاق لكن الوحدة لا تقبله فيتكامل.
ـــــــ
حتى إذا أعتقا ووجب الحج عليهما لا يقع المؤدى قبل العتق من الواجب بخلاف الفقير "لأن منافع بدنهما ملك المولى إلا ما استثنى من الصلاة والصوم ويصح من الفقير; لأن أصل القدرة ثابت له, وإنما الزاد, والراحلة لنفي الحرج ولا يبطل مالكية غير المال كالنكاح والدم والحياة, فيصح إقراره بالحدود والقصاص, وبالسرقة المستهلكة" سواء كان أقر بها المأذون أو المحجور إذ ليس فيها إلا القطع "وبالقائمة المأذون, وأما من المحجور, فيصح عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى مطلقا" أي: في القطع ورد المال "وعند محمد رحمه الله تعالى لا
................................................................................................
الرق ناقص حتى إنه أحق بمكاسبه, وفي التسري مظنة ملك المتعة كالنكاح, ولهذا صح عند مالك.
قوله:, "ولا يبطل" أي: الرق مالكية النكاح, والحياة, والدم; لأن الرقيق ليس بمملوك في حكم هذه الأشياء بل بمنزلة المبقى على أصل الحرية إلا أنه يحتاج في النكاح إلى إذن المولى لما فيه من نقصان المالية بوجوب المهر المتعلق برقبة العبد, ويصح منه الإقرار بالحدود, والقصاص, والسرقة المستهلكة; لأن الحياة, والدم حقه لاحتياجه إليهما في البقاء, ولهذا لا يملك المولى إتلافهما, وأما الإقرار بالسرقة القائمة الموجبة للقطع دون المال, فيصح إن كان العبد مأذونا فيقطع; لأن الدم ملكه, ويرد المال لوجود الإذن, وإن كان محجورا فعند أبي حنيفة يصح في حق القطع, ورد المال جميعا, وعند محمد رحمه الله تعالى لا يصح في شيء منهما, وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يصح في حق القطع دون المال لأبي يوسف رحمه الله تعالى أنه أقر بشيئين القطع, وهو على نفسه; لأنه مالك دمه, فيثبت, والمال, وهو على المولى فلا يصح ولمحمد رحمه الله تعالى أن إقراره بالمال باطل لكونه على المولى, فيبقى المال للمولى, ولا قطع على العبد في سرقة مال مولاه, وأيضا المال أصل, والقطع تبع فإذا بطل الأصل لم يثبت التبع ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن إقراره بالقطع صحيح; لأنه مالك دمه, فيصح في حق المال بناء عليه; لأن إقراره بالقطع قد لاقى حالة البقاء, والمال في حالة البقاء تابع للقطع حتى يسقط عصمة المال باعتباره, ويستوفى القطع بعد استهلاكه هذا كله إذا كذبه المولى, وقال: المال مالي, وإن صدقه يقطع في الفصول كلها.
قوله: "وينافي" يعني: أن الرق ينبئ عن العجز, والمذلة فينافي كمال أهلية الكرامات البشرية الدنيوية من الذمة, والحل, والولاية أما الذمة; فلأنها صفة بها صار الإنسان أهلا للإيجاب(2/359)
عدد الطلاق يعتبر بالنساء
وعدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية فاعتبر بالنساء فإن قيل: يلزم من اتساع المملوكية اتساع المالكية أيضا فكما يعتبر بالنساء يجب أن يعتبر بالرجال أيضا قلنا قد اعتبر مالكية الزوج مرة حتى انتقص عدد الزوجات فإن انتقص مالكيته في هذا العدد الناقص يلزم النقصان من المنصف، ولما كان أحد الملكين وهو ملك النكاح
ـــــــ
يصح مطلقا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يصح في حق القطع دون المال, وينافي كمال أهلية الكرامات البشرية كالذمة والحل والولاية فيضعف الذمة حتى لا يحتمل الدين إلا إذا ضمنت إليها مالية الرقبة والكسب فيباع في دين لا تهمة في ثبوته كدين الاستهلاك" أي: استهلاك مال الإنسان "والتجارة لا فيما كان في ثبوته تهمة كما إذا أقر المحجور أو تزوج بغير إذن مولاه, ودخل بل يؤخر إلى عتقه, وينصف الحل بتنصيف المحل في حق الرجال" أي: يحل للحر أربع, وللرقيق ثنتان "وباعتبار الأحوال في حق النساء كما سبق" أي: في فصل الترجيح أي: تحل الأمة إذا كانت مقدمة على الحرة, ولا تحل إذا كانت مؤخرة عنها أو مقارنة.
"وينصف الحد والعدة والقسم والطلاق لكن الوحدة لا تقبله" أي: التنصيف "فيتكامل,
................................................................................................
والاستيجاب دون سائر الحيوانات, وأما الحل; فلأن استفراش الحرائر, والسكن, والازدواج, والمحبة, وتحصين النفس, والتوسعة في تكثير النسل على وجه لا يلحقه إثم من باب الكرامة, ولهذا زاد النبي عليه الصلاة والسلام إلى التسع, وجاز له ما فوقها, وأما الولاية فلأن تنفيذ القول على الغير شاء أو لم يشأ غاية الكرامة, ونهاية السلطنة, وإذا انتفى كمال الأمور المذكورة ضعفت ذمة الرقيق عن احتمال الدين حتى لا يطالب به إلا إذا انضم إلى الذمة مالية الرقبة, والكسب جميعا فحينئذ يتعلق الدين بها فيستوفى من الرقبة, والكسب بأن يصرف أولا إلى الدين الكسب الموجود في يده فإن لم يكن أو لم يف يصرف إليه مالية الرقبة بأن يباع إن أمكن, وإلا, فيستسعي كالمدبر, والمكاتب هذا إذا لم يكن في ثبوت الدين تهمة, وأما إذا كان كالدين الذي أقر به المحجور, والعقر الذي لزمه بالدخول بالعقد الفاسد فيما إذا تزوج بغير إذن المولى فلا يباع فيه الرقيق, ولا يصرف إليه كسبه بل يؤخر أداؤه إلى أن يعتق, ويحصل له مال أما الدين فلأنه متهم في حق المولى لا في حق نفسه, وأما العقر فلأنه قيمة البضع بشبهة العقد, ولا شبهة في حق المولى لعدم رضاه فلا يظهر ثبوت العقر في حقه فلا يستوفى من مالية الرقبة, ولا من الكسب; لأنهما حق المولى.
قوله: "وينصف الحد"; لأن تغليظ العقوبة بتغليظ الجناية على حق المنعم, وذلك بتوافر النعم,(2/360)
والطلاق ثابتا له على الكمال، والملك الآخر وهو ملك المال ناقصا غير منتف بالكلية؛ لأنه يملك اليد لا الرقبة أوجب ذلك نقصانا في قيمته فانتقصت ديته عن دية الحر بشيء هو معتبر شرعا في المهر، والسرقة وهو عشرة دراهم، وأما المرأة فهي مالكة لأحدهما وهو المال دون الآخر فتنصف ديتها.
لكن هذه العلة لا تختص بالدية، وأيضا توجب الإكمال فيما هو من باب الازدواج.
ـــــــ
وعدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية فاعتبر بالنساء فإن قيل: يلزم من اتساع المملوكية اتساع المالكية أيضا فكما يعتبر بالنساء يجب أن يعتبر بالرجال أيضا قلنا قد اعتبر مالكية الزوج مرة حتى انتقص عدد الزوجات فإن انتقص مالكيته في هذا العدد الناقص يلزم النقصان من المنصف, ولما كان أحد الملكين وهو ملك النكاح, والطلاق ثابتا له على الكمال, والملك الآخر وهو ملك المال ناقصا غير منتف بالكلية; لأنه يملك اليد لا الرقبة أوجب ذلك نقصانا في قيمته فانتقصت ديته عن دية الحر بشيء هو معتبر شرعا في المهر, والسرقة وهو عشرة دراهم, وأما المرأة فهي مالكة لأحدهما وهو المال دون الآخر فتنصف ديتها" اعلم أن الملك نوعان: ملك المال وملك ما ليس بمال, وهو ملك المتعة كالنكاح, والثاني ثابت للعبد, والأول ناقص; لأنه يملك ملك اليد لا ملك الرقبة فتكون قيمته ناقصة عن قيمة الحر أي: عن ديته لا نصفها أي: إذا بلغ قيمة العبد المقتول خطأ عشرة آلاف درهم, فإنه ينقص عن قيمته
................................................................................................
وكمال الكرامة, وهي ناقصة في حق العبد بالإضافة إلى الحر فينصف حده القابل للتنصيف كالجلد بخلاف القطع في السرقة, وكذا العدة تعظيم لملك النكاح في حق النساء, فتنصف, وتكون عدة الأمة حيضتين; لأن الواحدة لا تنتصف فلا بد من التكامل احتياطيا, وكذا في القسم يكون للأمة نصف الحرة, وفي الطلاق يكون طلاق الأمة ثنتين; لأنه لم يمكن تنصيف الثلاثة على السواء فجعل نصف الثلاثة ثنتين اعتبارا لجانب الوجود, وذهابا إلى ما هو الأصل من بقاء الحل, والمعتبر عند الشافعي رحمه الله تعالى في تنصيف الطلاق رق الزوج حتى كأن طلاق العبد ثنتين سواء كانت الزوجة أمة أو حرة لقوله عليه الصلاة والسلام: "الطلاق بالرجال, والعدة بالنساء" 1, ولأنه المالك للطلاق كالنكاح فيعتبر حاله. واحتج المصنف رحمه الله تعالى على كون المعتبر رق الزوجة بأن عدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية يعني: أن الطلاق مشروع لتفويت الحل الذي صارت المرأة به محلا للنكاح فمحل التصرف حل المحلية فمتى كان حل المرأة أزيد كان محلية الطلاق في حقها أوسع, وظاهر أن حل الأمة أنقص من حل الحرة كما أن حل العبد أنقص من حل الحر على التناصف فيفوت حل محلية الأمة بنصف ما يفوت به حل محلية الحرة ثم لا يخفى أن ليس عدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية بل معناه أن تعدد الطلاق إنما يتحقق عند اتساع المملوكية حتى ينقص بطلاق واحد شيء
ـــــــ
1 رواه في الموطأ في كتاب الطلاق حديث 70.(2/361)
الرقيق أهل للتصرف المالي
وإنما انتقص ديته؛ لأن المعتبر فيه المالية فلا تنصف لكن في الإكمال شبهة المساواة بالحر فينتقص وهو أهل للتصرف في المال حتى أن المأذون يتصرف لنفسه بأهليته عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا بل هو كالوكيل ليست بمال لأنه لما لم يكن أهلا للملك لم يكن أهلا لسببه، وقلنا هو أهل للتكلم والذمة، فيحتاج إلى قضاء ما يجب في ذمته وأدنى طرقه اليد على أنها وهي الحكم الأصلي في التصرفات.
ـــــــ
عشرة دراهم, وأما المرأة الحرة فإن ملك المال ثابت لها دون ملك النكاح فديتها نصف دية الرجل هذا ما ذكروا, وقد وقع على هذا التقرير في خاطري اعتراض فقلت:
"لكن هذه العلة لا تختص بالدية, وأيضا توجب الإكمال فيما هو من باب الازدواج" أي: لو كانت العلة لنقصان دية العبد عن دية الحر هذا الأمر وجب أن لا يختص هذا الحكم بالدية بل يكون مطردا في جميع الصور ولا يكون الرق منصفا لشيء من الأحكام بل يوجب نقصانا, والواقع خلاف هذا, وأيضا لما ذكروا أن أحد الملكين ثابت للرقيق, وهو الازدواج ينبغي أن يكون كل ما هو من باب الازدواج كاملا في الأرقاء, وليس كذلك ثم لما ثبت أن العلة لنقصان ديته عن دية الحر ليست ما ذكروا أردت أن أبين ما هو العلة لثبوت هذا الحكم فقلت "وإنما انتقص ديته; لأن المعتبر فيه" أي: في العبد "المالية فلا تنصف لكن في الإكمال شبهة المساواة بالحر فينتقص وهو أهل للتصرف في المال حتى أن المأذون يتصرف لنفسه
................................................................................................
من المملوكية المتسعة, وبالثنتين أكثر, وبالثلاث الكل, والمعتبر في عدده رعاية جانب المملوكية لا المالكية, ومعنى المملوكية هاهنا حل المرأة التي هو من باب الكرامة, والأمة ناقصة فيه لا المملوكية المالية التي هي في الأمة أقوى.
فإن قيل: المملوكية لا تتحقق بدون المالكية فكلما زادت المملوكية زادت المالكية, فيكون اتساع المملوكية مستلزما لاتساع المالكية فإن مالكية ثلاثة عبيد أوسع من مالكية عبدين, فيجب أن يعتبر بالرجال أيضا; لأن مالكية الحر أوسع من مالكية الرقيق, فيلزم تنصيف الطلاق برق الرجل أيضا لنقصان مالكيته, فيكون طلاق الحرة تحت العبد ثنتين كطلاق الأمة تحت الحر فالجواب أن حال الزوج في الاتساع, والتضييق قد اعتبرت مرة حيث تنصف عدد زوجات الرقيق من الأربع إلى الثنتين بالإجماع فلو اعتبرت في حق الطلقات أيضا لزم النقصان من النصف; لأن الحر يملك اثنتي عشرة طلقة بحسب أربع زوجات, فيجب أن يملك العبد ست طلقات يوقعها على زوجتين تحقيقا للتنصيف, ولو تنصف الطلاق في حقه أيضا يلزم أن لا يملك إلا أربع تطليقات, وهذا أقل من الست التي هي نصف اثني عشر.
قوله: "ولما كان أحد الملكين" يريد أنه يتفرغ على منافاة الرق لكمال الكرامات نقصان دية الرقيق حتى, لو قتل خطأ يجب على عاقلة الجاني قيمته للمولى بشرط أن تنقص عن دية الحر, وإن(2/362)
فأما الملك فإنما هو حكم ضروري فاليد تثبت له والملك للمولى خلافة عنه وهو كالوكيل في الملك وفي بقاء الإذن في مسائل مرض المولى وعامة مسائل المأذون.
ـــــــ
بأهليته عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا بل هو كالوكيل" وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا أذن العبد في نوع من التجارة فعندنا يعم إذنه لسائر الأنواع, وعنده لا بل يختص الإذن بما أذن فيه كما في الوكالة "لأنه لما لم يكن أهلا للملك لم يكن أهلا لسببه, وقلنا هو أهل للتكلم والذمة, فيحتاج إلى قضاء ما يجب في ذمته وأدنى طرقه اليد على أنها" أي: اليد "ليست بمال" فلا يكون الرق منافيا لملك اليد لكنه مناف لملك المال لكونه مملوكا حال كونه مالا "وهي الحكم الأصلي في التصرفات" أي: اليد هي الغرض الأصلي في التصرفات فإن الإنسان محتاج إلى الانتفاع بما يكون سببا لبقائه ولا يمكن الانتفاع إلا بكونه في يده فشرع التصرفات كالشراء ونحوه لحصول ملك اليد ثم ملك الرقبة إنما يثبت ليكون وسيلة إلى ملك اليد فإن ملك الرقبة هو اختصاص المالك بالشيء, فيقطع طمع الطامعين والإفضاء إلى التنازع والتقاتل, ونحوهما فثبت أن المقصود في التصرفات ملك اليد, فأما ملك الرقبة فإنما يثبت ضرورة إكمال ملك اليد, فيبطل ما قال لما لم يكن أهلا للملك لم يكن أهلا لسببه; لأن مباشرة سبب الملك لا تكون خالية عن المقصود الأصلي; لأن المقصود, وهو ملك اليد حاصل للعبد "فأما الملك" أي: ملك الرقبة "فإنما هو حكم ضروري" أي: ليس مقصودا
................................................................................................
كانت قيمته أضعاف ذلك, وعند الشافعي رحمه الله تعالى تجب القيمة بالغة ما بلغت, وذلك; لأن في الرقيق جهة المالية, وجهة النفسية; فاعتبر الشافعي رحمه الله تعالى جهة المالية; لأن المال يجب للمولى, وملكه في العبد ملك مال, ولأن الواجب فيه النقود دون الإبل, ولأنه يختلف باختلاف الصفات من الحسن, والأخلاق, وغيرهما, والصفات إنما تعتبر في ضمان الأموال دون النفوس, واعتبر أبو حنيفة رحمه الله تعالى جهة النفسية; لأنها أصل, والمالية تبع يزول بزوال النفسية كما إذا مات العبد دون العكس كما إذا أعتق, وضمان النفسية إنما هو باعتبار خطرها, وذلك بالمالكية, فإنها كمال حال الإنسان, والمالكية نوعان مالكية المال, وكمالها بالحرية, ومالكية النكاح, وثبوتها بالذكورة فالمرأة قد انتفت فيها إحدى المالكيتين, وثبتت الأخرى بكمالها فانتقصت ديتها بالتنصيف, وأما العبد فقد ثبت له مالكية النكاح بكمالها, وإنما توقفت على إذن المولى دفعا للضرر في ماله لا لنقصان في مالكية العبد, ولم ينتف فيه مالكية المال بالكلية حتى يناسب تنصيف ديته بل إنما يتمكن فيها نقصان; لأنها بشيئين: ملك الرقبة, وهو منتف للعبد, وملك اليد أعني: التصرف, وهو ثابت له فلزم بواسطة نقصان ملك اليد نقصان شيء من قيمته فقدرناه بعشرة دراهم; لأنه قد اعتبره الشرع في أقل ما يستولى به على الحرة استمتاعا, وهو المهر, وفي أقل ما يقطع به اليد التي هي بمنزلة نصف البدن. وقد نقل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر, وينقص منها عشرة دراهم.(2/363)
أصليا أي: مقصودا لذاته, وإنما يثبت ضرورة أن يثبت شيء آخر, وإذا كان كذلك فعدم أهليته لما هو المقصود بالذات يوجب عدم أهليته لما شرع لأجله أما عدم أهليته لما هو المقصود بالغير فلا يوجب عدم أهليته لما يكون وسيلة إليه لا سيما إذا كان أهلا لذلك الغير المقصود لذاته كملك اليد في مسألتنا.
"فاليد تثبت له والملك للمولى خلافة عنه" أي: يكون المولى قائما مقام العبد فإن الأصل أن يثبت الملك للمباشر "وهو كالوكيل في الملك" أي: العبد المأذون في الملك بمنزلة الوكيل أي: إذا اشترى شيئا يقع الملك للمولى كما يقع الملك للموكل في شراء الوكيل "وفي بقاء الإذن في مسائل مرض المولى وعامة مسائل المأذون" أي: المأذون في حال بقاء الإذن بمنزلة الوكيل في هاتين الصورتين وهما مرض المولى, وعامة مسائل المأذون أما
................................................................................................
فإن قيل: المنتفى في العبد هو أحد شقي مالكية المال فكان ينبغي أن ينقص من قيمته الربع توزيعا على ما به خطر المحل أعني: مالكية النكاح, ومالكية المال رقبة, ويدا قلنا: مالكية اليد أقوى من مالكية الرقبة إذ الانتفاع والتصرف هو المقصود, وملك الرقبة, وسيلة إليه بخلاف ملك المال, وملك النكاح فإن كلا منهما أمر مستقل, فكانا على التناصف هذا تقرير كلامهم, واعترض عليه المصنف رحمه الله تعالى بوجهين: أحدهما أنه لو صح ما ذكرتم لزم أن لا يجري التنصيف في شيء من أحكام العبد إذ لم يتمكن في كماله إلا نقصان ما أقل من النصف بل من الربع على ما مر, فيجب أن يكون نقصانه في النكاح, والطلاق, وغير ذلك بأقل من النصف, واللازم باطل إجماعا: وثانيهما أن مالكية النكاح لو كانت ثابتة للرقيق بكمالها لزم, أن لا يجري النقصان في شيء مما يتعلق بالنكاح, والازدواج كعدد الزوجات, والعدة, والقسم, والطلاق; لأنها مبنية على مالكية النكاح, وهي كاملة, واللازم باطل, والجواب عن الأول: أن تنصيف عدد الزوجات ليس باعتبار نقصان خطر النفس أعني: المالكية حتى يلزم أن يكون النقصان بأقل من النصف كما في الدية بل باعتبار الحل المبني على الكرامة, والرقيق ناقص فيه نقصانا لا يتعين قدره فقدره الشرع بالنصف إجماعا بخلاف الدية فإنها باعتبار خطر النفس المبني على الملكية, ونقصان الرقيق في ذلك أقل من النصف, والحاصل أن النقصان في الشيء يوجب النقصان في الحكم المرتب عليه لا في حكم لا يلائمه فالنقصان في المالكية يوجب النقصان في الدية لا في عدد المنكوحات, والنقصان في الحل بالعكس, وعن الثاني أن تنصيف عدد الزوجات ليس لنقصان المالكية بل لنقصان الحل, وكمال مالكية النكاح, وإن لم يوجب نقصان عدد الزوجات لكنه لا ينافي أن يوجبه أمر آخر هو نقصان الحل.
ثم ما ذكره من أن ثبوت كمال مالكية النكاح في الرقيق يوجب أن يكون كل ما هو من باب الازدواج كاملا في الأرقاء ليس بمستقيم; لأن كثيرا من ذلك كالطلاق, والعدة, والقسم إنما يكون باعتبار الزوجة, والأمة لا تملك النكاح أصلا فضلا عن كمال المالكية.
قوله: "وإنما انتقص" يريد أن العلة في نقصان دية العبد أن المعتبر فيه جانب المالية فلا يلزم التنصيف بل القيمة لكنها إذا بلغت دية الحر أو زادت عليها ينتقص منها شيء اعتبرها الشرع في(2/364)
الرقيق معصوم الدم كالحر
وهو معصوم الدم بناء على الإسلام وداره فيقتل الحر بالعبد، والرق يوجب نقصانا في الجهاد على ما قلنا في الحج.
ـــــــ
مرض المولى فصورته أن المأذون إن تصرف في حال مرض المولى وحابى محاباة فاحشة وعلى المولى دين لا يصح تصرفه أصلا, وإذا لم يكن على المولى دين والمسألة بحالها يعتبر من الثلث لا من جميع المال فهو في حال مرض المولى كالوكيل ولو كان هذا التصرف في حال الصحة يصح, ويعتبر من جميع المال ففي حال صحة المولى ليس كالوكيل وأما عامة مسائل المأذون فكما إذا أذن المولى عبده, والعبد المأذون عبدا اشتراه من كسبه في التجارة ثم حجر المولى المأذون الأول لا ينحجر الثاني بمنزلة الوكيل إذا وكل غيره, وعزل الموكل الوكيل الأول لم ينعزل الثاني, وكذا إذا مات المأذون الأول لا ينحجر الثاني كالوكيل إذا مات, وإنما قال في بقاء الإذن; لأنه في حال ابتداء الإذن ليس كالوكيل عندنا, فإن الوكيل لا يثبت له التصرف إلا فيما وكل به بخلاف المأذون لكن في بقاء الإذن هو "كالوكيل وهو معصوم الدم كالحر; لأنها" أي: العصمة وقد فهمت من قوله وهو معصوم الدم "بناء على الإسلام وداره فيقتل الحر بالعبد, والرق يوجب نقصانا في الجهاد على ما قلنا
................................................................................................
صورة أخرى كعشرة دراهم احترازا عن شبهة مساواة العبد بالحر أو زيادته عليه فإن شبهة الشيء معتبرة بحقيقته, وكما أن حقيقة المساواة منتفية فكذلك شبهتها, وإنما جعل ذلك شبهة المساواة لا حقيقتها; لأن قيمة العبد إنما تكون باعتبار المملوكية, والابتذال, ودية الحر باعتبار المالكية, والكرامة, والأول دون الثاني حقيقة, وإن زاد عليه صورة فلا مساواة حقيقة, وينبغي أن يحمل كلام المصنف رحمه الله تعالى على ما ذكره الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه الله تعالى من أن الواجب في نفسه ضمان النفس, ولكن في جانب المستحق هو ضمان مال, فيظهر حكم المالية في حق السيد وإلا فنفس العبد معصومة مصونة عن الهدر معتبرة في إيجاب الضمان بالقصاص, والكفارة حق الله تعالى, والمالية قائمة بها تابعة لها تزول بزوالها كما في الموت دون العكس كما في العتق, وأيضا المقصود في الإتلاف في القتل هو النفسية عادة لا المالية, والضمان للمتلف, وأيضا الضمان يجب على العاقلة دون الجاني, وكل ذلك يدل على أن المعتبر هو النفسية, وكون الدية للمولى لا ينافي ذلك كالقصاص يستوفيه المولى, والمال يجب للعبد, ولهذا تقضى ديونه منه إلا أن المولى أحق الناس به فهو يستوفيه.
قوله: "وهو أهل للتصرف" يعني: أن الرق لا ينافيه مالكية اليد, والتصرف حتى إن المأذون يتصرف لنفسه بطريق الأصالة, ويثبت له اليد على اكتسابه بناء على أن الإذن فك الحجر الثابت بالرق, ورفع المانع من التصرف حكما, وإثبات اليد للعبد في كسبه بمنزلة الكتابة حتى إن الإذن في(2/365)
الرق ينافي الولايات
وينافي الولايات كلها. فلا يصح أمان المحجور: لأنه تصرف على الناس ابتداء وأما أمان المأذون فليس من باب الولاية؛ لأنه لا يصح أولا في حقه إذ هو شريك في الغنيمة ثم يتعدى كما في شهادته بهلال رمضان وينافي ضمان ما ليس بمال، فلا تجب الدية في جناية العبد بل يجب دفعه جزاء إلا أن يختار المولى الفداء، فيصير الوجوب عائدا إلى الأصل فإن الأرش أصل في الباب حتى لا يبطل بالإفلاس وعندهما يصير كالحوالة.
ـــــــ
في الحج" إن منافعه ملك المولى إلا ما استثني, فلا يستحق السهم الكامل "وينافي الولايات كلها فلا يصلح أمان المحجور; لأنه تصرف على الناس ابتداء وأما أمان المأذون فليس من باب
................................................................................................
نوع من التجارة يكون إذنا في الكل, ولا يصح الحجر في البعض بعد الإذن العام أو الخاص, ولا يقبل الإذن التأقيت; لأنه إسقاط, وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس تصرفه لنفسه بأهليته بل بطريق الاستفادة عن المولى كالوكيل, ويده في الاكتساب يد نيابة كالمودع, واحتج بأنه لو كان أهلا للتصرف لكان أهلا للملك; لأن التصرف, وسيلة إلى الملك, وسبب له, والسبب لم يشرع إلا لحكمه, واللازم باطل إجماعا فكذا الملزوم, وإذا لم يكن أهلا للتصرف لم يكن أهلا لاستحقاق اليد إذ اليد إنما تستفاد بملك الرقبة أو التصرف, وتحقيق ذلك أن التصرف تمليك, وتملك, ومعنى التملك الصيرورة مالكا, ومعنى التمليك الإخراج عن ملكه إلى ملك الغير, ولا ملك إلا للمولى.
وحاصل الجواب أن المقصود الأصلي من التصرفات ملك اليد, وهو حاصل للعبد, وملك الرقبة, وسيلة إليه, وعدم أهليته للوسيلة لا يوجب عدم أهليته للمقصود, وإنما يلزم ذلك لو لم يكن إلى المقصود طريق إلا بتلك الوسيلة, وهو ممنوع, والدليل على أن الرقيق أهل للتصرف, وملك اليد أنه أهل للتكلم, والذمة أما الأول فلأنه عاقل تقبل رواياته في الأخبار, والديانات, وشهادته في هلال رمضان, ويجوز توكيله, وأما الثاني فلأنه أهل للإيجاب, والاستيجاب, ولذا يخاطب بحقوق الله تعالى, ويصح إقراره بالحدود, والقصاص, والدين, ولا يملك المولى ذمته حتى لا يجوز أن يشتري شيئا على أن الثمن في ذمته, وأما إقراره على العبد بدين فإنما يصح من جهة أن مالية العبد مملوكة له كالوارث يقر على مورثه بالدين وإذا كان أهلا للتكلم, والذمة صح أن يلتزم شيئا في ذمته, فيجب أن يكون له طريق إلى قضائه دفعا للحرج اللازم من أهلية الإيجاب في الذمة بدون أهلية القضاء, وأدنى طرق القضاء ملك اليد, فيلزم ثبوته للعبد, وهو المطلوب فإن قيل: الرقيق مملوك فلا يكون مالكا لا يدا, ولا رقبة أجيب بأنه مملوك مالا فلا يكون مالكا مالا, واليد ليست بمال بدليل أن الحيوان يثبت دينا في الذمة بمقابلة اليد كما في عقد الكتابة, ومثله في النكاح, والطلاق فلا يثبت بمقابلة المال كما في البيع.
فإن قيل: ملك الرقبة حكم للتصرف, ومسبب عنه فإذا كان تصرف العبد يقع لنفسه فكيف يقع ملك الرقبة للمولى؟ أجيب بأن التصرف ينعقد للعبد, فيكون حكمه له; لأنه نتيجة تصرفه إلا أنه لما لم(2/366)
الولاية; لأنه لا يصح أولا في حقه إذ هو شريك في الغنيمة ثم يتعدى كما في شهادته بهلال رمضان" فإن صوم رمضان يثبت أولا في حقه ثم يتعدى إلى كافة الناس, ولا تشترط الولاية لمثل هذا "وينافي ضمان ما ليس بمال, فلا تجب الدية في جناية العبد بل يجب دفعه جزاء" أي: لا يجب على العبد ضمان ما ليس بمال; لأن الضمان ما ليس بمال صلة والعبد ليس بأهل
................................................................................................
يبق أهلا للملك بعدما أوقع الملك له استحقه المولى بطريق الخلافة عن العبد; لأنه أقرب الناس إليه لكونه مالك رقبته فالمولى إنما يتلقى الملك من جهة العبد كالوارث مع المورث فلذا قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إن دين العبد يمنع ملك المولى في كسبه, وهذا معنى ما ذكره في الهداية أن الإذن فك الحجر, وإسقاط الحق, وعند ذلك يظهر مالكية العبد بخلاف الوكيل; لأنه يتصرف في مال غيره, فيثبت له الولاية من جهته, وحكم التصرف, وهو الملك واقع للعبد حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين, والنفقة, وما استغنى عنه يخلفه المالك فيه, وعلى هذا يجب أن يحمل ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أن المأذون كالوكيل في أنه إذا اشترى شيئا يقع الملك للمولى كما يقع للموكل يعني: أن الملك يقع للمولى مالا كما يقع للموكل ابتداء. وأما قوله: في بقاء الإذن فمعناه على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى أن المأذون كالوكيل في حال بقاء الإذن في مسائل مرض المولى, وعامة مسائل المأذون حتى يكون تصرفه كتصرفه يصح فيما يصح, ويبطل فيما يبطل, وإنما قال في حال بقاء الإذن; لأنه في حال ابتداء الإذن ليس كالوكيل إذ الوكالة لا تثبت إلا فيما وكل به, والإذن يعم, وإنما قال في حال مرض المولى; لأنه في حال صحة المولى ليس كالوكيل إذ يصح منه المحاباة الفاحشة, ولا تصح من الوكيل, وإنما قال عامة مسائل المأذون; لأنه ليس كالوكيل في مسألة التوكيل بالاشتراء إذا اشترى بغبن فاحش فإنه يصح من المأذون, ولا يصح من الوكيل.
