وأما القسم الثاني:
فوقت الصوم وهو رمضان شرط للأداء ومعيار للمؤدي ; لأنه قدر وعرف به وسبب للوجوب لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ومثل هذا الكلام للتعليل ولنسبة الصوم إليه ولتكرره به ولصحة الأداء فيه للمسافر مع عدم الخطاب، ومن حكمه أن لا يشرع فيه غيره فلهذا يقع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عن رمضان إذا نوى المسافر واجبا آخر ; لأن المشروع في هذا اليوم هذا لا غير في حق الجميع ولهذا يصح الأداء منه لكنه رخص له بالفطر، وذا لا
ـــــــ
ذلك الشيء" وهو الوقت "فيكون" أي لفظ الأمر "سببا لوجوب الأداء، والفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء أن الأول هو اشتغال ذمة المكلف بالشيء، والثاني هو لزوم تفريغ الذمة عما تعلق بها فلا بد له من سبق حق في ذمته فإذا اشترى شيئا يثبت الثمن في الذمة" فثبوت الثمن في الذمة نفس الوجوب. "أما لزوم الأداء فعند المطالبة بناء على أصل الوجوب
................................................................................................
للوجوب بدون وجوب الأداء بمعنى الإتيان بالفعل الأعم من الأداء والقضاء والإعادة، فإذا تحقق السبب ووجد المحل من غير مانع تحقق وجوب الأداء حتى يأثم تاركه، ويجب عليه القضاء، وإن وجد في الوقت مانع شرعي أو عقلي من حيض أو نوم أو نحو ذلك فالوجوب يتأخر إلى زمان ارتفاع المانع، وحينئذ افترقوا ثلاث فرق فذهب الجمهور إلى أن الفعل في الزمان الثاني قضاء بناء على أن المعتبر في وجوب القضاء سبق الوجوب في الجملة لا سبق الوجوب على ذلك الشخص، فعلى هذا يكون فعل النائم والحائض ونحوهما قضاء وبعضهم يعتبر الوجوب عليه حتى لا يكون فعل النائم والحائض ونحوهما قضاء لعدم الوجوب عليهم بدليل الإجماع على جواز الترك، وبعضهم يقول بالوجوب عليهم بمعنى انعقاد السبب وصلاحية المحل وتحقق اللزوم لولا المانع ويسميه وجوبا بدون وجوب الأداء، وليس هذا إلا تغيير عبارة.
وأما الحنفية فذهب بعضهم إلى أنه لا فرق بين الوجوب ووجوب الأداء في العبادات البدنية حتى إن الشيخ المحقق أبا المعين بالغ في رده وإنكاره، وادعى أن استحالته غنية عن البيان، فإن الصوم مثلا إنما هو الإمساك عن قضاء الشهوتين نهارا لله تعالى، والإمساك فعل العبد فإذا حصل حصل الأداء، ولو كانا متغايرين لكان الصائم فاعلا فعلين الإمساك وأداء الإمساك، وكذا كل فاعل كالآكل والشارب كان فاعلا فعلين أحدهما ذلك الفعل، والآخر أداؤه، وهذه مكابرة عظيمة، ثم قال إن جعل أصل الوجوب غير وجوب الأداء في الواجب البدني مبني على مذهب أبي الهذيل العلاف من شياطين القدرية، وهو أن الصوم والصلاة والحج ليست عبارة عن الحركات والسكنات المخصوصة بل عن معان وراءها تقارنها فبالسبب تجب تلك المعاني، وتشتغل الذمة بها، وبالأمر يجب وجود الحركات والسكنات التي تحصل تلك المعاني بها أو معها فيكون التحرك والسكون من العبد أداء لها وتحصيلا، ثم قال إن الشارع أوجب على من مضى عليه الوقت وهو نائم مثلا بعد زوال النوم ما كان يوجبه في الوقت لولا النوم بشرائط مخصوصة، ولم يوجب ذلك في باب الصبا والكفر، وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأوجب الصوم على المريض والمسافر معلقا(1/382)
يجعل غيره مشروعا فيه قلنا لما رخص فيه لمصالح بدنه فمصالح دينه، وهو قضاء دينه أولى، وإنما لم يشرع للمسافر غيره إن أتى بالعزيمة، وهنا لم يأت إذ صام واجبا آخر ولأن وجوب الأداء ساقط عنه فصار هذا الوقت في حقه كشعبان فعلى الدليل الأول إن شرع في النفل يقع عن رمضان وعلى الثاني يقع عن النفل وهنا روايتان وإن أطلق فالأصح أنه يقع عن رمضان إذا لم يعرض عن العزيمة، وأما المريض إذا نوى واجبا آخر يقع عن رمضان لتعلق الرخصة بحقيقة العجز فإذا صام ظهر فوات شرط
ـــــــ
وأيضا القضاء واجب على المغمى عليه والنائم والمريض والمسافر ولا أداء عليهم لعدم الخطاب" أما في الأولين فلأن خطاب من لا يفهم لغو، وأما في الأخيرين فلأنهما مخاطبان بالصوم في أيام أخر.
................................................................................................
باختيارهما الوقت تخفيفا ومرحمة فإن اختار الأداء في الشهر كان الصوم واجبا فيه، وإن أخراه إلى الصحة والإقامة كان واجبا بعدهما، بخلاف الواجب المالي، فإن الواجب هو المال والأداء فعل في ذلك المال فيجب على الولي أداء ما وضع في ذمة الصبي من المال كما لو وضع في بيت الصبي مال معين.
وأما الذاهبون إلى الفرق فمنهم من اكتفى بالتمثيل، ومنهم من حاول التحقيق فذهب صاحب الكشف إلى أن نفس الوجوب عبارة عن اشتغال الذمة بوجود الفعل الذهني، ووجوب الأداء عبارة عن إخراج ذلك الفعل من العدم إلى الوجود الخارجي، ولا شك في تغايرهما، ولذا لا يتبدل ذلك التصور بتبدل الوجود الخارجي بالعدم بل يبقى على حاله، وكذا في المال أصل الوجوب لزوم مال متصور في الذمة، ووجوب الأداء إخراجه من العدم إلى الوجود الخارجي إلا أنه لم يكن في وسعه ذلك أقيم مال آخر من جنسه مقامه في حق صحة الأداء والخروج عن العهدة وجعل كأنه ذلك المال الواجب، وهذا معنى قولهم الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها فظهر الفرق بين الفعل وأداء الفعل هذا كلامه، والظاهر أن اشتغال الذمة بوجود الفعل الذهني أو المال المتصور مجرد عبارة إذ لا يصح أن يراد تصور من عليه الوجوب لجواز أن يكون غافلا كالنائم والصبي ولا التصور في الجملة إذ لا معنى لاشتغال ذمة النائم أو الصبي بصلاة أو مال يوجد في ذهن زيد مثلا، ثم في تفسير وجوب الأداء بالإخراج من العدم إلى الوجود تسامح، والمراد لزوم الإخراج، وذهب المصنف إلى أن نفس الوجوب هو اشتغال الذمة بفعل أو مال، ووجوب الأداء لزوم تفريغ الذمة عما اشتغلت به، وتحقيقه أن للفعل معنى مصدريا هو الإيقاع ومعنى حاصلا بالمصدر وهو الحالة المخصوصة فلزوم وقوع تلك الحالة هو نفس الوجوب، ولزوم إيقاعها وإخراجها من العدم إلى الوجود هو وجوب الأداء، وكذا في المالي لزوم المالي وثبوته في الذمة نفس وجوب، ولزوم تسليمه إلى من له الحق وجوب الأداء فالوجوب في كل منهما صفة لشيء آخر فهذا وجه افتراقهما في المعنى، ثم إنهما "يفترقان في" الوجود.
أما في البدني فكما في صلاة النائم والناسي وصوم المسافر والمريض فإن وقوع الحالة(1/383)
الرخصة فصار كالصحيح، وفي المسافر قد تعلقت بدليل العجز وهو السفر فشرط الرخصة ثابت هنا وقال زفر لما صار الوقت متعينا له فكل إمساك يقع فيه يكون مستحقا على الفاعل فيقع الفرض وإن لم ينو كهبة كل النصاب من الفقير بغير النية قلنا هذا يكون جبرا، والشرع عين الإمساك الذي هو قربة لهذا ولا قربة بدون القصد، وقال الشافعي رحمه الله تعالى لما كان منافعه على ملكه لا بد من التعيين لئلا يصير جبرا في صفة العبادة قلنا نعم لكن الإطلاق في المتعين تعيين
ـــــــ
"ولا بد للقضاء من وجوب الأصل فيكون نفس الوجوب ثابتا ويكون سببه" أي سبب نفس الوجوب "شيئا غير الخطاب وهو الوقت" لما ذكرنا من عدم الخطاب؛ لأنه لا شيء غير الوقت، والخطاب يصلح للسببية فالسببية منحصرة فيهما إما لهذا أو للإجماع فيلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر، ثم اعلم أن بعض العلماء لا يدركون الفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء، ويقولون إن الوجوب لا ينصرف إلا إلى الفعل، وهو الأداء فبالضرورة يكون نفس الوجوب هي نفس وجوب الأداء فلا يبقى فرق بينهما، ولله در من أبدع الفرق بينهما
................................................................................................
المخصوصة التي هي الصلاة أو الصوم لازم نظرا إلى وجود السبب وأهلية المحل، وإيقاعها من هؤلاء غير لازم لعدم الخطاب وقيام المانع، وأما في المالي فكما في الثمن الذي اشترى الرجل شيئا بثمن غير مشار إليه بالتعيين فإنه يجب في الذمة ضرورة امتناع البيع بلا ثمن، ولا يجب أداؤه إلا بعد المطالبة هذا حاصل كلامه وفيه نظر؛ لأنه إن أريد بلزوم وجود الحالة المخصوصة عقيب السبب لزوم وجودها من ذلك الشخص كالنائم والمريض مثلا فلزوم وقوع الفعل الاختياري من الشخص بدون لزوم إيقاعه إياه ليس بمعقول بل لزوم الوقوع عنه تلك الحالة ليس بمشروع وبعدها كما يلزم الوقوع يلزم الإيقاع، وإن أريد لزوم وجود تلك الحالة في الجملة فهذا ما ذهب إليه جمهور الشافعية من أن القضاء قد يكون بدون سابقية الوجوب على ذلك الشخص، وإنما يتوقف على سبق وجوب في الجملة بأن يلزم وقوع الفعل من شخص بإيقاعه إياه فلم يثبت وجوب بدون وجوب الأداء، وكأن بينهما فرقا يتعسر التعبير عنه فإن المعذور يلزمه في حال قيام العذر أن يوقع الفعل بعد زوال العذر لو أدركه، والمشتري يلزمه قبل المطالبة أن يؤدي الثمن عند المطالبة، ولا يلزمهما الإيقاع والأداء في الحال فلو قلنا إن الوجوب هو لزوم إيقاع الفعل أو أداء المال في زمان ما بعد تقرر السبب، ووجوب الأداء لزومه في زمان مخصوص لم يكن بعيدا.
قوله: "ولا أداء عليهم لعدم الخطاب" فإن قيل فينبغي أن لا يكون صوم المريض والمسافر أداء للواجب وإتيانا بالمأمور به قلنا بعد الشروع بتوجه الخطاب، ويلزم أداء كما في الواجب المخير على الرأي الأصح من أن الواجب واحد لا على التعيين.
قوله: "ولا بد للقضاء من وجوب الأصل"؛ لأنه إتيان بمثل المأمور به إلا أنه يكفي نفس الوجوب على ما مر، وبعضهم على أن القضاء مبني على وجوب الأداء إلا أن المطلوب قد يكون(1/384)
ولا يضر الخطأ في الوصف لأن الوصف لم يكن مشروعا يبطل فبقي الإطلاق وهو تعيين وقال لما وجب التعيين وجب من أوله إلى آخره ; لأن كل جزء يفتقر إلى النية فإذا عدمت في البعض فسد ذلك فيفسد الكل لعدم التجزي والنية المعترضة لا تقبل التقدم قلنا لما صح بالنية المتقدمة المنفصلة عن الكل فلأن يصح بالمتصلة بالبعض أولى وتكون تقديرية لا مستندة والطاعة قاصرة في أول النهار ; لأن الإمساك في أول النهار عادة الناس فيكفيها النية التقديرية على أنا
ـــــــ
وما أدق نظره، وما أمتن حكمته، وتحقيق ذلك أنه لما كان الوقت سببا لوجوب الصلاة كان معناه أنه لما حضر وقت شريف كان لازما أن يوجد فيه هيئة مخصوصة وضعت لعبادة الله تعالى، وهي الصلاة فلزوم وجود تلك الهيئة عقيب السبب هو نفس الوجوب، ثم الأداء هو إيقاع تلك الهيئة فوجوب الأداء هو لزوم إيقاع تلك الهيئة، وذلك مبني على الأول؛ لأن السبب أوجب وجود تلك الهيئة لمناسبة بينهما، فإن المراد بالسبب الداعي، ثم بواسطة هذا الوجوب يجب إيقاع تلك الهيئة فالوجوب الأول يتعلق بالصلاة، وهي الهيئة، والثاني بأدائها حتى لو كان السبب بذاته داعيا إلى نفس الإيقاع لا إلى الهيئة الحاصلة بالإيقاع فلزوم ذلك الإيقاع يكون نفس الوجوب فإذا تصوره العقل لازم الوقوع لا بد له من إيقاع فلزوم إيقاع
................................................................................................
نفس الفعل فيأثم بتركه ويفتقر إلى القدرة بمعنى سلامة الأسباب والآلات، وقد يكون ثبوت خلفه، ويكفي فيه توهم ثبوت القدرة ففي مثل النائم يتحقق وجوب الأداء على وجه يكون وسيلة إلى وجوب القضاء بتوهم حدوث الانتباه، صرح بذلك فخر الإسلام رحمه الله تعالى في شرح المبسوط.
قوله: "لما ذكرنا من عدم الخطاب" تعليل لكون السبب غير الخطاب، وقوله: لأنه لا شيء غير الوقت، والخطاب تعليل لكونه هو الوقت يعني أن السببية منحصرة في الوقت والخطاب إما لأنه لا بد من سبب ولا شيء غيرهما يصلح للسببية، وإما لانعقاد الإجماع على أن السبب هو الوقت أو الخطاب فإذا انتفى الخطاب تعين الوقت للسببية وهو المطلوب، ولقائل أن يمنع عدم الخطاب، وإنما يلزم اللغو لو كان مخاطبا بأن يفعل في حالة النوم مثلا، وليس كذلك بل هو مخاطب بأن يفعل بعد الانتباه، والمريض مخاطب بأن يفعل في الوقت أو في أيام أخر كما في الواجب المخير، والعجب أنهم جوزوا خطاب المعدوم بناء على أن المطلوب صدور الفعل حالة الوجود حتى قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى من شروط وجوب الأداء القدرة التي بها يتمكن المأمور من الأداء إلا أنه لا يشترط وجودها عند الأمر بل عند الأداء، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الناس كافة، وصح أمره في حق من وجد بعده، ويلزمهم الأداء بشرط أن يبلغهم ويتمكنوا من الأداء، وقد صرح بذلك كالمريض يؤمر بقتال المشركين إذا برأ قال الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:103] أي إذا أمنتم من الخوف فصلوا بلا إيماء.(1/385)
نرجح بالكثرة ; لأن للأكثر حكم الكل، وهذا الترجيح الذي بالذات أولى من ترجيحه بالوصف على ما يأتي في باب الترجيح فإن قيل في التقديم ضرورة، فإن محافظة وقت الصبح متعذرة جدا فالتقديم الذي لا يعترض عليه المنافي كالاتصال قلنا: وفي التأخير أيضا ضرورة كما في يوم الشك ; لأن تقديم نية الفرض حرام، ونية
ـــــــ
الإيقاع هو وجوب الأداء، وقد يوجد نفس الوجوب بدون الوجوب الأداء كما في المريض والمسافر، فإن لزوم وجود الحالة التي هي الصوم حاصل؛ لأن ذلك اللزوم باعتبار أن السبب داع إليه والمحل وهو المكلف صالح لهذا فلو لم يحصل ذلك اللزوم لما كان السبب سببا لكن لا يجب إيقاعه مع أنه يجوز أن يكون واقعا إذا وجد البيع بثمن غير معين، والبيع مبادلة المال بالمال، وقد ملك المشتري المبيع فلا بد أن يملك البائع مالا على المشتري تحقيقا للمبادلة فهذا نفس الوجوب، ثم لزوم أداء المال الواجب فرع على الأول فهو وجوب الأداء فلما ذكر أن الوقت سبب لنفس الوجوب أراد أن يبين أن السبب ليس كل الوقت بل بعضه فقال.
"ثم إذا كان الوقت سببا، وليس ذلك كله" أي السبب ليس كل الوقت؛ لأنه إن كان الكل سببا لا يخلو إما أن تجب الصلاة في الوقت أو بعده، فإن وجبت في الوقت يلزم التقدم على
................................................................................................
قوله: "فإن المراد بالسبب الداعي" لا الموجد المؤثر في حصول الشيء حتى يمنع صلاحية الوقت للسببية.
قوله: "حتى لو كان السبب بذاته" يعني أن الوجوب هو لزوم ما كان السبب داعيا إليه، ووجوب الأداء لزوم إيقاعه سواء كان ذلك الشيء الذي يستدعيه السبب إيقاعا أو غير إيقاع حتى لو كان إيقاعا فنفس الوجوب هو لزوم الإيقاع، ووجوب الأداء هو لزوم إيقاع الإيقاع، وفي هذا دفع لما يقال إن الواجب ربما يكون الفعل بمعنى الإيقاع فيكون لزوم الإيقاع نفس الوجوب لا وجوب الأداء.
قوله: "ثم إذا كان الوقت" لا خفاء في أن الشرط هو الجزء الأول من الوقت والظرف هو مطلق الوقت حتى يقع أداء في أي جزء من أجزاء الوقت أوقعه على ما هو الصحيح من المذهب بدليل أنه يؤدي بنية الفرض والأداء ولا يعصي بالتأخير عن أول الوقت، وأما السبب فكل الوقت إن أخرج الفرض عن وقته على ما سيأتي، وإلا فالبعض إذ لو كان هو الكل لزم تقدم المسبب على السبب أو وجوب الأداء بعد وقته، وكلاهما باطل بالضرورة، أما لزوم أحد الأمرين فلأن الصلاة إن وجبت بعد الوقت فهو الأمر الثاني، وهذا ظاهر وإن وجبت في الوقت لزم تقدم وجوبها على السبب الذي هو جميع الوقت ضرورة أن الكل لا يوجد إلا بوجود جميع أجزائه، والحاصل أن بين ظرفية كل الوقت وسببيته منافاة ضرورة أن الظرفية تقتضي الإحاطة والسببية التقدم، وقد ثبت الأول فانتفى الثاني، ثم ذلك البعض لا يجوز أن يكون أول الوقت على التعيين، وإلا لما وجبت على من صار أهلا(1/386)
النفل لغو عندكم فيثبت الضرورة ولأن صيانة الوقت الذي لا درك له أصلا واجبة حتى أن الأداء مع النقصان أفضل من القضاء بدونه، وعلى هذا الوجه لا كفارة، ويروى هذا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ومن حكمه أن الصوم مقدر بكل اليوم فلا يقدر النفل ببعضه ومن هذا الجنس المنذور في الوقت المعين يصح بالنية المطلقة، ونية النفل لكن إن صام عن، واجب آخر يصح عنه ; لأن تعيينه مؤثر في حقه وهو النفل لا في حق الشارع.
ـــــــ
السبب؛ لأنه إن كان الكل سببا فما لم ينقض كل الوقت لا يوجد السبب إن وجبت بعد الوقت لزم الأداء بعد الوقت، وكل منهما باطل فلا يكون الكل سببا، وهذا معنى قوله "لأنه إن وجبت في الوقت تقدم الأداء على السبب، وإن لم تجب فيه تأخر الأداء عن الوقت فالبعض سبب، ولا يتعين الأول بدليل الوجوب على من صار أهلا في الآخر إجماعا ولا الآخر، وإلا لما صح التقديم عليه فالجزء الذي اتصل به الأداء سبب فهذا الجزء إن كان كاملا يجب الأداء كاملا، فإذا اعترض عليه الفساد بطلوع الشمس يفسد، وإن كان ناقصا كوقت الأحمر يجب كذلك فإذا اعترض عليه الفساد بالغروب لا يفسد لتحقق الملاءمة بين الواجب والمؤدى"؛ لأنه وجب ناقصا، وقد أدى كما وجب بخلاف الفصل الأول؛ لأنه شرع في الوقت الكامل؛ لأن ما قبل طلوع الشمس وقت كامل لا نقصان فيه قطعا فوجب عليه كاملا فإذا فسد الوقت بالطلوع يكون مؤديا كما وجب؛ لأن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات باعتبار أن عبدة الشمس يعبدونها في هذه الأوقات فالعبادة في هذه الأوقات مشابهة لعبادة الشمس
................................................................................................
للصلاة في آخر الوقت بقدر ما يسعها، واللازم باطل بالإجماع ولا آخر الوقت على التعيين، وإلا لما صح الأداء في أول الوقت لامتناع التقدم على السبب.
فإن قيل هو سبب لنفس الوجوب لا لوجوب الأداء قلنا لا خلاف في أن وجوب الأداء لا يتقدم على نفس الوجوب وإذا لم يتعين الأول ولا الآخر فهو الجزء الذي يتصل به الأداء، ويليه الشروع فيه؛ لأن الأصل في السبب هو الوجود، والاتصال بالمسبب فلا وجه للعدول عن القريب القائم إلى البعيد المنقضي، فإن قيل المسبب هاهنا نفس الوجوب لا الأداء حتى يعتبر الاتصال قلنا نعم إلا أن الوجوب مفض إلى الوجود أعني الأداء فيصير هو أيضا مسببا بواسطة فيعتبر الاتصال به فإن اتصل الأداء بالجزء الأول تعين لعدم المزاحم، وإلا تنتقل السببية إلى الجزء الذي يليه، وهكذا إلى الجزء الذي يتصل بالأداء فإن قيل لم لا يجوز أن يكون السبب حينئذ هو جميع الأجزاء من الأول إلى الاتصال قلنا؛ لأن فيه تخطيا من القليل إلى الكثير بلا دليل، وأيضا فيه جعل السبب موجودا ببعض الأجزاء، وهو الجزء القائم المتصل فإن قيل: إن اتصل الأداء بالجزء الأول فقد تقررت عليه السببية من غير انتقال، وإلا فلا سببية له حتى ينتقل عنه، وأيا ما كان فلا انتقال قلنا لا نسلم انتفاء السببية عن الجزء الأول على تقدير عدم اتصال الأداء به، وإنما المنتفى عنه تقرر السببية(1/387)
فلهذا ورد النهي وعبادة الشمس إنما هي بعد الطلوع وقبل الغروب فقبل الطلوع وقت كامل ولا كذلك قبل الغروب.
"فإن قيل يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدها إلى أن غربت الشمس قلنا لما كان الوقت متسعا جاز له شغل كل الوقت فيعفى الفساد الذي يتصل بالبناء" البناء هنا ضد الابتداء والمراد أنه ابتدأ الصلاة في الوقت الكامل، والفساد الذي اعترض في حالة البقاء جعل عذرا؛ لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر لكن هذا يشكل
................................................................................................
وهذا لا ينافي الانتقال، والحاصل أن كل جزء سبب على طريق الترتيب والانتقال لكن تقرر السببية موقوف على اتصال الأداء، وبهذا يندفع ما يقال أو توقف السببية على الأداء، وهو موقوف على الوجوب الموقوف على السببية يلزم الدور، وكذا ما يقال يلزم أن لا يتحقق الوجوب ما لم يشرع لعدم تحقق سببه وفساده بين.
قوله: "ومدها" أي صلاة العصر إلى أن غربت الشمس أي قبل فراغه منها على ما صرح به فخر الإسلام رحمه الله تعالى ليتحقق اعتراض الفساد إذ لو حصل الفراغ مع الغروب لم يكن فسادا.
قوله: "قلنا لما كان الوقت" كلمة لما ليست في موقعها إذ لا معنى لسببية الأول للثاني، وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن الشرع جعل الوقت متسعا، ولكن جعل له حق شغل كل الوقت بالأداء، واعلم أن الفساد الذي يعترض على ما وجب بسبب كامل كما في الفجر أو ناقص كما في العصر، ويتعذر الاحتراز عنه مع الإتيان بالعزيمة والإقبال على الصلاة في جميع الوقت هو وقوع بعض الأداء خارج الوقت على مقتضى كلام المصنف رحمه الله تعالى حيث صرح باعتراض الفساد بالغروب على ما ابتدأ في وقت الاحمرار، ووجه تعذر الاحتراز عنه أن ليس في وسع العبد أن يقع فراغه من الصلاة مع تمام الوقت مقارنا بل لا يحصل التيقن بشغل كل الوقت بالأداء إلا بامتداد الأداء إلى التيقن بخروج الوقت، وأما على مقتضى كلام القوم فهو وقوع بعض الأداء في وقت الكراهة كما بعد الفجر وما قبل المغرب لا مجرد وقوعه بعد الوقت، إذ لا فساد فيه لما ذكر في طريقة الخلاف وغيره من أن المذهب هو أنه لو شرع في الوقت في الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فأتم بعد خروج الوقت كان ذلك أداء لا قضاء، وظاهر أن شغل كل الوقت بالأداء بدون هذا الفساد ممتنع في العصر دون الفجر بلا إشكال، وقد يجاب عن إشكال الفجر بأن العصر يخرج إلى ما هو وقت الصلاة في الجملة، بخلاف الفجر أو بأن في الطلوع دخولا في الكراهة وفي الغروب خروجا عنها، وأما جواب المصنف رحمه الله تعالى ففيه نظر؛ لأن شغل كل الوقت على وجه لا يعترض الفساد بالطلوع على الكامل متعذر عنده على ما مر، فعند الإتيان بالعزيمة أعني شغل كل الوقت بالأداء يلزم احتمال اعتراض الفساد بالضرورة، وذهب بعض المشايخ إلى أن ليس معنى سببية الجزء المتصل بالأداء أن السبب هو الجزء الذي قبيل الشروع بل معناه أنه إذا شرع فكل جزء إلى آخر الصلاة سبب لوجوب الجزء الذي يلاقيه ومحل لأدائه، وعلى هذا لا يرد أصل السؤال في العصر الممتد؛ لأن الجزء الذي طرأ عليه الفساد بالغروب وجب بسبب ناقص.(1/388)
بالفجر، يعني من شرع في الفجر ومدها إلى أن طلعت الشمس ينبغي أن لا يفسد كما في العصر إذا شرع في الوقت الكامل، ومدها إلى أن غربت، فإن الصورتين الشروع في الوقت الكامل فالفساد المعترض في العصر أن جعل عفوا ينبغي أن يجعل في الفجر عفوا بعين تلك العلة هذا إشكال اختلج في خاطري، ولم أذكر له جوابا في المتن فيخطر ببالي عنه جواب، وهو أن في العصر لما كان له شغل في الوقت فلا بد أن يؤدي البعض في الوقت الكامل والبعض في الوقت الناقص، وهو وقت الاحمرار فاعترض الفساد بالغروب على البعض الناقص فلا تفسد، وأما في الفجر فإن كل وقته كامل فيجب أداء الكل في الوقت الكامل، فإن شغل كل الوقت يجب أن يشغله على وجه لا يعترض الفساد بالطلوع على الكامل. "ولو لم يؤد فكل الوقت سبب في حق القضاء؛ لأن العدول عن الكل إلى الجزء في الأداء كان لضرورة وقد انتفت هنا" هذا البحث الذي ذكرناه، وهو أن بعض الوقت سبب إنما هو في الأداء أما إذا لم يؤد في الوقت ففي حق القضاء كل الوقت سبب؛ لأن الدلائل دالة على سببية كله لكن في الأداء عدلنا عن سببية الكل إلى سببية البعض لضرورة، وهي أنه يلزم حينئذ التقدم على السبب أو تأخر الأداء عن الوقت، وهذه الضرورة غير متحققة في القضاء. "فوجب القضاء بصفة الكمال" أي لا نقول إنه إذ لم يؤد في الوقت انتقلت السببية من أول الوقت إلى آخره فاستقرت السببية عليه في حق القضاء حتى يجب القضاء ناقصا في العصر فيجوز القضاء في وقت الغروب بل نقول الكل سبب للقضاء فيجب كاملا.
"ثم وجوب الأداء يثبت آخر الوقت إذ هنا توجه الخطاب حقيقة؛ لأنه الآن يأثم بالترك لا قبله حتى إذا مات في الوقت لا شيء عليه، ومن حكم هذا القسم أن الوقت لما لم يكن
................................................................................................
قوله: "ولو لم يؤد" فالسبب كل الوقت في حق القضاء إذ في حق الأداء السبب هو الجزء الملاصق واحدا فواحدا، إذ لو كان السبب في حق الأداء أيضا جميع الوقت لما ثبت الوجوب في الوقت، ولم يأثم المكلف بالترك على ما مر.
قوله: "فوجب القضاء بصفة الكمال" حتى لا يجوز قضاء العصر الفائت بحيث يقع شيء منه في وقت الكراهة فإن قيل السبب، وهو كل الوقت ناقص بنقصان البعض فينبغي أن يجوز ذلك قلنا: لما صار دينا في الذمة ثبت بصفة الكمال؛ لأن نقصان الوقت ليس باعتبار ذاته بل باعتبار كون العبادة فيه تشبها بالكفرة، فإذا مضى خاليا عن الفعل زالت مخليته، وبقيت سببيته فكان الوجوب ثابتا بسبب كامل، ولهذا يجب القضاء كاملا على من صار أهلا في آخر العصر كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله تعالى، وقد يجاب بأن الأجزاء الصحيحة أكثر فيجب القضاء كاملا ترجيحا للأكثر الصحيح على الأقل الفاسد.
قوله: "ثم وجوب الأداء يثبت آخر الوقت"، وهو ما إذا تضيق عليه الواجب بحيث لا يفضل عنه جزء من الوقت إذ يأثم بالتأخير عن ذلك الوقت لا يقال فالمؤدى في أول الوقت لا يكون إتيانا بالأداء الواجب وبالمأمور به؛ لأنا نقول بعد الشروع يجب الأداء، ويتوجه الخطاب على ما مر.(1/389)
متعينا شرعا، والاختيار في الأداء إلى العبد لم يتعين بتعيينه نصا إذ ليس له، وضع الشرائع، وإنما له الارتفاق فعلا فيتعين فعلا كالخيار في الكفارات، ومنه أنه لما كان الوقت متسعا شرع فيه غير هذا الواجب فلا بد من تعيين النية، ولا يسقط التعيين إذا ضاق الوقت بحيث لا يسع إلا لهذا الواجب" هذا جواب إشكال، وهو أن التعيين إنما وجب لاتساع الوقت فإذا ضاق الوقت ينبغي أن يسقط التعيين فقال. "لأن ما ثبت حكما أصليا" وهو وجوب التعيين بالنية، وقوله حكما منصوب على الحال "بناء على سعة الوقت لا يسقط بالعواض وتقصير العباد".
"وأما القسم الثاني" وهو أن يكون الوقت مساويا للواجب، ويكون سببا للوجوب. "فوقت الصوم وهو رمضان" أي نهار رمضان "شرط للأداء ومعيار للمؤدي؛ لأنه قدر وعرف به"، فإن الصوم مقدر بالوقت، وهذا ظاهر ومعرف بالوقت، فإنه الإمساك عن المفطرات الثلاث من الصبح إلى الغروب مع النية فالوقت داخل في تعريف الصوم. "وسبب للوجوب لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ومثل هذا الكلام للتعليل" ونظائره كثيرة، فإنه إذا كان الشيء خبرا للاسم الموصول، فإن الصلة علة للخبر، وقد ذكر غير مرة أنه إذا حكم على المشتق، فإن المشتق منه علة له وهنا كذلك؛ لأن قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة:185] معناه شاهد الشهر فالشهود علة. "ولنسبة الصوم إليه ولتكرره به ولصحة الأداء فيه للمسافر مع عدم
................................................................................................
قوله: "ومن حكم هذا القسم" وهو ما يكون الوقت فاضلا عن الواجب، ويسمى الواجب، الموسع أن لا يتعين بعض أجزاء الوقت بتعيين العبد نصا بأن يقول عينت هذا الجزء للسببية ولا قصدا بأن ينوي ذلك، وهذا يعلم بطريق الأولى، وذلك لأن تعيين الأسباب والشروط من وضع الشرائع، وليس للعبد ذلك، وإنما للعبد الارتفاق فعلا أي اختيار فعل فيه رفق، وليس ذلك بتعيين جزء؛ لأنه ربما لا يتيسر فيه الأداء بل له الاختيار في تعيينه فعلا بأن يؤدي الصلاة في أي جزء يريد فيتعين بذلك الفعل ذلك الجزء وقتا لفعله كما في خصال الكفارة فإن الواجب أحد الأمور من الإعتاق والكسوة والإطعام، ولا يتعين شيء منها بتعيين المكلف قصدا ولا نصا بل يختار أيها شاء فيفعله فيصير هو الواجب بالنسبة إليه، وفي هذا إشارة إلى ما هو المختار من أن الواجب في الموسع هو الأداء في جزء من الوقت، ويتعين بفعله وفي المخير هو أحد الأمور ويتعين بفعله لا كما يقال في الموسع إنه لا يجب في أول الوقت، وفي الآخر قضاء أو يجب في الآخر، وفي الأول نفل يسقط القضاء، وفي المخير أن الواجب هو الجميع ويسقط بفعل واحد أو الواجب بالنسبة إلى كل واحد شيء آخر وهو ما يفعله أو الواجب واحد معين لكنه يسقط به وبالآخر.
قوله: "لأنه" أي الصوم قدر بالوقت، ولهذا يزداد بازدياده وينتقص بانتقاصه وعرف به أي علم مقدار الصوم به كما يعلم مقادير الأوزان بالمعيار، وأما التعريف به بمعنى دخوله في تعريف الصوم على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى فلا دخل له في المعيار به إلا بتكلف.
قوله: "ومثل هذا الكلام للتعليل" أي الإخبار عن الموصول مشعر بعلية الصلة للخبر عن صلاحها لذلك، بخلاف قولنا الذي في الدار رجل عالم على أن الأظهر أن من هاهنا شرطية فتكون على السببية أدل.(1/390)
الخطاب، ومن حكمه أن لا يشرع فيه غيره فلهذا يقع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عن رمضان إذا نوى المسافر واجبا آخر؛ لأن المشروع في هذا اليوم هذا لا غير" إشارة إلى الصوم المخصوص برمضان. "في حق الجميع ولهذا يصح الأداء منه" أي من المسافر.
"لكنه رخص بالفطر، وذا لا يجعل غيره مشروعا فيه قلنا لما رخص فيه لمصالح بدنه فمصالح دينه، وهو قضاء دينه أولى، وإنما لم يشرع للمسافر غيره إن أتى بالعزيمة، وهنا لم يأت إذ صام واجبا آخر" جواب عما قالا إن المشروع في هذا اليوم في حق الجميع صوم رمضان لا غير فنقول لا نسلم أن المشروع في حق المسافر هذا لا غير مطلقا بل إن أتى المسافر بالعزيمة أما إذا أعرض عنها فلا نسلم ذلك. "ولأن وجوب الأداء ساقط عنه فصار هذا الوقت في حقه كشعبان فعلى الدليل الأول" وهو قوله فمصالح دينه وهو قضاء دينه أولى. "إن شرع في النفل يقع عن رمضان"؛ لأنه إذا شرع في واجب آخر إنما يقع عنه لمصالح دينه، فإن
................................................................................................
قوله: "ولنسبة الصوم" إلى الشهر كقولنا صوم رمضان، والأصل في الإضافة الاختصاص الأكمل، وهو أن يكون ثابتا به؛ لأن معنى الثبوت بالسبب سابق على سائر وجوه الاختصاص إلا أن وجود الفعل لا يصلح أن يكون ثابتا بالوقت لتوقفه على اختيار العبد فأقيم الوجوب الذي هو وجود شرعي ومفض إلى الوجود الحسي مقامه.
قوله: "ولصحة الأداء فيه" يعني أن السبب إما الوقت وإما الخطاب للإجماع أو لعدم الثالث، وليس هو الخطاب بدليل صحة صوم المسافر والمريض في الشهر مع عدم الخطاب في حقهما فتعين الوقت، ثم المختار عند الأكثرين أن الجزء الأول من كل يوم سبب لصومه؛ لأن صوم كل يوم عبادة على حدة منفردة بالارتفاع عند طريان الناقض كالصلوات في أوقاتها فيتعلق كل بسبب، ولأن الليل ينافي الصوم فلا يصلح سببا لوجوبه، وذهب الإمام السرخسي رحمه الله تعالى إلى أن السبب مطلق شهود الشهر على ما هو ظاهر من النص والإضافة فإن الشهر اسم للمجموع إلا أن السبب هو الجزء الأول منه لئلا يلزم تقدم الشيء على سببه، ولهذا يجب على من كان أهلا في أول ليلة من الشهر، ثم جن قبل الإصباح وأفاق بعد مضي الشهر حتى يلزمه القضاء، ولهذا يجوز نية أداء الفرض في الليلة الأولى مع عدم جواز النية قبل سبب الوجوب كما إذا نوى قبل غروب الشمس، وسببية الليل لا تقتضي جواز الأداء فيه كمن أسلم في آخر الوقت وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته" يدل على ذلك إذ ليس المراد حقيقة الرؤية إجماعا بل ما يثبت بها وهو شهود الشهر ولا لا جهة للتعبير بالرؤية عن الجزء الأول من كل يوم، وكل من هذه الوجوه وإن أمكن دفعه إلا أنها أمارات تفيد بمجموعها رجحان سببية شهود الشهر مطلقا.
قوله: "ولأن وجوب الأداء" عطف على مضمون الكلام السابق كأنه قال إذا نوى واجبا آخر يقع عنه؛ لأنه لما رخص إلخ، ولأن وجوب الأداء ساقط عنه فصار رمضان في حقه أي في حق المسافر بل في حق أدائه وتسليم ما عليه بمنزلة شعبان، وإنما قلنا في حق أدائه في حق نفس الوجوب ليس بمنزلة شعبان لتحقق سبب الوجوب فيه دون شعبان.(1/391)
قضاء ما فات أولى للمسافر من أداء رمضان؛ لأنه إن مات قبل إدراك عدة من أيام أخر لقي الله تعالى وعليه صوم القضاء، ولا يكون عليه صوم رمضان فإذا كان الوقوع عن واجب آخر لمصالح دينه ففيما إذا نوى النفل فمصالح دينه إنما هي أداء رمضان لا النفل. "وعلى الثاني" أي وعلى الدليل الثاني وهو أن الوقت بالنسبة إليه كشعبان "يقع عن النفل وهنا روايتان" أي بناء على هذين الدليلين في هذه المسألة روايتان.
"وإن أطلق فالأصح أنه يقع عن رمضان إذا لم يعرض عن العزيمة، وأما المريض إذا نوى واجبا آخر يقع عن رمضان لتعلق الرخصة بحقيقة العجز فإذا صام ظهر فوات شرط الرخصة فيه فصار كالصحيح، وفي المسافر قد تعلقت بدليل العجز وهو السفر فشرط الرخصة ثابت هنا" قوله ظهر فوات شرط الرخصة فيه، وفي هذا الكلام نظر؛ لأن المرخص هو المرض الذي يزداد بالصوم لا المرض الذي لا يقدر به على الصوم فلا نسلم أنه إذا صام ظهر فوات شرط الرخصة فصار كالصحيح. "وقال زفر" هذه مسألة ابتدائية لا تعلق لها بالمريض والمسافر، وهي أنه "لما صار الوقت متعينا له فكل إمساك يقع فيه يكون مستحقا على الفاعل". أي يكون حقا مستحقا لله تعالى على الفاعل كالأجير الخاص، فإن منافعه حق المستأجر. "فيقع الفرض وإن لم ينو كهبة كل النصاب من الفقير بغير النية قلنا هذا يكون جبرا
................................................................................................
قوله: "وهنا روايتان" روى ابن سماعة أنه يقع عن الفرض وهو الأصح، وروى الحسن أنه يقع عن النفل هذا إذا نوى النفل، وإن أطلق النية فقيل يقع عن الفرض على مقتضى رواية ابن سماعة في نية النفل وعن النفل على مقتضى رواية الحسن، والأصح أنه يقع عن الفرض على جميع الروايات؛ لأنه لما لم يعرض عن فرض الوقت بصريح نية النفل فانصرف إطلاق النية منه إلى صوم الوقت كالمقيم، فإن قيل فكيف جاز ترك الدليل الثاني بالكلية قلنا؛ لأن الوقت إنما يصير بمنزلة شعبان إذا تحقق منه الإعراض عن العزيمة، وذلك بنية صريح النفل أو واجب آخر.
قوله: "وفي هذا الكلام نظر" جوابه أن الكلام في المريض الذي لا يطيق الصوم، وتتعلق الرخصة بحقيقة العجز، وأما الذي يخاف فيه ازدياد المرض فهو كالمسافر بلا خلاف على ما يشعر به كلام الإمام السرخسي في المبسوط من أن قول الكرخي بعدم الفرق بين المسافر والمريض سهو أو مؤول بالمريض الذي يطيق الصوم ويخاف منه ازدياد المرض.
قوله: "وقال زفر" عطف على قوله يقع عند أبي يوسف، وهذا ابتداء تفريع آخر على تعيين الوقت في الصوم، ومحل الخلاف ما إذا أمسك الصحيح المقيم في نهار رمضان، ولم تحضره النية فعند زفر يكون صوما واقعا عن الفرض؛ لأن الأمر المتعلق بالفعل في محل معين، وإن كان دينا باعتبار ذاته بمعنى أنه يجب إيجاده لكنه أخذ حكم المعين المستحق باعتبار الوجود، فعلى أي وصف وجد يقع عن المأمور به كرد الوديعة والغصب، وهذا كما إذا استأجر خياطا ليخيط له ثوبا كان فعله واقعا عن جهة ما استحق عليه سواء قصد به التبرع أو أداء ما وجب عليه بالعقد، وقيد الأجير بالخاص؛ لأن المستحق في الأجير للمشترك هو الوصف الذي يحدث في الثوب لا منافع الأجير، وكما إذا(1/392)
والشرع عين الإمساك الذي هو قربة لهذا" أي لصوم رمضان. "ولا قربة بدون القصد، وقال الشافعي رحمه الله تعالى لما كان منافعه على ملكه" لا أن منافعه صارت حقا لله جبرا لا بد من التعيين لئلا يصير جبرا في صفة العبادة قلنا نعم لكن الإطلاق في المتعين تعيين هذا قول بموجب العلة أي تسليم دليل المعلل مع بقاء الخلاف على ما يأتي فحاصله أنا نسلم أن التعيين واجب لكن نقول الإطلاق في المتعين تعيين، فإنه إذا كان في الدار زيد وحده فقال آخر يا إنسان فالمراد به زيد. "ولا يضر الخطأ في الوصف" بأن نوى النفل أو واجبا آخر وهو صحيح مقيم "لأن الوصف لم يكن مشروعا يبطل فبقي الإطلاق وهو تعيين وقال" أي الشافعي رحمه الله تعالى "لما وجب التعيين وجب من أوله إلى آخره؛ لأن كل جزء يفتقر إلى النية فإذا عدمت في البعض فسد ذلك فيفسد الكل لعدم التجزي" أي لعدم تجزي الصوم صحة وفسادا، فإنه إذا فسد الجزء الأول من الصوم شاع وفسد الكل. "والنية المعترضة لا تقبل التقدم
................................................................................................
وهب كل النصاب من الفقير بغير نية الزكاة فإنه يخرج عن العهدة فإن قيل: إيتاء مائتي درهم إلى الفقير بنية الزكاة لا يصح عند زفر فكيف بالهبة قلنا المراد الهبة متفرقة أو الفقير المديون أو الكلام إلزامي، والجواب أن تغيير الوقت للصوم لا يجوز أن يكون استحقاقا لمنافع العبد وإمساكاته عليه؛ لأنه حينئذ يكون جبر العدم اختيار العبد في صرفها فلا يصلح عبادة وقربة؛ لأنها الفعل الذي يقصد به العبد التقرب إلى الله تعالى ويصرفه عن العادة إلى العبادة باختياره، فإن قيل فما معنى تعيين الشرع إمساك العبد في هذا الوقت لصوم رمضان قلنا: معناه أنه عين إمساكه الذي يكون قربة؛ لأن يكون صوم رمضان لا صوما آخر، والإمساك بوصف القربة لا يتحقق بدون النية إذ لا قربة بدون القصد فإن قيل: فإذا كانت المنافع على ملك العبد غير مستحقة عليه فلم لم يجز صرفها إلى صوم آخر قلنا لعدم مشروعية صوم آخر في ذلك الوقت كما في الليل مع القطع بأنه لا استحقاق فيه أصلا فظهر بما ذكرنا أن الاعتراض بأن الإمساك اختياري لا جبري إنما ينشأ من عدم تحقيق معنى الكلام، وأما هبة النصاب فإنما صارت زكاة من جهة أنها عبادة تصلح أن تكون مجازا من الصدقة بناء على أن المبتغى بها وجه الله تعالى لا عوض من الفقير، وذكر الإمام السرخسي رحمه الله تعالى أن معنى القصد حصل باختيار المحل، ومعنى القربة بحاجة المحل لحصول الثواب بمجرد الهبة من الفقير، ولهذا لا يملك الرجوع.
قوله: "وقال الشافعي رحمه الله تعالى" لما كانت منافع العبد على ملكه من غير أن تصير مستحقة لله تعالى على العبد لزم تعيين نية الفرض لئلا يلزم الجبن في صفة العبادة بأن يكون إمساكه على قصد القربة للعبادة المفروضة شاء العبد أو أبى، وتحقيق ذلك أن وصف العبادة أيضا عبادة، ولهذا يختلف ثوابا فكما لا بد لصيرورة الفعل قربة من النية كذلك لا بد لصيرورة القربة فرضا أو نفلا منها احترازا عن الجبر، وتعيين المحل إنما يكفي للتمييز لا لنفي الجبر وإثبات القصد، وأما تأدي فرض الحج بدون التعيين فإنما ثبت على خلاف القياس، فعلى هذا لا يتأدى فرض الصوم بنية التطوع أو واجب آخر أو مطلق النية، ولو في الصحيح المقيم، والجواب أنا نسلم وجوب التعيين إلا(1/393)
قلنا لما صح بالنية المتقدمة المنفصلة عن الكل فلأن يصح بالمتصلة بالبعض أولى" جواب عن قوله أن النية المعترضة لا تقبل التقدم واعلم أولا أن الاستناد هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقرى حتى يحكم بثبوته في الزمان المتقدم كالمغصوب
................................................................................................
أنا لا نسلم أنه لا يحصل التعيين بإطلاق النية، فإن الإطلاق في المتعين تعيين كما إذا كان في الدار زيد وحده، وقلت يا إنسان تعين هو للإحضار وطلب الإقبال فكذا هاهنا لما لم يشرع في الوقت إلا الصوم الفرض ونويت مطلق الصوم تعين هو للإيجاد وطلب الحصول، فإن قيل سلمنا ذلك في إطلاق النية لكن ينبغي أن لا يحصل بالخطأ في الوصف بأن ينوي النفل أو واجبا آخر كما لا يقال زيد باسم عمرو قلنا لما نوى الأصل والوصف، والوقت قابل للأصل دون الوصف، وليس من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل بل الأمر بالعكس اقتصر البطلان على الوصف، وبقي إطلاق أصل الصوم.
فإن قلت الوصف هاهنا لازم ضرورة أن الصوم لا يوجد بدون وصف، ولم يوجد هاهنا سوى النفل فبطلانه يقتضي بطلان الأصل ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم بل الأصل والوصف، وإن تغايرا بحسب المفهوم فهما واحد بحسب الوجود فبطلان أحدهما بطلان الآخر قلت: اللازم أحد الأوصاف لا على التعيين فبطلان وصف معين لا يوجب انتفاء الأصل لجواز أن يوجد مع وصف آخر كالفرض هاهنا، ثم إنها أوصاف راجعة إلى اعتبار الشارع فله أن يحكم ببطلان الوصف بمعنى انتفاء وصف النفاية عن الصوم لا بمعنى أنه ينتفي الشيء الذي هو نفل ليكون نفيا للصوم فإن قلت: نية النفل إعراض عن الفرض لما بينهما من المنافاة فيصير بمنزلة ترك النية قلت الإعراض إنما ثبت في ضمن نية النفل، وقد لغت فيلغو ما في ضمنها، وقد يجاب عن أصل استدلاله بأنا لا نسلم أن وصف العبادة يكون بقصد العبد بل هو إلزام من الله تعالى فإن الغرض اسم لما ألزمنا الله تعالى إياه، وثبت ذلك بطريق قطعي، بخلاف أصل العبادة فإنه اسم لما يحصل على سبيل الإخلاص لله تعالى، وذلك بالنية بأن يقصد بقلبه توجيه فعله إلى الله تعالى وحده، فإذا وجد الإمساك المقرون بالنية كان عبادة، ثم اتصافه بصفة الفرضية لا يكون بفعل العبد بل بوجود الإلزام من الله تعالى فنية النفل أو واجبا آخر لا يسقط الفرضية الثابتة في نفس الأمر إذ لا أثر لظنه أن اللازم ليس بلازم كالمولود الثاني يتصف بالأخوة، وإن ظن الناس أنه ليس بأخ بناء على أن أمه لم تلد مولودا آخر ظنا فاسدا.
قوله: "فيفسد الكل لعدم التجزي" لا يقال صح البعض فيصح الكل لعدم التجزي؛ لأنا نقول الصحة وجودي فنفتقر إلى صحة جميع الأجزاء، بخلاف الفساد، وأيضا ترجيح الفساد في باب العبادات أحوط.
قوله: "والنية المعترضة" يعني أن اقتران النية بجميع الأجزاء متعذر وبأول الأجزاء متعسر وحرج فلا بد من التقديم عليه بأن يعزم في الليل أنه يمسك لله تعالى من الفجر إلى الغروب ولا يطرأ عليه عزم على الترك فيعتبر استدامته كالنية في أول الصلاة تجعل باقية إلى آخرها، وأما النية المعترضة في خلال الصوم فلا تقبل التقديم على ما مضى من الإمساكات؛ لأن الشيء إنما يعتبر(1/394)
فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان مستندا إلى وقت الغصب حتى إذا استولد الغاصب المغصوبة فهلكت فأدى الضمان يثبت النسب من الغاصب فالشافعي رحمه الله تعالى يقول: إذا اعترض النية في النهار لا يمكن تقدمه إلى الفجر بطريق الاستناد؛ لأن الاستناد إنما يمكن في الأمور الثابتة شرعا كالملك ونحوه، وأما في الأمور الحسية والعقلية فلا يمكن الاستناد، وهنا صحة الصوم متعلقة بحقيقة النية وهي أمر وجداني فإذا كان حاصلا في وقت لا يكون حاصلا قبل ذلك الوقت ألا يرى أنها لا تستند إذا اعترضت النية بعد الزوال، وكما في صوم القضاء فإذا لم تستند بقي البعض بلا نية. فنجيب بأنا لا نقول إن النية المعترضة تثبت في الزمان المتقدم بطريق الاستناد بل نقول إن النية في الزمان المتقدم متحققة تقديرا، فإن الأصل هو مقارنة العمل بالنية فإذا نوى في أول الليل فجعلها الشرع مقارنة للعمل تقديرا فكذا هنا، وأيضا إذا كان الأكثر مقرونا بالنية، وللأكثر حكم الكل يكون الكل مقارنا بالنية تقديرا فلهذا قال.
"وتكون تقديرية لا مستندة والطاعة قاصرة في أول النهار؛ لأن الإمساك في أول النهار عادة الناس فيكفيها النية التقديرية" فلا نقول إن الجزء الأول من الصوم إذا خلا عن النية فسد، ويشيع ذلك الفساد، ولا يعود صحيحا باعتراض النية بل نقول إن الجزء الأول لم يفسد بل موقوفة، فإن وجدت النية في الأكثر علم أن
................................................................................................
حكما إذا تصور حقيقة كالنية في خلال الصلاة لا تعتبر متقدمة، وحاصل الجواب أنا لا نجعل النية المتأخرة متقدمة بل نجعل النية المعدومة في الزمان المتقدم المقارنة لبعض أجزاء اليوم متحققة تقديرا كما أن النية المتقدمة التي لا تقارن شيئا من أجزاء اليوم تعتبر مقارنة لها تقديرا، ولا خفاء في أنه لما صح الصوم بالنية المنفصلة عن جميع الأجزاء فلأن يصح بالنية المتصلة بالبعض أولى لكن جعل النية بالليل أفضل لما فيه من الاحتياط والمسارعة إلى الامتثال، فإن قيل المعدوم المسبوق بالوجود يمكن أن يقدر تحققه بأن يجعل وجوده في حكم الباقي بل ربما يمنع طريان العدم على النية المتقدمة بالليل، فإن من عزم على فعل يجعل عازما عليه ما لم يفرغ عنه أو لم يعزم على تركه، وأما المعدوم بالعدم الأصلي فلا معنى لتقدير تحققه قلنا كما أن المنقضي يجعل كائنا تقديرا فكذلك الآتي؛ لأنه بصدد الكون، وأيضا يجعل الاقتران ببعض الأجزاء بمنزلة الاقتران بالكل؛ لأنه من حيث كونه صوما جملة الإمساكات في اليوم شيء واحد فالمقترن بجزء منه مقترن بالكل حكما، وأيضا للأكثر حكم الكل في كثير من الأحكام فيجعل اقتران الأكثر بالنية بمنزلة اقتران الكل بها فإن قيل: البعض الأول يفسد قبل أن تقترن به النية، وبعد الفساد لا يعود صحيحا قلنا لا بل تتوقف الإمساكات المتقدمة لصلوحها للصوم، فإن صادفت نية في الأكثر صارت صوما، وإلا فسدت، فإن قيل لو كان الاقتران بالبعض كافيا لصح الصوم بنية بعد نصف النهار قلنا يجب أن يكون ذلك البعض مما له حكم الكل من وجه ليكون الاقتران في حكم الاقتران بالكل.(1/395)
النية التقديرية كانت موجودة في الأول، والنية التقديرية كافية في الجزء الأول لقصور العبادة فيه، وإن لم توجد في الأكثر علم أن النية التقديرية لم تكن موجودة في الأول. "على أنا نرجح بالكثرة؛ لأن للأكثر حكم الكل، وهذا الترجيح الذي بالذات أولى من ترجيحه بالوصف على ما يأتي في باب الترجيح" اعلم أنا نرجح البعض الذي وجد فيه النية على البعض الذي لم توجد فيه النية بالكثرة والشافعي رحمه الله تعالى يرجح على العكس بوصف العبادة، فإن العبادة لا تصلح بدون النية فيفسد ذلك البعض فيشيع الفساد إلى البعض الذي وجد فيه النية فيرجع البعض الفاسد على البعض الصحيح بوصف العبادة، ونحن نرجح البعض الصحيح على البعض الفاسد الذي لم توجد فيه النية بالكثرة، وترجيحنا ترجيح بالذاتي؛ لأنا نرجح بالإجزاء، وترجيحه بالوصف غير الذاتي، وهو وصف العبادة.
فإن قيل في التقديم ضرورة، فإن محافظة وقت الصبح متعذرة جدا فالتقديم الذي لا يعترض عليه المنافي كالاتصال قلنا: وفي التأخير أيضا ضرورة كما في يوم الشك؛ لأن تقديم نية الفرض حرام، ونية النفل لغو عندكم فيثبت الضرورة، وأيضا الضرورة لازمة في غير يوم الشك أيضا إذا نسي النية في الليل أو نام أو أغمي عليه، ولأن صيانة الوقت الذي لا درك له أصلا واجبة حتى أن الأداء مع النقصان أفضل من القضاء بدونه، وعلى هذا الوجه لا كفارة، ويروى هذا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى اعلم أنه لما أقام الدليلين على صحة الصوم المنوي نهارا أولهما قوله لما صح بالنية المنفصلة، وثانيهما قوله، ولأن صيانة الوقت الذي إلخ، والدليل الثاني يشعر بأن الصوم المنوي نهارا إنما يصح ضرورة أن الصيانة واجبة فعلى
................................................................................................
قوله: "والطاعة قاصرة في أول النهار" لقلة مخالفة الهوى بناء على عدم اعتياد الأكل فيه فترك الأكل والشرب فيه خارج مخرج العادة لا مشقة فيه، وابتداء كمال الطاعة من الضحوة الكبرى.
قوله: "وفي التأخير أيضا ضرورة" فإن قيل ضرورة التقديم عامة في حق الجميع، وضرورة التأخير مختصة بالبعض وفي بعض الأحيان، وبناء الأحكام على الأعم الأغلب دون القليل النادر قلنا: إنما سوينا في أصل الحاجة لا في قدرها، والخاص في مواضعه كالعام في مواضعه، وضرورة التأخير ليست من النادر الذي لا يبتني عليه الأحكام بل هي كثيرة في نفسها، وإن كانت قليلة بالإضافة إلى ضرورة التقديم، فإن قيل ضرورة التأخير لا تختص بما قبل نصف النهار قلنا نعم إلا أن فيما قبل نصف النهار يترك الكل إلى خلف وهو الأكثر، وفيما بعده يفوت الأصل، والخلف جميعا فيفوت الصوم؛ لأن الأقل بمقابلة الأكثر في حكم العدم، واعلم أن المراد بنصف النهار هاهنا هو الضحوة الكبرى؛ لأنها نصف النهار الصومي أعني من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأما الزوال فهو نصف النهار باعتبار طلوع الشمس إلى غروبها، والمختار أنه لو نوى قبيل الزوال بعد الضحوة الكبرى لم يصح لعدم مقارنة النية لأكثر النهار الصومي.
قوله: "خلافا للشافعي" رحمه الله تعالى المختار من مذهبه على ما هو المسطور في الكتب أنه يجوز النفل بنية قبل الزوال بشرط الإمساك والأهلية في أول النهار أيضا، وأنه يكون صائما من(1/396)
وأما القسم الثالث
فالوقت معيار لا سبب كالكفارات، والنذور المطلقة، والقضاء، وحكمه أنه لما لم يكن الوقت متعينا لها كان الصوم من عوارض الوقت فلا بد من التبييت في غير رمضان كالفرض في رمضان فتكفي النية في الأكثر.
ـــــــ
هذا الدليل لا تجب الكفارة إذا أفسده. "ومن حكمه" أي من حكم هذا القسم، وهو أن يكون الوقت معيارا للمؤدى. "أن الصوم مقدر بكل اليوم فلا يقدر النفل ببعضه" أي ببعض النهار خلافا للشافعي رحمه الله، فإن عنده إذا نوى النفل من النهار يكون صومه من زمان النية، وإن كان بعد الزوال. "ومن هذا الجنس" أي من جنس صوم رمضان. "المنذور في الوقت المعين يصح بالنية المطلقة، ونية النفل لكن إن صام عن، واجب آخر يصح عنه؛ لأن تعيينه مؤثر في حقه وهو النفل لا في حق الشارع"، فإن الوقت صار متعينا بتعيين الناذر فتعيينه صار مؤثر في حقه، وهو النفل حتى يقع عن المنذور بسبب أن الوقت متعين للمنذور بتعيينه لكن لا يؤثر في حق الشارع أي إن نوى واجبا آخر لا يقع عن المنذور.
"وأما القسم الثالث فالوقت معيار لا سبب كالكفارات، والنذور المطلقة، والقضاء، وحكمه أنه لما لم يكن الوقت متعينا لها كان
................................................................................................
أول اليوم وينال ثواب صوم الجميع كمن أدرك الإمام في الركوع.
قوله: "ومن هذا الجنس" يعني لو نذر صوم رجب أو صوم يوم الخميس مثلا فهذا الصوم، وإن كان من القسم الثالث من جهة أن الوقت معيار لا سبب إلا أنه من جنس صوم رمضان في تعيين الوقت لذلك الصوم حتى يتأدى بمطلق النية وبنية النفل لكن لا يتأدى بنية واجب آخر؛ لأن تعيين وقت المنذور إنما حصل بتعيين من الناذر لا بتعيين الشارع فيؤثر فيما هو حق الناذر كالنفل حتى ينصرف إلى ما تعين له الوقت، ولا يؤثر فيما هو حق الشارع، وهو الواجب الآخر فلا ينصرف إلى المنذور بل يقع عما نوى، فإن قلت قد قيدوا، النذر في أمثلة القسم الثالث بأن يكون مطلقا غير معين، وجعلوا حكم القسم الثالث أن الوقت لما لم يكن متعينا للصوم افتقر إلى نية من الليل، وهذا مشعر بأن المنذور المعين ليس من القسم الثالث ولا خفاء في أن الوقت فيه ليس بسبب، وإنما السبب هو النذر فلا يكون من القسم الثاني أيضا بل قسما برأسه فلا تنحصر الأقسام في الأربعة قلنا: ليس من القسم الثالث إلا ما يكون الوقت فيه معيارا لا سببا، ولا شك أن المنذور المعين كذلك لكنه لما كان شبيها بالقسم الثاني في تعيين الوقت، وقد بينوا حكمه اقتصروا في أمثلة القسم الثالث وأحكامه على ما لا يكون له شبه بالقسم الثاني فقيدوا النذر بالمطلق لا يقال الوقت في المنذور المعين شرط، وفي القسم الثالث معيار لا غير، وذلك لأن النهار داخل في مفهوم الصوم فلا يكون شرطا، والنهار المعين خارج يتوقف عليه الأداء في المنذور المعين فيكون شرطا فيه دون المطلق؛ لأنا نقول عدم شرطية الوقت ليس بمعتبر في القسم الثالث على ما مر من أنه عبارة عما يكون الوقت معيارا لا سببا من غير تعرض لكونه شرطا أو غير شرط.(1/397)
وأما القسم الرابع
وهو الحج فيشبه الظرف ; لأن أفعاله لا تستغرق أوقاته، ويشبه المعيار ; لأنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد، ولأن وقته العمر فيكون ظرفا حتى إن أتى به بعد العام الأول يكون أداء بالاتفاق لكن عند أبي يوسف رحمه الله تعالى يجب مضيقا لا يجوز تأخيره عن العام الأول، وهو لا يسع إلا حجا واحدا فيشبه المعيار، وعند محمد رحمه الله تعالى يجوز بشرط أن لا يفوته ، قال
ـــــــ
الصوم من عوارض الوقت فلا بد من التبييت" أي من النية في الليل بخلاف صوم رمضان والنذر المعين، فإن الوقت متعين فتكفي النية الحاصلة في الأكثر، وتكون النية التقديرية حاصلة في أول النهار بناء على تعيين الوقت، فإن تعيين الوقت يوجب كونه صائما، وهنا لم يتعين الوقت فوجبت النية الحقيقية في أول النهار.
وأما النفل فهو المشروع الأصلي في غير رمضان كالفرض في رمضان فتكفي النية في الأكثر وأما القسم الرابع وهو الحج فيشبه الظرف؛ لأن أفعاله لا تستغرق أوقاته، ويشبه المعيار؛ لأنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد، ولأن وقته العمر فيكون ظرفا حتى إن أتى به بعد العام الأول يكون أداء بالاتفاق لكن عند أبي يوسف رحمه الله تعالى يجب مضيقا لا يجوز تأخيره عن العام الأول، وهو لا يسع إلا حجا واحدا فيشبه المعيار، وعند محمد رحمه الله تعالى يجوز بشرط أن لا يفوته قال الكرخي هذا بناء على الخلاف الذي بينهما في أن الأمر المطلق أيوجب الفور أم لا، وعند عامة مشايخنا رحمهم الله تعالى أن أمر المطلق لا يوجب الفور اتفاقا بيننا فمسألة الحج مبتدأة فقال محمد رحمه الله تعالى لما كان الإتيان به في العمر أداء إجماعا علم أن كل العمر وقته كقضاء الصلاة والصوم وغيرهما، وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لما وجب عليه لا يسعه أن يؤخره؛ لأن الحياة إلى العام القابل مشكوكة حتى إذا أدرك القابل زال ذلك الشك فقام مقام الأول بخلاف قضاء الصلاة والصوم،
................................................................................................
قوله: "وأما النفل" جواب سؤال تقريره أن عدم تعين الوقت لو كان موجبا للتبييت لما صح النفل بنية من النهار، فأجاب بأن المشروع الأصلي في غير رمضان هو صوم النفل كالفرض في رمضان فيكفي اقتران النية بالأكثر، وتحقيقه أن الإمساكات الغير المقترنة بالنية تكون موقوفة لأجل ما هو مشروع الوقت، وهو الفرض في رمضان والنذر في يوم النذر المعين، والنفل في غير ذلك، وأما الواجبات الأخر فإنما هي من المحتملات، فإذا صادفت قبل نصف النهار نية ما هو من مشروعات الوقت ومتعيناته انصرفت إليه، وإلا فلا يصح الفرض والنذر المعين والنفل بنية من النهار، بخلاف سائر الواجبات.
قوله: "وأما القسم الرابع" من الموقت فهو الحج، فإن وقته مشكل في الزيادة والمساواة، وبيان ذلك من وجهين أحدهما بالنسبة إلى سنة الحج، وذلك أن وقته يشبه الظرف من جهة أن أركان الحج لا تستغرق جميع أجزاء وقت الحج كوقت الصلاة، ويشبه المعيار من جهة أنه لا يصح في عام واحد(1/398)
الكرخي رحمه الله: هذا بناء على الخلاف الذي بينهما في أن الأمر المطلق أيوجب الفور أم لا، وعند عامة مشايخنا رحمهم الله تعالى أن أمر المطلق لا يوجب الفور اتفاقا بيننا فمسألة الحج مبتدأة فقال محمد رحمه الله تعالى لما كان الإتيان به في العمر أداء إجماعا علم أن كل العمر وقته كقضاء الصلاة والصوم وغيرهما، وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لما وجب عليه لا يسعه أن يؤخره ; لأن الحياة إلى العام القابل
ـــــــ
فإن الحياة إلى اليوم الثاني غالبة فاستوت الأيام كلها، فإن قيل لما تعين العام الأول ينبغي أن لا يشرع فيه النفل قلنا إنما عينا احتياطيا احترازا عن الفوت فظهر ذلك في حق الاسم فقط لا في أن يبطل اختيار جهة التقصير والإثم أي لما كان الحج فرض العمر كان الأصل أن لا يتعين بالعام الأول، وإنما عينا احتياطا لئلا يفوت ويظهر أثر هذا التعيين في الإثم فقط أي إن أخر عن العام الأول، ثم مات ولم يدرك الحج كان آثما لكن لا يظهر أثر التعيين في بطلان اختياره لما اختار جهة التقصير والإثم بأن أدرك الوقفة ولم ينو حجة الإسلام بل نوى النفل.
"وإذا كان هذا الوقت يشبه المعيار، ولكنه ليس بمعيار لما قلنا، ولأن أفعاله غير مقدرة
................................................................................................
إلا حج واحد كالنهار للصوم، وثانيهما بالنسبة إلى سني العمر، وذلك لأن وقته العمر وهو فاضل على الواجب حتى لو أتى به في العام الثاني كان أداء بالاتفاق لوقوعه في الوقت إلا أنه عند أبي يوسف رحمه الله يجب مضيقا حتى لا يجوز تأخيره عن العام الأول، وهو لا يسع إلا حجا واحدا فأشبه المعيار من جهة أنه لا يسع واجبين من جنس واحد، وعند محمد رحمه الله تعالى يجوز تأخيره عن العام الأول بشرط أن لا يفوته، فإن عاش أدى، وكانت أشهر الحج من كل عام صالحة للأداء كإجزاء الوقت في الصلاة، وإن مات تعينت الأشهر من العام الأول كالنهار للصوم فثبت الإشكال، فإن قلت كلامهما في هذه المسألة أشكل من وقت الحج؛ لأنه لما تضيق الواجب في العام الأول بحيث لم يجز تأخيره عنه على قول أبي يوسف تعين أن وقته العام الأول لا جميع العمر فكيف يكون في العام الثاني أداء، ولما ثبت التوسع وجاز التأخير على قول محمد رحمه الله تعالى تعين أن وقته جميع العمر فكيف يأثم بالموت في العام الثاني قلت حكم أبو يوسف رحمه الله تعالى بالتضييق للاحتياط لا لانقطاع التوسع بالكلية، ولهذا جاز أداؤه في العام الثاني، وحكم محمد رحمه الله تعالى بالتوسع لظاهر الحال في بقاء الإنسان لا لانقطاع التضييق بالكلية فلهذا يأثم بالتأخير لو مات العام الثاني فثبت أن وقته يشبه كلا من الظرف والمعيار عندهما رحمهما الله تعالى إلا أن الأظهر الراجح في الاعتبار هو المعيارية عند أبي يوسف والظرفية عند محمد رحمه الله تعالى.
قوله: "احترازا عن الفوت" يعني أن التعيين هنا ثبت بعارض خوف الموت لا أنه أمر أصلي فأثر التعيين إنما يظهر في حرمة التأخير وحصول الإثم لا في انتفاء شرعية النفل، بخلاف تعين رمضان للفرد، فإنه أمر أصلي ثبت بتعيين الشارع فيظهر أثره في الاسم وعدم جواز النفل جميعا.
قوله: "لكنه ليس بمعيار" لما ذكرنا من أن أفعال الحج لا تستغرق جميع أجزاء وقته، ولأن(1/399)
مشكوكة حتى إذا أدرك القابل زال ذلك الشك فقام مقام الأول بخلاف قضاء الصلاة والصوم، فإن الحياة إلى اليوم الثاني غالبة فاستوت الأيام كلها، فإن قيل لما تعين العام الأول ينبغي أن لا يشرع فيه النفل قلنا إنما عينا احتياطيا احترازا عن الفوت الإثم ويظهر أثر هذا التعيين في الإثم فقط أي إن أخر عن العام الأول، ثم مات ولم يدرك الحج كان آثما لكن لا يظهر أثر التعيين في بطلان اختياره لما اختار جهة التقصير والإثم وإذا كان هذا الوقت يشبه المعيار، ولكنه ليس بمعيار لما قلنا، ولأن أفعاله غير مقدرة بالوقت فإن تطوع وعليه حجة الإسلام يصح، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقع عن
ـــــــ
بالوقت" بخلاف الصوم، فإنه مقدر بالوقت، فإن المعيار هو ما يقدر الشيء به كالمكيال ونحوه. "فإن تطوع" هذا جواب إذا في قوله: وإذا كان هذا الوقت "وعليه حجة الإسلام يصح، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقع عن الفرض إشفاقا عليه، فإن هذا" أي التطوع، وعليه حجة الإسلام "من السفه فيحجر عليه" أي إذا نوى التطوع يحجر عن نية التطوع فبطلت نيته فبقيت النية المطلقة، وهي كافية. "على أنه يصح بإطلاق النية، وبلا نية كمن أحرم عنه أصحابه، وهو مغمى عليه قلنا: الحجر يفوت الاختيار، ولا عبادة بدونه أما الإطلاق ففيه دلالة التعيين إذ الظاهر أن لا يقصد النفل، وعليه حجة الإسلام، والإحرام غير مقصود" جواب عن قوله كمن أحرم عنه أصحابه. "بل هو شرط عندنا كالوضوء فيصح بفعل غيره بدلالة الأمر"، فإن عقد الرفاقة دليل الأمر بالمعاونة.
فصل
هذا الفصل في أن الكفار هل يخاطبون بالشرائع أم لا، وهو غير مذكور في أصول الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى، ولما كان مهما نقلته من أصول الإمام شمس الأئمة. "ذكر الإمام السرخسي لا خلاف في أن الكفار يخاطبون بالإيمان، والعقوبات، والمعاملات،
................................................................................................
أفعال الحج غير مقدرة بالوقت يعني أن كل واحد من الوقوف والطواف والسعي والرمي لم يقدر بأن يكون من وقت كذا إلى وقت كذا كما قدر الصوم بكونه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإذا لم يقدر بالوقت لم يكن الوقت معيارا، فإن قلت أي فرق بين الدليلين قلت الأول استدلال بعدم اللازم على عدم الملزوم، والثاني استدلال بعدم الحد على عدم المحدود، ولا يخفى أن مسألة صحة التطوع مبنية على أن الوقت ليس بمعيار من غير أن يكون لشبهه بالمعيار مدخل في ذلك فذكره في مضمون الشرط ليس كما ينبغي.
قوله: "فصل" في أن الكفار هل يخاطبون بالشرائع أم لا، وهو مذكور في آخر أصول فخر الإسلام رحمه الله تعالى في بيان الأهلية حيث قال: الكافر أهل أحكام لا يراد بها وجه الله تعالى؛ لأنه أهل لأدائها فكان أهلا للوجوب له وعليه، ولما لم يكن أهلا لثواب الآخرة لم يكن(1/400)
الفرض إشفاقا عليه، فإن هذا من السفه فيحجر عليه على أنه يصح بإطلاق النية، وبلا نية كمن أحرم عنه أصحابه، وهو مغمى عليه قلنا: الحجر يفوت الاختيار، ولا عبادة بدونه أما الإطلاق ففيه دلالة التعيين إذ الظاهر أن لا يقصد النفل، وعليه حجة الإسلام، والإحرام غير مقصود بل هو شرط عندنا كالوضوء فيصح بفعل غيره بدلالة الأمر.
ـــــــ
وبالعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42]" الآية.
اعلم أن الكفار مخاطبون بالثلاثة الأول مطلقا إجماعا أما بالعبادات فهم مخاطبون بها في حق المؤاخذة في الآخرة اتفاقا أيضا لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:42-44] وأما في حق وجوب الأداء في الدنيا فمختلف فيه كما ذكر في المتن، وهو قوله "أما في حق وجوب الأداء" فكذا عند العراقيين من مشايخنا رحمهم الله تعالى؛ لأنه لو لم يجب لا يؤاخذون على تركها، ولأن الكفر لا يصلح مخففا، ولا يضر كونها غير معتد بها مع الكفر. "جواب إشكال وهو أن العبادات لما لم تكن
................................................................................................أهلا لوجوب شيء من الشرائع التي هي طاعة الله تعالى فكان الخطاب بها موضوعا عنه عندنا، ولزمه الإيمان بالله تعالى لما كان أهلا لأدائه ووجوب حكمه، ولم يجعل مخاطبا بالشرائع بشرط تقديم الإيمان؛ لأنه رأس أسباب أهلية أحكام نعيم الآخرة فلم يصح أن يجعل شرطا مقتضى، وقيل إن ترجمة الفصل بما ذكر خطأ، فإن الصلاة غير صحيحة من الكافر، وهو منهي عنها فكيف يكون مخاطبا بها بل الترجمة الصحيحة أن الكفار هل يخاطبون بالتوصل إلى فروع الإيمان، وقد يقال إن ترجمته هو أن حصول الشرط الشرعي لصحة الشيء كالإيمان لصحة العبادات والطهارة لصحة الصلاة، وهل هو شرط في التكليف بوجوب أدائه أم لا، ثم صوروا المسألة في جزئي من جزئياته، وهو تكليف الكافر بالفروع تسهيلا للمناظرة.
قوله: "في حق المؤاخذة في الآخرة" متعلق بالعبادات خاصة، ومعناه أنهم يؤاخذون بترك الاعتقاد؛ لأن موجب الأمر اعتقاد اللزوم والأداء، وأما في حق وجوب الأداء في الدنيا فمذهب العراقيين أن الخطاب يتناولهم وأن الأداء واجب عليهم وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وعند عامة مشايخ ديار ما وراء النهر أنهم لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط وإليه ذهب القاضي أبو زيد والإمام السرخسي وفخر الإسلام رحمهم الله تعالى وهو المختار عند المتأخرين، ولا خلاف في عدم جواز الأداء حال الكفر ولا في عدم وجوب القضاء بعد الإسلام، وإنما تظهر فائدة الخلاف في أنهم هل يعاقبون في الآخرة بترك العبادات زيادة على عقوبة الكفر كما يعاقبون بترك الاعتقاد كذا ذكره في الميزان، وهو الموافق لما ذكر في أصول الشافعية من أن تكليفهم بالفروع إنما هو لتعذيبهم بتركها كما يعذبون بترك الأصول فظهر أن محل الخلاف هو الوجوب في حق المؤاخذة على ترك الأعمال بعد الاتفاق على المؤاخذة بترك اعتقاد الوجوب.(1/401)
فصل: في أن الكفار يخاطبون بالشرائع أم لا؟
...
فصل: ذكر الإمام السرخسي رحمه الله لا خلاف في أن الكفار يخاطبون بالإيمان،
والعقوبات، والمعاملات، وبالعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} الآية.وأما في حق وجوب الأداء في الدنيا فمختلف فيه كما ذكر في المتن، وهو قوله أما في حق وجوب الأداء فكذا عند العراقيين من مشايخنا رحمهم الله تعالى ; لأنه لو لم يجب لا يؤاخذون على تركها، ولأن الكفر لا يصلح مخففا، ولا
ـــــــ
معتدا بها مع الكفر لا يكون في وجوب الأداء فائدة فأجاب بأن هذا لا يضر؛ لأنه يجب عليه بشرط الإيمان كالجنب يجب عليه الصلاة بشرط الطهارة لا عند مشايخ ديارنا" يتعلق بقوله فكذا عند العراقيين لقوله عليه السلام: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات" الحديث يفهم منه أن فرضية الصلوات الخمس مختصة بتقدير الإجابة فعلى تقديم عدم الإجابة لا تفرض أما عند القائلين بأن التعليق بالشرط يدل على نفي الحكم عند عدم الشرط فظاهر، وأما عندنا فلعدم الدليل على الفرضية لا أنه دليل على عدم الفرضية على ما مر في فصل مفهوم المخالفة. "ولأن الأمر بالعبادة لنيل الثواب، والكافر ليس أهلا له، وليس في سقوط العبادة عنهم تخفيف بل تغليظ، ونظيره أن الطبيب لا يأمر العليل بشرب الدواء عند اليأس؛ لأنه غير مفيد فكذا هاهنا، وقد ذكر" أي الإمام
................................................................................................
قوله: "لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:42-44]" أورد الآية دليلا على أنهم مخاطبون بالعادات في حق المؤاخذة في الآخرة على ما هو المتفق عليه، وقد نبهناك على أن محل الوفاق ليس هو المؤاخذة في الآخرة على ترك الأعمال بل على ترك اعتقاد الوجوب، فالآية تمسك للقائلين بالوجوب في حق المؤاخذة على ترك الأعمال أيضا، ولذا أجاب عنه الفريق الثاني بأن المراد لم نكن من المعتقدين فرضية الصلاة فيكون العذاب على ترك الاعتقاد، ورد بأنه مجاز فلا يثبت إلا بدليل، فإن قيل لا حجة في الآية لجواز أن يكونوا كاذبين في إضافة العذاب إلى ترك الصلاة والزكاة، ولا يجب على الله تعالى تكذيبهم كما في قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] و: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل:28] ونحو ذلك، أو يكون الإخبار عن المرتدين الذين تركوا الصلاة حال ردتهم قلنا: الإجماع على أن المراد تصديقهم فيما قالوا وتحذير غيرهم، ولو كان كذبا لما كان في الآية فائدة، وترك التكذيب إنما يحسن إذا كان العقل مستقلا بكذبه كما في الآيات المذكورة، وهاهنا وليس كذلك والمجرمون عام لا مخصص له بالمرتدين.
قوله: "وأما عندنا فلعدم الدليل على الفرضية" ممنوع، فإن العمومات الواردة في حق فرضية الصلاة دليل عليها مع أن المعلق بالشرط هو الأمر بالإعلام لا نفس الفرضية.
قوله: "ولأن الأمر بالعبادة لنيل الثواب" أجيب بأنه لنيل الثواب على تقدير الإتيان به ولاستحقاق العقاب على تقدير الترك فالكفار إن توصلوا إلى المأمور به بتحصيل شرائطه فالثواب وإلا فالعقاب وعدم الأهلية، وإنما هو على تقدير عدم تحصيل الشرط أعني الإيمان، وأيضا منقوض(1/402)
يضر كونها غير معتد بها مع الكفر.لأنه يجب عليه بشرط الإيمان كالجنب يجب عليه الصلاة بشرط الطهارة لا عند مشايخ ديارنا لقوله عليه السلام: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات" الحديث ولأن الأمر بالعبادة لنيل الثواب، والكافر ليس أهلا له، وليس في سقوط العبادة عنهم
ـــــــ
شمس الأئمة رحمه الله تعالى. "أن علماءنا لم ينصوا في هذه المسألة لكن بعض المتأخرين استدلوا من مسائلهم على هذا، وعلى الخلاف بينهم وبين الشافعي رحمه الله تعالى فاستدل البعض بأن المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء صلاة الردة خلافا للشافعي رحمه الله تعالى" فدل على أن المرتد غير مخاطب بالصلاة عندنا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى مخاطب بها. "والبعض بأنه إذا صلى في أول الوقت ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فعليه الأداء خلافا له بناء على أن الخطاب ينعدم بالردة، وصحة ما مضى كانت بناء عليه" أي على الخطاب فإذا علم الخطاب عدم صحة ما مضى "فبطل ذلك الأداء فإذا أسلم في الوقت، وجب ابتداء، وعنده الخطاب باق فلا يبطل الأداء، والبعض فرعوه على أن الشرائع ليست من الإيمان عندنا خلافا
................................................................................................
بالأمر بالإيمان، فإنه أيضا لنيل الثواب، فإن قيل الإيمان رأس الطاعات وأساس العبادات فكيف يثبت شرطا وتبعا لوجوب الفروع ألا يرى أن السيد إذا قال لعبده تزوج أربعا لا تثبت الحرية بذلك.؟ قلنا: ليس كذلك بل يثبت وجوب الإيمان بالأوامر المستقلة الواردة فيه لا أنه يثبت في ضمن الأمر بالفروع.
قوله: "وليس في سقوط العبادة عنهم تخفيف" جواب عن التمسك الثاني للفريق الأول يعني أن سقوط الخطاب بالأداء عن الكفارة ليس للتخفيف بل لتحقيق معنى العقوبة بإخراجهم من أهلية ثواب العبادة، وأما الجواب عن تمسكهم الأول فهو أن المؤاخذة لا تستلزم الخطاب في حق وجوب الأداء في الدنيا أو لا تسلم المؤاخذة على ترك العبادة بل هو عين النزاع، وإنما المؤاخذة على ترك اعتقاد الوجوب على ما مر.
قوله: "وصحة ما مضى كانت بناء على الخطاب" ضعيف إذ الصحة إنما تبتنى على ورود الخطاب وتعلقه لا على بقاء تعلقه كيف والأداء عند الشافعي رحمه الله تعالى إنما هو لسقوط تعلق الخطاب في حق المؤدي.
قوله: "لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ} [المائدة:5]" الآية، هو عند الشافعي رحمه الله تعالى محمول على من مات على كفره بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217] الآية، وهي مسألة حمل المطلق على المقيد.
قوله: "عندنا" ليس معناه أنهم لا يخاطبون بالعقوبات والمعاملات عند الشافعي رحمة الله تعالى عليه بل هو لتحقيق أن الخلاف ليس مبنيا على الخلاف في كون العبادات من الإيمان.(1/403)
تخفيف بل تغليظ، ونظيره أن الطبيب لا يأمر العليل بشرب الدواء عند اليأس ; لأنه غير مفيد فكذا هاهنا، وقد ذكر أن علماءنا لم ينصوا في هذه المسألة لكن بعض المتأخرين استدلوا من مسائلهم على هذا، وعلى الخلاف بينهم وبين الشافعي رحمه الله تعالى فاستدل البعض بأن المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء صلاة الردة خلافا
ـــــــ
له، وهم يخاطبون بالإيمان فقط" فلا يخاطبون بالشرائع عندنا؛ لأنها غير داخلة في الإيمان، ويخاطبون عنده لكونها من الإيمان عنده. "والكل ضعيف" فاحتج على ضعف الاستدلال الأول بقوله "لأنه إنما يسقط القضاء عندنا لقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [لأنفال:38]" فسقوط القضاء عندنا لا يدل على أن المرتد غير مخاطب بل يمكن أن يكون مخاطبا لكن سقط عنه لقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا} [لأنفال:38] الآية، واحتج على ضعف الاستدلال الثاني بقوله "ولأن المؤدى إنما بطل لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] فإذا أسلم في الوقت يجب لا محالة" أي فإذا حبط العمل، ثم أسلم والوقت باق يجب عليه قطعا، واحتج على ضعف التفريع المذكور بقوله. "ولأنهم مخاطبون للعقوبات والمعاملات عندنا مع أنها ليست مع الإيمان" فقولهم إنهم مخاطبون بالإيمان فقط ممنوع، ثم لما أبطل الاستدلالات المذكورة قال:
"والاستدلال الصحيح على مذهبنا أن من نذر بصوم شهر، ثم ارتد، ثم أسلم لا يجب عليه" فعلم أن الردة تبطل وجوب أداء العبادات."فصل والنهي إما عن الحسيات كالزنا وشرب الخمر" المراد بالحسيات ما لها وجود حسي فقط، والمراد بالشرعيات ما لها وجود شرعي مع الوجود الحسي كالبيع، فإن له وجودا حسيا، فإن الإيجاب والقبول موجودان حسا، ومع هذا الوجود الحسي له وجود شرعي، فإن الشرع يحكم بأن الإيجاب والقبول الموجودين
................................................................................................
قوله: "والاستدلال الصحيح" لا يقال إنه خرج بقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [لأنفال:38]؛ لأنا نقول هذا في السيئات، ونذر الصوم من الحسنات، وقد يقال إن النذر من الأعمال فيبطل بالردة.
قوله: "فصل" النهي هو قول القائل لا تفعل استعلاء أو طلب ترك الفعل أو طلب كف عن الفعل استعلاء، والخلاف في أنه حقيقة في التحريم أو الكراهة أو فيهما اشتراكا لفظيا أو معنويا كما سبق في الأمر، ثم النهي المتعلق بأفعال المكلفين دون اعتقاداتهم إما أن يكون نهيا عن فعل حسي أو شرعي، وكل منهما إما أن يكون مطلقا أو مع قرينة دالة على أن القبح لعينه أو لغيره فالمقصود بيان حكم المطلق، وفسر الشرعي بما يتوقف تحققه على الشرعي والحسي بخلافه، واعترض عليه بأن مثل الصلاة والزكاة والبيع وغير ذلك يتحقق من المكلف من غير توقف على الشرع، وأجيب بأن المستغني عن الشرع هو نفس الفعل، وأما مع وصف كونه عبادة أو عقد مخصوصا يتوقف على شرائط، ويترتب عليه أحكام فلا يتحقق بدون الشرع، ورد بأن المتوقف على الشرع حينئذ هو وصف(1/404)
للشافعي رحمه الله تعالى والبعض بأنه إذا صلى في أول الوقت ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فعليه الأداء خلافا له بناء على أن الخطاب ينعدم بالردة، وصحة ما مضى كانت بناء عليه فبطل ذلك الأداء فإذا أسلم في الوقت، وجب ابتداء، وعنده الخطاب باق فلا يبطل الأداء، والبعض فرعوه على أن الشرائع ليست من الإيمان
ـــــــ
حسا يرتبطان ارتباطا حكميا فيحصل معنى شرعي يكون ملك المشتري أثرا له فذلك المعنى هو البيع حتى إذا وجد الإيجاب، والقبول في غير المحل لا يعتبره الشرع بيعا، وإذا وجد مع الخيار يحكم الشرع بوجود البيع بلا ترتب الملك عليه فيثبت الوجود الشرعي. "فيقتضي القبح لعينه اتفاقا إلا بدليل أن النهي لقبح غيره فهو إن كان وصفا فكالأول لا إن كان مجاورا كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] وأما عن الشرعيات كالصوم والبيع فعند الشافعي رحمه الله تعالى هو كالأول، وعندنا يقتضي القبح لغيره فيصح ويشرع بأصله إلا بدليل أن النهي للقبح لعينه، ثم إن القبح لعينه باطل اتفاقا" اعلم أن النهي يقتضي القبح، وإنما اخترنا لفظ الاقتضاء لما ذكرنا أن الله تعالى إنما ينهى عن الشيء لقبحه لا أن النهي يثبت القبح، فإن كان النهي عن الحسيات يقتضي القبح لعينه؛ لأن الأصل أن يكون عين المنهي عنه قبيحا لا غيره فقبح عين المنهي عنه إما لقبح جميع أجزائه أو بعض أجزائه، فالقبح لبعض أجزائه داخل في القبح لعينه، فإذا كان الأصل أن يكون قبيحا لعينه لا يصرف عنه إلا إذا دل الدليل على أن النهي عنه لغيره فحينئذ يكون قبيحا لغيره، ثم ذلك الغير إن كان وصفا فحكمه حكم القبيح لعينه، وهو ملحق بالقسم الأول إلا أن القسم الأول حرام لعينه، وهذا حرام لغيره، وإن كان مجاورا لا يلحق بالقسم الأول كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] دل الدليل على أن النهي عن القربان للمجاور، وهو الأذى حتى إن قربها ووجد العلوق يثبت
................................................................................................
كونه عبادة ونحو ذلك ففي الحسيات أيضا وصف كون الزنا أو الشرب معصية لا يتحقق إلا بالشرب، ففسره المصنف بما يكون له مع تحققه الحسي تحقق شرعي بأركان وشرائط مخصوصة اعتبرها الشارع بحيث لو انتفى بعضها لم يجعله الشارع ذلك الفعل ولم يحكم بتحققه كالصلاة بلا طهارة والبيع الوارد على ما ليس بمحل، وإن وجد الفعل الحسي من الحركات والسكنات والإيجاب والقبول، وقد يقال إن الفعل إن كان موضوعا في الشرع لحكم مطلوب فشرعي وإلا فحسي.
قوله: "يقتضي القبح لعينه" أشار بلفظ الاقتضاء إلى أن القبح لازم متقدم بمعنى أنه يكون قبيحا فينهى الله تعالى عنه لا أن النهي يوجب قبحه كما هو رأي الأشعري، والحاصل أن النهي عن الفعل الحسي يحمل عند الإطلاق على القبح لعينه أي لذاته أو لجزئه، بواسطة القرينة يحمل على القبيح لغيره فذلك الغير إن كان وصفا، قائما بالمنهي عنه فهو بمنزلة القبيح لعينه، وإن كان مجاورا منفصلا عنه فلا، والنهي عن الفعل الشرعي يحمل عند الإطلاق على القبيح لغيره بواسطة القرينة على القبيح لعينه، وقال الشافعي رحمه الله تعالى بالعكس، وثمرة ذلك أنه هل يترتب عليه الأحكام(1/405)
عندنا خلافا له، وهم يخاطبون بالإيمان فقط والكل ضعيف لأنه إنما يسقط القضاء عندنا لقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ولأن المؤدى إنما بطل لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} فإذا أسلم في الوقت يجب لا محالة ولأنهم
ـــــــ
النسب اتفاقا، وإن كان النهي عن الشرعيات فعند الشافعي رحمه الله تعالى هو كالأول أي يقتضي القبح لعينه إلا إذا دل الدليل على أن النهي للقبح لغيره، وعندنا يقتضي القبح لغيره، والصحة والمشروعية بأصله إلا إذا دل الدليل على أن النهي للقبح لعينه، ثم كل ما هو قبيح لعينه باطل اتفاقا، وإنما أوردنا للشرعيات نظيرين الصوم والبيع ليعلم أنه لا فرق عندنا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى بين العبادات والمعاملات وهو يقول لا صحة لها أي للشرعيات "شرعا إلا وأن تكون مشروعة، ولا تكون مشروعة مع نهي الشرع عنها إذ أدنى درجات المشروعية الإباحة، وقد انتفت، ولأن النهي يقتضي القبح وهو ينافي المشروعية" اعلم أن الخلاف بيننا، وبين الشافعي رحمه الله تعالى في أمرين أولهما أن النهي عن الشرعيات بلا قرينة أصلا يقتضي القبح لعينه عنده، وفائدته أن يكون التصرف باطلا، وعندنا يقتضي القبح لغيره والصحة بأصله، وثانيهما أنه إذا وجدت القرينة على أن النهي بسبب القبح لغيره، ويكون ذلك الغير وصفا، فإنه باطل عند الشافعي رحمه الله تعالى وعندنا يكون صحيحا بأصله لا بوصفه ونسميه فاسدا، وهذا الخلاف مبني على الخلاف الأول، وسيجيء هذا الخلاف في هذا الفصل، والدليلان المذكوران في المتن يدلان على مذهبه في الخلاف الأول، وهو كون التصرف باطلا.
"قلنا حقيقة النهي توجب كون المنهي عنه ممكنا فيثاب بالامتناع عنه، ويعاقب بفعله، والنهي عن المستحيل عبث" هذا هو الدليل المشهور لأصحابنا على أن النهي عن الشرعيات
................................................................................................
أم لا فالحاصل أن الشارع وضع بعض أفعال المكلف لأحكام مقصودة كالصوم للثواب والبيع للملك، وقد نهى عن ذلك في بعض المواضع فهل بقي في تلك المواضع ذلك الوضع الشرعي حتى يكون الصوم في يوم العيد مناطا للثواب، والبيع الفاسد سببا للملك أو ارتفع ذلك الوضع فيها فمن حكم بارتفاع الوضع جعل المنهي عنه قبيحا لعينه ومن لا فلا لتنافي الوضع الشرعي والقبح الذاتي ثم الفعل الشرعي المنهي عنه إن دل على أن قبحه لعينه فباطل، وإن دل على أنه لغيره فذلك الغير إن كان مجاورا فهو صحيح مكروه، وإن كان وصفا ففاسد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وباطل عند الشافعي رحمه الله تعالى، وإن لم يدل الدليل على أن قبحه لعينه أو لغيره فباطل عند الشافعي رحمه الله تعالى حتى لا يترتب عليه الأحكام، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يصح بأصله لكن لا يفسد بوصفه لعدم الدليل على أن القبح لوصفه.
قوله: "قلنا: حقيقة النهي" أصل هذا الدليل ما قال محمد رحمه الله تعالى في باب الرد على من زعم أن الطلاق لغير السنة لا يقع أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن صوم يوم النحر أنهانا عما(1/406)
يخاطبون بالعقوبات والمعاملات عندنا مع أنها ليست من الإيمان والاستدلال الصحيح على مذهبنا أن من نذر بصوم شهر، ثم ارتد، ثم أسلم لا يجب عليه.
ـــــــ
يقتضي الصحة، وقد أورد الخصم عليهم أن إمكان المنهي عنه بالمعنى اللغوي كاف، ولا نسلم أنه يجب أن يكون ممكنا بالمعنى الشرعي فأجبت عن هذا بقولي "فإمكانه إما بحسب المعنى الشرعي أو اللغوي، والثاني باطل؛ لأن المعنى اللغوي لا يوجب المفسدة التي نهى لأجلها حتى لو وجب يكون النهي عن الحسيات، ولا نزاع فيه فتعين الأول" تحقيقه أنه إذا نهى عن بيع درهم بدرهمين فهنا أمران أحدهما أمر لغوي من غير المعنى الشرعي الذي ذكرنا، وهو قولهما بعت واشتريت، وهذا أمر حسي، والثاني هذا القول مع المعنى الشرعي المذكور، وهذا هو البيع الشرعي، فإن كان النهي عن الأمر الأول يكون النهي عن الحسيات، وحينئذ إن كانت المفسدة التي نهى لأجلها في نفس هذا القول من حيث هو القول فلا نزاع في كونه باطلا لكن الواقع ليس هذا القسم؛ لأن المفسدة ليست في نفس هذا القول، وهو بعت هذا الدرهم بدرهمين، وإن كانت المفسدة في غير هذا القول الحسي لا يكون هذا القول قبيحا لعينه كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] وإن كان النهي عن الأمر الثاني، يجب إمكانه بحسب المعنى الشرعي فلا يكون النهي للقبح لذاته أو لجزئه؛ لأن ذلك ينافي إمكان وجوده شرعا فيكون لقبح أمر خارجي، وأيضا إذا اجتمع الموضوع له لغة، وشرعا لا بد من حمل اللفظ على الموضوع له الشرعي فيجب الإمكان
................................................................................................
يتكون أو عما لا يتكون، والنهي عما لا يتكون لغو إذ لا يقال للأعمى لا تبصر وللآدمي لا تطر وتحقيقه أن المنهي عنه يجب أن يكون متصور الوجود بحيث لو أقدم عليه لوجد حتى يكون العبد مبتلى بين أن يقدم على الفعل فيعاقب بإقدامه وبين أن يكف عن الفعل فيثاب بامتناعه، بخلاف النسخ فإنه لبيان أن الفعل لم يبق متصور الوجود شرعا كالتوجه إلى بيت المقدس وحل الأخوات، وذكر الإمام الغزالي في المستصفى أن مثل الصلاة والصوم والبيع في الأوامر مستعملة في المعاني الشرعية دون اللغوية للعرف الطارئ وما وجدنا ذلك العرف في النواهي فبقي على أصل الوضع من المعاني اللغوية كقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء:22] وقوله عليه الصلاة والسلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك"، فإنه في معنى النهي، وحاصله أن إمكان الفعل باعتبار اللغة كاف في النهي، ولا نسلم احتياجه إلى إمكان المعنى الشرعي، وجوابه ظاهر وهو القطع بأن الحائض إنما نهيت عما سماه الشرع صوما وصلاة لا عن نفس الإمساك والدعاء والمصنف رحمه الله تعالى فصل الكلام بعض التفصيل، وحاول الرد في البيع الذي معناه اللغوي قريب من معناه الشرعي.
وذكر صاحب القواطع أن وجود الفعل المشروع بأمرين بفعل العبد وبإطلاق الشرع فبالنهي امتنع الإطلاق فلم يبق مشروعا لكن تصور الفعل من العبد باق على حاله فيصح النهي بناء عليه مثلا(1/407)
فصل: في النهي عن السيئات
...
فصل: والنهي إما عن الحسيات
كالزنا وشرب الخمر فيقتضي القبح لعينه اتفاقا إلا بدليل أن النهي لقبح غيره فهو إن كان وصفا فكالأول لا إن كان مجاورا كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وأما عن الشرعيات كالصوم والبيع
ـــــــ
بالمعنى الشرعي، فإن قيل النهي عن البيع مثلا ليس إلا عن التصرف الحسي فأما المعنى الشرعي فلا قدرة للعبد عليه فكيف يصح النهي عنه قلنا الشارع قد وضع اللفظ لإنشاء البيع بمعنى أنه كلما وجد هذا اللفظ من الأهل مضافا إلى المحل يوجد إنشاء البيع الشرعي قطعا فالقدرة حاصلة على إنشاء المعنى الشرعي بأن يتكلم باللفظ الموضوع له مضافا إلى المحل الصالح له، فإذا كان المعنى الشرعي مقدورا يصح أن يكون منهيا عنه، ثم بتبعية هذا النهي يكون التكلم باللفظ منهيا عنه؛ لأنه إن تكلم به يثبت به ما هو المنهي عنه وهو الإنشاء فإذا تكلم به ثبت المعنى الموضوع له، وهو الإنشاء الشرعي، ونظيره الطلاق في حالة الحيض.
"ولأن النهي يدل على كونه معصية لا على كونه غير مفيد لحكمه كالملك مثلا فنقول بصحته لإباحته، والقبح مقتضى النهي فلا يثبت على وجه يبطل النهي"، وقد ثبت فيما مضى أن الأمر يقتضي كون المأمور به حسنا قبل الأمر، والنهي يقتضي كونه قبيحا قبله خلافا
................................................................................................
أن العبد مأمور بالصوم وليس في وسعه إلا الإمساك مع النية في النهار، فأما صيرورته عبادة فإلى الشارع ففي يوم النحر لما زال إذن الشارع لم يبق صوما مشروعا مع بقاء تصور الفعل من العبد، واعترض عليه بأن النهي ورد عن مطلق الصوم فيحمل على حقيقته، والفعل المخصوص بدون اعتبار الشرع لا يسمى صوما كالإمساك مع النية في الليل، وجوابه أنه لا حقيقة للصوم شرعا إلا الإمساك من الفجر إلى المغرب مع النية، وهذا متصور من العبد، وقد نهاه الشارع عنه حتى صار يوم النحر بمنزلة الليل فلا يكون عبادة يترتب عليها الثواب.
وحاصل الاستدلال وجهان: أحدهما أن النهي لو لم يدل على الصحة لكان المنهي عنه غير الشرعي أي غير المعتبر في الشرع؛ لأن الشرعي المعتبر هو الصحيح واللازم باطل؛ لأنا نعلم قطعا أن المنهي عنه في صوم يوم النحر وصلاة الأوقات المكروهة إنما هو الصوم، والصلاة الشرعيان لا الإمساك والدعاء، وثانيهما أنه لو لم يكن صحيحا لكان ممتنعا فلا يمنع عنه؛ لأن المنع عن الممتنع عبث، والجواب عن الأول أن الشرعي ليس معناه المعتبر شرعا بل ما يسميه الشارع بذلك الاسم، وهو الصورة المعنية، والحالة المخصوصة صحت أم لا نقول صلاة صحيحة وصلاة غير صحيحة، وصلاة الجنب، وصلاة الحائض باطلة، وعن الثاني أنه ممتنع بهذا المعنى، وإنما المحال منع الممتنع بغير هذا المعنى كالحاصل يمتنع تحصيله إذا كان حاصلا بغير هذا التحصيل.
قوله: "ولأن النهي" جواب عن كلام الخصم لا استدلال على اقتضاء النهي الصحة، وكذا قوله والقبح مقتضى النهي لكنه لا يصلح لإلزام الخصم؛ لأنه لا يقول بالقبح لذاته بل الفعل إنما يحسن للأمر، ويقبح للنهي، وحاصل الكلام أنه إن أريد بالصحة إمكان المعنى الذي يسمى في الشرع(1/408)
فعند الشافعي رحمه الله تعالى هو كالأول، وعندنا يقتضي القبح لغيره فيصح ويشرع بأصله إلا بدليل أن النهي للقبح لعينه، ثم إن القبح لعينه باطل اتفاقا وهو يقول لا صحة لها شرعا إلا وأن تكون مشروعة، ولا تكون مشروعة مع نهي الشارع عنها
ـــــــ
للأشعري، وهذا معنى الاقتضاء فلا يمكن أن يثبت المقتضى على وجه يبطل المقتضي وهو النهي، فإنه لو كان قبيحا لعينه في الشرعيات يكون باطلا أي لا يمكن وجوده شرعا، والنهي عن المستحيل عبث "فيثبت على الوجه الذي ادعيناه"، وهو القبح لغيره. "والبعض سلموا ذلك في المعاملات لما قلنا لا في العبادات أصلا فلا تصح الصلاة في الأرض المغصوبة" اعلم أن أبا الحسين البصري أخذ في المعاملات مذهبنا على التفصيل الذي يأتي أما في العبادات فمذهبه أن النهي يقتضي البطلان مطلقا، وإن كان الدليل دالا على أن النهي بسبب القبح في المجاور كالصلاة في الأرض المغصوبة، فإنها باطلة عنده، وأما عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى صحيحة لكن على صفة الكراهة "لأنه لم يأت بالمأمور به؛ لأن المنهي عنه لم يؤمر به قلنا كل معين يأتي به، فإنه لم يؤمر به بل مطلق الفعل مأمور به لكنه يخرج عن العهدة
................................................................................................
بالصوم والصلاة والبيع ونحو ذلك فلا نزاع فيه، وإنما النزاع في الصحة بمعنى استحقاق الثواب وسقوط القضاء وموافقة أمر الشارع وترتب الآثار عليه كالملك، ولا دلالة لشيء مما ذكرتم على أن النهي يقتضي أن يكون المنهي عنه بهذه الصفة.
قوله: "فيثبت على الوجه الذي ادعيناه" يعني أن النهي يقتضي القبح، والمنهي عنه يقتضي الإمكان، ولا بد من رعاية الأمرين، وذلك بأن يحمل على القبح للغير، وهو لا ينافي الصحة فيكون محافظة على المقتضى وهو القبح، وعلى المقتضي وهو النهي بأن لا يكون نهيا على المستحيل، بخلاف ما إذا حمل القبح على القبح لعينه، وحكم ببطلان المنهي عنه، فإنه يلزم إسقاط النهي وجعله لغوا عبثا.
قوله: "والبعض سلموا" ذهب المتكلمون والجبائي وأبو هاشم وأحمد ومالك في إحدى الروايتين إلى عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة، وذهب القاضي أبو بكر إلى أنها لا تصح إلا أنه قال يسقط الطلب عندها؛ لا بها يعني لا يجب القضاء، والمختار أنها تصح استدل المانعون بأنه يجب عليه الإتيان بالمأمور به والمنهي عنه لا يجوز أن يكون مأمورا به لتضاد الأمر والنهي، والجواب أنه إن أريد أنه يجب الإتيان بما هو نفس مفهوم المأمور به فهو محال إذ المأتي به لا يكون لا معينا، وهو غير المأمور به ضرورة تغاير المطلق والمقيد، وإن أريد أنه يجب الإتيان بما هو من جزئيات المأمور به وإفراده فلا نسلم أن المنهي عنه بالغير لا يكون من جزئيات المأمور به قوله هما متضادان قلنا: التضاد إنما هو بين المأمور به والمنهي عنه لذاته، وأما المأمور به بالذات والمنهي عنه بالعرض فلا نسلم تضادهما، وإنما يلزم الامتناع لو اتحد جهتا الأمر والنهي، وليس كذلك بل يجب هذا الفعل لكونه صلاة، ويحرم لكونه غصبا كالسيد إذا قال لعبده خط هذا الثوب ولا تخطه في هذا المكان فلو خاطه فيه يعد ممتثلا بالخياطة وعاصيا لكونه في ذلك المكان.(1/409)
إذ أدنى درجات المشروعية الإباحة، وقد انتفت، ولأن النهي يقتضي القبح وهو ينافي المشروعية قلنا حقيقة النهي توجب كون المنهي عنه ممكنا فيثاب بالامتناع عنه، ويعاقب بفعله، والنهي عن المستحيل عبث فإمكانه إما بحسب المعنى الشرعي أو اللغوي، والثاني باطل ; لأن المعنى اللغوي لا يوجب المفسدة التي نهى لأجلها حتى
ـــــــ
بإتيانه بمعين لاشتماله على المأمور به ذاتا والمنهي عنه عرضا، والمشروعات تحتمل هذا الوصف إجماعا كالإحرام الفاسد، والطلاق الحرام، والنكاح الحرام، ونحوهما" وإنما قيدنا بقولنا ذاتا وعرضا؛ لأنه بالتقسيم العقلي إما أن يكون مأمورا به لذاته، ومنهيا عنه لذاته أو مأمورا به بالعرض، ومنهيا عنه بالعرض، أو مأمورا به بالذات، ومنهيا عنه بالعرض أو بالعكس، أما الأول فمحال؛ لأنه إما بحسب عينه فيوجب أن يكون حسنا لعينه وقبيحا لعينه فيجتمع الضدان وأما بحسب جزئه فهذا الجزء القبيح يكون قبيحا لعينه قطعا للتسلسل فيكون باطلا فلا يتحقق الكل فعلم من هذا أن القبيح لمعنى في نفسه يمكن أن يكون قبيحا لجزء واحد، وأما الحسن لمعنى في نفسه فلا يتصور إلا وأن يكون جميع أجزائه حسنا أي لا يكون شيء من أجزائه قبيحا لعينه، وأما الثاني فقد ذكرنا أن الأمر المطلق يقتضي الحسن لمعنى في نفسه فلا يتأدى بما هو مأمور به بالعرض؛ لأن هذا حسن لغيره فلا يتأدى به المأمور به فهذا القسم ممكن بل واقع لكن لا يتأدى به المأمور به أمرا مطلقا، وأما الرابع وهو العكس فيكون باطلا لا يتأدى به المأمور به فبقي القسم الثالث وهو المدعى، ثم يرد علينا إشكال، وهو أنكم قد اخترعتم نوعا من الحكم لا نظير له في المشروعات فيكون نصب الشرع بالرأي فنقول في جوابه المشروعات تحتمل هذا الوصف أي كونه حسنا لعينه قبيحا لغيره، وبعبارة أخرى كونه مأمورا به لذاته منهيا عنه لعارض، وبعبارة أخرى كونه صحيحا ومشروعا بأصله لا بوصفه أو مجاوره، والكل واحد.
................................................................................................
قوله: "فهذا الجزء القبيح يكون قبيحا لعينه" أي منتهيا إليه إذ لو كان قبيحا لجزئه ينقل الكلام إليه، ويلزم التسلسل أي وجود أجزاء غير متناهية لأمر موجود أتى به المكلف، فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قبح ذلك الجزء لأمر خارج عنه قلنا: لأن ذلك الخارج إن كان خارجا عن الكل أيضا لا يكون هذا من قبيل القبيح لجزئه، وإن كان داخلا فيه ينقل الكلام إلى قبحه.
قوله: "فعلم من هذا" قد سبق بيان ذلك في الحسن، فإن قيل لم لا يجوز أن يكون حسنا لمعنى في نفسه وقبيحا لمعنى في نفسه بأن يتركب عن جزأين أحدهما حسن لعينه، والآخر قبيح لعينه.؟ قلنا: هو جائز إلا أن مثله قبيح لمعنى في نفسه بحسب الشرع والعقل إذ الحسن شرعا وعقلا ما يكون حسنا بجميع أجزائه؛ لأن الحسن بمنزلة الوجود والقبيح بمنزلة العدم، ووجود المركب يفتقر إلى وجود جميع الأجزاء، بخلاف العدم.
قوله: "بل واقع" كالطهارة بالماء المغصوب فلو كانت الطهارة مأمورا بها أمرا مطلقا أي من(1/410)
لو وجب يكون النهي عن الحسيات، ولا نزاع فيه فتعين الأول ولأن النهي يدل على كونه معصية لا على كونه غير مفيد لحكمه كالملك مثلا فنقول بصحته لإباحته، والقبح مقتضى النهي فلا يثبت على وجه يبطل النهي فيثبت على الوجه الذي ادعيناه، والبعض سلموا ذلك في المعاملات لما قلنا لا في العبادات أصلا فلا
ـــــــ
"فعلى هذا الأصل" وهو أن النهي عن المشروعات يقتضي القبح لعينه عنده إلا بدليل أن النهي للقبح لغيره، وعندنا يقتضي القبح لغيره، والصحة والمشروعية بأصله إلا بدليل أن النهي للقبح لعينه. "إن لم يدل الدليل" على أن النهي للقبح لعينه أو لغيره "يبطل عنده، ويصح بأصله عندنا، وإن دل الدليل على أن النهي للقبح لغيره فذلك الغير إن كان وصفا له يبطل عنده، ويفسد عندنا أي يصح بأصله لا بوصفه إذ الصحة تتبع الأركان والشرائط فيحسن لعينه ويقبح لغيره بلا ترجيح العارضي على الأصلي، وعنده الباطل والفاسد سواء" هذا هو الخلاف الآخر الذي وعدت ذكره، وهو بناء على الخلاف الأول؛ لأنه لما كان الأصل في المنهي عنه البطلان عنده يجب أن يجري على أصله الأول إلا عند الضرورة، فالضرورة مقتصرة على ما إذا دل الدليل على أن النهي لقبح المجاور كالبيع وقت النداء أما إذا دل الدليل على أن
................................................................................................
غير قرينة على أنها مطلوبة للغير لما تأدى بها المأمور به.
قوله: "وأما الرابع" هو ما يكون منهيا عنه لذاته ومأمورا به بالعرض فلا يتأدى به المأمور به مطلقا؛ لأنه يقتضي الحسن لذاته.
قوله: "وعنده" أي عند الشافعي رحمه الله تعالى الباطل والفاسد عبارتان عما يقابل الصحيح بمعنى عدم سقوط القضاء أو عدم موافقة الأمر في العبادات، وبمعنى خروجه عن السببية للثمرات المطلوبة منه في المعاملات، ولا نزاع في التسمية، فإنها مجرد اصطلاح، ولا في أن المنهي عنه قد يكون منهيا عنه لذاته أو لجزئه، وقد يكون منهيا عنه لأمر خارج، وإنما النزاع في أن هذا القسم قد يكون صحيحا يترتب عليه آثاره أم لا.
قوله: "لأن صحة الأجزاء والشروط كافية" فعلى هذا يجب أن يقيد الوصف اللازم بأن لا يكون من الشروط، ثم لا خفاء في أن الوقت من شروط الصلاة والصوم، وقد جعله في الصلاة مجاورا، وفي الصوم لفظا لازما لما سيجيء.
قوله: "كالبيع بالشرط" يعني شرطا لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه نفع أو للمعقود عليه، وهو من أهل الاستحقاق، وقد نهى النبي عليه السلام عن بيع وشرط والنهي راجع للشرط فيبقى أصل العقد صحيحا مفيدا للملك لكن بصفة الفساد والحرمة كالشرط أمر زائد على البيع لازم له لكونه مشروطا في نفس العقد، وهو المراد بالوصف في هذا المقام.
قوله: "والربا" أي وكالبيع بالربا، وهو الفضل الخالي عن العوض، وإن فسر الربا بمعاوضة(1/411)
تصح الصلاة في الأرض المغصوبة لأنه لم يأت بالمأمور به ; لأن المنهي عنه لم يؤمر به قلنا كل معين يأتي به، فإنه لم يؤمر به بل مطلق الفعل مأمور به لكنه يخرج عن العهدة بإتيانه بمعين لاشتماله على المأمور به ذاتا والمنهي عنه عرضا، والمشروعات تحتمل هذا الوصف إجماعا كالإحرام الفاسد، والطلاق الحرام،
ـــــــ
النهي لقبح الوصف اللازم فلا ضرورة في أن لا يجري النهي على أصله، فإن بطلان الوصف اللازم يوجب بطلان الأصل بخلاف المجاورة، فإنه ليس بلازم، وأما عندنا فلأن الأصل في النهي عنه إذا كان تصرفا شرعيا يجب أن يكون وجوده وصحته شرعا فيجري على أصله إلا عند الضرورة، وهي منحصرة فيما إذا دل الدليل على أن القبح لعينه أو لجزئه أما إذا دل الدليل على أن النهي لقبح الوصف اللازم فلا ضرورة في البطلان؛ لأن صحة الأجزاء والشروط فيه كافية لصحة الشيء، وترجيح الصحة بصحة الأجزاء أولى من ترجيح البطلان بالوصف الخارجي، وإذا لم تكن الضرورة قائمة هنا يجري النهي على أصله، وهو أن يكون المنهي عنه موجودا شرعا أي صحيحا. "وذلك كالبيع بالشرط، والربا، والبيع بالخمر، وصوم الأيام المنهية" هذه أمثلة الصحيح بأصله لا بوصفه الذي نسميه فاسدا. "لكن صح النذر به" أي مع أن صوم الأيام المنهية فاسد يصح النذر به. "لأنه طاعة والمعصية غير متصلة به ذكرا بل فعلا"، وهو الإعراض عن ضيافة الله تعالى، وأما في ذكره والتلفظ به فلا معصية فصح النذر به؛ لأن النذر ذكره لا فعله. "فلا يلزم بالشروع"؛ لأن الشروع فعل وهو معصية.
................................................................................................
مال بمال من جنسه، وفي أحد الجانبين فضل خال عن العوض مستحق بعقد المعاوضة فهو عطف على البيع بالشرط لا على الشرط.
قوله: "والبيع بالخمر"، فإنه فاسد لأن الخمر جعلت ثمنا وهو غير مقصود بل وسيلة إلى المقصود إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان، ولهذا يشترط وجود المبيع دون الثمن عند العقد فبهذا الاعتبار صار الثمن من جملة الشروط بمنزلة آلات الصناع فيفسد البيع لكون أحد البدلين غير متقوم إذ المتقوم ما يجب إبقاؤه بعينه أو بمثله أو بقيمته، والخمر واجب اجتنابها بالنص لعدم تقومها لكنها تصلح للثمن؛ لأنها مال؛ لأن المال ما يميل إليه الطبع ويدخر لوقت الحاجة أو ما خلق لمصالح الآدمي، ويجري فيه الشح والضنة.
قوله: "وصوم الأيام المنهية" أعني العيدين وأيام التشريق، فإنه فاسد لا باطل؛ لأن الصوم نفسه مشروع لكونه إمساكا على قصد القربة وقهر النفس لمخالفة هواها وتحريضا لها على مواساة الفقراء بالاطلاع على شدة حالهم، والنهي إنما هو لهذه الأوقات باعتبار أنها أيام أكل وشرب على ما ورد به الحديث، والوقت معيار للصوم يتقدر به، ويعرف به فكان بمنزلة لازم خارج أو باعتبار أن الصوم في هذه الأيام إعراض عن ضيافة الله تعالى، وهو وصف لازم للصوم خارج عنه أي غير داخل في مفهومه، وبهذا يندفع ما قيل لا نسلم أن ترك الإجابة مغاير للصوم بل هو عينه كترك السكون، فإنه عين التحرك وبالعكس وفي الطريقة المعنية أن النهي ورد عن الصوم فصرفه إلى غيره عدول عن(1/412)
والنكاح الحرام، ونحوهما فعلى هذا الأصل إن لم يدل الدليل يبطل عنده، ويصح بأصله عندنا، وإن دل الدليل على أن النهي للقبح لغيره فذلك الغير إن كان وصفا له يبطل عنده، ويفسد عندنا أي يصح بأصله لا بوصفه إذ الصحة تتبع الأركان والشرائط فيحسن لعينه ويقبح لغيره بلا ترجيح العارضي على الأصلي، وعنده الباطل
ـــــــ
"وأما الصلاة في الأوقات المنهية فقد نهيت لفساد في الوقت، وهو سببها، وظرفها فأوجب نقصانا فلا يتأدى به الكامل لا معيارها فلم يوجب فسادا فيضمن بالشروع بخلاف الصوم" اعلم أن الوقت سبب للصلاة، وظرف لها، فمن حيث إنه سبب يجب الملاءمة بينهما فإذا وجب كاملا لا يتأدى ناقصا كما في الفجر وقضاء الصلاة في الأوقات المنهية، وإن وجب ناقصا يتأدى ناقصا كما في أداء العصر، ومن حيث إنه ظرف لا معيار يكون تعلقه
................................................................................................
الحقيقة فلا يجوز إلا بدليل، وجوابه ما سبق من أن النهي عن الفعل الشرعي يقتضي عند الإطلاق قبحه لغيره إذ لو قبح لذاته لما كان مشروعا، وأيضا فوائد الصوم أدل دليل على أنه لا يكون منهيا عنه لذاته، ثم قال والتحقيق أن الصوم في هذه الأيام ترك للمفطرات الثلاث، والإجابة فمن حيث الإضافة إلى المفطرات يكون عبادة مستحسنة ومن حيث الإضافة إلى إجابة الدعوى يكون منهيا عنه لما فيه من ترك الواجب، والضد الأصلي للصوم هو الأول دون الثاني لاختصاصه بهذه الأيام فالصوم باعتبار الإضافة إلى الأضداد التي هي الأكل، والشرب، والجماع بمنزلة الأصل، وباعتبار الإضافة إلى الإجابة بمنزلة التابع فترك الإجابة صار بمنزلة الوصف، وترك المفطرات الثلاث صار بمنزلة الأصل فبقي الصوم في هذه الأيام مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه فكان فاسدا لا باطلا.
قوله: "لكن صح النذر به" أي بالصوم في الأيام المنهية؛ لأن الصوم نفسه طاعة، وإنما المعصية هي الإعراض عن ضيافة الله تعالى وهي في فعل الصوم لا في ذكر اسمه وإيجابه على نفسه، والحاصل أن للصوم جهة طاعة وجهة معصية، وانعقاد النذر إنما هو باعتبار الجهة الأولى حتى قالوا لو صرح بذكر المنهي عنه بأن يقول: لله تعالى علي صوم يوم النحر لم يصح نذره في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما لو قالت لله علي أن أصوم أيام حيضي بخلاف ما لو قالت غدا، وكان الغد يوم نحر أو حيض، وأما ضرب أبيه وشتم أمه فلا جهة فيه لغير المعصية فلا يصح النذر به أصلا، وتحقيق ذلك أن النذر إيجاب على نفسه بالقول، وبالقول أمكن التمييز بين المشروع والمنهي عنه، والمشروع إيجاب بالفعل، وفي الفعل لا يمكن التمييز بين الجهتين، وهذا كما جوزوا بيع السمن الذائب الذي ماتت فيه الفأرة لإمكان إيراد البيع على السمن دون النجاسة، ولا يجوز أكله لاستحالة التمييز بينهما.
قوله: "وأما الصلاة" يشير إلى الفرق بين الصوم في الأيام المنهية والصلاة في الأوقات المنهية حيث يفسد الصوم دون الصلاة، ويلزم بالشروع الصلاة دون الصوم، وذلك لأن الوقت للصوم من قبيل الوصف اللازم لكونه معيارا له وللصلاة من قبيل المجاور لكونه ظرفا لها، وفي الطريقة المعنية أن المركب قد يكون جزؤه كالكل في الاسم كالماء، وقد لا يكون كالحيوان، والصوم من القسم الأول؛ لأنه مركب من إمساكات متفقة الحقيقة كل منها صوم حتى لو حلف لا يصوم حنث بصوم(1/413)
والفاسد سواء وذلك كالبيع بالشرط، والربا، والبيع بالخمر، وصوم الأيام المنهية لكن صح النذر به لأنه طاعة والمعصية غير متصلة به ذكرا بل فعلا فلا يلزم بالشروع وأما الصلاة في الأوقات المنهية فقد نهيت لفساد في الوقت، وهو سببها
ـــــــ
بالصلاة تعلق المجاورة لا تعلق الوصفية فلا يوجب الفساد بل يوجب النقصان بخلاف الصوم، فإن الوقت معياره فالصوم عبادة مقدرة بالوقت فيكون كالوصف له ففساده يوجب فساد الصوم، وهذا الفرق إنما يظهر أثره في النفل حتى لو شرع في الصلاة في الأوقات المنهية يجب عليه إتمامها، ولو أفسد يجب عليه قضاؤها أما إن شرع في الصوم في الأيام المنهية لا يجب إتمامه بل يجب رفضه، فإن رفضه لا يجب القضاء. "وإن كان مجاورا يقتضي كراهته عندنا، وعنده" هذا الكلام يتعلق بقوله فذلك الغير إن كان وصفا له، وإنما قال عندنا وعنده لما مر أن على مذهب أبي الحسين البصري النهي في العبادات يوجب البطلان مطلقا مع أن الدليل يكون دالا على أن النهي لقبح أمر مجاور. "كالصلاة في الأرض المغصوبة، والبيع وقت النداء" أوردت هنا مثالين أحدهما للعبادات، والآخر للمعاملات. "وإن دل على أن النهي لعينه" أي لذاته أو لجزئه "يبطل اتفاقا" هذا الكلام يتعلق بقوله، وإن دل على أن النهي لغيره "كالملاقيح، والمضامين، فإن الركن معدوم فدل الدليل على أنه مجاز عن النسخ فيكون قبيحا لعينه".
قوله: فيكون قبيحا لعينه تعقيب لقوله، فإن الركن معدوم فيلزم من بطلانه قبحه لعينه؛ لأنهما متلازمان الملاقيح جمع ملقوحة، وهي ما في البطن من الجنين، والمضامين جمع مضمون، وهو ما في أصلاب الفحول من الماء وفي الحديث نهي عن بيع المضامين والملاقيح فلما كان ركن البيع وهو المبيع معدوما لا يمكن وجود البيع فلا يراد حقيقة النهي لما ذكرنا أن النهي عن المستحيل عبث فيكون النهي مجازا عن النسخ، فإن النسخ
................................................................................................
ساعة، فيكون كل جزء منها منهيا عنه لكونه صوما فكان ما انعقد منه انعقد مشروعا محظورا، والمضي إنما يلزم لإبقاء ما انعقد فلا يلزم هاهنا لما فيه من تقرير المعصية، وهو حرام واجب الترك قطعا، وإن كان تقرير ما انعقد مشروعا واجبا لكنه مجتهد فيه تعارضت فيه الأخبار، بخلاف وجوب ترك المعصية، فإنه قطعي فيترجح جانب الترك فلا يلزم القضاء بالإفساد، بخلاف الصلاة، فإن إبعاضها من القيام والقعود والركوع والسجود لا يسمى صلاة ما لم يجتمع، ولم يتقيد بالسجدة فما انعقد قبل ذلك كان عبادة محضة يجب صيانتها، والمضي عليها فيكون المضي في حق ما مضى امتناعا عن إبطال العمل، وهو واجب، وفي حق ما يستقبل تحصيل الطاعة وتحصيل المعصية فكان المضي طاعة ومعصية وامتناعا عن المعصية أعني إبطال العبادة وترك المضي امتناعا عن معصية وطاعة وارتكابا لمعصية هي إبطال عبادة فترجحت فيها جهة المضي، فإذا أفسدها فقد أفسد عبادة وجب عليه المضي فيها فيلزم القضاء.(1/414)
وظرفها فأوجب نقصانا فلا يتأدى به الكامل لا معيارها فلم يوجب فسادا فيضمن بالشروع بخلاف الصوم وإن كان مجاورا يقتضي كراهته عندنا، وعنده كالصلاة في الأرض المغصوبة، والبيع وقت النداء وإن دل على أن النهي لعينه يبطل اتفاقا
ـــــــ
لإعدام الصحة والمشروعية روعية، والجامع أن الحرمة تثبت لكل منهما إلا أن الحرمة بالنسخ لعدم بقاء المحل بخلاف الحرمة بالنهي، ثم اعلم أن من جملة مشكلات هذا الفصل التفرقة بين الجزء والوصف والمجاور، فكل واحد من هذه الثلاثة إما أن يصدق على ذلك المنهي عنه أو لم يصدق فالجزء إما صادق على الكل، وهو ما يصدق على الشيء، ويتوقف تصور ذلك الشيء على تصوره كالعبادة للصلاة، وإما غير صادق كأركان الصلاة للصلاة، والإيجاب، والقبول، والمبيع للبيع، وأما الوصف فالمراد به اللازم الخارجي، وهو إما أن يصدق على الملزوم نحو: الجهاد إعلاء كلمة الله، وصوم الأيام المنهية إعراض عن ضيافة الله تعالى، وإما أن لا يصدق كالثمن، فإنه كلما يوجد البيع يوجد الثمن لكن الثمن لا يصدق على البيع وليس ركن البيع؛ لأنه وسيلة إلى المبيع لا مقصود أصلي فجرى مجرى آلات الصناعة كالقدوم، وأما المجاور فهو الشيء الذي يصحبه ويفارقه في الجملة، وهو إما صادق على الشيء كما يقال البيع وقت النداء اشتغال عن السعي الواجب، فإنه قد يوجد الاشتغال عن السعي الواجب بدون البيع، وأيضا على العكس إذا جرى البيع في حالة السعي، وإما غير صادق كقطع الطريق لا يصدق على السفر بل السفر الموصل إلى القطع فالقطع يوجد بدون سفر المعصية كما إذا قطع بدون السفر أو سافر للحج فقطع الطريق، وأيضا على العكس بأن سافر بدون نية القطع، ولم يوجد القطع أو سافر بنية القطع لكن لم يوجد القطع إذا ثبت هذا جئنا إلى تطبيق هذه الأصول على الأمثلة المذكورة أما الربا، فإنه فضل خال عن العوض شرط في عقد المعاوضة فلما كان مشروطا في العقد كان لازما للعقد، ثم هو خال عن العوض؛ لأن الدرهم لا يصلح عوضا إلا لمثله، فإن المعادلة بين الزائد والناقص عدول عن قضية العدل فلم توجد المبادلة في الزائد لكن الزائد هو فرع على المزيد عليه فكان كالوصف أو نقول ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، وقد وجد لكن لم توجد المبادلة التامة فأصل المبادلة حاصل لا وصفها، وهو كونها تامة، وأما البيع بالشرط فكالربا؛ لأن الشرط أمر زائد، وأما البيع بالخمر،
................................................................................................
قوله: "وهذا الفرق إنما يظهر أثره في النفل" إذ لا فرض في هذه الأوقات، وأما مثل القضاء والمنذورات المطلقة فلا يتأتى في هذه الأوقات صلاة كانت أو صياما لوجوبها بصفة الكمال.
قوله: "الملاقيح جمع ملقوحة" موافق لما في الصحاح، وذكر في الفائق أنها جمع ملقوح يقال لقحت الناقة وولدها ملقوح به إلا أنهم استعملوه بحذف الجار.
قوله: "وليس" أي الثمن ركن البيع؛ لأنه وسيلة إلى المبيع لقائل أن يقول لم لا يجوز أن(1/415)
كالملاقيح، والمضامين، فإن الركن معدوم فدل الدليل على أنه مجاز عن النسخ فيكون قبيحا لعينه. وكذا النكاح بغير شهود ; لأنه منفي بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بشهود" وإنما النسب وسقوط الحد للشبهة، ولأنه وضع للحل فلا ينفصل عنه، والبيع وضع للملك، والحل تابع له ; لأنه قد يشرع في موضع الحرمة، وفيما لا يحتمل الحل
ـــــــ
فإن الخمر مال غير متقوم فجعلها ثمنا لا يبطل البيع لما ذكرنا أن الثمن غير مقصود بل تابع ووسيلة فيجري مجرى الأوصاف التابعة، ولأن ركن البيع، وهو مبادلة المال بالمال متحقق لكن المبادلة التامة لم توجد لعدم المال المتقوم في أحد الجانبين، وأما صوم الأيام المنهية فلما ذكرنا أن الوقت كالوصف، ولأنه إعراض عن ضيافة الله تعالى وهذا وصف له، وأما الصلاة في الأرض المغصوبة، فإن شغل مكان الغير لم يلزم من الصلاة بل إنما يلزم من المصلي فإن كل جسم متمكن فوقع بين شغل مكان الغير، وبين الصلاة ملازمة اتفاقية، وأما البيع الفاسدة، فإنها أوجبت تلك المفاسد أي المفاسد المذكورة كالبيع بالشرط، والربا فتكون قبيحة بوصفها، وأما البيع وقت النداء فقد سبق ذكره، وقد وقع بينه وبين الاشتغال عن السعي ملازمة اتفاقية.
"وكذا النكاح بغير شهود؛ لأنه منفي بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بشهود" أي يكون باطلا لأنه منفي لا منهي، وكلامنا في المنهي فيرد إشكال، وهو أنه لما كان باطلا ينبغي أن لا يثبت النسب، ولا يسقط الحد فأجاب بقوله "وإنما النسب وسقوط الحد للشبهة، ولأنه" عطف على قوله؛ لأنه منفي. "وضع للحل فلا ينفصل عنه، والبيع وضع للملك، والحل تابع له؛ لأنه قد يشرع في موضع الحرمة، وفيما لا يحتمل الحل أصلا كالأمة المجوسية والعبد" أي وإن سلم أن النكاح منهي عنه، فإن نهيه يوجب البطلان؛ لأنه لا خلاف في أن النهي يوجب الحرمة، والنكاح عقد موضوع للحل فلما انفصل عنه ما وضع له، وهو الحل يكون باطلا بخلاف البيع؛ لأن وضعه للملك لا للحل بدليل مشروعيته في موضع الحرمة كالأمة المجوسية، وفيما لا يحتمل الحل أصلا كالعبد فإذا انفصل عنه الحل لا يبطل البيع.
................................................................................................
يكون أحد ركني الشيء وسيلة إلى الآخر، والآخر مقصودا أصليا بل الدليل على أنه ليس بركن هو أن البيع يجوز مع عدم الثمن، ولا يجوز مع عدم المبيع نعم تصور مفهوم البيع لا يمكن بدون الثمن؛ لأنه مبادلة مال بمال على التراضي، والتلفظ بصيغة البيع لا يصح شرعا بدون ذكر الثمن كالمبيع إلا أنه اختص المبيع بأن البيع لا يصح بدون وجوده فجعلوه ركنا، بخلاف الثمن.
قوله: "وأما البيوع الفاسدة" لا يخفى أنه لا معنى لهذا الكلام في هذا المقام.
قوله: "وكذا" أي مثل بيع المضامين والملاقيح النكاح بغير شهود في البطلان لا في أن النهي فيه لذاته إذ لا نهي هاهنا؛ لأن قوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بالشهود" نفي لتحقق النكاح الشرعي(1/416)
أصلا كالأمة المجوسية والعبد فإن قيل النهي عن الحسيات يقتضي القبح لعينه، والقبح لعينه لا يفيد حكما شرعيا إجماعا فلا يثبت حرمة المصاهرة بالزنا والملك بالغصب واستيلاء الكفار، والرخصة بسفر المعصية لا توجب النعمة ولا يلزم أن الطلاق في الحيض يوجب حكما شرعيا ; لأنه قبيح لغيره ولا الظهار ;
ـــــــ
"فإن قيل النهي عن الحسيات يقتضي القبح لعينه، والقبح لعينه لا يفيد حكما شرعيا إجماعا فلا يثبت حرمة المصاهرة بالزنا والملك بالغصب واستيلاء الكفار، والرخصة بسفر المعصية لا توجب النعمة" ثم ورد على هذا إشكال، وهو أنا لا نسلم أنه إذا ورد النهي عن الحسيات لا يفيد حكما شرعيا، فإن الطلاق في الحيض يفيد حكما شرعيا، والظهار يفيد الحكم الشرعي، وهو الكفارة فأجاب بقوله. "ولا يلزم أن الطلاق في الحيض يوجب حكما شرعيا؛ لأنه قبيح لغيره ولا الظهار؛ لأن الكلام في حكم مطلوب عن سبب لا في حكم
................................................................................................
بدون الشهود وإنما يثبت بعض أحكام النكاح فيه من سقوط الحد وثبوت النسب ووجوب العدة والمهر لشبهة العقد، وهي وجود صورته في محله لا لصحة النكاح، ولما كان هنا مظنة أن يقال إن هذا النفي في معنى النهي كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} [البقرة:197] وأيضا قد ورد النهي عن النكاح مع بطلانه كقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء:22] أشار إلى جواب أعم وأتم وهو أن النكاح إنما شرع للحل ضرورة بقاء التناسل، وبالنهي تثبت الحرمة، وينتفي الحل إجماعا فينتفي مشروعيته ضرورة أن الأسباب الشرعية إنما تراد لأحكامها لا لذواتها، بخلاف البيع، فإنه شرع للملك فانتفاء حل الاستمتاع لا ينافيه، وأما النكاح حالة الإحرام والاعتكاف والحيض، فإنما لم يبطل لظهور أثره في المآل أعني بعد زوال هذه العوارض لا يقال البيع مشروع للملك ولحل الانتفاع، والصوم للطاعة فيلزم بطلانهما بالنهي ضرورة أن المنهي عنه حرام ومعصية؛ لأنا نقول البيع مشروع للملك، وحل الانتفاع مبني عليه، ونفس المنهي عنه لا يلزم أن يكون معصية إلا إذا كان النهي عنه لذاته، والصوم ليس كذلك على ما مر.
قوله: "فإن قيل" ظاهر السؤال نقض على القاعدة المذكورة، وهي أن النهي عن الفعل الحسي يقتضي قبحه لعينه مع الإجماع على أن القبيح لعينه لا يفيد حكما شرعيا، وذلك لأن كلا من الزنا والغصب واستيلاء الكفار وسفر المعصية فعل حسي منهي عنه، وقد ثبت بالزنا حرمة المصاهرة وبالغصب والاستيلاء الملك وبسفر المعصية رخصة الإفطار، وقصر الصلاة والمسح ثلاثة أيام، وعلى هذا لا يتوجه المنع المذكور؛ لأن مطلوب المناقض بطلان القاعدة فينبغي أن يجعل السؤال ابتداء إشكال، وهو أن المنهي عنه في الصور المذكورة فعل حسي لا دلالة فيه على أن النهي عنه لغيره، وكل ما هذا شأنه فهو قبيح لعينه، ولا شيء من القبيح لعينه بمفيد لحكم شرعي فيلزم أن لا تكون الأفعال المذكورة مفيدة للأحكام المذكورة، وعلى هذا يكون المنع المذكور منعا للنتيجة من غير تعرض للقدح في المقدمتين مع أنهما اجتماعيتان، ثم استناد المنع بالطلاق والظهار ليس بمستقيم؛ لأنهما فعلان شرعيان بمنزلة البيع والنكاح اعتبر لهما في الشرع شرائط وخصوصيات لا(1/417)
لأن الكلام في حكم مطلوب عن سبب لا في حكم زاجر، فإن هذا يعتمد حرمة سببه قلنا الزنا لا يوجب ذلك بنفسه بل ; لأنه سبب للولد، وهو الأصل في إيجاب الحرمة، ثم يتعدى منه إلى الأطراف والأسباب كالوطء وما يعمل بالخلفية يعتبر في عمله صفة لأصل، والأصل وهو الولد لا يوصف بالحرمة والملك بالغصب لا
ـــــــ
زاجر، فإن هذا يعتمد حرمة سببه" فحاصل الجواب في الطلاق إن بحثنا في النهي عن الحسيات إذا لم يدل الدليل على أنه لقبح المجاور، وفي الطلاق قد دل الدليل، وأما في الظهار فبحثنا في أن المنهي عنه لا يفيد حكما شرعيا هو مطلوب عن السبب، والظهار لا يفيد حكما شرعيا كذلك بل أفاد حكما شرعيا هو زاجر. "قلنا الزنا لا يوجب ذلك بنفسه بل؛ لأنه سبب للولد، وهو الأصل في إيجاب الحرمة، ثم يتعدى منه إلى الأطراف والأسباب كالوطء" تقريره أن الزنا بذاته لا يوجب حرمة المصاهرة حتى يرد الإشكال بل لأن الولد يوجب الحرمة؛ لأن الاستمتاع بالجزء لا يجوز، ثم تتعدى منه الحرمة إلى أطرافه أي فروعه وأصوله كأمهات النساء، وتتعدى إلى الأسباب أي الولد هو موجب لحرمة أمهات النساء فأقيم ما هو سبب الولد مقام الولد في إيجاب حرمتهن كما أقمنا السفر مقام المشقة في إثبات الرخصة، وسبب الولد هو الوطء ودواعيه فجعلناها موجبة لحرمة المصاهرة لا ذاتا بل بتبعية الولد.
................................................................................................
حسيان بمنزلة الشرب والزنا، وليته أورد في هذا المقام كون كل من الشرب والزنا موجبا للحد، وعلى تقدير استقامة ما ذكر فالجواب عن الطلاق والظهار كلام على السند، وكأنه سكت عن جواب المنع؛ لأنه غير موجه بناء على ثبوت المقدمتين بالإجماع، ونبه على فساد ما توهم من كون الطلاق في الحيض منهيا عنه لذاته وكون الكفارة من أحكام الظهار والآثار المطلوبة به، ثم اشتغل بحل الإشكال ودفع ما يتوهم نقضا للقاعدة.
قوله: "فإن المعصية لا توجب النعمة" تأكيد، وزيادة دلالة على أن هذه الأفعال المنهية ينبغي أن لا توجب الأحكام المذكورة لكونها نعما أما الملك والرخصة فظاهر، وأما حرمة المصاهرة فلما فيها من ثبوت المحرمية والبعضية، وقد أشار إليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان:54] وانعقد عليه الإجماع.
قوله: "والأسباب" معناه، ثم تتعدى الحرمة إلى الأطراف، وإيجاب الحرمة إلى الأسباب، ثم لم يعتبر في السبب كالوطء مثلا كونه حلالا أو حراما؛ لأنه خلف عن الولد، وهو عين لا يتصف بالحل والحرمة، ومعنى قولهم حرام زاده أنه ليس ولد من وطء حرام لا يقال هو مخلوق من ماءين امتزجا امتزاجا غير مشروع بفعل غير مشروع في محل غير مشروع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "ولد الزنا شر الثلاثة" 1 ولا قرينة على تخصيصه بمولود معين؛ لأنا نقول لا معنى لاتصاف امتزاج
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب العتاق باب 12. أحمد في مسنده 2/311.(1/418)
يثبت مقصودا بل شرطا لحكم شرعي، وهو الضمان لئلا يجتمع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد والمدبر يخرج عن ملك المولى تحقيقا للضمان لكن لا يدخل في ملك الغاصب ضرورة لئلا يبطل حقه أو هو في مقابلة ملك اليد وأما الاستيلاء فإنما نهي لعصمة أموالنا، وهي غير ثابتة في زعمهم أو هي ثابتة ما دام محرزا، وقد زال فسقط النهي في حق الدنيا وسفر المعصية قبيح لمجاوره.
ـــــــ
"وما يعمل بالخلفية يعتبر في عمله صفة لأصل، والأصل وهو الولد لا يوصف بالحرمة" أي لما جعل الوطء موجبا لحرمة المصاهرة لكونه خلفا عن الولد لا تعتبر حرمته؛ لأن المعتبر في الخلف صفات الأصلي لا صفات الخلف كالتراب جعل خلفا عن الماء لا تعتبر صفات التراب بل تعتبر صفات الماء من الطهورية ونحوها فهنا لا يعتبر صفات الوطء، وهي الحرمة بل المعتبر الولد، وهو لا يوصف بالحرمة. "والملك بالغصب لا يثبت مقصودا بل شرطا لحكم شرعي، وهو الضمان لئلا يجتمع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد" هذا
................................................................................................
الماءين وانخلاق الولد بكونه حراما وباطلا وغير مشروع، وقد نشاهد ولد الزنا أصلح من ولد الرشدة في أمر الدين والدنيا فيكون دليلا على أن الحديث ليس على عمومه، ولهذا يستحق ولد الزنا جميع الكرامات التي يستحقها ولد الرشدة من قبول عبادته وشهادته وصحة قضائه وإمامته وغير ذلك.
قوله: "لأن الاستمتاع بالجزء لا يجوز" لقوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] وقوله عليه الصلاة والسلام: "ناكح اليد ملعون".
قوله: "ثم يتعدى منه" أي من الولد الحرمة إلى أطرافه أي فروعه من الأبناء والبنات وأصوله من الآباء والأمهات إلا أنه ترك في حق النساء ضرورة إقامة النسل كما سقطت حقيقة البعضية في حق آدم عليه الصلاة والسلام فلهذا صرح بذكر أمهات النساء، وفسر صاحب الكشف الأطراف بالأب والأم ومنع تفسيرها بالأب والأجداد والأم والأمهات؛ لأن حرمة أمهات الموطوءة وبناتها لا يتعدى إلا إلى الأب، وكذا حرمة آباء الواطئ وأبنائه لا تتعدى إلا إلى الأم حتى لا يحرم أم الزوجة أو جدتها على أب الزوج أو جده، فإن قيل هب أن حرمة الولد تتعدى إلى فروعه لوجود البعضية فما وجه تعديها إلى الأصول.؟ أجيب بأن ماء الرجل يختلط في الرحم بماء المرأة، ويصير شيئا واحدا ويثبت لهذا الماء بعضية من الواطئ وأصوله وبعضية من الموطوءة وأصولها، فإذا صار الماء إنسانا تعدى البعضية منه إلى الواطئ والموطوءة باعتبار أن جزءا من كل واحد منهما قد صار جزءا من الآخر إذ الولد بكماله يضاف إلى كل منهما فكان كل منهما بعضا من الآخر بواسطة الولد فتثبت الحرمة إلا أنه ترك في حق الموطوءة خاصة لضرورة التناسل، وفي حق ما بين الأجداد والجدات؛ لأنه أمر حكمي ضعيف فلا يعتبر في حق الأباعد.
قوله: "والملك بالغصب" فإن قيل لو كان ثبوت الملك في المغصوب بناء على صيرورة الضمان ملكا للمغصوب منه لما ثبت الملك قبله فلم ينفذ بيع الغاصب، ولم يسلم الكسب له قلنا:(1/419)
جواب عما يقال لا يثبت الملك بالغصب، وتقريره أن الغصب لا يفيد ملكا مقصودا بل إنما يثبت الملك في المغصوب بناء على أن الضمان صار ملكا للمغصوب منه فلو لم يخرج المغصوب عن ملكه، ولم يدخل في ملك الغاصب لاجتمع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد هذا لا يجوز، ثم ورد على هذا إشكال، وهو أن يقال لا نسلم أن اجتماع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد لا يجوز، فإن ضمان المدبر يصير ملكا للمغصوب منه مع أن المدبر لا ينتقل عن ملكه فأجاب عن هذا بقوله.
"والمدبر يخرج عن ملك المولى تحقيقا للضمان لكن لا يدخل في ملك الغاصب ضرورة لئلا يبطل حقه" أي المدبر يخرج عن ملك المغصوب منه إذ لو لم يخرج عن ملكه لا يدخل الضمان في ملكه لكن لا يدخل في ملك الغاصب إذ لو دخل لبطل حق المدبر، وهو استحقاق الحرية، ثم أجاب بجواب آخر وهو قوله "أو هو في مقابلة ملك اليد" فلما كان
................................................................................................
ليس المراد أن سبب الملك هو ملك الضمان أو تقرر الضمان على الغاصب بل السبب هو الغصب لكن لا من حيث كونه مقصودا من الغصب بل من حيث كونه شرطا لحكم شرعي هو وجوب الضمان المتوقف على خروج المغصوب عن ملك المغصوب منه ليكون القضاء بالقيمة جبرا لما فات إذ لا جبر بدون الفوات، وما ثبت شرطا لحكم شرعي يكون حسنا بحسنه، وإن قبح في نفسه، ويعتبر مقدما عليه ضرورة تقدم الشرط على المشروط، فزوال ملك الأصل مقتضى، وملك البدل مترتب عليه، ولما كان زوال الملك ضروريا لم يتحقق في الزوائد المنفصلة التي لا تبعية لها كالولد، وذلك أن الملك شرط للقضاء بالقيمة، والولد غير مضمون بالقيمة فليس يتبع فلا يثبت فيه الملك، بخلاف الزوائد المتصلة والكسب، فإنه تبع محض يثبت بثبوت الأصل، فإن قيل هذا بدل خلافة كما في التيمم لا بدل مقابلة كما في البيع فوجب أن لا يعتبر عند القدرة على الأصل كما إذا عاد العبد الآبق قلنا: نعم إلا أنا نحتاج إلى إزالة ملك الأصل عند القضاء لثبوت ملك البدل احترازا عن اجتماع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد، وعند حصول المقصود بالبدل لا عبرة بالقدرة على الأصل كما إذا تيمم وصلى به، ثم وجد الماء.
قوله: "لكن لا يدخل في ملك الغاصب" يعني أن ملك المدبر يحتمل الزوال، وإن لم يحتمل الانتقال فهاهنا قد زال من غير دخول في ملك الغاصب كالوقف يخرج عن ملك الواقف، ولا يدخل في ملك الموقوف عليه، فإن قيل فينبغي أن يكتفى بذلك في جميع الصور إذ به تندفع الضرورة أعني امتناع اجتماع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد، ولا حاجة إلى دخوله في ملك الغاصب قلنا: هذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الأموال المملوكية، ولأن الغرم بإزاء الغنم فلا يرتكب إلا عند الضرورة كما في المدبر كي لا يبطل حقه.
قوله: "أو هو" أي ضمان المدبر في مقابلة ملك اليد يعني أن الضمان في الغصب في مقابلة العين؛ لأنه المقصود والمضمون الأصلي الواجب الرد والمتقوم إلا أنه عدل عن ذلك في المدبر لتعذر انعدام الملك في العين فجعل بدلا عن النقصان الذي حل بيده كضمان العتق يجعل بدلا عن العين(1/420)
فصل: الأمر و النهي هل لهما حكم في الضد أم لا؟
...
فصل: اختلفوا في الأمر والنهي هل لهما حكم في الضد أم لا؟
والصحيح أنه إن فوت المقصود بالأمر يحرم، وإن فوت عدمه المقصود بالنهي يجب، وإن لم يفوت فالأمر يقتضي كراهته، والنهي كونه سنة مؤكدة لأنه لما لم يقصد الضد لا يعتبر إلا من حيث يفوت المقصود فيكون هذا القدر مقتضى الأمر والنهي، وإذا لم يفوت المقصود نقول بكراهته وكونه سنة مؤكدة ملاحظة لظاهر الأمر والنهي فقوله
ـــــــ
ضمان المدبر في مقابلة إزالة ملك اليد فلا يرد الإشكال المذكور، ثم أجاب عن استيلاء الكفار بقوله. "وأما الاستيلاء فإنما نهي لعصمة أموالنا، وهي غير ثابتة في زعمهم أو هي ثابتة ما دام محرزا، وقد زال فسقط النهي في حق الدنيا" أما في حق الآخرة فلا حتى يكون آثما مؤاخذا به، وأجاب عن سفر المعصية بقوله "وسفر المعصية قبيح لمجاوره" على ما بيناه من قبل.
"فصل: اختلفوا في الأمر والنهي هل لهما حكم في الضد أم لا، والصحيح أنه إن فوت
................................................................................................
عند احتمال إيجاد شرطه أعني تمليك العين كما في القن، ولا يجعل بدلا عنه عند عدمه كالمدبر وأم الولد.
قوله: "وأما الاستيلاء" يعني لا نسلم أنه لا دليل على كون الاستيلاء منهيا عنه لغيره، فإن الإجماع على ثبوت الملك بالاستيلاء على المال المباح، وعلى الصيد دليل على أن النهي عنه لغيره، وهو عصمة المحل أعني كون الشيء محرم التعرض محضا لحق الشرع أو لحق العبد، وعصمة أموالنا غير ثابتة في زعمهم؛ لأنهم يعتقدون إباحتها وتملكها بالاستيلاء فكانوا في حق الخطاب بثبوت عصمة أموالنا بمنزلة من لم يبلغه الخطاب من المؤمنين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام فيكون استيلاؤهم عليها كاستيلائهم على الصيد، ولما كان هنا مظنة أن يقال لا نسلم أن العصمة غير ثابتة في زعمهم بل هم يعرفون ذلك، وإنما يجحدون عنادا أشار إلى جواب آخر، وهو أن العصمة إنما تثبت ما دام المال محرزا باليد عليه حقيقة أو بالدار، وبعد استيلائهم وإحرازهم إياه بدار الحرب قد زال الإحراز الذي هو سبب العصمة فسقطت العصمة فلم يبق الاستيلاء محظورا، والاستيلاء فعل ممتد له حكم الابتداء في حالة البقاء فصار بعد الإحراز بدار الحرب كأنه استولى على مال غير معصوم ابتداء فيملكه كالمسلم للصيد.
قوله: "وسفر المعصية" ليس بمنهي عنه لذاته ولا لجزئه بل لمجاوره على ما سبق.
قوله: "فصل اختلفوا" في أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده وبالعكس، وليس الخلاف في المفهومين للقطع بأن مفهوم الأمر بالشيء مخالف لمفهوم النهي عن ضده، ولا في اللفظين للقطع بأن صيغة الأمر افعل وصيغة النهي لا تفعل، وإنما الخلاف في أن الشيء المعين إذا أمر به فهل هو نهي عن الشيء المضاد له فقيل إنه ليس نفس النهي عن ضده، ولا متضمنا له عقلا، وقيل نفسه وقيل يتضمنه، ثم اقتصر قوم على هذا، وقال آخرون إن النهي عن الشيء نفس الأمر(1/421)
المقصود بالأمر يحرم، وإن فوت عدمه المقصود بالنهي يجب، وإن لم يفوت فالأمر يقتضي كراهته، والنهي كونه سنة مؤكدة" يعني إذا أمر بالشيء فضد ذلك الشيء إن فوت المقصود بالأمر ففعل الضد يكون حراما، وإن لم يفوته يكون فعله مكروها، وإذا نهي عن الشيء فعدم ضده إن فوت المقصود بالنهي ففعل الضد يكون واجبا، وإن لم يفوته ففعله يكون سنة مؤكدة، فالحاصل أنه إن وجد شرائط التناقض بين الضدين فوجوب أحدهما يوجب حرمة الآخر، وحرمة أحدهما توجب وجوب الآخر "لأنه لما لم يقصد الضد لا يعتبر إلا من حيث يفوت المقصود فيكون هذا القدر مقتضى الأمر والنهي، وإذا لم يفوت المقصود نقول بكراهته وكونه سنة مؤكدة ملاحظة لظاهر الأمر والنهي"، فإن مشابهة المنهي عنه توجب الكراهة، ومشابهة المأمور به توجب الندب وكونه سنة مؤكدة.
................................................................................................
بضده، وقيل يتضمنه، ثم اختلف القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فمنهم من عمم القول في أمر الوجوب والندب فجعلهما نهيا عن الضد تحريما وتنزيها، ومنهم من خصص أمر الوجوب فجعله نهيا عن الضد تحريما دون الندب، ومنهم من خصص الحكم بما إذا اتحد الضد كالحركة والسكون، ومنهم من قال إنه عند التعدد يكون نهيا عن واحد غير معين إلى غير ذلك من الأقاويل على ما بين في الكتب المبسوطة والمختار، عند المصنف رحمه الله تعالى أن ضد المأمور به إن كان مفوتا للمقصود يكون حراما، وإلا كان مكروها، وكذا عدم ضد المنهي عنه مثلا إذا تعين زمان وجوب المأمور به فالضد المفوت له يكون حراما في ذلك الزمان ساء اتحد أو تعدد حتى لو أمر بالخروج عن الدار فبأي ضد يشتغل من القيام والقعود والاضطجاع في الدار يكون حراما لفوات المأمور به، لكن التحقيق أن حرمة كل منهما إنما تكون من حيث إنه من أفراد ضد المأمور به، وهو السكون في الدار كالأمر بالإيمان يوجب حرمة النفاق واليهودية والنصرانية لكونها من أفراد الكفر، وفي النهي عن الشيء لا يجب إلا ضد واحد إذ ترك القيام مثلا يحصل بكل من القعود والاضطجاع، وحاصل هذا الكلام أن وجوب الشيء يدل على حرمة تركه وحرمة الشيء تدل على وجوب تركه، وهذا مما لا يتصور فيه نزاع.
قوله: "وهو في معنى النهي" يعني أن قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة:228] وإن كان ظاهره إخبارا عن عدم حل الكتمان إلا أنه في المعنى نهي عن الكتمان فيقتضي وجوب الإظهار لئلا يفوت عدم الكتمان المقصود بالنهي وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228] في معنى الأمر أي ليتربصن أي يكففن، ويحبسن أنفسهن عن نكاح آخر ووطء آخر فيقتضي حرمة التزوج لكونه مفوتا للتربص، والنهي عن عزم عقدة النكاح يقتضي وجوب الكف عن التزوج، وهذا أيضا تفريع على أن النهي عن الشيء يقتضي وجوب ضده المفوت له كالأول إلا أن فيه بحثا، وهو أن المعتدة إذا تزوجت بزوج آخر ووطئها وفرق القاضي بينهما يجب عليها عدة أخرى وتحتسب ما ترى من الإقراء من العدتين، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجب عليها استئناف العدة بعد انقضاء الأولى؛ لأنها مأمورة بالكف، وذكر المدة تقدير للركن الذي هو الكف كتقدير الصوم إلى الليل، ولا يتصور كفان من شخص واحد في مدة واحدة كأداء صومين في يوم واحد فأجاب عنه(1/422)
تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} وهو في معنى النهي يقتضي وجوب الإظهار، والأمر بالتربص يقتضي حرمة التزوج وقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} يقتضي الأمر بالكف لكنه غير مقصود فيجري التداخل في العدة بخلاف الصوم، فإن الكف ركنه، وهو مقصود. والمأمور بالقيام في الصلاة إذا قعد ثم قام لا يبطل لكنه
ـــــــ
"فقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة:228]"، وهو في معنى النهي يقتضي وجوب الإظهار، والأمر بالتربص يقتضي حرمة التزوج وقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة:235] يقتضي الأمر بالكف لكنه غير مقصود فيجري التداخل في العدة بخلاف الصوم، فإن الكف ركنه، وهو مقصود. "وأما المأمور بالقيام في الصلاة إذا قعد ثم قام لا يبطل لكنه يكره، والمحرم لما نهي عن لبس المخيط كان لبس الإزار والرداء سنة، والسجود على
................................................................................................
بأن المقصود بالأمر بالعدة ليس هو الكف بل هو المحرمات من النكاح والخروج والجماع؛ لأنها كانت ثابتة حال النكاح، والطلاق شرع لإزالتها إلا أن الشرع أخر ثبوت الحكم بعد انعقاد السبب إلى انقضاء المدة إذ لو كان المقصود هو الكف لما كان الخروج أو النكاح حراما في نفسه فلو تحقق ينبغي أن لا يأثم إلا إثم ترك الكف لا إثم الخروج والجماع، ولما كان المقصود هو الحرمات والتروك تداخلت العدتان إذ لا امتناع في اجتماع الحرمات فيجوز أن تثبت حرمة الخروج والتزوج مؤجلة إلى انقضاء مدة الإقراء، ولهذا سمى الله تعالى العدة أجلا، والآجال إذا اجتمعت على واحد أو لواحد انقضت مدة واحدة كما في الديون، بخلاف الصوم، فإن الكف ركنه المقصود بالأمر، ولا يتصور اتصاف الشيء في زمان واحد بفعلين متجانسين كجلوسين.
قوله: "والمأمور بالقيام" تفريع على أن ضد المأمور به إذا لم يفوته كان مكروها لا حراما، فإن قعود المصلي لا يفوت القيام المأمور به لجواز أن يعود إليه لعدم تعين الزمان حتى لو كان القيام مأمورا به في زمان بعينه حرم القعود فيه، وقوله لا يبطل معناه لا يفسد؛ لأن عدم البطلان لا يدل على عدم الوجوب؛ لأن ترك الواجب يفسد الصلاة ولا يبطلها.
قوله: "والمحرم" تفريع على أن عدم ضد المنهي عنه إذا لم يفوته كان مندوبا لا واجبا، فإن المحرم منهي عن لبس المخيط مدة إحرامه، وعدم ضده أعني عدم لبس الرداء والإزار ليس بمفوت للمقصود بالنهي أعني ترك لبس المخيط لجواز أن لا يلبس المخيط ولا شيئا من الرداء والإزار فيكون لبس الرداء والإزار سنة لا واجبا لا يقال ضد لبس المخيط تركه أعم من أن يلبس شيئا آخر، أو لا عدم الترك مفوت للمقصود بالنهي ضرورة؛ لأنا نقول هذا مبني على اعتباراتهم من أن ضد القيام هو القعود والاضطجاع ونحوهما لا ترك القيام فضد لبس المخيط، هو لبس غير المخيط وهو الموافق لإصلاح المتكلمين من أن الضد يكون وجوديا.
قوله: "والسجود" تفريع على أصلين مما سبق، وذلك أن السجود على الطاهر مأمور به فإذا سجد على النجس لا يكون مفوتا للمأمور به لجواز أن يسجد بعد ذلك على الطاهر فتجوز، ولا(1/423)
يكره، والمحرم لما نهي عن لبس المخيط كان لبس الإزار والرداء سنة، والسجود على النجس لا يفسد عند أبي يوسف ; لأنه لا يفوت المقصود حتى إذا أعاده على الطاهر يجوز وعندهما يفسد ; لأنه يصير مستعملا للنجس في عمل هو فرض، والتطهير عن النجاسة في الأركان فرض دائم فيصير ضده مفوتا.
ـــــــ
النجس لا يفسد عند أبي يوسف؛ لأنه لا يفوت المقصود حتى إذا أعاده على الطاهر يجوز وعندهما يفسد؛ لأنه يصير مستعملا للنجس في عمل هو فرض، والتطهير عن النجاسة في الأركان فرض دائم فيصير ضده مفوتا" فهذه المسائل تفريعات على ما ذكر من الأصل، وبعد معرفة أحكام الأصل معرفة هذه الفروع تكون سهلة إنه المسهل لكل عسير.
................................................................................................
تفسد الصلاة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعندهما تفسد بناء على أنه مأمور به بدوام التطهير في جميع الأركان، فاستعمال النجس في عمل هو فرض في وقت ما يكون مفوتا للمقصود بالأمر، وإنما قال في عمل هو فرض إشارة إلى أنه لو وضع اليدين أو الركبتين على موضع نجس لا تفسد صلاته خلافا لزفر، وذلك لأن وضع اليدين أو الركبتين ليس بفرض فيكون وضعهما على النجس بمنزلة ترك الوضع وهو لا يفسد، وتحقيق ذلك أنه إنما يصير مستعملا للنجس إذا كان حاملا للنجاسة تحقيقا، وهو ظاهر أو تقديرا كما إذا كان في مكان وضع الوجه نجس، فإن النجاسة تصير وصفا للوجه باعتبار أن اتصاله بالأرض ولصوقه بها فرض لازم فيصير ما هو صفة للأرض صفة له، بخلاف ما إذا ما لم يكن اللصوق لازما فإنه لا يقوى هذه القوة، ثم لا يخفى لطف الإيهام في قوله: "إنه المسهل لكل عسير".(1/424)
المجلد الثاني
الركن الثاني: السنة
مدخل
...
الركن الثاني: في السنة
وهي تطلق على قول الرسول عليه السلام وعلى فعله والحديث مختص بقوله والأقسام التي ذكرت في كتاب ثابتة ههنا أيضاً فلا نشتغل بها
ـــــــ
"الركن الثاني في السنة وهي تطلق على قول الرسول عليه السلام وعلى فعله, والحديث مختص بقوله: والأقسام التي ذكرت في كتاب" كالخاص والعام والمشترك إلى آخرها والأمر والنهي ثابتة ههنا أيضا فلا نشتغل بها, وإنما بحثنا في بيان الاتصال بالرسول عليه السلام فنبحث في أمور: في كيفية الاتصال, وفي الانقطاع, وفي محل الخبر, وفي كيفية السماع والضبط والتبليغ, وفي الطعن.
"فصل" في الاتصال الخبر لا يخلو من أن يكون رواته في كل عهد قوما لا يحصى عددهم, ولا يمكن تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم أو تصير كذلك
................................................................................................
قوله: "الركن الثاني في السنة وهي" في اللغة: الطريقة والعادة, وفي الاصطلاح في العبادات النافلة وفي الأدلة وهو المراد هاهنا ما صدر عن النبي عليه السلام غير القرآن من قول ويسمى الحديث أو فعل أو تقرير, والمقصود بالبحث هاهنا بيان اتصال السنة بالنبي عليه السلام; لأنه يبحث عن كيفية الاتصال بأنه بطريق التواتر أو غيره وعن حال الراوي, وعن شرائطه وعن ضد الاتصال, وهو الانقطاع, وعن متعلقه الذي هو محل الخبر, وعن وصوله من الأعلى إلى الأدنى في المبدأ وهو السماع, أو المنتهى, وهو التبليغ, أو الوسط, وهو الضبط عن قدح القادح فيه, وهو الطعن وعما يخص نوعا خاصا من السنة, وهو الفعل وعن مبدأ السنة, وهو الوحي, وعما يتعلق بها تعلق السوابق كشرائع من قبلنا أو تعلق اللواحق كأقوال الصحابة فأورد هذه المباحث في أحد عشر فصلا.
قوله: "فصل في الاتصال" فإن قلت كيف جعل مورد القسمة الخبر, وفي السنة الأمر والنهي بل الفعل أيضا ينقل بالطرق المذكورة قلت; لأن المتصف حقيقة بالتواتر وغيره هو الخبر ومعنى اتصاف الأمر والنهي به أن الإخبار بكونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم متواتر ومعنى المتواتر على مقتضى كلامه(2/3)
وإنما بحثنا في بيان الاتصال بالرسول عليه السلام فنبحث في أمور في كيفية الاتصال وفي الانقطاع وفي محل وفي كيفية السماع والضبط والتبليغ وفي الطعن.
ـــــــ
بعد القرن الأول أو لا تصير كذلك بل رواته آحاد. والأول متواتر والثاني مشهور والثالث خبر الواحد ولم يعتبر فيه العدد إذا لم يصل حد التواتر. والأول: يوجب علم اليقين; لأن الاتفاق على شيء مخترع مع تباين همومهم وطبائعهم وأماكنهم مما يستحيل عقلا. والثاني يوجب علم طمأنينة وهو علم تطمئن به النفس, وتظنه يقينا لكن لو تأمل حق التأمل علم أنه ليس بيقين كما إذا رأى قوما جلسوا للمأتم يقع له علم عن غفلة عن التأمل; لأنه يمكن المواضعة بناء على أنه آحاد الأصل, وإنما يوجب أي: الخبر المشهور
................................................................................................
ما يكون رواته في كل عهد قوما لا يحصى عددهم, ولا يمكن تواطؤهم على الكذب لكثرتهم, وعدالتهم وتباين أماكنهم فقوله: في كل عهد احتراز عن المشهور وقوله: لا يحصى عددهم معناه لا يدخل تحت الضبط, وفيه احتراز عن خبر قوم محصور, وإشارة إلى أنه لا يشترط في التواتر عدد معين على ما ذهب إليه بعضهم من اشتراط خمسة أو اثني عشر أو عشرين أو أربعين أو خمسين قولا من غير دليل. وقوله: ولا يمكن تواطؤهم أي: توافقهم على الكذب, عند المحققين تفسير للكثرة بمعنى أن المعتبر في كثرة المخبرين بلوغهم حدا يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب حتى لو أخبر جمع غير محصور بما يجوز تواطؤهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون متواترا وأما ذكر العدالة وتباين الأماكن فتأكيد لعدم تواطئهم على الكذب, وليس بشرط في التواتر حتى لو أخبر جمع غير محصور بما يجوز تواطؤهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون متواترا وأما ذكر العدالة وتباين الأماكن فتأكيد لعدم تواطئهم على الكذب وليس بشرط في التواتر, حتى لو أخبر جمع غير محصور من كفار بلدة بموت ملكهم حصل لنا اليقين وأما مثل خبر اليهود بقتل عيسى عليه السلام وتأبيد دين موسى عليه السلام فلا نسلم تواتره وحصول شرائطه في كل عهد ثم المتواتر لا بد أن يكون مستندا إلى الحس سمعا أو غيره حتى لو اتفق أهل إقليم على مسألة عقلية لم يحصل لنا اليقين حتى يقوم البرهان.