وقال فخر الإسلام رحمه الله تعالى, ولذلك أي: ولأن المولى خلف عن العبد في ملك الرقبة جعلنا العبد في حكم الملك, وفي حكم بقاء الإذن كالوكيل في مسائل مرض المولى, وعامة مسائل المأذون يعني: يكون للمولى حجر المأذون بدون رضاه كما أن له عزل الوكيل بدون رضاه بخلاف المكاتب, فإنه ليس كالوكيل في حكم بقاء الكتابة إذ ليس للمولى عزله بدون تعجيزه نفسه.
قوله: "وهو" أي: الرقيق معصوم الدم بمعنى أنه يحرم التعرض له بالإتلاف حقا له, ولصاحب الشرع; لأن العصمة: نوعان مؤثمة توجب الإثم فقط على تقدير التعرض للدم, وهي بالإسلام, ومقومة توجب مع الإثم الضمان أي: القصاص أو الدية, وهي بالإحراز بدار الإسلام, والعبد يساوي الحر في الأمرين فيساويه في العصمتين فيقتل الحر بالعبد قصاصا; لأن مبنى الضمان على العصمتين, والمالية لا تخل بهما, وقال الشافعي رحمه الله تعالى القصاص منبئ عن المماثلة, والمساواة, ومبني على الكرامات البشرية, والمالية تخل بذلك على ما مر.
قوله: "والرق يوجب نقصانا في الجهاد"; لأنه ينافي مالكية منافع البدن إلا ما استثني من الصوم, والصلاة فلا يحل له القتال بدون إذن المولى, وإذا قاتل بإذنه أو بغير إذنه لم يستحق السهم الكامل بل يرضخ له; لأن استحقاق الغنيمة إنما هو باعتبار معنى الكرامة, وفي الحديث أنه كان عليه الصلاة(2/367)
لها حتى لا يجب عليه نفقة المحارم فلا يجب الدية في جناية العبد خطأ; لأن الدية صلة في حق الجاني كأنه يهب ابتداء وعوض في حق المجني عليه فكون المتلف غير مال ينافي الوجوب على العبد, وكون الدم مما لا ينبغي أن يهدر يوجب الحق للمتلف عليه فصارت رقبته جزاء "إلا أن يختار المولى الفداء, فيصير الوجوب عائدا إلى الأصل فإن الأرش أصل في الباب حتى لا يبطل بالإفلاس وعندهما يصير كالحوالة" أي: الأرش أصل في باب الجنايات خطأ لكن العبد ليس أهلا لأن يجب عليه الأرش لما قلنا أنه صلة ولما لم يجب عليه الأرش لا يمكن تحمل العاقلة عنه فصارت رقبته جزاء لكن لما اختار المولى الأرش فداء عن العبد لئلا يفوته العبد صار وجوب الفداء عائدا إلى الأصل لا كالحوالة حتى إذا
................................................................................................
والسلام يرضخ للمماليك, ولا يسهم لهم", وهذا بخلاف تنفيل الإمام فإن استحقاق السلب إنما هو بالقتل أو بالإيجاب من الإمام, والعبد يساوي الحر في ذلك.
قوله: "وينافي الولايات كلها" بمنزلة التفسير لما سبق من أنه ينافي كمال أهلية الولاية لئلا يتوهم منه أن له ولاية ضعيفة كالذمة, وذلك; لأنه لا ولاية له على نفسه فكيف يتعدى إلى غيره فعلى هذا لا يصح أمان العبد المحجور; لأن أمانه تصرف على الناس ابتداء بإسقاط حقوقهم في أموال الكفار, وأنفسهم اغتناما, واسترقاقا, والتصرف على الغير ولاية بخلاف أمان المأذون فإنه ليس من باب الولاية بل باعتبار أنه بواسطة الإذن صار شريكا للغزاة في الغنيمة بمعنى أنه من حيث إنه إنسان مخاطب يستحق الرضخ إلا أن المولى يخلفه في الملك المستحق كما في سائر أكسابه فإذا أمن الكافر فقد أسقط حق نفسه في الغنيمة أعني: الرضخ فصح في حقه أولا ثم تعدى إلى الغير, ولزم سقوط حقوقهم; لأن الغنيمة لا تتجزأ في حق الثبوت, والسقوط, وهذا كما تصح شهادته بهلال رمضان; لأنه يثبت في حقه ابتداء ثم يتعدى إلى الغير ضرورة, وليس هذا من ضرورة الولاية فإن قيل: فالمحجور أيضا يستحق الرضخ, فينبغي أن يصح أمانه أجيب بأن المحجور يستحق الرضخ استحسانا; لأنه غير محجور عن الاكتساب, وعما هو نفع محض فإذا فرغ عن القتال سالما, وزال ضرر المولى, وأصيبت الغنيمة ثبت الإذن من المولى دلالة فصار شريكا بعد الفراغ عن القتال لا حال القتال أو قبله حتى يكون الأمان إسقاطا لحقه ابتداء, ثم يتعدى إلى غيره فالحاصل أنه لا شركة له في الغنيمة حال الأمان لعدم الإذن, وإنما يستحق بعده.
قوله: "فلا تجب الدية في جناية العبد" يعني: إذا كانت خطأ, وأما في العمد, فيجب القصاص, ويكون هذا ضمانا على المولى بأن يقال: عليك تسليم العبد بالجناية إلى وليها صلة في جانب المولى, وعوضا في جانب المتلف عليه أعني: المجني عليه إذا كانت الجناية غير القتل, والورثة إذا كانت القتل فتكون رقبة العبد بمنزلة الأرش فإن قيل المهر يجب في ذمة العبد بمقابلة ما ليس بمال, وهو ملك النكاح أو منافع البضع أجيب بأنه ليس بضمان إذ لا تلف, ولا صلة; لأنه إنما وجب عوضا عما استوفاه من الملك أو المنافع.
قوله: "إلا أن يختار المولى الفداء" فإنه لا يجب عليه دفع العبد, وإن أفلس, وعجز عن الفداء, وذلك; لأن الأرش أصل في الجناية الخطأ; لأنه الثابت بالنص, وإنما صير إلى الدفع ضرورة أن العبد(2/368)
حكم الحيض و النفاس
...
حكم الحيض والنفاس
ومنها الحيض، والنفاس وهما لا يعدمان الأهلية إلا أن الطهارة عندهما شرط للصلاة والصوم على ما مر.
ـــــــ
أفلس المولى بعد اختيار الفداء لا يجب الدفع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يكون كالحوالة حتى يعود حق ولي الجناية في الدفع.
"ومنها الحيض, والنفاس وهما لا يعدمان الأهلية إلا أن الطهارة عندهما شرط للصلاة والصوم على ما مر" "ومنها المرض وهو لا ينافي الأهلية لكنه لما فيه من العجز شرعت العبادات فيه للقدرة الممكنة ولما كان سبب الموت وهو علة للخلافة كان سبب تعلق الوارث والغريم فيوجب الحجر إذا اتصل بالموت" الضمير في, وهو يرجع إلى الموت والضمير في كان, وفي يوجب وفي اتصل يعود إلى المرض والمعنى أن الموت علة لأن يقوم الغير
................................................................................................
ليس بأهل للصلة, وقد ارتفعت الضرورة باختيار المولى الفداء فعاد الأمر إلى الأصل, ولم يبطل بالإفلاس, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يصير اختيار المولى الفداء بمنزلة الحوالة كأن العبد أحال بالواجب على المولى; لأن الأصل في الجناية أن يصرف الجاني إليها كما في العمد, وقد عدل عن ذلك في الخطأ من الحر لتعذر الصرف فصار اختيار الفداء نقلا عن الأصل إلى العارض كما في الحوالة فإذا لم يسلم الحق لصاحبه عاد إلى الأصل.
قوله: "ومنها الحيض, والنفاس" جعلهما معا أحد العوارض لاتحادهما صورة, وحكما, وهما لا يسقطان أهلية الوجوب, ولا أهلية الأداء لبقاء الذمة, والعقل, وقدرة البدن إلا أنه ثبت بالنص أن الطهارة عنهما شرط للصلاة على وفق القياس لكونهما من الأحداث والأنجاس, وللصوم على خلاف القياس لتأديه مع الحدث, والنجاسة, ثم في قضاء الصلاة حرج لدخولها في حد الكثرة فسقط وجوبها حتى لم يجب قضاؤها, ولا حرج في قضاء الصوم; لأن الحيض لا يستوعب الشهر, والنفاس يندر فيه فلم يسقط إلا وجوب أدائه, ولزوم القضاء, وقد سبق ذلك في بحث الوقت.
قوله: "ومنها المرض" يعني: غير ما سبق من الجنون, والإغماء.
قوله: "مستندا إلى أوله" أي: حال كون الحجر مستندا إلى أول المرض; لأن سبب الحجر مرض مميت, وسبب الموت هو المرض عن أصله; لأنه يحصل بضعف القوى, وترادف الآلام.
قوله: "وما لا يحتمله" أي: الفسخ كالإعتاق الواقع على حق الغريم بأن يعتق المريض عبدا من ماله المستغرق بالدين أو على حق الوارث بأن يعتق عبدا تزيد قيمته على ثلث ماله.
قوله: "نظرا له, وليعلم كلاهما" متعلق بقوله, جوزها إلا أن الأول تعليل لتجويز الوصية, والثاني لتقييده بالقليل, وهذا ما قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى لكن الشرع جوز ذلك نظرا له بقدر الثلث استخلاصا على الورثة بالقليل ليعلم أن الحجر والتهمة فيه أصل فقوله نظرا له علة(2/369)
حكم المرض
ومنها المرض وهو لا ينافي الأهلية لكنه لما فيه من العجز شرعت العبادات فيه للقدرة الممكنة ولما كان سبب الموت وهو علة للخلافة كان سبب تعلق الوارث والغريم فيوجب الحجر إذا اتصل بالموت مستندا إلى أوله في قدر ما يصان به حقهما فقط فيجوز النكاح بمهر المثل وكل تصرف يحتمل الفسخ يصح في الحال ثم ينقض إن احتيج إليه وما لا يحتمله يصير كالمعلق بالموت.
ـــــــ
مقامه "مستندا إلى أوله" أي: أول المرض وهو حال عن قوله فيوجب الحجر فإن مرض الموت يوجب الحجر ولا يظهر أنه مرض الموت إلا باتصاله بالموت فإذا اتصل به يثبت الحجر مستندا إلى أول المرض "في قدر ما يصان به حقهما فقط" أي: حق الغريم والوارث, وقوله في قدر متعلق بالحجر "فيجوز النكاح بمهر المثل" ففي مقدار مهر المثل لم يتعلق به حق الوارث, والغريم; لأن المريض محتاج إلى النكاح لبقاء نسله, وفي كل ما يحتاج هو إليه لا يتعلق به حق الغير, وإذا لم يتعلق حقهما بمهر المثل لم يكن في الحجر عن النكاح بمهر المثل صيانة حقهما إذ لا حق لهما فيه "وكل تصرف يحتمل الفسخ يصح في الحال ثم ينقض إن احتيج إليه وما لا يحتمله" أي: الفسخ كالإعتاق "يصير كالمعلق بالموت" إذ لا يقبل النقض فإن كان على الميت دين مستغرق ينفذ على وجه لا يبطل حق الدائن, فيجب السعاية في الكل وإن لم يكن دين مستغرق ينفذ على وجه لا يبطل حق الوارث في الثلثين.
"والقياس في الوصية البطلان لكن الشرع جوزها نظرا له" أي: للمريض "ليتدارك
................................................................................................
للتجويز, وقوله استخلاصا أي: استيثارا من الوصي لنفسه على الورثة بالقليل علة لتقييد التجويز بقدر الثلث, وقوله ليعلم أن الحجر, والتهمة أي: تهمة إيثار الأجنبي على الأقارب باعتبار ضغينته له أصل في باب الإيصاء علة لتقييد الاستخلاص بالقليل.
قوله: "بأن يبيع" يعني: لو باع من أحد الورثة عينا من أعيان التركة بمثل القيمة كان وصية صورة حيث آثر الوارث بعين من أعيان ماله بمقابله لا معنى الاسترداد العوض منه فلا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى; لأن حق الورثة كما يتعلق بالمالية يتعلق بالعينية فيما بينهم وعندهما يجوز لعدم الإخلال بثلثي المال, وأما بيعه من الأجنبي, فيجوز اتفاقا إذ لا حجر للمريض من التصرف مع الأجنبي فيما لا يخل بالثلثين.
قوله: "ولا يجوز للمريض البيع من أحد الورثة أو الغرماء بمثل القيمة" هذا مما لا يوجد له رواية بل الروايات متفقة على أنه يجوز للمريض أن يبيع العين من بعض الغرماء بمثل القيمة, وعدم الجواز مختص بالورثة, وذلك لأن حق الغريم إنما يتعلق بالمعنى, وهو المالية لا بالصورة حتى أنه يجوز للوارث أن يستخلص العين لنفسه, ويقضي الدين من مال آخر بخلاف الورثة فإن حقهم(2/370)
حكم وصية المريض
والقياس في الوصية البطلان لكن الشرع جوزها نظرا له في القليل ليعلم أن الحجر، وترك إيثار الأجنبي على الوارث أصل ولما أبطل الشرع الوصية للوارث إذ تولى بنفسه بطلت صورة ومعنى وحقيقة وشبهة وتقومت الجودة في حقه كما في الصغار ولما تعلق حق الورثة، والغرماء بما له صورة، ومعنى في حقهم ومعنى فقط في حق غيرهم.
ـــــــ
بتقصيرات أيام حياته في القليل ليعلم أن الحجر, وترك إيثار الأجنبي على الوارث أصل ولما أبطل الشرع الوصية للوارث إذ تولى بنفسه" اعلم أنه تعالى فرض أولا الوصية للوارث بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} ثم تولى بنفسه حيث قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} فنسخ الأول "بطلت" أي: الوصية للوارث "صورة" بأن يبيع المريض عينا من التركة من الوارث بمثل القيمة; لأنه وصية بصورة العين لا بمعناه "ومعنى" بأن يقر لأحد من الورثة فإنه وصية معنى "وحقيقة" بأن أوصى لأحد الورثة "وشبهة" بأن باع الجيد من الأموال الربوية برديء منها "وتقومت الجودة" عطف على قوله بطلت "في حقه" أي: في حق الوارث "كما في الصغار" أي: إن باع الولي مال الصبي من نفسه تقومت الجودة حتى لا يجوز إلا باعتبار القيمة "ولما تعلق
................................................................................................
يتعلق فيما بينهم بالمالية, والعينية جميعا حتى لا يجوز لبعضهم أن يجعل شيئا لنفسه بنصيبه من الميراث, ولا أن يأخذ التركة, ويعطي الباقين القيمة, وأما إذا قضى المريض حق بعض الغرماء فإنما يشاركه الباقون من جهة أن المريض ممنوع عن إيثار البعض بقضاء دينه لا من جهة أن حقهم تعلق بعين المال فيما بينهم.
قوله: "ومنها الموت" هو آخر العوارض السماوية فقيل: هو صفة وجودية خلقت ضدا للحياة لقوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}, وقيل: هو عديم الحياة عما من شأنه الحياة أو زوال الحياة, ومعنى الخلق في الآية التقدير., والأحكام في حق الموت إما دنيوية أو أخروية, والدنيوية إما تكليفات, وحكمها السقوط إلا في حق الإثم أو غيرها, وهو إما أن يكون مشروعا لحاجة غيره أو لا, والأول إما أن يتعلق بالعين, وحكمه أن يبقى ببقاء العين أو بالذمة, ووجوبه إما بطريق الصلة, وحكمه السقوط إلا أن يوصي به, أولا بطريق الصلة, وحكمه البقاء بشرط انضمام المال أو الكفيل إلى الذمة, والثاني إما أن يصلح لحاجة نفسه, وحكمه أن يبقى ما تنقضي به الحاجة أو لا, وحكمه أن يثبت للورثة, والأخروية حكمها البقاء سواء يجب له على الغير أو للغير عليه من الحقوق المالية, والمظالم أو يستحقه من ثواب الآخرة بواسطة الطاعات أو عقاب واسطة المعاصي, وهذه جملة ما فصله في الكتاب.
قوله: "وإن كان دينا لا يبقى بمجرد الذمة"; لأن الذمة قد ضعفت بالموت فوق ما تضعف بالرق إذ الرق يرجى زواله بخلاف الموت, ولأن أثر الدين في توجه المطالبة, ويستحيل مطالبة الميت فإذا(2/371)
إعتاق المريض
لا ينفذ إعتاق المريض بخلاف إعتاق الراهن؛ لأن حق المرتهن في ملك اليد فقط.
ـــــــ
حق الورثة, والغرماء بما له صورة, ومعنى في حقهم" أي: في حق الورثة والغرماء حتى لا يكون لأحد الورثة أن يأخذ التركة ويعطي باقي الورثة القيمة ولو قضى المريض حق بعض الغرماء بمثل القيمة شاركهم البقية ولا يجوز للمريض البيع من أحد الورثة أو الغرماء بمثل القيمة "ومعنى فقط في حق غيرهم" حتى يصح بيع المريض من الأجانب بمثل القيمة "لا ينفذ إعتاق المريض" هذا تفريع على قوله ومعنى فقط في حق غيرهم فإن حق الغرماء, والورثة لما تعلق بالتركة من حيث المعنى فقط بالنسبة إلى غيرهم والعبد غيرهم فبالنسبة إلى العبد تعلق حقهم بماليته لا بصورته, فيصح إعتاق المريض من حيث الصورة, فيصير العبد مستحقا للحرية, ولا يمكن نقض الإعتاق لكن لا ينفذ من حيث المعنى, وهي المالية حتى يجب السعاية في الكل إذا استغرق الدين, وفيما وراء ثلث المال إذا لم يستغرق, فيكون بمنزلة المكاتب إلا أنه لا يمكن رده إلى الرق "بخلاف إعتاق الراهن; لأن حق المرتهن في ملك اليد
................................................................................................
انضم إلى الذمة مال أو كفيل تقوى الذمة; لأن المال محل للاستيفاء الذي هو المقصود من الوجوب, وذمة الكفيل مقوية لذمة الأصيل, ومتهيئة لتوجه المطالبة, وإذا لم يكن مال, ولا كفيل لم تصح الكفالة عن الميت عند أبي حنيفة; لأن الكفالة التزام المطالبة, ولا مطالبة فلا التزام, وعندهما تصح; لأن الموت لا يبرئ الذمة عن الحقوق, ولهذا يطالب بها في الآخرة إجماعا, وفي الدنيا أيضا إذا ظهر له المال, ويثبت حق الاستيفاء لو تبرع أحد عن الميت, وأما العجز عن المطالبة لعدم قدرة الميت فلا يمنع صحة الكفالة كما إذا كان المديون حيا مفلسا, ويؤيده ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بجنازة رجل من الأنصار فقال لأصحابه: "هل على صاحبكم دين؟" فقالوا: نعم درهمان أو ديناران فامتنع عن الصلاة عليه فقال علي أو أبو قتادة رضي الله تعالى عنهما: هما علي يا رسول الله, فصلى عليه, والجواب أن المطالبة الدنيوية ساقطة هاهنا لضعف المحل بخلاف المفلس, والحديث يحتمل العدة احتمالا ظاهرا إذ لا تصح الكفالة للغائب المجهول على أنه لا دلالة فيه على أنه لم يكن للميت مال, ومعنى المطالبة في الآخرة راجع إلى الإثم فلا يفتقر إلى بقاء الذمة فضلا عن قوتها, وإذا ظهر له مال, فالذمة تتقوى به لكونه محل الاستيفاء, والتبرع إنما يصح من جهة أن الدين باق في حق من له الحق, وإن كان ساقطا في حق من عليه الحق; لأن السقوط بالموت إنما هو لضرورة فوت المحل فيتقدر بقدر الضرورة, فيظهر في حق من عليه دون من له.
قوله: "حتى يترتب منها" أي: من التركة حقوق الميت كمؤن تجهيزه, ثم قضاء ديونه, ثم تنفيذ, وصاياه من ثلث الباقي, وإنما يقدم التجهيز على الدين إذا لم يتعلق بالعين كالمرهون, والمستأجر, والمشترى قبل القبض, والعبد الجاني, ونحو ذلك ففي هذه الصور صاحب الحق أحق بالعين.
قوله: "لحاجته" أي: لحاجة المولى إلى الثواب الحاصل بالإعتاق, وإنما اقتصر على ذلك; لأن(2/372)
حكم الموت
ومنها الموت وهو عجز ظاهر كله والأحكام هنا دنيوية وأخروية.
أما الأولى فكل ما هو من باب التكليف يسقط به إلا في حق الإثم وما شرع عليه لحاجة غيره إن كان متعلقا بالعين يبقى ببقائها كالوديعة؛ لأنها هي المقصودة وإن كان دينا لا يبقى بمجرد الذمة إلا أن يضم إليها مال أو كفيل فلا تجوز الكفالة عن ميت إلا عند وجود أحدهما ويلزمه الدين مضافا إلى سبب صح في حياته كما إذا حفر بئرا فوقع فيها حيوان بعد موته.
ـــــــ
فقط" فإن إعتاق الراهن ينفذ فإن كان الراهن غنيا فلا سعاية على العبد وإن كان فقيرا يسمى في الأقل من قيمته ومن الدين لكن يرجع على المولى بعد غناء, فعتق الراهن حر مديون فتقبل شهادته قبل السعاية, ومعتق المريض قبل السعاية بمنزلة المكاتب فلا تقبل شهادته.
"ومنها الموت وهو عجز ظاهر كله والأحكام هنا دنيوية وأخروية أما الأولى فكل ما هو من باب التكليف يسقط به إلا في حق الإثم وما شرع عليه لحاجة غيره إن كان متعلقا بالعين يبقى ببقائها كالوديعة; لأنها" أي: العين "هي المقصودة وإن كان دينا لا يبقى بمجرد الذمة إلا أن يضم إليها" أي: إلى الذمة "مال أو كفيل فلا تجوز الكفالة عن ميت إلا عند وجود أحدهما" أي: الكفالة لا تجوز إلا أن يبقى عنه مال أو كفيل "ويلزمه الدين مضافا إلى سبب صح في حياته كما إذا حفر بئرا فوقع فيها حيوان بعد موته وأما ما شرع صلة كنفقة المحارم إلا أن يوصي, فيصح من الثلث, وأما ما شرع له لحاجته فتبقى ما تنقضي به الحاجة فتبقى التركة على حكم ملكه حتى يترتب منها حقوقه, ولهذا تبقى الكتابة بعد موت المولى لحاجته
................................................................................................
الحاجة التي هي باعتبار المالية حاصلة في عود المكاتب إلى الرق, ثم لا يخفى أن حاجة المكاتب فوق حاجة المولى لأنه يحتاج إلى صيرورته معتقا منقطعا عنه أثر الكفر باقيا عليه أثر الحياة لحرية أولاده إذ الرق أثر الكفر الذي هو موت حكمي فتبقى الكتابة بعد موت المكاتب كما تبقى بعد موت المولى بل بالطريق الأولى.
قوله: "وأما المملوكية فتابعة" يعني: أن مملوكية الميت, وإن لم يكن محتاجا إليها إلا أنه حكم ببقائها في المكاتب ضمنا, وتبعا لبقاء المالكية يدا ضرورة أن عقد الكتابة لا يمكن بقاؤه بدون بقاء المملوكية رقبة إذ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم, وهاهنا بحث, وهو أن حرية المكاتب الميت لا بد من أن يستند إلى زمان فإن حكم ببقاء الكتابة, والمملوكية بعد الموت لزم استناد العتق إلى ما بعد الموت, ولا معنى لذلك, وإن جعل الحرية مستندة إلى آخر أجزاء الحياة على ما قيل أن بالموت يتحول بدل الكتابة من الذمة إلى التركة, فيحصل فراغ ذمة المكاتب, وهو يوجب الحرية إلا أنه لا(2/373)
ما شرع لحاجة الميت
وأما ما شرع صلة كنفقة المحارم إلا أن يوصي، فيصح من الثلث، وأما ما شرع له لحاجته فتبقى ما تنقضي به الحاجة فتبقى التركة على حكم ملكه حتى يترتب منها حقوقه، ولهذا تبقى الكتابة بعد موت المولى لحاجته إلى الثواب، وكذا بعد موت المكاتب عن وفاء لحاجته إلى انقطاع أثر الكفر، وإلى حرية أولاده، وأما المملوكية فتابعة هنا فإن الأصل في هذا العقد ثبوت اليد.
ويثبت الإرث نظرا له خلافة، والخلافة إذا ثبت سببها، وهو مرض الموت يحجر الميت عن إبطالها فكذا إذا ثبتت نصا فيما لا يحتمل الفسخ كتعليق العتق به، فيكون
ـــــــ
إلى الثواب, وكذا بعد موت المكاتب عن وفاء لحاجته إلى انقطاع أثر الكفر, وإلى حرية أولاده, وأما المملوكية فتابعة هنا فإن الأصل في هذا العقد ثبوت اليد" أي: تابعة في باب الكتابة وهو جواب عن سؤال مقدر وهو أنه لما ذكر أن كل ما يحتاج إليه الميت يبقى بعد موته ضرورة قضاء حاجته, وكل ما لا يحتاج إليه لا يبقى لقيام الدليل على عدم بقائه, والضرورة الموجبة للبقاء غير ثابتة وعقد الكتابة إنما يمكن بقاؤه إذا بقي مملوكية الميت, ولا حاجة له إلى بقاء المملوكية, فلا يبقى فبعد الكتابة لا يبقى, فأجاب بأن المملوكية تابعة, والمقصود من بقاء عقد الكتابة به المالكية يدا, والمملوكية رقبة تبقى ضمنا لا قصدا.
"ويثبت الإرث نظرا له خلافة, والخلافة إذا ثبت سببها, وهو مرض الموت يحجر الميت عن إبطالها فكذا إذا ثبتت" أي: الخلافة "نصا فيما لا يحتمل الفسخ كتعليق العتق به" أي: بالموت, وإنما يثبت به الخلافة; لأن التعليق بالموت وصية والموصى له خليفة للميت في
................................................................................................
يجوز الحكم بها ما لم يصل المال إلى المولى, فإذا وصل حكم بحريته في آخر جزء من حياته فقد استندت المالكية, والمملوكية, وتقرر العتق إلى وقت الموت فلا تكون المملوكية باقية بعد الموت فلا يكون عقد الكتابة باقيا, والجواب أن معنى بقاء الكتابة حرية الأولاد, وسلامة الاكتساب عند تسليم الورثة المال إلى المولى, ونفوذ العتق في المكاتب شرط لذلك, فيثبت ضمنا, وإن لم يكن المحل قابلا كالملك في المغصوب لما ثبت شرطا لملك البدل ثبت عند أداء البدل مستندا إلى وقت الغصب, وإن كان المغصوب حال أداء البدل هالكا.
قوله: "ويثبت الإرث" أي: ولأنه ببقاء ما تنقضي به حاجة الميت يثبت الإرث بطريق الخلافة عنه نظرا له; لأنه يحتاج إلى من يخلفه في أمواله ففوض الشرع ذلك إلى أقرب الناس إليه نظرا له من جهة أن انتفاع أقاربه بأمواله بمنزلة انتفاعه نفسه بها.
قوله: "والخلافة إذا ثبت سببها, وهو مرض الموت" فإنه مفض إلى الموت الذي هو السبب حقيقة يصير الميت أي: المريض في مرض الموت محجورا عن التصرفات التي تبطلها تلك الخلافة فكذلك إذا ثبتت الخلافة بتنصيص الأصل بأن قال: أوصيت لفلان بكذا أو قال لعبده: أنت حر بعد(2/374)
سببا في الحال للعتق بخلاف سائر التعليقات؛ لأنه كائن بيقين فلا يجوز بيع المدبر ويصير كأم الولد في استحقاق الحرية دون سقوط التقوم؛ لأن تقومها إنما يسقط؛ لأنه لما استفرشها صار التمتع فيها أصلا والمال تبعا على عكس ما كان قبل، وعلى هذا الأصل قلنا المرأة تغسل الزوج في عدتها بخلاف العكس؛ لأن مالكيته حق له فتبقى بخلاف مملوكيتها؛ لأنها حق عليها.
ـــــــ
الموصى به ", فيكون سببا" أي: التعليق بالموت سببا "في الحال للعتق بخلاف سائر التعليقات; لأنه" أي: الموت "كائن بيقين" فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز بيع عبد علق عتقه بأمر كائن يقينا قلنا بيع العبد المعلق عتقه بالموت إنما لا يجوز لأمرين: أحدهما الاستخلاف كما ذكرنا, والثاني التعليق بأمر كائن لا محالة فصار مجموع الأمرين علة لعدم جواز بيعه فكل منهما على الانفراد جزء العلة "فلا يجوز بيع المدبر ويصير كأم الولد في استحقاق الحرية دون سقوط التقوم; لأن تقومها إنما يسقط; لأنه لما استفرشها صار التمتع فيها أصلا والمال تبعا على عكس ما كان قبل, وعلى هذا الأصل" وهو أن ما يحتاج إليه الميت يبقى دون ما لا يحتاج إليه "قلنا المرأة تغسل الزوج في عدتها بخلاف العكس; لأن مالكيته حق له فتبقى بخلاف مملوكيتها; لأنها حق عليها, وأما ما لا يصلح لحاجته كالقصاص"; لأن القصاص عقوبة وجبت لدرك الثأر عند انقضاء الحياة, والميت لا يحتاج إلى هذا بل الورثة محتاجون إليه "فإنه يجب حقا للورثة ابتداء حتى يصح عفوهم قبل موت المجروح لكن السبب انعقد في حق
................................................................................................
موتي أو إذا مت, فأنت حر فإن كلا من الإيصاء, وتعليق العتق بالموت استخلاف: أما الأول; فلأن الإيصاء إثبات عقد الخلافة في ملكه للموصى له مقدما على الوارث فاعتبر للحال سببا لإثبات الخلافة, وأما الثاني; فلأن التعليق بالموت لا يمنع السبب عن الانعقاد; لأنه تعليق بحال زوال الملك, وهو غير صحيح فلا بد من أن ينعقد السبب حال بقاء الملك, ويثبت الحق على سبيل التأجيل, وبهذا يتبين أن التعليق بغير الموت من الأمور التي على خطر الوجود كدخول الدار أو من الأمور الكائنة بيقين كمجيء الغد مثلا ليس استخلافا إذ لا يلزم منه انعقاد السبب في الحال ففي الصورتين أعني: الوصية, والتعليق بالموت تثبت الخلافة إلا أن الحق إن كان مما لا يحتمل الفسخ كالعتق بحجر الأصل عن إبطال الخلافة, وإن كان مما يحتمله كالوصية بالمال كان له إبطال الخلافة بالبيع, والهبة, والرجوع, ونحو ذلك; لأن الحق غير لازم فلم يلزم سببه, ويدخل في ذلك الوصية برقبة العبد فإنها, وإن كانت استخلافا إلا أنه تمليك, ووصية بالمال, وهو مما يحتمل الفسخ, والإبطال.
قوله: "دون سقوط التقوم" أي: المدبر لا يصير كأم الولد في سقوط التقوم; لأن الإحراز للمالية أصل في الأمة, والتمتع تبع, ولم يوجد في المدبر ما يوجب بطلان هذا الأصل بخلاف أم الولد فإنها لما استفرشت, واستولدت صارت محرزة للمتعة, وصارت المالية تبعا فسقط تقومها حتى لا تضمن بالغصب, وبإعتاق أحد الشريكين نصيبه منها.(2/375)
ما لا يصلح لحاجة الميت
وأما ما لا يصلح لحاجته كالقصاص فإنه يجب حقا للورثة ابتداء حتى يصح عفوهم قبل موت المجروح لكن السبب انعقد في حق الميت حتى يصح عفوه أيضا؛ ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: القصاص غير مورث حتى لا ينتصب بعض الورثة خصما عن البقية لكن إذا انقلب مالا وهو يصلح لحوائج الميت يصرف إلى حوائجه ويورث منه، وأما أحكام الآخرة فكلها ثابتة في حقه.
ـــــــ
الميت حتى يصح عفوه أيضا; ولهذا" أي: ولأجل أن القصاص يجب ابتداء للورثة.
قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: القصاص غير مورث حتى لا ينتصب بعض الورثة خصما عن البقية لكن "إذا انقلب" أي: القصاص "مالا وهو يصلح لحوائج الميت يصرف إلى حوائجه ويورث منه, وأما أحكام الآخرة فكلها ثابتة في حقه".
"وأما العوارض المكتسبة فهي إما من نفسه, وإما من غيره: أما الأول فمنها الجهل, وهو إما جهل لا يصلح عذرا كجهل الكافر; لأنه مكابرة بعدما وضح الدليل فديانة الكافر" أي: اعتقاده "في حكم لا يحتمل التبدل" كعبادة الصنم مثلا "باطلة فلا يكون للكفر حكم الصحة أصلا بخلاف الأحكام القابلة للتبدل كبيع الخمر مثلا فإنه يصح منهم.
................................................................................................
قوله: "وأما ما لا يصلح لحاجته" أي: حاجة الميت كالقصاص فإن الجناية وقعت على حق أولياء الميت لانتفاعهم بحياته, فيثبت لهم القصاص ابتداء تشفيا للصدور, ودركا للثأر لا انتقالا من الميت فإن قيل: المتلف نفس الميت, وقد كان انتفاعه بحياته أكثر من انتفاع غيره, فينبغي أن يثبت القصاص حقا له قلنا نعم إلا أنه خرج عند ثبوت الحق عن أهلية الوجوب, فيثبت ابتداء للولي القائم مقامه على سبيل الخلافة كما يثبت الملك للموكل ابتداء عند تصرف الوكيل بالشراء خلافة عن الوكيل فالسبب انعقد في حق المورث, والحق وجب للوارث فصح عفو المورث رعاية لجانب السبب, وصح عفو الوارث قبل موت المورث رعاية لجانب الواجب مع أن العفو مندوب, فيجب تصحيحه بقدر الإمكان, وهذا استحسان, والقياس أن لا يصح لما فيه من إسقاط الحق قبل ثبوته سيما إسقاط المورث فإنه إسقاط لحق الغير قبل أن يجب.
قوله: "حتى لا ينتصب بعض الورثة خصما عن البقية" يعني: لو أقام الوارث الحاضر بينة على القصاص فحبس القاتل ثم حضر الغائب كلف أن يعيد البينة, ولا يقضى لهما بالقصاص قبل إعادة البينة; لأنه ثبت لهما ابتداء فكل واحد منهما في حق القصاص كأنه منفرد, وليس الثبوت في حق أحدهما ثبوتا في حق الآخر بخلاف ما يكون موروثا كالمال, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى القصاص موروث; لأن خلفه, وهو المال موروث إجماعا, والخلف لا يخالف حكم الأصل, والجواب أن ثبوت القصاص حقا للورثة ابتداء إنما هو لضرورة عدم صلوحه لحاجة الميت فإذا انقلب مالا بالصلح أو بالعفو, والمال يصلح لحوائج الميت من التجهيز, وقضاء الديون, وتنفيذ(2/376)
العوارض المكتسبة منها الجهل النوع الأول منه
وأما العوارض المكتسبة فهي إما من نفسه، وإما من غيره: أما الأول فمنها الجهل، وهو إما جهل لا يصلح عذرا كجهل الكافر؛ لأنه مكابرة بعدما وضح الدليل فديانة الكافر في حكم لا يحتمل التبدل باطلة فلا يكون للكفر حكم الصحة أصلاوأما في حكم يحتمله فدافعة للتعرض لهم فقط وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هي دافعة له ولدليل الشرع في أحكام الدنيا استدراجا ومكرا وزيادة لإثمهم وعذابهم كأن الخطاب لم يتناولهم فيها.
ـــــــ
وأما في حكم يحتمله فدافعة للتعرض لهم فقط عند الشافعي رحمه الله تعالى" أي: ديانته دافعة للتعرض لهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "اتركوهم وما يدينون" "فلا يحد الذمي بشرب الخمر وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هي دافعة له" أي: للتعرض "ولدليل الشرع في أحكام الدنيا استدراجا ومكرا وزيادة لإثمهم وعذابهم كأن الخطاب لم يتناولهم فيها" أي: في أحكام الدنيا: اعلم أن الاستدراج تقريب الله تعالى العبد إلى العقوبة بالتدريج فتكون ديانتهم دافعة لدليل الشرع في أحكام الدنيا فيوهم تخفيفا لكنه تغليظ في الحقيقة كما بينا في فصل
................................................................................................
الوصايا ارتفعت الضرورة, وصار الواجب كأنه هو المال إذ الخلف إنما يجب به الأصل, فيثبت الفاضل من حوائج الميت لورثته خلافة لا أصالة.
قوله: "وأما العوارض المكتسبة" أي: التي يكون لكسب العباد مدخل فيها بمباشرة الأسباب كالسكر أو بالتقاعد عن المزيل كالجهل, وهي إما أن تكون من ذلك المكلف الذي يبحث عن تعلق الحكم به كالسكر, والجهل, وإما أن تكون من غيره عليه كالإكراه فمن الأولى أي: التي تكون من المكلف الجهل, وهو عدم العلم عما من شأنه فإن قارن اعتقاد النقيض فمركب هو المراد بالشعور بالشيء على خلاف ما هو به, وإلا فبسيط, وهو المراد بعدم الشعور, وأقسامه فيما يتعلق بهذا المقام أربعة: جهل لا يصلح عذرا, ولا شبهة, وهو في الغاية, وجهل هو دونه, وجهل لا يصح شبهة, وجهل يصلح عذرا فالأول جهل الكافر بالله تعالى, ووحدانيته, وصفات كماله, ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه مكابرة أي: ترفع عن انقياد الحق, واتباع الحجة إنكارا باللسان, وإباء بالقلب بعد وضوح الحجة, وقيام الدليل فإن قلت: الكافر المكابر قد يعرف الحق, وإنما ينكره جحودا, واستكبارا قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}, ومثل هذا لا يكون جهلا قلت: من الكفار من لا يعرف الحق, ومكابرته ترك النظر في الأدلة, والتأمل في الآيات, ومنهم من يعرف الحق, وينكره مكابرة, وعنادا قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} الآية, ومعنى الجهل فيهم عدم التصديق المفسر بالإذعان, والقبول.
قوله: "ونحوها" أي: مثل المذكورات كهبة الخمر, والوصية بها, والتصدق بها, وأخذ العشر من قيمتها, وكذا الخنزير.(2/377)
تفريعات
فيثبت عنده تقوم الخمر والضمان بإتلافها، وجواز البيع وصحة نكاح المحارم حتى إن وطئ فيه ثم أسلم يكون محصنا فإن العفة عن الزنا شرط لإحصان القذف فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن وطأه في هذا النكاح لا يكون زنا فيحد قاذفه وتجب به النفقة ولا يفسخ إلا أن يترافعا.
ـــــــ
خطاب الكفار بالشرائع أن الطبيب يعرض عن مداواة العليل عند اليأس, وصورة التخفيف, والإمهال توقعهم في زيادة ارتكاب المعاصي, وفي توهم الإهمال كما نطق به الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "أمهلناهم فظنوا أننا أهملناهم" وكما قال الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقال: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية "فيثبت عنده" أي: عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى "تقوم الخمر والضمان بإتلافها, وجواز البيع" ونحوها "وصحة نكاح المحارم حتى إن وطئ فيه" أي: في نكاح المحارم "ثم أسلم يكون محصنا فإن العفة عن الزنا شرط لإحصان القذف فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن وطأه في هذا النكاح لا يكون زنا فيحد قاذفه وتجب به النفقة" أي: بنكاح المحارم "ولا يفسخ" أي: نكاح المحارم ما دام الزوجان كافرين "إلا أن يترافعا" ثم أقام الدليل على ثبوت تقوم الخمر في حقهم وثبوت الإحصان بنكاح المحارم بقوله; "لأن تقوم المال وإحصان النفس من باب العصمة, وهي الحفظ, فيكون في ثبوتهما الحفظ عن التعرض" تقريره أن ديانتهم تصلح دافعة للتعرض اتفاقا ودافعة لدليل الشرع في أحكام الدنيا أي: في الأحكام التي تصلح ديانتهم دافعة لها لا يتناولهم دليل الشرع في تلك الأحكام عندنا فإذا عرفت هذا فتقوم الخمر وإحصان النفس من باب دفع التعرض لا من باب التعدي إلى الغير
................................................................................................
قوله: "فيحد قاذفه" أي: قاذف المسلم الذي وطئ في نكاح المحارم حال الكفر, وهذا تفريع على ثبوت الإحصان وقوله, وتجب به النفقة تفريع على صحة النكاح لا على ثبوت الإحصان, فلا يكون عطفا على قوله فيحد قاذفه بل على ما قبله, وكذا قوله: ولا يفسخ أي: نكاح المحارم برفع أحد الزوجين الكافرين الأمر إلى القاضي, وطلب حكم الإسلام إلا أن يجتمع الزوجان على الترافع فحينئذ يفسخ, وإذا لم تكن هذه الفروع الثلاثة متعلقة بثبوت الإحصان كان في تأخيرها عنه ثم إيراد الدليل على ثبوت الإحصان منضما إلى الدليل على تقوم الخمر نوع تعقيد, وسوء ترتيب, وإنما وقع في ذلك لتغييره أسلوب كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى حيث أورد هذا الكلام جوابا عما قال الشافعي رحمه الله تعالى إن ديانتهم تعتبر دافعة للتعرض لا للخطاب; لأن مجرد الجهل لا يصلح عذرا فكيف المكابرة, والعناد.؟, لكن أمرنا بتركهم, ما يدينون, وعدم التعرض لهذا بسبب عقد الذمة فلا يحد شاربهم لكن لا يثبت إيجاب الضمان على متلف الخمر, ولا صحة بيعها, ولا إيجاب النفقة على ناكحي المحارم, ولا الحد على قاذفه, فأجاب بأن تقوم المال, وإحصان النفس أيضا من باب العصمة, وهي الحفظ على التعرض فكانت الأحكام المذكورة من ضروريات ذلك.(2/378)
اعتراض وجوابه
فإن قيل ديانتهم ليست حجة متعدية إجماعا فلا توجب ضمان الخمر وحد القذف، والنفقة كما في مجوسي غلب بنتين إحداهما لا ترث بالزوجية قلنا يثبت بديانتهم بقاء تقوم الخمر على ما كان فليس فيه إلا دفع دليل الشرع ثم هو شرط للضمان لا علته، وكذا الإحصان فلا يكون في إثباتهما إثبات الضمان والحد وأما النفقة فإنما تجب دفعها للهلاك فتكون دافعة لا متعدية، ولأنهما لما تناكحا دانا بصحته فيؤخذ الزوج بديانته ولا كذلك من ليس في نكاحهما كالوارث الآخر.
ـــــــ
فيثبتان "ولا يلزم الربا; لأنهم قد نهوا عنه" هذا جواب إشكال على أن ديانتهم معتبرة في ترك التعرض فإنه يجب أن يتركوا على ديانتهم في باب الربا أيضا, فأجاب بأن معتقدهم في الربا ليس هو الحل لقوله تعالى: "وَأكلهم الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ" وقد خطر ببالي على هذا الجواب نظر, وهو أن قوله: ديانتهم دافعة للتعرض اتفاقا, ودليل الشرع لا يراد به أن ديانتهم الصحيحة دافعة لهما فإن ديانة الكافر لا تكون صحيحة بل المراد أن معتقدهم وإن كان باطلا دافع كنكاح المحارم مثلا فإنه لا يحل في شريعة من الشرائع; لأن حله كان في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام للضرورة ثم نسخ في شريعة نوح عليه الصلاة والسلام فارتكاب المجوس ذلك, وارتكاب أهل الكتاب الربا سيان والفرق بينهما صعب جدا ويمكن أن يقال حرمة الربا مذكورة في التوراة فارتكابهم ذلك يكون بطريق الفسق وحرمة نكاح المحارم غير مذكورة في كتب المجوس ولا يمكن لنا إلزامهم بما في كتبنا فافترقا.
"فإن قيل ديانتهم ليست حجة متعدية إجماعا فلا توجب ضمان الخمر وحد القذف, والنفقة كما في مجوسي غلب بنتين إحداهما لا ترث بالزوجية" اعلم أن الحكم في المقيس عدم وجوب الضمان وعدم وجوب حد القذف وعدم وجوب النفقة والحكم في المقيس عليه عدم الإرث فالحكمان مختلفان في الأصل والفرع لكنهما مندرجان تحت حكم واحد هو
................................................................................................
"قوله: وأكلهم الربا, وقد نهوا عنه" من سهو القلم, والصواب {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا}.
قوله: "فإن ديانة الكافر" يعني: ما يكون مختصا به مخالفا للإسلام لا تكون صحيحة بخلاف ما يوافق الإسلام كحرمة الزنا, وحرمة القتل بغير حق.
قوله: "بل المراد أن معتقدهم" أي: ما كان شائعا من دينهم متفقا عليه فيما بينهم سواء وردت به شريعتهم أو لم ترد, وسواء كان حقا أو باطلا دافع كنكاح المحارم في دين المجوسي, فإنه وإن كان باطلا غير ثابت في كتابهم إلا أنه شائع فيما بينهم لم تثبت حرمته عندهم, فيكون ديانة لهم بخلاف الربا عند اليهود فإن حرمته ثابتة في التوراة فارتكابه فسق منهم لا ديانة اعتقدوا حله, وليس المراد(2/379)
الدليل على تقوم الخمر عند الكفار وثبوت الإحصان بنكاح المحارم
لأن تقوم المال وإحصان النفس من باب العصمة وهي الحفظ فيكون في ثبوتهما الحفظ عن التعرض ولا يلزم الربا لأنهم قد نهوا عنه.
وأما عندهما فكذلك أيضا إلا أن نكاح المحارم ليس حكما أصليا بخلاف تقوم الخمر بل كان ضروريا إذ في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام لم يحل نكاح الأخت من بطن واحد وأيضا حد القذف يندرئ بالشبهة ولا تجب النفقة أيضا أما على الدليل الأول فظاهر وأما على الثاني فالنكاح، وإن صح لكن النفقة صلة مبتدأة فلا تجب كالميراث إذ لو وجبت تصير الديانة متعدية، والجواب أنها لدفع الهلاك وغناها لا يدفع الحاجة الدائمة بدوام الحبس.
ـــــــ
بمنزلة الجنس لهما, وهو أن ديانتهم غير متعدية "قلنا يثبت بديانتهم بقاء تقوم الخمر على ما كان فليس فيه إلا دفع دليل الشرع ثم هو" أي: التقوم "شرط للضمان لا علته, وكذا الإحصان" أي: إحصان المقذوف شرط لوجوب الحد على القاذف "فلا يكون في إثباتهما" أي: في إثبات التقوم, والإحصان "إثبات الضمان والحد" بل الضمان والحد إنما يثبتان بإتلاف الخمر, وبالقذف, وإنما يلزم القول بتعدي دياتهم لو أثبتنا الضمان والحد باعتقادهم التقوم, والإحصان ولم نفعل كذلك "وأما النفقة فإنما تجب دفعها للهلاك فتكون دافعة لا متعدية, ولأنهما لما تناكحا دانا بصحته فيؤخذ الزوج بديانته ولا كذلك من ليس في نكاحهما كالوارث الآخر" لأن تقوم المال وإحصان النفس من باب العصمة وهي الحفظ فيكون في ثبوتهما الحفظ عن التعرض ولا يلزم الربا لأن هم قد نهوا عنه جواب عن القياس المذكور وهو قوله: كما في مجوسي, وتقريره أن في إرث البنت التي هي زوجته ضررا بالوارث الآخر أي: البنت التي هي ليست زوجته, فتكون متعدية هنا "وأما عندهما فكذلك" اعلم أما ما ذكر هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وأما على قولهما فكذلك "أيضا" أي: ديانتهم دافعة للتعرض ولدليل الشرع في أحكام الدنيا "إلا أن نكاح المحارم ليس حكما أصليا بخلاف تقوم الخمر بل كان ضروريا إذ في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام لم يحل نكاح الأخت من بطن واحد" أي: نكاح المحارم كان في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام حكما ضروريا إذ لولا جوازه في ذلك العهد لا يحصل النسل أصلا, والدليل على هذا أن نكاح الأخت من بطن واحد لم يكن جائزا في شريعة آدم عليه السلام وكانت السنة الإلهية في ذلك الزمان ولادة ذكر مع أنثى من بطن
................................................................................................
بمعتقدهم ما يعتقده بعض منهم كما إذا اعتقدوا حد جواز السرقة أو القتل بغير حق فإنه لا يكون دافعا أصلا, فالحاصل أن المراد بالديانة الدافعة هو المعتقد الشائع الذي يعتمد على شرع في الجملة قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في المبسوط إن نكاح المحارم, وإن حكم بصحته لا يثبت به الإرث; لأنه ثبت بالدليل جواز نكاح المحارم في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام, ولم يثبت كونه سببا للميراث في دينه فلا يثبت سببا للميراث باعتقادهم, وديانتهم; لأنه لا عبرة لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع.(2/380)
النوع الثاني: الجهل الذي لا يصلح عذرا ودون الأول
وأما جهل كما ذكرنا لكنه دونه كجهل صاحب الهوى في صفات الله تعالى، وأحكام الآخرة؛ لأنه مخالف للدليل الواضح لكنه لما كان مؤولا للقرآن كان دون الأول ولما كان مسلما لزمنا مناظرته وإلزامه، فلا يترك على ديانته فلزمه جميع أحكام الشرع وكجهل الباغي، فيضمن بإتلاف مال العادل أو نفسه إلا أن يكون له
ـــــــ
واحد والمشروع أن يتزوج كل أنثى ذكر من بطن آخر, فكان النكاح بين التوأمين حرام ولا شك أن التوأمين مخلوقان من ماء اندفق دفعة واحدة, والولدان من بطنين مخلوقان من ماءين اندفقا دفعتين فالأخت من بطن واحد أقرب من أخت لا تكون كذلك ولما كانت الضرورة تنقضي بالبعد لم تحل القربى فعلم أن الأصل في نكاح المحارم الحرمة, وقد ثبت الحل بالضرورة فلما ارتفعت الضرورة بكثرة النسل نسخ حل الأخوات فعلى تقدير كون ديانتهم دافعة لدليل الشرع لا يثبت لهم حل نكاح المحارم إذ بعد قصر دليل الشرع عنهم يبقى الحكم على ما كان وهو الحرمة في نكاح المحارم بخلاف الخمر إذ بعد قصر دليلنا عنهم يبقى الحكم على ما كان, وهو الحل وإذا ثبت هذا فنكاح المحارم لا يكون مثبتا للإحصان ولا يحد قاذف من نكح المحارم ووطئ ثم أسلم.
"وأيضا حد القذف يندرئ بالشبهة" أي: سلمنا أن هذا النكاح صحيح في حقهم لكن شبهة عدم الصحة ثابتة في حقهم, فيندرئ حد القذف بها, فقوله وأيضا عطف على قوله أن نكاح المحارم إلخ, وكل واحد من المعطوف, والمعطوف عليه دليل على عدم وجوب الحد على قاذف من نكح المحارم ووطئ ثم أسلم فلهذا المعنى قال وأيضا "ولا تجب النفقة
................................................................................................
قوله: "ولا كذلك من ليس في نكاحها" إشارة إلى الجواب عن القياس على مجوسي خلف بنتين إحداهما زوجته, وتقريره أن من ليس في نكاح المتناكحين يعني: البنت التي ليست بزوجة, وهو المراد بالوارث الآخر ليس بمنزلة زوج المحرم حتى يؤاخذ بديانته; لأن الضرر يلحقه من غير التزام منه, فيكون تعدية بخلاف تضرر الزوج بالنفقة فإنه بالتزامه فإن قيل: ينبغي أن تؤاخذ البنت الغير المنكوحة بديانتها, واعتقادها; لأنها مجوسية, ولا يلتفت إلى نزاعها في زيادة الميراث; لأنه بمنزلة نزاع الزوج في النفقة أجيب بأنه لا يصح نزاع الزوج; لأنه التزم هذه الديانة حيث نكح المحرم بخلاف البنت الغير المنكوحة.(2/381)
منعة، فتسقط ولاية الإلزام وتجب علينا محاربته ولم يحرم الميراث بقتله لأن الإسلام جامع والقتل حق وكذا إن قتل عادلا لأنه حق في زعمه وولايتنا منقطعة عنه ولما كان الدار واحدة والديانة مختلفة تثبت العصمة من وجه فلا نملك ماله لكن لا نضمن بالإتلاف.
ـــــــ
أيضا" عطف على الحكم المفهوم من الدليلين المذكورين, ونعني بالحكم المفهوم عدم وجوب حد القذف "أما على الدليل الأول فظاهر" وهو أن حل نكاح المحارم ليس حكما أصليا وذلك; لأن الدليل الأول يوجب بطلان النكاح فلا تجب النفقة "وأما على الثاني" وهو أن حد القذف يندرئ بالشبهة "فالنكاح, وإن صح لكن النفقة صلة مبتدأة فلا تجب كالميراث إذ لو وجبت تصير الديانة متعدية", فالحاصل أن المراد بالشبهة لدرء حد القذف شبهة عدم صحة النكاح, فهذا الدليل مشعر بتسليم صحة نكاح المحارم, وكونها حكما أصليا في حقهم "والجواب" أي: جواب أبي حنيفة رحمه الله تعالى في النفقة "أنها لدفع الهلاك" فإيجاب النفقة بناء على ديانتهم لا يكون قولا بأن ديانتهم متعدية بل ديانتهم دافعة وذلك; لأن الزوج حابس للزوجة فإن حبسها بلا نفقة يكون متعرضا لها بالإهلاك فإيجاب النفقة دفع لهذا التعرض ثم ورد على هذا أن إيجاب النفقة ليس لدفع الهلاك بدليل وجوبها مع غنى المرأة, فأجاب بقوله "وغناها لا يدفع الحاجة الدائمة بدوام الحبس, وأما جهل كما ذكرنا" أي: لا يصلح عذرا, وهو عطف على قوله, وأما جهل لا يصلح عذرا "لكنه دونه" أي: دون الجهل الأول "كجهل صاحب الهوى في صفات الله تعالى, وأحكام الآخرة; لأنه مخالف للدليل الواضح لكنه لما كان مؤولا للقرآن كان دون الأول ولما كان مسلما لزمنا مناظرته وإلزامه, فلا يترك على ديانته فلزمه جميع أحكام الشرع وكجهل الباغي, فيضمن بإتلاف مال العادل أو
................................................................................................
قوله: "وغناها" يعني: أن المال في نفسه إن قل, وإن كثر, والحاجة دائمة لإمكان الحياة إلى يوم القيامة.
قوله: "كجهل صاحب الهوى" مثل جهل المعتزلة بزيادة صفات الله تعالى على الذات, وكونه تعالى مرئيا في الجنة بالأبصار, وكونه خالقا للشرور, والقبائح, وبجواز الشفاعة لحط الكبائر, وجواز العفو عما دون الكفر, وعدم خلود الفساق في النار, وإنما لم يكن هذا الجهل عذرا لكونه مخالفا للدليل الواضح من الكتاب, والسنة, والمعقول, وإنما كان دون جهل الكافر; لأن صاحب الهوى مؤول للقرآن أي: يصرفه عن ظواهره الدالة على نقيض معتقده, ويحمله على وفق معتقده لا أن ينبذه وراء ظهره مثل الكافر, وفي عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أنه متأول بالقرآن أي: متمسك به صارف إياه إلى ما يوافق اعتقاده, وإنما لزمنا مناظرته, وإلزامه; لأنه مسلم ملتزم لأحكام الشرع معترف بحقية القرآن, ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
قوله: "وكجهل الباغي" هو الخارج عن طاعة الإمام الحق بتأويل فاسد, وشبهة طارئة فإن كان(2/382)
نفسه إلا أن يكون له منعة, فتسقط ولاية الإلزام وتجب علينا محاربته ولم يحرم الميراث بقتله لأن الإسلام جامع" أي: بيننا وبين الباغي, فيكون سبب الإرث موجودا "والقتل حق" فلا يكون مانعا من الإرث.
"وكذا إن قتل عادلا" أي: لا يحرم الباغي الإرث إن قتل عادلا "لأنه حق في زعمه وولايتنا منقطعة عنه ولما كان الدار واحدة والديانة مختلفة تثبت العصمة من وجه فلا نملك ماله لكن لا نضمن بالإتلاف" كما في غصب مال غير متقوم فإن الغاصب لا يملكه حتى
................................................................................................
له منعة, فقد سقطت; ولأنه الإلزام لتعذره حسا, وحقيقة, فيعمل بتأويله الفاسد فلا يؤاخذ بضمان ما أتلف من مال أو نفس لكن يسترد منه ما كان في يده; لأنه لا يملكه, والمراد أنه يفتى بوجوب أداء الضمان فيما بينهم لكنهم لا يلزمون ذلك في الحكم; لأن تبليغ الحجة الشرعية قد انقطعت بمنعة قائمة حسا فيما يحتمل السقوط بخلاف الإثم, فإن المنعة لا تظهر في حق الشارع, ولا تسقط حقوقه, وإن لم يكن له منعة, فلا مانع من تبليغ الحجة, وإلزام الحكم فيؤاخذ بالضمان, ويجب علينا محاربة الباغي لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ولأن البغي معصية, ومنكر, ونهي المنكر فرض, وذلك بالقتال, وقيل: إنما تجب محاربتهم إذا اجتمعوا, وعزموا على القتال; لأنها إنما تجب بطريق الدفع.
"قوله: ولم يحرم الميراث بقتله" أي: قتل الباغي لوجود السبب مع عدم المانع إذ القتل إنما يكون مانعا إذا كان محظورا ليكون الحرمان جزاء, وعقوبة عليه لا إذا كان مأمورا به كقتل الباغي, والقتل رجما أو قصاصا, وكذا لا يحرم الباغي الميراث بقتل مورثه العادل; لأن قتله حق في زعم الباغي بناء على تأويله, وتمسكه بما عرضت له من الشبهة, وولايتنا منقطعة عنه لمكان المنعة فكان قتلهم أهل الحق في حق الأحكام لا في حق الأثام بمنزلة الجهاد; لأن انضمام المنعة, وانقطاع ولاية الإلزام إلى التأويل الفاسد يجعله بمنزلة الجهاد الصحيح في حق التوريث كما في حق الضمان, وهذا إذا قال الوارث كنت على الحق, وأنا الآن على الحق, وإلا فيحرم اتفاقا.
قوله: "ولما كان الدار واحدة" يعني: أن تملك المال بطريق الاستيلاء يتوقف على كمال اختلاف الدار, ووجوب الضمان بالإتلاف ينبئ عن كمال العصمة, وذلك عند اتحاد الدار من كل وجه فنحن لا نملك مال الباغي حتى إذا انكسرت شوكة البغاة نرد عليهم أموالهم لاتحاد الدار; لأنهم في دار الإسلام لكن لا تضمن أموالهم بالإتلاف; لأن اختلاف الديانة مع وجود المنعة يوجب شبهة اختلاف الدار فيوجب سقوط العصمة من وجه فلو قلنا بعدم الملك, وبوجوب الضمان جعلنا العصمة من وجه بمنزلة العصمة الكاملة, ولو قلنا بالملك, وعدم الضمان جعلنا اتحاد الدار بمنزلة اختلافها, ولو قلنا بالملك, والضمان كان متناقضا; لأن إثبات الملك معناه عدم الضمان فتعين القول بعدم الملك مع عدم الضمان كما في غصب غير المتقوم فإن قيل لا تناقض بين الملك, وضمان البدل كما في المغصوب قلنا لو ملكه لم يجب رده العينة, والملك بالضمان إنما يصح استنادا لا ابتداء.(2/383)
مخالفة الكتاب أو السنة أو الإجماع بتأويل
وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب كمتروك التسمية عمدا والقضاء بالشاهد واليمين أو السنة المشهورة كالتحليل بدون الوطء والقصاص في مسألة القسامة أو الإجماع كبيع أم الولد حتى لا ينفذ قضاء القاضي فيه.
ـــــــ
يجب عليه رده, وأما إذا أتلف لا يجب عليه الضمان, وإنما لم يعكس; لأن القول بأنه يملك ماله مع القول بأنه يملك ماله مع التناقض "وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب كمتروك التسمية عمدا" فإن فيه مخالفة قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} "والقضاء بالشاهد واليمين" أي: يمين المدعي فإن فيه مخالفة قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} "أو السنة المشهورة كالتحليل بدون الوطء" على مذهب سعيد بن المسيب فإن فيه مخالفة حديث العسيلة "والقصاص في مسألة القسامة" فإنه إن وجد لوث أي: علامة القتل استحلف الأولياء خمسين يمينا عمدا كانت الدعوى أو خطأ, وهذا عند الشافعي رحمه الله تعالى, وأما عند مالك رحمه الله يقضى بالقود
................................................................................................