قوله: "والأول" أي: المتواتر يوجب علم اليقين لأن اتفاق الجمع الغير المحصور على شيء مخترع لا ثبوت له في نفس الأمر مع تباين آرائهم وأخلاقهم وأوطانهم مستحيل عقلا بمعنى أن العقل يحكم حكما قطعيا بأنهم لم يتواطئوا على الكذب وأن ما اتفقوا عليه حق ثابت في نفس الأمر غير محتمل للنقيض لا بمعنى سلب الإمكان العقلي على تواطئهم على الكذب, والأحسن أن يقال: إنا نجد من أنفسنا العلم الضروري بالبلاد النائية كمكة وبغداد والأمم الخالية كالأنبياء والأولياء عليهم السلام بحيث لا يحتمل النقيض أصلا وما ذاك إلا بالأخبار ثم حصول العلم من التواتر ضروري لا يفتقر إلى تركيب الحجة حتى إنه يحصل لمن لا يعلم ذلك كالصبيان وجواز ترتيب المقدمات لا ينافي ذلك كما في بعض الضروريات فإن قيل جواز كذب كل واحد يوجب جواز كذب الآخرين لعدم المنافاة مع أن المجموع ليس إلا نفس الآحاد فجواز كذب كل واحد يوجب جواز كذب المجموع وأيضا يلزم القطع بالنقيضين عند تواترهما, وأيضا إذا عرضنا على أنفسنا(2/4)
ذلك لأنه وإن كان في الأصل خبر واحد لكن أصحاب الرسول عليه السلام تنزهوا عن وصمة ثم ذلك دخل في حد التواتر فأوجب ما ذكرنا. والثالث يوجب غلبة الظن إذا اجتمع الشرائط التي نذكرها إن شاء الله تعالى يكون معروفاً
ـــــــ
"ذلك" أي: علم طمأنينة القلب لأنه, وإن كان في الأصل خبر واحد, لكن أصحاب الرسول عليه السلام تنزهوا عن وصمة الكذب. ثم بعد ذلك دخل في حد التواتر فأوجب ما ذكرنا, والثالث يوجب غلبة الظن إذا اجتمع الشرائط التي نذكرها إن شاء الله تعالى وهي كافية لوجوب العمل, وعند البعض لا يوجب شيئا; لأنه لا يوجب العلم, ولا عمل إلا عن علم لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وعند بعض أهل الحديث يوجب العلم; لأنه يوجب العمل, ولا عمل إلا عن علم فأما إيجابه العمل فلقوله تعالى:
................................................................................................
وجود إسكندر وكون الواحد نصف الاثنين نجد الثاني أقوى بالضرورة فلو كانا ضروريين لما كان بينهما فرق, وأيضا الضروري يستلزم الوفاق, وهو منتف في المتواتر لمخالفة السمنية والبراهمة. وأجيب إجمالا بأنه تشكيك في الضروري فلا يستحق الجواب كشبه السوفسطائية وتفصيلا بأن حكم الجملة قد يخالف حكم الآحاد كالعسكر الذي يفتح البلاد, وتواتر النقيضين محال عادة, ولا امتناع في اختلاف أنواع الضروري بحسب السرعة والوضوح بواسطة الإلف والعادة وكثرة الممارسة والأخطار بالبال, ونحو ذلك مع الاشتراك في عدم احتمال النقيض, والضروري لا يستلزم الوفاق لجواز المكابرة والعناد كما للسوفسطائية.
قوله: "والثاني" أي: المشهور يفيد علم طمأنينة, والطمأنينة زيادة توطين وتسكين يحصل للنفس على ما أدركته فإن كان المدرك يقينيا فاطمئنانها زيادة اليقين وكماله كما يحصل للمتيقن بوجود مكة بعد ما يشاهدها, وإليه الإشارة بقوله تعالى حكاية: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}, وإن كان ظنيا فاطمئنانها رجحان جانب الظن بحيث يكاد يدخل في حد اليقين, وهو المراد هاهنا وحاصله سكون النفس عن الاضطراب بشبهة إلا عنه ملاحظة كونه آحاد الأصل, فالمتواتر لا شبهة في اتصاله صورة, ولا معنى, وخبر الواحد في اتصاله شبهة صورة, وهو ظاهر ومعنى حيث لا تتلقاه الأمة بالقبول والمشهور في اتصاله شبهة صورة لكونه آحاد الأصل لا معنى; لأن الأمة قد تلقته بالقبول فأفاد حكما دون اليقين وفوق أصل الظن فإن قيل هو في الأصل خبر واحد ولم ينضم إليه في الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم ما يزيد على الظن, فيجب أن يكون بمنزلة خبر الواحد قلنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تنزهوا عن وصمة الكذب أي: الغالب الراجح من حالهم الصدق فيحصل الظن بمجرد أصل النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يحصل زيادة رجحان بدخوله في حد التواتر وتلقيه من الأمة بالقبول فيوجب علم طمأنينة, وليس المراد بتنزههم عن وصمة الكذب أن نقلهم صادق قطعا بحيث لا يحتمل الكذب, وإلا لكان المشهور موجبا علم اليقين; لأن القرن الثاني والثالث, وإن لم يتنزها عن الكذب إلا أنه دخل في حد التواتر.
وأما بعد القرون الثلاثة فأكثر أخبار الآحاد نقلت بطريق التواتر لتوفر الدواعي على نقل الأحاديث(2/5)
بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين والعبادلة وزيد ومعاذ وأبي موسى الأشعري وعائشة ونحوهم رضي الله تعالى عنهم وقد روى عنه الثقات كابن مسعود وعلقمة
ـــــــ
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الطائفة تقع على الواحد فصاعدا والرسول عليه السلام قبل خبر بريرة وسلمان في الهدية والصدقة وأرسل الأفراد إلى الآفاق والأخبار في أحكام الآخرة لا توجب إلا الاعتقاد, وهي مقبولة; ولأنه يحتمل الصدق والكذب وبالعدالة يترجح الصدق, ولنا هذه الدلائل لكن لا نسلم أنه لا عمل إلا عن علم قطعي, والعقل يشهد أنه لا يوجب اليقين. والأحاديث في أحكام الآخرة منها ما اشتهر, ومنها ما دون ذلك وكل ذلك يوجب ما ذكرنا; ولأنها توجب عقد القلب, وهو عمل فيكفي له خبر الواحد, وفي هذا نظر; لأنه يجب أن لا يختص هذا بأحكام الآخرة بل يكون كل الاعتقاديات كذلك.
[فصل] الراوي إما معروف بالرواية وإما مجهول أي: لم يعرف إلا بحديث أو حديثين, والمعروف إما أن يكون معروفا بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين والعبادلة "أي: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر" وزيد, ومعاذ وأبي موسى الأشعري وعائشة
................................................................................................
وتدوينها في الكتب, وفي كلامه إشارة إلى أن خبر الواحد إذا لم يكن راويه الأول متنزها عن وصمة الكذب لا يفيد علم الطمأنينة, وإن دخل بعد ذلك في حد التواتر كما يشتهر من الأخبار الكاذبة في البلاد.
قوله: "والثالث, وهو خبر الواحد" يوجب العمل دون علم اليقين وقيل لا يوجب شيئا منهما وقيل يوجبهما جميعا ووجه ذلك أن الجمهور ذهبوا إلى أنه يوجب العمل دون العلم وقد دل ظاهر قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 23] على استلزام العمل العلم فذهب طائفة إلى أنه يوجب العمل أيضا احتجاجا بنفي اللازم, وهو علم على نفي الملزوم وطائفة إلى أنه يوجب العلم أيضا احتجاجا بوجود الملزوم على وجود اللازم والمصنف رحمه الله تعالى منع اللزوم من غير تعرض لدفع الدليل وظاهره غير موجه إلا أنه اعتمد على ظهوره. وهو أن اتباع الظن قد ثبت بالأدلة, ولا عموم للآيتين في الأشخاص والأزمان على أن العلم قد يستعمل في الإدراك جازما ما كان أو غير جازم, والظن قد يكون بمعنى الوهم واستدل على كون خبر الواحد موجبا للعمل بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ} [النوبة: 122] الآية, وذلك أن لولا ههنا للطلب والإيجاب لامتناع الترجي على الله تعالى والطائفة بعض من الفرقة واحد أو اثنان إذ الفرقة هي الثلاثة فصاعدا وبالجملة لا يلزم أن يبلغ حد التواتر فدل على أن قول الآحاد يوجب الحذر, وقد يجاب بأن المراد الفتوى في الفروع بقرينة التفقه ويلزم تخصيص القوم بغير المجتهدين بقرينة أن المجتهد لا يلزمه وجوب الحذر بخبر الواحد; لأنه ظني, وللاجتهاد فيه مساغ ومحال; على أن كون لولا للإيجاب والطلب محل نظر ثم قوله تعالى:(2/6)
ونحوهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين وحديثه يقبل وافق القياس أو خالفه وحكي عن مالك أن القياس مقدم عليه ورد بأنه يقين بأصله, وإنما الشبهة في نقله, وفي القياس العلة محتملة, وهي الأصل, وأيضا إذا ثبت أن هذا علة قطعا لكن يمكن أن يكون في الفرع مانع أو لخصوصية الأصل أثر, أو بالرواية فقط كأبي هريرة, وأنس رضي الله تعالى عنهما فإن وافق القياس قبل, وكذا إن خالف قياسا ووافق قياسا آخر لكنه إن خالف جميع الأقيسة لا يقبل
................................................................................................
{كُلِّ فِرْقَةٍ}, وإن كان عاما إلا أنه خص بالإجماع على عدم خروج واحد من كل ثلاثة, وأما السنة فلأنه عليه الصلاة والسلام قبل خبر بريرة في الهدايا وخبر سلمان في الهدية والصدقة حين أتي بطبق رطب فقال هذا صدقة فلم يأكل منه وأمر أصحابه بالأكل, ثم أتي بطبق رطب وقال هذا هدية فأكل, وأمر أصحابه بالأكل ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يرسل الأفراد من أصحابه إلى الآفاق لتبليغ الأحكام, وإيجاب قبولها على الأنام, وهذا أولى من الأول لجواز أن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم علم بصدقهما على أنه إنما يدل على القبول دون الوجوب. فإن قيل هذه أخبار آحاد فكيف يثبت بها كون خبر الواحد حجة, وهو مصادرة على المطلوب؟ قلنا: تفاصيل ذلك وإن كانت آحادا إلا أن جملتها بلغت حد التواتر كشجاعة علي وجود حاتم, وإن لم يلزم التواتر فلا أقل من الشهرة وربما يستدل بالإجماع, وهو أنه نقل من الصحابة وغيرهم الاستدلال بخبر الواحد, وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى, وتكرر ذلك وشاع من غير نكير. وذلك يوجب العلم عادة بإجماعهم كالقول الصريح, وقد دل سياق الأخبار على أن العمل في تلك الوقائع كان بنفس خبر الواحد وما نقل من إنكارهم بعض أخبار الآحاد إنما كان عند قصور في إفادة الظن ووقوع ريبة في الصدق.
قوله: "والإخبار في أحكام الآخرة ولأنه يحتمل" دليلان مستقلان على كون خبر الواحد موجبا للعلم تقرير الأول أن خبر الواحد في أحكام الآخرة من عذاب القبر وتفاصيل الحشر والصراط والحساب والعقاب وغير ذلك مقبول بالإجماع مع أنه لا يفيد إلا الاعتقاد إذ لا يثبت به عمل من الفروع. وتقرير الثاني أن خبر الواحد يحتمل الصدق والكذب وبالعدالة ترجح جانب الصدق بحيث لا يبقى احتمال الكذب, وهو معنى العلم وجوابه أنا لا نسلم ترجح جانب الصدق إلى حيث لا يحتمل الكذب أصلا بل العقل شاهد بأن خبر الواحد العدل لا يوجب اليقين, وأن احتمال الكذب قائم, وإن كان مرجوحا وإلا لزم القطع بالنقيضين عند إخبار العدلين بهما. وجواب الأول وجهان أحدهما أن الأحاديث في باب الآخرة منها ما اشتهر فيوجب علم الطمأنينة, ومنها ما هو خبر الواحد فيفيد الظن وذلك في التفاصيل والفروع, ومنها ما تواتر واعتضد بالكتاب وهو في الجمل والأصول فيفيد القطع. وثانيهما: أن المقصود من أحكام الآخرة عقد القلب, وهو عمل فيكفيه خبر الواحد واعترض عليه بأنه يلزم عقد القلب في غير أحكام الآخرة, وهو معنى العلم, وقد بين فساده وجوابه أن الأحاديث في أحكام الآخرة إنما وردت لعقد القلب والجزم بالحكم, وفي غيرها للعمل دون الاعتقاد فوجب الإتيان بما كلفنا به في كل منهما.
قوله: "فصل" حاصله أن الراوي إما معروف بالرواية أو مجهول أما المعروف فإن كان معروفا بالفقه يقبل سواء وافق القياس أم لا, وإلا فإما أن يوافق قياسا ما فيقبل أو لا فيرد, وأما المجهول فإما أن يظهر حديثه في القرن الثاني أو لا فإن لم يظهر يجوز العمل به في القرن الثالث لا(2/7)
عندنا, وهذا هو المراد من السداد باب الرأي; وذلك لأن النقل بالمعنى كان مستفيضا فيهم فإذا قصر فقه الراوي لم يؤمن من أن يذهب شيء من معانيه فتدخله شبهة زائدة يخلو عنها القياس. وذلك كحديث المصراة, وهي ما روي أنه عليه السلام قال: "من اشترى شاة فوجدها محفلة فهو بخير النظرين إلى ثلاثة أيام إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردها ورد معها صاعا من تمر". والمحفلة شاة جمع اللبن في ضرعها بترك حلبها ليظنها المشتري سمينة فيغتر. فهذا الحديث مخالف للقياس الصحيح من كل وجه; لأن تقدير ضمان العدوان بالمثل أو بالقيمة حكم ثابت بالكتاب, وهو قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} والسنة والإجماع.
................................................................................................
بعده وإن ظهر فإما أن يشهد السلف له بصحة الحديث فيقبل أو برده فلا يقبل أو يسكتوا عنه فيقبل أو يقبل البعض ويرد البعض مع نقل الثقات عنه فإن وافق قياسا, وإلا فلا.
قوله: "وحديثه يقبل" أي: يعمل بحديث الراوي المعروف بالرواية والفقه سواء وافق القياس حتى يكون ثبوت الحكم به لا بالقياس أو خالفه حتى يثبت موجبه لا موجب القياس, وذهب أصحاب الشافعية إلى أن العلة إن ثبتت بنص راجح على الخبر في الدلالة فإن كان وجودها في الفرع قطعيا فالقياس مقدم راجح على الخبر, وإن كان ظنيا فالتوقف, وإن ثبتت لا بنص راجح فالخبر مقدم, وعن أبي الحسين البصري رحمه الله تعالى أنه لا خلاف في تقدم القياس إن ثبتت العلة بنص قطعي, وفي تقدم الخبر إن ثبتت بنص ظني أو استنبطت من أصل ظني, وإنما الخلاف فيما إذا استنبطت من أصل قطعي واستدل المصنف رحمه الله تعالى على تقدم الخبر بوجهين. الأول: أن الخبر يقين بأصله; لأنه من حيث إنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحتمل الخطأ, وإنما الشبهة في عارض النقل حيث يحتمل الغلط والنسيان والكذب, والقياس محتمل بأصله أي: علته التي تبنى عليها الأحكام فإنها لا تتحقق يقينا إلا بنص قطعي أو إجماع, وهو أمر عارض, ولا شك أن متيقن الأصل راجح على محتمله. الثاني أنه على تقدير ثبوت العلة قطعا يحتمل أن يكون خصوصية الأصل شرطا لثبوت الحكم أو خصوصية الفرع مانعا عنه فيكون تطرق الاحتمال إلى القياس أكثر فيؤخر عن الخبر الذي لا يتطرق الاحتمال إلا في طريق نقله هو عارض ثم ترك الصحابة القياس بالخبر متواتر المعنى, وإن كانت آحاده غير متواترة فيكون إجماعا.
قوله: "لكنه" أي: خبر الراوي المعروف بالرواية دون الفقه إن خالف جميع الأقيسة التي لا يكون ثبوت أصولها بخبر راو غير معروف بالفقه لا يقبل عندنا, وفيه بحث أما أولا; فلأن الشبهة في القياس في أمور ستة حكم الأصل وتعليله في الجملة, وتعين الوصف الذي به التعليل, ووجود ذلك الوصف في الفروع, ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع. وأما ثانيا فلأن الظاهر من حال عدول الصحابة نقل الحديث بلفظه ولهذا نجد في كثير من الأحاديث شك الراوي وإنما استفاض النقل بالمعنى عند العلماء لتقرير لفظ الحديث بالرواية, والتدوين. وأما ثالثا; فلأنه نقل عن كبار الصحابة أنهم تركوا القياس بخبر الواحد الغير المعروف بالفقه, وقد نقل صاحب الكشف ما يشير إلى أن هذا الفرق مستحدث, وأن خبر الواحد مقدم على القياس من غير تفصيل, وما روي من(2/8)
ومسروق وغيرهم فعملنا به لما وافق القياس عندنا فإن الموت كالدخول ولم يعمل به الشافعي رحمه الله تعالى وإن رده الكل فهو مستنكر لا يعمل به كحديث فاطمة بنت
ـــــــ
استبعاد ابن عباس خبر أبي هريرة في الوضوء مما مسته النار ليس تقديما للقياس بل استبعادا للخبر لظهور خلافه, وقد يستدل بأن الكتاب دل على وجوب العمل بالقياس, وهو قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} وخبر الواحد لا يصلح ناسخا للكتاب, ويجاب بأنه لا عموم في الآية حتى يثبت به قياس يعارضه خبر الواحد ولو سلم فقد خص منه القياس الذي يعارضه دليل أقوى منه فلم يبق قطعيا, وقد سبق أن العام الذي خص منه البعض يجوز أن يخص بالخبر والقياس.
قوله: "كحديث المصراة" من صريته إذا جمعته, والمراد الشاة التي جمع اللبن في ضرعها بالشد, وترك الحلب مدة ليظنها المشتري كثيرة اللبن, وقول المصنف رحمه الله تعالى ليظنها المشتري سمينة فيه نظر وكذا المحفلة روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: "لا تصروا الإبل, والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" 1 ويروى "بأحد النظرين" ويروى "من اشترى شاة محفلة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام" 2 الحديث. ووجه كون هذا الحديث مخالفا للقياس الصحيح أن تقدير ضمان العدوان بالمثل ثابت بالكتاب, وهو قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وتقديره بالقيمة ثابت بالسنة, وهي قوله: عليه الصلاة والسلام: "من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا" 3, وكلاهما ثابت بالإجماع المنعقد على وجوب المثل أو القيمة عند فوات العين فإن قيل فيكون رد هذا الحديث بناء على مخالفة الكتاب, والسنة, والإجماع, ولا نزاع في ذلك أجيب بأن هذه الصورة ليست من ضمان العدوان صريحا لكنه بعد فسخ العقد ظهر أنه تصرف في ملك الغير بلا رضاه; لأن البائع إنما رضي لحلب الشاة على تقدير أن يكون ملكا للمشتري فيثبت فيها الضمان بالمثل أو القيمة قياسا على صورة العدوان
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 64. مسلم في كتاب البيوع حديث 11، 23 – 26. أبو داود في كتاب البيوع باب 46. الترمذي في كتاب البيوع باب 29. النسائي في كتاب البيوع باب 14. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 42. الدارمي في كتاب البيوع باب 19. الموطأ في كتاب البيوع حديث 96. أحمد في مسنده 1/430 2/242 4/314.
2 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 64. الترمذي في كتاب البيوع باب 46. النسائي في كتاب البيوع باب 14. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 42. أحمد في مسنده 1/430، 433 2/248، 410
3 رواه البخاري في كتاب الشركة باب 5، 14. مسلم في كتاب العتق حديث 3. أبو داود في كتاب العتاق باب 5. الترمذي في كتاب الأحكام باب 14. ابن ماجه في كتاب العتق باب 7. أحمد في مسنده 2/326، 472 4/37.(2/9)
قيس أنه عليه السلام لم يجعل لها نفقة ولا سكنى وقد طلقها زوجها ثلاثاً فرده عمر وغيره من الصحابة وإن لم يظهر حديثه في السلف كان يجوز العمل به في زمن
ـــــــ
وأما المجهول فإن روى عنه السلف وشهدوا له بصحة الحديث صار مثل المعروف بالرواية, وإن سكتوا عن الطعن بعد النقل فكذا; لأن السكوت عند الحاجة إلى البيان بيان, وإن قبل البعض ورد البعض مع نقل الثقات عنه يقبل إن وافق قياسا كحديث معقل بن سنان في بروع مات عنها هلال بن مرة, وما سمى لها مهرا, وما دخل بها "فقضى عليه السلام لها بمهر مثل نسائها فقبله ابن مسعود ورده علي رضي الله تعالى عنهما" وقال ما نصنع بقول أعرابي بوال على عقبيه قال شمس الأئمة الكردري إن من عادة الأعرابي الجلوس محتبيا فإذا بال يقع البول على عقبيه, وهذا لبيان قلة احتياط الأعراب حيث لم يستنزهوا البول, وهذا طعن من علي رضي الله تعالى عنه "وقد روى عنه الثقات كابن مسعود وعلقمة, ومسروق وغيرهم فعملنا به لما وافق القياس عندنا فإن الموت كالدخول" بدليل وجوب العدة في الموت "ولم يعمل به الشافعي رحمه الله تعالى" لما خالف القياس عنده. "وإن رده الكل فهو مستنكر لا يعمل به كحديث فاطمة بنت قيس أنه عليه السلام لم يجعل لها نفقة, ولا سكنى, وقد طلقها زوجها ثلاثا فرده عمر وغيره من الصحابة" وقال عمر لا ندع كتاب ربنا, ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت أحفظت أم نسيت قال عيسى بن أبان فيه: أراد بالكتاب
................................................................................................
وسيصرح المصنف رحمه الله تعالى في فصل الانقطاع بأن هذا الحديث معارض لقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
قوله: "وأما المجهول" ذهب بعضهم إلى أن هذا كناية عن كونه مجهول العدالة, والضبط إذ معلوم العدالة, والضبط لا بأس بكونه منفردا بحديث أو حديثين, فإن قيل عدالة جميع الصحابة ثابتة بالآيات, والأحاديث الواردة في فضائلهم قلنا ذكر بعضهم أن الصحابي اسم لمن اشتهر بطول صحبة النبي عليه الصلاة والسلام على طريق التتبع له, والأخذ منه وبعضهم أنه اسم لمؤمن رأى النبي عليه السلام سواء طالت صحبته أم لا إلا أن الجزم بالعدالة مختص بمن اشتهر بذلك, والباقون كسائر الناس فيهم عدول وغير عدول.
قوله: "في بروع" بفتح الباء, وأصحاب الحديث يكسرونها.
قوله: "لما خالف القياس عنده" وذلك أن المهر لا يجب إلا بالفرض بالتراضي أو بقضاء القاضي أو باستيفاء المعقود عليه فإذا عاد المعقود عليه إليها سالما لم يستوجب بمقابلته عوضا كما لو طلقها قبل الدخول بها وكهلاك المبيع قبل القبض.
قوله: "كحديث فاطمة بنت قيس" ولقائل أن يقول: هو مما قاله ابن عباس, وقال به الحسن وعطاء والشعبي وأحمد فكيف يكون مما رده الكل اللهم إلا أن يجعل للأكثر حكم الكل مع كونه مخالفا لظاهر الكتاب, والسنة.(2/10)
أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا وافق القياس لأن الصدق في ذلك الزمان غالب قال عليه السلام خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب فالقرن الأول الصحابة والثاني التابعون والثالث تبع التابعين أما بعد القرن الثالث فلا لغلبة الكذب فلهذا صح عنده القضاء بظاهر العدالة وعندهما لا فهذا لاختلاف العهد المتكلم هجومه ليعيده وهو يزدري نفسه فلا يستعيده وفهم المعنى هنا
ـــــــ
والسنة القياس; لأن ثبوته بهما حيث قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} وحديث معاذ في القياس مشهور, وقال بعضهم: أراد بالكتاب قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ}, وأراد بالسنة ما قال عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة" 1. "وإن لم يظهر حديثه في السلف كان يجوز العمل به في زمن أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا وافق القياس; لأن الصدق في ذلك الزمان غالب قال عليه السلام: "خير القرون قرني الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب" فالقرن الأول الصحابة والثاني التابعون والثالث تبع التابعين" أما بعد القرن الثالث فلا لغلبة الكذب فلهذا صح عنده القضاء بظاهر العدالة وعندهما لا فهذا لاختلاف العهد.
"فصل في شرائط الراوي, وهي أربعة العقل والضبط والعدالة والإسلام" أما العقل فيعتبر هنا كماله, وهو مقدر بالبلوغ على ما يأتي فلا يقبل خبر الصبي والمعتوه. وأما الضبط فهو سماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهم معناه ثم حفظ لفظه ثم الثبات عليه مع المراقبة
................................................................................................
قوله: "قال عليه السلام: "خير القرون" الحديث" فإن قيل, وقد قال عليه السلام: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" 2 فكيف التوفيق قلنا الخيرية تختلف بالإضافات, والاعتبارات فالقرون السابقة خير بنيل شرف قرب العهد بالنبي عليه السلام ولزوم سيرة العدل, والصدق واجتناب المعاصي ونحو ذلك على ما أشار إليه قوله: عليه السلام "ثم يفشو الكذب" 3, وأما باعتبار كثرة الصواب ونيل الدرجات في الآخرة فلا يدرى إن الأول خير لكثرة طاعته, وقلة معصيته أم الآخر لإيمانه بالغيب طوعا ورغبة مع انقضاء زمن مشاهدة آثار الوحي وظهور المعجزات بالتزامه طريق السنة مع فساد الزمان.
قوله: "فصل في شرائط الراوي" لم يكتف بذكر الضبط, والعدالة; لأن الصبي الكامل التمييز ربما يكون ضابطا لكن لا يجتنب الكذب لعلمه بأن لا إثم عليه; ولأن الكافر ربما يكون مستقيما على معتقده ولهذا يسأل القاضي عن عدالة الكافر إذا شهد على الكافر عند طعن الخصم نعم لو فسر
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتاب الطلاق باب 5. الدارمي في كتاب الطلاق باب 10.
2 رواه الترمذي في كتاب الأدب باب 81. أحمد في مسنده 3/130، 143.
3 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 7. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 37. أحمد في مسنده 1/18.(2/11)
لاقى القرآن لأن المعتبر في نقله نظمه فلهذا يبالغ في حفظه عادة بخلاف الحديث على أنه قد ينقل بالمعنى حتى لو بولغ في حفظه كانت كافيه ولأنه محفوظ لقوله تعالى وإنا له لحافظون والمراقبة احترازاً عما لا يرى نفسه أهلاً للتبليغ فيقصر في مراقبة بعض ما ألقي إليه وهذا هو المراد والله أعلم بقوله تعالى فامتحونهن.
ـــــــ
إلى حين الأداء, وكماله أن ينضم إلى هذا الوقوف على معانيه الشرعية. وشرطنا حق السماع احترازا عن أن يحضر رجل مجلسا, وقد مضى صدر من الكلام ويخفى على المتكلم هجومه ليعيده, وهو يزدري نفسه فلا يستعيده. وفهم المعنى" بالنصب عطف على حق السماع في قوله: وشرطنا حق السماع "هنا لا في القرآن; لأن المعتبر في نقله نظمه فلهذا يبالغ في حفظه عادة بخلاف الحديث على أنه قد ينقل بالمعنى حتى ولو بولغ في حفظه كانت كافية; ولأنه محفوظ لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. والمراقبة" بالنصب عطف أيضا على ذلك "احترازا عما لا يرى نفسه أهلا للتبليغ فيقصر في مراقبة بعض ما ألقي إليه, وأما العدالة فهي الاستقامة, وهي الانزجار عن محظورات دينه, وهي متفاوتة, وأقصاها أن يستقيم كما أمر, وهو أن لا يكون مخالفا النبي عليه السلام فاعتبر ما لا يؤدي إلى الحرج, وهو رجحان جهة الدين والعقل على داعي الهوى والشهوة فقيل إن من ارتكب كبيرة سقطت عدالته, وإذا أصر على الصغيرة فكذا. أما من ابتلي بشيء منها من غير إصرار فتام العدالة فشهادة المستور, وإن كانت مردودة لكن خبر المجهول يقبل عندنا لشهادة النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك القرن بالعدالة. وأما الإسلام فإنما شرطناه, وإن كان الكذب حراما في كل دين; لأن الكافر يسعى في هدم دين الإسلام تعصبا فيرد قوله, في أموره, وهو التصديق والإقرار, وهو نوعان ظاهر بنشوئه بين المسلمين وثابت بالبيان بأن يصف الله تعالى كما هو إلا أن في اعتباره على سبيل التفصيل
................................................................................................
العدالة بمحافظة دينه يحمل على ملازمة التقوى, والمروءة من غير بدعة وجعل علامتها اجتناب الكبائر, وترك الإصرار على الصغائر, وترك بعض الصغائر والمباحات التي مما يدل على خسة النفس ودناءة الهمة كسرقة لقمة, والتطفيف في. الوزن بحبة, والاجتماع مع الأرذال, والاشتغال بالحرف الدنيئة, فلا خفاء في شمولها الإسلام; لأن الكفر أعظم الكبائر فيخرج بقيد العدالة الكافر كما يخرج المبتدع, والفاسق.
قوله: "وأما الضبط" لا يخفى أن الضبط بهذا المعنى لا يشترط في قبول الرواية; لأنهم كانوا يقبلون أخبار الأعراب الذين لا يتصور منهم الاتصاف بذلك وشاع وذاع من غير نكير إلا أن هذا يفيد الرجحان على ما صرح به في سائر كتب الأصول, وإليه أشار فخر الإسلام رحمه الله تعالى بقوله, وهو مذهبنا في الترجيح.
قوله: "فصل في الانقطاع" وهو قسمان ظاهر كالإرسال وباطن وذلك إما; لأمر يرجع إلى نفس الخبر بكونه معارضا للكتاب أو للخبر المتواتر أو المشهور أو بكونه شاذا فيما تعم به البلوى.(2/12)
وهذا ليس من باب الولاية فإن المخبر لا يلزمه بل يلزمه بالتزامه ولأنه يلزمه أولاً ثم يتعدى منه إلى الغير ولا يشترط لمثله الولاية ورد الشهادة أبداً من تمام الحد وقد ثبت عن أصحابه عليه السلام قبول الحديث عن الأعمى والمرأة كعائشة وهو عليه السلام قبل خبر بريرة وسلمان رضي الله عنهما، فصل في الانقطاع هو ظاهر وباطن أما الظاهر فكالإرسال ومرسل الصحابي مقبول بالإجماع ويحمل على
ـــــــ
حرجا فيكفي الإجمال بأن يصدق بكل ما أتى به النبي عليه السلام فلهذا قلنا الواجب أن يستوصف فيقال أهو كذا, وكذا فإذا قال نعم يكمل إيمانه" أي: لأجل أن الإجمال كاف بناء على أن الحرج مدفوع في الدين قلنا إن الواجب الاستيصاف, وليس المراد بالاستيصاف أن نسأله عن صفات الله تعالى أو نسأله عن الإيمان ما هو, وما صفته فإن هذا بحر عميق تغرق فيه العقول والأفهام, ولا يكاد العلماء يعلمون صفات الله بل المراد أن نذكر صفات الله تعالى التي يجب أن يعرفها المؤمنون, ونسأله أهو كذلك أي: أتشهد أن الله موصوف بالصفات المذكورة فيقول: نعم فيكمل إيمانه. "وهذا هو المراد والله أعلم بقوله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فإذا ثبتت هذه الشرائط يقبل حديثه سواء كان أعمى أو عبدا أو امرأة أو محدودا في قذف تائبا بخلاف الشهادة في حقوق الناس فإنها تحتاج إلى تمييز زائد ينعدم بالعمى, وإلى ولاية كاملة تنعدم بالرق وتقصر بالأنوثة". فإن الشهادة والقضاء ولاية للشاهد والقاضي على المشهود عليه والمقضي عليه ألا يرى أن الشاهد يلزم المشهود عليه شيئا.
"وهذا" أي: الإخبار بالحديث "ليس من باب الولاية فإن المخبر لا يلزمه" أي: الناقل لا يلزم المنقول إليه شيئا "بل يلزمه بالتزامه" أي: يلزم الحكم على المنقول إليه بالتزامه الشرائع "ولأنه يلزمه أولا ثم يتعدى منه إلى الغير" أي: يلزم الحكم الناقل أولا ثم يتعدى منه إلى الغير, وهو المنقول إليه. "ولا تشترط لمثله الولاية" أي: لمثل الحكم الذي يلزم على الغير بتبعية لزومه أولا على الشاهد وبالتزام الشاهد عليه شيئا كما في الشهادة بهلال رمضان فإن الصوم يلزم الشاهد أولا ثم يتعدى منه إلى الغير تبعا فلا يكون ولاية على الغير أي: ثبوت هذا الحكم بالتبعية على الغير إذ ليس هو إلزاما على الغير قصدا فلهذا يقبل من العبد والمرأة الشهادة بهلال رمضان "ورد الشهادة أبدا من تمام الحد" هذا بيان الفرق بين قبول الحديث من
..............................................................................................
إما لأمر يرجع إلى نفس الناقل كنقصان في العقل كخبر المعتوه والصبي أو في الضبط كخبر المغفل أو في العدالة كخبر الفاسق, والمستور أو في الإسلام كخبر المبتدع, وإما لأمر غير ذلك كإعراض الصحابة عنه, وفي اصطلاح المحدثين إن ذكر الراوي الذي ليس بصحابي جميع الوسائط فالخبر مسند, وإن ترك واسطة واحدة بين الراويين فمنقطع, وإن ترك واسطة فوق الواحد فمعضل بفتح الضاد, وإن لم يذكر الواسطة أصلا فمرسل.(2/13)
السماع ومرسل القرن الثاني والثالث لا يقبل عند الشافعي رحمه الله تعالى إلا أن يثبت اتصاله من طريق آخر كمراسيل سعيد بن المسيب قال لأني وجدتها مسانيد للجهل بصفات الراوي التي تصح بها الرواية ويقبل عندنا وعند مالك وهو فوق المسند لأن الصحابة أرسلوا وقال البراء: ما كل ما نحدثه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما حدثنا عنه لكنا لا نكذب ولأن كلامنا في إرسال من لو أسند لا يظن به الكذب فلأن لا يظن يتضح نسبه إلى الغير ليحمله ما حمله ولا بأس بالجهالة لأن المرسل إذا كان ثقة لا يتهم بالغفلة عن حال من سكت عنه.
ـــــــ
المحدود في القذف إذا تاب, وبين عدم قبول الشهادة منه فإن حديثه مقبول وشهادته غير مقبولة فإن عدم قبول شهادته من تمام حده قال الله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}. فبعد التوبة لا تقبل شهادتهم, وإن كانوا عدولا لكن يقبل حديثهم بناء على عدالتهم "وقد ثبت عن أصحابه عليه السلام قبول الحديث عن الأعمى والمرأة كعائشة, وهو عليه السلام قبل خبر بريرة وسلمان" رضي الله تعالى عنهما.
"فصل في الانقطاع" أي: انقطاع الحديث عن الرسول عليه السلام "وهو ظاهر وباطن أما الظاهر فكالإرسال" الإرسال عدم الإسناد, وهو أن يقول الراوي قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من غير أن يذكر الإسناد والإسناد أن يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمرسل منقطع عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حيث الظاهر لعدم الإسناد الذي يحصل به الاتصال لا من حيث الباطن للدلائل المذكورة في المتن الدالة على قبول المرسل. "ومرسل الصحابي مقبول بالإجماع ويحمل على السماع, ومرسل القرن الثاني والثالث لا يقبل عند الشافعي رحمه الله تعالى إلا أن يثبت اتصاله من طريق آخر كمراسيل سعيد بن المسيب قال; لأني وجدتها مسانيد, للجهل بصفات الراوي التي تصح بها الرواية", وهذا دليل على قوله: لا يقبل عند الشافعي رحمه الله تعالى "ويقبل عندنا وعند مالك, وهو فوق المسند; لأن الصحابة أرسلوا, وقال البراء ما كل ما نحدثه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما حدثنا عنه لكنا لا نكذب. ولأن كلامنا في إرسال من لو أسند لا يظن به الكذب فلأن لا يظن الكذب على الرسول أولى, والمعتاد أنه إذا وضح له الأمر طوى الإسناد وجزم, وإذا لم يتضح نسبه إلى الغير ليحمله ما حمله" هذا جواب في دليل الشافعي رحمه الله تعالى حيث قال للجهل بصفات الراوي "ولا بأس بالجهالة; لأن المرسل إذا كان ثقة لا يتهم بالغفلة على حال من سكت عنه.
ألا يرى أنه لو قال أخبرني ثقة يقبل مع الجهل, ولا يعزم ما لم يسمعه من الثقة. ومرسل من دون هؤلاء يقبل عند أصحابنا لما ذكرنا ويرد عند البعض; لأن الزمان زمان الفسق(2/14)
ألا يرى أنه لو قال أخبرني ثقة مع الجهل ولا يعزم ما لم يسمعه من الثقة ومرسل من دون هؤلاء يقبل عند أصحابنا لما ذكرنا ويرد عند البعض لأن الزمان زمان الفسق والكذب إلا أن يروي الثقات مرسله كما روا مسنده مثل إرسال محمد بن الحسن وأمثاله، وأما الانقطاع الباطن فإما بالمعارضة أو بنقصان في الناقل أما الأول فإما بمعارضة الكتاب كحديث فاطمة بنت قيس. قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} أما في السكنى
ـــــــ
والكذب إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده مثل إرسال محمد بن الحسن, وأمثاله. وأما الانقطاع الباطن فإما بالمعارضة أو بنقصان في الناقل أما الأول فإما بمعارضة الكتاب كحديث فاطمة بنت قيس قوله تعالى" بالنصب أي: كمعارضة حديث فاطمة قوله تعالى فنصب قوله تعالى لكونه مفعول المعارضة " {أَسْكِنُوهُنَّ} أما في السكنى فظاهر, وأما في النفقة فلأن قوله تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ} يحمل عندنا على قراءة ابن مسعود, وهي: وأنفقوا عليهن من وجدكم وكحديث القضاء بشاهد ويمين المدعي" قوله تعالى بالنصب أيضا لهذا المعنى, وهكذا الأمثلة
................................................................................................
قوله: "ومرسل القرن الثاني, والثالث لا يقبل عند الشافعي رحمه الله تعالى" إلا بأحد أمور خمسة أن يسنده غيره أو أن يرسله آخر, وعلم أن شيوخهما مختلفة أو أن يعضده قول صحابي أو أن يعضده قول أكثر أهل العلم. أو أن يعلم من حاله أنه لا يرسل إلا بروايته عن عدل فإن قيل: اشتراط إسناد غيره باطل; لأن العمل حينئذ بالمسند, والأربعة الباقية ليس شيء منها بدليل وانضمام غير المقبول إلى غير المقبول لا يصيره مقبولا قلنا المسند قد لا يثبت عدالة رواته فيقبل المرسل ويعمل به وبانضمام أمر إلى أمر قد يحصل الظن أو يقوى فيجب العمل, وعندنا يقبل بل يقدم على المسند استدل الشافعي رحمه الله تعالى بأن قبول الرواية موقوف على العلم بكون الراوي متصفا بالعقل, والعدالة وغير ذلك من الصفات المعتبرة في الرواة, وعند عدم ذكر الراوي لا يعلم ذلك فلا يقبل واستدل القائلون بالقبول بثلاثة أوجه ثالثها يدل على أنه فوق المسند الأول إرسال الصحابة, وقبوله مع وجود الواسطة في البعض الثاني أو كلامنا في إرسال العدل الذي لو أسنده لا يظن أنه كذب على من روى عنه, وإذا لم يظن به الكذب على من يجوز أن يكذب فعدم ظن كذبه على النبي عليه الصلاة والسلام, وهو معصوم أولى. وقد عرفت أن ليس النزاع في مرسل الصحابي ومرسل من علم من حاله أنه لا يرسل إلا بروايته عن عدل. الثالث أن العادة جارية بأن الأمر إذا كان واضحا للناقل جزم بنقله من غير إسناد. وإذا لم يكن واضحا نسبه إلى الغير ليحمل الناقل ذلك الغير الشيء الذي حمله هو أي: الناقل فالمرسل يدل على أنه واضح للناقل بخلاف المسند, وقد يمنع جري العادة بذلك بل ربما يرسل; لعدم إحاطته بالرواة, وكيفية الاتصال ويسند إلى العدول تحقيقا للحال, وأنه على ثقة في ذلك المقال.
قوله: "ولا بأس" جواب عن استدلال الشافعي رحمه الله تعالى يعني أن جهل السامع بصفات الراوي لا يضر; لأن التقدير أن الناقل عدل ضابط, فلا يتهم بالغفلة عن حال الرواة, ولا يجزم بنقل الحديث ما لم يسمعه من عدل, وقد يدفع بأن أمر العدالة على الظن والاجتهاد, فربما يظن غير العدل عدلا.(2/15)
فظاهر وأما في النفقة فلأن قوله تعالى من وجدكم يحمل عندنا على قراءة ابن مسعود وهي وأنقوا عليهن من وجدكم وكحديث القضاء بشاهد ويمين المدعي قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم وعند عدم الرجلين أوجب رجلاً وامرأتين وحيث نقل إلى ما ليس بمعهود في مجالس الحكم دل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين.
ـــــــ
التي تأتي " {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية, وعند عدم الرجلين أوجب رجلا وامرأتين وحيث نقل إلى ما ليس بمعهود في مجالس الحكم دل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين" فإن حضور النساء لا يعهد في مجالس الحكم, ولو كانت اليمين كافية مع الشاهد الواحد مقام المرأتين لما أوجب حضورهما على أن النساء ممنوعات من الخروج وحضور مجالس الرجال.
وذكر في المبسوط أن القضاء بشاهد ويمين بدعة, وأول من قضى به معاوية.
..............................................................................................
قوله: "ألا يرى أنه إذا قال أخبرني ثقة يقبل" كأنه يشير إلى أن الشافعي رحمه الله تعالى كثيرا ما يقول: أخبرني الثقة وحدثني من لا أتهمه إلا أن مراده بالثقة إبراهيم بن إسماعيل وبمن لا يتهم يحيى بن حسان وذلك مشهور معلوم.
قوله: "كحديث فاطمة بنت قيس" فيه بحث; لأن الكلام في خبر العدل, وهذا مستنكر متهم رواته بالكذب, والغفلة, والنسيان لا لكونه في مقابلة عموم الكتاب, وإلا لما كان لقوله: أحفظت أم نسيت وصدقت أم كذبت معنى, وأيضا لا خفاء في أن القراءة الشاذة غير متواترة, ولا مفيدة للقطع فكيف يرد الحديث لمعارضتها؟ وكيف يقبل من الراوي أن هذا كلام الله تعالى, ولا يقبل أن ذاك كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمرأى منه ومسمع؟
قوله: "وكحديث القضاء بشاهد ويمين" هو ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين الطالب, وهو معارض لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} الآية, وذلك من وجوه الأول أن الأمر بالاستشهاد مجمل في حق ما هو شهادة ففسره برجلين أو رجل وامرأتين وتفسير المجمل يكون بيانا لجميع ما يتناوله اللفظ الثاني أن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} نص على أن أدنى ما ينتفي به الريبة هو هذان النوعان, وليس بعد الأدنى شيء الثالث ما ذكره المصنف, وإنما اقتصر عليه; لأنه ربما يمنع الإجمال, والحصر فيما ذكر بل للشارع أن يترك بعض الأمور إلى الاجتهاد أو إلى الحديث ولأن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ} إشارة إلى أن تكتبوه, وأدناه معناه أقرب من انتفاء الريب على ما هو المذكور في التفسير.
قوله: "وذكر في المبسوط" ليس المراد أن ذلك أمر ابتدعه معاوية في الدين بناء على خطئه كالبغي في الإسلام, ومحاربة الإمام, وقتل الصحابة; لأنه ورد فيه الحديث الصحيح بل المراد أنه(2/16)
وكحديث المصراة قوله تعالى: {فَاعْتَدُوا} وإنما يرد لتقدم الكتاب حتى يكون عام الكتاب وظاهره أولى من خاص خبر الواحد ونصه ولا ينسخ ذلك ولا يزاد به عليه وإما بمعارضة الخبر المشهور كحديث الشاهد واليمين قوله عليه السلام البينة
ـــــــ
"وكحديث المصراة قوله تعالى فاعتدوا, وإنما يرد لتقدم الكتاب حتى يكون عام الكتاب وظاهره أولى من خاص خبر الواحد ونصه, ولا ينسخ ذلك بهذا, ولا يزاد به عليه. وإما بمعارضة الخبر المشهور كحديث الشاهد واليمين قوله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وكحديث بيع الرطب بالتمر فإنه إن كان الرطب هو التمر يعارض قوله عليه السلام: "التمر بالتمر مثلا بمثل" , وقوله: "جيدها ورديئها سواء", وإن لم يكن يعارض قوله: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" " تحقيقه: أن الرطب لا يخلو من أن يكون تمرا أو لم يكن فإن كان تمرا فإن لم يجز بيعه بالتمر يكون معارضا لقوله عليه السلام: "التمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا" 1, ولا يقال إنه تمر لكن الرطب والتمر مختلفان في الصفة; لأنا نقول لا اعتبار لاختلاف الصفة لقوله: صلى الله عليه وسلم: "جيدها ورديها سواء" ولدفع هذه الشبهة صريحا زدت قوله: "جيدها ورديئها سواء"
................................................................................................
أمر مبتدع لم يقع العمل به إلى زمن معاوية لعدم الحاجة إليه لكن المروي عن علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق وروي عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد ويمين المدعي, وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقضي بالشاهد, واليمين فعلى هذا لا يكون العمل به من مبتدعات معاوية.
قوله: "وكحديث المصراة" صريح في كونه مخالفا للكتاب لا لمجرد القياس على ما ذهب إليه المصنف فيما نقل عنه.
قوله: "وإنما يرد" أي: خبر الواحد في معارضة الكتاب; لأن الكتاب مقدم; لكونه قطعيا متواتر النظم لا شبهة في متنه, ولا في سنده لكن الخلاف إنما هو في عمومات الكتاب وظواهره فمن يجعلها ظنية يعتبر بخبر الواحد إذا كان على شرائطه عملا بالدليلين ومن يجعل العام قطعيا, فلا يعمل بخبر الواحد في معارضته ضرورة أن الظني يضمحل بالقطعي, فلا ينسخ الكتاب به, ولا يزاد عليه أيضا; لأنه بمنزلة النسخ, واستدل على ذلك بقوله عليه السلام: "يكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافق فاقبلوه, وما خالفه فردوه" وأجيب بأنه خبر واحد, وقد خص منه البعض أعني: المتواتر والمشهور, فلا يكون قطعيا فكيف يثبت به مسألة الأصول على أنه يخالف عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}, وقد طعن فيه المحدثون بأن في رواته يزيد بن ربيعة, وهو مجهول, وترك في إسناده واسطة بين الأشعث وثوبان
ـــــــ
1رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 84، 100. أحمد في مسنده 2/262.(2/17)
على المدعي واليمين على من أنكر وكحديث بيع الرطب بالتمر فإنه إن كان الرطب هو التمر يعارض قوله عليه السلام التمر بالتمر مثلاً بمثل وقوله جيدها ورديها سواء وإن لم يكن يعارض قوله إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم.
ـــــــ
فيكون منقطعا وذكر يحيى بن معين أنه حديث وضعته الزنادقة, وإيراد البخاري إياه في صحيحه لا ينافي الانقطاع أو كون أحد رواته غير معروف بالرواية فإن قيل المشهور أيضا لا يفيد علم اليقين فكيف يعتبر في معارضة عموم الكتاب, وهو قطعي أجيب عنه بأنه يفيد علم طمأنينة. وهو قريب من اليقين, والعام ليس بقطعي بحيث يكفر جاحده فهو قريب من الظن, وقد انعقد الإجماع على تخصيص عمومات الكتاب بالخبر المشهور كقوله عليه السلام: "لا يرث القاتل" 1, وقوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها" 2 وغير ذلك.
"قوله: "البينة على المدعي, واليمين على من أنكر" حصر جنس البينة على المدعي وجنس اليمين على المنكر, فلا يجوز الجمع بين الشاهد, واليمين على المدعي بخبر الواحد.
قوله: "وكحديث بيع الرطب بالتمر" هو ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي عليه السلام سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص إذا جف؟" فقالوا: نعم, قال: "فلا إذن" إلا أنه لما أورد هذا الحديث على أبي حنيفة رحمه الله تعالى أجاب بأن هذا الحديث دار على زيد بن أبي عياش, وهو ممن لا يقبل حديثه واستحسن أهل الحديث منه هذا الطعن حتى قال ابن المبارك كيف يقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يعرف الحديث, وهو يقول زيد بن أبي عياش ممن لا يقبل حديثه؟ كذا في المبسوط, فلا يكون من قبيل رد خبر الواحد بناء على معارضته للخبر المشهور, وذكر في الأسرار وغيره أنه يجوز أن لا يكون الرطب تمرا مطلقا; لفوات وصف اليبوسة, ولا نوعا آخر لبقاء أجزائه عند صيرورته تمرا كالحنطة المقلية ليست حنطة على الإطلاق لفوات وصف الإنبات, ولا نوعا آخر لوجود أجزاء الحنطة فيها, وكذا الحنطة مع الدقيق.
قوله: لا اعتبار لاختلاف الصفة لقوله عليه السلام: "جيدها ورديئها سواء" اعترض عليه بأنه لا يلزم من عدم اعتبار الاختلاف بالجودة والرداءة عدم اعتبار الاختلاف بالوصف أصلا; لجواز أن يكون المعتبر بعض اختلاف الأوصاف, وهو ما يكون موجبا لتبدل الاسم, والحقيقة في العرف حتى إن الإتيان بالتمر لا يعد امتثالا لطلب الرطب كالزبيب والعنب فإن قيل فيه دليل على أن علة الاستواء كون الوصف ليس من صنع العباد قلنا ممنوع بل العلة عدم تبدل الاسم والحقيقة في العرف ولو سلم, فلا عبرة بالقياس في مقابلة الخبر.
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الديات باب 18. الدارمي في كتاب الفرائش باب 41 . أحمد في مسنده 1/49 .
2رواه البخاري في كتاب النكاح باب 27 . مسلم في كتاب النكاح حديث 37 – 39. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب النكاح باب 30. النسائي في كتاب النكاح باب 47، 48. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 31.(2/18)
وإما بكونه شاذاً في البلوى العام كحديث الجهر بالتسمية فإنه لو كان فخفاؤه في مثل هذه الحادثة مما يحيله العقل وإما بإعراض الصحابة عنه نحو الطلاق بالرجال والعدة بالنساء فإنهم اختلفوا في الحكم ولم يرجعوا إليه.
ـــــــ
"وأما بكونه شاذا في البلوى العام كحديث الجهر بالتسمية فإنه لو كان فخفاؤه في مثل هذه الحادثة مما يحيله العقل". فإن قيل جعل هذا النوع من أقسام المعارضة, ولا معارضة فيه قلت أمثال هذا الحديث يدل على عدم وجوب التبليغ عن النبي عليه الصلاة والسلام أو على ترك الصحابة رضي الله تعالى عنهم التبليغ الواجب عليهم فتكون معارضة لدلائل وجوب التبليغ أو لدلائل تدل على عدالتهم أو تكون معارضة للقضية العقلية, وهي أنه لو وجد لاشتهر, وفي المتن إشارة إلى هذا "وإما بإعراض الصحابة عنه نحو: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء" فإنهم اختلفوا في الحكم, ولم يرجعوا إليه.
وأما الثاني": وهو الذي يكون الانقطاع بنقصان في الناقل فصار الانقطاع الباطن على
................................................................................................
قوله: "وأما بكونه شاذا" عطف على قوله: وأما بمعارضة الخبر المشهور وكذا قوله: وإما بإعراض الصحابة عنه, وكلاهما من أقسام الانقطاع بالمعارضة.
أما الأول فلأن الخبر الشاذ مع عموم البلوى يعارض الأدلة الدالة على وجوب تبليغ الأحكام وتأدية مقالات النبي عليه الصلاة والسلام أو الأدلة الدالة على عدالة الصحابة; لأن ترك التبليغ إن كان تركا للواجب لزم عدم عدالتهم. وإن لم يكن تركا للواجب لزم عدم وجوب التبليغ فإن قيل فعلى هذا يكون قسما آخر بل من الانقطاع بواسطة معارضة الكتاب أو الخبر المشهور قلنا جعله قسما آخر باعتبار أنه يحتمل كلا مما ذكرتم مع احتمال المعارضة للقضية العقلية, وهي أنه لو وجد هذا الحديث لاشتهر لتوفر. الدواعي, وعموم حاجة الكل إليه, ولا يخفى أن هذه القضية ليست قطعية حتى يرد الخبر بمعارضتها نعم الأصل هو الاشتهار لكن رب أصل قلعه الحديث, وأيضا ليس وجوب التبليغ أن يبلغ كل واحد كل حديث إلى كل أحد بل عدم الإخفاء ولذا قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ}, وأما حديث الجهر بالتسمية فهو عندهم من قبيل المشهور حتى إن أهل المدينة احتجوا به على مثل معاوية وردوه عن ترك الجهر بالتسمية, وهو مروي عن أبي هريرة, وعن أنس أيضا إلا أنه اضطربت رواياته فيه بسبب أن عليا رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر وحاول معاوية وبنو أمية محو آثاره فبالغوا على الترك فخاف أنس وروي الجهر عن عمر وعلي وابن عباس وابن الزبير وغيرهم ثم لا يخفى أن ترك الجهر نفي, والجهر إثبات فربما لا يسمعه الراوي لا سيما مثل أنس, وقد كان يقف خلف النبي عليه الصلاة والسلام أبعد من هؤلاء, وهذا لا ينافي سماعه الفاتحة على أنه روي عن أنس أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ب"بسم الله الرحمن الرحيم", وأيضا روي أن أنسا سئل عن الجهر والإسرار فقال: لا أدري هذه المسألة, والسبب ما ذكرناه.
وأما الثاني: وهو انقطاع الخبر بالمعارضة بسبب إعراض الصحابة; فلأنه يعارض إجماعهم(2/19)
وأما الثاني فكخبر المستور إلا في الصدر الأول كما قلنا في المجهول وخبر الفاسق والمعتوه والصبي العاقل والمغفل الشديد الغفلة لا من غالب حاله التيقظ والمساهل فإنه لا تقبل روايتهم للشرائط المذكور.
ـــــــ
قسمين الأول أن يكون منقطعا بسبب كونه معارضا. والثاني أن يكون الانقطاع بنقصان في الناقل, والأول على أربعة أوجه: إما أن يكون معارضا للكتاب أو السنة المشهورة أو بكونه شاذا في البلوى العام أو بإعراض الصحابة عنه فإنه معارض لإجماع الصحابة. فلما ذكر الوجوه الأربعة شرع في القسم الثاني من الانقطاع الباطن, وهذان القسمان, وإن كانا متصلين ظاهرا لوجود الإسناد لكنهما منقطعان باطنا وحقيقة. أما القسم الأول فلقوله عليه السلام: "يكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فاقبلوه, وما خالف فردوه" فدل هذا الحديث على أن كل حديث يخالف كتاب الله فإنه ليس بحديث الرسول عليه السلام, وإنما هو مفترى, وكذلك كل حديث يعارض دليلا أقوى منه فإنه منقطع عنه عليه السلام; لأن الأدلة الشرعية لا يناقض بعضها بعضا, وإنما التناقض من الجهل المحض. وأما القسم الثاني فلأنه لما كان الاتصال بوجود الشرائط التي ذكرناها في الراوي فحيث عدم بعضها لا يثبت الاتصال "فكخبر المستور إلا في الصدر الأول كما قلنا في المجهول وخبر الفاسق" بالجر عطف على قوله خبر المستور "والمعتوه" وسيأتي معناه في فصل العوارض. "والصبي العاقل والمغفل الشديد الغفلة لا من غالب حاله التيقظ والمساهل" أي: المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ والتزوير وصاحب الهوى "فإنه لا تقبل روايتهم للشرائط المذكورة" أي: لاشتراط الشرائط المذكورة في الراوي.
................................................................................................
على عدم قبوله, وعلى ترك العمل به فيحمل على أنه سهو أو منسوخ. لا يقال لا إجماع مع مخالفة بعض الصحابة كيف, والقول بأن الطلاق يعتبر بحال الرجال مما ذهب إليه عمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم وراوي الحديث زيد بن ثابت; لأنا نقول: ليس المراد الإجماع على ترك الحكم بل عدم التمسك بذلك الحديث. ولا يخفى أن المراد اتفاق غير هذا الراوي, وإلا فهو متمسك به لا محالة.
قوله: "إلا في الصدر الأول" يعني: القرن الأول, والثاني, والثالث فإنه يقبل; لأن العدالة فيها أصل بشهادة النبي عليه السلام, وفي غير الصدر الأول المستور بمنزلة الفاسق; لأن أهل الفسق في ذلك الزمان غالب, فلا بد من العدالة المرجحة جانب الصدق.
قوله: "وصاحب الهوى" وهو الميل إلى الشهوات, والمستلذات من غير داعية الشرع, والمراد المبتدع المائل إلى ما يهواه في أمر الدين فإن تأدى إلى أن يجب إكفاره كغلاة الروافض, والمجسمة, والخوارج, فلا خفاء في عدم قبول الرواية; لانتفاء الإسلام, وإلا فالجمهور على أنه يقبل روايته إن لم يكن ممن يعتقد وضع الأحاديث إلا إذا كان داعيا إلى هواه بذلك الحديث فقوله: للشرائط(2/20)
فصل: في محل الخبر
وهو إما حقوق الله تعالى وهي إما العبادات أو العقوبات والأولى تثبت بخبر الواحد بالشرائط المذكور وما كان من الديانات كالإخبار بطهارة الماء ونجاسة فكذا بقوله لكن إن أخبر بها الفاسق أو المستور يتحرى لأن هذا أمر لا
ـــــــ
"فصل في محل الخبر" أي: الحادثة التي ورد فيها الخبر "وهو إما حقوق الله تعالى وهي إما العبادات أو العقوبات. والأولى تثبت بخبر الواحد بالشرائط المذكورة, وما كان من الديانات كالإخبار بطهارة الماء ونجاسته فكذا" أي: يثبت بأخبار الآحاد بالشرائط المذكورة أي: إذا أخبر الواحد العدل أن هذا الماء طاهر أو نجس يقبل خبره ثم استدرك عن قوله: فكذا بقوله: "لكن إن أخبر بها الفاسق أو المستور يتحرى; لأن هذا" إشارة إلى الإخبار عن طهارة الماء ونجاسته "أمر لا يستقيم تلقيه من جهة العدول بخلاف أمر الحديث" ففي كثير من الأحوال لا يكون العدل حاضرا عند الماء فاشتراط العدالة بمعرفة الماء حرج, فلا يكون خبر الفاسق والمستور ساقط الاعتبار فأوجبنا انضمام التحري به بخلاف أمر الأحاديث فإن الذين يتلقونها هم العلماء الأتقياء, فلا حرج إذا لم يعتبر قول الفسقة والمستورين في الأحاديث, فلا اعتبار; لأحاديثهم أصلا. "وأما أخبار الصبي والمعتوه والكافر, فلا يقبل فيها أصلا" أي: لا يقبل في الديانات كالإخبار عن طهارة الماء ونجاسته أصلا أي: لا يلتفت إلى قوله: فلا يجب التحري بخلاف أخبار الفاسق فإن الواجب فيه التحري. "والثانية" أي: العقوبات كذلك عند أبي يوسف رحمه الله "أي: تثبت بخبر الواحد بالشرائط المذكورة; لأنه يفيد من العلم ما يصح به العمل في الحدود كالبينات; ولأنه يثبت العقوبات بدلالة النص." والثابت بدلالة النص فيه شبهة فعلم أن العقوبات تثبت بدليل فيه شبهة, وجوابه أن الثابت بدلالة النص قطعي بمعنى
................................................................................................
المذكورة إشارة إلى أن المراد بالهوى ما يؤدي إلى الكفر أو الفسق.
قوله: "فصل في محل الخبر" سواء كان خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن, والمراد خبر الواحد ولذا حصر المحل في الفروع والأعمال إذ الاعتقاديات لا تثبت بأخبار الآحاد; لابتنائها على اليقين.
قوله: "وأما أخبار الصبي" فإن قيل إن ابن عمر رضي الله عنه أخبر أهل قباء بتحويل القبلة فاستداروا كهيئتهم وكان صبيا قلنا لو سلم كونه صبيا فقد روي أنه أخبرهم بذلك أنس فيحتمل أنهما جاءا به جميعا فأخبراهم.
قوله: "لتمكن الشبهة" قد يجاب عنه بأنه لا عبرة للشبهة بعد ما ثبت كونه خبر الواحد حجة على الإطلاق بالدلائل القطعية, وإنما لم يثبت بالقياس ومع الأدلة القطعية على كونه حجة; لأن الحدود تجب مقدرة بالجنايات, ولا مدخل للرأي في إثبات ذلك.
قوله: "مع سائر شرائط الرواية" يخرج الفاسق, والمغفل ونحو ذلك, وقيد الولاية يخرج العبد, ومثل الصبي يخرج بكل من القيدين بعد تفرد كل منهما بفائدة.(2/21)
يستقيم من جهة العدول بخلاف أمر الحديث وأما أخبار الصبي والمعتوه والكافر فلا يقبل فيها أصلاً والثانية كذلك عند أبي يوسف رحمه الله عندنا لا لتمكن الشبهة في الدليل والحد يندرئ بها وإنما تثبت بالبينة بالنص.
وأما حقوق العباد فتثبت بحديث يرويه الواحد بالشرائط المذكورة وأما ثبوتها بخبر يكون في معنى الشهادة فما كان فيه إلزام محض لا يثبت إلا بلفظ الشهادة والولاية والعدد عند الإمكان مع سائر شرائط الرواية صيانة لحقوق العباد ولأن فيه
ـــــــ
قطع الاحتمال الناشئ عن دليل كحرمة الضرب من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} والثابت بخبر الواحد ليس في هذه المرتبة "وعندنا لا لتمكن الشبهة في الدليل والحد يندرئ بها, وإنما تثبت بالبينة بالنص" أي: كان القياس أن لا تثبت العقوبات كالحدود والقصاص بالبينة; لأنها خبر الواحد فإن كل ما دون التواتر خبر الواحد فتكون البينة دليلا فيه شبهة والحد يندرئ بها لكن إنما تثبت العقوبات بالبينة بالنص على خلاف القياس, فلا يقاس ثبوتها بحديث يرويه الواحد على ثبوتها بالبينة.
"وأما حقوق العباد فتثبت بحديث يرويه الواحد بالشرائط المذكورة, وأما ثبوتها بخبر يكون في معنى الشهادة فما كان فيه إلزام محض لا يثبت إلا بلفظ الشهادة والولاية", فلا تقبل
................................................................................................
قوله: "صيانة لحقوق العباد" يعني تشترط الأمور المذكورة لئلا تثبت الحقوق المعصومة بمجرد إخبار عدل أو هو تعليل لثبوت حقوق العباد بخبر يكون في معنى الشهادة.
قوله: "ولأن فيه معنى الإلزام" تعليل لاشتراط الأمور المذكورة فإن قوله لا يثبت إلا بكذا يتضمن الأمرين جميعا.
قوله: "فيحتاج إلى زيادة توكيد" أما لفظة الشهادة فلأنها تنبئ عن كمال العلم; لأن المشاهدة هي المعاينة, والعلم شرط في الشهادة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا علمت مثل الشمس فاشهد, وإلا فدع", وأما الولاية فلأنها تتضمن كون المخبر حرا عاقلا بالغا يتمكن من تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى وذلك من أمارات الصدق, وأما العدد فلأن اطمئنان القلب بقول الاثنين أكثر منه بقول الواحد; ولأن الشاهد الواحد يعارضه البراءة الأصلية فيترجح جانب الصدق بانضمام شاهد آخر إليه.
قوله: "والشهادة بهلال الفطر" يشترط لها لفظ الشهادة, والولاية, والعدد, وإن لم يكن من إثبات الحقوق, التي فيها معنى الإلزام; لأن الفطر مما يخاف فيه التلبيس والتزوير دفعا للمشقة بخلاف الصوم. وهذا أظهر مما ذهب إليه بعضهم من أنه من هذا القسم بناء على أن العباد ينتفعون بالفطر فهو من حقوقهم ويلزمهم الامتناع عن الصوم يوم الفطر فكان فيه معنى الإلزام; إذ لا يخفى أن انتفاعهم بالصوم أكثر, وإلزامهم فيه أظهر مع أنه يكفي فيه شهادة الواحد.(2/22)
معنى الإلزام فيحتاج إلى زيادة توكيد والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم وما ليس في الإلزام كالوكالات والمضاربات والرسالات في الهدايا وما أشبه ذلك كالودائع والأمانات تثبت بأخبار الواحد بشرط التمييز دون العدالة فيقبل فيها خبر الفاسق والصبي والكافر لأنه لا إلزام فيه وللضرورة اللازمة هنا بخلاف الطهارة والنجاسة فإن
ـــــــ
شهادة الصبي والعبد "والعدد عند الإمكان" حتى لا يشترط العدد في كل موضع لا يمكن فيه العدد عرفا كشهادة القابلة "مع سائر شرائط الرواية صيانة لحقوق العباد; ولأن فيه معنى الإلزام فيحتاج إلى زيادة توكيد, والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم" أي: له حكم هذا القسم لما فيه من خوف التزوير والتلبيس "وما ليس في الإلزام كالوكالات والمضاربات والرسالات في الهدايا, وما أشبه ذلك كالودائع والأمانات تثبت بأخبار الواحد بشرط التمييز دون العدالة فيقبل فيها خبر الفاسق والصبي والكافر; لأنه لا إلزام فيه وللضرورة اللازمة هنا". فإن في اشتراط العدالة في هذه الأمور غاية الحرج على أن المتعارف بعث الصبيان والعبيد بهذه الأشغال. والعدول الثقات لا ينتصبون دائما للمعاملات الخسيسة لا سيما; لأجل الغير "بخلاف الطهارة والنجاسة فإن ضرورتهما غير لازمة; لأن العمل بالأصل ممكن" فإنه قد سبق في هذا الفصل في الطهارة والنجاسة أن هذا أمر لا يستقيم تلقيه من جهة العدول. فهذا بيان أن الضرورة حاصلة في قبول خبر غير العدول في الطهارة والنجاسة لكن نذكر هنا أن الضرورة فيهما غير لازمة; لأن العمل بالأصل ممكن فأما في المعاملات فالضرورة لازمة فلم يقبل خبر العدول ثمة مطلقا بل مع انضمام التحري, وقبل هنا مطلقا "وما فيه إلزام من وجه دون
................................................................................................
قوله: "وما ليس فيه إلزام" ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى في موضع من كتابه أن أخبار المميز يقبل في مثل الوكالة, والهدايا من غير انضمام التحري, وفي موضع آخر أنه يشترط التحري, وهو المذكور في كلام الإمام السرخسي رحمه الله تعالى ومحمد ذكر القيد في كتاب الاستحسان, ولم يذكره في الجامع الصغير فقيل يجوز أن يكون المذكور في كتاب الاستحسان تفسيرا لهذا فيشترط, ويجوز أن يشترط استحسانا, ولا يشترط رخصة ويجوز أن يكون في المسألة روايتان.
قوله: "على أن المتعارف" لا يشترط في الخبر بالوكالة, والإذن ونحوهما العدالة, والتكليف, والحرية سواء أخبر بأنه وكيل فلان أو مأذونه; أو أخبر بأن, فلانا وكل المبعوث إليه أو جعله مأذونا لأن الإنسان قلما يجد المستجمع للشرائط يبعثه لهذه المعاملات أو لإخبار الغير بأنه وكيل في ذلك وظاهر عبارة البعض مشعر بالقسم الثاني حيث يقولون الإنسان قلما يجد المستجمع للشرائط يبعثه إلى وكيله أو غلامه.
قوله: "وإن كان" أي: المخبر بما فيه إلزام من وجه دون وجه فضوليا يشترط إما العدد أو العدالة على الأصح, وقيل لا بد من العدالة. والاختلاف إنما وقع من لفظ المبسوط حيث قال إذا حجر المولى على عبده, وأخبره بذلك من لم يرسله مولاه لم يكن حجرا في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى يخبره رجلان أو رجل عدل يعرفه العبد فجعل بعضهم العدالة للمجموع(2/23)
ضرورتها غير لازمة لأن العمل بالأصل ممكن وما فيه إلزام من وجه دون كعزل الوكيل وحجر المأذون وفسخ الشركة وإنكاح الولي البكر البالغة فإن كان المخبر وكيلاً أو رسولاً يقبل خبر الواحد غير العدل وإن فضولياً يشترط إما العدد أو العدالة بعد وجود سائر الشرائط رعاية للشبهين.
ـــــــ
وجه كعزل الوكيل" فإنه إلزام من حيث إنه يبطل عمله في المستقبل, وليس بإلزام من حيث أن الموكل يتصرف في حقه "وحجر المأذون, وفسخ الشركة" لما ذكرنا في عزل الوكيل "وإنكاح الولي البكر البالغة" فإنه من حيث إنه لا يمكن لهذا التزوج في المستقبل على تقدير نفاذ هذا الإنكاح إلزام, ومن حيث إنه يمكن لها فسخ هذا الإنكاح ليس بإلزام "فإن كان المخبر وكيلا أو رسولا يقبل خبر الواحد غير العدل, وإن كان فضوليا يشترط إما العدد أو العدالة بعد وجود سائر الشرائط". إنما فرقوا بين الوكيل والرسول وبين الفضولي; لأن الوكيل والرسول يقومان مقام الموكل والمرسل فينتقل عبارتهما إليهما, فلا يشترط شرائط الأخبار من العدالة ونحوها في الوكيل والرسول بخلاف الفضولي وأيضا قلما يتطرق الكذب في الوكالة والرسالة بأن يقول كاذبا وكلني فلان أو أرسلني إليك, ويقول: كذا وكذا. وأما الأخبار الكاذبة من غير رسالة ووكالة فكثيرة الوقوع; وذلك لأن مخافة ظهور الكذب ولزوم الضرر في الأولين أشد. وقوله: "رعاية للشبهين" أي: شبه الإلزام وعدم الإلزام.
...........................................................................................
وبعضهم للرجل فقط, وهو الأصح; لأن للعدد تأثيرا في الاطمئنان ولأنه لو اشترط في الرجلين العدالة كان ذكره ضائعا, ويكفي أن يقال حتى يخبره رجل عدل ولم يذكر في المبسوط اشتراط وجود سائر الشرائط أعني: الذكورة, والحرية, والبلوغ لا نفيا, ولا إثباتا فلذا قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى وغيره إنه يحتمل أن يشترط سائر شرائط الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى لا يقبل خبر العبد, والمرأة, والصبي, وأما عندهما فالكل سواء أي: يكفي في هذا القسم قول كل مميز كما في القسم الذي لا إلزام فيه لمكان الضرورة والمصنف رحمه الله تعالى جزم باشتراط سائر الشرائط لكن لا يخفى أنه يحصل به قصور في رعاية شبه عدم الإلزام فقوله: رعاية للشبهين تعليل للاكتفاء بأحد الأمرين إما العدد أو العدالة.(2/24)
فصل في كيفية السماع و الضبط و التبليغ
...
فصل في كيفية السماع والضبط والتبليغ
أما السماع فهو العزيمة في هذا الباب
ـــــــ
[فصل] في كيفية السماع والضبط والتبليغ
أما السماع فهو العزيمة في هذا الباب, وهو إما بأن يقرأ المحدث عليك أو بأن تقرأ عليه فتقول: أهو كما قرأت فيقول نعم والأول أعلى عند المحدثين فإنه طريقة الرسول عليه السلام, وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان ذلك أحق منه عليه السلام فإنه كان مأمونا عن السهو أما في غيره, فلا على أن رعاية الطالب أشد عادة
................................................................................................
قوله: "فصل" في كيفية السماع, وهو الإجازة بأن يقول له أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب أو مجموع مسموعاتي أو مقروءاتي ونحو ذلك, والمناولة أن يعطيه المحدث كتاب سماعه بيده(2/24)
وهو إما بأن يقرأ المحدث عليك أو بأن تقرأ عليه فتقول أهو كما قرأت فيقول نعم والأول أعلى عند المحدثين فإنه طريقة الرسول عليه السلام وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان ذلك أحق منه عليه السلام فإنه كان مأموناً عن السهو أما في غيره فلا على أن رعاية الطالب أشد عادة وطبيعة وأيضاً إذا قرأ التلميذ فالمحافظة من الطرفين وإذا قرأ الأستاذ لا تكون المحافظة إلا منه وأما الكتابة والرسالة فقائم مقام الخطاب
ـــــــ
وطبيعة, وأيضا إذا قرأ التلميذ فالمحافظة من الطرفين, وإذا قرأ الأستاذ لا تكون المحافظة إلا منه. وأما الكتابة والرسالة فقائم مقام الخطاب فإن تبليغ الرسول عليه السلام كان بالكتاب والإرسال أيضا والمختار في الأولين أن يقول حدثنا, وفي الأخيرين أخبرنا. وأما الرخصة فهي الإجازة والمناولة فإن كان عالما بما في الكتاب يجوز فالمستحب أن يقول: أجاز, ويجوز أيضا أخبر, وإن لم يكن عالما بما فيه لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف كما في كتاب القاضي. لهما أن أمر السنة أمر عظيم مما لا يتساهل فيه وتصحيح الإجازة من غير علم فيه من الفساد ما فيه, وفيه فتح لباب التقصير في طلب العلم, وهذا أمر يتبرك به لا أمر يقع به الاحتجاج. وأما الضبط فالعزيمة فيه الحفظ إلى وقت الأداء, وأما الكتابة فقد كانت رخصة فانقلبت عزيمة في هذا الزمان صيانة للعلم. والكتابة نوعان مذكر أي: إذا رأى الخط تذكر الحادثة هذا هو الذي انقلب عزيمة, وأمام, وهو لا يفيد التذكر, والأول حجة سواء خطه هو أو رجل معروف أو مجهول. والثاني: لا يقبل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أصلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن كان تحت يده يقبل في الأحاديث وديوان القضاء للأمن من التزوير, وإن لم يكن في يده لا يقبل في ديوان القضاء, ويقبل في الأحاديث إذا كان خطا معروفا لا يخاف عليه التبديل عادة, ولا يقبل في الصكوك; لأنه في يد الخصم حتى إذا كان في يد الشاهد يقبل وعند محمد رحمه الله تعالى يقبل أيضا في الصكوك إذا علم بلا شك أنه خطه; لأن الغلط فيه نادر, وما يجده بخط رجل معروف في كتاب معروف
................................................................................................
ويقول: أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب, ولا يكفي مجرد إعطاء الكتاب, وإنما جوز طريق الإجازة ضرورة أن كل محدث لا يجد راغبا إلى سماع جميع ما صح عنده فيلزم تعطيل السنن وانقطاعها فلذا كانت رخصة.
قوله: "وهذا أمر يتبرك به" جواب عما يقال أن السلف كانوا يعتبرون الإجازة, والمناولة من غير علم المجاز له بما فيه.
قوله: "وإمام" يعني أن الراوي لم يستفد منه التذكر بل اعتمد عليه اعتماد المقتدي على إمامه.
قوله: "والثاني لا يقبل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى"; لأن المقصود من النظر في الكتاب عنده التذكر, والعود إلى ما كان عليه من الحفظ حتى تكون الرواية عن حفظ تام إذ الحفظ الدائم مما يتعسر على غير النبي عليه الصلاة والسلام لا سيما في زمان الاشتغال بأنواع العلوم, وفروع الأحكام.(2/25)
فإن تبليغ الرسول عليه السلام كان بالكتاب والإرسال أيضاً والمختار في الأولين أن يقول حدثنا وفي الأخيرين أخبرنا وأما الرخصة فهي الإجازة والمناولة فإن كان عالماً بما في الكتاب يجوز فالمستحب أن يقول أجاز ويجوز أيضاً أخبر وإن لم يكن عالماً بما فيه لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافاً لأبي يوسف كما في كتاب القاضي لهما أن أمر السنة أمر عظيم مما لا يتساهل فيه وتصحيح والإجازة من غير علم فيه من الفساد ما فيه وفيه فتح لباب التقصير في طلب العلم وهذا أمر يتبرك به لا أمر يقع به الاحتجاج. وأما الضبط فالعزيمة فيه الحفظ إلى وقت الأداء وأما الكتابة فقد كانت رخصة فانقلبت عزيمة في هذا الزمان صيانة للعلم والكتاب نوعان مذكر أي رأي الخط تذكر الحادثة هذا هو الذي انقلب عزيمة وإمام وهو لا يفيد التذكر والأول حجة سواء خطه هو أو رجل معروف أو مجهول. والثاني لا يقبل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أصلاً وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن كان تحت يده ديوان القضاء ويقبل في الأحاديث إذا كان الخطأ معروفاً لا يخاف عليه التبديل عادة ولا يقبل في الصكوك لأنه في يد الخصم حتى إذا كان في يد الشاهد يقبل وعند محمد رحمه الله تعالى يقبل أيضاً في الصكوك إذا علم بلا شك أنه خطه لأن الغلط فيه نادر وما يجده بخط رجل معروف في كتاب معروف يجوز أن يقول وجدت بخط فلان كذا وكذا وأما الخط المجهول فإن ضم إليه خط جماعة لا يتوهم التزوير في مثله والنسبة تامة وغير مضموم لا.
ـــــــ
يجوز أن يقول: وجدت بخط فلان كذا وكذا, وأما الخط المجهول فإن ضم إليه خط جماعة لا يتوهم التزوير في مثله والنسبة تامة يقبل وغير مضموم لا المراد من النسبة التامة أن يذكر الأب والجد
................................................................................................
وذكر في المعتمد أن الذي ينبغي أن يكون محل الخلاف هو ما إذا لم يتذكر سماعه بما في هذا الكتاب, وفي قراءته ولكن غلب على ظنه ذلك.
قوله: "وديوان القضاء" هو المجموعة من قطع القراطيس يقال دونت الكتب جمعتها, وقد يقال الديوان لمجمع الحاكم.
"قوله عليه السلام: "نضر الله امرأ" " الحديث. أجيب بأن النقل بالمعنى من غير تغير أداء كما سمع ولو سلم, فلا دلالة في الحديث على عدم الجواز غايته أنه دعاء للناقل باللفظ; لكونه أفضل.
قوله: "ولأنه مخصوص بجوامع الكلم" يعني: يوجد في الحديث ألفاظ يسيرة جامعة لمعان كثيرة لا يقدر غيره على تأدية تلك المعاني بعبارته وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: "الخراج(2/26)
وأما التبليغ فإنه لا يجوز عند بعض أهل الحديث النقل بالمعنى لقوله عليه الصلاة والسلام: "نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها وأداها كما سمعها" ولأنه مخصوص بجوامع الكلم وعند عامة العلماء يجوز ولا شك أن العزيمة هو الأول والتبرك بلفظه عليه الصلاة والسلام أولى لكن إذا ضبط المعنى ونسي اللفظ بالضرورة داعية إلى ما ذكرنا وهو في ذلك أنواع فما كان محكماً يجوز للعالم باللغة وما كان فقط وما كان مشتركاً أو مجملاً أو متشابهاً أو من جوامع الكلم لا يجوز أصلاً لأن في نقلها بالمعنى وفي الأخير أي لا يؤمن الغلط فيه لإحاطته عليه السلام لمعان تقصر عنها عقول غيره.
ـــــــ
"وأما التبليغ فإنه لا يجوز عند بعض أهل الحديث النقل بالمعنى لقوله عليه الصلاة والسلام: "نضر الله امرأ" أي: نعم الله سمع منا مقالة فوعاها, وأداها كما سمعها; لأنه مخصوص بجوامع الكلم, وعند عامة العلماء يجوز, ولا شك أن العزيمة هو الأول والتبرك بلفظه عليه الصلاة والسلام أولى لكن إذا ضبط المعنى ونسي اللفظ فالضرورة داعية إلى ما ذكرنا, وهو في ذلك أنواع" أي: الحديث في النقل بالمعنى أنواع "فما كان محكما يجوز للعالم باللغة, وما كان ظاهرا يحتمل الغير كعام يحتمل الخصوص أو حقيقة تحتمل المجاز يجوز للمجتهد فقط, وما كان مشتركا أو مجملا أو متشابها أو من جوامع الكلم لا يجوز أصلا; لأن في الأول" أي: المشترك "إن أمكن التأويل فتأويله لا يصير حجة على غيره والثاني والثالث" أي: المجمل والمتشابه "لا يمكن نقلهما بالمعنى, وفي الأخير" أي: ما كان من جوامع الكلم "لا يؤمن الغلط فيه لإحاطته عليه السلام لمعان تقصر عنها عقول غيره"
................................................................................................
بالضمان" 1 و "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" 2. وفي "الغرم بالغنم", والجواب أن الكلام في غير جوامع الكلم مع القطع بأنه معنى الحديث لمعرفة الناقل بمواقع الألفاظ, والعمدة في جواز ذلك ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أمر النبي عليه الصلاة والسلام بكذا ونهى عن كذا ورخص في كذا وشاع ذلك من غير نكير فكان اتفاقا.
قوله: "فما كان محكما" أي: متضح المعنى بحيث لا يشتبه معناه, ولا يحتمل وجوها متعددة على ما صرح به فخر الإسلام لا ما يحتمل النسخ على ما هو المصطلح في أقسام الكتاب.
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 71. الترمذي في كتاب البيوع باب 53. النسائي في كتاب البيوع باب 15. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 43 . أحمد في مسنده 6/49 ، 208 .
2 رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 17. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 31. أحمد في مسنده 5/327.(2/27)
فصل: في الطعن
وهو إما من الراوي أو من غيره والأول إما بأن يعمل بخلافه بعد الرواية فيصير مجروحاً كحديث عائشة رضي الله عنها أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثم زوجت بعدها ابنة أخيها عبد الرحمن رحمه الله تعالى وهو غائب وكحديث ابن عمر رضي الله عنهما في رفع اليدين في الركوع وقال مجاهد صحبت ابن عمر رحمه الله تعالى عشر سنين فلم أره رفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح وإن عمل بخلافه قبلها أو لا يعلم التاريخ لا يجرح وأما يعمل ببعض محتملاته فإنه رد منه للباقي بطريق التأويل لا جرح كحديث ابن عباس من بدل دينه فاقتلوا وقال
ـــــــ
"فصل" في الطعن, وهو إما من الراوي أو من غيره والأول إما بأن يعمل بخلافه بعد الرواية فيصير مجروحا كحديث عائشة رضي الله عنها: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" ثم زوجت بعدها ابنة أخيها عبد الرحمن رحمه الله تعالى, وهو غائب وكحديث ابن عمر رضي الله عنهما في رفع اليدين في الركوع وقال مجاهد صحبت ابن عمر رحمه الله تعالى عشر سنين فلم أره رفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح, وإن عمل بخلافه قبلها أو لا يعلم التاريخ لا يجرح, وأما بأن يعمل ببعض محتملاته; فإنه رد منه للباقي بطريق التأويل لا جرح كحديث ابن عباس من بدل دينه فاقتلوه, وقال: لا تقتل المرتدة, وأما بأن أنكرها صريحا "كحديث عائشة "أيما امرأة نكحت" الحديث رواه سليمان عن موسى عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها, وقد أنكر الزهري لا يكون جرحا عند محمد رحمه الله تعالى لقصة ذي اليدين", وهي ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى إحدى العشاءين فسلم على رأس ركعتين فقام ذو اليدين فقال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: أقصرت الصلاة أم نسيتها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "كل ذلك لم يكن" فقال: وبعض ذلك قد كان فأقبل على القوم فيهم أبو بكر وعمر فقال: "أحق ما يقول ذو اليدين؟" فقالا: نعم, فقام فصلى ركعتين" فقبل عليه
................................................................................................
قوله: "فصل في الطعن" كحديث عائشة رضي الله عنها قد يقال: إن غيبة الأب لا توجب أن يكون النكاح بلا ولي; لأن الولاية تنتقل إلى الأبعد عند غيبة الأقرب.
قوله: "وإن عمل" أي: الراوي بخلاف ما روى قبل الرواية لا يجرح لجواز أنه كان مذهبه فتركه بالحديث وكذا إذا لم يعلم التاريخ; لأنه حجة بيقين, فلا يسقط بالشك.
قوله: "عن الزهري عن عائشة رضي الله عنهما" ترك بينهما ذكر عروة, وهو الراوي عن عائشة رضي الله عنها.
قوله: "لقصة ذي اليدين" هو عمرو بن عبد ود سمي بذلك; لأنه كان يعمل بكلتا يديه, وقيل لطول يديه استدل بالقصة على أن رد المروي عنه لا يكون جرحا وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل رواية أبي بكر, وعمر رضي الله عنهما أنه سلم على رأس الركعتين مع أنه أنكر ذلك(2/28)
لا تقتل المرتدة وأما بأن أنكرها صريحاً كحديث عائشة أيما امرأة نكحت الحديث رواه سليمان عن موسى عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها وقد أنكر الزهري لا يكون جرحاً عند محمد رحمه الله تعالى لقصة ذي اليدين ولأن الحمل على نسيانه أولى من تكذيب الثقة الذي يروى عنه ويكون جرحاً عند أبي يوسف رحمه الله تعالى
ـــــــ
السلام روايتهما عنه مع إنكاره. ومن ذهب إلى أن كلام الناسي يبطل الصلاة زعم أن هذا كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ثم نسخ "ولأن الحمل على نسيانه أولى من تكذيب الثقة الذي يروي عنه, ويكون جرحا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى; لأن عمارا قال لعمر أما تذكر حيث كنا في إبل فأجنبت فتمعكت إلى آخره ولم يقبله عمر رضي الله تعالى عنه قال كنا في إبل الصدقة فأجنبت فتمعكت في التراب فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: أما كان يكفيك ضربتان فلم يتذكره عمر فلم يقبل قول عمار يقال: تمعكت الدابة في التراب أي: تمرغت. ووجه التمسك بهذا أن عمارا لو لم يحك حضور عمر في تلك القضية لقبله عمر لعدالة عمار فالمانع من القبول أن عمارا حكى حضور عمر وعمر لم يتذكر ذاك
................................................................................................
أولا; لأن سياق القصة يدل على أنه إنما عمل بقولهما إلا بدليل آخر. وكلام النبي عليه الصلاة والسلام إنما جرى على ظن أنه قد أكمل الصلاة فكان في حكم الناسي وكلام الناسي لا يبطل الصلاة, والقول بأن ذلك كان قبل تحريم الكلام في الصلاة تأويل فاسد; لأن تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة وحدوث هذا الأمر إنما كان بالمدينة; لأن راويه أبو هريرة, وهو متأخر الإسلام, وقد رواه عمران بن الحصين, وهجرته متأخرة كذا في شرح السنة.
قوله: "ولأن الحمل على نسيانه أولى من تكذيب الثقة الذي يروي عنه" فإن قيل: إن أريد بالتكذيب النسبة إلى تعمد الكذب فليس بلازم; لجواز أن يكون سهوا أو نسيانا, وإن أريد به أعم من ذلك, فلا أولوية; لأن المروي عنه أيضا ثقة قلنا تعارضا فبقي أصل الخبر معمولا به, وفيه نظر وظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى يدل على أن هذا الخلاف فيما إذا صرح المروي عنه بالإنكار والتكذيب, ولا يشعر بالحكم فيما إذا توقف, وقال: لا أتذكر ذلك. وقيل الخلاف في الثاني, وفي الأول يسقط بلا خلاف, وقيل إن ترجح أحدهما على الآخر في الجزم فهو المعتبر, وإن تساويا فقد تساقطا, فلا يعمل بالحديث.
قوله: "ويكون جرحا عند أبي يوسف" لقصة عمار, وقد يستدل بأنه يلزم الانقطاع, ويكون أحدهما مغفلا وجوابه أن عدم التذكر في حادثة لا يوجب كونه مغفلا بحيث يرد خبره, وقلما يسلم الإنسان من النسيان, ولا خفاء في أن كلا من عمر, وعمار عدل ضابط, وأيضا عدالة كل منهما وضبطه يقين, فلا يرتفع بالشك.
قوله: "ولم يعمل به عمر", وعلي رضي الله عنهما فإن قيل قد روي أن عمر رضي الله عنه نفى رجلا فلحق بالروم مرتدا فحلف, والله لا أنفي أبدا أجيب بأنه كان سياسة إذ لو كان حدا لما(2/29)
لأن عماراً قال لعمر أما تذكر حيث كنا في إبل فأجنبت فتمعكت إلى آخره ولم يقبله عمر رضي الله تعالى عنه وهذا فرع خلافهما في شاهدين شهدا على قاض أنه قضى بهذا ولم يتذكر القاضي والثاني أنه إن كان من الصحابي فيما لا يحتمل الخفاء يكون جرحاً نحو البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام.
ـــــــ
فبالأولى إذا نقل عن رجل حديث, وهو لا يتذكره لا يكون مقبولا. ونقل البخاري في صحيحه عن سفيان عن شقيق كنت مع عبد الله بن مسعود, وأبي موسى فقال أبو موسى ألم تسمع قول عمار لعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني أنا وأنت فأجنبت فتمعكت الصعيد فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال عليه الصلاة والسلام: "أما كان يكفيك هكذا", ومسح وجهه وكفيه واحدة, وقال عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟. "وهذا فرع خلافهما في شاهدين شهدا على قاض أنه قضى بهذا, ولم يتذكر القاضي, والثاني أنه إن كان من الصحابي فيما لا يحتمل الخفاء يكون جرحا نحو "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" " ولم يعمل به عمر وعلي رضي الله عنهما, ولا يمكن خفاء مثل هذا الحكم عنهما, وفيما يحتمل الخفاء لا يكون جرحا كما لم يعمل أبو موسى بحديث الوضوء على من قهقه في الصلاة; لأنه من الحوادث النادرة فيحمل على الخفاء عنه, وإن كان من أئمة الحديث فإن كان الطعن مجملا لا يقبل, وإن كان مفسرا, فإن فسر بما هو جرح شرعا متفق عليه, والطاعن من أهل النصيحة لا من أهل العداوة والعصبية يكون جرحا وإلا, فلا, وما ليس بطعن شرعا فمذكور في أصول البزدوي فإن أردت فعليك بالمطالعة فيه.
................................................................................................
حلف إذ الحد لا يترك بالارتداد, وفيه بحث; لأن المسألة اجتهادية لا قطع بها فيجوز أن يكون تغير اجتهاده بذلك, والإنصاف أن قصة أعرابي وقع في كوة في المسجد, وقهقهت الأصحاب في الصلاة بمحضر من كبار الأصحاب, وأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم بإعادة الوضوء والصلاة ليست أخفى من حديث في تغريب العام في زنا البكر بالبكر ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ورواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه.
قوله: "فإن كان الطعن مجملا" بأن يقول: هذا الحديث غير ثابت أو منكر أو مجروح أو راويه متروك الحديث أو غير العدل لم يقبل; لأن العدالة أصل في كل مسلم نظرا إلى العقل والدين لا سيما الصدر الأول, فلا يترك بالجرح المبهم لجواز أن يعتقد الجارح ما ليس تجريحا, وقيل يقبل; لأن الغالب من حال الجارح الصدق, والبصارة بأسباب الجرح ومواقع الخلاف. والحق أن الجارح إن كان ثقة بصيرا بأسباب الجرح ومواقع الخلاف ضابطا لذلك يقبل جرحه المبهم, وإلا, فلا.
قوله: "ما ليس بطعن شرعا" مثل ركض الخيل, والمزاح وتحمل الحديث في الصغر ومثل الإرسال, والاستكسار من فروع الفقه, وأمثال ذلك.(2/30)
فصل في أفعاله عليه الصلاة و السلام
...
فصل في أفعاله عليه الصلاة والسلام
فمنها ما يقتدي به وهو مباح مستحب وواجب وفرض وغير المقتدى به.
ـــــــ
"فصل" في أفعاله عليه الصلاة والسلام فمنها ما يقتدى به وهو مباح ومستحب وواجب, وفرض وغير المقتدى به, وهو إما مخصوص به أو زلة, وهي فعله من الصغائر يفعله من غير قصد, ولا بد أن ينبه عليها لئلا يقتدى بها.
ففعله المطلق يوجب التوقف عند البعض للجهل بصفته, ولا تحصل المتابعة إلا بإتيانه على تلك الصفة, وعند البعض يلزمنا اتباعه لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: فعله وطريقته وعند الكرخي يثبت المتيقن, وهو الإباحة, ولا يكون لنا اتباعه; لأنه لا يمكن أن يكون مخصوصا به والمختار عندنا الإباحة لكن يكون لنا اتباعه; لأنه بعث ليقتدى بأقواله, وأفعاله قال الله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} وذلك بسبب النبوة والمخصوص به نادر.
................................................................................................
قوله: "فصل في أفعاله عليه الصلاة والسلام" يعني أن الأفعال التي لم يتضح فيها أمر الجبلة كالقيام, والقعود, والأكل, والشرب فإن ذلك مباح له ولأمته بلا خلاف فيكون خارجا عن الأقسام أو يدخل في المباح الذي يقتدى به بمعنى أنه يباح لنا أيضا فعله فعلى هذا يصح حصر غير المقتدى به في المخصوص, والزلة إذ لا يجوز منه الكبائر, ولا الصغائر.
قوله: "وواجب, وفرض" يعني أن فعله بالنسبة إلينا يتصف بذلك بأن يجعل الوتر واجبا عليه صلى الله عليه وسلم لا مستحبا أو فرضا, وإلا فالثابت عنده بدليل يكون قطعيا لا محالة حتى إن قياسه واجتهاده أيضا قطعي; لأنه لا يقرر عن الخطأ على ما سيأتي.
قوله: "وهو فعله من الصغائر" رد لما ذكره بعض المشايخ من أن زلة الأنبياء هي الزلل من الأفضل إلى الفاضل ومن الأصوب إلى الصواب لا عن الحق إلى الباطل, وعن الطاعة إلى المعصية لكن يعاتبون لجلالة قدرهم ولأن ترك الأفضل عنهم بمنزلة ترك الواجب عن الغير.
قوله: "من غير قصد" قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى أما الزلة, فلا يوجد فيها القصد إلى عينها ولكن يوجد القصد إلى أصل الفعل; لأنها أخذت من قولهم زل الرجل في الطين إذا لم يوجد القصد إلى الوقوع, ولا إلى الثبات بعد الوقوع ولكن وجد القصد إلى المشي في الطريق, وإنما يؤاخذ عليها; لأنها لا تخلو عن نوع تقصير يمكن للمكلف الاحتراز عنه عند التثبت, وأما المعصية حقيقة فهي فعل حرام يقصد إلى نفسه مع العلم بحرمته.
قوله: "ففعله المطلق" أي: الخالي عن قرينة الفرضية والوجوب, والاستحباب, والإباحة وكونه زلة أو سهوا أو مخصوصا بالنبي عليه الصلاة والسلام فيه أربعة مذاهب حاصلا الأولين الاتفاق على عدم الجزم بحكم ذلك الفعل بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام, والاختلاف في أنه هل(2/31)
فصل في الوحي
وهو ظاهر وباطن أما الظاهر فثلاثة الأول ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه عليه الصلاة والسلام بعد علمه بالمبلغ بآية قاطعة والقرآن من هذا القبيل والثاني ما وضح له بإشارة من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفس في روعي أن نفساً لن تموت..." الحديث وهذا يسمى
ـــــــ
"فصل" في الوحي, وهو ظاهر وباطن أما الظاهر فثلاثة. الأول: ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه عليه الصلاة والسلام بعد علمه بالمبلغ بآية قاطعة والقرآن من هذا القبيل. والثاني: ما وضح له بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت - الحديث - حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله, وأجملوا في الطلب". الروع القلب "وهذا يسمى خاطر الملك والثالث ما تبدى لقلبه بلا شبهة بإلهام الله تعالى إياه بأن أراه بنور من عنده كما قال الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وكل ذلك حجة مطلقا بخلاف الإلهام للأولياء فإنه لا يكون حجة على غيره "وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد" وفيه خلاف فعند البعض حظه الوحي الظاهر لا غير, وإنما الرأي, وهو المحتمل للخطأ يكون لغيره لعجزه عن الأول لقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وعند البعض له العمل بهما والمختار عندنا أنه مأمور بانتظار الوحي ثم العمل
................................................................................................
يلزمنا الاتباع أو يتوقف في الاتباع أيضا, وحاصل الأخيرين الاتفاق على أن حكمه الإباحة للنبي عليه الصلاة والسلام والاختلاف في أنه هل يجوز لنا الاتباع أم لا؟. واعترض على مذهب التوقف بأنا إما أن نمنع الأمة من الفعل, ونذمهم عليه فيكون حراما أو لا فيكون مباحا, فلا يتحقق القول بالوقف, والجواب أنا لا نمنعهم, ولا نذمهم لعدم علمنا بالحكم في حقهم لا لتحقق الإباحة, وقد يقال على الأول: إن المراد بالمتابعة مجرد الإتيان بالفعل, وهذا لا يتوقف على العلم بصفة, وعلى الثاني أنا لا نسلم أن الأمر في الآية بمعنى الفعل والطريقة بل هو حقيقة في القول على ما سبق, وعلى الثالث أن الإباحة ليست مجرد جواز الفعل مع جواز الترك, ولا نسلم أنه متيقن, وأيضا فيه إثبات الحرمة بلا دليل مع أن الأصل في الأشياء الإباحة. وعلى الرابع أنه إن أريد بالإباحة جواز الفعل مع جواز الترك على ما هو المصطلح, فلا دليل عليها, وإن أريد مجرد جواز الفعل, فلا نزاع للواقفية, ويمكن أن يقال: المراد الإباحة بالمعنى المصطلح وتثبت بحكم الأصل.
قوله: "فعند البعض حظه الوحي الظاهر لا الاجتهاد" واستدل عليه صريحا بقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} فإنه يدل على أن كل ما ينطق به إنما هو وحي لا غير, والمفهوم من الوحي ما ألقى الله تعالى إليه بلسان الملك أو غيره, وأجاب بأنه إذا كان متعبدا بالاجتهاد كان حكمه بالاجتهاد أيضا وحيا لا نطقا عن الهوى, واستدل أيضا إشارة بأن الاجتهاد يحتمل الخطأ, فلا يجوز إلا عند العجز عن دليل لا يحتمل الخطأ, ولا عجز بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لوجود الوحي القاطع.(2/32)
خاطر الملك والثالث ما تبدي لقلبه بلا شبهة بإلهام الله تعالى إياه بأن أراه بنور من عنده كما قال الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وكل ذلك حجة مطلقاً بخلاف الإلهام للأولياء فإنه لا يكون حجة على غيره وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف فعند البعض حظه الوحي الظاهر لا غير وإنما الرأي وهو المحتمل للخطأ يكون لغيره لعجزه عن الأول لقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وعند البعض له العمل بهما. والمختار عندنا أنه مأمور بانتظام الوحي ثم العمل بالرأي بعد انقضاء مدة الانتظار لعموم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}
ـــــــ
بالرأي بعد انقضاء مدة الانتظار لعموم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} ولحكم داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام بالرأي في نفش غنم القوم" يقال: نفشت الغنم والإبل نفوشا أي: رعت ليلا بلا راع روي أن غنم قوم وقعت ليلا في زرع جماعة فأفسدته فتخاصموا عند داود عليه الصلاة والسلام فحكم داود بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان عليه الصلاة والسلام, وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أرفق بالفريقين فقال أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها, وأولادها, وأصوافها, والحرث إلى أرباب الشاة يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسدته ثم يترادون فقال داود عليه الصلاة والسلام القضاء ما قضيت, وأمضى الحكم بذلك. أما وجه حكومة داود عليه الصلاة والسلام أن
................................................................................................
وأشار إلى الجواب بأن اجتهاده لا يحتمل القرار على الخطأ فتقريره على مجتهده قاطع للاحتمال كالإجماع الذي سنده الاجتهاد. وبهذا يخرج الجواب عن استدلالهم الآخر, وهو أنه لو جاز له الاجتهاد لجاز مخالفته; لأن جواز المخالفة من لوازم أحكام الاجتهاد; لعدم القطع بأنه حكم الله تعالى واللازم باطل بالإجماع, وقد يستدل بأنه لو جاز له الاجتهاد لما توقف في جواب سؤال بل اجتهد وبين ما يجب عليه من الجواب فأشار في تقرير القول المختار إلى جوابه, وهو أنه مأمور بالانتظار فهو شرط لاجتهاده على أن نفس الاجتهاد أيضا يقتضي زمانا.
واستدل على المختار بخمسة أوجه: الأول وجوب الاجتهاد عليه; لعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. الثاني وقوعه من غيره من الأنبياء كداود عليه الصلاة والسلام وسليمان عليه الصلاة والسلام, ولا قائل بالفرق الثالث. وقوعه منه عليه الصلاة والسلام في قصة الخثعمية وجواز قبلة الصائم الرابع: أنه عالم بعلل النصوص وكل من هو عالم بها يلزمه العمل في صورة الفرع الذي يوجد فيه العلة وذلك بالاجتهاد. الخامس: أنه عليه الصلاة والسلام شاور أصحابه في كثير من الأمور المتعلقة بالحروب وغيرها, ولا يكون ذلك إلا لتقريب الوجوه ولتخيير الرأي إذ لو كان لتطييب قلوبهم فإن لم يعمل برأيهم كان ذلك إيذاء واستهزاء لا تطييبا وإن عمل, فلا شك أن رأيه أقوى, وإذا جاز له العمل برأيهم عند عدم النص فبرأيه أولى; لأنه أقوى.(2/33)
[الحشر: 2] ولحكم داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام بالرأي في نفش غنم القوم ولقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته؟" الحديث وقوله عليه السلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته" الحديث لكن يحتمل في الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي لكن بينه بطريق القياس لما كان موافقاً له ليكون أقرب إلى فهم السامع ولأنه أسبق الناس في العلم وأنه يعلم المتشابه والمجمل فمحال أن يخفى عليه معاني النص فإذا وضح له لزمه العمل ولأنه شاور أصحابه في سائر الحوادث عند عدم النص فأخذ في أسارى بدر برأي أبي بكر رضي الله عنه ومثل ذلك كثير.
ـــــــ
الضرر وقع بالغنم فسلمت إلى المجني عليه كما في العبد الجاني, وأما وجه حكومة سليمان عليه الصلاة والسلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان. "ولقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته" الحديث" روي أن الخثعمية قالت: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة فيجزيني أن أحج عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك؟" قالت: نعم قال: "فدين الله أحق أن يقبل". "وقوله عليه السلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته" الحديث" روي أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم فقال عليه السلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟". "لكن يحتمل في الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي لكن بينه بطريق القياس لما كان موافقا له ليكون أقرب إلى فهم السامع; ولأنه أسبق الناس في العلم, وأنه يعلم المتشابه والمجمل, فمحال أن يخفى عليه معاني النص" المراد بها العلل. "فإذا وضح له لزمه العمل; ولأنه شاور أصحابه في سائر الحوادث عند عدم النص فأخذ في أسارى بدر برأي أبي بكر رضي الله عنه" روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس عمه عليه السلام وعقيل ابن عمه أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال: قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم, وخذ منهم فدية يقوى بها أصحابك, وقال عمر: كذبوك, وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر, وإن الله عز وجل أغناك عن الفداء مكن عليا من عقيل وحمزة من عباس, ومكني من فلان لنسيب له فلنضرب أعناقهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر, وكان ذلك هو الرأي عنده فمن عليهم حتى نزل قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: لولا حكم الله سبق في اللوح المحفوظ, وهو أنه لا يعاقب أحد بالخطأ, فكان هذا خطأ في الاجتهاد; لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا لإسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد(2/34)
واجتهاده لا يحتمل القرار على الخطأ لكن مع ذلك الوحي الظاهر أولى لأنه أعلى ولأنه لا يحتمل الخطأ لا ابتداء ولا بقاء والباطن لا يحتمل بقاء ومدة الانتظار ما يرجو نزوله فإذا خاف الفوت في الحادثة يعمل بالرأي والله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه وحياً لا نطقاً عن الهوى.
ـــــــ
في سبيل الله, وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام, وأهيب لمن وراءهم, وأقل لشوكتهم فلما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: "لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر" ولهذه الآية تأويل آخر نذكره في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى. "ومثل ذلك كثير" أي: مثل ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أصحابه كثير, وبعض ذلك مذكور في أصول البزدوي, ومن ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد يوم الأحزاب أن يعطي المشركين شطر ثمار المدينة لينصرفوا فقام سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا إن كان هذا عن وحي فسمعا وطاعة, وإن كان عن رأي, فلا نعطيهم إلا السيف قد كنا نحن, وهم في الجاهلية لم يكن لنا ولهم دين كانوا لا يطعمون من ثمار المدينة إلا بشراء أو قرى فإذا أعزنا الله تعالى بالدين أنعطيهم ثمار المدينة لا نعطيهم إلا السيف, وقال عليه السلام: "إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أصرفهم عنكم فإذا أبيتم فذاك", ثم قال عليه السلام للذين جاءوا للصلح: "اذهبوا, فلا نعطيهم إلا السيف".
واجتهاده لا يحتمل القرار على الخطأ لكن مع ذلك الوحي الظاهر أولى; لأنه أعلى; ولأنه لا يحتمل الخطأ لا ابتداء, ولا بقاء والباطن لا يحتمل بقاء" أي: الوحي الباطن, وهو القياس يحتمل الخطأ لا حالة الابتداء لكن لا يحتمل القرار على الخطأ فهذا هو المراد بالبقاء والوحي الظاهر لا يحتمل الخطأ أصلا لا ابتداء, ولا بقاء فكان أقوى. "ومدة الانتظار ما يرجو نزوله فإذا خاف الفوت في الحادثة يعمل بالرأي" لما ذكر في هذا الفصل أنه مأمور بانتظار الوحي للعمل بالرأي بعد انقضاء مدة الانتظار بين مدة الانتظار, وهي ما يرجو نزوله. "والله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد, كان الاجتهاد, وما يستند إليه", وهو الحكم الذي ظهر له بالاجتهاد "وحيا لا نطقا عن الهوى", وهذا جواب التمسك على المذهب الأول بقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.(2/35)
فصل في شرائع من قبلنا
وهي تلزمنا حتى يقوم الدليل على النسخ عند البعض
ـــــــ
"فصل في شرائع من قبلنا, وهي تلزمنا حتى يقوم الدليل على النسخ عند البعض لقوله
................................................................................................
قوله: "ولأن الأصل في الشرائع" أي: شرائع من قبلنا الخصوص بزمان إلا أن يدل دليل على أن(2/35)
لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وقوله تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وعند البعض لا لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ولأن الأصل لا الشرائع الماضية الخصوص إلا بدليل كما كان في المكان وما ذكروا فذلك في أصول الدين.
ـــــــ
تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قوله تعالى: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وعند البعض لا لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}; ولأن الأصل في الشرائع الماضية الخصوص إلا بدليل كما كان في المكان" أي: كان في القرون الأولى لكل قوم نبي, ويتبع كل واحد منهم نبيهم دون الآخر وكل من الأنبياء مخصوص لمعين. "وما ذكروا", وهو قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وقوله تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} "فذلك في أصول الدين" وعند البعض تلزمنا على أنها شريعة لنا لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} الآية, والإرث يصير ملكا للوارث مخصوصا به فنعمل به على أنه شريعة لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ولقوله عليه السلام: "لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي", وما ذكروا غير مختص بالأصول بل في الجميع على أن النسخ ليس تغييرا بل هو بيان لمدة الحكم والمذهب عندنا هذا لكن لما لم يبق الاعتماد على كتبهم للتحريف شرطنا أن يقص الله تعالى علينا من غير إنكار.
................................................................................................
الثاني تبع للأول في الزمان وداع إلى ما دعا إليه كلوط لإبراهيم, وهارون لموسى صلوات الله عليهم كما كان الأصل فيها الخصوص بمكان كشعيب صلوات الله تعالى عليه في أهل مدين, وأصحاب الأيكة وموسى عليه الصلاة والسلام فيمن أرسل إليهم, وإذا كان الأصل هو الخصوص, فلا يثبت العموم في الأمكنة, والأزمنة والأمم.
قوله: "وما ذكروا غير مختص بالأصول" دفع لما أورده الفريق الثاني من اختصاص الآيتين بالأصول دون الفروع ولما ورد عليه أن بعض أحكامهم مما لحقه النسخ, فلا يقتدى به, ويكون مغيرا له لا مصدقا أجاب بأن النسخ ليس تغييرا بل بيانا لمدته فما انتهت مدته ارتفع ولم يبق لنا الاتباع, وما بقي لزمنا الاتباع على أنه شريعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(2/36)
فصل في تقليد الصحابي
يجب إجماعاً فيما شاع فسكتوا مسلمين ولا يجب
ـــــــ
"فصل في تقليد الصحابي يجب إجماعا فيما شاع فسكتوا مسلمين, ولا يجب إجماعا
................................................................................................
قوله: "واختلف في غيرهما" محل الخلاف قول الصحابي المجتهد هل يكون حجة على مجتهد غير صحابي لم يظهر له دليل من كتاب أو سنة.(2/36)
إجماعاً فيما ثبت الخلاف بينهم وأختلف الخلاف بينهم واختلف في غيرهما فعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجب لأنه لما لم يرفعه لا يحمل على السماع وفي الاجتهاد هم وسائر المجتهدين سواء وعند أبي سعيد البردعي يجب لقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم إن اقتديتم اهتديتم واقتدوا باللذين من بعدي ولأن أكثر أقوالهم مسموع من حضرة الرسالة وإن اجتهدوا فرأيهم أصوب لأنهم شاهدوا موارد النصوص ولتقدمهم في الدين وبركة صحبة النبي عليهم السلام وكونهم في خير القرون وعند الكرخي يجب فيما لا يدرك بالقياس لأنه لا وجه له إلا السماع أو الكذب والثاني منتف لا فيما يدرك لأن القول بالرأي منهم مشهور والمجتهد يخطئ ويصيب والاقتداء في البعض بما ذكرنا وفي البعض بأن نسلك مسلكهم ونجتهد كما اجتهدوا وأيضاً كل ما ثبت فيه اتفاق الشيخين يجب الاقتداء به وأما التابعي فإن ظهر فتواه في زمن الصحابة فهو كالصحابي عند البعض لأنهم بتسليمهم إياه دخل في جملتهم كشريح خالف علياً رضي الله عنه ورد شهادة الحسن له وابن عباس رجع إلى فتوى مسروق في النذر بذبح الولد.
ـــــــ
فيما ثبت الخلاف بينهم, واختلف في غيرهما", وهو ما لم يعلم اتفاقهم, ولا اختلافهم. "فعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجب; لأنه لما لم يرفعه لا يحمل على السماع, وفي الاجتهاد هم وسائر المجتهدين سواء" لعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}; ولأن كل مجتهد يخطئ ويصيب عند أهل السنة. "وعند أبي سعيد البردعي يجب لقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم إن اقتديتم اهتديتم اقتدوا باللذين من بعدي" تمام الحديث أبي بكر وعمر. "ولأن أكثر أقوالهم مسموع من حضرة الرسالة, وإن اجتهدوا فرأيهم أصوب; لأنهم شاهدوا موارد النصوص ولتقدمهم في الدين, وبركة صحبة النبي عليه السلام وكونهم في خير القرون, وعند الكرخي يجب فيما لا يدرك بالقياس; لأنه لا وجه له إلا السماع أو الكذب. والثاني منتف لا فيما يدرك; لأن القول بالرأي منهم مشهور, والمجتهد يخطئ, ويصيب, والاقتداء في البعض بما ذكرنا" أي: الاقتداء في بعض المواضع بأن نقلدهم, ونأخذ بقولهم "وفي البعض" أي: في بعض المواضع "بأن نسلك مسلكهم" أي: في الاجتهاد "ونجتهد كما اجتهدوا", وهذا اقتداء أيضا, وهو جواب عن قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم". "وأيضا كل
................................................................................................
قوله: "وأما التابعي" ما ذكره رواية النوادر, وفي ظاهر الرواية لا تقليد إذ هم رجال, ونحن رجال بخلاف قول الصحابي فإنه جعل حجة لاحتمال السماع وزيادة الإصابة في الرأي ببركة صحبة النبي عليه الصلاة والسلام وذكر الإمام السرخسي رحمه الله تعالى أنه لا خلاف في أنه لا يترك القياس بقول التابعي. وإنما الخلاف في أنه هل يعتد به في إجماع الصحابي حتى لا يتم إجماعهم مع خلافه فعندنا يعتد به, وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد به.(2/37)
باب البيان ويلحق بالكتاب والسنة البيان وهو إظهار المراد وهو إما بالمنطوق أو غيره الثاني بيان ضرورة والأول إما أن يكون بياناً لمعنى الكلام أو اللازم له كالمدة الثاني بيان تبديل والأول إما أن يكون بلا تغيير أو معه الثاني بيان تغير كالاستثناء والشرط والصفة والغاية والأول إما أن يكون معنى الكلام معلوماً لكن الثاني أكده بما قطع الاحتمال أو مجهولاً كالمشترك والمجمل الثاني بيان تفسير والأول بيان تقرير فبيان التقرير والتفسير يجوز للكتاب بخبر الواحد دون التغيير لأنه دونه فلا يغيره فلا
ـــــــ
ما ثبت فيه اتفاق الشيخين يجب الاقتداء به, وأما التابعي فإن ظهر فتواه في زمن الصحابة فهو كالصحابي عند البعض; لأنهم بتسليمهم إياه دخل في جملتهم كشريح خالف عليا رضي الله عنه ورد شهادة الحسن له" وكان مذهب علي قبول شهادة الولد لوالده. "وابن عباس رجع إلى فتوى مسروق في النذر بذبح الولد" وكان مذهبه أن يجب عليه مائة من الإبل إذ هي الدية فرجع إلى فتوى مسروق, وهي أن يجب ذبح شاة والله أعلم.
"باب البيان, ويلحق بالكتاب والسنة البيان, وهو إظهار المراد, وهو إما بالمنطوق أو غيره الثاني بيان ضرورة والأول إما أن يكون بيانا لمعنى الكلام أو اللازم له كالمدة. الثاني بيان تبديل. والأول إما أن يكون بلا تغيير أو معه. الثاني بيان تغيير كالاستثناء والشرط والصفة والغاية. والأول إما أن يكون معنى الكلام معلوما لكن الثاني أكده بما قطع الاحتمال أو مجهولا كالمشترك والمجمل. الثاني بيان تفسير والأول بيان تقرير فبيان التقرير والتفسير يجوز للكتاب بخبر الواحد دون التغيير; لأنه دونه, فلا يغيره, فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد عندنا على ما سبق, ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة; لأنه تكليف بما لا يطاق, وهل يجوز تأخيره عن وقت الخطاب فبيان التقرير والتفسير يجوز موصولا, ومتراخيا اتفاقا لقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وبيان التغيير لا يصح متراخيا إلا عند ابن عباس لقوله عليه السلام: "فليكفر عن يمينه" الحديث". جاء بروايتين إحداهما "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت بالذي هو خير" والأخرى "فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه" 1 وجه التمسك لنا أن النبي عليه الصلاة والسلام أوجب الكفارة, ولو جاز بيان التغيير
................................................................................................
قوله: "باب البيان, ويلحق بالكتاب والسنة البيان" وهو يشارك العام, والخاص والمشترك ونحوها من جهة جريانها في الكتاب والسنة إلا أنه قدم ذكرها, وأخر ذكر البيان اقتداء بالسلف في ذلك ثم البيان يطلق على فعل المبين كالسلام, والكلام, وعلى ما حصل به التبيين كالدليل, وعلى متعلق التبيين ومحله, وهو العلم وبالنظر إلى هذه الإطلاقات قيل هو: إيضاح المقصود, وقيل الدليل, وقيل العلم عن الدليل, وإلى الأول ذهب المصنف رحمه الله تعالى وحصره في بيان
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب الأيمان حديث 11-13. الترمذي في كتاب النذور باب 6. الموطأ في كتاب النذور حديث 11. أحمد في مسنده 4/256.(2/38)
يجوز تخصيصه بخبر الواحد عندنا على ما سبق ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه تكليف بما لا يطاق وهل يجوز تأخيره عن وقت الخطاب فبيان التقرير والتفسير يجوز موصولاً ومتراخياً اتفاقاً لقوله تعالى ثم إن علينا بيانه وبيان التغيير لا يصح متراخياً إلا عند ابن عباس لقوله عليه السلام فليكفر عن يمينه الحديث.
ـــــــ
متراخيا لما وجبت الكفارة أصلا لجواز أن يقول: متراخيا إن شاء الله تعالى فيبطل يمينه, ولا تجب الكفارة.
................................................................................................
الضرورة وبيان التبديل, وبيان التفسير وبيان التغيير, وبيان التقرير وذكر فيه وجه ضبط وبعضهم جعل الاستثناء بيان تغيير, والتعليق بيان تبديل ولم يجعل النسخ من أقسام البيان; لأنه رفع للحكم لا إظهار لحكم الحادثة إلا أن فخر الإسلام رحمه الله تعالى اعتبر كونه إظهارا لانتهاء مدة الحكم الشرعي, ولا يخفى أنه إن أريد بالبيان مجرد إظهار المقصود فالنسخ بيان وكذا غيره من النصوص الواردة لبيان الأحكام ابتداء. وإن أريد إظهار ما هو المراد من كلام سابق فليس بيانا, وينبغي أن يراد إظهار المراد بعد سبق كلام له تعلق به في الجملة ليشمل النسخ دون النصوص الواردة لبيان الأحكام ابتداء مثل {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} ثم التخصيص أيضا من بيان التغيير إلا أنه أخر ذكره لما فيه من البحث والتفصيل ولم يعده مع الاستثناء, والشرط, والصفة, والغاية فإن قيل الغاية أيضا بيان للمدة فكيف جعلها بيانا لمعنى الكلام إلا للازمه قلنا النسخ بيان لمدة بقاء الحكم لا لشيء هو من جملة الكلام ومراده به بخلاف الغاية فإنها بيان لمدة معنى هو مدلول الكلام حتى لا يتم الكلام بدون اعتباره مثل {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فلهذا جعل الغاية بيانا لمعنى الكلام دون مدة بقاء الحكم المستفاد من الكلام ثم كون النسخ تبديلا إنما هو بالنسبة إلينا حيث نفهم من إطلاق الحكم التأبيد.
قوله: "فلا يجوز التخصيص" أي: تخصيص الكتاب بخبر الواحد; لأن خبر الواحد دون الكتاب; لأنه ظني, والكتاب قطعي, فلا يخصصه; لأن التخصيص تغيير وتغيير الشيء لا يكون إلا بما يساويه أو يكون بما فوقه, وهذا مبني على أن العام قطعي فيما يتناوله, وإلا فقد يجاب بأن عام الكتاب قطعي المتن لا الدلالة, والتخصيص إنما يقع في الدلالة لأنه رفع الدلالة في بعض الموارد فيكون ترك ظني بظني وبعبارة أخرى الكتاب قطعي المتن ظني الدلالة, والخبر بالعكس فكان لكل قوة من وجه فوجب الجمع, وهو أولى من إبطال الخبر بالكلية, وقد استدل بأن الصحابة كانوا يخصصون الكتاب بخبر الواحد من غير نكير فكان إجماعا على جوازه, وجوابه أن خبر الواحد قطعي عند الصحابي بمنزلة المتواتر عندنا; لأنه سمعه من النبي عليه السلام مع أنهم إنما كانوا يخصصون الكتاب بالخبر بعد ما ثبت تخصيصه بقطعي من إجماع أو غيره, وقد عرفت أن العام الذي خص منه البعض يصير ظنيا, ويجوز تخصيصه بخبر الواحد, والقياس.
قوله: "ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة" إلا عند من يجوز تكليف المحال, ولا اعتداد به, وما روي من أنه نزل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل(2/39)
وطريقة أنه لما جاء في كتاب الله تعالى وجب حمله على وجه لا يلزم التناقض فقلنا الكلام إذا تعقبه مغير توقف على الآخر فيصير المجموع كلاماً واحداً كما ذكر في الشرط واختلف في التخصيص بالكلام المستقل فعند الشافعي رحمه الله تعالى يصح متراخياً وعندنا لا بل يكون نسخاً له القصة البقرة وقوله تعالى وأهلك وقوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم خصتاً متراخياً بقوله أنه ليس من أهلك وبقوله تعالى أن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون قلنا في قصة البقرة نسخ الإطلاق لأن في الأول يجوز ذبح ذبح أبي بقرة شاؤوا ثم نسخ هذا والأهل لم يكن متناولاً للابن لأن من لا يتبع الرسول لا يكون أهلاً له ولو سلمنا تناوله لكن استثنى بقوله
ـــــــ
"وطريقه أنه لما جاء في كتاب الله تعالى وجب حمله على وجه لا يلزم التناقض فقلنا الكلام إذا تعقبه مغير توقف على الآخر فيصير المجموع كلاما واحدا كما ذكر في الشرط" أي: في فصل مفهوم المخالفة أن الشرط والجزاء كلام واحد أوجب الحكم على تقدير, وهو ساكت عن غيره. "واختلف في التخصيص بالكلام المستقل فعند الشافعي رحمه الله تعالى يصح متراخيا, وعندنا لا بل يكون نسخا" أي: المتراخي لا يكون تخصيصا بل يكون نسخا. "له قصة البقرة" أي: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} يعم الصفراء وغيرها ثم خص متراخيا وعلم أن المراد بقرة مخصوصة "وقوله تعالى: {وَأَهْلَكَ} " في قوله تعالى لنوح عليه السلام: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} نقل أنه لما نزلت هذه الآية قال
................................................................................................
{مِنَ الْفَجْرِ} فكان أحدنا إذا أراد الصوم وضع عقالين أبيض, وأسود وكان يأكل, ويشرب حتى يتبينا فهو محمول على أن هذا الصنيع كان في غير الفرض من الصوم, ووقت الحاجة إنما هو الصوم الفرض.
قوله: "فبيان التقرير, والتفسير يجوز موصولا ومتراخيا اتفاقا" أي: بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى, وإلا فعند أكثر المعتزلة, والحنابلة وبعض الشافعية لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب. فإن قلت فما فائدة الخطاب على تقدير تأخير البيان؟ قلت فائدته العزم على الفعل, والتهيؤ له عند ورود البيان فإنه يعلم منه أحد المدلولات بخلاف الخطاب بالمهمل فإنه لا يفهم منه شيء ما أصلا واستدل على جواز تراخي بيان التفسير عن وقت الخطاب بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: فإذا قرأناه بلسان جبريل عليك فاتبع قرآنه فتكرر فيه حتى يترسخ في ذهنك ثم إن علينا بيان ما أشكل عليك من معانيه, وإنما حمل على بيان التفسير; لأن معناه اللغوي هو الإيضاح ورفع الاشتباه, وأما تسمية التغيير بيانا فاصطلاحا ولو سلم فبيان التفسير مراد إجماعا, فلا يراد غيره دفعا لعموم المشترك, ولو سلم أن اللفظ عام, وليس بمشترك فبيان التغيير, وقد خص منه بالإجماع.(2/40)
تعالى إلا من سبق فإن أريد بالأهل الأهل حتى يشمل الابن فالاستثناء متصل وقوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي من الأهل الذي لم يسبق عليه القول وإن أريد الأهل إيماناً فاستثناء منقطع وقوله تعالى: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لم يتناوله عيسى عليه السلام حقيقة وإنما أورده تعنتاً بالمجاز أو التغليب فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ} لدفع هذا الاحتمال وأصحابنا قالوا كل ما هو تفسير يصح متراخياً اتفاقاً وما هو تغيير لا يصح
ـــــــ
ابن الزبعرى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أأنت قلت ذلك؟ قال: "نعم", فقال: اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال عليه الصلاة والسلام: "لا, بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك" فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} يعني عزيرا وعيسى والملائكة. "خصتا متراخيا" أي: خصت الآيتان تخصيصا متراخيا, وهما قوله تعالى: {وَأَهْلَكَ} وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} "بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} وبقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} " قلنا في قصة البقرة نسخ الإطلاق; لأن في الأول يجوز ذبح أي بقرة شاءوا ثم نسخ هذا, والأهل لم يكن متناولا للابن; لأن من لا يتبع الرسول لا يكون أهلا له, ولو سلمنا تناوله لكن استثنى بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ} فإن أريد بالأهل الأهل قرابة حتى يشمل الابن فالاستثناء متصل, وقوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي: من الأهل الذي لم يسبق عليه القول, وإن أريد الأهل إيمانا فاستثناء منقطع تحقيقه أن الأهل لا يخلو إما أن يراد به الأهل إيمانا أو الأهل
................................................................................................
"قوله: وبيان التغيير" إن كان بمستقل فسيأتي حكمه, وإن كان بغيره كالاستثناء ونحوه, فلا يصح إلا موصولا بحيث لا يعد في العرف منفصلا حتى لا يضر قطعه بتنفس أو سعال أو نحوهما, وعند ابن عباس يجوز متراخيا تمسك الجمهور بقوله عليه السلام: "من حلف على يمين" الحديث وجه التمسك أنه لو صح الانفصال لما أوجب النبي عليه السلام التكفير معينا بل قال فليستثن أو يكفر فأوجب أحدهما لا بعينه إذ لا حنث مع الاستثناء, فلا كفارة على التعيين بل الواجب أحد الأمرين. وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام المصنف رحمه الله تعالى لا على أنه لو جاز التراخي لما وجبت الكفارة أصلا لا معينا, ولا مخبرا فإن قيل قد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لأغزون قريشا" وسكت ثم قال: "إن شاء الله تعالى", وأيضا سأله اليهود عن مدة لبث أصحاب الكهف في كهفهم فقال: "أجيبكم غدا" فتأخر الوحي بضعة عشر يوما ثم نزل {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فقال: "إن شاء الله", فقد صح انفصال الاستثناء عن قوله: أجيبكم غدا بأيام. فالجواب عن الأول أن السكوت العارض يحمل على ما ذكرنا من نحو تنفس أو سعال جمعا بين الأدلة, وعن الثاني أن قوله عليه السلام: "إن شاء الله", لا يلزم أن يعود إلى قوله: "غدا أجيبكم", بل معناه أفعل ذلك أي: أعلق كل ما أقول له إني فاعل ذلك غدا بمشيئة الله تعالى إن شاء الله كما يقال لك افعل كذا وكذا فتقول: إن شاء الله فعلى هذا يحمل قول ابن عباس على أن مراده أنه يصح دعوى نية الاستثناء منه. ولو بعد شهر على ما ذهب إليه البعض من(2/41)
إلا موصولا اتفاق كالاستثناء وإنما اختلفوا في التخصيص بناء على أنه عندنا بيان تغيير وعنده بيان تفسير لما عرف أن العام عنده دليل فيه شبهة فيحتمل الكل والبعض فبيان إرادة البعض يكون تفسيراً فيصح متراخياً كبيان المجمل وعندنا قطعي في الكل فيكون التخصيص تغيير موجبه.
ـــــــ
قرابة فإن أريد به الأول لا يتناول الابن; لأنه كافر فالاستثناء, وهو قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} على هذا منقطع وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} لا يكون تخصيصا لعدم تناول الأهل الابن الكافر. وإن أريد الثاني أي: الأهل قرابة يتناول الابن لكن استثني الابن بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} فخرج الابن بالاستثناء لا بالتخصيص المتراخي لقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي: من الأهل الذي لم يسبق عليه القول, والمراد بسبق القول ما وعد الله تعالى بإهلاك الكفار. "وقوله تعالى: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لم يتناول عيسى عليه السلام حقيقة"; لأن ما لغير العقلاء "وإنما أورده تعنتا بالمجاز أو التغليب فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ} لدفع هذا الاحتمال, وأصحابنا قالوا كل ما هو تفسير يصح متراخيا اتفاقا, وما هو تغيير لا يصح إلا موصولا اتفاقا كالاستثناء. وإنما اختلفوا في التخصيص بناء على أنه عندنا بيان تغيير, وعنده بيان تفسير لما عرف أن العام عنده دليل فيه شبهة, فيحتمل الكل والبعض فبيان إرادة البعض يكون تفسيرا فيصح متراخيا كبيان المجمل وعندنا قطعي في الكل فيكون التخصيص تغيير موجبه". أقول لا فرق عند الشافعي رحمه الله تعالى بين التخصيص والاستثناء بناء على أن العام محتمل عنده فعلى هذا كلاهما يكونان تفسيرا عنده لكن الاستثناء لما كان غير مستقل لا بد من اتصاله والتخصيص مستقل فيجوز فيه التراخي وعندنا كلاهما تغيير, وهو لا يجوز إلا موصولا.
................................................................................................
جواز اتصال الاستثنائية وإن لم تقع تلفظا, فإن قيل بيان التغيير على تقدير الاتصال مشتمل على إثبات شيء ونفيه في زمان واحد, وإلا لما كان تغييرا فجوابه أنه لما وقع في كلام الله تعالى نحمله على وجه لا يلزم منه ذلك التنافي وذلك لأنا لا نجعل المجموع كلاما واحدا موجبا للحكم على تقدير الشرط أو الصفة مثلا وساكتا عن ثبوته ونفيه على تقدير عدمه حتى لو ثبت بدليله ثبت, ولو انتفى انتفى بناء على عدم دليل الثبوت على ما سبق في فصل مفهوم المخالفة. فإن قلت فما معنى التغيير على هذا التقدير قلت معناه أنه يفهم الإطلاق على تقدير عدم ذكر المغير فبعد ذكره تغير المراد الذي كان يفهمه السامع على تقدير عدم المغير, ولا يخفى أنه على هذا التقدير يكون جميع متعلقات الفعل من قبيل بيان التغيير, وقد يقال: إنه كان أولا للإيجاب وبعد البيان صار تصرف يمين, ولا يخفى أن هذا إنما يصح في بعض صور الشرط لا غير.
قوله: "واختلف في التخصيص بالكلام المستقل" أنه هل يصح متراخيا أم لا وذكر المستقل للتحقيق والتوضيح دون التقييد لأن التخصيص بالكلام لا يكون إلا بالمستقل, وليس الخلاف في(2/42)
جواز قصر العام على بعض ما يتناوله بكلام متراخ عنه, وإنما الخلاف في أنه تخصيص حتى يصير العام في الباقي ظنيا أو نسخ حتى يبقى قطعيا بناء على أن دليل النسخ لا يقبل التعليل, وقد نبهت على أن اشتراط الاستقلال, والمقارنة في التخصيص مجرد اصطلاح مع أن العمدة في التخصيص عند الجمهور إنما هي الاستثناء, والشرط, والصفة, والغاية, ويدل البعض على أنه لا يستمر لهم الجري على هذا الاصطلاح لتصريحهم بأن العام إذا خص منه البعض صار ظنيا يجوز تخصيصه بخبر الواحد, والقياس, ولا يخفى أن التخصيص بكلام مستقل مقارن في غاية الندرة ثم الخلاف في جواز التراخي جار في كل ظاهر يستعمل في خلافه كالمطلق في المقيد, والنكرة في المعين ولهذا صح استدلال الشافعية بقصة البقرة, وإلا فلفظ بقرة نكرة في الإثبات, فلا يكون من العموم في شيء. وجه الاستدلال أنهم أمروا بذبح بقرة معينة مع أن اللفظ مطلق ورد بيانه متراخيا, وإنما قلنا إنهم أمروا بذبح بقرة معينة; لأن الضمير في قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} للبقرة المأمور بذبحها وللقطع بأنهم لم يؤمروا ثانيا بمتجدد وبأن الامتثال إنما حصل بذبح البقرة المعينة, والجواب منع ذلك بل المأمور بذبحها كانت بقرة مطلقة على ما هو ظاهر اللفظ, ولذا قال ابن عباس, وهو رئيس المفسرين لو ذبحوا أدنى بقرة لأجزأتهم, ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم. وقد دل قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} على أنهم كانوا قادرين على الفعل, وأن السؤال عن التعيين كان تعنتا وتعللا ثم نسخ الأمر بالمطلق, وأمر بالمعين, واعترض بأنه يؤدي إلى النسخ قبل الاعتقاد, والتمكن من العمل جميعا إذ لم يحصل لهم العلم بالواجب قبل السؤال والبيان, والجواب أنهم علموا أن الواجب بقرة مطلقة, وإطلاق اللفظ كاف في العلم بذلك, والتردد إنما وقع في التفصيل والتعيين.
قوله: "في قوله تعالى لنوح عليه السلام: {فَاسْلُكْ} أي: أدخل في السفينة من كل جنس من الحيوان ذكرا وأنثى, وأدخل فيها نساءك, وأولادك ثم خص ابنه بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46].
قوله: "لأن ما لغير العقلاء" فذهب البعض وجمهور أئمة اللغة على أنها تعم العقلاء وغيرهم فإن قيل لو كان ما لغير العقلاء لما أورد ابن الزبعرى هذا السؤال, وهو من الفصحاء العارفين باللغة ولما سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن تخطئته فالجواب أنه إنما أورده تعنتا بطريق المجاز أو التغليب فإن أكثر معبوداتهم الباطلة من غير ذوي العقول فغلب جانب الكثرة, ولا يخفى أن التغليب أيضا نوع من المجاز. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل" فعلى هذا يكون قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} لدفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام.
قوله: "وأصحابنا قالوا" إن الخلاف مبني على أن التخصيص بالمستقل بيان تغيير عندنا وبيان تفسير عند الشافعي رحمه الله تعالى ثم رد ذلك بأنه لا فرق عند الشافعي رحمه الله تعالى بين التخصيص بالمستقل وبين الاستثناء في أن كلا منهما بيان تفسير, وإنما افترقا في جواز التراخي بناء على الاستقلال, وعدمه, وأقوال المحققين من أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى على أن الاستثناء بيان تغيير بخلاف التخصيص المستقل وغيره من المخصصات وذلك; لأن المراد في الاستثناء(2/43)
فصل في الاستثناء
وهو المنع عن دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه بإلا وأخواتها قالوا: هو بيان تغيير لأنه موجب صدر الكلام إذ لولاه لشمل الكل ومع ذلك أنه بيان لمعنى الكلام لأنه يبين أن المراد هو البعض بخلاف النسخ فإنه
ـــــــ
"فصل في الاستثناء", وهو مشتق من الثني يقال: ثنى عنان فرسه إذا منعه عن المضي في الصوب الذي هو متوجه إليه اعلم أن بعض الناس قسموا الاستثناء على المتصل والمنقطع ثم عرفوا كلا منهما بما يجب تعريفه به لكني لم أفعل كذلك; لأن الاستثناء الحقيقي هو المتصل, وإنما المنقطع يسمى استثناء بطريق المجاز فلم أجعل المنقطع قسما منه لكن أوردته في ذنابة "الاستثناء الحقيقي, وهو المنع عن دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه". أي: في حكم صدر الكلام, وفي متعلق بالدخول, وقوله: بعض ما تناوله صدر الكلام ليخرج الاستثناء المستغرق. "بإلا, وأخواتها" متعلق بالمنع, وفيه احتراز عن سائر التخصيصات, وهذا تعريف تفردت به, وهو أجود من سائر التعريفات; لأن من قال هو إخراج بإلا وأخواتها إن أراد حقيقة الإخراج فممتنع; لأن الإخراج إما أن يكون بعد الحكم فيكون تناقضا والاستثناء واقع في كلام الله تعالى أو قبل الحكم وحقيقة الإخراج لا تكون إلا بعد الدخول والمستثنى غير داخل في حكم صدر الكلام, فيمتنع الإخراج من الحكم, وإنما المستثنى داخل في صدر الكلام من حيث التناول أي: من حيث إنه يفهم أن المستثنى من صدر الكلام وضعا والإخراج ليس من حيث التناول; لأن التناول بعد الاستثناء باق فعلم أن حقيقة الإخراج غير مرادة على أنهم صرحوا بأنه إخراج ما لولاه لدخل. فعلم أن المراد بالإخراج المنع من الدخول مجازا, وهو غير مستعمل في الحدود فالتعريف الذي ذكرته أولى "قالوا هو بيان تغيير; لأنه يغير موجب صدر الكلام إذ لولاه لشمل الكل, ومع ذلك أنه
................................................................................................
مجموع الأفراد. لكن لا يتعلق الحكم إلا بعد إخراج البعض وسائر أنواع التخصيص ليس كذلك بل هو بيان ودلالة على أن المراد البعض.
قوله: "فصل في الاستثناء" قد اشتهر فيما بينهم أن الاستثناء حقيقة في المتصل مجاز في المنقطع والمراد بالاستثناء صيغ الاستثناء, وأما لفظ الاستثناء فحقيقة اصطلاحية في القسمين بلا نزاع فالصواب أن يقسم أولا إلى القسمين ثم يعرف كل على حدة والمصنف رحمه الله تعالى ذهب إلى أن لفظ الاستثناء مجاز في المنقطع فلم يجعله من أقسام الاستثناء ثم المتعارف في عبارة القوم أن الاستثناء هو الإخراج من متعدد بإلا, وأخواتها, وعدل المصنف رحمه الله تعالى عن ذلك إلى المنع عن الدخول; لأنه إن أريد الإخراج عن الحكم فالبعض غير داخل فيه حتى يخرج, وإن أريد الإخراج عن تناول اللفظ إياه وانفهامه من اللفظ, فلا إخراج; لأن التناول باق بعد, وإن أريد بالإخراج المنع عن الدخول فهو مجاز يجب صيانة الحدود عنه, وأنت خبير بأن تعريفات الأداء مشحونة بالمجاز على أن الدخول, والخروج هاهنا مجاز ألبتة; لأن الدخول هو الحركة من الخارج إلى الداخل, والمخروج بالعكس.(2/44)
تغيير محض لمعنى الكلام واختلفوا في كيفية عمله ففي قوله على عشرة إلا ثلاثة لا يخلو أما إن أطلق العشرة على السبعة فحينئذ قوله إلا ثلاثة يكون بياناً لهذا فهو كما قال ليس له على ثلاثة منها فيكون كالتخصيص بالمستقل.
ـــــــ
بيان لمعنى الكلام; لأنه يبين أن المراد هو البعض بخلاف النسخ فإنه تغيير محض لمعنى الكلام واختلفوا في كيفية عمله ففي قوله: علي عشرة إلا ثلاثة لا يخلو إما أن أطلق العشرة على السبعة فحينئذ قوله: إلا ثلاثة يكون بيانا لهذا فهو كما قال ليس له علي ثلاثة منها فيكون كالتخصيص بالمستقل" في أن كلا منهما يبين أن الحكم المذكور في صدر الكلام وارد على بعض أفراده, والحكم في البعض الآخر مخالف للحكم في البعض الأول, ولا فرق بينهما على هذا المذهب إلا أن الاستثناء كلام غير مستقل, والتخصيص كلام مستقل وعندنا هذا الفرق ثابت بينهما مع فرق آخر, وهو أن الاستثناء لا يثبت حكما مخالفا لحكم الصدر بخلاف التخصيص, وهذا المذهب, وهو أن العشرة يراد بها السبعة إلخ هو ما قال مشايخنا: إن الاستثناء عند الشافعي رحمه الله يمنع الحكم بطريق المعارضة مثل دليل الخصوص, والمراد
................................................................................................
قوله: "بإلا, وأخواتها" احتراز عن سائر أنواع التخصيص أعنى الشرط, والصفة, والغاية وبدل البعض, والتخصيص بالمستقبل, وإطلاق التخصيص على الجميع باعتباراتها قصر للعموم ونقض للشيوع على ما هو مصطلح الشافعية فإن قيل يدخل في التعريف الوصف بإلا وغير وسوى, ونحو ذلك قلنا إن تحقق تناول صدر الكلام, وعمومه فهو استثناء, وإلا, فلا انتقاض لعدم التناول.
قوله: "قالوا" تحقيق كون الاستثناء بيان تغيير أما التغيير فبالنظر إلى شمول الحكم للجميع على تقدير عدم الاستثناء, وأما البيان فبالنظر إلى أنه إظهار أن المتكلم أراد البعض, وهذا ظاهر في المذهب الأول, وليس مختارا عنده, وهذا معنى قولهم: موجب الكلام بدون الاستثناء هو الثبوت للكل فغير إلى الثبوت للبعض وفيه بيان أن المراد ثبوت الحكم للبعض, وقال في التقويم هو تغيير من حيث إنه رفع البعض, وبيان من حيث إنه قرر الباقي.
قوله: "واختلفوا في كيفية عمله" قد سبق إلى الفهم أن في الاستثناء المتصل تناقضا من حيث إن قولك لزيد علي عشرة إلا ثلاثة إثبات للثلاثة في ضمن العشرة ونفي لها صريحا فاضطروا إلى بيان كيفية عمل الاستثناء على وجه لا يرد ذلك, وحاصل أقوالهم فيها ثلاثة الأول أن العشرة مجاز عن السبعة, وإلا ثلاثة قرينة الثاني أن المراد بعشرة معناها أي: عشرة أفراد فيتناول السبعة, والثلاثة معا ثم أخرج منها ثلاثة حتى بقيت سبعة ثم أسند الحكم إلى العشرة المخرج منها الثلاثة فلم يقع الإسناد إلا على سبعة. الثالث: أن المجموع أعني عشرة إلا ثلاثة موضوع بإزاء سبعة حتى كأنه وضع لها اسمان مفرد هو سبعة ومركب هو عشرة إلا ثلاثة.
قوله: "مع فرق آخر" هذه مسألة اختلافهم في أن الاستثناء من الإثبات هل هو نفي أم لا(2/45)
فعلى هذين يكون تكلماً بالباقي بعد الثنيا إلا أن على المذهب الأخير يكون فيما إذا كان المستثنى منه عددياً كالتخصيص بالعلم وفي غير العددي كالتخصيص بالوصف كأنه قال جاءني زيد وعلى المذهب الثاني آكد من هذا لأن ذكر المجموع أولاً ثم إخراج البعض ثم الإسناد إلى الباقي يشير إلى أن حكم المستثنى خلاف حكم الصدر بخلاف جاءني غير زيد وعلى الأول يكون إثباتاً ونفياً بالمنطوق.
ـــــــ
بالمعارضة أن يثبت حكما مخالفا لحكم صدر الكلام. وإنما قلت: إن مرادهم بالمنع بطريق المعارضة هذا المذهب; لأنهم ذكروا في الجواب عنه أن الألف اسم علم للعدد المعين لا يقع على غيره ولا يحتمله إذ لا يجوز أن يسمى تسعمائة ألفا بخلاف دليل الخصوص; لأن المشركين إذا خص منهم نوع كان الاسم واقعا على الباقي بلا خلل, وهذا الكلام نص على أنه جواب عن قول من قال إن المراد بالعشرة هو السبعة أو أطلق العشرة على عشرة أفراد ثم أخرج ثلاثة بعد الحكم, وهذا تناقض ظاهر, وإنكار بعد الإقرار, ولا أظنه مذهب أحد أو قبله ثم حكم على الباقي أو أطلق عشرة إلا ثلاثة على السبعة فكأنه قال علي سبعة فحصل ثلاثة مذاهب.
"فعلى هذين" أي: على المذهبين الأخيرين "يكون" أي: الاستثناء "تكلما بالباقي" في صدر الكلام "بعد الثنيا" أي: المستثنى ففي قوله: له علي عشرة إلا ثلاثة صدر الكلام عشرة, والثنيا ثلاثة, والباقي في صدر الكلام بعد المستثنى سبعة فكأنه تكلم بالسبعة, وقال له علي سبعة, وإنما قلنا: إنه على الأخيرين تكلم بالباقي بعد الثنيا أما على المذهب الأخير فلأن عشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة فيكون تكلما بالسبعة, وأما على المذهب الثاني فلأنه أخرج
................................................................................................
فعند الشافعي رحمه الله تعالى نعم حتى يكون معنى إلا ثلاثة أنها ليست علي, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا حتى يكون معناه عدم الحكم بثبوت الثلاثة, وجعلها في حكم المسكوت عنه لا إثبات, ولا نفي بخلاف التخصيص بالمستقل, فإنه يثبت حكما مخالفا لحكم صدر الكلام اتفاقا.
قوله: "وهذا المذهب" ذكر بعض المشايخ أن الاستثناء يعمل عندنا بطريق البيان بمعنى الدلالة على أن البعض غير ثابت من الأصل حتى كأنه قيل: علي سبعة ولم يتعلق التكلم بالعشرة في حق لزوم الثلاثة فالاستثناء تصرف في الكلام بجعله عبارة عما وراء المستثنى, وعند الشافعي رحمه الله تعالى بطريق المعارضة بمعنى أن أول الكلام إيقاع للكل لكنه لا يقع لوجود المعارض, وهو الاستثناء الدال على النفي عن البعض حتى كأنه قال إلا ثلاثة فإنها ليست علي, فلا يلزمه الثلاثة للدليل المعارض لأول الكلام فيكون الاستثناء تصرفا في الحكم فأجابوا بأن الكلام قد يسقط حكمه بطريق المعارضة بعد ما انعقد في نفسه كما في التخصيص. وقد لا ينعقد بحكمه كما في طلاق الصبي, والمجنون إلا أن إلحاق الاستثناء بالثاني أولى; لأنه لو انعقد الكلام في نفسه مع أنه لا يوجب العشرة بل السبعة فقط لزم إثبات ما ليس من محتملات اللفظ إذ السبعة لا تصلح مسمى للفظ(2/46)
الثلاثة قبل الحكم من أفراد العشرة ثم حكم على السبعة فالتكلم في حق الحكم يكون بالسبعة أي: يكون الحكم على السبعة فقط لا على الثلاثة لا بالنفي, ولا بالإثبات. "إلا أن على المذهب الأخير يكون فيما إذا كان المستثنى منه عدديا كالتخصيص بالعلم, وفي غير العددي كالتخصيص بالوصف كأنه قال جاءني زيد" لما جمع بين المذاهب الثاني والثالث في أن الاستثناء على كليهما تكلم بالباقي أراد أن يبين الفرق الذي بينهما, وهو أن على المذهب الأخير المستثنى منه إذا كان عدديا كقوله: له علي عشرة إلا ثلاثة فهو كقوله: له علي سبعة فيكون الاستثناء في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر كالتخصيص بالعلم في نفي الحكم عما عداه. وإن كان غير عددي كجاءني القوم إلا زيدا فهو كقوله: جاءني من القوم غير زيد فيكون في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر كالتخصيص بالوصف في نفي الحكم عما عداه فإن قوله غير زيد صفة, فلا فرق على هذا المذهب إذا كان المستثنى منه غير عددي بين إلا وغير صفة. "وعلى المذهب الثاني آكد من هذا" أي: المذهب الثاني هو أن المراد بالعشرة عشرة أفراد, والإخراج قبل الحكم فالاستثناء على هذا المذهب آكد في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر من التخصيص بالعلم والوصف في نفي الحكم عما عداهما. "لأن ذكر المجموع أولا ثم إخراج البعض ثم الإسناد إلى الباقي يشير إلى أن حكم المستثنى خلاف حكم الصدر بخلاف جاءني غير زيد وعلى الأول" أي: على المذهب الأول "يكون إثباتا ونفيا بالمنطوق" أي: يكون المستثنى والمستثنى منه جملتين إحداهما مثبتة, والأخرى منفية, والإثبات والنفي يكونان بطريق المنطوق لا المفهوم, وعلى المذهب الأخير يكون كالتخصيص بالعلم أو الوصف, فلا دلالة لهما على نفي الحكم عما عداهما عندنا, وعند البعض يكون دلالته من حيث المفهوم, وعلى المذهب الثاني يكون آكد من هذا فدلالته على الحكم في المستثنى تكون إشارة لا منطوقا.
................................................................................................
العشرة لا حقيقة, وهو ظاهر, ولا مجازا إلا أن اسم العدد نص في مدلوله لا يحتمل على غيره ولو سلم فالمجاز خلاف الأصل فيكون مرجوحا. فاستدل المصنف بهذا الجواب على أن مرادهم بكونه بطريق المعارضة هو أن المستثنى منه عبارة عن القدر الباقي مجازا, والاستثناء قرينة على ما صرح به صاحب المفتاح حيث قال: إن استعمال المتكلم للعشرة في التسعة مجاز, وإلا واحدا قرينة المجاز.
قوله: "أو قبله" عطف على قوله: بعد الحكم أي: أطلق العشرة على عشرة أفراد ثم أخرج ثلاثة قبل الحكم ثم حكم على الباقي من العشرة, وهو السبعة.(2/47)
حجته أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع كالتخصيص فأما إعدام التكلم الموجود فلا وإجماعهم على أنه من النفي إثبات وبالعكس وأيضاً لولا ذلك لما كان كلمة التوحيد توحيداً تاماً فإن قيل لو كان المراد البعض يلزم استثناء النصف من النصف في اشتريت الجارية إلا النصف أو التسلسل قلنا هو بيان أن المراد هو البعض لا أن المتناول هو البعض فإن اللفظ متناول للكل ثم هو استثناء من المتناول لا من المراد.
ـــــــ
"حجته" أي: حجة المذهب الأول "أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع كالتخصيص فأما إعدام التكلم الموجود, فلا, وإجماعهم" أي: إجماع أهل العربية, وهو عطف على قوله: أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع. "على أنه من النفي إثبات وبالعكس, وأيضا لولا ذلك لما كان كلمة التوحيد توحيدا تاما فإن قيل لو كان المراد البعض يلزم استثناء النصف من النصف في اشتريت الجارية إلا النصف أو التسلسل" هذا دليل أورده ابن الحاجب على نفي المذهب الأول, وإثبات المذهب الثاني, وهو المذهب عنده ولما وجدته زيفا أوردته على طريق الإشكال وبينت فساده وتوجيهه أنه لو كان المراد من العشرة سبعة كما هو المذهب الأول فإذا قلت اشتريت الجارية إلا النصف يكون المراد بالجارية النصف فإن كان المراد بالنصف المستثنى نصف الجارية فقد استثنيت نصف الجارية من نصف الجارية وإن كان المراد بالنصف المستثنى نصف ما هو المراد بالجارية فالمراد
................................................................................................
قوله: "حجته" قد احتج الذاهبون إلى المذهب الأول بأنه لا بد أن يراد بعشرة كمالها أو سبعة إذ لا ثالث, والأول باطل للقطع بأنه لم يقر إلا بسبعة فتعين الثاني, وأيضا لو كان المراد عشرة بكمالها لامتنع من الصادق مثل قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} لما يلزم من إثبات لبث خمسين ونفيه وأجيب بأن المراد باللفظ الكل, والحكم إنما يتعلق بعد إخراج البعض إذ الكلام يتم بآخره, فلا فساد, وقد أورد فخر الإسلام رحمه الله ثلاث حجج من قبل الشافعي رحمه الله في أن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة دون البيان. ولما ذهب المصنف إلى أن القول بأنه يعمل بطريق المعارضة معناه القول بالمذهب الأول جعلها حججا على المذهب الأول. تقرير الأولى أنه لا سبيل إلى جعل المستثنى في حكم المسكوت عنه; لأن إعدام التكلم أي: القول بعدم التكلم الموجود حقيقة غير معقول بل هو إنكار للحقائق بخلاف وجود التكلم مع عدم حكمه أي: الأثر الثابت به بناء على مانع فإنه شائع مستفيض كالعام الذي خص منه البعض يمتنع حكمه في القدر المخصوص فهاهنا يثبت التكلم بالكل, وينعقد الكلام في نفسه إلا أنه يمتنع الحكم في القدر المستثنى لوجود المعارض, وهو الاستثناء. وتقرير الثانية أن أهل اللغة أجمعوا على أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي, وهذا صريح في أن الاستثناء يدل على أن حكم المستثنى مخالف لحكم الصدر فيكون معارضا له لا في حكم المسكوت عنه وتقرير الثالثة أنهم أجمعوا على أن قولنا لا إله إلا الله كلمة توحيد أي: إقرار بوجود الباري تعالى ووحدانيته فلو لم(2/48)
بالجارية كان النصف ثم نصف هذا النصف مستثنى من النصف. فعلم أن المراد بالجارية لم يكن نصفا بل ربعا والمفروض أن المستثنى نصف ما هو المراد فيكون نصف الربع مستثنى فيتسلسل هذا حكاية ما أورد ابن الحاجب والجواب الذي خطر ببالي هو قوله:. "قلنا هو بيان أن المراد هو البعض لا أن المتناول هو البعض فإن اللفظ متناول للكل ثم هو استثناء من المتناول لا من المراد" أي: الاستثناء هو بيان أن المراد هو البعض لا أن المتناول هو البعض فإن اللفظ متناول للكل ثم الاستثناء من المتناول إلا من المراد فيكون استثناء النصف من الكل.
................................................................................................
يكن عمل الاستثناء بطريق المعارضة, وإثباته حكما مخالفا لحكم الصدر لما لزم الإقرار بوجود الله تعالى بل بنفي الألوهية عن ما سواه, والتوحيد لا يتم إلا بإثبات الألوهية لله تعالى ونفيها عما سواه, ولا شك أنه لو تكلم بكلمة التوحيد دهري, منكر لوجود الصانع يحكم بإسلامه ورجوعه عن معتقده فثبت أن الاستثناء يدل على إثبات حكم مخالف للصدر.
هذا تقرير الحجج على وفق ما ذكره القوم احتجاجا بها على أن عمل الاستثناء بطريق المعارضة, وأنه من النفي إثبات وبالعكس. وقد سبق أن هذا عبارة عن المذهب الأول فيكون حججا على إثباته, وأيضا أنها تدل على بطلان المذهبين الأخيرين فتعين الأول وذلك; لأنه لا يتحقق على المذهبين الأخيرين حكمان أحدهما نفي, والآخر إثبات بل حكم واحد فقط أما على المذهب الثاني فلأنه إنما يتعلق الحكم بالصدر بعد إخراج البعض منه, فلا حكم فيه إلا على الباقي. وأما على المذهب الثالث فلأن مجموع المستثنى منه, والمستثنى وآلة الاستثناء عبارة عن الباقي, ولا حكم إلا عليه هذا, ولكن لا يخفى أن الحجة الأولى لا تدل على نفي المذهب الثالث إذ ليس فيه إعدام للتكلم بل قول بأن عشرة إلا ثلاثة اسم للسبعة فليس فيه إلا العدول عن التكلم بالأخصر إلى التكلم بالأطول.
قوله: "فإن قيل تقرير السؤال" ظاهر من الكتاب وتوجيه الجواب منع الملازمة, وهي قوله: إن كان المراد بالنصف المستثنى نصف الجارية لزم استثناء نصف الجارية من نصف الجارية, وإنما يلزم ذلك لو كان النصف مستثنى من المراد, وليس كذلك بل هو مستثنى من المتناول أي: ما يتناوله اللفظ, وهو الجارية بكمالها على ما سبق من أن الاستثناء عبارة عن منع دخول بعض ما يتناوله صدر الكلام في حكمه, وفيه بحث أما أولا فلأن المستثنى منه هو اللفظ باعتبار ما يتناوله بحسب الاستعمال, وقصد المتكلم لا بحسب الوضع للقطع بأنه لا يصح استثناء بعض الأفراد الحقيقي عن اللفظ المستعمل في معناه المجازي إذا كان استثناء متصلا مثل {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} إلا أصولها بأن يراد بالأصابع الأنامل, ويخرج منها الأصول على أنه استثناء متصل, وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من هذا القبيل; لأنه أراد بالجارية نصفها مجازا, وأخرج النصف منها باعتبار أنها تتناول الكل بحسب الوضع, أما ثانيا فلأنه غير اعتراض ابن الحاجب هربا عن إشكال الضمير وتقرير اعتراضه أنا قاطعون بأن من قال اشتريت الجارية إلا نصفها لم يرد بالجارية نصفها, وإلا لزم استثناء نصفها من نصفها, وهو باطل قطعا, وأيضا يلزم التسلسل; لأن استثناء النصف من(2/49)
والجواب أن العشرة لفظ خاص للعدد المعين لا عام كالمسلمين فلا يجوز إرادة البعض بالاستثناء كما لا يجوز بالتخصيص ولو صحت مجازاً فالأصل عدمه وقولهم هو من الإثبات نفي وبالعكس مجاز والمراد أنه لم يحكم عليه بحكم الصدر لا أنه حكم عليه بنقيض حكم الصدر وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور" هو كقوله: لا صلاة بغير طهور ولو كان نفياً وإثباتاً يلزم صلاة طهور ثابتة فيصح كل صلاة بطهور لعموم النكرة الموصوفة ولأن الاستثناء متعلق بكل فرد الصدر منتف عنه وقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور تكلم بالباقي بعد الثنيا وهو لا صلاة.
ـــــــ
"والجواب" أي: عن الدليل على المذهب الأول "أن العشرة" هذا جواب عن قوله: أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع. "لفظ خاص للعدد المعين لا عام كالمسلمين, فلا يجوز إرادة البعض بالاستثناء كما لا يجوز بالتخصيص, ولو صحت مجازا فالأصل عدمه, وقولهم هو من الإثبات نفي وبالعكس مجاز والمراد أنه لم يحكم عليه بحكم الصدر لا أنه حكم عليه بنقيض حكم الصدر وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور" هو كقوله: لا صلاة بغير طهور ولو كان نفيا, وإثباتا يلزم صلاة طهور ثابتة فيصح كل صلاة بطهور لعموم النكرة الموصوفة; ولأن الاستثناء متعلق بكل فرد" وقولهم هو من الإثبات نفي إلخ جواب عن قوله: وإجماعهم, وقوله: لم يحكم عليه أي: على المستثنى, وإنما حملنا قولهم على المجاز; لأنا لما أبطلنا المذهب الأول فعلى المذهبين الأخيرين المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي, ولا بالإثبات ووجه المجاز إطلاق الأخص على الأعم; لأن الحكم عليه بنقيض
................................................................................................
الجارية يقتضي أن يراد بها النصف, وإخراج النصف من النصف يقتضي أن يراد به الربع, وإخراج النصف من الربع يقتضي أن يراد به الثمن, وهكذا إلى غير النهاية. وأيضا إنا قاطعون بأن الضمير يعود إلى الجارية بكمالها لا إلى نصفها مع القطع بأن مدلول الجارية وضميرها واحد, وعلى ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى يلزم أن يراد بالجارية معناها المجازي وبضميرها معناها الحقيقي على عكس ما هو المشهور في صنعة الاستخدام.
قوله: "والجواب" أجاب عن الحجة الأولى بأن القول بل الاستثناء يعمل بطريق المعارضة, وأن المراد بالمستثنى منه هو البعض مما لا يصح في بعض الصور, وهو إذا كان اسم عدد فإنه لفظ خاص في مدلوله بمنزلة العلم لا يستعمل في غيره حقيقة, ولا مجازا ولما كان هذا ضعيفا بناء على أن المجاز باعتبار إطلاق اسم الكل على البعض شائع حتى يجري في الأعلام بأن يطلق زيد ويراد بعض أعضائه قال ولو صحت الإرادة مجازا فالأصل عدم المجاز لا يصار إليه إلا بدليل, وهاهنا يصح أن يراد الكل, ويكون تعلق الحكم بعد إخراج البعض, ولا يخفى عليك أن هذا دليل مستقل على نفي المذهب الأول, ولا بد في جعله جوابا عن الحجة الأولى من تكلف. وأجاب عن الثانية بأن قول أهل اللغة: أن الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس مجاز لوجوه.(2/50)
حكم الصدر أخص من قولنا حكم "الصدر منتف عنه وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور" تكلم بالباقي بعد الثنيا, وهو لا صلاة بغير طهور, وليس هو نفيا, وإثباتا; لأن تقديره لا صلاة ثابتة إلا صلاة ملصقة بطهور فلو كان نفيا, وإثباتا فالجملة الإثباتية هي صلاة ملصقة بطهور ثابتة, وصلاة ملصقة بطهور نكرة موصوفة, وهي عامة لعموم الصفة على ما دللنا عليه في فصل العام فصار كقوله: كل صلاة بطهور ثابتة, وهذا باطل; لأن الشرائط الأخر إن كانت مفقودة والطهور موجودا لا تجوز الصلاة, وأيضا صدر الكلام يوجب السلب الكلي أي: كل واحد واحد من أفراد الصلوات غير جائزة ثم الاستثناء يجب أن يتعلق بكل واحد واحد, وإلا يلزم جواز بعض الصلوات بلا طهور.
وإذا كان الاستثناء متعلقا بكل واحد واحد والاستثناء يكون من النفي إثباتا يلزم تعلق الإثبات بكل واحد فيلزم كل صلاة بطهور جائزة معناه كل واحد واحد من الصلوات غير جائزة في حال إلا في حال اقترانها بالطهور فالجملة الإثباتية قولنا كل واحد واحد من الصلوات جائزة في حال اقترانها بالطهور فإن قيل قوله: "لا صلاة إلا بطهور" يشكل عليكم لا علينا; لأنكم قد ذكرتم في فصل العام أن النكرة الموصوفة عامة لعموم الصفة وأوردتم للمثال لا أجالس إلا رجلا عالما, له أن يجالس كل عالم فقوله: "لا صلاة إلا بطهور" عام في زعمكم فيلزم عليكم فسادان. أحدهما ما ذكرتم أنه يلزم أن تكون كل صلاة بطهور جائزة. والثاني: أنه يلزم أن يكون الاستثناء من النفي, إثباتا, وأنتم لا تقولون به, ولا يشكل علينا لأن النكرة الموصوفة لا تعم عندنا فإن كان الاستثناء من النفي إثباتا يصير كقوله: بعض صلاة بطهور جائزة, وهذا حق قلت المستثنى في كلتا الصورتين أي: في قوله: لا أجالس إلا رجلا, عالما وقوله: "لا صلاة إلا بطهور" عام عندنا, والاستثناء ليس من النفي إثباتا في كلتيهما لكن في قوله: لا أجالس إلا رجلا عالما لا يدخل في الخلف شيء من أفراد
................................................................................................
الأول: أنهم أجمعوا على أنه استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا أي: يستخرج بالاستثناء بعض الكلام على أن يكون موجبا ويجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى فظاهر الإجماعين متناف, فلا بد من الجمع بينهما بحمل الأول على المجاز, وإنما عدل المصنف رحمه الله تعالى عن هذا الوجه لضعفه; لأن الإجماع الثاني ممنوع, ولو سلم فيجوز أن يحمل على أنه تكلم بالباقي بحسب وضعه وحقيقته, وإثبات ونفي بحسب إشارته على ما صرح به فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أن كونه نفيا, وإثباتا ثابت بدلالة اللغة كصدر الكلام إلا أن موجب صدر الكلام ثابت قصدا, وكون الاستثناء نفيا, وإثباتا ثابت إشارة, ولا شك أن الثابت بالإشارة ثابت بنفس الصيغة, وإن لم يكن السوق لأجله.
الثاني: أن القول بكون الاستثناء من النفي إثباتا وبالعكس إنما يصح على المذهب الأول دون الأخيرين, وقد أبطلنا المذهب الأول بما سبق من الدليل فبطل صحة كون الاستثناء من النفي إثباتا وبالعكس فوجب تأويل الإجماع عليه.(2/51)
العالم, ومن ضرورة هذا أن يكون له مجالسة كل عالم فإباحة المجالسة لكل عالم لهذا المعنى لا, لأن الاستثناء من النفي إثبات.
وأما في قوله: "لا صلاة إلا بطهور" كل صلاة بطهور غير محكوم عليه بعدم الجواز إلا أنه محكوم عليه بالجواز عندنا, فلا يلزم شيء من الفسادين علينا بل على من يقول: إن الاستثناء من النفي إثبات, وأيضا يجيء في باب القياس أن الفرق بطريق الاستثناء يدل على علية المستثنى فتكون الصلاة الخالية عن الطهور علة; لعدم جوازها فكلما خلت عنه لا تجوز فلو كان الاستثناء من النفي إثباتا يكون كونها مقارنة للطهور علة للجملة الإثباتية
................................................................................................
الثالث: أن القول بكونه من النفي إثباتا وبالعكس لا يصح في كثير من الصور كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور" 1 على ما سيأتي.
واعلم أن كلام المصنف رحمه الله تعالى مبني على أن القول بكون الاستثناء من النفي إثباتا وبالعكس إنما يصح على المذهب الأول بل هو عينه, وأما على المذهبين الأخيرين, فلا حكم على المستثنى أصلا لا بالنفي, ولا بالإثبات, وفيه نظر; لأن جمهور القائلين بالمذهب الثاني كابن الحاجب وغيره قائلون بأن الاستثناء من النفي إثبات, وبالعكس بمعنى أنه أخرجت من العشرة ثلاثة ثم تعلق بالعشرة المخرج منها الثلاثة الحكم بالثبوت وبالثلاثة الحكم بعدم الثبوت.
قوله: "ووجه المجاز" أي: طريق هذا المجاز إطلاق الأخص على الأعم, والملزوم على اللازم وذلك; لأن انتفاء حكم الصدر لازم للحكم بخلاف حكم الصدر; لأنه كلما تحقق الحكم بنقيض حكم الصدر انتفى حكم الصدر من غير عكس كما في قوله: "لا صلاة إلا بطهور" فإن حكم الصدر, وهو عدم الصحة منتف عن الصلاة بطهور ولم يتحقق الحكم بنقيضه, وهو الحكم بصحة كل صلاة بطهور فعبروا عن انتفاء حكم الصدر بالحكم بنقيض حكم الصدر تعبيرا عن اللازم بالملزوم فقالوا: هو من النفي إثبات وبالعكس قال في التقويم: إن قولهم هو من النفي إثبات ومن الإثبات نفي إطلاق على ظاهر الحال مجازا; لأنك إذا قلت لفلان علي ألف درهم إلا عشرة لم يجب العشرة كما لو نفيتها, ولكن عدم الوجوب على المقر ليس بنص ناف للوجوب عليه بل لعدم دليل الوجوب.
قوله: "وليس نفيا أو إثباتا" أورد دليلين على الاستثناء في مثل "لا صلاة إلا بطهور" لا يجوز أن يكون إثباتا, وإن كان من النفي.
الأول: أنه لو كان إثباتا لكان معناه صلاة بطهور ثابتة أي: صحيحة, وقد سبق أن النكرة الموصوفة تعم بعموم الصفة فيكون المعنى كل صلاة بطهور صحيحة, وهذا باطل; لأن بعض الصلاة الملصقة بالطهور باطلة كالصلاة إلى غير جهة القبلة وبدون النية ونحو ذلك, وهذا في غاية الفساد
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 2. مسلم في كتاب الطهارة حديث 1. أبو داود في كتاب الطهارة باب 31. الترمذي في كتاب الطهارة باب 1. النسائي في كتاب الطهارة باب 103. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 2.(2/52)
وقوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل إلا خطأ هو كقوله وما كان له أن يقتل مؤمناً عمداً إلا أنه أن يقتل خطأ لأنه يوجب إذن الشرع به وأما كلمة التوحيد فلأن معظم الكفار كانوا أشركوا وفي عقولهم وجود الإله ثابت فسيق لنفي
ـــــــ
فتعم لعموم العلة. "وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} هو كقوله: وما كان له أن يقتل مؤمنا عمدا إلا أنه كان له أن يقتل خطأ; لأنه يوجب إذن الشرع به", ولا يجوز إذن الشرع بالقتل الخطأ; لأن جهة الحرمة ثابتة فيه بناء على ترك التروي, ولهذا تجب فيه الكفارة, ولو كان مباحا محضا لما وجبت الكفارة, وهذا دليل تفردت بإيراده, وهذا أقوى دليل على هذا المذهب. والشافعية حملوا الاستثناء في قوله: {إِلَّا خَطَأً} على المنقطع فرارا عن هذا لكن
................................................................................................
للقطع بأن مثل قولنا أكرمت رجلا عالما لا يدل على إكرام كل عالم وكون الوصف علة تامة للحكم بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر غير مسلم في شيء من الصور فضلا عن جميع الصور, والقول بعموم النكرة الموصوفة مما قدح فيه كثير من العلماء الحنفية فضلا عن القائلين بأن الاستثناء من النفي إثبات وبالعكس, ولا نزاع لأحد في أن من حلف لأكرمن رجلا عالما يبر بإكرام عالم واحد. وأما من حلف لا أجالس إلا رجلا عالما فإنما لا يحنث بمجالسة عالمين أو أكثر بناء على أن الوصف قرينة أن المستثنى هو النوع لا الفرد بخلاف ما لو قال لا أجالس إلا رجلا على أن القائلين بعموم النكرة الموصوفة لا يشترطون في العموم الاستغراق.
الثاني أن قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة سلب كلي بمعنى لا شيء من الصلاة بجائزة, والسلب الكلي عند وجوب الموضوع في قوة الإيجاب الكلي المعدول المحمول فيكون المعنى: كل واحد من أفراد الصلاة غير جائز إلا في حال اقترانها بالطهور فيجب أن يتعلق الاستثناء بكل صلاة; إذ لو تعلق بالبعض لزم جواز البعض الآخر بلا طهور ضرورة أنه لم يشترط الطهور إلا في بعض الصلاة, وهو باطل, وإذا تعلق الاستثناء بكل فرد, والاستثناء من النفي إثبات لزم تعلق إثبات ما نفي عن الصدر بكل فرد من أفراد الصلاة فيكون المعنى كل واحد من أفراد الصلاة جائز حال اقترانها بالطهور, وهو باطل لما مر. فإن قلت معنى تعلق الاستثناء بكل واحد أن البعض الذي هو المستثنى قد أخرج من الحكم المتعلق بكل واحد, وهو عدم الجواز وأثبت له حكم مخالف له, وهو الجواز, فلا يلزم جواز كل صلاة ملتصقة بالطهور قلت المخرج على هذا التقدير بعض الأحوال لا بعض أفراد الصلاة إذ الدليل الثاني مبني على أن يكون قوله: "إلا بطهور" حالا, والمعنى لا صلاة جائزة في حال من الأحوال إلا في حال اقترانها بالطهور بمعنى أن كل صلاة فهي غير جائزة إلا في تلك الحال فإنها جائزة حينئذ كما تقول: ما جاءني القوم إلا راكبين بمعنى جاءوا راكبين لا ماشين من جهة أن الحكم المثبت على الحالة المستثناة يكون بعينه هو المنفي في صدر الكلام وبالعكس لا من جهة أن تعلق الاستثناء بالبعض يستلزم جواز بعض الصلاة بلا طهور فإنه مما لا يدل عليه شبهة فضلا عن أن يكون حجة كيف, والحكم الكلي في صدر الكلام إنما هو عدم الجواز, ولا دلالة له على أن المشروط بالطهور هو جواز البعض دون البعض. والدليل الأول مبني على أن يكون خبرا, والمعنى لا صلاة إلا صلاة ملتصقة بالطهور نعم لقائل أن يقول: إن الموضوع في صدر الكلام نكرة دالة على(2/53)
الغير ثم يلزم منه وجوده تعالى إشارة على الثاني وضرورة على الأخير.
وما قيل عليه إنه لم يعهد في العربية لفظ مركب من ثلاثة ومركب أعرب في وسطه ضعيف إذ ليس المراد أنه مركب موضوع مثل بعلبك بل المراد أن معناه مطابق لمعنى السبعة مثلاً فيكون هناك وضع كلي.
ـــــــ
الأصل هو المتصل "وأما كلمة التوحيد" جواب عن قوله وأيضا لولا ذلك لما كان كلمة التوحيد توحيدا تاما "فلأن معظم الكفار كانوا أشركوا, وفي عقولهم وجود الإله ثابت فسيق لنفي الغير ثم يلزم منه وجوده تعالى إشارة على الثاني" أي: على المذهب الثاني, وهو أن الاستثناء إخراج قبل الحكم ثم حكم على الباقي, وإنما قلنا إن وجوده تعالى يثبت على هذا المذهب بطريق الإشارة; لأنه لما ذكر الإله ثم أخرج الله تعالى ثم حكم على الباقي بالنفي يكون إشارة إلى أن الحكم في المستثنى خلاف حكم الصدر, وإلا لما أخرج منه. "وضرورة على الأخير" أي: على المذهب الأخير, وهو أن العشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة فعلى هذا المذهب وجوده تعالى يثبت بطريق الضرورة; لأن وجود الإله لما كان ثابتا في عقولهم يلزم من نفي غيره وجوده ضرورة; وذلك لأن تقديره على هذا المذهب لا إله غير الله موجود فيكون كالتخصيص بالوصف, وليس له دلالة على نفي الحكم عما عداه عندنا, فلا دلالة للكلام على وجوده تعالى منطوقا, ومفهوما بل ضرورة فقط.
"وما قيل عليه" أي: على المذهب الأخير هذا دليل حاول به ابن الحاجب نفي المذهب الأخير "إنه لم يعهد في العربية لفظ مركب من ثلاثة" أي: المستثنى منه, وأداة الاستثناء والمستثنى بل عهد لفظ مركب من كلمتين كبعلبك "ومركب أعرب في وسطه ضعيف إذ ليس المراد أنه مركب موضوع مثل بعلبك بل المراد أن معناه مطابق لمعنى السبعة مثلا فيكون
................................................................................................
فرد ما, وإنما جاء عمومها من ضرورة وقوعها في سياق النفي ففي جانب الاستثناء يوجد أيضا ذلك الموضوع, ولا يعم لكونه في الإثبات فيكون المعنى لا صلاة جائزة إلا في حال الاقتران بالطهور فإن فيها ينتفي هذا الحكم, ويثبت نقيضه, وهو جواز شيء من الصلوات إذ نقيض السلب الكلي إيجاب جزئي كما يقال: ما جاءني أحد إلا راكبا.
قوله: "فإن قيل" حاصل السؤال أنكم قائلون بعموم النكرة الموصوفة, وقد ذكرتم في مثل لا أجالس إلا رجلا عالما أن له أن يجالس كل عالم فيلزم هاهنا أيضا أن تصح كل صلاة بطهور, وهذا قول بكون الاستثناء من النفي إثباتا وحاصل الجواب أنا قائلون بالعموم لكن لا يلزمنا الحكم بجواز كل صلاة بطهور بل يلزمنا عدم الحكم بعدم جواز كل صلاة بطهور, وهذا أعم من الحكم بالجواز, والعام لا يستلزم الخاص, وأما جواز مجالسة كل عام فإنما هي بالإباحة الأصلية لا بدلالة الاستثناء وذلك; لأنه باليمين إنما حرم مجالسة غير العالم فبالاستثناء أخرج العالم عن تحريم المجالسة فبقي مباح المجالسة بحكم الأصل.(2/54)
وأيضاً منقوض بنحو أبي عبد الله وهذا المذهب هو المشهور بين علمائنا وبعضهم مالوا في الاستثناء الغير العددي إلى الثاني بحكم العرف وقد فهم هذا من قولهم في كلمة التوحيد إن إثبات الإله بالإشارة لأنه على الأخير كالتخصيص بالوصف وهم لا يقولون به بل شبهوا الاستثناء بالغاية وهذا مناسباً لما قال علماء
ـــــــ
هناك وضع كلي" أي: وضع الواضع اللفظ الذي استثني منه الباقي وضعا كليا لا وضعا جزئيا. واعلم أن الوضع على نوعين وضع جزئي كوضع اللغات ووضع كلي كالأوضاع التصريفية والنحوية ففي الأوضاع الجزئية سلمنا أنه لم يعهد في العربية لفظ مركب من ثلاث كلمات مع أنه في حيز المنع نحو شاب قرناها, وبرق نحره وعبد الرحمن, فإنه مركب من ثلاثة العبد واللام ورحمن لكن في الأوضاع الكلية لا نسلم أنه لم يعهد في العربية أن في معنى المركب من ثلاث كلمات يطابق معنى الكلمة الواحدة فإن من له يد في الإيجاز والإطناب يسهل عليه أن يفيد معنى الكلمات الكثيرة بكلمة واحدة ويفيد معنى كلمة واحدة بكلمات كثيرة فإن لفظ إنسان وحيوان ذي نطق كل منها يقوم مقام الآخر, وكذا لفظ فرس وحيوان ذي صهيل, وأمثال ذلك كثيرة.
"وأيضا منقوض بنحو أبي عبد الله" فإنه مركب من ثلاثة والإعراب في وسطه "وهذا المذهب هو المشهور بين علمائنا, وبعضهم" أي: بعض مشايخنا كالقاضي الإمام أبي زيد وفخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي رحمهم الله تعالى "مالوا في الاستثناء الغير العددي
................................................................................................
قوله: "وأيضا" لما لم يسلم الخصم قاعدة عموم النكرة الموصوفة أثبت لزوم العموم في مثل لا صلاة إلا بطهور بطريق إلزامي, وهو أنه سلم في باب القياس, أن من مراتب إثبات العلية بطريق الإيماء أن يفرق بين حكمين بوصفين بطريق الاستثناء كما في قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فإن العفو علة لسقوط المفروض فهاهنا لو كان الاستثناء إثباتا لكان الاقتران بالطهور علة الجواز, والخلو عنه علة عدم الجواز فيلزم جواز كل صلاة مقترنة بالطهور ضرورة وجود الحكم عند وجود العلة وفيه نظر; لأنه طريق ظني, وقد عارضه الأدلة القاطعة على أن مجرد الطهور ليس علة للجواز بل يفتقر إلى أشياء أخرى على أنه لو ثبت العلية لم يضر لجواز انتفاء الحكم لعدم شرط أو وجود مانع فمن أين يلزم جواز كل صلاة بطهور. والحاصل أنهم قائلون بأن مثل قولنا ما كتبت إلا بالقلم يدل على ثبوت الكتابة بالقلم لكن لا يلزم منه أن لا يتوقف الكتابة على شيء آخر.
قوله: "وهذا أقوى دليل" للخصم أن يمنع كونه دليلا إذ لا دلالة مع احتمال الانقطاع وكون الأصل في الاستثناء هو الاتصال لا يفيد لجواز أن يعدل عن الأصل بقرينة عدم ظهور ما يصلح استثناؤه منه فالأوجه أن يقال: إن قوله إلا خطأ مفعول أو حال أو صفة مصدر محذوف فيكون مفرغا, والاستثناء المفرغ متصل; لأنه معرب على حسب العوامل فيكون من تمام الكلام, ويفتقر إلى تقدير مستثنى منه عام مناسب له في جنسه ووصفه.
قوله: "وأما كلمة التوحيد" جواب عن الحجة الثالثة وتقريره ظاهر فإن قيل لزوم وجوده(2/55)
البيان إن الاستثناء وضع لنفي الشريك والتخصيص يفهم منه ولما قال أهل اللغة إنه إخراج وتكلم بالباقي ومن النفي إثبات وبالعكس فيكون إخراجاً من الأفراد وتكلماً بالباقي في حق الحكم وإثباتاً بالإشارة وفي العددي ذهبوا إلى الأخير حتى قالوا في إن لي إلا مائة ولم يملك إلا خمسين لا يحنث ولو قال ليس له علي عشرة إلا ثلاثة لا يلزمه فكأنه قال ليس له علي سبعة.
ـــــــ
إلى الثاني بحكم العرف" أي: إلى المذهب الثاني, وهو أنه إخراج قبل الحكم ثم حكم على الباقي. "وقد فهم هذا من قولهم في كلمة التوحيد: أن إثبات الإله بالإشارة; لأنه على الأخير كالتخصيص بالوصف, وهم لا يقولون به بل شبهوا الاستثناء بالغاية". اعلم أنهم لم يصرحوا بهذا المذهب لكن قالوا في كلمة التوحيد إن إثبات الإله بطريق الإشارة ففهمت من ذلك أن مذهبهم هذا; لأنه لو كان مذهبهم هو الثالث, وهو أن العشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة, وقد بينا أن الاستثناء الغير العددي على هذا المذهب كالتخصيص بالوصف فصار كقوله: لا إله إلا غير الله موجود, والتخصيص بالوصف عند هؤلاء لا يدل على نفي الحكم عما عداه, فلا دلالة له على وجوده تعالى بطريق الإشارة فعلم أن مذهبهم ليس هذا الثالث, وأنهم شبهوا
................................................................................................
تعالى بطريق الإشارة اعتراف بمذهب الخصم فإنه لا يدعي أنه يفيد الإثبات بطريق العبارة بمعنى أن يكون السوق لأجله بل يدعي أنه مدلول اللفظ ولزوم وجوده تعالى بطريق الضرورة على الوجه المذكور يقتضي أن لا يصير الدهري النافي للصانع مؤمنا بهذه الكلمة, وهو خلاف الإجماع. أجيب على الأول بأن محل الخلاف هو اطراد هذا الحكم أعني كون الاستثناء من النفي إثباتا, وثبوته بطريق الإشارة في هذه الصورة لا يوجب الاطراد لانتفائه في مثل "لا صلاة إلا بطهور", وعن الثاني بأن مبنى الأمر على الأعم الأغلب وحكم بإسلامه عملا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" 1 الحديث.
قوله: "وما قيل" حاول ابن الحاجب وغيره المذهب الثالث بوجوه:
الأول: أنا قاطعون بأن المراد من كل من المستثنى, والمستثنى منه وآلة الاستثناء معناه الإفرادي, والمفرد لا يقصد بجزء منه الدلالة على جزء معناه.
الثاني أنه خارج عن قانون لغة العرب إذ لم يعهد مركب من ثلاثة ألفاظ, ولا مركب أعرب جزؤه الأول, وهو غير مضاف.
الثالث: أنه يلزم عود الضمير إلى جزء الاسم في مثل اشتريت الجارية إلا نصفها.
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 17. مسلم في كتاب الإيمان حديث 32. الترمذي في متاب الإيمان باب 1، 2. النسائي في كتاب الزكاة باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 9. الدارمي في كتاب السير باب 10. أحمد في مسنده 1/11، 78.(2/56)
الاستثناء بالغاية, ويقولون: إن حكم ما بعد الغاية يخالف حكم ما قبل الغاية, وليس مذهبهم هو الأول; لأن على الأول النفي والإثبات بطريق المنطوق لا بطريق الإشارة. فعلم أن مذهبهم في الاستثناء الغير العددي هو الثاني بحكم العرف "وهذا مناسبا لما قال علماء البيان: إن الاستثناء وضع لنفي التشريك, والتخصيص يفهم منه, ولما قال أهل اللغة: إنه إخراج وتكلم بالباقي, ومن النفي إثبات وبالعكس فيكون إخراجا من الأفراد وتكلما بالباقي في حق الحكم ونفيا, وإثباتا بالإشارة, وفي العددي ذهبوا إلى الأخير حتى قالوا في إن كان لي إلا مائة فكذا ولم يملك إلا خمسين لا يحنث" فعلى المذهب الثالث هو كقوله: إن كان لي فوق المائة, فلا يشترط وجود المائة. "ولو قال ليس له علي عشرة إلا ثلاثة لا يلزمه شيء فكأنه قال ليس له علي سبعة".
................................................................................................
الرابع: أن أهل اللغة أجمعوا على أن الاستثناء إخراج بعض من كل, وعلى تقدير أن يكون عشرة إلا ثلاثة اسما للسبعة لا يتحقق هذا المعنى فأشار المصنف رحمه الله تعالى إلى منع الوجه الثاني ونقضه وحله على وجه يندفع به الوجوه الأربعة أما المنع فهو أنا لا نسلم أنه لم يعهد في لغة العرب لفظ مركب من أكثر من كلمتين فإن كثيرا من الأعلام كذلك مثل شاب قرناها وبرق نحره, وأمثال ذلك. وأما النقض فهو أن مثل أبي عبد الله علم مركب من ثلاث كلمات مع أن الإعراب في وسطه بدليل قولنا جاءني أبو عبد الله ورأيت أبا عبد الله ومررت بأبي عبد الله, وأما الحل فهو أنه إن أريد أنه ليس في لغة العرب تركب الموضوع الشخصي من أكثر من كلمتين فمسلم لكن القائلين بأن المستثنى منه, والمستثنى, وأداة الاستثناء عبارة عن الباقي لم يريدوا أنه موضوع له بالشخص بمنزلة بعلبك ومعدي كرب بل أرادوا أنه موضوع له بالنوع بمعنى أنه ثبت من الواضع أنه إذا ذكر ذلك فهم منه الباقي كما ثبت منه أنه إذا غير صيغة فعل بالفتح إلى فعل بضم الفاء وكسر العين يفهم منها معنى المبني للمفعول, وإذا ركب زيد مع قائم وجعلا مرفوعين فهم منه الحكم بثبوت القيام لزيد إلى غير ذلك من القواعد الصرفية, والنحوية فإنها أوضاع كلية. وإن أريد أنه ليس في اللغة تركب الموضوع النوعي من أكثر من كلمتين فظاهر الفساد فإن جميع المركبات موضوعة بالنوع سواء تركب من كلمتين أو أكثر مثل قولنا حيوان ذو نطق, وقولنا جسم نام حساس متحرك بالإرادة ونطق فإنه موضوع للإنسان بالنوع على معنى أنه ثبت من الواضع أنه إذا ذكر اسم جنس ووصف بما يخص بعض أنواعه فهم منه ذلك النوع فالموضوع النوعي كثيرا ما يتركب من أكثر من كلمتين, ويكون الإعراب في وسطه كما ترى, ويكون لأجزائه دلالة على معانيها الإفرادية; لأنها كلمات, ولا يصير المجموع كلمة واحدة حتى يكون كل من المفردات جزءا من الكلمة فيمتنع عود الضمير إليه بل يكون عود الضمير إلى المستثنى منه بمنزلة عوده إلى المبتدأ في مثل زيد أبوه قائم مع أنه جزء من المركب الموضوع بالنوع. وهذا المعنى لا ينافي في الإخراج المجمع عليه; لأنه مما يفيده أداة الاستثناء, والمعاني الإفرادية ليست مهجورة في الموضوعات النوعية.
وأقول: أما المنع فجوابه الاستقراء ونقل أئمة اللغة, وأما النقض بمثل شاب قرناها فمدفوع(2/57)
بما ذكر في الكشاف جوابا عما قيل: إنه لم يعهد التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا فكيف تكون الكلمات المتهجى بها أسماء للصور وذلك أنه قال: إن التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب لكن إذا جعلت اسما واحدا على طريقة حضرموت, وأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد, فلا استنكار فيها; لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية كما سموا بتأبط شرا وبرق نحره وشاب قرناها وكما لو سمي بزيد منطلق وببيت من الشعر, ولا خفاء في أن مثل عشرة إلا ثلاثة ليس محكيا بل معربا بحسب العوامل. وأما النقض بمثل أبي عبد الله حيث أعرب في وسطه ففي غاية الفساد; لأن ابن الحاجب قد احترز عنه حيث قال, ولا يعرب الجزء الأول, وهو غير مضاف, ولا أدري كيف خفي هذا على المصنف رحمه الله تعالى.
وأما الحل فليس بمستقيم; لأن المقصود دفع التناقض المتوهم في الاستثناء حيث أسند الحكم إلى الكل وأخرج البعض فالقول بكون المركب موضوعا للباقي وضعا كليا ليس مما يخفى على أحد أو يقع فيه اختلاف أو يصلح أن يكون مقابلا للمذهبين الأولين لكنه لا يفي بالمقصود; لأن المفردات حينئذ مستعملة في معانيها الإفرادية فإما أن يراد بالعشرة في قولنا له علي عشرة إلا ثلاثة عشرة أفراد ويحكم بإثباتها, وهو التناقض أو يراد سبعة أفراد, وهو المذهب الأول أو يراد عشرة أفراد لكن يتعلق الحكم بها بعد إخراج الثلاثة وهو المذهب الثاني. فمجرد القول بأن المجموع موضوع للسبعة بالنوع لا يغني من الحق شيئا بل التحقيق في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين, وهو أن عشرة أخرجت منها ثلاثة مجاز للسبعة; لأن العشرة التي أخرجت منها ثلاثة عشرة, ولا شيء من السبعة بعشرة, والعشرة بعد إخراج الثلاثة وقبله مفهوم واحد, وليست السبعة بعشرة على حال أطلقتها أو قيدتها إنما هي الباقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة كما يقال: إنها أربعة ضمت إليها ثلاثة وإنها ليست بأربعة أصلا. وإنما هي الحاصل من ضم الأربعة إلى الثلاثة ثم إن السبعة مرادة في مثل عشرة إلا ثلاثة فإن قلنا: هذا التركيب حقيقة في عشرة موصوفة بأنها أخرجت منها ثلاثة, فكان مجازا في السبعة, وهو المذهب الأول, وإن قلنا: هو موضوع للباقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة, ولا يفهم منها عند الإطلاق إلا ذلك, وليس مدلولها عشرة مقيدة فهو موضوع للسبعة لا على أنه وضع له وضعا واحدا كما يتصور بل على أنه يعبر عنه بلازم مركب, والشيء قد يعبر عنه باسمه الخاص, وقد يعبر عنه بمركب يدل على بعض لوازمه, وذلك في العدد ظاهر فإنك قد تنقض عددا من عدد حتى يبقى المقصود كما تنقض ثلاثة من عشرة حتى تبقى سبعة, وقد يضم عدد إلى عدد حتى يحصل المقصود كما قال الشاعر:
بنت سبع وأربع وثلاث ... هي حب المتيم المشتاق
والمراد منه بنت أربع عشرة, وقد يعبر عنه بغيرهما كما يقال: العشرة جذر المائة وضعف الخمسة وربع الأربعين, وعلى هذا ينبغي أن يحمل المذهب الأخير, والمذهب الثاني يرجع إلى أحدهما, وأنت بعد ذلك خبير بما يرد على الوجوه التي أبطلوا بها المذهبين.
قوله: "شبهوا الاستثناء بالغاية" حيث قالوا: إن موجب صدر الكلام ينتهي بالاستثناء انتهاء الإثبات بالعدم, والنفي بالوجود كما ينتهي بالغاية أصل الكلام ولزم من انتهاء الأول إثبات الغاية فصار كل من الإثبات, والنفي في المستثنى ثابتا بدلالة اللغة كالصدر إلا أن حكم الصدر ثابت قصدا(2/58)
مسألة شرط الاستثناء أن يكون مما أوجبه الصيغة قصداً لا مما يثبت بها ضمناً لأنه تصرف في اللفظ فلهذا قال أبو يوسف: لو وكل رجلاً بالخصومة غير جائزة الإقرار لا يجوز لأنه إنما يجوز له الإقرار لأنه قائم مقامه لا لأنه من الخصومة فيكون
ـــــــ
"مسألة" شرط الاستثناء أن يكون مما أوجبه الصيغة قصدا لا مما يثبت بها ضمنا; لأنه تصرف في اللفظ فلهذا قال أبو يوسف: "لو وكل رجلا بالخصومة غير جائز الإقرار لا يجوز; لأنه إنما يجوز له الإقرار لأنه قائم مقامه لا لأنه من الخصومة فيكون ثابتا بالوكالة ضمنا, فلا يستثنى إلا أن ينقض الوكالة" استثناء منقطع أي: لكن له أن ينقض الوكالة. "ويصح عند محمد رحمه الله تعالى; لأن المراد بالخصومة الجواب مجازا فيتناول الإقرار والإنكار فيصح الاستثناء موصولا; لأنه بيان تقرير نظرا إلى الحقيقة اللغوية; لأن الإقرار مسالمة لا مخاصمة
................................................................................................
وعبارة, وحكم المستثنى ضمنا وإشارة, ولا يخفى أن هذا إنما يصح في غير الاستثناء المفرغ للقطع بأن مثل ما جاءني إلا زيد, وما زيد إلا قائم مسوق لإثبات مجيء زيد وقيامه بأبلغ وجه وأوكده حتى قالوا: إنه تأكيد على تأكيد.
قوله: "بحكم العرف" يعني: أن العرف شاهد على أن الاستثناء يفيد إثبات حكم مخالف للصدر بطريق الإشارة دون العبارة, وهو إنما يصح على المذهب الثاني دون الأول; لأنه يفيده بطريق العبارة ودون الثالث; لأنه لا يفيد أصلا إلا أن الكلام في ثبوت هذا العرف, وفرقه بين العددي وغيره, وأيضا مبنى هذا الكلام على أن كون الاستثناء من النفي إثباتا, وبالعكس منطوق على المذهب الأول دون الثاني, وقد عرفت ما فيه, وأنه لا يختلف باختلاف المذهبين.
قوله: "وهذا مناسب" يعني في القول بأن الاستثناء الغير العددي يفيد النفي, والإثبات بطريق الإشارة توفيق بين الإجماعات الأربعة, الأول ما قال علماء البيان في إفادة ما, وإلا للقصر مثل ما جاءني إلا زيد إن الاستثناء موضوع لنفي التشريك بمعنى أنه لا يشارك المستثنى في الحكم غيره من أفراد المستثنى منه, ويلزم منه التخصيص أي: إثبات الحكم للمستثنى ونفيه عما سواه, وهو معنى القصر الثاني, إجماع أهل اللغة على أنه إخراج أي: للمستثنى من حكم المستثنى منه. الثالث: إجماعهم على أنه تكلم بالباقي أي: قصد إلى الحكم على ما بقي من الأفراد بعد الاستثناء من غير قصد إلى إثبات أو نفي في القدر المستثنى, وإن كان لازما. الرابع: إجماعهم على أنه من النفي إثبات ومن الإثبات نفي أي: ضمنا, وإشارة لا قصدا, وعبارة
قوله: "مسألة شرط الاستثناء أن يكون" المستثنى منه بحيث يدخل فيه المستثنى قصدا وحقيقة على تقدير السكوت عن الاستثناء لا تبعا, وحكما; لأن الاستثناء تصرف لفظي فيقتصر عمله على ما يتناوله اللفظ, ولا يعمل فيما يثبت حكما فلو وكل رجلا بالخصومة, واستثنى الإقرار لا يجوز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى; لأن الإقرار ثبت ضمنا بواسطة أن الوكيل قائم مقام الموكل لا بواسطة أن الإقرار يدخل فيها قصدا حتى يصح إخراجه منها, فلا يصح استثناؤه, ولا إبطاله بطريق المعارضة إلا بنقض الوكالة, ويصح عند محمد رحمه الله تعالى لوجهين. الأول: أن الخصومة لما كانت(2/59)
ثابتاً بالوكالة ضمناً فلا يستثنى إلا أن ينقص الوكالة ويصح عند محمد رحمه الله تعالى لأن المراد بالخصومة الجواب مجازاً فيتناول الإقرار والإنكار فيصح الاستثناء موصولاً لأنه بيان تقرير نظراً إلى الحقيقة اللغوية لأن الإقرار مسالمة لا مخاصمة فعلى هذا يصح مفصولاً ولو قال غير جائز الإنكار فأيضاً على الخلاف بناء على الدليل الأول لمحمد.
ـــــــ
فعلى هذا يصح مفصولا, ولو قال غير جائز الإنكار فأيضا على الخلاف بناء على الدليل الأول لمحمد". وهو أن الخصومة تشتمل الإقرار والإنكار فيصح عند محمد رحمه الله تعالى استثناء الإنكار, ولا يتأتى ذلك على الدليل الثاني لمحمد, وهو أن استثناء الإقرار بيان تقرير نظرا إلى الحقيقة اللغوية; لأن استثناء الإنكار ليس تقريرا للحقيقة اللغوية بل إبطال لها أما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى, فلا يصح هذا الاستثناء لا للدليل الذي ذكر في استثناء الإقرار بل; لأنه استثناء الكل من الكل; لأنه قد ذكر أن الإقرار ليس من الخصومة, فالخصومة هي الإنكار فقط, فلا يمكن استثناء الإنكار منها هذا ما خطر ببالي.
................................................................................................
مهجورة شرعا صار التوكيل بالخصومة توكيلا بالجواب عملا بالمجاز فدخل فيها الإقرار والإنكار قصدا فصح استثناء الإقرار موصولا لا مفصولا; لأنه بيان تغيير. الثاني أنه بيان تقرير; لأنه يفيد أنه أراد بالخصومة معناها اللغوي الذي هو الخصومة لا الشرعي الذي هو مطلق الجواب فيصح موصولا ومفصولا, ولو وكله بالخصومة واستثنى الإنكار قيل لا يصح بالاتفاق لما فيه من تعطيل اللفظ عن حقيقة أعني المنازعة, والإنكار ومجازه أعني مطلق الجواب, والأصح أنه على الخلاف بناء على الوجه الأول لمحمد رحمه الله تعالى, وهو أنه مجاز عن الجواب شامل للإقرار والإنكار فيجوز استثناء أيهما كان, ولا يلزم تعطيل اللفظ; لأنه قصد مجازه, واستثنى بعض أفراد المجاز كما يقال: رأيت في الحمام الأسود إلا هذا الأسد وذلك; لأن دخول الإنكار فيه ليس من حيث إنه معناه الحقيقي بل من حيث إنه من أفراد المعنى المجازي نظرا إلى عموم المجاز, والإقرار وإن كان ضمنا, وتبعا للإنكار إلا أنه لما صار مجازا عن مطلق الجواب دخل كل منهما فيه بحسب الأصالة. وأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى, فلا يصح استثناء الإنكار لكن لا للدليل الذي ذكره في عدم صحة استثناء. الإقرار إذ الإنكار ثبت بالخصومة قصدا لا ضمنا بل لأن الوكالة بالخصومة وكالة بالإنكار فيكون استثناؤه منها بمنزلة استثناء الشيء من نفسه. ولقائل أن يقول: الإقرار يثبت ضمنا وإن لم يثبت قصدا وحينئذ لا يتعذر إخراج الإنكار ولا يلزم إبطال الصيغة والأقرب أن يقال الإقرار يثبت ضمنا وتبعا للإنكار عنده فإذا استثنى الإنكار لزم استثناء الإقرار أيضا فيلزم استثناء الشيء من نفسه.
قوله: "مسألة" المستثنى إن كان بعض المستثنى منه فالاستثناء متصل, وإلا فمنقطع ولفظ الاستثناء, والمستثنى حقيقة عرفية في القسمين على سبيل الاشتراك, وأما صيغة الاستثناء, فحقيقة في المتصل مجاز في المنقطع; لأنها موضوعة للإخراج, ولا إخراج في المنقطع فكلام المصنف رحمه الله تعالى محمول على أن الاستثناء أي: الصيغة التي يطلق عليها هذا اللفظ مجاز في المنقطع فإن لفظ الاستثناء يطلق على فعل المتكلم, وعلى المستثنى, وعلى نفس الصيغة.(2/60)
مسألة الاستثناء متصل ومنقطع والثاني مجازاً وقد أورد أصحابنا قوله تعالى إلا الذين تابوا من أمثلة الاستثناء المنقطع ووجهه أن الاستثناء المتصل هو إخراج عن حكم المستثنى منه بالمعنى وهنا ليس لأن حكم الصدر أن من قذف فهو فاسق وهنا لا يخرج من هذا الحكم إلا أنه لا يبقى فاسقاً بعد التوبة فهذا حكم آخر.
ـــــــ
"مسألة الاستثناء متصل, ومنقطع والثاني مجاز" فإن قيل قسمت الاستثناء على المتصل والمنقطع فكيف يصح قولك, والثاني مجاز قلت ليس هذا قسمة حقيقة بل المراد أن الاستثناء يطلق على معنيين أحدهما بطريق الحقيقة, والثاني بطريق المجاز. "وقد أورد أصحابنا قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} " من أمثلة الاستثناء المنقطع, ووجهه أن الاستثناء المتصل هو إخراج عن حكم المستثنى منه بالمعنى المذكور, وهنا ليس كذلك; لأن حكم الصدر أن من قذف فهو فاسق, "وهنا لا يخرج من هذا الحكم إلا أنه لا يبقى فاسقا بعد التوبة فهذا حكم آخر" أورده أصحابنا من أمثلة الاستثناء المنقطع. والوجه الذي ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى في كونه منقطعا هو أن صدر الكلام الفاسقون, والتائبون ليسوا من الفاسقين, وفي هذا نظر لأن الفاسقين ليس مستثنى منه بل المستثنى منه قوله: {وَأُولَئِكَ } أي: الذين يرمون, والفاسقون حكم المستثنى منه, ولا شك أن الرماة التائبين داخلون في المستثنى منه وهو أولئك غير داخلين في حكم المستثنى منه, وهو الفاسقون كما تقول القوم منطلقون إلا زيدا فزيد داخل في القوم وغير داخل في منطلقون, وقد ذكر في التقويم وجه حسن
................................................................................................
قوله: "وقد أورد أصحابنا" الظاهر أن الاستثناء في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} متصل أي: أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم, فإنهم غير محكوم عليهم بالفسق; لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له, والفسق هو المعصية, والخروج عن طاعة الله, وقد جعله فخر الإسلام رحمه الله تعالى وغيره منقطعا وبينوه بوجوه.
الأول: ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى, وهو المذكور في التقويم وحاصله أن المستثنى, وإن دخل في الصدر لكن لم يقصد إخراجه من حكمه على ما هو معنى الاستثناء المتصل به قصد إثبات حكم آخر له, وهو أن التائب لا يبقى فاسقا, ولا يخفى إنما يتم إذا لم يكن معنى {هُمُ الْفَاسِقُونَ} الثبات على الفسق, والدوام وإلا, فلا تعذر للاتصال, فلا وجه للانقطاع.
الثاني: ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى, وهو أن المستثنى غير داخل في صدر الكلام; لأن التائب ليس بفاسق ضرورة أنه عبارة عما قام به الفسق, والتائب ليس كذلك لزوال الفسق بالتوبة, وهذا مبني على أنه يشترط في حقيقة اسم الفاعل بقاء معنى الفعل, وأما إذا لم يشترط ذلك فيتحقق التناول لكن لا يصح الإخراج; لأن التائب ليس بمخرج ممن كان فاسقا في الزمان الماضي, وهذا حاصل. الوجه الثالث, وهو أن التائب قاذف, والقاذف فاسق لأن الفسق لازم القذف, وبالتوبة لم يخرج(2/61)
لكونه منقطعا فأوردت ذلك في المتن, وهو أن الاستثناء المتصل إخراج عن حكم المستثنى منه. بالمعنى المذكور والمعنى المذكور أن معنى الإخراج هو المنع عن الدخول كما ذكرنا في حد الاستثناء والاستثناء المنقطع هو أن يذكر شيء بعد إلا وأخواتها غير مخرج بالمعنى المذكور فقولنا غير مخرج يتناول أمرين أحدهما أن لا يكون داخلا في صدر الكلام. والثاني أن يكون داخلا فيه لكن لا يخرج عن عين ذلك الحكم وحكم صدر الكلام أن من
................................................................................................
عن كونه قاذفا فلم يخرج عن لازمه وهو الفسق في الجملة, وإن لم يكن فاسقا في الحال واعترض المصنف رحمه الله بأن المستثنى منه على تقدير اتصال الاستثناء ليس هم الفاسقين بل الذين حكم عليهم بذلك, وهم الذين يرمون المشار إليهم بقوله: {وأُولَئِكَ}, ولا شك أن التائبين داخلون فيهم مخرجون عن حكمهم, وهو الفسق كأنه قيل جميع القاذفين فاسقون إلا التائبين منهم كما يقال: القوم منطلقون إلا زيدا استثناء متصل بناء على أن زيدا داخل في القوم مخرج عن حكم الانطلاق فيصح الاستثناء المتصل سواء جعل المستثنى منه بحسب اللفظ, وهو القوم أو الضمير المستتر في منطلقون بناء على أنه أقرب, وأن عمل الصفة في المستثنى أظهر. وليس المراد أن المستثنى منه لفظا هو لفظ القوم ألبتة, وإذا جعل المستثنى منه ضمير منطلقون فمعنى الكلام أن زيدا داخل في الذوات المحكوم عليهم بالانطلاق فخرج عن حكم الانطلاق كما في قولنا: انطلق القوم إلا زيدا وكذا الكلام في الآية.
وأجاب بعض مشايخنا عن هذا الاعتراض بكلام تحقيقه أن الفاسق هاهنا إما أن يكون بمعنى الفاسق على قصد الدوام والثبات أو بمعنى من صدر عنه الفسق في الزمان الماضي أو من قام به الفسق في الجملة ماضيا كان أو حالا فإن أريد الأول فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشرع بأن التائب ليس بفاسق حقيقة, ومن شرط الاستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولا المستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء, وهذا مراد فخر الإسلام رحمه الله تعالى بعد تناول الفاسقين التائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد على تقدير عدم الاستثناء, وإن أريد الثاني أو الثالث, فلا صحة لإخراج التائب عن الفاسقين; لأنه فاسق بمعنى صدور الفسق عنه في الجملة ضرورة أنه قاذف, والقذف فسق. ولا يخفى أن منع دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي ذكرنا, ومنع عدم صحة إخراجهم عن الفاسقين بالمعنى الآخر ليس بموجه, وأن الاستدلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على أولئك المشار به إلى الذين يرمون, وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع على أنه لا فسق مع التوبة, وكفى به مخصصا, وذكر بعض الأفاضل أن دخول المستثنى في المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى منه, وشموله إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له لما صح استثناؤه فهاهنا الذين يرمون شامل للتائبين منهم, فلا يضر في صحة الاستثناء أنهم ليسوا بفاسقين في الواقع. وأن التوبة تنافي ثبوت الفسق كما إذا لم يدل زيد في الانطلاق فإنه يصح استثناؤه باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدا.
والحاصل أنه يكفي في الاستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى منه بحسب دلالة اللفظ(2/62)
مسألة الاستثناء المستغرق وأصحابنا باطل قيدوه بلفظه أو بما يساويه نحو عبيدي أحرار إلا عبيدي أو إلا مماليكي لكن إن استثني بلفظ يكون أخص منه في المفهوم لكن في الوجود يساويه يصح نحو عبيدي أحرار إلا هؤلاء ولا عبيدي له سواهم.
مسألة إذا تعقب الاستثناء الجمل المعطوفة كآية القذف ينصرف إلى الكل عند
ـــــــ
قذف صار فاسقا وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} لا يخرج عن عين ذلك الحكم بل معناه أن من تاب لا يبقى فاسقا بعد التوبة فهذا حكم آخر ونظائره في القرآن كثيرة منها وقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} فإن قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} أي: الجمع بين الأختين الذي قد سلف داخل في الجمع بين الأختين لكنه غير مخرج من حكم صدر الكلام, وهو الحرمة; لأنه حرام أيضا لكنه أثبت فيه حكما آخر, وهو أنه مغفور.
"مسألة الاستثناء المستغرق باطل", وأصحابنا قيدوه بلفظه أو بما يساويه نحو عبيدي أحرار إلا عبيدي أو إلا مماليكي لكن إن استثنى بلفظ يكون أخص منه في المفهوم لكن في الوجود يساويه يصح نحو عبيدي أحرار إلا هؤلاء, ولا عبيد له سواهم.
مسألة "إذا تعقب الاستثناء الجمل المعطوفة كآية القذف ينصرف إلى الكل عند الشافعي رحمه الله وعندنا إلى الأقرب" لقربه, واتصاله به وانقطاعه عما سواه; ولأن توقف صدر الكلام
................................................................................................
وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما يقال: خلق الله كل شيء إلا ذاته وصفاته, ويمكن الجواب بأنه لا فائدة للاستثناء المتصل على هذا التقدير; لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة, وهذا مراد فخر الإسلام رحمه الله تعالى بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وحينئذ لا يرد اعتراض المصنف رحمه الله تعالى لا يقال: لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون, ويكون الاستثناء لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل على أولئك القاذفين, والإثبات لهم فإن الاستثناء كما يجوز من المحكوم عليه يجوز من غيره كما يقال: كرام بلدتنا أغنياؤهم إلا زيدا, بمعنى أن زيدا وإن كان غنيا لكنه خارج عن الحمل عن الكرام; لأنا نقول فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين, ولا يكونون من القاذفين, والأمر بالعكس. وقد يقال: إن الاستثناء منقطع على معنى أنهم فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة, ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكلف في التقدير أي: في الأحوال إلا حال توبة الذين تابوا, وإلا توبة القاذفين أي: وقت توبتهم على أن يجعل الذين حرفا مصدريا لا اسما موصولا وضمير تابوا عائد إلى أولئك وبعد اللتيا, والتي يكون الاستثناء مفرغا متصلا لا منقطعا
قوله: "مسألة إذا" ورد الاستثناء عقيب جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو, فلا خلاف في(2/63)
الشافعي رحمه الله وعندنا إلى الأقرب لقربه واتصاله به وانقطاعه عما سواه ولأن توقف صدر الكلام ثبت ضرورة فيتقدر بقدر الحاجة على أنه لا شركة في عطف الجمل في الحكم الاستثناء أولى وصرفه إلى الكل في الجمل المختلفة كآية
ـــــــ
ثبت ضرورة فيتقدر بقدر الحاجة على أنه لا شركة في عطف الجمل في الحكم ففي الاستثناء أولى, وصرفه إلى الكل في الجمل المختلفة كآية القذف في غاية البعد; لأن قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} {وَلا تَقْبَلُوا} ردا على سبيل الجزاء بلفظ الإنشاء ثم {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "جملة مستأنفة بلفظ الإخبار" أي: صرف الشافعي رحمه الله تعالى الاستثناء إلى الكل ففي آية القذف قطع الشافعي رحمه الله تعالى قوله تعالى, ولا تقبلوا عن قوله: فاجلدوهم حتى لم يجعل رد الشهادة من تمام الحد وجعل {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} عطفا على قوله:
................................................................................................
جواز رده إلى الجميع, وإلى الأخيرة خاصة, وإنما الخلاف في الظهور عند الإطلاق فمذهب الشافعي رحمه الله تعالى أنه ظاهر في العود إلى الجميع وذهب بعضهم إلى التوقف وبعضهم إلى التفصيل ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه ظاهر في العود إلى الأخير لوجهين الأول أن الجملة الأخيرة قريبة من الاستثناء متصلة به منقطعة عما سبقها من الجمل نظرا إلى حكمها, وإن اتصلت به باعتبار ضمير أو اسم إشارة ويحتمل أن يجعل القرب, والاتصال دليلا, والانقطاع عما سبق دليلا آخر. بمعنى أن الأخيرة بسبب انقطاعها تصير بمنزلة حائل بين المستثنى, والمستثنى منه كالسكوت من غير أن يصير المجموع بمنزلة جملة واحدة, فلا يتحقق الاتصال الذي هو شرط الاستثناء. الثاني أن عود الاستثناء إلى ما قبله إنما هو لضرورة عدم استقلاله, والضرورة تندفع بالعود إلى واحدة, وقد عاد إلى الأخيرة بالاتفاق, فلا ضرورة في العود إلى غيرها والمصنف رحمه الله تعالى أثبت الضرورة في جانب صدر الكلام, وذلك أنه لما ورد الاستثناء لزم توقف صدر الكلام ضرورة أنه لا بد له من مغير, والضرورة تندفع بتوقف جملة واحدة, فلا تتجاوز إلى الأكثر, ولما كان هاهنا مظنة أن يقال الواو للعطف والتشريك فيفيد اشتراك الجمل في الاستثناء أجاب بأن العطف لا يفيد شركة الجمل التامة في الحكم على ما سبق من أن القران في النظم لا يوجب القران في الحكم مع أن وضع العاطف للتشريك في الإعراب, والحكم فلأن لا يفيد التشريك في الاستثناء, وهو تغيير لكلام لا حكم له أولى.
قوله: "وصرفه إلى الكل" تنزل بعد إثبات المطلوب إلى صورة جزئية وقع فيها النزاع وكثر فيها الكلام, وهي آية القذف المشتملة على جمل ثلاث هي فاجلدوا, ولا تقبلوا {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} واستدل من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى في الأحكام على أنه جعل جملة, ولا تقبلوا منقطعة عن جملة فاجلدوا مع أن كونها معطوفة عليها أظهر من أن يخفى وجعل جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} عطفا على جملة, ولا تقبلوا مع أنها جملة اسمية إخبارية ظاهرها الاستئناف بيانا لحال القاذفين وجريمتهم غير صالحة أن تكون جزاء للقذف وتتميما للحد, ولا تقبلوا فعلية طلبية مسوقة جزاء للقذف. ووجه الاستدلال أنه قبل شهادة المحدود في القذف بعد(2/64)
القذف في غاية البعد لأن قوله تعالى فاجلدوا ولا تقبلوا رداً على سبيل الجزاء بلفظ الإنشاء ثم وأولئك هو الفاسقون جملة مستأنفة بلفظ الأخبار.
ومن أقسام بيان التغيير الشرط وقد مر والفرق بينه وبين الاستثناء يظهر في قوله بعت منك هذا العبد بألف إلا نصف العبد أنه يقع البيع على النصف بألف ولو قال
ـــــــ
ولا تقبلوا ثم جعل الاستثناء مصروفا إلى قوله: ولا تقبلوا, وقوله: وأولئك لا إلى قوله: فاجلدوا حتى أن الجلد لا يسقط بالتوبة. وعدم قبول الشهادة, والفسق يسقطان بالتوبة عنده, والجمل المختلفة في آية القذف هي قوله: فاجلدوا, وقوله: ولا تقبلوا, وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ونحن جعلنا الأولين جزاء; لأنهما أخرجا بلفظ الطلب مفوضين إلى الأئمة وجعلنا {وَأُولَئِكَ} مستأنفا; لأنها بطريق الإخبار, والاستثناء مصروفا إلى أولئك.
"ومن أقسام بيان التغيير الشرط, وقد مر" أي: في فصل مفهوم المخالفة. "والفرق بينه
................................................................................................
التوبة وحكم عليه بعدم الفسق ولم يسقط عنه الجلد فلزم من ذلك تعلق الاستثناء بالأخيرتين, وقطع, ولا تقبلوا عن فاجلدوا إذ لو كان عطفا عليه لسقط الجلد عن التائب على ما هو الأصل عنده من صرف الاستثناء إلى الكل, وفيه بحث إذ لا نزاع لأحد في أن قوله تعالى ولا تقبلوا عطف على فاجلدوا إلا أن الشافعي رحمه الله تعالى لم يجعله من تمام الحد بناء على أنه لا يناسب الحد; لأن الحد فعل يلزم على الإمام إقامته لا حرمة فعل, ولم يسقط عنه الجلد بالتوبة; لأنه حق العبد, ولهذا أسقطه بعفو المقذوف وصرف الاستثناء إلى الكل عنده ليس بقطعي بل هو ظاهر يعدل عنه عند قيام الدليل وظهور المانع مع أن المستثنى هو الذين تابوا, وأصلحوا ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب عفو المقذوف, وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضا فيصح صرف الاستثناء إلى الكل.
قوله: "ثم وأولئك هم الفاسقون جملة مستأنفة" مبتدأة غير واقعة موقع الجزاء بل هي إزالة لما عسى أن يستبعد من صيرورة القذف سببا لوجوب العقوبة التي تندرئ بالشبهات مع أن القذف خبر يحتمل الصدق, والكذب, وربما يكون حسبة يعني أنهم الفاسقون العاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن إقامة أربعة شهداء فلهذا استحقوا العقوبة, ولا يجوز أن يكون في معرض التعليل لرد الشهادة حتى يكون رد الشهادة بسبب الفسق فتقبل بعد التوبة لزوال الفسق; لأن العلة لا تعطف على الحكم بالواو بل ربما يذكر الفاء كذا قيل, وفيه نظر; لأنه يرد ذلك على تقدير جعلها علة لاستحقاق العقوبة فإن قيل الواو لمجرد النسق, والنظم دون العطف على حكم قلنا فليكن كذلك إذا جعلناها في معرض العلة لرد الشهادة مع أنه أقرب.
قوله: "ومن أقسام بيان التغيير الشرط" أما أنه تغيير فلأنه غير الصيغة عن أن تصير إيقاعا, ويثبت موجبها, وأما أنه بيان فلأن الكلام كان يحتمل عدم الإيجاب في الحال بناء على جواز التكلم(2/65)
على أن لي نصفه على النصف بخمسمائة فكأنه يدخل في البيع لفائدة تقسيم الثمن ثم يخرج ولا يفسد الشرط لأنه بيع شيء من شيئين.
ـــــــ
وبين الاستثناء يظهر في قوله: بعت منك هذا العبد بألف إلا نصف العبد أنه يقع البيع على النصف بألف"; لأن الاستثناء تكلم بالباقي فكأنه قال: بعت نصف العبد بألف. "ولو قال على أن لي نصفه يقع على النصف بخمسمائة فكأنه يدخل في البيع لفائدة تقسيم الثمن ثم يخرج, ولا يفسد بهذا الشرط"; لأنه بيع شيء من شيئين
................................................................................................
بالعلة مع تراخي الحكم كبيع الخيار, وبالشرط ظهر أن هذا المحتمل مراد, وذهب الإمام شمس الأئمة رحمه الله تعالى إلى أنه بيان تبديل; لأن مقتضى أنت حر نزول العتق في المحل واستقراره فيه, وأن يكون علة للحكم بنفسه فبالشرط يتبدل ذلك, ويتبين أنه ليس بعلة تامة, ولا إيجاب للعتق بل يمين بخلاف الاستثناء فإنه تغيير لا تبديل إذ لم يخرج كلامه من أن يكون إخبارا بالواجب. وقد ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن كلا منهما يمنع انعقاد الإيجاب إلا أن الاستثناء يمنع الانعقاد في بعض الجملة حتى لا يبقى موجبا فيه لا في الحال, ولا في المآل, والتعليق يمنع الانعقاد في الحال لا في المآل.
قوله: "ولا يفسد" أي: البيع الواقع بقبوله بعت هذا العبد منك بألف على أن لي نصفه بهذا الشرط, وهو كون نصفه له على ما سبق من أن كلمة على تستعمل في الشرط مع أن هذا شرط لا يقتضيه العقد; لأن هذا بالتحقيق ليس بيعا بالشرط بل هو بيع شيء من شيئين أي: أحد النصفين من نصفي العبد, والحاصل أنه شرط من جهة فأفاد توزيع الثمن, وليس بشرط حقيقة فلم يفسد البيع.
قوله: "فصل" النسخ في اللغة الإزالة يقال: نسخت الشمس الظل أي: أزالته, والنقل يقال: نسخت الكتاب أي: نقلت ما فيه إلى آخر ونسخت النخل نقلتها من موضع إلى موضع آخر ومنه المناسخات في المواريث لانتقال المال من وارث إلى وارث, وفي الشرع هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه أي: حكم الدليل الشرعي المتقدم فخرج التخصيص; لأنه لا يكون متراخيا وخروج وورود الدليل الشرعي مقتضيا خلاف حكم العقل من الإباحة الأصلية, والمراد بخلاف حكمه ما يدافعه وينافيه لا مجرد المغايرة كالصوم والصلاة ونكر الدليل ليشمل الكتاب, والسنة قولا, وفعلا, وغير ذلك وخرج ما يكون بطريق الإنساء, والإذهاب عن القلوب من غير أن يرد دليل وكذا نسخ التلاوة فقط; لأن المقصود تعريف النسخ المتعلق بالأحكام على أن يكون صفة للدليل بمعنى المصدر المبني للفاعل, وهو الناسخية لا من المبني للمفعول, وهو المنسوخية, وقد يطلق النسخ بمعنى الناسخ. وإليه ذهب من قال: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان باقيا ثابتا مع تراخيه عنه, وقد يطلق على فعل الشارع, وإليه ذهب من قال هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر لا يقال: ما ثبت في الماضي لا يتصور بطلانه لتحققه قطعا, وما في المستقبل لم يثبت بعد فكيف يبطل فأيا ما كان لا رفع; لأنا نقول ليس المراد بالرفع البطلان بل زوال ما نظن من التعلق بالمستقبل بمعنى أنه لولا الناسخ لكان في عقولنا(2/66)
فصل في بيان التبديل و هو النسخ
...
فصل في بيان التبديل وهو النسخ
والبحث هنا في تعريفه وجوازه ومحله وشرطه والناسخ والمنسوخ وهو أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي مقتضياً خلاف حكمه.
ولما كان الشارع عالماً بأن الحكم الأول مؤقت إلى وقت كذا كان دليل الثاني بياناً محضاً لمدة الحكم في حقه، ولما كان الحكم الأول مطلقاً كان البقاء فيه أصلاً عندنا لجهلنا عند مدته، فالثاني يكون تبديلاً بالنسبة إلى علمنا كالقتل بيان للأجل في
ـــــــ
"فصل" في بيان التبديل, وهو النسخ والبحث هنا في تعريفه وجوازه, ومحله وشرطه. والناسخ والمنسوخ: وهو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه.
ولما كان الشارع عالما بأن الحكم الأول مؤقت إلى وقت كذا كان دليل الثاني بيانا محضا لمدة الحكم في حقه, ولما كان الحكم الأول مطلقا كان البقاء فيه أصلا عندنا لجهلنا عن مدته فالثاني يكون تبديلا بالنسبة إلى علمنا كالقتل بيان للأجل في حقه تعالى; لأن المقتول ميت بأجله, وفي حقنا تبديل وهو جائز في أحكام الشرع عندنا خلافا لليهود عليهم اللعنة فعند بعضهم باطل نقلا, وعند بعضهم عقلا, وقد أنكره بعض المسلمين أيضا, وهذا لا يتصور من مسلم" إن كان المراد أن الشرائع الماضية لم ترتفع بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وتلك الشرائع باقية كما كانت لكن المسلمين الذين لم يجوزوا النسخ لم يروا هذا المعنى بل مرادهم أن الشريعة المتقدمة مؤقتة إلى وقت ورود الشريعة المتأخرة إذ ثبت في
................................................................................................
ظن التعلق في المستقبل فبالناسخ زال ذلك التعلق المظنون.
قوله: "ولما كان الشارع" يعني أن النسخ بيان للمدة بالنظر إلى علم الله وتبديل بالنظر إلى علمنا حيث ارتفع بقاء ما كان الأصل بقاءه عندنا.
قوله: "ونحن نقول" فيه بحث; لأن النزاع ليس في إطلاق لفظ النسخ وكيف يتصور ذلك من المسلم, وقد ورد به التنزيل, وإنما النزاع في ورود نص يقتضي حكما مخالفا لما يقتضيه نص سابق غير دال على توقيت بل جار على الإطلاق الذي يفهم منه التأبيد, ولهذا كان تفصي المخالف من المسلمين عن ارتفاع الشرائع المتقدمة بأنها كانت مؤقتة إلى ظهور خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام لا مطلقة يفهم منه التأبيد, ولا خفاء في أن قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} الآية لا ينافي ذلك بل الجواب أنا لا نسلم أن بشارة موسى, وعيسى عليهما الصلاة والسلام بشرع النبي عليه الصلاة والسلام, وإيجابهما الرجوع إليه يقتضيان توقيت أحكام التوراة, والإنجيل لاحتمال أن يكون الرجوع إليه باعتبار كونه مفسرا أو مقررا أو مبدلا لبعض دون بعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي مطلقة يفهم منها التأبيد فتبديلها يكون نسخا, ولو سلم فمثل التوجه إلى بيت المقدس والوصية للوالدين كان مطلقا فرفع.(2/67)
حقه تعالى لأن المقتول ميت بأجله وفي حقنا تبديل وهو جائز في أحكام الشرع عندنا خلاف لليهود عليهم اللعنة فعند بعضهم باطل نقلاً، وعن بعضهم عقلاً، وقد أنكره بعض المسلمين أيضاً وهذا لا يتصور من مسلم.
أما النقل ففي التوراة تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض وادعوا نقله تواتراً ويدعون النقل عن موسى عليه الصلاة والسلام أن لا نسخ لشريعته وأما العقل
ـــــــ
القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بشرا بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام, وأوجبا الرجوع إليه عند ظهوره, وإذا كان مؤقتا الأول لا يسمى الثاني ناسخا ونحن نقول: إن الله تعالى سماه نسخا بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} الآية.
"أما النقل ففي التوراة تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض وادعوا نقله تواترا, ويدعون النقل عن موسى عليه الصلاة والسلام أن لا نسخ لشريعته" قلنا هذه الدعوى غير
................................................................................................
"قوله: أما النقل:" القائلون ببطلان نسخ شريعة موسى عليه الصلاة والسلام نقلا تمسكوا بكتابهم, وقول نبيهم وادعوا في كل منهما أنه متواتر أما الكتاب فما نقلوا أنه في التوراة تمسكوا بالسبت أي: بالعبادة فيه, والقيام بأمرها ما دامت السماوات والأرض, ولا قائل بالفصل بين السبت وغيره. وأما قول النبي عليه السلام فما نقلوا عن موسى عليه السلام أن هذه شريعة مؤبدة إلى يوم القيامة, وفي لفظ الادعاء إشارة إلى الجواب, وهو منع التواتر, والوثوق على كتابهم لما وقع فيه من التحريف واختلاف النسخ وتناقض الأحكام كيف ولم يبق في زمن بخت نصر من اليهود عدد يكون إخبارهم متواترا وخبر تأبيد شريعة موسى مما افتراه ابن الراوندي ليعارض به دعوى الرسالة من نبينا عليه السلام ولو صح ذلك لاشتهر معارضتهم به مع حرصهم على دفع رسالة محمد عليه السلام, والقائلون ببطلان النسخ عقلا تمسكوا بوجهين. الأول: أنه يوجب كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه فيلزم حسنه, وقبحه لذاته, وهو ممتنع. الثاني: أن النسخ لا يجوز أن يكون بدون مصلحة لامتناع العبث على الحكيم تعالى بل يكون لحكمة خفيت أولا فظهرت ثانيا, وهذا رجوع عن المصلحة الأولى بالاطلاع على مصلحة أخرى فيلزم البداء والجهل وكلاهما محالان على الله تعالى.
فالمصنف رحمه الله تعالى استدل أولا على ثبوت النسخ بما ينتهض حجة على اليهود وغيرهم, وهو نسخ بعض الأحكام الثابتة في زمن آدم عليه السلام لكن لا يخفى أنه لا يدفع القول بتأبيد شريعة موسى عليه السلام بدليل نقلي لا يقال: الأحكام المذكورة كانت جائزة بالإباحة الأصلية دون الأدلة الشرعية فرفعها لا يكون نسخا ولو سلم كانت في حق أمة مخصوصة أو كانت مؤقتة إلى ظهور شريعة; لأنا نقول: قد ثبت الإطلاق واحتمال التقييد لم ينشأ عن دليل, فلا يعبأ به, والإباحة الأصلية عندنا بالشريعة; لأن الناس لم يتركوا سدى في زمان من الأزمنة فرفعها يكون نسخا لا محالة. وأجاب ثانيا عن دليل القائلين ببطلان النسخ عقلا على ما ذكره القوم, وأشار ثالثا إلى بطلان دليلهم الأول بأنه لا يمتنع تبدل الأفعال حسنا, وقبحا بحسب تبدل الأزمان, والأحوال,(2/68)
فلأنه يوجب كون الشيء مأموراً به ومنهياً عنه فيكون حسناً وقبيحاً ولأنه يوجب البداء والجهل بالعواقب ولنا أن حل الأخوات في شريعة آدم عليه السلام وحل الجزء أي حواء له عليه السلام ولم ينكره أحد ثم نسخ في غير شريعته ولأن الأمر للوجوب لا للبقاء وإنما هو بالاستصحاب فلا يقع التعارض بين الدليلين بل الدليل الثاني بيان لمدة الحكم الأول التي لم تكن معلومة لنا وقولهم بأن البقاء بالاستصحاب مع أن الاستصحاب ليس بحجة عندهم مشكل لأنه يلزم أن لا يكون نص ما في زمن النبي
ـــــــ
صحيحة لوجود التحريف. "وأما العقل فلأنه يوجب كون الشيء مأمورا به, ومنهيا عنه فيكون حسنا وقبيحا; ولأنه يوجب البداء والجهل بالعواقب, ولنا أن حل الأخوات في شريعة آدم عليه السلام وحل الجزء أي: حواء له عليه السلام ولم ينكره أحد ثم نسخ في غير شريعته; ولأن الأمر للوجوب لا للبقاء, وإنما هو بالاستصحاب, فلا يقع التعارض بين الدليلين بل الدليل الثاني بيان لمدة الحكم الأول التي لم تكن معلومة لنا, وقولهم بأن البقاء بالاستصحاب مع أن الاستصحاب ليس بحجة عندهم مشكل; لأنه يلزم أن لا يكون نص ما في زمن النبي عليه السلام حجة إلا في وقت نزوله فأما بعده, فلا. والجواب عن هذا إما بالتزام الاحتجاج بمثل هذا الاستصحاب أي: في كل صورة علم أنه لم يغير, وإما بأن النص يدل على شرعية موجبة قطعا إلى زمان نزول الناسخ فبهذا يندفع التعارض المذكور" اعلم أن فخر الإسلام رحمه الله تعالى أجاب عن قولهم: أنه يوجب كون الشيء منهيا عنه, ومأمورا به بقوله: إلا أن الأمر للوجوب لا للبقاء, إنما البقاء بالاستصحاب, فلا يلزم كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه في حالة واحدة, وفي هذا الجواب نظر, وهو أنه لما كان البقاء بالاستصحاب. والاستصحاب
................................................................................................
والأشخاص على ما سبق في مسألة الحسن, والقبح.
قوله: "وقد خطر ببالي" لقائل أن يقول الاعتراض إنما هو على فخر الإسلام رحمه الله تعالى, وهو قائل بأن الاستصحاب ليس بحجة أصلا, وكونه حجة في صورة ما يكون رجوعا عن مذهبه, فلا يتم الجواب الأول, وكذا الثاني; لأنه قائل بأن البقاء بالاستصحاب فالقول بأن البقاء ليس للاستصحاب يكون دفعا لكلامه لا توجيها له.
قوله: "وأما محله" أي: محل النسخ حكم شرعي فرعي لم يلحقه تأبيد, ولا توقيت فخرج الأحكام العقلية, والحسية, والإخبار عن الأمور الماضية أو الواقعة في الحال أو الاستقبال مما يؤدي نسخه إلى كذب أو جهل بخلاف الإخبار عن حل الشيء أو حرمته مثل هذا حلال, وذاك حرام. والمراد بالتأبيد دوام الحكم ما دامت دار التكليف, ولهذا كان التقييد بقوله: إلى يوم القيامة تأبيدا لا توقيتا فإن قيل قد تستعمل صيغ التأبيد في المكث الطويل, فيجوز أن يلحق الحكم تأبيد يفهم منه الدوام, ويكون مراد الله تعالى طول الزمان, فيرد دليل يبين انتهاءه فيكون نسخا في حقنا. قلنا حقيقة التأبيد هو الدوام واستمرار جميع الأزمنة, وإرادة البعض مجاز لا مساغ له بدون القرينة وبعد الدلالة(2/69)
عليه السلام حجة إلا في وقت نزوله فأما بعده فلا والجواب عن هذا إما بالتزام الاحتجاج بمثل هذا لاستصحاب أي في كل صورة علم أنه لم يغير وإما بأن النص يدل على شرعية موجبة قطعاً إلى زمان نزول الناسخ فبهذا يندفع التعارض المذكور وفي هذا حكمة بالغة وهو كالإحياء ثم الإماتة وأيضاً يمكن حين الشيء وقبحه في زمانين وأما محله فاعلم أن الحكم إما أن لا يحتمل في نفسه كالأحكام العقلية
ـــــــ
ليس بحجة عند علمائنا فيلزم أن لا يكون نص ما في زمن حياة النبي عليه الصلاة والسلام حجة لا في حالة نزوله, ولا يكون حجة بعدها, وهذا قول باطل.
وإنما قيدناه بزمن النبي عليه الصلاة والسلام; لأن بوفاته عليه الصلاة والسلام ارتفع احتمال النسخ وبقي الشرائع التي قبض النبي عليه السلام عليها حجة قطعية مؤبدة. وقد خطر ببالي عن هذا النظر جوابان أحدهما أن نلتزم أن مثل هذا الاستصحاب حجة أي: كل استصحاب يكون فيه عدم التغيير معلوما فلما نزل على النبي عليه السلام حكم فثبوته بالنص وبقاؤه بالاستصحاب, وقد علم أنه لم ينزل مغير إذ لو نزل لبين النبي عليه السلام فلما لم يبين علم أنه لم ينزل فمثل الاستصحاب يكون حجة. وثانيهما: أنا لا نقول: إن البقاء بالاستصحاب بل النص يدل على شرعية موجبة قطعا إلى زمان نزول الناسخ, وبهذا يندفع التعارض المذكور, وهو كون الشيء مأمورا به, ومنهيا عنه في زمان واحد; لأن النص الأول حكمه مؤقت إلى زمان نزول الناسخ فإذا نزل الناسخ فلم يبق موجب الأول, وهذا عين ما ذكر في أول الفصل أنه لما كان الشارع عالما بأن الحكم الأول مؤقت إلخ, فلا يحتاج لدفع التعارض المذكور إلى أن نقول: إن البقاء بالاستصحاب "وفي هذا حكمة بالغة, وهو كالإحياء ثم الإماتة, وأيضا يمكن حسن الشيء, وقبحه في زمانين".
"وأما محله فاعلم أن الحكم إما أن لا يحتمل النسخ في نفسه كالأحكام العقلية" مثل وحدانية الله, وأمثالها "وما يجري مجراها" كالأمور الحسية والإخبارات عن الأمور الماضية أو الحاضرة أو المستقبلة نحو {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ}. "وإما أن يحتمل كالأحكام الشرعية ثم هذا إما إن لحقه تأبيد نصا كقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} الآية, وقوله عليه السلام: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" أو دلالة كالشرائع التي قبض عليها النبي عليه السلام فإنها مؤبدة بدلالة أنه خاتم النبيين أو توقيت" عطف على قوله: تأبيد في قوله: أما إن لحقه تأبيد. "فإن النسخ قبل تمام الوقت
................................................................................................
على ثبوت الحكم في جميع الأزمنة كان رفعه في بعض الأزمنة من باب البداء, وهو على الله تعالى محال. هذا إذا كان التأبيد قيدا للحكم كالوجوب مثلا أما إذا كان قيدا للواجب مثل صوموا أبدا فالجمهور على أنه يجوز نسخه إذ لا يزيد في الدلالة على جزئيات الزمان على دلالة قولنا صم غدا على صوم غد, وهو قابل للنسخ فإن قيل التأبيد يفيد الدوام, والنسخ ينفيه فيلزم التناقض قلنا لا منافاة بين إيجاب فعل مقيد بالأبد, وعدم أبدية التكليف به كما لا منافاة بين إيجاب صوم مقيد(2/70)
وما يجري مجراها وإما أن يحتمل كالأحكام الشرعية ثم هذا إما أن لحقه تأبيد نصاً كقوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك الآية وقوله عليه السلام: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" أو دلالة كالشرائع التي قبض عليها النبي عليه السلام فإنها مؤبدة بدلالة أنه خاتم النبيين أو توقيت فإن النسخ قبل تمام الوقت بداء ويكون الحكم مطلقاً عنهما فالذي يجري فيه النسخ هذا فقط، وأما شرطه فالتمكن من الاعتقاد كاف لا حاجة إلى
ـــــــ
بداء, ويكون الحكم مطلقا عنهما" أي: عند التأبيد والتوقيت. "فالذي يجري فيه النسخ هذا فقط, وأما شرطه فالتمكن من الاعتقاد كاف لا حاجة إلى التمكن من الفعل عندنا وعند المعتزلة لا يصح قبل الفعل; لأن المقصود منه الفعل فقبل حصوله يكون بدءا, ولنا أنه عليه السلام أمر ليلة المعراج بخمسين صلاة ثم نسخ الزائد على الخمس مع عدم التمكن من العمل; وذلك لأنه يمكن أن يكون المقصود هو الاعتقاد فقط أو الاعتقاد والعمل جميعا, وهنا" أي: في صورة يكون المقصود الاعتقاد والعمل جميعا. "الاعتقاد أقوى فإنه يصلح أن يكون قربة مقصودة كما في المتشابه, وهو" أي: الاعتقاد "لا يحتمل السقوط بخلاف العمل" فإن العمل يمكن أن يسقط بعذر كالإقرار والصلاة والصوم وغيرها "فذبح إبراهيم عليه السلام من
................................................................................................
بزمان, وأن لا يوجد التكليف به في ذلك الزمان كما يقال: صم غدا ثم ينسخ قبله, وذلك كما يكلف بصوم غد ثم يموت قبل غد, فلا يوجد التكليف وتحقيقه أن قوله صم أبدا يدل على أن صوم كل شهر من شهور رمضان إلى الأبد واجب في الجملة من غير تقييد للوجوب بالاستمرار إلى الأبد فلم يكن رفع الوجوب بمعنى عدم استمراره مناقضا له, وذلك كما تقول: صم كل رمضان. فإن جميع الرمضانات داخلة في هذا الخطاب, وإذا مات انقطع الوجوب قطعا ولم يكن نفيا; لتعلق الوجوب بشيء من الرمضانات وتناول الخطابات له, والحاصل أنه يجوز أن يكون زمان الواجب غير زمان الوجوب فقد يتقيد الأول بالأبد دون الثاني فإن قلت قوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} من قبيل الإخبار فكيف جعله من أمثلة الأحكام الشرعية. قلت: من جهة أنه حكم وجوب تقدم المؤمن على الكافر في باب الشرف, والكرامة كالشهادة ونحوها.
قوله: "فذبح إبراهيم عليه السلام" ذهب بعضهم إلى أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح الولد ثم نسخ بورود الفداء بذبح الشاة أما الأول فلقوله تعالى حكاية {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فإنه يدل على أن الذبح كان مأمورا به ولقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}, والفداء إنما يكون بدلا عن المأمور به, ولو كان المأمور به مقدمات الذبح لما احتيج إلى الفداء; لأنه قد أتى بها. وأيضا لو لم يكن الذبح مأمورا به لامتنع شرعا وعادة اشتغاله بذلك, وإقدامه على الترويع, وإمراره المدية على حلق الولد وتله للجبين. وأما الثاني; فلأنه لو لم ينسخ لكان تركه معصية فإن قيل قد وجد الذبح لما روي أنه ذبح وكان كلما قطع شيئا يلتحم عقيب القطع قلنا هذا خلاف العادة, والظاهر ولم ينقل نقلا يعتد به, ولو كان لما احتيج إلى الفداء ثم لا يخفى أن هذا النسخ ليس من قبل النسخ قبل التمكن من الفعل كما في نسخ الصلوات ليلة المعراج للقطع بأنه(2/71)
التمكن من الفعل عندنا وعند المعتزلة لا يصح قبل الفعل لأن المقصود منه الفعل فقبل حصوله يكون بداء أنه عليه السلام أمر الليلة المعراج بخمسين صلاة ثم نسخ الزائد على الخمس مع عدم التمكن من العمل وذلك لأنه يمكن أن يكون المقصود هو الاعتقاد فقط أو الاعتقاد والعمل جميعاً وهنا الاعتقاد أقوى فإنه يصلح أن يكون قربة مقصودة كما في المتشابه وهو لا يحتمل السقوط بخلاف العمل فذبح إبراهيم عليه السلام من هذا القبيل وعند البعض ليس بنسخ فإن الاستخلاف لا يكون نسخاً وإنما أمر بذبح الولد ابتلاء على القولين فإن قيل الأمر بالفداء حرم الأصل فيكون نسخاً. قلنا لما قام الغير مقامه عاد الحرمة الأصلية.
ـــــــ
هذا القبيل" أي: من قبيل النسخ قبل الفعل عند البعض. "وعند البعض ليس بنسخ فإن الاستخلاف لا يكون نسخا"; لأن الاستخلاف لا يكون إلا مع تقرير الأصل على ما كان "وإنما أمر بذبح الولد ابتلاء على القولين فإن قيل الأمر بالفداء حرم الأصل فيكون نسخا" هذا إشكال على مذهب من يقول: إن ذبح إبراهيم عليه السلام ليس بنسخ "قلنا لما قام الغير مقامه عاد الحرمة الأصلية".
................................................................................................
تمكن من الذبح, وإنما امتنع لمانع من الخارج. وأما كونه قبل الفعل فالنسخ لا يكون إلا كذلك إذ لا يتصور نسخ ما مضى. ولذا قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سياق بل الغرض أنه إذا فرض ورود الأمر بشيء فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به ما يتسع لفعل المأمور به. والحاصل أنه إذا وقع التكليف بفعل ظاهر في الاستمرار, فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يؤتى بشيء من جزئياته كما لو قال: حجوا هذه السنة وصوموا غدا ثم قال قبل مجيء وقت الحج والغد: لا تحجوا أو لا تصوموا, وذهب بعضهم إلى أنه ليس بنسخ إذ لا رفع هنا, ولا بيان للانتهاء, وإنما استخلاف, وجعل ذبح الشاة بدلا عن ذبح الولد إذ الفداء اسم لما يقوم مقام الشيء في قبول ما يتوجه إليه من المكروه يقال: فديتك نفسي أي: قبلت ما يتوجه عليك من المكروه. ولو كان ذبح الولد مرتفعا لم يحتج إلى قيام شيء مقامه وحيث قام الخلف مقام الأصل لم يتحقق ترك المأمور به حتى يلزم الإثم فإن قيل هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أعني ذبح الولد, وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة. فجوابه: أنا لا نسلم كونه نسخا, وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا, وهو ممنوع, فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد, فلا يكون حكما شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب.
قوله: "لا القياس"; لأن شرطه التعدي إلى فرع لا نص فيه.
قوله: "فلا نسخ حينئذ" أي: بعد النبي عليه السلام; لأن الأحكام صارت مؤبدة بانقطاع الوحي, ولا يخفى أن هذا مختص بالأحكام المنصوصة فإن قيل قد سقط نصيب المؤلفة قلوبهم بالإجماع المنعقد في زمن أبي بكر وثبت حجب الأم عن الثلث إلى السدس بالأخوين بالإجماع مع دلالة(2/72)
وأما الناسخ فهو إما الكتاب أو السنة لا القياس على ما يأتي ولا الإجماع لأنه إن كان في حياة النبي عليه السلام يكون من باب السنة لأنه متفرد ببيان الشرائع وإن كان بعده فلا نسخ حينئذ فيكون أربعة أقسام نسخ الكتاب بالكتاب أو السنة بالسنة أو الكتاب بالسنة أو بالعكس وقال الشافعي رحمه الله تعالى بفساد الأخيرين لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} والسنة دونه وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} ولقوله عليه السلام: "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله" الحديث ولأنه إن نسخ الكتاب بالسنة يقول الطاعن خالف النبي عليه السلام ما يزعم أنه كلام ربه وإن نسخ السنة بالكتاب يقول كذبه ربه فلا ربه فلا نصدقه فالتعاون بينهما أولى واحتج
ـــــــ
"وأما الناسخ فهو إما الكتاب أو السنة لا القياس على ما يأتي ولا الإجماع; لأنه إن كان في حياة النبي عليه السلام يكون من باب السنة; لأنه متفرد ببيان الشرائع, وإن كان بعده, فلا نسخ حينئذ فيكون أربعة أقسام نسخ الكتاب بالكتاب أو السنة بالسنة أو الكتاب بالسنة أو بالعكس, وقال الشافعي رحمه الله تعالى بفساد الأخيرين لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} " دليل على امتناع نسخ الكتاب بالسنة "والسنة دونه" أي: دون الكتاب. "وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} ولقوله عليه السلام: "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله" الحديث" أوله قوله عليه السلام: "يكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه, وإن خالفه فردوه". "ولأنه إن نسخ الكتاب بالسنة يقول الطاعن خالف النبي عليه السلام ما يزعم أنه كلام ربه, وإن نسخ السنة
................................................................................................
النص على أنها إنما تحجب بالإخوة دون الأخوين. قلنا نصيب المؤلفة سقط لسقوط سببه لا لورود دليل شرعي على ارتفاعه, ودلالة النص على عدم الحجب بالأخوين تبتنى على كون المفهوم حجة وكون أقل الجمع ثلاثة, ولا قطع بذلك وذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى في باب الإجماع أن نسخ الإجماع بالإجماع جائز وكأنه أراد أن الإجماع لا ينعقد ألبتة بخلاف الكتاب, والسنة, فلا يتصور أن يكون ناسخا لهما, ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع ناسخ له, والجمهور على أنه لا ينسخ, ولا ينسخ به; لأنه لا يكون إلا عن دليل شرعي, ولا يتصور حدوثه بعد النبي عليه السلام, ولا ظهوره لاستلزامه إجماعهم أولا على الخطأ مع لزوم كونه على خلاف النص, وهو غير منعقد. فإن قيل لم لا يجوز أن يكون سند الإجماع الثاني قياسا قلنا; لأن شرط صحة القياس عدم مخالفة الإجماع, ولهذا لا يجوز أن يكون المنسوخ بالإجماع هو القياس; لأن انتفاء الشيء بانتفاء شرطه ليس من باب النسخ ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الإجماع المخالف للنص خطأ, وإنما يكون كذلك لو لم يكن مستندا إلى نص راجح على النص الأول الذي نجعله منسوخا به لا يقال: فحينئذ يكون الناسخ هو النص الراجح لا الإجماع; لأنا نقول يجوز أن لا يعلم تراخي ذلك النص, فلا يصح جعله ناسخا بخلاف الإجماع المبني عليه فإنه يكون متراخيا لا محالة فيصلح ناسخا.(2/73)
بعض أصحابنا بأنه نسخ قوله تعالى الوصية للوالدين والأقربين بقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" وبعضهم بأن قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ..} الآية نسخ بقوله عليه السلام: "الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" ولكن هذا فاسد لأن الوصية للوارث نسخت بآية المواريث إذ في الأول فوضها إلينا ثم تولى بنفسه بيان حق كل منهم وإلى هذا أشار بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}, وقال عليه السلام: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" ولأن عمر قال: إن الرجم كان مما يتلى في كتاب الله تعالى فقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} لم ينسخ بقوله عليه السلام: "الثيب بالثيب" بل نسخ بالكتاب وهو
ـــــــ
بالكتاب يقول كذبه ربه, فلا نصدقه فالتعاون بينهما أولى, واحتج بعض أصحابنا" أي: على جواز نسخ الكتاب بالسنة "بأنه نسخ قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} " أول الآية قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} "بقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث", وبعضهم بأن قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} الآية" أول الآية قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} نسخ بقوله عليه السلام: "الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" ولكن هذا فاسد "أي: ما مر من الاحتجاجين لبعض أصحابنا فاسد فاستدل على فساد الاحتجاج الأول بقوله" لأن الوصية للوارث نسخت بآية المواريث إذ في الأول فوضها إلينا ثم تولى بنفسه بيان حق كل منهم, وإلى هذا أشار بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}, قال عليه السلام : "إن الله أعطى كل ذي حق حقه, فلا وصية لوارث" "ثم استدل على فساد الاحتجاج الثاني بقوله:": ولأن عمر قال: إن الرجم كان مما يتلى في كتاب الله تعالى فقوله: تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} لم ينسخ بقوله عليه السلام: "الثيب بالثيب" بل نسخ بالكتاب, وهو قوله تعالى: "الشيخ والشيخة إذا
........................................................................
قوله: "وإلى هذا" يعني أشار بقوله: تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} إلى أن الإيصاء الذي فوض إلى العباد قد تولاه بنفسه لعلمه بجهل العباد, وعجزهم عن معرفة مقاديره فصار بيان المواريث كأنه الإيصاء, وكذا الفاء في قوله عليه السلام: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه, فلا وصية لوارث" مشعر بأن ارتفاع وصية الوارث إنما هو بسبب شرعية الميراث كما يقال: زارني فأكرمته. وقد يقال: إن الثابت بآية المواريث وجوب حق بطريق الإرث, وهو لا ينافي ثبوت حق آخر بطريق آخر, فلا رافع للوصية إلا السنة, وذكر الإمام السرخسي أن المنفي بآية المواريث إنما هو وجوب الوصية لا جوازها, والجواز إنما انتفى بقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" 1 ضرورة نفي أصل
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 6. أبو داود في متاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. النسائي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 6. الدارمي في كتاب الوصايا باب 28. احمد في مسنده 4/186، 187.(2/74)
قوله تعالى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وكان هذا مما يتلى في كتاب الله تعالى فنسخ تلاوته وبقي حكمه.
والحجة أنه عليه السلام حين كان بمكة يصلي إلى الكعبة وبعدما قدم إلى المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس فالأول أن كان بالكتاب نسخ بالسنة والثاني كان بالسنة ثم نسخ بالكتاب وقالت عائشة رضي الله عنها: ما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أباح الله له من النساء ما شاء ولأنه عليه السلام بعث مبيناً فجاز له بيان مدة حكم الكتاب
ـــــــ
زنيا فارجموهما, وكان هذا مما يتلى في كتاب الله تعالى فنسخ تلاوته وبقي حكمه.
"والحجة: أنه عليه السلام حين كان بمكة يصلي إلى الكعبة وبعدما قدم إلى المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس فالأول إن كان بالكتاب نسخ بالسنة, والثاني كان بالسنة ثم نسخ بالكتاب". واعلم أنه عليه السلام لما كان بمكة كان يتوجه إلى الكعبة, ولا يدرى أنه كان بالكتاب أو بالسنة ثم لما قدم إلى المدينة توجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا, وليس هذا بالكتاب بل بالسنة ثم نسخ هذا بالكتاب, وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فنسخ السنة بالكتاب متيقن به أما نسخ الكتاب بالسنة في هذه القضية فمشكوك فيه وحديث عائشة رضي الله عنها دليل على نسخ الكتاب بالسنة, وهو قوله: "وقالت عائشة رضي الله عنها: ما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أباح الله له من النساء ما شاء" فتكون السنة ناسخة لقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}. "ولأنه عليه السلام بعث مبينا فجاز له بيان مدة حكم الكتاب بوحي غير متلو, ويجوز أن يبين الله بوحي
................................................................................................
الوصية لكن لا يخفى أن جوازها ليس حكما شرعيا بل إباحة أصلية, والثابت بالكتاب إنما هو الوجوب المرتفع بآية المواريث, فلا يكون هذا من نسخ الكتاب بالسنة.
قوله: "وكان هذا مما يتلى في كتاب الله تعالى" يعني أن حكم قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} قد نسخ بقوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله", فهذا منسوخ التلاوة دون الحكم, وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} بالعكس ومنسوخ التلاوة, وإن لم يكن قرآنا متواترا متلوا مكتوبا في المصاحف لكنه يجعل من قسم الكتاب لا السنة, ولذا قال عمر: لولا أنني أخشى أن يقال: زاد عمر في القرآن ما ليس منه لألحقت الشيخ والشيخة إلخ بالمصحف.
قوله: "فنسخ السنة بالكتاب" متيقن فيه بحث إذ لا دليل على كون التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنة سوى أنه غير متلو في القرآن, وهو لا يوجب اليقين كالتوجه إلى الكعبة قبل التوجه إلى(2/75)
بوحي غير متلو ويجوز أن يبين الله بوحي متلو مدة حكم ثبت بوحي غير متلو وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ} فيما يرجع إلى مصالح العباد دون النظم وإن سلم هذا لكنها إنما نسخ حكمه لا نظمه وهما في الحكم مثلان وليس ذلك من تلقاء نفسه عليه السلام لقوله تعالى إن هو إلا وحي يوحي وقوله عليه الصلاة والسلام: "فاعرضوه على كتاب الله" إذا أشكل تاريخه أو لم يكن في الصحة بحيث ينسخ به الكتاب بدليل سياق الحديث.
وما ذكر من الطعن فإنه في نسخ الكتاب والسنة بالسنة وارد فإن من هو مصدق يتيقن أن الكل من عند الله ومن هو مكذب يطعن في الكل ولا اعتبار بالطعن الباطل وفيما ذكرنا إعلاء منزلة الرسول عليه السلام وتعظيم سنته ونظائر نسخ الكتاب
ـــــــ
متلو مدة حكم ثبت بوحي غير متلو وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ} أي: فيما يرجع إلى مصالح العباد دون النظم, وإن سلم هذا لكنها إنما نسخ حكمه لا نظمه, وهما في الحكم مثلان" أي: إن سلم: أن المراد الخيرية من حيث النظم فالسنة لا تنسخ نظم الكتاب فإن الأحكام المتعلقة بالنظم باقية كما كانت بل تنسخ حكمه والكتاب والسنة في إثبات الحكم مثلان, وإن الكتاب راجح في النظم بأن نظمه معجز وتثبت بنظمه أحكام كالقراءة في الصلاة ونحوها. "وليس ذلك من تلقاء نفسه عليه السلام لقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} " أي: ليس نسخ الكتاب بالسنة من تلقاء نفسه, وهذا جواب عن قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}. "وقوله عليه الصلاة والسلام: "فاعرضوه على كتاب الله" إذا أشكل تاريخه أو لم يكن في الصحة بحيث ينسخ به الكتاب بدليل سياق الحديث", وهو قوله عليه السلام: "يكثر الأحاديث من بعدي".
"وما ذكر من الطعن فإنه في نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة وارد فإن من هو مصدق يتيقن أن الكل من عند الله ومن هو مكذب يطعن في الكل, ولا اعتبار بالطعن الباطل, وفيما ذكرنا إعلاء منزلة الرسول عليه السلام وتعظيم سنته ونظائر نسخ الكتاب بالكتاب كثيرة" كنسخ الوصية للوالدين بآية المواريث ونسخ الكتاب بالسنة ما روت عائشة رضي
................................................................................................
بيت المقدس فإنه لا يعلم كونه ثابتا بالكتاب أو السنة مع أنه لا يتلى في القرآن للقطع بأن آية التوجه إلى المسجد الحرام إنما نزلت بعد التوجه إلى بيت المقدس بالمدينة فإن قيل التوجه إلى بيت المقدس من شرائع من قبلنا, وهي ثابتة بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قلنا قد ظهر انتساخه بالسنة حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام يتوجه بمكة إلى الكعبة.
قوله: "وحديث عائشة رضي الله عنها دليل على نسخ الكتاب بالسنة" فيه بحث لعدم النزاع في أن الكتاب لا ينسخ بخبر الواحد فكيف بمجرد إخبار الراوي من غير نقل حديث في ذلك على أن(2/76)
بالكتاب كثيرة ونسخ السنة بالسنة بقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" الحديث مسألة يجوز أن يكون الناسخ أشق عندنا لأن في ابتداء الإسلام كل من عليه الصيام كان مخيراً بين الصوم والفدية ثم صار الصوم حتماً وعند البعض لا يصح إلا بالمثل أو الأخف لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} الآية قلنا الأشق قد يكون خيراً لأن فيه فضل الثواب. مسألة لا ينسخ المتواتر بالآحاد وينسخ بالمشهور لأنه من حيث
ـــــــ
الله تعالى عنها ما قبض النبي عليه السلام حتى أباح الله له من النساء ما شاء فيكون قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} منسوخا بالسنة ونسخ السنة بالكتاب نسخ التوجه إلى بيت المقدس بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} "ونسخ السنة بالسنة بقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها". الحديث".
مسألة يجوز أن يكون الناسخ أشق عندنا; لأن في ابتداء الإسلام كل من عليه الصيام كان مخيرا بين الصيام والفدية ثم صار الصوم حتما وعند البعض لا يصح إلا بالمثل أو الأخف لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} الآية. قلنا الأشق قد يكون خيرا; لأن فيه فضل الثواب مسألة لا ينسخ المتواتر بالآحاد وينسخ بالمشهور لأنه من حيث إنه بيان يجوز بالآحاد ومن حيث إنه تبديل يشترط التواتر فيجوز بما هو متوسط بينهما أي: بين المتواتر وخبر الآحاد وهو المشهور..
"وأما المنسوخ فهو إما الحكم والتلاوة معا قالوا وقد يرفعان بموت العلماء أو بالإنساء كصحف إبراهيم عليه السلام والإنساء كان للقرآن في زمن النبي عليه السلام قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فأما بعد وفاته فلا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وإما الحكم فقط وإما التلاوة فقط ومنعه البعض; لأن النص بحكمه, والحكم بالنص فلا انفكاك بينهما ولنا قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} نسخ حكمه وبقي تلاوته ونظائره كثيرة" كوصية الوالدين وسورة الكافرين ونحوهما "ونسخ قراءة ابن مسعود" وهي ثلاثة أيام متتابعات مع بقاء حكمه; ولأن حكمه "أي: حكم النص" على قسمين: أحدهما: يتعلق
..........................................................................................
ولها "حتى أباح الله له" ظاهر في أنه كان بالكتاب حتى قيل إنه قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} وأشار الشيخ أبو اليسر إلى أن حرمة الزيادة على التسع حكم لا يحتمل النسخ; لأن قوله تعالى: {مِنْ بَعْدُ} بمنزلة التأبيد إذ البعدية المطلقة تتناول الأبد.
قوله: "وليس ذلك من تلقاء نفسه" فإن قلت: هل يجوز أن يكون بالاجتهاد قلت هو راجع إلى الوحي حيث أذن الله تعالى له بالاجتهاد من غير أن يقره على الخطأ.
قوله: "بدليل سياق الحديث" فإنه يدل على أن المراد خبر لا يقطع بصحته حيث لم يقل فإذا سمعتم مني, وقيل: هذا الحديث مما يخالف كتاب الله تعالى الدال على وجوب اتباع الحديث مطلقا.(2/77)
أنه بيان يجوز بالآحاد ومن حيث أنه تبديل يشترط التواتر فيجوز بما هو متوسط بينهما وأما المنسوخ فهو أما الحكم والتلاوة معاً قالوا وقد يرفعان بموت العلماء أو بالإنساء كصحف إبراهيم عليه السلام والإنساء كان للقرآن في زمن النبي عليه السلام قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فأما بعد وفاته فلا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فلا انفكاك بينهما ولنا قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} نسخ حكمه وبقي تلاوته ونظائره كثيرة ونسخ قراءة ابن مسعود وهي ثلاثة أيام متتابعات مع حكمه ولأن حكمه على قسمين أحدهما يتعلق بمعناه والآخر بنظمه كالإعجاز وجواز الصلاة وحرمته للجنب والحائض فيجوز أن ينسخ أحدهما بدون الآخر.
وأما وصف الحكم فقد اختلفوا أن الزيادة على النص أم لا وذكروا أنها إما بزيادة جزء كزيادة ركعة على ركعتين أو شرط كالإيمان في الكفارة وإما برفع مفهوم
ـــــــ
بمعناه. والآخر: بنظمه كالإعجاز وجواز الصلاة وحرمته للجنب, والحائض فيجوز أن ينسخ أحدهما بدون الآخر.
"وإما وصف الحكم" عطف على قوله وإما الحكم فقط, وإما التلاوة فقط "فقد اختلفوا أن الزيادة على النص نسخ أم لا وذكروا أنها إما بزيادة جزء كزيادة ركعة على ركعتين
................................................................................................
قوله: "وأما المنسوخ" لا يخفى أن هذا التفصيل إنما هو في منسوخ الكتاب إذ الحديث ليس الوحي المتلو حتى يكون منسوخ التلاوة بل لا يجري النسخ إلا في حكمه, والمراد بالحكم هاهنا ما يتعلق بمعنى الكتاب لا بنظمه.
قوله: "قالوا وقد يرفعان" بحث استطرادي يعني: كما يرفع الحكم والتلاوة بدليل شرعي حتى يكون نسخا وقد يرفعان بغير ذلك وتحقيقه أن المراد بالحكم هو العلم بالوجوب ونحوه, ولا خفاء في ارتفاع ذلك بموت العلماء أو بإذهاب الله تعالى ذلك العلم عن قلوبهم وفيه بحث; لأن الحكم غير العلم, والعلم إنما يقوم بالروح وهو لا يفنى بالموت فلذا أحال هذا البحث على غيره.
"قوله {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} " يدل على ثبوت النسيان في الجملة; لأن الاستثناء من النفي إثبات إشارة وإن لم يكن كذلك عبارة, وذلك مثل ما روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة.
قوله: "فقد اختلفوا أن الزيادة على النص نسخ أم لا" يعني: أن الزيادة إن كانت عبادة مستقلة كزيادة صلاة سادسة مثلا فلا نزاع بين الجمهور في أنها لا تكون نسخا, وإنما النزاع في غير المستقل,(2/78)
المخالفة كما لو قال في العلوفة زكاة بعد قوله: "في السائمة زكاة" وهي نسخ عندنا ويجب استثناء الثالث إذ لا نقول بالمفهوم وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا مطلقاً وقيل نسخ في الثالث وقيل نسخ إن غيرت الأصل حتى لو أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة كزيادة ركعة في الفجر وعشرين في حد القذف مثلاً والتخيير في الثلاثة بعدما كان في الاثنين كالشاهد واليمين الإعادة وقيل إن صار الكل شيئاً واحداً كان نسخاً كزيادة ركعة لا كالوضوء في الطواف واختار البعض قول أبي الحسين وأنه
ـــــــ
أو شرط كالإيمان في الكفارة. وإما برفع مفهوم المخالفة كما لو قال في العلوفة زكاة بعد قوله: "في السائمة زكاة" وهي نسخ عندنا" أي: الزيادة على النص نسخ عندنا "ويجب استثناء الثالث إذ لا نقول بالمفهوم" أي: بمفهوم المخالفة. اعلم أن في المحصول وأصول ابن الحاجب ذكر أن الزيادة على النص إما بزيادة الجزء, أو بزيادة الشرط أو بزيادة ما يرفع مفهوم المخالفة وذكر الخلاف في كل واحد من هذه الثلاثة, وهو أن الزيادة نسخ عند أبي حنيفة رحمه
................................................................................................
ومثلوا له بزيادة جزء أو شرط أو زيادة ما يرفع مفهوم المخالفة, واختلفوا فيه على ستة مذاهب: "الأول" أنه نسخ, وإليه ذهب علماء الحنفية. "الثاني" أنه ليس بنسخ, وإليه ذهب الشافعية. "الثالث" إن كانت الزيادة ترفع مفهوم المخالفة فنسخ, وإلا فلا. "الرابع" إن غيرت الزيادة المزيد عليه بحيث صار وجوده كالعدم شرعا فنسخ, وإلا فلا, وإليه ذهب القاضي عبد الجبار. "الخامس" إن اتحدت الزيادة مع المزيد عليه بحيث يرتفع التعدد والانفصال بينهما, وإلا فلا. "السادس" أن الزيادة إن رفعت حكما شرعيا بعد ثبوته بدليل شرعي فنسخ, وإلا فلا, والظاهر أن قولهم بدليل شرعي, وإنما ذكر لزيادة البيان, والتأكيد سواء تعلق بقوله رفعت أو بثبوته; لأن الزيادة على النص الرافعة لحكم شرعي لا تكون إلا بدليل شرعي. وكذا ثبوت الحكم الشرعي ثم لا يخفى أن الدليل الذي تثبت به الزيادة يجب أن يكون مما يصلح ناسخا.
هذا تفصيل المذاهب على ما في أصول ابن الحاجب, وللمصنف رحمه الله تعالى عليه مؤاخذتان: إحداهما: أنه يجب إخراج مفهوم المخالفة عن محل الخلاف مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى; لأنه لا يقول به فلا يتصور رفعه وأنت خبير بأنه لا مؤاخذة في ذلك على ابن الحاجب لما علم من عادته في الاختصار بالسكوت عما هو معلوم فهو في حكم المستثنى. والثانية: أن ابن الحاجب أورد الزيادة التي تغير المزيد عليه بحيث يصير وجوده كالعدم بثلاثة أمثلة: الأول: زيادة ركعة في صلاة الفجر. والثاني: زيادة عشرين جلدة على ثمانين في حد القذف. والثالث: التخيير في ثلاثة أمور بعد التخيير في أمرين كما يقال صم أو اعتق ثم يقال صم أو اعتق أو أطعم, وقد فسر في المحصول وغيره تغيير الأصل بحيث يصير وجوده كالعدم بأن يكون الأصل أعني: المزيد عليه بحيث لو يؤتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة والاستئناف. ولا يخفى أن هذا إنما يستقيم في المثال الأول إذ لو فرضنا كون الفجر ثلاث ركعات فمن صلى ركعتين وسلم تجب عليه إعادة الصلاة بركعاتها الثلاث بخلاف المثالين الأخيرين إذ لو اقتصر على ثمانين جلدة لا تجب إلا زيادة عشرين من غير إعادة للثمانين, وكذا لو أتى بأحد الأمرين الأولين أعني: الصوم, أو الإعتاق كان(2/79)
لا شك أن الزيادة تبدل شيئاً فإن كان حكماً شرعياً تكون نسخاً وإلا نحو أن يكون عدماً أصلياً فلا ولنا أن زيادة الجزء إما بالتخيير في اثنين أو ثلاثة بعدما كان الواجب واحد أو واحد اثنين فترفع حرمة الترك بإيجاب شيء زائد فترفع أجزاء الأصل كزيادة الشرط.
ـــــــ
الله تعالى فأقول يجب استثناء الثالث فإن الزيادة بما يرفع مفهوم المخالفة لا تكون نسخا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بناء على أنه لا يقول بمفهوم المخالفة "وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا مطلقا, وقيل: نسخ في الثالث, وقيل: نسخ إن غيرت الأصل حتى لو أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة كزيادة ركعة في الفجر وعشرين في حد القذف مثلا, والتخيير في الثلاثة بعد ما كان في الاثنين كالشاهد واليمين" كان في الكتاب التخيير بين الاثنين بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين فزاد الشافعي رحمه الله تعالى أمرا ثالثا, وهو الشاهد ويمين المدعي لكن الأخيرين لا يستقيمان على هذا التفسير. اعلم أن ابن الحاجب أورد هنا ثلاثة أمثلة: فالأول: هو زيادة ركعة في الفجر مثلا, وهذا المثال مستقيم; لأنه على تقدير الزيادة إن أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة, والمثالان الأخيران وهما زيادة عشرين في حد القذف والشاهد واليمين لا يستقيمان على هذا التفسير فإنه فسر تغيير الأصل بأنه لو أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة. وإنما قلنا إنهما لا يستقيمان على هذا التفسير; لأن في هاتين الصورتين إن أتى به كما هو قبل الزيادة لا تجب الإعادة "وقيل: إن صار الكل شيئا واحدا كان نسخا كزيادة ركعة لا كالوضوء في الطواف, واختار البعض قول أبي الحسين" وذكر في المحصول وأصول ابن الحاجب أن المختار قول أبي الحسين, وهو: أنه "لا شك أن الزيادة تبدل شيئا فإن كان" أي: الشيء المبدل "حكما شرعيا تكون نسخا وإلا نحو أن يكون
................................................................................................
كافيا من غير وجوب شيء آخر عليه, وإن اقتصر في تفسير تغيير الأصل على ما ذكره ابن الحاجب وهو أن يصير وجود المزيد عليه بمنزلة العدم, فالمثال الثاني مستقيم إذ الثمانون بمنزلة العدم في أنه لا يحصل بها إقامة الحد. ويبقى الإشكال في المثال الثالث; لأن أحد الأمرين لا يكون بمنزلة العدم على تقدير التخيير بين ثلاثة أمور بل يحصل الإتيان بالمأمور به على تقدير الإتيان بأحد الأمرين الأولين, وغاية توجيهه ما ذكره بعض المحققين, وهو أن ترك الأولين مع فعل الثالث غير محرم وقد كان محرما قبل الزيادة فهو كالعدم في انتفاء الحرمة عنها.
واعلم أن المثال الثاني أعني: زيادة عشرين على الثمانين ليس من قبيل النسخ عند القاضي فإن المثال الثالث نسخ عنده لكن لا من حيث دخوله في ضابط تغيير الأصل بل من حيث إن مذهبه هو أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه بحيث يصير وجوده كالعدم ويلزم استئنافه, أو كانت زيادة فعل ثالث بعد التخيير بين الفعلين فنسخ, وإلا فلا كزيادة عشرين على ثمانين صرح بذلك الآمدي في الأحكام حيث قال: ومنهم من قال: إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث صار(2/80)
والكل حكم شرعي مستفاد من النص وأيضاً المطلق يجري على إطلاقه كما ذكرنا قالوا حرمة الترك التي يرفعها التخيير ليست بحكم شرعي لأن حرمة الترك لهذا الواجب الواحد إنما ثابتة إذا لم يكن شيء آخر خلفاً عنه والأصل عدمه فلهذا يثبت التخيير بين غسل الرجل ومسح الخف بخبر الواحد وكذا بين التيمم والوضوء بالنبيذ فعلى هذا لا يكون الشاهد واليمين ناسخاً لقوله تعالى فإن لم يكونا رجلين قلنا حرمة الترك تثبت بلفظ النص عند عدم الخلف لا به.
ـــــــ
عدما أصليا فلا. ولنا أن زيادة الجزء إما بالتخيير في اثنين أو ثلاثة بعد ما كان الواجب واحدا أو واحد اثنين فترفع حرمة الترك, وإما بإيجاب شيء زائد فترفع أجزاء الأصل كزيادة الشرط" هذا دليل على أن الزيادة نسخ كما هو مذهب أبي حنيفة, رحمه الله تعالى.
وتقريره أن الزيادة المختلف فيها بيننا وبينهم زيادة الجزء وزيادة الشرط, أما زيادة الجزء فإنما تكون بثلاثة أمور: الأول بالتخيير في اثنين بعدما كان الواجب واحدا فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك ذلك الواجب الواحد. والثاني بالتخيير في الثلاثة بعد ما كان الواجب أحد اثنين فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك أحد هذين الاثنين, والثالث: بإيجاب شيء زائد فالزيادة
................................................................................................
المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حسب ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه, ووجب استئنافه كزيادة ركعة على ركعتي الفجر كان ذلك نسخا. أو كان قد خير بين فعلين فزيد فعل ثالث فإنه يكون نسخا لتحريم ترك الفعلين السابقين, وإلا فلا وذلك كزيادة التغريب على الجلد وزيادة عشرين جلدة على حد القاذف وزيادة شرط منفصل في شرائط الصلاة كاشتراط الوضوء وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار هذه عبارة الأحكام وفي معتمد الأصول أنه قال قاضي القضاة: إن الزيادة إذا كانت مغيرة حكم المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث لو فعل المزيد عليه بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعل قبلها لم يجزه, ولزم استئنافه كانت نسخا, وإن فعل بعد الزيادة يصح ولم يلزم استئنافه, وإنما يجب ضم شيء آخر إليه لم يكن نسخا, وقال لو خيرنا الله تعالى بين واجبين لكانت زيادة ثالث نسخا لقبح تركهما فظهر أن في نقل ابن الحاجب خللا بينا.
قوله: "فإنه فسر" ينبغي أن يكون بلفظ المبني للمفعول; لأن ابن الحاجب لم يفسره بهذا التفسير.
قوله: "فترفع أجزاء الأصل" قيل: معنى الإجزاء امتثال الأوامر, والخروج عن العهدة, ودفع وجوب القضاء وذلك ليس بحكم شرعي, ولو سلم فالامتثال بفعل الأصل لم يرتفع, وما ارتفع وهو عدم توقفه على شيء آخر ليس بنسخ; لأنه مستند إلى العدم الأصلي فالأولى أن يقال إنه نسخ لتحريم الزيادة على الركعتين مثلا, وأيضا قيل: إن التخيير بين الاثنين معناه وجوب أحدهما لا بعينه وهو ليس بمرتفع, والمرتفع وهو عدم قيام غيرهما مقامهما ثابت لحكم النفي الأصلي فلا يكون رفعه نسخا.(2/81)
هنا ترفع أجزاء الأصل, وأما زيادة الشرط فإنها ترفع أجزاء الأصل, وهذا ما قال في المتن كزيادة الشرط. "والكل حكم شرعي مستفاد من النص, وأيضا المطلق يجري على إطلاقه كما ذكرنا" أي: حرمة ترك الواجب الواحد, وحرمة ترك أحد اثنين وأجزاء الأصل أحكام شرعية. "قالوا: حرمة الترك التي يرفعها التخيير ليست بحكم شرعي; لأن حرمة الترك لهذا الواجب الواحد إنما كانت ثابتة إذا لم يكن شيء آخر خلفا عنه والأصل عدمه" قد ذكرنا أن التخيير يرفع حرمة الترك, وهي حكم شرعي وهم يقولون حرمة الترك التي يرفعها التخيير ليست بحكم شرعي; لأن حرمة الترك لهذا الواجب إنما كانت ثابتة إذا لم يكن شيء آخر خلفا عن ذلك الواجب الواحد أما إذا كان شيء آخر خلفا عن ذلك الواجب الواحد لا يكون تركه حراما فعلم أن حرمة تركه مبنية على عدم الخلف وعدم الخلف عدم أصلي فكل حق مبني على عدم أصلي لا يكون حكما شرعيا, فحرمة ترك ذلك الواجب لا تكون حكما شرعيا فرفعها لا يكون نسخا. "فلهذا" أي: لأجل أن حرمة الترك التي ترى فيها التخيير ليست بحكم شرعي "يثبت التخيير بين غسل الرجل ومسح الخف بخبر الواحد, وكذا بين التيمم والوضوء بالنبيذ فعلى هذا لا يكون الشاهد واليمين ناسخا لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} " هذا تفريع على مذهب أبي الحسين فنص الكتاب أوجب غسل الرجلين على التعيين فيمكن أن يثبت التخيير بين غسل الرجلين ومسح الخف بخبر الواحد. وأيضا أوجب النص التيمم على التعيين عند عدم الماء فيمكن أن يثبت بخبر الواحد التخيير بين التيمم, والوضوء بالنبيذ عند عدم الماء, وأيضا النص أوجب رجلا وامرأتين عند عدم الرجلين فيمكن أن يثبت بخبر الواحد التخيير بين رجل وامرأتين, وبين اليمين والشاهد. "قلنا حرمة الترك تثبت بلفظ النص عند عدم الخلف لا به" أي: لا بعدم الخلف يعني: عدم الخلف ليس علة لحرمة الترك بل النص علة لحرمة الترك لكن عند عدم الخلف فيكون حرمة الترك حكما شرعيا, ولو كان
................................................................................................
قوله: "وأيضا المطلق" يعني: أن الإطلاق معنى مقصود له حكم معلوم وهو الجواز بما يطلق عليه الاسم, وإن لم يشتمل على القيد وحكم المقيد الجواز بما اشتمل على المقيد, ويستلزم عدم الجواز بدونه فثبوت حكم أحدهما يوجب انتفاء حكم الآخر فيكون نسخا, وفيه بحث; لأنه إن أراد أن المقيد يستلزم عدم الجواز بدون القيد بحسب دلالة اللفظ فهو قول بمفهوم المخالفة, وإن أراد بحسب العدم الأصلي فهو لا يكون حكما شرعيا.
قوله: "ولو كان الأمر كما توهم" أي: لو كان التوقف على عدم الخلف موجبا لكون الحكم غير شرعي لزم أن لا يكون شيء من الأحكام شرعيا; لأن وجوب كل شيء, وحرمة تركه يبتنى على عدم الخلف, وفيه نظر; لأن ثبوت الخلف لا ينافي الوجوب غاية ما في الباب أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان معا في شخص واحد, فيكون فرضية الصلاة, والصوم مثلا ثابتة بالنص, وحرمة تركهما موقوفة على عدم الخلف, وأيضا لا معنى لتوقف حرمة الزنا والسرقة ونحو ذلك على عدم الخلف فمن أين يلزم نفي الحكم الشرعي على تقدير أن لا يكون المتوقف على عدم الخلف حكما شرعيا؟(2/82)
وأيضاً التخيير ليس باستخلاف إذ في الأول الواجب أحدهما وفي الثاني الأصل لكن الخلف كأنه هو فلا يكون نسخاً وإن كان ففي المسح والنبيذ ثبت بخبر مشهور وقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي فالواجب هذا فيكون الشاهد واليمين ناسخاً فلا يزاد التغريب على الجلد والنية والترتيب والولاء على الوضوء وهو على الطواف والفاتحة
ـــــــ
الأمر كما توهم لم يكن شيء من الأحكام الواجبة حكما شرعيا إذ يمكن أن يقال حرمة ترك الصلاة والصوم وغيرهما مبنية على عدم الخلف وأيضا وجوبهما.
"وأيضا التخيير ليس باستخلاف إذ في الأول الواجب أحدهما, وفي الثاني الأصل لكن الخلف كأنه هو فلا يكون" أي: الاستخلاف "نسخا وإن كان ففي المسح والنبيذ ثبت بخبر مشهور" أي: وإن كان الاستخلاف نسخا ففي مسألة المسح على الخفين والوضوء بالنبيذ ثبت بخبر مشهور ونسخ الكتاب بالخبر المشهور جائز عندنا. "وقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي: فالواجب هذا فيكون الشاهد واليمين ناسخا" ثم أورد الفروع على أن الزيادة نسخ عندنا وقال: "فلا يزاد التغريب على الجلد, والنية, والترتيب والولاء على الوضوء, وهو" أي: الوضوء "على الطواف, والفاتحة وتعديل الأركان على سبيل الفرضية بخبر الواحد" يرجع إلى الكل "والإيمان على الرقبة بالقياس" أي: لا يزاد قيد الإيمان على الرقبة في كفارة اليمين بالقياس على كفارة القتل. "يرد هنا أنكم زدتم الفاتحة والتعديل بخبر الواحد حتى وجبا, وإنما لم تثبت الفرضية; لأنها لا تثبت بخبر الواحد عندكم" فإن الفرض عندكم ما ثبت لزومه بدليل قطعي والواجب ما ثبت لزومه بدليل ظني فقد زدتم على الكتاب بخبر الواحد ما يمكن أن يزاد به وهو الوجوب, ويمكن أن يجاب بأنا لم نزد الفاتحة والتعديل على وجه يلزم منه نسخ الكتاب; لأنا لم نقل بعدم إجزاء الأصل لولا الفاتحة والتعديل حتى يلزم النسخ حينئذ بل قلنا بالوجوب فقط. بمعنى أنه يأثم تاركهما, وفي هذا المعنى لا يلزم نسخ الكتاب أصلا ولا
................................................................................................
قوله: "وأيضا التخيير" لما جعل الخصم التخيير من قبيل الاستخلاف حتى سوى بين التخيير في رجل وامرأتين وشاهد مع يمين, والتخيير بين الغسل والمسح, وبين التيمم والوضوء بالنبيذ أبطله المصنف رحمه الله تعالى بأن الواجب في التخيير أحد الأمرين أو الأمور لا على التعيين في الاستخلاف واحد معين هو الأصل الذي تعلق به الوجوب أولا كالغسل مثلا, وكالوضوء إلا أن الخلف جعل كأنه عين ذلك الأصل حتى كأنه لم يرتفع فلهذا لم يكن الاستخلاف نسخا بخلاف التخيير فإنه نسخ لحرمة ترك ذلك الأمر الواجب أولا على التعيين.
قوله: "وقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} " خبر مبتدأ محذوف أي: فإن لم يكن رجلان, فالواجب رجل وامرأتان فعلى هذا يكون الحكم بالشاهد واليمين رفعا لذلك الوجوب, وفيه بحث; لأن أصل الاستشهاد ليس بواجب, وإنما التقدير فليشهد رجل وامرأتان أو فالمستشهد رجل وامرأتان, وهذا على تقدير إفادته انحصار الاستشهاد في النوعين لا ينفي صحة الحكم بالشاهد واليمين. والجواب(2/83)
وتعديل الأركان على سبيل الفرضية بخبر الواحد والإيمان على الرقبة بالقياس يرد هنا أنكم زدتم الفاتحة والتعديل بخبر الواحد حتى وجبا وإنما لم تثبت الفرضية لأنها لا تثبت بخبر الواحد عندكم.
ـــــــ
يمكن مثل هذا في الوضوء حتى تكون النية, والترتيب واجبين في الوضوء; لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة بل هو شرط للصلاة فلا يمكن أن يكون شيء من أجزائه واجبا لعينه بمعنى أنه يأثم تاركه بل لأجل الصلاة بمعنى أنه لا تجوز الصلاة إلا به فإن قلنا بوجوب النية والترتيب فمعناه أنه لا تصح الصلاة إلا بهما فيلزم من وجوبهما عدم إجزاء الصلاة التي هي الأصل,
................................................................................................
أن قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا} مجمل في حق الشاهد وقد فسر بالنوعين فيلزم الانحصار; لأن التفسير بيان لجميع ما أريد بالمجمل, وأيضا قد نقل الحكم عن المعتاد إذ ما ليس بمعتاد من حضور النساء مجالس القضاء, وهذا دليل على أن غيره ليس بمشروع, وقد يقال: إن غايته الدلالة على انحصار الاستشهاد في النوعين, وعلى أن غيرهما لا يعتبر عند التدين لكنه لا يقتضي عدم صحة القضاء بغير ذلك.
قوله: "فلا يزاد التغريب" بقوله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" 1, والنية بقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" 2, والترتيب بقوله عليه السلام: "ابدءوا بما بدأ الله تعالى به" 3 وبقوله عليه السلام: "لا يقبل الله تعالى صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه, فيغسل وجهه ثم يغسل يديه, ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه", والولاء في غسل أعضاء الوضوء على ما ذهب إليه مالك بما روي "أنه عليه السلام كان يوالي في وضوئه" أو بقوله عليه السلام: "هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به" 4. والوضوء على الطواف بقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور, والطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام" 5 وفرضية الفاتحة بقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" 6 وفرضية تعديل الأركان في الصلاة بقوله عليه السلام لأعرابي خفف في صلاته: "قم فصل
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 4 في الترجمة. مسلم في كتاب الحدود حديث 12- 14. أبو داود في كتاب الحدود باب 23. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 7. الدارمي في كتاب الحدود باب 19 أحمد في مسنده 3/476.
2 رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1 . مسلم في كتاب الإمارة حديث 155 ، أبو داود في كتاب الطلاق باب 11 . النسائي في كتاب الطهارة باب 59 . ابن ماجه في كتاب الزهد باب 26 .
3 رواه أبو داود في كتاب المناسك باب 56. الترمذي في كتاب الحج باب 28. النسائي في كتاب الحج باب 161. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 34. الدارمي في كتاب المناسك باب 34. الموطأ في كتاب الحج حديث 126.
4 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 47.
5 رواه النسائي في كتاب المناسك باب 136 الدارمي في كتاب المناسك باب 32. أحمد في مسنده 3/414 4/64 5/377
6 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 69. الدارمي في كتاب الصلاة باب 36.(2/84)
فصل في بيان الضرورة
وهو أربعة أنواع الأول ما هو في حكم المنطوق مثل قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} يدل على أن الباقي للأب وكذا نصيب المضارب وكذا نصيب رب المال استحساناً للشركة في صدر الكلام.
ـــــــ
وهذا سر أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى جعل في الصلاة واجبات ولم يجعل تلك في الوضوء فلله دره ما أدق نظره في أحكام الشريعة الغراء, وهو الذي أصله ثابت وفروعه في السماء.
"فصل في بيان الضرورة, وهو أربعة أنواع: الأول: ما هو في حكم المنطوق مثل قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} يدل على أن الباقي للأب, وكذا نصيب المضارب" أي: إذا بين تعين الباقي لرب المال قياسا واستحسانا. "وكذا نصيب رب المال استحسانا للشركة في صدر الكلام" أي: إذا بين تعين الباقي للمضارب استحسانا لا قياسا; لأن المضارب إنما يستحق الربح بالشرط, ولم يوجد بخلاف رب المال فإنه يستحق بدونه; لأن الربح نماء ملكه فيكون له حتى إذا فسدت المضاربة يكون كل الربح للمالك, وللمضارب أجر عمله هذا هو وجه القياس. وأما وجه الاستحسان فمذكور في المتن,
................................................................................................
فإنك لم تصل" فإن قيل كيف زيد وجوب الفاتحة والتعديل بخبر الواحد قلنا; لأن الزيادة بطريق الوجوب لا ترفع أجزاء الأصل فلا تكون نسخا فلا تمتنع بخلاف الزيادة بطريق الفرضية بمعنى عدم الصحة بدونها فإنها ترفع حكم الكتاب, وربما يجاب بأن خبر الفاتحة, والتعديل مشهور, والمقصود بالفرضية والوجوب هاهنا فوات الصحة وعدمها إذ لا نزاع في أن شيئا من ذلك لا يكفر جاحده فإن قلت فهلا زيد تغريب العام على سبيل الوجوب قلنا; لأن الخبر فيه غريب مع عموم البلوى ولأنه تحريض على الفساد على ما مر. فإن قلت إذا اقتصر المصلي على الفاتحة تكون فرضا لا محالة فتكون فرضا على الإطلاق إذ لا قائل بالفصل. قلت النزاع فيما شرع فرضا لا فيما يقع فرضا كما إذا اقتصر على سورة البقرة فإنها تقع فرضا, ولم تشرع فرضا بالإجماع فإن قلت فحينئذ تكون الفاتحة فرضا, وواجبا مع أنهما متنافيان ضرورة أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي, والواجب بدليل ظني لا قطعي قلت فرض من حيث كونها قرآنا واجب من حيث خصوصية الفاتحة, وعند تغاير الحيثيتين لا منافاة.
قوله: "بل هو شرط للصلاة" يعني: أن الكلام في كون الوضوء مفتاحا للصلاة, وأما كونه قربة فيفتقر إلى النية بلا خلاف إذ بها تتميز العبادة عن العادة فعلى هذا ينبغي أن تكون النية, والترتيب واجبين في الوضوء على قصد القربة بمعنى أنه لا يكون قربة بدونهما.
قوله: "بمعنى أنه لا تجوز الصلاة إلا به" لقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون واجبا بمعنى أن يكون المصلي آثما باعتبار تركه النية, أو الترتيب في الوضوء مع صحة صلاته كما في ترك الفاتحة وحينئذ لا يلزم النسخ.(2/85)
والثاني ما ثبت بدلالة حال المتكلم كسكوت صاحب الشرع عن تغيير أمر يعاينه يدل على حقيقته وكذا السكوت في موضع الحاجة كسكوت الصحابة عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرورة وكذا سكوت البكر البالغة جعل بياناً لحالها التي توجب الحياء وكذا النكول وطلب منه القضاء بما للمولى جعل بياناً.
ـــــــ
"والثاني: ما ثبت بدلالة حال المتكلم كسكوت صاحب الشرع عن تغيير أمر يعاينه يدل على حقيته وكذا السكوت في موضع الحاجة كسكوت الصحابة عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرور" روي أن عمر رضي الله تعالى عنه حكم فيمن اشترى جارية فاستولدها ثم استحقت برد الجارية على المستحق, ورد قيمة الولد والعقر, وكان شاور عليا رضي الله عنه واشتهر في الصحابة ولم يرده أحد ولم يقض برد قيمة المنافع, ولو كانت واجبة لما حل الإعراض عنه بعدما رفعت إليه القضية, وطلب منه القضاء بما للمولى عليه. "وكذا سكوت البكر البالغة جعل بيانا لحالها التي توجب الحياء, وكذا النكول وطلب منه القضاء بما للمولى جعل بيانا" أي: جعل إقرار الحال في الناكل, وهو أنه امتنع عن أداء ما لزمه, وهو اليمين مع القدرة عليها فيدل
................................................................................................
قوله: "فيلزم من وجوبهما عدم إجزاء الصلاة التي هي الأصل" الأنسب أن يفسر الأصل بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس, ومعنى عدم إجزائه كونه غير كاف في صحة الصلاة وذلك; لأن المراد بالأصل في هذا المقام هو المزيد عليه الذي ترفع الزيادة أجزاءه.
قوله: "ولم يجعل تلك" أي: الواجبات بمعنى أنه يأثم تاركها في الوضوء, وإلا فلا خفاء في أن غسل المرفق, ومقدار الربع في المسح واجب بمعنى اللازم بدليل ظني بحيث لا يكفر جاحده.
قوله: "أصله ثابت" اقتباس لطيف بتغيير يسير مع ما فيه من لطف الإبهام, وذلك أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى اسم أبيه ثابت كما أن قواعد فقهه, وأصوله ثابتة محكمة ونتائج فكره عالية مشتهرة كفروع فقهه.
قوله: "للشركة في صدر الكلام" وهو عقد المضاربة فإنه تنصيص على الشركة في الربح وبيان نصيب أحد الشريكين في المال المشترك بيان لنصيب الآخر فإذا قال علي إن لي نصف الربح فكأنه قال, ولك ما بقي فهو في حكم المنطوق.
وقوله: "بدلالة حال المتكلم" أي: الذي من شأنه التكلم في الحادثة كالشارع, والمجتهد, وصاحب الحادثة.
قوله: "وكذا السكوت في موضع الحاجة" كان الأنسب أن يقدم ذلك ويجعل سكوت صاحب الشرع وسكوت الصحابة وسكوت البكر من أمثلته, فإن الأمر الذي يعاينه الشارع لو لم يكن حقا لاحتيج إلى تغييره ضرورة أن الشارع لا يسكت عن تغيير الباطل.(2/86)
والثالث: ما جعل بياناً لضرورة دفع الغرور كالمولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري يكون إذناً وكذا سكوت الشفيع.
والرابع: ما ثبت لضرورة الكلام نحو له علي مائة ودرهم ومائة ودينار ومائة وقفيز حنطة يكون الآخر بياناً للأول وعند الشافعي رحمه الله تعالى المائة مجملة عليه بيانها كما في مائة وثوب ومائة وشاة لنا أن حذف المعطوف عليه في العدد متعارف للخفة نحو بعت بمائة وعشرة دراهم ونظائرها فيحمل على ذلك فيما هو مقدر بخلاف العبد والثوب على أنهما لا يثبتان في الذمة
ـــــــ
ذلك الامتناع على إقراره بالمدعى; لأنه لا يظن بالمسلم الامتناع عما هو لازم عليه إلا إذا كان محقا في الامتناع, وذلك بأن تكون اليمين كاذبة إن حلف ولا تكون كاذبة إلا أن يكون المدعي محقا في دعواه.
"والثالث: ما جعل بيانا لضرورة دفع الغرور كالمولى يسكت حين يرى عبده يبيع, ويشتري يكون إذنا" دفعا للغرور عن الناس. "وكذا سكوت الشفيع" جعل تسليما; لأنه إن لم يجعل تسليم فإن امتنع المشتري عن التصرف يكون ذلك ضررا له, وإن لم يمتنع وتصرف ثم ينقض الشفيع تصرفه يتضرر المشتري أيضا.
"والرابع: ما ثبت لضرورة الكلام نحو له علي مائة ودرهم ومائة, ودينار ومائة وقفيز حنطة يكون الآخر بيانا للأول وعند الشافعي رحمه الله تعالى المائة مجملة عليه بيانها كما في
................................................................................................
قوله: "وكذا سكوت البكر البالغة جعل بيانا لحالها التي توجب الحياء" وهي الإجازة المنبئة عن الرغبة في الرجال, وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن سكوت البكر في النكاح جعل بيانا لحالها التي توجب ذلك أي: السكوت وهي أي: تلك الحالة هي الحياء, والمقصود أن السكوت جعل بيانا للحياء عن التكلم بما حصل لها من الرضا, والإجازة, وقيل: معناه أنه جعل بيانا لحال يوجب ذلك أي: كونه بيانا وهي الحياء فجعل سكوتها دليلا على ما يمنع الحياء من التكلم به وهو الإجازة, والصواب أن اللازم في قوله لحالها ليست صلة للبيان, وإنما هو تعليل إذ المعنى جعل السكوت بيانا للرضا; لأجل حال في البكر يوجب السكوت وهي الحياء عن إظهار الرغبة في الرجال ومعنى عبارة المصنف رحمه الله تعالى أنه جعل بيانا للإجازة; لأجل حالها الموجبة للحياء, وهي الرغبة في الرجال.
قوله: "وكذا النكول" جعل بيانا لثبوت الحق عليه, وإقراره به; لأجل حال في الناكل, وهذا هو الموافق لما نحن بصدده من أن البيان يثبت بدلالة حال المتكلم.(2/87)
الركن الثالث: في الإجماع
الأول: في أركان الإجماع
...
الركن الثالث: في الإجماع
وهو الاتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على حكم شرعي.
فالبحث هنا في أمور الأول في ركنه وهو الاتفاق والعزيمة فيه أن يثبت ذلك إما بالتكلم منهم أو بعملهم به والرخصة أن يتكلم البعض أو يعمل به ويسكت الباقي بعد بلوغ ذلك إليهم ومضي مدة التأمل وعند البعض لا يثبت بالسكوت لأن عمر رضي الله عنه شاور الصحابة في مال فضل عنده وعلي رضي الله عنه ساكت حتى سأله فروى حديثاً في قسمة الفضل وشاورهم في إسقاط الجنين فأشاروا بأن لا غرم عليك وعلي رضي الله عنه ساكت فلما سأله قال أرى عليك الغرم فلم يكن يسكت سكوته تسليماً وقد يكون للتأمل وغيره.
ـــــــ
مائة وثوب ومائة وشاة, لنا أن حذف المعطوف عليه في العدد متعارف للخفة نحو بعت بمائة وعشرة دراهم, ونظائرها فيحمل على ذلك فيما هو مقدر بخلاف العبد والثوب على أنهما لا يثبتان في الذمة". فقوله فيحمل على ذلك أي: حذف المعطوف عليه فالحاصل أنه إذا ذكر بعد المائة عدد مضاف نحو مائة, وثلاثة أثواب فإن الأخير بيان المائة بالاتفاق فإن كان بعد المائة شيء من المقدرات كالدرهم والدينار والقفيز نجعله بيانا للمائة قياسا على العدد, والجامع كونهما مقدرين, فإذا قال له علي مائة ودرهم قلنا المائة من الدراهم قياسا على قوله علي مائة وثلاثة أثواب أما إذا كان بعد المائة شيء مما هو غير مقدر كالعبد والثوب كقوله له علي مائة وثوب ومائة وعبد لا نجعله بيانا للمائة والله أعلم.
"الركن الثالث: في الإجماع, وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على حكم شرعي" بعض العلماء قيدوا الإجماع بالحكم الشرعي, وبعضهم قالوا على أمر حتى يعم الحكم الشرعي وغيره. واعلم أن الأحكام إما دينية, وإما غير دينية كالحكم بأن السقمونيا
................................................................................................
قوله: "كالمولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري يكون إذنا" فإن قيل يحتمل أن يكون سكوته لفرط الغيظ, وعدم الالتفات بناء على أن العبد محجور شرعا قلت: يترجح جانب الرضا بدلالة العرف, والعادة في أن من لا يرضى بتصرف العبد يظهر النهي ويرد عليه, والأظهر أن هذا القسم مندرج في القسم الثاني أعني: ثبوت البيان بدلالة حال المتكلم.
قوله: "وعند الشافعي رحمه الله تعالى المائة مجملة" يعني: أن عطف الدرهم عليها ليس بيانا وتفسيرا لها; لأن مبنى العطف على التغاير ومبنى التفسير على الاتحاد.
قوله: "لنا" استدل على كون المعطوف بيانا للمعطوف عليه في مثل له علي مائة ودرهم بأن حذف المعطوف عليه أي: حذف تمييزه وتفسيره متعارف في العدد إذا عطف عليه عدد مفسر مثل مائة وثلاثة أثواب حتى إن ذكره يستهجن في العربية فيعد تكرارا, فصورة عطف غير العدد أيضا يحمل على ذلك أي: على حذف مفسر المعطوف عليه بقرينة المعطوف فيما إذا كان المعطوف مقدرا بالعدد مثل مائة ودرهم أو بالوزن مثل مائة وقفيز حنطة لمشابهته العدد. بخلاف نحو له علي مائة(2/88)
مسهل فإن وقع الاتفاق على مثل هذا أو لم يقع فهما سواء حتى إن أنكره أحد لا يكون كفرا بل يكون جهلا بهذا الحكم سواء وقع الاتفاق أو لم يقع, أما الأحكام الدينية فإما أن تكون شرعية, أو غير شرعية. والمراد بالحكم الشرعي ما ذكرت في أول الكتاب أنه ما لا يدرك لولا خطاب الشارع وما ليس كذلك فإدراكه إما بالحس أو بالعقل, وكل واحد منهما يفيد اليقين فإن كان ذلك الأمر أمرا حسيا ماضيا فالإجماع عليه يكون إخبارا فلا يكون من قسم الإجماع المخصوص بأمة محمد عليه الصلاة والسلام. ولا يشترط له الاجتهاد بل يكون من قبيل الإخبارات, وإن كان أمرا حسيا مستقبلا كأمور الآخرة وأشراط الساعة مثلا فمعرفته لا يمكن إلا بالنقل عن مخبر صادق يوقف على المغيبات كالنبي عليه الصلاة والسلام مثلا فإجماعهم على ذلك من حيث إنه إجماع على ذلك الأمر المستقبل لا يعتبر; لأنهم لا يعلمون الغيب لكن يعتبر من حيث إنه منقول عمن يوقف على الغيب فرجع إلى الأمر الأول, وهو أن يكون محسوسا ماضيا, وإن كان أمرا يدرك بالعقل فالعقل يفيد اليقين, فالدليل هو العقل لا الإجماع بخلاف الشرعيات فإن مستند الإجماع لا يكون قطعيا ثم الإجماع يفيدها قطعية.
"فالبحث هنا في أمور: الأول: في ركنه, وهو الاتفاق, والعزيمة فيه أن يثبت ذلك إما بالتكلم منهم أو بعملهم به, والرخصة أن يتكلم البعض أو يعمل به, ويسكت الباقي بعد بلوغ ذلك إليهم ومضي مدة التأمل, وعند البعض لا يثبت بالسكوت; لأن عمر رضي الله عنه شاور
................................................................................................
وعبد أو ثوب فإن الثاني لا يكون بيانا للأول; لأنه لا يشبه العدد حتى يصلح قياسه على مثل له علي مائة وثلاثة دراهم مع مانع آخر وهو أن تفسير المائة بالعبد أو الثوب لا يلائم لفظ علي; لأن موجبه الثبوت في الذمة, ومثل العبد والثوب لا يثبت في الذمة إلا في السلم للضرورة فلا يرتكب إلا فيما صرح به كالمعطوف دون المعطوف عليه مع أنه لا يكثر كثرة العدد حتى يستحق التخفيف, فإن قيل: القياس ليس بمستقيم; لأن المفسر في مثل مائة وثلاثة دراهم هو مميز المعطوف أعني: المضاف إليه لا نفس المعطوف على ما زعمتم في مائة ودرهم قلنا ممنوع بل المفسر هو المعطوف بمعنى أن المعطوف عليه يكون من جنس المعطوف درهما كان أو دينارا أو غيرهما. وقد يجاب بأنه قياس في اللغة, وإن أريد ابتناء الحكم على القياس الشرعي لم يكن من قبيل البيان, وأيضا لا نسلم أن العلة هو كون المعطوف من قبيل المقدرات بل كون العطف مقتضيا للشركة فيما يتوقف عليه المعطوف, والمعطوف عليه كالجزاء, والشرط فكذا التفسير في مائة وثلاثة أثواب بخلاف مائة ودرهم إذ لا إبهام في المعطوف فلا احتياج إلى التفسير.
قوله: "الركن الثالث في الإجماع" هو في اللغة العزم يقال: أجمع فلان على كذا أي: عزم, والاتفاق يقال أجمع القوم على كذا أي: اتفقوا, وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على حكم شرعي, والمراد بالاتفاق الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل, وقيد بالمجتهدين إذ لا عبرة باتفاق العوام, وعرف فاللام الاستغراق احترازا عن اتفاق بعض مجتهدي عصر, واحترز بقوله من أمة محمد عليه الصلاة والسلام عن اتفاق مجتهدي الشرائع(2/89)
ولنا أن شرط التكلم من الكل متعسر غير معتاد والمعتاد أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم ولما كان الحكم عنده مخالفاً فالسكوت حرام والصحابة لا يتهمون بذلك وأما سكوت علي رضي الله عنه فيمكن حمله على أن ما أفتوا به من إمساك المال وعدم الغرم عليه كان الحسن إلا أن تعجيل أداء الصدقة والتزم الغرم صيانة عن
ـــــــ
الصحابة في مال فضل عنده وعلي رضي الله عنه ساكت حتى سأله فروى حديثا في قسمة الفضل" لما شاور عمر رضي الله تعالى عنه الصحابة في ذلك أشار بعض الصحابة بتأخير القسمة والإمساك إلى وقت الحاجة وعلي رضي الله عنه ساكت حتى سأله فقال أرى أن يقسم بين المسلمين وروى في ذلك حديثا فعمل عمر بذلك ولم يجعل سكوته دليل الموافقة حتى شافهه وجوز علي رضي الله عنه السكوت مع أن الحق عنده خلافهم. "وشاورهم في إسقاط الجنين فأشاروا بأن لا غرم عليك وعلي رضي الله عنه ساكت فلما سأله قال أرى عليك الغرم فلم يكن سكوته تسليما" روي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأة لجناية فأسقطت الجنين فشاور الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا لا غرم عليك فإنك مؤدب وما أردت إلا الخير وعلي رضي الله عنه ساكت فلما سأله قال أرى عليك الغرم; ولأنه قد يكون للمهابة كما قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنه ما منعك أن تخبر عمر بقولك في العول فقال ردته, وذكر الإمام سراج الملة والدين رحمه الله تعالى في شرحه
................................................................................................
السالفة, وقوله: "في عصر حال من المجتهدين" معناه زمان ما, قل أو كثر. وفائدته الاحتراز عما يرد على من ترك هذا القيد من لزوم عدم انعقاد الإجماع إلى آخر الزمان إذ لا يتحقق اتفاق جميع المجتهدين إلا حينئذ ولا يخفى أن من تركه إنما تركه لوضوحه لكن التصريح به أنسب بالتعريفات, وأطلق ابن الحاجب وغيره الأمر ليعم الشرعي وغيره حتى يجب اتباع إجماع آراء المجتهدين في أمر الحروب ونحوها, ويرد عليه أن تارك الاتباع إن أثم فهو أمر شرعي, وإلا فلا معنى للوجوب والمصنف رحمه الله تعالى خصه بالشرع زعما منه أنه لا فائدة للإجماع في الأمور الدنيوية, والدينية الغير الشرعية وفيما ذكره من البيان نظر; لأن العقلي قد يكون ظنيا فبالإجماع يصير قطعيا كما في تفضيل الصحابة رضي الله عنهم, وكثير من الاعتقاديات, وأيضا الحسي الاستقبالي قد يكون مما لم يصرح به المخبر الصادق بل استنبطه المجتهدون من نصوصه فيفيد الإجماع قطعيته.
قوله: "فالبحث هنا في أمور" ركنه, وأهله وشرطه, وحكمه, وسببه أعني: السند, والناقل وعلى هذا كان المناسب أن يقول الأول ركنه إلا أنه أراد بالبحث المعنى الجنسي فكأنه قال, والأبحاث هاهنا في أمور فبهذا الاعتبار صح قوله الأول في ركنه.
قوله: "ضرب امرأة لجناية" روي أن امرأة غاب عنها زوجها فبلغ عمر أنها تجالس الرجال وتحدثهم فأشخص إليها ليمنعها من ذلك فأملصت من هيبته أي: أزلفت الجنين وأسقطته.
قوله: "وقد يكون" أي: سكوت المجتهد للتأمل وغيره كاعتقاد حقيقة اجتهاد كل مجتهد أو كون القائل أكبر سنا منه أو أعظم قدرا أو أوفر علما أو استقرار الخلاف حتى لو حضر مجتهد(2/90)
القيل والقال ورعاية لحسن الثناء والعدل كان أحسن وبعد التسليم فالسكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز وذلك إلى آخر المجلس تعظيماً للفتيا وحديث الدرة غير صحيح لأن الخلاف والمناظرة بينهم في مسألة العول أشهر من أن تخفى على عمر رضي الله عنه وكان عمر ألين للحق وإن صح فيحمل على أنه اعتذر عن الكف عن المناظرة معه لا عن بيان مذهبه ولما شرطنا مضي مدة التأمل لم ترد الشبهة التي ذكرت مسألة إذا اختلفت الصحابة في قولين يكون إجماعاً على نفي قول ثالث عندنا وأما في غير الصحابة فكذا عند بعض مشايخنا وبعضهم خصوا ذلك بالصحابة رضي الله عنهم إذ لا يجوز أن يظن بهم الجهل أصلاً
ـــــــ
للفرائض أن العول ثابت على قول عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم باطل عند ابن عباس. وهو يدخل النقص على البنات وبنات الابن, والأخوات لأب وأم أو لأب مثاله تركت زوجا وأما وأختا لأب وأم فعند العامة المسألة من ستة وتعول إلى الثمانية وعند ابن عباس رضي الله عنه للزوج النصف ثلاثة, وللأم الثلث اثنان وللأخت الباقي, وهذه أول حادثة وقعت في نوبة عمر رضي الله تعالى عنه فأشار العباس رضي الله عنه إلى أن يقسم المال على سهامهم فقبلوا منه, ولم ينكره أحد. وكان ابن عباس صبيا فلما بلغ خالف وقال من شاء باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في المال نصفين وثلثا, فقيل: هلا قلت ذلك في عهد عمر رضي الله عنه قال: كنت صبيا وكان عمر رضي الله تعالى عنه رجلا مهيبا فهبته. "وقد يكون للتأمل وغيره" أي: يكون السكوت للتأمل وغيره من الأسباب المانعة للإظهار.
"ولنا أن شرط التكلم من الكل متعسر غير معتاد والمعتاد أن يتولى الكبار الفتوى
................................................................................................
والحنفية والشافعية رحمهم الله تعالى لو تكلم أحدهم بما يوافق مذهبه, وسكت الآخرون لم يكن إجماعا ولا يحصل سكوتهم على الرضا لتقرر الخلاف ثم لا يخفى أن اشتراط مضي مدة التأمل إنما يدفع احتمال كون السكوت للتأمل. ولا يدفع احتمال كونه لتصويب المجتهدين أو استقرار الخلاف أو نحو ذلك أو علم أن مثل هذا الإجماع يسمى الإجماع السكوتي لا يكون جاحده كافرا, وإن كان هو من الأدلة القطعية بمنزلة العام من النصوص.
قوله: "بالعيوب الخمسة" هي الجذام, والبرص, والجنون في أحد الزوجين, والجب, والعنة في الزوج, والرتق, والقرن في الزوجة.
قوله: "فشمول العدم" هو في حكم الغسل أن لا يجب غسل المخرج ولا غسل أعضاء الوضوء وشمول الوجود أن يجب غسلهما جميعا, وفي حكم النقض شمول الوجود أن تنتقض الطهارة بكل من خروج الخارج من غير السبيلين وبمس المرأة, وشمول العدم أن لا ينتقض بشيء منهما.(2/91)
الثاني: في أهلية من ينعقد به الإجماع
...
وأما الثاني: ففي أهلية من ينقد به الإجماع
وهي لكل مجتهد ليس فيه ولا بدعة فإن الفسق فيه التهمة ويسقط العدالة وصاحب البدعة يدعو الناس إليه وليس هو من الأمة على الإطلاق وسقطت العدالة بالتعصب أو السفه وكذا المجون.
ـــــــ
ويسلم سائرهم, ولما كان الحكم عنده مخالفا فالسكوت حرام والصحابة لا يتهمون بذلك. وأما سكوت علي رضي الله عنه فيمكن حمله على أن ما أفتوا به من إمساك المال" أي: مال فضل عنده, "وعدم الغرم عليه" أي: في مسألة الإسقاط. "كان حسنا إلا أن تعجيل أداء الصدقة, والتزام الغرم صيانة عن القيل والقال ورعاية لحسن الثناء والعدل كان أحسن وبعد التسليم" أي: بعد تسليم ما أفتوا به لم يكن حسنا وكان خطأ. "فالسكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز وذلك إلى آخر المجلس تعظيما للفتيا وحديث الدرة غير صحيح; لأن الخلاف والمناظرة بينهم في مسألة العول أشهر من أن تخفى على عمر رضي الله تعالى عنه وكان عمر ألين للحق, وإن صح فيحمل على أنه اعتذر عن الكف عن المناظرة معه لا عن بيان مذهبه" فإن الواجب عليه أن يبين مذهبه وما هو حق عنده لئلا يكون شيطانا أخرس; لسكوته عن الحق. لكن المناظرة غير واجبة عليه وكان ابن عباس رضي الله عنهما إنما اعتذر عن الكف عن المناظرة التي لم تكن واجبة عليه. "ولما شرطنا مضي مدة التأمل لم ترد الشبهة التي ذكرت", وهي أن السكوت قد يكون للتأمل وغيره.
"مسألة: إذا اختلفت الصحابة في قولين يكون إجماعا على نفي قول ثالث عندنا وأما في غير الصحابة فكذا عند بعض مشايخنا, وبعضهم خصوا ذلك بالصحابة رضي الله عنهم إذ لا يجوز أن يظن بهم الجهل أصلا" نظيره أنهم اختلفوا في عدة حامل توفي عنها زوجها فعند البعض تعتد بأبعد الأجلين, وعند البعض بوضع الحمل فالاكتفاء بالأشهر قبل وضع الحمل قول ثالث لم يقل به أحد. واختلفوا في الجد مع الإخوة فعند البعض كل المال للجد, وعند البعض المقاسمة فحرمان الجد قول ثالث لم يقل به أحد, واختلفوا في علة الربا فعندنا العلة هي القدر مع الجنس, وعند الشافعي رحمه الله تعالى الطعم مع الجنس, وعند مالك رحمه الله تعالى الطعم والادخار مع الجنس فالقول بأن العلة غير ذلك لم يقل به أحد. واختلفوا في الزوج مع الأبوين والزوجة مع الأبوين فعند البعض للأم ثلث الكل في المسألتين, وعند البعض ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين في المسألتين فالقول بثلث الكل في إحداهما وثلث الباقي في الأخرى قول ثالث لم يقل به أحد. واختلفوا في فسخ النكاح بالعيوب الخمسة فعند البعض لا فسخ في شيء منها, وعند البعض حق الفسخ ثابت في كل منها فالفسخ في البعض دون البعض قول ثالث لم يقل به أحد, ويعبر عن هذا بعدم القائل بالفصل. واختلفوا في الخارج من غير السبيلين فعند البعض غسل المخرج فقط واجب, وعند البعض غسل الأعضاء الأربعة واجب فقط فشمول العدم أو شمول الوجود قول ثالث لم يقل به أحد. وأيضا الخروج من غير السبيلين ناقض عندنا لا مس المرأة وعند الشافعي رحمه الله تعالى المس ناقض لا(2/92)
وأما عامة الناس ففيما لا يحتاج إلى الرأي كنقل القرآن وأمهات الشرائع داخلون في الإجماع كالمجتهدين وفيما يحتاج لا عبرة بهم وبعض الناس خصوا الإجماع بالصحابة لأنهم هو الأصول في أمور الدين والبعض بعترة الرسول عليه
ـــــــ
الخروج فشمول الوجود أو شمول العدم ثالث لم يقل به أحد.
"وقال بعض المتأخرين: الحق هو التفصيل", وهو أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه, وإلا جاز مثال الأول الصورتان الأوليان فإن الاكتفاء بالأشهر قبل الوضع منتف بالإجماع إما; لأن الواجب أبعد الأجلين, وإما; لأن الواجب وضع الحمل فهذا يسمى إجماعا مركبا, فما به الاشتراك, وهو عدم الاكتفاء بالأشهر مجمع عليه, وفي الجد مع الإخوة اتفاق الفريقين واقع على عدم حرمان الجد, ومثال الثاني الأمثلة الأخيرة فإنه ليس في كل صورة إلا مخالفة مذهب واحد لا مخالفة الإجماع ولو كان مثل هذا مردودا يلزم أن كل مجتهد وافق صحابيا, أو مجتهدا في مسألة يلزمه أن يوافقه في جميع المسائل, وهذا باطل إجماعا. فإن عند ابن مسعود رحمه الله تعالى الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها بوضع الحمل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى وافقه في ذلك ولم يوافقه في أن المحروم يحجب حجب النقصان عنده ولم يقل أحد بأن المجموع المركب من كون عدتها بوضع الحمل مع انتفاء الحجب منتف إجماعا, أما عند ابن مسعود رحمه الله تعالى فلثبوت الثاني, وأما عند غيره فلانتفاء الأول ومثل هذا كثير فإن المجتهدين رحمهم الله تعالى وافقوا بعض الصحابة في مسألة مع أنهم خالفوا ذلك البعض في مسألة أخرى, أقول التمسك بالإجماع المركب وبعدم القائل بالفصل مشهور في المناظرات, وإبطاله على الوجه الذي نقلته عن بعض المتأخرين ليس بحق. بل الحق في ذلك والله أعلم أنه إن كان الغرض إلزام الخصم يكون مقبولا في هذا الغرض كما يقال في الوجوب في الحلي أن الوجوب في الضمار لا يخلو من أن يكون ثابتا أو لا فإن كان ثابتا في الضمار يكون ثابتا في الحلي قياسا, وإن لم يكن ثابتا في الضمار يكون ثابتا في الحلي إذ لو لم يثبت في الحلي يلزم العدم في الضمار مع العدم في الحلي, وهذا منتف إجماعا فهذا لا يفيد حقية الوجوب في الحلي لكن يفيد نفي ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى فإنه لو لم يثبت الوجوب في الحلي يلزم العدمان, وهو منتف عند الشافعي رحمه الله تعالى.
................................................................................................
قوله: "وقال بعض المتأخرين" ذكر الآمدي في الأحكام أن المختار في هذه المسألة إنما هو التفصيل, وهو أن القول الثالث إن كان يرفع ما اتفق عليه القولان فهو ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع, وإلا فلا إذ ليس فيه خرق الإجماع حيث وافق كلا من القولين من وجه, وإن خالفه من وجه وبين كثيرا من أمثلة القسمين ثم قال: فإن قيل: كل من القولين غير قائل بالتفصيل فهو قول لم يقل به قائل فيكون باطلا قلنا عدم القول به لا يوجب بطلان القول به, وإلا لما جاز الحكم في واقعة(2/93)
الصلاة والسلام لطهارتهم عن الرجس والبعض بأهل المدينة إلا أن هذه الأمور زائدة على الأهلية وما يدل على كونه حجة لا يوجب الاختصاص بشيء من هذا، وعند البعض لا يشترط اتفاق الكل بل الأكثر كاف لقوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم". وعندنا يشترط لأن الحجة إجماع الأمة فما بقي أحد من أهله لا يكون إجماعاً، وربما كان اختلاف الصحابة والمخالف واحد في مقابلة الجمع الكثير والسواد الأعظم عامة المسلمين ممن هو أمة مطلقة. والمراد بالأمة المطلقة أهل السنة والجماعة وهم الذين طريقتهم طريقة الرسول عليه السلام وأصحابه دون البدع.
ـــــــ
أما إن لم يكن الغرض إلزام الخصم بل إظهار ما هو الحق, فاعلم أن التفصيل الذي اختاره بعض المتأخرين, وهو أن القول الثالث استلزم إبطال ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه كلام غير مفيد; لأنه لا خفاء في أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه كان مردودا, والخصم يسلم هذا المعنى لكن يدعي أن القول الثالث مستلزم لإبطال ما أجمعوا عليه في جميع الصور إما في مسألة واحدة كما في مسألة العدة وحرمان الجد وإما في مجموع المسألتين ففي مسألة الزوج أو الزوجة مع الأبوين أحد الشمولين ثابت, وهو ثلث الكل في كليهما, أو ثلث الباقي في كليهما فالقول بثلث الكل في أحدهما دون الآخر مخالف للإجماع, وكذا في الفسخ بالعيوب, وفي مسألة الخارج من غير السبيلين إحدى الطهارتين
................................................................................................
متجددة لم يسبق فيها قول لأحد, فإن قيل: قد اتفق القولان على نفي التفصيل فالقول بالتفصيل خرق للإجماع قلنا ممنوع فإن عدم القول بالتفصيل أعم من القول بعدم التفصيل, والأعم لا يستلزم الأخص نعم لو صرح القولان بنفي التفصيل لما جاز القول به فإن قيل ففي التفصيل تخطئة كل من الفريقين في بعض ما ذهب إليه هي تخطئة للأمة فيمتنع. قلنا: الممتنع تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه لا تخطئة كل بعض فيما لا اتفاق عليه, فعلم أن عدم القول بالفصل, وإن اشتهر في المناظرات لكنه ليس مما وقع الاتفاق على قبوله. وإنما يقبل حيث يصلح إلزاما للخصم بأن يلزم من التفصيل بطلان مذهبه.
ثم التفصيل الذي اختاره صاحب الأحكام ومن تبعه أصل كلي يفيد معرفة أحكام الجزئيات إذ لا يخفى على الناظر المتأمل أن القول الثالث هل يشتمل على رفع ما اتفق عليه القولان السابقان أم لا ليس على الأصولي التعرض لتفاصيل الجزئيات. وما ادعاه الخصم من أن القول الثالث مستلزم لبطلان الإجماع في جميع الصور غير معتد به; لأنه ادعاء باطل; لأنا لا نسلم ثبوت أحد الشمولين بالإجماع في مسألة الزوج أو الزوجة مع الأبوين كيف وقد يصدق أنه لا شيء من الشمولين بمجمع عليه لما فيه من مخالفة البعض؟ ولهذا أحدث التابعون قولا ثالثا فقال ابن سيرين بثلث الكل في زوج, وأبوين دون زوجة, وأبوين. وقال تابعي آخر بالعكس, وكذا في العيوب الخمسة ليس شمول الوجود, ولا شمول العدم بمجمع عليه, وكذا في البواقي مثلا لا إجماع على وجوب غسل المخرج(2/94)
واجبة إجماعا فالقول بأن لا شيء منها واجب مبطل للإجماع, وكذا في الحلي والضمار وكذا القول بأن العدة المذكورة بوضع الحمل مع انتفاء الحجب المذكور مبطل للإجماع, فالشأن في تمييز صورة يلزم فيها بطلان الإجماع عن صورة لا يلزم فيها ذلك فلا بد من ضابط, وهو أن القولين إن كانا يشتركان في أمر هو في الحقيقة واحد, وهو من الأحكام الشرعية فحينئذ يكون القول الثالث مستلزما لإبطال الإجماع, وإلا فلا فعند ذلك نقول: إن المختلف فيه إما حكم متعلق بمحل واحد, أو حكم متعلق بأكثر من محل واحد. أما الأول فكمسألة العدة والجد مع الإخوة فإن القولين يشتركان في أن العدة لا تنقضي بالأشهر وحدها, وأن الجد لا يحرم وكل منهما أمر واحد, وهو حكم شرعي
................................................................................................
لمخالفة أبي حنيفة رحمه الله تعالى, ولا على وجوب غسل أعضاء الوضوء لمخالفة الشافعي. رحمه الله تعالى وإذا صدق أنه لا شيء ولا واحد من الطهارتين مما يجب إجماعا فكيف يصدق أن إحداهما واجبة إجماعا؟ غاية ما في الأمر أنه ركبت مغلظة بحسب التعبير عن الأمرين بمفهوم يشملها على سبيل البدل, ويكون تعلق الحكم به في كل من القولين باعتبار فرد آخر, وظاهر أنه لا يلزم منه الإجماع على الحكم في شيء من الإفراد بخلاف مسألة العدة, والجد مع الإخوة لاتفاق الفريقين على عدم جواز الاكتفاء بالأشهر قبل الوضع, وعلى عدم جواز حرمان الجد. وأما مسألة علة الربا فلا يخفى أن القول الثالث إن كان قولا بعدم اعتبار الجنس في العلية كان مخالفا للإجماع, وإلا فلا إذ لم يقع اتفاق الأقوال الثلاثة إلا على اعتبار الجنس في العلية.
قوله: "أما عند ابن مسعود رحمه الله تعالى" داخل في حيز قوله لم يقل به أحد يعني لا قائل بأن المجموع المركب من كون عدة الحامل بوضع الحمل ومن انتفاء حجب المحروم منتف بإجماع ابن مسعود رحمه الله تعالى وغيره أما عنده فلأن الجزء الثاني أعني: انتفاء الحجب منتف; لأن الحجب ثابت, وأما عند غيره فلأن الجزء الأول أعني: كون العدة بوضع الحمل منتف لكونها بعد الأجلين, والمركب ينتفي بانتفاء أحد جزأيه.
قوله: "في الضمار" هو المال الغائب الذي لا يرجى فإن رجي فليس بضمار, وقيل هو ما لا ينتفع به من الأموال.
قوله: "فلا بد من ضابط" تقرير كلامه أن القولين السابقين إن اشتركا في أمر واحد هو حكم شرعي فإحداث القول الثالث يكون إبطالا للإجماع, وإن لم يشتركا في ذلك بأن لا يكون المشترك فيه واحدا بالحقيقة أو كان واحدا لكن لا يكون حكما شرعيا فإحداث القول الثالث لا يكون إبطالا للإجماع وعند تقرير هذا الضابط لا بد من النظر في أن أي موضع يشترك فيه القولان في حكم واحد شرعي وأي موضع لا يشتركان فيه في ذلك فنقول المختلف فيه بين القولين الأولين قد يكون حكما شرعيا متعلقا بمحل واحد, وقد يكون حكما متعلقا بأكثر من محل واحد. أما الأول وهو أن يكون حكما متعلقا بمحل واحد فالقولان فيه قد يظهر اشتراكهما في حكم واحد شرعي فيبطل الثالث كما في مسألة العدة, والجد مع الإخوة, وقد يظهر عدم اشتراكهما في ذلك كما في مسألة الربا فلا(2/95)
الثالث: في شروط الإجماع
...
وأما الثالث ففي شروطه
انقراض العصر ليس شرط عندنا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يشترط أن يموتوا على ذلك الإجماع لاحتمال رجوع بعضهم، ولنا أنه تحقق الإجماع فلا يعتبر توهم رجوع البعض حتى لو رجع لا يعتبر عندنا، مسألة شرط البعض كونه في مسألة غير مجتهد فيها في زمن الصحابة فجعلوا الخلاف المتقدم مانعاً من الإجماع تضليل بعض الصحابة والمختار عدم اشتراطه لأن المعتبر اتفاق أهل العصر وقد وجد ودليله كان دليلاً لكنه لم يبق كما إذا نزل نص بعد العمل بالقياس فلا يلزم التضليل الذي ذكر.
ـــــــ
يبطل الثالث, وقد يكونان بحيث يمكن أن يخرج منهما اشتراك في حكم واحد شرعي وافتراق بين أمرين, وحينئذ إن كان الافتراق مما حكم به الشرع كما في مسألة ذات الزوجين فإن القولين يشتركان في إثبات نسب الولد من أحدهما. وفي أن الثبوت من أحدهما ينافي الثبوت من الآخر بحكم الشرع, فإحداث القول الثالث باطل سواء كان قولا بشمول الوجود أعني: ثبوت النسب منهما جميعا أو بشمول العدم أعني: عدم ثبوته من واحد منهما أصلا, وإن لم يكن الافتراق مما حكم به الشرع كما في مسألة الخارج من غير السبيلين حيث اتفق القولان على وجوب التطهير أعني الوضوء أو غسل المخرج, وعلى الافتراق أعني كون الواجب أحدهما فقط لكن لم يحكم الشرع بأن وجوب أحدهما ينافي وجوب الآخر فالقول الثالث إن كان قولا بشمول العدم أعني: عدم وجوب شيء منهما كان باطلا ومبطلا للإجماع السابق. وإن كان قولا بشمول الوجود أعني: وجوبهما جميعا لم يكن باطلا لعدم استلزامه إبطال الإجماع, ولزم من هذا أن الحكم بأنه إذا اشترك القولان في حكم واحد شرعي كان القول الثالث مستلزما لإبطال الإجماع ليس على إطلاقه. وأما الثاني وهو أن يكون الحكم المختلف فيه حكما متعلقا بأكثر من محل واحد فاختلاف القولين إنما يتصور بثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون أحدهما قائلا بثبوت الحكم في صورة معينة, وعدم ثبوته في الصورة الأخرى, والآخر قائلا بالعكس كقول أبي حنيفة رحمه الله بالانتقاض بالخروج من غير السبيلين لا بمس المرأة وقول الشافعي رحمه الله تعالى بالانتقاض بالمس دون الخروج, فالقول بالانتقاض بكل منهما أو بعدم الانتقاض بشيء منهما لا يكون إبطالا لحكم شرعي مجمع عليه.
الثاني: أن يكون أحدهما قائلا بالثبوت في الصورتين وهو معنى شمول الوجود, والآخر بالعدم فيهما, وهو معنى شمول العدم فإن اتفق الشمولان على حكم واحد شرعي كتسوية الأب, والجد في الولاية كان القول بالافتراق مبطلا للإجماع, وإلا فلا كالقول بجواز الفسخ ببعض العيوب دون البعض.
الثالث: أن يكون أحدهما قائلا بالثبوت في إحدى الصورتين بعينها والعدم في الأخرى, والآخر قائلا بالثبوت في كلتا الصورتين فيكون اتفاقا على الثبوت في صورة بعينها, أو بالعدم فيهما فيكون اتفاقا على العدم فلا صورة بعينها فيكون القول الثالث إبطالا للمجمع عليه كمسألة الصلاة(2/96)
الرابع: في حكم الإجماع
...
وأما الرابع ففي حكمه
وهو أن يثبت الحكم يقيناً حتى يكفر جاحده لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن قيل الوعيد متعلق بالمجموع وهو المشاقة والإتباع قلنا: بل بكل وإلا يكن في ضمه إلى المشاقة فائدة.
ـــــــ
وأما مسألة الربا فعلته القدر مع الجنس, أو الطعم مع الجنس لا يشتركان في أمر واحد هو حكم شرعي ولو جعل مفهوم أحد الأمرين أو أحد الأمور أمرا واحدا فذلك ليس بأمر هو في الحقيقة واحد بل واحد اعتباري, ولو كان أمرا واحدا فليس حكما شرعيا بخلاف مسألة الخارج من غير السبيلين فإن الواجب أحد الغسلين. إما الوضوء أو غسل المخرج فهما يشتركان في أمر واحد, وهو حكم شرعي, وهو وجوب التطهير, فالتطهير واجب بالإجماع فذلك التطهير الواجب هو الوضوء عندنا, وغسل المخرج عند الشافعي رحمه الله تعالى فالقول بأن لا شيء من التطهير بواجب خلاف الإجماع. أما القول بأن كل واحد واجب لا يكون مخالفا للإجماع ولو قيل الافتراق ثابت بالإجماع فشمول الوجود مخالف للإجماع فنقول الافتراق هنا ليس حكما شرعيا أي: لم يحكم الشرع بأن المنافاة ثابتة بينهما حتى يلزم من عدم أحدهما وجود الآخر بخلاف ما إذا كان الافتراق حكما شرعيا كما إذا أخبرت امرأة أن زوجها الغائب مات فتزوجت, وولدت فجاء الزوج الأول فعندنا يثبت نسب الولد من الزوج الأول, وعند الشافعي رحمه الله تعالى من الأخير فثبوته من كليهما, أو عدم الثبوت من أحدهما منتف إجماعا ففي هذه الصورة الافتراق حكم شرعي, وأما الثاني فإما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في صورة مع العدم في الأخرى, وعند البعض عكس ذلك كمسألة الخروج والمس, فالقول بأن كلا منهما ناقض أو ليس شيء منهما ناقضا لا يكون خلاف الإجماع, فإن القول بانتقاض كل منهما مخالف لقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في مسألة المس, ولقول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة الخروج وليس في
................................................................................................
في الكعبة نفلا وفرضا ويجعل هذه المسألة, ومسألة مساواة الأب والجد من القسم الثاني يتبين أن ليس المراد بالأول أن يشترك القولان في حكم واحد شرعي, وبالثاني أن لا يشتركا فيه. وأما مسألة بيع الملاقيح, والبيع بالشرط فلا يخفى عليك أنها خارجة عن المبحث, فإن بطلان بيع الملاقيح مسألة مجمع عليها, والبيع بالشرط مسألة مختلف فيها لا تعلق لإحداهما بالأخرى. والمبحث هو أنه إذا سبق في مسألة اختلاف على قولين, فإحداث قول ثالث هل يكون إبطالا للإجماع أم لا.
قوله: "وأما مسألة الربا" أحد القولين فيها علية القدر مع الجنس, والآخر الطعم مع الجنس أو الادخار مع الجنس, وهما لا يشتركان في واحد حقيقي هو حكم شرعي, فإن مفهوم أحد الأمرين واحد بحسب الاعتبار بل بحسب العبارة دون الحقيقة, ومع ذلك فليست العلية حكما شرعيا لا يدرك لولا خطاب الشارع بل قد يستنبط نعم يمكن أن يقال إن القولين اتفقا على أنه لا ربا في غير الجنس, وهذا حكم شرعي فالقول بعدم دخول الجنس في العلية رفع لذلك.(2/97)
شيء منهما مخالفة الإجماع ولو جعل الحكمان حكما واحدا كما يقال الانتقاض في الخروج مع عدمه في المس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعكسه قول الشافعي رحمه الله تعالى فهما لا يشتركان في أمر واحد, ولو جعل أحد الافتراقين مشتركا فقد مر أنه ليس حكما شرعيا, ولو قيل: يشتركان في حكم شرعي, وهو عدم جواز الصلاة فإن من احتجم ومس المرأة لا تجوز صلاته بالإجماع. أما عندنا فللاحتجام, وأما عنده فللمس فالذي يخطر ببالي أن لا يقال: إن هذه الصلاة باطلة إجماعا; لأن الحكم عندنا أنها لا تجوز للاحتجام, والحكم عند الشافعي رحمه الله تعالى أنها لا تجوز للمس وكل من الحكمين منفصل عن الآخر لا تعلق لأحدهما بالآخر. فيمكن أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يكون مخطئا في الخروج مصيبا في المس, والشافعي رحمه الله تعالى يكون مخطئا في المس مصيبا في الخروج إذ ليس من ضرورة كونه مخطئا في أحدهما أن يكون مخطئا في الآخر, وإما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في الصورتين وعند البعض العدم في الصورتين ويسمى هذا عدم القائل بالفصل.
وأما الإجماع المركب فأعم من هذا كمسألة الزوج مع الأبوين, والزوجة مع الأبوين, ومسألة الفسخ بالعيوب, فإن الثابت شمول الوجود, أو شمول العدم فيجب أن ينظر أن شمول الوجود وشمول العدم إن كانا مشتركين في حكم واحد شرعي, فحينئذ يكون الافتراق إبطالا للإجماع نظيره أنه ليس للأب والجد إجبار البكر البالغة على النكاح عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لكل واحد منهما ولاية الإجبار فالقول بولاية الأب دون الجد خلاف
................................................................................................
قوله: "فالتطهير واجب بالإجماع" قد عرفت أنه يصدق لا شيء من التطهيرين بمجمع على وجوبه أما غسل المخرج فلمخالفة أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وأما غسل الأعضاء فلمخالفة الشافعي رحمه الله تعالى فلا يصدق أن أحدهما واجب بالإجماع.
قوله: "ولو جعل الحكمان" يعني: لو اعتبر التركيب بين الحكمين في كل من القولين ليصير حكما واحدا بأن يقال الانتقاض بالخروج مع عدم الانتقاض بالمس حكم واحد لأبي حنيفة رحمه الله تعالى, والانتقاض بالمس مع عدم الانتقاض بالخروج حكم واحد للشافعي رحمه الله تعالى فهذان لا يشتركان في أمر واحد وقع الاتفاق عليه حتى تكون مخالفته إبطالا للإجماع, فإن قيل قد اتفقا على أحد الافتراقين أعني: انتقاض الخروج دون المس أو بالعكس. فالجواب ما مر من أنه مع كونه واحدا اعتباريا ليس بحكم شرعي, فإن قيل ينبغي أن يكون القول بشمول العدم مبطلا للإجماع على حكم شرعي هو بطلان صلاة من احتجم ومس. فالجواب أن بطلانها ليس بمجمع عليه, وإنما قال فالذي يخطر ببالي; لأن الظاهر أنه لا خلاف في بطلان الصلاة, وإنما الخلاف في جهة البطلان فالحكمان متحدان لا تغاير بينهما أصلا, وإنما التغاير في العلة.
قوله: "وأما الإجماع المركب فأعم من هذا" أي: مما يسمى عدم القائل بالفصل; لأنه يشمل ما إذا كان أحدهما قائلا بالثبوت في إحدى الصورتين فقط, والآخر بالثبوت فيهما أو بالعدم فيهما.(2/98)
ـــــــ
الإجماع; لأن شمول الوجود, وشمول العدم يشتركان في حكم شرعي, وهو وجوب المساواة فإن الجد كالأب شرعا عند عدم الأب فالمساواة بينهما حكم شرعي بخلاف الزوج مع الأبوين والزوجة مع الأبوين فإن مساواة الزوج والزوجة في أن للأم ثلث الكل, أو ثلث الباقي لم يعهد حكما شرعيا, فكذا في العيوب الخمسة المساواة بينهما لم تعهد حكما شرعيا. وأما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في أحدهما مع العدم في الأخرى, وعند البعض الوجود في كليهما أو العدم في كليهما كجواز النفل دون الفرض في الكعبة عند الشافعي رحمه الله تعالى وجوازيهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فجواز النفل متفق عليه فالقول بعدم جوازهما أو جواز الفرض دون النفل خلاف الإجماع وكبيع الملاقيح والبيع بشرط فإن الثاني يفيد الملك عند أبي حنيفة رحمه الله دون الأول, وعند الشافعي رحمه الله تعالى كل واحد منهما لا يفيد الملك فالملاقيح متفق عليها فالقول بإفادتهما الملك أو إفادة الملاقيح لا البيع بالشرط خلاف الإجماع, وهذا غاية التحقيق في هذه المسألة.