قوله: "وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب" يريد أن الجهل إما أن يكون في نفس الدين, وأصوله, وهو الغاية أو لا, وهو دونه, وذلك إما أن تكون في أصول المذهب كما مر أو في فروعه, وذلك إما أن يكون مخالفا للقياس, وخبر الواحد, فيصلح عذرا أو للكتاب, والسنة المشهورة والإجماع, فيكون مثل جهل صاحب الهوى, وقيد السنة بالمشهورة, لأن مخالفة المتواتر تكون كفرا لكونه قطعيا, وفيه بحث; لأن الكتاب أيضا كذلك فمخالفته إنما لا تكون كفرا إذا لم يكن المتن قطعي الدلالة, ولا فرق في هذا بين الكتاب, والسنة, وأما عند قطعية المتن, والدلالة فالمخالف كافر لا محالة فلا بد هاهنا من تقييد الكتاب بأن لا يكون قطعي الدلالة, وتقييد السنة بأن تكون مشهورة أو تكون متواترة غير قطعية الدلالة فمن مخالفة الكتاب القول بحل متروك التسمية عمدا عند ذبحه تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام: "ذبيحة المسلم حلال, وإن لم يذكر اسم الله عليه", وبأن المؤمن ذاكر بقلبه التسمية, وإن تركها عمدا لقوله عليه الصلاة والسلام: "تسمية الله في قلب كل مؤمن", ومنها القول بجواز القضاء بشاهد, ويمين تمسكا بما روي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قضى بشاهد ويمين, والعمل بخبر الواحد مع قيام نص الكتاب خطأ في الاجتهاد إلا أن نص الكتاب ليس بقطعي; لأن قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} يحتمل أن يكون حالا, فيكون قيدا للنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه, ويحتمل أن يراد بما لم يذكر اسم الله عليه الميتة أو ما ذكر عليه غير اسم الله لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فإن الفسق هو ما أهل لغير الله به وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} يحتمل أن يكون بيانا لحصر البينة التي هي الشهادة المحضة في رجلين, ورجل, وامرأتين, وهذا لا ينافي ثبوت نوع آخر من البينة هي شهادة الواحد مع اليمين.(2/384)
فوائد
الأولى: خلاصة حصر أنواع الجهل أنه: إما أن يكون في نفس الدين وأصوله أو في فروعه والثاني إما في فروع المذهب أو أصوله، والذي في فروعه إما أن يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع / فيكون مثل جهل صاحب الهوى.
الثانية قيد السنة بالمشهور لأن مخالفة المتواترة مفر: لأنها قطعية.
مخالفة الكتاب الذي هو قطعي الدلالة كفر لا ظني الدلالة.
الرابعة قال الشافعية بحل كتروك التسمية عمدا عند ذبحه لقوله عليه السلام: "ذبيحة المسلم حلال" ولقوله: "ذكر الله في قلب كل مؤمن".
الخامسة لم يكفر من خالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع لتأوله
ـــــــ
إن كانت الدعوى في العمد وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى, وفيه خلاف قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر", وهذا وحديث العسيلة من المشاهير "أو الإجماع كبيع أم الولد" فإن إجماع الصحابة انعقد على بطلانه "حتى لا ينفذ قضاء القاضي فيه" متعلق بأول البحث, وهو أن الجهل ليس بعذر حتى إن قضى القاضي في هذه المسائل لا ينفذ قضاؤه لكونه مخالفا للكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع
................................................................................................
ومن مخالفة السنة المشهورة أعني: قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي, واليمين على من أنكر" ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى في أحد قوليه في مسألة القسامة, وهي أن يوجد قتيل لا يدرى قاتله, وادعى الولي قتله على واحد أو جماعة من أنه إن ظهر لوث أي: علامة يغلب على الظن صدق دعواه يستحلف الولي خمسين يمينا, ثم يقضى له بالدية على عاقلة القاتل في صورة الخطأ, وأما في صورة العمد ففي القول الجديد يقضى بالدية على القاتل, وفي القديم بالقصاص, وهو مذهب مالك, وأحمد تمسكا بقوله عليه السلام لأولياء مقتول وجد في خيبر "أتحلفون, وتستحقون دم صاحبكم؟" أي: دم قاتل صاحبكم إلى آخر الحديث فظهر أن كلام المصنف رحمه الله تعالى في تقرير القولين ليس على ما ينبغي, وأنه لا جهة لتخصيص القصاص فإنه مخالف بقوله عليه الصلاة والسلام: "البينة للمدعي, واليمين على من أنكر" 1, وهو مشهور, ومن مخالفة الإجماع القول بجواز بيع أم الولد تمسكا بما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله, وبأن المالية ثبتت بيقين, وارتفاعها بالولادة مشكوك, فإن الآثار الدالة على منع بيعها قد اشتهرت, وتلقاها القرن الثاني بالقبول فصار مجمعا عليه.
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الرهن باب 6. الترمذي في كتاب الأحكام باب 12. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 7. بلفظ "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه".(2/385)
فمثلا آية {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} هذه الجملة يحتمل أن تكون حالا فيكون قيدا للنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. ويحتمل ما ذكر عليه اسم الصليب مثلا.
السادسة: القضاء بشاهد ويمين مذهب من تمسك بحديث قضى رسول الله بشاهد ويمين فهو خطأ في الاجتهاد.
السابعة: آية الشاهدين بينت نوعا من البينة وحديث الشاهد واليمين بين نوعا آخر على مذهب من أجاز ذلك.
الثامنة: من أجاز بيع أمهات الأولاد تمسك بما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله. ولكن الأدلة على المنع اشتهرت في القرن الثاني وتلقاها الناس بالقبول. فصار المنع مجمعا عليه.(2/386)
النوع الثالث: الجهل الذي يصلح شبهة
وإما جهل يصلح شبهة، كالجهل في موضع الاجتهاد الصحيح أو في موضع الشبهة كمن صلى الظهر بلا وضوء ثم العصر به زاعما صحة ظهره ثم قضى
ـــــــ
"وأما جهل يصلح شبهة" عطف على النوعين المذكورين في الجهل "كالجهل في موضع الاجتهاد الصحيح" أي: غير مخالف للكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع "أو في موضع الشبهة كمن صلى الظهر بلا وضوء ثم العصر به" أي: بالوضوء زاعما صحة ظهره "ثم تذكر أنه صلى الظهر بلا وضوء" ثم قضى الظهر "بناء على هذا التذكر" ثم صلى المغرب على ظن أن العصر جائز بناء على جهله بفرضية الترتيب "يصح المغرب; لأن الترتيب مجتهد فيه" فلا يضر جهله فلا تجب عليه إعادة المغرب كما يجب قضاء العصر عندنا; لأنه أداه زاعما صحة ظهره وهذا زعم بخلاف الإجماع وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجب قضاء العصر لعدم فرضية الترتيب عنده هذا إذا كان يزعم وقت أداء المغرب أن عصره جائز أما لو علم وقت أداء المغرب أن عصره لم يجز كان عليه إعادة المغرب كما يجب قضاء العصر "وإن لم يقض الظهر وصلى العصر بناء على ظن أن الظهر جائز" أي: صلى الظهر بلا وضوء
................................................................................................
قوله: "كمن صلى الظهر" أورد مسألتين: أولاهما مثال للجهل في موضع الاجتهاد الصحيح, والثانية تتميم, وتكميل للأولى لا مثال آخر; لأن فيها مخالفة الإجماع فلا يكون الاجتهاد صحيحا.
قوله: "ولم يقض الظهر بناء" أي: بنى عدم قضاء الظهر على أنه لم يكن عالما بعدم الوضوء حين صلى, وأن الصلاة المؤداة بغير وضوء من غير علم بذلك لا يجب قضاؤها, وهذا مخالف للإجماع.(2/386)
الظهر ثم صلى المغرب على ظن أن العصر جائز بناء على جهله بفرضية الترتيب يصح المغرب؛ لأن الترتيب مجتهد فيه وإن لم يقض الظهر وصلى العصر بناء على ظن أن الظهر جائز لم يصح العصر.
وإذا عفا أحد الوليين ثم اقتص الآخر على ظن أن القصاص لكل واحد على الكمال فلا قصاص عليه؛ لأنه موضع الاجتهاد وكذا المحتجم إذا ظن أنه أفطر، فأكل عمدا فلا كفارة عليه ومن زنى بجارية امرأته أو والده بظن أنها تحل له لا يحد؛ لأنه موضع الاشتباه فتصير شبهة في درء الحد إلا في النسب، والعدة وكذا حربي أسلم فدخل دارنا فشرب خمرا جاهلا بالحرمة لا إن زنى هو أو شرب ذمي أسلم.
ـــــــ
ثم العصر بوضوء زاعما صحة الظهر, ولم يقض الظهر بناء على أنه غير عالم بعدم الوضوء فإن من صلى صلاة بغير وضوء جاهلا أن لا وضوء له ثم توضأ, وصلى فرضا آخر ثم تذكر أنه كان على غير وضوء فالفرض الثاني غير صحيح في ظاهر الرواية خلافا لحسن بن زياد فإن عنده إنما يجب رعاية الترتيب على من يعلمه, وأيضا فيه خلاف زفر رحمه الله فإنه يقول إذا كان عنده أن الفرض الأول يجزيه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزيه الفرض الثاني "لم يصح العصر" أي: صلى الظهر بلا وضوء ثم العصر بوضوء زاعما صحة الظهر ولم يقض الظهر لم يصح العصر; لأن زعمه مخالف "للإجماع, والمسألة المستشهد بها هي الأولى لا الثانية وإذا عفا أحد الوليين ثم اقتص الآخر على ظن أن القصاص لكل واحد على الكمال فلا قصاص عليه; لأنه موضع الاجتهاد" فإن عند البعض لا يسقط القصاص فصار هذا شبهة في درء القصاص عن قاتل القاتل "وكذا المحتجم إذا ظن أنه أفطر, فأكل عمدا فلا كفارة عليه"; لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "أفطر الحاجم والمحجوم" صار شبهة في درء
................................................................................................
قوله: "وإذا عفا أحد الوليين, واقتص الآخر" بجهله بالعفو أو بأن عفو أحد الأولياء يسقط القود فعليه الدية لا القصاص; لأن هذا جهل في موضع الاجتهاد; ولما ذهب إليه بعض أهل المدينة من أن القصاص إذا ثبت لوليين كان لكل منهم التفرد بالقتل حتى لو عفا أحدهما كان للآخر القتل إلا أن الظاهر أن هذا مخالف للإجماع فلا يكون اجتهادا صحيحا بل هو جهل في موضع الاشتباه لأنه علم بوجوب القصاص وما ثبت فالظاهر بقاؤه وأيضا الظاهر عدم نفاذ التصرف في حق الغير فيكون محل الاشتباه, ويصير شبهة في درء الحد.
قوله: "إذ هذه الكفارة" يعني: كفارة الصوم تندرئ بالشبهة لترجيح جانب العقوبة فيها, وهذا إذا استفتى فقيها, فأفتاه بفساد الصوم فحصل له الظن بذلك أو بلغه الحديث أعني: قوله عليه السلام: "أفطر الحاجم والمحجوم" 1, ولم يعرف نسخه, ولا تأويله, وإلا فعليه الكفارة اتفاقا, وعند أبي
ـــــــ
1رواه البخاري في كتاب الصوم باب 32. أبو داود في كتاب الصوم باب 26. أحمد في مسنده 2/364.(2/387)
النوع الرابع: الجهل الذي يصلح عذرا
وأما جهل يصلح عذرا كجهل مسلم لم يهاجر بالشرائع وكذا إذا نزل خطاب، ولم ينتشر بعد في دارنا كما في قصة أهل قباء وقصة تحريم الخمر فأما إذا انتشر التبليغ في ديارنا فقد تم التبليغ فمن جهل هنا يكون لتقصيره كمن لم يطلب الماء في العمرانات فتيمم وكان الماء موجودا لا يصح، وكذا الجهل بأنه وكيل أو مأذون حتى إن تصرف لا يصح وكذا جهل الوكيل بالعزل، والمأذون بالحجر والمولى بجناية العبد الجاني، والشفيع بالبيع والأمة المنكوحة بالإعتاق أو بالخيار والبكر بالنكاح لا بالخيار.
دليل ما تقدم
لأن الدليل مشهور في حقها وفي حق الأمة مخفي ولأن البكر تريد إلزام الفسخ والأمة تريد دفع زيادة الملك حتى يشترط القضاء ثمة لا هنا.
ـــــــ
الكفارة إذ هذه الكفارة مما يندرئ بالشبهة وكذا القصاص في المسألة السابقة "ومن زنى بجارية امرأته أو والده بظن أنها تحل له لا يحد; لأنه موضع الاشتباه فتصير شبهة في درء الحد" حتى يندرئ الحد بهذه الشبهة "إلا في النسب, والعدة" أي: لا يثبت النسب والعدة بهذه الشبهة, وإن كانا يثبتان بالوطء بشبهة. "وكذا حربي أسلم فدخل دارنا فشرب خمرا جاهلا بالحرمة" أي: لا يحد; لأن جهله يكون شبهة "لا إن زنى هو" أي: زنى حربي أسلم حيث يحد; لأن جهله في حرمة الزنا لا يكون شبهة; لأن الزنا حرام في جميع الأديان "أو شرب ذمي أسلم" أي: يجب الحد; لأن حرمة الخمر شائعة في دار الإسلام والذمي ساكن فيها فلا يعذر بالجهل بحرمة الخمر فلا يصير شبهة في درء الحد ", وأما جهل يصلح عذرا" هذا هو النوع
................................................................................................
يوسف تجب الكفارة, وإن كان ظنه مستندا إلى الحديث; لأنه ليس للعامي الأخذ بظواهر الأخبار, وإنما التمسك بها للفقهاء, والقول بفساد الصوم بالحجامة, وإن كان قد ذهب إليه الأوزاعي إلا أنه ليس اجتهادا صحيحا لمخالفته الإجماع.
وقوله: "ومن زنى بجارية امرأته أو والده يظن أنها تحل له" بناء على أن مال الزوجة مال الزوج من وجه لفرط الاختلاط أو حل الزوجة يوجب حل مملوكتها, وأن ملك الأصل ملك الجزء أو حلال له فهذا شبهة اشتباه أعني: الشبهة في الفعل, وهي أن يظن ما ليس بدليل الحل دليلا, فيظن الحل, فيسقط الحد للشبهة لكن لا يثبت النسب, ولا تجب العدة; لأن الفعل قد تمحض زنا بخلاف شبهة الحل, وتسمى شبهة الدليل, وهي أن يوجد الدليل الشرعي النافي للحرمة لكن تخلف الحكم عنه لمانع كما إذا وطئ جارية الابن فإنه يسقط الحد, ويثبت النسب, والعدة; لأن الفعل لم يتمحض زنا نظرا إلى الدليل أعني: قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" 1, وأما شبهة جارية الأخ أو الأخت فليست محلا للاشتباه لا شبهة فعل, ولا شبهة محل فلا يسقط الحد.
قوله: "وأما جهل يصلح عذرا" كمن أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر إلى دار الإسلام فجهله
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب التجارات باب 64. أحمد في مسنده 2/179، 204، 214.(2/388)
من العوارض السكر
ومنها السكر هو وإما بطريق مباح كسكر المضطر، والسكر بدواء، وبما يتخذ من الحنطة أو الشعير أو العسل وهو كالإغماء يمنع صحة جميع التصرفات حتى الطلاق، والعتاق وأما بطريق محظور كالسكر من شراب محرم أو مثلث؛ لأنه إنما يحل بشرط أن لا يسكر فالسكر به يصير كالسكر بالمحرم فيحد به وهو لا ينافي
ـــــــ
الرابع من الجهل "كجهل مسلم لم يهاجر بالشرائع وكذا إذا نزل خطاب, ولم ينتشر بعد في دارنا كما في قصة أهل قباء" فإنهم إذ بلغهم تحويل القبلة وكانوا في الصلاة استداروا إلى الكعبة فاستحسن رسول الله عليه الصلاة والسلام وكانوا يقولون: كيف صلاتنا إلى بيت المقدس قبل علمنا بالتحويل, فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس "وقصة تحريم الخمر" {لما نزل تحريم الخمر قال الصحابة يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر, ويأكلون مال الميسر أي: بعد التحريم قبل بلوغ الخطاب إليهم؟ فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا}.
"فأما إذا انتشر التبليغ في ديارنا فقد تم التبليغ فمن جهل هنا يكون لتقصيره كمن لم يطلب الماء في العمرانات فتيمم وكان الماء موجودا لا يصح, وكذا الجهل بأنه وكيل أو
................................................................................................
بالأحكام من الصلاة, والصوم, ونحو ذلك يكون عذرا له في الترك حتى لا يجب بعد المهاجرة قضاء مدة اللبث في دار الكفر; لأنه لا بد من سماع الخطاب حقيقة أو تقديرا بشهرته في محله.
قوله: "فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} " المذكور في عامة التفاسير أنها نزلت حين نزول آية التوجه إلى الكعبة فقالوا: كيف من مات قبل التحويل من إخواننا؟.
قوله: "وقصة تحريم الخمر" هي أن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا الخمر بعد التحريم لعدم علمهم بحرمتها فنزل {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا}, وعن ابن كيسان أنه لما نزل تحريم الخمر, والميسر قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا, وقد شربوا الخمر, وأكلوا الميسر, وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون بتحريمها, وهم يطعمونها فنزلت.(2/389)
الخطاب لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فهذا خطاب متعلق بحال السكر فهو لا يبطل الأهلية أصلا، فيلزمه كل الأحكام، وتصح عباراته وإنما ينعدم به القصد حتى إن تكلم بكلمة الكفر لا يرتد استحسانا لعدم ركنه وهو القصد كما إذا أراد أن يقول: اللهم أنت ربي، وأنا عبدك فجرى على لسانه عكسه لا يرتد.
وإذا أسلم يصح كالمكره وإذا أقر بما يحتمل الرجوع كالزنا، وشرب الخمر لا يحد حتى يصحو فيقر؛ لأن السكر دليل الرجوع، وإذا أقر بما لا يحتمله كالقصاص والقذف وغيرهما أو باشر سبب الحد يلزمه لكن إنما يحد إذا صحا وحده اختلاط الكلام وزاد أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن لا يعرف الأرض من السماء لوجوب الحد فقط.
ـــــــ
مأذون" أي: يكون عذرا "حتى إن تصرف لا يصح" أي: من الموكل فإن شراء الوكيل قبل العلم بالوكالة يقع عن الوكيل ولو باع مال الموكل قبل العلم بالوكالة يتوقف كبيع الفضولي "وكذا جهل الوكيل بالعزل, والمأذون بالحجر والمولى بجناية العبد الجاني, والشفيع بالبيع والأمة المنكوحة بالإعتاق أو بالخيار والبكر بالنكاح لا بالخيار" أي: جهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر عذر حتى إن تصرفا قبل العلم بالعزل والحجر يصح تصرفهما وكذا جهل المولى بجناية العبد الجاني عذر حتى لو باع العبد الجاني قبل العلم بالجناية لا يكون مختارا للفداء وكذا جهل الشفيع بالبيع حتى لو باع الشفيع الدار المشفوع بها بعد ما بيعت دار بجنبها لكن قبل علمه ببيعها لا يكون مسلما للشفعة, والأمة المنكوحة إذا جهلت أن المولى أعتقها فسكتت عن فسخ النكاح فجهلها عذر حتى لا يبطل خيارها, وكذا إذا علمت بالإعتاق, ولكن جهلت أن لها خيار العتق فجهلها عذر حتى لا يبطل خيارها وإذا بلغت البكر التي زوجها غير الأب, والجد جاهلة بالنكاح فسكتت فجهلها عذر فلا يكون سكوتها رضى أما إذا علمت بالنكاح وجهلت بأن لها الخيار لا يكون جهلها عذرا حتى يبطل خيارها إذ جهلها بالأحكام الشرعية ليس بعذر "لأن الدليل مشهور في حقها"; لأن طلب العلم واجب عليها
................................................................................................
قوله: "والبكر" أي:, وكجهل البكر بالنكاح فيما إذا زوجها, ولي غير الأب أو الجد من الكفء بمهر المثل أو زوجها الأب أو الجد من غير الكفء أو بغبن فاحش فإنه يكون عذرا حتى يكون لها الفسخ بعد العلم بالنكاح, وأما إذا زوجها الأب أو الجد من الكفء بمهر المثل لم يكن لها الفسخ لكمال النظر, ووفور الشفقة, ولو زوجها غير الأب, والجد من غير كفء أو بغبن فاحش لم يصح النكاح أصلا, وإنما صرحت بذلك; لأنه قد اشتهر في بعض البلاد نقلا عن المصنف رحمه الله تعالى أنه يصح النكاح في هذه الصورة لكن يكون لها الفسخ, وهكذا أورده في شرحه للوقاية, ولا يوجد له رواية أصلا.
قوله: "لأن طلب العلم واجب عليها" أي: على البكر, وتقرير القوم أن جهل البكر بالخيار ليس(2/390)
فدلائل الشرع يجب أن تكون مشهورة في حقها فبالجهل لا تعذر "وفي حق الأمة مخفي"; لأن خدمة المولى تشغلها عن التعلم فالدليل مخفي في حقها فتعذر بالجهل "ولأن البكر تريد إلزام الفسخ والأمة تريد دفع زيادة الملك", هذا فرق آخر بين البكر والأمة في أن الأمة تعذر بالجهل لا البكر, وتقريره أن البكر تريد إلزام الفسخ على الزوج والمعتقة تريد بالفسخ دفع زيادة الملك فإن طلاق الأمة ثنتان, وطلاق الحرة ثلاثة, والجهل عدم أصلي يصلح للدفع لا للإلزام, وهذا الفرق أحسن من الأول; لأن البكر قبل البلوغ لم تكلف بالشرائع لا سيما في المسائل التي لا يعرفها إلا أحذق الفقهاء حتى يشترط القضاء ثمة لا هنا تفريع على أن فسخ النكاح بخيار البلوغ إلزام ضرورة وبخيار العتق دفع ضرر.
"ومنها السكر هو وإما بطريق مباح كسكر المضطر, والسكر بدواء, كالبنج, والأفيون" وبما يتخذ من الحنطة أو الشعير أو العسل وهو كالإغماء "يمنع صحة جميع التصرفات حتى الطلاق, والعتاق وأما بطريق محظور كالسكر من شراب محرم أو مثلث; لأنه إنما يحل" أي: المثلث "بشرط أن لا يسكر فالسكر به يصير كالسكر بالمحرم فيحد به" أي: بالسكر من المثلث "وهو" أي: القسم الثاني من السكر, وهو السكر بشراب محرم أو بالمثلث "لا ينافي الخطاب لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
................................................................................................
بعذر لاشتهار العلم في دار الإسلام, وعدم المانع من التعلم في جانبها بخلاف الأمة فإن اشتغالها بخدمة السيد مانع, وعلى هذا الإيراد الاعتراض بأن البكر قبل البلوغ لم تكلف بالشرائع لا سيما بالمسائل الخفية.
قوله: "حتى يشترط للقضاء ثمة" أي: في فسخ البكر بعد البلوغ لا هنا أي: لا في فسخ المعتقة; لأن فسخ البكر للإلزام على الغير, وتوهم ترك النظر من الولي, وهو غير متيقن فلا يتم إلا بالقضاء حتى لو مات أحدهما بعد الفسخ قبل القضاء يرثه الآخر, وفسخ المعتقة يثبت بنفس الخيار; لأنه لدفع زيادة الملك, ولا سبيل إليه إلا بدفع أصل الملك فلا يفتقر إلى القضاء, وتحقيق ذلك أن المرأة تبطل حقا مشتركا لدفع زيادة حق عليها, والزوج يثبت زيادة حق عليها لاستيفاء حق مشترك فلهذا جعلنا الدفع في حق المرأة قصدا, وإبطال الملك ضمنا, وفي حق الزوج زيادة الملك أصلا, واستيفاء ضمنا.
قوله: "ومنها" أي:, ومن العوارض المكتسبة السكر, وهي حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه, فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة, والقبيحة, والسكر حرام إجماعا إلا أن الطريق المفضي إليه قد يكون مباحا كسكر المضطر إلى شرب الخمر, والسكر الحاصل من الأدوية, والأغذية المتخذة من غير العنب, والغذاء ما ينفعل عن الطبيعة فتنصرف فيه, وتحيله إلى مشابهة المتغذي, فيصير جزءا منه, وبدلا عما يتحلل, والدواء ما يكون فيه كيفية خارجة عن الاعتدال بها تنفعل الطبيعة عنه, وتعجز عن التصرف فيه, وقد يكون محظورا كالسكر الحاصل من الخمر التي يحرم قليلها وكثيرها أو من المثلث, وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم رقق بالماء, وترك حتى اشتد يحل شربه عند أبي حنيفة, وأبي يوسف لاستمراء الطعام, والتقوي على قيام الليالي, وصيام الأيام, وأما على قصد السكر فلا حتى لو سكر منه يحد اتفاقا, وأما نقيع الزبيب(2/391)
سُكَارَى} " فهذا خطاب متعلق بحال السكر فهو لا يبطل الأهلية أصلا, فيلزمه كل الأحكام, وتصح عباراته وإنما ينعدم به القصد حتى إن تكلم بكلمة الكفر لا يرتد استحسانا لعدم ركنه وهو القصد كما إذا أراد أن يقول: اللهم أنت ربي, وأنا عبدك فجرى على لسانه عكسه لا يرتد وإذا أسلم يصح كالمكره وإذا أقر بما يحتمل الرجوع كالزنا, وشرب الخمر لا يحد حتى يصحو فيقر; لأن السكر دليل الرجوع, وإذا أقر بما لا يحتمله كالقصاص والقذف وغيرهما أو باشر سبب الحد يلزمه لكن إنما يحد إذا صحا وحده اختلاط الكلام أي: حد السكر والمراد به الحالة المميزة بين السكر, والصحو
................................................................................................
وهو الماء الذي ألقي فيه الزبيب ليخرج منه حلاوته فإن لم يطبخ حتى اشتد, وغلا, وقذف بالزبد فهو حرام, وإن طبخ أدنى طبخ يحل شرب القليل منه في ظاهر الرواية.
قوله: "حتى الطلاق, والعتاق" صرح بذلك نفيا لما روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الرجل إذا كان عالما بفعل البنج, فأكله يصح طلاقه, وعتاقه.
قوله: "فهذا خطاب متعلق بحالة السكر" ليس المراد أن قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} قيد للخطاب أعني: لا تقربوا حتى يلزم أن يكون الخطاب في حالة سكرهم بل هو قيد لما تعلق به خطاب المنع وتحقيق ذلك أن الحال في مثل, صل, وأنت صالح أو لا تصل, وأنت سكران ليس قيدا للأمر, والنهي بل للمأمور به, والمنهي عنه بمعنى أطلب منك صلاة مقرونة بالصحو, وكف النفس عن الصلاة المقرونة بالسكر, وذلك; لأن العامل في الحال هو فعل المذكور لا فعل الطلب فقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} فيمن جعله حالا من قوله: {أَوْفُوا} يكون قيدا للإيفاء لا لطلبه حتى يلزم عدم وجوب الإيفاء عند كونهم محلين للصيد أي: معترضين له في الإحرام فالمعنى أنهم خوطبوا في حالة الصحو بأن لا يقربوا الصلاة حالة السكر, فيلزم كونهم مخاطبين أي: مكلفين بذلك حال السكر فلا يكون السكر منافيا لتعلق الخطاب, ووجوب الانتهاء فالسكر من الشراب المحرم أو المثلث لا يبطل أهلية الخطاب أصلا لتحقق العقل, والبلوغ إلا أنه يمنع استعمال العقل بواسطة غلبة السرور, فيلزمه جميع التكاليف من الصلاة, والصوم, وغيرهما, وإن كان لا يقدر على الأداء, ولا يصح منه الأداء, وتصح عباراته في الطلاق, والعتاق, والبيع, والإقرار وتزويج الصغار, والتزوج, والإقراض, والاستقراض, وسائر التصرفات سواء شرب مكرها أو طائعا, وذلك; لأن مبنى الخطاب على اعتدال الحال, وقد أقيم البلوغ عن العقل مقامه تيسيرا, وبالسكر لا يفوت إلا قدرة فهم الخطاب بسبب هو معصية فيجعل في حكم الموجود زجرا له, ويبقى التكليف متوجها في حق الإثم, ووجوب القضاء بخلاف ما إذا كان بآفة سماوية كالنوم فإنه يصلح عذرا دفعا للحرج.
قوله: "وإذا أسلم" أي: السكران إن أسلم يصح ترجيحا لجانب الإيمان, وكون الأصل هو الاعتقاد فلو تكلم بكلمة الكفر لا يرتد; لأن الاعتقاد لا يرتفع إلا بالقصد إلى تبدله أو بما يدل عليه ظاهرا وهو التكلم في حالة يعتبر فيها القصد, وهي حالة الصحو, وهذا كالمكره يصح إسلامه, ولا يصح ارتداده.(2/392)
حكم الهزل
ومنها الهزل: وهو أن لا يراد باللفظ معناه لا الحقيقي ولا المجازي، وهو ضد الجد، وهو أن يراد به أحدهما وشرطه أن يشترط باللسان لا يعتبر دلالته ولا يشترط كونه في نفس العقد.
ـــــــ
"وزاد أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن لا يعرف الأرض من السماء لوجوب الحد فقط".
"ومنها الهزل وهو أن لا يراد باللفظ معناه لا الحقيقي ولا المجازي, وهو ضد الجد, وهو أن يراد به أحدهما وشرطه أن يشترط باللسان لا يعتبر دلالته" أي: دلالة الهزل أي: شرط الهزل أن تجري المواضعة قبل العقد بأن يقال: نحن نتكلم بلفظ العقد هازلا "ولا يشترط كونه" أي: كون
................................................................................................
قوله: "لأن السكر دليله الرجوع" إذ السكران لا يستقر على أمر فيقام مقام الرجوع; لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة بخلاف ما إذا أقر بما لا يحتمل الرجوع كالقصاص, والقذف أو باشر سبب الحد بأن زنى أو قذف في حالة السكر فإنه لا يسقط عنه الحد أما في الإقرار بما لا يحتمل الرجوع فلأنه لا يسقط بصريح الرجوع فكيف بدليله, وأما في المباشرة فلأنه معاين, فلا أثر لدليل الرجوع لكن يتوقف في إقامة الحد إلى الصحو ليحصل الانزجار فإن قلت: السكر موجب للحد فإذا تحقق أنه سكران فما معنى إقراره بالشرب, ثم توقف وجوب الحد على إقراره في الصحو قلت: السكر قد يكون من غير الشراب المحرم أو المثلث والسكر منهما قد يكون بالشرب كرها أو اضطرارا, فيتوقف الحد على إقامة البينة أو الإقرار بأنه شرب الشراب المحرم أو المثلث طوعا فيشترط الإقرار حال الصحو.