"وأما الثاني ففي أهلية من ينعقد به الإجماع, وهي لكل مجتهد ليس فيه فسق ولا بدعة فإن الفسق فيه يورث التهمة, ويسقط العدالة, وصاحب البدعة يدعو الناس إليها وليس هو من الأمة على الإطلاق, وسقطت العدالة بالتعصب أو السفه وكذا المجون" اعلم أن البدعة لا تخلو من أحد الأمرين إما تعصب, وإما سفه; لأنه إن كان وافر العقل عالما بقبح ما يعتقده, ومع ذلك يعاند الحق ويكابره فهو المتعصب, وإن لم يكن وافر العقل كان سفيها إذ السفه خفة, واضطراب يحمله على فعل مخالف للعقل لقلة التأمل وأما المجون فهو عدم المبالاة فالمفتي الماجن هو الذي يعلم الناس الحيل.
"وأما عامة الناس ففيما لا يحتاج إلى الرأي كنقل القرآن, وأمهات الشرائع داخلون في الإجماع كالمجتهدين وفيما يحتاج لا عبرة بهم" اعلم أن الإجماع على نوعين أحدهما: إجماع يفيد قطعية الحكم أي: سند الإجماع لا يكون موجبا للقطع بل الإجماع يفيد القطعية. والثاني: إجماع لا يفيد قطعية الحكم بأن يكون سند الإجماع موجبا للقطع ثم الإجماع يفيد زيادة توكيد, فنقل القرآن وأمهات الشرائع من هذا القبيل. والإجماع الأول لا ينعقد ما بقي مخالف واحد, وذلك المخالف أو مخالف آخر في عهد آخر لا يكفر بالمخالفة, وأما
................................................................................................
قوله: "وليس هو" أي: صاحب البدعة الذي يدعو الناس إليها ليس من الأمة على الإطلاق; لأنه وإن كان من أهل القبلة فهو من أمة الدعوة دون المتابعة كالكفار, ومطلق الاسم لأمة المتابعة المشهود لها بالعصمة. قال شمس الأئمة صاحب البدعة إن لم يكن يدعو إليها ولكنه مشهور بها فقيل لا يعتد بقوله فيما يضل فيه, وأما فيما سواه فيعتد به, والأصح أنه إن كان مظهرا لها فلا يعتد بقوله أصلا, وإلا فالحكم كما ذكر.
قوله: "بالتعصب" هو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جانب.(2/99)
وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية. والخيرية توجب الحقية فيما اجتمعوا لأنه لو لم يكن حقاً كان ضلالاً لقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ } ولا شك أن الأمة الضالين لا يكونون خير الأمم على أنه قد وصفهم بقوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فإذا اجتمعوا على الأمر بشيء يكون ذلك الشيء
ـــــــ
الإجماع الثاني فليس كذلك فإن الحكم قطعي بدونه فليس المراد أنه لو لم يوافق جميع العوام لم ينعقد الإجماع حتى لا يكفر الجاحد بل لا يمكن لأحد من الخواص والعوام المخالفة حتى لو خالف أحد يكفر. "وبعض الناس خصوا الإجماع بالصحابة; لأنهم هم الأصول في أمور الدين والبعض بعترة الرسول عليه الصلاة والسلام لطهارتهم عن الرجس والبعض بأهل المدينة" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن المدينة طيبة تنفي خبثها" 1, وإن الخطأ خبث. "إلا أن هذه الأمور زائدة على الأهلية, وما يدل على كونه حجة لا يوجب الاختصاص بشيء من هذا, وعند البعض لا يشترط اتفاق الكل بل الأكثر كاف لقوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم" " وعندنا يشترط; لأن الحجة إجماع الأمة فما بقي أحد من أهله لا يكون إجماعا وربما كان اختلاف الصحابة والمخالف واحد في مقابلة الجمع الكثير والسواد الأعظم عامة المسلمين ممن هو أمة مطلقة, والمراد بالأمة المطلقة أهل السنة والجماعة, وهم الذين طريقتهم طريقة الرسول عليه السلام وأصحابه دون أهل البدع.
"وأما الثالث ففي شروطه انقراض العصر ليس شرطا عندنا وعند الشافعي رحمه
................................................................................................
قوله: "لا يكفر بالمخالفة" يعني: في صورة عدم تمام الإجماع بناء على بقاء مخالف واحد.
قوله: "انقراض العصر" عبارة عن موت جميع من هو من أهل الاجتهاد في وقت نزول الحادثة بعد اتفاقهم على حكم فيها, وفائدة ذلك جواز الرجوع قبل الانقراض لا دخول من سيحدث.
وقيل: جواز الرجوع, ودخول من أدرك عصرهم من المجتهدين في إجماعهم أيضا, وعند القائلين بالاشتراط ينعقد الإجماع لكن لا يبقى حجة بعد الرجوع وقيل لا ينعقد مع احتمال الرجوع.
قوله: "فجعلوا الخلاف المتقدم مانعا" يعني: إذا لم يكن على طريق البحث عن المأخذ كما هو دأب المناظرة بل على أن يعتقد كل حقية ما ذهب إليه, وعليه عامة أهل الحديث, والشافعية وقد صح عن محمد رحمه الله تعالى أنه لا يكون مانعا ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما يشعر بالمنع وذلك كبيع أمهات الأولاد كان مختلفا بين الصحابة فأجمع التابعون على أنه لا يجوز فلو قضى به قاض لا ينفذ عند محمد رحمه الله تعالى وروى الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا ينقض فقيل: هذا مبني على أن الإجماع لم ينعقد, وقيل: على أن فيه شبهة حيث ذهب كثير من العلماء إلى أنه ليس بإجماع.
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب فضائل المدينة باب 2، 10. مسلم في كتاب البر حديث 53. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 3. الموطأ في كتاب المدينة حديث 4، 5.(2/100)
معروفاً وإذا نهوا عن الشيء يكون ذلك الشيء منكراً فيكون إجماعهم حجة. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} والوساطة العدالة ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على الضلالة", وقوله عليه السلام: "ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن".
ـــــــ
الله تعالى يشترط أن يموتوا على ذلك الإجماع لاحتمال رجوع بعضهم ولنا أنه تحقق الإجماع فلا يعتبر توهم رجوع البعض حتى لو رجع لا يعتبر عندنا. مسألة شرط البعض كونه في مسألة غير مجتهد فيها في زمن الصحابة فجعلوا الخلاف المتقدم مانعا من الإجماع المتأخر; لأن ذلك المخالف إنما اعتبر خلافه لدليله لا لعينه, ودليله باق; ولأن في تصحيح هذا الإجماع تضليل بعض الصحابة والمختار عدم اشتراطه; لأن المعتبر اتفاق أهل العصر وقد وجد ودليله كان دليلا لكنه لم يبق كما إذا نزل نص بعد العمل بالقياس فلا يلزم التضليل الذي ذكر". اعلم أن الضلال إما أن يكون بالنظر إلى الدليل أي: لا يكون الدليل مقرونا بشرائطه, وإما أن يكون بالنظر إلى الحكم لا بالنظر إلى الدليل أن يكون الدليل مقرونا بشرائطه, ومع ذلك لا يكون موصلا إلى الحكم الذي هو حق عند الله فإن أراد بتضليل الصحابة المعنى الأول فلا نسلم لزومه; لأن الصحابة إذا اختلفوا وأقام كل واحد منهم الدليل مقرونا بشرائطه لا يكون واحد منهم ضالا ولا مخطئا بالنظر إلى الدليل ثم إذا انعقد الإجماع بعدهم على أحد الطرفين فدليل المخالف لم يبق الآن دليلا; لأنه حدث دليل أقوى, وهو الإجماع لكن الإجماع لم يدل على أن الدليل لم يكن قبل ذلك مقرونا بشرائطه فلا يكون تضليلا بالنظر إلى الدليل, وإن أراد المعنى الثاني فلا نسلم أن تضليل بعض الصحابة بالنظر إلى الحكم ممتنع بل تضليل كلهم بالنظر إلى الحكم ممتنع, فإنه إذا وقع الاختلاف بينهم فإصابة الحق لا تعدوهم ومع ذلك لا شك أن أحدهم مخطئ نظرا إلى الحكم; لأن الحق عند الله واحد عندنا. فالحاصل أنهم إن أرادوا بالتضليل التضليل بالنسبة إلى الدليل فالتضليل غير لازم; لأن دليلهم كان دليلا في ذلك الزمان لكنه لم يبق دليلا في زمان حدوث الإجماع, وإن أرادوا التضليل بالنسبة إلى الواقع فلا نسلم امتناعه; لأن المجتهد يخطئ ويصيب فإذا وقع الخلاف في مسألة فلا شك أن أحدهما بالنسبة إلى الواقع, وإلى علم الله تعالى مخطئ وضال.
................................................................................................
قوله: "لكنه لم يبق" أي: لم يبق دليلا يعتد به ويعمل به وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أنه نسخ واعترض عليه بأنه لا نسخ بعد انقطاع الوحي, وأجيب بجوازه فيما يثبت بالاجتهاد على معنى أنه لما انتهى ذلك الحكم بانتهاء المصلحة وفق الله تعالى أئمة المجتهدين رحمهم الله تعالى للاتفاق على القول الآخر, ورفع الخلاف, وإن لم يعرفوا مدة الحكم, وتبدل المصلحة.(2/101)
"وأما الرابع ففي حكمه, وهو أن يثبت الحكم يقينا حتى يكفر جاحده لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن قيل الوعيد متعلق بالمجموع, وهو المشاقة والاتباع قلنا بل بكل واحد, وإلا لم يكن في ضمه إلى المشاقة فائدة" أول الآية {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} أي: نجعله واليا لما تولى من الضلالة. ووجه الاستدلال أنه جمع بين مشاقة الرسول, واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ولا شك أن مشاقة الرسول وحدها تستوجب الوعيد فلولا أن الاتباع المذكور حرام لم يكن في ضمه إلى المشاقة فائدة, فكان الكلام حينئذ ركيكا كما لو قال ومن يشاقق الرسول ويأكل الخبز, وإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما, ولا شك أن اتباع سبيل من السبل واجب لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} الآية فيكون الواجب اتباع سبيل المؤمنين, ثم سبيل المؤمنين لا يمكن أن يكون عين ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام; لأنه إذا كان كذلك فاتباع غيره يكون مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام ويكون المعطوف أي: الاتباع عين المعطوف عليه, وهو المشاقة,
................................................................................................
قوله: "وهو أن يثبت الحكم" أي: الحكم الشرعي إذ الحكم الدنيوي لا يثبت يقينا; لأن الإجماع لا يكون فوق صريح قول الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ليس بحجة في مصالح الدنيا لقوله عليه الصلاة والسلام في قصة التلقيح: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وربما كان يترك رأيه في الحروب بمراجعة الصحابة وقيل: يثبت الحكم مطلقا لكن في الدنيوي تجوز مخالفته بعد تبدل المصلحة, وأما الحكم الشرعي المجمع عليه فإن كان إجماعه ظنيا لا يكفر جاحده, وإن كان قطعيا فقيل: يكفر وقيل: لا يكفر, والحق أن نحو العبادات الخمس مما علم بالضرورة كونه من الدين يكفر جاحده اتفاقا. وإنما الخلاف في غيره وسيأتي فيه تفصيل واستدل على إفادة الإجماع بثبوت الحكم يقينا بوجوه من الكتاب, والسنة منها قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} وجه الاستدلال أنه تعالى أوعد باتباع غير سبيل المؤمنين بضمه إلى مشاقة الرسول التي هي كفر فيحرم إذ لا يضم مباح إلى حرام في الوعيد, وإذا حرم اتباع غير سبيلهم يلزم اتباع سبيلهم إذ لا مخرج عنهما; لأن ترك الاتباع غير سبيلهم فيدخل في اتباع غير سبيلهم, والإجماع سبيلهم فيلزم اتباعه. فإن قيل لفظ الغير مفرد لا يفيد العموم فلا يلزم حرمة اتباع كل ما يغاير سبيل المؤمنين بل يجوز أن يكون غير سبيل المؤمنين هو الكفر والتكذيب قلنا بل هو عام بالإضافة إلى الجنس بدليل صحة الاستثناء قطعا, ولو سلم فيكفي الإطلاق فإن قيل: السبيل حقيقة في الطريق الذي يمشي فيه, وهو غير مراد اتفاقا, وليس حمله على الطريق الذي اتفق عليه الأمة من قول أو فعل أو اعتقاد أولى من حمله على الدليل الذي اتبعوه قلنا: اتباع غير الدليل إن كان هو القياس داخل في مشاقة الرسول أي: مخالفة حكمه إذ القياس أيضا مستند إلى نص وحينئذ يلزم التكرار.
فإن قيل لو عم لزم اتباع المباحات, وإسناد الحكم إلى الدليل الذي أسند المؤمنون إجماعهم إليه قلنا خص ذلك للقطع بأنه لا يلزم المتابعة في المباح. وأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعل الغير(2/102)
ولا يمكن أيضا أن يكون سبيل المؤمنين أحكاما لا يدخل فيها ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام إذ لو كان كذلك لكان ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام غير سبيل المؤمنين فيكون اتباعه داخلا في الوعيد فيكون سبيل المؤمنين مجموعا مركبا مما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام ومن غيره فهذا الغير يكون واجب الاتباع, فإن شرط لكونه واجب الاتباع اتفاق الأمة حصل المطلوب, وإن لم يشرط فمع عدم الاتفاق إذا كان واجب الاتباع فمع تحقق الاتفاق أولى أن يكون واجب الاتباع. فإن قيل إن كان سبيل المؤمنين مركبا مما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام ومن غيره فما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام يكون غير سبيل المؤمنين فاتباعه يكون داخلا في الوعيد قلنا لا يكون غير سبيل المؤمنين; لأن جزء الشيء لا يصدق عليه أنه غيره كما لا يصدق عليه أنه عينه; لأن من له عشرة دراهم فقط يصدق أن يقول ليس لي غير عشرة دراهم مع أنه يملك أجزاء العشرة. واعلم أن هذا الاستدلال على أن الإجماع حجة ليس بقوي; لأنه يمكن أن يكون ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام عين سبيل المؤمنين مع أنه لا يكون المعطوف عين المعطوف عليه; لأن مفهوم مشاقة الرسول عليه الصلاة والسلام غير مفهوم اتباع غير سبيل المؤمنين فهذه الغيرية كافية لصحة
................................................................................................
لكونه فعل الغير لا لكونه مما ساق إليه الدليل مثلا إيمان المؤمنين بالله تعالى ونبوة موسى عليه الصلاة والسلام لا يعد اتباعا لليهود وذلك كما خص المؤمنون بالمجتهدين الموجودين في عصر فإن قيل يجوز أن يراد سبيل المؤمنين في متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام, أو مناصرته والاقتداء به, أو فيما صاروا به مؤمنين, وهو الإيمان به كيف وقد نزلت الآية في طعمة بن تصحاب حين سرق درعا وارتد ولحق بالمشركين. أجيب بأن العبرة للعمومات والإطلاقات دون خصوصيات الأسباب والاحتمالات, والثابت بالنصوص ما دلت عليه ظواهرها ولم يصرف عنه قرينة, وقد يقال: إن التمسك بالظواهر, ووجوب العمل بها إنما ثبت بالإجماع ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة عن اتباع الظن, واعترض المصنف رحمه الله تعالى بأنه يجوز أن يكون سبيل المؤمنين ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام ويكفي في صحة العطف تغاير المفهومين, وجوابه أنا لا نمنع ذلك من جهة أنه لا يصح العطف بل من جهة أن سبيل المؤمنين عام لا مخصص له بما ثبت إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام مع أن حمل الكلام على الفائدة الجديدة أولى من حمله على التكرار, وتغاير المفهومين لا يدفع التكرار كما في قولنا اتبعوا القرآن, وكتاب الله تعالى, والتنزيل ونحو ذلك.
قوله "ولا يمكن أيضا أن يكون سبيل المؤمنين أحكاما لا يدخل فيها ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام" هذا مما لا حاجة إليه في الاستدلال إذ على تقدير كونه غير ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام لا يدخل اتباع ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام في الوعيد; لأن عطف اتباع غير سبيل المؤمنين على مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام, وإلحاق الوعيد بهما قرينة ظاهرة على أن اتباع ما أتى به وامتثال أوامره لا يدخل في الوعيد, وإن كان غير سبيل المؤمنين وعلى هذا لا حاجة إلى ما التزمه من أن جزء الشيء ليس غيره مع أنه أمر اتفق على بطلانه جمهور المتمسكين بهذه الآية على حجية الإجماع.(2/103)
العطف كقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} مع أن طاعة الرسول عين إطاعة الله تعالى في الوجود الخارجي لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} لكنه غيره بحسب المفهوم. "وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية والخيرية توجب الحقية فيما اجتمعوا; لأنه لو لم يكن حقا كان ضلالا لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} ولا شك أن الأمة الضالين لا يكونون خير الأمم على أنه قد وصفهم بقوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فإذا اجتمعوا على الأمر بشيء يكون ذلك الشيء معروفا, وإذا نهوا عن الشيء يكون ذلك الشيء منكرا, فيكون إجماعهم حجة وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} " والوساطة العدالة ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} وكل الفضائل منحصرة في التوسط بين الإفراط والتفريط, فإن رءوس الفضائل الحكمة, والعفة والشجاعة, والعدالة فالحكمة نتيجة تكميل القوة العقلية, وهي متوسطة بين الجربزة والغباوة, فتوسطه أن تنتهي القوة العقلية إلى حد يمكن للعقل الوصول إليه, ولا يتجاوز عن الحد الذي وجب أن يتوقف عليه, ولا يتعمق فيما ليس من شأنه التعمق كالتفكر في المتشابهات, والتفتيش في مسألة القضاء, والقدر, والشروع بمجرد العقل في المبدأ والمعاد كما هو دأب الفلاسفة. والعفة هي نتيجة تهذيب القوة الشهوانية, وهي متوسطة بين الخلاعة والجمود. والشجاعة نتيجة تهذيب القوة الغضبية, وهي متوسطة بين التهور والجبن, وإنما يحمد فيها التوسط; لأن النفس الحيوانية هي مركب للروح الإنسانية فلا بد من توسطها لئلا
................................................................................................
"قوله وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} " أثبت لمجموع الأمة العدالة وهي تقتضي الثبات على الحق, والطريق المستقيم; لأن العدالة الحقيقة الثابتة بتعديل الله تعالى تنافي الكذب والميل إلى جانب الباطل, ولا خفاء في أنها ليست ثابتة لكل واحد من الأمة فتعين المجموع, وأيضا الشاهد حقيقة هو المخبر بالصدق, واللفظ مطلق يتناول الشهادة في الدنيا, والآخرة فيجب أن يكون قول الأمة حقا وصدقا ليختارهم الحكيم الخبير للشهادة على الناس.
قوله: "وكل الفضائل منحصرة في التوسط" تقدير هذا الكلام أن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى. إحداها مبدأ إدراك الحقائق والسوق إلى النظر في العواقب والتمييز بين المصالح والمفاسد, ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية, والنفس المطمئنة, والملكية. والثانية: مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك وتسمى القوة الشهوانية والبهيمية, والنفس الأمارة. والثالثة: مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع وهي القوة الغضبية والسبعية, والنفس اللوامة وتحدث من اعتدال الحركة للأولى الحكمة, وللثانية العفة, وللثالثة الشجاعة, فأمهات الفضائل هي هذه الثلاثة وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها, وكل منها محتوش بطرفي إفراط وتفريط هما رذيلتان. أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة, وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}, وإفراطها الجربزة وهي استعمال الفكر(2/104)
تضعف عن السير ولا تجمح بل تنقاد للروح, ثم التوسط في هذا المجموع أي: الحكمة والعفة والشجاعة هي العدالة فلهذا فسر الوساطة بالعدالة فالعدالة تقتضي الرسوخ على الصراط المستقيم, وتنفي الزيغ عن سواء السبيل. "وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" وقوله عليه السلام: "ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن" " هذه هي الأدلة المشهورة على أن الإجماع حجة فقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} فقد عرفت ما عليه.
وأما غيره من الآيات فدلالته على أن اتفاق مجتهدي عصر واحد حجة ليست بقوية وما ذكر من أخبار الآحاد فبلوغ مجموعها إلى حد التواتر غير معلوم والإجماع دليل قاطع يكفر جاحده فيجب أن تكون الدلائل الدالة على أنه دليل قاطع قطعية الدلالة على هذا المدلول المطلوب فأنا أذكر ما سنح لخاطري فأقول القضايا المتفق عليها نوعان: أحدهما: ما اتفق عليه جميع الناس نحو العدل حسن, والظلم قبيح فهذا النوع يجب أن يكون يقينيا يضاهي المتواترات والمجربات; لأن الناس إذا اتفقوا على قضية فإن لم تكن ثابتة عندهم
................................................................................................
فيما لا ينبغي كالمتشابهات وعلى وجه لا ينبغي كمخالفة الشرائع نعوذ بالله تعالى من علم لا ينفع, وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرادة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة. وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقية في الأمور ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الهائلة حتى يكون فعلها جميلا, وصبرها محمودا, وإفراطها التهور أي: الإقدام على ما لا ينبغي, وتفريطها الجبن أي: الحذر عما لا ينبغي الحذر عنه, وأما العفة فهي انقياد البهيمية للناطقية ليكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقية ليسلم عن استعباد الهوى إياها واستخدام اللذات. وإفراطها الخلاعة, والفجور أي: الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب, وتفريطها الخمود أي: السكوت عن طلب اللذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثارا لا خلقة فالأوساط فضائل, والأطراف رذائل, وإذا امتزجت الفضائل الثلاثة حصلت من امتزاجها حالة متشابهة هي العدالة, فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة, وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام: "خير الأمور أوسطها", والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة لتصل بذلك إلى كمالها اللائق بها ومقصودها المتوجهة إليه. وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها, واشترط التوسط في أفعالهما لئلا تستبعد الناطقة في هواهما, وتصرفاتهما عن كمالها ومقصدها وقد مثل ذلك بفارس استردف سبعا وبهيمة للاصطياد فإن انقاد السبع, والبهيمة للفارس واستعملهما على ما ينبغي حصل مقصود الكل بوصول الفارس إلى الصيد, والسبع إلى الطعمة, والبهيمة إلى العلف, وإلا هلك الكل, فقوله: النفس الحيوانية أراد بها ما هو أعم من البهيمية والسبعية. وأما الكلام في أن هذه الثلاثة نفوس متعددة أم نفس واحدة مختلفة بالاعتبارات أم قوى, وكيفيات للنفس الإنسانية فموضعه علم آخر.
قوله: "وأما غيره من الآيات فدلالته على أن اتفاق مجتهدي عصر واحد حجة" قطعية ليست بقوية أما قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية; فلأن الظاهر أن الخطاب(2/105)
فتواطؤهم على الكذب مما يحيله العقل إذ لولا ذلك يلزم القدح في المتواترات, وإن كانت ثابتة عندهم فحكم العقل بها إن لم يتوقف على السمع فإن كان حكما واجبا على تقدير تصور الطرفين في نفس الأمر بديهة, أو كسبا فهو المطلوب, وإن كان واجبا في اعتقادهم إلا أنه خطأ فوقوع الخطأ بحيث لم يتنبه عليه أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحكماء والعلماء وغيرهم في الأزمنة المتطاولة يوجب أن لا اعتماد على العقل أصلا, وأيضا الحكم الضروري ليس معناه إلا أنه ما يقع في العقول, وإن لم يكن واجبا أصلا بل وقع اتفاقا والاتفاقي لا يكثر, ولولا ذلك للزم القدح في المجربات, وإن توقف على السمع فإن حكم العقل بوجوب على قبوله بأن يحكم بامتناع الكذب من قائله فهو المطلوب, وإن لم يحكم فاتفاق الجمهور على قبوله من غير وجوب باطل لما مر. فإن قلت لم لا يجوز أن واحدا من أهل الشوكة حكم به واتبعه متابعوه ثم بعد ذلك اتبعهم الناس كما نشاهده من الرسوم والعادات؟ قلت: كلامنا فيما يعتقده الناس أنه حسن أو قبيح عند الله فلا يرد ذلك على أن الأنبياء وأهل الحق لم يخافوا أن يعنتهم الناس على ترك الرسوم بل رفضوها وهم قد اعتقدوا ما نحن بصدده, وأيضا مثل ذلك الاحتمال يرد على المتواترات الماضية ولم يقدح فيها. والثاني: ما اتفق عليه المجتهدون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على أمر فهذا من خواص أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه خاتم النبيين فلا وحي بعده, وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
................................................................................................
للصحابة على ما يشعر به قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً}, وأن الضلال في بعض الأحكام بناء على الخطأ في الاجتهاد بعد بذل الوسع لا ينافي كون المؤمنين العاملين بالشرائع الممتثلين للأوامر خير الأمم; ولأن المعروف والمنكر ليسا على العموم إذ رب منكر لم ينهوا عنه لعدم الاطلاع عليه; ولأن المعروف والمنكر بحسب الرأي, والاجتهاد لا يلزم أن يكونا كذلك في الواقع, وبعد تسليم جميع ذلك لا دلالة له قطعا على قطعية إجماع المجتهدين من عصر. وأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} الآية فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه بل هو مأجور; ولأن المراد كونهم وسطا بالنسبة إلى سائر الأمم; ولأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل من الأحاد, وبعد التسليم لا دلالة على قطعية إجماع المجتهدين في عصر.
قوله: "وما ذكر من الأخبار" قد يستدل على حجية الإجماع بأن الأخبار في عصمة الأمة عن الخطأ مع اختلاف العبارات, وكون كل منها خبرا واحدا قد تظاهرت حتى صارت متواترة المعنى بمنزلة شجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم فأجاب بأن بلوغ مجموعها حد التواتر غير معلوم ولا يخفى أن مثل هذا يرد على كل ما ادعي تواتر معناه.(2/106)
ولا شك أن الأحكام التي تثبت بصريح الوحي بالنسبة إلى الحوادث الواقعة قليلة غاية القلة فلو لم يعلم أحكام تلك الحوادث من الوحي الصريح وبقيت أحكامها مهملة لا يكون الدين كاملا فلا بد من أن يكون للمجتهدين ولاية استنباط أحكامها من الوحي, فإن استنبط المجتهدون في عصر حكما, واتفقوا عليه يجب على أهل ذلك العصر قبوله فاتفاقهم صار بينة على ذلك الحكم فلا يجوز بعد ذلك مخالفتهم لقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وأيضا قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية. يدل على وجوب اتباع كل قوم طائفته المتفقهة فإن اتفق الطوائف على حكم لم يوجد فيه وحي صريح وأمروا أقوامهم به يجب قبوله فاتفاقهم صار بينة على الحكم فلا يجوز المخالفة بعد ذلك; لما ذكرنا. وأيضا قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فأولوا الأمر إن كانوا هم المجتهدين فإذا اتفقوا على أمر لم يوجد فيه صريح الوحي يجب إطاعتهم, وإن
................................................................................................
قوله: "فأنا أذكر" قد ذكر المصنف رحمه الله مما سنح له قطعية الإجماع ستة أوجه. حاصل الأول: أن الله تعالى حكم بإكماله دين الإسلام, فيجب أن لا يكون شيء من أحكامه مهملا ولا شك أن كثيرا من الحوادث مما لم يبين بصريح الوحي, فيجب أن يكون مندرجا تحت الوحي بحيث لا يصل إليه كل أحد, وحينئذ إما أن لا يمكن للأمة استنباطه وهو باطل إذ لا فائدة في الإدراج أو يمكن لغير المجتهدين منهم خاصة, وهو باطل بالضرورة فتعين استنباطه للمجتهدين وحينئذ إما أن يستنبطه قطعا ويقينا كل مجتهد وهو أيضا باطل لما بينهم من الاختلاف, أو جميع المجتهدين إلى يوم القيامة, وهو أيضا باطل لعدم الفائدة فتعين استنباط جمع من جميع المجتهدين, ولا دلالة على تعيين عدد معين من الأعصار, فيجب أن يعتبر عصر واحد وحينئذ لا ترجيح للبعض على البعض فتعين اعتبار جميع المجتهدين في عصر واحد فيكون اتفاقهم بيانا للحكم وبينة عليه فيجب اتباعه للآيات الدالة على وجوب اتباع البينة هذا غاية تقرير هذا الكلام. ولقائل أن يقول: وجوب الاتباع لا يستلزم القطع, وأيضا ما ذكر لا يدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر لجواز أن يكون الحكم المندرج في الوحي مما يطلع عليه واحد أو جماعة من المجتهدين في عصر آخر قبله أو بعده, وأيضا إكمال الدين هو التنصيص على قواعد العقائد, والتوقيف على أصول الشرائع, وقوانين الاجتهاد لإدراج حكم كل حادثة في القرآن والمصنف رحمه الله تعالى جعل القضايا المتفق عليها نوعين: أحدهما: ما اتفق عليه جميع الناس. والثاني: ما اتفق عليه المجتهدون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر, وظاهر أنها لا تنحصر في ذلك; لأن ما لم يتفق عليها جميع الناس بل بعضهم أقسام كثيرة لا يدخل تحت الحصر ثم ذكر في النوع الأول تطويلا وتفصيلا لا دخل له في المقصود إلا بيان أن ما اتفق عليه المجتهدون في عصر يجب على ذلك العصر قبوله كما أن المتفق عليها بين الجميع يجب قبولها, وثبوتها في نفس الأمر بمنزلة المتواترات والمجربات.(2/107)
كانوا هم الحكام فإن لم يكونوا مجتهدين, ولم يعلموا الحكم المذكور يجب عليهم السؤال من أهل العلم والاجتهاد لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فإذا سألوهم واتفقوا على الجواب يجب القبول, وإلا لم يكن في السؤال فائدة فيجب على الناس الإطاعة في ذلك العصر وكذا بعده لما مر وأيضا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} يدل على أنه لا يلقي في قلوب قوم هم العلماء المهديون خلاف الحق; لكونه ضلالا لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} وأيضا قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} يدل على أن النفس المزكاة يلهمها الله الخير لا الشر لا سيما عند الاجتماع, والنفس المزكاة هي المشرفة بالعلم والعمل.
وأيضا العلماء إذا قالوا: أن الإجماع حجة قطعية مع اتفاقهم على أن الحكم لا يكون
................................................................................................
قوله: "وأيضا قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ} " الآية لقائل أن يقول: هذا لا يفيد إلا كون ما اتفق عليه طوائف الفقهاء حجة على غير الفقهاء, والكلام في كونه حجة على المجتهدين حتى لا يسعهم مخالفته, وأيضا وجوب العمل لا يستلزم القطع, وكذا الكلام في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} على أنه لو صح ما ذكره لزم أن يكون قول مجتهد واحد في عصر لا مجتهد فيه غيره حجة قطعية لكونه بينة على الحكم في ذلك العصر.
قوله: "وأيضا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً} " الآية لقائل أن يقول: المراد عدم الإضلال بالإلجاء إلى الكفر بعد الهداية إلى الإيمان إذ كثيرا ما يقع الخطأ لجماعات العلماء, وأيضا هذا لا ينفي وقوع الضلال والذهاب إلى غير الحق من النفس أو من الشيطان, وإنما ينفي وقوع الإضلال من الله تعالى, وأيضا لو أجري على ظاهره لزم أن لا يخطأ جماعة من العلماء قط ولا دلالة على تعيين جميع المجتهدين في عصر.
قوله: "وأيضا قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} " الآية الواو للقسم, ومعنى تنكير نفس التكثير, وقيل: المراد نفس آدم عليه السلام ومعنى إلهام الفجور والتقوى إفهامها, وتعريف حالها والتمكين من الإتيان بهما, ومعنى تزكيتها إنماؤها بالعلم والعمل, ومعنى تدسيتها نقضها, وإخفاؤها بالجهالة والفسوق وليس معنى إلهام الفجور والتقوى أن يعلم كل خير وشر ولا اختصاص لذلك بالنفس المزكاة فكيف بجميع المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر. والعجب من المصنف رحمه الله تعالى كيف رد استدلالات القوم بأنها ليست قطعية الدلالة على كون الإجماع حجة قطعية, وأورد مما سنح له ما لا دلالة فيه على المطلوب بوجه من الوجوه, وإلحاق هذه الوجوه بالكتاب مما اتفق له في آخر عهده ولا يوجد في النسخ القديمة, وقد يقال: إن مراده الاستدلال بمجموع الآيات المذكورة لا بكل واحد وذلك مع أنه خلاف ظاهر كلامه ليس بمستقيم إذ لا دلالة للمجموع أيضا قطعا.
قوله: "وأيضا العلماء" استدلال جيد إلا أن حاصله راجع إلى ما سبق من أن الأحاديث الدالة(2/108)
الركن الرابع: في القياس
مدخل
...
الركن الرابع: في القياس
وهو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة لا تدرك بمجرد اللغة.
ـــــــ
قطعيا إلا وأن يكون الدليل الدال عليه قطعيا فإخبارهم الإجماع حجة قطعية إخبار بأن قد وصلوا إلى دليل دال على أنه حجة قطعية إذ لولا ذلك لا يكون كلامهم إلا كاذبا, والقائلون بهذا القول العلماء العاملون المجتهدون الكثيرون غاية الكثرة بحيث لا يمكن تواطؤهم على الكذب, وذلك الدليل لا يكون قياسا; لأنه لا يفيد القطعية عندهم ولا الإجماع للدور بقي الدليل الذي هو الوحي فصار كأن كل واحد قال أنه وصل إلي من الكتاب أو السنة ما يدل على أنه حجة قطعية, وإذا قالوا هذا القول كان الدليل على أنه حجة وحيا متواترا, على أن الإجماع الذي ندعي أنه حجة أخص الإجماعات فإن قوما قالوا: إجماع أهل المدينة حجة وقوما قالوا: إجماع العترة حجة, ونحن لا نكتفي بهذا بل نقول لا بد من اتفاق جميع المجتهدين حتى يدخل فيهم العترة وأهل المدينة فأدلتهم تدل على مطلوبنا والأحاديث كثيرة في هذا المطلوب كقوله عليه السلام: "يد الله مع الجماعة" 1 وقوله عليه السلام: "من خالف الجماعة قدر شبر فقد مات ميتة جاهلية" وقوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم" 2 فالغرض من هذا أن الأدلة الدالة على أنه حجة قد وصلت إلى العلماء بحيث توجب العلم اليقيني.
ثم الإجماع على مراتب: إجماع الصحابة ثم إجماع من بعدهم فيما لم يرو فيه خلاف الصحابة ثم إجماعهم فيما روي خلافهم فهذا إجماع مختلف فيه وفي مثل هذا الإجماع
................................................................................................
على حجية الإجماع متواترة المعنى والمصنف رحمه الله تعالى قد منع ذلك ثم لما كان هذا مظنة أن يقال: إن العلماء لم يتفقوا على ذلك بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب; لأن منهم من خالف, وزعم أن الحجة إنما هو إجماع أهل المدينة أو إجماع العترة أجاب بأن ما ندعي كونه حجة أخص الإجماعات; لأنه إجماع جميع المجتهدين في عصر فيدخل فيهم المجتهدون من أهل المدينة, والعترة بخلاف إجماع أهل المدينة أو العترة فإنه لا يستلزم إجماع الكل, وفيه نظر; لأنه قد لا يوجد في العصر مجتهد من العترة أو لا يطلع عليه كما في القرن الثالث, وما بعده فلا يكون أخص, ولا تدل أدلتهم على مطلوبنا; لأن دليلهم هو اشتمال إجماع العترة على قول الإمام المعصوم بل الجواب أن المراد اتفاق علماء السنة, والجماعة, وإلا فقد خالف كثير من أهل الهوى, والبدع.
قوله: "ثم الإجماع على مراتب" فالأولى بمنزلة الآية والخبر المتواتر يكفر جاحده. والثانية بمنزلة الخبر المشهور يضلل جاحده. والثالثة: لا يضلل جاحده لما فيه من الاختلاف.
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتب الفتن باب 7. النسائي في كتاب التحريم باب 6.
2 رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 8. أحمد في مسنده 4/278.(2/109)
يجوز التبديل في عصر واحد, وفي عصرين والإجماع الذي ثبت ثم رجع واحد منهم إجماع مختلف فيه أيضا.
وأما الخامس ففي السند والناقل يجوز أن يكون سند الإجماع خبر الواحد أو القياس عندنا وعند البعض لا بد من قطعي قلنا يكون الإجماع لغوا حينئذ وكونه حجة ليس من قبل دليل بل لعينه كرامة لهذه الأمة, وأما الناقل فكما ذكرنا في نقل السنة.
"الركن الرابع" في القياس, وهو "تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة لا تدرك بمجرد اللغة" أي: إثبات حكم مثل حكم الأصل في الفرع, والمراد بالأصل المقيس عليه والفرع المقيس, وقد قيل عليه إن التعدية توجب أن لا يبقى الحكم في الأصل وهذا باطل; لأن التعدية في اصطلاح الفقهاء المعنى الذي ذكرنا, وأيضا لا تشعر بعدم بقائه في الأصل بل تشعر ببقائه في الأصل في وضعها اللغوي ألا يرى أن تعدية الفعل هي أن لا يقتصر على التعلق بالفاعل بل يتعلق بالمفعول أيضا كما هو متعلق بالفاعل. فالمراد هنا أن لا يقتصر ذلك النوع من الحكم على الأصل بل يثبت في الفرع أيضا, ولا حاجة إلى أن يقال تعدية الحكم المتحد; لأن التعدية لا تمكن إلا وأن يكون الحكم متحدا من حيث النوع, وإنما الاختلاف يكون باعتبار المحل. وقوله لا تدرك بمجرد اللغة احتراز عن دلالة النص, وذكر هذا القيد واجب لاتفاق العلماء على الفرق بين دلالة النص والقياس.
................................................................................................
قوله: "وفي مثل هذا الإجماع يجوز التبديل" ذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى إلى أنه يجوز نسخ الإجماع بالإجماع, وإن كان قطعيا حتى لو أجمع الصحابة على حكم ثم أجمعوا على خلافه جاز, والمختار عند الجمهور هو التفصيل على ما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى وهو أن الإجماع القطعي المتفق عليه لا يجوز تبديله وهو المراد بما سبق من أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به, والمختلف فيه يجوز تبديله كما إذا أجمع القرن الثاني على حكم يروى فيه خلاف من الصحابة ثم أجمعوا بأنفسهم, أو أجمع من بعدهم على خلافه فإنه يجوز لجواز أن تنتهي مدة الحكم الثابت بالإجماع فيوفق الله تعالى أهل الإجماع للإجماع على خلافه. وما يقال إن انقطاع الوحي يوجب امتناع النسخ فمختص بما يتوقف على الوحي, والإجماع ليس كذلك والمصنف رحمه الله تعالى قد تحاشى عن إطلاق لفظ النسخ إلى لفظ التبديل محافظة على ظاهر كلام القوم على أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به.
قوله: "وأما الخامس ففي السند والناقل" جمعهما في بحث واحد; لأنهما سبب. فالأول سبب ثبوت الإجماع. والثاني سبب ظهوره, والجمهور على أنه لا يجوز الإجماع إلا عن سند من دليل أو أمارة; لأن عدم السند يستلزم الخطأ إذ الحكم في الدين بلا دليل خطأ ويمتنع إجماع الأمة على الخطأ, وأيضا اتفاق الكل من غير داع يستحيل عادة كالإجماع على أكل طعام واحد. وفائدة الإجماع بعد وجود السند سقوط البحث, وحرمة المخالفة, وصيرورة الحكم قطعيا ثم اختلفوا في السند فذهب الجمهور إلى أنه يجوز أن يكون قياسا, وأنه وقع كالإجماع على خلافة أبي بكر قياسا على إمامته في الصلاة حتى قيل رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا أفلا نرضاه لأمر دنيانا. وذهب الشيعة وداود الظاهري ومحمد بن جرير الطبري إلى المنع من ذلك. وأما جواز كونه خبر واحد(2/110)
بعض أصحابنا جعلوا العلة ركن القياس والتعدية حكمه فالقياس تبين أن العلة في الأصل هذا ليثبت الحكم في الفرع وهو يفيد غلبة الظن بأن الحكم هذا إلا أنه مثبت له ابتداء.
ـــــــ
"وبعض أصحابنا جعلوا العلة ركن القياس والتعدية حكمه فالقياس تبيين أن العلة في الأصل هذا ليثبت الحكم في الفرع". ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن العلة ركن القياس والتعدية حكمه فالركن ما يتقوم به الشيء والحكم هو الأثر الثابت بالشيء, والمراد أن الشيء الذي يتقوم به ويتحقق به القياس هو العلة أي: العلم بالعلة ثم التعدية هي أثر القياس, فالقياس هو تبيين أن العلة في الأصل هذا الشيء ليثبت الحكم في الفرع فإثبات الحكم في الفرع وهو التعدية نتيجة القياس والغرض منه. وإنما قلنا ليثبت الحكم في الفرع حتى لو علل بالعلة القاصرة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله لا يكون هذا التعليل قياسا, وهذا أحسن من جعل القياس تعدية, وإثباتا للحكم في الفرع; لأن إثبات الحكم في الفرع معلل
................................................................................................
فمتفق عليه كذا في عامة الكتب وقد وقع في الميزان, وأصول شمس الأئمة أن المذكورين خالفوا في الظني قياسا كان أو خبر واحد ولم يجوزوا الإجماع إلا على قطعي; لأنه قطعي فلا يبتنى إلا على قطعي; لأن الظن لا يفيد القطع. وجوابه أن كون الإجماع حجة ليس مبنيا على دليل أي: سنده بل هو حجة لذاته كرامة لهذه الأمة, واستدامة لأحكام الشرع, والدليل على بطلان مذهبهم أنه لو اشترط كون السند قطعيا لوقع الإجماع لغوا ضرورة ثبوت الحكم قطعا بالدليل القطعي. فإن قيل هذا يقتضي أن لا يجوز الإجماع عن قطعي أصلا لوقوعه لغوا. قلنا المراد أنه لو اشترط كون السند قطعيا لكان الإجماع الذي هو أحد الأدلة لغوا بمعنى أنه لا يثبت حكما ولا يوجب أمرا مقصودا في شيء من الصور إذ التأكيد ليس بمقصود أصلي بخلاف ما إذا لم يشترط, فإن السند إذا كان ظنيا فهو يفيد إثبات الحكم بطريق القطع, وإذا كان قطعيا فهو يفيد التأكيد كما في النصوص المتعاضدة على حكم واحد, فلا يكون لغوا بين الأدلة, وعلم أنه لا معنى للنزاع في جواز كون السند قطعيا; لأنه إن أريد أنه لا يقع اتفاق مجتهدي عصر على حكم ثابت بدليل قطعي فظاهر البطلان, وكذا إن أريد أنه لا يسمى إجماعا; لأن الحد صادق عليه, وإن أريد أنه لا يثبت الحكم فلا يتصور فيه نزاع; لأن إثبات الثابت محال.
قوله: "وأما الناقل" نقل الإجماع إلينا قد يكون بالتواتر فيفيد القطع وقد يكون بالشهرة فيقرب منه وقد يكون بخبر الواحد فيفيد الظن, ويوجب العمل لوجوب اتباع الظن بالدلائل المذكورة. قال الإمام الغزالي: وجوب العمل بخبر الواحد ثبت إجماعا وذلك فيما نقل عن النبي عليه الصلاة والسلام, وأما فيما نقل عن الأمة من الإجماع فلم يدل على وجوب العمل به نص, ولا إجماع, ولم يثبت صحة القياس في إثبات أصول الشريعة هذا هو الأظهر ولسنا نقطع ببطلان من يتمسك به في حق العمل, واستدل بأن نقل الظني مع تخلل الواسطة بين الناقل والنبي عليه الصلاة والسلام يوجب العمل فنقل القطع أولى, وأجيب بأن خبر الواحد إنما يكون ظنيا بواسطة شبهة في(2/111)
بالقياس, والعلة لا بد وأن تكون خارجة عن المعلول, وعلة إثبات الحكم في الفرع ليست إلا الحكم بالمساواة بين الأصل والفرع في العلة لتثبت المساواة بينهما في الحكم.
"وهو يفيد غلبة الظن بأن الحكم هذا إلا أنه مثبت له ابتداء" أي: القياس يفيد غلبة ظننا بأن حكم الله في صورة الفرع هذا فما ذكرنا من إثبات الحكم, فالمراد به هذا المعنى لا أن القياس مثبت للحكم ابتداء; لأن مثبت الحكم هو الله تعالى, وهذا ما قالوا: إن القياس مظهر للحكم لا مثبت.
................................................................................................
الناقل, وإلا فهو في الأصل قطعي كالإجماع بل أولى إذ لا شبهة لأحد في أن الخبر المسموع عن النبي عليه الصلاة والسلام حجة قطعا.
قوله: "الركن الرابع في القياس" هو في اللغة: التقدير والمساواة يقال قست النعل بالنعل أي: قدرتها بها وفلان لا يقاس بفلان أي: لا يساوى وقد تعدى بعلى بتضمين معنى الابتناء كقولهم قاس الشيء على الشيء, وفي الشرع: مساواة الفرع للأصل في علة حكمه, وذلك أنه من أدلة الأحكام فلا بد من حكم مطلوب به, وله محل ضرورة, والمقصود إثبات ذلك الحكم في ذلك المحل لثبوته في محل آخر يقاس هذا به, فكان هذا فرعا وذلك أصلا لاحتياجه إليه, وابتنائه عليه, ولا يمكن ذلك في كل شيئين بل إذا كان بينهما أمر مشترك يوجب الاشتراك في الحكم, ويسمى علة الحكم ولا بد من ثبوت مثلها في الفرع إذ ثبوت عينها فيه محال; لأن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين, وبذلك يحصل الظن مثل الحكم في الفرع وهو المطلوب. وقد وقع في عبارة القوم أنه تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة واعترض عليه بأنه منقوض بدلالة النص بأنه لا معنى لتعدية الحكم لاستحالة الانتقال على الأوصاف ولو سلم فيلزم عدم بقاء الحكم في الأصل لانتقاله عنه, ولو سلم فالثابت في الفرع لا يكون حكم الأصل بل مثله ضرورة تعدد الأوصاف بتعدد المحال فالمصنف رحمه الله تعالى زاد تقييد العلة بما لا يدرك بمجرد اللغة احترازا عن دلالة النص وفسر تعدية حكم الأصل بإثبات حكم مثل حكم الأصل في الفرع, وبهذا خرج الجواب عن الاعتراضات المذكورة إلا أنه تعرض لبعضها على التفصيل على ما سيشير إليه.
قوله: "والمراد بالأصل المقيس عليه" فإن قلت تفسير الأصل والفرع بالمقيس عليه, والمقيس يستلزم الدور لتوقف معرفتهما على معرفة القياس قلت ليس هذا تفسيرا للأصل والفرع بل بيانا لما صدقا عليه أي: المراد بالأصل المحل الذي يسمى مقيسا عليه لا نفس الحكم, ولا دليله على ما وقع عليه اصطلاح البعض, وكذا في الفرع مثلا إذا قسنا الذرة على البر في حرمة الربا فالأصل هو البر, والفرع هو الذرة لابتنائها عليه في الحكم, لا يقال فيخرج عن التعريف قياس المعدوم على المعدوم; لأن الأصل ما يبتنى عليه غيره, والفرع ما يبتنى على غيره, والمعدوم ليس بشيء; لأننا نقول لفظه ما عبارة عما هو أعم من الموجود, والمعدوم أعني: المعلوم ولو سلم فالوجود في الذهن كاف في الشيئية.
قوله: "بل تشعر ببقائه في الأصل" فيه بحث; لأن معنى التعدية في اللغة جعل الشيء متجاوزا عن الشيء ومتباعدا عنه, ولا يخفى أن التعدية في اصطلاح التصريف مجاز أو منقول, وأنه لا حاجة(2/112)
وأصحاب الظواهر نفوه فبعضهم على أن العبرة للعقل أصلاً وبعضهم على أن لا عبرة في الشرعيات لهم قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله
ـــــــ
"وأصحاب الظواهر نفوه فبعضهم على أن لا عبرة للعقل أصلا, وبعضهم على أن لا
................................................................................................
إلى هذا الاعتذار بعد تفسير التعدية بإثبات مثل الحكم على ما سبق, ولا إلى الاعتذار عن ترك قيد المتحد بأنه لا يمكن تعدية الحكم إلا إذا كان متحدا بالنوع وذلك; لأنه مبني على أن تكون التعدية حقيقة هاهنا, وهذا باطل إذ لا يتصور التعدية في الأحكام, والانتقال على الأوصاف.
قوله: "وبعض أصحابنا" ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن ركن القياس ما جعل علما على حكم النص مما اشتمل عليه النص, وجعل الفرع نظيرا له في حكمه; لوجوده فيه وقال: أما الحكم الثابت بتعليل النصوص فتعدية حكم النص إلى ما لا نص فيه ليثبت فيه بغالب الرأي على احتمال الخطأ وهذا صريح في أن العلة ركن والتعدية حكم, وفيه إشارة إلى أن القياس هو التعليل أي: تبيين أن العلة في الأصل هذا ليثبت الحكم في الفرع فذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى أن مراده أن العلم بالعلة ركن القياس أي: ما يتقوم به ويتحصل. وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يراد بالركن نفس ماهية الشيء على ما أشار إليه في الميزان من أن ركن القياس هو الوصف الصالح المؤثر, وما سواه مما يتوقف عليه إثبات الحكم شرائط لا أركان. وثانيهما: وهو الأظهر أن يراد بالركن جزء الشيء على ما ذهب إليه بعض المحققين من أن أركان القياس أربعة: الأصل, والفرع وحكم الأصل, والوصف الجامع. وأما حكم الفرع فثمرة القياس لتوقفه عليه لكن لا يخفى أنه لا حاجة على هذا التقدير إلى ما ذكره من أن المراد بالعلة العلم بالعلة; لأن نفس هذه الأمور الأربعة مما يتوقف عليه تحقق القياس ووجوده في نفسه فإن قيل: قد ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن من جملة شروط القياس تعدي الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره, ولا نص فيه وشرط الشيء متقدم عليه فكيف يكون أثرا له؟ أجيب بأن المراد أن يكون التعدية حكم القياس, وأثره شرط أو أن التعدية شرط للعلم بصحة القياس لا للقياس نفسه.
قوله: "وهذا أحسن من جعل القياس تعدية" هذا ظاهر على تفسيره التعدية بإثبات الحكم في الفرع إذ يصح أن يقال دليل إثبات حرمة الربا في الذرة هو القياس ولا يصح أن يقال هو إثبات حرمة الربا فيه.
قوله: "لأن مثبت الحكم هو الله تعالى" غير واف بالمقصود; لأنه ينبغي على هذا التقدير أن يجعل شيء من الأدلة مثبتا للحكم بل يجعل مظهرا على ما ذهب إليه المحققون من أن مرجع الكل إلى الكلام النفسي والأوجه ما سبق من أن حكم الفرع يثبت بالنص أو الإجماع الوارد في الأصل, والقياس بيان لعموم الحكم في الفرع وعدم اختصاصه بالأصل, وهذا أوضح ثم الأظهر أن تفسر التعدية بالإبانة والإظهار على ما ذكره الشيخ أبو منصور رحمه الله تعالى أن القياس إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر.
قوله: "وأصحاب الظواهر نفوه" أي: القياس بمعنى أنه ليس للعقل حمل النظير على النظير في(2/113)
تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقوله عليه السلام: "فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا" ولأن العمل بالأصل ممكن وقد دعينا إليه قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} ولأن الحكم حق الشارع، وهو قادر على البيان القطعي فلم يجز إثباته بما فيه شبهة، وهو تصرف في حقه تعالى؛ ولأنه طاعة الله تعالى ولا مدخل للعقل في دركها بخلاف أمر الحرب وقيم المتلفات ونحوهما فإن العمل بالأصل لا
ـــــــ
عبرة له في الشرعيات لهم قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} " ولما كان الكتاب تبيانا لكل شيء يكون كل الأحكام مستفادة من الكتاب, والقياس إنما يكون حجة فيما لا يوجد في الكتاب. "وقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} " إن كان المراد بالكتاب اللوح المحفوظ فلا تمسك لهم حينئذ, وإن كان المراد القرآن فالتمسك به كما
................................................................................................
الأحكام الشرعية ولا في غيرها من العقليات والأصول الدينية, وإليه ذهب بعض الخوارج أو بمعنى أنه ليس للعقل ذلك في الأحكام الشرعية خاصة إما لامتناعه عقلا, وإليه ذهب بعض الشيعة والنظام, وإما لامتناعه سمعا, وإليه ذهب داود الأصفهاني رحمه الله تعالى, والمذكور في الكتاب أدلة المذهب الأخير, ولم يتعرض للأولين; لأنا قاطعون بأن الشارع لو قال: إذا وجدت مساواة فرع لأصل في علة حكمه, فأثبت فيه مثل حكمه, واعمل به لم يلزم منه محال لا لنفسه ولا لغيره, ثم اختلف القائلون بعدم امتناع القياس فقيل هو واجب عقلا لئلا تخلو الوقائع عن الأحكام إذ النص لا يفي بالحوادث الغير المتناهية. وجوابه: أن أجناس الأحكام, وكلياتها متناهية يجوز التنصيص عليها بالعمومات, والجمهور على أنه جائز ثم اختلفوا فذهب النهرواني والقاشاني إلى أنه ليس بواقع, والجمهور على أنه واقع ثم اختلفوا في ثبوته. فقيل: بالعقل. وقيل: بالسمع ثم اختلف القائلون بالسمع فقيل بدليل ظني, وقيل قطعي وبه يشعر كلام المصنف رحمه الله حيث استدل عليه بدلالة نص الكتاب وبالسنة المشهورة وبالإجماع.
قوله: "المراد بالكتاب اللوح" عن ابن عباس رضي الله عنه هو لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وعند الحكماء هو العقل الفعال المنتقش بصورة الكائنات على ما هي عليه منه تنطبع العلوم في عقول الناس, وقيل: هو علم الله تعالى. وعلى هذا لا استدلال ولو كان المراد بالكتاب المبين هو القرآن فلا استدلال أيضا على القراءة المشهورة; لأن قوله تعالى: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} الآية مجرور معطوف على ورقة في قوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} أي: ما يسقط من رطب ولا يابس وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنه بمنبت وغير منبت ولا معنى حينئذ للتعميم المراد في مثل قولهم ما ترك فلان من رطب ولا يابس إلا جمعه نعم لو حمل قراءة الرفع على الابتداء دون العطف على محل من ورقة لكان فيه تمسك يحتاج إلى ما ذكر من الجواب. وهو أن كل شيء فرض فهو كائن في القرآن معنى, وإن لم يكن فيه لفظا على ما ذكر في قوله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} فحكم المقيس مذكور فيه معنى, وهو لا ينافي كون القياس مظهرا(2/114)
يمكن هنا، وهي من حقوق العباد وهي تدرك بالحس أو العقل أو بالسفر أو بمحاذاة الكواكب ونحوهما، والاعتبار محمول على الاتعاظ بالقرون الخالية وقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} محمول على الحرب ولنا قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} فيدل على الاتعاظ عبارة وعلى القياس إشارة سلمنا أن الاعتبار
ـــــــ
ذكرنا في قوله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}. "وقوله عليه السلام: "فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا"" لفظ الحديث هكذا "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى كثرت فيهم أولاد السبايا فقاسوا" إلخ. "ولأن العمل بالأصل ممكن وقد دعينا إليه قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}" أي: دعينا إلى العمل بالأصل, وهو الإباحة, والبراءة الأصلية, وإنما دعينا إليه بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} الآية, وكل ما لا يوجد في كتاب الله تعالى محرما لا يكون محرما بل يكون باقيا على الإباحة الأصلية. "ولأن الحكم حق الشارع, وهو قادر على البيان القطعي فلم يجز إثباته بما فيه شبهة, وهو تصرف" الضمير يرجع إلى الإثبات أي: إثبات الحكم المذكور. "في حقه تعالى; ولأنه طاعة الله تعالى" أي: الحكم الشرعي طاعة الله, والمراد بالحكم هنا المحكوم به. "ولا مدخل للعقل في دركها" كالمقدرات مثل أعداد الركعات, وسائر المقادير الشرعية التي لا مدخل للعقل في دركها. "بخلاف أمر الحرب وقيم المتلفات ونحوهما فإن العمل بالأصل لا يمكن هنا, وهي من حقوق العباد وهي تدرك بالحس أو العقل" فقوله بخلاف أمر الحرب جواب عن سؤال مقدر هو أن هذه الأشياء يصح فيها القياس والعمل بالرأي اتفاقا فصح ثبوت بعض الأحكام بالقياس فأجاب بالفرق المذكور. "وكذا أمر القبلة" أي: يدرك بالحس أو العقل أو بالسفر أو بمحاذاة الكواكب ونحوهما, "والاعتبار محمول على الاتعاظ بالقرون الخالية" اعلم أن النص
................................................................................................
على أنه لو صح تمسك لزوم أن لا يكون غير القرآن حجة فإن قيل الكل في القرآن إلا أنه لا يعلمه إلا النبي عليه الصلاة والسلام أو أهل الإجماع قلنا فليكن فيه حكم القياس ويعرفه المجتهد.
قوله: "أولاد السبايا" جمع سبية بمعنى مسبية يعني: أنهم اتخذوا الجواري سريات فولدن لهم أولادا غير نجباء.
قوله: "فلم يجز إثباته بما فيه شبهة" احتراز عن الإجماع إذ لا شبهة فيه, وأما خبر الواحد فهو بيان من جهة الشارع قطعي في الأصل, وإنما تمكنت الشبهة في طريق الانتقال إلينا, وهذا يخالف حقوق العبادة فإنها تثبت بما فيه شبهة كالشهادات; لعجزهم عن الإثبات بقطعي.
قوله: "بخلاف أمر الحرب" حاصله أنا نمنع العمل بالرأي والقياس فيما يمكن فيه العمل بالأصل ويكون من حقوق الله تعالى ولا تكون مدركة بالحس ولا بالعقل إذ لو أدرك به صار قطعيا.(2/115)
هو الاتعاظ لكن يثبت القياس دلالة وطريقها في النص ذكره الله تعالى هلاك قوم بناء على سبب، وهو اغترارهم بالقوة والشوكة ثم أمر بالاعتبار ليكف عن مثل ذلك السبب لئلا يترتب عليه مثل ذلك الجزاء.
ـــــــ
التمسك به للقائسين هو قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} والمراد بالاعتبار الاتعاظ بالقرون الخالية يدل عليه سياق الآية. "وقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} محمول على الحرب" أي: إن تمسك بها أحد على صحة العمل بالرأي في الأحكام الشرعية نقول إنه محمول على أمر الحرب. "ولنا قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} " الآية فإن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب واللفظ عام يشمل الاتعاظ, وكل ما هو رد الشيء إلى نظيره أي: الحكم على الشيء بما هو ثابت لنظيره, واشتقاقه من العبور والتركيب يدل على التجاوز والتعدي. "فيدل على الاتعاظ عبارة وعلى القياس إشارة"; لأن الاتعاظ يكون ثابتا بطريق المنطوق مع أن سياق الكلام له, والقياس يكون ثابتا بطريق المنطوق من غير أن يكون سياق الكلام له. "سلمنا أن الاعتبار هو الاتعاظ لكن يثبت القياس دلالة" أي: ما ذكرنا أنه يدل على القياس إشارة كان على تقدير أن المراد بالاعتبار رد الشيء إلى نظيره فالآن نسلم أن المراد بالاعتبار الاتعاظ, ومع ذلك يدل على القياس بطريق دلالة النص التي تسمى فحوى الخطاب. "وطريقها" أي: طريق دلالة النص في هذه أن الصورة "في النص ذكره الله تعالى هلاك قوم بناء على سبب, وهو اغترارهم بالقوة والشوكة ثم أمر بالاعتبار ليكف عن مثل ذلك السبب لئلا يترتب عليه مثل ذلك الجزاء",
................................................................................................
قوله: "ولنا قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} " فإن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه ومنه سمي الأصل الذي يرد إليه النظائر عبرة وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ولا شك أن سوق الآية للاتعاظ فيدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة فإن قيل: الاعتبار هو الاتعاظ, وحقيقته تتبع الشيء بالتأمل على ما يشهد به الاستعمال, ونقل أئمة اللغة وقد يستعمل في القياس في الأمور العقلية كما يقال في إثبات الصانع اعتبر بالدار وهل يمكن حدوثها بغير صانع فما ظنك بالعالم, ولا يفهم أحد من مثل اعتبر قس الذرة بالحنطة قلنا لو سلم فيدل على ثبوت القياس الشرعي بطريق دلالة النص على ما يشعر به فاء التعليل الدالة على أن القصة المذكورة قبل الأمر بالاعتبار علة لوجوب الاتعاظ بناء على أن العلم بوجود السبب يوجب الحكم بوجود المسبب وهو معنى القياس الشرعي. وفيه نظر; لأن الفاء بل صريح الشرط والجزاء لا يقتضي العلية التامة حتى يلزم أن يكون علة وجوب الاتعاظ. هذه القصة السابقة, غاية ما في الباب أن يكون لها دخل في ذلك, وهذا لا يدل على أن كل من علم وجود السبب يجب عليه الحكم بوجود المسبب على أن ما ذكره من التحقيق مما يشك فيه الأفراد من العلماء فكيف يجعل من دلالة النص, وقد سبق أنه(2/116)
فالحاصل أن العلم بالعلة يوجب العلم بحكمه، فكذا في الأحكام الشرعية من غير تفاوت، وهذا المعنى يفهم منه من غير اجتهاد فيكون دلالة نص لا قياسا حتى لا يكون إثبات القياس بالقياس قوله: عليه الصلاة والسلام: "الحنطة بالحنطة" بالنصب أي: بيعوا الحنطة، ولما كان الأمر للإيجاب، والبيع مباح يصرف إلى قوله: "مثلا بمثل" فتكون هذه الحالة شرطا والمراد بالمثل القدر؛ لأنه روي أيضا "كيلا بكيل" ثم قال عليه الصلاة
ـــــــ
فالحاصل أن العلم بالعلة يوجب العلم بحكمه, فكذا في الأحكام الشرعية من غير تفاوت, وهذا المعنى يفهم منه من غير اجتهاد فيكون دلالة نص لا قياسا حتى لا يكون إثبات القياس بالقياس قال الله تعالى في سورة الحشر {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فعلى تقدير أن يكون المراد بالاعتبار الاتعاظ معناه اجتنبوا عن مثل هذا السبب; لأنكم إن أتيتم بمثله يترتب على فعلكم مثل ذلك الجزاء فلما أدخل فاء التعليل على قوله: {فَاعْتَبِرُوا} جعل القصة المذكورة علة لوجوب الاتعاظ. وإنما تكون علة لوجوب الاتعاظ باعتبار قضية كلية, وهي أن كل من علم بوجود السبب يجب الحكم عليه بوجود المسبب حتى لو لم تقدر هذه القضية الكلية لا يصدق التعليل; لأن التعليل إنما يكون صادقا إذا كان الحكم الكلي صادقا فيكون حينئذ هذا الحكم الجزئي صادقا فإذا ثبتت القضية الكلية ثبت وجوب القياس في الأحكام الشرعية, وهذا المعنى يفهم من لفظ الفاء, وهي للتعليل فيكون مفهوما بطريق اللغة فيكون دلالة نصا لا قياسا فلا يلزم الدور, وهو إثبات القياس بالقياس, ودلالة النص مقبولة اتفاقا. وإنما الخلاف في القياس الذي يعرف فيه العلة استنباطا واجتهادا "ونظيره" أي: نظير القياس, وإنما أورد هذا النظير هنا; لأنه لما ذكر أن القياس في الأحكام الشرعية اعتبار حسب الاعتبار في الأمور التي يتعظ بها أراد أن يبين كيفية الاعتبار في القياس, وكيفية استنباط العلة. "قوله: عليه الصلاة
................................................................................................
يجب أن يكون مما يعرفه كل من يعرف اللغة, وقد يقال: إنه لا عموم في الآية, ولو سلم فقد خص منه ما ينتفي فيه شرائط القياس وما تعارضت فيه الأقيسة, وصيغة الأمر تحتمل الوجوب وغيره, والمرة والتكرار والخطاب مع الحاضرين فقط والتقييد ببعض الأحوال والأزمنة فكيف يثبت بذلك وجوب العمل لكل مجتهد بكل قياس صحيح في كل زمان؟. وجوابه أن اعتبروا في معنى افعلوا الاعتبار وهو عام وتخصيص البعض بالفعل لا يقدح في كونه قطعيا, وعلى تقدير عدم العموم فالإطلاق كاف ولفظ {أُولِي الْأَبْصَارِ} يعم المجتهدين بلا نزاع ولا عبرة بباقي الاحتمالات, وإلا لما صح التمسك بشيء من النصوص.(2/117)
والسلام: "والفضل ربا" أي: الفضل على القدر بأنه فضل خال عن عوض فحكم النص وجوب المساواة ثم الحرمة بناء على فوتها والداعي إلى هذا الحكم القدر والجنس إذ بهما يثبت المساواة صورة ومعنى، فإذا وجدنا هذه العلة في سائر المكيلات والموزونات اعتبرناها بالحنطة، وأيضا حديث معاذ رضي الله عنه وقد روينا ما هو قياس عنه عليه الصلاة والسلام وعمل الصحابة ومناظرتهم فيه أشهر من أن يخفى.
ـــــــ
والسلام: "الحنطة بالحنطة" بالنصب أي: بيعوا الحنطة, ولما كان الأمر للإيجاب, والبيع مباح يصرف إلى قوله: "مثلا بمثل" " أي: يصرف الإيجاب إلى قوله: "مثلا بمثل" كما في قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يصرف الإيجاب إلى القبض حتى يصير القبض شرطا للرهن. "فتكون هذه الحالة شرطا والمراد بالمثل القدر; لأنه روي أيضا: "كيلا بكيل" ثم قال عليه الصلاة والسلام: "والفضل ربا" أي: الفضل على القدر بأنه فضل خال عن عوض فحكم النص وجوب المساواة ثم الحرمة بناء على فوتها والداعي إلى هذا الحكم القدر والجنس إذ بهما يثبت المساواة صورة ومعنى, فإذا وجدنا هذه العلة في سائر المكيلات والموزونات اعتبرناها بالحنطة, وأيضا حديث معاذ رضي الله عنه" عطف على قوله فاعتبروا وحديثه أن النبي عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "بم تقضي؟" قال: بما في كتاب
................................................................................................
قوله: "ولما كان الأمر للإيجاب" الظاهر: أن الأمر للإباحة, والتقييد بالصفة المذكورة للدلالة على أنه لا يجوز بيع الحنطة عند انتفائها لكنه لما لم يقل بمفهوم الصفة فلم يمكنه أن يجعل جواز البيع عند انتفاء الصفة منتفيا بحكم الأصل إذ الأصل هو الجواز لزمه المصير إلى أن الأمر للإيجاب باعتبار الوصف بمعنى أن بيع الحنطة مباح إلا أن رعاية المماثلة فيه واجبة كما أن أخذ الرهن جائز والقبض فيه واجب. فإن قلت معنى كون الأمر للإيجاب أن المأمور به واجب, وهذا لا يستقيم فيما نحن فيه إذ لا وجوب لبيع الحنطة بوصف المماثلة, ولا لأخذ الرهن بوصف القبض قلت مراده أن الأمر منصرف إلى رعاية الوصف وهي واجبة كأن قيل: إذا بعتم الحنطة فراعوا المماثلة, وإذا أخذتم الرهن فاقبضوا.
قوله: "وأيضا حديث معاذ" فإنه مشهور يثبت به الأصول فإن قلت الاجتهاد قد يكون بغير القياس المتنازع فيه كالاستنباط من النصوص الخفية الدلالة أو الحكم بالبراءة الأصلية أو القياس المنصوص العلة, ولو سلم فلا دلالة على الجواز لغير معاذ رضي الله تعالى عنه قلت: الاستنباط بالنصوص مما يوجد في الكتاب والسنة, وكذا البراءة أصلية على تقدير تسليم احتياجها للاجتهاد لقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية. فبقي القياس وهو مطلق ولو اقتصر على منصوص العلة لما سكت الشارع لبقاء كثير من الأحكام وهي التي تبتنى على قياس غير منصوص العلة وجواز ذلك لمعاذ رضي الله عنه إنما كان باعتبار اجتهاده فثبت في غيره بدلالة النص, وقد قال عليه السلام: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة".(2/118)
ويكون الكتاب تبيانا بمعناه؛ لأن التبيان يتعلق بالمعنى، والبيان باللفظ وأما قوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} الآية. وفي ذلك تعظيم شأن الكتاب، والعمل لفظا ومعنى والعمل بالأصل عمل بلا دليل و {قُلْ لا أَجِدُ} ليس أمرا به بل العمل بالنص وهو {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} والظن كاف للعمل وهو تصرف في حقه تعالى بإذنه ولا يعمل به فيما لا يدرك بالعقل.
ـــــــ
الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله تعالى؟", قال: أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "فإن لم تجد ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟", قال: أجتهد برأيي. قال عليه السلام : "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله بما يرضى به رسوله". "وقد روينا ما هو قياس عنه عليه الصلاة والسلام" في آخر ركن السنة, وهو قوله عليه السلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟" الحديث وحديث قبلة الصائم. "وعمل الصحابة ومناظرتهم فيه" أي: في القياس "أشهر من أن يخفى" ثم شرع في جواب الدلائل المذكورة على نفي القياس فقال.
"ويكون الكتاب تبيانا بمعناه; لأن التبيان يتعلق بالمعنى, والبيان باللفظ" ولما كان الثابت بالقياس ثابتا بمعنى النص يكون النص دالا على حكم المقيس بطريق التبيان. "وأما قوله تعالى
................................................................................................
قوله: "وقد روينا" في آخر باب السنة أحاديث تدل على أنه عليه السلام كان يقول في بعض الأحكام بالقياس وهي, وإن كانت أخبار آحاد إلا أن جملة الأمر بلغت حد التواتر وهي أنه عليه الصلاة والسلام كان يعمل بالقياس فيكون حجة ربما يجعل وجه الاستدلال أنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر بعض الأحكام بعللها, ولو لم يجز إلحاق غير المنصوص بالمنصوص عليه لما كانت لذكر العلل فائدة, وقد يجاب عنه بأن ذكر الأحكام بعللها لا يوجب صحة العمل بالقياس بل فائدتها معرفة الحكم والعلة معا فإنها أوقع في النفس, وأدخل في القبول فلا يلزم أن يكون دليلا لصحة القياس.
قوله: "وعمل الصحابة" إشارة إلى دليل على حجية القياس بوجهين: أحدهما: أنه ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة العمل بالقياس عند عدم النص, وإن كانت تفاصيل ذلك آحادا, والعادة قاضية بأن مثل ذلك لا يكون إلا عن قاطع على كونه حجة, وإن لم نعلمه بالتعيين, وثانيهما: أن عملهم بالقياس ومباحثتهم فيه بترجيح البعض على البعض تكرر وشاع من غير نكير, وهذا وفاق, وإجماع على حجية القياس وما نقل من ذم الرأي عن عثمان وعلي وابن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم إنما كان في البعض لكونه في مقابلة النص أو لعدم شرائط القياس, وشيوع الأقيسة الكثيرة بلا إنكار مقطوع به مع الجزم بأن العمل كان بها لظهورها لا لخصوصياتها.
قوله: "لأن وجود الشيء أو عدمه في زمان لا يدل على بقائه" فيه نظر; لأنا نقطع بكثير من الأحكام كوجود مكة ووجود بغداد وعدم جبل من الياقوت وبحر من الزئبق مع أنه لا دليل عليها إلا أن الأصل في الوجود هو الوجود حتى يظهر دليل العدم, والأصل في المعدوم هو العدم حتى يظهر(2/119)
فصل: في شرط القياس
...
فصل: في شرطه
كشهادة أن لا يكون حكم الأصل والأحكام المخصوصة بالنبي عليه الصلاة والسلام كتحليل تسع زوجات وأن لا يكون معدولا عن القياس وهو إما بأن لا يدركه العقل كأعداد الركعات، أو يكون مستثنى عن سننه كأكل الناسي فإنه ينافي ركن الصوم
ـــــــ
{وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} الآية. فكل شيء يكون في كتاب الله بعضه لفظا وبعضه معنى" فالحكم في المقيس عليه يكون موجودا في الكتاب لفظا, والحكم في المقيس يكون موجودا فيه معنى. "وفي ذلك تعظيم شأن الكتاب, والعمل لفظا ومعنى" أي: في العمل بالقياس تعظيم شأن الكتاب واعتبار نظمه في المقيس عليه, واعتبار معناه في المقيس. وأما منكرو القياس فإنهم عملوا بنظم الكتاب فقط وأعرضوا عن اعتبار فحواه, وإخراج الدرر المكنونة من بحار معناه وجهلوا أن للقرآن ظهرا وبطنا, وأن لكل حد مطلعا وقد وفق الله تعالى العلماء الراسخين العارفين دقائق التأويل لكشف قناع الأستار عن جمال معاني التنزيل, وإنكاره عليه الصلاة والسلام لقياس بني إسرائيل بناء على جهلهم وتعصبهم لا يقدح في قياسنا "والعمل بالأصل" أي: في الاستصحاب "عمل بلا دليل"; لأن وجود الشيء أي: عدمه في زمان لا يدل على بقائه, فإن الممكنات توجد بعد العدم وتعدم بعد الوجود. "و {قُلْ لا أَجِدُ} ليس أمرا به" أي: بالعمل بالأصل "بل العمل بالنص" أي: بل هو أمر بالعمل بالنص "وهو {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} " فكل ما لم يوجد حرمته فيما أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يكون حلالا بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ} الآية, ونحن نقول أيضا بأنه لا يجوز لنا أن نحرم شيئا مما في الأرض بطريق
................................................................................................
دليل الوجود وبالجملة الحكم بالبراءة الأصلية شائع, فيما بين العلماء بحيث لا يصح إنكاره على ما سبق في مفهوم الشرط والصفة.
قوله: "فصل" في شرائط القياس عبارة فخر الإسلام رضي الله عنه في الشرط الأول أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكمه بنص آخر أي: لا يكون المقيس عليه منفردا بحكمه بسبب نص آخر دال على الاختصاص, وذلك كما اختص خزيمة من بين الناس بقبول شهادته وحده, يقال خص زيد بالذكر إذا ذكر هو دون غيره, وفي عبارة الفقهاء خص النبي عليه الصلاة والسلام بكذا وكذا وفي الكشاف {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} معناه نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك. وأما استعمال الباء في المقصور عليه فقليل كما في قولهم في ما زيد إلا قائم أنه لتخصيص زيد بالقيام لكنه مما يتبادر إليه الوهم كثيرا حتى إنه يحمل الاستعمال الشائع على القلب فلذا غير المصنف رحمه الله تعالى عبارة فخر الإسلام رضي الله عنه إلى قوله أن لا يكون حكم الأصل مخصوصا به كاختصاص قبول شهادة الواحد بخزيمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "من شهد له خزيمة فحسبه" وذلك أنه شهد للنبي عليه الصلاة والسلام أنه أدى الأعرابي ثمن ناقته أو أنه باع ناقته على اختلاف الروايتين. وذلك التخصيص ثبت بطريق الكرامة أو باعتبار أنه فهم من بين الحاضرين جواز الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بناء على أن خبره بمنزلة المعاينة.(2/120)
وكتقوم المنافع في الإجارة لأنه يعتمد الإحراز، والإحراز يعتمد البقاء ولا بقاء للأعراض وأن يكون المعدى حكما شرعيا ثابتا بأحد الأصول الثلاثة من غير تغيير إلى
ـــــــ
القياس فإنه قياس في مقابلة النص. "والظن كاف للعمل" جواب عن قوله فلم يجز إثباته بما فيه شبهة "وهو تصرف في حقه تعالى بإذنه ولا يعمل به" أي: بالقياس "فيما لا يدرك بالعقل", وهو جواب عن قوله ولا مدخل للعقل في دركها.
"فصل في شرطه" أي: شرط القياس. اعلم أن للقياس أربعة شرائط أولها: "أن لا يكون حكم الأصل" أي: المقيس عليه "مخصوصا به" أي: بالأصل بنص آخر "كشهادة" خزيمة "والأحكام المخصوصة بالنبي عليه الصلاة والسلام كتحليل تسع زوجات وأن لا يكون" أي: حكم الأصل "معدولا عن القياس" هذا هو الشرط الثاني "وهو إما بأن لا يدركه العقل كأعداد الركعات, أو يكون مستثنى عن سننه كأكل الناسي فإنه ينافي ركن الصوم" أي: العدول عن القياس بأحد الأمرين إما بأن لا يدرك العقل حكم الأصل أي: لا يدرك علته وحكمته كأعداد الركعات أو يكون حكم الأصل مستثنى عن سنن القياس أي: على طريقته المسلوكة, وقاعدته المستمرة كأكل الناسي فإنه مستثنى عن سنن القياس, وهو تحقق الفطر من كل ما دخل في الجوف, وإذا كان مستثنى عن سننه لا يصح القياس عليه فلا يصح قياس الأكل خطأ على الأكل ناسيا.
"وكتقوم المنافع في الإجارة" فإنه مستثنى عن سنن القياس "لأنه" أي: التقوم "يعتمد الإحراز, والإحراز يعتمد البقاء ولا بقاء للأعراض". وإن منع استحالة بقاء الأعراض فمثل هذه الأعراض أي: المنافع لا شك في استحالة بقائها فالقياس يقتضي عدم تقوم كل ما لا يبقى فإذا كان تقومها مستثنى عن سنن القياس لا يقاس تقوم المنافع في الغصب على تقومها في الإجارة. "وأن يكون المعدى حكما شرعيا" هذا هو الشرط الثالث, وهو واحد مقيد بقيود كثيرة, وهي هذه "ثابتا بأحد الأصول الثلاثة" أي: الكتاب والسنة والإجماع "من غير تغيير إلى فرع" متعلق بالمعدى "هو نظيره" أي: الفرع يكون نظيرا للأصل في الحكم "ولا نص فيه" أي: في
................................................................................................
قوله: "وأن لا يكون إلخ" أي: معدولا به; لأنه من العدول وهو لازم ولا يبعد أن يجعل من العدل وهو الصرف فيكون معتديا.
قوله: "فإنه ينفي ركن الصوم" فإن قيل فكيف صح قياس الوقاع ناسيا على الآكل في عدم فساد الصوم قلنا لم يثبت ذلك بالقياس بل بدلالة النص للعلم بأن بقاء صوم الناسي في الأكل إنما كان باعتبار أنه غير جان لا باعتبار خصوصية الأكل.
قوله: "وكتقوم المنافع" جعله من أمثلة المعدول عن سنن القياس; لأن القياس عدم تقوم المعدوم إذ القيمة تنبئ عن التعادل, ولا تعادل بين ما يبقى, وبين ما لا يبقى لكنه ثبت في الإجارة بقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقوله تعالى إخبارا: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ(2/121)
فرع هو نظيره ولا نص فيه فلا تثبت اللغة بالقياس كالخمر وضع لشراب مخصوص بمعنى، وهو المخامرة فلا يطلق على سائر الأشربة لأنه إن أطلق مجازا فلا نزاع فيه لكن لا يحمل عليه مع إرادة الحقيقة، وإن أطلق حقيقة فلا بد من وضع العرب، وكذا الزنا على اللواطة ولا يقال الذمي أهل للطلاق فيكون أهلا للظهار كالمسلم لأن الحكم في الأصل حرمة تنتهي بالكفارة وفي الذمي حرمة لا تنتهي بها لعدم صحة
ـــــــ
الفرع والمراد نص دال على الحكم المعدى أو عدمه لا مطلق النص "فلا تثبت اللغة بالقياس" هذا تفريع قوله حكما شرعيا وإنما لا تثبت اللغة بالقياس لما بينا في الحقيقة والمجاز أن في الوضع قد لا يراعى المعنى كوضع الفرس والإبل ونحوهما, وقد يراعى المعنى كما في القارورة والخمر لكن رعاية المعنى إنما هي للوضع لا لصحة الإطلاق حتى لا تطلق القارورة على الدن لقرار الماء فيه, فرعاية المعنى لأولوية وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من بين سائر الألفاظ. "كالخمر وضع لشراب مخصوص بمعنى, وهو المخامرة فلا يطلق على سائر الأشربة لأنه إن أطلق مجازا فلا نزاع فيه لكن لا يحمل عليه مع إرادة الحقيقة, وإن أطلق حقيقة فلا بد من وضع العرب, وكذا الزنا على اللواطة ولا يقال الذمي أهل
................................................................................................
حِجَجٍ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه" 1.
وجعله فخر الإسلام رضي الله عنه من أمثلة كون الأصل مخصوصا بحكمه, وهو أيضا مستقيم بل التحقيق أن الشرط الثاني يغني عن الأول لكونه من أقسامه على ما ذكره الآمدي في الأحكام من أن المعدول به عن سنن القياس ضربان: أحدهما: ما لا يعقل معناه, وهو إما أن يكون مستثنى من قاعدة عامة كقبول شهادة خزيمة وحده أو لا يكون كذلك بل يكون مبتدأ به كأعداد الركعات, ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات. وثانيهما: ما شرع ابتداء ولا نظير له فلا يجري فيه القياس لعدم النظير سواء عقل معناه كرخص السفر أو لا كضرب الدية على العاقلة.
قوله: "وأن يكون المعدى" فيه إشعار بأنه يشترط أن لا يكون حكم الأصل منسوخا إذ لا تعدية لما ليس بثابت.
قوله: "بأحد الأصول الثلاثة" إشارة إلى أن حكم الأصل لا يجوز أن يكون ثابتا بالقياس; لأنه إن اتحدت العلة في القياسين, فذكر الواسطة ضائع, وإن لم تتحد بطل أحد القياسين لابتنائه على غير العلة التي اعتبرها الشرع في الحكم مثلا إذا قيس الذرة على الحنطة في حرمة الربا بعلة الكيل والجنس ثم أريد قياس شيء آخر على الذرة, فإن وجدت فيه العلة أعني: الكيل والجنس كان ذكر الذرة ضائعا ولزم قياسه على الحنطة, وإن لم توجد لم يصح قياسه على الذرة لانتفاء علة الحكم.
قوله: "من غير تغيير" أي: لا يغير في الفرع حكم الأصل من إطلاقه أو تقييده أو غير ذلك مما
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب الرهون باب 4 .(2/122)
الكفارة عنه؛ لعدم أهليته لها. وكذا تعليل الربا بالطعم فإنه يوجب في العدديات حرمة مطلقة، وهي في الأصل مقيدة بعدم التساوي.
ـــــــ
للطلاق فيكون أهلا للظهار كالمسلم" هذا تفريع قوله من غير تغيير "لأن الحكم في الأصل" وهو المسلم "حرمة تنتهي بالكفارة وفي الذمي حرمة لا تنتهي بها لعدم صحة الكفارة عنه; لعدم أهليته لها. وكذا تعليل الربا بالطعم فإنه يوجب في العدديات حرمة مطلقة, وهي في الأصل مقيدة بعدم التساوي" حتى لو روعي التساوي لا تبقى الحرمة في الأصل, وهو الحنطة والشعير والتمر والملح, ولا يمكن رعاية التساوي في العدديات; لأن التساوي في الأصل إنما هو بالكيل, والعدديات ليست بمكيلة والتساوي بالعدد غير معتبر شرعا. "ولا يصح قياس الخطأ على النسيان في عدم الإفطار" هذا تفريع قوله إلى فرع هو نظيره. "لأنه ليس نظيره; لأن عذره دون عذر النسيان ولا يصح إن كان في الفرع نص" هذا بيان تفريع قوله ولا نص فيه. "لأنه إن كان موافقا للنص فلا حاجة إليه, وإن كان مخالفا له يبطل" والضمائر في قوله إن كان وفي قوله فلا حاجة إليه, وفي قوله يبطل ترجع إلى القياس "وأن لا يغير" أي: القياس "حكم النص" هذا هو الشرط الرابع "فلا يصح شرطية التمليك في طعام الكفارة قياسا على الكسوة; لأنها تغير حكم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وكذا شرط الإيمان في كفارة اليمين قياسا على كفارة القتل يخالف إطلاق النص, وكذا السلم الحال قياسا على المؤجل يخالف قوله عليه الصلاة والسلام: "إلى أجل معلوم" وأيضا لم" يعده أي: الشافعي
........................................................................................
يتعلق بنفس الحكم, وإنما يقع التغيير باعتبار المحل وباعتبار صيرورته ظنيا في الفرع.
قوله: "إلا فرع" متعلق بمحذوف أي: وأن يكون المعدى حكما موصوفا بما ذكر معدى إلى فرع هو نظيره, ولا يستقيم تعلقه بالمعدى المذكور. أما لفظا فللفصل بالأجنبي, وأما معنى فلأنه لا يفيد اشتراط كون الفرع نظير الأصل, والاشتراط كون الأصل حكما موصوفا بما ذكر في جميع الصور; لأن معناه حينئذ أنه يشترط أن يكون الحكم المعدى إلى فرع هو نظيره حكما شرعيا ثابتا بأحد الأصول الثلاثة.
قوله: "فلا تثبت اللغة بالقياس" يعني: إذا وضع لفظ لمسمى مخصوص باعتبار معنى يوجد في غيره لا يصح لنا أن نطلق ذلك اللفظ على ذلك الغير حقيقة سواء كان الوضع لغويا أو شرعيا أو عرفيا, وذلك كإطلاق الخمر على العقار من المسكرات. احتج المخالف بالدوران, والإلحاق بالقياس الشرعي, وأجيب بأنه يشترط في الدوران صلوح العلية وهو ممنوع هاهنا فإن علة إطلاق اللفظ على المعنى حقيقة هو الوضع لا غير, وبأن العمدة في حجية القياس الشرعي هو الإجماع ولا إجماع هاهنا ويرد على المتمسكين بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} على ما حققه المصنف رحمه الله تعالى من دلالة النص. وجوابه إنا لا نسلم أن رعاية المعنى سبب للإطلاق بل هي سبب للوضع وترجيح الاسم على الغير على ما سبق ولا نزاع في صحة الإطلاق مجازا عند(2/123)
ولا يصح قياس الخطأ على النسيان في عدم الإفطار لأنه ليس نظيره؛ لأن عذره دون عذر النسيان ولا يصح إن كان في الفرع نص لأنه إن كان موافقا للنص فلا حاجة إليه، وإن كان مخالفا له يبطل وأن لا يغير حكم النص فلا يصح شرطية التمليك في طعام الكفارة قياسا على الكسوة؛ لأنها تغير حكم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وكذا شرط الإيمان في كفارة اليمين قياسا على كفارة القتل يخالف إطلاق
ـــــــ
رحمه الله تعالى "كما هو في الأصل" فهذا بيان أن في قياس جواز السلم الحال على المؤجل فسادين: أحدهما: أنه مغير للنص. والثاني: أن الحكم لم يعد كما هو في المقيس عليه بل عدي بنوع تغيير وقد بينا في الشرط الثالث بطلان هذا "إذ في الأصل جعل الأجل خلفا عن وجود المعقود عليه ليمكن تحصيله فيه, وهنا أسقط فإن قيل: أنتم غيرتم أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فإنه يعم القليل والكثير فخصصتم القليل" من هذا النص العام فجوزتم بيع القليل بالقليل مع عدم التساوي "بالتعليل بالقدر" أي: قلتم إن علة الربا هي القدر والجنس, والقدر أي: الكيل غير موجود في بيع الحفنة بالحفنتين فلا يجري فيه الربا فهذا التعليل مغير للنص.
................................................................................................
وجود العلاقة على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى من استعمال ألفاظ الطلاق في العتاق وبالعكس لاشتمالهما على إزالة الملك. وما ذكره من وجوب الحد على اللائط قياسا على الزاني فإنما هو بقياس في الشرع دون اللغة, أو هو قول بدلالة النص, وكذا إيجاب الحد بغير الخمر من المسكرات وقد توهم بعضهم أن أمثال ذلك قول بجريان القياس في اللغة وليس كذلك وهاهنا بحث, وهو أن اشتراط كون حكم الأصل شرعيا إما أن يكون في مطلق القياس, وهو باطل; لأن قياس السماء على البيت في الحدوث بجامع التأليف وقياس كثير من الأغذية على العسل في الحرارة بجامع الحلاوة. وأمثال ذلك مما ليست بأقيسة شرعية لا يتوقف على كون حكم الأصل شرعيا وهو ظاهر, وأما أن يكون في القياس الشرعي, وحينئذ لا معنى لتفريع عدم جريان القياس في اللغة على ذلك وهو أيضا ظاهر, والتحقيق أن هذا شرط للقياس الشرعي على معنى أنه يشترط فيه كون حكم الأصل حكما شرعيا إذ لو كان حسيا أو لغويا لم يجز; لأن المطلوب إثبات حكم شرعي للمساواة في علة, ولا يتصور إلا بذلك فلو قال: النبيذ شراب مشتد فيوجب الحد كما يوجب الإسكار أو كما يسمى خمرا كان باطلا من القول خارجا عن الانتظام, وهذا مبني على أن القياس لا يجري في اللغة ولا في العقليات من الصفات, والأفعال. وفائدته تظهر فيما إذا قاس النفي بالنفي فإذا لم يكن المقتضي ثابتا في الأصل كان نفيا أصليا, والنفي الأصلي لا يقاس عليه النفي الطارئ وهو حكم شرعي, ولا النفي الأصلي لثبوته بدون القياس وبالإجماع وقد يذكر في كثير من المسائل, ولذلك يقول المناظر لا بد من بيان المقتضي في الأصل, وما ذلك إلا ليكون النفي حكما شرعيا وقد سبق نبذ من ذلك في فصل المطلق والمقيد.(2/124)
النص، وكذا السلم الحال قياسا على المؤجل يخالف قوله عليه الصلاة والسلام إلى أجل معلوم وأيضا لم يعده كما هو في الأصل إذ في الأصل جعل الأجل خلفا عن وجود المعقود عليه ليمكن تحصيله فيه، وهنا أسقط فإن قيل: أنتم غيرتم أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فإنه يعم القليل والكثير فخصصتم القليل بالتعليل بالقدر.
وكذا في دفع القيم في الزكاة وفي صرفها إلى صنف واحد بالتعليل بالحاجة
ـــــــ
"وكذا في دفع القيم في الزكاة" أي: غيرتم النص, وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "في خمس من الإبل السائمة شاة" وغيره مما يدل على دفع عين ذلك الشيء دون القيمة "وفي
................................................................................................
قوله: "لكن لا يحمل" أي: لفظ الخمر على سائر الأشربة مجازا عند إرادة معناه الحقيقي في ذلك الإطلاق لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز اللهم إلا أن يطلق مجازا على شراب يخامر العقل فيشمل العقار وغيره بطريق عموم المجاز.
قوله: "وهي في الأصل مقيدة بعدم التساوي" يعني: أن الحكم في الأصل حرمة تنتهي بالتساوي بالكيل فإن قيل قد أثبت الحرمة في بيع المقلي بغيره وبيع الدقيق بالحنطة مع أنها لا تنتهي بالكيل. قلنا بطلان الانتهاء بالكيل إنما جاء من صنع العبد وهو القلي, والطحن لا بإثبات الشرع, والشرع إنما أثبتها متناهية بالمساواة كيلا أعني: قبل القلي والطحن.
قوله: "والتساوي بالعدد غير معتبر شرعا" قيل عليه: أن التساوي بالوزن معتبر شرعا وهو كاف في انتهاء الحرمة.
قوله; "لأن عذره" أي: عذر الخطأ دون عذر النسيان لإمكان الاحتراز عن الخطأ بالتثبت والاحتياط بخلاف النسيان فإنه سماوي محض جبل عليه الإنسان.
قوله: "لأنه إن كان موافقا للنص فلا حاجة إليه" اعترض عليه بأن عدم الاحتياج إلى القياس لا ينافي صحته والاستدلال به قصدا إلى تعاضد الأدلة كالإجماع عن قاطع, وإلى هذا ذهب كثير من المشايخ, وكثر في كتب الفروع الاستدلال في مسألة واحدة بالنص, والإجماع, والقياس.
قوله: "وإن كان قياسا مخالفا له يبطل" كقياس القتل العمد على الخطأ, واليمين الغموس على المنعقدة في إيجاب الكفارة فإنه مخالف لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "خمس من الكبائر لا كفارة فيهن" وعد منها الغموس وقتل النفس بغير حق1.
قوله: "وأن لا يغير حكم النص" فالإطعام هو جعل الغير طاعما سواء كان على وجه الإباحة
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 16. الترمذي في كتاب تفسير سورة 4 باب 6. النسائي في كتاب التحريم باب 3. الدارمي في كتاب الديات باب 9. أحمد في مسنده 2/201 3/495.(2/125)
وفي جواز غير لفظ تكبيرة الافتتاح وفي إزالة الخبث بغير الماء قلنا المراد التسوية
ـــــــ
صرفها إلى صنف واحد" أي: غيرتم النص الدال على صرفها إلى جميع الأصناف, وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية "بالتعليل بالحاجة" أي: قلتم: إن العلة وجوب دفع الحاجة عن الفقير, وهذا المعنى موجود في دفع القيم بل أكمل; لأن الدراهم والدنانير خلقتا لتحصيل جميع الأشياء التي تمس بها الحاجة إلى دفع عين الواجب تندفع الحاجة الواحدة, وربما لا يحتاج الفقير إلى ذلك الشيء بل يحتاج إلى غيره وقد قلتم: عد الأصناف لبيان مواقع الحاجة والعلة هي دفع الحاجة فيجوز الصرف إلى صنف واحد توجد فيه الحاجة, فالتعليل بالحاجة في الصورتين مغير لحكم النص. "وفي جواز غير لفظ تكبيرة الافتتاح" أي: غيرتم النص, وهو قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} بالتعليل بأن المراد تعظيم الله تعالى فيجوز بأي لفظ كان نحو الله أجل ونحوه "وفي إزالة الخبث بغير الماء" أي: غيرتم النص, وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الماء طهور" وقوله عليه الصلاة والسلام: "حتيه واقرصيه ثم اغسليه بالماء". "قلنا المراد التسوية بالكيل, وهي لا تتصور إلا في الكثير"; لأن المراد التسوية الشرعية في قوله عليه الصلاة والسلام إلا سواء بسواء, والتسوية المعتبرة شرعا في المطعومات التسوية بالكيل, وهي لا تتصور إلا في الكثير فلا نسلم أنه يعم القليل, والكثير كما يقال لا تقتل حيوانا إلا بالسكين, فإن معناه لا تقتل حيوانا من شأنه أن يقتل بالسكين إلا بالسكين فقتل حيوان لا يقتل بالسكين كالقملة والبرغوث لا يدخل تحت النهي. "وإنما كان تغييرا إذا كان الأصل واجبا لعينه, وليس كذلك فإن الصدقة حلت مع وسخها ضرورة دفع الحاجة, وهي مختلفة فلا بد من جواز دفع القيم" أي: إنما كان التعليل في
................................................................................................
أو التمليك فاشتراط التمليك قياسا على الكسوة تغيير لحكم النص, وكذا تقييد رقبة الكفارة بالمؤمنة تغيير للإطلاق المفهوم من النص, وهذا الكلام ظاهر في أن المراد تغيير حكم نص في الجملة سواء كان هذا النص في حكم الأصل أو غيره فإن قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وقوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}, ليس لبيان حكم الأصل بل حكم الفرع فعلى هذا لا حاجة إلى هذا القيد; لأن اشتراط عدم النص في الفرع مغن عنه; لأن معناه عدم نص دال على الحكم المعدى أو عدمه وهاهنا النص دال على عدم الحكم المعدى في الفرع; لأن الإطلاق يدل على إجزاء مجرد الإطعام على سبيل الإباحة, وعلى إجزاء الرقبة الكافرة, وأنه لا يشترط التمليك والإيمان, وقد يقال يجوز أن يغير القياس حكم نص لا يدل على ثبوت الحكم في الفرع ولا على عدمه. وفيه نظر; لأنه محال على ذلك التقدير وعبر فخر الإسلام رحمه الله تعالى عن هذا الشرط بأن يبقى الحكم في الأصل على ما كان قبله ثم قال: وإنما اشترط ذلك; لأن تغيير حكم النص في نفسه بالرأي باطل ثم مثل بهذه الأمثلة وغيرها قصدا إلى أن فيها تغيير النص بالرأي ففهم الشارحون أنها أمثلة لعدم بقاء حكم النص المعلل على ما كان قبل التعليل, فاعترضوا بأن المغير في هذه الأمثلة إنما هو في حكم النص في الفرع لا في الأصل.(2/126)
بالكيل، وهي لا تتصور إلا في الكثير وإنما كان تغييرا إذا كان الأصل واجبا لعينه، وليس كذلك فإن الصدقة حلت مع وسخها ضرورة دفع الحاجة، وهي مختلفة فلا بد من جواز دفع القيم.
ـــــــ
دفع القيم تغييرا للنص إذا كان الأصل وهو الشاة مثلا واجبا للفقير لعينه وليس كذلك, فإن الزكاة عبادة محضة لا حق للعباد فيها, وإنما هي حق الله تعالى لكن سقط حقه في صورة ذلك الواجب بإذنه بدلالة النص; لأنه تعالى وعد أرزاق الفقراء بقوله: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ثم أوجب على الأغنياء مالا مسمى ثم أمر بأداء تلك المواعيد وهي الأرزاق المختلفة من ذلك المسمى, ولا يمكن ذلك الأداء إلا بالاستبدال فيكون متضمنا للأمر بالاستبدال كالسلطان يعد مواعيد مختلفة, ثم يأمر بعض وكلائه بأدائها من مال معين عنده يكون إذنا بالاستبدال. فكذا هاهنا مثبت هناك حكمان جواز الاستبدال, وصلاحية عين الشاة
................................................................................................
قوله: "وكذا السلم الحال" في الحديث: "من أراد منكم أن يسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" 1 وجوز الشافعي رحمه الله تعالى السلم الحال قياسا على المؤجل بجامع دفع الحرج بإحضار المبيع مكان العقد, ورد هذا القياس بوجهين: أحدهما: أن النص يدل على عدم مشروعية السلم الحال بحكم مفهوم الغاية اتفاقا أو إلزاما ولا عبرة بالقياس المغير لحكم النص إلا أن مخالفة المفهوم سيما في خبر الواحد غير قادحة في صحة القياس عند الشافعي رحمه الله تعالى وثانيهما: أن محل البيع يجب أن يكون مملوكا مقدور التسليم, والمسلم فيه ليس كذلك لكونه غير موجود إلا أن الشرع رخص فيه بإقامة ما هو سبب القدرة على التسليم وهو الأجل مقام حقيقة القدرة, وجعله خلفا عنها, فحكم الأصل أعني: السلم المؤجل يشتمل على جعل الأجل المعلوم خلفا عن وجود المسلم فيه وعن القدرة عليه, وفي قياس السلم الحال عليه تغيير لهذا الحكم; لأنه ليس فيه جعل الأجل خلفا عن الوجود وقد سبق أن من شرط القياس تعدية الحكم من غير تغيير. وقد يقال: إن معنى إقامة الخلف مقام الأصل هو جعل الخلف كأنه هو الأصل فباعتبار حقيقة الأصل يكون تحقيقا لذلك لا تغييرا أو يكون أولى بالجواز لكونه مصيرا إلى الأصل دون الخلف وعدولا عما هو خلاف مقتضى العقد أعني الأجل, وربما يجاب بأن إقدامه على عقد السلم دليل على أن ما عنده مستحق لحاجة أخرى فيكون بمنزلة العدم كالماء المستحق للشرب في جواز التيمم. وفيه نظر إذ ربما يكون لدفع الحرج في إحضار المبيع ولغيره من الأغراض فلا تتعين الحاجة الضرورية.
قوله: "وإنما كان تغييرا" وجه السؤال أنكم جوزتم دفع قيمة الواجب في الزكاة قياسا على العين بعلة دفع حاجة الفقير وفي هذا التعليل تغيير لحكم النص الدال على وجوب عين الشاة, وحاصل الجواب أن تغيير هذا النص ليس بالتعليل بل بدلالة النصوص الواردة في ضمان أرزاق
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب السلم باب 1، 2، 3، 7. مسلم في كتاب المساقاة حديث 128. أبو داود في كتاب البيوع باب 55. الترمذي في متاب البيوع 18. النسائي في كتاب البيوع باب 63. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 59. الدارمي في كتاب البيوع باب 45.(2/127)
لأن تكون مصروفة إلى الفقير, فالحكم الأول يثبت بدلالة النص. وأما الحكم الثاني المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام: "في خمس من الإبل السائمة شاة" فقد عللناه بالحاجة فإن الصدقة مع وسخها حلت لهذه الأمة لأجل الحاجة بعد أن لم تكن في الأمم الماضية فإذا كانت عين الشاة صالحة للصرف إلى الفقير للحاجة تكون قيمتها صالحة أيضا بهذه العلة فالتعليل وقع في هذا الحكم, وليس فيه تغيير النص بل يكون التغيير في الحكم الأول وهو ثابت بالنص لا بالتعليل فيكون تغيير النص بالنص مجتمعا مع التعليل في حكم آخر ليس فيه تغيير النص, وهذا معنى قول فخر الإسلام رحمه الله فصار التغيير مجامعا للتعليل بالنص لا بالتعليل وقد قال أيضا فصار صلاح الصرف إلى الفقير بعد الوقوع لله بابتداء اليد ليصير مصروفا إلى الفقير بدوام يده حكما شرعيا في الشاة فعللناه بالتقويم وعديناه إلى سائر الأموال معناه أن الصدقة تقع لله تعالى بابتداء يد الفقير. قال عليه الصلاة والسلام: "الصدقة تقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف الفقير". ففي حال ابتداء يد الفقير تقع لله تعالى, وفي حال بقاء يد الفقير تصير للفقير, فقوله صلاح الصرف أي: صلاح المحل, وهو عين الشاة مثلا للصرف إلى الفقير, وقوله ليصير مصروفا علة غائية للصلاح أي: صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير ليصير مصروفا إليه بدوام يده فقوله إلى الفقير يتعلق بالصرف, وبابتداء اليد يتعلق بالوقوع, وليصير يتعلق بالصلاح, وبدوام يده يتعلق
................................................................................................
العباد, وإيجاب الزكاة في أموال الأغنياء, وصرفها إلى الفقراء, وذلك أن الزكاة عبادة, والعبادة خالص حق الله تعالى فلا تجب للفقراء ابتداء. وإنما تصرف إليهم إيفاء لحقوقهم, وإنجازا لعدة أرزاقهم ولا خفاء في أن حوائجهم مختلفة لا تندفع بنفس الشاة مثلا, وإنما تندفع بمطلق المالية فلما أمر الله تعالى بالصرف إليهم مع أن حقهم في مطلق المالية دل ذلك على جواز الاستبدال, وإلغاء اسم الشاة بإذن الله تعالى لا بالتعليل. واعلم أن ذكر اسم الشاة إنما هو لكونها أيسر على من وجبت عليه الزكاة; لأن الإيتاء من جنس النصاب أسهل ويده إليه أوصل; ولكونها معيارا لمقدار الواجب إذ بها تعرف القيمة.
فإن قيل: إذا ثبت وجوب الشاة بعبارة النص, وجواز الاستبدال بدلالته فما معنى التعليل بالحاجة؟ أجيب بأن التعليل إنما وقع بحكم آخر وهو كون الشاة صالحة للصرف إلى الفقير, وهذا ليس بحكم ثابت بأصل الخلقة حتى يمتنع تعليله بل حكم شرعي ثابت بالنص الدال على وجوب الشاة; لأن المراد به صلاحية حدثت بعدما كانت باطلة في الأمم السالفة باعتبار كون الصدقة من الأوساخ ولهذا كان تقبل القرابين بالإحراق, وأيضا محال التصرفات إنما تعرف شرعا كصلاحية الخل محلا للبيع دون الخمر. ولما كان هذا حكما شرعيا عللناه بالحاجة أي: بحاجة الفقير إلى الشاة أو بكونها دافعة لحاجته لنعدي الحكم إلى قيمة الشاة, ونجعلها صالحة للصرف إلى الفقير; لأن الحاجة إلى القيمة أشد وهي للحاجة أدفع فصار الحاصل أن هاهنا حكما هو وجوب الشاة, وآخر هو جواز الاستبدال. وثالثا هو صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير, والتعليل إنما وقع في هذا الحكم أي: صلاحية الشاة للصرف وليس فيه أي: في هذا الحكم تغيير بل تغيير النص الدال على وجوب(2/128)
وذكر الأصناف لعد المصارف والتكبير لتعظيم الله تعالى فأداء القيمة، وذكر لفظ آخر يكونان في معنى المنصوص واستعمال الماء لإزالة النجاسة فيجوز بكل ما يصلح
ـــــــ
بقوله مصروفا, وقوله حكما شرعيا خبر صار فهذا الحكم هو الحكم الثاني المذكور وفي قوله إن الصدقة واقعة في الابتداء لله, وفي البقاء مصروف إلى الفقير بيان أن الصدقة ليست في الابتداء حق الفقير حتى يلزم تغيير حقه من غير إذنه, وهذه المسألة مع هذه العبارة من مشكلات كتب أصحابنا في الأصول.
"وذكر الأصناف لعد المصارف" فإن قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} الآية ذكروا أن
................................................................................................
الشاة إنما يكون بالنص أي: بدلالة النص الآمر بإيفاء حق الفقير وهذا التغيير مقارن للتعليل في حكم آخر هو صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير وليس فيه أي: في ذلك الحكم الآخر تغيير النص أصلا إذ لا نص يدل على عدم صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير فصار التغيير مع التعليل لا بالتعليل. والممتنع هو التغيير بالتعليل لا معه فقوله بالنص خبر صار, ومجامعا حال أو هو خبر صار وبالنص خبر بعد خبر فعلى ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى صار الأصل هو الشاة, والفرع القيمة, والحكم الصلاحية, والعلة الحاجة ولما كان هذا مخالفا لظاهر عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى حيث جعل الفرع هو سائر الأموال, والعلة والتقوم أوردها وشرحها تنبيها على أن العلة قد تعتبر من جانب المصرف وهي الحاجة, وقد تعتبر من جانب الواجب, وهي التقوم, وأن المستبدل به يجوز أن يعتبر بنفس القيمة وحينئذ لا معنى للتعليل بالتقوم. وأن يعتبر ماله القيمة فتعلل بالتقوم والمقصود واحد, وهو صلاح صرف الشاة وغيرها.
فإن قلت كما أن النص الدال على وجوب الشاة دل على صلاحها للصرف كذلك النص الدال على جواز الاستبدال دال على صلاح غير الشاة للصرف فلا حاجة إلى التعليل قلت لا معنى لجواز الاستبدال إلا سقوط اعتبار اسم الشاة وجواز إيفاء حق الفقير من كل ما يصلح للصرف إليه, وهذا لا يدل على صلاحية القيمة وكل متقوم للصرف بعدما كانت هذه الصلاحية باطلة في الأمم السالفة بخلاف إيجاب الشاة بعينها فإن معناه الأمر بصرفها إلى الفقير. وهذا تنصيص على الصلاحية فلا بد من إثبات كون القيمة أو كل متقوم صالحا للصرف وذلك بالتعليل مع ما فيه من الإشعار بأن الاستبدال إنما يجوز بما يعتد به في دفع الحاجة حتى لو أسكن الفقير داره مدة بنية الزكاة لم يجزه فالحاصل أن الصدقة تقع لله تعالى ابتداء وللفقير بقاء فلا بد من ثبوتها حقا لله تعالى أولا ومن صلوحها للصرف إلى الفقير ثانيا ففي الشاة مثلا ثبت كلا الأمرين بالنص, وفي القيمة ثبت الأول بدلالة النص, والثاني بالتعليل والقياس على الشاة, وقد اعترض على ثبوت جواز الاستبدال بدلالة النص بأنه إنما يلزم لو لم يكن في جنس الواجب ما يصلح لإيفاء حق الفقراء وقضاء حوائجهم وهو الدراهم والدنانير المخلوقة ثمنا للأشياء على الإطلاق ووسيلة إلى الأرزاق.
قوله: "وذكر الأصناف" وجه السؤال إنكم جوزتم صرف الزكاة إلى صنف واحد قياسا على صرفها إلى الكل بعلة الحاجة, وفي هذا التعليل تغيير للنص الدال على كون الزكاة حقا لجميع(2/129)
لها وإنما لا يزول الحدث بسائر المائعات لكونه غير معقول في الأصل، وهو الماء بخلاف الخبث فإن إزالته معقولة ولا يضر أن يلزمها أمر غير معقول دفعا للحرج، وهو أن لا يتنجس كل ما يصل إليه؛ ولأن الماء مطهر طبعا فيزول به كلاهما وغيره كالخل مثلا قالع يزول به الخبث لا الحدث، فإن قيل لما كان إزالة الحدث غير معقولة وجبت النية كالتيمم قلنا يأتي الجواب في فصل المناقضة.
ـــــــ
اللام للعاقبة لا للتمليك, وإنما يلزم تغيير النص لو كان اللام للتملك فيلزم حينئذ دفع ملك شخص إلى شخص آخر, وإنما قلنا: إن اللام ليست للتمليك; لأن الصدقات والفقراء لا يمكن أن يراد بهما الجميع لما عرفت أن حرف التعريف إذا دخل على الجميع تبطل الجمعية ويراد به الجنس. وأيضا في هذا الموضع لو أريد الجمع لكان المراد جمعا مستغرقا فمعناه أن جميع الصدقات لجميع الفقراء والمساكين, وهذا غير مراد إجماعا إذ ليس في وسع أحد أن يوزع جميع الصدقات على جميع الفقراء بحيث لا يحرم واحد على أنه إن أريد هذا يبطل مذهب الشافعي رحمه الله تعالى, وإذا لم يكن الجمع مرادا كان المراد الجنس فيراد أن جنس الصدقة لجنس الفقير والمسكين من غير أن يراد الإفراد فتكون اللام للعاقبة لا للتمليك الذي يوجب التوزيع على الأفراد فيكون لعد المصارف. "والتكبير لتعظيم الله تعالى فأداء القيمة, وذكر لفظ آخر يكونان في معنى المنصوص" اعلم أن بعض العلماء فرقوا بين الكبرياء
................................................................................................
الأصناف. والجواب أن استحقاق الكل إنما يلزم لو كان اللام للتمليك, وليس كذلك لما مر من أن الزكاة خالص حق الله تعالى ابتداء, وإنما تصير للفقراء بقاء بدوام اليد فتكون اللام للعاقبة دون التمليك, وإنما أحال ذلك على غيره; لأن كون اللام للعاقبة مجاز بعيد لا يصار إليه إلا عند ظهور القرائن, وقد أمكن على حمل اللام الاختصاص والدلالة على أن المصارف إنما هي هذه الأصناف لا غير بمعنى أنه لا يجوز الصرف إلى غيرهم, وأنهم هم الصالحون للصرف إليهم سواء صرف أو لم يصرف فبالصرف إلى البعض لا يتغير كون الكل مصارف. وإنما يلزم التغيير لو كان اللام للتمليك فيفيد أن الزكاة ملك لجميع الأصناف فيكون صرفها إلى البعض صرف ملك الشخص إلى غيره ثم تقرير المصنف رحمه الله تعالى لا يخلو عن ضعف; لأنه قد سبق أن بطلان الجمعية وثبوت الحمل على الجنسية إنما يكون عند تعذر الاستغراق فلا معنى لتعليل عدم إمكان أن يراد بالفقراء الجميع ببطلان الجمعية أولا وبتعذر الاستغراق ثانيا ففي العبارة تسامح, وأيضا المطلوب هاهنا جواز الصرف إلى بعض الأصناف وهذا لا يتفاوت بكون الفقراء للجمعية أو للجنسية فلا مدخل لما ذكره من أن الفقراء للجنس في إثبات كون اللام للعاقبة دون التمليك لجواز أن يلتزم الخصم بطلان الجمعية للجنس, ويدعي كون الزكاة ملكا للأجناس المذكورة فلا مدفع له إلا ما ذكرنا.
قوله: "على أنه إن أريد هذا" أي: توزيع جميع الصدقات على جميع الفقراء يلزم بطلان مذهب الشافعي رحمه الله تعالى; لأنه لا يقول بوجوب الصرف إلى جميع أفراد كل صنف بل إلى جمع منها.
فإن قلت إذا كان للاستغراق كان المعنى كل صدقة لكل فقير, وهذا أظهر بطلانا فلم عدل إلى(2/130)
والعظمة فإنه جاء عن الأحاديث الإلهية "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري" 1 فالكبرياء صفة هي لله تعالى بمنزلة الرداء للإنسان, والعظمة بمنزلة الإزار فالأول أدل على الظهور, والثاني على البطون فلا يكون الله أعظم وأجل بمعنى أكبر لكنا نقول قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} لا يراد به قل الله أكبر; لأنه لو قيل وربك قل الله أكبر لا يفيد معنى فمعناه وربك فعظم أي: قل أو افعل ما فيه تعظيم الله, والفرق الذي ذكروا بين الكبرياء والعظمة لا يفيد; لأنه ليس في وسع العبد إثبات ذلك المعنى بل في وسعه ذكر الله بالتعظيم والإجلال, وإثبات المعنى المشترك بين التكبير والتعظيم والإجلال على أنه ليس لبعض صفات الله تعالى مزية على البعض لا سيما إذا كانت من جنس واحد فإذا كان المقصود التعظيم فكل لفظ فيه التعظيم يكون في معنى الله أكبر. وقوله فأداء القيمة راجع إلى مسألة دفع القيم, وإنما ذكره هاهنا; لأن فيه وفي مسألة التكبير معنى مشتركا, وهو كونهما في معنى المنصوص فلذلك جمعهما في سلك واحد. "واستعمال الماء لإزالة النجاسة فيجوز بكل ما يصلح لها" اعلم أنه إن أورد الإشكال على قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وقوله عليه السلام: "الماء طهور" فغير وارد; لأنه لا يدل على أن غير الماء ليس بطهور, وإن أورد
................................................................................................
توزيع الجمع على الجمع قلت; لأنه ربما يدعي أن معنى الاستغراق الشمول والإحاطة بمعنى المجموع فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد إلى الآحاد فأبطل ذلك أيضا وسكت عما هو ظاهر البطلان.
قوله: "واستعمال الماء لإزالة النجاسة" يعني: أن المقصود هو إزالة النجاسة لا الاستعمال بدليل جواز الاقتصار على قطع موضع النجاسة أو حرقه,, وكون الماء آلة صالحة للإزالة حكم شرعي معلل بكونه مزيلا فيعدى إلى كل مائع يشاركه في ذلك, وكونه مزيلا يتضمن أمرين: طهارة المحل, وعدم تنجس الآلة بالملاقاة, وإلا لما وجدت والإزالة بل الزيادة, فإن قيل بل الحكم بطهارة المحل لخاصية في الماء إذ لو كان لإزالته لوجب أن يشاركه جميع المائعات المزيلة في رفع الحدث. قلنا الحكم بالطهارة عن الحدث بمعنى زوال المانع الشرعي ليس بمعقول إذ العضو طاهر لا ينجس به شيء, ومن شرط القياس كون المعنى معقولا قيل, ولو سلم أنه معقول فالماء يوجد مباحا لا يبالى بخبثه ولا يلحق به حرج بخلاف سائر المائعات. وفيه نظر أما أولا فلأنه لا عبرة بالفرق بعد تحقق العلة وهي الإزالة, وأما ثانيا فلأنه منقوض برفع الخبث فإن قلت قد ذكر في بحث المناقضة أن التطهير بالماء معقول وفي الهداية أن غير المعقول هو الاقتصار على الأعضاء الأربعة, وأما إزالة الحدث فمعقول. قلت يأتي جوابه في بحث المناقضة وذكر فخر الإسلام رحمه الله أن الماء مطهر بطبعه لم يحدث فيه معنى لا يعقل فلا يحتاج في صيرورته مطهرا إلى النية بخلاف التراب فإنه ملوث
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 25. مسلم في كتاب البر حديث 136.
رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 10. ابن ماجه في كتاب الصوم باب 25. أبو داود في كتاب الطهارة في كتاب الوضوء باب 105.(2/131)
فصل: في تعريف العلة
...
فصل: العلة
قيل المعرف ويشكل بالعلامة وقيل: المؤثر، وهي في الحقيقة ليست
ـــــــ
على قوله عليه الصلاة والسلام: "حتيه واقرصيه ثم اغسليه بالماء" فوارد. والجواب أن استعمال الماء ليس مقصودا بالذات; لأن من ألقى الثوب النجس أو قطع موضع النجاسة بالمقراض سقط عنه استعمال الماء, ولو كان استعماله مقصودا بالذات لم يسقط بدون العذر لكن الواجب إزالة العين النجسة. "وإنما لا يزول الحدث" بسائر المائعات لكونه غير معقول في الأصل, وهو الماء بخلاف الخبث فإن إزالته معقولة ولا يضر أن يلزمها أمر غير معقول دفعا للحرج, وهو أن لا يتنجس كل ما يصل إليه; ولأن الماء مطهر طبعا فيزول به كلاهما وغيره كالخل مثلا قالع يزول به الخبث لا الحدث, فإن قيل لما كان إزالة الحدث غير معقولة وجبت النية كالتيمم قلنا يأتي الجواب في فصل المناقضة.
"فصل: العلة قيل المعرف ويشكل بالعلامة" اختلفوا في تعريف العلة فقال البعض هي
................................................................................................
إلا أن الشرع جعله مطهرا عند إرادة الصلاة, فيفتقر إلى النية فإن قيل هب أن قلع الخبث وإزالته بالماء معقول إلا أنه يتضمن أمرا غير معقول, وهو عدم تنجس الماء بأول الملاقاة قلت لا بأس بذلك بعد كون المعنى معقولا لأنه ملتزم لضرورة دفع الحرج.
قوله: "وهو أن لا يتنجس كل ما يصل إليه" لنفي الشمول لا لشمول النفي.
قوله: "ولأن الماء مطهر طبعا" تعليل لمعقولية إزالة الماء للخبث, وذلك لفرط لطافته وقوة إزالته وسرعة نفوذه, وسهولة خروجه فيزول به الحدث والخبث جميعا بخلاف سائر المائعات فإنه مطهر باعتبار القلع والإزالة فيزول به الخبث لابتنائه على الرفع, والقلع دون الحدث; لعدم معقوليته ثبوتا وزوالا.
قوله: "ويشكل بالعلامة" وهي ما يعرف به وجود الحكم من غير أن يتعلق به وجوده ولا وجوبه كالأذان للصلاة, والإحصان للرجم يعني: أن تعريف العلة بالمعرف للحكم ليس بمانع لدخول العلاقة فيه قيل ولا جامع لخروج المستنبطة عنه; لأنها عرفت بالحكم; لأن معرفة علية الوصف متأخرة عن طلب عليته المتأخرة عن معرفة الحكم فلو عرف الحكم بها لكان العلم بها سابقا على معرفة الحكم فيلزم الدور. وجوابه أن المعرف للعلة المتقدم عليها هو حكم الأصل, والمعرف بالعلة المتأخر عنها هو حكم الفرع فلا دور, فإن قيل هما مثلان فيشتركان في الماهية ولوازمها قلنا لا ينافي كون أحدهما أجلى من الآخر بعارض.
قوله: "بل في الوجوب الحادث" لقائل أن يقول الوجوب الحادث على ما زعمتم أثر للخطاب القديم وثابت به فكيف يكون أثرا لشيء آخر, وهو فعل حادث كالقتل مثلا, وجوابه ما أشار إليه من أن معنى تأثير الخطاب القديم فيه أنه حكم بترتبه على العلة وثبوته عقيبها, وعلى هذا لا يبعد أن يراد بالحكم الخطاب القديم, ويكون معنى تأثير العلة تأثيرها في تعلق الخطاب بأفعال العباد.(2/132)
بمؤثرة إلا أن يقال بالنسبة إلينا فإن الأحكام تضاف إلى الأسباب في حقنا.
ـــــــ
المعرف أي: ما يكون دالا على وجود الحكم وقالوا العلل الشرعية كلها معرفات; لأنها ليست في الحقيقة بمؤثرة بل المؤثر هو الله تعالى قلنا تدخل العلامة في تعريف العلة, ولا يبقى الفرق بينهما لكن الفرق ثابت; لأن الأحكام بالنسبة إلينا مضافة إلى العلل كالملك إلى الشراء والقصاص إلى القتل, وليست الأحكام مضافة إلى العلامات كالرجم إلى الإحصان فلا بد من الفرق بين العلة والعلامة. "وقيل: المؤثر, وهي في الحقيقة ليست بمؤثرة" اعلم أن البعض عرفوا العلة بالمؤثر, والمراد بالمؤثر ما به وجود الشيء كالشمس للضوء والنار للإحراق, والبعض أبطلوا تعريف العلة بالمؤثر بأنها في الحقيقة ليست بمؤثرة بل العلل الشرعية كلها معرفات; لأن الحكم قديم فلا يؤثر فيه الحادث. والجواب عن هذا أنا قد ذكرنا أن الحكم المصطلح هو أثر حكم الله القديم فإن إيجاب الله قديم, والوجوب حادث فالمراد من المؤثر في الحكم ليس أنه مؤثر في الإيجاب القديم بل في الوجوب الحادث بمعنى أن الله تعالى رتب بالإيجاب القديم الوجوب على أمر حادث كالدلوك مثلا فالمراد بكونه مؤثرا أن الله تعالى حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر كالقصاص بالقتل والإحراق بالنار ولا فرق في هذا بين العلل العقلية والشرعية فكل من جعل العلل العقلية مؤثرة بذواتها يجعل العلل الشرعية كذلك, وهم المعتزلة فكما أن النار علة للاحتراق عندهم بالذات بلا خلق الله تعالى الاحتراق; فإن القتل العمد بغير حق علة لوجوب القصاص أيضا عقلا. وكل من جعل العلة العقلية مؤثرة بمعنى أنه جرت العادة الإلهية بخلق الأثر عقيب ذلك الشيء فيخلق الاحتراق عقيب مماسة النار لا أنها مؤثرة بذاتها بجعل العلل الشرعية كذلك بأنه تعالى حكم أنه كلما وجد ذلك الشيء يوجد عقيبه الوجوب حسب وجود الاحتراق عقيب مماسة النار فإن المتولدات بخلق الله تعالى عند أهل السنة والجماعة على ما عرف في علم الكلام. "إلا أن يقال بالنسبة إلينا فإن الأحكام تضاف إلى الأسباب في حقنا" فإنا مبتلون بنسبة الأحكام إلى الأسباب الظاهرة فيجب القصاص بالقتل, وإن كان في الحقيقة المقتول ميت بأجله ففي ظاهر الشرع الأحكام مضافة إلى الأسباب فهذا معنى كونها مؤثرة.
................................................................................................
قوله: "وكل من جعل العلل العقلية مؤثرة بذواتها يجعل العلل الشرعية كذلك" فإن قلت كون الوقت موجدا لوجوب الصلاة والقتل لوجوب القصاص ونحو ذلك مما لا يذهب إليه عاقل; لأن هذه أعراض وأفعال لا يتصور منها إيجاد وتأثير. قلت: معنى تأثيرها بذواتها أن العقل يحكم بوجوب القصاص بمجرد القتل العمد العدوان من غير توقف على إيجاب من موجب, وكذا في كل ما تحقق عندهم أنه علة.(2/133)
وقيل: الباعث لا على سبيل الإيجاب أي: المشتمل على حكمة مقصودة للشارع في شرعه الحكم من جلب نفع أو دفع ضر وكون العلة هكذا تسمى مناسبة والحكمة المجردة لا تعتبر في كل فرد لخفائها، وعدم انضباطها بل في الجنس فيضاف الحكم إلى وصف ظاهر منضبط يدور معها أو يغلب وجودها عنده كالسفر مع المشقة.
ـــــــ
"وقيل: الباعث لا على سبيل الإيجاب" بعض الناس عرفوا العلة بالباعث يعني: ما يكون باعثا للشارع على شرع الحكم كما في قولك جئتك لإكرامك; الإكرام باعث على المجيء والقتل العمد باعث للشارع على شرع القصاص صيانة للنفوس وقوله لا على سبيل الإيجاب احتراز عن مذهب المعتزلة فإن العلة توجب على الله تعالى شرع الحكم عندهم على ما عرف أن الأصلح للعباد واجب على الله تعالى عندهم "أي: المشتمل على حكمة مقصودة للشارع في شرعه الحكم" هذا تفسير الباعث لا على سبيل الإيجاب, فإن المراد من الحكمة المصلحة, والمراد من كونه مشتملا على الحكمة أن ترتب الحكم على هذه العلة محصل للحكمة, فإن العلة لوجوب القصاص القتل العمد العدوان ولا يتصور اشتماله على الحكمة إلا بهذا المعنى "من جلب نفع" أي: إلى العباد "أو دفع ضر" أي: عن العباد. وهذا مبني على أن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد عندنا مع أن الأصلح لا يكون واجبا عليه خلافا
................................................................................................
قوله: "كلما وجد ذلك الشيء يوجد عقيبه الوجوب" فإن قلت كثير من العلل الشرعية مما كانت متحققة قبل ورود الشرع من غير أن يوجد عقيبها الوجوب كالوقت مثلا قلت معنى كلامه أن كل شيء جعله الشارع علة لحكم فمعنى ذلك أنه حكم بأنه كلما يوجد ذلك الشيء بشرائطه يوجد الحكم عقيبه بإيجاب الله تعالى فقيل ورود الشرع لا حكم بالعلية فلا وجوب عقيب وجود ذلك الشيء.
قوله: "إلا أن يقال بالنسبة إلينا" يعني: أن الموجب للأحكام هو الله تعالى إلا أن الإيجاب لما كان غيبا عنا ونحن عاجزون عن دركها شرع العلل موجبات للأحكام في حق العمل ونسب الوجوب إليها فيما بين العباد.
قوله: "فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة"; لأن تعليل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام باهتداء الخلق لازم لها, وكذا تعليل إظهار المعجزات على يد النبي عليه الصلاة والسلام بتصديق الخلق, وإنكار اللازم إنكار للملزوم لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم.
قوله: "والوصف المناسب ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا" قريب مما ذكره الإمام في المحصول أنه الوصف الذي يفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا وفسر النفع باللذة أو ما يكون طريقا إليها, والضرر بالألم أو ما يكون طريقا إليه. وقد يفسر المناسب بالوصف اللائم لأفعال(2/134)
للمعتزلة, وما أبعد عن الحق قول من قال: إنها غير معللة بها فإن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاهتداء الخلق, وإظهار المعجزات لتصديقهم فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن, ودالة على ما قلنا, وأيضا لو لم يفعل لغرض أصلا يلزم العبث. ودليلهم أنه إن فعل لغرض فإن لم يكن حصول ذلك الغرض أولى به من عدمه امتنع منه فعله, وإن كان أولى به كان مستكملا به فيكون ناقصا في ذاته, وقد قيل عليه: إنه إنما يكون مستكملا به لو كان الغرض راجعا إليه, وهنا راجع إلى العبد وأجابوا عن ذلك أن تحصيل مصلحة العبد, وعدمه إن استويا بالنسبة إليه لا يكون غرضا وداعيا له إلى الفعل; لأنه حينئذ يلزم الترجيح من غير مرجح, وإن لم يستويا بالنسبة إليه يكون فعله أولى فيلزم الاستكمال, أقول: هذا الجواب غير مرضي; لأنا لا نسلم أنه إن استويا بالنسبة إليه لا يكون غرضا وداعيا, ولا نسلم أن الترجيح من غير مرجح. لم لا يجوز أن تكون الأولوية بالنسبة إلى العباد مرجحا. "وكون العلة هكذا تسمى مناسبة" أي: كونها بحيث تجلب النفع إلى العباد وتدفع الضرر عنهم يسمى مناسبة, والوصف المناسب ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا وقد قال القاضي الإمام أبو زيد الوصف المناسب ما لو عرض
................................................................................................
العقلاء في العادات, الأولى قول من يجعل الأحكام الثابتة بالنصوص متعلقة بالحكم والمصالح. والثاني: قول من يأبى ذلك وقال القاضي الإمام أبو زيد: المناسب ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول يعني: إذا عرض على العقل أن هذا الحكم إنما شرع لأجل هذه المصلحة يكون ذلك الحكم موصلا إلى تلك المصلحة عقلا وتكون تلك المصلحة أمرا مقصودا عقلا ولا يخفى أن ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل العمد العدوان وصف مناسب لوجوب القصاص, والإسكار لحرمة الخمر ونحو ذلك على ما صرح به في التقسيم المذكور لا يستقيم على هذه التفاسير إذ ليس القتل مثلا مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا ولا هو ملائم لأفعال العقلاء ولا هو مقصود من وجوب القصاص. فلذا قال المصنف رحمه الله تعالى وقد ذكروا أن المناسب إما حقيقي, وإما إقناعي, وأحاله على الغير لما أنه لا يستقيم على تفسير المصنف رحمه الله بل على التفسير الذي ذكره الآمدي في الأحكام وهو أن المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا من شرع ذلك الحكم سواء كان المقصود جلب منفعة أو دفع مفسدة فإنه يلزم من ترتب وجوب القصاص على القتل, حصول ما هو مقصود من شرعية القصاص, وهو بقاء النفوس على ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. ويمكن أن يفسر ما ذكره أبو زيد بهذا المعنى أي: المناسب هو الذي إذا عرض على العقل أن يلزم من ترتب الحكم عليه حصول ما هو المقصود منه يقبله, وإنما عدل عنه الآمدي; لأنه إنما يصلح للناظر لا للمناظر إذ ربما يقول الخصم هذا مما لا يتلقاه عقلي بالقبول فلا يكون مناسبا بالنسبة إلي, وليس الاحتجاج بقبول الغير علي أولى من العكس ويمكن أن يقال المراد عامة العقول ولذا ذكره بلفظ الجمع.(2/135)
على العقول تلقته بالقبول وقد ذكروا أن المناسب إما حقيقي وإما إقناعي, فالحقيقي إما لمصلحة دينية كرياضة النفس وتهذيب الأخلاق فالوصف المناسب كالدلوك وشهود الشهر, والحكم وجوب الصلاة والصوم. والحكمة رياضة النفس وقهرها, أو دنيوية وهي إما ضرورية, وهي خمسة حفظ النفس, والمال والنسب, والدين, والعقل فهذه الخمسة هي الحكمة والمصلحة في شرعية القصاص والضمان وحد الزنا والجهاد وحرمة المسكرات, والوصف المناسب هو القتل العمد العدوان والسرقة والغصب مثلا والزنا وحربية الكافر والإسكار, وإما محتاج إليها كما في تزويج الصغيرة فالوصف المناسب هو الصغر, والحكم شرعية التزويج والحكمة والمصلحة كون المولية تحت الكفء, وهذه المصلحة ليست ضرورية لكنها في محل الحاجة; لأنه يمكن أن يفوت الكفء لا إلى بدل. وإما أن لا تكون ضرورية ولا محتاجا إليها بل للتحسين كحرمة القاذورات فإنها حرمت لنجاستها وعلو منصب الآدمي فلا يحسن تناولها, والإقناعي ما يتوهم أنه مناسب ثم إذا تؤمل يظهر خلافه كنجاسة الخمر لبطلان بيعها فمن حيث إنها نجسة تناسب الإدلال, والبيع يقتضي الإعزاز لكن معنى النجاسة كونها مانعة من صحة الصلاة, وهذا لا يناسب بطلان البيع.
................................................................................................
قوله: "الأصل في النصوص عدم التعليل" اختلفوا في ذلك على أربعة مذاهب فقيل: الأصل عدم التعليل حتى يقوم دليل التعليل وقيل: الأصل التعليل بكل وصف صالح لإضافة الحكم إليه حتى يوجد مانع عن البعض وقيل الأصل التعليل بوصف لكن لا بد من دليل يميزه من بين الأوصاف, ونسب ذلك إلى الشافعي رحمه الله تعالى وقد اشتهر فيما بين أصحابه أن الأصل في الأحكام هو التعبد دون التعليل. والمختار: أن الأصل في النصوص التعليل, وأنه لا بد من دليل يميز الوصف الذي هو علة ومع ذلك لا بد قبل التعليل والتمييز من دليل يدل على هذا النص الذي يراد استخراج علته معلل في الجملة; لأن الظاهر, وهو أن الأصل في النصوص التعليل إنما يصلح للدفع دون الإلزام وفي المذهب الثالث لا حاجة إلى ذلك بل يكفي أن الأصل في النصوص التعليل.
وجه الأول أن النص موجب للحكم بصيغته لا بعلته إذ العلل الشرعية ليست من مدلولات النص, وبالتعليل ينتقل الحكم من الصيغة إلى العلة التي هي من الصيغة بمنزلة المجاز من الحقيقة فلا يصار إليه إلا بدليل, وأيضا التعليل إما بجميع الأوصاف وهو محال; لأن المقصود هو التعدية, ويمتنع وجود جميع أوصاف الأصل في الفرع ضرورة التغاير والتمايز في الجملة, وإما بالبعض وهو أيضا باطل; لأن كل وصف عينه المجتهد محتمل للعلية وعدمها, والحكم لا يثبت بالاحتمال فلا بد من دليل يرجح البعض. فإن قيل هاهنا قسم آخر هو التعليل بكل وصف قلنا إما أن يراد كل وصف على الإطلاق فيستلزم تعدية الحكم إلى جميع المحال إذ ما من شيئين إلا وبينهما مشاركة ما في وصف ما, أو يراد كل وصف صالح للعلية, وإضافة الحكم فيفضي إلى التناقض أي: التعدية وعدمها; لأن بعض الأوصاف متعد وبعضها قاصر على ما سيجيء; فلذا لم يتعرض هاهنا لهذا القسم.(2/136)
وهنا أبحاث: الأول الأصل في النصوص عدم التعليل لأن النص موجب بصيغته لا بالعلة؛ ولأن التعليل بكل الأوصاف محال، وبالبعض محتمل، وعند البعض هي معللة بكل وصف إلا لمانع؛ لأن كل وصف صالح لهذا والنص مظهر للحكم والعلة داعية والتعليل لإثبات الحكم في الفرع وعند الشافعي رحمه الله تعالى معللة لكن لا بد من
ـــــــ
"والحكمة المجردة لا تعتبر في كل فرد لخفائها, وعدم انضباطها بل في الجنس فيضاف الحكم إلى وصف ظاهر منضبط يدور معها" أي: يدور الوصف مع الحكمة. "أو يغلب وجودها" أي: وجود الحكمة "عنده" أي: عند الوصف والمراد أن ترتب الحكم على الوصف يكون محصلا للحكمة دائما, وفي الأغلب "كالسفر مع المشقة" أي: ليس المراد أن المشقة هي الحكمة بل الحكمة هي دفع الضرر ودفع الضرر إنما يتحقق في صورة وجود الضرر ووجود الضرر لا يتحقق إلا أن تكون المشقة موجودة ثم المشقة غالبة الوجود في السفر فترتب الحكم وهو الرخصة على الوصف وهو السفر يكون محصلا للحكمة التي هي دفع الضرر في الأغلب.
"وهنا أبحاث: الأول الأصل في النصوص عدم التعليل" عند البعض إلا بدليل كما قال عليه الصلاة والسلام: "الهرة ليست بنجسة; لأنها من الطوافين والطوافات عليكم" 1 فتعليله عليه الصلاة والسلام دل على أن هذا النص معلل, وأن عدم نجاستها معلل بالطواف "لأن النص موجب بصيغته لا بالعلة; ولأن التعليل بكل الأوصاف محال, وبالبعض محتمل, وعند البعض هي معللة بكل وصف إلا لمانع; لأن كل وصف صالح لهذا" أي: للتعليل. "والنص مظهر للحكم والعلة داعية" جواب عن قوله أن النص موجب للحكم بصيغته إلا بالعلة أي: نعم أن النص موجب للحكم بمعنى أنه مظهر للحكم بصيغته لا أنه داع بل الداعي إلى الحكم هو العلة. "والتعليل لإثبات الحكم في الفرع" جواب آخر عن قوله: أن النص موجب بصيغته أي: نعم أن النص موجب للحكم بصيغته في الأصل لا في الفرع بل في الفرع موجب للحكم بسبب العلة, ونحن إنما نعلل لإثبات الحكم في الفرع لا في الأصل. "وعند الشافعي رحمه الله تعالى معللة لكن لا بد من دليل مميز; لأن بعض الأوصاف متعد, وبعضها قاصر فلو علل بكل وصف يلزم التعدية وعدمها وعندنا لا بد مع ذلك" أي: مع ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى "من الدليل على أن النص معلل في الجملة لاحتمال أن يكون من النصوص الغير المعللة نظيره في حديث الربا أن قوله عليه الصلاة والسلام: "يدا بيد" يوجب التعيين. وذلك من باب الربا أيضا; لأنه لما شرط تعيين أحد البدلين احترازا عن بيع الدين بالدين" فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ "شرط تعيين الآخر احترازا عن شبهة الفضل"
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 69 . الموطأ في كتاب الطهارة حديث 13. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 32.(2/137)
دليل مميز؛ لأن بعض الأوصاف متعد، وبعضها قاصر فلو علل بكل وصف يلزم التعدية وعدمها وعندنا لا بد مع ذلك من الدليل على أن النص معلل في الجملة لاحتمال أن يكون من النصوص الغير المعللة نظيره في حديث الربا أن قوله عليه الصلاة والسلام: "يدا بيد" يوجب التعيين. وذلك من باب الربا أيضا؛ لأنه لما شرط تعيين أحد البدلين احترازا عن بيع الدين بالدين شرط تعيين الآخر احترازا عن شبهة الفضل وقد وجدنا هذا الحكم متعديا حتى لا يجوز بيع الحنطة بعينها بشعير بغير عينه إجماعا، وشرط الشافعي رحمه الله تعالى التقابض في بيع الطعام بالطعام فإذا وجدناه معللا في ربا النسيئة نعلله في ربا الفضل أيضا؛ لأنه أثبت منه.
الثاني: يجوز أن تكون العلة وصفا لازما كالثمنية للزكاة في المضروب عندنا حتى تجب الزكاة في الحلي وللربا عنده وعارضا كالكيل للربا وجليا وخفيا على ما
ـــــــ
فإن للنقد مزية على النسيئة. "وقد وجدنا هذا الحكم متعديا حتى لا يجوز بيع الحنطة بعينها بشعير بغير عينه إجماعا, وشرط الشافعي رحمه الله تعالى التقابض في بيع الطعام بالطعام فإذا وجدناه معللا في ربا النسيئة نعلله في ربا الفضل أيضا; لأنه أثبت منه"; لأن الربا هو الفضل الخالي من العوض, وهو موجود حقيقة في ربا الفضل كبيع قفيز من الحنطة بقفيزين منها. أما الربا في النسيئة, وهو بيع الحنطة بعينها بشعير بغير عينه نسيئة فشبهة الفضل قائمة لا حقيقة الفضل هذا ما قالوا. واعلم أن اشتراط هذا الشرط, وهو كون هذا النص معللا في الجملة في غاية الصعوبة; لأن التعليل إن توقف على تعليل آخر فالتعليل الموقوف عليه إن توقف على تعليل آخر يلزم التسلسل, وإن لم يتوقف يثبت أن بعض التعليلات لم يتوقف على هذا, ويمكن أن يجاب عن هذا بأنا لما شرطنا في العلة التأثير, وهو أن يثبت بالنص أو الإجماع اعتبار الشارع جنس هذا الوصف أو نوعه في جنس هذا الحكم أو نوعه لا يثبت التأثير إلا وأن يثبت كون هذا النص من النصوص المعللة; لأنه كلما ثبت اعتبار الشارع جنس هذا الوصف أو نوعه في جنس هذا الحكم أو نوعه ثبت أن هذا النص من النصوص المعللة.
"الثاني: يجوز أن تكون العلة وصفا لازما كالثمنية للزكاة في المضروب عندنا" فإن الذهب والفضة خلقا ثمنا, وهذا الوصف لا ينفك عنهما أصلا "حتى تجب الزكاة في الحلي وللربا عنده وعارضا كالكيل للربا" فإن الكيل ليس بلازم حسا للحنطة, والشعير فإنهما قد يباعان وزنا "وجليا وخفيا على ما يأتي واسما" أي: اسم جنس "كقوله عليه الصلاة والسلام في المستحاضة أنه "دم عرق انفجر", وهذا اسم مع وصف عارض" الدم اسم جنس والانفجار وصف عارض, "وحكما كقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟" " قاس النبي
................................................................................................
ووجه الثاني أن الأدلة قائمة على حجية القياس من غير تفرقة بين نص ونص, فيكون التعليل هو الأصل, ولا يمكن بالكل ولا بالبعض دون البعض لما مر فتعين التعليل بكل وصف إلا أن يقوم مانع كمخالفة نص أو إجماع أو معارضة أوصاف.(2/138)
يأتي واسما كقوله عليه الصلاة والسلام في المستحاضة أنه دم عرق انفجر، وهذا اسم مع وصف عارض وحكما كقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟" وكقولنا في المدبر أنه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى فلا يباع كأم الولد ومركبا كالكيل والجنس وغير مركب، وهذا ظاهر ومنصوصة وغير منصوصة كما يأتي. مسألة ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة عندنا لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص.
ـــــــ
عليه الصلاة والسلام إجزاء قضاء الحج عن الأب على إجزاء قضاء دين العباد عن الأب والعلة كونهما دينا, وهو حكم شرعي; لأن الدين لزوم حق في الذمة. "وكقولنا في المدبر أنه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى فلا يباع كأم الولد" فيه قياس عدم جواز بيع المدبر على عدم جواز بيع أم الولد والعلة كونهما مملوكين تعلق عتقهما بمطلق موت المولى, وهذا حكم شرعي وإنما قال بمطلق موت المولى احترازا عن المدبر المقيد كقوله إن مت في هذا المرض فأنت حر "ومركبا كالكيل والجنس وغير مركب, وهذا ظاهر ومنصوصة وغير منصوصة كما يأتي".
"مسألة ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة عندنا" وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز فإنه جعل علة الربا في الذهب والفضة الثمنية فهي مقتصرة على الذهب والفضة غير متعدية عنهما إذ غير الحجرين لم يخلق ثمنا. والخلاف فيما إذا كانت العلة مستنبطة أما إذا كانت منصوصة فيجوز عليتها اتفاقا "لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص" سواء كان معقول المعنى أو لا
................................................................................................
ووجه الثالث أنه لا يمكن التعليل بجميع الأوصاف لما مر ولا بكل واحد; لأن منها ما هو قاصر يوجب حجر القياس وقصر الحكم على الأصل, ومنها ما هو متعد يوجب التعدية إلى الفرع, وهذا تناقض فتعين البعض, وأيضا اختلاف الصحابة في الفروع لاختلافهم في العلة يدل على إجماعهم على أن علة الحكم هو البعض دون المجموع أو كل واحد, والبعض محتمل فلا بد له من مميز, واحتياج التعيين والتمييز إلى الدليل لا ينافي كون الأصل هو التعليل, وبهذا يخرج الجواب عن الدليل الثاني على القول الأول فلهذا اقتصر المصنف رحمه الله تعالى على جواب الدليل الأول.
ووجه الرابع ظاهر ولقائل أن يقول لا نسلم التعليل بالقاصرة يوجب عدم التعدية بل غايته أنه لا يوجب التعدية, ولا يدل إلا على ثبوت الحكم في المنصوص فعلى تقدير التعليل بكل وصف ثبت التعدية بالمتعدية, وتكون القاصرة لتأكيد الثبوت في الأصل ويدل على ذلك ما ادعيتم من أن نص الربا في النقدين معلل عند الشافعية رحمهم الله تعالى بالثمنية مع تعدي وجوب التعيين إلى المطعوم.
قوله: "نظيره" أي: نظير الأصل المذكور في قوله عليه السلام: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة(2/139)
وإنما يجوز التعليل للاعتبار إذ ليس للعبد بيان علية أحكام الله تعالى وما قالوا أن فائدة التعليل لا تنحصر في هذا وفائدته أن يصير الحكم أقرب إلى القبول ليس بشيء إذ الفائدة الفقهية ليست إلا إثبات الحكم، فإن قيل التعدية موقوفة على التعليل فتوقفه عليها دور. قلنا: يتوقف على علمه بأن الوصف حاصل في الغير.
ـــــــ
"وإنما يجوز التعليل للاعتبار إذ ليس للعبد بيان علية أحكام الله تعالى وما قالوا أن فائدة التعليل لا تنحصر في هذا" أي: في الاعتبار. "وفائدته أن يصير الحكم أقرب إلى القبول ليس بشيء إذ الفائدة الفقهية ليست إلا إثبات الحكم, فإن قيل التعدية موقوفة على التعليل فتوقفه عليها دور. قلنا: يتوقف على علمه بأن الوصف حاصل في الغير" أي: التعليل لا يتوقف على التعدية بل يتوقف التعليل على العلم بأن هذا الوصف حاصل في غير مورد النص. واعلم أن كثيرا من العلماء قد تحيروا في هذه المسألة واستبعدوا مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيها توهما منهم أن الحق أن يتفكروا أولا في استنباط العلة أن العلة في الأصل ما هي فإذا حصل غلبة الظن بالعلة, فإن كانت متعدية من الأصل أي: حاصلة في غير صورة الأصل يتعدى
................................................................................................
مثلا بمثل يدا بيد" 1 أن قوله عليه الصلاة والسلام: "يدا بيد" يوجب التعيين; لأن اليد آلة التعيين كالإشارة, والإحضار وذلك من باب الربا أيضا أي: وجوب التعيين من باب منع الربا, والاحتراز عنه كوجوب المماثلة; لأنه لما شرط في مطلق البيع تعيين أحد البدلين احترازا عن بيع الدين بالدين شرط في باب الصرف تعيين البدلين جميعا احترازا عن شبهة الفضل الذي هو ربا. كما شرط المماثلة في القدر احترازا عن حقيقة الفضل وقد وجدنا وجوب التعيين متعديا عن بيع النقدين إلى غيره حتى وجب التعيين في بيع الحنطة بالشعير حيث لم يجز بيع حنطة بعينها بشعير لا بعينه مع الحلول وذكر الأوصاف, وحتى شرط الشافعي رحمه الله تعالى التقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام سواء اتحد الجنس أو اختلف ليحصل التعيين فثبت بإجماعهم على تعدية وجوب التعيين إلى غير النقدين أن نص الربا معلل في حق وجوب التعيين إذ لا تعدية بدون التعليل, فيجب أن يكون معللا في حق وجوب المماثلة بطريق دلالة الإجماع حتى يتعدى إلى سائر الموزونات; لأن ربا الفضل وهو مبنى تعدية وجوب المماثلة أشد ثبوتا وتحققا من ربا النسيئة وهو مبنى تعدية وجوب التعيين; لأن فيه شبهة الفضل باعتبار مزية النقد على النسيئة, وحقيقة الشيء أولى بالثبوت من شبهته.
والحاصل أن تعليل هذا النص في ربا النسيئة دليل على كونه معللا في ربا الفضل, وكونه معللا في ربا النسيئة مستند إلى الإجماع أو النص, وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الربا في
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 8 / 81 / 84. مسلم في كتاب المساقاة حديث 76، 81 _ 83.
أبو داود في كتاب البيوع باب 8، 81، 84. مسلم في كتاب المساقاة حديث 76 / 81 – 83.
أبو داود في كتاب البيوع باب 12، 17. الترمذي في كتاب البيوع باب 21. النسائي في كتاب البيع باب 42 – 44. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 48، 56. الدارمي في كتاب المقدمة باب 40. أحمد في مسنده 1/200، 201 3/97.(2/140)
الحكم, وإلا فلا بل يقتصر الحكم على مورد النص, أو مورد الإجماع فيقتصر الحكم. أما توقف التعليل على التعدية أو على العلم بأن العلة حاصلة في غير الأصل فلا معنى له, فأقول هذه المسألة مبنية على اشتراط التأثير عند أبي حنيفة رحمه الله وعلى الاكتفاء بالإخالة عند الشافعي رحمه الله ومعنى التأثير اعتبر الشارع جنس الوصف أو نوعه في جنس الحكم أو نوعه فإن كان الوصف مقتصرا على مورد النص غير حاصل في صورة أخرى لا يحصل غلبة الظن بالعلة أصلا; لأن نوع العلة أو جنسها لما لم يوجد في صورة أخرى لا يدرى أن الشارع اعتبره أو لم يعتبره. وعند الشافعي رحمه الله لما كان مجرد الإخالة كافيا يحصل الوقوف على العلة مع الاقتصار على مورد النص فحاصله الخلاف أنه إذا كان الوصف مقتصرا على مورد النص أو الإجماع يمتنع الوقوف بطريق الاستنباط على كونه علة عندنا خلافا له, فهذا الذي ذكرنا من مبنى الخلاف أفاد عدم صحة التعليل بالوصف القاصر عندنا وصحته عنده, وثمرة الخلاف أنه إذا وجد في مورد النص وصفان قاصر ومتعد, وغلب
................................................................................................
النسيئة" 1, وأن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن بيع الربا, والريبة", والمراد بالريبة شبهة الربا وفي بيع النقد بالنسيئة شبهة الربا. فالدليل على كون النص معللا في الجملة قد يكون نصا أو إجماعا, وقد يكون تعليلا آخر وينتهي بالآخرة إلى نص أو إجماع قطعا للتسلسل, وليس في كلامهم ما يوهم أن كل تعليل يتوقف على تعليل آخر حتى يتوهم ورود الإشكال الذي أورده المصنف رحمه الله تعالى من لزوم التسلسل أو استغناء بعض التعليلات عن كون النص معللا. وتقرير جوابه أنا نشترط في العلة التأثير أي: اعتبار الشارع جنسه أو نوعه في جنس الحكم أو نوعه فكلما ثبت عليه الوصف ثبت تأثيره, وكلما ثبت تأثيره ثبت كون النص معللا في الجملة ضرورة أنه اعتبر علة لنوع الحكم المستفاد منه, أو لجنسه وعلة الجنس علة للنوع, وربما يقال إن استخراج العلة واعتبار كونها مؤثرة أو غير مؤثرة موقوف على كون النص معللا فإثبات ذلك به دور.
قوله: "هذا ما قالوا" إنما قال ذلك لما توهم من ورود الإشكال; ولأن إثبات التعليل في ربا النسيئة كاف وكون النص من النصوص المعللة في الجملة, ولا حاجة إلى باقي المقدمات; ولأن وجوب التعيين والمماثلة في الأشياء الستة قد ثبت بالنص الوارد فيها, وقد سبق أن من شرط التعليل, والتعدية عدم النص في الفرع, ويمكن أن يجاب بأنه مبني على مذهب من لا يشترط ذلك على أنه لا مناقشة في المثال ويكفي فيه الفرض والتقدير.
قوله: "الثاني" إشارة إلى نفي شرائط اعتبرها بعضهم في العلة, وهي أن تكون وصفا لازما جليا منصوصا عليه ليس بمركب ولا حكم شرعي حتى لا يجوز التعليل بالعارض; لأن انفكاكه يوجب انتفاء الحكم. والجواب أن المعتبر صلاحية المحل للاتصاف به ولا بالخفي كرضا المتعاقدين في
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 79. مسلم في كتاب المساقاة حديث 101، 102، 104. النسائي في كتاب البيوع باب 50. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 49. الدارمي في كتاب البيوع باب 42. أحمد في مسنده 5/200، 202، 204.(2/141)
على ظن المجتهد أن القاصر علة هل يمنع التعليل بالمتعدي أم لا؟ فعنده يمنع, وعندنا لا فإنه لا اعتبار لغلبة الظن بعلية الوصف القاصر فإنها مجرد وهم لا غلبة ظن فلا تعارض غلبة الظن بغلبة الوصف المتعدي المؤثر. كما أن توهم أن لخصوصية الأصل تأثيرا في الحكم فهذا المعنى لا يمنع التعليل بالوصف المتعدي المؤثر فكذا هاهنا إلا إذا كان الوصف القاصر يثبت عليته بالنص كقوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها" فحينئذ يثبت عليته, ويكون مانعا من علية وصف آخر فإن قيل تعليلكم بالثمنية للزكاة في المضروب تعليل بالوصف القاصر قلنا: لا بل متعد إلى الحلي فإن قيل: تعديته إلى الحلي لا تدل على كونه وصفا مؤثرا وقد جعلتم هذه المسألة مبنية على التأثير. قلنا معنى قولنا: أن الثمنية علة للزكاة في المضروب هو أن كون الذهب والفضة خلقا ثمنين دليل على أنهما غير مصروفين إلى الحاجة الأصلية بل هما من أموال التجارة خلقة فيكونان من المال النامي, وتأثير المال النامي في وجوب الزكاة عرف شرعا فمعنى كون الثمنية علة للزكاة أن الثمنية من جزئيات كون المال ناميا فتكون علة مؤثرة باعتبار أن الشارع اعتبر جنسه في حكم وجوب الزكاة, فالعلة في الحقيقة النماء لا الثمنية
................................................................................................
ثبوت حكم البيع وجوابه يأتي في فصل الاستحسان وهو أن الخفي قد يكون أقوى, والاعتبار بالقوة أولى, ولا بغير المنصوص لما سيأتي مع جوابه ولا بالمركب من وصفين فصاعدا, وإلا لكانت العلة صفة زائدة على المجموع ضرورة أنا نعقل المجموع, ونجهل كونه علة بناء على الذهول أو الحاجة إلى النظر, والمجهول غير المعلوم واللازم وهو كون العلة صفة المجموع باطل; لأن صفة الكل إن لم تقم بشيء من الأجزاء لم تكن صفة له, وإن قامت فإما بكل جزء فيكون كل جزء علة, والمقدر خلافه وإما بجزء واحد فيكون هو العلة, ولا مدخل لسائر الأجزاء وإما بالمجموع من حيث هو المجموع, وحينئذ إن لم يكن له جهة واحدة فظاهر وإن كانت ينقل الكلام إليها وإلى كيفية قيامها بالمجموع ويتسلسل. والجواب أنه لا معنى لكون الوصف علة إلا قضاء الشارع بثبوت الحكم عندها رعاية لمصلحة, وليس ذلك صفة له بل جعله الشارع متعلقا به, ولو سلم فالعلية وجهة, الوحدة من الاعتبارات متى ينقطع التسلسل فيها بانقطاع الاعتبار ولا يجوز التعليل بحكم شرعي; لأنه إما متقدم بالزمان على ما فرض معلولا فيلزم تخلف المعلول, أو متأخر فيلزم تقدم المعلول أو مقارن فيلزم التحكم إذ ليس أحدهما أولى بالعلية. والجواب أن تأثير العلل الشرعية ليس بمعنى الإيجاد والتحصيل حتى يمتنع التقدم أو التخلف, ولو سلم فيجوز أن يكون أحد الحكمين صالحا للعلية من غير عكس أو يكون الثابت بالدليل عليه أحدهما دون الآخر فلا يلزم التحكم فظهر بطلان الأدلة على اشتراط الشروط المذكورة وقد ثبت بالأدلة السابقة حجية القياس وصحة التعليل من غير فصل بين اللازم والعارض أو الجلي والخفي إلى غير ذلك فثبت المطلوب, والمراد بكون العلة اسم جنس أن يتعلق الحكم بمعناه القائم بنفسه مثل كون الخارج من المستحاضة دم عرق منفجر لا أن يتعلق بنفس الاسم المختلف باختلاف اللغات.
قوله: "لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص" إشارة إلى الجواب عن استدلال الخصم, وهو أن(2/142)
مسألة ولا يجوز التعليل بعلة اختلف في وجودها في الفرع أو في الأصل كقوله في الأخ أنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق إذا ملكه كابن العم فإنه إن أراد عتقه إذا ملكه لا يفيده وإن أراد إعتاقه بعدما ملكه فلا نسلم ذلك في الأخ وكقوله إن تزوجت زينب فكذا تعليق فلا يصح بلا نكاح. كما لو قال زينب التي أتزوجها طالق؛ لأنا نمنع وجود التعلق في الأصل، أو ثبت الحكم في الأصل بالإجماع مع الاختلاف في العلة كقوله في قتل الحر بالعبد إنه عبد فلا يقتل بالحر كالمكاتب فنقول العلة في الأصل جهالة المستحق لا كونه عبدا. مسألة: ولا يجوز التعليل بوصف يقع به الفرق كقوله مكاتب فلا يصح التكفير بإعتاقه كما إذا أدى بعض البدل فنقول أداء بعض البدل عوض مانع. الثالث: تعرف العلة بأمور أولها النص إما صريحا كقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ
ـــــــ
"مسألة ولا يجوز التعليل بعلة اختلف في وجودها في الفرع أو في الأصل كقوله في الأخ أنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق إذا ملكه كابن العم فإنه إن أراد عتقه إذا ملكه لا يفيده"; لأن هذا الوصف غير موجود في ابن العم "وإن أراد إعتاقه بعدما ملكه فلا نسلم ذلك في الأخ وكقوله إن تزوجت زينب فكذا تعليق فلا يصح بلا نكاح. كما لو قال زينب التي أتزوجها طالق; لأنا نمنع وجود التعلق في الأصل, أو ثبت الحكم في الأصل بالإجماع مع الاختلاف في العلة كقوله في قتل الحر بالعبد إنه عبد فلا يقتل بالحر كالمكاتب" أي: مكاتب قتل وله مال يفي ببدل الكتاب وله وارث غير سيده "فنقول العلة في الأصل جهالة المستحق لا كونه عبدا. مسألة: ولا يجوز التعليل بوصف يقع به الفرق كقوله مكاتب فلا يصح التكفير بإعتاقه كما إذا أدى بعض البدل فنقول أداء بعض البدل عوض مانع".
"الثالث: تعرف العلة
................................................................................................
النص إذا كان معقولا فالحكم ثابت العلة دون النص; لأنه لا معنى للعلة إلا ما ثبت به الشيء ولا شيء هاهنا يثبت بها سوى الحكم, ولذا يعدى إلى الفرع بأن يقال ثبت في الأصل بالعلة, وهي موجودة في الفرع فيثبت فيه أيضا وعدم التعدي لا يصلح مانعا للإجماع على جواز العلة القاصرة المنصوصة فأجاب بأن الحكم في الأصل ثابت بالنص سواء كان معقول المعنى, أو لم يكن علل أو لم يعلل فيعد التعليل لو أضيف إلى العلة لزم بطلان النص فالمثبت للحكم هو النص. ومعنى علية الوصف كونه باعثا للشارع على شرع الحكم, وإنما جازت التعدية إلى الفرع لما في التعليل من تعميم النص وشموله للفرع, وبيان كونه مثبتا لحكم الفرع وقيل: حكم الأصل مضاف إلى النص في نفسه, وإلى العلة في حق الفرع وهذا القدر من الاشتراك كاف في القياس.
قوله: "وإنما يجوز التعليل" احتجاج على امتناع التعليل بالعلة القاصرة أي: وإنما جاز التعليل بغير المنصوصة; لأن الشارع لما أمر بالاعتبار المبني على التعليل مع ندرة العلة المنصوصة كان ذلك إذنا لبيان علية الأحكام; لأجل القياس فيبقى بيان العلية بالقاصرة على الامتناع حتى يرد بها نص الشارع.(2/143)
دُولَةً} وقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وغيرها من ألفاظ التعليل أو إيماء بأن يترتب الحكم على الوصف بالفاء في أيهما كان نحو قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا" والحق أن هذا صريح وكذا في لفظ الراوي نحو زنى ماعز فرجم أو
ـــــــ
بأمور أولها النص إما صريحا كقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} " يقال صار الفيء دولة بينهم يتداولونه بأن يكون مرة لهذا ومرة لذلك "وقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وغيرها من ألفاظ التعليل أو إيماء بأن يترتب الحكم على الوصف بالفاء في أيهما كان نحو قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا" والحق أن هذا صريح" لأن الفاء في مثل هذه الصورة للتعليل فصار كاللام فمعناه لأنه يحشر "وكذا في لفظ الراوي نحو زنى ماعز فرجم أو يترتب الحكم
................................................................................................
قوله: "إذ الفائدة الفقهية ليست إلا إثبات الحكم" لقائل أن يقول إن أريد بالفائدة الفقهية ما يكون له تعلق بالفقه ونسبة إليه فلا نسلم انحصارها في إثبات الحكم لجواز أن يكون سرعة الإذعان, وزيادة الاطمئنان بالأحكام, والاطلاع على حكمة الشارع في شرعيتها. وإن أريد المسألة الفقهية فلا نسلم أن التعليل لا يكون إلا لأجلها; لجواز أن يكون لفائدة أخرى متعلقة بالشرع فلا يلزم العبث, وقد يقال: إن دليل الشرع لا بد من أن يوجب علما أو عملا, والتعليل بالقاصرة لا يوجب العلم, وهو ظاهر ولا العمل لأنه واجب بالنص, والاطلاع على الحكمة من باب العلم فلا يعتبر في حقه التعلل المفيد للظن. وجوابه: أن التعليل بالقاصرة ليس من الأدلة الشرعية ولو سلم فيفيد الظن بالحكمة, والمصلحة وهو يوجب سرعة الإذعان وشدة الاطمئنان, وأيضا منقوض بالتعليل بالعلة القاصرة المنصوصة بنص ظني. واعلم أنه لا معنى للنزاع في التعليل بالعلة القاصرة الغير المنصوصة; لأنه إن أريد عدم الجزم بذلك فلا نزاع, وإن أريد عدم الظن فبعدما غلب على رأي المجتهد عليه الوصف القاصر, وترجح عنده ذلك بأمارة معتبرة في استنباط العلل لم يصح نفي الظن ذهابا إلى أنه مجرد وهم على ما زعم المصنف رحمه الله تعالى, وأما عند عدم رجحان ذلك أو عند تعارض القاصر والمتعدي فلا نزاع في أن العلة هو الوصف المتعدي.
قوله: "فإن قيل" تقرير السؤال لو كانت صحة التعليل موقوفة على تعدية العلة لم تكن تعديتها موقوفة على صحتها لامتناع الدور, واللازم منتف للاتفاق على توقف التعدية على ثبوت العلية الموقوف على صحتها وتقرير الجواب أن الموقوف على التعليل هو التعدية بمعنى إثبات حكم مثل حكم الأصل في الفرع, والتعليل موقوف على التعدية بمعنى العلم بوجود الوصف في غير مورد النص فلا دور, وقد يجاب بأنه دور معية لا دور تقدم إذ العلة لا تكون إلا متعدية لا أن كونها متعدية يثبت أولا ثم تكون علة.
قوله: "هذه المسألة مبنية على اشتراط التأثير" فيه نظر; لأن اقتصار الوصف على مورد النص وعدم حصوله في صورة أخرى مع عدم النص على علية الوصف لذلك الحكم لا ينافي وجود جنس(2/144)
يترتب الحكم على المشتق نحو: أكرم العالم أو يقع جوابا نحو: واقعت امرأتي في نهار رمضان فقال: "أعتق رقبة" أو يكون بحيث لو لم يكن علة لم يفد نحو: " إنها من الطوافين"
ـــــــ
على المشتق نحو: أكرم العالم أو يقع جوابا نحو: واقعت امرأتي في نهار رمضان فقال: "أعتق رقبة" أو يكون بحيث لو لم يكن علة لم يفد نحو: "إنها من الطوافين" والحق أن هذا صريح" إذ كلمة إن إذا وقعت بين الجملتين تكون لتعليل الأولى بالثانية كقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} ونظائره كثيرة فإما أن تكون إن في مثل هذا الكلام للتعليل أو يكون تقديره لأن والحذف غير الإيماء "ونحو: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟" الحديث أو يفرق في الحكم بين شيئين بحسب وصف مع ذكرهما نحو: "للفارس سهمان
................................................................................................
الوصف في صورة أخرى واعتبار الشارع إياه جنس الحكم بأن يثبت ذلك بنص أو إجماع.
قوله: "ويكون مانعا من علية وصف آخر" قيل: علية لا تزاحم في العلل فيجوز أن يثبت بالنص أو غيره للحكم علة قاصرة, وأخرى متعدية, ويتعدى الحكم باعتبار المتعدية دون القاصرة.
قوله: "وإن أراد إعتاقه" يعني: إن أراد أنه يصير ملكا له ثم يقع عن الكفارة بإعتاق قصدي واقع بعد الملك فلا نسلم وجود هذا الوصف في الفرع أعني: الأخ بل هو يعتق بمجرد الملك.
قوله: "أو ثبت" عطف على اختلف أي: لا يجوز التعليل بعلة اختلف في عليتها مع الإجماع على ثبوت الحكم في الأصل كالاختلاف في أن علة عدم قتل الحر بالمكاتب هو كونه عبدا أو الجهل بأن مستحق استيفاء القصاص هو السيد أو غيره من الورثة بناء على عدم العلم بأنه هل يفي ببدل الكتابة أم لا؟
قوله: "أداء بعض البدل عوض", والعوض مانع من جواز التكفير, وهو موجود في الأصل دون الفرع. فإن قلت هذا ليس من قبيل التعليل بوصف يقع به الفرق إذ أداء بعض البدل لا يوجد في الفرع, وهو المكاتب الذي لم يؤد شيئا فكيف يجعل علة؟ قلت معنى الكلام أنه لا يجوز التعليل بعلة مع وصف يقع به الفرق فالباء في قوله بوصف ليست صلة للتعليل بل هي باء المصاحبة وحينئذ لا إشكال.
قوله: "الثالث" لا شك أن كون الوصف الجامع علة حكم خبري غير ضروري, فلا بد في إثباته من دليل وله مسالك صحيحة, ومسالك يتوهم صحتها فلا بد من التعرض لهما ولما يتعلق بكل منهما, والمسالك الصحيحة ثلاثة: النص والإجماع والمناسبة ثم النص إما صريح وهو ما دل بوضعه وإما إيماء وهو أن يلزم من مدلول اللفظ, فالصريح له مراتب: منها ما صرح فيه بالعلية مثل العلة كذا أو لأجل كذا أو كي يكون كذا, ومنها ما ورد فيه حرف ظاهر في التعليل مثل لكذا أو بكذا وإن كان كذا فإن هذه الحروف قد تجيء لغير العلية كلام العاقبة و "باء" المصاحبة و "إن" المستعملة في مجرد الشرط والاستصحاب, ومنها ما دخل فيه الفاء في كلام الشارع أما في(2/145)
والحق أن هذا صريح ونحو: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟" الحديث أو يفرق في الحكم بين شيئين بحسب وصف مع ذكرهما نحو: للفارس سهمان وللراجل سهم بحسب وصف الفروسية وضدها أو ذكر أحدهما نحو: "القاتل لا يرث" أو يفرق بينهما بطريق الاستثناء نحو: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أو بطريق الغاية نحو: حتى يطهرن أو بطريق الشرط نحو: "مثلا بمثل فإن اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم".