قوله: "وزاد أبو حنيفة رحمه الله تعالى" يعني: اعتبر في حق وجوب الحد السكر بمعنى زوال العقل بحيث لا يميز بين الأشياء, ولا يعرف الأرض من السماء إذ لو ميز ففي السكر نقصان, وفي النقصان شبهة العدم فيندرئ به الحد, وأما في غير وجوب الحد من الأحكام فالمعتبر عنده أيضا اختلاط الكلام حتى لا يرتد بكلمة الكفر, ولا يلزمه الحد بالإقرار بما يوجب الحد.
قوله: "ومنها الهزل" فسره فخر الإسلام رحمه الله تعالى باللعب, وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له لفظ فتوهم بعضهم من ظاهره أنه يشمل المجاز إلا أنه أراد بالوضع ما هو أعم من وضع اللفظ للمعنى, ومن وضع التصرفات الشرعية لأحكامها, وأراد بوضع اللفظ ما هو أعم من الوضع الشخصي كوضع الألفاظ لمعانيها الحقيقية أو النوعي كوضعها لمعانيها المجازية, وهذا معنى ما يقال: إن الوضع أعم من العقلي, والشرعي فإن العقل يحكم بأن الألفاظ لمعانيها حقيقة أو مجازا وأن التصرفات الشرعية لأحكامها والمصنف رحمه الله تعالى أوضح المقصود ففسر الهزل بعدم إرادة المعنى الحقيقي, والمجازي باللفظ, ودخل في ذلك التصرفات الشرعية; لأنها صيغ, وألفاظ موضوعة لأحكام تترتب عليها, ويلزم معانيها بحسب الشرع.
قوله: "ولا يشترط كونه" يعني: لا يجب أن تجري المواضعة في نفس العقد; لأنه يفوت(2/393)
الهزل لا ينافي التصرفات
وهو لا ينافي الأهلية أصلا ولا اختيار المباشرة والرضى بها بل اختيار الحكم، والرضى به فوجب النظر بالتصرفات كيف تنقسم فيهما وهي إما من الإنشاءات أو الإخبارات أو الاعتقادات: أما الإنشاءات فإما أن تحتمل النقض أو لا، فما يحتمله كالبيع والإجارة فإما أن يتواضعا في أصل العقد فإن اتفقا على الإعراض صح البيع
ـــــــ
الشرط وهو المواضعة "في نفس العقد" بل يكفي أن تكون المواضعة سابقة على العقد "وهو" أي: الهزل "لا ينافي الأهلية أصلا ولا اختيار المباشرة والرضى بها بل اختيار الحكم, والرضى به فوجب النظر بالتصرفات كيف تنقسم فيهما" أي: في الاختيار, والرضى "وهي إما من الإنشاءات أو الإخبارات أو الاعتقادات: أما الإنشاءات فإما أن تحتمل النقض أو لا, فما يحتمله كالبيع والإجارة فإما أن يتواضعا في أصل العقد" أي: تجري المواضعة قبل العقد بأنا نتكلم بلفظ البيع عند الناس ولا نريد البيع "فإن اتفقا على الإعراض" أي: فالأبعد البيع إنا قد أعرضنا وقت البيع عن الهزل وبعنا بطريق الجد "صح البيع وبطل الهزل لإعراضهما وإن اتفقا على بناء العقد على المواضعة صار كخيار الشرط لهما مؤبدا" أي: للمتعاقدين "لوجود الرضى بالمباشرة لا بالحكم" هذا دليل على كونه بمنزلة خيار الشرط فإنه إذا بيع بالخيار فالرضى بالمباشرة حاصل لا بالحكم وهو الملك "فيفسد العقد" كما في الخيار المؤبد "لكن لا يملك
................................................................................................
المقصود من المواضعة, وهو أن يعتقد الناس لزوم العقد بخلاف خيار الشرط فإنه لدفع الغبن, ومنع الحكم عن الثبوت بعد انعقاد السبب فلا بد من اتصاله بالعقد.
قوله: "ولا اختيار المباشرة والرضى بها" يعني: أن الهازل يتكلم بصيغة العقد مثلا باختياره, ورضاه لكنه لا يختار ثبوت الحكم, ولا يرضاه الاختيار هو القصد إلى الشيء, وإرادته, والرضى هو إيثاره, واستحسانه فالمكره على الشيء مثلا يختار ذلك, ولا يرضاه, ومن هاهنا قالوا: إن المعاصي, والقبائح بإرادة الله تعالى لا يرضاه لقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}.
قوله: "وهي" أي: التصرفات إما إنشاءات أو إخبارات أو اعتقادات; لأن التصرف إن كان إحداث حكم شرعي فإنشاء, وإلا فإن كان القصد منها إلى بيان الواقع فإخبارات, وإلا فاعتقادات, والإنشاء إما أن يحتمل الفسخ أو لا, والأول إما أن يتواضع المتعاقدان على أصل العقد أو الثمن بحسب قدره أو جنسه, وعلى التقادير الثلاثة إما أن يتفقا على الإعراض عن الهزل, والمواضعة أو على بناء العقد عليها أو على أن لا يحضرهما شيء, وإما أن لا يتفقا على شيء من ذلك, وحينئذ إما أن يدعي أحدهما الإعراض, والآخر البناء أو عدم حضور شيء أو يدعي أحدهما البناء, والآخر عدم حضور شيء, وأحكام الأقسام بعضها مشروح في الكتاب, وبعضها متروك لانسياق الذهن إليه.
قوله: "لعدم الرضى بالحكم" لو قال لعدم اختيار الحكم لكان أولى; لأنه المانع عن الملك لا عدم الرضا كالمشتري من المكره فإنه يملك بالقبض لوجود الاختيار, وإن لم يوجد الرضا.(2/394)
وبطل الهزل لإعراضهما وإن اتفقا على بناء العقد على المواضعة صار كخيار الشرط لهما مؤبدا لوجود الرضى بالمباشرة لا بالحكم فيفسد العقد لكن لا يملك بالقبض فيه لعدم الرضى بالحكم.
فإن نقضه أحدهما انتقض، وإن أجازاه في الثلاث جاز إلا إن أجاز أحدهما وعندهما لا يشترط في الثلاث وإن اتفقا على أن لا يحضرهما شيء أو اختلفا في الإعراض، والبناء يصح العقد عند أبي حنيفة رحمه الله عملا بالعقد وهو أولى بالاعتبار من المواضعة التي لم تتصل به لا عندهما على أن المواضعة أسبق، قلنا: الأخير ناسخ.
ـــــــ
بالقبض فيه لعدم الرضى بالحكم" هذا استدراك عن قوله, فيفسد العقد فإن الملك بالقبض يثبت في البيع الفاسد.
"فإن نقضه أحدهما انتقض, وإن أجازاه في الثلاث جاز" أي: إن أجازاه في ثلاثة أيام جاز عند أبي حنيفة رحمه الله أي: ينقلب جائز الارتفاع المفسد, كما في الخيار المؤبد "إلا إن أجاز أحدهما"; لأنه كخيار الشرط للمتعاقدين, فيتوقف على إجازتهما "وعندهما لا يشترط في الثلاث" أي: عندهما لا تنتهي الإجازة بالثلاثة فكلما أجازاه جاز البيع كما في الخيار المؤبد "وإن اتفقا على أن لا يحضرهما شيء" أي: لم يقع في خاطريهما وقت العقد أنهما بنيا على المواضعة أو أعرضا "أو اختلفا في الإعراض, والبناء يصح العقد عند أبي حنيفة رحمه الله عملا بالعقد وهو أولى بالاعتبار من المواضعة التي لم تتصل به" أي: بالعقد "لا عندهما" أي: لا يصح العقد عندهما "فاعتبر العادة" تحقيق المواضعة ما أمكن "على أن المواضعة أسبق, قلنا: الأخير ناسخ" أي: الأخير وهو العقد ناسخ للمواضعة السابقة; لأن أحدهما لم يمض على المواضعة, واعلم أنه بقي بالتقسيم العقلي قسمان لم يذكرا وهما: إذا أعرض أحدهما وقال
................................................................................................
قوله: "فإن نقضه" أي: العقد الذي اتفقا على أنه مبني على المواضعة أحدهما أي: أحد المتعاقدين انتقض; لأن لكل واحد ولاية النقض لكن الصحة تتوقف على اختيارهما جميعا; لأنه بمنزلة شرط الخيار للمتعاقدين فإجازة أحدهما لا تبطل خيار الآخر, وقدر أبو حنيفة رحمه الله تعالى مدة الخيار بثلاثة أيام اعتبارا بالخيار المؤبد حتى يتقرر الفساد بمضي المدة وعندهما يجوز الاختيار ما لم يتحقق النقض, وإنما قال في الثلاث دون الثلاثة اعتبارا بالليالي.
قوله: "عملا بالعقد" يعني: أن الأصل في العقد الشرعي اللزوم, والصحة حتى يقوم المعارض; لأنه إنما شرع للملك, والجد هو الظاهر فيه فاعتبار العقد أولى من اعتبار المواضعة وعندهما لا يصح العقد في الصورتين أعني: صورة الاتفاق على أن لم يحضرهما شيء, والاختلاف في الإعراض, والبناء; لأن العادة جارية بأن يبنيا على المواضعة كي لا يكون الاشتغال بها عينا فإنهما إنما تواضعا(2/395)
المواضعة على البيع
وإما أن يتواضعا على البيع بألفين على أن الثمن ألف فهما يعملان بالمواضعة إلا في صورة إعراضهما وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يعمل بظاهر العقد في الكل والفرق بين البناء هنا، وثمة أن العمل بالمواضعة هنا يجعل قبول أحدهما الألفين شرطا لوقوع البيع بالآخر، فيفسد العقد وقد جدا في أصل العقد فهو أولى بالترجيح من الوصف.
ـــــــ
الآخر: لم يحضرني شيء, أو بنى أحدهما وقال الآخر: لم يحضرني شيء فعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى يجب أن يكون عدم الحضور كالإعراض وعلى أصلهما كالبناء "وإما أن يتواضعا على البيع بألفين على أن الثمن ألف فهما يعملان بالمواضعة إلا في صورة إعراضهما وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يعمل بظاهر العقد في الكل والفرق بين البناء هنا, وثمة أن العمل بالمواضعة هنا يجعل قبول أحدهما الألفين شرطا لوقوع البيع بالآخر, فيفسد العقد وقد جدا في أصل العقد فهو أولى بالترجيح من الوصف". أي: أصل العقد أولى بالترجيح من الوصف فإن اعتبار أصل العقد يوجب الصحة; لأن المتعاقدين جدا في أصل العقد, وإنما الهزل في مقدار الثمن وهو المراد بالوصف فإن اعتبر المواضعة والهزل في الوصف حتى يصح العقد بالألف يلزم فساد العقد كما بينا في المتن
................................................................................................
للبناء عليه صونا للمال عن يد المتغلب, والقول بأن الأصل في العقد الصحة, واللزوم, والمعارض بأن المواضعة سابقة, والسبق من أسباب الترجيح, والجواب أن العقد متأخر, والمتأخر يصلح ناسخا للمتقدم إذا لم يعارضه ما يغيره كما إذا اتفقا على البناء, وهاهنا لم يتحقق المغير; لأن أحدهما يدعي عدم المضي فالعقد باعتبار أن أصله الجد, واللزوم من غير تحقق معارض يكون ناسخا للمواضعة السابقة.
قوله: "فعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يكون عدم الحضور كالإعراض" عملا بالعقد, فيصح في الصورتين, وعلى أصلهما عدم الحضور كالبناء ترجيحا للمواضعة بالعادة, والسبق فلا يصح العقد في شيء من الصورتين, وهذا مأخوذ من صورة اتفاقهما على أن لم يحضرهما شيء فإنه عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة الإعراض وعندهما بمنزلة البناء, وهاهنا بحث, وهو أن انحصار الأقسام في الستة إنما هو على تقدير اعتبار الاتفاق, والاختلاف في نفس الإعراض, والبناء, والذهول أي: عدم الحضور, وأما على تقدير اعتبارهما في ادعاء المتعاقدين على ما يشعر به كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى فالأقسام ثمانية, وسبعون; لأن المتعاقدين إما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا فالاتفاق إما على إعراضهما, وإما على بنائهما, وإما على ذهولهما, وإما على بناء أحدهما, وإعراض الآخر أو ذهوله, وإما على إعراض أحدهما, وذهول الآخر فصور الاتفاق ست, وإن اختلفا فدعوى أحد المتعاقدين يكون إما إعراضهما, وإما بناؤهما, وإما ذهولهما, وإما بناؤه مع إعراض الآخر أو ذهوله, وإما إعراضه مع بناء الآخر أو ذهوله, وإما ذهوله مع بناء الآخر أو إعراضه يصير(2/396)
المواضعة على أن الثمن جنس آخر
وأما أن يتواضعا على أن الثمن جنس آخر فالعمل بالعقد اتفاقا والفرق لهما بين هذا والمواضعة في القدر أن العمل بها مع صحة العقد ممكن ثمة لا هنا، والهزل بأحد الألفين ثمة شرط لا طالب له فلا يفسد.
ـــــــ
"وأما أن يتواضعا على أن الثمن جنس آخر فالعمل بالعقد اتفاقا والفرق لهما بين هذا والمواضعة في القدر أن العمل بها مع صحة العقد ممكن ثمة لا هنا, والهزل بأحد الألفين ثمة
................................................................................................
تسعة, وعلى كل تقدير من التقادير التسعة يكون اختلاف الخصم بأن يدعي إحدى الصور الثمانية الباقية فتصير أقسام الاختلاف اثنين, وسبعين حاصلة من ضرب التسعة في الثمانية, ولا خفاء في أن تمسك أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن الأصل في العقد الصحة, وتمسكهما بأن العادة جارية بتحقيق المواضعة السابقة يدل على أن الكلام فيما إذا اختلفا في دعوى الإعراض, والبناء مثلا, وأما إذا اتفقا على الاختلاف في الإعراض, والبناء بأن يقر كلاهما بإعراض أحدهما, وبناء الآخر فلا قائل بالصحة, واللزوم, وهذا ظاهر.
قوله: "والفرق بين البناء هنا, وثمة" يعني: إذا وقعت المواضعة في قدر الثمن, وبنيا عليها, فأبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يعتبر المواضعة السابقة, ويحكم بلزوم الألفين لا الألف المتواضع عليه, وقد كان يعتبر البناء على المواضعة في نفس العقد, ويحكم بفساد العقد, وثبوت الخيار, فيحتاج إلى الفرق بين البناء هنا أي: في صورة المواضعة في قدر الثمن, والبناء ثمة أي: في صورة المواضعة في نفس العقد, ووجه الفرق أن المواضعة السابقة إنما تعتبر إذا لم يوجد ما يعارضها, ويدافعها, وهاهنا قد وجد ذلك; لأنها لو اعتبرت يلزم فساد العقد لتوقف انعقاده على شرط ليس من مقتضيات العقد, وفيه نفع لأحد المتعاقدين, وهو قبول العقد فيما ليس بداخل في العقد كأحد الألفين في صورة البيع بألفين, والمواضعة على أن يكون الثمن ألفا, ولو قلنا بفساد العقد يلزم ترجيح الوصف على الأصل; لأن المتعاقدين قد جدا في أصل العقد, فيلزم صحته, وإنما هزلا في الثمن الذي هو, وصف لكونه وسيلة لا مقصودا فلو اعتبرناه, وحكمنا بفساد العقد لزم إهدار الأصل لاعتبار الوصف, وهو باطل فلا بد من القول بصحة العقد, ولزوم الألفين اعتبارا للتسمية, والحاصل أن اعتبار المواضعة في الثمن, وتصحيح أصل العقد متنافيان, وقد ثبت الثاني ترجيحا للأصل, فينتفي الأول, وبهذا يخرج الجواب عما يقال: إنهما قصدا بذكر الألف الآخر السمعة من غير أن يحتاج إلى اعتباره في تصحيح العقد فكان ذكره, والسكوت عنه سواء كما في النكاح.
قوله: "والفرق لهما" يعني: إذا وقعت المواضعة في جنس الثمن بأن باع بمائة دينار, وقد تواضعا على أن يكون الثمن ألف درهم فالبيع صحيح, واللازم مائة دينار, وسواء بنيا على المواضعة أو عرضا أو لم يحضرهما شيء أما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقد مر على أصله من عدم اعتبار المواضعة ترجيحا للأصل, وتصحيحا للعقد بما سميا من البدل ضرورة افتقاره إلى تسمية البدل, وأما(2/397)
مالا يحتمل النقض
أما أن لا يحتمل النقض فمنه ما لا مال فيه وهو الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين، والنذر وكله صحيح، والهزل باطل لقوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد النكاح، والطلاق واليمين" ولأن الهازل راض بالسبب لا الحكم وحكم هذه الأسباب لا يحتمل التراخي والرد حتى لا يحتمل خيار الشرط.
ـــــــ
شرط لا طالب له فلا يفسد" وإنما قال هذا جوابا عما ذكر أنه يجعل قبول أحد الألفين شرطا لوقوع البيع بالآخر, وإنما قال إنه لا طالب له لاتفاق المتعاقدين على أن الثمن ألف لا ألفان وإذا لم يكن للشرط طالب لا يفسد كما إذا اشترى حمارا على أن يحمله حملا خفيفا أو نحو ذلك لا يفسد العقد لعدم الطالب لكن الجواب لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الشرط في مسألتنا وقع لأحد المتعاقدين, وهو الطالب لكن لا يطالب هنا للمواضعة وعدم الطلب بواسطة الرضا لا يفيد الصحة كالرضى بالربا ثم عطف على قوله وإما أن يحتمل النقض قوله: "وإما أن لا يحتمل النقض فمنه ما لا مال فيه وهو الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين, والنذر وكله صحيح, والهزل باطل لقوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث جدهن جد, وهزلهن جد النكاح, والطلاق واليمين" ولأن الهازل راض بالسبب لا الحكم وحكم هذه
................................................................................................
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فقد احتجا إلى الفرق بين المواضعة في جنس الثمن, والمواضعة في قدره, ووجهه أن العمل بالمواضعة مع صحة البيع ممكن في الأولى دون الثانية; لأن البيع ممكن في صورة البناء لا يصح بدون تسمية البدل فإذا اعتبرت المواضعة كان البدل ألف درهم, وهو غير مذكور في العقد, والمذكور في العقد يكون مائة دينار, وهي غير البدل بخلاف المواضعة في القدر فإنه يمكن تصحيح البيع مع اعتبارها بأن ينعقد بالألف الموجود في الألفين.
قوله: "وإما أن يحتمل النقض" عطف على قوله إما أن يحتمل النقض, وفي الكلام خلل, وذلك; لأنه قال أما الإنشاءات فإما أن يحتمل النقض أو لا فذكر المعطوف, والمعطوف عليه جميعا, ثم قال فما يحتمله كالبيع فكان الصواب أن يقول ها هنا, وما لا يحتمله أي: النقض بمعنى أنه لا يجري فيه الفسخ, والإقالة فثلاثة أقسام; لأنه إما أن يكون فيه مال بأن يثبت بدون شرط, وذكر أو لا, والأول إما أن يكون المال تبعا أو مقصودا.
قوله: "وكله صحيح" استدل على صحة الكل, وبطلان الهزل بالحديث, والمعقول أما الحديث, فيحتمل أن يكون لإثبات صحة الثلاثة المذكورة فقط, ويحتمل أن يكون لإثبات صحتها عبارة, وصحة غيرها دلالة, وأما المعقول فيفيد صحة الكل, وحاصله أن الهزل لا يمنع انعقاد السبب, وعند انعقاد السبب يوجد حكمه ضرورة عدم التراخي, والرد في حكم هذه الأسباب بخلاف البيع, واعترض بالطلاق المضاف مثل أنت طالق غدا, وأجيب بأن المراد بالأسباب العلل, والطلاق المضاف ليس بعلة بل سبب مفض, وإلا لاستند إلى وقت الإيجاب كالبيع بشرط الخيار.(2/398)
القسم الذي فيه المال تبع
ومنه ما يكون المال فيه تبعا كالنكاح فإن كان الهزل في الأصل فالعقد لازم أو في قدر البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمهر ألفان أو على البناء، فألف، والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا، وبين البيع أن البيع يفسد بالشرط لكن النكاح لا يفسد بالشرط وعلى أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا ففي رواية محمد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى المهر ألف بخلاف البيع؛ لأن الثمن مقصود بالإيجاب فترجح به وفي رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى ألفان قياسا على البيع وفي جنس البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمسمى، وعلى البناء فمهر المثل إجماعا وعلى أنه لم يحضرهما أو اختلفا ففي رواية محمد رحمه الله تعالى مهر المثل وفي رواية أبي يوسف رحمه الله المسمى، وعندهما مهر المثل.
ـــــــ
الأسباب لا يحتمل التراخي والرد حتى لا يحتمل خيار الشرط, ومنه ما يكون المال فيه تبعا كالنكاح فإن كان الهزل في الأصل فالعقد لازم أو في قدر البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمهر ألفان أو على البناء, فألف, والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا, وبين البيع أن البيع يفسد بالشرط" لكن النكاح لا يفسد بالشرط "وعلى أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا ففي رواية محمد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى المهر ألف بخلاف البيع; لأن الثمن مقصود بالإيجاب فترجح به" أي: بالثمن, فيترجح الثمن بالإيجاب
................................................................................................
قوله: "وفي قدر البدل" يعني: إذا وقعت المواضعة في قدر المهر بأن يذكر في العقد ألفان, ويكون المهر ألفا فإن اتفق المتعاقدان على الإعراض عن المواضعة فاللازم هو المسمى في العقد أعني: الألفين, وإن اتفقا على بناء النكاح على المواضعة فاللازم ألف أما عندهما فظاهر كما في البيع, وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى, فيحتاج إلى الفرق بين النكاح, والبيع حيث يعتبر في النكاح المواضعة دون التسمية, وفي البيع بالعكس, ووجهه أن البدل في البيع, وإن كان وصفا, وتبعا بالنسبة إلى البيع إلا أنه مقصود بإيجاب لكونه أحد ركني البيع, ولهذا يفسد البيع بفساده أو جهالته, وبدون ذكره, فيترجح البيع بالثمن بمعنى أنه يجب تصحيح البيع لتصحيح الثمن بخلاف البدل في النكاح فإنه إنما شرع إظهارا لخطر المحل لا مقصودا, وإنما المقصود ثبوت الحل في الجانبين للتوالد, والتناسل.
قوله: "وعلى البناء" يعني: أن وقت المواضعة في جنس البدل بأن يذكرا في العقد مائة دينار على أن يكون المهر ألف درهم, وقد اتفقا على البناء على المواضعة فاللازم مهر المثل إجماعا; لأنه بمنزلة التزوج بدون المهر إذ لا سبيل إلى ثبوت المسمى; لأن المال لا يثبت بالهزل, ولا إلى ثبوت المتواضع عليه; لأنه لم يذكر في العقد بخلاف المواضعة في القدر فإن المتواضع عليه قد يسمى في العقد مع الزيادة, وبخلاف البيع فإن فيه ضرورة إلى اعتبار التسمية لأنه لا يصح بدون تسمية الثمن, والنكاح يصح بدون تسمية المهر, وإن اتفقا على أن لم يحضرهما شيء أو اختلفا في الإعراض, والبناء فاللازم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في رواية محمد رحمه الله تعالى هو مهر المثل; لأن الأصل بطلان المسمى عملا بالهزل لئلا يصير المهر مقصودا بالصحة بمنزلة الثمن في البيع, ولما بطل المسمى لزم مهر المثل, وفي رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى هو المسمى قياسا على البيع(2/399)
القسم الذي فيه المال مقصود
ومنه ما يكون المال فيه مقصودا كالخلع والعتق على مال، والصلح عن دم عمد سواء هزلا في الأصل أو القدر أو الجنس ففي الإعراض يلزم الطلاق والمال
ـــــــ
"وفي رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى ألفان قياسا على البيع وفي جنس البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمسمى, وعلى البناء فمهر المثل إجماعا وعلى أنه لم يحضرهما أو اختلفا ففي رواية محمد رحمه الله تعالى مهر المثل"; لأن الأصل في رواية محمد رحمه الله تعالى بطلان المسمى عند الاختلاف, وعدم الحضور في المواضعة في قدر المهر على ما ذكر, وكذا في المواضعة في جنس في المهر لكن المواضعة في قدر المهر العمل بالمواضعة ممكن; لأن ما تواضعا عليه, وهو الألف داخل في المسمى وهو الألفان أما في المواضعة في الجنس فهذا غير ممكن فلما بطل المسمى وجب مهر المثل "وفي رواية أبي يوسف رحمه الله المسمى وعندهما مهر المثل ومنه ما يكون المال فيه مقصودا كالخلع والعتق على مال, والصلح عن دم عمد سواء هزلا في الأصل أو القدر أو الجنس ففي الإعراض يلزم الطلاق والمال وكذا في الاختلاف وعدم الحضور أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلترجيح الإيجاب" أي: ترجيح العقد على المواضعة "وأما عندهما فلعدم تأثير الخيار" فإنه إذا شرط في الخلع الخيار لها فعندهما الطلاق واقع, والمال واجب والخيار باطل, وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق, ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فكذا في مسألتنا على كلا المذهبين.
................................................................................................
وعندهما اللازم مهر المثل بناء على أصلهما من ترجيح المواضعة بالسبق والعادة فلا يثبت المسمى لرجحان المواضعة, وعدم ثبوت المال بالهزل, ولا المتواضع عليه لعدم التسمية, فيلزم مهر المثل.
قوله: "ومنه" أي: مما لا يحتمل النقض ما يكون المال فيه مقصودا حتى لا يثبت بدون الذكر كما إذا طلق امرأته على مال بطريق الهزل أو طلقها على ألفين مع المواضعة على أن المال ألف أو طلقها على مائة دينار مع المواضعة على أن المال ألف درهم, وكذا في العتق على مال, والصلح عن دم عمد ففي صورة الإعتاق على الإعراض أو على أن لم يحضرهما شيء, والاختلاف في الإعراض, والبناء يقع الطلاق, ويجب المال أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلترجيح العقد على المواضعة, وأما عندهما فلأن الهزل بمنزلة خيار الشرط, والخيار باطل عندهما; لأن قبول المرأة شرط لليمين فلا يحتمل الخيار كسائر الشروط, وذلك كما إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثا على(2/400)
وكذا في الاختلاف وعدم الحضور أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلترجيح الإيجاب وأما عندهما فلعدم تأثير الخيار.
وكذا في البناء عندهما على أن المال يلزم تبعا وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف على مشيئتها وأما تسليم الشفعة فقبل طلب المواثبة يكون كالسكوت؛ لأنه لما اشتغل بالهزل عن طلب الشفعة فقد سكت عن الطلب فتطلب الشفعة، وبعده التسليم باطل؛ لأنه من جنس ما يبطل بالخيار وكذا الإبراء.
ـــــــ
"وكذا في البناء عندهما على أن المال يلزم تبعا" اعلم أن المال في الخلع, والعتق على مال والصلح عن دم عمد يجب عندهما بطريق التبعية والمقصود هو الطلاق, والعتق وسقوط القصاص والهزل لا يؤثر في هذه الأمور, فيثبت ثم يجب المال ضمنا لا قصدا فلا يؤثر الهزل في وجوب المال "وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف على مشيئتها وأما تسليم الشفعة فقبل طلب المواثبة يكون كالسكوت; لأنه لما اشتغل بالهزل عن طلب الشفعة فقد سكت عن الطلب فتطلب الشفعة, وبعده التسليم باطل; لأنه من جنس ما يبطل بالخيار" حتى لو قال: سلمت الشفعة على أني بالخيار ثلاثة أيام يبطل التسليم ويكون طلب الشفعة باقيا "وكذا الإبراء" أي: يبطل إبراء الغريم هازلا كما يبطل الإبراء بشرط الخيار "وأما الإخبارات فالهزل
................................................................................................
ألف درهم على أنك بالخيار ثلاثة أيام فقالت: قبلت فعندهما يقع الطلاق, ويلزم المال, وعنده إن ردت الطلاق في الثلاثة أيام بطل الطلاق, وإن أجازت أو لم ترد حتى مضت المدة فالطلاق واقع, والألف لازم, وهذا معنى قوله, وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق, ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فمسألة الهزل في الخلع على كلا المذهبين بمنزلة مسألة الخلع بشرط الخيار على مذهبهما, وهذا معنى قوله فكذا في مسألتنا على كلا المذهبين, وأما في صورة الاتفاق على البناء فعندهما يقع الطلاق, ويلزم المال; لأنه لا أثر للهزل في ذلك فإن قلت الهزل, وإن لم يؤثر في التصرف كالطلاق, ونحوه إلا أنه مؤثر في المال حتى لم يثبت بالهزل أجيب بأن المال هاهنا يجب بطريق التبعية في ضمن الطلاق; لأنه بمنزلة الشرط فيه, والشروط اتباع, وكم من شيء يثبت ضمنا, ولا يثبت قصدا, والتبعية بهذا المعنى لا تنافي كونه مقصودا بالنظر إلى العاقد بمعنى أنه لا يثبت إلا بالذكر, فإن قلت المال في النكاح أيضا تبع, وقد أثر الهزل فيه. قلت تبعيته في النكاح ليست في حق الثبوت; لأنه يثبت, وإن لم يذكر بل بمعنى أن المقصود هو الحل, والتناسل لا المال, وهذا لا ينافي الأصالة بمعنى الثبوت بدون الذكر, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف الطلاق على مشيئة المرأة لإمكان العمل بالمواضعة بناء على أن الخلع لا يفسد بالشروط الفاسدة بخلاف البيع, والعمل بالمواضعة أن يتعلق الطلاق بجميع البدل, ولا يقع في الحال بل يتوقف على اختيارها.
قوله: "وأما تسليم الشفعة" أي: طلب الشفعة لا يخلو إما أن يكون طلب مواثبة, بأن يطلبها كما علمها حتى تبطل بالتأخير أو طلب تقرير بأن ينتهض بعد الطلب, ويشهد, ويقول: إني طلبت الشفعة, وأطلبها الآن أو طلب خصومة بأن يقوم بالأخذ, والتملك فتسليم الشفعة بطريق الهزل قبل المواثبة يبطل الشفعة بمنزلة السكوت, وبعده يبطل التسليم فتكون الشفعة باقية; لأن التسليم من جنس ما(2/401)
حكم الهزل في الأخبار و الاعتقادات
...
حكم الهزل في الأخبار والاعتقادات
وأما الإخبارات فالهزل يبطلها سواء كان فيما يحتمل الفسخ أو لا؛ لأنه يعتمد صحة المخبر به، ألا يرى بالطلاق والعتاق مكرها باطل فكذا هازلا، وأما الاعتقادات فالهزل بالردة كفر؛ لأنه استخفاف، فيكون مرتدا بعين الهزل لا بما هزل به وأما الإسلام هازلا، فيصح؛ لأنه إنشاء لا يحتمل حكمه الرد، والتراخي.
ـــــــ
يبطلها سواء كان فيما يحتمل الفسخ أو لا; لأنه يعتمد صحة المخبر به, ألا يرى بالطلاق والعتاق مكرها باطل فكذا هازلا, وأما الاعتقادات فالهزل بالردة كفر; لأنه استخفاف, فيكون مرتدا بعين الهزل لا بما هزل به" أي: ليس كفره بسبب ما هزل به وهو اعتقاد معنى كلمة الكفر التي تكلم بها هازلا, فإنه غير معتقد معناها بل كفره بعين الهزل فإنه استخفاف بالدين, وهو كفر نعوذ بالله تعالى منه قال الله تعالى: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} "وأما الإسلام هازلا, فيصح; لأنه إنشاء لا يحتمل حكمه الرد, والتراخي" ترجيحا لجانب الإيمان كما في الإكراه.
"ومنها السفه" وهو خفة تعتري الإنسان فتبعثه على العمل بخلاف موجب العقل, وقال الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى هو العمل بخلاف موجب الشرع من وجه, واتباع الهوى, وخلاف دلالة العقل, وإنما قال من وجه; لأن التبذير أصله مشروع وهو البر, والإحسان إلا أن الإسراف حرام والفرق ظاهر بين السفه والعته فإن المعتوه يشابه المجنون في بعض أفعاله
................................................................................................
يبطل بالخيار لأنه في معنى التجارة لكونه استبقاء أحد العوضين على الملك فيتوقف على الرضا بالحكم وكل من الخيار والهزل يمنع الرضا بالحكم, فيبطل به التسليم.
قوله: "وكذا الإبراء" أي: إبراء الغريم أو الكفيل يبطل بالهزل; لأن فيه معنى التملك, ويرتد بالرد فيؤثر فيه الهزل كخيار الشرط.
قوله: "وأما الإخبارات فيبطلها الهزل" سواء كانت إخبارا عما يحتمل الفسخ كالبيع, والنكاح أو لا يحتمله كالطلاق, والعتاق, وسواء كانت إخبارا شرعا ولغة كما إذا تواضعا على أن يقرا بأن بينهما نكاحا أو بأنهما تبايعا في هذا الشيء بكذا أو لغة فقط كما إذا أقر بأن لزيد عليه كذا, وذلك; لأن الإخبار يعتمد صحة المخبر به أي: تحقق الحكم الذي صار الخبر عبارة عنه, وإعلاما بثبوته أو نفيه, والهزل ينافي ذلك, ويدل على عدمه فكما أنه يبطل الإقرار بالطلاق, والعتاق مكرها كذلك يبطل الإقرار بهما هازلا; لأن الهزل دليل الكذب كالإكراه حتى لو أجاز ذلك لم يجز; لأن الإجازة إنما تلحق شيئا منعقدا يحتمل الصحة, والبطلان بالإجازة لا يصير الكذب صدقا, وهذا بخلاف إنشاء الطلاق, والعتاق, ونحوهما مما لا يحتمل الفسخ فإنه لا أثر فيه للهزل على ما سبق.
قوله: "فيكون" أي: الهازل بالردة مرتدا بنفس الهزل لا بما هزل به لما فيه من الاستخفاف(2/402)
حكم السفه
ومنها السفه وهو لا ينافي الأهلية، ولا شيئا من الأحكام وأجمعوا على منع ماله عنه في أول البلوغ لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ثم علق الإيتاء بإيناس رشد منكر لا ينفك سن الجدية عن مثله إلا نادرا، فيسقط حينئذ المنع واختلفوا في السفيه فعندهما يحجر لأن النظر واجب حقا له لدينه فإن العفو عن صاحب الكبيرة حسن، وإن أصر عليها وقياسا على منع المال وأيضا صحة العبارة لأجل النفع فإذا صارت ضررا يجب دفعها، وأيضا حقا للمسلمين.
ـــــــ
وأقواله بخلاف السفيه فإنه لا يشابه المجنون لكن تعتريه خفة إما فرحا, وإما غضبا فيتابع مقتضاها في الأمور من غير نظر وروية في عواقبها ليقف على أن عواقبها محمودة أو وخيمة أي: مذمومة "وهو لا ينافي الأهلية, ولا شيئا من الأحكام وأجمعوا على منع ماله عنه في أول البلوغ لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ثم علق الإيتاء بإيناس رشد منكر لا ينفك سن الجدية عن مثله إلا نادرا, فيسقط حينئذ المنع" وهي خمس, وعشرون سنة; لأن أقل مدة البلوغ اثنتا عشرة سنة وأقل مدة الحمل نصف سنة, فيكون أقل سن يمكن أن يصير المرء فيه جدا خمسا وعشرين سنة.
"واختلفوا في السفيه فعندهما يحجر": الحجر هو منع نفاذ التصرفات القولية "لأن النظر واجب حقا له لدينه فإن العفو عن صاحب الكبيرة حسن, وإن أصر عليها" كالقتل عمدا
................................................................................................
بالدين, وهو من أمارات تبدل الاعتقاد بدليل قوله تعالى حكاية {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الآية, وفي هذا جواب عما يقال إن الارتداد إنما يكون بتبدل الاعتقاد, والهزل ينافيه لعدم الرضا بالحكم.
قوله: "ترجيحا لجانب الإيمان" يعني: أن الأصل في الإنسان هو التصديق, والاعتقاد.
قوله: "ومنها" أي: من العوارض المكتسبة السفه فإن السفيه باختياره يعمل على خلاف موجب العقل مع بقاء العقل فلا يكون سماويا, وعلى ظاهر تفسير فخر الإسلام رحمه الله تعالى يكون كل فاسق سفيها; لأن موجب العقل أن لا يخالف الشرع للأدلة القائمة على وجوب اتباعه, وفسره المصنف رحمه الله تعالى بالخفة الباعثة على العمل بخلاف موجب العقل تنبيها على المناسبة بين المعنى الشرعي, واللغوي فإن السفه في اللغة هو الخفة, والحركة, ومنه زمام سفيه, وتخصيصا له بما هو مصطلح الفقهاء من السفه الذي يبتنى عليه منع المال, ووجوب الحجر, ونحو ذلك.
قوله: "لأن التبذير أصله مشروع" التبذير هو تفريق المال على وجه الإسراف أي: مجاوزة الحد, والمراد بأصل التبذير نفس تفريق المال.
قوله: "وأجمعوا على منع ماله" يعني: إذا بلغ الصبي سفيها يمنع عنه ماله لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي: لا تؤتوا المبذرين أموالهم الذين(2/403)
منشأ الخلاف و دليل الإمام
...
منشأ الخلاف ودليل الإمام
وهذا بناء على أن الإنسان يمنع عن التصرف في ملكه بما يضر جاره عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحجر؛ لأن السفه لما كان مكابرة وتركا للواجب عن علم لم يكن سببا للنظر وما ذكر من النظر حقا له فذلك جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة.
وإنما يحسن إذا لم يتضمن ضررا فوقه وهو إهدار الأهلية والعبارة، والأهلية
ـــــــ
فإن العفو عن القصاص فيه حسن فغاية فعل السفيه ارتكاب الكبيرة ومرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا يستحق النظر إليه "وقياسا" عطف على قوله حقا له "على منع المال وأيضا صحة العبارة لأجل النفع فإذا صارت ضررا يجب دفعها, وأيضا حقا للمسلمين" فإن السفهاء إذا لم يحجروا أسرفوا فتركب عليهم الديون فتضيع أموال المسلمين في ذمتهم: مثل أن يشتري جارية بألف دينار ولا فلس له فيعتقها في الحال كما فعله واحد من ظرفاء طلبة العلم في
................................................................................................
ينفقونها فيما لا ينبغي, وإضافة الأموال إلى الأولياء على معنى أنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}; ولأنهم المتصرفون فيها القوامون عليها, ثم علق إيتاء الأموال إياهم بإيناس رشد, وصلاح منهم على وجه التنكير المفيد للتقليل حيث قال الله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} أي: إن عرفتم, ورأيتم فيهم صلاحا في العقل, وحفظا للمال {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}, فأقام أبو حنيفة رحمه الله تعالى السبب الظاهر للرشد, وهو أن يبلغ سن الجدودة, فإنه لا ينفك عن الرشد إلا نادرا مقام الرشد على ما هو المتعارف في الشرع من تعلق الأحكام بالغالب فقال يدفع إليه المال بعد خمس, وعشرين سنة أونس منه الرشد أو لم يؤنس, وهما تمسكا بظاهر الآية فقالا لا يدفع إليه المال ما لم يؤنس منه الرشد, ثم بعد الإجماع على منع مال من بلغ سفيها اختلفوا في حجر من صار سفيها بعد البلوغ فجوزه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تمسكا بوجوه: الأول, هذا الحجر بطريق النظر دون العقوبة والزجر والسفيه وإن لم يستحق النظر له من جهة أنه فاسق لكن يستحق النظر من جهة دينه, ومن جهة أنه مسلم, ولهذا جاز عفو الله تعالى في الآخرة عن صاحب الكبيرة, وإن لم يتب, وحسن عفو الولي, والمجني عليه في الدنيا عن القصاص, والجنايات, ولا شك أن المسلم حال السفه يفتقر إلى النظر له فيحجر. الثاني, القياس على منع المال فإنه إنما منع عنه ليبقى ملكه, ولا يزول بالإتلاف فلا بد من منع نفاذ التصرفات, وإلا لأبطل ملكه بإتلافه بالتصرفات, ولم يكن المولى في الحفظ إلا الكلفة, والمؤنة.
الثالث: أنه إنما صحح عبارات العاقل, وجوز تصرفاته ليكون نفعا له بتحصيل المطالب فإذا صار ذلك ضررا عليه كان نفعه في الحجر, فيجب. الرابع أن في الحجر دفع الضرر عن أهل الإسلام فإن السفيه بإتلافه, وإسرافه يصير مطية لديون الناس, ومظنة لوجوب النفقة عليه من بيت المال, فيصير على المسلمين وبالا, وعلى بيت مالهم عيالا كما حكاه المصنف رحمه الله تعالى فإنه, وإن كان حذاقة, واحتيالا في الوصول إلى المقصود لكنه سفه من جهة أن من لا يملك فلسا قد أعتق جارية بألف دينار.(2/404)
نعمة أصلية، واليد زائدة، فيبطل قياس الحجر على منع المال ثم إذا كان الحجر بطريق النظر يلحق في كل حكم إلى من كان في إلحاقه إليه نظر من الصبي والمريض، والمكره.
ـــــــ
بخارى, وقصته أنه دخل ذات يوم في سوق النخاسين فعشق جارية بلغت في الحسن غايته, فعجز عن مكابدة شدائد هجرها, وكان في الفقر والمتربة بحيث لم يملك قوت يومه فضلا عن أن يملك مالا يجعله ذريعة إلى مواصلتها فاستعار من بعض خلانه ثيابا نفيسة, وبغلة لا يركبها إلا أعاظم الملوك فلبس لباس التلبيس وركب البغلة, وشركاء درسه يمشون في ركابه مطرقين حتى دخل السوق فظن التجار أنه حاكم بخارى الملقب بصدر جهان فجلس على نمرقة, ودعا صاحب الجارية, وساومها فاشتراه بألف دينار, وأعتقها وتزوجها في المجلس بحضرة العدول فرجع إلى منزله ممتلئا بهجة وسرورا ورد العواري إلى أهلها فلما جاء البائع لتقاضي الثمن لقي المشتري وعرف فنونه, فأخذ ينتف عثنونه "وهذا بناء على أن الإنسان يمنع عن التصرف في ملكه بما يضر جاره عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحجر; لأن السفه لما كان مكابرة وتركا للواجب عن علم" أي: صادرا عن علم, ومعرفة "لم يكن سببا للنظر وما ذكر من النظر حقا له فذلك جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة وإنما يحسن" أي: حجر السفيه بطريق النظر "إذا لم يتضمن ضررا فوقه وهو إهدار الأهلية والعبارة, والأهلية نعمة أهلية, واليد زائدة, فيبطل قياس الحجر على منع
................................................................................................
قوله: "دخل في سوق النخاسين" لفظة في زائدة, والمكابدة المقاساة, والتلبيس التخليط, وإخفاء الأمر على الغير, والتطريق أن يمشي أمام الرجل, ويقال: طرقوا, وذلك عادة الكبار, والنمرقة وسادة صغيرة, والعثنون شعيرات طوال تحت حنك البعير يعبر به عن اللحية, وفي قوله عرف فنونه إيهام أي: فنون الحيل, والتزوير أو العلوم التي من جملتها الفقه الذي يعرف به هذا الحكم, وكذا في قوله: ينتف عثنونه يحتمل عود الضمير إلى البائع, والمشتري, ولما كان هاهنا مظنة الاعتراض بأنه لا وجه لحجر الإنسان عن التصرف في ملكه بناء على ضرر غيره أجاب بأنه جائز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى كما في استحداث الطاحون للأجرة, ونصب المنوال لاستخراج الإبريسم من الفليق, وأمثال ذلك مما يكون للجيران ضرر بين فلهم المنع, والأظهر أنه ليس من هذا القبيل بل من قبيل الحجر لدفع ضرر العامة فإنه مشروع بالإجماع كحجر المفتي الماجن, والطبيب الجاهل, والمكاري المفلس, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز حجر السفيه; لأنه حر مخاطب إذ الخطاب بالأهلية, وهي بالتمييز, والسفه لا يوجب نقصانا فيه بل عدم عمل به مكابرة, وتركا للواجب, ولهذا يخاطب بحقوق الشرع, ويحبس في ديون العباد, وتصح عباراته في الطلاق, والعتاق, ويجب عليه العقوبات التي تندرئ بالشبهات مع أن ضرر النفس أشد من ضرر المال فتصرفه يكون صادرا عن أهله في محله فلا يمنع.
وأما ما تمسكا به فالجواب عن الأول أن عدم فعله بموجب العقل لما كان مكابرة لم يستحق النظر له كمن قصر في حقوق الله تعالى مجانة أو سفها لا يستحق وضع الخطاب عنه نظرا له ولو(2/405)
أسباب الحجر
وهذا الحجر عندهما أنواع إما بسبب السفه، فينحجر بنفسه وإما بسبب الدين بأن يخاف أن يلجئ فيحجر إلا مع الغرماء، وإن لم يكن سفيها وإما بأن يمتنع عن بيع ماله لقضاء الديون، فيبيع القاضي فهذا ضرب حجر.
ـــــــ
المال ثم إذا كان الحجر بطريق النظر" أي: عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى "يلحق في كل حكم إلى من كان في إلحاقه إليه نظر من الصبي والمريض, والمكره" أي: المحجور بسبب السفه عندهما إن ولدت جاريته فادعاه يثبت نسبه منه, وكان الولد حرا لا سبيل عليه, والجارية أم ولد له, وإن مات كانت حرة; لأن توفير النظر كان في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد, فإنه يحتاج إلى ذلك لإبقاء نسله وصيانة مائه ويلحق في هذا الحكم بالمريض فإن المريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته يكون في ذلك كالصحيح حتى يعتق من جميع ماله بموته, ولا تسعى هي, ولا ولدها; لأن حاجته متقدمة على حق غرمائه ولو اشترى هذا
................................................................................................
سلم فالنظر له لدينه جائز لا واجب كالعفو عن القصاص فلا يدل على وجوب الحجر فإن قيل: في ترك الحجر ضرر بالمسلم من غير نفع لأحد, فيجب الحجر بخلاف العفو عن القصاص فإن في القصاص حياة أجيب بأن في حجر السفيه أيضا ضررا هو إبطال أهليته, وإلحاقه بالبهائم بخلاف منع المال بالنص, وعن الثاني بأنا لا نسلم كون الحكم في منع المال معقول المعنى, ولو سلم فلا يجوز أن يكون الحجر عن المال عقوبة, وزجرا على ما ذهب إليه بعض المشايخ فإن سببه, وهو مكابرة العقل, ومخالفة الشرع جناية, والحكم, وهو منع المال صالح للعقوبة, وجاز تفويضه إلى الأولياء دون الأئمة لكونه عقوبة تعزير, وتأديب, ولا مدخل للقياس في العقوبات, ولو سلم أن الحكم معقول, وأن الحجر نظر لا عقوبة فلا نسلم صحة القياس فإن منع اليد عن المال إبطال نعمة زائدة, وإلحاق للسفيه بالفقراء بخلاف الحجر فإنه إبطال نعمة أصلية هي العبارة, والأهلية إذ بها يمتاز الإنسان عن سائر أنواع الحيوان ففيه ضرر عظيم, وتفويت لنعمة عظيمة, وإلحاق له بالبهائم, وفي ترك الجواب عن الوجهين الأخيرين ميل ما إلى اختيار ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
قوله: "ثم إذا كان الحجر" يعني: حجر السفيه عندهما لما كان بطريق النظر له, وهذا يختلف بحسب الأحكام لزم أن يلحق في كل صورة بمن يكون الإلحاق به أنظر له, وأليق بحاله ففي الاستيلاد يجعل كالمريض حتى يثبت نسب الولد منه, وفي ملك ابنه بالشراء, والقبض يجعل كالمكره حتى يعتق الابن, وفي لزوم الثمن أو القيمة في مال المحجور في هذه الصورة يجعل كالصبي حتى لا يلزمه ذلك فإن قيل: ففي هذه الصورة يجب أن تكون سعاية العبد للمحجور نظرا له أجيب بأن الغنم بالغرم كما أن الغرم بالغنم فإذا لم يجب على المحجور شيء لم يسلم له شيء, وكانت سعاية الغلام في قيمته للبائع.(2/406)
المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا, ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره, فيثبت له الملك بالقبض فإذا ملكه بالقبض فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي وإذا لم يجب على هذا المحجور عليه شيء لا يسلم له أيضا شيء من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع.
"وهذا الحجر عندهما" أي: الحجر المختلف فيه الذي هو بطريق النظر "أنواع إما بسبب السفه, فينحجر بنفسه" أي: بنفس السفه بلا احتياج إلى أن يحجر القاضي له "عند محمد ويحجر القاضي عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وإما بسبب الدين بأن يخاف أن يلجئ أمواله": التلجئة هي المواضعة المذكورة مفصلة ببيع أو إقرار "فيحجر" على أن لا يصح تصرفه "إلا مع الغرماء, وإن لم يكن سفيها" متصل بما قبله وهو قوله فيحجر "وإما بأن يمتنع عن بيع ماله لقضاء الديون, فيبيع القاضي فهذا ضرب حجر, ومنها السفر وهو خروج مديد لا ينافي الأهلية, ولا شيء من الأحكام لكنه من أسباب التخفيف بنفسه; لأنه من أسباب المشقة بخلاف المرض; لأن بعضه يضره الصوم, وبعضه لا بل ينفعه واختلفوا في الصلاة فعند
................................................................................................
قوله: "وهذا الحجر" يعني: الحجر المختلف فيه الذي يكون للمكلف عن التصرفات في ماله نظرا له قد يكون بسبب في ذاته كالسفه, وقد يكون بسبب خارج كالدين, وذلك بأن يخاف زوال قابلية المال للصرف إلى الديون أو يمنع المديون عن التصرف فالأول أي: الحجر بسبب السفه يحصل عند محمد بنفس السفه, ولا يتوقف على قضاء القاضي; لأنه بمنزلة الصبا, والجنون, والعته في ثبوت الحجر به نظرا للسفيه, وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يتوقف على أن يحجره القاضي; لأنه متردد بين النظر بإبقاء الملك, والضرر بإهدار عبارته فلا بد في ترجيح أحد الجانبين من القضاء, والثاني أن حجر المديون خوفا من تلجئة يتوقف على قضاء القاضي اتفاقا بينهما; لأنه لأجل النظر للغرماء, فيتوقف على طلبهم, ويتم بالقضاء, والثالث, وهو حجر المديون لامتناعه عن صرف المال إلى الدين يكون بأن يبيع القاضي أمواله عروضا كانت أو عقارا لما روي أن معاذا رضي الله تعالى عنه ركبته الديون فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله, وقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص, ولأن بيع ماله لقضاء دينه مستحق عليه, وهو مما يجري فيه النيابة, فينوب القاضي منابه كما إذا أسلم عبد الذمي, وأبى الذمي أن يبيعه فإن القاضي يبيعه, ولما كان هذا الحجر في أمر خاص قال فهذا ضرب حجر.
قوله: "التلجئة هي المواضعة المذكورة" أي: في أصل التصرف أو في قدر البدل أو جنسه على ما سبق في باب الهزل إلا أنها لا تكون إلا سابقة, والهزل قد يكون مقارنا فبهذا الاعتبار هو أخص قال في المغرب التلجئة هي أن يلجئك إلى أن تأتي أمرا باطنا خلاف ظاهره, وفي المبسوط أن معنى ألجئ إليك داري أجعلك ظهرا لأتمكن بجاهك من صيانة ملكي يقال: التجأ فلان إلى فلان, وألجأ ظهره إلى كذا, وقيل معناه: أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع منك, ولست بقاصد حقيقة.(2/407)
من العوارض المكتسبة السفر
ومنها السفر وهو خروج مديد لا ينافي الأهلية، ولا شيء من الأحكام لكنه من أسباب التخفيف بنفسه؛ لأنه من أسباب المشقة بخلاف المرض؛ لأن بعضه يضره الصوم، وبعضه لا بل ينفعه واختلفوا في الصلاة فعند الشافعي رحمه الله تعالى القصر رخصة وعندنا إسقاط لقول عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر ولأن حد النافلة يصدق على الركعتين الساقطتين، ولتسميته بالصدقة، ولعدم إفادة التخيير على ما مر وإنما يثبت هذا الحكم بالسفر إذا اتصل بسبب الوجوب.
ـــــــ
الشافعي رحمه الله تعالى القصر رخصة وعندنا إسقاط لقول عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر, وزيدت في الحضر ولأن حد النافلة يصدق على الركعتين الساقطتين, ولتسميته بالصدقة, ولعدم إفادة التخيير على ما مر" أي: في فصل العزيمة والرخصة "وإنما يثبت هذا الحكم" أي: القصر "بالسفر إذا اتصل بسبب الوجوب" أي: اتصل السفر بسبب الوجوب, وهو الوقت, فيثبت القصر في الأداء أما إذا لم يتصل بسبب الوجوب بل اتصل بحال القضاء لا يجوز القصر.
"ولما كان السفر بالاختيار قيل: إذا شرع المسافر في صوم رمضان لا يحل له الفطر بخلاف المريض لكن إذا أفطر يصير السفر شبهة في الكفارة فإذا سافر الصائم لا يفطر بخلاف ما إذا مرض لكن إن أفطر لا كفارة عليه" أي: الصائم المقيم إذا سافر, وأفطر لا يجب عليه الكفارة "وإذا أفطر ثم سافر لم تسقط" أي: الكفارة "بخلاف ما إذا مرض", والفرق بينهما
................................................................................................
قوله: "على أن لا يصح تصرفه إلا مع الغرماء" يعني: في المال الذي يكون في يده وقت الحجر, وأما فيما يكتسب بعده, فينفذ تصرفه مع كل أحد.
قوله: "ومنها السفر, وهو خروج مديد" فإن قلت: الخروج مما لا يمتد قلت المراد أنه خروج عن عمرانات الوطن على قصد مسير يمتد ثلاثة أيام, ولياليها فما فوقها بسير الإبل, ومشي الأقدام.
قوله: "واختلفوا في الصلاة" يعني في التخفيف الحاصل بالسفر في الصلاة فعند الشافعي رحمه الله تعالى هو رخصة حتى يكون الإكمال مشروعا, وعندنا أثره في إسقاط الشطر حتى يكون ظهر المسافر, وفجره سواء, واستدل على ذلك بأربعة أوجه: الأول الأثر كما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها, وقال مقاتل كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بمكة ركعتين بالغداة, وركعتين بالعشاء فلما عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس فصارت الركعتين للمسافر, وللمقيم أربع إلا أن قول الصحابي ليس بحجة عند الشافعي رحمه الله تعالى الثاني أن حد النافلة هو ما يمدح فاعله, ولا يذم تاركه شرعا أو ما هو في هذا المعنى يصادق على الركعتين الأخيرتين من ظهر المسافر مثلا, وللخصم أن يقول إن الركعتين إنما يكونان فرضا إذا نوى الإتمام, وحينئذ لا نسلم أنه لا يذم(2/408)
أحكام السفر
ولما كان السفر بالاختيار قيل: إذا شرع المسافر في صوم رمضان لا يحل له الفطر بخلاف المريض لكن إذا أفطر يصير السفر شبهة في الكفارة فإذا سافر الصائم لا يفطر بخلاف ما إذا مرض لكن إن أفطر لا كفارة عليه وإذا أفطر ثم سافر لم تسقط بخلاف ما إذا مرض وأحكام السفر تثبت بالخروج بالسنة المشهورة، وإن لم
ـــــــ
أن الصحيح إذا أفطر حكمنا عليه بوجوب الكفارة لكن إذا مرض في هذا اليوم تسقط الكفارة; لأنه تبين بعروض المرض أن الصوم لم يكن واجبا عليه في هذا اليوم بخلاف عروض السفر فإنه أمر اختياري, والمرض ضروري "وأحكام السفر تثبت بالخروج بالسنة المشهورة, وإن لم يتم السفر علة" والسنة المشهورة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم ترخصوا برخص المسافر بمجاوزتهم العمران, والقياس أن لا يثبت القصر إلا بعد مضي مدة السفر; لأن حكم العلة لا يثبت قبلها لكن ترك القياس بما روينا "ثم إذا نوى الإقامة قبل الثلاثة تصح, وإن كان في غير موضع الإقامة قبل ثلاثة أيام منع الثلاثة ويشترط موضع الإقامة; لأن الأول منع" أي: نية الإقامة, وإن نواها بعد للسفر "وهذا رفع" أي: نية الإقامة بعد ثلاثة أيام رفع للسفر, والمنع أسهل من الرفع "وسفر المعصية يوجب الرخصة وقد مر" أي: في فصل النهي "على أن المعصية منفصلة عنه فإن البغي وقطع الطريق, والتمرد معصية, وإن كانت في المصر والرجل قد يخرج غازيا ثم يستقبله غيره, فيقطع عليهم فصار النهي عن هذا السفر لمعنى في غيره من
................................................................................................
تاركهما, الثالث أن النبي عليه الصلاة والسلام سماها صدقة حيث قال: "إنها صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقة الله" 1, والصدقة فيما لا يحتمل التمليك إسقاط لا غير, الرابع أن التخيير إنما شرع فيما يكون للعبد فيه يسر كخصال الكفارة, وصوم رمضان, وهاهنا لا يسر في الإكمال فلا فائدة في التخيير, وقد سبق ذلك في بحث الرخصة.
قوله: "ولما كان السفر بالاختيار" يعني: فرق بين المسافر, والمريض بأن المسافر إن نوى صوم رمضان شرع فيه أي: لم يفسخه قبل انفجار الصبح لا يجوز له الإفطار بخلاف المريض, وذلك; لأن الضرر في المريض مما لا مدفع له فربما يتوهم قبل الشروع أنه لا يلحقه الضرر, وبعد الشروع علم لحوق الضرر من حيث لا مدفع له بخلاف المسافر فإنه يتمكن من دفع الضرر الداعي إلى الإفطار بأن لا يسافر, ولفظ قيل يوهم أن هذا قول البعض, وليس كذلك بل المراد أنه حكم بذلك, وكذا لفظ فخر الإسلام رحمه الله تعالى قيل له معناه حكم للمسافر, وأفتى في حقه, وضبط المسائل في هذا المقام: أن العذر, إما أن يكون قائما في أول اليوم أو لا فإن كان قائما فإن ترك الصوم, فله
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 4. أبو داود في كتاب السفر باب 1. الترمذي في كتاب تفسير سورة 4 باب 20. النسائي في كتاب الخوف باب 1. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 73.(2/409)
يتم السفر علة ثم إذا نوى الإقامة قبل الثلاثة تصح، وإن كان في غير موضع الإقامة قبل ثلاثة أيام منع الثلاثة ويشترط موضع الإقامة؛ لأن الأول منع وهذا رفع وسفر المعصية يوجب الرخصة وقد مر على أن المعصية منفصلة عنه فإن البغي وقطع الطريق، والتمرد معصية، وإن كانت في المصر والرجل قد يخرج غازيا ثم يستقبله غيره، فيقطع عليهم فصار النهي عن هذا السفر لمعنى في غيره من كل وجه بخلاف السكر؛ لأنه عصيان بعينه قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي: فأكل غير طالب ولا متجاوز حد سد الرمق.
ـــــــ
كل وجه بخلاف السكر; لأنه عصيان بعينه" فلا يثبت بالسكر الحرام الرخص المنوطة بزوال العقل "قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي: فأكل غير طالب ولا متجاوز حد سد الرمق" قد تمسك به الشافعي رحمه الله تعالى على عدم الرخصة لمن يسافر سفر المعصية فجعل قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ} حالا من قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}, ونحن نقول: لا بد من تقدير قوله, فأكل ثم نجعل قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} حالا من أكل فمعناه غير طالب للميتة قصدا إليها ولا آكل الميتة تلذذا واقتضاء للشهوة بل يأكلها دافعا للضرورة, ولا عاد حد ما يسد جوعته أو لا ينبغي أن يتجاوز حد سد الرمق ولا يعدو أي: لا يرفعها لجوعة أخرى.
................................................................................................
ذلك, فإن صام فإن كان العذر هو المرض يجوز الإفطار, وإن كان السفر لم يجز لكن لو أفطر لم تجب الكفارة, وإن لم يكن قائما بل إنما طرأ في أثناء النهار فلا بد من نية الصوم, والشروع فيه فإن مضى عليه فذاك, وإلا فإما أن يطرأ العذر ثم الإفطار أو بالعكس فعلى الأول, إن كان العذر هو المرض جاز الإفطار, وإن كان السفر لم يجز لكن لو أفطر لم تجب عليه الكفارة, وعلى الثاني لم يجز الإفطار أصلا لكن لو أفطر ففي المرض تسقط الكفارة, وفي السفر لا تسقط; لأن المرض سماوي يتبين به أن الصوم لم يجب عليه, والسفر اختياري يجب الصوم مع طريانه لكنه بسبب المبيح في الجملة فإن قارن الإفطار كان شبهة في سقوط الكفارة, وإن كان متأخرا لم يؤثر; لأن الكفارة قد وجبت بالإفطار عن صوم واجب من غير اقتران شبهة.
قوله: "على أن المعصية منفصلة" لما استدل الشافعي رحمه الله تعالى على عدم كون سفر المعصية من أسباب الرخص بوجهين: أحدهما أن الرخصة نعمة, فلا تنال بالمعصية, ويجعل السفر معدوما في حقها كالسكر يجعل معدوما في حق الرخص المتعلقة بزوال العقل لكونه معصية, وثانيهما قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فإنه جعل رخصة أكل الميتة منوطة بالاضطرار حال كون المضطر غير باغ أي: خارج على الإمام, ولا عاد أي: ظالم على المسلمين بقطع الطريق, فيبقى في غير هذه الحالة على أصل الحرمة, ويكون الحكم كذلك في سائر الرخص بالقياس أو بدلالة النص أو بالإجماع على عدم الفصل.