ـــــــ
وللراجل سهم" فإنه فرق في هذا الحكم بين الفارس والراجل "بحسب وصف الفروسية وضدها" فقوله مع ذكرهما إما أن يرجع الضمير إلى الحكمين باعتبار أنه ذكر الفرق بين الشيئين في الحكم ففهم الحكمان فيرجع الضمير إليهما أو يرجع الضمير إلى الشيئين "أو ذكر أحدهما" أي أحد الحكمين أو أحد الشيئين "نحو: "القاتل لا يرث" " فإن تخصيص القاتل بالمنع من الإرث مع سابقة الإرث يشعر بأن علة المنع القتل "أو يفرق بينهما بطريق الاستثناء نحو: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} " قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} والعفو يكون علة لسقوط المفروض "أو بطريق الغاية نحو: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أو بطريق الشرط نحو: "مثلا بمثل فإن اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم" " فاختلاف الجنس يكون علة لجواز البيع
................................................................................................
الوصف مثل "زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما" وأما في الحكم نحو {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} والحكمة فيه أن الفاء للترتيب والباعث مقدم في التعقل متأخر في الخارج فيجوز دخول الفاء على كل منهما ملاحظة للاعتبارين, وهذا دون ما قبله; لأن الفاء للتعقيب ودلالته على العلية استدلالية, ومنها ما دخل فيه الفاء في لفظ الراوي مثل سها فسجد وزنى ماعز فرجم وهذا دون ما قبله لاحتمال الغلط إلا أنه لا ينفي الظهور, وأما الإيماء فهو أن يقرن بالحكم ما لو لم يكن هو أو نظيره التعليل لكان بعيدا فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد كما في قصة الأعرابي فإن غرضه من ذكر المواقعة بيان حكمها وذكر الحكم جواب له ليحصل غرضه لئلا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيكون السؤال مقدرا في الجواب كأنه قال واقعت فكفر وهذا يفيد أن الوقاع علة للإعتاق إلا أن الفاء ليست محققة ليكون صريحا بل مقدرة فيكون إيماء مع احتمال عدم قصد الجواب كما يقال العبد طلعت الشمس فيقول السيد اسقني ماء وكحديث الخثعمية فإنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دين الله تعالى فذكر نظيره وهو دين الآدمي فنبه على كونه علة للنفع وإلا لزم العبث.
والإيماء له أيضا مراتب كذا ذكره ابن الحاجب وفيه تصريح بأن مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "فإنه يحشر ملبيا" من قبيل التصريح على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى دون الإيماء على ما وقع في المحصول, وأما كلمة إن بدون الفاء مثل إنها من الطوافين فالمذكور في أكثر الكتب(2/146)
واعلم أن في هذه المواضع إن سلم العلية لكن بعد تلك العلل لا يمكن بها القياس أصلا نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لأن السرقة إن كانت علة فكلما وجدت يثبت الحكم القطعي نصا لا قياسا، وكذا في زنى ماعز ونحوه فاستخرجه وأيضا النص يدل على ترتب الحكم على تلك القضية في "واقعت امرأتي" ونحوها لا على كونها مناطا
ـــــــ
"واعلم أن في هذه المواضع إن سلم العلية" إنما قال إن سلم العلية; لأن العلية في بعض هذه المواضع غير مسلمة نحو: واقعت امرأتي لأنه وإن نسب الحكم إلى المواقعة لكن يمكن أن تكون العلة شيئا يشمل علية المواقعة كهتك حرمة الصوم مثلا "لكن بعد تلك العلل لا يمكن بها القياس أصلا نحو: السارق والسارقة لأن السرقة إن كانت علة فكلما وجدت يثبت الحكم القطعي نصا لا قياسا, وكذا في زنى ماعز ونحوه فاستخرجه وأيضا النص يدل على ترتب الحكم على تلك القضية في "واقعت امرأتي" ونحوها لا على كونها مناطا فإنه يمكن أن يكون هتك حرمة الصوم وأيضا الغاية والاستثناء لا يدلان على العلية وثانيها الإجماع كإجماعهم على أن الصغر علة لثبوت الولاية عليه في المال. وثالثها
................................................................................................
أنها من قبيل الصريح لما ذكره الشيخ عبد القاهر أنها في مثل هذه المواقع تقع موقع الفاء وتغني غناءها وجعلها بعضهم من قبيل الإيماء نظرا إلى أنها لم توضع للتعليل وإنما وقعت في هذه المواقع لتقوية الجملة التي يطلبها المخاطب ويتردد فيها ويسأل عنها, ودلالة الجواب على العلية إيماء لا صريح وبالجملة كلمة إن مع الفاء أو بدونها قد تورد في أمثلة الصريح, وقد تورد في أمثلة الإيماء ويعتذر عنه بأنه صريح باعتبار أن والفاء وإيماء باعتبار ترتب الحكم على الوصف, وأما ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في تعليله أن من احتمال كونها على حذف اللام فبعيد; لأنه إنما يكون في أن بالفتح.
"قوله واعلم أن في هذه المواضع" فيه سوء ترتيب; لأنه كان ينبغي أن يقدم المنع ثم يتكلم على تقدير التسليم ثم المتمسكون بمسلك الإيماء لا يدعون أنه يدل على العلية قطعا حتى يكون احتمال أن تكون العلة شيئا آخر فادحا في كلامهم بل يدعون فيه الظن وظهور العلية دفعا للاستبعاد, والغاية والاستثناء وغيرهما سواء في ذلك, وأما التعليل بالعلة القاصرة التي لا يمكن بها القياس فجائز اتفاقا في المنصوصة أي التي يدل عليها النص صريحا أو إيماء مثل {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "والقاتل لا يرث" 1 "وللفارس سهمان" 2 فمقصودهم بيان وجوه دلالة النص على العلية سواء أمكن بها القياس أو لم يمكن.
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الديات باب 18. الدارمي في كتاب الفرائض باب 41. أحمد في مسنده 1/49.
2 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 51. مسلم في كتاب الجهاد حديث 57. أبو داود في كتاب الجهاد حديث 57. أبو داود في كتاب الجهاد باب 143.(2/147)
فإنه يمكن أن يكون هتك حرمة الصوم وأيضا الغاية والاستثناء لا يدلان على العلية وثانيها الإجماع كإجماعهم على أن الصغر علة لثبوت الولاية عليه في المال. وثالثها المناسبة وشرطها الملاءمة وهي أن تكون على وفق العلل الشرعية وأظن أن المراد منه أن الشرع اعتبر جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم ويكفي الجنس البعيد هنا
ـــــــ
المناسبة وشرطها الملاءمة وهي أن تكون على وفق العلل الشرعية وأظن أن المراد منه أن الشرع اعتبر جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم ويكفي الجنس البعيد هنا بعد أن يكون أخص من كونه متضمنا لمصلحة فإن هذا مرسل لا يقبل اتفاقا" وكلمة هذا إشارة إلى كونه متضمنا لمصلحة "لكن كلما كان الجنس أقرب كان القياس أقوى" الاستدراك يتعلق بقوله ويكفي الجنس البعيد هنا "والملائم كالصغر فإنه علة لثبوت الولاية عليه لما فيه من العجز وهذا يوافق تعليل الرسول عليه الصلاة والسلام لطهارة سؤر الهرة بالطواف لما فيه من
................................................................................................
قوله: "وثالثها المناسبة" وهي كون الوصف بحيث يكون ترتب الحكم عليه متضمنا لجلب نفع أو دفع ضرر معتبر في الشرع كما يقال الصوم شرع لكسر القوة الحيوانية فإنه نفع بحسب الشرع وإن كان ضررا بحسب الطب. وقد اضطرب كلام القوم في بحث المناسبة وأقسامها وما يتعلق بها وللمصنف رحمه الله تعالى في تحقيق هذا المقام تعليق أورد فيه غاية ما أدى إليه نظره فنحن نورده ونزيد عليه نبذا من كلام القوم يطلعك على اختلاف كلمتهم في هذا المقام عسى أن تفوز في أثنائه بالمرام.
فالمذكور في كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى ومن تبعه أن جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد بل لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا للحكم ثم يكون معدلا بمنزلة الشاهد فلا بد من اعتبار صلاحه للشهادة بالعقل والبلوغ والحرية والإسلام ثم اعتبار عدالته بالاجتناب عن محظورات الدين فكذا لا بد لجعل الوصف علة من صلاحه للحكم بوجوب الملاءمة ومن عدالته بوجود التأثير فالتعليل لا يقبل ما لم يقم الدليل على كون الوصف ملائما, وبعد الملاءمة لا يجب العمل به إلا بعد كونه مؤثرا عندنا ومخيلا عند أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى فالملاءمة شرط لجواز العمل بالعلل والتأثير, أو الإخالة شرط لوجوب العمل دون الجواز حتى لو عمل بها قبل ظهور التأثير نفذ ولم ينفسخ, ومعنى الملاءمة الموافقة والمناسبة للحكم بأن يصح إضافة الحكم إليه, ولا يكون نائبا عنه كإضافة ثبوت الفرقة في إسلام أحد الزوجين إلى إباء الآخر عن الإسلام; لأنه يناسبه لا إلى وصف الإسلام; لأنه ناب عنه; لأن الإسلام عرف عاصما للحقوق لا قاطعا لها, وهذا معنى قولهم: الملاءمة أن يكون الوصف على وفق ما جاء من السلف فإنهم كانوا يعللون بالأوصاف الملائمة للأحكام لا النائية عنها فظهر من هذا أن معنى الملاءمة هو المناسبة وأنها تقابل الطرد أعني وجود الحكم عند وجود الوصف من غير اشتراط ملاءمة أو تأثير أو وجوده عند وجوده وعدمه عند عدمه على اختلاف الرأيين.
والمذكور في أصل الشافعية أن المناسبة هو كون الوصف بحيث يجلب للإنسان نفعا أو يدفع(2/148)
بعد أن يكون أخص من كونه متضمنا لمصلحة فإن هذا مرسل لا يقبل اتفاقا لكن كلما كان الجنس أقرب كان القياس أقوى والملائم كالصغر فإنه علة لثبوت الولاية عليه لما فيه من العجز وهذا يوافق تعليل الرسول عليه الصلاة والسلام لطهارة سؤر الهرة بالطواف لما فيه من الضرورة.
ـــــــ
الضرورة" فإن العلة في أحد الصورتين العجز وفي الأخرى الطواف فالعلتان وإن اختلفتا لكنهما مندرجتان تحت جنس واحد وهو الضرورة والحكم في إحدى الصورتين الولاية وفي الأخرى الطهارة وهما مختلفان لكنهما مندرجان تحت جنس واحد وهو الحكم الذي يندفع به الضرورة فالحاصل أن الشرع اعتبر الضرورة في إثبات حكم يندفع به الضرورة أي اعتبر الضرورة في حق الرخص
................................................................................................
عنه ضررا وهو كون الوصف على منهاج المصالح بحيث لو أضيف الحكم إليه انتظم كالإسكار لحرمة الخمر بخلاف كونها مائعا يقذف بالزبد ويحفظ في الدن, وأن من المناسب ملائما وغير ملائم, فخلط المصنف رحمه الله تعالى كلام الفريقين وذهب إلى أن المناسب ما يكون متضمنا لمصلحة اعتبرها الشرع كحفظ النفس والمال والدين والنسب والعقل وغير ذلك مما سبق ذكره, والملاءمة شرط زائد على ذلك فلا بد أن يفسر بما يغايرها ويكون أخص منها, وقد فسرها القوم بكون الوصف على وفق العلل الشرعية, وظن المصنف رحمه الله تعالى أن المراد منه اعتبار الشارع جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم, فالمراد الجنس الذي هو أخص من كونه متضمنا لمصلحة اعتبرها الشرع كمصلحة حفظ النفس مثلا فالمراد أنه يجب أن يكون أخص من مصلحة حفظ النفس وكذا من مصلحة حفظ الدين إلى غير ذلك, ولا يكفي كونه أخص من المتضمن لمصلحة ما; لأن المتضمن لمصلحة حفظ النفس أخص من المتضمن لمصلحة ما وليس بملائم, حتى لو قيل شرع هذا الحكم لمصلحة حفظ النفس لم يصح;; لأنه تعليل بالمناسب دون الملائم ومجرد حفظ النفس قد لا يكون مصلحة كما في الجهاد بل لا بد من خصوصية اعتبرها الشارع ثم الجنس الذي اعتبره الشارع في جنس الحكم قد يكون قريبا لا واسطة بينه وبين نوع الوصف, وقد يكون بينهما واسطة أو أكثر وهذا متصاعد إلى أن يبلغ الجنس الذي هو أعم من الكل وأخص من المتضمن لحفظ مصلحة النفس مثلا, وكلما كان الجنس أقرب إلى الوصف أي أقل واسطة وأشد خصوصية كان القياس أقوى وبالقبول أحرى لكونه بالتأثير أنسب وإلى اعتبار الشرع أقرب.
قال الآمدي في الأحكام: إن لكل من الوصف والحكم أجناسا عالية وقريبة ومتوسطة فالجنس العالي للحكم الخاص هو الحكم وأخص منه الوجوب مثلا ثم العبادة ثم الصلاة ثم المكتوبة, والجنس العالي للوصف الخاص كونه وصفا تناط الأحكام به وأخص منه المناسب ثم المصلحة الضرورية ثم حفظ النفس وهكذا, ولا شك أن الظن الحاصل باعتبار خصوص الوصف في خصوص الحكم لكثرة ما به الاشتراك أقوى من الظن الحاصل من اعتبار العموم في العموم, فما كان الاشتراك فيه بالجنس السافل فهو أغلب على الظن, وما كان بالعالي فهو أبعد وما كان(2/149)
وكما يقال قليل النبيذ يحرم كقليل الخمر والعلة أن قليله يدعو إلى كثيرة والشرع اعتبر جنس هذا في الخلوة مع الجماع وكذا حمل حد الشرب على حد القذف وإذا وجدت الملاءمة يصح العمل ولا يجب عندنا بل يجب إذا كانت مؤثرة فالملاءمة
ـــــــ
"وكما يقال قليل النبيذ يحرم كقليل الخمر والعلة أن قليله يدعو إلى كثيره والشرع اعتبر جنس هذا في الخلوة مع الجماع وكذا حمل حد الشرب على حد القذف" فإن الشرع اعتبر إقامة السبب الداعي مقام المدعو إليه في الخلوة مع الجماع فإن فيه إقامة الداعي مقام المدعو إليه وقد قال علي كرم الله وجهه في حد الشرب إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين ثمانون "وإذا وجدت الملاءمة يصح العمل ولا يجب عندنا بل يجب إذا كانت مؤثرة فالملاءمة كأهلية الشهادة والتأثير كالعدالة وعند بعض الشافعية
................................................................................................
بالمتوسط فمتوسط على الترتيب في الصعود والنزول. ثم قال: إن من القياس مؤثرا تكون علته منصوصة أو مجمعا عليها أو أثر عين الوصف في عين الحكم أو في جنسه أو جنسه في عين الحكم, ومنه ملائما أثر جنس الوصف في جنس الحكم كما سبق تحقيقه وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من المراد بالملائم كأنه يناسب هذا الاصطلاح لولا إطلاق الجنس هاهنا, ثم قال: ومن الناس من جعل ما أثر عينه في عين الحكم مؤثرا وما سواه من الأقسام الثلاثة ملائما وقال أيضا: الملائم ما أثر عين الوصف في عين الحكم كما أثر جنس الوصف في جنس الحكم والمذكور من كلام المحققين من شارحي أصول ابن الحاجب أن الملائم هو المناسب الذي لم يثبت اعتباره بنص أو إجماع بل يترتب الحكم على وفقه فقط ومع ذلك ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في جنس الحكم, وأيضا الملائم هو المرسل الذي لم يعلم إلغاؤه بل علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم, والمراد بالمرسل ما لم يعتبر لا بنص, ولا بإجماع, ولا بترتب الحكم على وفقه. فإن قلت كيف يتصور اعتبار العين في الجنس أو الجنس في العين أو الجنس في الجنس فيما لم يعتبر شرعا أصلا؟ وهل هذا إلا تهافت؟ قلت: معنى الاعتبار شرعا عند الإطلاق هو اعتبار عين الوصف في عين الحكم وعلى هذا لا إشكال, وبالجملة لا يوجد في كلام الفريقين ما يوافق التفسير الذي ظنه المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: "والملائم كالصغر" في ثبوت ولاية النكاح فإن الشارع اعتبر جنس ذلك الوصف وهو الضرورة في جنس ولاية النكاح وهو الحكم الذي يندفع به الضرورة واعترض المصنف رحمه الله تعالى بأنه يجب في الملائم أن يكون جنس الوصف أخص من مطلق الضرورة بل من ضرورة حفظ النفس ونحوه أيضا فالأولى أن يقال الحاجة ماسة إلى تطهير الأعضاء عن النجاسة بالماء وإلى تطهير العرض عن النسبة إلى الفاحشة بالنكاح, ونجاسة سؤر الطوافين مانع يتعذر الاحتراز عنه من تطهير العضو كالصغر عن تطهير العرض, فالوصف الشامل للصورتين دفع الحرج المانع عن التطهير المحتاج إليه, والحكم الذي هو جنس الطهارة والولاية هو الحكم الذي يندفع به الحرج المذكور.(2/150)
كأهلية الشهادة والتأثير كالعدالة وعند بعض الشافعية يجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصل وعند البعض بمجرد كونه مخيلا وهذا يسمى بالمصالح المرسلة.
ـــــــ
يجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصل" وهي أن يكون للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه "وعند البعض بمجرد كونه مخيلا" أي يقع في الخاطر أن هذا الوصف علة لذلك الحكم "وهذا يسمى بالمصالح المرسلة" أي الأوصاف التي تعرف عليتها بمجرد كونه مخيلا تسمى بالمصالح المرسلة
................................................................................................
قوله: "وعند بعض الشافعية" يعني أن القائلين بوجوب العمل بالملائم فرقتان.
فرقة توجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصول بمعنى أن يقابل بقوانين الشرع فيطابقها سالما عن المناقضة أعني إبطال نفسه بأثر أو نص أو إجماع أو إيراد تخلف الحكم عن الوصف في صورة أخرى وعن المعارضة أعني إيراد وصف يوجب خلاف ما أوجبه ذلك الوصف من غير تعرض لنفس الوصف كما يقال لا تجب الزكاة في نفس ذكور الخيل فلا تجب في إناثها بشهادة الأصول على التسوية بين الذكور والإناث, وأدنى ما يكفي في ذلك أصلان وذلك; لأن المناسب بمنزلة الشاهد, والعرض على الأصول تزكية بمنزلة العرض على المزكين وأما العرض على جميع الأصول كما ذهب إليه البعض فلا يخفى أنه متعذر أو متعسر والمصنف رحمه الله تعالى فسر شهادة الأصل بأن يكون للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه.
وفرقة توجب العمل بالملائم بمجرد كونه مخيلا أي موقعا في القلب خيال العلية والصحة والأوصاف التي تعرف عليتها بمجرد الإخالة تسمى بالمصالح المرسلة. والمذكور في أصول الشافعية أن المناسب هو المخيل ومعناه تعيين العلة في الأصل بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنص, ولا بغيره ثم قالوا والمناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل; لأنه إما معتبر شرعا أو لا أما المعتبر فإما أن يثبت اعتباره بنص أو إجماع وهو المؤثر أو لا بل يترتب الحكم على وفقه فقط فذلك لا يخلو إما أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو اعتبار جنسه في عين الحكم واعتبار جنسه في جنس الحكم أو لا, فإن ثبت فهو الملائم وإن لم يثبت فهو الغريب وأما غير المعتبر لا بنص, ولا بإجماع, ولا بترتب الحكم على وفقه فهو المرسل, وينقسم إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لم يعلم إلغاؤه, والثاني ينقسم إلى ملائم قد علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو في جنسه وإلى ما لم يعلم منه ذلك وهو الغريب فإن كان غريبا أو علم إلغاؤه فمردود اتفاقا وإن كان ملائما فقد صرح إمام الحرمين والإمام الغزالي رحمهما الله بقبوله وشرط الغزالي في قبوله شروطا ثلاثة أن تكون ضرورية لا حاجية وقطعية لا ظنية وكلية لا جزئية أي مختصة بشخص, ففتح القلعة ليس في محل الضرورة, وخوف الاستيلاء من غير قطع لا يجوز الرمي لكونه ظنيا, وإلقاء بعض أهل السفينة لنجاة البعض لا يجوز; لأن المصلحة جزئية فالملائم كعين الصغر المعتبر في جنس الولاية إجماعا وكجنس الحرج المعتبر في عين رخصة الجمع وكجنس الجناية العمد العدوان المعتبر في جنس(2/151)
وتقبل عند الغزالي رحمه الله تعالى إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار بأسارى المسلمين.
ـــــــ
"وتقبل عند الغزالي رحمه الله تعالى" أي المصالح المرسلة فاعلم أن الوصف المرسل نوعان نوع لا يقبل اتفاقا وهو الذي اعتبر الشرع جنسه الأبعد وهو كونه متضمنا لمصلحة في إثبات الحكم ونوع يقبل عند الغزالي وهو أن الشرع اعتبر جنسه البعيد الذي هو أقرب من ذلك الجنس الأبعد "إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار بأسارى المسلمين" فإنه لم يوجد اعتبار الشارع الجنس القريب لهذا الوصف في الجنس القريب لهذا الحكم إذ لم يعهد في الشرع إباحة قتل المسلم بغير حق
................................................................................................
القصاص والغريب كما يعارض بنقيض مقصود الفار فيحكم بإرث زوجته قياسا على القاتل حيث عورض بنقيض مقصوده وهو الإرث فحكم بعدم إرثه, فهذا له وجه مناسبة. وفي ترتيب الحكم عليه تحصيل مصلحة هي نهيه عن الفعل الحرام لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار بنص أو إجماع وما علم إلغاؤه كتعيين إيجاب الصوم في الكفارة على من يسهل عليه الإعتاق كالملك فإنه مناسب لتحصيل مصلحة الزجر لكن علم عدم اعتبار الشارع له.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى من المصالح ما شهد الشرع باعتباره وهي أصل في القياس وحجة, ومنها ما شهد ببطلانه كتعيين الصوم في كفارة الملك وهو باطل, ومنها ما لم يشهد له لا بالاعتبار, ولا بالإبطال وهذا في محل النظر, والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع من المحافظة على الخمسة الضرورية فكل ما يتضمن حفظ هذه الخمسة الضرورية, وكل ما يقويها فهي مصلحة ودفعها مفسدة وإذا أطلقنا المعنى المخيل أو المناسب في باب القياس أردنا به هذا الجنس والمصالح الحاجية أو التحسينية لا يجوز الحكم بمجردها ما لم تعضد بشهادة الأصول; لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي وإذا اعتضد بأصل فهو قياس, وأما المصلحة الضرورية فلا بعد في أن يؤدي إليها رأي مجتهد وإن لم يشهد له أصل معين كما في مسألة التترس فإنا نعلم قطعا بأدلة خارجة عن الحصر أن تقليل القتل مقصود للشارع كمنعه بالكلية لكن قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين, ونحن إنما نجوزه عند القطع أو ظن قريب من القطع وبهذا الاعتبار نخصص هذا الحكم من العمومات الواردة في المنع عن القتل بغير حق لما نعلم قطعا أن الشرع يؤثر الحكم الكلي على الجزئي, وأن حفظ أهل الإسلام أهم من حفظ دم مسلم واحد.
وهذا وإن سميناه مصلحة مرسلة لكنها راجعة إلى الأصول الأربعة; لأن مرجع المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع, ولأن كون هذه المعاني عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات سميناه مصلحة مرسلة لا قياسا; إذ القياس أصل معين وقال بعد ما قسم المناسب إلى مؤثر وملائم وغريب إن المعنى المناسب أربعة أقسام: ملائم يشهد له أصل معين فيقبل قطعا, ومناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فلا يقبل قطعا كحرمان القاتل لو لم يرد فيه نص معارض له بنقيض(2/152)
والتأثير عندنا أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار نوعه أو جنسه في نوعه أو جنسه والمراد بالجنس هنا الجنس القريب كالسكر في الحرمة وكقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت" الحديث هذا نظير اعتبار الجنس في النوع فإن للجنس وهو عدم دخول شيء اعتبارا في عدم
ـــــــ
لكن وجد اعتبار الضرورة في الرخص في استباحة المحرمات. واعلم أنه قيد المصلحة بكونها ضرورية قطعية كلية كما لو تترس الكفار بجمع من المسلمين ونعلم أنا لو تركناهم استولوا على المسلمين وقتلوهم ولو رمينا الترس يخلص أكثر المسلمين فتكون المصلحة ضرورية; لأن صيانة الدين وصيانة نفوس عامة المسلمين داعية إلى جواز الرمي إلى الترس وتكون قطعية; لأن حصول المصلحة وهي صيانة الدين ونفوس عامة المسلمين برمي الترس تكون قطعية لا ظنية كحصول المصلحة في رخص السفر فإن السفر مظنة المشقة وتكون كلية; لأن استخلاص عامة المسلمين مصلحة كلية فخرج بقيد الضرورة ما لو تترس الكافرون في قلعة بمسلم لا يحل رمي الترس وبالقطعية ما لم نعلم تسلطهم إن تركنا رمي الترس وبالكلية ما إذا لم تكن المصلحة كلية كما إذا كانت جماعة في سفينة وثقلت السفينة فإن طرحنا البعض في البحر نجا الباقون لا يجوز طرحهم; لأن المصلحة غير كلية; لأنه على تقدير ترك الطرح لا تهلك إلا جماعة مخصوصة وفي التترس لو تركنا الرمي لقتلوا كافة المسلمين مع الأسارى.
"والتأثير عندنا أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار نوعه أو جنسه في نوعه أو جنسه" أي نوع
................................................................................................
قصده, ومناسب يشهد له أصل معين لكن لا يلائم فهو في محل الاجتهاد, وملائم لا يشهد له أصل معين وهو الاستدلال المرسل وهو أيضا في محل الاجتهاد.
قوله: "لكن وجد اعتبار الضرورة في الرخص وفي استباحة المحرمات" أورد المصنف رحمه الله تعالى عليه الاعتراض السابق وهو أن هذا اعتبار للجنس الأبعد وهو غير كاف في الملاءمة فالأولى أن يقال اعتبر الشرع حصول النفع الكثير في تحمل الضرر اليسير وجميع التكاليف الشرعية مبنية على ذلك.
قوله: "والتأثير عندنا" إنما قال عندنا; لأنه عند أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى أخص من ذلك وهو أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار عين الوصف في عين ذلك الحكم ولذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: المؤثر مقبول باتفاق القايسين, وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه لكنه أورد للمؤثر أمثلة عرف بها أنه من قبيل الملائم لكنه سماه أيضا مؤثرا فالقياس ينقسم باعتبار عين العلة وجنسها وعين الحكم وجنسه أربعة أقسام: الأول أن يظهر تأثير عين الوصف في عين الحكم وهو الذي يقال إنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يقر به منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل. الثاني أن يظهر تأثير عينه في جنس الحكم. الثالث أن يظهر تأثير جنسه في عينه وهو(2/153)
فساد الصوم وكقياس الولاية على الثيب الصغيرة وعلى البكر الصغيرة بالصغر ولنوعه اعتبار في جنس الولاية لثبوتها في المال على الثيب الصغيرة وكطهارة سؤر الهرة فإن لجنس الضرورة اعتبارا في جنس التخفيف وقد يتركب بعض الأربعة مع
ـــــــ
الوصف أو جنسه "في نوع الحكم أو جنسه" "والمراد بالجنس هنا الجنس القريب كالسكر في الحرمة" هذا نظير اعتبار النوع في النوع "وكقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت" الحديث هذا نظير اعتبار الجنس في النوع" "فإن للجنس وهو عدم دخول شيء اعتبارا في عدم فساد الصوم وكقياس الولاية على الثيب الصغيرة وعلى البكر الصغيرة بالصغر" هذا نظير اعتبار النوع في الجنس "ولنوعه اعتبار في جنس الولاية لثبوتها في المال على الثيب الصغيرة
................................................................................................
الذي خصصناه باسم الملائم وخصصنا اسم المؤثر بما يظهر تأثير عينه. الرابع أن يظهر تأثير الجنس في الجنس وهو الذي سميناه المناسب الغريب.
ثم للجنسية مراتب عموما وخصوصا فمن أجل ذلك تتفاوت درجات الظن والأعلى مقدم على الأسفل والأقرب مقدم على الأبعد في الجنسية فالمصنف رحمه الله تعالى أخذ من كلامهم تفسير المؤثر وقيد الجنس بالقريب ليتميز عن الملائم على ما سبق وأورد بدل العين النوع لئلا يتوهم أن المراد هو الوصف, والحكم مع خصوصية المحل كالسكر المخصوص بالخمر والحرمة المخصوصة بها فيوهم أن للخصوصية مدخلا في العلية فالمراد بالوصف الوصف الذي يجعل علة لا مطلق الوصف, وكذا المراد بالحكم الحكم المطلوب بالقياس لا مطلق الحكم; لأن جميع الأوصاف والأحكام حتى الأجناس أنواع لمطلق الوصف والحكم فلا يبقى فرق بين علية السكر للحرمة وعلية الضرورة للتخفيف فإضافة النوع إلى الوصف والحكم بمعنى من البيانية أي النوع الذي هو الوصف أو الحكم المطلوب فهو نوع لمطلق الوصف والحكم, وقد بين بالإضافة إلى الوصف المخصوص والحكم المطلوب احترازا عن الأنواع العالية والمتوسطة التي وقع التعبير عنها بلفظ الجنس, وأما إضافة الجنس إلى الوصف والحكم فهي بمعنى اللام على أن المراد بهما الوصف المعين والحكم المطلوب كما في حالة إضافة النوع, والمراد بالجنس ما هو أعم من ذلك الوصف أو الحكم مثلا عجز الإنسان عن الإتيان بما يحتاج إليه وصف هو علة لحكم فيه تخفيف للنصوص الدالة على عدم الحرج والضرر فعجز الصبي الغير العاقل نوع وعجز المجنون نوع آخر, وجنسهما العجز بسبب عدم العقل, وفوقه الجنس الذي هو العجز بسبب ضعف القوي أعم من الظاهرة والباطنة على ما يشمل المريض, وفوقه الجنس الذي هو العجز الناشئ من الفاعل بدون اختياره على ما يشمل المحبوس, وفوقه الجنس الذي هو العجز الناشئ من الفاعل على ما يشمل المسافر أيضا, وفوقه مطلق العجز الشامل لما ينشأ عن الفاعل وعن محل الفعل وعن الخارج وهكذا في جانب الحكم فليعتبر مثل ذلك في جميع الأوصاف والأحكام وإلا فتحقيق الأنواع والأجناس بأقسامها مما يعسر في الماهيات الحقيقية فضلا عن الاعتباريات.
فالحاصل أن الوصف المؤثر هو الذي ثبت بنص أو إجماع علية ذلك النوع من الوصف لذلك النوع من الحكم كالعجز بسبب عدم العقل لسقوط ما يحتاج إلى النية أو علية جنس ذلك الوصف(2/154)
بعض فاستخرجه قد سمى البعض أول الأربعة غريبا والثلاثة ملائمة ثم لا يخلو من
ـــــــ
وكطهارة سؤر الهرة" نظير اعتبار الجنس في الجنس "فإن لجنس الضرورة اعتبارا في جنس التخفيف وقد يتركب بعض الأربعة مع بعض فاستخرجه" كالصغر مثلا فإن لنوعه اعتبارا في جنس الولاية ولجنسه اعتبارا في جنسها فإن جنسه العجز والولاية ثابتة على العاجز كالمجنون مثلا وقس عليه البواقي والمركب ينقسم بالتقسيم العقلي أحد عشر قسما واحد منها مركب من الأربعة وأربعة منها مركبة من ثلاثة وستة مركبة من اثنين ولا شك أن المركب من أربعة أقوى الجميع ثم المركب من ثلاثة ثم المركب من اثنين ثم ما لا يكون مركبا "قد سمى البعض أول الأربعة غريبا والثلاثة ملائمة ثم لا يخلو من أن يكون له أصل
................................................................................................
لنوع ذلك الحكم كعدم دخول شيء في الجوف لعدم فساد الصوم أو علية ذلك النوع من الوصف لجنس ذلك الحكم كما في سقوط الزكاة عمن لا عقل له فإن العجز بواسطة عدم العقل مؤثر في سقوط ما يحتاج إلى النية وهو جنس لسقوط الزكاة أو علية جنس الوصف لجنس الحكم كما في سقوط الزكاة عن الصبي بتأثير العجز بسبب عدم العقل في سقوط ما يحتاج إلى النية, وأما أمثلة المتن ففي بعضها نظر لما سيأتي من أن السكر والصغر من قبيل المركب, ولما سبق من أن المراد هاهنا الجنس القريب والضرورة للطواف ليست كذلك بل قد عرفت أنه ليس بملائم فضلا عن المؤثر.
قوله: "وقد يتركب بعض الأربعة" لا خفاء في أن أقسام المفرد أربعة حاصلة من ضرب الاثنين في الاثنين; لأن المعتبر في جانب الوصف هو النوع أو الجنس, وكذا في جانب الحكم وحينئذ يلزم انحصار المركب في أحد عشر; لأن التركيب إما ثنائي أو ثلاثي أو رباعي أما الرباعي فواحد لا غير, وأما الثلاثي فأربعة; لأنه إنما يصير ثلاثيا بنقصان واحد من الرباعي وذلك الواحد إما أن يكون اعتبار النوع في النوع أو في الجنس أو اعتبار الجنس في النوع أو في الجنس, وأما الثنائي فستة; لأن كل واحد من الأقسام الأربعة للأفراد ويتركب مع كل من الثلاثة الباقية ويصير اثنا عشر حاصلة من ضرب الأربعة في الثلاثة فيسقط ستة بموجب التكرار, أو نقول اعتبار النوع في النوع إما أن يتركب مع اعتبار الجنس في النوع أو مع اعتبار النوع في الجنس أو مع اعتبار الجنس في الجنس ثم اعتبار الجنس في النوع إما أن يتركب مع اعتبار النوع في الجنس أو مع اعتبار الجنس في الجنس ثم اعتبار النوع في الجنس يتركب مع اعتبار الجنس في الجنس فإن قلت اعتبار النوع يستلزم اعتبار الجنس ضرورة أنه لا وجود للنوع بدون الجنس فلا يتصور الإفراد إلا في اعتبار الجنس في الجنس, وأما اعتبار النوع في النوع فيستلزم التركيب الرباعي ألبتة, واعتبار النوع في الجنس أو عكسه يستلزم التركيب الثنائي. قلت المراد الاعتبار قصدا لا ضمنا حتى إن الرباعي ما يكون كل من الاعتبارات الأربعة مقصودا على حدة فالمركب من الأربعة كالسكر فإنه مؤثر في الحرمة, وكذا جنسه الذي هو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثر في الحرمة ثم السكر يؤثر في وجوب الزاجر أعم من أن يكون أخرويا كالحرمة أو دنيويا كالحد ثم لما كان السكر مظنة للقذف صار المعنى المشترك بينهما وهو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثرا في وجوب الزاجر.(2/155)
أن يكون له أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه ويسمى شهادة الأصل وهي أعم من أولى الأربعة مطلقا وبينها وبين أخيري الأربعة عموم وخصوص من وجه.
ـــــــ
معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه ويسمى شهادة الأصل وهي أعم من أولى الأربعة مطلقا" أي شهادة الأصل أعم من اعتبار نوع الوصف في نوع الحكم ومن اعتبار جنس الوصف في نوع الحكم; لأنه كلما وجد اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم فقد وجد للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه لكن لا يلزم أنه كلما وجد له أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه فقد وجد اعتبار نوع
................................................................................................
وأما المركب من الثلاثة فالمركب مما سوى اعتبار النوع في النوع كالتيمم عند خوف فوت صلاة العيد فإن الجنس وهو العجز الحكمي بحسب المحل يحتاج إليه شرعا مؤثر في الجنس أي في سقوط الاحتياج في النوع لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إقامة لأحد العناصر مقام الآخر فإن التراب مطهر في بعض الأحوال بحسب نشف النجاسات وأيضا عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس وهو عدم وجوب استعماله لكن النوع وهو خوف الفوت لا يؤثر في النوع أي في التيمم من حيث إنه تيمم, والمركب مما سوى اعتبار الجنس في النوع كما في التيمم إذا لم يجد إلا ماء يحتاج إلى شربه فإن العجز الحكمي بحسب المحل عن استعمال ما يحتاج إليه شرعا مؤثر في سقوط الاحتياج فهذا تأثير الجنس في الجنس ثم النوع مؤثر في النوع لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} على ما ذكرنا وأيضا عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس أي في عدم استعماله دفعا للهلاك لكن الجنس غير مؤثر في النوع; لأن العجز المذكور لا يؤثر في التيمم من حيث هو التيمم والمركب مما سوى اعتبار النوع في الجنس كالحيض في حرمة القربان فهذا تأثير النوع في النوع, وجنسه وهو الأذى علة أيضا لحرمة القربان ولجنسه وهو وجوب الاعتزال والمركب مما سوى اعتبار الجنس في الجنس يقال الحيض علة لحرمة الصلاة فهذا تأثير النوع في النوع, وأيضا علة للجنس وهو حرمة القراءة أعم من أن يكون في الصلاة أو خارجها ولجنسه وهو الخروج من السبيلين تأثير في حرمة الصلاة لكن ليس له تأثير في الجنس وهو حرمة القراءة مطلقا.
وأما المركب من الاثنين فالمركب من اعتبار النوع في النوع مع الجنس في النوع كما في طهارة سؤر الهرة فإن الطواف علة للطهارة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين" وجنسه هو مخالطة نجاسة يشق الاحتراز عنها علة للطهارة كآبار الفلوات والمركب من اعتبار النوع في النوع مع النوع في الجنس كإفطار المريض فإنه مؤثر في الجنس وهو التخفيف في العبادة, وكذا في الإفطار بسبب الضرر, والمركب من اعتبار النوع في النوع مع الجنس في الجنس كولاية النكاح في المجنون جنونا مطبقا فإنه من حيث إنه عجز بسبب عدم العقل مؤثر في مطلق الولاية, ثم من حيث إنه عجز دائمي بسبب عدم العقل علة لولاية النكاح للحاجة بخلاف الصغر فإنه من حيث إنه صغر لا يوجب هذه الولاية. والمركب من اعتبار الجنس في النوع مع الجنس في الجنس كالولاية في مال(2/156)
الوصف أو جنسه في نوع الحكم "وبينها وبين أخيري الأربعة عموم وخصوص من وجه" أي قد يوجد شهادة الأصل بدون واحد من أخيري الأربعة وقد يوجد واحد من أخيري الأربعة بدون شهادة الأصل وقد يوجدان معا
................................................................................................
الصغير فإن العجز لعدم العقل مؤثر في مطلق الولاية ثم هو مؤثر في الولاية في المال للحاجة إلى بقاء النفس, والمركب من اعتبار الجنس في النوع مع النوع في الجنس كخروج النجاسة فإنه مؤثر في وجوب الوضوء ثم خروجها من غير السبيلين كما في اليد وهي آلة التطهير مؤثر في وجوب إزالتها والمركب من اعتبار النوع في الجنس مع الجنس في الجنس كما في عدم الصوم على الصبي والمجنون, فإن العجز لعدم العقل مؤثر في سقوط العبادة للاحتياج إلى النية ثم الجنس وهو العجز لخلل في القوى مؤثر في سقوط العبادة كذا ذكره المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: "ولا شك أن المركب من أربعة أقوى الجميع" يعني أن قوة الوصف إنما هي بحسب التأثير والتأثير بحسب اعتبار الشارع وكلما كثر الاعتبار قوي الآثار فيكون المركب أقوى من البسيط, والمركب من أجزاء أكثر أقوى من المركب من أجزاء أقل وأنت خبير بأنه إنما يستقيم فيما سوى اعتبار النوع في النوع أنه أقوى الكل لكونه بمنزلة النص حتى يكاد يقر به منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل فالمركب من غيره لا يكون أقوى منه.
قوله: "وقد سمى البعض" ذكر في بعض أصول الشافعية رحمهم الله تعالى أن المناسب الغريب ما يؤثر نوعه في نوع الحكم ولم يؤثر جنسه في جنسه كالطعم في الربا فإن نوع الطعم وهو الاقتيات مؤثر في ربوية البر ولم يؤثر جنس الطعم في ربوية سائر المطعومات كالخضراوات والملائم هو الأقسام الثلاثة الباقية.
قوله: "ثم لا يخلو" أي الحكم بعد التعليل لا يخلو من أن يكون مقرونا بشهادة الأصل أو لا يكون ففي الكلام حذف والمراد بشهادة الأصل أن يكون للحكم المعلل أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه وإنما قلنا المراد أنه لا يخلو من أن يكون له أصل أو لا يكون لما ذكر أن كلا من اعتبار النوع في الجنس واعتبار الجنس في الجنس قد يوجد بدون شهادة الأصل, فصار الحاصل أن كلا من اعتبار النوع في النوع واعتبار الجنس في النوع يستلزم شهادة الأصل وهو معنى العموم والخصوص المطلق, وأما اعتبار النوع في الجنس أو الجنس في الجنس فلا يستلزم شهادة الأصل بل قد يجتمعان, وقد يفترقان وهذا معنى العموم والخصوص من وجه فالتعليل بالوصف الذي اعتبر نوعه أو جنسه في نوع الحكم يكون قياسا لا محالة; لأن الحكم المعلل مقيس, والأصل الشاهد مقيس عليه, وكذا التعليل بالوصف الذي اعتبر نوعه في جنس الحكم أو جنسه في جنسه إذا كان مع شهادة الأصل, وأما إذا كان بدونها فهو تعليل مشروع مقبول بالاتفاق لكن عند بعضهم يسمى قياسا وعند بعضهم يكون استدلالا بعلة مستنبطة بالرأي بمنزلة ما قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن التعليل بالعلة المتعدية يكون قياسا وبالعلة القاصرة لا يكون قياسا بل يكون بيان علة شرعية للحكم, وقال شمس الأئمة رحمه الله تعالى: الأصح عندي أنه قياس على كل حال فإن مثل هذا الوصف يكون له أصل في الشرع لا محالة ولكن يستغنى عن ذكره لوضوحه وربما لا يقع(2/157)
فالتعليل بهما بدون الشهادة حجة ويسمى عند البعض تعليلا لا قياسا وعند البعض هو قياس أيضا وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير لا يكون حجة عندنا ويسمى غريبا أيضا.
ـــــــ
"فالتعليل بهما بدون الشهادة حجة ويسمى عند البعض تعليلا لا قياسا وعند البعض هو قياس أيضا وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير لا يكون حجة عندنا ويسمى غريبا أيضا" اعلم أن التعليل بأولى الأربعة لا يكون إلا مع شهادة الأصل لما قلنا إنها أعم فيكون التعليل بكل منهما قياسا اتفاقا والتعليل بأخيري الأربعة إذا وجد مع شهادة الأصل يكون قياسا اتفاقا وإذا وجد بدون شهادة الأصل فعند البعض قياس وعند البعض لا ويسمى تعليلا لكنه مقبول اتفاقا وإنما الخلاف في تسميته قياسا وشهادة الأصل قد توجد بدون الأولين; لأنها أعم من كل منهما مطلقا وقد توجد بدون أخيري الأربعة; لأنها أعم من كل منهما من وجه فإذا وجدت بدون التأثير لا يقبل عندنا ويسمى غريبا أي يسمى الوصف الذي يوجد في صورة يوجد فيها نوع الحكم من غير تأثير غريبا فالغريب نوعان أحدهما مقبول وهو الوصف
................................................................................................
الاستغناء عنه فيذكر فعلى هذا لا يكون الخلاف في مجرد تسميته قياسا على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى بل عند البعض يكون التعليل بالوصف المؤثر مستلزما لشهادة الأصل لكنه قد يذكر, وقد لا يذكر وحينئذ يصح أن يحمل قوله ثم لا يخلو من أن يكون له أصل معين على ظاهره.
قوله: "وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير" يعني أن شهادة الأصل قد توجد بدون كل من الأنواع الأربعة للتأثير وحينئذ يسمى الوصف غريبا لعدم تأثيره فلا يقبل عندنا أي لا يجب قبوله; لأن شرط وجوب القبول هو التأثير أو المراد أنه لا يقبل ما لم يكن ملائما فإن قلت الملائم يجب أن يعتبر جنسه في جنس الحكم فهو أحد الأنواع الأربعة فالغريب لا يكون ملائما قلت أحد الأنواع هو اعتبار الجنس القريب في الجنس القريب على ما مر في تفسير المؤثر. والمعتبر في الملائم هو الجنس البعيد فالغريب بمعنى غير المؤثر يجوز أن يكون ملائما فظهر أن اسم الغريب يطلق على نوعين من الوصف أحدهما اعتبر نوعه في نوع الحكم على ما سبق من أن البعض يسمي أول الأربعة غريبا والثلاثة الباقية ملائمة وهو مقبول بالاتفاق, وثانيهما ما يوجد جنسه أو نوعه في نوع ذلك الحكم لكن لا يعلم اعتباره, ولا إلغاؤه في نظر الشارع وهو مردود إذا لم يكن ملائما خلافا لأصحاب الطرد, وأشار المصنف رحمه الله تعالى في أثناء كلامه إلى إثبات شهادة الأصل بدون التأثير بأنها قد توجد بدون الأولين يعني اعتبار النوع أو الجنس في النوع لكونها أعم منها مطلقا وبدون الأخيرين يعني اعتبار النوع في الجنس أو الجنس في الجنس لكونها أعم منهما من وجه فتوجد بدون التأثير في الجملة لانحصاره في الأنواع الأربعة وما يتركب منها وفيه نظر; لأن التحقق بدون كل واحد من الأربعة لا يستلزم جواز التحقق بدون المجموع فيجوز أن يكون أعم من الأولين باعتبار أن يوجد في الأخيرين وبالعكس فبمجرد ذلك لا يلزم أن يوجد بدون التأثير.(2/158)
وإنما اعتبرنا التأثير؛ لأنه أمر شرعي فيعتبر فيه اعتبار الشارع ولأن العلل المنقولة ليست إلا مؤثرة كقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين والطوافات عليكم" وقوله في المستحاضة: "إنه دم عرق انفجر" ولانفجار الدم من العرق وهو النجاسة تأثير في وجوب الطهارة وفي عدم كونه حيضا وفي كونه مرضا لازما فيكون له تأثير في
ـــــــ
الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم والثاني مردود وهو الوصف الذي يوجد جنسه أو نوعه في نوع ذلك الحكم لكن لا نعلم أن الشارع اعتبر هذا الوصف أو لا.
"وإنما اعتبرنا التأثير; لأنه" أي القياس "أمر شرعي فيعتبر فيه" أي في القياس "اعتبار الشارع" وهو أن يكون القياس بوصف اعتبره الشارع أو اعتبر جنسه "ولأن العلل المنقولة ليست إلا مؤثرة كقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين والطوافات عليكم" وقوله في المستحاضة: "إنه دم عرق انفجر" ولانفجار الدم من العرق وهو النجاسة تأثير في وجوب الطهارة وفي عدم كونه حيضا وفي كونه مرضا لازما فيكون له تأثير في التخفيف وقوله عليه
................................................................................................
قوله: "وإنما اعتبرنا التأثير" في العلة لوجوب العمل بالقياس لوجهين: أحدهما أن القياس أمر شرعي فلا بد فيه من اعتبار الشارع. وثانيهما أن الأقيسة المنقولة عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم كلها مبنية على العلل المؤثرة. وأجيب عن الأول أن يكون القياس أمرا شرعيا لا يقتضي إلا أن يكون له أصل في الشرع, وأما لزوم أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار الشارع نوع الوصف أو جنسه القريب في نوع الحكم أو جنسه القريب على ما فسرتم به التأثير فممنوع, ولم لا يكفي الجنس البعيد وحصول الظن بوجوه أخر من مسالك العلة؟ كيف وقد جوزتم العمل بغير المؤثر أيضا وعن الثاني بأنه لا يدل إلا على أن الأقيسة المنقولة كلها مبنية على علل معقولة مناسبة, وليس النزاع في ذلك بل في التأثير بالمعنى المذكور, ولا يخفى أن في كثير من الأقيسة المنقولة قد اعتبرت الأجناس البعيدة ولم يثبت اعتبار الوصف بنص أو إجماع بل بوجوه أخر. والظاهر أن مرادهم بالتأثير في هذا المقام ما يقابل الطرد فمعناه أن يكون الوصف مناسبا ملائما لإضافة الحكم إليه سواء كان مؤثرا بالمعنى الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى أو لا وحينئذ يتم الاستدلال وهذا ظاهر من النظر في كلامهم في هذا المقام ومن تقريرهم التأثير في الأمثلة المذكورة, ففي قوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين" لجنس الطوف وهو الضرورة له أثر في الشرع في التخفيف وإثبات الطهارة ورفع النجاسة كمن أكل الميتة في المخمصة فإنه لا يجب عليه غسل اليد والفم للضرورة.
وأيضا لما كانت الهرة من الطوافين لم يمكن الاحتراز عن سؤرها إلا بحرج عظيم فسقط اعتبار النجاسة دفعا للحرج كما في حل الميتة في قوله عليه الصلاة والسلام: "إنها دم عرق انفجر" 1
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الحيض باب 8. مسلم في كتاب الحيض حديث 62، 63. أبو داود في كتاب الطهارة باب 107. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 115 / 116. الموطأ في كتاب الطهارة / حديث 104. أحمد في مسنده 6/82، 187، 194.(2/159)
التخفيف وقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء" الحديث وغيرها من أقيسة الرسول عليه السلام والصحابة رضي الله تعالى عنهم وعلى هذا قلنا مسح الرأس مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف؛ لأن كونه مسحا مؤثر في التخفيف حتى لم
ـــــــ
الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء" الحديث وغيرها من أقيسة الرسول عليه السلام والصحابة رضي الله تعالى عنهم وعلى هذا قلنا مسح الرأس مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف; لأن كونه مسحا مؤثر في التخفيف حتى لم يستوعب محله وأما قوله ركن فيسن تثليثه
................................................................................................
لانفجار الدم ووصوله إلى موضع يجب تطهيره عنه وهو معنى النجاسة أثر في وجوب طهارة وفي عدم كون انفجار الدم حيضا وفي كونه مرضا لازما مؤثرا في التخفيف, أما في وجوب الطهارة فلأن العبد لا يصلح للقيام بين يدي الرب إلا طاهرا, وأما في عدم كونه حيضا فلأن الحيض دم ثبت عادة راتبة في بنات آدم خلقها الله تعالى في أرحامهن وانفجار دم العرق ليس كذلك فلا يكون حيضا موقعا في الحرج الموجب لإسقاط الصلاة والوضوء, وأما في كونه مرضا فلأنه ليس في وسعها إمساكه ورده فيكون له تأثير في التخفيف بأن يحكم مع وجوده بقيام الطهارة في وقت الحاجة وهو وقت الصلاة للضرورة إذ لو وجبت عليها الطهارة لكل حدث لبقيت مشغولة بالطهارة أبدا ولم تفرغ للصلاة قطعا وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك", لعدم قضاء الشهوتين أثر في عدم انتقاض الصوم فكما أن المضمضة مقدمة شهوة البطن وليست في معنى الأكل كذلك القبلة مقدمة شهوة الفرج وليست في معنى الجماع لا صورة لعدم إيلاج فرج في فرج, ولا معنى لعدم الإنزال ففي الأمثلة المذكورة ليس التأثير بمعنى اعتبار النوع أو الجنس القريب.
قوله: "وغيرها" أي وكغير المذكورات من أقيسة النبي عليه السلام وأقيسة الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم الصدقة على بني هاشم: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه؟" كذا أورده فخر الإسلام رحمه الله تعالى وغاية تقريره أن هذا تعليل بمعنى مؤثر وهو أن الصدقة مطهرة الأوزار والآثام فكانت وسخا بمنزلة الماء المستعمل فكما أن الامتناع من شرب الماء المستعمل أخذ بمعالي الأمور فكذلك حرمة الصدقة على بني هاشم تعظيم لهم وإكرام واختصاص بمعالي الأمور, وكما اختلفت الصحابة رضي الله عنهم في الجد مع الإخوة واحتج كل فريق بتمثيل مشتمل على معنى مؤثر هو القرابة من الجانبين أو الاتصال بالميت بطريق الجزئية فقال علي رضي الله تعالى عنه إنما مثل الجد مع الإخوة مثل شجرة أنبتت غصنا ثم تفرع عن الغصن فرعان فالقرب بين الفرعين أولى من القرب بين الفرعين والأصل لأن الغصن بين الفرعين والأصل واسطة, ولا واسطة بين الفرعين فهذا يقتضي رجحان الأخ على الجد إلا أن بين الفرعين والأصل جزئية وبعضية ليست بين الفرعين نفسهما فكان لكل منهما ترجيح فاستويا وقال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه مثل الجد مع الأخوين كمثل نهر ينشعب من واد ثم يتشعب من هذا النهر جدول ومثل الأخوين كمثل نهرين ينشعبان من واد فالقرب بين النهرين المتشعبين من الوادي أكثر من القرب بين الوادي والجدول بواسطة النهر. وقال(2/160)
يستوعب محله وأما قوله ركن فيسن تثليثه كما في سائر الأركان فغير معقول وكذا جعلنا الصغر علة للولاية بخلاف البكارة وأيضا قلنا صوم رمضان متعين فلا يجب التعيين وقد ظهر تأثيره في الودائع والمغصوب وفي النقل فإن فرض رمضان فيه كالنقل في غيره.
وبعض العلماء احتجوا بالتقسيم فيه وهو أن يقول العلة إما هذا أو هذا أو هذا
ـــــــ
كما في سائر الأركان فغير معقول وكذا جعلنا الصغر علة للولاية بخلاف البكارة وأيضا قلنا صوم رمضان متعين فلا يجب التعيين وقد ظهر تأثيره" أي تأثير المتعين في عدم التعيين "في الودائع والمغصوب" فإن رد الوديعة والمغصوب واجب عليه ولا يجب عليه رد وغير هذا ولما كان هذا الرد متعينا لا يجب عليه تعيينه بأن يقول هذا الرد هو رد الوديعة فإن ردها مطلقا يصرف إلى الواجب عليه وهو رد الوديعة "وفي النقل" فإنه إذا نوى في غير رمضان صوما مطلقا ينصرف إلى النقل لتعينه ففي رمضان ينصرف إلى صوم رمضان لتعينه "فإن فرض رمضان فيه كالنقل في غيره.
وبعض العلماء احتجوا بالتقسيم فيه" أي على العلية في القياس "وهو أن يقول العلة إما هذا أو هذا أو هذا والأخيران باطلان فتعين الأول فإن لم يكن حاصرا لا يقبل وإن كان
................................................................................................
ابن عباس رضي الله تعالى عنه ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا, ولا يجعل أب الأب أبا اعتبر أحد طرفي القرابة وهو طرف الأصالة بالطرف الآخر وهو الجزئية في القرب.
قوله: "وعلى هذا" الأصل وهو اعتبار التأثير جزئيا في أقيستنا في المسائل المختلف فيها فعللنا بالعلل المؤثرة فإن للمسح أثرا في التخفيف فإنه أيسر من الغسل ويتأدى به الفرض, ولا يشترط فيه استيعاب المحل كما في المغسولات بخلاف الركنية فإنه لا أثر لها في التكرار وإبطال التخفيف وكون التثليث سنة اللهم إلا أن يقال إن الركنية تنبئ عن القوة والحصانة ووجوب الاحتياط فيناسب التكرار ليحصل باليقين أو بظن قريب منه. وكذا الصغر مؤثر في إثبات الولاية فإن ولاية النكاح لم تشرع إلا على وجه النظر للمولى عليه باعتبار عجزه عن مباشرة النكاح بنفسه وذلك في الصغر دون البكارة, وكذا تعيين الصوم الفرض في رمضان مؤثر في إسقاط وجوب التعيين; لأن أصل النية في العبادات إنما هو للتمييز بين العبادة والعادة, وتعيينها إنما هو للتمييز بين الجهات المتزاحمة فحيث لا تزاحم لا حاجة إلى التعيين بخلاف الفرضية; لأنه لا يعقل تأثيرها في إيجاب التعيين.
قوله: "وبعض العلماء" قد اشتهر فيما بين الأصوليين أن من مسالك العلة السبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل الصالحة للعلية في عدد, ثم إبطال علية بعضها لتثبت علية الباقي فيكون هناك مقامان أحدهما بيان الحصر ويكفي في ذلك أن يقول بحثت فلم أجد سوى هذه(2/161)
والأخيران باطلان فتعين الأول فإن لم يكن حاصرا لا يقبل وإن كان حاصرا بأن يثبت عدم علية الغير بالإجماع مثلا بعدما ثبت تعليل هذا النص يقبل كإجماعهم على أن علة الولاية، إما الصغر أو البكارة فهذا إجماع على نفي ما عداهما وبتنقيح المناط وهو أن يبين عدم علية الفارق ليثبت علية المشترك وعلماؤنا رحمهم الله لم يتعرضوا لهذين فإنه على تقدير قبولهما يكون مرجعهما إلى النص أو الإجماع أو المناسبة وبالدوران
ـــــــ
حاصرا بأن يثبت عدم علية الغير" أي غير هذه الأشياء التي ردد فيها "بالإجماع مثلا" إنما قال مثلا; لأنه يمكن أن يثبت عدم علية الغير بالنص "بعدما ثبت تعليل هذا النص يقبل كإجماعهم على أن علة الولاية, إما الصغر أو البكارة فهذا إجماع على نفي ما عداهما وبتنقيح المناط وهو أن يبين عدم علية الفارق ليثبت علية المشترك" الفارق هو الوصف الذي يوجد في الأصل دون الفرع والمشترك هو الوصف الذي يوجد فيهما "وعلماؤنا رحمهم الله لم يتعرضوا لهذين فإنه على تقدير قبولهما يكون مرجعهما إلى النص أو الإجماع أو المناسبة
................................................................................................
الأوصاف ويصدق; لأن عدالته وتدينه مما يغلب ظن عدم غيره إذ لو وجد لما خفي عليه أو; لأن الأصل عدم الغير وحينئذ للمعترض أن يبين وصفا آخر وعلى المستدل أن يبطل عليته وإلا لما ثبت الحصر فيما أحصاه فيلزم انقطاعه. وثانيهما إبطال علية بعض الأوصاف ويكفي في ذلك أيضا الظن وذلك بوجوه: الأول وجود الحكم بدونه في صورة فلو استقل بالعلية لانتفى الحكم بانتفائه. الثاني كون الوصف مما علم إلغاؤه في الشرع إما مطلقا كاختلاف بالطول والقصر أو بالنسبة إلى الحكم المبحوث فيه كالاختلاف بالذكورة والأنوثة في العتق. الثالث عدم ظهور المناسبة فيكفي للمستدل أن يقول بحثت فلم أجد له مناسبة, ولا يحتاج إلى إثبات ظهور عدم المناسبة; لأن التقدير أنه عدل أخبر عما لا طريق إلى معرفته إلا خبره وحينئذ للمعترض أن يدعي ذلك في الوصف الذي يدعي المستدل أنه علة يحتاج إلى الترجيح.
والمتمسكون بالسبر والتقسيم لا يشترطون إثبات التعليل في كل نص بل يكفي عندهم أن الأصل في النصوص التعليل وأن الأحكام مبنية على الحكم والمصالح إما وجوبا كما هو مذهب المعتزلة وإما تفضيلا كما هو مذهب غيرهم ولو سلم عدم الكلية فالتعليل هو الغالب في الأحكام وإلحاق الفرد بالأعم الأغلب هو الظاهر, ولا يشترطون في بيان الحصر إثبات عدم الغير بنص أو إجماع لحصول الظن بدون ذلك على ما بيناه, وأما على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى فيكون هذا من المسالك القطعية بمنزلة النص والإجماع ويكون مرجعه إليهما, وكذا الكلام في تنقيح المناط. قال ابن الحاجب إن الإخالة هي المناسبة وهي المسمى بتخريج المناط أي تنقيح ما علق الشارع الحكم به ومآله إلى التقسيم بأنه لا بد للحكم من علة وهي إما الوصف الفارق أو المشترك لكن الفارق ملغى فيتعين المشترك فيثبت الحكم لثبوت علته وذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن النظر والاجتهاد في مناط الحكم أي علته إما أن يكون في تحقيقه أو تنقيحه أو تخريجه, أما تحقيق المناط فهو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها بنص أو(2/162)
وهو باطل عندنا ففسره بعضهم بأنه وجود الحكم في كل صور وجود الوصف وزاد بعضهم العدم عند العدم وشرط بعضهم قياس النص في الحالين ولا حكم له نظيره أن المرء إذا قام إلى الصلاة وهو متوضئ لا يجب عليه الوضوء وإذا قعد وهو محدث يجب فعلم أن الوجوب دائر مع الحدث.
ـــــــ
وبالدوران وهو باطل عندنا ففسره بعضهم بأنه وجود الحكم في كل صور وجود الوصف وزاد بعضهم العدم عند العدم وشرط بعضهم قياس النص في الحالين" أي في حال وجود الوصف وعدمه "ولا حكم له نظيره أن المرء إذا قام إلى الصلاة وهو متوضئ لا يجب عليه الوضوء وإذا قعد وهو محدث يجب فعلم أن الوجوب دائر مع الحدث" فإنا قد وجدنا وجوب الوضوء دائرا مع الحدث وجودا وعدما, والنص موجود في الحالين أي حال وجود الحدث وحال عدمه ولا حكم له; لأن النص يوجب أنه كلما وجد القيام إلى الصلاة وجب الوضوء وكلما لم يوجد لم يجب أما عند القائلين بالمفهوم فظاهر وأما عندنا فلأن
................................................................................................
إجماع أو استنباط, ولا يعرف خلاف في صحة الاحتجاج به إذا كانت العلة معلومة بنص أو إجماع, وأما تنقيح المناط فهو النظر في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين بخلاف الأوصاف التي لا مدخل لها في الاعتبار كما بين في قصة الأعرابي أنه لا مدخل في وجوب الكفارة لكونه ذلك الشخص أو من الأعراب إلى غير ذلك حتى يتعين وطء المكلف الصائم في نهار رمضان عامدا.
وهذا النوع وإن أقر به أكثر منكري القياس فهو دون الأول, وأما تخريج المناط فهو النظر في إثبات علة الحكم الذي دل النص أو الإجماع عليه دون علته كالنظر في إثبات كون السكر علة لحرمة الخمر وهذا في الرتبة دون النوعين الأولين ولهذا أنكره كثير من الناس.
قوله: "بالدوران" احتج بعض الأصوليين على علية الوصف بدوران الحكم معه أي ترتبه عليه وجودا ويسمى الطرد وبعضهم وجودا وعدما ويسمى الطرد والعكس كالتحريم مع السكر فإن الخمر يحرم إذا كان مسكرا وتزول حرمته إذا زال إسكاره بصيرورته خلا وشرط البعض وجود النص في حالتي وجود الواصف وعدمه, والحال أنه لا حكم له أي للنص وذلك لدفع احتمال إضافة الحكم إلى الاسم وتعين إضافته إلى معنى الوصف فإن الحرمة تثبت للعصير إذا اشتد ويسمى خمرا وتزول عند زوال الشدة والاسم, فإذا كان الاسم قائما في الحالين ودار الحكم مع الوصف زال شبهة علية الاسم وتعين علية الوصف وإلا لما تخلف الحكم عن النص.
قوله: "لكن جعل هذا الحكم حكم النص مجازا" جواب عما يقال إن هذا الاشتراط لا يصح عند من لا يقول بمفهوم المخالفة إذ لا يكون النص قائما عند الوصف المنصوص عليه, ولا يكون له حينئذ موجب لا نفيا, ولا إثباتا, ولا يتناول أصلا مثلا إذا لم يقم إلى الصلاة بل قعد لم يتناوله النص إلا عند القائلين بمفهوم الشرط, وأما عند غيرهم فيكون عدم وجوب الوضوء مبنيا على عدم دليل الوجود فيجعل من حكم النص المذكور بطريق المجاز حيث عبر بعدم الوجوب المستند إلى النص عن مطلق عدم الوجوب.(2/163)
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل عند شغله بغير الغضب، لهم أن علل الشرع أمارات
ـــــــ
الأصل هو العدم على ما مر في مفهوم المخالفة وموجب النص غير ثابت في الحالين أما حال عدم الحدث فإن ظاهر النص يوجب أنه إذا وجد القيام مع عدم الحدث يجب الوضوء وهذا غير ثابت وأما حال وجود الحدث فلأنه ينبغي أنه إذا لم يقم إلى الصلاة مع وجود الحدث لا يجب الوضوء أما عند القائلين بالمفهوم فلأن هذا الحكم هو مدلول النص وأما عندنا فلأن عدم وجوب الوضوء, وإن كان بناء على العدم الأصلي لكن جعل هذا الحكم حكم النص مجازا فعلم بهذا علية الحدث إذ لولا ذلك لما تخلف الحكم عن النص أصلا.
"قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل عند شغله بغير الغضب, لهم أن علل الشرع أمارات فلا
................................................................................................
قوله: "فإنه يحل القضاء وهو غضبان" يعني أن النص قائم في حال الغضب بدون شغل القلب مع عدم حكمه الذي هو حرمة القضاء عند الغضب وأيضا النص قائم في حال عدم الغضب وشغل القلب بنحو جوع أو عطش مع عدم حكمه الذي هو إباحة القضاء عند عدم الغضب إما بطريق مفهوم المخالفة أو الإباحة الأصلية أو بالنصوص المطلقة في القضاء ويجعل من حكم النص المذكور مجازا.
قوله: "والوجود عند الوجود" كان الأحسن أن يقول الوجود عند الوجود والعدم عند العدم لا يدل على العلية لجواز أن يكون ذلك بطريق اتفاق كلي أو تلازم تعاكس أو يكون المدار لازم العلة أو شرطا مساويا لها فلا يقيد ظن العلية; لأنها احتمال واحد وهذه الاحتمالات كثيرة, وقد يقال إذا وجد الدوران مع غير مانع من العلية من معية كما في المتضايفين أو تأخر كما في المعلول والعلة أو غيرهما كما في شرط المساوي فالعادة قاضية بحصول الظن بل القطع بالعلية كما إذا دعي إنسان باسم مغضب فغضب ثم ترك فلم يغضب وتكرر ذلك مرة بعد أخرى علم بالضرورة أنه سبب الغضب حتى إن من لا يتأتى منه النظر كالأطفال يعلمون ذلك ويتبعونه في الطرق ويدعونه بذلك الاسم ويجاب عنه بأن النزاع إنما هو في حصول الظن بمجرد الدوران وهو فيما ذكرتم من المثال ممنوع إذ لولا انتفاء ظهور غير ذلك إما بأنه بحث عنه فلم يوجد, وإما; لأن الأصل عدمه لما حصل الظن غايته أنه يفيد تقوية الظن الحاصل من غيره وربما يقال إن هذا إنكار للضروري وقدح في جميع التجريبيات فإن الأطفال يقطعون به من غير نظر واستدلال بما ذكرتم وأهل النظر كالمجتمعين على ذلك حتى كاد يجري مجرى المثل أن دوران الشيء مع الشيء آية كون المدار علة للدائر ويجاب بأن الأحكام العقلية لا تختلف باختلاف الأحوال بخلاف الأحكام الشرعية المبنية على المصالح فلا بد في بيان عللها من مناسبة أو اعتبار من الشارع إذ في القول بالطرد فتح لباب الجهل والتصرف في الشرع.
قوله: "ولا يشترط لها أيضا" زيادة تنبيه على بعد المناسبة بين الدوران والعلية يعني أن الوجود(2/164)
فلا حاجة إلى معنى يعقل قلنا نعم في حقه تعالى أما في حق العباد فإنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كنسبة الملك إلى البيع والقصاص إلى القتل فإنه يجب القصاص مع أن المقتول ميت بأجله فلا بد من التمييز بين العلل والشروط، والوجود عند الوجود لا يدل على العلية؛ لأنه قد يقع اتفاقا وقد يقع في العلامة ولا يشترط لها أيضا؛ لأن التخلف لمانع لا يقدح فيها ثم العلة عين ذلك الوصف عند القائلين بتخصيصها، وذلك الوصف مع عدم المانع عند من لا يقول به ولا يشترط العدم عند العدم لأنه قد يوجد
ـــــــ
حاجة إلى معنى يعقل قلنا نعم في حقه تعالى أما في حق العباد فإنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كنسبة الملك إلى البيع والقصاص إلى القتل فإنه يجب القصاص مع أن المقتول ميت بأجله فلا بد من التمييز بين العلل والشروط, والوجود عند الوجود لا يدل على العلية; لأنه قد يقع اتفاقا وقد يقع في العلامة ولا يشترط لها أيضا" أي لا يشترط الوجود عند الوجود للعلية "; لأن التخلف لمانع لا يقدح فيها ثم العلة عين ذلك الوصف عند القائلين بتخصيصها, وذلك الوصف مع عدم المانع عند من لا يقول به" اعلم أن تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية أما عند القائلين بتخصيص العلة فلأن الشيء يمكن أن يكون علة والحكم تخلف عنه لمانع وهذا التخلف لا يقدح في العلية وأما عند من لا يقول بتخصيص العلة
................................................................................................
عند الوجود والعدم عند العدم كما أنه ليس بملزوم للعلية فكذلك ليس بلازم لها لجواز أن لا يوجد الحكم عند وجود العلة الظاهرة بناء على مانع أو على عدم تمامها حقيقة وأن لا ينعدم عند عدمها بناء على ثبوته بعلة أخرى كالحديث يثبت بخروج النجاسة والنوم وغير ذلك وقد يقال في تقرير هذا الكلام إن الوجود عند الوجود والعدم عند العدم لا يدل على صحة العلية كما أن العدم عند الوجود والوجود عند العدم لا يدل على فسادها اعتبارا لحالة الموافقة بحالة المخالفة في الصحة والفساد.
قوله: "وقيام النص" إشارة إلى بطلان كلام الفريق الثالث وذلك أن ما اشترطوا من قيام النص في الحالين من غير حكم أمر لا يوجد إلا نادرا, ولا عبرة بالنادر في أحكام الشرع فكيف يجعل أصلا فيما هو من أدلة الشرع بأن يبتنى عليه ثبوت العلية على أن وجوده بطريق الندرة أيضا في محل النزاع فإنا لا نسلم في المثالين المذكورين قيام النص في الحالين مع عدم حكمه أما في الآية فلأنا لا نسلم قيام النص بدون الحكم حال انتفاء الحدث وإنما يلزم ذلك لو لم يكن النص مقيدا بالحدث ومقيدا لوجوب الوضوء بشرط وجود الحدث وبيانه من وجهين أحدهما أن اشتراط الحدث في وجوب البدل وهو التيمم بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} اشتراط له في وجوب الأصل وهو الوضوء إذ البدل لا يفارق الأصل بسببه وإنما يفارقه بحاله بأن يجب في حال لا يجب فيها الأصل.
وبالجملة لما رتب وجوب التيمم على وجود الحدث عند فقد الماء فهم أن وجوب التوضؤ بالماء مرتب على الحدث, وثانيهما أن العمل بظاهر النص متعذر لاقتضائه وجوب التوضؤ عند كل(2/165)
بعلة أخرى وقيام النص في الحالين ولا حكم له أمر لا يوجد إلا نادرا فكيف يجعل أصلا في باب القياس وأيضا هو غير مسلم في آية الوضوء؛ لأنه ثبت الحدث بالنص؛ لأن ذكره في الخلف ذكر في الأصل ولأن المعنى إذا قمتم من مضاجعكم، والنوم دليل الحدث ولما كان الماء مطهرا دل على قيام النجاسة فاكتفى فيه.
واختار في التيمم التصريح وأيضا فيه إيماء إلى أن الوضوء عند عدم الحدث سنة لكونه ائتمارا لظاهر الأمر وعند الحدث واجب بخلاف الغسل فإنه ليس بسنة لكل
ـــــــ
فإن العلة مجموع ذلك الوصف مع عدم المانع فالوصف يكون جزءا للعلة فمعنى قولنا إن التخلف لمانع لا يقدح فيها أن التخلف لمانع لا يقدح في كون الوصف جزءا للعلة "ولا يشترط العدم عند العدم لأنه قد يوجد بعلة أخرى وقيام النص في الحالين ولا حكم له أمر لا يوجد إلا نادرا فكيف يجعل أصلا في باب القياس وأيضا هو غير مسلم في آية الوضوء; لأنه ثبت الحدث بالنص; لأن ذكره في الخلف ذكر في الأصل ولأن المعنى إذا قمتم من مضاجعكم, والنوم دليل الحدث ولما كان الماء مطهرا دل على قيام النجاسة فاكتفى فيه" أي في الماء يعني في إيجاب الوضوء "بدلالة النص" أي على وجود الحدث.
"واختار في التيمم التصريح" أي بوجود الحدث وهو قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
................................................................................................
قيام وفي كل ركعة فلا يتصور أداء الصلاة فلا بد من إضمار, أي: إذا قمتم من مضاجعكم أو إذا أردتم القيام إلى الصلاة محدثين, والقيام من المضجع كناية عن التنبه من النوم, والنوم دليل الحدث فعلى الأول يكون ذكر الحدث بطريق دلالة النص, وأما على الثاني فالظاهر أنه من قبيل المضمر وإطلاق دلالة النص عليه إما لغوي بمعنى أنه يفهم من النص أو هو من قبيل المشاكلة أو التغليب أو باعتبار أن القيام من المضجع إنما يدل على النوم دلالة لا عبارة وهذا أنسب فإن قيل للبدل حكم الأصل فكانت قضية الترتيب أن يصرح بالحدث في وجوب الوضوء ويكتفى بالدلالة في وجوب التيمم فلما عكست أجيب بوجهين:
الأول أن الماء مطهر بنفسه فإيجاب استعماله دل على وجود النجاسة الحكمية المفتقرة إلى إزالتها بخلاف إيجاب استعمال التراب فإنه ملوث لا يقتضي سابقة حدث فصرح معه بالحدث.
الثاني أن في ترك التصريح بالحدث في نص الوضوء إشارة إلى أن الوضوء سنة عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى ظاهر إطلاق الأمر وتحقيقه أنه قد علم بدلالة النص والإجماع عدم وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة بدون الحدث فيحمل على الإيجاب عند الحدث عملا بحقيقة الأمر وعلى الندب عند عدم الحدث عملا بظاهر إطلاقه وترك هذا الإيماء في الغسل; لأنه لا يسن لكل صلاة بل للجمعة والعيدين فصرح معه بذكر الحدث وهذا مبني على ما يعتبره البلغاء في(2/166)
صلاة والغضب لا يوجد بدون شغل القلب ولا يحل القضاء إلا بعد سكونه.
ـــــــ
مِنَ الْغَائِطِ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} "وأيضا فيه إيماء" أي في النص إشارة "إلى أن الوضوء عند عدم الحدث سنة لكونه ائتمارا لظاهر الأمر وعند الحدث واجب بخلاف الغسل فإنه ليس بسنة لكل صلاة" وهذا وجه آخر لترك التصريح بالحدث في الوضوء والتصريح به في التيمم "والغضب لا يوجد بدون شغل القلب ولا يحل القضاء إلا بعد سكونه" هذا منع لقوله: فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب فما ذكر أن النص قائم في الحالين ولا حكم له ممنوع أما حال وجود الوصف فإنه لا يحل القضاء إلا بعد سكون النفس عن الغضب كما ذكر في المتن وأما حال عدم الوصف وهو غير مذكور في المتن فعندنا لا دلالة للنص على عدم الحكم عند عدم الوصف وكذا عند من يقول بالمفهوم; لأن من شرائط مفهوم المخالفة أن لا يثبت التساوي بين المنطوق والمسكوت وقد ذكرتم أن القضاء لا يحل عند شغل القلب بغير الغضب فيثبت التساوي بين المنطوق والمسكوت فلم يوجد شرط صحة مفهوم المخالفة فلا يكون النص حينئذ دالا على عدم الحكم عند عدم الوصف فبطل قوله: إن النص قائم في الحالين ولا حكم له.
................................................................................................
تركيبهم من الرموز لا على أن يتناول الأمر للمحدث إيجابا ولغيره ندبا; لأنه لا يراد من اللفظ معنياه المختلفان فإن قلت مبنى هذه المباحث على أن سبب الوضوء هو الحدث, وقد تقرر في موضعه أن سببه إرادة الصلاة لا الحدث. قلت هو مبني على التقدير أي لو سلم أن العلة هي الحدث فهي لم تثبت بالدوران على ما ذكرتم, وأما في الحديث فلأنا لا نسلم انتفاء حكم النص وهو حرمة القضاء مع وجود الوصف وهو الغضب وإنما يصح ذلك لو وجد الغضب بدون شغل القلب وهو ممنوع كيف والغضبان صيغة مبالغة بمعنى الممتلئ غضبا على ما نقل عن الزجاج فلا يتصور له فراغ القلب ما دام غضبان وبهذا يحصل المقصود وهو منع قيام النص في الحالين مع عدم حكمه; لأن الكل ينتفي بانتفاء البعض إلا أنه تعرض في الشرح لحال العدم أيضا زيادة لتحقيق المقصود يعني أنا لا نسلم أن من حكم هذا النص حل القضاء عند عدم الغضب وإنما يكون كذلك لو تحقق شرائط مفهوم المخالفة وهو ممنوع.(2/167)
فصل: لا يجوز التعليل لإثبات العلة كإحداث تصرف موجب للملك
وقولنا
ـــــــ
"فصل: لا يجوز التعليل لإثبات العلة كإحداث تصرف موجب للملك" أي لا يجوز
................................................................................................
قوله: "فصل" ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن التعدية حكم لازم للتعليل عندنا جائز عند الشافعي رحمه الله تعالى فعندنا لا يجوز التعليل إلا لتعدية الحكم من المحل المنصوص إلى محل آخر فيكون التعليل والقياس واحدا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز لزيادة القبول وسرعة الوصول والاطلاع على حكمة الشارع فيوجد التعليل بدون القياس, والكلام في التعليل الغير(2/167)
الجنس بانفراده يحرم النساء بالنص وهو نهي عن الربا والريبة وكون الأكل والشرب موجبا للكفارة بدلالة النص وكذا القصاص في القتل بالمثقل عندهما وصفتها كإثبات السوم في الأنعام ولإثبات الشرط أو صفته كالشهود في النكاح وككونهم رجالا أو
ـــــــ
بالقياس إحداث تصرف يكون علة لثبوت الملك "وقولنا الجنس بانفراده يحرم النساء بالنص وهو نهي عن الربا والريبة" جواب إشكال وهو أنكم أثبتم بالقياس شيئا هو علة لحرمة النساء وهو الجنس بانفراده أي بدون الكيل والوزن فأجاب بأن هذا النص وهو قول الراوي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا والريبة, والريبة: الشك والمراد بالريبة هنا شبهة الربا وشبهة الربا ثابتة فيما إذا كان الجنس بانفراده موجودا أو قد باع نسيئة; لأن للنقد مزية على النسيئة "وكون الأكل والشرب موجبا للكفارة بدلالة النص وكذا القصاص في القتل بالمثقل عندهما" أي ثابت بدلالة النص لا بالقياس المستنبط فلا يرد حينئذ إشكال "وصفتها" بالجر أي لا يجوز التعليل لإثبات صفة العلة "كإثبات السوم في الأنعام ولإثبات الشرط أو صفته كالشهود في النكاح" هذا نظير إثبات الشرط "وككونهم رجالا أو مختلطة" نظير إثبات صفة الشرط "ولإثبات
................................................................................................
المنصوص ثم جملة ما يقع التعليل لأجله أربعة: الأول إثبات السبب أو وصفه. الثاني إثبات الشرط أو وصفه. الثالث إثبات الحكم أو وصفه. الرابع تعدية حكم مشروع معلوم بصفته إلى محل آخر يماثله في التعليل فالتعليل مختص بالتعدية لا يجوز لأجل إثبات سبب أو صفته; لأنه إثبات الشرع بالرأي, ولا لإثبات شرط لحكم شرعي أو صفته بحيث لا يثبت الحكم بدونه; لأن هذا إبطال للحكم الشرعي ونسخ له بالرأي, ولا لإثبات حكم أو صفته ابتداء; لأنه نصب أحكام الشرع بالرأي فلا يجوز شيء من ذلك إلا إذا وجد له في الشريعة أصل صالح للتعليل فيعلل ويتعدى حكمه إلى محل آخر سواء كان الحكم إثبات سبب أو شرط أو وصفهما أو إثبات حكم آخر مثل الوجوب والحرمة وغيرهما فصار الحاصل أن التعليل لإثبات العلة أو الشرط أو الحكم ابتداء باطل بالاتفاق ولإثبات حكم شرعي مثل الوجوب والحرمة بطريق التعدية من أصل موجود في الشرع ثابت بالنص أو الإجماع جائز بالاتفاق. واختلفوا في التعليل لإثبات السببية أو الشرطية بطريق التعدية من أصل ثابت في الشرع بمعنى أنه إذا ثبت بنص أو إجماع كون الشيء سببا أو شرطا لحكم شرعي فهل يجوز أن يجعل شيء آخر علة أو شرطا لذلك الحكم قياسا على الشيء الأول عند تحقيق شرائط القياس مثل أن تجعل اللواطة سببا لوجوب الحد قياسا على الزنا وتجعل النية في الوضوء شرطا لصحة الصلاة قياسا على النية في التيمم فذهب كثير من علماء المذهبين إلى امتناعه, وبعضهم إلى جوازه وهو اختيار فخر الإسلام رحمه الله وأتباعه فلهذا احتاجوا إلى التفصيل والإشارة إلى التسوية بين الحكم والسبب والشرط في أنها تجوز أن تثبت بالتعليل إن وجد لها أصل في الشرع وتمتنع إن لم يوجد.
وقال صاحب الميزان لا معنى لقول من يقول إن القياس حجة في إثبات الحكم دون إثبات السبب أو الشرط; لأنه إن أراد معرفة علة الحكم بالرأي والاجتهاد فذلك جائز في الجميع; لأن(2/168)
مختلطة ولإثبات الحكم أو صفته كصوم بعض اليوم وكصفة الوتر؛ لأن فيه نصب الشرع بالرأي فلا يجوز ابتداء أما إذا كان له أصل فيصح كاشتراط التقابض في بيع الطعام بالطعام فإن له أصلا وهو الصرف ولجوازه بدونه أصلا وهو بيع سائر السلع.
ـــــــ
الحكم أو صفته كصوم بعض اليوم" نظير إثبات الحكم "وكصفة الوتر" نظير إثبات صفة الحكم "; لأن فيه نصب الشرع بالرأي فلا يجوز ابتداء أما إذا كان له أصل فيصح كاشتراط التقابض في بيع الطعام بالطعام" أي عند الشافعي رحمه الله "فإن له" أي لاشتراط التقابض عند الشافعي رحمه الله "أصلا وهو الصرف ولجوازه بدونه أصلا" أي لجواز البيع بدون التقابض عندنا أصلا "وهو بيع سائر السلع" فالحاصل أن اشتراط التقابض عند الشافعي رحمه الله وإن كان إثبات الشرط فإنه يوجد له أصل وهو بيع الصرف وعدم اشتراطه عندنا كذلك يوجد له أصل وهو بيع سائر السلع
................................................................................................
المعرفة لا تختلف وإن أراد أن الجمع بين الأصل والفرع لا يتصور إلا في الحكم دون السبب أو الشرط فممنوع بل يتصور في الجميع وإن أراد أن القياس ليس بمثبت فمسلم والجميع سواء في أنه لا يثبت فيه شيء بالقياس بل يعرف به السبب والشرط كما يعرف به الحكم, واحتجاج الفريقين مذكور في أصول الشافعية ومقصود هذا الفصل مشهور فيما بين القوم مسطور في كتبهم.
قوله: "وقولنا الجنس قد توهم" ورود الإشكال بأنكم أثبتم بالقياس علية مجرد الجنس لحرمة الربا وعلية الأكل والشرب لوجوب الكفارة وعلية القتل بالمثقل لوجوب القصاص عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأجاب بأنا لم نثبت ذلك بالقياس بل بالنص عبارة في الأول ودلالة في الأخيرين على ما سبق في بحث دلالة النص ولم يورد فخر الإسلام رحمه الله تعالى في هذا المقام مسألة وجوب الكفارة بالأكل والشرب, ولا مسألة وجوب القصاص بالقتل بالمثقل; لأن جعلهما من قبيل دلالة النص دون القياس مبني على أن القياس لا يجري في الحدود والكفارات لا على أنه لا يجري في الأسباب والشروط; لأن مذهب فخر الإسلام رحمه الله أنه يصح إثبات السبب والشرط بالرأي والقياس إذا وجد له أصل في الشرع وهاهنا الوقاع أصل للأكل والشرب والقتل بالسيف أصل للقتل بالمثقل فكيف يتوهم أن يورد هذا إشكالا على إثبات السبب بالتعليل فيما لا يوجد له أصل وإنما وقع ذلك للمصنف رحمه الله من أصول ابن الحاجب وذلك أنه اختار أنه لا يصح إثبات السبب بالقياس فأورد القتل بالمثقل إشكالا فأجاب بأنا لا نبين سببية القتل بالمثقل قياسا على سببية القتل بالسيف بل نبين أن السبب هو القتل العمد العدوان سواء كان بالسيف أو بغيره فالسبب واحد لا غير.
وأما مسألة حرمة الربا بالجنس فأوردها فخر الإسلام رحمه الله مثالا لا إشكالا فقال أما تفسير القسم الأول أي بيان إثبات الموجب فمثل قولهم في الجنس بانفراده إنه يحرم النسيئة, وهذا خلاف وقع في الموجب للحكم فلم يصح إثباته, ولا نفيه بالرأي إذ لا نجد أصلا نقيسه عليه بل(2/169)
فالتعليل لا يصح إلا للتعدية هذا ما قالوا والحق إثبات العلة أنه إن ثبت أن عليتها لمعنى آخر يصلح للتعليل فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى يحكم بعليته لكن لا يكون هذا إثبات العلة بالقياس؛ لأن العلة في الحقيقة ذلك المعنى وإن لم يثبت ذلك فلا؛ لأنه يكون تعليلا بالمرسل وهذا هو المختلف فيه.
ـــــــ
"فالتعليل لا يصح إلا للتعدية هذا ما قالوا" إنما قلت هذا; لأني نقلت هذا الفصل عن أصول الإمام فخر الإسلام رحمه الله ولم أدر ما مراده فإن أراد أن القياس لا يجري في هذه الأشياء أصلا فهذا لا يصح, وقد قال في آخر الباب وإنما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد له في الشريعة أصل يصح تعليله وأما إذا وجد له فلا بأس به وإن أراد أنه لا يصح التعليل في هذه الأمور إلا إذا كان لها أصل فلا معنى لتخصيص هذه الأمور بهذا الحكم ولا فائدة في تفصيلها بل يكفيه أن يقول لا يصح القياس إلا إذا كان له أصل وهذا المعنى معلوم من تعريف القياس فإنه تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة "والحق إثبات العلة أنه إن ثبت أن عليتها لمعنى آخر يصلح للتعليل فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى يحكم بعليته لكن لا يكون هذا إثبات العلة بالقياس; لأن العلة في الحقيقة ذلك المعنى وإن لم يثبت ذلك" فلا; لأنه يكون تعليلا بالمرسل وهذا هو المختلف فيه.
................................................................................................
يجب الكلام فيه بالنص عبارة أو إشارة أو دلالة أو اقتضاء وذلك أنه ثبت بالنص والإجماع حرمة الفضل الخالي عن العوض, وقد بينا أن العلة هي القدر والجنس ووجدنا حرمة الربا حكما يستوي فيه شبهته بحقيقته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الربا والريبة وللإجماع على حرمة البيع مجازفة كبيع صبرة حنطة بصبرة باعتبار تساويهما في رأي المتبايعين ووجدنا في النسيئة شبهة الفضل وهي الحلول إذ النقد خير من النسيئة وهذا وإن كان فضلا من جهة الوصف لكنه ثبت بصنع العبد فاعتبر كما في بيع الحنطة المقلية بغير المقلية لإمكان الاحتراز عنه بخلاف الفضل من جهة الجودة فإنه ثبت بصنع الله تعالى فجعل عفو التعذر الاحتراز عنه ولما كانت العلة هي القدر والجنس أخذ الجنس شبهة العلة من حيث إنه شطر العلة فأثبتنا به شبهة الربا احتياطا فيثبت سببية الجنس لحرمة النسيئة بدلالة النص الموجب لسببية القدر والجنس لحرمة حقيقة القدر.
قوله: "والحق" في مسألة إثبات العلة أنه إن ثبت علية شيء لحكم بناء على معنى صالح لتعليل ذلك الحكم به بأن يكون مؤثرا أو ملائما فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى المؤثر أو الملائم فهو علة لذلك الحكم بلا خلاف, ولا يكون هذا من إثبات العلة بالقياس; لأن العلة بالحقيقة هو ذلك المعنى المشترك بين الشيئين, وقد ثبت عليته بما هو من مسالك العلة فتكون العلة واحدة تتعدد باعتبار المحل مثلا إذا ثبت أن الوقاع علة لوجوب الكفارة بناء على أنه يوجد فيه هتك حرمة صوم رمضان فقد ثبت أن العلة هي هتك الحرمة وهو موجود في الأكل فيحكم بأنه علة لوجوب الكفارة, وإن لم يثبت أن علية ذلك الشيء للحكم مبني على اشتماله على ذلك المعنى بل وجد(2/170)
فصل: القياس جلي و خفي
...
فصل: القياس جلي وخفي
فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي وهو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام وهو حجة عندنا؛ لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا ضمير وهو راجع إلى الاستحسان وقد أنكر بعض
ـــــــ
"فصل: القياس جلي وخفي فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي" فإن كل قياس خفي استحسان وليس كل استحسان قياسا خفيا; لأن الاستحسان قد يطلق على غير القياس الخفي أيضا كما ذكر في المتن لكن الغالب في كتب أصحابنا أنه إذا ذكر الاستحسان أريد به القياس الخفي "وهو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام" هذا تفسير الاستحسان وبعض الناس تحيروا في تعريفه, وتعريفه الصحيح هذا, وهو أنه دليل يقع في مقابلة القياس الجلي.
وقوله الذي يسبق إليه الأفهام تفسير للقياس الجلي "وهو حجة عندنا; لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا ضمير وهو راجع إلى الاستحسان" وقد أنكر بعض الناس العمل بالاستحسان جهلا منهم فإن أنكروا هذه التسمية فلا مشاحة في الاصطلاحات وإن أنكروه من حيث المعنى فباطل أيضا; لأنا نعني به دليلا من الأدلة المتفق
................................................................................................
مجرد مناسبة ذلك المعنى لعلية الحكم لم يصح الحكم بعلية شيء آخر يوجد فيه ذلك المعنى المناسب قياسا على ما ثبت عليته; لأنه تعليل بالمرسل إذ لم يثبت تأثير ذلك المعنى المناسب, ولا ملائمته وهذا هو المختلف فيه من إثبات العلة بالقياس فيجوز عند من يقول بصحة التعليل بالمرسل, ولا يجوز عند من يشترط التأثير أو الملاءمة.
قوله: "فصل" في الاستحسان هو في اللغة عد الشيء حسنا, وقد كثر فيه المدافعة والرد على المدافعين ومنشؤهما عدم تحقيق مقصود الفريقين ومبنى الطعن من الجانبين على الجرأة وقلة المبالاة فإن القائلين بالاستحسان يريدون به ما هو أحد الأدلة الأربعة على ما سنبينه والقائلون بأن من استحسن فقد شرع يريدون أن من أثبت حكما بأنه مستحسن عنده من غير دليل من الشارع فهو الشارع لذلك الحكم حيث لم يأخذه من الشارع والحق أنه لا يوجد في الاستحسان ما يصلح محلا للنزاع إذ ليس النزاع في التسمية; لأنه اصطلاح وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن" 1 ونقل عن الأئمة إطلاق الاستحسان في دخول الحمام وشرب الماء من يد السقاء ونحو ذلك. وعن الشافعي رحمه الله أنه قال أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهما وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة.
وأما من جهة المعنى فقد قيل هو دليل ينقدح في نفس المجتهد يعسر عليه التعبير عنه فإن أريد بالانقداح الثبوت فلا نزاع في أنه يجب عليه العمل به, ولا أثر لعجزه عن التعبير عنه وإن أريد أنه وقع له شك فلا نزاع في بطلان العمل وقيل هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقيل:
ـــــــ
1 رواه أحمد في مسنده 1/379.(2/171)
الناس العمل بالاستحسان جهلا منهم فإن أنكروا هذه التسمية فلا مشاحة في الاصطلاحات وإن أنكروه من حيث المعنى فباطل أيضا؛ لأنا نعني به دليلا من الأدلة المتفق عليها يقع في مقابلة القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى من القيا؛ لأنه إما بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما بالإجماع كالاستصناع وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار وإما بالقياس الخفي، وذكروا له قسمين: الأول ما قوي أثره والثاني ما ظهر صحته وخفي فساده.
ـــــــ
عليها يقع في مقابلة القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى من القياس الجلي فلا معنى لإنكاره "لأنه إما بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما بالإجماع كالاستصناع وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار وإما بالقياس الخفي, وذكروا له" أي للقياس الخفي "قسمين: الأول: ما قوي أثره" أي تأثيره "والثاني: ما ظهر صحته وخفي فساده" أي إذا نظرنا إليه بادئ النظر نرى صحته ثم إذا تأملنا حق التأمل علمنا أنه فاسد
................................................................................................
العدول إلى خلاف الظن لدليل أقوى, ولا نزال في قبول ذلك وقيل تخصيص القياس بدليل أقوى منه فيرجع إلى تخصيص العلة وقال الكرخي رحمه الله هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه بوجه هو أقوى ويدخل فيه التخصيص والنسخ, وقال أبو الحسين البصري هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ بوجه هو أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول واحترز بقوله: غير شامل عن ترك العموم إلى الخصوص وبقوله: وهو في حكم الطارئ عن القياس فيما إذا قالوا لو تركنا الاستحسان بالقياس وأورد على هذه التفاسير أن ترك الاستحسان بالقياس يكون عدولا عن الأقوى إلى الأضعف وأجيب بأنه إنما يكون بانضمام معنى آخر إلى القياس يصير به أقوى.
ولما اختلفت العبارات في تفسير الاستحسان مع أنه قد يطلق لغة على ما يهواه الإنسان ويميل إليه وإن كان مستقبحا عند الغير وكثر استعماله في مقابلة القياس على الإطلاق كان إنكار العمل به عند الجهل بمعناه مستحسنا حتى يتبين المراد منه إذ لا وجه لقبول العمل بما لا يعرف معناه وبعدما استقرت الآراء على أنه اسم لدليل متفق عليه نصا كان أو إجماعا أو قياسا خفيا إذا وقع في مقابلة قياس تسبق إليه الأفهام حتى لا يطلق على نفس الدليل من غير مقابلة فهو حجة عند الجميع من غير تصور خلاف ثم إنه غلب في اصطلاح الأصول على القياس الخفي خاصة كما غلب اسم القياس على القياس الجلي تمييزا بين القياسين, وأما في الفروع فإطلاق الاستحسان على النص والإجماع عند وقوعهما في مقابلة القياس الجلي شائع ويرد عليه أنه لا عبرة بالقياس في مقابلة النص أو الإجماع بالاتفاق فكيف يصح التمسك به والجواب أنه لا يتمسك به إلا عند عدم ظهور النص أو الإجماع.
قوله: "وذكروا له" قسمين الصحة تقارب الأثر والضعف يقارب الفساد وبهذا الاعتبار(2/172)
وللقياس قسمان ما ضعف أثره وما ظهر فساده وخفي صحته فأول ذلك راجح على أول هذا لأن المعتبر هو الأثر لا الظهور وثاني هذا على ثاني ذلك فالأول كسؤر سباع الطير فإنه نجس قياسا على سؤر سباع البهائم، طاهر استحسانا لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم كسجدة التلاوة تؤدى بالركوع قياما؛ لأنه تعالى جعل الركوع مقام
ـــــــ
"وللقياس" أي للقياس الجلي "قسمان ما ضعف أثره وما ظهر فساده وخفي صحته فأول ذلك راجح على أول هذا" أي القسم الأول من الاستحسان وهو ما قوي أثره راجح على القسم الأول من القياس الجلي وهو ما ضعف أثره واعلم أنا إذا ذكرنا القياس نريد به القياس الجلي وإذا ذكرنا الاستحسان نريد به القياس الخفي فلا تنس هذا الاصطلاح "لأن المعتبر هو الأثر لا الظهور وثاني هذا على ثاني ذلك" أي القسم الثاني من القياس وهو ما ظهر فساده وخفي صحته راجح على القسم الثاني من الاستحسان وهو ما ظهر صحته وخفي فساده "فالأول" وهو أن يقع القسم الأول من الاستحسان في مقابلة القسم الأول من القياس كسؤر سباع الطير فإنه نجس قياسا على سؤر سباع البهائم, طاهر استحسانا لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر. والثاني وهو أن يقع القسم الثاني من الاستحسان في مقابلة القسم الثاني من القياس "كسجدة التلاوة تؤدى بالركوع قياما; لأنه تعالى جعل الركوع مقام السجدة
................................................................................................
يتحقق تقابل القسمين في كل من الاستحسان والقياس والمراد بظهور الصحة في الاستحسان ظهورها بالنسبة إلى فساد الخفي وهو لا ينافي خفاءها بالنسبة إلى ما يقابله من القياس والمراد بخفاء الصحة في القياس الجلي خفاؤها بأن ينضم إلى وجه القياس معنى دقيق يورثه قوة ورجحانا على وجه الاستحسان ثم الصحيح أن معنى الرجحان هاهنا تعين العمل بالراجح وترك العمل بالمرجوح, وظاهر كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى أنه الأولوية حتى يجوز العمل بالمرجوح.
قوله: "فالأول" يعني أن سؤر سباع الطير من البازي والصقر ونحوهما نجس قياسا على سؤر سباع البهائم كالفهد والذئب لمخالطته باللعاب المتولد من لحم نجس. فإن اختيار المحققين أن لحم سباع البهائم نجس لا يطهر بالزكاة; لأن الحرمة فيما يصلح للغذاء إذا لم تكن للضرورة أو الاستخباث أو الاحترام آية النجاسة إلا أنه لما اجتمع في السبع ما لا يؤكل وهو طاهر كالجلد والعظم والعصب والشعر وما يؤكل وهو نجس كاللحم والشحم أشبه دهنا ماتت فيه فأرة فجعل له حكم بين النجاسة والطهارة الحقيقيتين بأن حرم أكله وتنجس لعابه لكن جاز بيعه والانتفاع به ولم تجعل نجاسة سباع الطير أيضا بهذا الطريق; لأن الروايات إنما وردت في سباع البهائم دون الطيور فاحتيج فيها إلى القياس وهذا قياس ضعيف الأثر قليل الصحة لقصور علة التنجس في الفرع أعني المخالطة, وقد قابله استحسان قوي الأثر يقتضي طهارة سؤرها; لأنها تشرب بالمنقار على سبيل الأخذ ثم الابتلاع والمنقار عظم طاهر; لأنه جاف لا رطوبة فيه فلا يتنجس الماء بملاقاته فيكون سؤره طاهرا كسؤر الآدمي والمأكول لانعدام العلة الموجبة للنجاسة وهي الرطوبة النجسة في الآلة الشاربة إلا أنه يكره لما أن سباع الطيور لا تحترز عن الميتة والنجاسة كالدجاجة المخلاة.(2/173)
السجدة في قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً} استحسانا؛ لأن الشرع أمر بالسجود فلا تؤدى بالركوع كسجود الصلاة فعملنا بالصحة الباطنة في القياس وهي أن السجود غير مقصود هنا وإنما الغرض ما يصلح تواضعا مخالفة للمتكبرين. وكما إذا اختلفا في ذراع المسلم فيه ففي القياس يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف وفي
ـــــــ
في قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً} استحسانا; لأن الشرع أمر بالسجود فلا تؤدى بالركوع كسجود الصلاة فعملنا بالصحة الباطنة في القياس وهي أن السجود غير مقصود هنا وإنما الغرض ما يصلح تواضعا مخالفة للمتكبرين". واعلم أنهم جعلوا في هذه المسألة كون السجود يؤدى بالركوع حكما ثابتا بالقياس وعدمه حكما ثابتا بالاستحسان ولا أدري خصوصية الأول بالقياس والثاني بالاستحسان فلهذا أوردت مثالا آخر وهو قوله "وكما إذا اختلفا في ذراع المسلم فيه ففي القياس يتحالفان; لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف وفي الاستحسان لا; لأنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه وذا لا يوجب التحالف لكن عملنا بالصحة الباطنة للقياس وهي أن الاختلاف في الوصف هنا يوجب الاختلاف في الأصل" اعلم أنه إذا اختلف المتعاقدان في ذراع المسلم فيه ففي القياس يتحالفان وفي الاستحسان لا, وذلك لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف كما في المبيع.
................................................................................................
قوله: "والثاني" لما كان عدم تأدي المأمور به بالإتيان بغير المأمور به أمرا جليا وعكسه أمرا خفيا اشتبه على المصنف رحمه الله تعالى جهة جعل تأدي السجدة بالركوع قياسا وعدم تأديها به استحسانا ونقل عنه في توجيه ذلك أنه إذا جاز إقامة الركوع مقام السجدة ذكرا لما بينهما من المناسبة أعني اشتمالها على التعظيم والانحناء فجاز إقامته مقامه فعلا لتلك المناسبة وهذا أمر جلي تسبق إليه الأفهام فيكون قياسا إلا أن الاستحسان أن لا يتأدى به كالسجدة الصلاتية لا تتأدى بالركوع; لأن الأمر بالشيء يقتضي حسنه لذاته فيكون مطلوبا لعينه فلا يتأدى بغيره وهذا قياس خفي بالنسبة إلى الأول فيكون استحسانا, وفيه نظر إذ لا يخفى أن عدم تأدي المأمور به بغيره قياسا على أركان الصلاة أظهر وأجلى من تأديه به قياسا على جواز إقامة اسم الشيء مقام اسم غيره.
والأقرب أن يقال لما اشتمل كل من الركوع والسجود على التعظيم كان القياس فيما وجب بالتلاوة في الصلاة أن يتأدى بالركوع كما يتأدى بالسجود لما بينهما من المناسبة الظاهرة ولهذا صح التعبير عنه بالركوع في قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً} أي سقط ساجدا فهذا قياس جلي فيه فساد ظاهر هو العمل بالمجاز من غير تعذر الحقيقة, وصحة خفية هي أن سجدة التلاوة لم تجب قربة مقصودة ولهذا لا تلزم بالنذر كالطهارة وإنما المقصود هو التواضع ومخالفة المتكبرين وموافقة المطيعين على قصد العبادة ولهذا اشترط الطهارة واستقبال القبلة وهذا حاصل في الركوع في الصلاة إلا أن المأمور به هو السجود وهو مغاير للركوع فينبغي أن لا ينوب الركوع عنه كما لا ينوب عن السجدة الصلاتية مع قرب المناسبة بينهما لكونهما من أركان الصلاة وموجبات التحريمة وكما لا ينوب الركوع خارج الصلاة عن السجدة مع أنه لم يستحق بجهة أخرى بخلاف الركوع في(2/174)
الاستحسان لا؛ لأنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه وذا لا يوجب التحالف لكن عملنا بالصحة الباطنة للقياس وهي أن الاختلاف في الوصف هنا يوجب الاختلاف في الأصل.
وبالتقسيم العقلي ينقسم كل إلى ضعيف الأثر وقويه وعند التعارض لا يرجع الاستحسان إلا في صورة واحدة وإلى صحيح الظاهر والباطن وفاسدهما وصحيح
ـــــــ
فهذا قياس جلي يسبق إليه الأفهام ثم إذا نظرنا علمنا أنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه; لأنهما اختلفا في الذراع, والذراع وصف; لأن زيادة الذراع توجب جودة في الثوب بخلاف الكيل والوزن وإذا كان الذراع وصفا والاختلاف في الوصف لا يوجب التحالف فهذا المعنى أخفى من الأول فيكون هذا استحسانا والأول قياسا هذا ما ذكروه. واعلم أنه لا دليل على انحصار القياس والاستحسان في هذين القسمين وعلى انحصار التعارض بينهما في هذين الوجهين فلهذا أوردت الأقسام الممكنة عقلا وقلت:
"وبالتقسيم العقلي ينقسم كل إلى ضعيف الأثر وقويه وعند التعارض لا يرجع الاستحسان إلا في صورة واحدة" وهي أن يكون القياس ضعيف الأثر والاستحسان قوي الأثر أما في الصور الثلاث الأخر فالقياس راجح على الاستحسان أما إذا كان القياس قوي الأثر والاستحسان ضعيف الأثر فواضح وأما إذا كانا قويين فالقياس يرجح لظهوره وأما إذا كانا ضعيفين فإما أن يسقط أو يعمل بالقياس لظهوره فلهذا أوردت الحكم المتيقن وهو أن الاستحسان لا يرجح على القياس في هذه الصور الثلاث ويرجح في صورة واحدة "وإلى
................................................................................................
الصلاة وهذا قياس خفي يسمى استحسانا وفيه أثر ظاهر هو العمل بالحقيقة وعدم تأدية المأمور به لغيره وفساد خفي هو جعل غير المقصود مساويا للمقصود فعملنا بالصحة الباطنة في القياس وجعلنا سجدة التلاوة في الصلاة متأدية بالركوع ساقطة به كما تسقط الطهارة للصلاة بالطهارة لغيرها بخلاف الركوع خارج الصلاة; لأنه لم يشرع عبادة وبخلاف السجدة الصلاتية فإنها مقصودة بنفسها كالركوع بدليل قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} .
قوله: "بالتقسيم العقلي ينقسم" القياس والاستحسان تارة باعتبار القوة والضعف وتارة باعتبار الصحة والفساد أما بالاعتبار الأول فإما أن يكونا قويي الأثر أو ضعيفي الأثر أو القياس قويا والاستحسان ضعيفا أو بالعكس ففي الرابع يترجح الاستحسان قطعا وفي الثلاثة الباقية يتيقن عدم ترجيح الاستحسان, وأما ترجيح القياس ففي الأول والثالث متيقن لا في الثاني فإنه يحتمل سقوط الاستحسان والقياس لضعفهما وتسمية الاستحسان في جميع الأقسام تكون باعتبار خفائه إلا أنه يشكل بما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أن سمينا ما ضعف أثره قياسا وما قوي أثره استحسانا, وأما بالاعتبار الثاني فإما أن يكون كل منهما صحيح الظاهر والباطن أو فاسدهما أو صحيح الظاهر فاسد الباطن أو بالعكس وفي الجميع يكون القياس جليا بمعنى سبق الأفهام إليه(2/175)
الظاهر فاسد الباطن والعكس فالأول من القياس يرجح على كل استحسان وثانيه مردود بقي الأخيران فالأول من الاستحسان أي صحيح الظاهر والباطن يرجح عليهما أي على قياس صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه، وثانيه مردود أي ثاني الاستحسان وهو فاسد الظاهر والباطن بقي الأخيران أي من الاستحسان وهما صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه فالتعارض بينهما وبين أخيري القياس إن وقع مع خلاف النوع فما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس.
ـــــــ
صحيح الظاهر والباطن وفاسدهما وصحيح الظاهر فاسد الباطن والعكس فالأول من القياس يرجح على كل استحسان وثانيه مردود بقي الأخيران فالأول من الاستحسان أي صحيح الظاهر والباطن يرجح عليهما أي على قياس صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه, وثانيه مردود أي ثاني الاستحسان وهو فاسد الظاهر والباطن بقي الأخيران أي من الاستحسان وهما صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه فالتعارض بينهما وبين أخيري القياس إن وقع مع خلاف النوع فما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس" اعلم أن التعارض بين كل واحد من هذين القسمين من الاستحسان أي صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه وبين كل واحد من أخيري القياس إن وقع مع اختلاف النوع وهذا في
................................................................................................
والاستحسان خفيا بالإضافة إليه ويقع التعارض على ستة عشر وجها حاصلة من ضرب الأقسام الأربعة للقياس في الأقسام الأربعة للاستحسان فالقياس الصحيح الظاهر والباطن يترجح على جميع أقسام الاستحسان, والقياس الفاسد الظاهر والباطن يكون مردودا بالنسبة إلى الكل فتبقى ثمانية أوجه حاصلة من ضرب أقسام الاستحسان في أخيري القياس فالأول من الاستحسان يرجح عليها لصحته ظاهرا وباطنا والثاني يرد مطلقا لفساده ظاهرا وباطنا بقي أربعة أوجه حاصلة من ضرب أخيري الاستحسان في أخيري القياس: الأول تعارض الاستحسان الصحيح الظاهر الفاسد الباطن والقياس الفاسد الظاهر الصحيح الباطن والثاني بالعكس والثالث تعارض استحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن وقياس كذلك والرابع تعارض استحسان صحيح الباطن فاسد الظاهر وقياس كذلك وسمي اتفاق القياس والاستحسان في صحة الظاهر وفساد الباطن باتحاد النوع واختلافهما في ذلك باختلاف النوع وحكم برجحان الاستحسان في الوجه الثاني من هذه الأربعة وبرجحان القياس في الثلاثة الباقية وادعى أن الظاهر امتناع التعارض بين قياس واستحسان يتفقان في قوة الأثر أو صحة الباطن سواء كان مع الاتفاق في صحة الظاهر أو بدونه وبعد إقامة الدليل جزم بهذا الحكم, وقد علم من الاستدلال ومن سوق الكلام بالآخرة أن قوله إذا كان الاستحسان على صفة كان القياس على خلاف تلك الصفة مقيدا بالقوة والصحة الباطنة إذ لا امتناع في أن تعارض قياس ضعيف أو صحيح الظاهر فقط أو فاسد الظاهر والباطن أو الظاهر فقط لاستحسان كذلك.
قوله: "بالمعنى المذكور" أي بمعنى أنه كلما وجد ذلك الوصف مطلقا أو بلا مانع يوجد ذلك الحكم.(2/176)
ومع اتحاده إن أمكن فالقياس أولى وما ذكروا من حيث القوة والضعف فعند التحقيق داخل في هذا التفصيل أيضا.
ـــــــ
صورتين: إحداهما أن يعارض صحيح الظاهر فاسد الباطن من الاستحسان فاسد الظاهر صحيح الباطن من القياس وثانيتهما أن يعارض فاسد الظاهر صحيح الباطن من الاستحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن من القياس فلا شك أن ما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس سواء كان قياسا أو استحسانا.
"ومع اتحاده إن أمكن فالقياس أولى" أي إن وقع التعارض بينهما مع اتحاد النوع وهو أن يعارض استحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن قياسا كذلك أو يعارض استحسان فاسد الظاهر صحيح الباطن قياسا كذلك يكون القياس راجحا في الصورتين وإنما قلنا إن أمكن; لأنا لم نجد تعارض القياس والاستحسان على هذه الصفة والظاهر أنه إذا كان الاستحسان على صفة كان القياس على خلاف تلك الصفة; لأن القياس لا يكون صحيحا في نفس الأمر إلا وقد جعل الشرع وصفا من الأوصاف علة للحكم بمعنى أنه كلما وجد ذلك الوصف مطلقا أو كلما وجد ذلك الوصف بلا مانع يوجد ذلك الحكم لكنه وجد ذلك الوصف بإحدى الصفتين المذكورتين في الفرع فيوجد ذلك الحكم فإن كان القياس بهذه الصفة لا يعارضه قياس صحيح سواء كان جليا أو خفيا; لأنه لا يمكن أن يجعل الشرع وصفا آخر علة لنقيض ذلك الحكم بالمعنى المذكور ثم يوجد ذلك الوصف في الفرع إذ لو كان كذلك يلزم حكم الشرع بالتناقض وهذا محال على الشارع تعالى وتقدس فعلم أن تعارض قياسين صحيحين في الواقع ممتنع وإنما يقع التعارض لجهلنا بالصحيح والفاسد فالتعارض لا يقع بين قياس قوي الأثر واستحسان كذلك وكذا لا يقع بين قياس صحيح الظاهر والباطن وبين استحسان كذلك وكذا لا يقع بين قياس فاسد الظاهر صحيح الباطن وبين استحسان كذلك "وما ذكروا من حيث القوة والضعف فعند التحقيق داخل في هذا التفصيل أيضا"; لأنه لا يخلو إما أن يكون صحيح الظاهر أو فاسد الظاهر وعلى كل من التقديرين لا يخلو من أنه إذا تؤمل حق التأمل يتبين صحته أو يتبين فساده وإذا كانت القسمة منحصرة في هذه الأقسام فقوي الأثر وضعيفه لا يخلو من أحد هذه الأقسام قطعا
................................................................................................
قوله: "وما ذكروا" هذا كلام قليل الجدوى; لأن تداخل الأقسام ضروري فيما إذا قسم الشيء تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة يقال اللفظ ثلاثي أو رباعي أو خماسي وباعتبار آخر اسم أو فعل أو حرف وباعتبار آخر معرب أو مبني إلى غير ذلك نعم لو صح ما ذكره البعض من أن المراد بالضعف والفساد واحد, وكذا بالقوة والصحة لكان أحد القسمين مستدركا.(2/177)
والمستحسن بالقياس الخفي يعدى لا المستحسن بغيره نظيره أن في الاختلاف في الثمن قبل قبض المبيع اليمين على المشتري فقط قياسا؛ لأنه المنكر وعليهما قياسا خفيا؛ لأن البائع ينكر تسليم المبيع فيعدى إلى الوارثين وإلى الإجارة وأما بعد القبض فثبوته بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" فلا يعدى إلى الوارث وإلى حال هلاك السلعة والاستحسان ليس من باب تخصيص العلة على ما يأتي.
ـــــــ
"والمستحسن بالقياس الخفي يعدى لا المستحسن بغيره نظيره أن في الاختلاف في الثمن قبل قبض المبيع اليمين على المشتري فقط قياسا; لأنه المنكر وعليهما قياسا خفيا; لأن البائع ينكر تسليم المبيع" أي إنما يحلف البائع; لأنه ينكر وجوب تسليم المبيع بقبض ما هو ثمن في زعم المشتري وإنما يحلف المشتري; لأنه ينكر زيادة الثمن. ولما كان هذا ظاهرا لم يذكره في المتن "فيعدى إلى الوارثين" أي إذا اختلف وارثا البائع والمشتري في قدر الثمن قبل قبض المبيع تحالف الوارثان. "وإلى الإجارة" أي إذا اختلف المؤجر والمستأجر في مقدار الأجرة قبل استيفاء المنفعة تحالفا. "وأما بعد القبض فثبوته بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" فلا يعدى إلى الوارث وإلى حال هلاك السلعة والاستحسان ليس من باب تخصيص العلة على ما يأتي" بعض الناس زعموا أن الاستحسان من باب تخصيص العلة وليس كذلك لما يأتي في تخصيص العلة أن ترك القياس بدليل أقوى لا يكون تخصيصا.
"فصل: في دفع العلل المؤثرة" أي الاعتراضات الواردة على العلل المؤثرة منه النقض وهو وجود العلة في صورة مع تخلف الحكم ودفعه بأربع طرق أي الجواب عنه يكون بأربع طرق
................................................................................................
قوله: "والمستحسن" قد سبق أن الاستحسان دليل يقابل قياسا جليا سواء كان أثرا أو إجماعا أو ضرورة أو قياسا خفيا فهاهنا يريد الفرق بين المستحسن بالقياس الخفي والمستحسن بغيره في أن الأول تعدى إلى صورة أخرى; لأن من شأن القياس التعدية والثاني لا يقبل التعدية; لأنه معدول به عن سنن القياس مثلا إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن فالقياس أن يكون اليمين على المشتري فقط; لأنه المنكر وحده; لأنه لا يدعي شيئا حتى يكون البائع أيضا منكرا. فهذا قياس جلي على سائر التصرفات إلا أنه ثبت بالاستحسان التحالف أي وجوب اليمين على كل من البائع والمشتري أما قبل قبض المبيع فبالقياس الخفي وهو أن البائع ينكر وجوب تسليم المبيع بما أقر به المشتري من الثمن كما أن المشتري ينكر وجوب زيادة الثمن فيتوجه اليمين على كل منهما كما في سائر التصرفات فإن اليمين تكون على المنكر, وأما بعد قبض المبيع فبالأثر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" 1 فوجوب التحالف قبل القبض يتعدى إلى وارثي البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن بعد موت البائع والمشتري; لأن الوارث يقوم مقام المورث في حقوق العقد والحكم معقول, وكذا يتعدى إلى الإجارة قبل العمل حتى لو اختلف
ـــــــ
1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 16. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 19.(2/178)
فصل: في دفع العلل المؤثرة
منه النقض وهو وجود العلة في صورة مع تخلف الحكم ودفعه بأربع طرق أي الجواب عنه يكون بأربع طرق.
الأول: منع وجود العلة في صورة النقض نحو: خروج النجاسة علة الانتقاض فنوقض بالقليل فيمنع الخروج فيه وكذا وجود ملك بدل المغصوب يوجب ملكه فنوقض بالمدبر فيمنع ملك بدله فإن ضمان المدبر ليس بدلا عن العين بل بدل عن اليد الفائتة.
ـــــــ
"الأول منع وجود العلة في صورة النقض نحو: خروج النجاسة علة الانتقاض فنوقض بالقليل فيمنع الخروج فيه وكذا وجود ملك بدل المغصوب يوجب ملكه" أو ملك المغصوب لئلا يجتمع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد "فنوقض بالمدبر" أي إذا كان ملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب ففي غصب المدبر يكون كذلك لكن الحكم متخلف; لأن المدبر غير قابل للانتقال من ملك إلى ملك عندكم "فيمنع ملك بدله" أي ملك بدل المغصوب بأن يمنع في المدبر كون بدله بدل المغصوب فإنه ليس بدل العين بل بدل اليد الفائتة "فإن ضمان المدبر ليس بدلا عن العين بل بدل عن اليد الفائتة
................................................................................................
القصار ورب الثوب في مقدار الأجرة قبل أخذ القصار في العمل تحالفا; لأن كلا منهما يصلح مدعيا ومنكرا والإجارة تحتمل الفسخ وهو في التحالف ثم الفسخ دفع للضرر عن كل منهما.
وأما وجوب التحالف بعد القبض فلا يتعدى إلى الوارث ولا إلى حال هلاك السلعة; لأنه غير معقول المعنى إذ البائع لا ينكر شيئا فيقتصر على مورد النص وهو تحالف المتعاقدين حال قيام السلعة وما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتعاقدان تحالفا وترادا" 1 فهو أيضا يفيد التقييد بقيام السلعة; لأنه إن أريد رد المأخوذ فظاهر وإن أريد رد العقد فكذلك إذ الفسخ لا يرد إلا على ما ورد عليه العقد. فإن قلت قد سبق أن من شرط التعدية أن لا يكون الحكم ثابتا بالقياس من غير فرق بين الجلي والخفي فكيف يصح تعدية المستحسن بالقياس الخفي؟. قلت المعدى بالحقيقة هو حكم أصل الاستحسان كوجوب اليمين على المنكر في سائر التصرفات إلا أن صورة التحالف وجريان اليمين من الجانبين لما كانت حكم الاستحسان الذي هو القياس الخفي أضيفت التعدية إليه إذ لا يوجد في الأصل الذي هو سائر التصرفات يمين المنكر بهذه الكيفية, وهو أن يتوجه على المتنازعين في قضية واحدة.
قوله: "والاستحسان ليس من تخصيص العلة" هو ما توهمه البعض من أن القياس ثابت في صورة الاستحسان وفي سائر الصور, وقد ترك العمل به في صورة الاستحسان لمانع وعمل به في غيرها لعدم المانع فيكون باطلا لما سيأتي من إبطال تخصيص العلة وإنما قلنا إنه ليس من
ـــــــ
1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 16. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 19.(2/179)
والثاني: منع معنى العلة في صورة النقض ولأجله لا يسن في المسح التثليث؛ لأنه لتوكيد التطهير المعقود فلا يفيد في المسح كما في التيمم ويفيد في الاستنجاء.
والثالث: قالوا هو الدفع بالحكم وذكروا له أمثلة خروج النجاسة علة للانتقاض وملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب وحل الإتلاف لإحياء المهجة لا ينافي
ـــــــ
والثاني منع معنى العلة في صورة النقض" أي المعنى الذي صارت العلة علة لأجله وهو بالنسبة إلى العلة كالثابت بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص "نحو: مسح الرأس مسح فلا يسن فيه التثليث كمسح الخف فنوقض بالاستنجاء فيمنع في الاستنجاء المعنى الذي في المسح وهو أنه تطهير حكمي غير معقول ولأجله" أي لأجل أنه تطهير حكمي غير معقول "لا يسن في المسح التثليث; لأنه لتوكيد التطهير المعقود فلا يفيد" أي التثليث "في المسح كما في التيمم ويفيد في الاستنجاء.
والثالث قالوا هو الدفع بالحكم" وهو أن يمنع تلف الحكم عن العلة في صورة النقض "وذكروا له أمثلة خروج النجاسة علة للانتقاض وملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب وحل الإتلاف لإحياء المهجة لا ينافي عصمة المال كما في المخمصة فيضمن الجمل الصائل فنوقض بالمستحاضة والمدبر ومال الباغي فأجابوا في الأولين بالمانع لكن هذا تخصيص العلة ونحن لا نقول به وفي الثالث بأنا لا نسلم حل الإتلاف ينافي العصمة في مال الباغي بل إنما انتفت بالبغي" أورد الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى للدفع بالحكم ثلاثة أمثلة: أحدها خروج النجاسة علة للانتقاض فنوقض بالمستحاضة أن خروج النجاسة موجود فيها بدون الانتقاض, وثانيها أن ملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب فنوقض بالمدبر فأجاب فخر الإسلام رحمه الله تعالى في الصورتين بأنه إنما تخلف الحكم في الصورتين
................................................................................................
تخصيص العلة; لأن انعدام الحكم في صورة الاستحسان إنما هو لانعدام العلة مثلا موجب نجاسة سؤر سباع الوحش هو الرطوبة النجسة في الآلة الشاربة ولم يوجد ذلك في سباع الطير فانتفى الحكم لذلك وهذا معنى ترك القياس الجلي الضعيف الأثر بدليل قوي هو قياس خفي قوي الأثر فلا يكون من تخصيص العلة في شيء.
قوله: "فصل في دفع العلل المؤثرة" أي الاعتراضات التي تورد عليها وفي دفع تلك الاعتراضات أي الجواب عنها, والمذكور هاهنا ستة وهي النقض وفساد الوضع وعدم الانعكاس والفرق والممانعة والمعارضة والجمهور على أن المناقضة اعتراض صحيح على كل تعليل فلا بد من دفعه ويذكر فيه أربعة طرق: الأول الدفع بالوصف وهو منع وجود العلة في صورة النقض والثاني الدفع بمعنى الوصف وهو منع وجود المعنى الذي صارت العلة علة لأجله والثالث الدفع بالحكم وهو منع تخلف الحكم عن العلة في صورة النقض والرابع الدفع بالغرض وهو أن يقول الغرض التسوية بين الأصل والفرع فكما أن العلة موجودة في الصورتين فكذا الحكم وكما أن(2/180)
عصمة المال كما في المخمصة فيضمن الجمل الصائل فنوقض بالمستحاضة والمدبر ومال الباغي فأجابوا في الأولين بالمانع لكن هذا تخصيص العلة ونحن لا نقول به
ـــــــ
بالمانع فأقول هذا الجواب ليس دفعا بالحكم بل هو تخصيص العلة ونحن لا نقول به وثالثها أن حل الإتلاف لإحياء المهجة لا ينافي العصمة كما في المخمصة فإنه إن أكل مال الغير في المخمصة لإحياء المهجة يجب الضمان فيضمن الجمل الصائل فنوقض بمال الباغي أن العادل إذا أتلف مال الباغي حال القتال لإحياء المهجة لا يجب الضمان فعلم أن حل الإتلاف لإحياء المهجة ينافي العصمة فأجاب بأنا لا نسلم أن حل الإتلاف ينافي العصمة في مال الباغي فإن عصمة مال الباغي لم تنتف بحل الإتلاف بل بالبغي فأقول الظاهر أن الحكم المدعى في الجمل الصائل وجوب الضمان وبقاء العصمة فحينئذ لا تكون هذه الصورة نظيرا للدفع بالحكم بل حاصل هذا المثال أن المعلل ادعى حكما أصليا وهو العصمة مثلا فإن الأصل في أموال المسلمين العصمة وهي لا ترتفع إلا بعارض وليس في المتنازع فيه وهو الجمل الصائل إلا عارض واحد وهو حل الإتلاف وقد ثبت بالقياس على المخمصة أن حل الإتلاف لا يصلح رافعا للعصمة فتبقى العصمة في الجمل الصائل فيجب الضمان فنوقض بمال الباغي أن حل الإتلاف رافع للعصمة في مال الباغي فأجاب بأن رافع العصمة في مال الباغي ليس حل الإتلاف بل الرافع هو البغي فهذا لا يكون دفعا بالحكم بل بيان أن علة الحكم وهو ارتفاع العصمة في صورة النقض شيء آخر هذا معنى قوله:
................................................................................................
ظهور الحكم قد يتأخر في الفرع فكذا في الأصل فالتسوية حاصلة بكل حال.
قوله: "فنوقض بالقليل" يعني لو كان النجس الخارج من بدن الإنسان حدثا لكان القليل الذي لم يسل من رأس الجرح حدثا وليس كذلك فيجاب بأنا لا نسلم أنه خارج فإن الخروج هو الانتقال من مكان باطن إلى مكان ظاهر ولم يوجد ذلك عند عدم السيلان بل ظهرت النجاسة لزوال الجلدة الساترة لها بخلاف السبيلين فإنه لا يتصور ظهور القليل إلا بالخروج.
قوله: "هو" أي المعنى الذي صارت العلة علة لأجله بالنسبة إلى العلة كالثابت بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص بمعنى أن الوصف بواسطة معناه اللغوي يدل على معنى آخر هو مؤثر في الحكم فإن كون المسح تطهيرا حكميا غير معقول المعنى ثابت باسم المسح لغة; لأنه الإصابة وهي تنبئ عن التخفيف دون التطهير الحقيقي فلا يسن فيه التثليث; لأنه إنما شرع لتوكيد تطهير معقول كالغسل فلا يفيد في المسح ويفيد في الاستنجاء; لأن التطهير فيه معقول إذ هو إزالة عين النجاسة ولهذا كان الغسل فيه أفضل وفي التثليث توكيد لذلك ومبنى هذا الكلام على أن يكون المراد بعدم سنية التثليث كراهيته ليكون حكما شرعيا فيعلل.
قوله: "فأجاب في الأولين بالمانع" وهو في المستحاضة العذر ودفع الحرج وفي المدبر النظر له وعدم قابليته للمملوكية بقي أن خروج دم الاستحاضة حدث إلا أنه تأخر حكمه إلى ما بعد(2/181)
وفي الثالث بأنا لا نسلم حل الإتلاف ينافي العصمة في مال الباغي بل إنما انتفت بالبغي.
والضابط المنتزع من هذه الصورة أن المعلل إذا ادعى حكما أصليا لا يرتفع إلا بعارض كالعصمة هنا وليس في المتنازع فيه إلا عارض واحد وهو حل الإتلاف وأثبت بالقياس أن هذا العارض لا يرفعه كما في المخمصة فنوقض بصورة كمال الباغي مثلا
ـــــــ
"والضابط المنتزع من هذه الصورة أن المعلل إذا ادعى حكما أصليا لا يرتفع إلا بعارض كالعصمة هنا وليس في المتنازع فيه إلا عارض واحد وهو حل الإتلاف وأثبت بالقياس أن هذا العارض لا يرفعه كما في المخمصة فنوقض بصورة كمال الباغي مثلا فأجاب بأن الرافع شيء آخر فهذا بيان أن علة الحكم في صورة النقض شيء آخر" ويمكن أن يتكلف في أن تصير هذه المسألة نظيرا للدفع بالحكم ووجهه أن يراد بالحكم عند منافاة حل الإتلاف العصمة, وهذا الحكم ثابت في الجمل الصائل قياسا على المخمصة فنوقض بمال الباغي أن حل الإتلاف ثابت فيه وعدم منافاته العصمة غير ثابت; لأن الثابت فيه منافاة حل الإتلاف العصمة فأجاب بأن منافاة حل الإتلاف العصمة غير ثابتة فيه; لأن العصمة لم تنتف في مال الباغي بحل الإتلاف بل إنما انتفت للبغي هذا غاية التكلف ومع هذا لا يوجد النقض في هذه الصورة; لأن النقض وجود العلة مع تخلف الحكم, وحل الإتلاف لإحياء المهجة ليس علة لعدم منافاته العصمة لثبوت حل الإتلاف في مال الباغي مع المنافاة فلا يكون نقضا فلأجل هذه الفسادات في الأمثلة الثلاثة أورد مثلا آخر في المتن فقال "وأنا أورد للدفع بالحكم مثالا وهو القيام إلى الصلاة مع خروج النجاسة علة لوجوب الوضوء
................................................................................................
خروج الوقت ولهذا يلزمها الطهارة لصلاة أخرى بعد خروج الوقت بأنه بذلك الحدث إذا خرج الوقت ليس بحدث إجماعا, وكذا ملك بدل المغصوب سبب لملك المغصوب أعني المدبر كما في البيع حتى لو جمع في البيع بين قن ومدبر صح في القن بحصته من الثمن بخلاف الجمع بين قن وحر إلا أنه لم يثبت في المدبر للمانع أورد فخر الإسلام رحمه الله تعالى هذين المثالين على هذا الوجه اقتداء بصاحب التقويم وقال في شرحه إن هذا الوجه لا يسلم عن القول بتخصيص العلة.
قوله: "والضابط" حاصل هذا التقرير أن الحكم المدعى وجوب الضمان والعلة حل الإتلاف والأصل صورة المخمصة والفرع صورة الجمل الصائل والنقض هو مال الباغي وظاهر أنه لا جهة لمنع انتفاء الحكم فيه إذ لا نزاع في عدم وجوب الضمان فيه فلا تكون هذه الصورة نظيرا للدفع بالحكم وأيضا حل الإتلاف لا يلائم وجوب الضمان فضلا عن التأثير وحاصل التقرير الثاني وهو أن يجعل نظيرا لدفع الحكم أن الحكم هو عدم منافاة حل الإتلاف لبقاء العصمة بمعنى أنه لا تسقط عصمة الجمل الصائل بإباحة قتله لإبقاء روح المصول عليه كما في المخمصة, والعلة حل الإتلاف فنوقض بمال الباغي حيث وجدت العلة وهي حل الإتلاف مع عدم الحكم الذي هو عدم المنافاة(2/182)
فأجاب بأن الرافع شيء آخر فهذا بيان أن علة الحكم في صورة النقض شيء آخر فهذا بيان أن علة الحكم في صورة النقض شيء آخر وأنا أورد للدفع بالحكم مثالا وهو القيام إلى الصلاة مع خروج النجاسة علة لوجوب الوضوء فيجب في غير السبيلين فنوقض بالتيمم فيمنع عدم وجوب الوضوء فيه بل الوضوء واجب لكن التيمم خلف عنه.
ثم اعلم أنه إن تيسر الدفع بهذه الطرق فيها وإلا فإن لم يوجد في صورة النقض
ـــــــ
فيجب في غير السبيلين فنوقض بالتيمم" أي في صورة عدم القدرة على الماء يوجد القيام إلى الصلاة مع خروج النجاسة ومع ذلك لا يوجب الوضوء "فيمنع عدم وجوب الوضوء فيه بل الوضوء واجب لكن التيمم خلف عنه" معناه أنا لا نسلم عدم وجوب الوضوء في صور عدم الماء بل الوضوء واجب لكن التيمم خلف عنه الرابع: الدفع بالغرض نحو: خارج نجس فيكون ناقضا فنوقض بالاستحاضة فنقول الغرض التسوية بين السبيلين وغيرهما فإنه حدث ثمة لكن إذا استمر يصير عفوا فكذلك هنا.
"ثم اعلم أنه إن تيسر الدفع" أي دفع النقض "بهذه الطرق فيها وإلا فإن لم يوجد في صورة النقض مانع فقد بطلت العلة وإن وجد المانع فلا لكن بعض أصحابنا يقولون العلة توجب هذا لكن تخلف الحكم لمانع فهذا تخصيص العلة ونحن لا نقول به بل نقول إنما عدم الحكم لعدم ما هو والعلة حقيقة فنجعل عدم المانع جزءا للعلة أو شرطا لها لهم في جواز
................................................................................................
ضرورة تحقق المنافاة إذ قد سقطت العصمة ولم يجب الضمان على المتلف فأجاب بمنع انتفاء الحكم في صورة النقض أي لا نسلم تحقق منافاة حل الإتلاف لبقاء العصمة في مال الباغي بل عدم المنافاة متحقق إلا أن العصمة انتفت بالبغي وعدم المنافاة بين الشيئين لا يوجب التلازم بينهما حتى يمتنع مع وجود أحدهما انتفاء الآخر بسبب من الأسباب, واعترض المصنف رحمه الله تعالى بأن حل الإتلاف ليس علة لعدم المنافاة حتى يكون تحققه في مال الباغي مع المنافاة نقضا وذلك; لأنه لا يلائم عدم المنافاة وعدم سقوط العصمة فضلا عن تأثيره فيه والجواب أن التمثيل إنما هو على تقدير أن يجعل حل الإتلاف علة مؤثرة ويكفي في التمثيل الفرض والتقدير.
قوله: "فإنه" أي الخارج النجس حدث في السبيلين لكن إذا استمر الخارج كما في الاستحاضة وسلس البول صار عفوا وسقط حكم الحدث في تلك الحالة ضرورة توجه الخطاب بأداء الصلاة فكذا هاهنا أي في غير السبيلين يكون حدثا ويصير عند الاستمرار عفوا كما في الرعاف الدائم وهذا راجع إلى منع انتفاء الحكم وذلك; لأن الناقض يدعي أمرين ثبوت العلة وانتفاء الحكم فلا يصح دفعه إلا بمنع أحدهما.
قوله: "ثم اعلم" ذهب بعضهم إلى أن النقض غير مسموع على العلل المؤثرة; لأن التأثير لا يثبت إلا بنص أو إجماع فلا تتصور المناقضة فيه وجوابه أن ثبوت التأثير قد يكون ظنيا فيصح(2/183)
مانع فقد بطلت العلة وإن وجد المانع فلا لكن بعض أصحابنا يقولون العلة توجب هذا لكن تخلف الحكم لمانع فهذا تخصيص العلة ونحن لا نقول به بل نقول إنما عدم الحكم لعدم ما هو والعلة حقيقة فنجعل عدم المانع جزءا للعلة أو شرطا لها لهم في جواز تخصيص القياس على الأدلة اللفظية والثابت بالاستحسان مانع من انعقاد العلة
ـــــــ
تخصيص القياس على الأدلة اللفظية والثابت بالاستحسان" عطف على قوله القياس على الأدلة اللفظية" فإنه مخصوص عن القياس ولأن التخلف قد يكون لفساد العلة وقد يكون لمانع كما في العلل العقلية وذكروا أن جملة ما يوجب عدم الحكم خمسة المسطور في كتبنا أنه ذكر القائلون بتخصيص العلة أن الموانع خمسة لكني عدلت عن هذه العبارة لما سيأتي "مانع من انعقاد العلة كانقطاع الوتر في الرمي وكبيع الحر أو من تمامها كما إذا حال شيء فلم يصب السهم وكبيع ما لا يملكه أو من ابتداء الحكم كما إذا أصاب السهم فدفعه الدرع وكخيار الشرط أو من تمامه كما إذا اندمل بعد إخراج السهم والمداواة وكخيار الرؤية أو من لزومه كما إذا خرج وامتد حتى صار طبعا له وأمن وكخيار العيب فالتخصيص ليس في الأولين بل في الثلاث الأخر"; لأن التخصيص أن توجد العلة ويتخلف الحكم لمانع فالمانع ما يمنع الحكم بعد وجود العلة ففي الأوليين من الصور الخمس ليس كذلك; لأن العلة لم
................................................................................................
الاعتراض بالنقض وحينئذ إن اندفع بأحد الطرق المذكورة فقد تم التعليل وإلا فإما أن يوجد في صورة النقض مانع من ثبوت الحكم أو لا فإن لم يوجد فقد بطل التعليل لامتناع تخلف الحكم عن الدليل من غير مانع وإن وجد مانع لم يبطل التعليل إما قولا بتخصيص العلة كما ذهب إليه الأكثرون وذلك بأن توصف العلة بالعموم باعتبار تعدد المحال ثم يخرج بعض المحال عن تأثير العلة فيه ويبقى التأثير مقتصرا على المحال الآخر, وإما قولا بأن عدم المانع جزء للعلة أو شرط لها فيكون انتفاء الحكم في صورة النقض مبنيا على انتفاء العلة بانتفاء جزئها أو شرطها وإلى هذا ذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى وتبعه المصنف رحمه الله تعالى تحاشيا عن القول بتخصيص العلة فعدم المانع عندهم شرط لعلية الوصف وعند الأكثرين لظهور الأثر عن العلة فانتفاء الحكم في صورة النقض عندهم يكون مستندا إلى عدم العلة وعند الأكثرين إلى وجود المانع وهذا نزاع قليل الجدوى.
احتج القائلون بتخصيص العلة بوجوه: الأول القياس على أن الأدلة اللفظية فكما أن التخصيص لا يقدح في كون العام حجة كذلك النقض لا يقدح في كون الوصف علة والجامع كونهما من الأدلة الشرعية أو جمع الدليلين المتعارضين وسره أن نسبة العام إلى أفراده كنسبة العلة إلى موارده والنقض لمانع معارض للعلة يشبه التخصيص بمخصص مانع عن ثبوت الحكم في البعض. الثاني أن العلة في القياس الجلي شاملة لصورة الاستحسان, وقد انعدم الحكم فيها لمانع هو دليل الاستحسان, ولا نعني بتخصيص العلة إلا هذا الثالث أن تخلف الحكم عن العلة يحتمل أن يكون لفساد في العلة ويحتمل أن يكون لمانع من ثبوت الحكم والمعلل قد بين أنه لمانع فيجب(2/184)
كانقطاع الوتر في الرمي وكبيع الحر أو من تمامها كما إذا حال شيء فلم يصب السهم وكبيع ما لا يملكه أو من ابتداء الحكم كما إذا أصاب السهم فدفعه الدرع وكخيار الشرط أو من تمامه كما إذا اندمل بعد إخراج السهم والمداواة وكخيار الرؤية أو من لزومه كما إذا خرج وامتد حتى صار طبعا له وأمن وكخيار العيب فالتخصيص ليس في الأولين بل في الثلاث الأخر.
ـــــــ
توجد فيهما وفي الثلاث الأخر العلة موجودة والحكم متخلف لمانع فتخصيص العلة مقصور على الثلاث الأخر فلهذا لم يقل في المتن إن الموانع خمسة بل قال ما يوجب عدم الحكم خمسة, والفرق بين الخيارات أن في خيار الشرط قد وجد السبب وهو البيع والخيار داخل على الحكم وهو الملك على ما عرف في فصل مفهوم المخالفة أن الخيار يثبت بالضرورة فدخوله على الحكم أسهل من دخوله على السبب; لأن دخوله على السبب يوجب الدخول على المسبب والحكم فإذا كان داخلا على الحكم لم يكن الملك ثابتا, وأما خيار الرؤية فإن البيع صدر مطلقا من غير شرط فأوجب الحكم وهو الملك لكن الملك لم يتم لعدم الرضا بالحكم عند عدم الرؤية وأما خيار العيب فإنه حصل السبب والحكم بتمامه لتمام الرضا بالحكم; لأنه قد وجد الرؤية لكن على تقدير العيب يتضرر المشتري فقلنا بعدم اللزوم على تقدير العيب فلا خيار العيب يتمكن المشتري من رد البعض; لأنه تفريق الصفقة وهو بعد التمام جائز وفي خيار الرؤية لا يتمكن; لأنه تفريق قبل التمام وذا لا يجوز
................................................................................................
قبوله; لأنه بيان أحد المحتملين وهذا بمنزلة العلل العقلية فإن الحكم قد يختلف عنها لمانع كالإحراق بالنار عن الخشب الملطخ بالطلق المحلول.
قوله: "ذكر القائلون بتخصيص العلة" في هذا المقام أقسام المانع وهي ثلاثة لكنهم لما أخذوا في تعداد الموانع أوردوا فيها المانع من انعقاد العلة ومن تمامها وإن لم يكونا من قبيل المانع المعتبر في تخصيص العلة وهو ما يمنع الحكم بعد تحقق العلة والمصنف رحمه الله غير عبارتهم وعبر عن موانع الحكم بموجبات عدم الحكم ليشمل المانع عن الحكم وعن العلة انعقادا أو تماما, والعمدة في أقسام المانع هو الاستقراء والمذكور في التقويم أربعة; لأنه إن كان بحيث لا يحدث معه شيء من الأجزاء فهو المانع من الابتداء أو الانعقاد وإلا فهو المانع من التمام وكل منهما في العلة أو الحكم وزاد بعضهم قسما خامسا نظرا إلى أن للحكم ابتداء وتماما ودواما, ولا عبرة بالدوام في العلة بل التمام كاف كخروج النجاسة للحدث ثم المقصود هو العلة والحكم الشرعيان, وقد أضافوا إليها الحسيين لزيادة التوضيح وفي كون امتداد الجرح وصيرورته بمنزلة الطبع مانعا من لزوم الحكم نظرا; لأنه إن أريد بالحكم القتل وهو غير ثابت وإن أريد الجرح فهو لازم على تقدير صيرورته بمنزلة الطبع, وقد يجاب بأن الحكم هو الجرح على وجه يفضي إلى القتل لعدم مقاومة المرمى فالاندمال مانع من تمام الحكم لحصول المقاومة, وأما بقاء الجرح وكون المجروح(2/185)
ولنا أن التخصيص في الألفاظ مجاز فيخص بها، وترك القياس بدليل أقوى لا يكون تخصيصا؛ لأنه ليس بعلة حينئذ ولأن العلة في القياس ما يلزم من وجوده وجود الحكم لإجماع العلماء على وجوب التعدية إذا علم وجود العلة في الفرع من غير تقييدهم بعدم المانع مع أن هذا التقييد واجب فعلم أن عدم المانع حاصل عند وجود العلة فهو إما ركنها أو شرطها أي عدم المانع إما ركن العلة أو شرطها فإذا وجد المانع فقد عدم العلة ثم عدمها قد يكون
ـــــــ
ولنا أن التخصيص في الألفاظ مجاز فيخص بها, وترك القياس بدليل أقوى لا يكون تخصيصا; لأنه ليس بعلة حينئذ ولأن العلة في القياس ما يلزم من وجوده وجود الحكم لإجماع العلماء على وجوب التعدية إذا علم وجود العلة في الفرع من غير تقييدهم بعدم المانع مع أن هذا التقييد واجب فعلم أن عدم المانع حاصل عند وجود العلة فهو إما ركنها أو شرطها أي عدم المانع إما ركن العلة أو شرطها "فإذا وجد المانع فقد عدم العلة ثم عدمها قد يكون لزيادة وصف كما أن البيع المطلق علة للملك فإذا زيد الخيار فقد عدمت أو لنقصانه كالخارج النجس مع عدم الحرج علة للانتقاض, وهذا معدوم في المعذور ومنه فساد
................................................................................................
صاحب فراش فلا يمنعه لتحقق عدم المقاومة إلا أنه ما دام حيا يحتمل أن يزول عدم المقاومة بالاندمال ويحتمل أن يصير لازما بإفضائه إلى القتل فإذا صار طبعا فقد منع ذلك إفضاءه إلى القتل وكان مانعا لزوم الحكم ثم لا يخفى أنه تمثيل مبني على التسامح وإلا فالرمي علة للمضي والمضي للإصابة والإصابة للجراحة والجراحة لسيلان الدم وهو لزهوق الروح.
قوله: "ولنا أن التخصيص" أجاب عن الاحتجاج الأول بأن التخصيص من الأحكام التي لا يمكن تعديتها من الأصل أعني الأدلة اللفظية إلى الفرع أعني العلل; لأن التخصيص ملزوم للمجاز والمجاز من خواص اللفظ واختصاص اللازم بالشيء يوجب اختصاص الملزوم به وإلا لزم وجود الملزوم بدون اللازم وهو محال, وربما يعترض عليه بأنا لا نسلم أن التخصيص مطلقا ملزوم للمجاز بل التخصيص في الألفاظ كذلك ومعنى تعدية الحكم إثبات مثله في صورة الفرع فيثبت في العلل تخصيص ببعض الموارد كتخصيص الألفاظ ببعض الأفراد ويتصف اللفظ بالمجاز ضرورة استعماله في غير ما وضع له ويمتنع اتصاف العلة به إذ ليس من شأنها الاتصاف بالحقيقة والمجاز. وعن الاحتجاج الثاني بأن إثبات الحكم بطريق الاستحسان ترك للقياس بدليل أقوى منه وهو ليس من تخصيص العلة بمعنى انتفاء الحكم المانع من تحقق العلة لوجهين أحدهما أن القياس بل الوصف فيه ليس بعلة عند وجود المعارض الأقوى لما سبق من أن شرط القياس أن لا يعارضه دليل أقوى منه فانتفاء الحكم في صورة القياس مبني على عدم العلة لا على تحقق المانع مع وجود العلة وثانيهما أن العلة في القياس ما يلزم من وجوده وجود الحكم بدليل الإجماع على وجوب تعدية الحكم إلى كل صورة توجد فيها العلة من غير تقييد بعدم المانع فكل ما لا يلزم من وجوده وجود الحكم بل يتخلف عنه ولو لمانع يكون علة, ولما كان هذا الوجه صالحا; لأن يجعل دليلا مستقلا على بطلان تخصيص العلة أشار إليه بقوله مع أن هذا التقييد واجب إلى آخره.(2/186)
لزيادة وصف كما أن البيع المطلق علة للملك فإذا زيد الخيار فقد عدمت أو لنقصانه كالخارج النجس مع عدم الحرج علة للانتقاض، وهذا معدوم في المعذور ومنه فساد الوضع وهو أن يترتب على العلة نقيض ما تقتضيه، ولا شك أن ما ثبت تأثيره شرعا لا يمكن فيه فساد الوضع وما ثبت فساد وضعه على عدم تأثيره شرعا وسيأتي مثاله ومنه عدم العلة مع وجود الحكم وهذا لا يقدح لاحتمال وجوده بعلة أخرى ومنه الفرق قالوا هو فاسد؛ لأنه غصب منصب المعلل وهذا نزاع جدلي ولأنه إذا ثبت علية
ـــــــ
الوضع وهو أن يترتب على العلة نقيض ما تقتضيه, ولا شك أن ما ثبت تأثيره شرعا لا يمكن فيه فساد الوضع وما ثبت فساد وضعه على عدم تأثيره شرعا وسيأتي مثاله ومنه عدم العلة مع وجود الحكم وهذا لا يقدح لاحتمال وجوده بعلة أخرى ومنه الفرق قالوا هو فاسد; لأنه غصب منصب المعلل وهذا نزاع جدلي ولأنه إذا ثبت علية المشترك لا يضره الفارق لكن إذا أثبت في الفرع مانعا يضره وكل كلام صحيح في الأصل إذا أورد على سبيل الفرق لا يقبل فينبغي أن يورد على سبيل الممانعة حتى يقبل كقول الشافعي رحمه الله تعالى إعتاق الراهن تصرف يبطل حق المرتهن" هذا تعليم ينفع في المناظرات وهو أن كل كلام يكون في نفسه صحيحا أي يكون في الحقيقة منعا للعلة المؤثرة فإنه إذا أورد على سبيل الفرق يمنع الجدلي توجيهه فيجب أن يورد على سبيل المنع لا على سبيل الفرق فلا يتمكن الجدلي من رده كقول الشافعي رحمه الله تعالى: إعتاق الراهن تصرف يبطل حق المرتهن, "فيرد كالبيع فإن
................................................................................................
وتقريره أنهم أجمعوا على وجوب التعدية عند العلم بوجود العلة من غير تعرض منهم للتقييد بعدم المانع مع أنه معلوم قطعا أن لا تعدية عند وجود المانع فعلم من تركهم التقييد أن المراد بالعلة ما يستجمع جميع ما يتوقف عليه التعدية أنه عدم مانع وغيره على أنه شطر للعلة أو شرط لها فعند وجود المانع تكون العلة معدومة لانعدام ركنها أو شرطها وهاهنا نظر وهو أن غلبة الظن تكفي في العلية سواء استلزمت الحكم أم لا, ولا نسلم الإجماع على وجوب التعدية مطلقا بل بشرائط وقيود كثيرة, ومنها عدم المانع وأيضا كثيرا ما يقع الإطلاق اعتمادا على العلم بالتقييد كما في قولهم العمل بالعموم واجب والمراد عند عدم المخصص.
قوله: "ثم عدمها" أي عدم العلة قد يكون لزيادة وصف على ما جعل علة بأن تكون عليته مشروطة بعدم ذلك الوصف فينتفي بوجوده كالبيع المطلق أي غير المقيد بشرط علة للملك فإذا زيد عليه الخيار لم يبق مطلقا فلم يكن علة والمراد بالمطلق هاهنا ما يقابل المقيد بالشرط ونحوه لا المشروط بالإطلاق فإنه لا وجود له أصلا, ولا المعنى الكلي الذي لا يوجد إلا في ضمن الجزئيات فإنه صادق على البيع بالخيار, وقد يكون بنقصان وصف هو من جملة أركان العلة أو شرائطها فينتفي الكل بانتفاء جزئه أو شرطه كالخارج النجس فإنه مع عدم الحرج علة لانتقاض الوضوء فعند وجود الحرج لا يكون علة كما في المستحاضة.(2/187)
المشترك لا يضره الفارق لكن إذا أثبت في الفرع مانعا يضره وكل كلام صحيح في الأصل إذا أورد على سبيل الفرق لا يقبل فينبغي أن يورد على سبيل الممانعة حتى يقبل كقول الشافعي رحمه الله تعالى إعتاق الراهن تصرف يبطل حق المرتهن فيرد كالبيع فإن قلنا بينهما فرق فإن البيع يحتمل الفسخ لا العتق يمنع توجيه هذا الكلام فينبغي أن نورده على هذا الوجه وهو أن حكم الأصل إن كان هو البطلان فلا نسلم وإن كان التوقف ففي الفرع إن ادعيتم البطلان لا يكون الحكمان متماثلين وإن
ـــــــ
قلنا بينهما فرق فإن البيع يحتمل الفسخ لا العتق يمنع توجيه هذا الكلام فينبغي أن نورده على هذا الوجه وهو أن حكم الأصل إن كان هو البطلان فلا نسلم" الأصل هنا بيع الراهن فإن أراد أن الحكم فيه البطلان فهذا ممنوع; لأن الحكم عندنا في بيع الراهن التوقف.
"وإن كان التوقف" أي إن كان حكم الأصل التوقف "ففي الفرع إن ادعيتم البطلان لا يكون الحكمان متماثلين وإن ادعيتم التوقف لا يمكن; لأن العتق لا يحتمل الفسخ وكقوله في العمد: قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالخطأ فنقول ليس كالخطأ إذ لا قدرة فيه على المثل" أي في الخطأ على المثل; لأن المثل جزاء كامل فلا يجب مع قصور الجناية وهو
................................................................................................
قوله: "ومنه" أي ومن دفع العلل المؤثرة فساد الوضع كما يقال التيمم مسح فيسن فيه التثليث كالاستنجاء فيعترض بأنه قد ثبت اعتبار المسح في كراهة التكرار كالمسح على الخف وهذا إنما يسمع قبل ثبوت تأثير العلة وإلا فيمتنع من الشارع اعتبار الوصف في الشيء ونقيضه.
قوله: "ومنه" أي ومن دفع العلل المؤثرة عدم الانعكاس وهو أن يوجد الحكم, ولا توجد العلة وهذا لا يقدح في العلية لجواز أن يثبت الحكم بعلل شتى كالملك بالبيع والهبة والإرث كما في العلل العقلية فإن نوع الحرارة يحصل بالنار والشمس والحركة نعم يمتنع توارد العلل المستقلة على معلول واحد بالشخص; لأنه يقتضي أن يكون كل منها محتاجا إليه من حيث إنه علة ومستغنى عنه من حيث إن الآخر علة مستقلة على أنه غير لازم في العلل الشرعية إذ ليس معنى تأثيرها الإيجاد, وقد صرحوا بأن المتوضئ إذا حصل منه البول والغائط والرعاف ونحو ذلك حصل حدثه بكل واحد من هذه الأسباب.
قوله: "ومنه الفرق" وهو أن يتبين في الأصل وصف له مدخل في العلية لا يوجد في الفرع فيكون حاصله منع علية الوصف وادعاء أن العلة هي الوصف مع شيء آخر وهو مقبول عند كثير من أهل النظر, والأكثرون على أنه يقبل لوجهين: أحدهما أنه غصب منصب المعلل إذ السائل جاهل مسترشد في موقف الإنكار فإذا ادعي عليه شيء آخر وقف موقف الدعوى, وهذا بخلاف المعارضة فإنها إنما تكون بعد تمام الدليل فالمعارض حينئذ لا يبقى سائلا بل يصير مدعيا ابتداء, ولا يخفى أنه نزاع جدلي يقصدون به عدم وقوع الخبط في البحث وإلا فهو غير نافع في إظهار الصواب. وثانيهما أن المعلل بعدما أثبت كون الوصف المشترك علة لزوم ثبوت الحكم في الفرع(2/188)
ادعيتم التوقف لا يمكن؛ لأن العتق لا يحتمل الفسخ وكقوله في العمد: قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالخطأ فنقول ليس كالخطأ إذ لا قدرة فيه على المثل فتوجيه هذا أن حكم الأصل شرع المال خلفا عن القود وفي الفرع مزاحمته إياه ومنه الممانعة فهي إما في نفس الحجة لاحتمال أن يكون متمسكا بما لا يصلح دليلا كالطرد
ـــــــ
الخطأ فإن أورد على هذا الوجه ربما لا يقبله الجدلي فنورده على سبيل الممانعة "فتوجيه هذا" أي توجيه هذا الكلام على سبيل الممانعة "أن حكم الأصل" وهو الخطأ "شرع المال خلفا عن القود وفي الفرع مزاحمته إياه" يعني أن المال شرع خلفا عن القود; لأن حكم الأصل وجوب القود لكن لم يجب لما قلنا فوجب خلفه وفي الفرع وهو العمد الحكم عند الشافعي رحمه الله تعالى مزاحمة المال القود فلا يكون الحكمان متماثلين. "ومنه الممانعة فهي إما في نفس الحجة لاحتمال أن يكون متمسكا بما لا يصلح دليلا كالطرد والتعليل بالعدم ولاحتمال أن لا تكون العلة هذا بل غيره كما ذكرنا في قتل الحر بالعبد وأما في وجودها في الأصل أو في الفرع كما مروا في شروط التعليل وأوصاف العلة ككونها مؤثرة" "ومنه المعارضة واعلم أن المعترض إما أن يبطل دليل المعلل ويسمى مناقضة أو يسلمه لكن يقيم الدليل على نفي مدلوله ويسمى معارضة وتجري في الحكم وفي علته والأولى تسمى
................................................................................................
ضرورة ثبوت العلة فيه سواء وجد الفارق أو لم يوجد; لأن غاية الأمر أن المعترض يثبت في الأصل علية وصف لا يوجد في الفرع وهذا لا ينافي علية الوصف المشترك الموجب للتعدية نعم لو أثبت الفارق على وجه يمنع ثبوت الحكم في الفرع كان قادحا إلا أنه لا يكون مجرد الفرق بل بيان عدم وجود العلة في الفرع بناء على أن العلة هي الوصف المفروض مع عدم المانع.
قوله: "لكن لم يجب" أي القود لما قلنا من أن قصور الجناية بالخطأ لا يوجب المثل الكامل فوجب المال خلفا عنه فإيجاب المال في العمد بأن يكون الوارث مخيرا بين القصاص وأخذ الدية لا يكون مماثلا له; لأنه بطريق المزاحمة دون الخلفية إذ الخلف لا يزاحم الأصل بل لا يثبت إلا عند تعذره. فالحاصل أن قضية القياس إثبات مثل حكم الأصل في الفرع وهو مفقود هاهنا; لأن الحكم في الأصل وهو الخطأ إيجاب خلفية المال عن القصاص وفي الفرع وهو العمد إيجاب مزاحمته له.
قوله: "ومنه الممانعة" وهي منع مقدمة الدليل إما مع السند أو بدونه والسند ما يكون المنع مبنيا عليه ولما كان القياس مبنيا على مقدمات هي كون الوصف علة ووجودها في الأصل وفي الفرع وتحقق شرائط التعليل بأن لا يغير حكم النص, ولا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس وتحقق أوصاف العلة من التأثير وغيره كان للمعترض أن يمنع كلا من ذلك بأن يقول لا نسلم أن ما ذكرت من الوصف علة أو صالح للعلية, وهذا ممانعة في نفس الحجة ولو سلم فلا نسلم وجودها في الأصل أو الفرع أو لا نسلم تحقق شرائط التعليل أو تحقق أوصاف العلة واختلف في قبول الممانعة في نفس الحجة فقيل القياس إلحاق فرع بأصل بجامع, وقد حصل فلا نكلف إثبات ما لم يدعه وأجيب بأنه لا بد في الجامع من ظن العلية وإلا لأدى إلى التمسك بكل طرد فيؤدي إلى(2/189)
والتعليل بالعدم ولاحتمال أن لا تكون العلة هذا بل غيره كما ذكرنا في قتل الحر بالعبد وأما في وجودها في الأصل أو في الفرع كما مروا في شروط التعليل وأوصاف العلة ككونها مؤثرة ومنه المعارضة واعلم أن المعترض إما أن يبطل دليل
ـــــــ
معارضة في الحكم والثانية في المقدمة" فقوله واعلم أن المعترض هذا تقسيم الاعتراض على المناقضة والمعارضة لا تقسيم المعارضة فإذا علل المعلل فللمعترض أن يمنع مقدمات دليله ويسمى هذا ممانعة فإذا ذكر لمنعه سندا يسمى مناقضة كما يقول ما ذكرت لا يصلح دليلا; لأنه طرد مجرد من غير تأثير إلى آخر ما عرفت في الممانعة وله أن يسلم دليله فيقول ما ذكرت من الدليل وإن دل على ما ذكرت من المدلول لكن عندي ما ينفي ذلك المدلول ويقيم دليلا على نفي مدلوله سواء كان المدلول هو الحكم أو مقدمة من مقدمات دليله, الأول يسمى معارضة في الحكم والثاني يسمى معارضة في المقدمة كما إذا أقام المعلل دليلا على أن العلة للحكم هي الوصف الفلاني فللمعترض أن لا ينقض دليله بل
................................................................................................
اللعب فيصير القياس ضائعا والمناظرة عبثا مثل أن يقال الخل مائع فيرفع الخبث كالماء ولهذا احتاج المصنف رحمه الله تعالى في جريان الممانعة في نفس الحجة إلى بيانه بقوله لاحتمال أن يكون متمسكا بما لا يصلح دليلا كالطرد وكالتعليل بالعدم ولاحتمال أن لا تكون العلة هي الوصف الذي ذكره وإن كان صالحا للعلية بل تكون العلة غيره كما قتل عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب فقيل لا نسلم أن العلة في الأصل أعني المكاتب كونه عبدا بل جهالة المستحق أنه السيد أو الوارث, وقد ذكر ذلك في مسألة الاختلاف في العلة.
واعلم أن الممانعة في نفس الحجة هي أساس المناظرة لعموم ورودها على القياس إذ قلما تكون العلة قطعية وعند إيرادها يرجع المعلل في التقصي عنها إلى مسالك العلة وهي كثيرة وعلى كل منها أبحاث فيطول القيل والقال ويكثر الجواب والسؤال ثم ينبغي أن يكون ذكر المانعة على وجه الإنكار وطلب الدليل لا على وجه الدعوى وإقامة الحجة, ولا يخفى أنه تصح الممانعة بعد ظهور تأثيرها لجواز أن يثبت بالنص أو الإجماع تأثير الوصف بمعنى اعتبار نوعه أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه وتكون علة الحكم غيره أو يكون مقتصرا على الأصل بخلاف فساد الوضع فإنه لا يصح بعد ظهور التأثير ولهذا جعل فخر الإسلام رحمه الله دفع العلل المؤثرة بالممانعة والمعارضة صحيحا وبالنقض وفساد الوضع فاسدا نعم قد يورد النقض وفساد الوضع على العلل المؤثرة فيحتاج إلى الجواب وبيان أنه ليس كذلك.
قوله: "واعلم أن المعترض" تنبيه على أن مرجع جميع الاعتراضات إلى المنع والمعارضة; لأن غرض المستدل الإلزام بإثبات مدعاه بدليل المعترض, عدم الالتزام بمنعه عن إثباته بدليله, والإثبات يكون بصحة مقدماته ليصلح للشهادة وبسلامته عن المعارض لتنفذ شهادته فيترتب عليه الحكم, والدفع يكون بهدم أحدهما فهدم شهادة الدليل يكون بالقدح في صحته بمنع مقدمة من(2/190)
المعلل ويسمى مناقضة أو يسلمه لكن يقيم الدليل على نفي مدلوله ويسمى معارضة وتجري في الحكم وفي علته والأولى تسمى معارضة في الحكم والثانية في المقدمة.
ـــــــ
يثبت بدليل آخر أن هذا الوصف ليس بعلة فهذا معارضة في المقدمة ثم شرع في تقسيم المعارضة في الحكم فقال
................................................................................................
مقدماته وطلب الدليل عليها, وهدم سلامته يكون بفساد شهادته في المعارضة بما يقابلها وبمنع ثبوت حكمها فما لا يكون من القبيلين لا يتعلق بمقصود الاعتراض فالنقض وفساد الوضع من قبيل المنع والقلب والعكس والقول بالموجب من قبيل المعارضة وما ذكره المصنف رحمه الله من تخصيص المناقضة بالمنع مع السند يبطل حصر الاعتراض في المناقضة والمعارضة لخروج المنع المجرد عنهما وعند أهل النظر: المناقضة عبارة عن منع مقدمة الدليل سواء كان مع السند أو بدونه وعند الأصوليين هي عبارة عن النقض ومرجعها إلى الممانعة; لأنها امتناع عن تسليم بعض المقدمات من غير تعيين وتخلف الحكم بمنزلة السند له فإن قيل ينبغي أن لا تكون المعارضة من أقسام الاعتراض; لأن مدلول الخصم قد ثبت بتمام دليله قلنا هي في المعنى نفي لتمام الدليل ونفاذ شهادته على المطلوب حيث قوبل بما يمنع ثبوت مدلوله ولما كان الشروع فيها بعد تمام دليل المستدل ظاهرا لم يكن غصبا; لأن السائل قد قام عن موقف الإنكار إلى موقف الاستدلال.
فالحاصل أن قدح المعترض إما أن يكون بحسب الظاهر والقصد في الدليل أو في المدلول والأول إما أن يكون بمنع شيء من مقدمات الدليل وهو الممانعة والممنوع إما مقدمة معينة مع ذكر السند أو بدونه ويسمى مناقضة, وإما مقدمة لا بعينها وهو النقد بمعنى أنه لو صح الدليل بجميع مقدماته لما تخلف الحكم عنه في شيء من الصور وإما أن يكون بإقامة الدليل على نفي مقدمة من مقدمات الدليل وذلك إما أن يكون بعد إقامة المعلل دليلا على إثباتها وهو المعارضة في المقدمة فيدخل في أقسام المعارضة, وإما أن يكون قبلها وهو الغصب الغير المسموع لاستلزامه الخيط في البحث بواسطة بعد كل من المعلل والسائل عما كانا فيه وضلالهما عما هو طريق التوجيه والمقصود بناء على انقلاب حالهما واضطراب مقالهما كل ساعة.
والثاني وهو القدح في المدلول من غير تعرض للدليل إما أن يكون بمنع المدلول وهو مكابرة لا يلتفت إليه وإما بإقامة الدليل على خلافه وهي المعارضة وتجري في الحكم بأن يقيم دليلا على نقيض الحكم المطلوب وفي علته بأن يقيم دليلا على نفي شيء من مقدمات دليله والأول يسمى معارضة في الحكم والثانية المعارضة في المقدمة وتكون بالنسبة إلى تمام الدليل مناقضة والمعارضة في الحكم إما أن تكون بدليل المعلل ولو بزيادة شيء عليه وهو معارضة فيها معنى المناقضة أما المعارضة فمن حيث إثبات نقيض الحكم, وأما المناقضة فمن حيث إبطال دليل المعلل إذ الدليل الصحيح لا يقوم على النقيضين.
فإن قلت: في المعارضة تسليم دليل الخصم وفي المناقضة إنكاره فكيف هذا من ذلك قلت يكفي في المعارضة التسليم من حيث الظاهر بأن لا يتعرض للإنكار قصدا فإن قلت ففي(2/191)
أما الأولى فإما بدليل المعلل وإن كان بزيادة شيء عليه وهي معارضة فيها مناقضة فإن دل على نقيض الحكم بعينه فقلب كقوله: صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كالقضاء فنقول صوم فرض فيستغنى عن التعيين بعد تعيينه
ـــــــ
"أما الأولى فإما بدليل المعلل وإن كان بزيادة شيء عليه وهي معارضة فيها مناقضة فإن دل على نقيض الحكم بعينه فقلب كقوله: صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كالقضاء فنقول صوم فرض فيستغنى عن التعيين بعد تعيينه كالقضاء لكن هنا التعيين قبل
................................................................................................