أجيب عن الأول بأن المعصية هي البغي, والتمرد, والإباق مثلا لا نفس السفر بل المعصية منفصلة عن السفر من كل وجه إذ قد يوجد بدونه كالباغي أو الآبق المقيم, وقد يكون السفر مندوبا(2/410)
حكم الخطأ
ومنها الخطأ وهو يصلح عذرا في سقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد، ويصلح شبهة في العقوبة حتى لا يأثم إثم القتل ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص؛ لأنه جزاء كامل فلا يجب على المعذور.
ـــــــ
"ومنها الخطأ" وهو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدا تاما كما إذا رمى صيدا, فأصاب إنسانا فإنه قصد الرمي لكن لم يقصد به الإنسان فوجد قصد غير تام "وهو يصلح عذرا في سقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد, ويصلح شبهة في العقوبة حتى لا يأثم إثم القتل ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص; لأنه جزاء كامل فلا يجب على المعذور وليس بعذر في
................................................................................................
فتقطع المعصية كما إذا خرج غازيا فاستقبله الغير فقطع عليهم الطريق, والنهي لمعنى منفصل عنه من كل وجه لا ينافي مشروعيته كالصلاة في الأرض المغصوبة مع أن المشروع أصل, فلأن لا ينافي سببيته لحكم مع أن السبب, وسيلة أولى, وأيضا صفة القربة في المشروع مقصودة بخلاف صفة الحل في السبب; لأنه وسيلة, ومنافاة النهي لصفة القربة المبنية على الطلب والأمر أشد من منافاته لصفة الحل الثابت بمجرد الإباحة فالنهي لمعنى منفصل إذا لم يمنع صفة القربة عن المشروع, فلأن لا يمنع صفة الحل عن السبب أولى, وهذا بخلاف السكر فإنه حدث من شرب المسكر, وهو حرام.
وعن الثاني بأن الإثم, وعدمه لا يتعلق بنفس الإضرار بل بالأكل فلا بد في الآية من تقدير فعل أي: فمن اضطر, فأكل, ويكون ذلك الفعل هو العامل في الحال أي: فأكل حال كونه غير باغ, ولا عاد, فيجب أن يعتبر البغي, والعداء في الأكل الذي سيقت الآية لبيان حرمته, وحله أي: غير متجاوز في الأكل قدر الحاجة على أن عاد مكرر للتأكيد أي: غير طالب للمحرم, وهو يجد غيره, ولا متجاوز قدر ما يسد الرمق, ويدفع الهلاك أو غير متلذذ, ولا متزود أو غير باغ على مضطر آخر, ولا متجاوز سد الجوعة.
قوله: "ومنها الخطأ, وهو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدا تاما" , وذلك أن تمام قصد الفعل بقصد محله, وفي الخطأ يوجد قصد الفعل دون قصد المحل, وهذا مراد من قال: إنه فعل يصدر بلا قصد إليه عند مباشرة أمر مقصود سواء, ويجوز المؤاخذة بالخطأ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فإنه لو لم يجز لم يكن للدعاء فائدة, وعند المعتزلة لا يجوز; لأن المؤاخذة إنما هي على الجناية, وهي بالقصد, والجواب أن ترك التثبت منه جناية, وقصد بهذا الاعتبار جعل الخطأ من العوارض المكتسبة.
قوله: "ويصلح" مخففا أي: سببا للتخفيف فيما هو صلة واجبة بالفعل دون المحل كالدية في القتل الخطأ فإنها صلة; لأنها لم تقابل بمال كالضمان, ووجبت على الفعل دون المحل فوجبت على العاقبة في ثلاث سنين تخفيفا على الخاطئ, وقد صرح فخر الإسلام رحمه الله تعالى في بحث(2/411)
الخطأ ليس بعذر في حقوق العباد
وليس بعذر في حقوق العباد حتى يجب ضمان العدوان لأنه ضمان مال لا جزاء فعل ويصلح مخففا لما هو صلة لم تقابل مالا ووجبت بالفعل كالدية ويوجب الكفارة إذ لا ينفك عن ضرب تقصير، فيصلح سببا لما هو دائر بين العباد، والعقوبة إذ هو جزاء قاصر ويقع طلاقه عندنا لا عند الشافعي رحمه الله تعالى لعدم الاختيار فصار كالنائم
ـــــــ
حقوق العباد حتى يجب ضمان العدوان لأنه ضمان مال لا جزاء فعل ويصلح" أي: الخطأ "مخففا لما هو صلة لم تقابل مالا ووجبت بالفعل كالدية" إنما قال هذا; لأن ما يجب بسبب المحل لا يكون الخطأ مخففا فيه كما ذكرنا في المتن; لأنه ضمان مال لا جزاء فعل "ويوجب الكفارة إذ لا ينفك عن ضرب تقصير, فيصلح سببا لما هو دائر بين العباد, والعقوبة إذ هو جزاء قاصر" الضمير يرجع إلى ما هو دائر والمراد به الكفارة "ويقع طلاقه عندنا لا عند الشافعي رحمه الله تعالى لعدم الاختيار فصار كالنائم ولنا أن دوام العمل بالعقل بلا سهو, وغفلة أمر لا يوقف عليه إلا بحرج فأقيم البلوغ مقامه لا مقام اليقظة, والرضى فيما يبتنى عليهما كالبيع إذ لا حرج في دركهما" تقريره أن الأصل أن لا تعتبر الأعمال إلا, وأن تكون
................................................................................................
الإكراه: بأن الدية ضمان المتلف, والكفارة جزاء الفعل, وصرح كثير من المحققين بأن الدية جزاء المحل دون الفعل بدليل أنه يتحد باتحاد المحل, وقد مر تحقيق ذلك في بحث الصبي, وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى هاهنا أن الخطأ لما كان عذرا صلح سببا للتخفيف بالفعل فيما هو صلة لا تقابل مالا.
قوله: "إذ لا ينفك" أي: الخطأ عن ضرب تقصير, وهو ترك التثبت, والاحتياط فهو بأصل الفعل مباح, وبترك التثبت محظور, فيكون جناية قاصرة يصلح سببا لجزاء قاصر.
قوله: "ويقع طلاقه" إن طلاق المخطئ كما إذا أراد أن يقول: أنت جالس فقال أنت طالق, وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقع; لأن الاعتبار بالكلام إنما هو بالقصد الصحيح, وهو لا يوجد في المخطئ كالنائم, وجوابه مذكور في الكتاب, وفي قوله لا مقام اليقظة, والرضى جواب عما يقال: لو كان البلوغ من عقل قائما مقام القصد في الطلاق لوجب أن يصح طلاق النائم إقامة للبلوغ مقام القصد, وأن يقوم البلوغ مقام الرضى في التصرفات المفتقرة إلى الرضى كالبيع والإجارة لأن الرضى أمر باطن كالقصد, وحاصل الجواب أن السبب الظاهر إنما يقوم مقام الشيء إذا كان ذلك الشيء خفيا يعسر الوقوف عليه, وعدم القصد, وأهلية استعمال العقل في النائم معلوم بلا حرج, وكذا وجود الرضى, وعدمه; لأن الرضا نهاية الاختيار بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه, ونحو ذلك, ولما كان عدم القصد في النائم, ووجود الرضى في غيره مما لا يعسر الوقوف عليه لم يحتج إلى إقامة الشيء مقامهما بل جعل الحكم متعلقا بحقيقتهما, وهذا ظاهر لكن في قوله لا مقام اليقظة تسامح; لأن المعترض يقول بإقامة البلوغ مقام القصد لا مقام اليقظة فإن انتفاء(2/412)
ولنا أن دوام العمل بالعقل بلا سهو، وغفلة أمر لا يوقف عليه إلا بحرج فأقيم البلوغ مقامه لا مقام اليقظة، والرضى فيما يبتنى عليهما كالبيع إذ لا حرج في دركهما وإذا جرى البيع على لسانه خطأ وصدقه خصمه يكون كبيع المكره.
ـــــــ
صادرة عن العقل بلا سهو, وغفلة, وأما إذا كانت صادرة عن سهو وغفلة يجب أن لا تعتبر, ولا يؤاخذ الإنسان بها لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}; ولأن السهو, والغفلة مركوزان في الإنسان, فيكونان عذرا لكن هذا أمر لا يوقف عليه إلا بالحرج, فأقمنا البلوغ مقام دوام العقل من غير سهو وغفلة إقامة للدليل مقام المدلول فإن السهو والغفلة إنما يعرضان لنقصان العقل فإذا كمل العقل بكثرة التجارب عند البلوغ لا يقع السهو, والغفلة إلا نادرا وكل عمل صدر عن العاقل البالغ اعتبر في جميع الأوقات صادرا عن العقل بلا سهو وغفلة, ولم يعتبر أنه ربما يسهو في وقت ما وهذا معنى قوله: أن دوام العمل بالعقل إلخ. وإنما لم نقم البلوغ مقام اليقظة حتى أبطلنا عبارات النائم وكذا لم نقم البلوغ مقام الرضى في التصرفات المبنية على الرضى كالبيع ونحوه إذ لا حرج في درك اليقظة, والرضا ولا يحتاج إلى إقامة الدليل مقامهما فإن الأصل أن الأمور الخفية التي يتعذر الوقوف عليها تقيم ما هو دليل عليها مقامها كالسفر مقام المشقة أما الأمور الظاهرة فلا, وإنما ذكر اليقظة, والرضى دفعا لشبهة الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال لو: قام البلوغ مقام اعتدال العقل لوقع طلاق النائم ولقام البلوغ مقام الرضا فيما يعتمد على الرضا ثم عطف على قوله, ويقع طلاقه, قوله:
"وإذا جرى البيع على لسانه" أي: لسان الخاطئ "خطأ وصدقه خصمه يكون كبيع المكره" "وأما الذي من غيره فالإكراه" هذا هو القسم الثاني من العوارض المكتسبة "وهو إما ملجئ بأن يكون بفوت النفس أو العضو وهذا معدم للرضا ومفسد للاختيار وإما غير
................................................................................................
يقظة النائم أمر ظاهر, ولأن الذي يحتاج إلى إثباته في أهلية الأحكام, واعتبار الكلام هو العمل عن قصد, وهو الأمر الباطن الذي يحتاج إلى إقامة شيء مقامه لا حقيقة اليقظة, وكأنه عبر باليقظة عن القصد, واستعمال العقل لما بينهما من الملابسة, والمراد أن السبب الظاهر إنما يقام مقام الشيء عند خفاء وجوده, وعدمه, وعدم القصد في النائم مدرك بلا حرج, وكذا عدم الرضى في المكره.
قوله: "كالبيع" فإنه يعتمد القصد تصحيحا للكلام, ويعتمد الرضى لكونه مما يحتمل الفسخ بخلاف الطلاق فإنه يبتني على القصد دون الرضى فلو أراد أن يقول سبحان الله فجرى على لسانه بعت هذا الشيء منك بكذا, وقبله المخاطب, وصدقه في أن البيع إنما جرى على لسانه خطأ فهو كبيع المكره ينعقد نظرا إلى أصل الاختيار; لأن الكلام صدر عنه باختياره أو بإقامة البلوغ مقام القصد لكن يكون فاسدا غير نافذ لعدم الرضى حقيقة.(2/413)
القسم الثاني: من العوارض ما يكون من غير المكلف
مدخل
...
القسم الثاني: من العوارض ما يكون من غير المكلف
وأما الذي من غيره فالإكراه وهو إما ملجئ بأن يكون بفوت النفس أو العضو وهذا معدم للرضا ومفسد للاختيار وإما غير ملجئ بأن يكون بحبس أو قيد أو ضرب وهذا معدم للرضا غير مفسد للاختيار.
ـــــــ
ملجئ بأن يكون بحبس أو قيد أو ضرب وهذا معدم للرضا غير مفسد للاختيار, والإكراه بهما لا ينافي الأهلية ولا الخطاب; لأن المكره عليه إما فرض" كما إذا أكره على شرب الخمر بالقتل "أو مباح" كما إذا أكره على الإفطار في شهر رمضان "أو مرخص" كما إذا أكره على إجراء كلمة الكفر "أو حرام" كما إذا أكره على قتل مسلم بغير الحق حتى "يؤجر مرة, ويأثم أخرى, ولا الاختيار" أي: لا ينافي الاختيار "لأنه حل على اختيار الأهون وأصل الشافعي في
................................................................................................
قوله: "وأما الذي من غيره" أي: القسم الثاني من العوارض المكتسبة, وهو الذي يكون من غير المكلف هو الإكراه, وهو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه, ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه, فيكون معدما للرضى لا للاختيار إذ الفعل يصدر عنه باختياره لكنه قد يفسد الاختيار بأن يجعله مستندا إلى اختيار آخر, وقد لا يفسد بأن يبقى الفاعل مستقلا في قصده, وحقيقة الاختيار هو القصد إلى مقدور متردد بين الوجود, والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر فإن استقل الفاعل في قصده فصحيح, وإلا ففاسد, وبهذا الاعتبار يكون الإكراه إما ملجئا بأن يضطر الفاعل إلى مباشرة الفعل خوفا من فوات النفس أو ما هو في معناها كالعضو, وإما غير ملجئ بأن يتمكن الفاعل من الصبر من غير فوات النفس أو العضو, وهو سواء كان ملجئا أو غير ملجئ لا ينافي أهلية الوجوب, ولا الخطاب بالأداء لبقاء الذمة, والعقل, والبلوغ, ولأن ما أكره عليه إما فرض أو مباح أو رخصة أو حرام, وكل ذلك من آثار الخطاب حتى أنه يؤخر على ذلك الفعل المكره عليه مرة كما إذا كان فرضا كالإكراه بالقتل على شرب الخمر ويأثم مرة أخرى كما إذا كان حراما كالإكراه على قتل مسلم بغير حق أو يؤجر على الترك في الحرام, والرخصة, ويأثم في الفرض, والمباح, وكل من الأجر, والإثم إنما يكون بعد تعلق الخطاب, والمراد بالإباحة أنه يجوز له الفعل, ولو تركه وصبر حتى قتل لم يأثم ولم يؤجر, وبالرخصة أنه يجوز له الفعل لكن لو صبر حتى قتل يؤجر عملا بالعزيمة, وبهذا يسقط الاعتراض بأنه إن أريد بالإباحة أنه يجوز له الفعل, ولو تركه, وصبر حتى قتل لا يأثم فهو معنى الرخصة, وإن أريد أنه لو تركه يأثم, وهو معنى الفرض, وقال الإمام البرغري رحمه الله تعالى: إن فعل المكره مباح كالقتل, والزنا, وفرض كشرب الخمر, وأكل الميتة, ومرخص له كإجراء كلمة الكفر, والإفطار, وإتلاف مال الغير, ولعل فخر الإسلام رحمه الله تعالى إنما فرق بين كلمة الكفر, والإفطار للفرق بينهما قبل الإكراه حيث تسقط حرمة الإفطار بالعذر كالسفر, والمرض بخلاف حرمة كلمة الكفر فإنها لا تسقط قبل الإكراه بحال.
قوله: "ولا الاختيار" أي: الإكراه, ولا ينافي الاختيار; لأنه حمل للفاعل على أن يختار ما هو أهون(2/414)
أقسام المكره عليه
والإكراه بهما لا ينافي الأهلية ولا الخطاب؛ لأن المكره عليه إما فرض أو مباح أو مرخص أو حرام حتى يؤجر مرة، ويأثم أخرى، ولا الاختيار لأنه حل على اختيار الأهون وأصل الشافعي في ذلك أن الإكراه بغير حق إن كان عذرا شرعا يقطع الحكم عن فعل الفاعل لعدم اختياره والعصمة تقتضي دفع الضرر بدون رضاه.
ـــــــ
ذلك أن الإكراه بغير حق إن كان عذرا شرعا يقطع الحكم عن فعل الفاعل لعدم اختياره" الإكراه عند الشافعي إما أن يكون بحق كالإكراه على الإسلام, وإما بغير حق ثم هذا إما أن يكون عذرا, وإما أن لا يكون: واعلم أني أقمت لفظ الفاعل مقام المكره بالفتح ولفظ الحامل مقام المكره بالكسر لئلا يشتبه الفتح بالكسر "والعصمة تقتضي دفع الضرر بدون رضاه" أي: رضا الفاعل "ثم إن أمكن نسبة الفعل إلى الحامل ينسب وإلا يبطل فتبطل الأقوال كلها"; لأن نسبة الأقوال إلى غير المتكلم باطل; لأن الإنسان لا يتكلم بلسان غيره.
"ويضمن الحامل الأموال" أي: إذا أكرهه على إتلاف مال الغير; لأن نسبة الإتلاف إلى الحامل ممكن, فيجعل الفاعل آلة للحامل "وإن لم يكن عذرا لا يقطع" أي: الحكم عن فعل الفاعل "فيحد الزاني ويقتص القاتل مكرهين وإنما يقتص الحامل بالتسبيب" جواب إشكال هو أنه لما لم تقطع نسبة الحكم عن فعل الفاعل يكون الفاعل هو القاتل فيجب أن يقتص هو
................................................................................................
عند الحامل, وأرفق له, ويحتمل أن يريد ما هو أيسر على الفاعل من القتل, والضرب, ونحو ذلك مما أكره به.
قوله: "وأصل الشافعي" أي: القاعدة التي قررها الشافعي رحمه الله تعالى في باب الإكراه: هو أن الإكراه إما أن يحرم الإقدام عليه, وهو الإكراه بغير حق أو لا, وهو الإكراه بحق, والثاني لا يقطع الحكم عن فعل الفاعل كإكراه الحربي على الإسلام, فيصح إسلامه بخلاف إكراه الذمي فإنه ليس بحق لقوله عليه السلام: "اتركوهم وما يدينون", والأول إما أن يكون عذرا شرعيا أو لا فإن كان عذرا شرعيا بأن يحل للفاعل على الإقدام على الفعل, فهو يقطع الحكم عن فعل الفاعل سواء أكره على قول أو عمل; لأن صحة القول بقصد المعنى, وصحة الحكم باختياره, والإكراه يفسد القصد, والاختيار, وأيضا نسبة الحكم للفاعل بلا رضاه إلحاق الضرر به, وهو غير جائز; لأنه معصوم محترم الحقوق, والعصمة تقتضي أن يدفع عنه الضرر بدون رضاه لئلا يفوت حقوقه بدون اختياره, ثم إذا قطع الحكم عن الفاعل فإن أمكن نسبة الفعل إلى الحامل أي: المكره كالإكراه على إتلاف مال الغير نسب إليه, وإن لم يمكن بطل الفعل كالإكراه على الإقرار, وسائر الأقوال, وإن لم يكن عذرا شرعيا بأن لا يحل له إقدام على الفعل كما إذا أكره على القتل أو الزنا لا يقطع الحكم عن الفاعل حتى يجب القصاص, والحد على القاتل, والزاني مكرهين.(2/415)
تفصيل الشافعية في الإكراه
ثم إن أمكن نسبة الفعل إلى الحامل ينسب وإلا يبطل فتبطل الأقوال كلها ويضمن الحامل الأموال وإن لم يكن عذرا لا يقطع فيحد الزاني ويقتص القاتل مكرهين وإنما يقتص الحامل بالتسبيب وإن كان الإكراه حقا لا يقطع أيضا فيصح إسلام الحربي وبيع المديون ماله لقضاء الديون وطلاق المولي بعد المدة بالإكراه لا إسلام الذمي به والإكراه بالقتل والحبس عنده سواء.
ـــــــ
ولا يقتص الحامل لكن القصاص يجب عليهما عند الشافعي رحمه الله تعالى فأجاب بأن الحامل إنما يقتص بالتسبيب "وإن كان الإكراه حقا لا يقطع أيضا" أي: الحكم عن فعل الفاعل "فيصح إسلام الحربي وبيع المديون ماله لقضاء الديون وطلاق المولي بعد المدة بالإكراه" متعلق بما ذكر وهو إسلام الحربي وطلاق المولي, وبيع المديون ماله وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أن الزوج يجبر على الطلاق بعد مدة الإيلاء "لا إسلام الذمي به أي:" بالإكراه; لأن إكراه الذمي على الإسلام ليس بحق, فيبطل لما ذكرنا أنه يبطل الأقوال كلها "والإكراه بالقتل والحبس عنده سواء وأصلنا: أن الإكراه الملجئ لما أفسد الاختيار فإن عارض هذا
................................................................................................
قوله: "وطلاق المولي" بالضم اسم الفاعل من الإيلاء يعني: لو أكره المولي على التطليق بعد مضي مدة الإيلاء فطلق, وقع الطلاق; لأنه يستحق التفريق بعد مضي المدة كامرأة العنين بعد الحول فإذا امتنع عن ذلك كان الإكراه حقا, وأما قبل مضي المدة فالإكراه باطل فلا يقع الطلاق.
قوله: "والإكراه بالقتل, والحبس عنده" أي: الشافعي رحمه الله تعالى سواء; لأن في الحبس ضررا كالقتل, والعصمة تقتضي دفع الضرر قال الإمام محيي السنة: الإكراه أن يخوفه بعقوبة تنال من بدنه لا طاقة له بها, وكان المخوف ممن يمكن تحقيق ما يخوف بها, فيدخل فيه القتل والضرب المبرح وقطع العضو وتخليد السجن لا إذهاب الجاه, وإتلاف المال, ونحو ذلك.
قوله: "وأصلنا" يعني: أن الأصل المقرر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وأصحابه: أن الإكراه إن كان ملجئا, وعارض اختيار الفاعل اختيار صحيح من الحامل فإما أن يكون المكره عليه من قبيل الأقوال أو من قبيل الأفعال فإن كان من قبيل الأقوال فإن كان مما لا ينفسخ كالطلاق, كان نافذا, وإلا كان فاسدا كالبيع, والأقارير, وإن كان من قبيل الأفعال فإن لم يحتمل كون الفاعل آلة للحامل كالزنا كان مقتصرا على الفاعل, وإن احتمل فإن لزم من جعله آلة تبديل محل الجناية كان مقتصرا على الفاعل كإكراه المحرم على قتل الصيد, وإن لم يلزم نسب إلى الحامل ابتداء كالإكراه على إتلاف المال أو النفس, والمراد بالإكراه الملجئ ما يكون التخويف بالقتل دون الحبس أو الضرب, ومعنى إفساده الاختيار أن الإنسان مجبول على حب حياته, وذلك يحمله على الإقدام على ما أكره عليه, فيفسد اختياره من هذا الوجه, ومعنى كون الفاعل آلة أن الحامل يمكنه إيجاد الفعل المطلوب(2/416)
الأصل عند الحنيفة في الإكراه
الأصل عند الحنيفة في الإكراه
...
الأصل عند الحنيفة في الإكراه
وأصلنا: أن الإكراه الملجئ لما أفسد الاختيار فإن عارض هذا الاختيار اختيار صحيح، وهو اختيار الحامل يصير اختيار الفاعل كالمعدوم، وهذا لا يكون إلا بأن يصير الفاعل آلة للحامل فإن احتمل ذلك ينسب إلى الحامل، وإلا يبقى منسوبا إلى الفاعل فالأقوال كلها لا تحتمل ذلك فإن كانت مما لا ينفسخ ولا يتوقف على الاختيار كالطلاق، والعتاق تنفذ؛ لأنها تنفذ مع الهزل، وهو ينافي الاختيار أصلا والرضى بالحكم ومع خيار الشرط وهو ينافي الاختيار أصلا أما اختيار السبب فحاصل في الخيار فلا تنفذ بالإكراه وهو يفسد الاختيار أولى.
ـــــــ
الاختيار اختيار صحيح, وهو اختيار الحامل يصير اختيار الفاعل كالمعدوم, وهذا" أي: صيرورة اختيار الفاعل كالمعدوم لا يكون إلا بأن يصير الفاعل آلة للحامل "فإن احتمل ذلك" أي: كونه آلة له "ينسب إلى الحامل, وإلا" أي: وإن لم يحتمل كون الفاعل آلة للحامل "يبقى منسوبا إلى الفاعل فالأقوال كلها لا تحتمل ذلك" أي: كون الفاعل آلة للحامل لما ذكرنا أن التكلم بلسان الغير ممتنع.
"فإن كانت" أي: الأقوال "مما لا ينفسخ ولا يتوقف على الاختيار" كالطلاق, والعتاق تنفذ; "لأنها" أي: الأقوال التي لا تنفسخ "تنفذ مع الهزل, وهو ينافي الاختيار أصلا والرضى بالحكم ومع خيار الشرط" عطف على قوله مع الهزل "وهو ينافي الاختيار أصلا" أي: ينافي اختيار الحكم أصلا أما اختيار السبب فحاصل في الخيار "فلأن تنفذ" أي: الأقوال التي لا تنفسخ "بالإكراه وهو يفسد الاختيار أولى". وجه الأولوية أن في الهزل اختيار المباشرة والرضا بها
................................................................................................
بنفسه فإذا حمل عليه غيره بوعيد التلف صار كأنه فعل بنفسه, وإن لم يمكنه مباشرة ذلك الفعل بنفسه يبقى مقصورا على الفاعل.
قوله: "فالأقوال كلها لا تحتمل ذلك" يعني: أن شيئا من الأقوال لا يحتمل كون الفاعل آلة للحامل عليه لامتناع التكلم بلسان الغير, وأما ما يقال: من أن كلام الرسول كلام المرسل فهو مجاز إذ العبرة بالتبليغ, وهو قد يكون مشافهة, وقد يكون بواسطة, وذكر في الطريقة البرغرية أنه لا نظر إلى التكلم بلسان الغير; لأنه ممتنع غير متصور, وإنما النظر إلى المقصود من الكلام, وإلى الحكم فمتى كان في وسعه تحصيل ذلك الحكم بنفسه يجعل ذلك الغير آلة له, ومتى لم يكن في وسعه ذلك لم يجعل غيره آلة فالرجل قادر على تطليق امرأته, وإعتاق عبده فإذا وكل غيره يجعل فاعلا تقديرا, واعتبارا بخلاف الحامل فإنه لا يقدر بنفسه على تطليق امرأة الغير, وإعتاق عبد الغير فلا يصح أن يجعل الفاعل آلة.
قوله: "فلأنه تنفيذ بالإكراه, وهو يفسد الاختيار أولى" يعني: أن الإكراه دون الهزل, وخيار الشرط في منع نفاذ التصرفات; لأن كمال النفاذ بصحة اختيار السبب, والحكم, والرضى بهما جميعا ففي كل(2/417)
الإكراه على الطلاق بمال
وإذا اتصل بقبول المال يقع الطلاق بلا مال؛ لأنه بعدم الرضا بالسبب والحكم فكأن المال لم يوجد فلم يتوقف الطلاق عليه كما في خلع الصغيرة أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن الرضا بالسبب ثابت دون الحكم، فيصح إيجاب المال فيتوقف الطلاق عليه كما في خيار الشرط في جانبها وأما عندهما فالهزل لا يؤثر في بدل الخلع، فيجب.
ـــــــ
ثابتان لكن اختيار الحكم والرضا به منتفيان أما الإكراه فالرضا بالسبب والحكم منتف فيه أما اختيار السبب فحاصل في الإكراه مع الفساد فإن كان الطلاق والعتاق واقعين في الهزل من غير اختيار الحكم والرضا به فوقوعهما في الإكراه مع فساد الاختيار أولى هذا ما قالوا ولكن, يرد عليه أن اختيار السبب والرضا به حاصل في الهزل بدون الفساد, وأما في الإكراه فلا رضا بالسبب أصلا, واختيار السبب موجود مع الفساد فلا يلزم من الوقوع في الهزل الوقوع في الإكراه.
"وإذا اتصل بقبول المال" أي: إذا اتصل الإكراه بقبول المال في الطلاق "يقع الطلاق بلا مال; لأنه" أي: الإكراه "بعدم الرضا بالسبب والحكم فكأن المال لم يوجد فلم يتوقف الطلاق
................................................................................................
من الهزل, وخيار الشرط قد انتفى الاختيار, والرضى في جانب الحكم, وإن وجدا في جانب السبب, وفي الإكراه لم ينتف الاختيار في السبب, ولا في الحكم لكنه فسد, والفاسد ثابت من وجه بخلاف المعدوم من كل وجه فانتفاء شرائط كمال النفاذ في الإكراه أقل فهو بالقبول أجدر, والنفاذ فيه أظهر, واعترض المصنف رحمه الله تعالى بأن هاهنا أمورا أربعة هي اختيار السبب, والحكم, والرضى بهما ففي الهزل يوجد اختيار السبب, والرضى به مع الصحة, وينتفي اختيار الحكم, والرضى به, وفي الإكراه يوجد اختيار السبب, والحكم مع الفساد, وينتفي الرضى بهما ففي كل من الهزل, والإكراه يوجد الاثنان من الأمور الأربعة لكن مع الصحة في الهزل, ومع الفساد في الإكراه فلا يكون الإكراه أولى بالقبول, والنفاذ والمصنف رحمه الله تعالى لم يتعرض لوجود اختيار الحكم في الإكراه ليتوهم غاية رجوحيته, فيظهر قوة الاعتراض, وعلى ما ذكرنا يمكن الجواب بأن في كل من الإكراه, والهزل أمرين من الأمور الأربعة إلا أن الأمرين اللذين في الإكراه أقوى من جهة أن الحكم هو المقصود, والسبب وسيلة إليه, وأن الاختيار هو المعتبر في عامة الأحكام, ونفاذ التصرفات, والرضى قد يكون, وقد لا يكون, وفساد الاختيار لا يوجب المرجوحية; لأن الفاسد بمنزلة الصحيح فيما لا يحتمل الفسخ; لأنه إذا انعقد ينفذ, ولا يحتمل تخلف الحكم.
قوله: "وإذا اتصل" أي: الإكراه بقبول المال بأن أكرهت امرأة بوعيد تلف أو حبس على أن تقبل من زوجها الخلع على ألف درهم فقبلت ذلك منه, وهي مدخول بها يقع الطلاق; لأنه لم يتوقف إلا على القبول, وقد وجد, ولا يلزمها المال; لأنه توقف على الرضا, ولم يوجد كما إذا طلق الصغيرة فقبلت يقع الطلاق لوجود القبول, ولا يلزمها المال لبطلان التزامها, وإنما اشترط اتصال الإكراه(2/418)
عليه" أي: على المال "كما في خلع الصغيرة" فإنه يقع الطلاق فيه بلا مال "بخلاف الهزل أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن الرضا بالسبب ثابت" أي: في الهزل "دون الحكم, فيصح إيجاب المال فيتوقف الطلاق عليه" أي: على المال في الخلع بطريق الهزل "كما في خيار الشرط في جانبها" أي: إذا خالعها بشرط الخيار لهما, فيتوقف الطلاق على قبولها المال, وإنما قال في جانبها; لأن شرط الخيار في جانب الزوج لا يصح في الخلع; لما عرف أن الخلع يمين في حقه معاوضة في حقها. "وأما عندهما فالهزل لا يؤثر في بدل الخلع, فيجب, وإن كانت مما
................................................................................................