كل معارضة معنى المناقضة; لأن نفي الحكم وإبطاله يستلزم نفي دليله المستلزم له ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم. قلت عند تغاير الدليلين لا يلزم ذلك الاحتمال أن يكون الباطل دليل المعارض بخلاف ما إذا اتحد الدليل ثم دليل المعارض إن كان على نقيض الحكم بعينه فقلب وإن كان ما يستلزمه فعكس وإما أن يكون بدليل آخر وهي المناقضة الخالصة وإثباته لنقيض الحكم إما أن يكون بعينه أو بتغيير ما وكل منهما صريحا أو التزاما والمعارضة في المقدمة إن كانت بجعل علة المستدل معلولا والمعلول علة فمعارضة فيها معنى المناقضة وإلا فمعارضة خالصة وهي قد تكون لنفي علية ما أثبت المستدل عليته, وقد تكون لإثبات علية علة أخرى إما قاصرة وإما متعدية إلى مجمع عليه أو مختلف فيه وبعض هذه الأقسام مردود وأمثلتها مذكورة في الكتاب فإن قلت بعد ما ظهر تأثير العلة كيف يصح معارضتها خصوصا بطريق القلب الذي هو جعل العلة بعينها علة لنقيض الحكم بعينه قلت ربما يظن ظهور التأثير, ولا تأثير وربما يورد على المؤثر ما يظن أنه معارضة أو قلب وليس كذلك فالمنافاة إنما هي بين تأثير في نفس الأمر وتمام المعارضة على القطع, ولا قائل بذلك وهكذا حكم فساد الوضع فتخصيصه بأنه لا يمكن بعد ثبوت التأثير مما لا وجه له.
قوله: "وإن كان بزيادة شيء عليه" يعني زيادة تفيد تقريرا وتفسيرا لا تبديلا وتغييرا ليكون قلبا وهو مأخوذ من قلب الشيء ظهرا لبطن كقلب الجراب يسمى بذلك; لأن المعترض جعل العلة شاهدا له بعد ما كان شاهدا عليه أو عكسا وهو مأخوذ من عكست الشيء رددته إلى ورائه على طريقة الأول وقيل رد أول الشيء إلى آخره وآخره إلى أوله نظير العكس ما إذا قال الشافعي رحمه الله تعالى صلاة النفل عبادة لا يجب المضي فيها إذا فسدت فلا يلزم بالشروع كالوضوء فنقول لما كان المذكور وهو صلاة النفل مثل الوضوء وجب أن يستوي فيه النذر والشروع كما في الوضوء وذلك إما بشمول العدم أو بشمول الوجود والأول باطل; لأنها تجب بالنذر إجماعا فتعين الثاني وهو الوجوب بالنذر والشروع جميعا وهو نقيض حكم المعلل فالمعترض أثبت بدليل المعلل وجوب الاستواء الذي لزم منه وجوب صلاة النفل بالشروع وهو نقيض ما أثبته المعلل من عدم وجوبها بالشروع.
قوله: "اعلم أن كل عبادة" يعني ادعى المعلل أن كل عبادة تجب بالشروع يجب المضي فيها عند الفساد ويلزمها بحكم عكس النقيض أن كل عبادة لا يجب المضي في فاسدها لا تجب(2/192)
كالقضاء لكن هنا التعيين قبل الشروع وفي القضاء بالشروع وكقوله: مسح الرأس ركن فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول ركن فلا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة على الفرض في محله وهو الاستيعاب كغسل الوجه وإن دل على حكم آخر يلزم منه ذلك النقيض يسمى عكسا كقوله: في صلاة النفل عبادة لا تمضي في فاسدها فلا تلزم بالشروع كالوضوء فنقول لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه النذر والشروع كالوضوء.
والأول أقوى من هذا لأنه جاء بحكم آخر وبحكم مجمل وهو الاستواء ولأنه مختلف في الصورتين ففي الوضوء بطريق شمول العدم وفي الفرع بطريق شمول
ـــــــ
الشروع وفي القضاء بالشروع" أي تعيين الصوم في رمضان تعيين قبل الشروع بتعيين الله وفي القضاء إنما يتعين بالشروع بتعيين العبد "وكقوله: مسح الرأس ركن فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول ركن فلا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة على الفرض في محله وهو الاستيعاب كغسل الوجه وإن دل على حكم آخر يلزم منه ذلك النقيض يسمى عكسا كقوله: في صلاة النفل عبادة لا تمضي في فاسدها فلا تلزم بالشروع كالوضوء فنقول لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه النذر والشروع كالوضوء" اعلم أن كل عبادة تجب بالشرع لا بد أن يجب المضي فيها إذا فسدت كما في الحج فيلزم أن كل عبادة إذا فسدت لا يجب المضي فيها لا تجب بالشروع فنقول لو كان عدم وجوب المضي في الفاسد علة لعدم الوجوب بالشروع لكان علة لعدم الوجوب بالشروع والنذر كما في الوضوء فإنه لا يمضى في فاسده فلا يجب بالشروع والنذر فيلزم استواء النذر والشروع في هذا الحكم.
"والأول أقوى من هذا" أي القلب أقوى من العكس "لأنه جاء بحكم آخر وبحكم
................................................................................................
بالشروع وهذا يشعر بأن عدم وجوب المضي في الفاسد علة لعدم الوجوب بالشروع فاعترض السائل بأنه لو كان علة لعدم الوجوب بالشروع لكان علة لعدم الوجوب بالنذر كما في الوضوء لما ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أن الشروع مع النذر في الإيجاب بمنزلة توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر; لأن الناذر عهد أن يطيع الله تعالى فلزمه الوفاء لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}, وكذا الشارع عزم على الإيقاع فلزمه الإتمام صيانة لما أدى إلى البطلان المنهي عنه لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وإذا كان كذلك لزم استواء النذر والشروع في هذا الحكم أعني في عدم وجوب صلاة النفل بهما واللازم باطل لوجوبها بالنذر إجماعا, ولا يخفى أن هذا التقرير غير واف بالمقصود وهو كون الاعتراض من قبيل العكس إلا أن فيه تقريبا إلى أن هذه معارضة فيها معنى المناقضة لتضمنها إبطال علية الوصف لكن لا دليل على أن عدم وجوب المضي في الفاسد لو كان علة لعدم الوجوب بالشروع لكان علة لعدم الوجوب بالنذر.
قوله: "والأول" يعني أن القلب أقوى من العكس بوجوه الأول أن المعترض بالعكس جاء(2/193)
الوجود وإما بدليل آخر وهو معارضة خالصة وهو إما أن يثبت نقيض حكم المعلل بعينه أو بتغيير أو حكما يلزم منه ذلك النقيض كقوله: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل فنقول مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف، وهذا أقوى الوجوه وكقولنا في
ـــــــ
مجمل وهو الاستواء" أي المعترض جاء في العكس بحكم آخر وفي القلب جاء بنقيض حكم يدعيه المعلل فالقلب أقوى; لأنه في العكس اشتغل بما ليس هو بصدده وهو إثبات الحكم الآخر, وفي القلب لم يشغل بذلك, وأيضا جاء بحكم مجمل وهو الاستواء إذ الاستواء يكون
................................................................................................
بحكم آخر غير نقيض حكم المعلل وهو اشتغال بما لا يعنيه بخلاف المعترض بالقلب فإنه لم يجئ إلا بنقيض حكم المعلل الثاني أن العاكس جاء بحكم مجمل وهو الاستواء المحتمل لشمول الوجود وشمول العدم والقالب جاء بحكم مفسر هو نفي دعوى, المعلل الثالث أن من شرط القياس إثبات مثل حكم الأصل في الفرع ولم يراع هذا في العكس إلا من جهة الصورة واللفظ; لأن الاستواء في الأصل أعني الوضوء إنما هو بطريق شمول العدم أعني عدم الوجوب بالنذر, ولا بالشروع, وفي الفرع أعني صلاة النفل إنما هو بطريق شمول الوجود أعني الوجوب بالنذر والشروع جميعا فلا مماثلة هذا تقرير كلام المصنف رحمه الله تعالى وفيه بعض المخالفة لكلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى لما فيه من الاضطراب وذلك أنه قال المعارضة نوعان معارضة فيها مناقضة ومعارضة خالصة.
أما الأولى فالقلب ويقابله العكس والقلب نوعان أحدهما أن يجعل المعلول علة والعلة معلولا من قلبت الشيء جعلته منكوسا, وثانيهما أن تجعل الوصف شاهدا لك بعد ما كان شاهدا عليك من قلب الشيء ظهرا لبطن, وأما العكس فليس من باب المعارضة لكنه لما استعمل في مقابلة القلب ألحق بهذا الباب وهو نوعان أحدهما بمعنى رد الشيء على سننه الأول وهو ما يصلح لترجيح العلل لدلالته على أن الحكم زيادة تعلق بالعلة حيث ينتفي بانتفائها وذلك كقولنا ما يلزم بالنذر يلزم بالشروع كالحج, وعكسه الوضوء بمعنى أن ما لا يلزم بالنذر لا يلزم بالشروع وثانيهما بمعنى رد الشيء على خلاف سننه كما يقال هذه عبادة لا يمضى في فاسدها فلا تلزم بالشروع كالوضوء فيقال لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه عمل النذر والشروع كالوضوء وهذا نوع من القلب ضعيف لأنه لما جاء بحكم آخر ذهبت المناقضة; لأن المستدل لم ينف التسوية ليكون إثباتها دفعا لدعواه ولذلك لم يكن من هذا الباب في الحقيقة ولأن الاستواء حكم مجمل ولأنه حكم مختلف في المعنى بالنسبة إلى الفرع والأصل.
وأما الثانية أعني المعارضة الخالصة فخمسة أنواع اثنان في الفرع وثلاثة في الأصل وجعل أحد أنواع الخمسة المعارضة بزيادة هي تفسير للأول وتقرير له كما يقال المسح ركن فيسن تثليثه كالغسل فيقال ركن فلا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة على الفرض في محله وهو الاستيعاب كالغسل وهذا أحد وجهي القلب فأورده تارة في المعارضة التي فيها مناقضة نظرا إلى أن الزيادة تقرير فيكون من قبيل جعل دليل المستدل دليلا على نقيض مدعاه فيلزم إبطاله وتارة في المعارضة(2/194)
الصغيرة التي لا أب لها: صغيرة فتنكح كالتي لها أب فيقال صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة كالمال فلم ينف مطلق الولاية بل ولاية بعينها لكن إذا انتفت هي ينتفي سائرها بالإجماع.
وكالتي نعي إليها زوجها فنكحت وولدت ثم جاء الأول فهو أحق بالولد عندنا
ـــــــ
بطريقين والمعترض لم يبين أن المراد أيهما وإثبات الحكم المبين أقوى من إثبات الحكم المجمل وأيضا الاستواء الذي في الفرع غير الاستواء الذي هو في الأصل وهذا هو قوله "ولأنه مختلف في الصورتين ففي الوضوء بطريق شمول العدم وفي الفرع بطريق شمول الوجود وإما بدليل آخر" عطف على قوله: فأما بدليل المعلل "وهو معارضة خالصة وهو إما أن يثبت نقيض حكم المعلل بعينه أو بتغيير أو حكما يلزم منه ذلك النقيض كقوله: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل فنقول مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف, وهذا" أي الوجه الأول من الوجوه الثلاثة من المعارضة "أقوى الوجوه" فقوله المسح ركن نظير الوجه الأول من المعارضة "وكقولنا في الصغيرة التي لا أب لها: صغيرة فتنكح كالتي لها أب فيقال صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة كالمال فلم ينف مطلق الولاية بل ولاية بعينها لكن إذا انتفت هي ينتفي سائرها بالإجماع" أي لعدم القائل بالفصل فإن كل من ينفي الإجبار بولاية الإخوة ينفي الإجبار بولاية العمومة ونحوها فهذا نظير الوجه الثاني من المعارضة.
"وكالتي" نظير الوجه الثالث "نعي إليها زوجها فنكحت وولدت ثم جاء الأول فهو
................................................................................................
الخالصة نظرا إلى الظاهر وهو أنه مع تلك الزيادة ليس دليل المستدل بعينه وأيضا جعل أحد الأنواع الخمسة, القسم الثاني من قسمي العكس.
قوله: "وهذا أقوى الوجوه" لدلالته صريحا على ما هو المقصود بالمعارضة وهو إثبات نقيض حكم المعلل بعينه.
قوله: "وكقولنا في صغيرة" يعني مثال المعارضة الخالصة التي تثبت نقيض حكم المعلل بتغير ما, قولنا في إثبات ولاية تزويج الصغيرة التي لا أب لها, ولا جد لغيرهما من الأولياء صغيرة فيثبت عليها ولاية النكاح كالتي لها أب بعلة الصغر فيقول المعترض صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة كالمال فإنه لا ولاية للأخ على مال الصغيرة لقصور الشفقة فالعلة هي قصور الشفقة لا الصغر على ما يفهم من ظاهر العبارة وإلا لم يكن معارضة خالصة بل قلبا فالمعلل أثبت مطلق الولاية والمعارض لم ينفها بل نفى ولاية الأخ فوقع في نقيض الحكم تغيير هو التقييد بالأخ ولزم نفي حكم المعلل من جهة أن الأخ أقرب القرابات بعد الولادة فنفي ولايته يستلزم نفي ولاية العم ونحوه وبهذا الاعتبار يصير لهذا النوع من المعارضة وجه صحة.
قوله: "وهو" أي كون الأول صاحب فراش صحيح أولى بالاعتبار من كون الثاني حاضرا مع(2/195)
لأنه صاحب فراش صحيح فيقال الثاني صاحب فراش فاسد فيستحق النسب كمن تزوج بغير شهود فولدت فالمعارض وإن أثبت حكما آخر نحو: الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين والقراءة تكررت فرضا في الأوليين فكانت فرضا في الأخريين كالركوع والسجود فنقول المسلمون إنما يجلد بكرهم مائة؛ لأنه يرجم ثيبهم وإنما تكرر الركوع والسجود فرضا في الأوليين؛ لأنه يتكرر فرضا في الأخريين
ـــــــ
أحق بالولد عندنا; لأنه صاحب فراش صحيح فيقال الثاني صاحب فراش فاسد فيستحق النسب كمن تزوج بغير شهود فولدت فالمعارض وإن أثبت حكما آخر" وهو ثبوت النسب من الزوج الثاني لكن يلزم من ثبوته للثاني نفيه من الأول فإذا ثبت المعارضة فالسبيل الترجيح بأن الأول صاحب فراش صحيح وهو أولى بالاعتبار من كون الثاني حاضرا وأما الثانية فمنها ما فيه معنى المناقضة وهو أن تجعل العلة معلولا والمعلول علة وهي قلب أيضا وإنما يرد هذا إذا "كانت العلة حكما لا وصفا"; لأنه إذا كان وصفا لا يمكن جعله معلولا والحكم علة "نحو: الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين"; لأن جلد المائة غاية حد البكر والرجم غاية حد الثيب فإذا وجب في البكر غايته وجب في الثيب غايته أيضا فإن النعمة كلها كانت أكمل فالجناية عليها تكون أفحش فجزاؤها يكون أغلظ فإذا وجب في البكر المائة يجب في الثيب أكثر من ذلك وليس هذا إلا الرجم فإن الشرع ما أوجب فوق جلد المائة إلا الرجم "والقراءة تكررت فرضا في الأوليين فكانت فرضا في الأخريين كالركوع والسجود فنقول المسلمون إنما يجلد بكرهم مائة; لأنه يرجم ثيبهم" يعني لو جعل المعلل جلد البكر علة لرجم الثيب, فنقول: لا نسلم هذا بل رجم الثيب علة لجلد البكر وإنما تكرر الركوع والسجود فرضا في الأوليين; لأنه يتكرر فرضا في الأخريين والمخلص عن هذا أي التعليل بوجه لا يرد عليه هذا القلب "أن لا يذكر على سبيل التعليل
................................................................................................
فساد الفراش; لأن صحة الفراش توجب حقيقة النسب والفاسد شبهته وحقيقة الشيء أولى بالاعتبار من شبهته وربما يقال بل في الحضور حقيقة النسب; لأن الولد من مائه.
قوله: "وهي قلب أيضا" من إذا قلبت الإناء وجعلت أعلاه أسفله; لأن العلة أصل وهو أعلى والمعلول فرع وهو أسفل فتبديلهما بمنزلة جعل الكوز منكوسا لكن هذا إنما يكون معارضة إذا أقام المعترض دليلا على نفي علية ما ادعاه المعلل علة وإلا فهو ممانعة مع السند على ما صرح به عبارة المصنف رحمه الله تعالى نعم لو أثبت كون العلة معلولا لزم نفي عليته; لأن معلول الشيء لا يكون له علة وما يقال من أنه معارضة في الحكم من جهة أن السائل عارض تعليل المستدل بتعليل آخر لزم منه بطلان تعليله فلزم بطلان حكمه المرتب عليه ففيه نظر; لأن بطلان التعليل لا يدل على انتفاء الحكم لجواز أن يثبت بعلة أخرى.
قوله: "والمخلص" لا يريد بالمخلص الجواب عن هذا القلب ودفعه بل الاحتراز عن وروده(2/196)
والمخلص عن هذا أن لا يذكر على سبيل التعليل بل يستدل بوجود أحدهما على وجود الآخر إذا ثبت المساواة بينهما نحو: ما يلزم بالنذر يلزم بالشروع إذا صح كالحج فقالوا الحج إنما يلزم بالنذر؛ لأنه يلزم بالشروع فنقول الغرض الاستدلال من لزوم المنذور على لزوم ما شرع لثبوت التساوي بينهما بل الشروع أولى؛ لأنه لما وجب رعاية ما هو سبب القربة فلأن يجب رعاية ما هو القربة أولى ونحو الثيب الصغيرة
ـــــــ
بل يستدل بوجود أحدهما على وجود الآخر إذا ثبت المساواة بينهما نحو: ما يلزم بالنذر يلزم بالشروع إذا صح كالحج" فتجب الصلاة والصوم بالشروع تطوعا وفيه خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فقالوا الحج إنما يلزم بالنذر; لأنه يلزم بالشروع فنقول الغرض الاستدلال من لزوم المنذور على لزوم ما شرع لثبوت التساوي بينهما بل الشروع أولى; لأنه لما وجب رعاية ما هو سبب القربة وهو النذر "فلأن يجب رعاية ما هو القربة أولى ونحو الثيب الصغيرة يولى عليها في مالها فكذا في نفسها كالبكر الصغيرة" فيثبت إجبار الثيب الصغيرة على النكاح وفيه خلاف الشافعي رحمه الله تعالى "فقالوا إنما يولى على البكر في مالها; لأنه يولى في نفسها فنقول الولاية شرعت للحاجة, والنفس والمال والبكر والثيب فيها سواء" أي لا نقول إن الولاية في المال علة للولاية في النفس بل نقول كلتاهما شرعتا للحاجة فتكونان متساويين فإذا ثبتت إحداهما ثبتت الأخرى; لأن حكم المتساويين واحد
................................................................................................
وذلك بأن لا يورد الحكمين بطريق تعليل أحدهما بالآخر بل بطريق الاستدلال بثبوت أحدهما على ثبوت الآخر إذ لا امتناع في جعل المعلول دليلا على العلة بأن يفيد التصديق بثبوته كما يقال هذه الخشبة قد مستها النار; لأنها محترقة وهذا الشخص متعفن الأخلاط; لأنه محموم وهذا المخلص إنما يكون عند تساوي الحكمين بمعنى أن يكون ثبوت كل منهما مستلزما لثبوت الآخر ليصح الاستدلال كما في النذر والشروع وكالولاية في النفس والمال بخلاف الجلد والرجم وبخلاف القراءة في الأوليين والأخريين فإن قيل إن أريد بالمساواة من كل وجه فغير متصور كيف والمال مبتذل والنفس مكرمة وإن أريد المساواة من وجه فالفرق لا يضر أجيب بأن المراد المساواة في المعنى الذي بني الاستدلال عليه كالحاجة إلى التصرف في الولاية فإن قيل قد تحقق الحاجة إلى التصرف في المال كي لا تأكله الصدقة بخلاف النفس فإنها تتأخر إلى ما بعد البلوغ أجيب بأنه قد يكون بالعكس فيحتاج في النفس لعدم الكفء بعد ذلك, ولا يحتاج في المال لكثرته فتساويا.
قوله: "فإن كانت قاصرة لا يقبل" لما سبق من أن التعليل لا يكون إلا للتعدية وذلك كما إذا قلنا الحديد بالحديد موزون مقابل بالجنس فلا يجوز متفاضلا كالذهب والفضة فيعارض بأن العلة في الأصل هي الثمنية دون الوزن ويقبل عند الشافعي رحمه الله تعالى; لأن مقصود المعترض إبطال علية وصف المعلل فإذا بين علية وصف آخر احتمل أن يكون كل منهما مستقلا بالعلية فلا يقبل وأن يكون كل منهما جزء علة فلا يصح الجزم بالاستقلال حتى قالوا إن الوصف الذي ادعى المعترض عليته لو كانت متعدية لم يكن على المعترض إثباته في محل آخر وبهذا يندفع ما ذكره في(2/197)
يولى عليها في مالها فكذا في نفسها كالبكر الصغيرة فقالوا إنما يولى على البكر في مالها؛ لأنه يولى في نفسها فنقول الولاية شرعت للحاجة، والنفس والمال والبكر والثيب فيها سواء.
وهذه المساواة غير ثابتة في المسألتين الأوليين على ما ذكروا ومنها خالصة فإن أقام الدليل على نفي علية ما أثبته المعلل فمقبولة وإن أقام على علية شيء آخر فإن
ـــــــ
"وهذه المساواة غير ثابتة في المسألتين الأوليين على ما ذكروا" وهما مسألتا رجم الكفار والقراءة في الشفع الأخير فأراد أن يبين أنه يمكن لنا في مسألة الشروع في النفل وفي الثيب الصغيرة المخلص عن القلب ولو يمكن للشافعي رحمه الله تعالى هذا في مسألة الرجم والقراءة أما في مسألة الرجم فلأن الرجم والجلد ليسا بسواء في أنفسهما; لأن أحدهما قتل والآخر ضرب ولا في شروطهما حيث يشترط لأحدهما ما لا يشترط للآخر فلا يمكن الاستدلال بوجود أحدهما على وجود الآخر وأما في مسألة القراءة فلأن الشفع الأول والثاني ليسا بسواء في القراءة; لأن قراءة السورة ساقطة في الشفع الثاني وأيضا الجهر ساقط فيه فقوله على ما ذكروا إشارة إلى هذا ومنها خالصة فإن أقام الدليل على نفي علية ما أثبته
................................................................................................
بطلان المعارضة بإثبات علة متعدية إلى مجمع عليه من أنه يجوز أن يثبت الحكم بعلل شتى وذلك; لأن وصف المعلل حينئذ يحتمل أن يكون جزء علة وهذا كاف في غرض المعترض أعني القدح في علية وصف المعلل لا يقال الكلام فيما إذا ثبت علية الوصف وظهر تأثيره; لأنا نقول نعم ولكن لا قطعا بل ظنا وحينئذ يجوز أن يكون بيان علية وصف آخر موجبا لزوال الظن بعلية وصف المعلل استقلالا.
قوله: "وإن تعدى" أي الشيء الآخر الذي ادعى المعترض عليته إلى فرع مختلف فيه كما إذا قيل الجص مكيل قوبل بجنسه فيحرم متفاضلا كالحنطة فيعارض بأن العلة هي الطعم فيتعدى إلى الفواكه وما دون الكيل كبيع الحفنة بالحفنتين وجريان الربا فيهما مختلف فيه فمثل هذا يقبل عند أهل النظر; لأن المعلل والمعترض قد اتفقا على أن العلة إنما هي أحد الوصفين فقط إذ لو استقل كل بالعلية لما وقع نزاع في الفرع المختلف فيه فإثبات علية أحدهما توجب نفي علية الآخر وهذا بخلاف ما إذا تعدى إلى فرع مجمع عليه فإنه يجوز أن يلتزم المعلل عليه وصف المعترض أيضا; قولا بتعدد العلة كما إذا ادعى أن علة الربا هي الكيل والوزن ثم التزام أن الاقتيات والادخار أيضا علة ليتعدى إلى الأرز لكن لا يمكنه أن يلتزم أن الطعم أيضا علة; لأنه ينكر جريان الربا في التفاح مثلا فإن قلت الكلام فيما إذا ثبت علية وصف المعلل وتأثيره فانتفاؤه بثبوت علية وصف المعترض ليس أولى من العكس قلت: المراد أن ثبوت علية كل منهما يستلزم انتفاء علية الآخر بناء على أن العلة واحد لا غير, ولا يصح الحكم بعلية أحدهما ما لم يرجح وليس المراد أنه يبطل علية وصف المعلل ويثبت صحة علية وصف المعترض لمجرد المعارضة, وأما عند الفقهاء فلا يقبل مثل هذه المعارضة; لأنه ليس لصحة علية أحد الوصفين تأثير في فساد علية الآخر نظرا إلى ذاتهما لجواز(2/198)
كانت قاصرة لا يقبل عندنا وكذا إن كانت متعدية إلى مجمع عليه كما يعارضنا مالك بأن العلة الطعم والادخار، وهو متعد إلى الأرز وغيره فلا فائدة له إلا نفي الحكم في الجص لعدم العلة وهي لا تفيد ذلك؛ لأن الحكم قد ثبت بعلل شتى وإن تعدى إلى مختلف فيه يقبل عند أهل النظر للإجماع على أن العلة أحدهما فقط فإذا ثبت أحدهما انتفى الآخر لا عند الفقهاء؛ لأنه ليس لصحة أحدهما تأثير في فساد الآخر.
ـــــــ
المعلل فمقبولة وإن أقام على علية شيء آخر فإن كانت قاصرة لا يقبل عندنا وكذا إن كانت متعدية إلى مجمع عليه كما يعارضنا مالك بأن العلة الطعم والادخار, وهو متعد إلى الأرز وغيره فلا فائدة له إلا نفي الحكم في الجص لعدم العلة وهي لا تفيد ذلك; لأن الحكم قد ثبت بعلل شتى وإن تعدى إلى مختلف فيه يقبل عند أهل النظر للإجماع على أن العلة أحدهما فقط فإذا ثبت أحدهما انتفى الآخر لا عند الفقهاء; لأنه ليس لصحة أحدهما تأثير في فساد الآخر.
................................................................................................
استقلال العلتين, وإنما وقع الاتفاق على فساد أحدهما لا بعينه لمعنى فيه لا لصحة الآخر بل كل من الصحة والفساد يفتقر إلى معنى يوجبه وفيه نظر; لأن عدم تأثير صحة أحدهما في فساد الآخر لا ينافي فساد أحدهما عند صحة الآخر لا يقال كل منهما يحتمل الصحة والفساد إذ الكلام فيما يثبت عليته ظنا لا قطعا; لأنا نقول لا نعني بفساد العلية إلى هذا وهو أنه لم يبق الظن بالعلية ما لم يرجح للاتفاق على أن العلة أحدهما, ولا أولوية بدون الترجيح.(2/199)
فصل: في دفع العلل الطردية
وهو أربعة الأول القول بموجب العلة وهو التزام ما
ـــــــ
"فصل: في دفع العلل الطردية" لما عرف أن العلة نوعان إما علة مؤثرة وهي المعتبرة
................................................................................................
قوله: "فصل" في الاعتراضات التي تورد على القياسات التي لا يظهر تأثير عللها بل يكتفى فيها بمجرد دوران الحكم مع العلة إما وجودا فقط وإما وجودا وعدما وينبغي أن يراد بالطردية هاهنا ما ليست بمؤثرة لتعم المناسب والملائم فيصح الحصر في المؤثرة والطردية وليس المقصود من إيراد الفصلين اختصاص كل من الفصلين بنوع من العلل فإن الكلام صريح في اشتراكهما في الممانعة والمناقضة وفساد الوضع, ولا يخفى جريان المعارضة في الطردية بل هي أظهر وأسهل نعم كلام المصنف رحمه الله تعالى يوهم اختصاص القول بالموجب بالعلل الطردية حيث قال وهو يلجئ المعلل إلى العلة المؤثرة وأنت خبير بأن حاصل القول بالموجب دعوى المعترض أن المعلل نصب الدليل في غير محل النزاع وهذا مما لا اختصاص له بالطردية.
قوله: "وهو" أي القول بموجب العلة التزام السائل ما يلزمه المعلل بتعليله مع بقاء النزاع في الحكم المقصود وهذا معنى قولهم هو تسليم ما اتخذه المستدل حكما لدليله على وجه لا يلزمه تسليم الحكم المتنازع فيه ويقع على ثلاثة أوجه:
الأول أن يلزم المعلل بتعليله ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه مع أنه لا يكون محل النزاع(2/199)
يلزمه المعلل مع بقاء الخلاف وهو يلجئ المعلل إلى العلة المؤثرة كقوله: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول: يسن عندنا أيضا لكن الفرض البعض لقوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ} وهو إما ربع أو أقل فالاستيعاب تثليث وزيادة وإن غير فقال: يسن تكراره يمنع ذلك في الأصل بل المسنون في الركن التكميل كما في أركان الصلاة بالإطالة لكن الغسل لما استوعب المحل لا يمكن التكميل إلا بالتكرار وهنا المحل متسع على أن التكرار ربما يصير غسلا فيلزم تغيير المشروع فالاعتراض على التقدير
ـــــــ
عندنا وإما علة تثبت عليتها بالدوران دون التأثير وهي المعتبرة عند البعض وليست بمعتبرة عندنا وتسمى علة طردية ففي هذا الفصل تذكر الاعتراضات الواردة على القياس بالعلة الطردية "وهو أربعة الأول: القول بموجب العلة وهو التزام ما يلزمه المعلل مع بقاء الخلاف وهو يلجئ المعلل إلى العلة المؤثرة" أي يجعل المعلل مضطرا إلى القول بمعنى مؤثر يرفع الخلاف ولا يتمكن الخصم من تسليمه مع بقاء الخلاف "كقوله: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول يسن عندنا أيضا لكن الفرض البعض لقوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ} وهو إما ربع أو أقل فالاستيعاب تثليث وزيادة وإن غير فقال يسن تكراره يمنع ذلك في الأصل بل المسنون في الركن التكميل كما في أركان الصلاة بالإطالة لكن الغسل لما استوعب المحل لا يمكن التكميل إلا بالتكرار وهنا المحل متسع" أي في مسح الرأس المحل
................................................................................................
ولا ملازمه إما بصريح عبارة المعلل كما إذا قال القتل بالمثقل قتل بما يقتل غالبا فلا ينافي القصاص كالقتل بالحرق فيجاب بأن النزاع ليس في عدم المنافاة بل في إيجاب القصاص وإما بحمل المعترض عبارته على ما ليس بمراده كما في مسألة تثليث المسح وتعيين النية فإن المعلل يريد بالتثليث إصابة الماء محل الفرض ثلاث مرات وبالتعيين تعيينا قصديا من جهة الصائم, والسائل يحمل التثليث على جعله ثلاثة أمثال الفرض والتعيين أعم من أن يكون بقصد الصائم أو معينا بتعيين الشارع حتى لو صرح المعلل بمراده لم يكن القول بالموجب بل تتعين الممانعة.
والثاني أن يلزم المعلل بتعليله إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم كما إذا قال في السرقة: أخذ مال الغير بلا اعتقاد إباحة وتأويل فيوجب الضمان كالغصب فيقال نعم إلا أن استيفاء الحد بمنزلة الإبراء في إسقاط الضمان.
والثالث أن يسكت المعلل عن بعض المقدمات لشهرته فالسائل يسلم المقدمة المذكورة ويبقى النزاع في المطلوب للنزاع في المقدمة المطوية وربما يحمل المقدمة المطوية على ما ينتج مع المقدمة المذكورة نقيض حكم المعلل فيصير قلبا كما في مسألة غسل المرفق فإن المعلل يريد أن الغاية المذكورة في الآية غاية للغسل والغاية لا تدخل تحت المغيا فلا تدخل المرفق في الغسل والسائل يريد أنها غاية للإسقاط فلا تدخل في الإسقاط فتبقى داخلة في الغسل فلو صرح بالمقدمة المطوية لتعين منعها ثم لا يخفى أن هذا المثال ليس من قبيل القياس فضلا عن أن تكون العلة طردية وفيه تنبيه عن أن الاعتراضات لا تخص القياس بل تعم الأدلة فإن قلت كيف يكون هذا(2/200)
الأول قول بموجب العلة وعلى تقدير التغيير ممانعة.
وكقوله: صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية فنسلم موجبه لكن
ـــــــ
وهو الرأس متسع يمكن الإكمال بدون التكرار "على أن التكرار ربما يصير غسلا فيلزم تغيير المشروع فالاعتراض على التقدير الأول قول بموجب العلة وعلى تقدير التغيير ممانعة" فالحاصل أن نقول إن أردتم بالتثليث جعله ثلاثة أمثال الفرض فنحن قائلون به; لأن الاستيعاب تثليث وزيادة, وإن أردتم بالتثليث التكرار ثلاثة مرات نمنع هذا في الأصل أي لا نسلم أن الركنية توجب هذا بل الركنية توجب الإكمال كما في أركان الصلاة فالاعتراض على تقدير أن يراد بالتثليث جعله ثلاث أمثال الفرض يكون قولا بموجب العلة وعلى تقدير التغيير وهو أن يراد بالتثليث التكرار فالاعتراض ممانعة.
"وكقوله: صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية فنسلم موجبه لكن الإطلاق تعيين وكقوله: المرفق لا يدخل في الغسل; لأن الغاية لا تدخل تحت المغيا قلنا نعم لكنها غاية للإسقاط فلا تدخل تحته, الثاني الممانعة وهي إما في الوصف" أي تمنع وجود الوصف الذي يدعي المعلل عليته في الفرع "كقوله في مسألة الأكل والشرب: عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل والشرب كحد الزنا فلا نسلم تعلقها بالجماع بل هي متعلقة بالفطر وكقوله في بيع التفاحة بالتفاحتين: إنه بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيحرم كالصبر بالصبر فنقول إن أراد المجازفة بالوصف أو بالذات بحسب الأجزاء فهي جائزة لجواز الجيد
................................................................................................
المثال من القول بالموجب والمعلل إنما يلزم عدم دخول المرفق تحت الغسل والسائل لا يلتزم ذلك؟ قلت: المعتبر في القول بالموجب التزام ما يلزمه المعلل بتعليله من حيث إنه معلل, وهو هاهنا لا يلزم إلا عدم دخول المرفق تحت ما هو غاية له, وقد التزمه السائل فظهر بما ذكرنا أن المصنف رحمه الله تعالى لو أورد مكان مسألة تعيين النية مسألة ضمان السرقة أو نحوها ليكون تنبيها على الأقسام الثلاثة لكان أنسب.
قوله: "فالاستيعاب تثليث وزيادة" لأن التثليث ضم المثلين وفي الاستيعاب ضم ثلاثة الأمثال إن قدر محل الفرض بالربع أو أكثر إن قدر بأقل من الربع واتحاد المحل ليس من ضرورة التثليث بل من ضرورة التكرار والنص الوارد في الركن إنما يدل على سنية الإكمال دون التكرار, وهو حاصل بالإطالة كما في القراءة والركوع والسجود بخلاف الغسل فإن تكميله بالإطالة يقع في غير محل الفرض فلا بد من التكرار, وأما المسح فمحله الرأس من غير تعيين موضع دون موضع وهو متسع يزيد على مقدار الفرض فيمكن تكميله في محل الفرض بالإطالة والاستيعاب.
قوله: "على أن التكرار بما يصير غسلا" زيادة توضيح وتحقيق لكون المسنون هو التكميل بالإطالة دون التكرار وليس باعتراض آخر على هذا القياس; لأنه لا يناسب المقام.
قوله: "الثاني الممانعة" وهي منع ثبوت الوصف في الأصل أو الفرع أو منع الحكم في(2/201)
الإطلاق تعيين وكقوله: المرفق لا يدخل في الغسل؛ لأن الغاية لا تدخل تحت المغيا قلنا نعم لكنها غاية للإسقاط فلا تدخل تحته، الثاني الممانعة وهي إما في الوصف كقوله في مسألة الأكل والشرب: عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل والشرب كحد الزنا فلا نسلم تعلقها بالجماع بل هي متعلقة بالفطر وكقوله في بيع التفاحة بالتفاحتين: إنه بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيحرم كالصبر بالصبر فنقول إن أراد المجازفة بالوصف أو بالذات بحسب الأجزاء فهي جائزة لجواز الجيد بالرديء وللجواز عند تفاوت الأجزاء وإن أرادها بحسب المعيار فتختص بما يدخل فيه وأما في الحكم كما في هذه المسألة إن ادعيت حرمة تنتهي بالمساواة لا نسلم إمكانها في الفرع وإن ادعيتها غير
ـــــــ
بالرديء" هذا دليل على جواز المجازفة بالوصف "وللجواز عند تفاوت الأجزاء" هذا دليل على جواز المجازفة بالذات بحسب الأجزاء "وإن أرادها" أي المجازفة "بحسب المعيار فتختص بما يدخل فيه" أي في المعيار "وأما في الحكم" عطف على قوله: وهي إما في الوصف "كما في هذه المسألة إن ادعيت حرمة تنتهي بالمساواة لا نسلم إمكانها في الفرع وإن ادعيتها غير متناهية لا نسلم في الصبرة" فقوله كما في هذه المسألة إشارة إلى مسألة بيع التفاحة بالتفاحتين فالممانعة في الحكم أن يمنع ثبوت الحكم الذي يكون الوصف علة له في الفرع قوله لا نسلم إمكانها في الفرع إشارة إلى هذا أو نمنع ثبوت الحكم الذي يدعيه المعلل بالوصف المذكور في الأصل وقوله لا نسلم في الصبرة إشارة إلى هذا "وكقوله: صوم فرض فلا يصح إلا بتعيين النية كالقضاء فنقول أبعد التعين فلا نسلم في الأصل أو قبله فلا نسلم في الفرع" أي إن ادعيتم أن الصوم لا يصح إلا بتعيين النية بعد صيرورته متعينا فلا نسلم هذا في القضاء وإن ادعيتم أن الصوم لا يصح إلا بتعيين النية قبل
................................................................................................
الأصل أو الفرع أو منع صلاحية الوصف للحكم أو منع نسبة الحكم إلى الوصف فإن قيل التعليل إنما هو لإثبات الحكم في الفرع فمنع الحكم في الفرع يكون منعا للمدلول من غير قدح في الدليل فلا يكون موجها قلنا المراد منع إمكان ثبوت الحكم في الفرع فيكون منعا لتحقق شرائط القياس إذ من شرط القياس إمكان ثبوت الحكم في الفرع أما منع ثبوت الوصف في الأصل فكما يقال مسح الرأس طهارة مسح فيسن تثليثه كالاستنجاء فيعترض بأن الاستنجاء ليس طهارة مسح بل طهارة عن النجاسة الحقيقية, وأما في الفرع فكما يقال كفارة الإفطار عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل كحد الزنا فيقال لا نسلم أنها عقوبة متعلقة بالجماع بل بنفس الإفطار على وجه يكون جناية متكاملة فالأصل حد الزنا, والفرع كفارة الصوم, والحكم عدم الوجوب بالأكل, والوصف العقوبة المتعلقة بالجماع, وقد منع السائل صدقة على كفارة الصوم فظهر فساد ما يقال إن هذا منع لنسبة الحكم إلى الوصف بمعنى أن وجوب الكفارة لا يتعلق بالجماع بل بالإفطار وكما يقال بيع التفاحة بالتفاحتين بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيحرم كبيع الصبرة بالصبر مجازفة فيقال إن أردتم المجازفة مطلقا أو في الصفة أو في الذات بحسب الأجزاء فلا نسلم تعلق الحرمة بها فإن بيع الجيد(2/202)
متناهية لا نسلم في الصبرة وكقوله: صوم فرض فلا يصح إلا بتعيين النية كالقضاء فنقول أبعد التعين فلا نسلم في الأصل أو قبله فلا نسلم في الفرع.
وأما في صلاح الوصف للحكم فإن الطرد باطل عندنا كما مر وأما في نسبة
ـــــــ
صيرورته متعينا فلا نسلم هذا في المتنازع فيه; لأن تعيين النية قبل صيرورته متعينا ممتنع في المتنازع فيه لأن الصوم متعين في المتنازع بتعيين الشارع فلا تكون صحة الصوم في المتنازع موقوفة على تعيين النية قبل صيرورته متعينا; لأنه حينئذ تكون صحة صوم رمضان ممتنعة وهذا باطل.
"وأما في صلاح الوصف للحكم فإن الطرد باطل عندنا كما مر وأما في نسبة الحكم إلى الوصف كقوله في الأخ: لا يعتق على أخيه لعدم البعضية كابن العم فلا نسلم أن العلة في الأصل هذا" أي لا نسلم أن علة عدم عتق ابن العم هي عدم البعضية فإن عدم البعضية لا يوجب عدم العتق لجواز أن توجد علة أخرى للعتق بل إنما لم يعتق ابن العم لعدم القرابة المحرمية "وكقوله: لا يثبت النكاح بشهادة النساء مع الرجال; لأنه ليس بمال كالحد فلا نسلم أن العلة في الحد عدم المالية وكذا في كل موضع يستدل بالعدم على العدم" فإنه يمكن أن يقول عدم تلك العلة لا يوجب عدم الحكم فإن الحكم يمكن أن يثبت بعلة أخرى "الثالث
................................................................................................
بالرديء جائز, وكذا بيع القفيز بالقفيز مع كون عدد حبات أحدهما أكثر وإن أردتم المجازفة بحسب المعيار فلا نسلم ثبوتها في الفرع أعني بيع التفاحة بالتفاحتين فإنها لا تدخل تحت الكيل والمعيار فمنع الوصف في الفرع في المثال الأول متعين وفي الثاني مبني على أحد التقادير.
قوله: "وإن ادعيتها" أي وإن ادعيت حرمة غير متناهية بالمساواة فلا نسلم ثبوت الحكم في بيع الصبرة بالصبر مجازفة فإنهما إذا كيلا ولم يفضل أحدهما على الآخر عاد العقد إلى الجواز فإن قيل المراد مطلق الحرمة من غير اعتبار التناهي وعدمه أجيب بأن شرط القياس تماثل الحكمين والثابت في الأصل هو أحد نوعي الحرمة المطلقة أعني المتناهي بالمساواة وهو غير ممكن في الفرع.
قوله: "الثالث فساد الوضع" وهو أن يترتب على العلة نقيض ما تقتضيه وهو يبطل العلة بالكلية بمنزلة فساد الأداء في الشهادة إذ الشيء لا يترتب عليه النقيضان فلا يمكن الاحتراز عنه بتغيير الكلام بخلاف المناقضة فإنه يمكن أن يحترز عن ورودها بأن يفسر الكلام نوع تفسير وبغير أدنى تغيير كما يقال الوضوء طهارة كالتيمم فيشترط فيه النية فينقض بتطهير الخبث فيجاب بأن المراد أنهما تطهيران حكميان فلا يرد النقض بتطهير الخبث والمراد بالاحتراز عن ورود المناقضة أن يساق الكلام بحيث لا يصح أن يورد عليه المناقضة وإلا فدفع المناقضة بعد إيرادها يمكن بوجوه أخر سوى تغيير الكلام على ما سبق.(2/203)
الحكم إلى الوصف كقوله في الأخ: لا يعتق على أخيه لعدم البعضية كابن العم فلا نسلم أن العلة في الأصل هذا وكقوله: لا يثبت النكاح بشهادة النساء مع الرجال؛ لأنه ليس بمال كالحد فلا نسلم أن العلة في الحد عدم المالية وكذا في كل موضع يستدل بالعدم على العدم الثالث فساد الوضع وقد مر تفسيره وهو فوق المناقضة إذ يمكن الاحتراز عنها بتغيير الكلام أما هو فيبطل العلة أصلا كتعليله لإيجاب الفرقة بإسلام أحد الزوجين ولإبقاء النكاح مع ارتداد أحدهما فإن الإسلام لا يصلح قاطعا للنعمة
ـــــــ
فساد الوضع وقد مر تفسيره وهو فوق المناقضة إذ يمكن الاحتراز عنها بتغيير الكلام أما هو فيبطل العلة أصلا" فإن المعلل إذا تمسك بالعلة الطردية ويرد عليها مناقضة فربما يغير الكلام ويجعل علته مؤثرة فحينئذ تندفع المناقضة كما سيأتي في المناقضة في قوله: الوضوء والتيمم طهارتان أما فساد الوضع فإنه يبطل العلة بكليتها إذ لا يندفع بتغيير الكلام "كتعليله لإيجاب الفرقة بإسلام أحد الزوجين" أي أحد الزوجين الذميين إذا أسلم قبل الدخول فعند الشافعي رحمه الله تعالى بانت في الحال وبعد الدخول بانت بعد ثلاثة أقراء فقد جعل الإسلام علة لإيجاب الفرقة وعندنا يعرض الإسلام على الآخر فإن أسلم فهي له وإن أبى يفرق بينهما في الحال سواء كان بعد الدخول أو قبله "ولإبقاء النكاح مع ارتداد أحدهما" أي إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول بانت في الحال وبعد الدخول بانت بعد ثلاثة أقراء عند الشافعي
................................................................................................
قوله: "ولإبقاء النكاح" عطف على قوله لإيجاب الفرقة وعدل عن الباء إلى لفظ مع حيث لم يقل ارتداد أحدهما لظهور أن الشافعي رحمه الله تعالى لا يقول بأن علة بقاء النكاح هي الارتداد بل يقول إن الارتداد لا يقطع النكاح قبل انقضاء العدة, وعدم كون الشيء قاطعا للشيء لا يستلزم كونه علة لبقائه وحين صرح في الشرح بأن الشافعي رحمه الله تعالى جعل الردة علة لبقاء النكاح فسره بمعنى أنه لا يجعلها قاطعة للنكاح وأنت خبير بأنه لا تعليل حينئذ فلا فساد وضع نعم لو قيل النكاح مبني على العصمة, والردة قاطعة لها فتكون منافية للنكاح, ولا بقاء للشيء مع المنافي, لكان استدلالا برأسه على بطلان بقاء النكاح مع الارتداد لكنه لا يتعلق بمقصود المقام إذ ليس هاهنا بيان أن الخصم قد رتب على العلة نقيض ما تقتضيه, وكذا مسألة الحج بنية النقل فإن الشافعي رحمه الله تعالى ذهب إلى أنه يقع عن الفرض كما إذا حج بنية مطلقة; لأن مطلق النية العبادة التي تتنوع إلى الفرض والنفل تنصرف إلى النفل كما في الصلاة وصوم غير رمضان فإذا استحق المطلق للفرض دل على استحقاق نية النفل للفرض وليس في هذا فساد الوضع بمعنى أنه رتب على العلة نقيض ما تقتضيه بل بمعنى أن فيه حمل المقيد على المقيد على المطلق وهذا ما لم يقل به أحد وإنما وقع الخلاف في حمل المطلق على المقيد نعم ذكر بعضهم أن فساد الوضع نوعان: أحدهما كون القياس على خلاف مقتضى الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع وثانيهما كون الوصف مشعرا بخلاف الحكم الذي ربط به كما يذكر وصف مشعر بالتغليظ في روم التخفيف وبالعكس, ولا خفاء في أن المثالين المذكورين من النوع الأول.(2/204)
والردة لا تصلح عفوا وكقوله: إذا حج بإطلاق النية يقع عن الفرض فكذا بنية النفل فإن بعض العلماء حملوا المطلق على المقيد فأما هذا فحمل المقيد على المطلق وهو باطل وكقوله: المطعوم شيء ذو خطر فيشترط لتملكه شرط زائد كالنكاح فيقال ما كان الحاجة إليه أكثر جعله الله أوسع. الرابع المناقضة وهي تلجئ أهل الطرد إلى المؤثرة كقوله: الوضوء والتيمم طهارتان فيستويان في النية فينتقض بتطهير الخبث فيضطر إلى أن يقول الوضوء تطهير حكمي كالتيمم بخلاف تطهير الخبث فنقول نعم بمعنى:
ـــــــ
رحمه الله تعالى فيجعل الردة علة لبقاء النكاح بمعنى أنه لا يجعلها قاطعة للنكاح وعندنا تبين في الحال سواء كان قبل الدخول أو بعده ثم في المتن يقيم الدليل على أن تعليله مقرون بفساد الوضع بقوله: "فإن الإسلام لا يصلح قاطعا للنعمة, والردة لا تصلح عفوا وكقوله: إذا حج بإطلاق النية يقع عن الفرض فكذا بنية النفل فإن بعض العلماء حملوا المطلق على المقيد فأما هذا فحمل المقيد على المطلق وهو باطل وكقوله: المطعوم شيء ذو خطر فيشترط لتملكه شرط زائد" وهو التقابض "كالنكاح" فإنه يشترط له الشهود "فيقال ما كان الحاجة إليه أكثر جعله الله أوسع. الرابع المناقضة وهي تلجئ أهل الطرد إلى المؤثرة كقوله: الوضوء والتيمم طهارتان فيستويان في النية فينتقض بتطهير الخبث فيضطر إلى أن يقول الوضوء تطهير
................................................................................................
قوله: "المطعوم شيء ذو خطر" إذ يتعلق به قوام النفس وبقاء الشخص كالنكاح يتعلق به بقاء النوع, ولا شك أن خطر المطعوم بمعنى كثرة الاحتياج إليه بالإطلاق والتوسعة أنسب منه بالتحريم والتضييق, ولهذا كان طريق الوصول إلى الماء والهواء أيسر لكون الحاجة إليهما أكثر ففي ترتيب اشتراط التقابض في تمليك المطعوم على كونه ذا خطر فساد الوضع; لأنه نقيض ما يقتضيه من التوسعة والتيسير.
قوله: "الوضوء والتيمم طهارتان" نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى في اشتراط النية في الوضوء أن الوضوء والتيمم طهارتا صلاة فكيف افترقتا ولما كان واضحا بينا أن مراده بإنكار الافتراق وجوب استوائهما في اشتراط النية صرح به المصنف رحمه الله تعالى ونوقض بتطهير البدن والثوب عن النجاسة الحقيقية فإنه لا يشترط فيه النية فلا بد في التقصي عن المناقضة بأن يقال المراد بهما تطهير حكمي أي تعبدي غير معقول المعنى; لأن معنى التطهير إزالة النجاسة وليس على أعضاء المتوضئ نجاسة تزال ولهذا لا يتنجس الماء بملاقاته وإنما عليه أمر مقدر اعتبره الشارع مانعا لصحة الصلاة عند عدم العذر وحكم بأن الوضوء يرفعه فتشترط النية تحقيقا لمعنى التعبد بخلاف تطهير الخبث فإنه حقيقي لما فيه من إزالة النجاسة بالماء سواء نوى أو لم ينو فيقول المعترض: إن أردتم أن نفس التطهير أي رفع الحدث وإزالته بالماء حكمي غير معقول فممنوع كيف والماء مطهر بطبعه كما أنه مرو, وقد خلقه الله آلة للطهارة في أصله فيحصل به إزالة النجاسة حقيقية كانت أو حكمية نوى أو لم ينو بخلاف التراب فإنه في نفسه ملوث لا يصير مطهرا إلا بالقصد والنية وإن أردتم أن الوضوء تطهير حكمي بمعنى أنه إزالة نجاسة حكمية حكم(2/205)
النجاسة حكمية، أي حكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة فيزيلها الماء كما يزيل الحقيقية فهي غير معقولة لكن تطهيرها بالماء معقول بخلاف التراب فلا يحتاج إلى النية في ذلك بل في صيرورته قربة والصلاة تستغني عنها.
ـــــــ
حكمي كالتيمم بخلاف تطهير الخبث فنقول نعم" أي الوضوء تطهير حكمي "بمعنى: النجاسة حكمية, أي حكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة فيزيلها الماء كما يزيل الحقيقية فهي غير معقولة" الضمير يرجع إلى النجاسة وهذا الجواب هو الذي أحاله في فصل شرائط القياس إلى فصل المناقضة "لكن تطهيرها بالماء معقول بخلاف التراب فلا يحتاج إلى النية في ذلك" أي في التطهير فيحصل الطهارة سواء نوى أو لم ينو "بل في صيرورته قربة" أي يحتاج إلى النية في صيرورة الوضوء قربة "والصلاة تستغني عنها" أي عن صيرورة الوضوء قربة كما في سائر شرائط الصلاة بل تحتاج إلى كون الوضوء طهارة
................................................................................................
بها الشارع في حق جواز الصلاة بمعنى أنها مانعة له كالنجاسة الحقيقية فمسلم لكنه لا يوجب اشتراط النية في رفعها وإزالتها بالماء الذي خلق طهورا فإنه أمر معقول ولما كان لهم في اشتراط النية طريقة أخرى وهي أن الوضوء قربة أي عبادة لما فيه من تعظيم الرب بامتثال الأمر ومن استحقاق الثواب بدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: "الوضوء على الوضوء نور على نور" وكل قربة فهي مفتقرة إلى النية تحقيقا لمعنى الإخلاص وقصد التقرب إلى الله تعالى وتمييزا للعبادة على العادة.
أشار إلى الجواب بأنه إن أريد: كل وضوء قربة, فهو ممنوع فإنه من الوضوء ما هو مفتاح للصلاة فقط بمنزلة غسل البدن عن الخبث وإن أريد البعض فلا نزاع في أنه محتاج إلى النية فإن الوضوء لا يصير قربة بدون النية لكن صحة الصلاة لا تتوقف على وضوء هو قربة بل على تطهير الأعضاء المخصوصة عن الحدث ليصير العبد به أهلا للقيام بين يدي الرب فإن قلت هو مأمور بالغسل وهو فعل اختياري مسبوق بالقصد فلا يحصل الامتثال بالانغسال من غير قصد منه وأيضا قولنا إذا أردت الدخول على الأمير فتأهب, معناه تأهب له فيكون معنى الآية إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا لذلك قلت لا كلام في أن الإتيان بالوضوء المأمور به لا يحصل بدون النية لكن صحة الصلاة لا تتوقف عليه; لأن الوضوء غير مقصود وإنما المقصود حصول الطهارة وهي تحصل بالمأمور به وغيره; لأن الماء مطهر بالطبع بخلاف التراب فلا يصير مطهرا إلا بالشرط الذي ورد به الشرع وهو كونه للصلاة كذا في مبسوط شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
وقال في الأسرار إن كثيرا من مشايخنا يظنون أن المأمور به الوضوء يتأدى بغير نية وذلك غلط فإن المأمور به عبادة والوضوء بغير النية ليس بعبادة لكن العبادة متى لم تكن مقصودة سقطت لحصول المقصود بدون العبادة كالسعي إلى الجمعة فإن المقصود هو التمكن من الجمعة بالحصول في المسجد فإن قيل فينبغي أن تشترط النية في مسح الرأس; لأن التطهير بمجرد الإصابة غير معقول أجيب من وجوه: الأول أن الطهارة طهارة غسل فألحق الجزء بالكل والقليل بالكثير ،(2/206)
وأما المسح فملحق بالغسل تيسيرا فإن قيل غسل الأعضاء الأربعة غير معقول قلنا لما اتصف البدن بها اقتصر على غسل الأطراف في المعتاد دفعا للحرج وأقر على الأصل في غير المعتاد كالمني والحيض.
ـــــــ
وأما المسح فملحق بالغسل تيسيرا جواب عن سؤال مقدر هو أنكم قلتم إن الغسل تطهير معقول فلا يحتاج إلى النية لكن مسح الرأس تطهير غير معقول فيجب أن يحتاج إلى
................................................................................................
وخص الرأس بذلك لما في غسله من الحرج. الثاني أن المسح خلف عن الغسل دفعا للحرج فيعتبر فيه حكم الأصل وهو الاستغناء عن النية. الثالث أن الإصابة جعلت بمنزلة الإسالة في إزالة الحدث وإفادة التطهير لما في المزيل من القوة لكونه مطهرا طبعا وفي النجاسة من الضعف لكونها حكمية بخلاف الخبث فإنه نجاسة حقيقية عينية وخص الرأس بذلك تيسيرا ودفعا للحرج.
فإن قيل هب أن تطهير النجاسة الحكمية بالماء معقول لكنه لا يفيد استغناء الوضوء عن النية; لأن الوضوء عبارة عن غسل الأعضاء الثلاثة مع مسح الرأس وهذا هو المراد بغسل الأعضاء الأربعة على طريقة التغليب, وهذا غير معقول; لأن المتصف بالنجاسة الحكمية أعني بالحدث جميع البدن بحكم الشرع فإزالتها والتطهر منها بغسل الأعضاء الذي هو أقل البدن خصوصا الذي هو غير ما تخرج عنه النجاسة الحقيقية المؤثرة في ثبوت النجاسة الحكمية ليست بمعقولة فيجب أن لا تحصل بدون النية كالتيمم أجيب بأنا لا نسلم أن الاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول فإن دفع الحرج إسقاط باقي الأعضاء في الحدث الذي يعتاد تكرره ويكثر وقوعه والاكتفاء بالأعضاء التي هي بمنزلة حدود الأعضاء ونهايتها طولا وعرضا أو بمنزلة أصولها وأمهاتها لكونها مجمع الحواس ومظهر الأفعال مع أنها مظنة لإصابة النجس ومئنة لسهولة الغسل أمر معقول الشأن مقبول الأذهان فيستغنى عن النية واحتراز بالمعتاد عما يوجب الغسل كالمني والحيض فإنه قليل الوقوع فلا حرج في غسل جميع البدن على ما هو الأصل فلا يكتفى بالبعض.
قوله: "واعلم" حاصل هذا الكلام بيان المنافاة بين كلامي فخر الإسلام رحمه الله تعالى وصاحب الهداية في هذا المقام وإيراد الإشكال على كل من الكلامين ثم دفع المنافاة وحل الإشكال, أما المنافاة فلأنه ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن تغير وصف محل الغسل وانتقاله من الطهارة إلى الخبث غير معقول وذكر صاحب الهداية أن تأثير خروج النجاسة في زوال الطهارة معقول, وأما ورود الإشكال على كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى فلأنه يوجب أن لا يصح قياس غير السبيلين على السبيلين في الحكم بكون الخارج النجس منه سببا للحدث; لأن من شرط القياس أن يكون حكم الأصل معقول المعنى, وأما على كلام صاحب الهداية فلا يوجب صحة قياس سائر المائعات على الماء في رفع الحدث كما يصح قياسها عليه في رفع الخبث إذ لا مانع سوى عدم معقولية النص, وأما وجه الجمع بين الكلامين ودفع المنافاة فهو أن مراد فخر الإسلام رحمه الله تعالى بعدم معقولية زوال الطهارة عن محل الغسل أن العقل لا يستقل بإدراك ذلك من غير ورود(2/207)
النية كالتيمم فأجاب بأن مسح الرأس ملحق بالغسل ووظيفة الرأس كانت هي الغسل لكن لدفع الحرج اقتصر على المسح فيكون خلفا عن الغسل فاعتبر فيه أحكام الأصل "فإن قيل غسل الأعضاء الأربعة غير معقول" هذا إشكال على قوله: لكن تطهيرها بالماء معقول "قلنا لما اتصف البدن بها اقتصر على غسل الأطراف في المعتاد دفعا للحرج وأقر على الأصل في غير المعتاد كالمني والحيض" أي لما اتصف البدن بالنجاسة بحكم الشرع وجب غسل جميع البدن; لأن الشرع لما حكم بسراية النجاسة وليس بعض الأعضاء أولى بالسراية من البعض وجب غسل جميع البدن لكن سقط البعض في المعتاد دفعا للحرج وبقي غسل الأطراف الأربعة التي هي أمهات الأعضاء فلا يكون غسل الأعضاء الأربعة غير معقول فلا تجب النية واعلم أن الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى ذكر أن تغير وصف محل الغسل من الطهارة إلى الخبث غير معقول وقوله في التنقيح فهي غير معقولة إشارة إلى هذا ويرد عليه أنه لما كان غير معقول لا يصح قياس غير السبيلين على السبيلين في هذا الحكم وقد ذكر في الهداية أن مؤثرية خروج النجاسة في زوال الطهارة أمر معقول فعلى تقدير الهداية لا يرد هذا الإشكال لكن يرد عليه إشكال آخر وهو أنه لما كان هذا الحكم معقولا ينبغي أن يقاس سائر المائعات على الماء في تطهير الحدث كما قد قيس في تطهير الخبث. وجوابه أنه إنما قيس في الخبث باعتبار أنها قالعة لا باعتبار أنها مطهرة فلا يقاس في الحدث واعلم أنه يمكن التوفيق بين قول فخر الإسلام رحمه الله تعالى وصاحب الهداية أن مراد فخر الإسلام رحمه الله تعالى بكونه غير معقول أن العقل لا يستقل بدركه, ومراد صاحب الهداية بكونه معقولا أنه إذا علم أن هذا الوصف قد وجد وأن الشرع قد حكم بهذا الحكم يحكم العقل بأن هذا الحكم إنما هو لأجل هذا الوصف, وشرط صحة القياس كون الحكم معقولا بهذا المعنى وهو أعم من الأول فاندفع عن قول فخر الإسلام رحمه الله تعالى ما ذكرنا من الإشكال وهو أنه يلزم أن لا يصح قياس غير السبيلين على السبيلين
................................................................................................
الشرع إذا لا يعقل أن تنجس اليد أو الوجه بخروج النجاسة من السبيلين, ومراد صاحب الهداية بمعقولية أن الشارع لما حكم بزوال الطهارة عن البدن عند خروج النجس من السبيلين أدرك العقل أن هذا الحكم إنما هو لأجل هذا الوصف وأنه ليس بتعبد محض لا يقف العقل عن سببه, ولا منافاة بين عدم استقلال العقل بدرك شيء, وبين إدراكه إياه بمعونة الشرع وبعد وروده.
وأما حل الإشكالين فالوجه الأول أن المعتبر في القياس هو المعقولية بمعنى أن يدرك العقل ترتب الحكم على الوصف أعم من أن يستقل بذلك أو يتوقف على ورود الشرع وهذا حاصل في زوال الطهارة بخروج النجس من السبيلين فيصح قياس غير السبيلين وفي الثاني أن قياس المائعات على الماء في رفع الخبث إنما يصح باعتبار أنها قالعة مزيلة بمنزلة الماء وهذا لا يوجد في الحدث; لأنه أمر مقدر لا يتصور قلعه لا باعتبار أنها مطهرة للمحل أي مغيرة له من النجاسة إلى الطهارة حتى يصح قياس المائعات على الماء في تطهير المحل عن النجاسة الحكمية وتحقيق ذلك أن النص(2/208)
الذي جعل الماء مطهرا عن الحدث غير معقول إذ ليس في أعضاء الوضوء عين النجاسة لتزال, وإذ لا إزالة حقيقة وعقلا فلا تعدية إلى سائر المائعات بخلاف الخبث فإن إزالته بالماء أمر معقول فيتعدى إلى سائر المائعات بجامع القلع والإزالة الحسية, ولا يخفى أن هذا يناقض ما سبق من أن تطهير النجاسة الحكمية وإزالتها بالماء معقول ولهذا لم يحتج إلى النية لا يقال تطهير النجاسة الحكمية معقول في الخبث والحدث إلا أن العلة في الخبث هي القلع الموجود في الماء وغيره فيصح القياس وفي الحدث هي التطهير لا القلع وهو لا يوجد في غير الماء; لأنا نقول التطهير وهو الحكم لا العلة تطهير الحدث إن كان معقول المعنى فإن كان ذلك المعنى هو كون الماء مزيلا يلزم صحة قياس المائعات الأخر كما في الخبث وإن كان وصفا غيره يجب أن يبين حتى ينظر أنه هل يوجد في سائر المائعات أم لا على أنه لو لم يوجد فيها يلزم التعليل بالعلة القاصرة, ثم هاهنا نظر.
أما أولا فلأن ما ذكره في وجه التوفيق بعيد جدا; لأن فخر الإسلام رحمه الله تعالى إنما أورد الكلام المذكور في معرض الجواب عن قول من قال إن الوضوء تطهير حكمي لا يعقل معناه فيجب أن يشترط فيه النية كالتيمم. وحاصله أن التطهير بالماء معقول; لأنه مطهر بطبعه وإنما نعني بالنص الذي لا يعقل وصف محل الغسل من الطهارة إلى الخبث يعني أن المراد بالنص الغير المعقول في باب الوضوء هو النص الدال على تغير المحل من الطهارة إلى النجاسة لا النص الدال على حصول الطهارة باستعمال الماء وفي بعض النسخ وإنما يغير بالنص أي أن الثابت بالنص الغير المعقول هو تغير المحل من الطهارة إلى النجاسة والمقصود واحد, ولا خفاء في أن المعتبر في القياس هو المعقولية بمعنى أن يدرك العقل معنى الحكم المنصوص وعلته وأنه لا معنى في المقام لذكر استقلال العقل بدرك الحكم.
وأما ثانيا فلأن عبارة الهداية هي أن خروج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة وهذا القدر في الأصل أي السبيلين معقول والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول لكنه يتعدى ضرورة تعدي الأول وهذا لا ينافي أن يكون اتصاف أعضاء الوضوء بالنجاسة غير معقول على ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى بل لا يبعد أن يكون قوله وهذا القدر إشارة إلى أن المعقول هاهنا هو مجرد تأثير خروج النجاسة في زوال الطهارة لما بينهما من التنافي لا سراية النجاسة إلى جميع البدن على ما ذهب إليه البعض من أن اتصاف جميع البدن بالنجاسة معقول بناء على أن الصفة إذا ثبتت في ذات كان المتصف بها جميع الذات كما في السميع والبصير وإنما لم ينجس الماء بملاقاة الجنب أو المحدث لمكان الضرورة والحاجة بل السريان إلى جميع البدن مبني على حكم الشارع بذلك من غير أن يعقل معناه ولهذا لم يتصف بالنجاسة الحقيقية جميع البدن حيث لم يحكم الشارع بذلك وإلى هذا أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله اتصف البدن بالنجاسة بحكم الشرع.
وأما ثالثا فلأن هاهنا حكمين أحدهما زوال الطهارة بخروج النجس من السبيلين والثاني زوال الحدث بغسل الأعضاء الأربعة فحين ذهب صاحب الهداية إلى أن الأول معقول دون الثاني حتى جاز إلحاق غير السبيلين بالسبيلين ولم يجز إلحاق سائر المانعات بالماء لم يرد عليه شيء من الإشكالين, وإنما كان يرد عليه الإشكال بزوال الحدث الثابت بخروج النجس من غير السبيلين(2/209)
وفي هذا الفصل فروع أخر طويتها مخافة التطويل.
فصل: في الانتقال.
وهو إنما يكون قبل أن يتم إثبات الحكم الأول فلا يخلو إما أن ينتقل إلى علة أخرى لإثبات علته أو لإثبات الحكم الأول أو لإثبات حكم آخر يحتاج إليه الحكم الأول أو ينتقل إلى حكم كذلك فيثبت الحكم بالعلة الأولى فالأول صحيح.
ـــــــ
"وفي هذا الفصل فروع أخر طويتها مخافة التطويل. فصل في الانتقال" أي الانتقال من كلام إلى آخر "وهو إنما يكون قبل أن يتم إثبات الحكم الأول فلا يخلو إما أن ينتقل إلى علة أخرى لإثبات علته أو لإثبات الحكم الأول أو لإثبات حكم آخر يحتاج إليه الحكم الأول أو ينتقل إلى حكم كذلك" أي حكم يحتاج إليه الحكم الأول والانتقال منحصر في هذه الأربعة; لأنه إما في العلة فقط وهو على قسمين لإثبات علته وهو الأول أو لإثبات حكمه وهو الثاني حتى لو لم يكن لشيء منهما كان كلاما حشوا وأما في الحكم فقط وهو الرابع ولا بد أن يكون حكما يحتاج إليه الحكم الأول وإلا لكان كلاما حشوا وأما فيهما وهو الثالث "فيثبت الحكم بالعلة الأولى فالأول صحيح" كما إذا قال الصبي المودع إذا استهلك الوديعة
................................................................................................
بغسل الأعضاء الأربعة بطريق التعدية من السبيلين فأجاب بأن هذا الحكم وإن كان غير معقول إلا أن تعديته إنما تثبت في ضمن تعدية حكم معقول هو ثبوت الحدث بخروج النجس وهو جائز كاستواء الجيد مع الرديء في باب الربا يتعدى في ضمن الحكم المعقول الذي هو حرمة البيع عند التفاضل وإباحتها عند التساوي. وتحقيق ذلك أن من شرط القياس تماثل الحكمين, وقد ثبت بخروج النجس من السبيلين حدث يرتفع بغسل الأعضاء الأربعة فيجب أن يثبت بالخارج من غير السبيلين حكم كذلك تحقيقا للمماثلة ويرد كلا الإشكالين على المصنف رحمه الله تعالى حيث ذهب إلى أن تغيير محل الغسل من الطهارة إلى النجاسة غير معقول وأن تطهيرها بغسل الأعضاء الأربعة معقول لا يقال المراد بعدم المعقولية أن العقل لا يستقل بدركه وهذا لا ينافي جواز القياس; لأنا نقول حينئذ لا ينطبق الجواب على دليل الخصم; لأن المعتبر في الاحتياج إلى النية أو الاستغناء عنها هو كون الحكم الثابت بالنص تعبديا أو معقولا بمعنى ألا يدرك العقل معناه أي علته أو يدرك لا بمعنى أن لا يستقل العقل بإدراك الحكم أو يستقل وأيضا يلزم أن يكون المراد بقوله لكن تطهيرها بالماء معقول أن الحكم بتطهير الحدث بالماء مما يستقل العقل بإدراكه, ولا خفاء في فساد ذلك.
قوله: "وفي هذا الفصل" أي في فصل دفع العلل الطردية فروع أخر مذكورة في أصول فخر الإسلام رحمه الله تعالى لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى مخافة التطويل أي الزيادة على المقصود لا لفائدة فإن مقصود الأصول ليس معرفة فروع الأحكام ويكفي في توضيح المطلوب إيراد مثال أو مثالين.
قوله: "فصل في الانتقال" أي في انتقال القائس في قياسه من كلام إلى كلام آخر والكلام(2/210)
وكذا الثاني عند البعض كقصة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ولأن الغرض إثبات الحكم فلا يبالي بأي دليل كان لا عند البعض؛ لأنه لما لم يثبت الحكم بالعلة الأولى يعد انقطاعا في عرف النظار وأما قصة الخليل فإن الحجة الأولى كانت ملزومة واللعين عارضه بأمر
ـــــــ
لا يضمن; لأنه مسلط على الاستهلاك. فلما أنكره الخصم احتاج إلى إثباته فهذا لا يسمى انتقالا حقيقة; لأن الانتقال أن يترك الكلام الأول بالكلية ويشتغل بآخر كما في قصة الخليل عليه السلام وإنما أطلق الانتقال على هذا القسم; لأنه ترك هذا الكلام واشتغل بكلام آخر وإن كان هو دليلا على الكلام الأول.
"وكذا الثاني عند البعض كقصة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ولأن الغرض إثبات الحكم فلا يبالي بأي دليل كان لا عند البعض; لأنه لما لم يثبت الحكم بالعلة الأولى يعد انقطاعا في عرف النظار وأما
................................................................................................
المنتقل إليه إن كان غير علة أو حكم فهو حشو في القياس خارج عن المبحث وإلا فإما أن يكون في العلة فقط أو الحكم فقط أو العلة والحكم جميعا, والانتقال في العلة فقط إما أن يكون لإثبات علة القياس أو لإثبات حكمه إذ لو كان لإثبات حكم آخر لكان انتقالا في العلة والحكم جميعا والانتقال في الحكم فقط إن كان إلى حكم لا يحتاج إليه حكم القياس فهو حشو في القياس خارج عن المقصود, وإن كان إلى حكم يحتاج إليه حكم القياس فلا بد من أن يكون إثباته بعلة القياس وإلا لكان انتقالا في العلة والحكم جميعا والانتقال في العلة والحكم جميعا يجب أن يكون في حكم يحتاج إليه حكم القياس وإلا لكان حشوا في القياس فصارت أقسام الانتقالات المعتبرة في المناظرة أربعة: الأول الانتقال إلى علة أخرى لإثبات علة القياس الثاني الانتقال إلى علة لإثبات حكم القياس الثالث الانتقال إلى علة أخرى لإثبات حكم آخر يحتاج إليه حكم القياس الرابع الانتقال إلى حكم يحتاج إليه حكم القياس بأن يثبت بعلة القياس.
قوله: "يعد انقطاعا في عرف النظار" إشارة إلى أن ذلك من مصطلحات أهل المناظرة وآدابهم في البحث كي لا يطول الكلام بالانتقال من دليل إلى دليل وإلا فالانتقال من علة إلى علة لإثبات حكم شرعي بمنزلة انتقال من بينة إلى بينة أخرى لإثبات حقوق الناس وهو مقبول بالإجماع صيانة للحقوق, وقد يقال إن الغرض من المناظرة إظهار الصواب فلو جوزنا الانتقال لطالت المناظرة بانتقال المعلل من دليل إلى دليل ولم يظهر الصواب. ولقائل أن يقول لما كان الغرض إظهار الصواب لزم جواز الانتقال; لأن المقصود إظهار الحق بأي دليل كان وليس في وسع المعلل الانتقال من دليل إلى آخر لا إلى نهاية نعم لو انتقل في معرض الاستدلال إلى ما لا يناسب المطلوب دفعا لظهور إفحامه فهو يكون انقطاعا.
قوله: "وأما قصة الخليل" جواب عن تمسك الفريق الأول وتقريره أن كلامنا إنما هو فيما إذا بان بطلان دليل المعلل وانتقل إلى دليل آخر أما إذا صح دليله وكان قدح المعترض فاسدا إلا أنه(2/211)
باطل كالبيع بالخيار والإجارة فإن قيل عندي لا يمنع هذا العقد بل نقصان الرق فنقول الرق لم ينقص ونثبت هذا بعلة أخرى وإن أثبتناه بالعلة الأولى فهو نظير الرابع كما نقول احتماله الفسخ دليل على أن الرق لم ينقص وكلاهما صحيحان والرابع أحق.
ـــــــ
قصة الخليل فإن الحجة الأولى" وهو قوله تعالى: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} "كانت ملزومة واللعين عارضه بأمر باطل" وهو قوله تعالى: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} "فالخليل عليه السلام لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم انتقل إلى العلة التي لا يكون فيها اشتباه أصلا والثالث كقولنا الكتابة عقد يحتمل الفسخ بالإقالة فلا تمنع الصرف إلى الكفارة" أي إن أعتق المكاتب بنية الكفارة يجوز "كالبيع بالخيار والإجارة" أي باع عبدا بشرط الخيار يجوز إعتاقه بنية الكفارة, وكذا إذا آجر عبدا ثم أعتقه بنية الكفارة "فإن قيل عندي لا يمنع هذا العقد بل نقصان الرق" أي نقصان الرق يمنع الصرف إلى الكفارة عندي "فنقول الرق لم ينقص ونثبت هذا" أي عدم نقصان الرق "بعلة أخرى" وهي قوله الكتابة عقد يحتمل الفسخ فيجوز صرفه إلى الكفارة كما نقول الكتابة عقد معاوضة فلا توجب نقصانا في الرق "وإن أثبتناه بالعلة الأولى فهو نظير الرابع كما نقول احتماله الفسخ دليل على أن الرق لم ينقص وكلاهما صحيحان والرابع أحق" "لأن العلة التي أوردها تكون تامة في قطع الشبهات بلا احتياج إلى شيء آخر, وإن انتقل إلى حكم لا حاجة إليه أو إلى علة لإثبات حكم كذلك فهو باطل".
................................................................................................
اشتمل على تلبيس ربما يشتبه على بعض السامعين فلا نزاع في جواز الانتقال كما في قصة الخليل صلوات الله عليه وسلامه فإن معارضة اللعين كانت باطلة; لأن إطلاق المسجون وترك إزالة حياته ليس بإحياء; لأن معناه إعطاء الحياة وجعل الجماد حيا إلا أن الخليل عليه السلام انتقل إلى دليل أوضح وحجة أبهر ليكون نورا على نور وإضاءة غب إضاءة ومع ذلك لم يجعل انتقاله خلوا عن تأكيد للأول وتوضيح وتبكيت للخصم وتفضيح كأنه قال المراد بالإحياء إعادة الروح إلى البدن فالشمس بمنزلة روح العالم لإضاءته بها وإظلامه بغروبها فإن كنت تقدر على إحياء الموتى فأعد روح العالم إليه بأن تأتي الشمس من جانب المغرب.(2/212)
فصل: في الحجج الفاسدة
تجب البينة على الشفيع عندنا على ملك المشفوع به إذا أنكره المشتري وإذا قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ولا يدري أنه دخل أم لا فالقول قول المولى عندنا.
ـــــــ
"فصل: في الحجج الفاسدة" الاستصحاب حجة عند الشافعي رحمه الله تعالى في كل شيء ثبت وجوده بدليل ثم وقع الشك في بقائه وعندنا حجة للدفع لا للإثبات له أن بقاء الشرائع بالاستصحاب ولأنه إذا تيقن بالوضوء ثم شك في الحدث يحكم بالوضوء وفي العكس بالحدث إذا شهدوا أنه كان ملكا للمدعي فإنه حجة عنده ولنا أن الدليل الموجب لا يدل على البقاء وهذا ظاهر فبقاء الشرائع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ليس بالاستصحاب بل; لأنه لا نسخ لشريعته وفي حياته فقد مر جوابه في النسخ والوضوء والبيع والنكاح, ونحوها يوجب حكما ممتدا إلى زمان ظهور مناقض فيكون البقاء للدليل وكلامنا فيما لا دليل على البقاء كحياة المفقود فيرث عنده لا عندنا; لأن الإرث من باب الإثبات فلا يثبت به ولا يورث; لأن عدم الإرث من باب الدفع فيثبت به والصلح على الإنكار ولا يصح عنده فجعل براءة الذمة وهي الأصل حجة على المدعي فلا يصح الصلح كما بعد اليمين وعندنا يصح لما قلنا إن الاستصحاب لا يصح حجة للإثبات فلا يكون براءة الذمة حجة على المدعي فيصح الصلح و "تجب البينة على الشفيع عندنا على ملك المشفوع به إذا أنكره المشتري"; لأن ملك الشفيع الدار المشفوع بها ثابت بالاستصحاب فلا يكون حجة على المشتري فتجب البينة على الشفيع على ملك المشفوع بها لا عنده "وإذا قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ولا يدري أنه دخل أم لا فالقول قول المولى عندنا" فإن العبد تمسك بالأصل وهو أن الأصل عدم الدخول فلا يصلح حجة لاستحقاق العتق على المولى.
"ومنها" أي من الحجج الفاسدة "التعليل بالنفي كما ذكرنا في شهادة النساء" أي في الممانعة في دفع العلل الطردية والأخ فإنه يمكن الوجود بعلة أخرى إلا أن يثبت بالإجماع أن له علة واحدة فقط كقول محمد في ولد الغصب إنه غير مضمون; لأنه لم يغصب الولد
................................................................................................
قوله: "فصل" عقب مباحث الأدلة الصحيحة بالأدلة الفاسدة التي يحتج بها البعض في إثبات الأحكام ليتبين فسادها ليظهر انحصار الأدلة الصحيحة في الأربعة وهذا غير التمسكات الفاسدة; لأنها تمسك بالكتاب والسنة لكن بطريق فاسدة غير صالحة للتمسك فمن الحجج الفاسدة الاستصحاب وهو الحكم ببقاء أمر كان في الزمان الأول ولم يظن عدمه وهو حجة عند الشافعي رحمه الله تعالى في كل شيء أي كل أمر نفيا كان أو إثباتا ثبت وجوده أي تحققه بدليل شرعي ثم وقع الشك في بقائه أي لم يقع ظن بعدمه وعندنا حجة للدفع دون الإثبات فإن قيل إن قام دليل على كونه حجة لزم شمول الوجود أعني كونه حجة للإثبات والدفع وإلا لزم شمول العدم أجيب بأن معنى الدفع أن لا يثبت حكم وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله فالأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود وذكر بعض الشافعية رحمهم الله تعالى أن ما يحقق وجوده أو عدمه في زمان ولم يظن معارض يزيله فإن لزوم ظن بقائه أمر ضروري ولهذا يراسل العقلاء أهاليهم وبلادهم ربما كانوا يشافقونهم ويرسلون الودائع والهدايا ويعاملون بما يقتضي زمانا من التجارات والقروض والديون.
والآخرون استبعدوا دعوى الضرورة في محل الخلاف فتمسكوا بوجهين أحدهما أن الاستصحاب لو لم يكن حجة لما وقع الجزم بل الظن ببقاء الشرائع لاحتمال طريان الناسخ, واللازم(2/213)
ومنها الاحتجاج بتعارض الأشباه كقول زفر إن غسل المرافق ليس بفرض; لأن من الغايات ما يدخل وما لا يدخل فلا يدخل بالشك فإن هذا جهل محض; لأنه لم يعلم أن هذه من أي القسمين.
"باب" المعارضة والترجيح إذا ورد دليلان يقتضي أحدهم عدم ما يقتضيه الآخر في محل واحد في زمان واحد فإن تساويا قوة, أو يكون أحدهما أقوى بوصف هو تابع فبينهما المعارضة والقوة المذكورة رجحان, وإن كان أقوى بما هو غير تابع لا يسمى رجحانا, فلا يقال النص راجح على القياس من قوله عليه الصلاة والسلام: "زن وأرجح". "والمراد الفضل القليل لئلا يلزم الربا في قضاء الديون فيجعل ذلك عفوا"; لأنه لقلته في حكم العدم بالنسبة إلى المقابل. "والعمل بالأقوى وترك الآخر واجب في الصورتين" أي فيما إذا كان أحدهما أقوى بوصف هو تابع وفيما إذا كان أحدهما أقوى بما هو غير تابع "وإذا تساويا قوة" واعلم أن الأقسام ثلاثة: الأول: أن يكون أحد الدليلين أقوى من الآخر بما هو غير تابع كالنص مع القياس. والثاني: أن يكون أحدهما أقوى يوصف بما هو تابع كما في خبر الواحد الذي يرويه عدل فقيه مع خبر الواحد الذي يرويه عدل غير فقيه. والثالث: أن يكونا متساويين قوة ففي القسمين الأولين العمل بالأقوى وترك الآخر واجب, وأما الثالث فيأتي حكمه هنا, وهو قوله: في المتن, وإذا تساويا قوة فالمعارضة تختص بالقسم الثاني والثالث أما الأول فبمعزل
................................................................................................
باطل للقطع ببقاء شرع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وبقاء شرعه أبدا. وثانيهما الإجماع على اعتبار الاستصحاب في كثير من الفروع مثل بقاء الوضوء والحدث والملكية والزوجية فيما إذا ثبت ذلك ووقع الشك في طريان الضد.
وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم أنه لولا الاستصحاب لما حصل الجزم ببقاء الشرائع بل يجوز أن يحصل الجزم ببقائها والقطع بعدم نسخها بدليل آخر وهو في شريعة عيسى عليه السلام تواتر نقلها وتواطؤ جميع قومه على العمل بها إلى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام الأحاديث الدالة على أنه لا نسخ لشريعته فإن قيل هذا إنما يصح فيما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام, وأما الدليل على بقاء الحكم وعدم انتساخه في حال حياته فهو الاستصحاب لا غير قلنا قد سبق في بحث النسخ أن النص يدل على شرعية موجبة قطعا إلى زمان نزول الناسخ وعدم بيان النبي عليه الصلاة والسلام للناسخ دليل على عدم نزوله إذ لو نزل لبينه قطعا لوجوب التبليغ والتبيين عليه.
وعن الثاني بأن الفروع المذكورة ليست مبنية على الاستصحاب بل على أن الوضوء والبيع والنكاح ونحو ذلك يوجب أحكاما ممتدة إلى زمان ظهور المناقض كجواز الصلاة وحل الانتفاع والوطء وذلك بحسب وضع الشارع فبقاء هذه الأحكام مستندة إلى تحقق هذه الأفعال مع عدم ظهور المناقض لا إلى كون الأصل فيها هو البقاء ما لم يظهر المزيل والمنافي على ما هو قضية الاستصحاب وهذا ما يقال إن الاستصحاب حجة لإبقاء ما كان على ما كان لا لإثبات ما لم يكن, ولا للإلزام على الغير واستدل على أن الاستصحاب لا يصلح حجة للإثبات بأن الدليل الموجب للحكم لا يدل على البقاء, وهذا ظاهر ضرورة أن بقاء الشيء غير وجوده; لأنه عبارة عن استمرار(2/214)
ومنها التعليل بالنفي كما ذكرنا في شهادة النساء والأخ فإنه يمكن الوجود بعلة أخرى إلا أن يثبت بالإجماع أن له علة واحدة فقط كقول محمد في ولد الغصب إنه غير مضمون؛ لأنه لم يغصب الولد ومنها الاحتجاج بتعارض الأشباه كقول زفر إن غسل المرافق ليس بفرض؛ لأن من الغايات ما يدخل وما لا يدخل فلا يدخل بالشك فإن هذا جهل محض؛ لأنه لم يعلم أن هذه من أي القسمين. باب المعارضة والترجيح إذا ورد دليلان يقتضي أحدهم عدم ما يقتضيه
ـــــــ
عنها وإن كان العمل بالأقوى واجبا لكن لا يسمى هذا ترجيحا فالترجيح إنما يكون بعد المعارضة فيختص بالقسم الثاني
................................................................................................
الوجود بعد الحدوث وربما يكون الشيء موجبا لحدوث الشيء دون استمراره واعترض بأنه إن أريد عدم الدلالة بطريق القطع فلا نزاع وإن أريد بطريق الظن فممنوع ودعوى الضرورة والظهور في محل النزاع غير مسموع خصوصا فيما يدعي الخصم بداهة نقيضه وأيضا لا ندعي أن موجب الحكم يدل على البقاء بل إن سبق الوجود مع عدم ظن المنافي المدافع يدل على البقاء بمعنى أنه يفيد ظن البقاء والظن واجب الاتباع وبهذا يظهر أن قوله وكلامنا فيما لا دليل على البقاء غير مستقيم; لأن كلام الخصم ليس في ذلك وكيف يحكم بالشيء بدون دليل وإنما الكلام في أن سبق الوجود مع عدم ظن المنافي والمدافع هل هو دليل على البقاء.
قوله: "والصلح على الإنكار" أي مع إنكار المدعى عليه لا يصح عند الشافعي رحمه الله تعالى; لأن كون الأصل براءة الذمة حجة على المدعي بمنزلة اليمين فإن قيل هذا حجة لدفع حق المدعي فينبغي أن يكون مسموعا بالاتفاق قلنا بل لإلزام المدعي وإثبات براءة ذمة المدعى عليه.
قوله: "ومنها التعليل بالنفي" كما يقال لا يثبت النكاح بشهادة النساء مع الرجال; لأنه ليس بمال كالحد وكما يقال الأخ لا يعتق على أخيه عند الدخول في ملكه لعدم البعضية كابن العم فإن عدم المالية لا يوجب الحكم بعدم الثبوت بشهادة النساء مع الرجال, وكذا عدم البعضية لا يوجب الحكم بعدم العتق لجواز أن يتحقق كل منهما بعلة أخرى اللهم إلا إذا ثبت بالإجماع أن العلة واحدة فقط فحينئذ يلزم من عدمها عدم الحكم كما يقال ولد المغصوب لا يضمن; لأنه ليس بمغصوب إذ لا يصح أن يثبت الضمان بعلة أخرى للإجماع على أن علة الضمان هاهنا هو الغصب لا غير. واعلم أنه لا قائل بأن التعليل بالنفي إحدى الحجج الشرعية بمنزلة الاستصحاب حتى يعد في هذا الفصل بل هو تمسك بقياس فاسد بمنزلة الأقيسة الطردية وغيرها وبمنزلة التمسكات الفاسدة بالكتاب والسنة, وأما إذا ثبت بنص أو إجماع أن العلة واحدة فهو استدلال صحيح مرجعه إلى النص أو الإجماع كما إذا ثبت بين أمرين تلازم أو تناف فيستدل من وجود الملزوم على وجود اللازم أو من انتفاء اللازم على انتفاء الملزوم أو من ثبوت أحد المتنافيين على انتفاء الآخر, وكذا الكلام في تعارض الأشباه فإنه ترجيح فاسد لأحد القياسين لا حجة برأسها.
قوله: "باب المعارضة والترجيح" لما كانت الأدلة الظنية قد تتعارض, فلا يمكن إثبات الأحكام بها إلا بالترجيح ذلك بمعرفة جهاته عقب مباحث الأدلة بمباحث التعارض والترجيح تتميما للمقصود,(2/215)
الآخر في محل واحد في زمان واحد فإن تساويا قوة، أو يكون أحدهما أقوى بوصف هو تابع فبينهما المعارضة والقوة المذكورة رجحان، وإن كان أقوى بما هو غير تابع لا يسمى رجحانا، فلا يقال النص راجح على القياس من قوله عليه الصلاة والسلام: "زن وأرجح". والمراد الفضل القليل لئلا يلزم الربا في قضاء الديون فيجعل ذلك عفوا؛ والعمل بالأقوى وترك الآخر واجب في الصورتين وإذا تساويا قوة.
ـــــــ
وتعارض الدليلين كونهما بحيث يقتضي أحدهما ثبوت أمر والآخر انتفاءه في محل واحد في زمان واحد بشرط تساويهما في القوة, أو زيادة أحدهما بوصف هو تابع. واحترز باتحاد المحل عما يقتضي حل المنكوحة وحرمة أمها وباتحاد الزمان عن مثل حل وطء المنكوحة قبل الحيض وحرمته عند الحيض وبالقيد الأخير عما إذا كان أحدهما أقوى بالذات كالنص والقياس إذ لا تعارض بينهما. ولقائل أن يقول: إن أريد اقتضاء أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر بعينه حتى يكون الإيجاب واردا على ما ورد عليه النفي, فلا حاجة إلى اشتراط اتحاد المحل والزمان لتغاير حل المنكوحة وحل أمها, وكذا الحل قبل الحيض, وعنده وإلا فلا بد من اشتراط أمور أخرى مثل اتحاد المكان والشرط ونحو ذلك مما لا بد منه في تحقق التناقض. وجوابه أن اشتراط اتحاد المحل والزمان زيادة توضيح وتنصيص على ما هو ملاك الأمر في باب التناقض, فإنه كثيرا ما يندفع الترجيح باختلاف المحل والزمان, ثم التعارض لا يقع بين القطعيين لامتناع وقوع المتنافيين, ولا يتصور الترجيح; لأنه فرع التفاوت في احتمال النقيض, فلا يكون إلا بين الظنيين. وفي قوله: فإن تساويا قوة إشارة إلى جواز تحقق التعارض من غير ترجيح على ما هو الصحيح إذ لا مانع من ذلك والحكم حينئذ هو التوقف وجعل الدليلين بمنزلة العدم لا يلزم اجتماع النقيضين, أو ارتفاعهما, أو التحكم كما لا يلزم شيء من ذلك عند عدم شيء من الدليلين.
والترجيح في اللغة جعل الشيء راجحا أي فاضلا زائدا ويطلق مجازا على اعتقاد الرجحان. وفي الاصطلاح بيان الرجحان أي القوة التي لأحد المتعارضين على الآخر, وهذا معنى قولهم: هو اقتران الدليل الظني بأمر يقوى به على معارضه واشترط أن يكون تابعا حتى لو قوي أحدهما بما هو غير تابع له لا يكون رجحانا, فلا يقال: النص راجح على القياس لعدم التعارض, وهذا مأخوذ من معناه اللغوي, وهو إظهار زيادة أحد المثلين على الآخر وصفا لا أصلا من قولك رجحت الوزن إذا زدت جانب الموزون حتى مالت كفته, فلا بد من قيام التماثل أولا, ثم ثبوت الزيادة بما هو بمنزلة التابع والوصف بحيث لا تقوم به المماثلة ابتداء, ولا يدخل تحت الوزن منفردا عن المزيد عليه قصدا في العادة. قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: لا تسمى زيادة درهم على العشرة في أحد الجانبين رجحانا; لأن المماثلة تقوم به لا أصلا وتسمى زيادة الحبة ونحوها رجحانا; لأن المماثلة لا تقوم بها عادة, وهذا من قوله عليه الصلاة والسلام للوزان حين اشترى سراويل بدرهمين: "زن وأرجح, فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن", فمعنى "ارجح" زد عليه فضلا قليلا يكون تابعا له بمنزلة الأوصاف كزيادة الجودة لا قدرا يقصد بالوزن عادة للزوم الربا في قضاء الديون إذ لا يجوز أن يكون هبة لبطلان هبة المشاع فظهر أن جعله بمنزلة الجودة أولى من جعله في حكم العدم(2/216)
ففي الكتاب والسنة يحمل ذلك على فسخ أحدهما الآخر إذ لا تناقض بين أدلة الشرع؛ لأنه دليل الجهل فإن علم التاريخ وإلا يطلب المخلص ويجمع بينهما ما أمكن ويسمى عملا بالشبهين فإن تيسر فيها وإلا يترك ويصار من الكتاب إلى السنة ومنها إلى
ـــــــ
"ففي الكتاب والسنة" أي في معارضة الكتاب الكتاب والسنة السنة "يحمل ذلك على فسخ أحدهما الآخر إذ لا تناقض بين أدلة الشرع; لأنه دليل الجهل". واعلم أن في الكتاب والسنة حقيقة التعارض غير متحققة لأنه إنما يتحقق التعارض إذا اتحد زمان ورودهما, ولا شك أن الشارع تعالى وتقدس منزه عن تنزيل دليلين متناقضين في زمان واحد بل ينزل
................................................................................................
على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى; لأنه أوفى بتحقيق معنى التبعية.
قوله: "والعمل بالأقوى" يعني إذا دل دليل على ثبوت شيء والآخر على انتفائه فإما أن يتساويا في القوة, أو لا وعلى الثاني إما أن تكون زيادة أحدهما بما هو بمنزلة التابع, أو لا ففي الصورة الأولى معارضة, ولا ترجيح. وفي الثانية معارضة مع ترجيح. وفي الثالثة لا معارضة حقيقة, فلا ترجيح لابتنائه على التعارض المنبئ عن التماثل, وحكم الصورتين الأخيرتين أن يعمل بالأقوى ويترك الأضعف لكونه في حكم العدم بالنسبة إلى الأقوى, وأما الصورة الأولى أعني تعارض الدليلين المتساويين في القوة سواء تساويا في العدد كالتعارض بين آية وآية, أو لا كالتعارض بين آية وآيتين, أو سنة وسنتين, أو قياس وقياسين, فإن ذلك أيضا من قبيل المتساويين إذ لا ترجيح, ولا قوة بكثرة الأدلة حتى لا يترك الدليل الواحد بالدليلين فحكمها أنه إن كان التعارض بين قياسين يعمل بأيهما شاء, وإن كان بين آيتين, أو قراءتين, أو سنتين قوليين, أو فعليين مختلفين, أو آية وسنة في قوتها كالمشهور والمتواتر, فإن عم المتأخر منهما فناسخ إذ لو لم يصلح المتأخر ناسخا كخبر الواحد المتأخر عن الكتاب, أو السنة المشهورة, فهو ليس من قبيل تعارض التساوي بل المتقدم راجح وإلا فإن أمكن الجمع بينهما باعتبار مخلص من الحكم, أو المحل, أو الزمان فذاك وإلا يترك العمل بالدليلين وحينئذ إن أمكن المصير من الكتاب, إلى السنة, ومنها إلى القياس وقول الصحابي يصار إليه وإلا تقرر الحكم على ما كان عليه قبل ورود الدليلين, وهذا معنى تقرير الأصول. وفي الكلام إشارة إلى أن النسخ لا يجري بين القياسين إذ لا يتصور فيهما التقدم والتأخر, وأنه لا يقع التعارض بين الإجماع وبين دليل آخر قطعي من نص, أو إجماع إذ لا ينعقد إجماع مخالف لقطعي, وأنه لا ترتيب بين القياس وقول الصحابي بل هما في مرتبة واحدة يعمل بأيهما شاء بشرط التحري كما في القياسين.
وعند من أوجب تقليد الصحابي, ولو لم يدرك بالقياس يجب المصير إليه, أولا, ثم إلى القياس على ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى في شرح التقويم من أنه إن وقع التعارض بين سنتين فالميل إلى أقوال الصحابي, وإن وقع بينهما فالميل إلى القياس, ولا تعارض بين القياس وبين قول الصحابي. مثال المصير إلى السنة عند تعارض الآيتين قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} تعارضا فصرنا إلى قوله عليه(2/217)
القياس وأقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن أمكن ذلك وإلا يجب تقرير الأصل على ما كان في سؤر الحمار عند تعارض الآثار.
ـــــــ
أحدهما سابقا والآخر متأخرا ناسخا للأول لكنا لما جهلنا المتقدم والمتأخر توهمنا التعارض لكن في الواقع لا تعارض. فقوله: يحمل ذلك الإشارة ترجع إلى التعارض والمراد صورة التعارض وهي ورود دليلين يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر. "فإن علم التاريخ" جواب لشرط محذوف أي يكون المتأخر ناسخا للمتقدم "وإلا يطلب المخلص" أي يدفع المعارضة "ويجمع بينهما ما أمكن ويسمى عملا بالشبهين فإن تيسر فيها وإلا يترك ويصار من الكتاب إلى السنة ومنها إلى القياس وأقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن أمكن ذلك وإلا يجب تقرير الأصل على ما كان في سؤر الحمار عند تعارض الآثار" روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نجس, وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاهر, وأيضا قد تعارضت الأدلة في حرمة لحمه وحله, فلما تعارضت الأدلة يبقى الحكم على ما كان, وهو أن الماء كان طاهرا فيكون طاهرا, ولا يزيل الحدث لوقوع الشك في زوال الحدث, فلا يزول بالشك.
"وهو" أي التعارض في الكتاب والسنة "إما بين آيتين, أو قراءتين, أو سنتين, أو آية, أو
................................................................................................
الصلاة والسلام: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 1. ومثال المصير إلى القياس عند تعارض السنتين ما روى النعمان بن بشير أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الكسوف كما تصلون ركعة وسجدتين وما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام صلاها ركعتين بأربع ركعات وأربع سجدات تعارضا فصرنا إلى القياس على سائر الصلوات.
وهاهنا بحث, وهو أنهم صرحوا بأنه لا عبرة بكثرة الأدلة بل بقوتها حتى لو كانت في جانب آية وفي جانب آيتان, أو في جانب حديث وفي الآخر حديثان لا يترك الآية الواحدة, أو الحديث الواحد بل يصار من الكتاب إلى السنة, ومن السنة إلى القياس إذ لا ترجيح بالكثرة ويلزم من هذا ترجيح الآية والسنة على الآيتين فيما إذا كان الحديث موافقا للآية الواحدة, وكذا ترجيح السنة والقياس على حديثين, وهذا بعيد جدا; لأنه إن كان باعتبار تقوي الآية بالسنة, أو تقوي السنة بالقياس, فإذا جاز تقوي الدليل بما هو دونه فلم لا يجوز تقويه بما هو مثله, وإن كان باعتبار تساقط المتعارضين ووقوع العمل بالسنة, أو القياس السالم عن المعارض فلم لا يجوز تساقط الآيتين ووقوع العمل بالآية السالمة عن المعارض, وكذا في السنة. وغاية ما يمكن في هذا المقام أن يقال: إن الأدنى يجوز أن يصير بمنزلة التابع للأقوى فيرجحه بخلاف المماثل, أو يقال: إن القياس يعتبر متأخرا عن السنة والسنة عن الكتاب فالمتعارضان يتساقطان ويقع العمل بالمتأخر وإلى هذا يشير كلام السرخسي رحمه الله تعالى.
قوله: "لأنه إنما يتحقق التعارض إذا اتحد زمان ورودهما" ليس المراد أن تعارض الدليلين
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 13.(2/218)
وهو إما بين آيتين، أو قراءتين، أو سنتين، أو آية، أو سنة مشهورة والمخلص إما من قبل الحكم والمحل، أو الزمان أما الأول فإما أن يوزع الحكم كقسمة المدعى بين المدعين، أو بأن يحمل على تغاير الحكم كقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وفي موضع آخر: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية اللغو في الأولى ضد كسب القلب بدليل اقترانه به وفي الثانية ضد العقد والعقد قول يكون له حكم في المستقبل كالبيع ونحوه.
ـــــــ
سنة مشهورة والمخلص إما من قبل الحكم والمحل, أو الزمان أما الأول فإما أن يوزع الحكم كقسمة المدعى بين المدعين, أو بأن يحمل على تغاير الحكم كقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وفي موضع آخر: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية اللغو في الأولى ضد كسب القلب" أي السهو. "بدليل اقترانه به" أي بكسب القلب حيث قال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} "وفي الثانية ضد العقد" أي في الآية الثانية وهي: قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} باللغو ضد العقد بدليل اقترانه بالعقد. "والعقد قول يكون له حكم في المستقبل كالبيع ونحوه" قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فاللغو في هذه الآية ما يخلو عن الفائدة وقد جاء اللغو بهذا المعنى كما ذكر في المتن فاللغو يكون شاملا للغموس في
................................................................................................
وتناقض القضيتين موقوف على اتحاد زمان ورودهما والتكلم بهما على ما سبق إلى بعض الأوهام العامية من أن المراد باتحاد الزمان في التناقض زمان التكلم بالقضيتين, وإنما المراد زمان نسبة القضيتين حتى لو قيل في زمان واحد: زيد قائم الآن زيد ليس بقائم غدا لم يكن تناقضا, ولو قيل: زيد قائم وقت كذا, ثم قيل: بعد سنة: إنه ليس بقائم في ذلك الوقت كان تناقضا بل المقصود أن الدليلين إنما يتعارضان بحيث يحتاج إلى مخلص إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر إذ لو علم لكان المتأخر ناسخا للمتقدم, ولا شك أن الدليلين المتدافعين لا يصدران من الشارع إلا كذلك.
قوله: "كما في سؤر الحمار" قيل: الشك في الطهارة لتعارض الآثار في ذلك على ما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتعارض الأخبار كما روي عن جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم". وبما أفضلت السباع؟ قال: "لا" وروى أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الحمر الأهلية, فإنها رجس, وهذا يوجب نجاسة السؤر لمخالطة اللعاب المتولد من اللحم النجس, فإن أوثرت الطهارة قياسا على العرق في ظاهر الرواية أوثرت النجاسة قياسا على اللبن في أصح الروايتين وقيل: الشك في الطهورية لاختلاف الأخبار في حرمة لحم الحمار وإباحته والاشتباه في اللحم يورث الاشتباه في السؤر لمخالطته اللعاب المتولد منه, وهذا ضعيف; لأن أدلة الإباحة لا تساوي أدلة الحرمة في القوة حتى أن حرمته مما يكاد يجمع عليه, كيف ولو تعارضتا لكان دليل التحريم راجحا(2/219)
فاللغو في الآية الثانية يشمل الغموس إذ هو ما يخلو عن الفائدة كقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} فأوجب عدم المؤاخذة فوقع التعارض فجمعنا بينهما بأن المراد من المؤاخذة في الأولى في الآخرة بدليل اقترانه بكسب القلب وفي الثانية في الدنيا أي بالكفارة فقال فكفارته. والشافعي رحمه الله تعالى يحمل المؤاخذة في الآية الأولى على المؤاخذة في الثانية أي في الدنيا والعقد
ـــــــ
هذه الآية فتقتضي هذه الآية عدم المؤاخذة في الغموس والآية الأولى تقتضي المؤاخذة في الغموس; لأن الغموس من كسب القلب والمؤاخذة ثابتة في كسب القلب فوقع التعارض في الغموس, وهذا ما قاله في المتن.
"فاللغو في الآية الثانية يشمل الغموس إذ هو ما يخلو عن الفائدة كقوله: تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} : وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} فأوجب عدم المؤاخذة فوقع التعارض فجمعنا بينهما بأن المراد من المؤاخذة في الأولى في الآخرة بدليل اقترانه بكسب القلب وفي الثانية في الدنيا أي بالكفارة فقال فكفارته. والشافعي رحمه الله تعالى يحمل المؤاخذة في
................................................................................................
كما في الضبع حيث يحكم بنجاسة سؤره, وقد يقال: إنه لا خلاف في المعنى; لأن الشك في الطهورية إنما نشأ من اختلاف الآثار في الطهارة والنجاسة فالرجوع إلى الأصل على التقديرين هو أن يحكم بطهارة الماء وعدم طهوريته; لأنه كان طاهرا بيقين والمتوضئ محدث فلا تزول بالشك طهارة الماء ولا حدث المتوضئ, وإنما لم يحكم ببقاء الطهورية; لأنه يلزم منه الحكم بزوال الحدث بالشك إذ لا معنى للطهورية إلا هذا فيكون إهدارا لأحد الدليلين بالكلية لا تقريرا للأصول, وإذا لم يكن بد من أدنى عدول عن الأصل ضرورة امتناع الحكم ببقاء الطهورية في الماء والحدث في المتوضئ أخذ بالأقل والتزم الحكم بسلب الطهورية إذ ليس فيه إهدار أحد الدليلين بالكلية بخلاف ما إذا حكم ببقاء الطهورية.
وإلى ما ذكرنا من تقارب الشك في الطهارة والنجاسة, أو الطهورية وعدمها يشير كلام المصنف رحمه الله تعالى حيث صرح أولا بأن الاختلاف في الطهارة والنجاسة وأشار ثانيا إلى أن الشك في الطهورية حيث قال ولا يزيل الحدث لوقوع الشك في زوال الحدث فظهر أن ليس معنى الشك أن الحكم غير معلوم, ولا مظنون بل معناه تعارض الأدلة ووجوب الوضوء بسؤر الحمار حيث لا ماء سواه, ثم ضم التيمم إليه, وهذا حكم معلول, وكذا الحكم بطهارته وذكر شيخ الإسلام في المبسوط أن الاختلاف في الطهارة والنجاسة لا يورث الاشتباه كما إن أخبر عدل بطهارته وآخر بنجاسته, فإنه طاهر, ولا إشكال في حرمة لحمه ترجيحا لجانب الحرمة إلا أنه لم ينجس الماء لما فيه من الضرورة والبلوى إذ الحمار يربط في الدور والأفنية فيشرب من الأواني إلا أن الهرة تدخل المضايق فتكون الضرورة فيها أشد فالحمار لم يبلغ في الضرورة حد الهرة حتى يحكم بطهارة سؤره, ولا في عدم الضرورة حد الكلب حتى يحكم بنجاسة سؤره فبقي أمره مشكلا, وهذا أحوط من الحكم بالنجاسة; لأنه حينئذ لا يضم إلى التيمم فيلزم التيمم مع وجود الماء الطهور احتمالا.(2/220)
في الثانية على كسب القلب الذي ذكر في الأولى وأقول لا تعارض هنا واللغو في الصورتين واحد، وهو ضد الكسب؛ لأنه لا يليق من الشارع أن يقول: لا يؤاخذكم الله تعالى بالغموس والمؤاخذة في الصورتين في الآخرة لكن في الثانية سكت عن
ـــــــ
الآية الأولى على المؤاخذة في الثانية أي في الدنيا" أي يحمل المؤاخذة في الآية الأولى على المؤاخذة في الآية الثانية وهي المؤاخذة في الدنيا حتى أوجب الكفارة في الغموس. "والعقد في الثانية على كسب القلب الذي ذكر في الأولى" أي يحمل الشافعي رحمه الله تعالى العقد في الآية الثانية على كسب القلب حتى يكون اللغو هو عين اللغو المذكور في الآية الأولى, وهو السهو, فلا يكون التعارض واقعا لكن ما قلنا أولى من هذا; لأن على مذهبه يلزم أن لا يكون العقد مجرى على معناه الحقيقي وأيضا الدليل دال على أن المؤاخذة في الآية الأولى هي المؤاخذة الأخروية بدليل اقترانها بكسب القلب, وهو يحملها على الدنيوية, وأما على
................................................................................................
قوله: "وهو إما بين آيتين, أو قراءتين" يعني في آية واحدة كقراءتي الجر والنصب في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}, فإن الأولى تقتضي مسح الرجل والثانية غسلها على ما هو المذهب. فإن قيل: الجر محمول على الجواز, وإن كان عطفا على المغسول توفيقا بين القراءتين كما في قولهم: جحر ضب خرب وماء شن بارد وقول زهير:
لعب الرياح بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر
فإن القطر معطوف على سوافي والجر بالجوار وقول الفرزدق:
فهل أنت إن ماتت أتانك راكب ... إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
بخفض خاطب على الجوار مع عطفه على راكب عورض بأن النصب محمول على العطف على المحل جمعا بين القراءتين كما قوله: يذهبن في نجد وغورا غائرا على ما هو اختيار المحققين من النحاة, وهو إعراب شائع مستفيض مع ما فيه من اعتبار العطف على الأقرب وعدم وقوع الفصل بالأجنبي. والوجه أنه في القراءتين معطوف على "رءوسكم" إلا أن المراد بالمسح في الرجل هو الغسل بقرينة قوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} إذ المسح يضرب له غاية في الشرع فيكون من قبيل المشاكلة كما في قوله: قلت اطبخوا لي جبة وقميصا. وفائدته التحذير عن الإسراف المنهي عنه إذ الأرجل مظنة الإسراف بصب الماء عليها فعطفت على الممسوح لا لتمسح لكن لينبه على وجوب الاقتصار كأنه قيل: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا شبيها بالمسح فالمسح المعبر به عن الغسل هو المقدر الذي يدل عليه الواو, فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد, وإنما حمل على ذلك لما اشتهر من أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا يغسلون أرجلهم في الوضوء مع أن في الغسل مسحا وزيادة إذ لا إسالة بدون الإصابة, وأن المقصود من الوضوء هو التطهير وذلك في الغسل, ومسح الرأس خلف عنه تخفيفا ففي إيثار الغسل جمع بين الأدلة وموافقة للجماعة وتحصيل للطهارة وخروج عن العهدة بيقين.(2/221)
الغموس وذكر المنعقدة واللغو وقال الإثم الذي في المنعقدة يستر بالكفارة لا أن المراد المؤاخذة في الدنيا وهي الكفارة.
ـــــــ
مذهبنا فإن اللغو جاء لمعنيين فيحمل في كل موضع على ما هو أليق به وتحمل المؤاخذة في كل موضع على ما هو أليق به من الدنيوية, أو الأخروية. "وأقول لا تعارض هنا واللغو في الصورتين واحد, وهو ضد الكسب; لأنه لا يليق من الشارع أن يقول: لا يؤاخذكم الله تعالى بالغموس والمؤاخذة في الصورتين في الآخرة لكن في الثانية سكت عن الغموس وذكر المنعقدة واللغو وقال الإثم الذي في المنعقدة يستر بالكفارة لا أن المراد المؤاخذة في الدنيا وهي الكفارة" هذا وجه وقع في خاطري لدفع التعارض. واللغو في الآيتين واحد, وهو السهو أما في الآية الأولى فبدليل اقترانه بكسب القلب, وأما في الآية الثانية فلأنه لا يليق من الشارع أن يقول: لا يؤاخذكم الله بالقول الخالي عن الفائدة الذي يدع الديار بلاقع أعني اليمين الفاجرة بل اللائق أن يقول: لا يؤاخذكم الله بالسهو كما قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} والمراد بالمؤاخذة المؤاخذة الأخروية; لأن الآخرة هي دار الجزاء والمؤاخذة. وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ} لا يدل على أن المراد المؤاخذة الدنيوية; لأن معنى الكفارة الستارة أي الإثم الحاصل بالمنعقدة يستر بالكفارة والآية الثانية دلت على عدم المؤاخذة في اليمين السهو وعلى المؤاخذة في المنعقدة وهي ساكتة عن الغموس فاندفع التعارض وثبت الحكم على وفق مذهبنا, وهو عدم الكفارة في الغموس.
"وأما الثاني" وهو المخلص من قبل المحل "فبأن يحمل على تغاير المحل كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد والتخفيف فبالتخفيف يوجب الحل بعد الطهر قبل
................................................................................................
قوله: "والمخلص" يعني قد اعتبر في التعارض اتحاد الحكم والمحل والزمان, فإذا تساوى المتعارضان, ولم يمكن تقوية أحدهما يطلب المخلص من قبل الحكم, أو المحل, أو الزمان بأن يدفع اتحاده أما الأول أي المخلص من قبل الحكم فعلى وجهين: أحدهما: التوزيع بأن يجعل بعض أفراد الحكم ثابتا بأحد الدليلين وبعضها منفيا بالآخر كقسمة المدعى بين المدعيين بحجتيهما. وثانيهما: التغاير بأن يبين مغايرة ما ثبت بأحد الدليلين لما انتفى بالآخر كما في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}, وفي موضع آخر: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فالأولى توجب المؤاخذة على اليمين الغموس; لأنه من كسب القلب أي القصد والثانية توجب عدم المؤاخذة عليها; لأنها من اللغو, وهو ما لا يكون له حكم وفائدة إذ فائدة اليمين المشروعة تحقيق البر والصدق وذلك لا يتصور في الغموس.
والمخلص أن يقال: المؤاخذة التي توجبها الآية الأولى على الغموس هي المؤاخذة في الآخرة والتي تنفيها الثانية هي المؤاخذة في الدنيا أي لا يؤاخذكم الله بالكفارة في اللغو ويؤاخذكم(2/222)
وأما الثاني فبأن يحمل على تغاير المحل كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد والتخفيف فبالتخفيف يوجب الحل بعد الطهر قبل الاغتسال وبالتشديد يوجب الحرمة قبل الاغتسال فحملنا المخفف على العشرة والمشدد على الأقل.
وأما الثالث فإنه إذا كان صريح اختلاف الزمان يكون الثاني ناسخا للأول فكذا إن كان دلالته كنصين أحدهما محرم والآخر مبيح يجعل المحرم ناسخا؛ لأن قبل البعثة كان الأصل الإباحة والمبيح ورد لإبقائه ثم المحرم نسخه، ولو جعلنا على العكس يتكرر النسخ لأن الإباحة الأصلية ليست حكما شرعيا، فلا تكون الحرمة بعده نسخا.
ـــــــ
الاغتسال وبالتشديد يوجب الحرمة قبل الاغتسال فحملنا المخفف على العشرة والمشدد على الأقل" وإنما لم يحمل على العكس; لأنها إذا طهرت لعشرة أيام حصلت الطهارة الكاملة لعدم احتمال العود, وإذا طهرت لأقل منها يحتمل العود, فلم تحصل الطهارة الكاملة فاحتيج إلى الاغتسال لتتأكد الطهارة.
"وأما الثالث" أي المخلص من قبل الزمان "فإنه إذا كان صريح اختلاف الزمان يكون الثاني ناسخا للأول فكذا إن كان دلالته كنصين أحدهما محرم والآخر مبيح يجعل المحرم ناسخا; لأن قبل البعثة كان الأصل الإباحة والمبيح ورد لإبقائه ثم المحرم نسخه, ولو جعلنا على العكس يتكرر النسخ" أي لو قلنا إن المحرم كان متقدما على المبيح فالمحرم كان
................................................................................................
بها في المعقودة, ثم فسر الكفارة بقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية, ولما تغايرت المؤاخذتان اندفع التعارض, وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحمل العقد على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه فيشمل الغموس ويصير معنى الآيتين واحدا, وهو نفي الكفارة عن اللغو وإثباتها على المعقود والغموس وذلك لأن كسب القلب مفسر والعقد مجمل فيحمل على المفسر ويندفع التعارض ورد ذلك بوجوه: الأول: أن فيه عدولا عن الحقيقة من غير ضرورة; لأن العقد ربط الشيء بالشيء وذلك حقيقة في العقد المصطلح بين الفقهاء لما فيه من ربط أحد الحكمين بالآخر بخلاف عزم القلب, فإنه سبب للعقد فسمي به مجازا. وفيه نظر; لأن العقد بمعنى الربط إنما يكون حقيقة في الأعيان دون المعاني, فهو في الآية مجاز لا محالة على أن عقد القلب واعتقاده بمعنى ربطه بالشيء وجعله ثابتا عليه أشهر في اللغة من العقد المصطلح في الفقه, فإنه من مخترعات الفقهاء. الثاني: أن اقتران الكسب بالمؤاخذة يدل على أن المراد بها المؤاخذة الأخروية إذ لا عبرة بالقصد وعدمه في المؤاخذة الدنيوية ورد بمنع ذلك في حقوق الله تعالى لا سيما في الحقوق الدائرة بين العبادة والعقوبة. الثالث: أن الآية على هذا التقرير تكرار للآية السابقة, ولا شك أن الإفادة خير من الإعادة ورد بأن سوق الثانية لبيان الكفارة, فلا تكرار.(2/223)
ناسخا للإباحة الأصلية ثم المبيح يكون ناسخا للمحرم فيتكرر النسخ, فلا يثبت التكرار بالشك وفيه نظر "لأن الإباحة الأصلية ليست حكما شرعيا, فلا تكون الحرمة بعده نسخا". وبيانه أنا لا نسلم أن المحرم لو كان متقدما لكان ناسخا للإباحة فإنه إنما كان ناسخا لها إن قد ورد في الزمان الماضي دليل شرعي دال على إباحة جميع الأشياء فيلزم حينئذ كون المحرم ناسخا لذلك المبيح لكن ورد الدليل المذكور غير مسلم, فلا يكون المحرم ناسخا لذلك المبيح لما عرفت من تعريف النسخ ويمكن إتمام الدليل المذكور على وجه لا يرد عليه هذا النظر, وهو أنه إذا انتفع المكلف بشيء قبل ورود ما يحرمه, أو يبيحه فإنه لا يعاقب بالانتفاع به لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فإن هذا الإخبار يدل على أن الإنسان إن انتفع بما في الأرض قبل ورود محرمه, أو مبيحه لا يعاقب ثم لا شك أنه إذا ورد المحرم فقد غير الأمر المذكور, وهو عدم العقاب على الانتفاع.
ثم إذا ورد المبيح فقد نسخ ذلك المحرم فيلزم منا تغييران وأما على العكس فلا يلزم إلا تغيير واحد فاندفع الإيراد المذكور بهذا التقرير فتقرر الدليل بهذا الطريق, أو نقول عنينا بتكرر النسخ هذا المعنى لا النسخ بالتفسير الذي ذكرتم. وقد قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى هذا أي تكرر النسخ بناء على قول من جعل الإباحة أصلا ولسنا نقول بهذا في
................................................................................................
قوله: "وأقول لا تعارض هنا" وذكر المصنف رحمه الله تعالى في دفع التعارض أن المراد باللغو في الآيتين هو الخالي عن القصد وبالمؤاخذة المؤاخذة في الآخرة والغموس داخل في المكسوبة لا في المعقودة, ولا في اللغو فالآية الأولى أوجبت المؤاخذة على الغموس والثانية لم يتعرض لها لا نفيا, ولا إثباتا, فلا تعارض لها أصلا, وهذا قريب مما ذكره الشيخ أبو منصور رحمه الله حيث قال نفى المؤاخذة عن اللغو في الآية الأولى وأثبتها في الغموس والمراد منها الإثم ونفى المؤاخذة في الآية الثانية عن اللغو وأثبتها في المعقودة وفسر المؤاخذة هاهنا بالكفارة فدل على أن المؤاخذة في المعقودة بالكفارة وفي الغموس بالإثم, وفي اللغو لا مؤاخذة أصلا إلا أن المصنف رحمه الله تعالى حمل المؤاخذة الثانية أيضا على الإثم بناء على أن دار المؤاخذة إنما هي دار الآخرة. فإن قيل: قوله: {فَكَفَّارَتُهُ} تفسير للمؤاخذة والمؤاخذة التي هي الكفارة إنما هي في الدنيا والمختص بالآخرة إنما هي المؤاخذة التي هي العقاب وجزاء الإثم أجيب بالمنع بل هو تنبيه على طريق دفع المؤاخذة في الآخرة أي إذا حصل الإثم باليمين المنعقدة فوجه دفعه وستره إطعام عشرة مساكين إلى آخره. واعلم أن اللائق بنظم الكلام عند قولنا: "لا يؤاخذكم الله" بكذا ولكن يؤاخذكم بكذا أن يكون الثاني مقابلا للأول من غير واسطة بينهما فلهذا ذهب الجمهور إلى إدراك الغموس في اللغو, أو فيما عقدتم, ولا وجه لجعل الكلام في الآية الثانية خلوا عن التعرض للغموس. فإن قيل: قد علم حكمها في الآية السابقة قلنا, وكذلك اللغو.
والتحقيق أن إطلاق المؤاخذة على الدنيوية والأخروية ليس بحسب الاشتراك اللفظي إذ لا(2/224)
الأصل; لأن البشر لم يتركوا سدى في شيء من الزمان وإنما هذا أي كون الإباحة أصلا بناء على زمان الفترة قبل شريعتنا فإن الإباحة كانت ظاهرة في الأشياء كلها بين الناس في زمان الفترة وذلك ثابت إلى أن يوجد المحرم وإنما كان كذلك لاختلاف الشرائع في ذلك الزمان ووقوع التحريفات في التوراة, فلم يبق الاعتماد والوثوق على شيء من الشرائع فظهرت الإباحة بالمعنى المذكور, وهو عدم العقاب على الإتيان به ما لم يوجد له محرم, ولا مبيح.
واعلم أن الشيء الذي لا يوجد له محرم, ولا مبيح فإن كان الانتفاع به ضروريا كالتنفس ونحوه فغير ممنوع اتفاقا وإن لم يكن ضروريا كأكل الفواكه فعند بعض الفقهاء على الإباحة فإن أرادوا بالإباحة أن الله تعالى حكم بإباحته في الأزل فهذا غير معلوم وإن أرادوا عدم العقاب على الانتفاع به فحق. وعند بعض المعتزلة على الحظر فإن أرادوا أن الله تعالى حكم بحظره فغير معلوم وإن أرادوا العقاب على الانتفاع به فباطل لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}. وعند الأشعري على الوقف ففسر الوقف تارة بعدم الحكم, وهذا باطل; لأنه إما ممنوع من الله عن الانتفاع به, أو ليس بممنوع والأول حظر والثاني إباحة, ولا خروج عن النقيضين. وأجاب الإمام في المحصول عن هذا بأن المباح هو الذي أعلم الشارع فاعله أو دل على أنه لا حرج عليه في الفعل, وهذا الجواب ليس بشيء; لأن الخلاف في شيء لم يعلم الشارع بالحرج في فعله وتركه وعدمه فمعنى كلامه أن الشيء الذي لم يعلم الشارع بالحرج في فعله وتركه وعدم الحرج لم يعلم الشارع بعدم الحرج فيه. وهذا كلام حشو ولا خلاف في هذا, وقد فسر الوقف تارة بعدم العلم بأن هناك حكما أم لا وإن كان حكم, فلا نعلم أنه حظر, أو إباحة أما عدم العلم بأن هناك حكما أم لا فباطل; لأنا نعلم أن عند الله تعالى حكما لازما إما بالمنع, أو بعدمه وأما أنه لا نعلم أن
................................................................................................
اختلاف في المفهوم بل في الأفراد باعتبار التعلق فعند القائلين بعموم الفعل المنفي يكون المعنى لا يؤاخذكم شيئا من المؤاخذة عقوبة كانت, أو كفارة في اللغو ولكن يؤاخذكم بهما, أو بأحدهما في المكسوبة والمعقودة عند الحنث.
قوله: "فبالتخفيف" أي قراءة: {يطهرون} بتخفيف التاء والهاء توجب حل القربان بعد حصول الطهر سواء حصل الاغتسال, أو لم يحصل وظاهر هذه العبارة مشعر بأن الحل مستفاد من قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} قولا بمفهوم الغاية, فإنه متفق عليه ويحتمل أن يريد أن الحل كان ثابتا والنهي قد انقضى بالطهر فبقي الحل الثابت لعدم تناول النهي إياه فعبر عن عدم رفع الآية الحل بإيجابها إياه تجوزا. فإن قيل: لو كان المراد بقراءة التخفيف حقيقة الطهر لكان المناسب "فإذا طهرن فأتوهن" فاتفاق القراء على: "تطهرن" أي اغتسلن يدل على أن المراد بقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} يغتسلن أما على قراءة التشديد فحقيقة, وأما على التخفيف فمجاز بإطلاق الملزوم على اللازم ضرورة لزوم الغسل عند الانقطاع فيكون حرمة القربان عند الدم معلومة من قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا(2/225)
الحكم حظر, أو إباحة فحق فالحق عندنا أنا لا نعلم أن الحكم عند الله تعالى الحظر, أو الإباحة, ومع ذلك لا عقاب على فعله وتركه فعلم أنه لا خلاف بين من يقول: إنا لا نعلم أن الحكم عند الله الحظر, أو الإباحة وبين من يقول بالإباحة إذ لا معنى للإباحة إلا أنه لا يعاقب على الفعل والترك, وهذا حاصل عند من يقول: لا نعلم أن الحكم أيهما ولقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع الحلال والحرام" الحديث "إلا وقد غلب الحرام الحلال".
................................................................................................
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ويكون قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ}.. الآية لبيان انتهاء الحرمة وعود الحل به أجيب بأن تفعل قد يجيء بمعنى فعل كتكبر وتعظم في صفات الله تعالى فيحمل عليه في قراءة التخفيف إذ في الانقطاع على العشرة لا يجوز تأخير حق الزوج إلى الاغتسال وقيل: معناه توضأن أي صرن أهلا للصلاة. وفي شرح التأويلات أن الآية محمولة على ما دون العشرة صرفا للخطاب إلى ما هو الغالب وانتهاء الحرمة فيما دون العشرة إنما يكون الاغتسال فقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف أيضا معناه يغتسلن مجازا, ولا يخفى أن في الكل عدولا عن الظاهر وما ذكره الشافعي رحمه الله تعالى ليس أبعد من ذلك.
قوله: "لأن الإباحة الأصلية ليست حكما شرعيا". فإن قيل: هي حكم شرعي ثبت بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} قلنا إنما يصح ذلك لو ثبت تقدم هذه الآية على النصين المفروضين أعني المحرم والمبيح وإلى هذا أشار بقوله: فإنه أي المحرم إنما يكون ناسخا للإباحة الأصلية إن قد ورد أي إن كان قد ورد في الزمان الماضي أي الزمان المتقدم على زمان ورود النص المحرم والمبيح دليل شرعي دال على إباحة جميع الأشياء لكن ورود هذا الدليل متقدما على ورود النصين المبيح والمحرم ليس بمسلم على الإطلاق, وفي جميع الصور بل قد, وقد. وبهذا تبين أن تقرير الدليل بوجه لا يرد عليه النظر على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ليس بتمام; لأن عدم العقاب على الانتفاء إنما يصير حكما شرعيا بعد ورود النصوص الدالة على إباحة جميع الأشياء فتغييره بالنص المحرم لا يكون نسخا بالمعنى المصطلح إلا إذا تأخر المحرم عن دليل إباحة الأشياء, وهو ليس بلازم وبالجملة المعتبر في النسخ كون الحكم شرعيا عند ورود الناسخ, ولا يثبت ذلك إلا إذا تقدم دليل إباحة الأشياء على دليل تحريم ذلك الشيء المخصوص.
قوله: "عنينا بتكرر النسخ هذا المعنى" أي تكرر التغيير سواء كان تغيير حكم شرعي, أو لا, فإن تكرار التغيير زيادة على نفس التغيير, فلا يثبت بالشك.
قوله: "واعلم أن الشيء الذي لا يوجد له محرم, ولا مبيح" إشارة إلى مسألة حكم الأفعال قبل ورود الشرع. فإن قلت: ما لا يوجد له محرم, ولا مبيح قد يكون واجبا, أو مندوبا, أو مكروها. قلت: المراد بالمبيح ما يقابل المحرم, فإن الإباحة قد تطلق على عدم المنع عن الفعل سواء كان بطريق الوجوب أو الندب أو الكراهة فكأنه قال: الشيء الذي لم يوجد له دليل المنع, ولا دليل عدمه أي لم يعلم تعلق حكم شرعي به بناء على عدم ورود الشرع; لأن هذه المسألة إنما هي لبيان حكم الأفعال قبل البعثة, فإن كان اضطراريا كالتنفس ونحوه, فهو ليس بممنوع إلا عند من جوز تكليف(2/226)
المحال وإن كان اختياريا كأكل الفواكه فحكمه الإباحة عند بعض المعتزلة وبعض الفقهاء من الحنفية والشافعية رحمهم الله والحرمة عند المعتزلة البغدادية وبعض الشيعة والتوقف عند الأشعري والصيرفي. ومحل الخلاف هي الأفعال الاختيارية التي لا يقضي العقل فيها بحسن, ولا قبح, وأما التي يقضي فيها العقل فهي عندهم تنقسم إلى الواجب والمندوب والمحظور والمكروه والمباح; لأنه لو اشتمل أحد طرفيه على مفسدة, فأما فعله فحرام, أو تركه فواجب, وإن لم يشتمل عليها, فإن اشتمل على مصلحة, فأما فعله فمندوب, أو تركه فمكروه, وإن لم يشتمل على المصلحة أيضا فمباح, وهذه المسألة تورد في أصول الشافعية والأشاعرة على التنزل إلى مذهب المعتزلة في أن للعقل حكما بالحسن والقبح وإلا فالفعل قبل البعثة لا يوصف عندهم بشيء من الأحكام.
إذا تقرر هذا فيقال: على المبيح إن أردت بالإباحة أن لا حرج في الفعل والترك, فلا نزاع, وإن أردت خطاب الشارع في الأزل بذلك فليس بمعلوم بل ليس بمستقيم; لأن الكلام فيما لا حكم فيه للعقل بحسن, ولا قبح في حكم الشارع. فإن استدل بأن الله تعالى خلق العبد وما ينتفع فالحكمة تقتضي إباحته له تحصيلا لمقصود خلقهما وإلا لكان عبثا خاليا عن الحكمة, وهو نقض فجوابه المعارضة بأنه ملك الغير فيحرم التصرف فيه والحل بأنه ربما خلقهما ليشتهيه فتصير عنه فيثاب عليه, ولا يلزم من عدم الإباحة عبث ويقال: على المحرم إن أردت حكم الشارع بالحرمة في الأزل فغير معلوم إذ التقدير أنه لا محرم, ولا مبيح بل غير مستقيم; لأن المفروض أنه لم يدرك بالعقل حسنه, ولا قبحه في حكم الشارع, وإن أردت العقاب على الانتفاع فباطل لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}, فإنه يدل على نفي التعذيب على ما صدر قبل البعثة. فإن قلت: الحكم بالحظر والعقاب على الانتفاع متلازمان فكيف جزم ببطلان الثاني دون الأول. قلت: الحكم بالحظر لا يستلزم العقاب لجواز العفو, وقد يقال: على المحرم إن عدم الحرمة معلوم قطعا, فإن من ملك بحرا لا ينزف, وهو في غاية الجود وأخذ مملوكه قطرة من ذلك البحر لا يدرك بالعقل تحريمها, فإن استدل بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فتحرم أجيب بأن حرمة التصرف في ملك الغير بغير إذنه عقلا ممنوعة, فإنها تبتنى على السمع, ولو سلم فذلك فيمن يلحقه ضرر ما بالتصرف في ملكه والمالك فيما نحن فيه منزه عن الضرر.
فإن قيل: إذا كان الخلاف فيما لم يدرك بالعقل حسنه, ولا قبحه على ما ذكرتم فكيف يصح القول بحرمته, أو إباحته. قلت: المراد بالإباحة جواز الانتفاع خاليا عن أمارة المفسدة وبالحرمة عدمه, وهذا لا ينافي عدم إدراك العقل فيه بخصوصه صفة محسنة, أو مقبحة, وأما التوقف, فقد فسر تارة بعدم الحكم وتارة بعدم العلم بالحكم أما بمعنى نفي التصديق بثبوت الحكم أي لا يدرك أن هناك حكما أم لا, وأما بمعنى نفي تصور الحكم على التعيين مع التصديق بثبوت حكم في الجملة أي لا يدرك أن الحكم حظر أو إباحة, وهذا هو المختار عند المصنف رحمه الله تعالى.
أما الأول, وهو التوقف بمعنى عدم الحكم فباطل من وجوه أحدها أنه جزم بعدم الحكم لا توقف والقول بأنه يسمى توقفا باعتبار العمل بمعنى أنه يقتضي عدم العمل بالفعل تكلف. وثانيها أن الحكم قديم عند الأشعري, فلا يتصور عدمه والتكليف بالمحال جائز عنده, فلا يتوقف تعلق(2/227)
الحكم بالفعل على البعثة إذ لا موجب للتوقف سوى التحرز على تكليف المحال ورد بأن تجويز تكليف المحال يستلزم القول بوقوعه, ولو سلم, فلا يلزم منه ثبوت تعلق الحكم بالفعل قبل البعثة لجواز أن يمتنع بسبب آخر, وتجويز التكليف قبل البعثة ليس مذهبا للأشعري بل هو ينافي مذهبه في الحسن والقبح, فلا يصلح إلزاما له. وثالثها أن الفعل إما ممنوع في حكم الله تعالى فيحرم, أو غير ممنوع فيباح وأجاب الإمام بأنا لا نسلم أن عدم المنع في حكم الله تعالى يستلزم الإباحة, فإن المباح ما أذن الشارع في فعله وتركه من غير رجحان, وهذا معنى إعلام الشارع نصا, أو دلالة بأنه لا حرج على فاعله في الفعل والترك وعدم المنع أعم من ذلك كما في أفعال البهائم. واعتراض المصنف رحمه الله تعالى عليه ظاهر وتحقيقه أن هذا الاختلاف إنما هو على تقدير التنزل إلى أن للعقل حكما في الأفعال قبل البعثة فحينئذ لا يجوز أن يراد بالإباحة إذن الشارع في الفعل والترك بل معناها جواز الانتفاع خاليا عن أمارة المفسدة, وأما عدم الحكم الشرعي قبل البعثة فمما لا يتصور فيه خلاف. ومنشأ هذا الاعتراض مع أنه كلام على السند عدم تحرير محل النزاع وتحقيق مراد الإمام, فإن محل النزاع هو أن الفعل الذي لم يرد فيه حكم من الشارع لعدم البعثة, ولم يدرك فيه العقل جهة حسن, ولا قبح كأكل الفواكه مثلا فهل للعقل أنه يحكم حكما عاما بأنه في حكم الشارع مأذون فيه, أو ممنوع عنه ومراد الإمام أن ما لم يمنع عنه أي ما لم يدرك العقل أنه ممنوع عنه في حكم الشارع لا يلزم أن يكون مباحا أي مأذونا فيه من الشارع إعلاما بأن يرد دليل منه على أنه لا حرج في فعله وتركه, أو دلالة بأن يرشد الشارع العبد بعقله إلى أن يدرك ذلك, فلا يكون معنى كلامه أن الشيء الذي لم يعلم الشارع بالحرج في فعله وتركه وعدم الحرجلم يعلم الشارع بعدم الحرج فيه ليكون حشوا على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى بل يكون معناه أن ذلك الفعل لا يلزم أن يدل الشارع فاعله على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك بأن يدرك ذلك بعقله, وهذا كلام لا غبار عليه.
وأما الثاني, وهو التوقف بمعنى عدم العلم بأن في ذلك الفعل حكما لله تعالى أم لا فباطل; لأنا نعلم قطعا أن لله تعالى في كل فعل حكما إما بالمنع عنه, أو بعدم المنع وللخصم أن يمنع ذلك, ولا تناقض بين الحكم بالمنع والحكم بعدم المنع حتى يمتنع ارتفاعهما وإنما التناقض بين الحكم وعدم الحكم, وهو لا يوجب الإباحة.
وأما الثالث وهو التوقف بمعنى عدم العلم بأن حكمه الإباحة أو الحظر فحق إذ التقدير أنه لا دليل من الشارع, ولا مجال من العقل, وهذا يساوي القول بالإباحة من جهة اتفاقهما على أنه لا عقاب على الفعل, ولا على الترك, فلا خلاف بينهما في المعنى. وفيه نظر; لأن مذهب المتوقف هو أنه لا علم بالعقاب وعدمه. وعدم القول بالعقاب أعم من القول بعدم العقاب فكيف يتساويان؟ فظهر أن قوله: ومع ذلك فلا عقاب ليس بمستقيم; لأن القول بعدم العقاب قول بالإباحة; لأنه معناها على ما فسرها, فلا توقف.
قوله: "ولقوله عليه الصلاة والسلام" دليل آخر على جعل المحرم ناسخا للمبيح, وهو عطف على قوله: "لأن قبل البعثة كان الأصل الإباحة".(2/228)
وأما إذا كان أحدهما مثبتا والآخر نافيا فإن كان النفي يعرف بالدليل كان مثل الإثبات وإن كان لا يعرف به بل بناء على العدم الأصلي فالمثبت، أولى لما قلنا في المحرم والمبيح وإن احتمل الوجهين ينظر فيه فما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج
ـــــــ
"وأما إذا كان أحدهما مثبتا والآخر نافيا فإن كان النفي يعرف بالدليل كان مثل الإثبات وإن كان لا يعرف به بل بناء على العدم الأصلي فالمثبت, أولى لما قلنا في المحرم والمبيح وإن احتمل الوجهين ينظر فيه" أي إن احتمل النفي أن يعرف بدليل وأن يعرف بغير دليل بناء على العدم الأصلي ينظر في ذلك النفي فإن تبين أنه يعرف بالدليل يكون كالإثبات وإن تبين أنه بناء على العدم الأصلي فالإثبات أولى. "فما روي "أنه عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة, وهو حلال" مثبت وما روي أنه محرم ناف فإنه اتفق على أنه لم يكن في الحل الأصلي والإحرام حالة مخصوصة تدرك عيانا فكلاهما سواء فرجح بالراوي وروي أنه المحرم عبد الله بن عباس ولا يعدله يزيد بن الأصم ونحوه" هذا نظير النفي الذي يعرف بالدليل. اعلم أن نكاح المحرم جائز عندنا تمسكا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة, وهو محرم وتمسك الخصم بما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج, وهو حلال واتفقوا على أنه لم يكن في الحل الأصلي فالخلاف في أنه كان في الإحرام, أو في الحل الذي بعد الإحرام فمعنى أنه تزوجها في الإحرام أنه لم يتغير الإحرام بعد ومعنى أنه تزوجها في الحل الذي بعد الإحرام أن الإحرام تغير إلى الحل فالأول ناف والثاني مثبت لكن الإحرام حالة مخصوصة مدركة عيانا فتكون كالإثبات فرجحنا بالراوي, وهو ابن عباس رضي الله عنهما.
................................................................................................
قوله: "فالمثبت أولى" إذ لو جعل الباقي أولى يلزم تكرر النسخ بتغيير المثبت للنفي الأصلي, ثم النافي للإثبات وأيضا المثبت يشتمل على زيادة علم كما في تعارض الجرح والتعديل بجعل الجرح أولى; ولأن المثبت مؤسس والنافي مؤكد والتأسيس خير من التوكيد وعن عيسى بن أبان أن النافي كالمثبت, وإنما يطلب الترجيح من وجه آخر, وقد دل بعض المسائل على تقديم المثبت وبعضها على تقديم النافي فلذا احتاج المصنف رحمه الله تعالى إلى بيان ضابط في تساويهما وترجيح أحدهما على الآخر, وهو أن النفي إن كان مبنيا على العدم الأصلي فالمثبت مقدم وإلا فإن تحقق أنه بالدليل تساويا, وإن احتمل الأمرين ينظر ليتبين الأمر وعلى هذا الأصل الذي ذكره في باب الرواية تتفرع الشهادة على النفي بأن يتساوى النافي والمثبت إن علم أن النفي بدليل ويقدم المثبت إن علم أن النفي بحسب الأصل وإلا ينظر فيه ليتبين.
قوله: "واتفقوا على أنه لم يكن في الحل الأصلي" كأنه يريد اتفاق الفريقين, وإلا فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يحرم. كذا في معرفة الصحابة للمستغفري.(2/229)
ميمونة، وهو حلال مثبت وما روي أنه محرم ناف فإنه اتفق على أنه لم يكن في الحل الأصلي والإحرام حالة مخصوصة تدرك عيانا فكلاهما سواء فرجح بالراوي وروي أنه المحرم عبد الله بن عباس ولا يعدله يزيد بن الأصم ونحوه.
ونحو أعتقت بريرة وزوجها حر مثبت وأعتقت وزوجها عبد ناف، وهذا النفي مما يعرف بظاهر الحال فالمثبت أولى.
ـــــــ
"ونحو أعتقت بريرة وزوجها حر مثبت وأعتقت وزوجها عبد ناف, وهذا النفي مما يعرف بظاهر الحال فالمثبت أولى" هذا نظير النفي الذي لا يكون بالدليل. اعلم أن الأمة التي زوجها حر إذا أعتقت يثبت لها خيار العتق عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى ولنا أنها أعتقت بريرة وزوجها حر ويروى أنها أعتقت وزوجها عبد فالأول مثبت والثاني ناف; لأن معناه أن رقيته لم تتغير بعد, وهذا نفي لا يدرك عيانا بل بقاء على ما كان فالمثبت أولى.
................................................................................................
قوله: "وأما في القياس, فلا يحمل على النسخ" إذ لا مدخل للرأي في بيان انتهاء مدة الحكم.
قوله: "بعد شهادة قلبه" أي قلب طالب الحكم, ومن هو بصدد معرفته, وإنما اشترط ذلك; لأن الحق واحد فالمتعارضان لا يبغيان حجة في حق إصابة الحق ولقلب المؤمن نور يدرك به ما هو باطن, ولا دليل عليه فيرجع إليه.
قوله: "فكل واحد" يعني لما كان المجتهد في كل واحد من الاجتهادين مصيبا بالنظر إلى الدليل ضرورة أن القياس دليل صحيح وضعه الشارع للعمل به غير مصيب بالنظر إلى المدلول ضرورة أن الحق واحد لا غير كان كل واحد من القياسين دليلا في حق العمل, وإن لم يكن دليلا في حق العلم, وهذا بخلاف النصين, فإن الحق منهما واحد في العمل والعلم جميعا لجواز النسخ.
قوله: "فصل" ما يقع به الترجيح كثير يعرف بعضها مما سلف لا سيما وجوه الترجيح في النص والإجماع أما ترجيح النصوص فيقع بالمتن والسند والحكم والأمر الخارج والمراد بالمتن ما يتضمنه الكتاب والسنة والإجماع من الأمر والنهي والعام والخاص ونحو ذلك. وبالسند الإخبار عن طريق المتن من تواتر ومشهور وآحاد مقبول أو مردود فالأول كترجيح النص على الظاهر والمفسر على المجمل ونحو ذلك. والثاني يقع في الراوي كالترجيح بفقه الراوي, وفي الرواية كترجيح المشهور على الآحاد, وفي المروي كترجيح المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام على ما يحتمل السماع كما إذا قال أحدهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المروي عنه كترجيح ما لم يثبت إنكار لروايته على ما ثبت. والثالث كترجيح الحظر على الإباحة. والرابع كترجيح ما يوافق القياس على ما لا يوافقه ولكل من ذلك تفاصيل مذكورة في موضعها
وأما القياس فيقع فيه الترجيح بحسب أصله, أو فرعه, أو علته, أو أمر خارج عنه وتفصيل ذلك يطلب من أصول ابن الحاجب.(2/230)
وإذا أخبر بطهارة الماء ونجاسته فالطهارة وإن كانت نفيا لكنه مما يحتمل المعرفة بالدليل فيسأل فإن بين وجه دليله كان كالإثبات وإن لم يبين فالنجاسة أولى وعلى هذا الأصل يتفرع الشهادة على النفي. وأما في القياس فلا يحمل على النسخوقول الصحابي فيما يدرك بالقياس كالقياس فيأخذ بأيهما شاء بعد شهادة قلبه، ولا يسقطان بالتعارض كما يسقط النصان حتى يعمل بعده بظاهر الحال إذ في الأول إنما يقع التعارض للجهل المحض بالناسخ منهما، فلا يصح عمله بأحدهما مع الجهل وهنا ليس لجهل محض؛ لأنه في كل واحد من الاجتهادين مصيب بالنظر إلى الدليل وإن لم يكن مصيبا بالنظر إلى المدلول على ما يأتي فكل واحد دليل له في حق العمل.
ـــــــ
"وإذا أخبر بطهارة الماء ونجاسته فالطهارة وإن كانت نفيا لكنه مما يحتمل المعرفة بالدليل فيسأل فإن بين وجه دليله كان كالإثبات وإن لم يبين فالنجاسة أولى" هذا نظير النفي الذي يحتمل معرفته بالدليل وتحتمل بناء على العدم الأصلي; لأن طهارة الماء قد تدرك بظاهر الحال وقد تدرك عيانا بأن غسل الإناء بماء السماء, أو بالماء الجاري وملأه بأحدهما, ولم يغب عنه أصلا, ولم يلاقه شيء نجس, فإذا أخبر واحد بنجاسة الماء والآخر بطهارته فإن تمسك بظاهر الحال فإخبار النجاسة أولى وإن تمسك بالدليل كان مثل الإثبات. "وعلى هذا الأصل يتفرع الشهادة على النفي".
"وأما في القياس" عطف على قوله: ففي الكتاب والسنة ومعناه إذا تعارض قياسان "فلا يحمل على النسخ. وقول الصحابي فيما يدرك بالقياس كالقياس فيأخذ بأيهما شاء" من القياسين, وكذا يأخذ بأيهما شاء من قول الصحابي والقياس "بعد شهادة قلبه, ولا يسقطان بالتعارض كما يسقط النصان حتى يعمل بعده بظاهر الحال إذ في الأول" أي في تعارض النصين "إنما يقع التعارض للجهل المحض بالناسخ منهما, فلا يصح عمله بأحدهما مع الجهل وهنا" أي في القياسين "ليس" أي التعارض "لجهل محض; لأنه" أي المجتهد, وهو لم يذكر لفظا بل دلالة "في كل واحد من الاجتهادين مصيب بالنظر إلى الدليل وإن لم يكن مصيبا بالنظر إلى المدلول على ما يأتي فكل واحد دليل له في حق العمل".
"فصل ما يقع به الترجيح فعليك استخراجه من مباحث الكتاب والسنة متنا وسندا" أما المتن فكترجيح النص على الظاهر والمفسر على النص والمحكم على المفسر والحقيقة على المجاز والصريح على الكناية والعبارة على الإشارة والإشارة على الدلالة والدلالة على الاقتضاء, وأما السند فكترجيح المشهور على خبر الواحد والترجيح بفقه الراوي وبكونه معروفا بالرواية "والقياس" عطف على الكتاب والسنة فما عرف عليته نصا صريحا أولى مما عرف إيماء وما عرف إيماء فبعضه أولى من البعض ثم ما عرف
................................................................................................
وقد أشار المصنف رحمه الله تعالى هاهنا إلى بعض ما يقع به الترجيح بحسب العلة كترجيح قياس عرف علية الوصف فيه بالنص الصريح على ما عرف عليته بالإيماء ثم في الإيماء يرجح ما يفيد ظنا أغلب وأقرب إلى القطع على غيره وما عرف بالإيماء مطلقا يرجح على ما عرف بالمناسبة لما فيها من الاختلاف ولأن الشارع أولى بتعليل الأحكام, ثم لا يخفى أن الراجح تأثير العين, ثم النوع, ثم الجنس القريب, ثم الأقرب فالأقرب, وأن اعتبار شأن الحكم لكونه المقصود أولى وأهم(2/231)
فصل: ما يقع به الترجيح
فعليك استخراجه من مباحث الكتاب والسنة متنا وسندا.
والقياس والذي ذكروا في ترجيح القياس أربعة أمور: الأول قوة لا أثر كما مر في القياس والاستحسان وكما في مسألة طول الحرة فإن الشافعي رحمه الله تعالى يقول:
ـــــــ
إيماء أولى مما عرف بالمناسبة وأيضا ما عرف بالإجماع تأثير نوعه في نوعه أولى مما عرف بالإجماع تأثير الجنس في النوع, وهذا أولى من عكسه وكل منهما أولى من الجنس في الجنس ثم الجنس القريب في الجنس القريب أولى من غير القريب ثم المركب من هذه الأقسام أولى من المفرد وأقسام المركبات بعضها أولى من بعض, ومن أتقن المباحث السابقة لا يخفى عليه شيء من ذلك.
"والذي ذكروا في ترجيح القياس أربعة أمور: الأول قوة لا أثر" أي قوة التأثير كما مر في القياس والاستحسان وكما في مسألة طول الحرة فإن الشافعي رحمه الله تعالى يقول: يرق ماؤه مع غنية عنه, فلا يجوز كالذي تحته حرة وقلنا هذا نكاح يملكه العبد بإذن مولاه إذا دفع إليه مهرا يصلح للحرة وللأمة "وقال تزوج من شئت فيملكه الحر, وهذا أقوى أثرا" أي قياسنا أقوى تأثيرا من قياس الشافعي رحمه الله تعالى "إذ زيادة محل حل العبد على حل الحر قلب المشروع" وتضييع الماء بالعزل بإذن الحرة يجوز فالإرقاق دونه; لأن في الأول تضييع الأصل وفي الثاني تضييع الوصف, وهو الحرية ونكاح الأمة لمن له سرية جائز مع وجود
................................................................................................
من اعتبار شأن العلة ويرجح تأثير جنس العلة في نوع الحكم على تأثير نوع العلة في جنس الحكم, وعند التركيب ما يتركب من راجحين يقدم على المركب من مرجوحين, أو مساو ومرجوح كتقديم المركب من تأثير النوع في النوع والجنس القريب في النوع على المركب من تأثير النوع في الجنس القريب والجنس القريب في النوع. وفي المركبين اللذين يشتمل كل منهما على راجح ومرجوح يقدم ما يكون الراجح منه في جانب الحكم على ما يكون في جانب العلة, وهذا معنى قوله: وأقسام المركبات بعضها أولى من بعض وكل ذلك مما يظهر بالتأمل في المباحث السابقة إلا أنه قد جرت عادة القوم بذكر أمور أربعة مما يقع به في ترجيح القياس وهي قوة الأثر وقوة الثبات على الحكم وكثرة الأصول والعكس.
قوله: "كما مر في القياس والاستحسان" من أن الاستحسان لقوة أثره يقدم على القياس, وإن كان ظاهر التأثير إذ العبرة للتأثير وقوته دون الوضوح, أو الخفاء; لأن القياس إنما صار حجة بالتأثير فالتفاوت فيه يوجب التفاوت في القياس, وهذا بخلاف الشهادة, فإنها لم تصر حجة بالعدالة لتختلف باختلافها بل بالولاية الثابتة بالحرية وهي مما لا يتفاوت, وإنما اشترط العدالة لظهور جانب(2/232)
يرق ماؤه مع غنية عنه، فلا يجوز كالذي تحته حرة وقلنا هذا نكاح يملكه العبد بإذن مولاه إذا دفع إليه مهرا يصلح للحرة وللأمة وقال تزوج من شئت فيملكه الحر، وهذا أقوى أثرا إذ زيادة محل حل العبد على حل الحر قلب المشروع فهذا أقوى أثرا؛ لأن الرق منصف لا محرم.
ـــــــ
ما ذكر من العلة وكما في نكاح الأمة الكتابية فإنه يقول: الرق من الموانع, وكذا الكفر, فإذا اجتمعا يصير كالكفر بلا كتاب, فلا يجوز للمسلم ولأن الضرورة ترتفع بإحلال الأمة المسلمة وقلنا هو نكاح يملكه العبد المسلم فكذا الحر المسلم على ما مر. وأيضا هو دين يصح معه للحر المسلم نكاح الحرة "فكذا يصح للحر نكاح الأمة" أي دين الكتابية دين يصح معه للحر المسلم نكاح الحرة التي هي على هذا الدين فكذا يصح للحر المسلم نكاح الأمة التي هي على هذا الدين "فهذا أقوى أثرا; لأن الرق منصف لا محرم" كما في الطلاق والعدة والقسم والحدود; لأن الرقيق له شبه بالحيوانات والجمادات بواسطة الكفر, فمن هذا الشبه قلنا إنه مال ثم له شبه بالحر من حيث الذات فأوجب هذان الشبهان التنصيف في استحقاق النعم التي تختص بالإنسان.
................................................................................................
الصدق, وقد يقال: إن العدالة مما لا يختلف بالشدة والضعف; لأنه إن انزجر عن جميع ما يعتقد فيه الحرمة فعدل وإلا فلا.
قوله: "وكما في مسألة طول الحرة" أي الغنى والقدرة على تزوج الحرة والأصل الطول على الحرة أي الفضل فاتسع فيه بحذف حرف الصلة, ثم أضيف إضافة المصدر إلى المفعول فالحر الذي له طول الحرة لا يجوز له تزوج الأمة عند الشافعي رحمه الله تعالى قياسا على الذي تحته حرة بجامع إرقاق الماء مع الاستغناء والإرقاق بمنزلة الإهلاك بخلاف ما إذا لم يكن له طول الحرة وخشي العنت أي الوقوع في الزنا, فإنه لا غنية عن الإرقاق فيجوز وبخلاف ما إذا قدر العبد على نكاح الحرة فتزوج أمة, فإنه ليس بإرقاق للماء بل امتناع عن تحصيل صفة الحرية, وهو ليس بحرام وبخلاف ما إذا تزوج حرة على أمة فإنه يبقى نكاح الأمة لأنه ليس بإرقاق ابتداء بل بقاء عليه وهو لا يحرم كالرق يبقى مع الإسلام إذ ليس للبقاء هاهنا حكم الابتداء وقلنا نكاح الأمة مع طول الحرة نكاح يملكه العبد فيملكه الحر كسائر الأنكحة التي يملكها العبد, وهذا أقوى تأثيرا من الإرقاق مع الاستغناء; لأن الحرية من صفات الكمال فينبغي أن يكون أثرها في الإطلاق والاتساع في باب النكاح الذي هو من النعم والرق من أوصاف النقصان فينبغي أن يكون أثره في المنع والتضييق فاتساع الحل الذي هو من باب الكرامة للعبد وتضييقه على الحر بأن لا يجوز له نكاح الأمة مع طول الحرة قلب المشروع وعكس المعقول; لأن ما ثبت بطريق الكرامة يزداد بزيادة الشرف ولهذا جاز لمن كان أفضل البشر ما فوق الأربع وربما يجاب بأن هذا التضييق من باب الكرامة حيث منع الشريف من تزوج الخسيس مع ما فيه من مظنة الإرقاق وذلك كما جاز نكاح المجوسية للكافر دون المسلم.(2/233)
فطرف الرجال يقبل العدد بأن يحل للحر أربع وللعبد ثنتان لا طرف النساء فينتصف باعتبار الأحوال فتحل الأمة مقدمة على الحرة لا مؤخرة، فأما في المقارنة فقد غلبت الحرمة كما في الطلاق والقرء.
ـــــــ
"فطرف الرجال يقبل العدد بأن يحل للحر أربع وللعبد ثنتان لا طرف النساء فينتصف باعتبار الأحوال فتحل الأمة مقدمة على الحرة لا مؤخرة, فأما في المقارنة فقد غلبت الحرمة كما في الطلاق والقرء" أي لما كان الرق منصفا وطرف الرجال يقبل التنصيف بالعدد في حل النكاح بأن يحل للعبد ثنتان وللحر أربع أما طرف النساء, فلا يقبل التنصيف بالعدد; لأن الحرة لا يحل لها إلا زوج واحد, فلا يمكن تنصيف الزوج الواحد فاعتبرنا التنصيف بالأحوال بأنها لو كانت متقدمة على الحرة يصح نكاحها وإن كانت
................................................................................................
قوله: "وتضييع الماء" إشارة إلى وجهي ضعف في قياس الشافعي رحمه الله تعالى: الأول أن الإرقاق الذي هو إهلاك حكما دون تضييع الماء بالعزل; لأنه إتلاف حقيقة إذ في الإرقاق إنما تزول صفة الحرية مع أنه أمر ربما يرجى زواله بالعتق, وفي العزل يفوت أصل الولد, فإذا جاز هذا فالإرقاق أولى. فإن قيل: هذا امتناع عن اكتساب سبب الوجود, وفي الإرقاق مباشرة السبب على وجه يفضي إلى الإهلاك قلنا في التزوج أيضا امتناع عن إيجاب صفة الحرية إذ الماء لا يوصف بالرق والحرية بل هو قابل لأن يوجد منه الرقيق والحر فتزوج الأمة امتناع عن مباشرة سبب وجود الحرية فحين يخلق يخلق رقيقا إلا أنه ينتقل من الحرية إلى الرقية ومعنى العقوبة والإهلاك إنما هو في إرقاق الحر. الثاني: إن وصف إرقاق الماء مع الاستغناء غير مطرد لوجوده فيمن له سرية, أو أم ولد مع جواز نكاح الأمة له. وفيه نظر; لأن الحر لو كان قادرا على أن يشتري أمة لا يحل له نكاح الأمة عند الشافعي رحمه الله تعالى فكيف إذا كان له سرية, أو أم ولد.
قوله: "وكما في نكاح الأمة الكتابية", فإنه لا يجوز للمسلم عند الشافعي رحمه الله تعالى قياسا على نكاح المجوسية وعلى ما إذا كان تحته حرة أما الأول فلأن للرق أثرا في تحريم النكاح في الجملة كما في نكاح الأمة على الحرة, وكذا للكفر كما في نكاح الحربية للمسلم, فإذا اجتمع الرق والكفر يقوى المنع ككفر المجوسية, فلم يحل للمسلم, وأما الثاني فلما مر من إرقاق الماء مع الاستغناء إذ الضرورة قد ارتفعت بجواز نكاح الأمة المسلمة التي هي أطهر من الكافرة, وعندنا يجوز قياسا على العبد المسلم وعلى الحرة الكتابية, وهذان القياسان قويان تأثيرا أما الأول فلما سبق, وأما الثاني فلأن أثر الرق إنما هو في التنصيف دون التحريم. فإن قلت: هذا لا يستقيم في المرأة, فإن حلها مبني على المملوكية والرق يزيد فيها ألا يرى أنها قبل الاسترقاق لم تحل إلا بالنكاح وبعده حلت بملك النكاح وملك اليمين جميعا. قلت: حل النكاح نعمة من الجانبين فينتصف برقها كما ينتصف برقه وحل الوطء بملك اليمين إنما هو بطريق العقوبة دون الكرامة ولهذا لا تطالبه بالوطء, ولا تستحق عليه شيئا.(2/234)
وكما في مسح الرأس إن المسح في التخفيف أقوى أثرا من الركن في التثليث والثاني قوة ثباته على الحكم والمراد منه كثرة اعتبار الشارع هذا الوصف في هذا الحكم كالمسح في التخفيف في كل تطهير غير معقول كالتيمم ومسح الخف والجبيرة والجورب بخلاف الركن فإن الركنية لا توجب التكرار كما في أركان الصلاة بل
ـــــــ
متأخرة لا يصح وإن كانت مقارنة لا يصح أيضا تغليبا للحرمة كما في الطلاق والأقراء فثبت بهذا أن كل نكاح يصح للحرة فإنه يصح للأمة الكتابية إذا لم تكن متأخرة عن الحرة, أو مقارنة لها فيصح للحر المسلم نكاح الأمة الكتابية إذا لم تكن على الحرة. وقوله: كما في الطلاق فيه نظر فإن كون طلاق الأمة اثنين ليس تغليب الحرمة بل تغليب الحل; لأن الزوج إذا كان مالكا للطلقتين عليها فإن الحل يكون أكثر مما كان مالكا للطلقة الواحدة ثم عطف على قوله: وكما في نكاح الأمة الكتابية قوله:
"وكما في مسح الرأس إن المسح في التخفيف أقوى أثرا من الركن في التثليث والثاني قوة ثباته على الحكم والمراد منه كثرة اعتبار الشارع هذا الوصف في هذا الحكم كالمسح في التخفيف في كل تطهير غير معقول كالتيمم ومسح الخف والجبيرة والجورب بخلاف الركن فإن الركنية لا توجب التكرار كما في أركان الصلاة بل الإكمال ونحن نقول به" أي بالإكمال, وهو الاستيعاب. "وكقولنا في صوم رمضان إنه متعين, فلا يجب التعيين, وهذا الوصف اعتبره الشارع في الودائع والمغصوب ورد المبيع بيعا فاسدا والأيمان ونحوها" فإن رد الوديعة والمغصوب متعين عليه, فلا يجب أن يعين أن هذا الرد رد الوديعة والمغصوب, وكذا لا
................................................................................................
قوله: "فأما في المقارنة, فقد غلبت الحرمة" فإن قيل: لا حاجة إلى ذلك لإمكان حقيقة التنصيف بأن يقال: لنكاح الأمة حالتان: حالة الانفراد عن الحرة وذلك بالسبق وحالة الانضمام وذلك بالمقارنة, أو التأخر فحلت في إحدى الحالتين فقط تحقيقا للتنصيف قلنا المقارنة والتأخر حالتان مختلفتان متعددتان حقيقة لا تصيران واحدة بمجرد التعبير عنهما بالانضمام فلا بد من القول بالتثليث, ثم إلحاق المقارنة بالتأخر تغليبا للحرمة احتياطا كما جعل نصف الطلاق واحدا متكاملا حيث جعل طلاق الأمة ثنتين لا واحدة احتياطا; لأن الحل كان ثابتا بيقين, فلا يزول إلا بعد التيقن بنصف التطليقات الثلاث وذلك في الثنتين دون الواحدة فالتشبيه بالطلاق إنما هو في مجرد تكميل النصف بالواحدة وجعل نصف الثلاثة اثنين لا في جعل طلاق الأمة ثنتين تغليبا للحرمة حتى يرد الاعتراض بأن هذا تغليب للحل دون الحرمة وسيجيء لهذه المسألة زيادة تحقيق في فصل العوارض.
قوله: "وكما في مسح الرأس" يعني على تقدير تسليم تأثير الركنية في التثليث فتأثير المسح في التخفيف أقوى منه; لأن الاكتفاء بالمسح خصوصا مسح بعض المحل مع إمكان الغسل, أو مسح الكل ليس إلا للتخفيف, وأما التثليث, فقد يوجد بدون الركنية كما في المضمضة والاستنشاق وبالعكس كما في أركان الصلاة.(2/235)
الإكمال ونحن نقول به وكقولنا في صوم رمضان إنه متعين، فلا يجب التعيين، وهذا الوصف اعتبره الشارع في الودائع والمغصوب ورد المبيع بيعا فاسدا والأيمان ونحوها وكمنافع الغصب فإنه يقول: ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف تحقيقا للجبر بالمثل تقريبا وإن كان فيه فضل، فهو على المعتدي ولأن إهدار الوصف أسهل من إهدار الأصل قلنا التقييد بالمثل واجب في كل باب كالأموال كلها والصلاة والصوم ونحوهما ووضع الضمان عن المعصوم جائز في الجملة كإتلاف العادل مال الباغي والحربي مال المسلم والفضل على المتعدي غير مشروع أصلا ويلزم منه نسبة الجور ابتداء إلى صاحب الشرع.
ـــــــ
يجب التعيين في رد المبيع بيعا فاسدا, وكذا في الأيمان أن البر واجب عليه متعينا, فلا يجب عليه التعيين أنه فعله لأجل البر. "وكمنافع الغصب فإنه يقول: ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف تحقيقا للجبر بالمثل تقريبا وإن كان فيه فضل, فهو على المعتدي" أي إن كان المثل التقريبي, وهو الضمان مماثلا في الحقيقة لتلك المنافع, فهو المطلوب وإن لم يكن مماثلا في الحقيقة يكون المثل التقريبي أفضل من تلك المنافع; لأن الأعيان الباقية خير من الأعراض الغير باقية, وهذا الفضل على المتعدي أولى من إهدار حق المظلوم اللازم على تقدير عدم وجوب الضمان "ولأن إهدار الوصف أسهل من إهدار الأصل" يعني إن أوجبنا الضمان لا يلزم إلا إهدار كون المماثلة تامة وإن لم نوجب الضمان يلزم إهدار حق المغصوب منه في
................................................................................................
قوله: "والإيمان" هو في أكثر نسخ أصول فخر الإسلام رحمه الله تعالى بكسر الهمزة يعني لا يشترط نية التعيين في الإيمان بالله تعالى بأن يعين أنه يؤدي الفرض مع أنه أقوى الفروض بل على أي وجه يأتي به يقع عن الفرض لكونه متعينا غير متنوع إلى فرض ونفل وتصحيح المصنف رحمه الله تعالى وقع على "الأيمان" بالفتح جمع "يمين".
قوله: "ونحوها" كتصدق النصاب على الفقير بدون نية الزكاة وكإطلاق النية في الحج.
قوله: "تحقيقا للجبر وبالمثل تقريبا" وذلك أن المنفعة مال كالعين والتفاوت الحاصل بالعينية والعرضية مجبور بكثرة الأجزاء في جانب المنفعة لظهور أن منفعة شهر واحد أكثر أجزاء من درهم واحد فاستويا قيمة وبقي التفاوت فيما وراء القيمة بمنزلة التفاوت في الحنطة من حيث الحبات واللون, وهذا معنى المثل تقريبا.
قوله: "ويلزم منه نسبة الجور ابتداء إلى صاحب الشرع" لأنه الذي يوجب الأحكام حقيقة, ولا حاجة إلى أن يقال: إن الضمان يجب بقضاء القاضي, وهو نائب الشارع.