بقبول المال أي: أن يتحد محلهما بأن تكره المرأة; لأنه لو أكره على تطليق امرأته على مال يقع الطلاق; لأن الإكراه لا يمنع الطلاق, ويلزمها المال; لأنها التزمت المال طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة أما إذا اتصل الهزل بقبول المال, فيصح التطليق لكن يتوقف وقوع الطلاق على التزام المرأة المال, وعلى الرضا به فإن التزمته وقع الطلاق, ولزم المال, وإلا فلا طلاق, ولا مال, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع الطلاق, ويلزمها المال من غير توقف على الرضا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه قد تحقق في الهزل الرضا بالسبب دون الحكم, فيصح التزام المال موقوفا على تمام الرضا بمنزلة خيار الشرط في جانب الزوجة فإنه لما دخل على الحكم فقط لم يمنع وجود الرضا بالسبب بل بالحكم, فيتوقف وجود الحكم أعني: وقوع الطلاق, ولزوم المال على الرضا بالحكم فإن وجد ثبت, وإلا فلا, وإنما قال في جانبها; لأن الخلع من جانب الزوج يمين فلا يقبل خيار الشرط.
ووجه قولهما أن الهزل يعدم الرضا, والاختيار في الحكم دون السبب, فيصح إيجاب المال بوجود الرضا في السبب, وتحقيقه: أن ما يدخل على الحكم دون السبب فهو لا يؤثر في الخلع بالمنع كشرط الخيار; لأن أثره في المنع, ولم يؤثر في أحد الحكمين, وهو الطلاق بالمنع فلا يؤثر في الآخر, وهو لزوم المال; لأنه تابع, فيتبع الطلاق, ويلزم لزومه, وما يدخل على السبب كالإكراه يؤثر بالمنع في المال دون الطلاق; لأن المال في الخلع لا يجب إلا بالذكر فيه كالثمن في البيع فلا بد له من صحة الإيجاب لثبوت الثمن, والداخل على السبب كالإكراه يمنع الإيجاب في البيع فكذا في الخلع, والداخل على الحكم لا يمنعه في البيع لكن يمنع اللزوم, وهنا لا يمنع اللزوم; لأن الطلاق مقصود, والمال تبع, فحيث لا يمنع لزوم المتبوع لم يمنع لزوم التابع; لأن حكم التابع يؤخذ من المتبوع أبدا.
قوله: "وإن كانت" أي: الأقوال مما ينفسخ, ويتوقف على الرضا تنعقد فاسدة أما الانعقاد فلصدورها عن أهلها في محلها, وأما الفساد فلأن الرضا شرط النفاذ فلو أجاز التصرف بعد زوال الإكراه صريحا أو دلالة صح لزوال المعنى المفسد ثم الإكراه الملجئ كالإكراه بالقتل, وغير الملجئ كالإكراه بالضرب سواء فيما ينفسخ, ويتوقف على الرضا لأن الرضا منتف في النوعين, فينتفي النفاذ, والنظر في حد الإكراه من الضرب أو الحبس مفروض إلى رأي الحاكم.
قوله: "وكذا" أي: مثل التصرفات التي لا تنفسخ: الأقارير كلها من الماليات, وغيرها في أنها تفسد بالإكراه الملجئ, وغير الملجئ; لأن الإقرار خبر يتمثل بين الصدق, والكذب, وإنما يوجب(2/419)
ينفسخ, ويتوقف على الرضا كالبيع والإجارة تفسد, والملجئ وغيره هنا سواء; لعدم الرضا وكذا الأقارير كلها لقيام الدليل على عدم المخبر به والأفعال منها ما لا يحتمل ذلك" أي: كون
................................................................................................
الحقوق باعتبار رجحان جانب الصدق أي: وجود المخبر به فإذا تحقق الإكراه, وعدم الرضى, وهو دليل على الكذب أي: عدم وجود المخبر به لم تثبت الحقوق فإن قيل: الإكراه يعارضه أن الصدق هو الأصل في المؤمن, ووجود المخبر به هو المفهوم من الكلام فلا يقوم دليل على عدم المخبر به قلنا المعارضة إنما تنفي المدلول لا الدليل فغاية ما في الباب أنه لا يبقى رجحان لجانب الصدق أو الكذب فلا تثبت الحقوق بالشك.
قوله: "والأفعال منها ما لا يحتمل ذلك أي: كون الفاعل آلة للحامل", ومنها ما يحتمل فالأول يقتصر على الفاعل, وذلك مثل الأكل, والشرب حتى لا يرجع إلى الحامل شيء من أحكامهما المتعلقة بهما من حيث إنهما أكل أو شرب كما إذا أكره صائم صائما على الإفطار فإنه يبطل صوم الفاعل لا الحامل, وأما ما يتعلق بذلك من حيث إنه إتلاف كما إذا أكرهه على أكل مال الغير فقد اختلفت الروايات في أن الضمان على الفاعل أو على الحامل, وكذا في الزنا لو أكرهه عليه كان العقر على الزاني لكن لو أتلفت الجارية بذلك ينبغي أن يكون الضمان على الحامل أي: المكره, والثاني, وهو ما يحتمل كون الفاعل آلة للحامل قسمان; لأنه إما أن يلزم من جعله آلة تبديل محل الجناية أو لا, أما القسم الأول, فيقتصر على الفاعل, ولا يتعلق بالحامل إذ لو نسب إلى الحامل, وجعل الفاعل بمنزلة الآلة عاد على موضعه بالنقض; لأن تبديل محل الجناية يستلزم مخالفة الحامل; لأنه إنما حمله بالإكراه على الجناية في ذلك المحل, ومخالفة الحامل تستلزم بطلان الإكراه; لأنه عبارة عن حمل الغير على ما يريده الحامل, ويرضاه على خلاف رضا الفاعل, وهو فعل معين في محل معين فإذا فعل غيره كان طائعا بالضرورة لا مكرها.
وأورد فخر الإسلام رحمه الله لذلك مثالين; لأن تبديل محل الجناية قد لا يستلزم تبديل ذات الفعل, وقد يستلزمه.
فالأول كما إذا أكره محرم محرما على قتل صيد فقتله يقتصر على الفاعل; لأن الحامل إنما أكرهه على الجناية على إحرام نفسه فلو جعل الفاعل آلة للحامل لزم الجناية على إحرام الحامل لا إحرام الفاعل فلم يكن آتيا بما أكرهه عليه فلا يتحقق الإكراه فإن قيل: الاقتصار على الفاعل ينبغي أن يكون في حق الإثم فقط دون الجزاء إذ الكفارة تجب في الصورة المذكورة على كل من الفاعل, والحامل قلنا الفعل هاهنا هو قتل الصيد باليد, والكفارة المترتبة على ذلك مقتصرة على الفاعل, وأما الكفارة الواجبة على الحامل فإنما هي مترتبة على قتل الصيد بإكراه الغير عليه كما في الدلالة عليه أو الإشارة إليه, وتحقيق ذلك أن موجب الكفارة هو الجناية على الإحرام, وكل من الفاعل, والحامل جان على إحرام نفسه أما الفاعل فبقتل الصيد بيده, وأما الحامل فبإكراه الغير عليه فالفعل الذي هو القتل باليد لم يتجاوز الفاعل في حق ما وجب به من الجزاء.
والثاني: وهو ما يكون تبديل محل الجناية مستلزما لتبديل ذات الفعل كما إذا أكره الغير على بيع الشيء, وتسليمه, فيقتصر التسليم على الفاعل إذ لو نسب إلى الحامل, وجعل الفاعل آلة لزم(2/420)
القسم الأول: ما يلزم فيه تبديل محل الجناية
وإن كانت مما ينفسخ، ويتوقف على الرضا كالبيع والإجارة تفسد، والملجئ وغيره هنا سواء؛ لعدم الرضا وكذا الأقارير كلها لقيام الدليل على عدم المخبر به والأفعال منها ما لا يحتمل ذلك كالأكل، والشرب والزنا، فيقتصر على الفاعل منها ما يحتمل فإن لزم من جعله آلة تبديل محل الجناية، فيقتصر عليه أيضا؛ لأن في تبديل المحل مخالفة الحامل وفيها بطلان الإكراه كإكراه المحرم على قتل الصيد؛ لأنه إنما حمله على الجناية على إحرامه ولو جعل آلة يصير المحل إحرام الحامل.
ـــــــ
الفاعل آلة للحامل "كالأكل, والشرب والزنا, فيقتصر على الفاعل منها ما يحتمل فإن لزم من جعله آلة تبديل محل الجناية, فيقتصر عليه أيضا; لأن في تبديل المحل مخالفة الحامل وفيها بطلان الإكراه كإكراه المحرم على قتل الصيد; لأنه إنما حمله على الجناية على إحرامه ولو جعل آلة يصير المحل إحرام الحامل, وكما أكره على البيع, والتسليم فالتسليم يقتصر عليه; لأنه أكرهه على تسليم المبيع ولو جعل آلة يصير تسليم المغصوب ويتبدل ذات الفعل أيضا" فإن البيع حينئذ يصير غصبا.
"والإعتاق, وإن كان لا يحتمل ذلك" لا يحتمل كون الفاعل آلة للحامل "لأنه من
................................................................................................
التبديل في محل التسليم بأن يصير مغصوبا; لأن التسليم من جهة الحامل يكون تصرفا في ملك الغير على سبيل الاستيلاء, فيصير البيع, والتسليم غصبا أما إذا نسب التسليم إلى الفاعل, وجعل متمما للعقد حتى إن المشتري يملك المبيع ملكا فاسدا لانعقاد البيع, وعدم نفاذه فلا يلزم ذلك, وقد يقال: إن الفعل في المثالين المذكورين ليس مما يحتمل كون الفاعل آلة إذ لا يصح أن يجعل الشخص آلة للغير في القتل من حيث إنه جناية, ولا في التسليم من حيث إنه إتمام للعقد; لأنه لا يقدر أحد على الجناية على إحرام الغير, ولا على تملك مال الغير, وإتمام تصرفه, وما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أنه لو جعل آلة لتبدل محل الجناية معناه أنه, وإن لم يحتمل ذلك لكن لو فرض لبطل الإكراه, والجواب أن المراد باحتمال الفعل كون الفاعل آلة أنه يحتمل ذلك في نفسه, وبالنظر إلى صورته, ولا خفاء في أن الفاعل في القتل, والتسليم يصلح أن يكون آلة بمنزلة السيف, والطرف, وإنما يمتنع ذلك من حيث اعتبار الجناية, وإتمام التصرف, وهو أمر زائد على نفس الفعل.
قوله: "والإعتاق, وإن كان لا يحتمل ذلك" يعني: أن من التصرفات ما يتضمن معنيين يمكن نسبة أحدهما إلى الغير, وكون الفاعل آلة, ولا يمكن ذلك في الآخر كما إذا أكره الغير على إعتاق عبده من حيث إنه قول, وتكلم بالصيغة ينسب إلى الفاعل إذ لا يحتمل كون الفاعل آلة فيصبح العتق لكونه صادرا عن المالك, ومن حيث إنه إتلاف للمال ينسب إلى الحامل, ويجعل الفاعل آلة; لأن الإتلاف يحتمل ذلك بخلاف الأقوال, فيجب للفاعل على الحامل قيمة العبد موسرا كان أو معسرا, ويكون الولاء للفاعل; لأنه بالإعتاق, وهو مقتصر على الفاعل, ولا يمتنع ثبوت الولاء لغير من وجب عليه الضمان كما في الرجوع عن الشهادة على العتق, ثم لا يخفى أن إيراد هذا الكلام من غير هذا المقام أنسب.(2/421)
النوع الثاني: ما يلزم منه تبديل ذات الفعل
وكما أكره على البيع، والتسليم فالتسليم يقتصر عليه؛ لأنه أكرهه على تسليم المبيع ولو جعل آلة يصير تسليم المغصوب ويتبدل ذات الفعل أيضا والإعتاق، وإن كان لا يحتمل ذلك لأنه من الأقوال لكن الإتلاف فعل يحتمله فينتقل إلى الحامل، فيضمن ويكون الولاء للفاعل.
ـــــــ
الأقوال لكن الإتلاف فعل يحتمله" فالحاصل أن الإعتاق تصرف قولي لكنه إتلاف نفي المعنى الأول لم يجعل آلة فيعتق على الفاعل وفي المعنى الثاني, وهو الإتلاف يجعل آلة, فيضمن الحامل فهذا معنى قوله "لكن لإتلاف فعل يحتمل, فينتقل إلى الحامل, فيضمن ويكون الولاء للفاعل"; لأنه من حيث إنه إعتاق يقتصر على الفاعل(2/422)
القسم الثاني: الذي لا يلزم فيه تبديل محل الجناية
وإن لم يلزم منه التبديل يجعل آلة كإتلاف المال، والنفس، فيصير كأنه ضربه عليه وأتلفه، فيخرج الفاعل من البين فيضاف إلى الحامل ابتداء فموجب الجناية عليه فقط لكن في الإثم لا يمكن جعله آية؛ لأنه أكرهه بالجناية على دينه ولو جعل آلة لتبدل محل الجناية فيأثم كل منهما.
ـــــــ
"وإن لم يلزم منه التبديل" أي: وإن لم يلزم من جعله آلة تبديل محل الجناية "يجعل آلة كإتلاف المال, والنفس, فيصير كأنه ضربه عليه وأتلفه, فيخرج الفاعل من البين فيضاف إلى الحامل ابتداء فموجب الجناية عليه فقط" أي: على الحامل فإن كان عمدا يقتص هو فقط "لكن في الإثم لا يمكن جعله آية; لأنه أكرهه بالجناية على دينه ولو جعل آلة لتبدل محل الجناية فيأثم كل منهما والحرمات
................................................................................................
قوله: "وإن لم يلزم منه" هذا هو القسم الثاني, وهو الذي لا يلزم من جعل الفاعل آلة تبديل محل الجناية كإتلاف المال, والنفس, وحكمه أن يضاف الحكم إلى الحامل ابتداء لا نقلا من الفاعل إليه على ما ذهب إليه بعض المشايخ فموجب الجناية من ضمان المال, والقصاص, والدية, والكفارة يجب على الحامل ابتداء فلو أكرهه على رمي صيد, فأصاب إنسانا فالدية على عاقلة الحامل, والكفارة عليه, ولو أكرهه على قتل الغير عمدا فعند زفر رحمه الله تعالى القصاص على الفاعل; لأنه(2/422)
أنواع الحرمات
والحرمات أنواع: حرمة لا تسقط بالإكراه، ولا تدخلها الرخصة كالقتل والجرح، والزنا؛ لأن دليل الرخصة خوف الهلاك وهما في ذلك سواء.
ـــــــ
أنواع: حرمة لا تسقط بالإكراه, ولا تدخلها الرخصة كالقتل والجرح, والزنا; لأن دليل الرخصة خوف الهلاك وهما في ذلك سواء" أي: القاتل والمقتول وإذا كان سواء لا يحل للفاعل قتل غيره ليخلص نفسه
................................................................................................
قتل لإحياء نفسه عمدا, وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا قصاص على أحد بل الواجب الدية على الحامل في ماله في ثلاث سنين; لأن القصاص إنما هو بمباشرة جناية تامة, وقد عدمت في كل من الحامل, والفاعل لبقاء الإثم في حق الآخر, وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى القصاص على الحامل فقط; لأن الإنسان مجبول على حب الحياة, فيقدم على ما يتوصل به إلى بقاء الحياة بقضية الطبع بمنزلة آلة اختيارا لها كالسيف في يد القاتل فيضاف الفعل إلى الحامل, وأما في حق الإثم فالفاعل لا يصلح آلة; لأنه لا يمكن لأحد أن يجني على دين غيره, ويكتسب الإثم لغيره لأنه قصد القلب, ولا يتصور القصد بقلب الغير كما لا يتصور التكلم بلسان الغير, ولو فرضناه آلة يلزم تبدل محل الجناية حينئذ تكون على دين الحامل, وهو لم يأمر الفاعل بذلك, فينتفي الإكراه, وإذا لم يمكن جعله آلة لزم نسبة الإثم إلى كل من الحامل, والفاعل أما الحامل فلقصده قتل نفس محترمة, وأما الفاعل فلإطاعته المخلوق في معصية الخالق, وإيثاره نفسه على من هو مثله, وتحقيقه موت المقتول بما في وسعه, وفي هذا الكلام تصريح بأن لزوم تبدل محل الجناية على تقدير جعل الفاعل آلة مفروض فيما لا يحتمل كون الفاعل آلة, ولو ذهبنا إلى أن نفس القتل يحتمل ذلك لم يكن لقوله لكن في الإثم لا يمكن جعله آلة معنى; لأن المعبر في الاحتمال, وعدمه هو نفس الفعل.
قوله: "والحرمات أنواع" ما مر كان حكم الأفعال المكره عليها في أنها بمن تتعلق, وإلى من تنسب, وهذا بيان الإقدام عند الإكراه على الأفعال التي لا يجوز الإقدام عليها عند الاختيار في أنه يكون حراما أو مباحا أو مرخصا فيه فالحرمات إما أن تحتمل السقوط أو لا, والثاني إما أن تحتمل الرخصة أو لا فهي بهذا الاعتبار ثلاثة أنواع: نوع لا يحتمل السقوط, ولا الرخصة, ونوع يحتمل السقوط, ونوع يحتمل الرخصة فقط, والثالث إما أن يكون في حقوق الله تعالى أو في حقوق العباد, وحقوق الله تعالى إما أن تحتمل السقوط أو لا, ولكل من هذه الأقسام حكم مبين في الكتاب.
قوله: "والزنا" يعني: زنا الرجل بالمرأة; لأنه الزاني حقيقة, وإنما المرأة ممكنة من الزنا فزناها من قبيل ما يحتمل الرخصة.
قوله: "لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده" إذ في فوات النفس فوات اليد من غير عكس هذا بالنسبة إلى صاحبها, وأما بالنسبة إلى الغير فليس حرمة النفس فوق حرمة اليد لكن ليس حرمة يد(2/423)
وكذا جرح للغير لا جرح نفسه حتى لو أكره على قطع يده بالقتل حل له؛ لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده، ولا كذلك بالنسبة إلى الغير، والزنا قتل معنى والثاني: حرمة تسقط كالميتة والخمر، والخنزير فالإكراه الملجئ يبيحها؛ لأن الاستثناء من الحرمة حل حتى إن امتنع أثم لا غير الملجئ
ـــــــ
"وكذا جرح الغير" أي: إذا أكره على جرح الغير بالقتل لا يحل له الجرح "لا جرح نفسه حتى لو أكره على قطع يده بالقتل حل له; لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده, ولا كذلك بالنسبة إلى الغير, والزنا قتل معنى" فإن ولد الزنا بمنزلة الهالك فإن انقطاع نسبه من الغير هلاك فإن أكره على الزنا لا يحل له الزنا "وحرمة تسقط كالميتة والخمر, والخنزير فالإكراه الملجئ يبيحها; لأن الاستثناء من الحرمة حل" وهو قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} "حتى إن امتنع أثم لا غير الملجئ" أي: لا يبيحها غير الملجئ لعدم الضرورة "وحرمة لا تسقط لكن تحتمل الرخصة وهي إما من حقوق الله التي لا تحتمل السقوط أبدا كإجراء كلمة الكفر, فإن الإيمان لا يحتمل السقوط أبدا, وإما في حقوقه
................................................................................................
غيره فوق حرمة ذلك الغير حتى لو أكرهه بالقتل على قطع يد الغير لم يحل ذلك للفاعل, ولو فعل كان آثما كما في الإكراه على القتل; لأن طرف المؤمن في الحرمة بمنزلة نفسه في حق الغير حتى لا يحل للمضطر قطع طرف الغير ليأكله, وأما إلحاق الأطراف بالأموال فإنما هو في حق صاحبها لا في حق الغير فإن الناس يبذلون أموالهم صيانة لنفس الغير, ولا يبذلون أطرافهم لذلك.
قوله: "والزنا قتل" أما من جهة أن من لا نسب له بمنزلة الميت, وأما من جهة أنه لا تجب النفقة على الزاني لعدم النسب, ولا على المرأة لعجزها عن ذلك, فيهلك الولد, والولد في صورة كون المرأة متزوجة, وإن كان ينسب إلى الفراش, وتجب نفقته على الزوج إلا أن الزوج ربما ينفي مثل هذا النسب, فيهلك الولد.
قوله: "والإكراه الملجئ يبيحها" أي: يبيح المحرمات حرمة تحتمل السقوط; لأنه قد استثني عن تحريم الميتة, ونحوها حالة الاضطرار بمعنى أنه لا تثبت الحرمة فيها فتبقى الإباحة الأصلية ضرورة, والإكراه الملجئ بخوف تلف النفس أو العضو نوع من الاضطرار, وإن اختص الإضرار بالمخمصة تثبت بالإكراه بدلالة النص لما فيه من خوف فوات النفس أو العضو فلو امتنع المكره عن أكل الميتة, ونحوها حتى قتل كان آثما إن كان عالما بسقوط الحرمة, وإن لم يعلم فيرجى أن لا يكون آثما كذا في المبسوط, وأما الإكراه الغير الملجئ فلا يبيح المحرمات لعدم الاضطرار لكنه يورث الشبهة حتى لو شرب الخمر بالإكراه الغير الملجئ لا يحد.
قوله: "وحرمة لا تسقط" هذا هو النوع الثالث من أنواع الحرمة, وهي حرمة لا تحتمل السقوط بمعنى أنه لا يحل متعلقها قط لكن قد يرخص للعبد في فعله مع بقاء الحرمة, وهي إما في حقوق(2/424)
النوع الثلث: الحرمة التي تحتمل الرخصة
...
النوع الثالث: الحرمة التي تحتمل الرخصة
و الثالث حرمة لا تسقط و لكن تحتمل الرخصة و هي إما في حقوق الله لا تحتمل السقوط أبدا كإجراء كلمة الكفر فإن الإيمان في الجملة كالعبادات. فيرخص بالملجئ و إن صبر صار شهيدا و قد مر في فصل الرخصة و زنا المرأة من هذا القسم
ـــــــ
تعالى التي تحتمل السقوط في الجملة كالعبادات فيرخص بالملجئ, وإن صبر صار شهيدا وقد مر في فصل الرخصة وزنا المرأة من هذا القسم إذ ليس فيه معنى قطع النسب بخلاف زناه" أي: إذا أكرهت المرأة على الزنا بالملجئ رخص لها فإن حرمة الزنا عليها حق الله تعالى وليس من باب الإكراه على قتل النفس إذ في زنا المرأة ليس قطع النسب إذ لا نسب من المرأة فلا يكون بمنزلة قتل النفس. بخلاف زنا الرجل فإنه بمنزلة القتل; لأنه قطع النسب
................................................................................................
الله تعالى أو في حقوق العباد بمعنى أن الحرام قد يكون بترك حق من حقوق الله تعالى غير محتمل للسقوط كالإيمان أو يحتمل له كالصلاة, وقد يكون بترك حق من حقوق العباد كعدم التعرض لمال المسلم فالإكراه على إجراء كلمة الكفر على اللسان إكراه على حرام لا تسقط حرمته, وهو ترك الإيمان الذي هو حق من حقوق الله تعالى غير محتمل للسقوط بحال, وذلك; لأن الكفر حرام صورة, ومعنى حرمة مؤبدة, وإجراء كلمة الكفر كفر صورة إذ الأحكام متعلقة بالظاهر فتكون حراما أبدا إلا أن الشارع رخص فيه بشرط اطمئنان القلب بالإيمان بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}, والإكراه على ترك الصلاة إكراه على حرام لا يحتمل السقوط; لأن حرمة ترك الصلاة ممن هو أهل للوجوب مؤبدة لا تسقط بحال لكن الصلاة حق من حقوق الله تعالى محتمل للسقوط في الجملة بالأعذار, وكذا الصوم, والحج, ونحو ذلك من العبادات.
قوله: "وزنا المرأة من هذا القسم" يعني: إذا أكرهت المرأة على الزنا فتمكينها من الزنا حرام حرمة مؤبدة هي من حقوق الله تعالى المحتملة للسقوط فإن حرمة الزنا حق الله فرخص للمرأة مع بقاء الحرمة في الإكراه الملجئ, ولا يرخص في غير الملجئ لكن يسقط الحد للشبهة, وفي كون حرمة الزنا مما يحتمل السقوط نظر فالأولى أن يراد بقوله, وزنا المرأة من هذا القسم أن حرمته من قبيل الحرمة التي لا تسقط لكن تحتمل الرخصة ثم لا يخفى أن قوله, وهي أي: تلك الحرمة إما في حقوق الله تعالى إلخ مشعر بأن تلك الحقوق تغاير تلك الحرمة, ومتعلقاتها فإن الحرام هو إجراء كلمة الكفر, وحق الله تعالى هو الإيمان, وفي العبادات الحرام هو ترك الصلاة مثلا, وحق الله تعالى هي الصلاة, فيكون في قوله فإن حرمة الزنا عليها حق الله تعالى تسامح, والتحقيق أن العصمة من الزنا حق الله تعالى, وتركها حرام حرمة لا تسقط أبدا لكن تحتمل الرخصة.
قوله: "ويحد هو" أي: يحد الرجل المكره على الزنا إكراها غير ملجئ; لأن الإكراه الملجئ لا يكون رخصة في حقه كما في حق المرأة حتى يكون غير الملجئ شبهة رخصة نعم لا يحد الرجل(2/425)
إذ ليس فيه معنى قطع النسب بخلاف زناه ولما رخص زناها بالملجئ لا تحد بغير الملجئ للشبهة، ويحد هو وأما في حقوق العباد كإتلاف مال المسلم وحكمه حكم أخويه ويجب الضمان لوجود العصمة.
ـــــــ
"ولما رخص زناها بالملجئ لا تحد بغير الملجئ للشبهة, ويحد هو" أي: إذا أكرهت المرأة على الزنا بالملجئ يكون زناها مرخصا فينبغي أنها إن زنت بالإكراه بغير الملجئ يكون في زناها شبهة الرخصة فلا تحد, وأما الرجل فزناه لا يرخص بالملجئ فإن زنى بغير الملجئ يحد لعدم شبهة الرخصة "وأما في حقوق العباد كإتلاف مال المسلم وحكمه حكم أخويه" أي: في أنه يرخص بالملجئ, وإن صبر صار شهيدا, والمراد بأخويه حرمة لا تحتمل السقوط, وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط, وهما حق الله تعالى "ويجب الضمان لوجود العصمة" والله ولي العصمة والتوفيق وبيده أزمة التحقيق "تم".
................................................................................................
في الإكراه الملجئ استحسانا; لأن الحد للزجر, ولا حاجة إليه عند الإكراه; لأنه كان منزجرا إلى حين خوف فوات النفس أو العضو فالإقدام عليه رفع لذلك لا قضاء للشهوة, وانتشار الآلة لا يدل على الطواعية; لأنه قد يكون طبعا بالفحولة المركبة في الرجال.
قوله: "وأما في حقوق العباد" عطف على قوله أما في حقوق الله تعالى فإتلاف مال المسلم حرام حرمة هي من حقوق العباد; لأن عصمة المال, ووجوب عدم إتلافه حق للعباد, والحرمة متعلقة بترك العصمة كما ذكر في حرمة إجراء كلمة الكفر أن الإيمان حق الله تعالى, ومعنى كون الحرمة فيه أنها متعلقة بتركه, وتلك الحرمة أعني: حرمة إتلاف مال المسلم لا تسقط بحال; لأنه ظلم, وحرمة الظلم مؤبدة لكنها تحتمل الرخصة حتى لو أكره على إتلاف مال المسلم إكراها ملجئا رخص فيه; لأن حرمة النفس فوق حرمة المال; لأنه مهان مبتذل ربما يجعله صاحبه صيانة لنفس الغير أو طرفه لكن إتلاف مال المسلم في نفسه ظلم, وبالإكراه لا تزول عصمة المال في حق صاحبه لبقاء حاجته إليه, فيكون إتلافه, وإن رخص فيه باقيا على الحرمة فإن صبر على القتل كان شهيدا; لأنه بذل نفسه لدفع الظلم كما إذا امتنع عن ترك الفرائض من العبادات حتى قتل إلا أنه لما لم يكن في معنى العبادات من كل وجه بناء على أن الامتناع عن الترك فيها من باب إعزاز الدين قيدوا الحكم بالاستثناء فقالوا: كان شهيدا إن شاء الله تعالى, ولما كانت الحرمة التي لا تسقط لكن تحتمل الرخصة في حقوق العباد مثلها في حقوق الله تعالى المحتملة للسقوط, وحقوق الغير المحتملة له قال: وحكمه حكم أخويه بمعنى أن حكم هذا القسم حكم القسمين السابقين اللذين هما قسمان لهذا القسم, وبهذا يظهر أن في قوله المراد بأخويه حرمة لا تحتمل السقوط, وحرمة تحتمله لكن لم تسقط, وهما حق الله تعالى تسامحا; لأن احتمال السقوط, وعدمه في القسمين السابقين إنما هو صفة الحقوق لا صفة الحرمة نفسها, وذلك كالإيمان, والصلاة فإن حرمة تركهما لا تسقط أصلا لكن نفس الصلاة تحتمل السقوط في الجملة بالأعذار بخلاف الإيمان.
قوله: "ويجب الضمان" أي: يجب على من أكره غيره على إتلاف مال المسلم ضمان ما أتلف;(2/426)
لأن المال معصوم حقا لصاحبه فلا يسقط بحال, وهذا الحكم معلوم مما سبق أن في صورة الإكراه على إتلاف مال المسلم أو نفسه ينسب الفعل إلى نفس الحامل, ويجعل الفاعل آلة إلا أن في ذكره هاهنا تصريحا بالمقصود, وختما للكتاب على لفظ وجود العصمة عصمنا الله تعالى بعونه الكريم عن اتباع الهوى, ووفقنا الله تعالى بلطفه العميم لسلوك طريق الهدى إنه, ولي العصمة, والتوفيق, ومنه الهداية إلى سواء الطريق, وقد اتفق صبيحة يوم الاثنين التاسع, والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان, وخمسين, وسبعمائة أحسن الله تعالى العقبى في اختتامها, وأجرى الخيرات فيما بقي من شهورها, وأيامها فراغ بنان البيان, وأسنان الأقلام عن نظم ما جمعت من الفوائد, ورقم ما سمعت من الفوائد, وضبط ما ركبت له مطايا الفكر في ظمأ الهواجر, واقتحمت له موارد السهر في ظلم الدياجر, وودعت في بغيته حبيب الدعة, ولذيذ الكرى, وعند الصباح يحمد القوم السرى, والحمد لله على نعمه العظام, ومنحه الجسام, والصلاة, والسلام على نبيه محمد, وآله, وأصحابه البررة الكرام.(2/427)