قوله: "والثالث" الترجيح بكثرة الأصول التي يوجد فيها جنس الوصف, أو نوعه كتأثير وصف المسح في التخفيف يوجد في التيمم ومسح الخف والجبيرة فيرجح على تأثير وصف الركنية في(2/236)
أما عدم الضمان فمضاف إلى عجزنا عن الدرك ولأن الوصف وإن قل فائت أصلا بلا بدل والأصل وإن عظم فائت إلى ضمان في دار الجزاء فكان هذا تأخيرا والأول إبطالا والثالث كثرة الأصول، وهو قريب من الثاني. والرابع وهو العكس أي
ـــــــ
المثل بالكلية في الأصل والوصف فالأول أسهل من هذا. "قلنا التقييد بالمثل واجب في كل باب كالأموال كلها والصلاة والصوم ونحوهما ووضع الضمان عن المعصوم جائز في الجملة" أي عدم إيجاب الضمان في إتلاف المال المعصوم جائز في الجملة "كإتلاف العادل مال الباغي والحربي مال المسلم والفضل على المتعدي غير مشروع أصلا" قال الله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. "ويلزم منه" أي من إيجاب الفضل على المتعدي "نسبة الجور ابتداء إلى صاحب الشرع" المراد من الابتداء أن يكون بلا واسطة فعل العبد وفيه احتراز عن إيجاب القيمة فيما لا مثل له; لأن الواجب فيه قيمة عدل, وهو معلوم عند الله تعالى والتفاوت إنما يقع لعجزنا عن معرفة ذلك الواجب فإن وقع فيه جور, فهو منسوب إلى العبد أما في مسألتنا في التفاوت في نفس ذلك الواجب; لأن المال المتقوم لا يماثل المنفعة, فلو وجب يكون التفاوت مضافا إلى الشارع وذا لا يجوز.
"أما عدم الضمان فمضاف إلى عجزنا عن الدرك" أي إن قلنا بعدم الضمان فإنما نقول به لعجزنا عن درك المثل فإن وقع جور يكون منسوبا إلينا لا إلى الشارع فهذا أولى ثم أجاب عن قوله: ولأن إهدار الوصف أسهل إلخ بقوله: "ولأن الوصف وإن قل فائت أصلا
................................................................................................
التثليث; لأنه في الغسل فقط وذلك; لأن كثرة الأصول توجب زيادة توكيد ولزوم الحكم بذلك الوصف فيحدث فيه قوة مرجحة كما يحصل للخبر بكثرة الرواة قوة وزيادة اتصال فيصير مشهورا مع أن الحجة هو الخبر لا كثرة الرواة.
قوله: "وهو قريب من الثاني" أي قوة ثبات الوصف على الحكم; لأنها تكون بلزوم الوصف للحكم بأن يوجد في صور كثيرة بل التحقيق أن الثلاثة راجعة إلى قوة التأثير لكن شدة الأثر بالنظر إلى الوصف وقوة الثبات بالنظر إلى الحكم وكثرة الأصول بالنظر إلى الأصل, فلا اختلاف إلا بحسب الاعتبار ولهذا قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى ما من نوع من هذه الأنواع إذا قررته في مسألة إلا وتبين به إمكان تقرير النوعين الآخرين فيه وقال المصنف رحمه الله تعالى في الحاشية إذا كان التأثير بحسب اعتبار الشارع جنس الوصف, أو نوعه في نوع الحكم, فهو مستلزم لشهادة الأصل فقوة الثبات حينئذ يستلزم كثرة شهادة الأصل, وإذا كان بحسب اعتبار جنس الوصف, أو نوعه في جنس الحكم, أو نوعه فأحدهما لا يستلزم الآخر فبينها عموم من وجه ولذا قال هو قريب من الثاني.
قوله: "والرابع العكس" معنى الاطراد في العلة أنه كلما وجدت العلة وجد الحكم ومعنى الانعكاس أنه كلما انتفت العلة انتفى الحكم كما في الحد والمحدود, وهذا اصطلاح متعارف.(2/237)
العدم عند العدم كقولنا مسح فلا يسن تكراره فإنه ينعكس بخلاف قوله: ركن؛ لأن المضمضة متكررة وليست بركن وكقولنا في بيع الطعام بالطعام مبيع عين، فلا يشترط قبضه وينعكس بدل الصرف والسلم فإنه أولى من قوله: كل منهما مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل فإنه لا ينعكس لاشتراط قبض رأس مال السلم في غير الربوي.
ـــــــ
بلا بدل والأصل وإن عظم فائت إلى ضمان في دار الجزاء فكان هذا تأخيرا والأول إبطالا" وتقريره أن الوصف, وهو كون المماثلة تامة يفوت على تقدير وجوب الضمان بلا بدل, والأصل وهو حق المغصوب منه في المثل يفوت إلى بدل يصل إليه في دار الجزاء فهذا الفوت تأخير والأول وهو فوت الوصف إبطال فالتأخير أولى. "وضمان العقد قد يثبت بالتراضي مع عدم المماثلة" جواب عن قياس الشافعي رحمه الله تعالى, وهو قوله: ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف فالأمثلة الثلاثة المذكورة وهي قوله: كالمسح في التخفيف وكقولنا في صوم رمضان وكمنافع الغصب, أوردناها لترجيح القياس على القياس بكثرة اعتبار الشارع الوصف في الحكم المذكور أما الأول فقياسنا, وهو قولنا مسح, فلا يسن تثليثه راجح على قياس قول الشافعي رحمه الله تعالى, وهو قوله: ركن فيسن تثليثه لكثرة اعتبار الشارع المسح في التخفيف, وأما الثاني فقياسنا, وهو قولنا صوم رمضان متعين, فلا يجب تعيينه كما في سائر المتعينات راجح على قياسه, وهو قوله: صوم رمضان صوم فرض فيجب تعيينه كالقضاء لكثرة اعتبار الشارع التعين في سقوط التعيين, وأما الثالث فقياسنا, وهو أن التقييد بالمثل واجب في غصب المنافع كما في سائر العدوانات لكن رعاية المثل غير ممكن في المنافع, فلا يجب راجح على قياسه, وهو قوله: ما يضمن بالعقد إلخ لكثرة اعتبار الشارع المماثلة في جميع صور قضاء الصلاة والصوم ونحوهما وجميع العدوانات. "والثالث كثرة الأصول, وهو قريب من الثاني. والرابع وهو العكس أي العدم عند العدم" أي عدم الحكم في
................................................................................................
والمصنف رحمه الله تعالى بين المناسبة فيه بأنه لازم للعكس المتفاهم بحسب العرف العام حيث يقولون: كل إنسان ضاحك وبالعكس أي كل ضاحك إنسان فقولنا كلما انتفى الوصف انتفى الحكم لازم لقولنا كلما وجد الحكم وجد الوصف لأن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم وهو عكس عرفي لقولنا كلما وجد الوصف وجد الحكم, وإن لم يكن عكسا منطقيا.
قوله: "مبيع عين" أي متعين, فلا يشترط قبضه. الوصف هو تعين المبيع والحكم عدم اشتراط قبضه, وهو منتف عند انتفاء الوصف حيث يشترط القبض في بيع الدرهم بالدرهم, وفي السلم لئلا يلزم بيع الكالئ بالكالئ; لأن الأصل في الصرف هو النقود وهي لا تتعين في العقود فكان دينا بدين. وفي السلم المسلم فيه دين حقيقة ورأس المال من النقود غالبا فيكون دينا. فإن قيل: قد يتعين المبيع في الصرف والسلم كبيع إناء من فضة بإناء من فضة وكالسلم في الحنطة على ثوب بعينه فكان ينبغي أن لا يشترط القبض قلنا نعم إلا أن معرفة ما يتعين وما لا يتعين أمر خفي عند(2/238)
جميع صور عدم الوصف "كقولنا مسح" أي مسح الرأس مسح "فلا يسن تكراره" كمسح الخف "فإنه ينعكس" فإن كل ما ليس بمسح فإنه يسن تكراره. "بخلاف قوله: ركن; لأن المضمضة متكررة وليست بركن" أي مسح الرأس ركن وكل ما هو ركن يسن تكراره كسائر الأركان فإنه غير منعكس; لأن عكسه أن كل ما هو ليس بركن لا يسن تكراره, وهذا غير صادق; لأن المضمضة والاستنشاق ليس بركنين ومع ذلك يسن تكرارهما. واعلم أنه إنما جعل عدم الحكم في جميع صور عدم الوصف عكسا; لأن المراد بالعكس ما هو متعارف بين الناس, وهو جعل المحكوم به محكوما عليه مع رعاية الكلية إذا كان الأصل كليا. يقال: كل إنسان حيوان, ولا ينعكس أي لا يصدق كل حيوان إنسان, وإذا عرفت هذا فعدم الحكم في جميع صور عدم الوصف لازم لهذا العكس فسماه عكسا لهذا. وإنما قلنا إنه لازم; لأن الأصل, وهو قولنا كلما وجد الوصف وجد الحكم وعكسه كلما وجد الحكم وجد الوصف, ومن لوازم هذا كلما لم يوجد الوصف لم يوجد هذا الحكم فسمي هذا عكسا. "وكقولنا في بيع الطعام بالطعام مبيع عين, فلا يشترط قبضه" أي كل مبيع متعين لا يشترط قبضه كما في سائر المبيعات المعينة. "وينعكس بدل الصرف والسلم" فإن كل مبيع غير متعين يشترط قبضه كما في الصرف والسلم "فإنه أولى من قوله: كل منهما مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل" أي كل من الطعامين مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل فكل مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل فإنه يشترط التقابض فيه "فإنه لا ينعكس لاشتراط قبض رأس مال السلم في غير الربوي" وذلك لأن عكس القضية المذكورة هو قولنا: كل مال لو قوبل بجنسه لا يحرم ربا الفضل فإنه لا يشترط قبضه, وهذا غير صحيح; لأن رأس مال السلم يشترط قبضه وإن كان مالا لو قوبل بجنسه لا يحرم ربا الفضل فالمراد بغير الربوي في المتن هذا المال كالثياب مثلا, وهذا العكس هو أضعف وجوه الترجيح أما كونه من وجوه الترجيح فلأنه إذا وجد وصفان مؤثران أحدهما بحيث يعدم الحكم عند عدمه فإن الظن بعليته أغلب من الظن بعلية ما ليس كذلك, وأما كونه أضعف فلأن المعتبر في العلية التأثير, ولا اعتبار للعدم عند عدم الوصف
................................................................................................
التجار فأدير الحكم مع ما أقيم مقام الدين بالدين, وهو اسم الصرف والسلم فاشترط القبض فيهما على الإطلاق. فإن قيل: المبيع في السلم هو المسلم فيه, وهو ليس بمقبوض والمقبوض هو رأس المال, وهو ليس بمبيع أجيب بوجهين: أحدهما: أن المراد أن كل مبيع متعين لا يشترط قبض بدله وينعكس إلى قولنا كل مبيع لا يكون متعينا يشترط قبض بدله وثانيهما أن المراد أن كل بيع يتعين فيه المبيع والثمن لا يشترط فيه القبض أصلا وينعكس إلى قولنا كل بيع لا يتعين فيه المبيع, ولا ثمنه يشترط فيه القبض في الجملة, ثم اختلفوا في أن التقابض شرط صحة العقد, أو شرط بقائه على الصحة وإلى كل أشار محمد رحمه الله تعالى. ويتوجه على الأول سؤال, وهو أن شرط الجواز يكون مقارنا كالشهود في النكاح لا متأخرا لما فيه من وجود المشروط قبل الشرط. والجواب أنه لما لم يكن هاهنا المقارنة من غير تراض لما فيه من إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه أقيم مجلس العقد مقام حالة العقد وجعل القبض الواقع فيه واقعا في حالة العقد حكما كذا في المحيط.(2/239)
مسألة إذا تعارض وجوه الترجيح فما كان بالذات أولى مما كان بالحال أي الترجيح بالوصف الذاتي أولى من الترجيح بالوصف العارض كما إذا تعارض جهتا الفساد والصحة في صوم رمضان لم يبيته هو يرجح الفساد بكونه عبادة ونحن نرجح الصحة بكون النية في أكثر اليوم فالترجيح بالكثرة ترجيح بالذات وذلك بالعارضي.
ـــــــ
لأن الحكم يثبت بعلل شتى فما يرجع إلى تأثير العلل, وهو الثلاثة الأول أقوى من العدم عند العدم.
"مسألة إذا تعارض وجوه الترجيح فما كان بالذات أولى مما كان بالحال أي الترجيح بالوصف الذاتي أولى من الترجيح بالوصف العارض كما إذا تعارض جهتا الفساد والصحة في صوم رمضان لم يبيته" أي لم ينو الصوم من الليل فإنه لا يصح الصوم عند الشافعي رحمه الله تعالى ويصح عندنا. "هو يرجح الفساد بكونه عبادة ونحن نرجح الصحة بكون النية في أكثر اليوم فالترجيح بالكثرة ترجيح بالذات وذلك بالعارضي" وذلك لأن بعض الصوم وقع فاسدا لعدم النية فإنه لا عبادة بدون النية والبعض وقع صحيحا لوجود النية لكن الصوم لا يتجزأ فإما أن يفسد الكل وإما أن يصح الكل, فلا بد من ترجيح أحدهما على الآخر فالشافعي رحمه الله تعالى يرجح الفاسد على الصحيح بوصف العبادة فإن وصف العبادة يوجب الفساد, وهو وصف عارضي; لأن وصف العبادة للإمساك عارضي; لأن الإمساك من حيث الذات ليس بعبادة بل صار عبادة بجعل الله تعالى, وهو أمر خارج عن الإمساك ونحن نرجح الصحيح على الفاسد بكون النية واقعة في أكثر النهار والترجيح بالكثرة ترجيح بالوصف الذاتي; لأن الكثرة وصف يقوم بالكثير بحسب أجزائه فيكون وصفا ذاتيا إذ المراد بالوصف الذاتي وصف يقوم بالشيء بحسب ذاته, أو بحسب بعض أجزائه والوصف العارضي وصف يقوم بالشيء بحسب أمر خارج عنه,
................................................................................................
قوله: "مسألة" التعارض كما يقع بين الأقيسة فيحتاج إلى الترجيح كذلك يقع بين وجوه الترجيح بأن يكون لكل من القياسين ترجيح من وجه فيقدم الترجيح بالذات على الترجيح بالحال لوجهين: أحدهما: أن الحال يقوم بالغير وما يقوم بالغير فله حكم العدم بالنظر إلى ما يقوم بنفسه. وثانيهما: أن الذات أسبق وجودا من الحال فيقع به الترجيح أولا, فلا يتغير بما يحدث بعده كاجتهاد أمضي حكمه. فإن قلت: هذا إنما يصح في ذات الشيء وحاله لا في مطلق الذات والحال إذ يتقدم حال الشيء على ذات شيء آخر كحال الأب وذات الابن. قلت: الكلام فيما إذا ترجح أحد القياسين بما يرجع إلى وصف يقوم به بحسب ذاته, أو أجزائه والآخر بما يرجع إلى وصف يقوم بذلك الشيء بحسب أمر خارج عنه كوصفي الكثرة والعبادة للإمساك, فإن الأول بحسب الأجزاء والثاني بجعل الشارع ولهذا قال: إن الترجيح بالوصف الذاتي أولى من الترجيح بالوصف العارضي وإلا فكما أن العبادة حال للإمساك فكذلك الكثرة.(2/240)
فصل: و من التراجيح الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه
...
وذكروا له أمثلة أخرى وفيما ذكرنا كفاية.
فصل: ومن التراجيح الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه
كقوله: الأخ يشبه الولد بوجه، وهو المحرمية وابن العم بوجوه كحل الزكاة وحل زوجته وقبول الشهادة ووجوب القصاص، وهذا باطل؛ لأن المشابهة في وصف واحد مؤثر في الحكم المطلوب أقوى منها في ألف وصف غير مؤثر. ومنها الترجيح بكون الوصف أعم كالطعم فإنه يشمل القليل والكثير، ولا اعتبار لهذا إذ الترجيح بالقوة، وهو التأثير لا بصورته. ومنها الترجيح بقلة الأجزاء فإن علة ذات جزء أولى من ذات جزأين، ولا أثر لهذا المسألة يرجح بكثرة الدليل عند البعض لغلبة الظن بها ولأن ترك
ـــــــ
"وذكروا له أمثلة أخرى وفيما ذكرنا كفاية".
"فصل ومن التراجيح الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه كقوله" أي كقول الشافعي رحمه الله تعالى في أن الأخ المشترى لا يعتق عنده: "الأخ يشبه الولد بوجه, وهو المحرمية وابن العم بوجوه كحل الزكاة وحل زوجته وقبول الشهادة ووجوب القصاص, وهذا باطل; لأن المشابهة في وصف واحد مؤثر في الحكم المطلوب أقوى منها" أي من المشابهة "في ألف وصف غير مؤثر. ومنها الترجيح بكون الوصف أعم كالطعم فإنه يشمل القليل والكثير, ولا اعتبار لهذا إذ الترجيح بالقوة, وهو التأثير لا بصورته. ومنها الترجيح بقلة الأجزاء فإن علة ذات جزء أولى من ذات جزأين, ولا أثر لهذا المسألة يرجح بكثرة الدليل عند البعض لغلبة الظن بها" أي لأجل حصول غلبة الظن بالحكم بسبب كثرة الدليل. "ولأن ترك الأقل أسهل من ترك الكل, أو الأكثر" أي إذا تعارض الأدلة الكثيرة والقليلة
................................................................................................
قوله: "وذكروا له" أي للترجح بالوصف الذاتي أمثلة أخرى منها مسألة انقطاع حق المالك من العين إلى القيمة بصنعته في المغصوب من خياطة, أو صباغة, أو طبخ بحيث يزداد بها قيمة المغصوب, فإن كلا من الوصف الحادث والأصل متقوم, ولا سبيل إلى إبطال أحد الحقين, ولا إلى إثبات الشركة لاختلاف الجنسين فلا بد من تملك أحدهما بالقيمة فرجحنا حق الغاصب; لأنه باعتبار الوجود, وهو معنى راجع إلى الذات وحق المغصوب منه باعتبار بقاء الصنعة بالمغصوب والبقاء حال بعد الوجود وتحقيق ذلك أن الصنعة قائمة من كل وجه ومضافة إلى فعل الغاصب لم يلحق حدوثها تغير ولا إضافة إلى المغصوب منه بخلاف المغصوب, فإنه ثابت من وجه هالك من وجه حيث انعدام صورته وبعض معانيه أعني المنافع القائمة به وصار وجوده مضافا إلى الغاصب من وجه, وهو الوجه الذي به صار هالكا بمعنى أن لفعل الغاصب مدخلا في وجود الثوب بهذه الصفة مثلا, ومنها ترجيح ابن ابن الأخ على العم في العصوبة; لأن رجحانه في ذات القرابة; لأنها قرابة أخوة ورجحان العم في حال القرابة وهي زيادة القرب; لأنه يتصل بواسطة واحدة, وهو الأب ومثل هذا كثير في باب الميراث.
قوله: "فصل" كما ختم مباحث الأدلة الصحيحة بالأدلة الفاسدة تكميلا للمقصود كذلك ختم بحث الترجيحات المقبولة بالترجيحات المردودة والمذكورة منها هاهنا ثلاثة: الأول: الترجيح بغلبة الأشياء لإفادتها زيادة الظن بكثرة الأصول والثاني الترجيح بعموم الوصف لزيادة فائدته والثالث(2/241)
الأقل أسهل من ترك الكل، أو الأكثر لا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف لهما أن كل دليل مع قطع النظر عن غيره مؤثر فوجود الغير وعدمه سواء وأيضا القياس على الشهادة.
والإجماع على عدم ترجيح ابن عم هو زوج، أو أخ لأم في التعصيب على ابن عم ليس كذلك بل يستحق بكل سبب على انفراده خلافا لابن مسعود رضي الله عنه في
ـــــــ
ولا يمكن الجمع بينهما لامتناع اجتماع الضدين فإما أن يترك الجميع, أو الأكثر, أو الأقل وترك الدليل خلاف الأصل فترك الأقل أسهل من ترك الكل, أو الأكثر. "لا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف لهما أن كل دليل مع قطع النظر عن غيره مؤثر فوجود الغير وعدمه سواء وأيضا القياس على الشهادة" فإنه لا يرجح بكثرة الشهود إجماعا فقوله: والقياس عطف على قوله: أن كل دليل ثم عطف على القياس قوله.
"والإجماع على عدم ترجيح ابن عم هو زوج, أو أخ لأم في التعصيب" فإنه لا يرجح بحيث يستحق جميع المال "على ابن عم ليس كذلك بل يستحق بكل سبب على انفراده", ولو كان الترجيح بكثرة الدليل ثابتا كان الترجيح بكثرة دليل الإرث ثابتا واللازم منتف. "خلافا لابن مسعود رضي الله عنه في الأخير" أي في ابن عم هو أخ لأم فإنه راجح عند ابن مسعود
................................................................................................
الترجيح ببساطة الوصف لسهولة إثباته والاتفاق على صحته والكل فاسد; لأن العبرة في باب القياس بمعنى الوصف, وهو قوته وتأثيره لا بصورته بأن يتكثر الوصف أو يتكثر محال الوصف, أو تقل أجزاؤه وأيضا الوصف مستنبط من النص فيكون فرعا له وقلة الأجزاء فيه بمنزلة الإيجاز في النص, ولا خلاف في عدم ترجيح النص الموجز على المطنب, ولا العام على الخاص بل عند الشافعي رحمه الله تعالى يقدم الخاص على العام ولقائل أن يقول: الكلام إنما هو على تقدير تساوي الوصفين في التأثير أو الملاءمة وحينئذ لم لا يجوز ترجيح أحدهما بما يفيد زيادة ظن, أو يكون بعيدا عن الخلاف؟ وأما عند تأثير أحدهما دون الآخر, فلا نزاع في تقديم المؤثر, وإن كان الآخر أكثر, أو أعم, أو أبسط, ثم لا يخفى أن في قوله: علة ذات جزء تسامحا إذ لا تركيب من أقل من جزأين فكأنه من قبيل المشاكلة والمراد أن يكون معنى واحدا لا جزء له.
قوله: "لهما أن كل دليل" يعني أن الترجيح بقوة الأثر وذلك بما يصلح وصفا وتبعا للدليل لا بما هو مستقل بالتأثير إذ تقوي الشيء إنما يكون بصفة توجد في ذاته ويكون تبعا له, وأما ما يستقل, فلا يحصل للغير قوة بانضمامه إليه بل يكون: كل منهما معارضا للدليل الموجب للحكم على خلافه فيتساقط الكل بالتعارض, وهذا معنى تساوي وجود الغير وعدمه وربما يقال: سلمنا أن الترجيح بالقوة لكن لا نسلم أنه لا يحصل للدليل بانضمام الغير إليه وصف يتقوى به, وهو كونه موافقا للدليل الآخر وموجبا لزيادة الظن.
قوله: "خلافا لابن مسعود رضي الله عنه" في الأخير, وهو ما إذا ترك ابني عم أحدهما أخ له من أم بأن تزوج عمه أمه فولدت له ابنا فعند ابن مسعود المال كله للأخ لأم; لأنهما استويا في قرابة(2/242)
الأخير بخلاف الأخ لأب وأم فإنه يرجح على الأخ لأب بالأخوة لأم؛ لأن هذه الجهة تابعة للأولى والحيز متحد فيحصل بهما هيئة اجتماعية بخلاف الأوليين فلا يرجح بكثرة الرواة ما لم تبلغ حد الشهرة فإنه يحصل حينئذ هيئة اجتماعية.
ولا القياس بقياس آخر.
ـــــــ
رضي الله عنه على ابن عم ليس كذلك أي يستحق جميع الميراث ويحجب الآخر. "بخلاف الأخ لأب وأم فإنه يرجح على الأخ لأب بالأخوة لأم; لأن هذه الجهة" أي جهة الأخوة لأم "تابعة للأولى" أي للإخوة لأب "والحيز متحد" أي حيز القرابة متحد; لأن الأخوة لأب والأخوة لأم كل منهما أخوة "فيحصل بهما" أي بأخوة لأب والأخوة لأم "هيئة اجتماعية بخلاف الأوليين" فيصير مجموع الأخوتين قرابة واحدة قوية فيترجح على الأضعف "فلا يرجح بكثرة الرواة ما لم تبلغ حد الشهرة فإنه يحصل حينئذ هيئة اجتماعية". هذه تفريعات
................................................................................................
الأب, وقد ترجحت قرابة الأخ لأم بانضمام قرابة الأم; لأن العلة تترجح بالزيادة من جنسها إذا كانت غير مستقلة والأخوة لأم كذلك لكونها من جنس العمومة باعتبار كونها قرابة مثلها لكنها لا تستبد بالتعصيب فيكون مثل الأخ لأب وأم مع الأخ لأب بخلاف الزوجية, فإنها ليست من جنس القرابة, فلا تصلح للترجيح, وعند الجمهور سدس المال للأخ لأم بالفرضية والباقي بينهما بالعصوبة فيصح من اثني عشر سبعة لابن عم هو أخ لأم وخمسة للآخر; لأن الأخوة لأم, وإن لم تستقل بالتعصيب لكنها تستقل باستحقاق الإرث وليست من جنس العمومة بل أقرب, فلا يكون تبعا لها, فلا يصلح مرجحا بخلاف الأخوة, فإنها جنس واحد تأكد بانضمام أخوة الأم إليه بمنزلة الوصف ألا ترى أنه لو اجتمع الأخوة لأب والأخوة لأم لا تصلح أخوة الأم سببا للاستحقاق بالفرضية.
قوله: "ما لم تبلغ حد الشهرة" تعرض الشهرة; لأنها إذا كانت مرجحة فالتواتر بطريق الأولى; لأنه لا يبلغ حد التواتر ما لم يبلغ حد الشهرة ولتقارب أمرهما بل لكون المشهور أحد قسمي المتواتر على رأي تعرض في الشرح للتواتر. وحاصل الكلام في هذا المقام أن الكثرة إن تأدت إلى حصول هيئة اجتماعية هي وصف واحد قوي الأثر كانت صالحة للترجيح; لأن المرجح هو القوة لا الكثرة غايته أن القوة حصلت بالكثرة وإلا فلا, فكثرة أجزاء العلة توجب القوة كما في حمل الأثقال بخلاف كثرة جزئياته كما في المصارعة إذ المقاوم واحد, وأما الرجوع إلى السنة, أو القياس عند تعارض النصين, أو الحديثين, فقد سبق أنه ليس من قبيل الترجيح.
قوله: "ولا القياس بقياس آخر" يعني قياسا يوافقه في الحكم دون العلة ليكون من كثرة الأدلة إذ لو وافقه في العلة كان من كثرة الأصول لا من كثرة الأدلة إذ لا يتحقق تعدد القياسين حقيقة إلا عند تعدد العلتين; لأن حقيقة القياس ومعناه الذي به يصير حجة هي العلة لا الأصل.
قوله: "وعلى هذا" يعني كما أن كل ما يصلح دليلا مستقلا على الأحكام لا يصلح مرجحا لأحد الدليلين كذلك كل ما يصلح علة لا يصلح مرجحا; لأنه لاستقلاله لا ينضم إلى الآخر, ولا(2/243)
على عدم الترجيح بكثرة الدليل فالرواة إذا لم يبلغوا حد التواتر لم تحصل هيئة اجتماعية أما إذا بلغوا فقد حصل هيئة اجتماعية تمنع التوافق على الكذب وقبل بلوغ هذا الحد يحتمل كذب كل واحد منهم. واعلم أنا نرجح بالكثرة في بعض المواضع كالترجيح بكثرة الأصول وكترجيح الصحة على الفساد بالكثرة في صوم غير مبيت, ولا نرجح بالكثرة في بعض المواضع كما لم نرجح بكثرة الأدلة ولنا في ذلك فرق دقيق. وهو أن الكثرة معتبرة في كل موضع يحصل بها هيئة اجتماعية ويكون الحكم منوطا بالمجموع من حيث هو المجموع وأنها غير معتبرة في كل موضع لا يحصل بالكثرة هيئة اجتماعية ويكون الحكم منوطا بكل واحد منها لا بالمجموع واعتبر هذا بالشاهد فإن كل أمر منوط بالكثرة كحمل الأثقال والحروب ونحوهما فإن الأكثر فيه راجح على الأقل وكل أمر منوط بكل واحد واحد كالمصارعة مثلا فإن الكثير لا يغلب القليل فيها بل رب واحد قوي يغلب الآلاف من الضعاف فكثرة الأصول من قبيل الأول; لأنها دليل قوة تأثير الوصف فهي راجعة إلى القوة فتعتبر وكثرة الأدلة من قبيل الثاني; لأن كل واحد دليل هو مؤثر بنفسه بلا مدخل لوجود الآخر أصلا فإن الحكم منوط بكل واحد لا بالمجموع من حيث هو المجموع بخلاف الكثرة التي هي في الصوم فإن هذا الحكم تعلق بالأكثر من حيث هو الأكثر لا بكل واحد, من
................................................................................................
يتحد به ليفيد القوة, ثم بين ذلك في العلل الحسية للأحكام الشرعية التي وقع الإجماع على الترجيح بكثرة العلة بمعنى أن يسقط الآخر بالكلية وذلك كما في مسألة اختلاف عدد جراحات الجانين على مجروح واحد مات من جميعها, فإن الدية عليهما نصفان. فإن قيل: هب أنه لم تعتبر الكثرة مرجحة حتى يلزم الإسقاط لكن لم لم تعتبر موجبة لتوزيع الدية على الجراحات كما تعدد في الجنايات. قلنا: لأن الإنسان قد يموت من جراحة واحدة, ولا يموت من جراحات كثيرة, فلم يتعد بعددها وجعل الجميع بمنزلة جراحة واحدة, وكما في مسألة الشفعة وهي دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها وللثالث سدسها فباع صاحب النصف نصفه وطلب الآخران الشفعة لم يترجح جانب صاحب الثلث بحيث ينفرد باستحقاق الشفعة ويسقط صاحب السدس; لأن كل جزء من أجزاء سهميهما علة مستقلة في استحقاق شفعة جميع المبيع وليس في جانب صاحب الثلث إلا كثرة العلة وهي لا تصلح للترجيح فعندنا يكون نصف المبيع بينهما أنصافا لترتب الحكم على العلة المتحققة في كل جانب, وعند الشافعي رحمه الله تعالى أثلاثا ثلثه لصاحب السدس وثلث لصاحب الثلث; لأن حق الشفعة من مرافق الملك أي منافعه وثمراته كالثمرة للشجرة والولد للحيوان المشترك فيقسم بقدر الملك. والجواب أن الدار المشفوعة علة فاعلية تثبت بها الشفعة لا علة مادية يتولد منها المعلول بمنزلة الشجر والحيوان, وقد ثبت في علم الكلام أن تأثير العلة الفاعلية في المعلول ليس بطريق التوليد بل بإيجاد الله تعالى إياه عقيبه, فلا يكون ترتب استحقاق الشفعة على الملك كترتب الثمر على الشجر والولد على الحيوان, ثم الشارع قد جعل ممنوع الملك علة للحكم فتقسيم الحكم على أجزاء العلة وجعل كل جزء من العلة علة لجزء من المعلول نصب للشرع بالرأي, وهو فاسد.(2/244)
ولا الحديث بحديث آخر وعلى هذا كل ما يصلح علة لا يصلح مرجحا، وكذا إذا جرح أحدهما جراحة والآخر عشر جراحات فالدية نصفان، وكذا الشفيعان بشقصين متفاوتين. والشافعي رحمه الله تعالى لا يرجح صاحب الكثير أيضا ولكن يقسم بقدر الملك؛ لأن الشفعة من مرافق الملك كالثمرة والولد فنقول: حكم العلة لا يتولد منها، ولا ينقسم عليها.
ـــــــ
الأجزاء فيكون من قبيل الأول هذا هو الأصل فأحكمه وفرع عليه الفروع. وقوله: "ولا القياس بقياس آخر" عطف على الضمير المرفوع في قوله: فلا يرجح ومعناه أنه إذا كانت العلة في أحدهما مغايرة للعلة في الآخر لكنهما أديا إلى حكم واحد كما أن علة الربا عند الشافعي رحمه الله تعالى الطعم, وعند مالك الطعم والادخار فكل واحد من العلتين يوجب حرمة بيع الحفنة من الحنطة بحفنتين منها, وأما إذا كانت العلة فيهما شيئا واحدا لكن المقيس عليه متعدد فإنه حينئذ لا يكون قياسان بل قياس واحد مع كثرة الأصول, وهذا يصلح للترجيح.
"ولا الحديث بحديث آخر وعلى هذا كل ما يصلح علة لا يصلح مرجحا, وكذا إذا جرح أحدهما جراحة والآخر عشر جراحات فالدية نصفان, وكذا الشفيعان بشقصين متفاوتين. والشافعي رحمه الله تعالى لا يرجح صاحب الكثير أيضا" بمعنى أن يكون هو المستحق دون الآخر "ولكن يقسم بقدر الملك; لأن الشفعة من مرافق الملك كالثمرة والولد فنقول: حكم العلة لا يتولد منها, ولا ينقسم عليها" المراد بالعلة هاهنا العلة الفاعلية وهي التي يحصل المعلول بها فإن المعلول غير متولد منها وغير منقسم عليها بخلاف العلة المادية وهي التي يحصل المعلول منها فالمعلول يتولد منها وينقسم عليها كالولد والثمر فاستحقاق الشفعة غير متولد من الدار المشفوع بها بل هو ثابت بها لا منها, فلا تنقسم عليها.(2/245)
باب الاجتهاد
شرطه أن يحوي علم الكتاب بمعانيه لغة وشرعا وأقسامه المذكورة، وعلم السنة متنا وسندا، ووجوه القياس كما ذكرنا. وحكمه غلبة الظن على
ـــــــ
"باب الاجتهاد شرطه أن يحوي علم الكتاب بمعانيه لغة وشرعا وأقسامه المذكورة, وعلم السنة متنا وسندا, ووجوه القياس كما ذكرنا. وحكمه غلبة الظن على احتمال الخطأ
................................................................................................
قوله: "باب الاجتهاد" لما كان بحث الأصول عن الأدلة من حيث إنه يستنبط منها الأحكام وطريق ذلك هو الاجتهاد ختم مباحث الأدلة بباب الاجتهاد, وهو في اللغة تحمل الجهد أي المشقة. وفي الاصطلاح استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي, وهذا هو المراد بقولهم: بذل المجهود لنيل المقصود ومعنى استفراغ الوسع بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه فخرج استفراغ غير الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي فبذل الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي قطعي, أو في الظن بحكم غير شرعي ليس باجتهاد. وشرط الاجتهاد أن يحوي أي أن يجمع العلم بأمور ثلاثة.(2/245)
احتمال الخطأ فالمجتهد عندنا يخطئ ويصيب، وعند المعتزلة كل مجتهد مصيب.
وهذا بناء على أن عندنا في كل حادثة حكما معينا عند الله تعالى، وعندهم لا بل الحكم ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد، فإذا اجتهدوا في حادثة فالحكم عند الله تعالى في حق كل واحد مجتهده. لهم أن المجتهدين كلفوا بإصابة الحق، ولولا تعدد الحقوق يلزم التكليف بما ليس في وسعهم، وهذا كالاجتهاد في القبلة فإن القبلة جهة التحري حتى أن المخطئ يخرج عن عهدة الصلاة. واختلاف الحكم بالنسبة إلى قومين جائز كما
ـــــــ
فالمجتهد عندنا يخطئ ويصيب, وعند المعتزلة كل مجتهد مصيب, وهذا بناء على أن عندنا في كل حادثة حكما معينا عند الله تعالى, وعندهم لا بل الحكم ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد, فإذا اجتهدوا في حادثة فالحكم عند الله تعالى في حق كل واحد مجتهده. لهم أن المجتهدين كلفوا بإصابة الحق, ولولا تعدد الحقوق يلزم التكليف بما ليس في وسعهم, وهذا كالاجتهاد في القبلة فإن القبلة جهة التحري حتى أن المخطئ يخرج عن عهدة الصلاة. واختلاف الحكم بالنسبة إلى قومين جائز كما كان في إرسال رسولين على قومين ثم اختلفوا فقال بعضهم بتساوي الحقوق; لأن دليل التعدد لا يوجب التفاوت, وعند بعضهم واحد منها أحق; لأنها لو
................................................................................................
الأول: الكتاب أي القرآن بأن يعرفه بمعانيه لغة وشريعة أما لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركبات وخصوصها في الإفادة فيفتقر إلى اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان اللهم إلا أن يعرف ذلك بحسب السليقة, وأما شريعة فبأن يعرف المعاني المؤثرة في الأحكام مثلا يعرف في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أن المراد بالغائط الحدث, وأن علة الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان الحي بأقسامه من الخاص والعام والمشترك والمجمل والمفسر وغير ذلك مما سبق ذكره بأن يعلم أن هذا خاص وذاك عام, وهذا ناسخ وذاك منسوخ إلى غير ذلك, ولا خفاء في أن هذا مغاير لمعرفة المعاني والمراد بالكتاب قدر ما يتعلق بمعرفة الأحكام والمعتبر هو العلم بمواقعها بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند طلب الحكم لا الحفظ عن ظهر القلب.
الثاني: السنة قدر ما يتعلق بالأحكام بأن يعرفها بمتنها وهو نفس الحديث وسندها, وهو طريق وصولها إلينا من تواتر, أو شهرة, أو آحاد. وفي ذلك معرفة حال الرواة والجرح والتعديل إلا أن البحث عن أحوال الرواة في زماننا هذا كالمتعذر لطول المدة وكثرة الوسائط فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة الموثوق بهم في علم الحديث كالبخاري ومسلم والبغوي والصغاني وغيرهم من أئمة الحديث, ولا يخفى أن المراد معرفة متن السنة بمعانيه لغة وشريعة وبأقسامه من الخاص والعام وغيرهما.
الثالث: وجوه القياس بشرائطها وأحكامها وأقسامها والمقبول منها والمردود وكل ذلك ليتمكن من الاستنباط الصحيح وكان الأولى ذكر الإجماع أيضا إذ لا بد من معرفته ومعرفة مواقعه لئلا يخالفه في اجتهاده, ولا يشترط علم الكلام لجواز الاستدلال بالأدلة السمعية للجازم بالإسلام تقليدا, ولا علم الفقه; لأنه نتيجة الاجتهاد وثمرته, فلا يتقدمه إلا أن منصب الاجتهاد في زماننا إنما(2/246)
كان في إرسال رسولين على قومين ثم اختلفوا فقال بعضهم بتساوي الحقوق؛ لأن دليل التعدد لا يوجب التفاوت، وعند بعضهم واحد منها أحق؛ لأنها لو استوت لأصيبت بمجرد الاختيار ولسقط الاجتهاد وفيه نظر؛ لأنه قبل الاجتهاد لا يعلم أن جميع الاجتهادات تتفق على شيء واحد فيكون الحق واحدا، أو تختلف فيكون حينئذ متعددا. ولنا قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وقوله: عليه الصلاة والسلام: "إن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة" وفي حديث آخر: "جعل الله للمصيب أجرين وللمخطئ واحدا" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أصبت فمن الله تعالى، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان ولأن الثابت بالقياس ثابت بمعنى النص وإن ورد نصان صيغة في حادثة لا يتعدد الحق اتفاقا فكيف إذا وردا معنى.
ـــــــ
استوت لأصيبت بمجرد الاختيار ولسقط الاجتهاد وفيه نظر; لأنه قبل الاجتهاد لا يعلم أن جميع الاجتهادات تتفق على شيء واحد فيكون الحق واحدا, أو تختلف فيكون حينئذ متعددا. ولنا قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة" وفي حديث آخر "جعل الله للمصيب أجرين وللمخطئ واحدا" وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن أصبت فمن الله تعالى, وإن أخطأت فمني ومن الشيطان ولأن الثابت بالقياس ثابت بمعنى النص وإن ورد نصان صيغة في حادثة لا يتعدد الحق اتفاقا فكيف إذا وردا معنى" أي كيف يتعدد الحق إذا وردا معنى. نظيره حلي النساء فإنا نقول بوجوب الزكاة فيها قياسا على المضروب والشافعي رحمه الله تعالى بعدم وجوب الزكاة قياسا على الثياب فإن كلا منهما مصروف لحاجته فمعنى القياس أن النص الوارد في
................................................................................................
يحصل بممارسة الفروع فهي طريق إليه في هذا الزمان, ولم يكن الطريق في زمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ثم هذه الشرائط إنما هي في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الأحكام, وأما المجتهد في حكم دون حكم فعليه معرفة ما يتعلق بذلك الحكم كذا ذكره الإمام الغزالي. فإن قلت: لا بد من معرفة جميع ما يتعلق بالأحكام لئلا يقع اجتهاده في تلك المسألة مخالفا لنص, أو إجماع. قلت: بعد معرفة جميع ما يتعلق بذلك الحكم لا يتصور الذهول عما يقتضي خلافه; لأنه من جملة ما يتعلق بذلك الحكم, ولا حاجة إلى الباقي. مثلا الاجتهاد في حكم متعلق بالصلاة لا يتوقف على معرفة جميع ما يتعلق بأحكام النكاح.
قوله: "وحكمه" أي الأثر الثابت بالاجتهاد غلبة الظن بالحكم مع احتمال الخطأ, فلا يجري الاجتهاد في القطعيات وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين, وهذا مبني على أن المصيب عند اختلاف المجتهدين واحد, وقد اختلفوا في ذلك بناء على اختلافهم في أن لله تعالى(2/247)
المقيس عليه وارد في المقيس معنى وإن لم يكن واردا صريحا, فلو كان النصان واردين فيه صريحا كان الحق واحدا; لأنه لا تعارض في أدلة الشرع فيكون أحدهما منسوخا والآخر ناسخا, فإذا كان النصان وهما النص الوارد في المضروب والنص الوارد في الثياب واردين في الحلي من حيث المعنى لا يدلان على حقيقة مدلولي كل منهما إذ دلالتهما معنى لا تزيد على دلالتهما صريحا, ولو وجدت دلالتهما صريحا لا يكون مدلول كل منهما حقا فكذا إذا وجدت دلالتهما معنى بالطريق الأولى.
................................................................................................
في كل صورة من الحوادث حكما معينا أم الحكم ما أدى إليه اجتهاد المجتهد فعلى الأول يكون المصيب واحدا وعلى الثاني يكون كل مجتهد مصيبا. وتحقيق هذا المقام أن المسألة الاجتهادية إما أن يكون لله تعالى فيها حكم معين قبل اجتهاد المجتهد, أو لا يكون وحينئذ إما أن لا يدل عليه دليل, أو يدل وذلك الدليل إما قطعي, أو ظني فذهب إلى كل احتمال جماعة فحصل أربعة مذاهب: الأول: أن لا حكم في المسألة قبل الاجتهاد بل الحكم ما أدى إليه رأي المجتهد وإليه ذهب عامة المعتزلة, ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى استواء الحكمين في الحقية وبعضهم إلى كون أحدهما أحق, وقد ينسب ذلك إلى الأشعري بمعنى أنه لم يتعلق الحكم بالمسألة قبل الاجتهاد وإلا فالحكم قديم عنده. الثاني: أن الحكم معين, ولا دليل عليه بل العثور عليه بمنزلة العثور على دفين فلمن أصاب أجران ولمن أخطأ أجر الكد وإليه ذهب طائفة من الفقهاء والمتكلمين. الثالث: أن الحكم معين وعليه دليل قطعي والمجتهد مأمور بطلبه وإليه ذهب طائفة من المتكلمين, ثم اختلفوا في أن المخطئ هل يستحق العقاب أم لا؟ وفي أن حكم القاضي بالخطأ هل ينقض. الرابع: أن الحكم معين وعليه دليل ظني إن وجده أصاب, وإن فقده أخطأ والمجتهد غير مكلف بإصابتها لغموضها وخفائها فلذا كان المخطئ معذورا بل مأجورا, ثم اختلف هؤلاء في أن المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء معا, أو انتهاء فقط, وهذا هو المختار عند المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: "لهم" احتج القائلون بتعدد الحق في المسائل الاجتهادية وإصابة كل مجتهد بوجهين:
أحدهما: أنه لو يتعدد الحق لزم تكليف ما لا يطاق, وهو باطل لما مر بيان الملازمة أن المجتهدين مكلفون بنيل الحق وإصابة الصواب إذ لا فائدة للاجتهاد سوى ذلك, فلو كان الحق واحدا لكان المجتهد مأمورا بإصابته بعينه, وظاهر أن ذلك ليس في وسعه لغموض طريقه وخفاء دليله فيجب أن يكون الحق بالنسبة إلى كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده.
والثاني: أن اجتهاد المجتهد في الحكم كاجتهاد المصلي في أمر القبلة والحق فيه متعدد اتفاقا فكذا هاهنا لعدم الفرق. وإنما قلنا: إن الحق فيه متعدد اتفاقا; لأن المصلي مأمور باستقبال القبلة, فلو لم يكن جميع الجهات بالنسبة إلى المصلين إلى جهات مختلفة قبلة لما تأدى فرض من أخطأ جهة القبلة واللازم باطل; لأنه لا يؤمر بإعادة الصلاة. فإن قيل: تعدد الحق يستلزم اتصاف فعل واحد بالمتنافيين كالوجوب وعدمه, وهو محال. أجيب بأنه إن أريد بالنسبة إلى شخص واحد في زمان واحد فاللزوم ممنوع, وإن أريد بالنسبة إلى شخصين فالاستحالة ممنوعة لجواز أن يجب شيء على زيد, ولا يجب على عمر وكما عند اختلاف الرسل بأن يبعث الله تعالى رسولين إلى قومين مع(2/248)
اختصاص كل منهما بأحكام فيجوز أن يكون الشيء واجبا على مجتهد وعلى من التزم تقليده, غير واجب على آخر وعلى مقلديه, ثم اختلف القائلون بحقية الجميع فذهب بعضهم إلى تساوي الجميع في الحقية وبعضهم إلى كون البعض أحق أي أكثر ثوابا بمعنى أن من أدى اجتهاده إلى وجوب الشيء, فهو أكثر ثوابا ممن أدى اجتهاده إلى عدم وجوبه مع حقية الحكمين استدل الأولون بأن الدليل الدال على تعدد الحق في المسائل الاجتهادية, وهو لزوم تكليف ما لا يطاق على تقدير عدم التعدد لا يوجب التفاوت بين الحكمين في الأحقية. وفيه نظر; لأنه لا يوجب التساوي فيجوز أن يثبت التفاوت بناء على دليل آخر. واستدل الآخرون بأنه لو تساوت الأحكام الاجتهادية في الحقية لجاز للمجتهد أن يختار أيها شاء من غير تعب في بذل المجهود وطلب لنيل المقصود, وهذا معنى سقوط الاجتهاد. وفيه نظر أما أولا فلأن التقدير أن لا حكم قبل الاجتهاد, وإنما يحدث عقيبه فلا بد من الاجتهاد ليتحقق الحكم, وأما ثانيا فلأنها, وإن تساوت في الحقية إلا أن المتعين بالنسبة إلى كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده لا غير حتى لا يجوز له أن يختار غيره, ولا أن يترك الاجتهاد ويقلد مجتهدا آخر.
وأما ثالثا فلأنه على تقدير تحقق الحكم قبل الاجتهاد وجواز اختيار المجتهد أي حق شاء لا بد من الاجتهاد ليعلم تعدد الحق فيتمكن من اختيار أحد الحقين إذ ليس كل مسألة اجتهادية مما يتعدد فيه الحق بل قد تجتمع الآراء على حكم واحد فيكون الحق واحدا مجمعا عليه.
والحاصل أن التعدد لا يكون إلا عند اختلاف آراء المجتهدين, وهو بدون الاجتهاد لا يتصور واعلم أن مراد المستدل هو أنه لو تساوت الحقوق لثبت الحق بمجرد اختيار الحكم بأدنى دليل يؤدي إليه من غير مبالغة في الطلب والاجتهاد لتساوي ما ينال بغاية الطلب وما ينال بأدنى الطلب, وهذا معنى سقوط الاجتهاد يدل على ذلك ما ذكر في التقويم أنه لو تساوت الحقوق لبطلت مراتب الفقهاء وتساوى الباذل كل جهده في الطلب المبلى عذره بأدنى طلب وعلى هذا لا يرد الاعتراض.
قوله: "ولنا" احتج أصحابنا على أن الحق واحد والمجتهد يخطئ ويصيب بالكتاب والسنة والأثر ودلالة الإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} والضمير للحكومة أو الفتوى ووجه الاستدلال أن داود عليه الصلاة والسلام حكم بالغنم لصاحب الحرث وبالحرث لصاحب الغنم وسليمان حكم بأن تكون الغنم لصاحب الحرث ينتفع بها ويقوم أصحاب الغنم على الحرث حتى يرجع كما كان فيرد كل إلى صاحبه ملكه وكان حكم داود عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد دون الوحي وإلا لما جاز لسليمان عليه الصلاة والسلام خلافه, ولا لداود الرجوع عنه, ولو كان كل من الاجتهادين حقا لكان كل منهما قد أصاب الحكم وفهمه, ولم يكن لتخصيص سليمان عليه الصلاة والسلام بالذكر جهة, فإنه وإن لم يدل على نفي الحكم عما عداه لكنه في هذا المقام يدل عليه كما لا يخفى على من له معرفة بخواص التراكيب, وهذا مبني على جواز اجتهاد الأنبياء وجواز خطئهم فيه على ما ثبت ذلك في موضعه, وقد يجاب بأن المعنى ففهمنا سليمان عليه الصلاة والسلام الفتوى, أو الحكومة التي هي أحق وأفضل ويكون اعتراض سليمان عليه الصلاة والسلام مبنيا على(2/249)
ولأن الجمع بين الحظر والإباحة ممتنع، وكذا بالنسبة إلى قومين في شريعتنا والتكليف بالاجتهاد يفيد لأنه إن أخطأ، فهو مصيب نظرا إلى الدليل وله الأجر، وأما
ـــــــ
"ولأن الجمع بين الحظر والإباحة ممتنع, وكذا بالنسبة إلى قومين في شريعتنا والتكليف بالاجتهاد يفيد" جواب عن قول المعتزلة أن المجتهدين كلفوا "لأنه إن أخطأ, فهو مصيب نظرا إلى الدليل وله الأجر, وأما مسألة القبلة فإن فساد صلاة من خالف الإمام عالما يدل على
................................................................................................
أن ترك الأولى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمنزلة الخطأ من غيرهم يشعر بذلك قوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}, فإنه يفهم منه إصابتهم في فصل الخصومات والعلم بأمور الدين ويؤيده ما نقل أنه قال سليمان عليه الصلاة والسلام غير هذا أوفق الفريقين كأنه قال هذا حق لكن غيره أحق.
وأما السنة والأثر فالأحاديث والآثار الدالة على ترديد الاجتهاد بين الصواب والخطأ وهي وإن كانت من قبيل الآحاد إلا أنها متواترة من جهة المعنى وإلا لم تصلح للاستدلال على الأصول. وأما دلالة الإجماع, فهو أن القياس مظهر لا مثبت فالثابت بالقياس ثابت بالنص معنى, وإن لم يكن ثابتا به صريحا, وقد أجمعوا على أن الحق فيما ثبت بالنص واحد لا غير. وفيه نظر; لأن القياس عند الخصم مثبت لا مظهر ولأن الحكم الاجتهادي أعم من أن يكون ثابتا بالقياس, أو بغيره من الأدلة الظنية كمفهوم الشرط والصفة ونحو ذلك والخلاف في اتحاد الحق, أو تعدده جار في الجميع, فلا إجماع على اتحاد الحق إلا فيما لم يقع فيه خلاف.
وأما المعقول فلأن كون الفعل محظورا ومباحا, أو صحيحا وفاسدا, أو واجبا وغير واجب ممتنع لاستلزامه اتصاف الشيء بالنقيضين والممتنع لا يكون حكما شرعيا. فإن قيل: لا نسلم امتناع ذلك بالنسبة إلى شخصين, فإن التناقض لا يكون إلا عند اتحاد المحل. أجيب بأن الجمع بين المتنافيين بالنسبة إلى شخصين أيضا ممتنع في شريعة نبينا عليه السلام; لأنه مبعوث إلى الناس كافة داع لهم إلى الحق بصريح النصوص, أو معناها من غير تفرقة بين الأشخاص لدخولهم في العمومات على السواء, ولا يخفى ابتناء هذا الجواب على أن الثابت بالقياس ثابت بالنص, وأن الحق في الاجتهاديات الثابتة بالنصوص واحد إجماعا والأصوب أن يقال: يلزم الجمع بين المتنافيين بالنسبة إلى شخص واحد فيما إذا استفتى عامي لم يلتزم تقليد مذهب معين مجتهدين حنفيا وشافعيا فأفتاه أحدهما بإباحة النبيذ والآخر بحرمته, ولم يترجح أحدهما عنده, ولم يستقر علمه على شيء منهما وأيضا إذا تغير اجتهاد المجتهد, فإن في الأول حقا لزم اجتماع المتنافيين بالنسبة إليه وإلا لزم النسخ بالاجتهاد, وكذا المقلد إذا صار مجتهدا.
قوله: "والتكليف" جواب عن تمسكهم بأنه لو اتحد الحق لزم التكليف بما ليس في الوسع وتقريره أنا لا نسلم أن المجتهد مكلف بإصابة الحق بل هو مكلف بالاجتهاد ضرورة أنه لا يجوز له التقليد, والاجتهاد حق نظرا إلى رعاية شرائطه بقدر الوسع سواء أدى إلى ما هو حق عند الله تعالى, أو خطأ والتكليف به يفيد الأجر ووجوب العمل بموجبه, فلا يلزم العبث. فإن قيل: المجتهد مأمور بما أدى إليه اجتهاده وكل ما أمر به, فهو حق. أجيب بأنه يكفي في المأمور به أن يكون حقا بالنظر(2/250)
مسألة القبلة فإن فساد صلاة من خالف الإمام عالماحاله يدل على مذهبنا، فأما عدم إعادة المخطئ للكعبة فلأنها غير مقصودة لكن الشرع جعلها وسيلة إلى المقصود، وهو وجه الله تعالى فأقيم غلبة ظن إصابتها مقام إصابتها، ثم اختلف علماؤنا في المخطئ فعند البعض مخطئ ابتداء وانتهاء أي بالنظر إلى الدليل وبالنظر إلى الحكم لما روينا من إطلاق الخطأ في الحديث ولقوله عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر حين نزل: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية "لو نزل بنا عذاب ما نجا منه إلا عمر" رضي الله تعالى عنه.
وعند البعض مصيب ابتداء مخطئ انتهاء وهذا ما قال أبو حنيفة رحمه
ـــــــ
مذهبنا, فأما عدم إعادة المخطئ للكعبة فلأنها غير مقصودة لكن الشرع جعلها وسيلة إلى المقصود, وهو وجه الله تعالى فأقيم غلبة ظن إصابتها مقام إصابتها, ثم اختلف علماؤنا في المخطئ فعند البعض مخطئ ابتداء وانتهاء أي بالنظر إلى الدليل وبالنظر إلى الحكم لما روينا من إطلاق الخطأ في الحديث ولقوله عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر حين نزل: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية "لو نزل بنا عذاب ما نجا منه إلا عمر" رضي الله تعالى عنه هذا هو المقول لقوله عليه الصلاة والسلام فدل هذا الحديث على أن المجتهد المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء; لأن المجتهد لو كان مصيبا من وجه لما كانوا مستحقين لنزول العذاب وقد مر هذا الحديث وقصته في الركن الثاني في السنة.
"وعند البعض مصيب ابتداء مخطئ انتهاء وهذا ما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد" فإن كان الحق عند الله واحدا لا يراد أن كل مجتهد
................................................................................................
إلى الدليل وبحسب ظن المجتهد, وإن كان خطأ عند الله تعالى كما إذا قام نص على خلاف رأي المجتهد لكنه لم يطلع عليه بعد استفراغ الجهد في الطلب, فإنه مأمور بما أدى إليه ظنه, وإن كان خطأ لقيام النص على خلافه وبهذا يندفع ما يقال: إنه يجب على المجتهد العمل باجتهاده ويحرم تقليد غيره, فلو كان اجتهاده خطأ واجتهاد الغير حقا لزم أن يكون العمل بالخطأ واجبا وبالصواب حراما, وهو ممتنع.
قوله: "يدل على مذهبنا", وهو أن المجتهد يخطئ ويصيب إذ لو كان كل مجتهد مصيبا لصح صلاة من خالف الإمام عالما بحاله لإصابتهما جميعا في جهة القبلة.
قوله: "وهو وجه الله تعالى" أي المقصود هي الجهة التي رضيها الله تعالى وأمر بها, وعند حصول المقصود لا بأس بفوات الوسيلة.
قوله: "وعند البعض مصيب ابتداء" أي بالنظر إلى الدليل مخطئ انتهاء أي بالنظر إلى الحكم, فإنه لا يمتنع في الأقيسة الشرعية والأدلة الظنية أن يتناقض المطالب والأحكام مع رعاية الشرائط قدر(2/251)
الله تعالى كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية فسمى عمل كليهما حكما وعلما لكن سليمان عليه الصلاة والسلام خص بإصابة الحق المطلوب وتنصيف الأجر يدل على هذا أيضا وأما قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} فإن الحكم في الأسارى من قبل كان إما القتل، أو المن ورخص النبي عليه الصلاة والسلام بالفداء أيضا، فلولا الكتاب السابق بإباحة الفداء، وهو الرخصة لمسكم العذاب على ترك العزيمة.
ـــــــ
مصيب بالنظر إلى الحكم بل بالنظر إلى الدليل بمعنى أنه قد أقام الدليل كما هو حقه مستجمعا لشرائطه وأركانه فيكون آتيا بما كلف به من الاعتبار وليس في وسعه إقامة البرهان القطعي في الشرعيات حتى يكون مدلوله قطعيا ألبتة "لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية فسمى عمل كليهما حكما وعلما لكن سليمان عليه الصلاة والسلام خص بإصابة الحق المطلوب وتنصيف الأجر يدل على هذا أيضا" أي على أنه مصيب من وجه دون وجه آخر. "وأما قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} فإن الحكم في الأسارى من قبل كان إما القتل, أو المن ورخص النبي عليه الصلاة والسلام بالفداء أيضا, فلولا الكتاب السابق بإباحة الفداء, وهو الرخصة لمسكم العذاب على ترك العزيمة" فنزول العذاب كان واجبا على تقدير عدم سبق الكتاب لكن سبق الكتاب كان واقعا, فلا يستحقون العذاب واقعا بسبب الخطأ في الاجتهاد بعد سبق الكتاب.
................................................................................................
الوسع والطاقة ولذلك وصف الله تعالى اجتهاد داود عليه الصلاة والسلام بالحكم والعلم في مقام الثناء عليه والامتنان مع كونه خطأ بدلالة سوق الكلام, وفي تخصيص سليمان عليه الصلاة والسلام بإصابة الحق, فلو كان خطأ من كل وجه لما كان حكما وعلما بل جهلا وخطأ. وقد يقال: إنه لا دلالة في إيتاء الحكم والعلم على أن اجتهاده في تلك الحادثة حكم وعلم فيجاب بأنه لو لم يكن اجتهاده فيها حكما وعلما لما كان لذكرهما في هذا المقام فائدة إذ لا يشتبه على أحد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوتي علما وحكما في الجملة.
قوله: "وتنصيف الأجر" أي تنصيف أجر المخطئ في الاجتهاد بقوله عليه الصلاة والسلام: "إن أصاب فله أجران, وإن أخطأ فله أجر واحد" 1 يدل على أنه مخطئ انتهاء لا ابتداء, فإن الأجر إنما يكون على الصواب, فلما كان ثوابه نصف ثواب المصيب كان صوابه أيضا كذلك توزيعا للأجر على الاستحقاق, وهذا ضعيف; لأن أجر المخطئ, إنما هو على كده في الاجتهاد وامتثال الأمر.
قوله: "وأما قوله: عليه الصلاة والسلام" القائلون بأن المجتهد المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء تمسكوا بوجهين: أحدهما: إطلاق الخطأ في قوله: عليه الصلاة والسلام وإن أخطأت فلك حسنة,
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 21 . مسلم في كتاب الأقضية حديث 15 . أبو داود في كتاب الأقضية باب 2 . الترمذي في كتاب الأحكام باب 2 . النسائي في كتاب القضاة باب 3 . ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 3 . أحمد في مسنده 2/187(2/252)
والمخطئ في الاجتهاد لا يعاقب إلا أن يكون طريق الصواب بينا والله أعلم.
القسم الثاني من الكتاب في الحكم ويفتقر إلى الحاكم، وهو الله تعالى لا العقل
ـــــــ
"والمخطئ في الاجتهاد لا يعاقب إلا أن يكون طريق الصواب بينا والله أعلم".
القسم الثاني من الكتاب في الحكم ويفتقر إلى الحاكم, وهو الله تعالى لا العقل على ما مر في باب الأمر. والمحكوم به, وهو فعل المكلف والمحكوم عليه, وهو المكلف ونورد الأبحاث في ثلاثة أبواب: "باب في الحكم" اعلم أني اخترعت تقسيما حاصرا على وفق مذهبنا
................................................................................................
ومن حكم المطلق أن ينصرف إلى الكامل, وهو الخطأ ابتداء وانتهاء. وثانيهما: قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية أي لولا ما كتب في اللوح أن لا يعذب أهل بدر, أو أن يحل لهم الغنائم, أو أن لا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي لمسكم عذاب عظيم في اتباع الاجتهاد الخطأ الذي هو أخذ الفدية, فلو كان صوابا من وجه لما استحقوا باتباعه العذاب العظيم لوجود امتثال الأمر في الجملة ولما كان ضعف الوجه الأول بينا إذ الاستدلال بالإطلاق على الكمال مما لا يعتد به في مسائل الأصول لم يتعرض لجوابه وأجاب عن الثاني بأن العزيمة في حكم الأسارى كان هو المن, أو القتل, وقد رخص للنبي عليه الصلاة والسلام في الفداء أيضا فالمعنى لولا سبق الحكم بإباحة الفداء والرخصة فيه لمسكم العذاب في ترك العزيمة فوجوب العذاب معلق بعدم سبق الكتاب لكن المعلق عليه غير واقع لتحقق سبق الكتاب, فلا يتحقق وجوب العذاب بسبب الخطأ في الاجتهاد هذا تقرير كلامه. وفيه نظر; لأن لولا لانتفاء الشيء لوجود غيره فيدخل على أن انتفاء العذاب على الخطأ في الاجتهاد إنما كان لوجود سبق الكتاب بإباحة الفداء حتى لو لم يتحقق ذلك لكان الخطأ موجبا لاستحقاق العذاب, وهذا يدل على كونه خطأ من كل وجه وعدم وقوع العذاب لا ينافي; لأنه مبني على وجود المانع, وهو سبق الكتاب.
قوله: "والمخطئ في الاجتهاد لا يعاقب", ولا ينسب إلى الضلال بل يكون معذورا ومأجورا إذ ليس عليه إلا بذل الوسع, وقد فعل, فلم ينل الحق لخفاء دليله إلا أن يكون الدليل الموصل إلى الصواب بينا فأخطأ المجتهد لتقصير منه وترك مبالغة في الاجتهاد, فإنه يعاقب وما نقل من طعن السلف بعضهم على بعض في مسائلهم الاجتهادية كان مبنيا على أن طريق الصواب بين في زعم الطاعن, وإنما قال المخطئ في الاجتهاد; لأن المخطئ في الأصول والعقائد يعاقب بل يضلل أو يكفر; لأن الحق فيها واحد إجماعا والمطلوب هو اليقين الحاصل بالأدلة القطعية إذ لا يعقل حدوث العالم وقدمه وجواز رؤية الصانع وعدمه فالمخطئ فيها مخطئ ابتداء وانتهاء وما نقل عن بعضهم من تصويب كل مجتهد في المسائل الكلامية إذ لم يوجب تكفير المخالف كمسألة خلق القرآن ومسألة الرؤية ومسألة خلق الأفعال فمعناه نفي الإثم وتحقق الخروج عن عهدة التكليف لا حقيقة كل من القولين.
قوله: "القسم الثاني من الكتاب", وقد وقع الفراغ من مباحث الأدلة, وهذا شروع في مباحث(2/253)
على ما مر في باب الأمر. والمحكوم به، وهو فعل المكلف والمحكوم عليه، وهو المكلف ونورد الأبحاث في ثلاثة أبواب: باب في الحكم وهو قسمان إما أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر، أو يكون كالحكم بأن لهذا ركن ذلك، أو سببه، أو نحو ذلك.
أما القسم الأول فإما أن يكون صفة لفعل المكلف أو أثرا له. الثاني كالملك وما يتعلق به والأول إما أن يعتبر فيه المقاصد الدنيوية اعتبارا أوليا، أو الأخروية أما الأول
ـــــــ
وعلى ما هو المذكور في كتبنا من الأقسام المتفرقة "وهو قسمان إما أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر, أو يكون كالحكم بأن لهذا ركن ذلك, أو سببه, أو نحو ذلك". اعلم أن المراد بالتعلق تعلق زائد على التعلق بالحكم والمحكوم عليه والمحكوم به ككون الشيء ركنا لشيء, أو علة, أو شرطا فإن هذا التعلق بالحكم ونحوه حاصل في جميع الأحكام.
"أما القسم الأول فإما أن يكون صفة لفعل المكلف" كالوجوب والحرمة وأمثالهما فإنها صفات لفعل المكلف, "أو أثرا له. الثاني كالملك" فإن الملك هو أثر لفعل المكلف "وما يتعلق به" كملك المتعة وملك المنفعة وثبوت الدين في الذمة. "والأول إما أن يعتبر فيه المقاصد الدنيوية اعتبارا أوليا, أو الأخروية" فإن صحة العبادة كونها بحيث توجب تفريغ الذمة فالمعتبر في مفهومها اعتبارا أوليا إنما هو المقصود الدنيوي, وهو تفريغ الذمة وإن كان يلزمها الثواب مثلا, وهو المقصود الأخروي لكنه غير معتبر في مفهومه اعتبارا أوليا والوجوب كون الفعل بحيث لو أتى به يثاب, ولو تركه يعاقب فالمعتبر في مفهومه اعتبارا أوليا هو المقصود الأخروي وإن كان يتبعه المقصود الدنيوي كتفريغ الذمة ونحوه. "أما الأول" أي الذي يعتبر فيه
................................................................................................
الأحكام, وقد سبق تفسير الحكم ومباحث الحاكم فرتب الكلام هاهنا على ثلاثة أبواب: مباحث الحكم نفسه ومباحث المحكوم به ومباحث المحكوم عليه وابتدأ بالحكم; لأن النظر فيه من المقاصد الأصلية, ثم بالمحكوم به; لأن الخطاب يتعلق به أولا وبواسطة أنه مضاف إلى المكلف وعبارة عن فعله يصير المكلف محكوما عليه وحاول في الباب الأول اختراع تقسيم حاصر أي ضابط لما تفرق من أقسام ما يطلق عليه لفظ الحكم, وأما التقسيم الحاضر بمعنى كونه دائرا بين النفي والإثبات مقيد التكثير مفهوم واحد إلى ما يحتمله من الأقسام المتقابلة, فلا يصح في هذا المقام; لأن من هذه الأقسام ما هي متداخلة كالفرض مثلا بالنسبة إلى العزيمة والرخصة, ومنها ما ليس بدائر بين النفي والإثبات كالتقسيم إلى ما يكون صفة لفعل المكلف وإلى ما يكون أثرا له, وأنا ألقي إليك محصل الباب إجمالا لتكون على بصيرة من الأمر.
وذلك أن الحكم إما حكم بتعلق شيء بشيء, أو لا, فإن لم يكن فالحكم إما صفة لفعل المكلف, أو أثر له, فإن كان أثرا له كالملك, فلا بحث هاهنا عنه, وإن كان صفة فالمعتبر فيه اعتبارا أوليا إما المقاصد الدنيوية, أو المقاصد الأخروية فالأول ينقسم الفعل بالنظر إليه تارة إلى صحيح وباطل وفاسد وتارة إلى منعقد وغير منعقد وتارة إلى نافذ وغير نافذ وتارة إلى لازم وغير لازم.(2/254)
فالمقصود الدنيوي في العبادات تفريغ الذمة وفي المعاملات الاختصاصات الشرعية فكون الفعل موصلا إلى المقصود الدنيوي يسمى صحة وكونه بحيث لا يوصل إليه أصلا يسمى بطلانا وكونه بحيث يقتضي أركانه وشرائطه الإيصال إليه لا أوصافه الخارجية يسمى فسادا، ثم في المعاملات أحكام أخر منها الانعقاد، وهو ارتباط أجزاء
ـــــــ
المقاصد الدنيوية. "فالمقصود الدنيوي في العبادات تفريغ الذمة وفي المعاملات الاختصاصات الشرعية" فكون الفعل موصلا إلى المقصود الدنيوي يسمى صحة وكونه بحيث لا يوصل إليه أصلا يسمى بطلانا وكونه بحيث يقتضي أركانه وشرائطه الإيصال إليه لا أوصافه الخارجية يسمى فسادا, ثم في المعاملات أحكام أخر منها الانعقاد, وهو ارتباط أجزاء التصرف شرعا فالبيع الفاسد منعقد لا صحيح ثم النفاذ, وهو ترتب الأثر عليه كالملك فبيع الفضولي منعقد لا نافذ, ثم اللزوم كونه بحيث لا يمكن رفعه.
................................................................................................
والثاني إما أصلي, أو غير أصلي فالأصلي إما أن يكون الفعل أولى من الترك, أو الترك أولى من الفعل, أو لا يكون أحدهما أولى فالأول: إن كان مع منع الترك بقطعي ففرض, أو بظني فواجب, وإلا فإن كان الفعل طريقة مسلوكة في الدين فسنة وإلا فنفل وندب. والثاني: إن كان مع منع الفعل فحرام وإلا فمكروه. والثالث: مباح. وغير الأصلي رخصة وهي إما حقيقة, أو مجاز والحقيقة إما أن تكون أولى وأحق بمعنى الرخصة, أو لا والمجاز إما أن يكون أقرب إلى الحقيقة, أو لا فيصير أربعة أقسام, وإن كان حكما بتعلق شيء بشيء فالمتعلق إن كان داخلا في الشيء فركن وإلا فإن كان مؤثرا فيه فعلة وإلا فإن كان موصلا إليه في الجملة فسبب وإلا فإن توقف الشيء عليه فشرط وإلا فعلامة.
قوله: "وهو" أي الحاكم هو الله تعالى. فإن قلت: الحكم يتناول القياس المحتمل للخطأ فكيف ينسب إلى الله تعالى. قلت: الحاكم في المسألة الاجتهادية هو الله تعالى إلا أنه لم يحكم إلا بالصواب فالحكم المنسوب إلى الله تعالى هو الحق الذي لا يحوم حوله الباطل وما وقع من الخطأ للمجتهد فليس بحكم حقيقة بل ظاهرا, وهو معذور في ذلك. فإن قلت: إذا قال الشارع الصلاة واجبة فالمحكوم عليه, هو الصلاة لا المكلف والمحكوم به هو الوجوب لا فعل المكلف. قلت: ليس المراد بالمحكوم عليه والمحكوم به طرفي الحكم على ما هو مصطلح المنطق بل المراد بالمحكوم عليه من وقع الخطاب له وبالمحكوم به ما تعلق الخطاب به كما يقال: حكم الأمير على زيد بكذا, وهذا ظاهر فيما هو صفة فعل المكلف كالوجوب ونحوه. وفيما هو حكم تعليق كالسببية ونحوها, فإنه خاطب المكلف بأن فعله سبب لشيء, أو شرط له, أو غير ذلك, وأما فيما هو أثر لفعل المكلف كملك الرقبة, أو المتعة, أو المنفعة وثبوت الدين في الذمة فكون المحكوم به فعل المكلف ليس بظاهر بل إذا جعلنا الملك نفس الحكم فليس هاهنا ما يصلح محكوما به.
فإن قلت: قد ذكر فيما سبق أن الحكم إما تكليفي كالوجوب والحرمة ونحوهما وإما وضعي كالسببية والشرطية ونحوهما, فإن أراد بالتكليفي ما يتعلق بفعل المكلف فالوضعي أيضا كذلك على(2/255)
التصرف شرعا فالبيع الفاسد منعقد لا صحيح ثم النفاذ، وهو ترتب الأثر عليه كالملك فبيع الفضولي منعقد لا نافذ، ثم اللزوم كونه بحيث لا يمكن رفعه.
ـــــــ
ما صرح به هاهنا, وإن أراد ما وقع التكليف به فالإباحة ليست كذلك. قلت: أراد ما وقع التكليف به وعد الإباحة منه تغليبا لكونه أحد الأقسام الخمسة المشهورة للحكم على أنه لا مشاحة في الاصطلاح. فإن قلت: المراد بالحكم إما الخطاب وإما الأثر الثابت به على ما ذكر في صدر الكتاب وأيا ما كان ليس الملك ونحوه حكما; لأنه إنما يثبت بفعل المكلف لا الخطاب. قلت: لما كان ثبوت الملك بالبيع مثلا بحسب وضع الشارع جعل حكم الله تعالى الثابت بخطابه. على أن قول المصنف رحمه الله تعالى الحكم إما أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء, أو يكون مشعرا بأن مراده بالحكم إسناد أمر إلى آخر مصدر قولك حكمت بكذا لا الخطاب, ولا أثر الخطاب فعلى هذا ينبغي أن يجعل مورد القسمة الحكم بمعنى إسناد الشارع أمرا إلى آخر فيما له تعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف صريحا كالنص, أو دلالة كالإجماع والقياس ففي جعل الوجوب والملك ونحو ذلك أقساما للحكم بهذا المعنى تسامح ظاهر على أن التحقيق أن إطلاق الحكم على خطاب الشارع وعلى أثره وعلى الأثر المترتب على العقود والفسوخ إنما هو بطريق الاشتراك والمقصود هاهنا بيان أقسام ما يطلق عليه لفظ الحكم في الشرع.
قوله: "والأول" أي ما هو صفة فعل المكلف إما أن يعتبر فيه أي في مفهومه وتعريفه المقاصد الدنيوية أي الحاصلة في الدنيا كتفريغ الذمة المعتبرة في مفهوم صحة العبادة أو الأخروية أي الحاصلة في الآخرة كالثواب على الفعل والعقاب على الترك في مفهوم الوجوب وقيد باعتبار الأول لأنه قد يعتبر في نحو الصحة الثواب وفي نحو الوجوب تفريغ الذمة لكن لا أوليا وليس المراد باعتبار المقصود الدنيوي, أو الأخروي ابتناء الحكم على حكم وأغراض متعلقة بالدنيا, أو الآخرة إذ من البعيد يقال: صحة الصلاة مبنية على حكمة دنيوية وحرمة الخمر على حكمة أخروية, ثم لا يخفى أن التقسيم إلى ما يعتبر فيه مقصود دنيوي, أو أخروي اعتبارا أوليا ليس حاصرا دائرا بين النفي والإثبات بل بحسب الوقوع. فإن قيل: ليس في صحة النوافل تفريغ الذمة قلنا لزمت بالشروع فحصل بأدائها تفريغ الذمة, وأما عبادة الصبي ففي حكم المستثنى لما سيجيء ذكره في بحث العوارض فالكلام هاهنا في فعل المكلف لا غير.
قوله: "وفي المعاملات الاختصاصات" أي الأغراض المترتبة على العقود والفسوخ كملك الرقبة في البيع وملك المتعة في النكاح وملك المنفعة في الإجارة والبينونة في الطلاق, وكذا معنى صحة القضاء ترتب ثبوت الحق عليه ومعنى صحة الشهادة ترتب لزوم القضاء عليها فمرجع ذلك أيضا إلى المعاملات فالفعل المتعلق بمقصود دنيوي إن وقع بحيث يوصل إليه فصحيح وإلا فإن كان عدم إيصاله إليه من جهة خلل في أركانه وشرائطه فباطل وإلا ففاسد فالمتصف بالصحة والفساد حقيقة هو الفعل لا نفس الحكم. نعم يطلق لفظ الحكم على الصحة والفساد بمعنى أنهما ثبتا بخطاب الشارع, وكذا الكلام في الانعقاد والنفاذ واللزوم وكثير من المحققين على أن أمثال ذلك راجعة إلى الأحكام الخمسة, فإن معنى صحة البيع إباحة الانتفاع بالمبيع ومعنى بطلانه حرمة(2/256)
وأما الثاني فإما أن يكون حكما أصليا أو لا يكون: أما الأول فإن كان الفعل أولى من الترك مع منعه فإن كان هذا بدليل قطعي فالفعل فرض وبظني واجب، وبلا منعه فإن
ـــــــ
"وأما الثاني" أي ما يعتبر فيه المقاصد الأخروية "فإما أن يكون حكما أصليا" أي غير مبني على أعذار العباد "أو لا يكون: أما الأول", وهو الحكم الأصلي "فإن كان الفعل أولى من الترك مع منعه" أي مع منع الترك "فإن كان هذا" أي كون الفعل أولى من الترك مع منع الترك "بدليل قطعي" فالفعل فرض وبظني واجب, وبلا منعه فإن كان الفعل طريقة مسلوكة في الدين
................................................................................................
الانتفاع به وبعضهم على أنها من خطاب الوضع بمعنى أنه حكم بتعلق شيء بشيء تعلقا زائدا على التعلق الذي لا بد منه في كل حكم, وهو تعلقه بالمحكوم عليه وبه, وذلك أن الشارع حكم بتعلق الصحة بهذا الفعل وتعلق البطلان أو الفساد بذلك. وبعضهم على أنها أحكام عقلية لا شرعية, فإن الشارع إذا شرع البيع لحصول الملك وبنى شرائطه وأركانه فالعقل يحكم بكونه موصلا إليه عند تحققها وغير موصل عند عدم تحققها بمنزلة الحكم بكون الشخص مصليا, أو غير مصل.
فعلى ما ذكرنا الصحة والبطلان والفساد معان متقابلة حاصلها أن: الصحيح ما يكون مشروعا بأصله ووصفه. والباطل ما لا يكون مشروعا بأصله, ولا بوصفه. والفاسد ما يكون مشروعا بأصله دون وصفه, وهذا معنى قولهم: الصحيح ما استجمع أركانه وشرائطه بحيث يكون معتبرا شرعا في حق الحكم. والفاسد ما كان مشروعا في نفسه فائت المعنى من وجه لملازمة ما ليس بمشروع إياه بحكم الحال مع تصور الانفصال في الجملة. والباطل ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة إما لانعدام معنى التصرف كبيع الميتة والدم, أو لانعدام أهلية المتصرف كبيع الصبي والمجنون, وقد يطلق الفاسد على الباطل, وعند الشافعي رحمه الله تعالى الباطل والفاسد اسمان مترادفان لما ليس بصحيح, وهذا اصطلاح لا معنى للاحتجاج عليه نفيا وإثباتا. ولقائل أن يقول: إذا كانت الصحة عبارة عن كون الفعل موصلا إلى المقصود لم تكن مقابلة للفساد بل أعم منه; لأن الصلاة الفاسدة توجب تفريغ الذمة بحيث لا يجب قضاؤها والبيع الفاسد يوجب الملك فينبغي أن يكون صحيحا بل نافذا لترتب الأثر عليه, ثم على ما ذكره النافذ أعم من اللازم والمنعقد أعم من النافذ, ولا يظهر فرق بين الصحيح والنافذ.
قوله: "فالفعل فرض" فيه إشارة إلى أن المتصف بالحرمة والوجوب ونحوهما هو فعل المكلف والحكم الذي بمعنى الخطاب إنما هو الإيجاب والتحريم ونحوهما, والذي هو بمعنى أثر الخطاب هو الوجوب والحرمة ونحوهما, وهذا التقسيم وقع للفعل أولا بالذات, ويفهم منه تقسيم الحكم, وكذا يفهم منه تعريف الفرض والواجب والحرام ونحو ذلك وتعريف الفرضية والوجوب والحرمة ونحوها ومعنى أولوية الفعل, أو الترك أولويته عند الشارع بالنص عليه, أو على دليله. وفي إطلاق الأولوية على ما هو لازم يمتنع نقيضه كالفرض والواجب والحرام نوع تسامح, والمراد باستواء الفعل والترك في المباح استواؤهما في نظر الشارع بأن يحكم بذلك صريحا, أو دلالة بقرينة أن الكلام في متعلق الحكم الشرعي فيخرج فعل البهائم والصبيان والمجانين ونحو ذلك. فإن قلت:(2/257)
كان الفعل طريقة مسلوكة في الدين فسنة وإلا فنفل، ومندوب وإن كان على العكس أي إن كان الترك أولى من الفعل مع منع الفعل فحرام وبلا منعه فمكروه وإن استويا فمباح.
ـــــــ
فسنة وإلا فنفل, ومندوب وإن كان على العكس أي إن كان الترك أولى من الفعل "مع منع الفعل فحرام وبلا منعه فمكروه وإن استويا فمباح. فالفرض لازم علما وعملا حتى يكفر جاحده والواجب لازم عملا لا علما, فلا يكفر جاحده بل يفسق إن استخف بأخبار الآحاد الغير المؤولة, وأما مؤولا, فلا ويعاقب تاركهما" أي تارك الفرض والواجب "إلا أن يعفو الله. والشافعي رحمه الله تعالى لم يفرق بين الفرض والواجب, والتفاوت بين الكتاب وخبر الواحد" في أن الكتاب نقل بطريق التواتر وخبر الواحد لم ينقل كذلك "يوجب التفاوت بين مدلوليهما" فيكون الحكم الذي دل عليه محكم الكتاب ثابتا يقينا والحكم الذي دل عليه محكم خبر الواحد ثابتا بغلبة الظن.
"وقد يطلق الواجب عندنا على المعنى الأعم أيضا" أي أعم من الفرض والواجب بالتفسير المذكور, وهو أن يكون الفعل أولى من الترك مع منع الترك أعم من أن يكون هذا المعنى بالمعنى القطعي, أو الظني "فيصح أن يقال صلاة الفجر واجبة".
"والسنة نوعان سنة الهدى وتركها يوجب إساءة وكراهية كالجماعة والآذان والإقامة ونحوها وسنة الزوائد وتركها لا يوجب ذلك كسنن النبي عليه الصلاة والسلام في لباسه وقيامه وقعوده والسنة المطلقة تطلق على طريقة النبي عليه الصلاة والسلام عند الشافعي رحمه الله تعالى, وعندنا تقع على غيره أيضا فإن السلف كانوا يقولون: سنة العمرين والنفل ما يثاب فاعله, ولا يسيء تاركه, وهو دون سنن الزوائد, وهو" الضمير يرجع إلى النفل "لا يلزم بالشروع عند الشافعي رحمه الله تعالى; لأنه مخير فيما لم يفعله بعد فله إبطال ما أداه تبعا, وعندنا يلزم" أي النفل بالشروع "لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ولأن ما أداه صار لله تعالى فوجب صيانته, ولا سبيل إليها" أي إلى صيانة ما أداه "إلا بلزوم الباقي فالترجيح بالمؤدى أولى من العكس; لأن العبادة مما يحتاط فيها, ولما وجب صيانة ما صار لله تعالى تسمية, وهو النذر فما صار فعلا أولى" أي
................................................................................................
جميع ذلك من أقسام ما يعتبر فيه المقاصد الأخروية وليس في هذه التعريفات إشارة إلى ذلك. قلت: يجوز أن تكون التعريفات المذكورة رسوما لا حدودا, ولو سلم ففي الأولوية والاستواء إشارة إلى معنى الثواب والعقاب. فإن قلت: قد يكون الوجوب والحرمة ونحو ذلك من أقسام ما هو أثر لفعل المكلف لا صفة له كإباحة الانتفاع الثابتة بالبيع وحرمة الوطء الثابتة بالطلاق. قلت: هي من صفاته أيضا إذ الانتفاع والوطء فعل المكلف, ولا منافاة بين كون الحكم صفة لفعل المكلف وأثرا له, ثم لا يخفى أن الحكم الغير الأصلي أعني الذي يبتنى على أعذار العباد أيضا يتصف بهذه الأحكام كالرخصة الواجبة, أو المندوبة, أو المباحة, فلا معنى للتخصيص بالحكم الأصلي.(2/258)
حكم الفرض و الواجب
هل الفرض و الواجب مترادفان
...
حكم الفرض والواجب
فالفرض لازم علما وعملا حتى يكفر جاحده والواجب لازم عملا لا علما، فلا يكفر جاحده بل يفسق إن استخف بأخبار الآحاد الغير المؤولة، وأما مؤولا، فلا ويعاقب تاركهما إلا أن يعفو الله.
هل الفرض والواجب مترادفان؟
والشافعي رحمه الله تعالى لم يفرق بين الفرض والواجب، والتفاوت بين الكتاب وخبر الواحد يوجب التفاوت بين مدلوليهما وقد يطلق الواجب عندنا على المعنى الأعم أيضا فيصح أن يقال صلاة الفجر واجبة.
ـــــــ
صيانة ما صار لله تعالى فعلا أولى بالوجوب. وقوله: فعلا نصب على التمييز, وكذا قوله: تسمية ويجوز أن ينصب تسمية وفعلا على الحال تقديره حال كونه مسمى وحال كونه مفعولا.
................................................................................................
قوله: "فالفرض لازم علما" أي يلزم اعتقاد حقيته والعمل بموجبه لثبوته بدليل قطعي حتى لو أنكره قولا, أو اعتقادا كان كافرا والواجب لا يلزم اعتقاد حقيته لثبوته بدليل ظني ومبنى الاعتقاد على اليقين لكن يلزم العمل بموجبه للدلائل الدالة على وجوب اتباع الظن فجاحده لا يكفر وتارك العمل به إن كان مؤولا لا يفسق, ولا يضلل; لأن التأويل في مظانه من سيرة السلف وإلا فإن كان مستخفا يضلل; لأن رد خبر الواحد والقياس بدعة, وإن لم يكن مؤولا, ولا مستخفا يفسق لخروجه عن الطاعة بترك ما وجب عليه وإلى هذا أشار بقوله: ويعاقب تارك الفرض والواجب للآيات والأحاديث الدالة على وعيد العصاة إلا أن يعفو الله تعالى بفضله وكرمه, أو بتوبة العاصي وندمه للنصوص الدالة على العفو والمغفرة ولأنه حق الله تعالى فيجوز له العفو, وعند المعتزلة لا عفو, ولا غفران بدون التوبة وهي مسألة وجوب الثواب والعقاب على الله تعالى.
قوله: "والشافعي رحمه الله تعالى لم يفرق بين الفرض والواجب" لا نزاع للشافعي رحمه الله تعالى في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة, ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي كمحكم الكتاب وما ثبت بدليل ظني كمحكم خبر الواحد في الشرع, فإن جاحد الأول كافر دون الثاني وتارك العمل بالأول مؤولا فاسق دون الثاني, وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان من معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت ذلك بدليل قطعي, أو ظني, وهذا مجرد اصطلاح, فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد يوجب التفاوت بين مدلوليهما, أو بأن الفرض في اللغة التقدير, والوجوب هو السقوط. فالفرض ما علم قطعا أنه مقدر علينا والواجب ما سقط علينا بطريق الظن, فلا يكون المظنون مقدرا, ولا معلوم القطعي ساقطا علينا. على أن للخصم أن يقول: لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي, فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي ألا يرى(2/259)
أقسام السنة و حكم كل
...
أقسام السنة وحكم كل
والسنة نوعان سنة الهدى وتركها يوجب إساءة وكراهية كالجماعة والآذان والإقامة ونحوها وسنة الزوائد وتركها لا يوجب ذلك كسنن النبي عليه الصلاة والسلام في لباسه وقيامه وقعوده والسنة المطلقة تطلق على طريقة النبي عليه الصلاة والسلام عند الشافعي رحمه الله تعالى، وعندنا تقع على غيره أيضا فإن السلف كانوا يقولون: سنة العمرين.
ـــــــ
إلى قولهم: الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت, وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب, فإنما هو الوجبة والوجيب, ثم استعمال الفرض فيما ثبت بدليل ظني والواجب فيما ثبت بقطعي شائع مستفيض كقولهم: الوتر فرض وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك ويسمى فرضا عمليا وكقولهم: الصلاة واجبة والزكاة واجبة ونحو ذلك وإلى هذا أشار بقوله: وقد يطلق الواجب عندنا على المعنى الأعم أيضا فلفظ الواجب يقع على ما هو فرض علما وعملا كصلاة الفجر وعلى ظني هو في قوة الفرض في العمل كالوتر عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يمتنع تذكره صحة الفجر كتذكر العشاء, وعلى ظني هو دون الفرض في العمل وفوق السنة كتعين الفاتحة حتى لا تفسد الصلاة بتركها لكن يجب سجدة السهو.
قوله: "والسنة المطلقة" كما إذا قال الراوي من السنة كذا: يحمل عند الشافعي رحمه الله وكثير من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى على سنة النبي عليه الصلاة والسلام, وعند جمع من المتأخرين, وهو اختيار فخر الإسلام رحمه الله تطلق عليها وعلى غيرها, ولا تنصرف إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام بدون قرينة بدليل قولهم: سنة العمرين, ولا يخفى أن الكلام في السنة المطلقة, وهذه مقيدة وبهذا يخرج الجواب عن قوله عليه السلام: "من سن سنة حسنة" 1 الحديث, فإن قوله عليه السلام: "من سن سنة" قرينة صارفة عن التخصيص بالنبي عليه السلام, ولا نزاع في صحة إطلاق السنة على الطريقة على ما هو المدلول اللغوي, ولا خفاء في أن المجرد عن القرائن ينصرف في الشرع إلى سنة النبي عليه السلام للعرف الطارئ كالطاعة تنصرف إلى طاعة الله تعالى وطاعة رسوله, وقد يراد بالسنة ما ثبت بالسنة كما روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الوتر سنة وعليه يحمل قولهم: عيدان اجتمعا أحدهما فرض والآخر سنة أي واجب بالسنة.
ـــــــ
1 رواه الدارمي في كتاب المقدمة باب 44. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 14. أحمد في مسنده 4/362.(2/260)
حكم النفل
مدخل
...
حكم النفل
والنفل ما يثاب فاعله، ولا يسيء تاركه، وهو دون سنن الزوائد، وهو لا يلزم بالشروع عند الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأنه مخير فيما لم يفعله بعد فله إبطال ما أداه تبعا.
ـــــــ
قوله: "والنفل يثاب فاعله" أي يستحق الثواب, ولا يذم تاركه جعله حكم النفل وبعضهم تعريفه وأورد عليه صوم المسافر والزيادة على ثلاث آيات في قراءة الصلاة, فإن كلا منهما يقع فرضا(2/260)
دليل الحنفية على لزوم النقل بالشروع
وعندنا يلزم لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ولأن ما أداه صار لله تعالى فوجب صيانته، ولا سبيل إليها إلا بلزوم الباقي فالترجيح بالمؤدى أولى من العكس؛ لأن العبادة مما يحتاط فيها، ولما وجب صيانة ما صار لله تعالى تسمية، وهو النذر فما صار فعلا أولى.
ـــــــ
ولا يذم تاركه. وأجيب عن الأول بأن المراد الترك مطلقا, وعن الثاني بأن الزيادة قبل تحققها كانت نفلا فانقلبت فرضا بعد التحقق لدخولها تحت قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ} كالنافلة بعد الشروع تصير فرضا حتى لو أفسدها يجب القضاء ويعاقب على تركها ذكره أبو اليسر والنفل دون سنن الزوائد; لأنها صارت طريقة مسلوكة في الدين وسيرة للنبي عليه السلام بخلاف النفل.
قوله: "وهو أي النفل لا يلزم بالشروع عند الشافعي رحمه الله تعالى" حتى لو لم يمض فيه لا يؤاخذ بالقضاء, ولا يعاقب على تركه; لأن حكم النفل التخيير فيه فإذا شرع, فهو مخير فيما لم يأت تحقيقا لمعنى النفلية إذ النفل لا ينقلب فرضا وإتمامه لا يكون إسقاطا للواجب بل أداء للنفل ولهذا يباح الإفطار بعذر الضيافة, وإذا كان مخيرا فيما لم يأت فله تركه تحقيقا لمعنى التخيير وحينئذ يلزم بطلان المؤدى ضمنا وتبعا لا قصدا, فلا يكون إبطالا لخلوه عن القصد كمن سقى زرعه ففسد زرع الغير بالنز, فإنه لا يجعل إتلافا وجوابه منع التخيير في النفل بعد الشروع, فإنه عين النزاع, وعندنا النفل يلزم بالشروع حتى يجب المضي فيه ويعاقب على تركه لوجوه:
الأول: قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وفي عدم الإتمام إبطال للمؤدى, فإن قيل: لا إبطال, وإنما هو بطلان أدى إليه أمر مباح له هو ترك النفل قلنا لا معنى للإبطال هاهنا إلا فعل يحصل به البطلان كشق زق مملوك له فيه ماء لغيره, ولا شك أن بطلان ما أتى به من النفل إنما حصل بفعله المناقض للعبادة إذ لم يوجد شيء سواه بخلاف فساد زرع الغير, فإنه يضاف إلى رخاوة الأرض لا إلى فعله الذي هو سقي أرضه.
الثاني: أن الجزء الذي أداه صار عبادة الله تعالى حقا له فتجب صيانته; لأن التعرض لحق الغير بالإفساد حرام, ولا طريق إلى صيانة المؤدى سوى لزوم الباقي إذ لا صحة له بدون الباقي; لأن الكل عبادة واحدة بتمامها يتحقق استحقاق الثواب. لا يقال: صحة الأجزاء المتأخرة وكونها عبادة متوقفة على صحة الأجزاء المتقدمة وكونها عبادة, فلو توقفت هي عليها لزم الدور; لأنا نقول هو دور معية بمنزلة المتضايفين كالأبوة والبنوة يتوقف كل منهما على الآخر, وإن كان ذات الأب متقدما فكذا هاهنا يتوقف صحة كل جزء على صحة الجزء الآخر مع تقدم ذات بعض الأجزاء. وقد يقال: إن(2/261)
أقسام الحرام
والحرمة هنا ملاقية لنفس الفعل لكن المحل قابل له. وفي الأول قد خرج المحل عن قبول الفعل فعدم الفعل لعدم المحل لتدل على عدم صلاحيته للفعل لا أنه أطلق المحل ويقصد به الحال كما في الحرام لغيره.
ـــــــ
"والحرام يعاقب على فعله, وهو إما حرام لعينه" أي منشأ الحرمة عين ذلك الشيء كشرب الخمر وأكل الميتة ونحوهما. "وإما حرام لغيره كأكل مال الغير والحرمة هنا ملاقية لنفس الفعل لكن المحل قابل له. وفي الأول" أي في الحرام لعينه "قد خرج المحل عن قبول الفعل فعدم الفعل لعدم المحل فيكون المحل هناك" أي في الحرام لعينه "أصلا والفعل تبعا فتنسب الحرمة إلى المحل لتدل على عدم صلاحيته للفعل لا أنه أطلق المحل ويقصد به الحال كما في الحرام لغيره" ففي الحرام لغيره إذا قيل: هذا الخبز حرام يكون مجازا بإطلاق اسم المحل على الحال أي أكله حرام, وإذا قيل: الميتة حرام فمعناه أنها منشأ الحرمة لا أنها
................................................................................................
الجزء الأول ينعقد عبادة لكونه فعلا قصد به التقرب إلى الله تعالى لكن بقاء هذا الوصف يتوقف على انعقاد الجزء الثاني عبادة وانعقاد الجزء الثاني عبادة يتوقف على تحقق الجزء الأول لا على وصف كونه عبادة فالموقوف على الأجزاء الباقية هو بقاء صحة المؤدى وكونه عبادة لا صيرورته عبادة والموقوف على صحة المؤدى هو صيرورة الأجزاء الباقية عبادة فلا دور. فإن قيل: بعد الشروع في الجزء الثاني لم يبق الجزء الأول نفسه فضلا عن وصف الصحة والعبادة. قلنا: هذه اعتبارات شرعية حيث ثبت بالنص والإجماع الحكم بالبقاء والإحباط ونحو ذلك. فإن قيل: فمن مات في أثناء العبادة ينبغي أن لا يثاب لعدم تحقق شرط بقاء المؤدى عبادة قلنا الموت منه لا مبطل فجعل العبادة كأنها هذا القدر بمنزلة تمام عبادة الحي للدلائل الدالة على كونه عبادة. فإن قيل: هب أن صيانة المؤدى تقتضي لزوم الباقي لكن كون الباقي نفلا مخيرا فيه يقتضي جواز إبطال المؤدى فتعارضا فالجواب أن الترجيح بالمؤدى أولى من العكس أي صيانة المؤدى أولى من إبطاله احتياطا في باب العبادات وصونا لها عن البطلان وأيضا المؤدى قائم حكما بدليل احتمال البقاء والبطلان فيترجح على ما هو منعدم حقيقة وحكما, وهو غير المؤدى.
الثالث: أن المنذر قد صار لله تعالى تسمية بمنزلة الوعد فيكون أدنى حالا مما صار لله تعالى فعلا, وهو المؤدى, ثم إبقاء الشيء وصيانته عن البطلان أسهل من ابتداء وجوده, وإذا وجب أقوى الأمرين, وهو ابتداء الفعل لصيانة أدنى الشيئين, وهو ما صار لله تعالى تسمية, فلأن يجب أسهل الأمرين, وهو إبقاء الفعل لصيانة أقوى الشيئين, وهو ما صار لله تعالى فعلا أولى.
قوله: "والحرام" قد يضاف الحل والحرمة إلى الأعيان كحرمة الميتة والخمر والأمهات ونحو ذلك وكثير من المحققين على أنها مجاز من باب إطلاق اسم الحل على الحال, أو هو مبني على حذف المضاف أي حرم أكل الميتة وشرب الخمر ونكاح الأمهات لدلالة العقل على الحذف. والمقصود أظهر على تعيين المحذوف; لأن الحل والحرمة من الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال(2/262)
والحرمة هنا ملاقية لنفس الفعل لكن المحل قابل له. وفي الأول قد خرج المحل عن قبول الفعل فعدم الفعل لعدم المحل لتدل على عدم صلاحيته للفعل لا أنه أطلق المحل ويقصد به الحال كما في الحرام لغيره.
ـــــــ
ذكر المحل وقصد به الحال فالمجاز ثمة في المسند إليه وهنا في المسند, وهو قوله: حرام إذا أريد به منشأ الحرمة.
"والمكروه نوعان مكروه كراهة تنزيه, وهو إلى الحل أقرب ومكروه كراهة تحريم, وهو إلى الحرمة أقرب, وعند محمد لا بل هذا" الإشارة ترجع إلى المكروه كراهة تحريم "حرام لكن بغير القطعي كالواجب مع الفرض".
"وأما الثاني" المراد بالثاني أن لا يكون حكما أصليا أي يكون مبنيا على أعذار العباد "فيسمى رخصة وما وقع من القسم الأول" أي الذي هو حكم أصلي "في مقابلتها" أي في مقابلة الرخصة "يسمى عزيمة وهي إما
................................................................................................
العباد والمقصود الأظهر من اللحوم أكلها, ومن الأشربة شربها, ومن النساء نكاحهن. وذهب بعضهم إلى أنها حقيقة لوجهين: أحدهما أن معنى الحرمة هو المنع, ومنه حرم مكة وحريم البئر فمعنى حرمة الفعل كونه ممنوعا بمعنى أن المكلف منع عن اكتسابه وتحصيله ومعنى حرمة العين أنها منعت من العبد تصرفاته فيها فحرمة الفعل من قبيل منع الرجل عن الشيء كما نقول للغلام لا تشرب هذا الماء ومعنى حرمة العين منع الشيء عن الرجل بأن يصب الماء مثلا, وهو أوكد. وثانيهما: أن معنى حرمة العين خروجها عن أن تكون محلا للفعل شرعا كما أن معنى حرمة الفعل خروجه عن الاعتبار شرعا فالخروج عن الاعتبار شرعا متحقق فيهما, فلا يكون مجازا وخروج العين عن أن تكون محلا للفعل يستلزم منع الفعل بطريق أوكد وألزم بحيث لا يبقى احتمال الفعل أصلا فنفي الفعل فيه, وإن كان تبعا أقوى من نفيه إذا كان مقصودا.
ولما لاح على هذا الكلام أثر الضعف بناء على أن الحرمة في الشرع قد نقلت عن معناها اللغوي إلى كون الفعل ممنوعا عنه شرعا, أو كونه بحيث يعاقب فاعله وكان مع ذلك إضافة الحرمة إلى بعض الأعيان مستحسنة جدا كحرمة الميتة والخمر دون البعض كحرمة خبز الغير سلك المصنف رحمه الله تعالى في ذلك طريقة متوسطة, وهو أن الفعل الحرام نوعان: أحدهما: ما يكون منشأ حرمته عين ذلك المحل كحرمة أكل الميتة وشرب الخمر ويسمى حراما لعينه. والثاني: ما يكون منشأ الحرمة غير ذلك المحل كحرمة أكل مال الغير, فإنها ليست لنفس ذلك المال بل لكونه ملك الغير فالأكل محرم ممنوع لكن المحل قابل للأكل في الجملة بأن يأكله مالكه بخلاف الأول, فإن المحل قد خرج عن قابلية الفعل ولزم من ذلك عدم الفعل ضرورة عدم محله ففي الحرام لعينه المحل أصل والفعل تبع بمعنى أن المحل أخرج أولا من قبول الفعل ومنع, ثم صار الفعل ممنوعا ومخرجا عن الاعتبار فحسن نسبة الحرمة وإضافتها إلى المحل دلالة على أنه غير صالح للفعل شرعا حتى كأنه الحرام نفسه, ولا يكون ذلك من إطلاق المحل وإرادة الفعل الحال فيه بأن يراد بالميتة أكلها لما في ذلك من فوات الدلالة على خروج المحل عن صلاحية الفعل بخلاف الحرام لغيره, فإنه إذا أضيف الحرمة فيه إلى المحل يكون على حذف المضاف, أو على إطلاق المحل على الحال. فإذا(2/263)
أقسام المكروه
والمكروه نوعان مكروه كراهة تنزيه، وهو إلى الحل أقرب ومكروه كراهة تحريم، وهو إلى الحرمة أقرب، وعند محمد لا بل هذا حرام لكن بغير القطعي كالواجب مع الفرض.
ـــــــ
فرض" الضمير يرجع إلى العزيمة "أو واجب, أو سنة, أو نفل لا غير. والرخصة أربعة أنواع نوعان من الحقيقة أحدهما أحق بكونه رخصة من الآخر ونوعان من المجاز أحدهما أتم في المجازية من الآخر" أي نوعان يطلق عليهما الرخصة حقيقة, ثم أحدهما أحق بكونه رخصة من الآخر ونوعان يطلق عليهما اسم الرخصة مجازا لكن أحدهما أتم في المجازية أي أبعد من حقيقة الرخصة من الآخر.
................................................................................................
قلنا: الميتة حرام فمعناه أن الميتة منشأ الحرمة أكلها, وإذا قلنا خبز الغير حرام فمعناه أن أكله حرام إما مجازا, أو على حذف المضاف كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يحمل تارة على حذف المضاف أي أهل القرية وتارة على أن القرية مجاز عن الأهل إطلاقا للمحل على الحال وهما متقاربان وذكر في الأسرار أن الحل والحرمة صفتا فعل لا صفتا محل الفعل لكن متى ثبت الحل, أو الحرمة لمعنى في العين أضيف إليها لأنها سببه كما يقال: جرى النهر; لأنه سبيل الجريان وطريق يجرى فيه فيقال: حرمت الميتة; لأنها حرمت لمعنى فيها, ولا يقال: حرمت شاة الغير; لأن الحرمة هناك لاحترام المالك.
قوله: "وهو إلى الحل أقرب" بمعنى أنه لا يعاقب فاعله أصلا لكن يثاب تاركه أدنى ثواب ومعنى القرب إلى الحرمة أنه يتعلق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنار كحرمة الشفاعة فترك الواجب حرام يستحق العقوبة بالنار وترك السنة المؤكدة قريب من الحرام يستحق حرمان الشفاعة لقوله عليه السلام: "من ترك سنتي لم ينل شفاعتي" وعن محمد ليس المكروه كراهة التحريم إلى الحرام أقرب بل هو حرام ثبتت حرمته بدليل ظني فعنده ما لزم تركه إن ثبت ذلك بدليل قطعي يسمى حراما وإلا يسمى مكروها كراهة التحريم كما أن ما لزم الإتيان به إن ثبت ذلك فيه بدليل قطعي يسمى فرضا وإلا يسمى واجبا.
قوله: "وأما الثاني" من قسمي ما يعتبر فيه أولا المقاصد الأخروية فيسمى رخصة ويقابلها العزيمة فحرمة إجراء كلمة الكفر على اللسان عزيمة; لأنه حكم أصلي وإباحتها للمكره رخصة; لأنه غير أصلي بل مبني على أعذار العباد. فإن قيل: الرخصة قد تتصف بالإباحة والندب والوجوب وهي من أقسام الحكم الأصلي فيلزم كونها حكما أصليا وغير أصلي, ولا مجال لتغاير الاعتبار; لأن الرخصة ليست حكما أصليا بشيء من الاعتبارات. أجيب بأن تخصيص الوجوب والحرمة ونحوهما مما يكون حكما أصليا إنما هو فيما يكون بطريق الرخصة والحق أنه مما تفرد به المصنف رحمه الله تعالى, وهو يخالف اصطلاح القوم, وإنما وقع فيه اختراع التقسيم الحاصر, وأما كون الرخصة(2/264)
الرخصة و العزيمة
مدخل
...
الرخصة والعزيمة
وأما الثاني فيسمى رخصة وما وقع من القسم الأول يسمى عزيمة وهي إما فرض أو واجب، أو سنة، أو نفل لا غير.
النوع الأول من الرخصة: والرخصة أربعة أنواع نوعان من الحقيقة أحدهما أحق بكونه رخصة من الآخر أما الأول فما استبيح مع قيام المحرم والحرمة كإجراء كلمة الكفر مكرها فإن حرمة الكفر قائمة أبدا
ـــــــ
مما يتعلق به مقصود أخروي بمعنى أنه يعتبر ذلك في مفهومه اعتبارا أوليا فيظهر بالتأمل في عبارات القوم في تفسيرها ففي أصول الشافعية: إن الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر لثبتت الحرمة والعزيمة بخلافه.
وحاصله أن دليل الحرمة إذا بقي معمولا به وكان التخلف عنه لمانع طارئ في حق المكلف لولاه لثبتت الحرمة في حقه, فهو الرخصة فخرج الحكم بحل الشيء ابتداء, أو نسخا لتحريم, أو تخصيصا من نص محرم. وذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن العزيمة اسم لما هو أصل من الأحكام غير متعلق بالعوارض. والرخصة اسم لما بني على أعذار العباد, وهو ما يستباح مع قيام المحرم وذكر أبو اليسر أن الرخصة ترك المؤاخذة بالفعل مع قيام المحرم, وحرمة الفعل وترك المؤاخذة بترك الفعل مع وجود الموجب والوجوب وفي الميزان أن الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفها وتوسعة على أصحاب الأعذار وقال العزيمة ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى والرخصة ما وسع للمكلف فعله بعذر مع قيام المحرم.
قوله: "وهي إما فرض" حصر العزيمة في الفرض والواجب والسنة والنفل يعني قبل ورود الرخصة, وأما بعده فقد تكون العزيمة حراما كصوم المريض إذا خاف الهلاك, فإن تركه واجب فعلى هذا لا تكون العزيمة قبل ورود الرخصة مباحا, ولا حراما, ولا مكروها أما الأول فلأنها لو كانت مباحا لكانت الرخصة أيضا مباحا وحينئذ لا يكون أحدهما أصليا والآخر مبنيا على أعذار العباد, وأما الثاني والثالث فلأن الحكم الأصلي لو كان حرمة, أو كراهة لكان الطرف المقابل في أصله وجوبا أو ندبا, وهو لا يصلح للابتناء على أعذار العباد إذ المناسب للعذر, هو الترفيه والتوسعة لا التضييق, فلا يكون رخصة, فلا يكون الحكم الأصلي الذي هو الحرمة, أو الكراهة عزيمة; لأنها إنما تكون في مقابلة الرخصة فالحاصل أن الطرف الذي تعلق به العزيمة لا بد وأن يكون راجحا على الطرف الآخر الذي تتعلق به الرخصة لا مساويا له ليكون مباحا, ولا مرجوحا ليكون حراما أو مكروها والراجح إما فرض, أو واجب, أو سنة, أو نفل كذا ذكره المصنف رحمه الله تعالى. وفيه نظر أما أولا: فلأنا لا نسلم أن العزيمة لو كانت إباحة لكانت الرخصة أيضا كذلك لجواز أن يكون وجوبا, أو ندبا إذ العذر قد يناسبه الإيجاب كأكل ماله عند خوف تلف نفسه, وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن العزيمة لو كانت حرمة, أو كراهة لكان الطرف الآخر وجوبا, أو ندبا لجواز أن يكون إباحة كما في إجراء كلمة الكفر على اللسان, فإنه حرام ويباح عند الإكراه. وكثير من الرخص بهذه المثابة, ولو سلم فلا نسلم أن الوجوب, أو الندب لا يناسب الابتناء على الأعذار كوجوب أكل الميتة عند(2/265)
لكن حقه يفوت صورة له ومعنى وحق الله تعالى لا يفوت معنى؛ لأن قلبه مطمئن بالإيمان فله أن يجري على لسانه وإن أخذ بالعزيمة وبذل نفسه حسبة في دينه فأولى، وكذا الأمر بالمعروف وأكل مال الغير والإفطار ونحوه من العبادات.
والثاني: ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة كإفطار المسافر رخص بناء
ـــــــ
"أما الأول" أي الذي هو رخصة حقيقة, وهو أحق بكونه رخصة من الآخر "فما استبيح مع قيام المحرم والحرمة كإجراء كلمة الكفر مكرها" أي بالقتل, أو القطع "فإن حرمة الكفر قائمة أبدا"; لأن المحرم للكفر, وهو الدلائل الدالة على وجوب الإيمان قائمة فتكون حرمة الكفر قائمة أبدا أيضا "لكن حقه" أي حق العبد "يفوت صورة له ومعنى وحق الله تعالى لا يفوت معنى; لأن قلبه مطمئن بالإيمان فله أن يجري على لسانه وإن أخذ" بالعزيمة وبذل نفسه حسبة في دينه فأولى, وكذا الأمر بالمعروف وأكل مال الغير والإفطار ونحوه من العبادات أي إذا أكره على أكل مال الغير, أو على الإفطار في رمضان, أو أكره على ترك الصلاة ونحوها ففي هذه الصور له أن يعمل بالرخصة حقيقة لكن إن أخذ بالعزيمة وبذل نفسه فأولى.
"والثاني" أي الذي هو رخصة حقيقة لكن الأول أحق منه بكونه رخصة "ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة كإفطار المسافر" فإن المحرم للإفطار, وهو شهود الشهر قائم لكن حرمة الإفطار غير قائمة "رخص بناء على سبب تراخي حكمه" فالسبب شهود الشهر والحكم وجوب الصوم وقد تراخى لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} "والعزيمة أولى عندنا لقيام السبب ولأن في العزيمة نوع يسر لموافقة المسلمين". هذا دليل آخر على أن العزيمة أولى وتقريره أن العمل بالرخصة وترك العزيمة إنما شرع لليسر واليسر حاصل في العزيمة أيضا فالأخذ بالعزيمة موصل إلى ثواب يختص بالعزيمة ومتضمن ليس يختص
................................................................................................
الاضطرار, أو ندب إفطار المريض عند بعض الأضرار لا يقال: العزيمة في جميع ذلك ترجع الوجوب كوجوب ترك إجراء كلمة الكفر ووجوب ترك أكل الميتة ونحو ذلك, فإن الفرض قد يكون هو الفعل كالصوم, وقد يكون هو الترك كترك إجراء كلمة الكفر وأكل الميتة; لأنا نقول هذا تأويل لا ضرورة إليه ومع ذلك, فهو غير مفيد; لأن الكلام في حكم إجراء كلمة الكفر وأكل الميتة, ولا شك أنه الحرمة لا الوجوب واستلزامه لوجوب الترك لا ينفي كونه الحرمة وإلا لارتفعت الحرمة من بين الأحكام. والحق أن العزيمة تشتمل الأحكام كلها على ما قال صاحب الميزان بعد تقسيم الأحكام إلى الفرض والواجب والسنة والنفل والمباح والحرام والمكروه وغيرها إن العزيمة اسم للحكم الأصلي في الشرع على الأقسام التي ذكرنا من الفرض والواجب والسنة والنفل ونحوها.
قوله: "أما الأول فما استبيح مع قيام المحرم والحرمة" كلامه في هذا التقسيم مشعر بانحصار حقيقة الرخصة في الإباحة ويلزمه انحصار العزيمة في الحرمة; لأنها تقابلها ويمكن أن يقال: المراد بالاستباحة هاهنا مجرد تجويز الفعل أعم من أن يكون بطريق التساوي, أو بدونه فيشمل الواجب(2/266)
على سبب تراخي حكمه والعزيمة أولى عندنا لقيام السبب ولأن في العزيمة نوع يسر لموافقة المسلمين إلا أن يضعفه الصوم فليس له بذل نفسه؛ لأنه يصير قاتل نفسه بخلاف الفصل الأول
ـــــــ
بالرخصة فالأخذ بها أولى "إلا أن يضعفه الصوم فليس له بذل نفسه; لأنه يصير قاتل نفسه بخلاف الفصل الأول" أي إلا أن يضعف الصوم الصائم, وهو استثناء من قوله: والعزيمة أولى. وإنما قلنا إن الأول أحق بكونه رخصة من الثاني; لأن في الثاني وجد السبب للصوم لكن حكمه متراخ فصار رمضان في حقه كشعبان فيكون في الإفطار شبهة كونه حكما أصليا في حق المسافر بخلاف الأول فإن المحرم والحرمة قائمان فالحكم الأصلي فيه الحرمة وليس فيه شبهة كون استباحة الكفر حكما أصليا فيكون الأول أحق بكونه رخصة.
................................................................................................
والمندوب والمباح والمراد بالحرمة والتحريم في الرخصة أعم من أن يكون في جانب الفعل, أو في جانب الترك فيشمل الفرض والواجب أيضا كما أن المراد بالفرض والواجب في قوله: وهي فرض وواجب وسنة ونفل أعم من أن يكون ذلك في طرف الفعل, أو طرف الترك ليشمل الحرام, ولا يكون بين الكلامين منافاة. نعم يتوجه أن يقال: يلزم انحصار العزيمة في الفرض والواجب والحرام, وهذا ينافي ما سبق من أنها قد تكون سنة, أو نفلا كما إذا كان الحكم الأصلي في صلاة نفل, أو سنة كونها مندوبة, فإذا عرضت حالة لم تبق تلك الصلاة معها مندوبة كحالة الخوف مثلا فيكون تركها رخصة, أو حكما مبنيا على أعذار العباد.
ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد بالحرمة المنع أعم من أن يكون بطريق اللزوم, أو الرجحان وحينئذ لا يرد الإشكال. فإن قيل: الاستباحة مع قيام المحرم والحرمة توجب اجتماع الضدين وهما الحرمة والإباحة في شيء واحد. أجيب بأن معنى الاستباحة في القسم الأول أن يعامل معاملة المباح بترك المؤاخذة. وترك المؤاخذة لا يوجب سقوط الحرمة كمن ارتكب كبيرة فعفي عنه. فإن قيل: المحرم قائم في القسمين جميعا فكيف اقتضى تأييد الحرمة في الأول دون الثاني قلنا العلل الشرعية أمارات جاز تراخي الحكم عنها, وقد ورد النص بذلك فيحتمله بخلاف أدلة وجوب الإيمان, فإنها عقلية قطعية لا يتصور فيها التراخي عقلا, ولا شرعا فتقوم الحرمة بقيامها وتدوم بدوامها.
"قوله: لكن حقه أي حق العبد يفوت صورة" بخراب البنية ومعنى بزهوق الروح أي خروجه من البدن.
قوله: "حسبة" أي طلبا للثواب وهي اسم من الاحتساب, وإنما كان الأخذ بالعزيمة أولى لما فيه من رعاية حق الله صورة ومعنى بتفويت حق نفسه صورة ومعنى ولما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضا فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تقول في؟ قال: أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما الأول, فقد أخذ برخصة الله تعالى, وأما الثاني, فقد صدع بالحق فهنيئا له".(2/267)
والثالث ما وضع عنا من الإصر والأغلال يسمى رخصة مجازا؛ لأن الأصل لم يبق مشروعا أصلا.
ـــــــ
"والثالث" أي الذي هو رخصة مجازا, وهو أتم في المجازية وأبعد عن الحقيقة من الآخر. "ما وضع عنا من الإصر والأغلال يسمى رخصة مجازا; لأن الأصل لم يبق مشروعا أصلا. والرابع" أي الذي هو رخصة مجازا لكنه أقرب من حقيقة الرخصة من الثالث "ما سقط مع كونه مشروعا في الجملة, فمن حيث إنه سقط كان مجازا, ومن حيث إنه مشروع في الجملة كان شبيها بحقيقة الرخصة بخلاف الفصل الثالث كقول الراوي رخص في السلم فإن
................................................................................................
قوله: "وكذا الأمر بالمعروف" نبه بهذا المثال على أن المراد بقيام المحرم أعم من أن ترجح الحرمة إلى الفعل كإجراء كلمة الكفر, أو إلى الترك كما في الأمر بالمعروف, فإنه فرض بالدلائل الدالة عليه فيكون تركه حراما ويستباح له الترك إذا خاف على نفسه; لأن حق الله تعالى إنما يفوت صورة لا معنى لبقاء اعتقاد الفرضية. وفي أكل مال الغير المحرم, وهو ملك الغير قائم والحرمة باقية لكن حق الغير لا يفوت إلا صورة لانجباره بالضمان فيستباح عند الإكراه. وفي التمثيل به إشارة إلى أن النصوص الدالة على أولوية الأخذ بالعزيمة, وإن وردت في العبادات وفيما يرجع إلى إعزاز الدين لكن حق العباد أيضا كذلك قياسا عليه لما في ذلك من إظهار التصلب في الدين ببذل نفسه في الاجتناب عن المحرمات ولذا قال محمد رحمه الله تعالى فيه كان مأجورا إن شاء الله تعالى, وكذا في الإفطار, والحرمة باقية لقيام المحرم, وهو شهود الشهر من غير سفر ومرض فتوجه الخطاب. أما لو كان مريضا, أو مسافرا فأكره على الإفطار فامتنع حتى قتل كان آثما; لأنه إكراه على المباح كالمضطر إذا ترك أكل الميتة حتى مات.
قوله: "والعزيمة أولى عندنا" إشارة إلى ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن العمل بالرخصة أولى عند الشافعي رحمه الله تعالى وقيده صاحب الكشف بأحد القولين. والحق أن الصوم أفضل عنده قولا واحدا عند عدم التضرر حتى أنه وقع في منهاج الأصول أن الإفطار مباح بمعنى أنه مساو للصوم فاعترضوا عليه بأن لا يظفر برواية تدل على تساويهما بل الإفطار أفضل إن تضرر وإلا فالصوم من غير اختلاف رواية.
قوله: "بخلاف الفصل الأول" أي الإكراه على الإفطار, فإن المكره إذا لم يفطر حتى قتل لم يكن قاتل نفسه; لأن القتل صدر من المكره الظالم, والمكره المظلوم في صبره مستديم للعبادة مستقيم على الطاعة فيؤجر.
قوله: "من الإصر" هو الثقل الذي يأصر صاحبه أن يحبسه من الحراك إنما جعل مثلا لثقل تكليفهم وصعوبته. مثل اشتراط قتل النفس في صحة توبتهم, وكذا الأغلال مثل لما كانت في شرائعهم من الأشياء الشاقة كجزم الحكم بالقصاص عمدا كان القتل أو خطأ, وقطع الأعضاء الخاطئة, أو قرض موضع النجاسة ونحو ذلك مما كانت في الشرائع السالفة, فمن حيث إنها كانت واجبة على غيرنا, ولم تجب علينا توسعة وتخفيفا شابهت الرخصة فسميت بها لكن لما كان السبب معدوما في(2/268)
والرابع: ما سقط مع كونه مشروعا في الجملة، فمن حيث إنه سقط كان مجازا، ومن حيث إنه مشروع في الجملة كان شبيها بحقيقة الرخصة بخلاف الفصل الثالث.
ـــــــ
الأصل في البيع أن يلاقي عينا, وهذا حكم مشروع لكنه سقط في السلم حتى لم يبق التعيين عزيمة, ولا مشروعا, وكذا أكل الميتة وشرب الخمر ضرورة فإن حرمتهما ساقطة هنا" أي في حال الضرورة "مع كونها ثابتة في الجملة لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} فإنه استثناء من الحرمة" فالفرق بين هذا وبين الثاني أن المحرم قائم وفي الثاني, وأما هاهنا فالمحرم غير قائم حال الضرر لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فالنص ليس بمحرم في حال الضرورة "ولأن الحرمة لصيانة عقل, ولا صيانة عند فوت النفس, وكذا صلاة المسافر رخصة إسقاط لقوله عليه السلام: "إن هذه صدقة" الحديث" روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال أنقصر الصلاة ونحن آمنون فقال عليه السلام: "إن هذه صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته" وإنما سأل عمر رضي الله تعالى عنه لأن القصر متعلق بالخوف قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
................................................................................................
حقنا والحكم غير مشروع أصلا لم تكن حقيقة بل مجازا فقوله: لأن الأصل لم يبق مشروعا أصلا دليل على صحة تسميته رخصة وعلى كونه مجازا كاملا لا حقيقة, وأما الأول فلأنه كان مشروعا, فلم يبق, وأما الثاني فلأنه لم يبق مشروعا بالنسبة إلى أحد بخلاف النوع الأخير, فإن العزيمة فيها بقيت مشروعة في الجملة وبخلاف ما إذا حرم الصوم على المريض الذي يخاف التلف, فإنه صار غير مشروع في حقه لا غير.
قوله: "فمن حيث إنه سقط كان مجازا" . فإن قلت: ففي القسم الثاني أيضا سقط الحكم فينبغي أن يكون مجازا. قلت: لا تراخي بعذر فالموجب قائم والحكم متراخ وهاهنا الحكم ساقط بسقوط السبب الموجب محل الرخصة إلا أنه بقي مشروعا في الجملة بخلاف الفصل الثالث أي النوع الثالث من الأنواع الأربعة, فإن الحكم لم يبق مشروعا أصلا فكان كاملا في المجازية بعيدا عن الحقيقة.
قوله: "كقول الراوي" نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم, فمن حيث إن العينية غير مشروعة في السلم حتى يفسد السلم في المعين كانت الرخصة مجازا, ومن حيث إن العينية مشروعة في البيع في الجملة كان له شبه بحقيقة الرخصة.
قوله: "فإن الأصل في البيع أن يلاقي عينا" لتتحقق القدرة على التسليم ولأنه عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان وعن بيع الكالئ بالكالئ ففي هذا بيان لكونه السلم حكما غير أصلي لتحقق كونه رخصة, وإنما لم يبق التعيين في السلم مشروعا; لأنه إنما يكون للعجز عن التعيين وإلا لباعه مساومة من غير وكس في الثمن.(2/269)
كقول الراوي رخص في السلم فإن الأصل في البيع أن يلاقي عينا، وهذا حكم مشروع لكنه سقط في السلم حتى لم يبق التعيين عزيمة، ولا مشروعا.
وكذا أكل الميتة وشرب الخمر ضرورة فإن حرمتهما ساقطة هنا مع كونها ثابتة في الجملة لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} فإنه استثناء من الحرمة ولأن الحرمة لصيانة عقل، ولا صيانة عند فوت النفس.
ـــــــ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وهذه الآية دليل على أن التعليق بالشرط لا يدل على العدم عند عدم الشرط, وكذا سؤال عمر دليل عليه أيضا; لأنه لو كان دالا على عدم الحكم لما سأل عمر رضي الله عنه ولكان عالما بهذا; لأنه من أهل اللسان وأرباب الفصاحة والبيان.
................................................................................................
قوله: "وكذا أكل الميتة وشرب الخمر" حال الاضطرار, فإن المختار عند الجمهور أنه مباح والحرمة ساقطة إلا أنه حرام رخص فيه بمعنى ترك المؤاخذة إبقاء للمهجة كما في إجراء كلمة الكفر وأكل مال الغير على ما ذهب إليه البعض أما في أكل الميتة فلأن النص المحرم لم يتناولها حال الاضطرار لكونها مستثناة فبقيت مباحة بحكم الأصل وبمثل قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} بل عند القائلين بأن الاستثناء من الإثبات نفي يكون النص دالا على عدم حرمتها عند الاضطرار وذلك أن قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} استثناء وإخراج عن الحكم الذي هو الحرمة; لأن المستثنى منه هو الضمير المستتر في حرم أي قد فصل لكم الأشياء التي حرم أكلها إلا ما اضطررتم إليه, فإنه لم يحرم. ويحتمل أن يكون مفرغا على أن "ما" في { مَا اضْطُرِرْتُمْ} مصدرية وضمير إليه عائد إلى ما حرم أي فصل لكم ما حرم عليكم في جميع الأحوال إلا في حال اضطراركم إليه, ولا يجوز أن يكون المستثنى منه ما حرم ليكون الاستثناء إخراجا عن حكم التفصيل لا عن حكم التحريم; لأن المقصود بيان الأحكام لا الإخبار عن عدم البيان. لا يقال: ينبغي أن يكون إجراء كلمة الكفر أيضا مباحا لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}; لأنا نقول هو الاستثناء من إلزام الغضب لا من التحريم فغايته أن يفيد نفي الغضب على المكره لا عدم الحرمة. فإن قلت: ذكر المغفرة في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مشعر بأن الحرمة باقية, وأن المنفي هو الإثم والمؤاخذة. قلت: يجوز أن يكون ذكر المغفرة باعتبار ما يقع من تناول القدر الزائد على ما يحصل به إبقاء المهجة إذ يعتبر على المضطر رعاية قدر الإباحة, وأما في شرب الخمر فلأن حرمتها لصيانة العقل أي القوة المميزة بين الأشياء الحسنة والقبيحة, ولا يبقى ذلك عند فوات النفس أي البنية الإنسانية لفوات القوى القائمة بها عند فواتها وانحلال تركيبها, وإن كانت النفس الناطقة التي هي الروح باقية وذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن حرمة الميتة لصيانة النفس عن تغذي خبث الميتة لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}, فإذا خاف بالامتناع فوات النفس لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل إذ في فوات الكل فوات البعض وكأنه أراد بالنفس أولا البدن وثانيا المجموع المركب من البدن والروح وبفواتها مفارقة الروح وانحلال تركيب البدن.(2/270)
صلاة المسافر رخصة إسقاط
وكذا صلاة المسافر رخصة إسقاط لقوله عليه السلام: "إن هذه صدقة".
ـــــــ
"والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط لا يحتمل الرد وإن كان" أي التصدق "ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص فهاهنا أولى" أي في صورة يكون التصدق ممن يلزم طاعته, وهو
................................................................................................
قوله: "روي عن عمر رضي الله تعالى عنه" الراوي هو علي بن ربيعة الوالبي قال: سألت عمر رضي الله تعالى عنه ما بالنا نقصر الصلاة, ولا نخاف شيئا, وقد قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} فقال: أشكل علي ما أشكل عليك فسألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: "إن هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 1 فقوله: هذه إشارة إلى الصلاة المقصورة, أو إلى قصر الصلاة والتأنيث باعتبار كونه صدقة وقوله: فاقبلوا معناه اعملوا بها واعتقدوها كما يقال: فلان قبل الشرائع. وذكر الإمام الواحدي بإسناده إلى يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فيم إقصار الناس الصلاة اليوم, وإنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}, وقد ذهب ذلك اليوم؟, فقال عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: "هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته", ثم إن سؤال عمر رحمه الله تعالى وتعجبه وإشكال الأمر عليه مما يستدل به على أنه فهم من التعليق بالشرط انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط, وأنه إنما سأل لكون العمل واقعا على خلاف ما فهمه. وأجيب بأن السؤال يجوز أن يكون بناء على اعتقاده استصحاب وجوب الإتمام لا على أنه مفهوم من التقييد بالشرط, ولا يخفى أن سياق القصة مشعر بأنه كان مبنيا على مفهوم الشرط والمصنف رحمه الله تعالى لم يرض رأسا برأس حتى جعل سؤال عمر رضي الله تعالى عنه دليلا على أن التعليق بالشرط لا يدل على عدم الحكم عند عدم الشرط إذ لو كان دالا عليه لفهمه, ولم يسأله, وهو ممنوع لجواز أن يكون للسؤال بناء على وقوع العمل على خلاف ما فهمه كما يشعر به سياق القصة, وكذا استدلاله بالآية أيضا ضعيف لما تقدم من أن القول بمفهوم الشرط إنما يكون إذا لم تظهر له فائدة أخرى مثل الخروج مخرج الغالب كما في هذه الآية, فإن الغالب من أحوالهم في ذلك الوقت كان الخوف. وكذا قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}, فإن الغالب أن الإنسان إنما يكاتب العبد إذا علم فيه خيرا وذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لازم ألبتة, وإن لم يكن مدلول اللفظ وإلا لكان التقييد بالشرط لغوا, وأن في آية الكتابة المعلق بالشرط هو استحباب الكتابة, وهو منتف عند عدم الخير في المكاتب, وفي آية لقصر المراد قصر الأحوال كالإيجاز في القراءة والتخفيف في الركوع والسجود والاكتفاء بالإيماء, ولا يخفى ضعفه كيف والأئمة كالمجمعين على أن الآية في قصر أجزاء الصلاة.
قوله: "والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط لا يحتمل الرد" احترز بقوله: ما لا يحتمل
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 4. الترمذي في كتاب تفسير سورة 4 باب 20. أحمد في مسنده 1/25، 36.(2/271)
الحديث والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط لا يحتمل الرد وإن كان ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص فهاهنا أولى.
ولأن الخيار إنما يثبت للعبد إذا تضمن رفقا كما في الكفارة والرفق هنا متعين في القصر، فلا يثبت الخيار أما صوم المسافر وإفطاره فكل منهما يتضمن رفقا ومشقة فإن الصوم على سبيل موافقة المسلمين أسهل وفي غير رمضان أشق فالتخيير يفيد.
فإن قيل: إكمال الصلاة وإن كان أشق فثوابه أكمل فيفيد التخيير قلنا الثواب الذي يكون بأداء الفرض مساو فيهما.
ـــــــ
الله أولى أن يكون إسقاطا لا يحتمل الرد "ولأن الخيار إنما يثبت للعبد إذا تضمن رفقا كما في الكفارة" هذا دليل آخر على أن صلاة المسافر رخصة إسقاط, وهو عطف على قوله لقوله عليه الصلاة والسلام "والرفق هنا متعين في القصر, فلا يثبت الخيار" فتكون الرخصة رخصة إسقاط. "أما صوم المسافر وإفطاره فكل منهما يتضمن رفقا ومشقة فإن الصوم على سبيل موافقة المسلمين أسهل وفي غير رمضان أشق فالتخيير يفيد فإن قيل: إكمال الصلاة وإن كان أشق فثوابه أكمل فيفيد التخيير قلنا الثواب الذي يكون بأداء الفرض مساو فيهما"
"وأما القسم الثاني من الحكم", وهو الحكم الذي يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر "فالشيء المتعلق إن كان داخلا في الآخر, فهو ركن وإلا فإن كان مؤثرا فيه على ما ذكرنا في القياس فعلة وإلا فإن كان موصلا إليه في الجملة فسبب وإلا فإن توقف عليه وجوده فشرط وإلا فلا أقل من أن
................................................................................................
التمليك عن التصدق بالعين المحتملة للتمليك وعن التصدق بالدين على من عليه الدين; لأن الدين يحتمل التمليك ممن عليه الدين.
قوله: "ولأن الخيار إنما يثبت للعبد إذا تضمن رفقا" لا يرد عليه تخيير العبد المأذون بين الجمعة والظهر; لأن في كل منهما رفقا من وجه أما في الجمعة فباعتبار قصر الركعتين, وأما في الظهر فباعتبار عدم الخطبة والسعي ولا يرد تخيير من قال إن دخلت الدار فعلي صوم سنة فدخل, فهو مخير بين صوم السنة وفاء بالنذر وبين صوم ثلاثة أيام كفارة; لأن الصومين مختلفان معنى; لأن صوم السنة قربة مقصودة خالية عن معنى الزجر والعقوبة وصوم الثلاثة كفارة متضمنة معنى العقوبة والزجر فيصح التخيير طلبا للأرفق, ولا يرد التخيير بين الركعتين والأربع قبل العصر وبعد العشاء; لأن الثنتين أخف عملا والأربع أكثر ثوابا بخلاف القصر والإتمام, فإنهما متساويان في الثواب الحاصل بأداء الفرض والقصر متعين للرفق, فلا فائدة في التخيير, وإنما قيد الثواب بما يكون بأداء الفرض لجواز أن يكون الإتمام أكثر ثوابا باعتبار كثرة القراءة والأذكار كما إذا طول إحدى الفجرين وأكثر فيها القراءة والأذكار وكلامنا إنما هو في أداء الفرض.
قوله: "على ما ذكرنا في باب القياس" إشارة إلى أن المراد بتأثير الشيء هاهنا هو اعتبار الشارع إياه بحسب نوعه, أو جنسه القريب في الشيء الآخر لا الإيجاد كما في العلل العقلية, ثم لا يخفى أن العمدة في مثل هذه التقسيمات هو الاستقراء والمذكور في بيان وجه الانحصار إنما هو مجرد الضبط وإلا فالمنع وارد على قوله: وإلا فلا أقل من أن يدل عليه لجواز التعليق بوجوه أخر مثل المانعية كتعلق النجاسة بصحة الصلاة, ثم بعدما فسر ركن الشيء بما هو داخل فيه لا معنى لتفسيره(2/272)
أقسام الحكم التعليقي
الركن
...
أقسام الحكم التعليقي
وأما القسم الثاني من الحكم فالشيء المتعلق إن كان داخلا في الآخر، فهو ركن وإلا فإن كان مؤثرا فيه على ما ذكرنا في القياس فعلة وإلا فإن كان موصلا إليه في الجملة فسبب وإلا فإن توقف عليه وجوده فشرط وإلا فلا أقل من أن يدل على وجوده فعلامة.
الركن
وأما الركن فما يقوم به الشيء وقد شنع بعض الناس على أصحابنا فيما قالوا:
ـــــــ
يدل على وجوده فعلامة. وأما الركن فما يقوم به الشيء وقد شنع بعض الناس على أصحابنا فيما قالوا: الإقرار ركن زائد والتصديق ركن أصلي فإنه إن كان" أي الإقرار "ركنا يلزم من انتفائه انتفاء المركب كما تنتفي العشرة بانتفاء الواحد فنقول الركن الزائد شيء اعتبره الشارع في وجود المركب لكن إن عدم بناء على ضرورة جعل الشارع عدمه عفوا واعتبر المركب موجودا حكما. وقولهم: للأكثر حكم الكل من هذا الباب, وهذا نظير أعضاء الإنسان فالرأس ركن ينتفي الإنسان بانتفائه واليد ركن لا ينتفي بانتفائه ولكن ينقص.
................................................................................................
بما يقوم به الشيء; لأنه تفسير بالأخفى مع أنه يصدق على المحل الذي يقوم به الحال كالجوهر للعرض.
قوله: "وقد شنع بعض الناس". وجه التشنيع بحسب الظاهر; لأن قولنا ركن زائد بمنزلة قولنا ركن ليس بركن; لأن معنى الركن ما يدخل في الشيء ومعنى الزائد ما لا يدخل فيه بل يكون خارجا عنه ووجه التقصي أنا لا نعني بالزائد ما يكون خارجا عن الشيء بحيث لا ينتفي الشيء بانتفائه بل نعني به ما لا ينتفي بانتفائه حكم ذلك الشيء فمعنى الركن الزائد الجزء الذي إذا انتفى كان حكم المركب باقيا بحسب اعتبار الشارع وذلك أن الجزء إذا كان من الضعف بحيث لا ينتفي حكم المركب بانتفائه كان شبيها بالأمر الخارج عن المركب فسمي زائدا بهذا الاعتبار, وهذا قد يكون باعتبار الكيفية كالإقرار في الإيمان, أو باعتبار الكمية كالأقل في المركب منه, ومن الأكثر حيث يقال: للأكثر حكم الكل, وأما جعل الأعمال داخلة في الإيمان كما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى فليس من هذا القبيل; لأنه إنما يجعلها داخلة في الإيمان على وجه الكمال لا في حقيقة الإيمان, وأما عند المعتزلة فهي داخلة في حقيقته حتى أن الفاسق لا يكون مؤمنا. فإن قلت: تمثيله في ذلك بالإنسان وأعضائه ليس بسديد; لأن المجموع المشخص الذي يكون اليد جزءا منه لا شك; لأنه ينتفي بانتفاء اليد غايته أن ذلك الشخص لا يموت, ولا يسلب عنه اسم الإنسانية, وهو غير مضر إذ التحقيق أن شيئا من الأعضاء ليس بجزء من حقيقة الإنسان. قلت: المقصود بالتمثيل أن الرأس مثلا جزء ينتفي بانتفائه حكم المركب من الحياة وتعلق الخطاب ونحو ذلك واليد ركن ليس كذلك لبقاء(2/273)
الإقرار ركن زائد والتصديق ركن أصلي فإنه إن كان ركنا يلزم من انتفائه انتفاء المركب كما تنتفي العشرة بانتفاء الواحد.
فنقول: الركن الزائد شيء اعتبره الشارع في وجود المركب لكن إن عدم بناء على ضرورة جعل الشارع عدمه عفوا واعتبر المركب موجودا حكما. وقولهم: للأكثر حكم الكل من هذا الباب، وهذا نظير أعضاء الإنسان فالرأس ركن ينتفي الإنسان بانتفائه واليد ركن لا ينتفي بانتفائه ولكن ينقص.
ـــــــ
................................................................................................
الحياة وما يتبعها عند فوات اليد مع أن حقيقة المركب المشخص تنتفي بانتفاء كل منهما, وقد يقال: في توجيه الركن الزائد إن بعض الشرائط والأمور الخارجية قد يكون له زيادة تعلق واعتبار في الشيء بحيث يصير بمنزلة جزء له فيسمى ركنا مجازا فالحاصل أن لفظ الزائد, أو لفظ الركن مجاز والأول أوفق بكلام القوم.(2/274)
العلة
العلة الحقيقية
...
العلة الحقيقية
وأما العلة فإما علة اسما ومعنى وحكما أي يضاف الحكم إليها وهي مؤثرة فيه ولا يتراخى الحكم عنها كالبيع المطلق للملك والنكاح للحل والقتل للقصاص.
ـــــــ
وأما العلة فإما علة اسما ومعنى وحكما أي يضاف الحكم إليها" هذا تفسير العلة اسما, "وهي مؤثرة فيه" هذا تفسير العلة معنى, "ولا يتراخى الحكم عنها" هذا تفسير العلة
................................................................................................
قوله: "وأما العلة" قد سبق أن العلة هي الخارج المؤثر إلا أن لفظ العلة لما كان يطلق على معان أخر بحسب الاشتراك, أو المجاز على ما اختاره فخر الإسلام رحمه الله تعالى حاولوا في هذا المقام تقسيم ما يطلق عليه لفظ العلة إلى أقسامه كما نقسم العين إلى الجارية والباصرة وغيرهما, أو الأسد إلى السبع والشجاع. وحاصل الأمر أنهم اعتبروا في حقيقة العلة ثلاثة أمور وهي إضافة الحكم إليها وتأثيرها فيه وحصوله معها في الزمان, وسموها باعتبار الأول العلة اسما, وبالثاني العلة معنى وبالثالث العلة حكما. ومعنى إضافة الحكم إلى العلة ما يفهم من قولنا قتله بالرمي وعتق بالشراء وهلك بالجرح, وهو ظاهر وتفسير العلة اسما بما تكون موضوعة في الشرع لأجل الحكم ومشروعة له إنما يصح في العلل الشرعية لا في مثل الرمي والجرح. وترك المصنف رحمه الله تعالى تقييد الإضافة بكونها بلا واسطة; لأنه المفهوم من الإطلاق والإضافة بلا واسطة لا تنافي ثبوت الواسطة في الواقع, فإنه يقال: هلك بالجرح وقتله بالرمي مع تحقق الوسائط فباعتبار حصول الأمور الثلاثة أعني العلية اسما ومعنى وحكما كلها, أو بعضها تصير الأقسام سبعة; لأنه إن اجتمع الكل فواحد وإلا فإن اجتمع اثنان فثلاثة; لأنهما إما الاسم والمعنى وإما الاسم والحكم وإما المعنى والحكم وإلا فثلاثة أيضا; لأن الحاصل إما الاسم, أو المعنى, أو الحكم وبوجه آخر إن(2/274)
مقارنة العلة للمعلول
فعندنا هي مقارنة للمعلول كالعقلية وفرق بعض مشايخنا بينهما.
ـــــــ
حكما. "كالبيع المطلق للملك والنكاح للحل والقتل للقصاص فعندنا هي مقارنة للمعلول كالعقلية وفرق بعض مشايخنا بينهما" أي بين الشرعية والعقلية فقالوا: المعلول يقارن العلل
................................................................................................
كانت العلة بحسب الأمور الثلاثة بسيطا فثلاثة وإلا فإن تركب من اثنين فثلاثة أيضا, وإن تركب من الثلاثة فواحد.
وقد أهمل فخر الإسلام رحمه الله تعالى التصريح بالعلة معنى فقط وبالعلة حكما فقط وجعل الأقسام السبعة هي العلة اسما وحكما ومعنى والعلة اسما فقط والعلة اسما ومعنى فقط والعلة التي تشبه الأسباب والوصف الذي يشبه العلل والعلة معنى وحكما لا اسما والعلة اسما وحكما لا معنى, ولما كانت العلة التي تشبه السبب داخلة في الأقسام الأخر لا مقابلة لها أسقطها المصنف رحمه الله تعالى عن درجة الاعتبار وأورد في الأقسام العلة حكما فقط ونبه في آخر كلامه على أن المراد بالوصف الذي يشبه العلل هو العلة معنى فقط; لأنه جزء العلة لتحقق التأثير مع عدم إضافة الحكم إليه, ولا ترتبه عليه, وإنما لم يتعرض فخر الإسلام هاهنا للعلة حكما فقط; لأنه ذكرها في باب تقسيم الشروط وهو الشرط الذي يشبه العلل.
قوله: "فعندنا هي مقارنة" لا نزاع في تقدم العلة على المعلول بمعنى احتياجه إليها ويسمى التقدم بالعلية وبالذات, ولا في مقارنة العلة التامة العقلية لمعلولها بالزمان كي لا يلزم التخلف, وأما في العلل الشرعية فالجمهور على أنه تجب المقارنة بالزمان إذ لو جاز التخلف لما صح الاستدلال بثبوت العلة على ثبوت الحكم وحينئذ يبطل غرض الشارع من وضع العلل للأحكام, وقد يتمسك في ذلك بأن الأصل اتفاق الشرع والعقل ولا يخفى ضعفه. وفرق بعض المشايخ كأبي بكر محمد بن الفضل وغيره بين الشرعية والعقلية فجوز في الشرعية تأخر الحكم عنها وظاهر عبارة الإمامين أي أبي اليسر وفخر الإسلام رحمهما الله تعالى يدل على أنه يلزم عند القائلين بعدم المقارنة أن يعقب الحكم العلة ويتصل بها, فقد ذكر أبو اليسر أنه قال بعض الفقهاء حكم العلة يثبت بعدها بلا فصل وذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن من مشايخنا من فرق وقال من صفة العلة تقدمها على الحكم والحكم يعقبها, ولا يقارنها بخلاف الاستطاعة مع الفعل ووجه الفرق على ما نقل عن أبي اليسر أن العلة لا توجب الحكم إلا بعد وجودها فبالضرورة يكون ثبوت الحكم عقيبها فيلزم تقدم العلة بزمان, وإذا جاز بزمان جاز بزمانين بخلاف الاستطاعة, فإنها عرض لا تبقى زمانين, فلو لم يكن الفعل معها لزم وجود المعلول بلا علة, أو خلو العلة عن المعلول, ولا يلزم ذلك في العلل الشرعية; لأنها في نفسها بمنزلة الأعيان بدليل قبولها الفسخ بعد أزمنة متطاولة كفسخ البيع والإجارة مثلا. والجواب أنه إن أراد بقوله: العلة لا توجب الحكم إلا بعد وجودها بعدية زمانية, فهو ممنوع بل عين النزاع, وإن أراد بعدية ذاتية, فهو لا يوجب تأخر المعلول عن العلة تأخرا زمانيا على ما هو المدعى, ولو سلم فيجوز اشتراط الاتصال بحكم الشرع حتى لا يجوز التأخر بزمانين, وإن جاز(2/275)
العلة اسما و العلة اسما و معنى
...
العلة اسما والعلة اسما ومعنى
وإما اسما فقط كالمعلق بالشرط على ما يأتي. وإما اسما ومعنى كالبيع الموقوف والبيع بالخيار على ما ذكرنا أن الخيار يدخل على الحكم فقط ودلالة كونه علة لا سببا أن المانع إذا زال وجب الحكم به من حين الإيجاب.
ـــــــ
العقلية ويتأخر عن الشرعية. "وإما اسما فقط كالمعلق بالشرط على ما يأتي. وإما اسما ومعنى كالبيع الموقوف والبيع بالخيار", فمن حيث إن الملك يضاف إليه علة اسما, ومن حيث إنه مؤثر في الملك علة معنى لكن الملك يتراخى عنه, فلا يكون علة حكما على ما ذكرنا أن الخيار "يدخل على الحكم فقط" في آخر فصل مفهوم المخالفة. "ودلالة كونه علة لا سببا أن المانع إذا زال وجب الحكم به من حين الإيجاب وكالإجارة حتى صح تعجيل الأجرة" تفريع على قوله: إنه علة معنى حتى لو لم يكن كذلك لما صح التعجيل كالتكفير قبل الحنث عندنا. "وليست علة حكما; لأن المنفعة معدومة" فيكون الحكم, وهو ملك المنفعة متراخيا عن العقد,
................................................................................................
بزمان, ثم لو سلم صحة ما ذكره في مسألة الاستطاعة فدليله منقوض بالعلل العقلية إذا كانت أعيانا لا أعراضا, وأما بقاء العلل الشرعية حقيقة كالعقود مثلا, فلا خفاء في بطلانه, فإنها كلمات لا يتصور حدوث حرف منها حال قيام حرف آخر والنسخ إنما يرد على الحكم دون العقد, ولو سلم فالحكم ببقائها ضروري ثبت دفعا للحاجة إلى الفسخ, فلا يثبت في حق غير الفسخ.
قوله: "كالمعلق بالشرط على ما يأتي" في أقسام الشرط من أن وقوع الطلاق قبل دخول الدار ثابت بالتطليق السابق ومضاف إليه فيكون علة له اسما لكنه ليس بمؤثر في وقوع الطلاق قبل دخول الدار بل الحكم متراخ عنه, فلا يكون علة معنى وحكما.
قوله: "على ما ذكرنا" في آخر فصل مفهوم المخالفة من أن القياس أن لا يجوز شرط الخيار لما فيه من تعليق التمليك بالخطر إلا أن الشارع جوزه للضرورة وهي تندفع بدخوله في الحكم دون السبب الذي هو أكثر خطرا. فإن قيل: فيلزم القول بتخصيص العلة أي تأخر الحكم عنها لمانع قلنا الخلاف في تخصيص العلل إنما هو في الأوصاف المؤثرة في الأحكام لا في العلل التي هي أحكام شرعية كالعقود والفسخ, وقد يجاب بأن الخلاف إنما هو في العلة الحقيقية أعني العلة اسما ومعنى وحكما وليس بمستقيم; لأنه لا يتصور التراخي فيما هو علة حكما فكيف يقع فيه النزاع؟.
قوله: "ودلالة كونه علة" لما كانت العلة اسما ومعنى يتراخى عنها حكمها كما في السبب احتيج إلى وجه التفرقة بينهما والدلالة على أن البيع الموقوف, أو البيع بالخيار علة لا سبب, وذلك أنه إذا زال المانع بأن يأذن المالك في بيع الفضولي وبمضي مدة الخيار, أو يجبر من له الخيار في بيع الخيار يثبت الملك مستندا إلى وقت العقد أي يثبت الملك من حين الإيجاب حتى يملكه المشتري بزوائده المتصلة والمنفصلة.
قوله: "لأن المنفعة معدومة". فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون علة حكما بالنسبة إلى ملك(2/276)
المثال الثاني للعلة اسما و معنى
...
المثال الثاني للعلة اسما ومعنى
وكالإجارة حتى صح تعجيل الأجرة وليست علة حكما؛ لأن المنفعة معدومة لكنها تشبه الأسباب لما فيها من الإضافة إلى وقت مستقبل.
ـــــــ
فلا يكون علة حكما "لكنها" أي الإجارة "تشبه الأسباب لما فيها من الإضافة إلى وقت مستقبل" كما إذا قال في رجب أجرت الدار من غرة رمضان يثبت الحكم من غرة رمضان بخلاف البيع الموقوف فإنه إذا زال المانع يثبت حكمه من وقت البيع حتى تكون الزوائد الحاصلة في زمان التوقف للمشتري, فهو علة غير مشابهة بالأسباب بخلاف الإجارة وإنما تشبه الأسباب; لأن السبب الحقيقي لا بد أن يتوسط بينه وبين الحكم العلة. فالعلة التي يتراخى
................................................................................................
الأجرة؟ قلت: من ضرورة عدم ملك المنفعة في الحال عدم ملك بدلها, وهو الأجرة لاستوائهما في الثبوت كالثمن والمثمن.
قوله: "لكنها أي الإجارة تشبه الأسباب" وهذا استدراك من كونها علة والمصنف رحمه الله تعالى بنى مشابهة العلة للسبب على أن يتخلل بين العلة والحكم زمان, ولا يجعل ثبوت الحكم مستندا إلى حين وجود العلة كما إذا قال في رجب أجرتك الدار من غرة رمضان, فإنه لا يثبت الإجارة من حين التكلم بل في غرة رمضان بخلاف البيع الموقوف, فإن الملك يثبت من حين الإيجاب والقبول حتى يملك المشتري المبيع بزوائده فكأنه ليس هناك تخلل زمان, وأما فخر الإسلام رحمه الله تعالى, فقد بنى ذلك على أنه إذا وجد ركن العلة وتراخى عنه وصفه فيتراخى الحكم إلى وجود الوصف, فمن حيث وجود الأصل يكون الموجود علة يضاف إليها الحكم إذ الوصف تابع, فلا ينعدم الأصل بعدمه, ومن حيث إن إيجابه موقوف على الوصف المنتظر كان الأصل قبل الوصف طريقا للوصول إلى الحكم ويتوقف الحكم على واسطة هي الوصف فيكون للعلة شبه بالأسباب بهذا الاعتبار لا يقال: إن ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى في الرمي من أن الحكم لما تراخى عنه أشبه الأسباب يدل على أن مبنى شبه الأسباب على تراخي الحكم; لأنا نقول لما ذكر في جميع الأمثلة السابقة أن الحكم لما تراخى إلى وصف كذا, وكذا كانت علة تشبه الأسباب اختصر الكلام هاهنا ومراده بأن حكم الرمي لما تراخى إلى الوسائط المفضية إلى الهلاك من المضي في الهواء والوصول إلى المجروح والنفوذ فيه وغير ذلك كان الرمي علة تشبه الأسباب فصار الحاصل أن ما يفضي إلى الحكم إن لم يكن بينهما واسطة, فهو علة محضة وإلا فإن كانت الواسطة علة حقيقية مستقلة, فهو سبب محض وإلا فهو علة تشبه الأسباب وذلك بأن تكون الواسطة أمرا مستقلا غير علة حقيقية, أو يكون علة حقيقية غير مستقلة بل حاصلة بالأول كالمعنى في الهواء الحاصل بالرمي.
ثم ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى يدل على أن كون الإجارة متضمنة لإضافة الحكم إلى المستقبل إنما يكون إذا صرح بذلك كما إذا قال في رجب آجرتك الدار من غرة رمضان, وأن الحكم في مثل هذه الصورة يثبت من غرة رمضان حتى لو قال آجرتك الدار من هذه الساعة يثبت(2/277)
المثال الثالث و الرابع
...
المثال الثالث والرابع
وكذا كل إيجاب مضاف نحو أنت طالق غدا وكذا النصاب حتى يوجب صحة الأداء فيتبين بعد الحول أنه كان زكاة.
ـــــــ
عنها الحكم لكن إذا ثبت لا يثبت من حين العلة تكون مشابهة للسبب لوقوع تخلل الزمان بينها وبين الحكم والتي إذا ثبت حكمها يثبت من أوله, ولم يتخلل الزمان بينها وبين الحكم, فلا تكون مشابهة للسبب.
"وكذا كل إيجاب مضاف نحو أنت طالق غدا" فإنه علة اسما ومعنى لا حكما لكنه يشبه الأسباب. "وكذا النصاب حتى يوجب صحة الأداء فيتبين بعد الحول أنه كان زكاة"; لأنه في أول الحول علة اسما للإضافة إليه ومعنى لكونه مؤثرا; لأن الغنى يوجب مواساة الفقراء وليس علة حكما لتراخي الحكم عنه لكنه مشابه بالأسباب; لأن الحكم متراخ إلى وجود النماء, ولو لم يكن متراخيا إليه وكان النصاب علة من غير مشابهة بالأسباب, ولو كان متراخيا إلى
................................................................................................
الحكم في الحال, ولم يكن فيه إضافة إلى المستقبل ويلزم أن لا يشبه الأسباب. والذي ذهب إليه المحققون هو أن في الإجارة معنى الإضافة إلى وقت وجود المنفعة سواء صرح بذلك أو لا وتحقيقه أن الإجارة, وإن صحت في الحال بإقامة العين مقام المنفعة إلا أنها في حق ملك المنفعة مضافة إلى زمان وجود المنفعة كأنها تنعقد حين وجود المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء, وهذا معنى قولهم: الإجارة عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة.
قوله: "وكذا كل إيجاب" أي كل إيجاب يصرح فيه بالإضافة إلى المستقبل, مثل: أنت طالق غدا, فإنه علة اسما ومعنى لإضافة الحكم إليه وتأثيره فيه لا حكما لتراخي الحكم عنه إلى الغد فيشبه الأسباب; لأن الإضافة التقديرية كما في الإجارة توجب شبه السببية فالإضافة الحقيقية أولى فلهذا يقتصر وقوع الطلاق على مجيء الغد من غير استناد إلى زمان الإيجاب.
قوله: "وكذا النصاب" أي النصاب علة لوجوب الزكاة اسما ومعنى لتحقق الإضافة والتأثير لا حكما لعدم المقارنة, فإن الحكم يتراخى إلى وجود النماء الذي أقيم حولان الحول مقامه مثل إقامة السفر مقام المشقة لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" 1, ثم النصاب علة تشبه الأسباب; لأنها ليست مما يقارنها الحكم من غير تراخ حتى تكون علة شبيهة بالأسباب, وهذا معنى قوله: ولو لم يكن أي الحكم متراخيا إليه أي إلى وجود النماء كان النصاب علة من غير مشابهة بالأسباب وليس أيضا سببا حقيقيا; لأن ذلك موقوف على أن يكون النماء علة حقيقية مستقلة وليس كذلك ضرورة أن المؤثر هو المال النامي لا مجرد وصف النماء, فإنه قائم بالمال لا استقلال له أصلا, وهذا معنى قوله: ولو كان متراخيا إلى ما هو علة حقيقية لكان سببا
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب 5. الترمذي في كتاب الزكاة حديث 4، 6. أحمد في مسنده 1/148 3/85.(2/278)
علة العلة
وكذا مرض الموت والجرح فإنه يتراخى حكمه إلى السراية، وكذا الرمي والتزكية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى إذا رجع ضمن، وكذا كل ما هو علة العلة كشراء القريب.
ـــــــ
ما هو علة حقيقية لكان النصاب سببا حقيقيا لكن النماء ليس بعلة حقيقة; لأن النماء لا يستقل بنفسه بل هو وصف قائم بالمال, فلا يصح أن يكون النماء تمام المؤثر بل تمام المؤثر المال النامي, ولو كان متراخيا إلى شيء يجب حصوله بالنصاب لكان النصاب علة العلة والنماء لا يجب حصوله بالمال لكن النماء وصف قائم بالمال له شبه العلية لترتب الحكم عليه, ولو كان النماء سببا مستقلا بنفسه, وهو علة حقيقة لكان النصاب سببا حقيقيا, فإذا كان للنماء شبه العلية كان للنصاب شبه السببية.
"وكذا مرض الموت والجرح فإنه يتراخى حكمه إلى السراية, وكذا الرمي والتزكية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى إذا رجع" أي المزكي "ضمن, وكذا كل ما هو علة العلة كشراء القريب" فإن كل ذلك علة اسما ومعنى لا حكما لكنه يشبه الأسباب وعلة العلة إنما تشبه السبب من حيث إنه يتخلل بينها وبين الحكم واسطة. واعلم أن الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى أورد للعلة اسما ومعنى لا حكما عدة أمثلة منها البيع الموقوف والبيع بالخيار فهما علتان اسما ومعنى لا حكما وهما لا يشابهان الأسباب, ومنها الإجارة وكل إيجاب مضاف والنصاب ومرض الموت والجرح وقد صرح في هذه الأمور أنها علة اسما ومعنى لا حكما
................................................................................................
حقيقا وليس أيضا علة العلة بمنزلة شراء القريب; لأنه إنما يكون كذلك لو كان النماء حاصلا بنفس النصاب وليس كذلك; لأن النماء الحقيقي هو الدر والنسل والثمن في الإسامة وزيادة المال في التجارة والحكمي هو حولان الحول, ولا يخفى أن ذلك لا يحصل بنفس النصاب بسوم السائمة وعمل التجارة وتغير الأسفار ونحو ذلك, وهو معنى قوله: ولو كان متراخيا إلى شيء يجب حصوله بالنصاب لكان النصاب علة العلة فثبت أن النماء الذي يتراخى إليه الحكم ليس بعلة مستقلة, ولا بعلة حاصلة بالنصاب لكنه شبيه بالعلة من جهة ترتب الحكم عليه بمعنى أن النماء الذي هو بالحقيقة فضل على الغني يوجب مواساة الفقير بمنزلة أصل الغنى إلا أنه لما كان وصفا قائما بالمال تابعا له لم يجعل جزء علة بل جعل شبيه علة ترجيحا للأصل على الوصف حتى جاز تعجيل الزكاة قبل الحول إذا تقرر هذا فنقول:
لو فرضنا أن للنماء حقيقة العلة المستقلة لكان للنصاب حقيقة السببية كما إذا دل رجل رجلا على مال الغير فسرقه, فإن الدلالة سبب حقيقي لا يشبه العلة أصلا, فإذا كان للنماء شبه العلية كان للنصاب شبه السببية; لأن توسط حقيقة العلة المستقلة يوجب حقيقة السببية فتوسط شبه العلة يوجب شبه السببية, وهذا معنى قوله: ولو كان النماء شيئا مستقلا إلخ, وإنما قال شيئا مستقلا أي(2/279)
ما له شبه العلية
وأما ما له شبه العلية كجزء العلة فيثبت به ما يثبت بالشبهة كربا النسيئة يثبت بأحد الوصفين، وهو إما القدر، أو الجنس.
ـــــــ
لكنها تشبه الأسباب, ومنها علة العلة كشراء القريب فإن الشراء علة الملك والملك علة العتق وقد صرح فيها أنها علة تشبه الأسباب لكن لم يصرح أنها علة اسما ومعنى لا حكما والظاهر أن شراء القريب ليس علة اسما ومعنى لا حكما; لأن الحكم غير متراخ عنه وإنما يشابه الأسباب لتوسط العلة, وهو الملك وقد جعل الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى العلة المشابهة بالسبب قسما آخر لكني لم أجعل كذلك; لأنها لا تخرج من الأقسام السبعة التي تنحصر العلة فيها وذلك; لأنه إن لم توجد الإضافة, ولا التأثير, ولا الترتيب لا توجد العلة أصلا وإن وجد أحدها منفردا يحصل ثلاثة أقسام وإن وجد الاجتماع بين اثنين منها فثلاثة أقسام أخر وإن وجد الاجتماع بين الثلاثة فقسم آخر فحمل سبعة. وقد علم من الأمثلة المذكورة أن العلة اسما ومعنى لا حكما قد توجد مع مشابهتها السبب كالإجارة ونحوها وقد توجد بدونها كالبيع الموقوف وقد توجد مشابهة السبب بدونها أي بدون العلة اسما ومعنى لا حكما كشراء القريب علة اسما ومعنى القريب المحرم وأظن أن شراء القريب يكون حكما لكنه يشابه السبب.
"وأما ما له شبه العلية كجزء العلة فيثبت به ما يثبت بالشبهة كربا النسيئة يثبت بأحد
................................................................................................
غير حاصل بالنصاب; لأنه بمجرد كونه علة حقيقية لا يلزم كون النصاب سببا حقيقيا كما في علة العلة, فإن حقيقة العلية في الملك لا توجب كون الشراء سببا حقيقيا وبهذا تبين أن ما سبق من أن الحكم لو كان متراخيا إلى ما هو علة حقيقية لكان النصاب سببا حقيقيا إنما يصح إذا أريد بالعلة حقيقة ما تكون مستقلة بنفسها وبهذا يندفع ما قيل: إنه لما انتفى عن النماء حقيقة العلية انتفى عن النصاب كونه علة العلة كما انتفى عنه كونه سببا حقيقيا, فلا حاجة إلى نفيه بقوله: ولو كان متراخيا إلى شيء يجب حصوله بالمال إلخ.
وهاهنا بحث, وهو أن كون النصاب علة العلة لا ينافي مشابهته بالأسباب بل يوجبها على ما سيجيء, فلا معنى لنفي ذلك والاحتراز عنه بالشرطية الثانية أعني قوله: ولو كان متراخيا إلى شيء يجب حصوله بالنصاب لكان النصاب علة العلة والنماء لا يجب حصوله بالمال لا يقال: إنما نفى ذلك; لأنه على تقدير كونه علة العلة لم يكن مما يتراخى عنه الحكم حتى يكون علة اسما ومعنى لا حكما على ما هو المقصود; لأنا نقول ليس من ضرورة علة العلة عدم التراخي لجواز أن يكون في الوسائط امتداد كما في الرمي والهلاك. وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى في هذا المقام أنه لما تراخى حكم النصاب أشبه الأسباب ألا يرى أنه إنما تراخى إلى ما ليس بحادث به وإلى ما هو شبيه بالعلل, وهذا بيان لشبه السببية في النصاب بوجهين: أحدهما: تراخي الحكم عنه إلى ما ليس حاصلا به, وهذا يوجب تأكد الانفصال بينه وبين الحكم وتحقق الشبه بالسبب. وثانيهما: أن للنماء شبه العلية(2/280)
الوصفين", وهو إما القدر, أو الجنس. "وإما معنى وحكما كالجزء الأخير من العلة كالقرابة والملك للعتق, فإذا تأخر الملك يثبت الحكم به" أي العتق بالملك فإنه الجزء الأخير للعلة فيثبت الحكم به "حتى تصبح نية الكفارة عند الشراء" فإن نية الكفارة تعتبر عند الإعتاق فتعتبر النية عند الشراء "ويضمن إذا كان شريكا عندهما" أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله, ولا يضمن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. والخلاف فيما إذا اشترياه معا أما إذا اشترى الأجنبي نصفه, ثم القريب يضمن بالاتفاق والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن في
................................................................................................
فيوجب في النصاب شبه السببية على ما مر. وغير المصنف رحمه الله تعالى هذا الكلام إلى ما ترى ظنا منه أن التراخي إلى ما ليس بحادث به لا يوجب شبه الأسباب كالبيع بالخيار والبيع الموقوف وجوابه أن المراد أن التراخي إلى وصف لا يحدث به. وفي البيع التراخي إنما هو إلى مجرد زوال المانع لا إلى الوصف. فإن قلت: قول المصنف رحمه الله تعالى في الشرطية الثانية والثالثة لكن النماء ليس بعلة حقيقية والنماء لا يجب حصوله بالمال نفي للملزوم, وهو لا يوجب نفي اللازم لجواز كونه أعم. قلت: بين الطرفين في الشرطيتين تلازم مساو على ما لا يخفى فنفي كل منهما يوجب نفي الآخر.
قوله: "حتى يوجب صحة الأداء" يعني لكون النصاب هو العلة من غير أن يكون للنماء دخل في العلية صح الأداء قبل تمام الحول ولكونه علة شبيهة بالأسباب لم يتبين كون المؤدى زكاة إلا بعد تمام الحول لعدم وصف العلة في الحال, فإذا تم الحول والنصاب كامل, فقد صار المؤدى زكاة لإسناد الوصف إلى أول الحول, وهذا ما يقال: إن الأداء بعد الأصل قبل تمام الوصف يقع موقوفا وبعد تمام الوصف يستند الوجوب إلى ما قبل الأداء.
قوله: "وكذا مرض الموت" يعني أن الأمور المذكورة علة اسما ومعنى لوجود الإضافة والتأثير لا حكما لتحقق التراخي فمرض الموت علة للحجر عن التبرع بما يتعلق به حق الورثة من الهبة والصدقة والمحاباة ونحو ذلك ويتراخى الحكم إلى وصف اتصاله بالموت والجرح علة للهلاك ويتراخى الحكم إلى وصف السراية والرمي علة للموت ويتراخى إلى نفوذ السهم في المرمي وتزكية شهود الزنا علة للحكم بالرجم لكن بتوسط شهادة الشهود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى إذا رجع المزكون وقالوا: تعمدنا الكذب ضمنوا الدية خلافا لهما, ولما كانت هذه الأمثلة من قبيل علة العلة على ما لا يخفى عمم الحكم فقال, وكذا كل ما هو علة العلة كشراء القريب, فإنه علة للملك, وهو للعتق فالعلة في جميع ذلك تشبه الأسباب من جهة تراخي الحكم, ومن جهة تخلل الواسطة التي ليست بعلة مستقلة بل حاصلة بالأول سوى شراء القريب, فإنه لا يتحقق فيه التراخي فشبهه بالأسباب من جهة تخلل الواسطة لا غير, فلهذا لم يصرح فخر الإسلام رحمه الله تعالى فيه بأنه علة اسما ومعنى لا حكما كما صرح بذلك في غيره.
وذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى أن الظاهر أنه ليس من هذا القبيل بل من قبيل العلة اسما ومعنى وحكما لوجود الإضافة والتأثير والمقارنة, ولم يجزم بذلك لعدم تصريح السلف به فعلى هذا يكون بين العلة اسما ومعنى لا حكما وبين العلة التي تشبه الأسباب عموم من وجه لصدقهما معا(2/281)
الأول رضي الأجنبي بفساد نصيبه حيث اشترك مع القريب, ولا يعتبر جهله وفي الثاني لم يرض. "وأن تأخر القرابة يثبت بها" أي يثبت العتق بالقرابة حتى يضمن مدعي القرابة, ولو كانت القرابة معلومة لم يضمن. "كما إذا ورثا عبدا, ثم ادعى أحدهما أنه قريبه بخلاف الشهادة" أي إذا شهد واحد, ثم واحد لا يضاف الحكم إلى الشهادة الأخيرة بل إلى المجموع فأيهما رجع يضمن النصف "فإن الحكم يثبت بالمجموع; لأنها إنما تعمل بالقضاء, وهو يقع بهما وإما اسما وحكما لا معنى وهي إما بإقامة السبب الداعي مقام المدعو إليه كالسفر والمرض" فإنهما أقيما مقام المشقة "والنوم" أقيم مقام استرخاء المفاصل "والمس والنكاح مقام الوطء" أي المس والنكاح يقومان مقام الوطء في ثبوت النسب وحرمة المصاهرة, أما في الثلاثة الأول فلم يذكر في المتن المدعو إليه للظهور "أو بإقامة الدليل مقام المدلول كالخبر عن المحبة أقيم مقامها في قوله: إن أحببتني فأنت كذا والطهر مقام الحاجة في إباحة الطلاق واستحداث الملك مقام الشغل في الاستبراء والداعي إلى ذلك" أي السبب المقتضي لإقامة الداعي مقام المدعو إليه والدليل مقام المدلول أحد الأمور الثلاثة المذكورة في المتن.
"إما دفع الضرورة كما في إن أحببتني وكما في الاستبراء, وإما الاحتياط كما في تحريم الدواعي في المحرمات والعبادات, وإما دفع الحرج كالسفر والطهر والتقاء الختانين" والفرق بين دفع الحرج ودفع الضرورة أن في دفع الضرورة لا يمكن الوقوف على ذلك الشيء كالمحبة فإن وقوف الغير عليها محال فالضرورة داعية إلى إقامة الخبر عن المحبة مقام المحبة. أما المشقة في السفر والإنزال في التقاء الختانين فإن الوقوف عليهما ممكن
................................................................................................
في الأمثلة السابقة وصدق الأول فقط في البيع الموقوف وصدق الثاني فقط في مثل شراء القريب.
قوله: "وإما ما له شبهة العلية" بكسر الهمزة لكونه عطفا على قوله: وإما اسما ومعنى, وهذا هو العلة معنى لوجود التأثير لجزء العلة لا اسما لعدم الإضافة إليه, ولا حكما لعدم الترتيب عليه إذ المراد هو الجزء الغير الأخير, أو أحد الجزأين الغير المرتبين كالقدر والجنس, وهو عند الإمام السرخسي رحمه الله تعالى سبب محض; لأن أحد الجزأين طريق يفضي إلى المقصود, ولا تأثير له ما لم ينضم إليه الجزء الآخر. وذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى إلى أنه وصف له شبه العلية; لأنه مؤثر والسبب المحض غير مؤثر, وهذا يخالف ما تقرر عندهم من أنه لا تأثير لأجزاء العلة في أجزاء المعلول, وإنما المؤثر هو تمام العلة في تمام المعلول فعلى ما ذكر هاهنا لما كان علة الربا هي القدر مع الجنس كان لكل من القدر والجنس شبه العلية فيثبت به ربا النسيئة; لأنه يورث شبهة الفضل لما في النقد من المزية, فلا يجوز أن يسلم حنطة في شعير, وهذا بخلاف ربا الفضل, فإنه أقوى الحرمتين, فلا يثبت بشبهة العلة بل يتوقف ثبوته على حقيقة العلة أعني القدر والجنس كيف والنص قائم؟ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد".(2/282)
العلة معنى و حكما
...
العلة معنى وحكما
وإما معنى وحكما كالجزء الأخير من العلة كالقرابة والملك للعتق، فإذا تأخر الملك يثبت الحكم به حتى تصبح نية الكفارة عند الشراء ويضمن إذا كان شريكا عندهما.
ـــــــ
لكن في إضافة الحكم إليهما حرج لخفائهما "وبالتقسيم العقلي بقي قسمان علة معنى فقط وعلة حكما فقط, ولما جعلوا الجزء الأخير من العلة علة معنى وحكما لا اسما يكون الجزء الأول علة معنى لا اسما, ولا حكما" فالقسم الذي ذكرناه, وهو ما له شبهة العلية كجزء العلة يكون هذا القسم بعينه. "والعلة اسما وحكما إن كانت مركبة فالجزء الأخير علة حكما فقط" كالداعي مثلا وإن كان مركبا من جزأين فالجزء الأخير علة حكما لا اسما ومعنى أيضا لما
................................................................................................
قوله: "وأما معنى وحكما" يعني إذا كانت العلة ذات وصفين مؤثرين مترتبين في الوجود فالمتأخر وجودا علة معنى وحكما لوجود التأثير والاتصال لا اسما لعدم الإضافة إليه بدون واسطة بل إنما يضاف إلى المجموع وذلك كالقرابة, ثم الملك, فإن لكل منهما نوع تأثير في العتق لأن لكل منهما أثرا في إيجاب الصلات ولهذا يجب صلة القرابات ونفقة العبيد إلا أن للأخير ترجيحا بوجود الحكم عنده فيجعل وصفا له شبهة العلية في كون الملك علة معنى وحكما ويصير الأول بمنزلة العدم في حق ثبوت الحكم فيجعل وصفا له شبهة العلية. وفي كون الملك علة معنى وحكما لا اسما نظر; لأن إضافة الحكم إلى الملك وثبوته به أمر ظاهر شائع في عبارة القوم ولفظ المصنف رحمه الله تعالى صريح فيه فكيف لا يكون علة اسما. وذهب المحققون إلى أن الجزء الأول يصير بمنزلة العدم في حق ثبوت الحكم ويصير الحكم مضافا إلى الجزء الأخير كالمن الأخير في أثقال السفينة والقدح الأخير في السكر وذكر في التقويم أن الأول إنما يصير موجبا بالأخير, ثم الحكم يجب بالكل فيصير الجزء الأخير كعلة العلة فيكون له حكم العلة, وأنت خبير بأن علة العلة يكون علة اسما لا محالة, وقد يجاب بأنه يجب فيما هو علة اسما أن يكون موضوعا للحكم على ما صرح به الإمام السرخسي رحمه الله تعالى وغيره والملك لم يوضع في الشرع للعتق, وإنما الموضوع له ملك القرابة وشراء القريب.
قوله: "حتى تصبح نية الكفارة عند الشراء". فإن قلت: الجزء الأخير هو الملك دون الشراء فكيف يصح هذا التفريع. قلت: علة الشراء علة للملك وعلة العلة بمنزلة العلة والحكم غير متراخ هاهنا فالنية عند الشراء نية عند إيجاد العلة التامة للإعتاق إذ لا إضافة إلى القرابة التي هي الجزء الأول.
قوله: "ويضمن" أي لو اشترى رجلان قريبا محرما لأحدهما, فإن اشترى الأجنبي شقصا, ثم القريب بعده ضمن القريب نصيب الأجنبي بالاتفاق موسرا كان القريب أو معسرا; لأنه أفسد على الأجنبي نصيبه بما هو علة, وهو الشراء, وإن اشترياه معا فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أيضا يضمن لما مر سواء علم الأجنبي, أو لم يعلم, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يضمن; لأن(2/283)
وأن تأخر القرابة يثبت بها كما إذا ورثا عبدا، ثم ادعى أحدهما أنه قريبه بخلاف الشهادة فإن الحكم يثبت بالمجموع؛ لأنها إنما تعمل بالقضاء، وهو يقع بهما
ـــــــ
أرادوا بالعلة حكما ما يقارنه الحكم فالشرط كدخول الدار مثلا علة حكما.
................................................................................................
الأجنبي رضي بفساد نصيبه حيث جعل القريب شريكا له في الشراء سواء علم القرابة, أو لم يعلم إذ لا عبرة بالجهل; لأنه تقصير منه بخلاف ما إذا اشترى الأجنبي نصيبه, أولا, فإنه لا رضا منه بالفساد. فإن قيل: لا نسلم وجود الرضا في صورة الجهل بالقرابة كيف, وهو لا يتصور إلا مع العلم بها؟ أجيب بأن الرضا أمر باطن فأدير الحكم مع السبب الظاهر الذي هو الاشتراك ومباشرة الشراء وأيضا لما لم يعتبر جهله وجعل في حكم العدم صار كأن العلم حاصل. وفي قوله: ولا يعتبر جهله إشارة إلى هذا.
قوله: "حتى يضمن مدعي القرابة" يعني إذا اشترى اثنان عبدا مجهول النسب, ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه قيمة نصيبه; لأن الجزء الأخير من العلة أعني القرابة قد حصل بصنعه فيكون هو العلة, ولو كانت القرابة معلومة قبل الشراء لم يضمن مدعي القرابة; لأنها لم تحصل بصنعه, وقد رضي الأجنبي بفساد نصيبه فقوله: لم يضمن. قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويخص بصورة الشراء معا حتى لو اشترى الأجنبي, أولا ضمن القريب حصته لعدم الرضا, وأما إذا ورثا عبدا مجهول النسب فادعى أحدهما أنه قريبه يضمن المدعي; لأن القرابة بصنعه, فلو كانت القرابة معلومة لم يضمن بالاتفاق; لأن الملك بالإرث ليس من صنعه.
قوله: "أو بإقامة الدليل" السبب الداعي هو الذي يفضي إلى الشيء في الوجود فلا بد من أن يتقدمه والدليل هو الذي يحصل من العلم به العلم بذلك الشيء فربما يكون متأخرا في الوجود كالإخبار عن المحبة ويقتصر على المجلس; لأن تعليق الطلاق بما لا يطلع عليه إلا بإخبارها بمنزلة تخيرها, وهو مقتصر على المجلس.
قوله: "والطهر مقام الحاجة" يعني أن الطلاق أمر محظور لما فيه من قطع النكاح المسنون إلا أنه شرع ضرورة أنه قد يحتاج إليه عند العجز عن إقامة حقوق النكاح والحاجة أمر باطن لا يوقف عليه فأقيم دليلها, وهو زمان تتجدد فيه الرغبة أعني الطهر الخالي عن الجماع مقام الحاجة تيسيرا, وقد يقال: إن دليل الحاجة هو الإقدام على الطلاق في الطهر لا الطهر نفسه.
قوله: "واستحداث الملك" يعني أن المؤثر في وجوب الاستبراء, وهو الاحتراز عن الوطء ودواعيه في الأمة عند حدوث الملك فيها إلى انقضاء حيضة, أو ما يقوم مقامها هو كون الرحم مشغولا بماء الغير احترازا عن خلط الماء بالماء وسقي الماء زرع الغير إلا أنه أمر خفي فأقيم دليله, وهو استحداث ملك الواطئ بملك اليمين مقامه, فإن الاستحداث يدل على ملك من استحدث منه وتلقي من جهته وملكه يمكنه من الوطء المؤدي إلى الشغل فالاستحداث يدل بهذه الواسطة على الشغل الذي هو علة الاستبراء. وذهب بعضهم إلى أنه من إقامة السبب إذ الشغل إنما هو بالوطء والملك ممكن منه مؤد إليه وداع. وفيه نظر; لأن الشغل إنما هو بوطء البائع والملك ممكن من وطء(2/284)
العلة اسما و حكما
...
العلة اسما وحكما
وإما اسما وحكما لا معنى وهي إما بإقامة السبب الداعي مقام المدعو إليه كالسفر والمرض والنوم والمس والنكاح مقام الوطء أو بإقامة الدليل مقام المدلول كالخبر عن المحبة أقيم مقامها في قوله: إن أحببتني فأنت كذا والطهر مقام الحاجة في إباحة
ـــــــ
"وأما السبب فاعلم أنه لا بد أن يتوسط بينه وبين الحكم علة فإن كانت مضافة إليه" أي إن كانت العلة مضافة إلى السبب كوطء الدابة شيئا فإنه علة لهلاكه, وهذه العلة مضافة إلى سوقها, وهو السبب "فالسبب في معنى العلة فيضاف الحكم إليه فتجب الدية بسوق الدابة وقودها وبالشهادة بالقصاص إذا رجع لا القصاص عندنا" أي لا يجب القصاص عندنا على
................................................................................................
المشتري والأظهر ما في التقويم أن علة الاستبراء صيانة الماء عن الاختلاط بماء قد وجد واستحداث ملك الواطئ بملك اليمين سبب مؤد إليه, فإن هذا الاستحداث يصح من غير استبراء يلزم من البائع, ومن غير ظهور براءة رحمها عن مائه, فلو أبحنا الوطء للثاني بنفس الملك لأدى إلى الخلط فكان الإطلاق بنفس الملك سببا مؤديا إليه فظهر أنه دليل باعتبار سبب ولهذا سماه الإمام السرخسي رحمه الله تعالى السبب الظاهر والدليل على العلة.
قوله: "كما في تحريم الدواعي" أي دواعي الجماع من المس والتقبيل والنظر بشهوة حيث أقيمت مقام الزنا في الحرمة على الإطلاق إذا كانت مع الأجنبية وأقيمت مقام الوطء في الحرمة حالتي الاعتكاف والإحرام إذا كانت مع الزوجة, أو الأمة.
قوله: "ولما جعلوا الجزء الأخير" يعني أن القوم, وإن لم يصرحوا بالعلة معنى فقط والعلة حكما فقط إلا أن التقسيم العقلي يقتضيهما والأحكام تدل على ثبوتهما أما الأول فلأن الجزء الأول من العلة لا يضاف الحكم إليه, ولا يترتب عليه مع تأثيره فيه في الجملة فيكون علة معنى لوجود التأثير لا اسما, ولا حكما لعدم الإضافة والمقارنة فما له شبهة العلية, وهو الجزء الغير الأخير من العلة يكون هذا القسم بعينه. وأما الثاني فلأنه لا معنى للعلة حكما فقط إلا ما يتوقف الحكم عليه ويتصل به من غير إضافة ولا تأثير فالجزء الأخير من السبب الداعي إلى الحكم إذا كان بحيث يتصل به الحكم يكون علة حكما لوجود المقارنة لا اسما لعدم الإضافة إليه, ولا معنى لعدم التأثير إذ لا تأثير للسبب الداعي فكيف لجزئه, وكذا الشرط الذي علق عليه الحكم كدخول الدار فيما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق يتصل به الحكم من غير إضافة, ولا تأثير فيكون علة حكما فقط.
قوله: "وأما السبب" هو لغة ما يتصل به إلى الشيء. واصطلاحا ما يكون طريقا إلى الحكم من غير تأثير. وقد جرت العادة بأن يذكر في هذا المقام أقسام ما يطلق عليه اسم السبب حقيقة, أو مجازا ويعتبر تعدد الأقسام اختلاف الجهات والاعتبارات, وإن اتحدت الأقسام بحسب الذوات ولذا ذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن أقسام السبب أربعة سبب محض كدلالة السارق وسبب في معنى العلة كسوق الدابة لما يتلف بها وسبب مجازي كاليمين وسبب له شبهة العلة كالطلاق المعلق بالشرط. ولما رأى المصنف رحمه الله أن الرابع هو بعينه السبب المجازي كما(2/285)
الطلاق واستحداث الملك مقام الشغل في الاستبراء والداعي إلى ذلك إما دفع الضرورة كما في إن أحببتني وكما في الاستبراء، وإما الاحتياط كما في تحريم الدواعي في المحرمات والعبادات، وإما دفع الحرج كالسفر والطهر والتقاء الختانين.
ـــــــ
الشاهد إذا شهد أن زيدا قتل عمرا فاقتص, ثم رجع الشاهد "لأنه جزاء المباشرة وشهادته إنما صارت قتلا بحكم القاضي واختيار الولي وإن لم تكن مضافة إليه" أي العلة مضافة إلى السبب. "نحو أن تكون" أي العلة "فعلا اختياريا فسبب حقيقي" لا يضاف الحكم إليه "فلا يضمن, ولا يشترك في الغنيمة الدال على مال السرقة وعلى حصن في دار الحرب" أي لا يضمن الدال على مال يسرقه السارق, ولا يشترك في الغنيمة الدال على حصن في دار الحرب; لأنه توسط بين السبب والحكم علة هي فعل فاعل مختار وهو السارق في فصل السرقة والغازي في الدلالة على الحصن فتقطع هذه العلة نسبة الحكم إلى السبب "ولا أجنبي" أي, ولا يضمن قيمة الولد أجنبي "قال لآخر تزوج هذه المرأة فإنها حرة ففعل واستولدها, فإذا هي أمة لا يضمن قيمة الولد" "بخلاف ما إذا زوجها الوكيل, أو الولي على هذا الشرط. ولا يلزم أن المودع, أو المحرم إذا دلا على الوديعة والصيد يضمنان مع أنهما سببان; لأن المودع إنما يضمن بترك الحفظ الذي التزم والمحرم بإزالة الأمن إذا تقررت بإفضائها إلى القتل" أي إذا
................................................................................................
اعترف به فخر الإسلام رحمه الله تعالى, وأن عد المجازي من الأقسام ليس بمستحسن قسم السبب إلى ما فيه معنى العلة وإلى ما ليس كذلك ويسمى الثاني سببا حقيقيا, ثم قال: ومن السبب ما هو سبب مجازي أي مما يطلق عليه اسم السبب, ولم يتعرض للسبب الذي فيه شبهة العلل.
قوله: "فاعلم أنه" اعتراض بين أما وجوابه, وتمهيد لتقسيم السبب إلى ما يضاف إليه العلة وإلى ما لا يضاف يعني أن السبب مفض إلى الحكم وطريق إليه لا مؤثر فيه فلا بد للحكم من علة مؤثرة فيه موضوعة له فالسبب إما أن يضاف إليه العلة, أو لا. فالأول: السبب الذي في معنى العلة كسوق الدابة, فإن لم يوضع للتلف, ولم يؤثر فيه, وإنما هو طريق للوصول إليه والعلة هو وطء الدابة بقوائمها ذلك الشخص, وهو مضاف إلى السوق وحادث به فيكون له حكم العلة فيما يرجع إلى بدل المحل لا فيما يرجع إلى جزاء المباشرة فيجب على السائق الدية لا الحرمان من الميراث, ولا الكفارة, ولا القصاص وكالشهادة بوجوب القصاص, فإنها لم توضع له, ولم تؤثر فيه, وإنما هي طريق إليه والعلة ما توسط من فعل الفاعل المختار الذي هو المباشر للقتل إلا أنه سبب في معنى العلة; لأن مباشرة القاتل مضافة إلى الشهادة حادثة بها من جهة أنه ليس للولي استيفاء القصاص قبل الشهادة فيصلح لإيجاب ضمان المحل دون جزاء المباشرة فيجب على الشاهد إذا رجع الدية لا القصاص; لأنه جزاء المباشرة, ولا مباشرة من الشاهد; لأن شهادته إنما صارت قتلا أي مؤدية بواسطة قضاء القاضي واختيار الولي القصاص على العفو.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجب على الشهود القصاص إذا قالوا: عند الرجوع تعمدنا الكذب وعلم من حالهم أنه لا يخفى عليهم أنه يقتل بشهادتهم; لأنه جعل السبب القوي المؤكد(2/286)
العلة معنى
وبالتقسيم العقلي بقي قسمان علة معنى فقط وعلة حكما فقط، ولما جعلوا الجزء الأخير من العلة علة معنى وحكما لا اسما يكون الجزء الأول علة معنى لا اسما، ولا حكما.
العلة حكما
والعلة اسما وحكما إن كانت مركبة فالجزء الأخير علة حكما فقط كالداعي إن كان مركبا من جزأين فالجزء الأخير علة حكما لا اسما ومعنى أيضا.
ـــــــ
تقررت إزالة الأمن وإنما قال هذه لأنه لما قال إن المحرم إنما يضمن بإزالة الأمن. ورد عليه أنه ينبغي أن يضمن بمجرد الدلالة; لأنه حصل إزالة الأمن بمجرد الدلالة فقال إنما يضمن بإزالة الأمن إذا تقررت بكونها مفضية إلى القتل إذ قيل: الإفضاء لم يصر سببا للهلاك, فلا يضمن, ثم أقام الدليل على أن إزالة الأمن سبب للضمان بقوله: "فإن الصيد محفوظ بالبعد عن الناس بخلاف مال المسلم" أي إذ دل رجل سارقا على مال مسلم لا يضمن فإن كونه محفوظا ليس لأجل البعد عن أيدي الناس فدلالته لا تكون إزالة الأمن. "وصيد الحرم" أي إذا دل عليه غير المحرم فإنه لا يضمن; لأن كونه محفوظا ليس للبعد عن الناس بل لكونه في
................................................................................................
بالقصد الكامل بمنزلة المباشرة في إيجاب القصاص تحقيقا للزجر. وجوابه أن مبنى القصاص على المماثلة, ولا مماثلة بين المباشرة والسبب, وإن قوي وتأكد. والثاني السبب الحقيقي بأن يتوسط بينه وبين الحكم علة هي فعل اختياري غير مضاف إلى السبب كفعل السارق بين الدلالة على المال وبين سرقته, ولا يكفي في ذلك مجرد كون العلة فعلا اختياريا كما في مسألة الشهادة بالقصاص. وقوله: في بعض نسخ الشرح فالسبب سبب حقيقي لم يقع موقعه على ما لا يخفى.
قوله: "بخلاف ما إذا زوجها" يعني لو زوج المرأة وكيلها, أو وليها على شرط أنها حرة, فإذا هي أمة يضمن الوكيل, أو الولي للمتزوج قيمة الولد; لأن التزويج موضوع للاستيلاد وطلب النسل فيكون المزوج صاحب العلة وأيضا الاستيلاد مبني على التزويج المشروط بالحرية وصفا لازما له فيصير وصف الحرية بمنزلة العلة كالتزويج فيكون الشارط صاحب علة.
قوله: "إزالة الأمن سبب للضمان" أي إزالة المحرم إلا من الملتزم بعقد الإحرام إذا تقررت حال كونه محرما علة للضمان وموجبة, فلو لم يكن الدال محرما حين قتل المدلول الصيد لم يجب الضمان وحقيقة الدلالة الإعلام أي إحداث العلم في الغير فيجب أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد وأن لا يكذب الدال في ذلك.
قوله: "وصيد الحرم" أي بخلاف صيد الحرم إذا دل عليه غير المحرم رجلا فقتله, فإن الدال لا يضمن; لأن دلالته سبب محض; لأن كون صيد الحرم محفوظا ليس بالبعد عن الناس حتى تكون(2/287)
السبب
السبب في معنى العلة و السبب الحقيقي
...
السبب في معنى العلة
وأما السبب فاعلم أنه لا بد أن يتوسط بينه وبين الحكم علة فإن كانت مضافة إليه فالسبب في معنى العلة فيضاف الحكم إليه فتجب الدية بسوق الدابة وقودها وبالشهادة بالقصاص إذا رجع لا القصاص عندنا لأنه جزاء المباشرة وشهادته إنما صارت قتلا بحكم القاضي واختيار الولي.
السبب الحقيقي
وإن لم تكن مضافة إليه نحو أن تكون فعلا اختياريا فسبب حقيقي فلا يضمن، ولا يشترك في الغنيمة الدال على مال السرقة وعلى حصن في دار الحرب.
ولا أجنبي قال لآخر تزوج هذه المرأة فإنها حرة ففعل واستولدها، فإذا هي أمة لا يضمن قيمة الولد بخلاف ما إذا زوجها الوكيل، أو الولي على هذا الشرط. ولا يلزم أن المودع، أو المحرم إذا دلا على الوديعة والصيد يضمنان مع أنهما سببان؛ لأن المودع إنما يضمن بترك الحفظ الذي التزم والمحرم بإزالة الأمن إذا تقررت بإفضائها إلى القتل فإن الصيد محفوظ بالبعد عن الناس بخلاف مال المسلم وصيد الحرم.
ومن دفع إلى صبي سكينا ليمسكه للدافع فوجأ به نفسه لا يضمن الدافع وإن سقط عن يده السكين فجرحه ضمن.
ـــــــ
الحرم. "ومن دفع إلى صبي سكينا ليمسكه للدافع فوجأ به نفسه لا يضمن الدافع"; لأنه تخلل بين السبب, وهو دفع السكين إلى الصبي وبين الحكم فعل فاعل مختار, وهو قصد الصبي قتل نفسه.
"وإن سقط عن يده السكين فجرحه ضمن"; لأنه لم يتخلل هناك فعل فاعل مختار
................................................................................................
الدلالة عليه إزالة للأمن وموجبة للضمان بل هو محفوظ بكونه صيد الحرم الذي جعله الله تعالى آمنا ليبقى مدة بقاء الدنيا فتعرض الصيد فيه بمنزلة إتلاف الأموال المملوكة والموقوفة ولهذا يكون ضمانه ضمان المحل حتى لا يتعدد بتعدد الجاني بخلاف الضمان الواجب بالإحرام, فلو دل المحرم على صيد الحرم كان الضمان بالجناية على الإحرام لا بإزالة الأمن. فإن قلت: السعاية إلى السلطان الظالم سبب محض, وقد وجب الضمان على الساعي. قلت: مسألة اجتهادية أفتوا فيها بغير القياس استحسانا لغلبة السعاية.
قوله: "فوجأ به" هو من الوجء, وهو الضرب باليد, أو السكين.(2/288)
السبب المجازي
ومنه ما هو سبب مجازا كالتطليق والإعتاق والنذر المعلقة للجزاء لأنها ربما لا توصل إليه؛ لأن الشرط معدوم على خطر الوجود.
وكاليمين بالله للكفارة لأنها للبر، فلا توصل إلى الكفارة ثم إذا وجد الشرط يصير الإيجاب السابق علة حقيقة بخلاف اليمين للكفارة فإن الحنث علتها.
ـــــــ
فيضاف الحكم إلى السبب, وهو الدفع. "ومنه" أي من السبب "ما هو سبب مجازا كالتطليق والإعتاق والنذر المعلقة" فالمعلقة صفة للتطليق والإعتاق والنذر نحو إن دخلت الدار فأنت طالق وإن دخلت فعبده حر وإن دخلت فلله علي كذا "للجزاء" متعلق بقوله: ما هو سبب فالجزاء وقوع الطلاق والعتق ولزوم المنذور "لأنها ربما لا توصل إليه; لأن الشرط معدوم على خطر الوجود" أي; لأن هذه الأمور المعلقة ربما لا توصل إلى الجزاء, وهذا دليل على كونها سببا مجازا. "وكاليمين بالله للكفارة" أي سبب للكفارة مجازا "لأنها" أي اليمين "للبر, فلا توصل إلى الكفارة" إذ الكفارة تجب عند الحنث, فلا يكون اليمين موصلة إلى الكفارة, فلا تكون سببا لها حقيقة بل مجازا. "ثم إذا وجد الشرط" أي في صورة تعليق الطلاق والعتاق والنذر بالشرط "يصير الإيجاب السابق علة حقيقة بخلاف اليمين للكفارة فإن الحنث
................................................................................................
قوله: "كالتطليق" أي كالصيغ الدالة على تعليق الطلاق, أو العتاق, أو النذر شيء, فإنها قبل وقوع المعلق عليه أسباب مجازية لما يترتب عليها من الجزاء, وهو وقوع الطلاق, أو العتاق, أو لزوم المنذور به لإفضائها إليه في الجملة لا أسباب حقيقية إذ ربما لا تفضي إليه بأن لا يقع المعلق عليه فقوله: للجزاء حال من التطليق وما عطف عليه أي كالتطليق ونحوه حال كونها أسبابا للجزاء, ولو كان متعلقا بقوله ما هو سبب على ما زعم المصنف رحمه الله تعالى لكان المعنى, ومنه ما هو سبب مجازا للجزاء كإطلاق المعلق ونحوه واليمين للكفارة, وفساده واضح, ثم تسمية هذه الصيغ سببا مجازيا إنما هي قبل وقوع المعلق عليه كدخول الدار مثلا, وأما بعده فتصير تلك الإيقاعات عللا حقيقية لتأثيرها في وقوع الأجزية مع الإضافة إليها والاتصال بها بمنزلة البيع للملك وذلك أن الشرط كان مانعا للعلة عن الانعقاد, فإذا زال المانع انعقدت علة حقيقية بمنزلة الإيقاعات المنجزة, وهذا بخلاف ما إذا قال والله لا أدخل هذه الدار فدخلها, فإن علة الكفارة لا تصير هي اليمين; لأنها موضوعة للبر والبر لا يفضي إلى الكفارة, وإنما يفضي إليها الحنث الذي هو ضده والبر مانع عنه فكيف يصلح علة لثبوته وإنما علة الكفارة هي الحنث; لأنه المؤثر فيها, وقد سبق ذلك في بحث الشرط.
فإن قلت: قد اعتبر في حقيقة السبب الإفضاء وعدم التأثير فكما أن هذا القسم جعل مجازا لعدم الإفضاء ينبغي أن يجعل السبب الذي فيه معنى العلة أيضا مجازا لوجود التأثير. قلت: نعم إلا أن عدم التأثير لما كان قيدا عدميا وكان حقيقة السبب في اللغة ما يكون طريقا إلى الشيء وموصلا(2/289)
مذهب الشافعي في السبب المجازي
وعند الشافعي رحمه الله تعالى هي أسباب في معنى العلل حتى أبطل التعليق بالملك وجوز التكفير بالمال قبل الحنث.
ـــــــ
علتها وعند الشافعي رحمه الله تعالى هي أسباب في معنى العلل حتى أبطل التعليق بالملك" أي إن قال لأجنبية إن نكحتك فأنت طالق, أو لعبد إن ملكتك فأنت حر يكون باطلا لعدم الملك عند وجود العلة. "وجوز التكفير بالمال قبل الحنث" لجواز التعجيل قبل وجود الشرط
................................................................................................
إليه خصوا هذا القسم الذي ينتفي فيه الإيصال والإفضاء باسم المجاز ونبهوا على مجازية ما فيه معنى العلة بأن سموا السبب الذي ليس فيه معنى العلة سببا حقيقيا وأيضا هذا القسم مجاز بالنظر إلى الوضع اللغوي فخصوه باسم المجاز والعلاقة أنه يؤول إلى السببية بأن يصير طريقا للوصول إلى الحكم عند وقوع المعلق عليه. وفيه نظر; لأنه في المآل لا يصير سببا حقيقيا بل علة على ما سبق اللهم إلا أن يراد السبب بحسب اللغة والأولى أن يقال: العلاقة هي مشابهة السبب من جهة أن له نوع إفضاء إلى الحكم في الجملة, ولو بعد حين.
قوله: "ثم عندنا لهذا المجاز" أي للمعلق بالشرط الذي سميناه سببا مجازا يشبه الحقيقة أي جهة كونه علة حقيقية من حيث الحكم, وعند زفر رحمه الله تعالى هو مجاز محض, وهذا الخلاف يظهر في مسألة إبطال تنجيز الطلاق وتعليقه, وقد ذكر في الكتاب استدلال زفر رحمه الله تعالى على عدم الإبطال أولا ودليلهم على الإبطال ثانيا وجوابهم عن استدلال زفر ثالثا, وأما وجه استدلاله, فهو أن المعتبر وجود الملك حال وجود الشرط; لأن التعليق لا يفتقر إلى الملك حالة التعليق بدليل صحة التعليق بالتزوج. مثل: إن نكحتك فأنت طالق بل إنما يفتقر إليه حال وجود الشرط ليظهر فائدة اليمين إذ المقصود من اليمين تأكيد البر بإيجاب الجزاء في مقابلته فلا بد من أن يكون الجزاء غالب الوجود, أو متحققه عند فوات البر ليحمله خوف نزوله على المحافظة على البر وذلك بقيام الملك حال وجود الشرط, فإن علقه بالملك كما في إن تزوجتك فأنت طالق كان الملك متحقق الوجود عند فوات البر فتظهر فائدة اليمين تحقيقا, وإن علقه بغيره كدخول الدار مثلا فوجود الملك وعدمه عند وقوع الشرط وفوات البر غير معلوم التحقق فاشترط الملك حال التعليق ليترجح جانب وجود الملك عند وجود الشرط بحكم الاستصحاب, وهو أن الأصل في الثابت بقاؤه فيظهر فائدة اليمين بحسب غالب الوجود فيصح التعليق وينعقد الكلام يمينا وبعدما صح التعليق بناء على نصب دليل وجود الملك عند وقوع الشرط فزوال الملك بأن يطلقها ما دون الثلاث لا يبطل التعليق بناء على احتمال حدوثه عند وجود الشرط اتفاقا فكذا لا يبطله زوال الحل بأن يطلقها الثلاث بناء على هذا الاحتمال أيضا.
والحاصل أنه لا يشترط في ابتداء التعليق بقاء الحل كما إذا قال للمطلقة الثلاث إن تزوجتك فأنت طالق حتى لو تزوجها بعد الزوج الثاني يقع الطلاق فلأن لا يشترط ذلك في بقاء التعليق أولى; لأن البقاء أسهل من الابتداء. وأما دليلهم على أن التنجيز يبطل التعليق فتقريره أن اليمين سواء(2/290)
هل السبب المجازي له شبهة الحقيقة
ثم عندنا لهذا المجاز شبهة الحقيقة وهذا يتبين في أن التنجيز هل يبطل التعليق أم لا؟ فعند زفر رحمه الله تعالى لا.
ـــــــ
إذا وجد السبب كالزكاة قبل الحول إذا وجد السبب, وهو النصاب. "ثم عندنا لهذا المجاز شبهة الحقيقة" هذا الكلام متصل بقوله: ومنه ما هو سبب مجازا.
"وهذا يتبين في أن التنجيز هل يبطل التعليق أم لا؟ فعند زفر رحمه الله تعالى لا; لأنه لما لم يكن الملك والحل عند وجود الشرط قطعي الوجود ليصح التعليق شرطنا وجودهما في الحال ليترجح جانب الوجود عند وجود الشرط فكما لا يبطله زوال الملك لا يبطله زوال الحل". صورة المسألة إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق, ثم قال لها أنت طالق ثلاثا فعندنا يبطل التعليق حتى إذا تزوجها بعد التحليل, ثم دخلت الدار لا يقع الطلاق, وعند زفر رحمه الله تعالى لا يبطل التعليق فيقع الطلاق هو يقول: شرط صحة التعليق وجود الملك عند وجود الشرط لا عند وجود التعليق; لأن زمان وجود الشرط هو زمان وقوع الطلاق ووقوع الطلاق يفتقر إلى الملك, وأما التعليق, فلا افتقار له إلى الملك حال التعليق, فإذا علق
................................................................................................
كانت بالله, أو بغيره إنما شرعت للبر أي تحقيق المحلوف عليه من الفعل, أو الترك وتقوية جانبه على جانب نقيضه فلا بد من أن يكون اليمين بغير الله مضمونا بالجزاء أي بلزوم المحلوف به من الطلاق, أو العتاق, أو نحوه كما أن اليمين بالله يصير مضمونا بالكفارة تحقيقا لما هو المقصود باليمين من الحمل, أو المنع, وإذا كان البر مضمونا بالجزاء كان للجزاء شبهة الثبوت في الحال أي قبل فوات البر إذ للضمان شبهة الثبوت قبل فوات المضمون كما في المغصوب, فإنه مضمون بالقيمة بعد الفوات فيكون للغصب شبهة إيجاب القيمة قبل الفوات حتى يصح الإبراء عن القيمة والدين والعين والكفالة حال قيام العين المغصوبة في يد الغاصب مع أنه لا تصح هذه الأحكام قبل الغصب ولأن البر في التعليق إنما وجب لخوف لزوم الجزاء, والواجب لغيره يكون ثابتا من وجه دون وجه فيكون له عرضية الفوات في حق نفسه والجزاء حكم يلزم عند فوات البر فيلزم عند عرضية الفوات للبر عرضية الوجود للجزاء يلزم عرضية الوجود لسببه ليكون المسبب ثابتا على قدر السبب, وهذا معنى شبهة الثبوت في الحال وكما لا بد لحقيقة الشيء من المحل كذلك لا بد منه لشبهته ولهذا لا تثبت شبهة النكاح في غير النساء وذلك لأن معنى الشبهة قيام الدليل مع تخلف المدلول لمانع ويمتنع ذلك في غير المحل فيبطل التعليق زوال الحل بأن يطلقها ثلاثا لفوات محل الجزاء كما يبطله بطلان محل الشرط بأن يجعل الدار بستانا, ولا يبطله زوال الملك بأن يطلقها ما دون الثلاث لقيام المحل من وجه بإمكان الرجوع إليها.
فإن قلت: فليعتبر إمكان الرجوع فيما إذا فات المحل. قلت: لما فات ما لا بد منه تحقق البطلان والملك لم يقم دليل على أنه لا بد منه في الابتداء ليتحقق بفواته البطلان, وإنما لا يكون(2/291)
دليل زفر
لأنه لما لم يكن الملك والحل عند وجود الشرط قطعي الوجود ليصح التعليق شرطنا وجودهما في الحال ليترجح جانب الوجود عند وجود الشرط فكما لا يبطله زوال الملك لا يبطله زوال الحل.
ـــــــ
بالملك نحو إن تزوجتك فأنت طالق فالملك قطعي الوجود عند وجود الشرط فيصح التعليق وإن علق بغير الملك نحو إن دخلت الدار فأنت طالق فشرط صحة التعليق وجود الملك عند وجود الشرط وغير ذلك معلوم فيستدل بالملك حال التعليق على الملك حال وجود الشرط بالاستصحاب, فإذا وجد الملك حال التعلق صح التعليق, ثم لا يبطله زوال الملك فكما لا يبطله زوال الملك لا يبطله زوال الحل أيضا والمراد بزوال الحل وقوع الطلاق الثالث في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}. "قلنا اليمين شرعت للبر, فلا بد من أن يكون البر مضمونا بالجزاء فيكون للجزاء شبهة الثبوت في الحال, فلا بد من المحل" فإنه إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق
................................................................................................
منه بد عند وقوع الشرط, وقد أمكن عوده حينئذ, فلا جهة للبطلان. وفي الطريقة البرعرية إنما لم يشترط بقاء الملك لبقاء التعليق كما شرط المحل; لأن محلية الطلاق تثبت بمحلية النكاح وهي تفتقر إلى بقاء المحل لا إلى بقاء الملك فحاصل هذا الطريق هو أن المحلية شرط لليمين انعقادا وبقاء فتبطل بفواتها بالتطليقات الثلاث, وأما ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أن طلقات هذا الملك متعين للجزاء فتبطل اليمين بفواتها, فإنما هو حاصل طريق آخر للأصحاب في هذه المسألة, وهو أن هذه اليمين إنما تصح باعتبار الملك القائم وليس فيه إلا ثلاث تطليقات, فإذا استوفاها كلها بطل الجزاء فيبطل اليمين كما إذا فات الشرط بأن جعل الدار بستانا, أو حماما إذ اليمين لا تنعقد إلا بالشرط والجزاء بل افتقارها إلى الجزاء أكثر; لأنها به تعرف كيمين الطلاق ويمين العتاق ونوقض هذا الطريق بما إذا علق الثلاث بالشرط, ثم طلقها اثنتين, ثم عادت إليه بعد زوج آخر ووقع الشرط, فإنه يقع الثلاث عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى, فلو تعين طلقات هذا الملك لم يقع إلا واحدة, فإنها الباقية فقط ولذا صرح الإمام السرخسي وفخر الإسلام رحمه الله تعالى بأن بطلان التعليق بانعدام المحل لا بأن المعلق بالشرط تطليقات ذلك العقد.
وأما الجواب عن استدلال زفر رحمه الله, فهو أنه لما اشترط في التعليق بغير الملك شبهة الحقيقة في السبب ليلزم منه شبهة الثبوت للجزاء في الحال فيلزم اشتراط المحل في الحال ليكون دليلا على ثبوته عند وجود الشرط بحكم الاستصحاب فيتحقق كون البر مضمونا بالجزاء, ولا حاجة إلى ذلك في التعليق بالتزوج; لأن وجود الملك عند وجود الشرط متحقق ضرورة أن الشرط إنما هو عين تحقق الملك فيكون البر مضمونا بالجزاء من غير حاجة إلى إثبات الشبهة, ولا يخفى أن هذا الجواب مستغن عما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أن الشرط فيه أي في هذا التعليق(2/292)
دليل المذهب المختار و السبب الظاهر
...
دليل المذهب المختار
قلنا اليمين شرعت للبر، فلا بد من أن يكون البر مضمونا بالجزاء فيكون للجزاء شبهة الثبوت في الحال، فلا بد من المحل فيبطله زوال الملك.
فأما التعيلق بالتزوج فإن البر فيه مضمون بوجود الملك عند وجود الشرط فلا حاجة إلى إثبات تلك الشبهة ليكون البر مضمونا.
السبب الظاهر
واعلم أن لكل من الأحكام سببا ظاهرا يترتب الحكم عليه على ما مر في فصل الأمر.
ـــــــ
فالغرض أن لا تدخل الدار; لأنها إن دخلت يترتب عليه هذا الأمر المخوف أي: الجزاء فيكون الجزاء, وهو وقوع الطلاق مانعا من تفويت البر كالضمان يكون من الغصب فالمراد بكون البر مضمونا "هذا فيبطله زوال الحل لا زوال الملك" أي يبطل التعليق زوال الحل, وهو أن يقع الثلاث لا زوال الملك, وهو أن يقع ما دون الثلاث; لأنه يمكن له الرجوع إليها. فالحاصل أن قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق يتوقف صحة هذا التعليل على وجود النكاح فيكون مقتصرا على الطلقات التي يملكها بهذا النكاح أما الطلقات التي يملكها بالنكاح بعد الثلاث فالمرأة أجنبية عن الزوج في تلك الطلقات. "فأما التعلق بالتزوج فإن البر فيه مضمون بوجود الملك عند وجود الشرط" فإن الشرط فيه بمعنى العلة وليس للجزاء شبهة الثبوت قبلها "فلا حاجة إلى إثبات تلك الشبهة ليكون البر مضمونا". المراد بتلك الشبهة ما ذكرنا من شبهة الحقيقة ليكون للجزاء شبهة الثبوت في الحال ليكون البر مضمونا.
"واعلم أن لكل من الأحكام سببا ظاهرا يترتب الحكم عليه على ما مر في فصل الأمر
................................................................................................
بمعنى لعلة وليس للجزاء شبهة الثبوت قبلها أي قبل العلة, وإنما هو جواب آخر تقريره أن الشرط هاهنا أعني في صورة التعليق بالتزوج بمعنى العلة; لأن ملك الطلاق إنما يستفاد بالنكاح وليس للجزاء شبهة الثبوت قبل العلة لأنه يمتنع ثبوت حقيقة الشيء قبل علته كالطلاق قبل النكاح فكذا شبهته اعتبارا للشبهة بالحقيقة ولأن شبهة الشيء لا تثبت حيث لا تثبت حقيقته كشبهة النكاح في غير النساء, وإنما يبطل الطلقات الثلاث تعليق الظهار; لأن محل حكم الظهار هو الرجل; لأن عمله هو المنع عن الوطء وذلك في الرجل, وهو قائم لم يتجدد ولأن عمله ليس إبطال حل المحلية حتى ينعدم بانعدام المحل بل في منع الزوج عن الوطء الحلال إلى وقت التكفير والمنع ثابت بعد التطليقات الثلاث فيثبت الظهار إلا أن ابتداء الظهار لا يتصور في غير الملك; لأن معناه تشبيه المحللة بالمحرمة.
قوله: "واعلم أن لكل من الأحكام" قد جرت عادة القوم بأن يوردوا في آخر مباحث أقسام(2/293)
سبب و جوب الإيمان
...
سبب وجوب الإيمان
فسبب وجوب الإيمان بالله تعالى حدوث العالم، ولما كان هذا السبب في الآفاق والأنفس موجودا دائما يصح إيمان الصبي وإن لم يخاطب به.
ـــــــ
فسبب وجود الإيمان بالله تعالى حدوث العالم, ولما كان هذا السبب في الآفاق والأنفس موجودا دائما يصح إيمان الصبي وإن لم يخاطب به وللصلاة الوقت على ما مر وللزكاة ملك المال". اعلم أنه ورد على سببية النصاب للزكاة إشكال, وهو أن تكرر الوجوب بتكرر وصف يدل على سببية ذلك الوصف وهنا الوجوب يتكرر بالحول فيجب أن يكون الحول سببا لا النصاب فلدفع هذا الإشكال قال: "إلا أن الغنى لا يكمل إلا بمال نام والنماء بالزمان فأقيم الحول مقام النماء فيتجدد المال تقديرا بتجدد الحول فيتكرر الوجوب بتكرر المال تقديرا. وللصوم أيام شهر رمضان كل يوم لصومه ولصدقة الفطر رأس يمونه ويلي عليه وإنما الفطر
................................................................................................
النظم بالبيان أسباب الشرائع أي الأحكام المشروعة على وجه الإجمال والمصنف رحمه الله تعالى لما ضبط ما تفرق من المباحث المتعلقة بالعلة والسبب والشرط ونحو ذلك, أورد هذا البحث بعد ذكر السبب وصدره بكلمة اعلم تنبيها على أنه باب جليل القدر في فن الأصول يجب ضبطه وعلمه لا كما يزعم بعضهم من أنه لا عبرة بالأسباب أصلا والأحكام إنما تثبت بإيجاب الله تعالى صريحا, ودلالة بنصب الأدلة والعلم لنا إنما حصل من الأدلة وذلك للقطع بأنها مضافة إلى إيجاب الله تعالى; لأنه شارع الشرائع إجماعا, فلو أضيفت إلى أسباب أخر لزم توارد العلل المستقلة على معلول واحد وأيضا لو كانت المذكورات عللا وأسبابا لما انفكت الأحكام عنها, ولم تتوقف على إيجاب الله تعالى, وأنكر بعضهم ذلك في العبادات خاصة إذ المقصود فيها الفعل فقط ووجوبه بالخطاب إجماعا بخلاف المعاملات والعقوبات, فإنها تترتب على أفعال العباد فيجوز أن يضاف وجوب أداء الأموال وتسليم النفس للعقوبات إلى الأسباب ونفس الوجوب إلى الخطاب والجواب أنه لا كلام في أن شارع الشرائع هو الله تعالى وحده وأنه المنفرد بإيجاب الأحكام إلا أنا نضيف ذلك إلى ما هو سبب في الظاهر بجعل الله تعالى الأحكام مترتبة عليها تيسيرا وتسهيلا على العباد ليتوصلوا بذلك إلى معرفة الأحكام بمعرفة الأسباب الظاهرة على أنها أمارات وعلامات لا مؤثرات وبعض ذلك قد ثبت بالنص والإجماع كالبيع للملك والقتل للقصاص والزنا للحد إلى غير ذلك وإلى ما ذكرنا أشار بقوله: سببا ظاهرا يترتب عليه الحكم على ما مر في فصل الأمر.
قوله: "فسبب وجوب الإيمان بالله تعالى" أي التصديق والإقرار بوجوده ووحدانيته وسائر صفاته على ما ورد به النقل وشهد به العقل هو حدوث العالم أي كون جميع ما سوى الله تعالى من الجواهر والأعراض مسبوقا بالعدم, وإنما سمي عالما; لأنه علم على وجود الصانع به يعلم ذلك, ولا خفاء في أن وجوب الإيمان بإيجاب الله تعالى إلا أنه نسب إلى سبب ظاهر تيسيرا على العباد وقطعا لحجج المعاندين وإلزاما لهم لئلا يكون لهم تشبث بعدم ظهور السبب. ومعنى سببية حدوث العالم أنه سبب لوجوب الإيمان بالله تعالى الذي هو فعل العبد لا لوجود الصانع, أو وحدانيته, أو غير(2/294)
شرط لقوله عليه الصلاة والسلام: "أدوا عمن تمونون" "وعن" إما لانتزاع الحكم عن السبب, أو لأن يجب عليه فيؤدي عنه كما في العاقلة والثاني باطل لعدم الوجوب على العبد والصبي والفقير والكافر فيثبت الأول وأيضا يتضاعف الواجب بتضاعف الرأس والإضافة إلى الفطر تعارضها الإضافة إلى الرأس وهي تحتمل الاستعارة أيضا بخلاف تضاعف الوجوب". هذا جواب إشكال, وهو أن الإضافة آية السببية والصدقة تضاف إلى الفطر فيدل على سببية الفطر فأجاب بأن الصدقة تضاف إلى الرأس أيضا, فإذا تعارضا تساقطا. ونحن نتمسك على سببية الرأس بالتضاعف فهذا الدليل أقوى من الإضافة لأن الحكم قد يضاف إلى غير السبب مجازا, وهذا المجاز لا يجري في التضاعف.
"وأيضا وصف المؤنة" أي في قوله عليه السلام: "أدوا عمن تمونون" "يرجح سببية الرأس. وللحج البيت, وأما الوقت والاستطاعة فشرط. وللعشر الأرض النامية بحقيقة الخارج وبهذا الاعتبار هو مؤنة الأرض وباعتبار الخارج, وهو تبع الأرض". قوله: "وهو تبع" حال من
................................................................................................
ذلك مما هو أزلي وذلك أن الحادث يدل على أن له محدثا صانعا قديما غنيا عما سواه واجبا لذاته قطعا للتسلسل, ثم وجوب الوجود ينبئ عن جميع الكمالات وينفي جميع النقصانات لا يقال: لو كان السبب هو الحدوث الزماني على ما فسرتم لما كان القائلون بقدم العالم بالزمان وحدوثه بالذات بمعنى المسبوقية بالغير والاحتياج إليه قائلين بوجوب الإيمان بالله تعالى; لأنا نقول من جملة الإيمان بالله الإيمان بأنه صانع العالم بإرادته واختياره وأثر المختار لا يكون إلا حادثا وهم ينفون ذلك, ولو سلم فليس المراد أن السبب بالنظر إلى كل واحد هو حدوث العالم فقط بل مراتب الناس في ذلك متفاوتة على ما يشير إليه قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} الآية إلا أن الاستدلال بالآفاق والأنفس هو أشد المراتب وضوحا وأكثرها وقوعا وأثبتها دواما إذ كل أحد يشاهد نفسه والسماوات والأرضين فكان ملازما لكل أحد من أهل الإيمان فلذا صح إيمان الصبي المميز لتحقق سببه, وهو الآفاق والأنفس ووجود ركنه, وهو التصديق والإفراد الصادر عن النظر والتأمل إذ الكلام في الصبي العاقل, وهو أهل لذلك بدليل أن الإيمان قد يتحقق في حقه تبعا للأبوين, فلو امتنع صحته لم يكن إلا بحجج شرعية وذلك في الإيمان محال; لأنه لا يحتمل عدم المشروعية أصلا نعم هو غير مخاطب بإيمان لعدم التكليف المعتبر في الخطاب فسقط عنه الأداء الذي يحتمل السقوط في بعض الأحوال كما إذا أراد الكافر أن يؤمن فأكره على السكوت عن كلمة الإسلام.
قال أبو اليسر وجوب الأداء مبني على العقل الكامل عند بعضهم وعلى الخطاب عند عامة المشايخ فالصبي إذا بلغ في شاهق الجبل, ولم تبلغه الدعوة فمات, ولم يسلم كان معذورا عند عامة المشايخ إذ وجوب الأداء بالخطاب, ولم يبلغه, وعند الآخرين لا يكون معذورا; لأن وجوب الأداء إنما يشترط فيه الخطاب إذا كان في حكم يحتمل النسخ والرفع والإيمان ليس كذلك بل إنما يبتنى صحة الأداء على كونه مشروعا في حق المؤدي كما في جمعة المسافر.(2/295)
سبب الزكاة و الصلاة
...
سبب الزكاة والصلاة
وللصلاة الوقت على ما مر وللزكاة ملك المال. إلا أن الغنى لا يكمل إلا بمال نام والنماء بالزمان فأقيم الحول مقام النماء فيتجدد المال تقديرا بتجدد الحول فيتكرر الوجوب بتكرر المال تقديرا.
ـــــــ
الخارج. "عبادة" أي العشر عبادة; لأن العشر جزء من الخارج فأشبه الزكاة فإنها جزء من النصاب. "وكذا الخراج" أي سببية الأرض النامية. "إلا أن النماء يعتبر فيه تقديرا بالتمكن من الزراعة فصار مؤنة باعتبار الأصل", وهو الأرض "عقوبة باعتبار الوصف", وهو التمكن من الزراعة; لأن الزراعة عمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد فصار سببا للمذلة. "ولذلك لم يجتمعا عندنا" أي لأجل ثبوت وصف العبادة في العشر وثبوت وصف العقوبة في الخراج, لم يجتمع العشر والخراج عندنا خلافا للشافعي رحمه الله. وللطهارة إرادة الصلاة والحدث شرط وللحدود والعقوبات ما نسبت إليه من سرقة وقتل وللكفارات ما نسبت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة "ولشرعية المعاملات البقاء المقدر" أي للعالم "وللاختصاصات الشرعية التصرفات المشروعة كالبيع والنكاح ونحوهما". "واعلم أن ما يترتب عليه الحكم إن كان شيئا لا يدرك العقل تأثيره, ولا يكون بصنع المكلف كالوقت للصلاة يخص باسم السبب وإن كان بصنعه فإن كان الغرض من وضعه ذلك الحكم كالبيع للملك, فهو علة ويطلق عليه اسم السبب أيضا مجازا وإن لم يكن هو الغرض" كالشراء لملك المتعة فإن العقل لا يدرك تأثير
................................................................................................
قوله: "للصلاة" أي سبب الوجوب للصلاة هو الوقت على ما مر تحقيق ذلك في الفصل المعقود لبيان أن المأمور به نوعان مطلق ومؤقت.
قوله: "وللزكاة" أي سبب الوجوب للزكاة ملك المال الذي هو نصاب وجوب الزكاة في ذلك المال لإضافتها إليه. مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "هاتوا ربع عشر أموالكم" ولتضاعف الوجوب بتضاعف النصاب في وقت واحد واعتبر الغني; لأنه لا صدقة إلا عن ظهر غنى وأحوال الناس في الغنى مختلفة فقدره الشارع بالنصاب إلا أن تكامل الغنى يكون بالنماء ليصرف إلى الحاجة المتجددة فيبقى أصل المال فيحصل الغنى ويتيسر الأداء فصار النماء شرطا لوجوب الأداء تحقيقا للغنى واليسر إلا أن النماء أمر باطن فأقيم مقامه السبب المؤدي إليه, وهو الحول المستجمع للفصول الأربعة التي لها تأثير في النماء بالدر والنسل وبزيادة القيمة بتفاوت الرغبات في كل فصل إلى ما يناسبه فصار الحول شرطا, وتجدده تجدد للنماء وتجدد النماء تجدد للمال الذي هو السبب; لأن السبب هو المال بوصف النماء والمال بهذا النماء غيره بذلك النماء فيكون تكرر الوجوب بتكرر الحول وتكرر الحكم بتكرر السبب لا بتكرر الشرط.
قوله: "وللصوم" اتفق المتأخرون على أن سبب وجوب صوم رمضان هو الشهر; لأنه يضاف إليه ويتكرر بتكرره إلا أن الإمام السرخسي رحمه الله تعالى ذهب إلى أن السبب هو مطلق شهود(2/296)
سبب الصوم و صدقة الفطر
...
سبب الصوم وصدقة الفطر
وللصوم أيام شهر رمضان كل يوم لصومه ولصدقة الفطر رأس يمونه ويلي عليه وإنما الفطر شرط لقوله عليه الصلاة والسلام: "أدوا عمن تمونون" وعن إما لانتزاع الحكم عن السبب، أو لأن يجب عليه فيؤدي عنه كما في العاقلة والثاني باطل لعدم الوجوب على العبد والصبي والفقير والكافر فيثبت الأول.
وأيضا يتضاعف الواجب بتضاعف الرأس والإضافة إلى الفطر تعارضها الإضافة إلى الرأس وهي تحتمل الاستعارة أيضا بخلاف تضاعف الوجوب وأيضا وصف المؤنة يرجح سببية الرأس.
ـــــــ
لفظ اشتريت في هذا الحكم, وهو بصنع المكلف وليس الغرض من الشراء ملك المتعة بل ملك الرقبة "فهو سبب وإن أدرك العقل تأثيره كما ذكرنا في القياس يخص باسم العلة".
"وأما الشرط, فهو إما شرط محض, وهو حقيقي" كالشهادة للنكاح والوضوء للصلاة أو جعلي, وهو بكلمة الشرط, أو دلالتها. نحو: المرأة التي أتزوجها طالق وقد مر أن أثر التعليق عندنا منع العلية, وعنده منع الحكم وإما شرط في حكم العلة, وهو شرط لا يعارضه علة تصلح أن يضاف الحكم إليها فيضاف إليه كما إذا رجع شهود الشرط وحدهم ضمنوا وإن رجعوا مع شهود اليمين يضمن الثاني فقط كما إذا اجتمع السبب والعلة "كشهود التخيير والاختيار" كما
................................................................................................
الشهر أعني الأيام بلياليها; لأن الشهر اسم للمجموع وسببيته باعتبار إظهار شرف الوقت وذلك في الأيام والليالي جميعا ولهذا لزم القضاء على من كان أهلا في الليل, ثم جن وأفاق بعد مضي الشهر ولهذا صح نية الأداء بعد تحقق جزء من الليل, ولم يصح قبله وليس من حكم السبب جواز الأداء فيه بل في وقت الواجب ووقت الصوم هو النهار لا غير وذهب الأكثرون, وهو المختار عند المصنف رحمه الله تعالى إلى أن كل يوم سبب لصومه بمعنى أن الجزء الأول الذي لا يتجزأ من اليوم سبب لصوم ذلك اليوم; لأن صوم كل يوم عبادة على حدة مختص بشرائط وجوده منفرد بالانتقاض بطريان نواقضه فيتعلق بسبب على حدة, وأما جواز النية بالليل ووجوب القضاء على من أفاق في بعض الشهر, فقد مر بيانه في باب الأمر.
قوله: "و "عن" إما لانتزاع الحكم" يعني أن كلمة عن تدل على انتزاع الشيء عن الشيء وانفصاله عنه; لأنها للبعد والمجاوزة, فإذا وقعت صلة للأداء فهي بحكم الاستقرار إما أن تكون لانتزاع الحكم عن السبب كما يقال: أدى الزكاة عن ماله والخراج عن أرضه, أو تكون للدلالة على أن ما وجب على محل قد أداه عنه غيره كأنه نائب عنه كما يقال: أدى العاقلة الدية عن القاتل وحمل الحديث عن المعنى الثاني باطل; لأنه يقتضي الوجوب على العبد والكافر والفقير الذين يكونون في مؤنة المكلف ضرورة دخولهم فيمن تمونون, وهذا باطل; لأن العبد لا يملك شيئا, فلا يكلف بوجوب مالي, والكافر ليس من أهل القربة, والفقير ممن يجب له, فلا يجب عليه ويصرف إليه, فلا يصرف عنه, إذ لا خراج على الخراب وذكر في الأسرار ما يصلح جوابا عن هذا, وهو أن العبد من حيث إنه إنسان مخاطب, وهذه صدقة فالظاهر أنها عليه كالنفقة والمولى ينوب عنه ولكن في الحقيقة لا وجوب عليه; لأنه التحق بالبهيمة فيما ملك عليه فعلى أصل الخلقة الوجوب على العبد وعلى اعتبار(2/297)
سبب الحج و العشر
...
سبب الحج والعشر
وللحج البيت، وأما الوقت والاستطاعة فشرط. وللعشر الأرض النامية بحقيقة الخارج وبهذا الاعتبار هو مؤنة الأرض وباعتبار الخارج، وهو تبع الأرض عبادة.
ـــــــ
إذا شهد شاهدان على أن الزوج خير امرأته وآخران بأن المرأة اختارت نفسها فقضى القاضي بوقوع الطلاق, ثم رجع الفريقان يضمن شهود الاختيار فشهود التخيير سبب وشهود الاختيار علة. "فإن قال إن كان قيد عبده عشرة أرطال, فهو حر, ثم قال وإن حله آخر, فهو حر, فشهد
................................................................................................
عارض المملوكية الوجوب على المولى فوقعت كلمة "عن" إشارة إلى المعنى الأصلي وهكذا نقول في الصبي, وأما الكافر فخارج عقلا; لأنه ليس من أهل القربة.
قوله: "بخلاف تضاعف الوجوب", فإنه أمر حقي لا يحتمل الاستعارة التي هي من أوصاف اللفظ كذا قيل: وليس بسديد; لأن مراد السائل بالاستعارة أنه كما جاز الإضافة إلى غير السبب مجازا فليجز تضاعف الوجوب بتضاعف غير السبب بناء على أنه يشبه السبب في احتياج الحكم إليه. فالجواب أن الإضافة إلى غير السبب وارد في الشرع كحجة الإسلام وصلاة المسافر وتضاعف الوجوب بتضاعف غير السبب ليس بوارد إلا أن يجعل تضاعفا للسبب كالحول على ما مر, وأما تكرر الواجب بتكرر الوقت فتكرر بتكرر السبب أيضا; لأن السبب هو الرأس بصفة المؤنة والمؤنة يتكرر وجوبها بتكرر الحاجة, والشرع جعل مثل يوم الفطر وقت الحاجة فتجدده متجدد للحاجة.
قوله: "فهذا الدليل أقوى" إشارة إلى دفع ما يتوهم من أن الترجيح بكثرة الأدلة, وهو أن دليل سببية الفطر هو الإضافة فقط ودليل سببية الرأس هو الإضافة وغيرها فصرح بأنه ترجيح بالقوة.
قوله: "وأيضا وصف المؤنة يرجح سببية الرأس" لأن تعليق الحكم بوصف المؤنة في قوله عليه السلام: "أدوا عمن تمونون" يشعر بأن هذه الصدقة تجب وجوب المؤن والأصل في وجوب المؤن رأس يلي عليه كما في العبيد والبهائم ففيه تنبيه أيضا على اعتبار المؤنة والولاية.
قوله: "وللحج" أي سبب الوجوب للحج هو البيت بدليل الإضافة لا الوقت أو الاستطاعة إذ لا إضافة إليه, ولا يتكرر بتكرره مع صحة الأداء بدون الاستطاعة كما في الفقير بل الوقت شرط لجواز الأداء والاستطاعة لوجوبه إذ لا جواز بدون الوقت, ولا وجوب بدون استطاعة.
قوله: "وللعشر" يعني أن سبب كل من العشر والخراج هو الأرض النامية إلا أنها سبب للعشر بالنماء الحقيقي وللخراج بالنماء التقديري, وهو التمكن من الزراعة والانتفاع, وذلك لأن العشر(2/298)
سبب الخراج و الطهارة و العقوبات
...
سبب الخراج
وكذا الخراج إلا أن النماء يعتبر فيه تقديرا بالتمكن من الزراعة فصار مؤنة باعتبار الأصل عقوبة باعتبار الوصف ولذلك لم يجتمعا عندنا.
سبب الطهارة والعقوبات
وللطهارة إرادة الصلاة والحدث شرط وللحدود والعقوبات ما نسبت إليه من سرقة وقتل وللكفارات ما نسبت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة.
ـــــــ
شاهدان أنه عشرة أرطال فقضى القاضي بعتقه, ثم حله, فإذا هو ثمانية يضمنان قيمته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى; لأن القضاء بالعتق ينفذ ظاهرا وباطنا عنده فالعلة لا تصلح لضمان العتق"; لأن العلة قضاء القاضي وإنما لا تصلح للضمان لكونه غير متعد فإنه قضى بناء على شهادة شاهدين. "بخلاف رجوع الفريقين" أي شهود الشرط وشهود اليمين فإن العلة تصلح للضمان; لأنها أثبتت العتق بطريق التعدي.
................................................................................................
مقدر بجنس الخارج فلا بد من حقيقته والخراج مقدر بالدراهم فيكفي النماء التقديري فقوله: بحقيقة الخارج متعلق بالنامية, ثم كل من العشر والخراج مؤنة للأرض حتى لا يعتبر فيه الأهلية الكاملة; لأن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى الحين الموعود وذلك بالأرض وما يخرج منها فتجب عمارتها والنفقة عليها كالعبيد والدواب فيلزم الخراج للمقاتلة الذابين عن الدار الحامين لها عن الأعداء والعشر للمحتاجين والضعفاء الذين بهم يستنزل النصر على الأعداء ويستمطر في السنة الشهباء فتكون النفقة على الفريقين نفقة على الأرض تقديرا, ثم باعتبار النماء الحقيقي العشر عبادة; لأن الواجب جزء من النماء أعني الخارج من الأرض قليلا من كثير بمنزلة الزكاة من المال النامي وباعتبار النماء التقديري الخراج عقوبة لما في الاشتغال بالزراعة من الإعراض عن الجهاد الأصغر والأكبر والإقبال على المبغوض المذموم بلسان الشرع والدنو من رأس الخطيئات, أو هذا يصلح سببا للذلة والصغار وضرب ما هو بمنزلة الجزية, ولا خفاء في أن الأرض أصل والنماء وصف وتبع فيكون باعتبار الأصل منهما مؤنة وباعتبار الوصف العشر عبادة والخراج عقوبة فيتنافيان باعتبار الوصف, فلا يجتمعان في سبب واحد هو الأرض النامية.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجب العشر من الأرض الخراجية, وإن لم يجب الخراج من الأرض العشرية وذلك لأن سبب الخراج عنده الأرض وسبب العشر الخارج من الأرض.
قوله: "وللطهارة إرادة الصلاة" لترتبها عليها في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة ومثل هذا مشعر بالسببية, وأما إضافتها إلى الصلاة وثبوتها بثبوتها وسقوطها بسقوطها, فإنما يصلح دليلا على سببية الصلاة دون إرادتها والحدث شرط لوجوب الطهارة; لأن الغرض من الطهارة أن يكون الوقوف بين يدي الرب بصفة الطهارة, فلا يجب تحصيلها(2/299)
إلا على تقدير عدمها وذلك بالحدث فيتوقف وجوب الطهارة على الحدث فيكون شرطا ولهذا لو توضأ من غير وجوب كما لو توضأ قبل الصلاة واستدام إلى الوقت جازت الصلاة بها; لأن المعتبر في الشرط هو الوجود قصد أو لم يقصد وليس الحدث بسبب; لأن سبب الشيء ما يفضي إليه ويلائمه والحدث يزيل الطهارة وينافيها. وقد يجاب بأنه لا يجعل سببا لنفس الطهارة بل لوجوبها, وهو لا ينافيه بل يفضي إليه, لا يقال: لو كان الحدث شرطا لوجوب الطهارة وهي شرط للصلاة لكان الحدث شرطا للصلاة; لأن شرط الشرط شرط وأيضا الصلاة مشروطة بالطهارة فيتأخر عنها, فلو كانت سببا للطهارة لتقدمت عليها, وهذا محال; لأنا نجيب عن الأول بأن شرط الصلاة وجود الطهارة لا وجوبها والمشروط بالحدث وجوبها لا وجودها. وعن الثاني بأن المشروط هو صحة الصلاة ومشروعيتها والشرط وجود الطهارة والسبب هو إرادة الصلاة لا نفسها والمسبب هو وجوب الطهارة لا وجودها فالمتقدم غير المتأخر.
قوله: "وللحدود والعقوبات" يريد أن السبب يكون على وفق الحكم فأسباب الحدود والعقوبات المحضة تكون محظورات محضة كالزنا والسرقة والقتل وأسباب الكفارات لما فيها من معنى العبادة والعقوبة تكون أمورا دائرة بين الحظر والإباحة. مثلا الفطر في رمضان من حيث إنه يلاقي فعل نفسه الذي هو مملوك له مباح, ومن حيث إنه جناية على العبادة محظور, وكذا الظهار والقتل الخطأ وصيد الحرم ونحو ذلك, فإن فيها كلها جهة من الحظر والإباحة بخلاف مثل الشرب والزنا, فإنه يلاقي حراما محضا. فإن قيل: ظاهر هذا الكلام مشعر بأن سبب كفارة اليمين هو اليمين, وأنها دائرة بين الحظر والإباحة, وقد سبق أن السبب الحقيقي هو الحنث واليمين سبب مجازا قلنا: بنى الكلام هاهنا على السببية المجازية; لأنها أظهر وأشهر حتى ذكر صاحب الكشف أن سبب الكفارة هي اليمين بلا خلاف لإضافتها إليها إلا أنها سبب بصفة كونها معقودة; لأنها الدائرة بين الحظر والإباحة لا الغموس, وشرط وجوبها فوات البر; لأن الواجب في اليمين هو البر احترازا عن هتك حرمة اسم الله تعالى والكفارة خلف عن البر ليصير كأنه لم يفت فيشترط فوات البر لئلا يلزم الجمع بين الخلف والأصل, واليمين وإن انعدمت بعد الحنث في حق الأصل أعني البر لكنها قائمة في حق الخلف والسبب في الأصل والخلف واحد.
قوله: "ولشرعية المعاملات" يعني أن إرادة الله تعالى بقاء العالم إلى حين علمه وزمان قدره سبب لشرعية البيع والنكاح ونحو ذلك وتقريره أن الله تعالى قدر لهذا النظام المنوط بنوع الإنسان بقاء إلى قيام الساعة, وهو مبني على حفظ الأشخاص إذ بها بقاء النوع والإنسان لفرط اعتدال مزاجه يفتقر في البقاء إلى أمور صناعية في الغذاء واللباس والمسكن ونحو ذلك وذلك يفتقر إلى معاونة ومشاركة بين أفراد النوع, ثم يحتاج للتوالد والتناسل إلى ازدواج بين الذكور والإناث وقيام بالمصالح وكل ذلك يفتقر إلى أصول كلية مقدرة من عند الشارع بها يحفظ العدل في النظام بينهم في باب المناكحات المتعلقة ببقاء النوع والمبايعات المتعلقة ببقاء الشخص إذ كل أحد يشتهي ما يلائمه ويغضب على من يزاحمه فيقع الجور ويختل أمر النظام فلهذا السبب شرعت المعاملات.
قوله: "و للاختصاصات" قد سبق أن من الأحكام ما هو أثر لأفعال العباد كالملك في البيع والحل في النكاح والحرمة في الطلاق, وهذه تسمى الاختصاصات الشرعية فسببها الأفعال التي(2/300)
سبب المعاملات و الاختصاصات
...
سبب المعاملات والاختصاصات
ولشرعية المعاملات البقاء المقدر وللاختصاصات الشرعية التصرفات المشروعة.
ـــــــ
هي آثارها وهي التصرفات المشروعة كالإيجاب والقبول مثلا فالحاصل أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية على ما مر فهي إما أن تتعلق بأمر الآخرة وهي العبادات, أو بأمر الدنيا وهي إما أن تتعلق ببقاء الشخص وهي المعاملات, أو ببقاء النوع باعتبار المنزل وهي المناكحات, أو باعتبار المدنية وهي العقوبات وبهذا الاعتبار والترتيب جعل أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى الفقه أربعة أركان فأسباب كل من ذلك ما يناسبه على التفصيل.
قوله: "واعلم" أنه لما كان المتعارف في العلة والسبب ما يكون له نوع تأثير, ولا يوجد ذلك في بعض ما جعل علة وسببا للأحكام وكان المصطلح فيما سبق أن للعلة تأثيرا دون السبب وكان بعض ما سماه هاهنا سببا قد جعله فيما سبق علة ونفى كونه سببا أشار هاهنا إلى اختلاف الاصطلاحات إزالة للاستبعاد ونفيا لوهم الاعتراض, وهذه الاصطلاحات مأخوذة من إطلاقات القوم, ولا مشاحة فيها(2/301)
الشرط
الشرط الحقيقي و الجعلي
...
الشرط الحقيقي والجعلي
وأما الشرط، فهو إما شرط محض، وهو حقيقي كالشهادة للنكاح والوضوء للصلاة أو جعلي، وهو بكلمة الشرط، أو دلالتها. نحو: المرأة التي أتزوجها طالق وقد مر أن أثر التعليق عندنا منع العلية، وعنده منع الحكم.
ـــــــ
قوله: "وأما الشرط, فهو" على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى أربعة: شرط محض وشرط فيه معنى العلة وشرط فيه معنى السببية وشرط مجازا أي اسما ومعنى لا حكما. ووجه الضبط أن وجود الحكم إن لم يكن مضافا إليه, فهو الرابع كأول الشرطين اللذين علق بهما الحكم, وإن كان فإن تخلل بينه وبين الحكم فعل فاعل مختار غير منسوب إليه وكان غير متصل بالحكم, فهو الثالث كحل قيد العبد, وإلا فإن لم تعارضه علة تصلح لإضافة الحكم إليها, فهو الثاني كشق الزق, وإن عارضته, فهو الأول كدخول الدار في أنت طالق إن دخلت الدار. وذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى قسما خامسا سماه شرطا في معنى العلامة, وهو العلامة نفسها لما أن العلامة عندهم من أقسام الشرط ولذا سمى صاحب الهداية الإحصان شرطا محضا بمعنى أنه علامة ليس فيها معنى العلية والسببية, وقد يقال: إن الشرط إن لم تعارضه علة فهي في معنى العلة, وإن عارضته, فإن كان سابقا كان في معنى العلة, وإن كان مقارنا, أو متراخيا, فهو الشرط المحض. وفيه نظر.
قوله: "وهو" أي الشرط المحض إما حقيقي يتوقف عليه الشيء في الواقع, أو بحكم الشارع حتى لا يصح الحكم بدونه أصلا كالشهود للنكاح, أو يصح إلا عند تعذره كالطهارة للصلاة وإما جعلي يعتبره المكلف ويعلق عليه تصرفاته إما بكلمة الشرط. مثل: إن تزوجتك فأنت طالق, أو بدلالة(2/301)
الشرط في حكم العلة
وأما شرط في حكم العلة، وهو شرط لا يعارضه علة تصلح أن يضاف الحكم إليها فيضاف إليه كما إذا رجع شهود الشرط وحدهم ضمنوا.
ـــــــ
كلمة الشرط بأن يدل الكلام على التعليق دلالة كلمة الشرط عليه. مثل: المرأة التي أتزوجها فهي طالق; لأنه في معنى إن تزوجت امرأة فهي طالق باعتبار أن ترتب الحكم على الوصف تعليق له به كالشرط.
قوله: "وقد مر" إشارة إلى بيان الشرط الجعلي, وأنه ليس بمنزلة الشرط الحقيقي بحيث لا يصح الحكم بدونه.
قوله: "فيضاف" أي إذا لم يعارض الشرط علة صالحة لإضافة الحكم إليها فالحكم يضاف إلى الشرط; لأنه يشابه العلة في توقف الحكم عليه بخلاف ما إذا وجدت حقيقة العلة الصالحة, فإنه لا عبرة حينئذ بالشبه والحلف, فلو شهد قوم بأن رجلا علق طلاق امرأته الغير المدخولة بدخول الدار وآخرون بأنها دخلت الدار وقضى القاضي بوقوع الطلاق ولزوم نصف المهر, فإن رجع شهود دخول الدار وحدهم ضمنوا للزوج ما أداه إلى المرأة من نصف المهر; لأنهم شهود الشرط السالم عن معارضة العلة الصالحة لإضافة الحكم إليها, وإذا رجع شهود دخول الدار وشهود اليمين أي التعليق جميعا فالضمان على شهود التعليق; لأنهم شهود العلة إما باعتبار ما يئول إليه باعتبار أن العلة أعم من الحقيقة ومما فيه معنى السببية, أو باعتبار أنه بعد شهادة الفريقين وقضاء القاضي اتصل الحكم بالعلة فكمل العلية ومع وجود العلة الصالحة لإضافة الحكم إليها لا جهة للإضافة إلى الشرط. فإن قيل: لو شهد قوم بأنه تزوج هذه المرأة بألف وآخرون بأنه دخل بها, ثم رجع الفريقان فالضمان على شهود الدخول مع أنه شرط والتزوج علة. قلنا: هذا مبني على أن شهود الدخول أبرءوا شهود النكاح عن الضمان حيث أدخلوا في ملك الزوج عوض ما غرم من المهر, وهو استيفاء منافع البضع بخلاف ما نحن فيه.
قوله: "كشهود التخيير", فإنه سبب لكونه مفضيا إلى الحكم في الجملة والاختيار علة يحصل بها لزوم المهر فالحكم يضاف إلى العلة دون السبب.
قوله: "فإن قال" لما شرط في إضافة الحكم إلى الشرط أن لا تعارضه علة صالحة لإضافة الحكم إليها, أورد مثالا ليس فيه معارضة العلة أصلا, وهو ما إذا رجع شهود الشرط فقط وحكمه وجوب الضمان عليهم على ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى, وأما المذكور في أصول الإمام السرخسي رحمه الله تعالى وأبي اليسر فهو أنهم لا يضمنون شيئا, وهو المنصوص في الجامع الصغير, ثم أورد مثالا يوجب فيه معارضة العلة الصالحة لإضافة الحكم إليها, وهو ما إذا رجع شهود الشرط واليمين جميعا ثم مثالا يوجد فيه معارضة العلة لكنها لا تصلح لإضافة الحكم إليها وهو ما(2/302)
مثال ثان: وإن رجعوا مع شهود اليمين يضمن الثاني فقط كما إذا اجتمع السبب والعلة كشهود التخيير والاختيار.
مثال ثالث: فإن قال إن كان قيد عبده عشرة أرطال، فهو حر، ثم قال وإن حله آخر، فهو حر، فشهد شاهدان أنه عشرة أرطال فقضى القاضي بعتقه، ثم حله، فإذا هو ثمانية يضمنان قيمته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ لأن القضاء بالعتق ينفذ ظاهرا وباطنا عنده فالعلة لا تصلح لضمان العتق بخلاف رجوع الفريقين وعندهما لا يضمنان؛ لأن القضاء لا ينفذ في الباطن فيعتق بحل القيد.
ـــــــ
إذا قال رجل إن كان قيد عبده عشرة أرطال فعبده حر, ثم قال: وإن حل أحد قيد العبد, فهو حر فشهد شاهدان بأن القيد عشرة أرطال وقضى القاضي بعتق عبده فحل المولى قيد العبد, فإذا هو ثمانية أرطال فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يضمن الشاهدان قيمة العبد; لأن قضاء القاضي نافذ ظاهرا وباطنا لابتنائه على دليل شرعي واجب العمل به فلا بد من صيانته عن البطلان بإثبات التصرف المشهود به مقدما على القضاء بطريق الاقتضاء بخلاف ما إذا بان الشهود عبيدا, أو كفارا, فإنه لا عبرة بالقضاء حينئذ لإمكان الوقوف على حقيقة الرق والكفر. وفيما نحن فيه قد سقط حقيقة معرفة وزن القيد; لأنه لا يمكن إلا بحل القيد, وإذا حله يعتق العبد, وإذا نفذ القضاء ظاهرا وباطنا تحقق العتق قبل الحل, فلم يمكن إضافته إليه والعلة أعني التعليق غير صالحة للإضافة إليها; لأنها تصرف من المالك في ملكه من غير تعد, ولا جناية كما إذا باع مال نفسه, أو أكل طعام نفسه فتعين الإضافة إلى الشرط, وهو كون القيد عشرة أرطال والشهود قد تعدوا بالكذب المحض فيجب الضمان عليهم.
وعندهما ينفذ القضاء ظاهرا لا باطنا; لأنه مبني على الحجة الباطلة إلا أن العدالة الظاهرة دليل الصدق ظاهرا فيعتبر حجة في وجوب العمل, وإذا لم ينفذ باطنا كان العبد رقيقا بعد القضاء ويعتق بحل المولى قيده, فلا يضمن الشهود. وما ذكرنا من أن العلة هي يمين المالك أعني تعليقه العتق هو المذكور في أصول فخر الإسلام رحمه الله وغيره, وهو الموافق لما تقرر عندهم من أن علل الاختصاصات الشرعية هي التصرفات المشروعة حتى لو ادعى شراء الدار وأقام البينة وقضى القاضي كانت علة الملك هي الشراء دون القضاء فما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى من أن العلة هي قضاء القاضي بوقوع العتق محل نظر. والعجب أنه صرح في مسألة رجوع الفريقين أعني شهود التعليق وشهود الشرط بأن العلة هي شهود التعليق وهي صالحة لإضافة الضمان إليها; لأنها أثبتت العتق بطريق التعدي حيث ظهر كذبهم بالرجوع فلم كانت العلة في مسألة حل القيد هي قضاء القاضي دون تعليق المالك؟
والتحقيق أنه بان في الصورتين أن العتق لم يكن متحققا في الواقع, وإنما لزم بقضاء القاضي(2/303)
مثال رابع: وكذا حافر البئر فإن الثقل علة السقوط، وهو أمر طبيعي والمشي مباح، فلا يصلحان لإضافة الحكم فيضاف إلى الشرط بخلاف ما إذا أوقع نفسه.
ـــــــ
"وعندهما لا يضمنان; لأن القضاء لا ينفذ في الباطن فيعتق بحل القيد. وكذا حافر البئر" عطف على المثالين المذكورين وهما رجوع شهود الشرط ومسألة القيد والتشبيه في أن هناك شرطا لا تعارضه علة تصلح لإضافة الحكم إليها والشرط هو الحفر; لأن علة السقوط هو الثقل لكن الأرض مانعة عن السقوط فبإزالة المانع صارت شرطا للسقوط, ثم بين أن العلة لا تصلح لإضافة الحكم, وهو الضمان إليها بقوله: "فإن الثقل علة السقوط, وهو أمر طبيعي والمشي مباح, فلا يصلحان لإضافة الحكم فيضاف إلى الشرط"; لأن صاحب الشرط متعد; لأن الضمان فيما إذا حفر في غير ملكه. "بخلاف ما إذا أوقع نفسه. وأما وضع الحجر وإشراع
................................................................................................
المبني على الشهادة الباطلة, وهو حكم يؤدي إلى هلاك المال ففي صورة رجوع الفريقين شهود التعليق علة متعدية صالحة لإضافة الضمان إليها, فلا يضاف إلى شهود الشرط أعني وقوع المعلق عليه. وفي مسألة حل القيد العلة غير صالحة لإضافة الضمان إليها لخلوها عن معنى التعدي فيضاف إلى الشرط, وهو شهود كون القيد عشرة أرطال لتعديهم بالكذب المحض إذ لا مساغ للإضافة إلى الحل لتحقق العتق قبله ظاهرا وباطنا مع أن شهود الشرط هاهنا بمنزلة شهود العلة من وجهين: أحدهما: أن وزن القيد متحقق الوجود والشرط ما يكون على خطر الوجود. وثانيهما: أن التعليق لما كان مقدرا يعترف به المالك, والشهود قد شهدوا بوجود المعلق عليه كان ذلك في معنى الشهادة بالتنجيز فكانوا شهود العلة لإثباتهم العتق في الحقيقة. فإن قيل: نحن لا نثبت الضمان حتى يضاف إلى العلة أو الشرط بل نثبت العتق بلا شيء. أجيب بأن العتق حكم يؤدي إلى هلاك المال فلا بد من الضمان, والعتق بلا شيء بمنزلة الضمان على السيد فلا بد من الإضافة.
قوله: "والمشي مباح" يعني أن المشي, وإن كان سببا, وهو يشارك العلة في الإفضاء إلى الحكم والاتصال به فعند تعذر الإضافة إلى العلة كان ينبغي أن يضاف الحكم إليه دون الشرط إلا أن الضمان ضمان عدوان فلا بد فيما يضاف إليه من صفة التعدي, ولا تعدي في السبب أعني المشي; لأنه مباح محض, وهذا مشعر بأنه لو كان الماشي أيضا متعديا كما إذا كان الحفر في ملك الغير فسقط الماشي بغير إذن المالك لم يكن الضمان على الحافر, ولا رواية في ذلك بل الرواية مطلقة في ضمان الحافر المتعدي. لا يقال: مراده أن المشي مباح في نفسه, وإن حرم بالغير في بعض الصور كما إذا كان في ملك الغير; لأنا نقول: الحفر أيضا كذلك والظاهر أن تقييد المشي بالإباحة احتراز عن محل الخلاف ففي بعض الوجوه عن أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى أنه لا ضمان على الحافر عند تعدي المشي.
قوله: "بخلاف ما إذا أوقع نفسه" في بئر العدوان, فإنه لا ضمان على الحافر; لأن الإيقاع علة متعدية صالحة للإضافة, فلا يضاف إلى الشرط.(2/304)
دفع اعتراض
وأما وضع الحجر وإشراع الجناح والحائط المائل بعد الإشهاد، فمن قسم الأسباب.
ـــــــ
الجناح والحائط المائل بعد الإشهاد, فمن قسم الأسباب. وأما شرط في حكم السبب, وهو شرط اعترض عليه فعل فاعل مختار غير منسوب إليه كما إذا حل قيد عبد الغير فأبق العبد لا يضمن عندنا فإن الحل لما سبق الإباق الذي هو علة التلف صار كالسبب فإنه يتقدم على صورة العلة والشرط يتأخر عنها, وكذا إذا فتح باب قفص, أو إصطبل. خلافا لمحمد رحمه الله تعالى له أن فعل الطير والبهيمة هدر, فإذا خرجا على فور الفتح يجب الضمان كما في
................................................................................................
قوله: "وأما وضع الحجر" يعني أن هذه الأمور طرق مفضية إلى التلف فتكون أسبابا لها حكم العلل بخلاف الحفر, فإنه إزالة للمانع أعني إمساك الأرض فيكون شرطا وهاهنا نظر, وهو أنه لا معنى للسببية إلا الإفضاء إلى الحكم والتأدي إليه من غير تأثير, وهذا حاصل في الحفر وحل القيد وفتح الباب ونحو ذلك.
قوله: "وهو" أي الشرط الذي في حكم السبب شرط اعترض عليه أي حصل بعد حصوله فعل فاعل مختار غير منسوب ذلك الفعل إلى الشرط فخرج الشرط المحض. مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق إذ التعليق, وهو فعل المختار لم يعترض على الشرط بل بالعكس وخرج ما إذا اعترض على الشرط فعل فاعل غير مختار بل طبيعي كما إذا شق زق الغير فسال المائع فتلف, وخرج ما إذا كان فعل المختار منسوبا إلى الشرط كما إذا فتح الباب على وجه يفر الطائر فخرج, فإنه ليس في معنى السبب بل في معنى العلة ولهذا يضمن, وأما وجوب الضمان عند محمد رحمه الله في صورة فتح باب القفص فليس مبنيا على أن طيران الطائر منسوب إلى الفتح بل على أن فعل الطائر هدر فيلحق بالأفعال الغير الاختيارية كسيلان المائع.
قوله: "لا يضمن عندنا" مشعر بالخلاف وليس كذلك.
"قوله: فإن الحل" بيان لكون حل القيد في حكم السبب لا تعليل لعدم الضمان وتقريره أن الشرط المحض يتأخر عن صورة العلة والسبب يتقدمها; لأنه طريق إلى الحكم ومفض إليه بأن تتوسط العلة بينهما فيكون متقدما لا محالة, وإنما قال صورة العلة; لأن الشرط المحض يتقدم على انعقادها علة لما سبق من أن التعليق يمنع العلية إلى وجود الشرط, فلا بد من أن يثبت الشرط حتى تنعقد العلة فحل القيد لما كان متقدما على الإباق الذي هو علة التلف كان شرطا في معنى السبب لا في معنى العلة; لأن العلة هاهنا مستقلة غير مضافة إلى السبب, ولا حادثة به بخلاف سوق الدابة. وأما إذا أمر عبد الغير بالإباق فأبق, فإنما يضمن بناء على أن أمره استعمال للعبد, وهو غصب بمنزلة ما إذا استخدمه فخدمه. وما يقال: في بيان تقدم السبب على صورة العلة أن ما هو مفض إلى الشيء ووسيلة إليه فلا بد أن يكون سابقا عليه ليس بمستقيم; لأنه مفض إلى الحكم والمطلوب تقدمه على(2/305)
الشرط في حكم السبب
وأما شرط في حكم السبب، وهو شرط اعترض عليه فعل فاعل مختار غير منسوب إليه كما إذا حل قيد عبد الغير فأبق العبد لا يضمن عندنا فإن الحل لما سبق الإباق الذي هو علة التلف صار كالسبب فإنه يتقدم على صورة العلة والشرط يتأخر عنها.
ـــــــ
سيلان ماء الزق فإن النفار طبيعي للطير كالسيلان للماء ولهما أنه هدر في إثبات الحكم لا في قطعه عن الغير كالكلب يميل عن سنن الإرسال, وإذا قال الولي سقط وقال الحافر أسقط نفسه فالقول له" أي للحافر "لأنه يدعي صلاحية العلة للإضافة وقطع الإضافة عن الشرط, فهو متمسك بالأصل بخلاف الجارح إذا ادعى الموت بسبب آخر; لأنه صاحب علة. وأما شرط اسما لا حكما إذا علق الطلاق بشرطين فأولهما وجودا شرط اسما لا حكما حتى إذا وجد الأول في الملك لا الثاني لا تطلق وبالعكس تطلق خلافا لزفر رحمه الله تعالى". صورته أن يقول: لامرأته إن دخلت هذه الدار, وهذه الدار فأنت طالق فأبانها فدخلت أحدهما, ثم تزوجها فدخلت الأخرى يقع الطلاق, عندنا "لأن الملك شرط عند وجود الشرط لصحة الجزاء لا لصحة الشرط فيشترط عند الثاني لا الأول,
................................................................................................
صورة العلة وهاهنا نظر, وهو أن وجوب تأخر الشرط عن صورة العلة إنما هو في الشرط التعليقي لا الحقيقي كالشهادة في النكاح والطهارة في الصلاة والعقل في التصرفات على ما سيجيء.
قوله: "له" أي لمحمد أن فعل الطير والبهيمة هدر شرعا, فلا يصلح لإضافة التلف إليه فيضاف إلى الشرط وأيضا هما لا يصبران عن الخروج عادة ففعلهما يلتحق بالأفعال الطبيعية بمنزلة سيلان المائع فظهر أن كلا من كون فعلهما هدرا وكونه بمنزلة الأفعال الطبيعية مستقل في الاستدلال على الضمان فسوق كلام المصنف رحمه الله تعالى ليس كما ينبغي ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه إن أريد أن فعل الطير والبهيمة هدر في إضافة الحكم إليه فمسلم لكنه لا ينافي اعتباره في قطع الحكم عن الشرط, وإن أريد أنه هدر مطلقا حتى لا يعتبر في قطع الحكم عن الغير فممنوع كما إذا أرسل شخص كلبه على صيد فمال عن سنن الصيد, ثم اتبعه فأخذه لا يحل; لأن فعله, وهو الميل عن السنن هدر في إضافة الحكم إليه لكونه بهيمة لكنه معتبر في منع إضافة الفعل عن المرسل, ولا يخفى أن هذا جواب عن الوجه الأول فقط من استدلال محمد بناء على ما ساق كلامه من أنه استدلال واحد. فإن قيل: هب أن فتح الباب شرط لا علة لكن سبق أن الشرط إذا لم يعارضه علة صالحة لإضافة الحكم إليها فالحكم يضاف إلى الشرط وهاهنا كذلك; لأن فعل البهيمة لا يصلح علة للضمان قلنا لا نسلم أنه لا يصلح علة للضمان على المالك. وقد يقال: الحكم هاهنا هو التلف لا الضمان, ولا نزاع في صحة إضافته إلى فعل البهيمة. قلنا: وكذلك إلى الفعل الطبيعي فينبغي أن لا يضمن في صورة شق الزق.(2/306)
مثال آخر: وكذا إذا فتح باب قفص، أو إصطبل. خلافا لمحمد رحمه الله تعالى له أن فعل الطير والبهيمة هدر، فإذا خرجا على فور الفتح يجب الضمان كما في سيلان ماء الزق فإن النفار طبيعي للطير كالسيلان للماء ولهما أنه هدر في إثبات الحكم لا في قطعه عن الغير كالكلب يميل على سنن الإرسال.
وإذا قال الولي سقط وقال الحافر أسقط نفسه فالقول له لأنه يدعي صلاحية العلة للإضافة وقطع الإضافة عن الشرط، فهو متمسك بالأصل بخلاف الجارح إذا ادعى الموت بسبب آخر؛ لأنه صاحب علة.
ـــــــ
قوله: "وإذا قال الولي" فإن عورض بأن الظاهر أن الإنسان لا يلقي نفسه في البئر. أجيب بأن التمسك بالظاهر إنما يصلح للدفع والولي محتاج إلى استحقاق الدية على العاقلة فلا بد من إقامة البينة على أنه وقع في البئر بغير تعمد منه.(2/307)
الشرط اسما و حكما
...
الشرط اسما وحكما
وأما شرط اسما لا حكما إذا علق الطلاق بشرطين فأولهما وجودا شرط اسما لا حكما حتى إذا وجد الأول في الملك لا الثاني لا تطلق وبالعكس تطلق خلافا لزفر لأن الملك شرط عند وجود الشرط لصحة الجزاء لا لصحة الشرط فيشترط عند الثاني لا الأول.
ـــــــ
قوله: "وأما شرط اسما لا حكما" كما إذا قال إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق فأول الشرطين بحسب الوجود شرط اسما لتوقف الحكم عليه في الجملة لا حكما لعدم تحقق الحكم عنده, فإن دخلت الدارين وهي في نكاحه طلقت اتفاقا, وإن أبانها فدخلت الدارين, أو دخلت إحداهما فأبانها فدخلت الأخرى لم تطلق اتفاقا وإن أبانها فدخلت إحداهما ثم تزوجها فدخلت الأخرى تطلق عندنا; لأن اشتراط الملك حال وجود الشرط إنما هو لصحة وجود الجزاء لا لصحة وجود الشرط بدليل أنها لو دخلت الدارين في غير الملك انحلت اليمين, ولا لبقاء اليمين; لأن محل اليمين هي الذمة فيبقى ببقائها, ولا يشترط إلا عند الشرط الثاني; لأنه حال نزول الجزاء المفتقر إلى الملك وبهذا يخرج الجواب عن وجه قول زفر رحمه الله تعالى إن الشرطين شيء واحد في وجود الجزاء, وفي أحدهما يشترط الملك, وكذا في الآخر.(2/307)
العلامة: وأما العلامة فقد ذكروا في نظيرها الإحصان للرجم؛ لأن الشرط ما يمنع انعقاد العلة إلى أن يوجد هو ووجوده متأخر عن وجود صورة العلة كدخول الدار مثلا وهنا علية الزنا لا تتوقف على إحصان يحدث متأخرا.
أقول: ما ذكروا هو تفسير الشرط التعليقي لا الشرط الحقيقي كالشهادة للنكاح والعقل للتصرفات ونحوها ثم إن كان الإحصان علامة لا شرطا فيثبت بشهادة الرجال مع النساء.
ـــــــ
وأما العلامة فقد ذكروا في نظيرها الإحصان للرجم; لأن الشرط ما يمنع انعقاد العلة إلى أن يوجد هو ووجوده متأخر عن وجود صورة العلة كدخول الدار مثلا وهنا علية الزنا لا تتوقف على إحصان يحدث متأخرا أقول ما ذكروا" وهو أن الشرط أمر متأخر عن وجود صورة العلة ويمنع انعقاد العلة إلى أن يوجد هو "هو تفسير الشرط التعليقي لا الشرط الحقيقي كالشهادة للنكاح والعقل للتصرفات ونحوهما" كالوضوء للصلاة وطهارة الثوب والبدن والمكان لها فالشرط التعليقي متأخر عن صورة العلة. أما الشرط الحقيقي, فلا يجب تأخره عن وجود العلة كالعقل والوضوء وغيرهما فكون الإحصان متقدما لا يدل على أنه ليس بشرط. "وهذا الإشكال اختلج في خاطري. والجواب عنه أن الشرط إما تعليقي وإما
................................................................................................
قوله: "وأما العلامة" هي على مقتضى تفسير المصنف رحمه الله تعالى ما تعلق بالشيء من غير تأثير فيه, ولا توقف له عليه بل من جهة أنه يدل على وجود ذلك الشيء فيباين الشرط والسبب والعلة والمشهور أنها ما يكون علما على الوجود من غير أن يتعلق به وجوب ولا وجود, إلا أنهم مثلوا فيه بالإحصان مع أن وجوب الرجم موقوف عليه وسماه بعضهم شرطا فيه معنى العلامة وبعضهم شرطا على الإطلاق لتوقف وجوب الرجم عليه, وأما تقدمه على وجود الزنا, فلا ينافي ذلك, فإن تأخر الشرط عن صورة العلة ليس بلازم بل من الشروط ما يتقدمها كشروط الصلاة وشهود النكاح كذا في الكشف, وهو حاصل الإشكال الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى. وأجاب عنه بأن لزوم التأخر عن صورة العلة إنما هو في الشرط التعليقي, وأما الحقيقي أعني ما يتوقف عليه الشيء عقلا, أو شرعا, فقد يتقدم على صورة العلة كشروط الصلاة وشهود النكاح, وقد يتأخر كالحفر المتأخر عن وجود ثقل زيد وقطع الحبل المتأخر عن وجود ثقل القنديل, والمتأخر لكونه أقوى بواسطة اتصاله بالحكم يسمى شرطا في معنى العلة, والمتقدم لعدم مقارنة الحكم يسمى علامة.
وحاصل هذا الكلام أن الإحصان شرط إلا أنه سمي علامة لمشابهته العلامة في عدم الاتصال بالحكم, ثم ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى محل نظر: أما أولا فلأن الشرط التعليقي قد يكون(2/308)
اعتراض وجوابه: فإن قيل: فيجب أن يثبت أيضا بشهادة كافرين شهدا على عبد مسلم زنى ومولاه كافر أنه أعتقه قلنا لشهادة النساء خصوص بالمشهود به دون المشهود عليه فإنها لا تثبت العقوبة.
ـــــــ
حقيقي والحقيقي قسمان أحدهما أن يكون الشرط متأخرا عن العلة كحفر البئر وقطع حبل القنديل والآخر أن يكون متقدما كالوضوء للصلاة" والعقل للتصرفات, فأما ما هو متأخر أقوى مما هو متقدم; لأن الحكم يقارن الشرط الذي هو متأخر عن صورة العلة فيضاف الحكم إليه, فهو شرط في معنى العلة بخلاف الشرط الذي هو متقدم فالإحصان هو الشرط الذي يكون متقدما على العلة ويسمى هذا الشرط علامة, وإذا لم يكن الحكم مضافا إليه لا يكون في حكم العلة فيمكن أن يثبت بشهادة الرجال مع النساء مع أنه لا يثبت العلة وهي الزنا بهذه الشهادة, ولما كان لي نظر في كون الإحصان علامة لا شرطا في معنى العلة قلت: "ثم إن كان الإحصان علامة لا شرطا" أي على تقدير كونه علامة لا شرطا في معنى العلة "يثبت بشهادة الرجال مع النساء. فإن قيل: فيجب أن يثبت أيضا بشهادة كافرين شهدا على عبد مسلم زنى
................................................................................................
متقدما, وإنما المتأخر ظهوره والعلم به كما في تعليق عتق العبد بكون قيده عشرة أرطال. وأما ثانيا فلأنه ليس كل شرط متقدم يسمى علامة كالطهارة للصلاة, ولا كل شرط متأخر يكون في معنى العلة كشهود اليمين على ما سبق. وأما ثالثا فلأن الشرط الذي في معنى العلة قد يتقدم على صورة العلة كما إذا كان ولادة من سقط في البئر بعد حفر البئر, فإن ثقله الذي هو العلة قد حصل بعد الشرط أعني إزالة الإمساك عن الأرض.
قوله: "ولما كان لي نظر في كون الإحصان علامة لا شرطا في معنى العلة" لقائل أن يقول: كونه علامة, وإن صلح محلا للنظر إلا أنه لا خفاء في أنه ليس شرطا في معنى العلة. إذ الشرط إنما يكون في معنى العلة إذا لم يعارضه علة صالحة لإضافة الحكم إليها كالزنا هاهنا مع أن الإحصان عبارة عن خصال حميدة بعضها مندوب إليه وبعضها مأمور به, فلا يصلح أن يكون في معنى العلة الموجبة للعقوبة المحضة.
قوله: "فإن قيل:" مبنى هذا السؤال على الرواية المذكورة في الأسرار وهي أن عتق هذا العبد لا يثبت بشهادة الكافرين, وإن كانت شهادتهما حجة على هذا العتق لولا الزنا; وذلك لأن قبول الشهادة في الإعتاق قبل: الزنا يستلزم إيجاب الرجم على المسلم ضرورة تحقق الإحصان, والمذكور في الهداية وأكثر الكتب أنه يثبت العتق تضررا على المولى الكافر, ولا يثبت سبق تاريخ الإعتاق على الزنا فيه من تضرر المسلم بوجوب الرجم عليه. والحاصل أن شهادتهما تتضمن ثبوت العتق وتقدمه على الزنا وضرر الأول يرجع إلى الكافر فتقبل والثاني إلى المسلم, فلا تقبل.
قوله: "وهنا لا يثبتها" أي في صورة ثبوت الإحصان بشهادة الرجال مع النساء لا تثبت بشهادة(2/309)
وهنا لا تثبتها؛ لأن الإحصان ليس إلا علامة لكن يتضمن ضررا بالمشهود عليه وهي لا تصلح لذلك وشهادة الكفار بالعكس فإنها لا تصلح على المسلم وهي تتضمن ضررا بالمسلم أي شهادة الكفار في هذه الصورة تتضمن ضررا بالمسلم فلا تصلح لذلك.
شهادة القابلة: وعلى هذا قالا إن شهادة القابلة على الولادة تقبل من غير فراش ولا حبل ظاهر ولا إقرار به لأنه لم يوجد هناإلا تعيين الولد وهي مقبولة فيه فأما النسب فإنما يثبت بالفراش السابق فيكون انفصاله علامة للعلوق السابق.
ـــــــ
ومولاه كافر أنه أعتقه" أي لما ذكرنا أن الإحصان يثبت بشهادة الرجال مع النساء مع أن الزنا لا يثبت الإحصان بشهادة الكافرين أيضا إذا شهدا على عبد مسلم زنى بأن مولاه أعتقه والحال أن مولاه كافر فتكون الشهادة على المولى الكافر فتقبل فيثبت عتقه والحرية من شرائط الإحصان فيثبت إحصانه بشهادة الكافر. "قلنا لشهادة النساء خصوص بالمشهود به دون المشهود عليه" أي في عدم القبول فإن العقوبات لا تثبت بشهادة الرجال مع النساء "فإنها لا تثبت العقوبة وهنا لا تثبتها; لأن الإحصان ليس إلا علامة لكن يتضمن ضررا بالمشهود عليه", وهو تكذيبه ورفع إنكاره بمنزلة الكافر "وهي تصلح لذلك" أي شهادة الرجال مع النساء تصلح للضرر على المشهود عليه, وهو المسلم.
"وشهادة الكفار بالعكس" فإنها لا تصلح على المسلم وهي تتضمن ضررا بالمسلم أي شهادة الكفار في هذه الصورة تتضمن ضررا بالمسلم, وهو العبد الذي أثبتوا حريته ليثبت عليه الرجم "فلا تصلح لذلك" أي لا تصلح شهادة الكفار للإضرار بالمسلم, وهو ما ذكر من تكذيبه ورفع إنكاره بمنزلة الكافر. "وعلى هذا" أي بناء على أن العلامة ليست في حكم العلة
................................................................................................
النساء العقوبة; لأن الإحصان علامة لا علة, أو سبب, أو شرط في معنى العلة ليكون إثباته إثبات العقوبة.
قوله: "وهو" يصلح الضمير للشهادة تذكيره باعتبار أن المصدر في معنى أن مع الفعل.
قوله: "وهو ما ذكر" أي إضرار المسلم في هذه الصورة تكذيبه في ادعائه الرق ودفع إنكاره لاستحقاقه الرجم وحاصل الكلام أن امتناع قبول شهادة النساء لخصوصية في المشهود به, وهو الحد وذلك منتف في الإحصان لأنه علامة لا موجب وامتناع قبول شهادة الكفار لخصوصية في المشهود عليه وهو كونه مسلما, فلا يقبل في الصورة المذكورة لتضرر العبد المسلم, فإن الرق مع الحياة خير من العتق مع الرجم.(2/310)
تعليق الطلاق بالولادة: وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل؛ لأنه إذا لم يوجد سبب ظاهر كان النسب مضافا إلى الولادة فشرط لإثباتها كمال الحجة بخلاف ما إذا وجد أحد الثلاثة وإذا علق بالولادة طلاق تقبل شهادة امرأة عليها في حقه عندهما؛ لأنه لما ثبت الولادة بها يثبت ما كان تبعا لها. لا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ لأن الولادة شرط للطلاق فيتعلق بها الوجود فيشترط لإثباته ما يشترط لإثبات حكمه كما في العلة.
ـــــــ
فيجوز أن يثبت بما لا يثبت به العلة. "قالا إن شهادة القابلة على الولادة تقبل من غير فراش" أي في المبتوتة والمتوفى عنها زوجها "ولا حبل ظاهر" عطف على قوله: من غير فراش "ولا إقرار به" عطف على قوله, ولا حبل أي بلا إقرار الزوج بالحبل "لأنه لم يوجد" هنا "أي في شهادة القابلة" إلا تعيين الولد وهي مقبولة فيه أي شهادة القابلة مقبولة في تعيين الولد, "فأما النسب فإنما يثبت بالفراش السابق فيكون انفصاله علامة للعلوق السابق. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل; لأنه إذا لم يوجد سبب ظاهر كان النسب مضافا إلى الولادة فشرط لإثباتها كمال الحجة بخلاف ما إذا وجد أحد الثلاثة", وهو إما الفراش وإما الحبل الظاهر وإما إقرار الزوج بالحبل. "وإذا علق بالولادة طلاق تقبل شهادة امرأة عليها في حقه" أي في حق الطلاق "عندهما; لأنه لما ثبت الولادة بها يثبت ما كان تبعا لها. لا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى; لأن الولادة شرط للطلاق فيتعلق بها الوجود فيشترط لإثباته" أي لإثبات الشرط "ما يشترط لإثبات حكمه", وهو الطلاق "كما في العلة" فإنه يشترط لإثبات العلة ما يشترط لإثبات حكمها. "على أن هذه الحجة ضرورية, فلا تتعدى" أي شهادة المرأة الواحدة حجة ضرورية لا تقبل إلا فيما لا يطلع عليه الرجال, وهو الولادة, فلا تتعدى عنه إلى ما لا ضرورة فيه, وهو الطلاق; لأن الطلاق مما يطلع عليه الرجال, فلا يقبل فيه شهادة الواحدة. "كما في
................................................................................................
قوله: "وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل" شهادة القابلة في الصورة المذكورة; لأن الولادة في حقنا ليست بعلامة بل بمنزلة العلة المثبتة للنسب ضرورة أنا لا نعلم ثبوت النسب إلا بها فيشترط لإثباتها كمال الحجة رجلا, أو رجل وامرأتان بخلاف ما إذا وجد الفراش القائم, أو الحبل الظاهر, أو إقرار الزوج بالحبل, فإن كلا من ذلك دليل ظاهر يستدل إليه ثبوت النسب فتكون الولادة علامة معرفة.
قوله: "وإذا علق بالولادة طلاق" يعني فيما إذا لم يكن الحبل ظاهرا, ولا الزوج مقرا به إذ لو وجد أحدهما فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يثبت بمجرد إقرارها بالولادة كما في تعليق الطلاق بالحيض ووجه إيراد هذه المسألة هاهنا أن الولادة علامة لثبوت النسب, وإن جعلت شرطا تعليقا فيعتبر عندهما جانب كونه علامة حتى يثبت بشهادة امرأة فيثبت ما يتبعها من الطلاق وغيره, وعنده يعتبر جانب الشرطية حتى لا يثبت في حق الطلاق إلا بشهادة رجلين, أو رجل وامرأتين, ولا امتناع في ثبوت الولادة في حق نفسها لا في حق وقوع الطلاق كما أنه لا امتناع في ثبوت ثيابة الأمة في نفسها لا في حق استحقاق الرد على البائع فيما إذا اشترى أمة على أنها بكر فادعى المشتري على(2/311)
العلامة ليست في حكم العلة
على أن هذه الحجة ضرورية، فلا تتعدى كما في شهادة المرأة الواحدة على ثيابة أمة بيعت على أنها بكر في حق الرد يحلف البائع. وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
ـــــــ
شهادة المرأة الواحدة على ثيابة أمة بيعت على أنها بكر" في حق الرد فإن شهادة المرأة لا تقبل في حق الرد وإن كانت مقبولة في حق البكارة والثيابة فكذا هنا "بل يحلف البائع. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: الأصل في المسلم العفة والقذف كبيرة, ثم العجز عن إقامة البينة يعرف ذلك" أي كونها كبيرة أي يتبين بالعجز عن إقامة البينة أن القذف حين وجد كان كبيرة "لا أنه يصير كبيرة عند العجز فيكون العجز علامة لجناية فيثبت سقوط الشهادة, وهو حكم شرعي سابق عليه" أي على العجز عن إقامة البينة فمجرد القذف يسقط الشهادة عند الشافعي رحمه الله تعالى وإن لم يجلد, وعندنا لا تسقط شهادته بمجرد القذف بل إنما تسقط إذا تحقق العجز عن إقامة البينة فأقيم عليه الجلد. "بخلاف الجلد إذ هو فعل حسي" أي لا يمكن إقامة الجلد سابقا عن العجز عن إقامة البينة فإنه فعل حسي لا مرد له فإن أقيم الجلد قبل العجز فربما يكون بغير حق أما عدم قبول الشهادة فإنه حكم شرعي يمكن سبقه فإن تحقق
................................................................................................
أنها ثيب وشهدت امرأة بذلك. وتحقيق ذلك أن للولادة أصلا ووصفا, وهو كونها شرطا والثابت بشهادة الواحدة هو الأول دون الثاني, وأما ثبوت النسب, فإنما يكون بالفراش القائم وبالولادة يظهر أن النسب كان ثابتا بالفراش القائم وقت العلوق كذا في شرح التقويم.
قوله: "بخلاف الجلد" جواب عما يقال: إن الجلد ورد الشهادة قد رتبا على الرمي والعجز عن إقامة البينة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية, فإذا كان العجز علامة في حق رد الشهادة فكذا في حق الجلد فينبغي أن يقدم الجلد على العجز لا سيما أن القران في النظم يوجب القران في الحكم عند الشافعي. فإن قيل: إن قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} عطف على: {يَرْمُونَ} فيكون شرطا مثله كما إذا قيل: إن دخلت الدار, ثم كلمت زيدا فأنت طالق وعبدي حر كان تكلم زيد شرطا للطلاق والعتق جميعا مثل الدخول في الدار, فلو جعل مجرد الدخول شرطا في حق العتق لزم إلغاء الشرط الثاني في حقه قلنا لو سلم أن قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا} عطف على: {فَاجْلِدُوهُمْ} لا على مجموع الجملة الاسمية, فإنما جعلنا العجز عن إقامة البينة لغوا في حق رد الشهادة لما لاح من الدليل على أنه في حقه علامة لا شرط حقيقي, وفي حق الجلد شرط لا علامة, وهو أن القذف في نفسه كبيرة فيكفي في رد الشهادة. وتقدم الجلد على العجز ليس بممكن بل يتوقف عليه فيكون شرطا.(2/312)
الأصل في المسلم العفة والقذف كبيرة، ثم العجز عن إقامة البينة يعرف ذلك لا أنه يصير كبيرة عند العجز فيكون العجز علامة لجناية فيثبت سقوط الشهادة، وهو حكم شرعي سابق عليه بخلاف الجلد إذ هو فعل حسي قلنا القذف في نفسه ليس كبيرة فإن الشهادة عليه مقبولة حسبة وهو لا يحل إلى أن يوجد الشهود، فإذا مضى زمان يتمكن من إحضارهم، ولم يحضرهم صار كبيرة فيكون العجز شرطا والعفة أصل لكن لا تصلح لإثبات رد الشهادة.
ثم إن أتى بالبينة بعدما جلد يبطل رد شهادته ويحد الزاني وإن تقادم العهد يبطل الرد ولا يثبت الحد.
ـــــــ
العجز يظهر أن عدم قبول الشهادة كان ثابتا حين القذف وإن لم يتحقق العجز يظهر أنه كان مقبول الشهادة وكان صادقا في ذلك القذف.
"قلنا القذف في نفسه ليس كبيرة فإن الشهادة عليه مقبولة حسبة" أي حسبة لله تعالى, "وهو" أي القذف "لا يحل إلى أن يوجد الشهود, فإذا مضى زمان يتمكن من إحضارهم, ولم يحضرهم صار كبيرة فيكون العجز شرطا" أي لرد القاضي شهادة الرامي "والعفة أصل لكن لا تصلح لإثبات رد الشهادة" لما عرفت أن الأصل لا يصلح حجة للإثبات بل للدفع فقط. "ثم إن أتى بالبينة" على الزنا من غير تقادم العهد "بعدما جلد يبطل رد شهادته ويحد الزاني وإن تقادم العهد" أي إن أتى بالبينة على الزنا بعدما جلد الرامي لكن بعد تقادم العهد "يبطل الرد" أي رد شهادة الرامي "ولا يثبت الحد" أي حد الزنا على المقذوف; لأن تقادم العهد صار شبهة في درء الحد.
"باب المحكوم به وهو قسمان ما ليس له إلا وجود حسي وما له وجود آخر شرعي فالأول بعد أن يكون متعلقا لحكم شرعي إما أن يكون سببا لحكم آخر أو لم يكن
................................................................................................
قوله: "قلنا" يعني لا نسلم أن القذف في نفسه كبيرة موجبة لرد الشهادة بل هو متردد بين أن يكون جناية فيكون فسقا وبين أن يكون حسبة لله تعالى منعا للفاحشة, ولو كان في نفسه كبيرة وفاحشة لم تكن الشهادة عليه مقبولة أصلا. فإن قيل: لما احتمل الحسبة, ولم يكن جناية محضة كان ينبغي أن لا يتعلق به الحد ورد الشهادة. قلنا: هو وإن احتمل أن يكون حسبة إلا أنه لا يحل الإقدام عليه, وإن كان صادقا إلا أن يوجد الشهود في البلد, فإذا مضى زمان يتمكن من إحضار الشهود, وهو إلى آخر المجلس في ظاهر الرواية وإلى ما يراه الإمام, وهو المجلس الثاني في رواية عن أبي يوسف رحمه الله, ولم يحضرهم صار القذف كبيرة مقتصرة على الحال لا مستندة إلى الأصل لاحتمال أنه قذف وله بينة عادلة إلا أنه عجز عن إحضارهم لموتهم, أو غيبتهم, أو امتناعهم عن الأداء, وإذا كان ثبوت الفسق ورد الشهادة مقتصرا على حال العجز كان العجز شرطا لا علامة. فإن قيل: لو كان القذف مترددا بين الحسبة والجناية فكما اعتبر جهة الجناية رعاية لجانب المقذوف بإقامة الحد على(2/313)
المحكوم به
مدخل
...
المحكوم به
"باب المحكوم به" وهو قسمان ما ليس له إلا وجود حسي وما له وجود آخر شرعي فالأول بعد أن يكون متعلقا لحكم شرعي إما أن يكون سببا لحكم آخر أو لم يكن كالزنا فإنه حرام وهو سبب لوجوب الحد، وكالأكل، ونحوه، وكذا الثاني كالبيع فإنه مباح، وهو سبب لحكم آخر، وهو الملك، وكالصلاة.
ـــــــ
كالزنا فإنه حرام وهو سبب لوجوب الحد, وكالأكل, ونحوه, وكذا الثاني كالبيع فإنه مباح, وهو سبب لحكم آخر, وهو الملك, وكالصلاة" المحكوم به, وهو فعل المكلف قسمان: ما ليس له إلا وجود حسي كالزنا, والأكل, ونحوه, وما له وجود شرعي مع الوجود الحسي فالمحكوم به لا بد أن يكون متعلقا بحكم شرعي فبعد أن يكون كذلك لا يخلو من أن يكون سببا لحكم شرعي آخر أو لم يكن فحصل أربعة أنواع: الأول ما ليس له إلا وجود حسي وهو متعلق بحكم شرعي وسبب لحكم شرعي آخر كالزنا فإنه حرام وسبب لحكم شرعي, وهو وجوب الحد, والثاني ما ليس له إلا وجود حسي, وهو متعلق بحكم شرعي لكنه ليس سببا لحكم شرعي كالأكل أما كونه متعلقا بحكم شرعي فلأن الأكل تارة واجب, وأخرى حرام, والثالث ما له وجود شرعي, وهو متعلق بحكم شرعي, وسبب لحكم شرعي كالبيع فإنه مباح, وسبب للملك والرابع ما له وجود شرعي, ومتعلق بحكم شرعي, وليس سببا لحكم شرعي كالصلاة.
"والوجود الشرعي بحسب أركان وشرائط اعتبرها الشرع فإن وجدت فإن حصل معها الأوصاف المعتبرة شرعا الغير الذاتية يسمى صحيحا, وإلا فاسدا" أي أن لم يحصل معها
................................................................................................
القاذف ينبغي أن يعتبر جهة الحسبة رعاية لجانب القاذف. قلنا: قد اعتبر ذلك في أنه إن أتى بالبينة على زنا المقذوف قبل تقادم العهد أقيم الحد عليه, وإن أتى بها بعده بطل رد شهادة القذف وصار مقبول الشهادة لكن لم يقم الحد على المقذوف; لأن تقادم العهد شبهة يدرأ بها الحد واختلفوا في حد التقادم فأشار في الجامع الصغير إلى ستة أشهر وفوضه أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى رأي القاضي في كل عصر, والأصح أنه مقدر بشهر.
قوله: "باب المحكوم به وهو" الفعل الذي تعلق به خطاب الشارع فلا بد من تحققه حسا أي من وجوده في الواقع بحيث يدرك بالحس أو بالعقل إذ الخطاب لا يتعلق بما لا يكون له وجود أصلا والمراد بالوجود الحسي ما يعم مدركات العقل بطريق التغليب ليدخل فيه مثل تصديق القلب والنية في العبادات ثم مع وجوده الحسي إما أن يكون له وجود شرعي أو لا وكل من القسمين إما أن يكون سببا لحكم(2/314)
الوجود الشرعي: والوجود الشرعي بحسب أركان وشرائط اعتبرها الشرع فإن وجدت فإن حصل معها الأوصاف المعتبرة شرعا الغير الذاتية يسمى صحيحا، وإلا فاسدا وإن لم توجد والوجود الشرعي بحسب أركان وشرائط اعتبرها الشرع فإن وجدت فإن حصل معها الأوصاف المعتبرة شرعا الغير الذاتية يسمى صحيحا، وإلا فاسدا وإن لم توجد يسمى باطلا والفاسد صحيح بأصله دون وصفه فأما الصحيح المطلق فيراد به الأول.
حقوق الله وحقوق العباد: ثم المحكوم به إما حقوق الله أو حقوق العباد أو ما اجتمعا فيه والأول غالب أو ما اجتمعا فيه، والثاني غالب.
ـــــــ
الأوصاف المذكورة يسمى فاسدا "وإن لم توجد" أي الأركان, والشرائط "يسمى باطلا والفاسد صحيح بأصله دون وصفه فأما الصحيح المطلق فيراد به الأول" أي ما وجدت الأركان, والشرائط, وحصلت الأوصاف المذكورة. "ثم المحكوم به إما حقوق الله أو حقوق العباد أو ما اجتمعا فيه والأول غالب أو ما اجتمعا فيه, والثاني غالب أما حقوق الله فثمانية عبادات خالصة كالإيمان, وفروعه, وكل مشتمل على الأصل, والملحق به, والزوائد فالإيمان أصله التصديق, والإقرار ملحق به حتى إن من تركه مع القدرة عليه لم يكن مؤمنا عند الله تعالى, وعند الناس, وهذا عند بعض علمائنا أما عند البعض فالإيمان هو التصديق والإقرار شرط
................................................................................................
شرعي أو لا ومعنى الوجود الشرعي أن يعتبر الشارع أركانا وشرائط يحصل من اجتماعها مجموع مسمى باسم خاص يوجد بوجود تلك الأركان والشرائط وينتفي بانتفائها كالصلاة والبيع ومعنى سببية الفعل لحكم شرعي أن يجعل الشارع ذلك الفعل بالتعيين سببا لحكم شرعي هو صفة لفعل المكلف كالزنا لوجوب الحد أو أثر له كالبيع للملك بخلاف الأكل فإن الشارع لم يجعله بالتعيين سببا لبطلان الصوم مثلا بل جعل الإمساك من أركان الصوم فيلزم بطلانه بانتفائه ثم ما له وجود شرعي إن وجد بجميع أركانه وشرائطه مع أوصاف أخر معتبرة في الشرع في ذلك الفعل لكن لا من حيث إنها ذاتية لها فهو صحيح بالأصل والوصف وهو المراد بالصحيح عند الإطلاق وإن وجدت الأركان والشرائط دون الأوصاف المعتبرة الغير الذاتية كالبيع بالخمر أو الخنزير يسمى فاسدا من قولهم فسد الجوهر إذا ذهب رونقه وطراوته وبقي أصله وإن انتفى شيء من الأركان والشرائط يسمى باطلا كبيع المضامين والملاقيح لانتفاء الركن وكالنكاح بلا شهود لانتفاء الشرط وكثيرا ما يطلق أحدهما على الآخر كما قالوا: بيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد أي باطل وأطلقوا على البيع بالميتة والدم تارة لفظ الفاسد وأخرى لفظ الباطل وعند الشافعي رحمه الله تعالى هما لفظان مترادفان ولا مشاحة في الاصطلاح.
قوله: "ثم المحكوم به إما حقوق الله تعالى" المراد بحق الله ما يتعلق به النفع العام من غير اختصاص بأحد فينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه وإلا فباعتبار التخليق الكل سواء في الإضافة إلى الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وباعتبار التضرر أو الانتفاع هو متعال عن الكل ومعنى حق العبد ما يتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير فظهر بما ذكرنا أنه لا يتصور قسم آخر اجتمع فيه حق الله تعالى وحق العبد على التساوي في اعتبار الشارع.(2/315)
حقوق الله تعالى: أما حقوق الله فثمانية عبادات خالصة كالإيمان، وفروعه، وكل مشتمل على الأصل، والملحق به، والزوائد فالإيمان أصله التصديق، والإقرار ملحق به حتى إن من تركه مع القدرة عليه لم يكن مؤمنا عند الله تعالى، وعند الناس، وهذا عند بعض علمائنا.
أما عند البعض فالإيمان هو التصديق والإقرار شرط لإجراء الأحكام الدنيوية وهو أصل في حقها اتفاقا حتى صح إيمان المكروه في حق الدنيا، ولا يصح ردته لأن الأداء دليل محض لا ركن، وزوائد الإيمان الأعمال.
ـــــــ
لإجراء الأحكام الدنيوية وهو أصل في حقها" أي الإقرار أصل في حق الأحكام الدنيوية "اتفاقا حتى صح إيمان المكروه في حق الدنيا, ولا يصح ردته لأن الأداء دليل محض لا ركن, وزوائد الإيمان الأعمال, وعبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر فلم يشترط لها كمال الأهلية, ومؤنة فيها عقوبة كالخراج فلا يبتدأ على المسلم لكنه يبقى لأنه" أي لأن الخراج "لما تردد بين الأمرين" أي بين العقوبة والمؤنة "لا يبطل بالشك على أن الوصف الأول", وهو المؤنة "غالب" على ما سبق أنه مؤنة باعتبار الأصل, وهو الأرض عقوبة باعتبار الوصف "ومؤنة فيها عبادة كالعشر فلا يبتدأ على الكافر لكن يبقى عند محمد كالخراج على السلم وعند أبي يوسف يضاعف; لأن فيه" أي في العشر "معنى العبادة, والكفر ينافيها من كل وجه فأما الإسلام فلا ينافي العقوبة من كل وجه فيضاعف" أي العشر "إذ هي" أي المضاعفة "أسهل من
................................................................................................
قوله: "أما حقوق الله تعالى فثمانية: عبادات خالصة كالإيمان" وعقوبات خالصة كالحدود وقاصرة كحرمان الميراث وحقوق دائرة بين الأمرين كالكفارات وعبادات فيها معنى المؤنة كصدقة الفطر ومؤنة فيها معنى العبادة كالعشر ومؤنة فيها شبهة العقوبة كالخراج وحق قائم بنفسه كخمس الغنائم وذلك بحكم الاستقراء.
قوله: "وكل" أي كل واحد من الإيمان وفروعه مشتمل على الأصل والملحق به والزوائد بمعنى أن في جملة الفروع أصلا وملحقا به وزوائد لا بمعنى أن كل واحد من الفروع مشتمل على الثلاثة والمراد بالفروع ما سوى الإيمان من العبادات لابتنائها على الإيمان واحتياجها إليه ضرورة أن من لم يصدق بالله لم يتصور منه التقرب إليه وكون الطاعات من فروع الإيمان وزوائده لا ينافي كونها في نفسها مما له أصل, وملحق به, وزوائد, فأصل الإيمان هو التصديق بمعنى إذعان القلب, وقبوله لوجود الصانع, ووحدانيته, وسائر صفاته, ونبوة محمد عليه السلام, وجميع ما علم مجيئه به بالضرورة على ما هو معنى الإيمان في اللغة إلا أنه قيد بأشياء مخصوصة, ولهذا قال النبي عليه السلام: "الإيمان أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه ورسله" الحديث فنبه على أن المراد بالإيمان معناه اللغوي, وإنما الاختصاص في المؤمن به فمعنى التصديق هو الذي يعبر عنه بالفارسية(2/316)
وعبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر فلم يشترط لها كمال الأهلية، ومؤنة فيها عقوبة كالخراج فلا يبتدأ على المسلم لكنه يبقى لأنه ، لما تردد بين الأمرين لا يبطل بالشك على أن الوصف الأول غالب.
ومؤنة فيها عبادة كالعشر فلا يبتدأ على الكافر لكن يبقى عند محمد كالخراج على السلم وعند أبي يوسف يضاعف؛ لأن فيه معنى العبادة، والكفر ينافيها من كل وجه فأما الإسلام فلا ينافي العقوبة من كل وجه فيضاعف إذ هي أسهل من الإبطال أصلا.
ـــــــ
الإبطال أصلا" اعلم أن محمدا قاس إبقاء العشر على الكافر على إبقاء الخراج على المسلم فقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن في العشر معنى العبادة والكفر ينافيها بالكلية فيجب تغيير العشر أما الخراج فإن فيه معنى العقوبة, والإسلام لا ينافي العقوبة من كل وجه فيبقى الخراج على المسلم قوله فيضاعف كلمة التعقيب, وهي الفاء ترجع إلى قوله, والكفر ينافيها فلا بد من تغيير العشر, والمضاعفة أسهل من الإبطال فيضاعف إذ هي في حقه مشروع في الجملة.
................................................................................................
ب "كرويدن وراست كوي داشتن", وهو المراد بالتصديق الذي جعله المنطقيون أحد قسمي العلم على ما صرح به رئيسهم, ولهذا فسره السلف بالاعتقاد, والمعرفة مع اتفاقهم على أن بعض الكفار كانوا يعرفون النبي عليه السلام كما يعرفون أبناءهم, ويستيقنون أمره لا أنهم استكبروا, ولم يذعنوا فلم يكونوا مصدقين, والملحق بأصل الإيمان هو الإقرار باللسان لكونه ترجمة عما في الضمير, ودليلا على تصديق القلب, وليس بأصل لأن معدن التصديق هو القلب, ولهذا قد يسقط الإقرار عند تعذره كما في الأخرس أو تعسره كما في المكره, وكون الإقرار ركنا من الإيمان ملحقا بأصله إنما هو عند بعض العلماء كالإمام السرخسي والإمام فخر الإسلام رحمهما الله تعالى, وكثير من الفقهاء, وعند بعضهم الإيمان هو التصديق وحده, والإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا حتى لو صدق بالقلب, ولم يقر باللسان مع تمكنه منه كان مؤمنا عند الله تعالى, وهذا أوفق باللغة والعرف إلا أن في عمل القلب خفاء فنيطت الأحكام بدليله الذي هو الإقرار, ولهذا اتفق الفريقان على أنه أصل في الأحكام الدنيا لابتنائها على الظاهر حتى لو أكره الحربي أو الذمي فأقر صح إيمانه في حق أحكام الدنيا مع قيام القرينة على عدم التصديق, ولو أكره المؤمن على الردة أي التكلم بكلمة الكفر فتكلم بها لم يصر مرتدا في حق أحكام الدنيا لأن التكلم بكلمة الكفر دليل الكفر فلا يثبت حكمه مع قيام المعارض, وهو الإكراه, وركنه إنما هو تبدل الاعتقاد.
وزوائد الإيمان هي الأعمال لما ورد في الأحاديث من أنه لا إيمان بدون الأعمال نفيا لصفة الكمال بناء على أنها من متممات الإيمان, ومكملاته الزائدة عليه, وأما الفروع فالأصل فيها الصلاة لأنها عماد الدين, وتالية الإيمان شرعت شكرا للنعم الظاهرة والباطنة لما فيها من أعمال الجوارح(2/317)
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينقلب خراجا إذ التضعيف أمر ضروري فلا يصار إليه مع إمكان الأصل وحق قائم بنفسه كخمس الغنائم، والمعادن، وعقوبات كاملة كالحدود، وقاصرة كحرمان الميراث بالقتل فلا يثبت في حق الصبي لأنه لا يوصف بالتقصير والبالغ الخاطئ مقصر فلزمه الجزاء القاصر ولا في القتل بسبب والشاهد إذا رجع لأنه جزاء المباشر.
ـــــــ
"وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينقلب خراجا إذ التضعيف أمر ضروري فلا يصار إليه مع إمكان الأصل", وهو الخراج; لأن التضعيف ثبت بإجماع الصحابة بخلاف القياس في قوم بأعيانهم; لأن تلك الطائفة كفار لا يؤخذ منهم الجزية, وغيرهم من الكفار يؤخذ منهم
................................................................................................
وأفعال القلب, والملحق به الصوم من حيث إنه عبادة بدنية خالصة فيها تطويع النفس الأمارة لخدمة خالقها, لا مقصودة بالذات وزوائدها مثل الاعتكاف المؤدي إلى تعظيم المسجد, وتكثير الصلاة حقيقة أو حكما بالانتظار على شريطة الاستعداد.
قوله: "وعبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر", وسميت بذلك لأن جهة المؤنة فيها هي وجوبها على الإنسان بسبب رأس الغير كالنفقة, وجهات العبادة كثيرة مثل تسميتها صدقة وكونها طهرة للصائم, واشتراط النية في أدائها, ونحو ذلك مما هو من أمارات العبادة ولما فيها من معنى المؤنة لم يشترط لها كمال الأهلية المشروطة في العبادات الخالصة فوجبت في مال الصبي والمجنون اعتبارا لجانب المؤنة خلافا لمحمد فإنه اعتبر جانب العبادة لكونها أرجح.
قوله: "ومؤنة فيها عقوبة" لما كانت المؤنة في العشر, والخراج باعتبار الأصل, وهو الأرض على ما سبق تحقيقه في بحث السبب, والعبادة والعقوبة باعتبار الوصف, وهو النماء في العشر والتمكن من الزراعة في الخراج سميا مؤنة فيها معنى العبادة والعقوبة ولما كان في الخراج معنى العقوبة, والذل, والمسلم أهل للكرامة, والعز لم يصح ابتداء الخراج عليه حتى لو أسلم أهل الدار طوعا أو قسمت الأراضي بين المسلمين لم يصح وضع الخراج عليهم لكن صح إبقاء الخراج على المسلم حتى لو اشترى مسلم من كافر أرض خراج كان عليه الخراج لا العشر لأن الخراج لما تردد بين العقوبة الغير اللائقة بالمسلم والمؤنة اللائقة به لم يصح إبطاله بالشك, ولأن جهة المؤنة راجحة فيه لكونها باعتبار الأصل أعني الأرض, والمؤمن من أهل المؤنة فيصح بقاء, وإن لم يصح ابتداء, ولما كان في العشر معنى العبادة لم يصح ابتداء على الكافر لأن الكفر ينافي القربة من كل وجه ولأن في العشر ضرب كرامة, والكفر مانع عنه مع إمكان الخراج كما أن في الخراج ضرب إهانة والإسلام مانع عنه مع إمكان العشر, وأما بقاء كما إذا ملك ذمي أرضا عشرية فعند محمد تبقى على العشر لأنه من مؤن الأرض, والكافر أهل للمؤنة, ومعنى القربة تابع فيسقط في حقه, وعند أبي يوسف يضاعف العشر لأن الكفر مناف للقربة فلا بد من تغيير العشر, والتضعيف تغيير للوصف فقط فيكون أسهل من إبطال العشر ووضع الخراج لما فيه من تغيير الأصل, والوصف جميعا, والتضعيف في حق الكافر مشروع في الجملة كصدقات بني تغلب, وما يمر به الذمي على العاشر لا يقال فيه تضعيف(2/318)
الحقوق الدائرة بين العبادة و العقوبة
...
الحقوق الدائرة بين العبادة والعقوبة
وحقوق دائرة بين العبادة، والعقوبة كالكفارات فلا تجب على المسبب لأنها جزاء الفعل، والصبي لأنه لا يوصف بالتقصير خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فيهما لأنها
ـــــــ
الجزية فلا يكونون في حكمهم "وحق قائم بنفسه" أي لا يجب في ذمة أحد "كخمس الغنائم, والمعادن, وعقوبات كاملة كالحدود, وقاصرة كحرمان الميراث بالقتل فلا يثبت في حق الصبي لأنه لا يوصف بالتقصير والبالغ الخاطئ مقصر فلزمه الجزاء القاصر ولا في القتل بسبب" أي لا يثبت حرمان الميراث في القتل بسبب كحفر البئر, ونحوه. "والشاهد إذا رجع" أي شهد على مورثه بالقتل فقتل ثم رجع هو عن شهادته لم يحرم ميراثه "لأنه" أي حرمان الإرث "جزاء المباشرة, وحقوق دائرة بين العبادة, والعقوبة كالكفارات فلا تجب على المسبب" كحافر البئر "لأنها" أي الكفارات "جزاء الفعل, والصبي" أي لا تجب الكفارات على الصبي "لأنه لا يوصف بالتقصير خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فيهما" أي في السبب والصبي "لأنها عنده ضمان المتلف, وهذا لا يصح في حقوق الله تعالى, ولا الكافر" أي لا تجب الكفارات على الكافر "لوصف العبادة, وهي" أي العبادة "فيها غالبة" أي في الكفارات "إلا في كفارة الظهار"
................................................................................................
للقربة, والكفر ينافيها لأنا نقول: بعد التضعيف صار في حكم الخراج الذي هو من خواص الكفارة, وخلا عن وصف القربة, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينقلب العشر خراجا لأن العشر لم يشرع إلا بوصف القربة, والكفر ينافيه فيسقط بسقوطه, والتضعيف أمر ثبت بالإجماع على خلاف القياس في قوم معينين تعذر إيجاب الجزية أو الخراج عليهم خوفا من الفتنة لكثرتهم, وقربهم من الروم فلا يصار إليه مع إمكان ما هو أصل في الكافر, وهو الخراج.
قوله: "وحق قائم بنفسه" أي ثابت بذاته من غير أن يتعلق بذمة عبد يؤديه بطريق الطاعة كخمس الغنائم والمعادن فإن الجهاد حق الله تعالى إعزازا لدينه, وإعلاء لكلمته فالمصاب به كله حق الله تعالى إلا أنه جعل أربعة أخماس للغانمين امتنانا واستبقى الخمس حقا له لا حقا لزمنا أداؤه طاعة, وكذا المعادن, ولهذا جاز صرف خمس المغنم إلى الغانمين, وإلى آبائهم, وأولادهم وخمس المعدن إلى الواجد عند الحاجة.
قوله: "وقاصرة كحرمان الميراث" فإنه حق الله تعالى إذ لا نفع فيه للمقتول ثم إنه عقوبة للقاتل لكونه غرما لحقه بجنايته حيث حرم مع علة الاستحقاق, وهي القرابة لكنها قاصرة من جهة أن القائل لم يلحقه ألم في بدنه ولا نقصان في ماله بل امتنع ثبوت ملكه في تركة المقتول, ولما كان الحرمان عقوبة, وجزاء للقتل أي لمباشرة الفعل نفسه بأن يتصل فعله بالمقتول, ويحصل أثره بناء على أن الشارع رتب الحكم على الفعل حيث قال: لا ميراث للقاتل لم يثبت في حق الصبي إذا قتل مورثه عمدا أو خطأ لأن فعله لا يوصف بالحظر, والتقصير لعدم الخطاب, والجزاء يستدعي ارتكاب محظور, ولا في القتل بالسبب بأن حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها مورثه, وهلك أو شهد على(2/319)
عنده ضمان المتلف، وهذا لا يصح في حقوق الله تعالى، ولا الكافر لوصف العبادة، وهي فيها غالبة إلا في كفارة الظهار منكر من القول وزور، وكذا كفارة الفطر لقوله
ـــــــ
فإن وصف العقوبة فيها غالبة "لأنه" أي الظهار "منكر من القول وزور, وكذا كفارة الفطر" أي وصف العقوبة غالبة فيها "لقوله عليه السلام: "فعليه ما على المظاهر" ", ولإجماعهم على أنها لا تجب على الخاطئ, ولأن الإفطار عمدا ليس فيه شبهة الإباحة ثم ورد على هذا أن الإفطار عمدا لما لم يكن فيه شبهة الإباحة ينبغي أن يكون كفارة الفطر عقوبة محضة فلدفع هذا الإشكال قال:
................................................................................................
مورثه بالقتل فقتل ثم رجع هو عن شهادته فإن السبب ليس بقتل حقيقة, وإطلاق السبب على الحفر باعتبار أنه شرط في معنى السبب أي العلة فإن قيل: قد ثبت الحرمان بدون التقصير كمن قتل مورثه خطأ فالجواب أن البالغ الخاطئ يوصف بالتقصير لكونه محل الخطاب إلا أن الله تعالى رفع حكم الخطأ في بعض المواضع تفضلا منه, ولم يرفعه في القتل لعظم خطر الدم.
قوله: "لأنها" أي الكفارات عند الشافعي رحمه الله تعالى ضمان المتلف, ولا فرق في التلف بين المباشرة, والتسبب, واعترض عليه بأن ضمان المتلف لا يصح في حقوق الله تعالى لأنه منزه عن أن يلحقه خسران محتاج إلى جبره بل الضمان في حقوقه جزاء للفعل قتل المراد بالمتلف هو الحق الثابت لصاحب الشرع الفائت بفعل يضاده كالاستعباد الفائت بالقتل وليس المراد بالمتلف هو المحل أما في القتل فلأن ضمانه الدية أو القصاص, وأما في غيره فظاهر.
قوله: "وهي" أي العبادة غالبة في الكفارات لأنها صوم أو إعتاق أو صدقة يؤمر بها بطريق الفتوى دون الجبر, واستثنى القوم من هذا الحكم كفارة الفطر فإن جهة العقوبة فيها غالبة متمسكين بقوله عليه الصلاة والسلام: "من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر" فذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى أنهم لما جعلوا التشبيه بكفارة الظهار دليلا على كون جهة العقوبة غالبة لزم أن تكون كفارة الظهار أيضا كذلك ثم استدل عليه بأن الظهار منكر من القول وزور فتكون جهة الجناية غالبة فيلزم أن تكون في جزائها جهة العقوبة غالبة, وهذا فاسد نقلا وحكما واستدلالا أما الأول فلأن السلف قد صرحوا بأن جهة العبادة في كفارة الظهار غالبة, وأما الثاني فلأن من حكم ما تكون العقوبة فيه غالبة أن يسقط, ويتداخل ككفارة الصوم حتى لو أفطر في رمضان مرارا لم يلزمه إلا كفارة واحدة, وكذا في رمضانين عند أكثر المشايخ, ولا تدخل في كفارة الظهار حتى لو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثا في مجلس واحد, أو مجالس متفرقة لزمه بكل إظهار كفارة, وأما الثالث فلأن كون الظهار منكر القول وزورا إنما يصلح جهة لكونه جناية على ما هو مقتضى إيجاب الكفارة على أنه كان في الأصل للطلاق, ويحتمل التشبيه للكرامة, ولهذا يدخل قصور في الجناية فيصلح لإيجاب الحقوق الدائرة, ولولا ذلك لكان جزاؤه عقوبة محضة وأيضا ذكر بعضهم أن السبب هو الظهار الذي هو جناية محضة, والعود الذي هو إمساك بمعروف ونقض للقول الزور لأنه تعالى عطف العود على الظهار ثم رتب الحكم عليها إلا أنه جوز أداؤها قبل العود لأنها إنما(2/320)
عليه السلام: "فعليه ما على المظاهر"، ولإجماعهم على أنها لا تجب على الخاطئ، ولأن الإفطار عمدا ليس فيه شبهة الإباحة ثم ورد على هذا أن الإفطار عمدا لما لم يكن فيه شبهة الإباحة ينبغي أن يكون كفارة الفطر عقوبة محضة فلدفع هذا الإشكال قال: لكن الصوم لما كان حقا ليس مسلما إلى صاحبه ما دام فيه فلا يكون الإفطار إبطال حق ثابت بل هو منع عن تسليمه إلى المستحق فأوجبنا الزاجر بالوصفين.
ـــــــ
"لكن الصوم لما كان حقا ليس مسلما إلى صاحبه ما دام فيه" فلا يكون الإفطار إبطال حق ثابت بل هو منع عن تسليمه إلى المستحق فأوجبنا الزاجر بالوصفين أي العبادة والعقوبة "وهي" أي الكفارة "عقوبة وجوبا, وعبادة أداء وقد وجدنا في الشرع ما هذا شأنه" أي ما يكون عقوبة وجوبا وعبادة أداء "كإقامة الحدود, ولم نجد على العكس أي لم نجد في الشرع ما هو عقوبة أداء, وعبادة وجوبا", وإنما قال هذا جوابا لمن يقول لم يعكس "حتى تسقط بالشبهة كالحدود" تفريع على أن كفارة الفطر عقوبة "وبشبهة قضاء القاضي في المنفرد" أي المنفرد برؤية هلال رمضان إذا رد القاضي شهادته وقضى أن اليوم من شعبان فأفطر بالوقاع عامدا لا
................................................................................................
شرعت إنهاء للحرمة الثابتة بالظهار فيجوز تقديمها على الفعل لتنتهي الحرمة بها فيقع الفعل بصفة الحل, وذكر في الطريقة المعنية أنه لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها تكفير المعصية, وإذهاب السيئة خصوصا إذا صار معنى الزجر فيها مقصودا, وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصلة إلى الجنة لأنها مع حكمها الذي هو الثواب الموصل إلى الجنة تصير من أحكام المعصية فتصير المعصية بواسطة حكمها سببا للوصول إلى الجنة, وهو محال.
وذكر المحققون في الفرق بين كفارة الفطر, وغيرها أن داعية الجناية على الصوم لما كانت قوية باعتبار أن شهوة البطن أمر معود للنفس احتيج فيها إلى زاجر فوق ما في سائر الجنايات فصار الزجر فيها أصلا, والعبادة تبعا فإن دعته نفسه إلى الإفطار طلبا للراحة فتأمل فيما يجب عليه من المشقة انزجر لا محالة وفي باقي الكفارات بالعكس ألا يرى أنه لا معنى للزجر عن القتل الخطأ, وأن كفارة الظهار شرعت فيما يندب إلى تحصيل ما تعلقت الكفارة به تعلق الأحكام بالعلل, وهو العود, وكفارة اليمين شرعت فيما يجب تحصيل ما تعلقت به الكفارة تعلق الأحكام بالشروط كمن حلف لا يكلم أباه, وشرع الزاجر فيما يندب أو يجب تحصيله لا يليق بالحكمة.
قوله: "وكذا كفارة الفطر" يعني أن العقوبة غالبة فيه لوجوه: الأول قوله عليه الصلاة والسلام: "من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر" فعلى ما ذهب إليه المصنف رحمه الله من كون العقوبة غالبة في كفارة الظهار, وجه الاستدلال ظاهر, وأما على ما هو المذهب فقيل: وجهه أنه قيد الإفطار بصفة التعمد الذي به تتكامل الجناية ثم رتب عليه وجوب الكفارة فدل ذلك على غلبة العقوبة كما هو مقتضى كمال الجناية. الثاني الإجماع على أن الكفارة لا تجب على من أفطر خطأ بأن سبق الماء حلقه في المضمضة فلو لم يعتبر في سببها كمال الجناية لما سقطت بالخطأ ككفارة الخطأ, وفي كمال الجناية كمال العقوبة. الثالث أنه ليس في الإفطار عمدا شبهة الإباحة بوجه,(2/321)
تفريعات
وهي عقوبة وجوبا، وعبادة أداء وقد وجدنا في الشرع ما هذا شأنه كإقامة الحدود، ولم نجد على العكس حتى تسقط بالشبهة كالحدود وبشبهة قضاء القاضي في المنفرد.
فتسقط إذا أفطرت ثم حاضت أو مرضت، وكذا إذا أصبح صائما ثم سافر فأفطر.
ـــــــ
يجب عليه الكفارة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى "فتسقط إذا أفطرت ثم حاضت أو مرضت, وكذا إذا أصبح صائما ثم سافر فأفطر, وأما حقوق العباد فأكثر من أن يحصى وما اجتمعا فيه, والأول غالب حد القذف, وما اجتمعا فيه, والثاني غالب القصاص, وأما قاطع
................................................................................................
وهذا يدل على أن جنايته كاملة حتى كان ينبغي أن تكون كفارته عقوبة محضة إلا أنه لما كان منعا عن تسليم الحق إلى مستحقه لا إبطالا للحق الثابت إذ لا تتصور الجناية بالإفطار بعد التمام تحقق بهذا الاعتبار قصور ما في الجناية فلم يجعل الزاجر عقوبة محضة, ولا يخفى أن هذه الوجوه الثلاثة متقاربة جدا.
قوله: "وهي: أي الكفارات عقوبة وجوبا" بمعنى أنها وجبت أجزية لأفعال يوجد فيها معنى الخطر كالعقوبات, وعبادة أداء بمعنى أنها تتأدى بالصوم, والإعتاق, والصدقة, وهي قرب, وتؤدى بطريق الفتوى كالعبادات دون الاستيفاء كالعقوبات, وهذا الكلام مما أورده فخر الإسلام في كفارة الفطر خاصة يعني أنها وجبت قصدا إلى العقوبة والزجر بخلاف سائر الكفارات فإن العقوبة فيها تبع إذ لا معنى للزجر عن القتل الخطأ مثلا, وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
قوله: "كإقامة الحدود" فإن الحدود واجبة بطريق العقوبة, ويؤديها الإمام عبادة لأنه مأمور بإقامتها, وأما عكس ذلك وهو أن يجب الشيء عبادة, وقربة, ويكون أداؤه عقوبة للمكلف, وزجرا فلا يوجد في الشرع بل لا يتصور.
قوله: "فتسقط" هذه تفريعات على أن العقوبة غالبة في كفارة الفطر إلا أن توسط قوله وهي عقوبة وجوبا عبادة أداء مخرج للنظم عن نظامه, ولولا أن المصنف رحمه الله تعالى جعل الضمير في قوله, وهي عقوبة للكفارات لكنا نجعله لكفارة الفطر فيحسن النظم ويستقيم المعنى.
التفريع الأول إن كان كفارة الفطر تسقط بشبهة تورث جهة إباحة فيما هو محل الجناية كما إذا جامع على ظن عدم طلوع الفجر أو غروب الشمس, وقد بان خلافه بخلاف سائر الكفارات فإنه لا يختلف بين محل ومحل, وأما جماع زوجته أو أكل طعامه فلا يورث شبهة في إباحة الإفطار كمن قتل بسيفه أو شرب خمره.
الثاني أنها تسقط بشبهة قضاء القاضي كما إذا رأى هلال رمضان وحده فشهد عند القاضي فرد(2/322)
حقوق العباد
وأما حقوق العباد فأكثر من أن يحصى وما اجتمعا فيه، والأول غالب حد القذف، وما اجتمعا فيه، والثاني غالب القصاص، وأما قاطع الطريق فخالص حق الله تعالى عندنا.
ـــــــ
الطريق فخالص حق الله تعالى عندنا وهذه الحقوق تنقسم إلى أصل, وخلف ففي الإيمان أصله التصديق, والإقرار ثم صار خلفا في أحكام الدنيا" أي صار الإقرار المجرد قائما مقام الأصل في أحكام الدنيا "ثم صار أداء أحد أبوي الصغير خلفا عن أدائه حتى لا يعتبر
................................................................................................
شهادته لتفرده أو لفسقه فصام لقوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته" 1 ثم أفطر في هذا اليوم, ولو بالجماع لم يلزمه الكفارة لأن القضاء هاهنا نافذ ظاهرا فيورث شبهة حل الإفطار إذ لو كان نافذا ظاهرا, وباطنا لأورث حقيقة الحل, وزعمه أن قضاء القاضي يرد شهادته خطأ لا يخرجه عن كونه شبهة كما إذا شهدوا بالقصاص على رجل فقضى القاضي به فقتله الولي, وهو عالم بكذب الشهود ثم جاء المشهود بقتله حيا لا يجب القصاص على الولي, وعند الشافعي رحمه الله تعالى تجب الكفارة لأن هذا اليوم من رمضان في حقه بدليل قطعي, وجهل الغير لا يورث شبهة في حقه كما إذا شرب جماعة على مائدة, وعلم به البعض دون البعض.
الثالث أن المرأة أفطرت عمدا حتى لزمها الكفارة ثم حاضت في ذلك اليوم أو مرضت سقطت عنها الكفارة, وكذا الرجل إذا أفطر ثم مرض أما الحيض فلأنه يعدم الصوم من أول النهار, وأما المرض فلأنه يزيل استحقاق الصوم فيتحقق في هذا اليوم ما ينافي الصوم أو استحقاقه فيكون شبهة.
الرابع أنه لو أصبح صائما ثم سافر فأفطر لم تلزمه الكفارة, وإن لم يبح له الإفطار في ذلك اليوم لأن السفر المبيح في نفسه يورث شبهة, وأما إذا أنشأ السفر بعد الإفطار فلا تسقط الكفارة لأنها تجب حقا لله تعالى بما هو من فعل العبد اختيارا بخلاف الحيض أو المرض فإنه من قبل من له الحق.
قوله: "وما اجتمعا" أي وما اجتمع فيه الحقان وحق الله تعالى غالب حد القذف فإنه زاجر يعود نفعه إلى عامة العباد, وفيه دفع العار عن المقذوف, ولغلبة المعنى الأول يجري فيه التداخل حتى لو قذف جماعة بكلمة أو بكلمات متفرقة لا يقام عليه إلا حد واحد, ولا يجري فيه الإرث, ولا يسقط بعفو المقذوف, ويتنصف بالرق, ويفوض استيفاؤه إلى الإمام, وما اجتمع فيه الحقان وحق العبد فيه غالب القصاص فإن لله تعالى في نفس العبد حق الاستعباد, وللعبد حق الاستمتاع ففي شرعية
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 5، 11. مسلم في كتاب الصيام حديث 4، 7. الترمذي في ككتاب الصوم باب 5. النسائي في كتاب الصيام باب 8، 9. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 7.(2/323)
أصل الإيمان و خلفه
...
أصل الإيمان وخلفه
وهذه الحقوق تنقسم إلى أصل، وخلف ففي الإيمان أصله التصديق، والإقرارثم صار الإقرار خلفا في أحكام الدنيا أي صار الإقرار المجرد قائما مقام الأصل في أحكام الدنيا ثم أداء أحد أبوي الصغير خلفا عن أدائه حتى لا يعتبر التبعية إذا وجد أداؤه ثم تبعية أهل الدار، والغانمين خلفا عن أداء أحدهما إذا عدما.
وكذا الطهارة والتيمم لكنه خلف مطلق عندنا بالنص وعنده خلف ضروري حتى لم يجز أداء الفرائض بتيمم واحد وقال لم يجز في إناءين نجس وطاهر يتحرى ولا يتيمم وعندنا يتيمم إذا ثبت العجز بالتعارض:
ـــــــ
التبعية إذا وجد أداؤه" أي لما كان أداؤه أصلا, وأداء الأبوين خلفا فإذا وجد الأصل, وهو أداء الصغير العاقل لا تعتبر التبعية فيحكم بإيمانه أصالة لا بكفره تبعية "ثم تبعية أهل الدار, والغانمين خلفا عن أداء أحدهما إذا عدما" أي إذا عدم الأبوان.
"وكذا الطهارة والتيمم لكنه" أي التيمم "خلف مطلق عندنا بالنص أي إذا عجز عن
................................................................................................
القصاص إبقاء للحقين وإخلاء للعالم عن الفساد إلا أن وجوبه بطريق المماثلة, والمنبئة عن معنى الجبر وفيه معنى المقابلة بالمحل فكان حق العبد راجحا, ولهذا فوض استيفاؤه إلى الولي, وجرى فيه الاعتياض بالمال.
قوله: "وأما حد قاطع الطريق فخالص حق الله تعالى" قطعا كان أو قتلا لأن سببه محاربة الله ورسوله, وقد سماه الله تعالى جزاء, والجزاء المطلق بما يجب حقا لله تعالى بمقابلة الفعل, وعند الشافعي رحمه الله تعالى إذا كان الحد قتلا ففيه حق الله تعالى من جهة أنه حد يستوفيه الإمام دون الولي, ولا يسقط بالعفو, وحق العبد من جهة أن فيه معنى القصاص حيث لا يجب إلا بالقتل.
قوله: "ثم تبعية أهل الدار" أي بعد ما صار أداء أحد أبوي الصغير خلفا على أدائه صار تبعية أهل الدار خلفا عن أداء أحدهما أي أحد الأبوين إذا لم يوجد, وإذا لم يوجد تبعية أهل الدار صارت تبعية الغانمين خلفا مثلا إذا سبي صبي فإن أسلم هو بنفسه مع كونه عاقلا فهو الأصل وإلا فإن أسلم أحد أبويه فهو تبع له وإلا فإن أخرج إلى دار الإسلام فهو مسلم بتبعية الدار, وإن لم يخرج بل قسم أو بيع من مسلم في دار الحرب فهو تبع لمن سباه في الإسلام فلو مات يصلى عليه, ويدفن في مقابر المسلمين ثم التحقيق أن عند عدم الأبوين ليست التبعية خلفا عن أداء أحد الأبوين بل عن أداء الصبي نفسه كابن الميت خلف عنه في الميراث, وعند عدمه يكون ابن الابن خلفا عن الميت لا عن ابنه لئلا يلزم للخلف خلف فيكون الشيء خلفا وأصلا, وقد يقال: لا امتناع في كون الشيء أصلا من وجه وخلفا من وجه.
قوله: "لكنه أي التيمم خلف مطلق" يرتفع به الحدث إلى غاية وجود الماء بالنص, وهو قوله(2/324)
هل التراب خلف عن الماء
ثم عندنا التراب خلف عن الماء فيجوز إمامة المتيمم للمتوضئ وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى التيمم خلف عن التوضؤ فلا يجوز وشرط الخلفية إمكان الأصل ليصير السبب منعقدا له ثم عدمه بعارض.
ـــــــ
استعمال الماء" يكون التيمم خلفا عن الماء مطلقا فيجوز أداء الفرائض بتيمم واحد كما يجوز بوضوء واحد "وعنده خلف ضروري" أي التيمم خلف عن الماء عند الشافعي رحمه الله تعالى عند العجز بقدر ما تندفع به الضرورة "حتى لم يجز أداء الفرائض بتيمم واحد وقال" أي الشافعي رحمه الله تعالى عطف على قوله لم يجز "في إناءين نجس وطاهر يتحرى ولا يتيمم" فيتوضأ بما يغلب على ظنه طهارته, ولا يتيمم بناء على أن التيمم خلف ضروري ولا ضرورة هنا "وعندنا يتيمم إذا ثبت العجز بالتعارض" أي بين النجس, والطاهر, ولا احتياج إلى الضرورة فإنه خلف مطلق لا ضروري. "ثم عندنا التراب خلف عن الماء" فبعد حصول الطهارة كان شرط الصلاة موجودا في كل, واحد منهما بكماله "فيجوز إمامة المتيمم للمتوضئ" كإمامة الماسح للغاسل "وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى التيمم خلف عن التوضؤ فلا يجوز"; لأن المتوضئ صاحب أصل, والمتيمم صاحب خلف فلا يبني صاحب الأصل القوي صلاته على صاحب الخلف الضعيف كما لا يبني المصلي بركوع, وسجود على المومئ. "وشرط الخلفية إمكان الأصل ليصير السبب منعقدا له ثم عدمه بعارض" كما في مسألة مس السماء بخلاف الغموس.
................................................................................................
تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} نقل الحكم في حال العجز عن الماء إلى التيمم مطلقا عند إرادة الصلاة فيكون حكمه حكم الماء في تأدية الفرائض به, وتحقيق ذلك أنه إن جعل التراب خلفا عن الماء فحكم الأصل إفادة الطهارة وإزالة الحدث فكذا حكم الخلف إذ لو كان له حكم برأسه لما كان خلفا بل أصلا, وإن جعل التيمم خلفا عن التوضؤ فحكم التوضؤ إباحة الدخول في الصلاة بواسطة رفع الحدث بطهارة حصلت به لا مع الحدث فكذا التيمم إذ لو كان خلفا في حق الإباحة مع الحدث لكان له حكم برأسه هو الإباحة مع قيام الحدث فلم يكن خلفا, وعند الشافعي رحمه الله تعالى هو خلف ضروري بمعنى أنه ثبت خلفيته ضرورة الحاجة إلى إسقاط الفرض عن الذمة مع قيام الحدث كطهارة المستحاضة حتى لم يجز تقديمه على الوقت, ولا أداء فرضين بتيمم واحد أما قبل الوقت فلأن الضرورة لم تبن, وأما بعد أداء فرض واحد فلأن الضرورة قد انعدمت, وحتى قال فيمن له إناءان من الماء أحدهما طاهر والآخر نجس, وقد اشتبها عليه إنه يجب عليه التحري, والاجتهاد, ولا يجوز له التيمم إذ معه ماء طاهر بيقين يقدر على استعماله بدليل معتبر في الشرع, وهو التحري فلا ضرورة حينئذ, وعندنا لا يجوز التحري لأن التراب طهور مطلق عند العجز عن الماء, وقد تحقق العجز بالتعارض الموجب للتساقط حتى كان الإناءان في حكم العدم.(2/325)
واعلم أن وجوب التحري عند الشافعي رحمه الله تعالى إنما هو إذا لم يوجد ماء آخر طاهر بيقين, وأما إذا وجد فالتحري جائز فلهذا عدل المصنف رحمه الله تعالى عن عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى حيث قيد جواز التحري في مسألة الإناءين بحالة السفر أي حالة عدم القدرة على ماء طاهر بيقين ثم لا يخفى أن عدم صحة التيمم قبل التحري عند الشافعي رحمه الله تعالى مبني على أنه لا صحة للتيمم بدون العجز عن الماء سواء كان خلفا ضروريا أو خلفا مطلقا, ولا عجز مع إمكان التحري, ولذا جوز التيمم فيما إذا تحير فتفريع هذه المسألة على كون التيمم خلفا ضروريا بمعنى أنه إنما يكون بقدر ما يندفع به ضرورة إسقاط الفرض ليس كما ينبغي وإن أريد بكونه ضروريا أنه لا يكون إلا عند ضرورة العجز عن استعمال الماء فهذا مما لا يتصور فيه نزاع.
قوله: "ثم عندنا" أي بعد ما اتفق أصحابنا على كون الخلف خلفا مطلقا اختلفوا في تعيين الخلف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى الخلفية في الآلة بمعنى أن التراب خلف عن الماء لأنه تعالى نص عند النقل إلى التيمم على عدم الماء, وكون التراب ملوثا في نفسه لا يوجب العدول عن ظاهر النص لأن نجاسة المحل حكمية فيجوز أن يكون تطهير الآلة أيضا كذلك, وقوله عليه الصلاة والسلام: "التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء" 1 يؤيد ذلك فإن قيل: لو كانت الخلفية في الآلة لافتقرت إلى الإصابة كالماء إذ من شرط الخلف أن لا يزيد على الأصل فلم يجز التيمم بالحجر الملساء قلنا: ليس هذا من الزيادة في شيء لأن معناها الزيادة في الحكم, وترتب الآثار, ألا يرى أن استغناء التيمم عن مسح الرأس والرجل لا يوجب زيادته على الوضوء فعندهما يجوز إمامة المتيمم للمتوضئ إذا لم يجد المتوضئ ماء لأن شرط الصلاة في حق كل منهما موجود بكماله فيجوز بناء أحدهما على الآخر كالغسل على الماسح مع أن الخلف بدل من الرجل في قبول الحدث, ورفعه, وأما إذا وجد المتوضئ ماء فإن كان في زعمه أن شرط الصلاة لم يوجد في حق الإمام, وأن صلاته فاسدة فلا يصح اقتداؤه به كما إذا اعتقد أن إمامه مخطئ في جهة القبلة, وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى: الخلفية في الفعل بمعنى أن التيمم خلف عن التوضؤ لأن الله تعالى أمر بالوضوء أولا ثم بالتيمم عند العجز فلا يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم كاقتداء غير المومئ بالمومئ, وما ذكر أن زفر مع محمد في هذه المسألة يوافق ما ذكره الإسبيجابي في شرح المبسوط إلا أن المذكور في عامة الكتب أنه يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم عند زفر رحمه الله تعالى, وإن وجد المتوضئ ماء.
قوله: "وشرط الخلفية" أي لا بد في ثبوت الخلف عن إمكان الأصل ليصير السبب منعقدا للأصل ثم من عدم الأصل في الحال لعارض إذ لا معنى للمصير إلى الخلف مع وجود الأصل مثلا إرادة الصلاة انعقدت سببا للوضوء لإمكان حصول الماء بطريق الكرامة ثم لظهور العجز ينتقل الحكم إلى التيمم, وهذا كما إذا حلف ليمسن السماء فإن اليمين قد انعقدت موجبة للبر لإمكان مس السماء في الجملة إلا أنه معدوم عرفا وعادة فانتقل الحكم إلى الخلف, وهو الكفارة بخلاف ما إذا حلف على نفي ما كان أو ثبوت ما لم يكن في الزمان الماضي فإنه لا يثبت الكفارة لعدم إمكان البر على ما سبق تحقيق ذلك.
ـــــــ
1 رواه أحمد في مسنده 5/146، 147.(2/326)
المحكوم عليه
مدخل
...
المحكوم عليه
باب المحكوم عليه، ولا بد من أهليته للحكم، وهي لا تثبت إلا بالعقل قالوا: هو نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس فيتبدى المطلوب للقلب.
ـــــــ
"باب المحكوم عليه, ولا بد من أهليته للحكم, وهي لا تثبت إلا بالعقل قالوا: هو نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس فيتبدى المطلوب للقلب أي نور يحصل بإشراق العقل الذي أخبر النبي عليه السلام أنه من أوائل المخلوقات فكما أن العين مدركة بالقوة فإذا وجد النور الحسي يخرج إدراكها إلى الفعل فكذا القلب" أي النفس الإنسانية مع هذا النور العقلي وقوله: "طريق يبتدأ به فابتداء درك الحواس ارتسام المحسوس في الحاسة الظاهرة ونهايته ارتسامه في الحواس الباطنة, وحينئذ بداية تصرف القلب فيه بواسطة العقل بأن يدرك من الشاهد أو ينتزع الكليات من تلك الجزئيات المحسوسة, ولهذا التصرف مراتب: استعداده لهذا الانتزاع ثم علم البديهيات على وجه يوصل إلى النظريات ثم علم النظريات منها ثم استحضارها بحيث لا تغيب وهذا نهايته, ويسمى العقل المستفاد والمرتبة الثانية هي مناط التكليف" اعلم أن ما ذكرنا من تعريف العقل أورده مشايخنا في كتبهم, ومثلوه بالشمس كما ذكرنا في المتن, وهذا مناسب لما قاله الحكماء, والتمثيل بعينه مسطور في كتب الحكمة, واعلم أنهم أطلقوا العقل على جوهر مجرد غير متعلق بالبدن تعلق التدبير والصرف, وقد ادعوا أن أول شيء خلقه الله تعالى هذا الجوهر وقد قال عليه السلام: "أول ما خلق الله تعالى العقل" فيمكن أن يراد بهذا التعريف هذا الجوهر
................................................................................................
قوله: "باب المحكوم عليه", وهو المكلف أي الذي تعلق الخطاب بفعله, وأهليته لذلك تتوقف على العقل إذ لا تكليف على الصبي, وقد أطلق الحكماء وغيرهم لفظ العقل على معان كثيرة منها الجوهر المجرد في ذاته وفعله بمعنى أنه لا يكون جسما, ولا جسمانيا, ولا تتوقف أفعاله على تعلقه بجسم, وهذا معنى الجوهر المجرد الغير المتعلق بالبدن تعلق التدبير, والتصرف, ولو قال غير المتعلق بالجسم لكان أنسب ليخرج النفوس الفلكية إذ البدن إنما يطلق على بنية الحيوان وادعى الحكماء أن العقل بهذا المعنى أول ما صدر عن الواجب سبحانه, وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: "أول ما خلق الله تعالى العقل", وإنما قال: ادعوا لأنهم استدلوا على ذلك بدلائل واهية مبنية على مقدمات فاسدة مثل أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد, ونحو ذلك ومنها قوة للنفس الإنسانية بها يتمكن من إدراك الحقائق, وهذا معنى الأثر الفائض عليها من العقل بالمعنى الأول, ومنها مراتب قوى النفس على ما سنبينها, ومنها الغريزة التي يلزمها العلم بالضروريات أو نفس العلم بذلك, وهذا معنى العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات, وجواز الجائزات, ومنها ملكة حاصلة بالتجارب يستنبط بها المصالح والأغراض, وهذا معنى ما يحصل به الوقوف على العواقب, ومنها قوة مميزة بين الأمور الحسنة, والقبيحة, ومنها هيئة محمودة للإنسان في حركاته,(2/327)
شرح تعريف العقل
أي نور يحصل بإشراق العقل الذي أخبر النبي عليه السلام أنه من أوائل المخلوقات فكما أن العين مدركة بالقوة فإذا وجد النور الحسي يخرج إدراكها إلى الفعل فكذا القلب طريق يبتدأ به فابتداء درك الحواس ارتسام المحسوس في الحاسة الظاهرة ونهايته ارتسامه في الحواس الباطنة، وحينئذ بداية تصرف القلب فيه بواسطة العقل بأن يدرك من الشاهد أو ينتزع الكليات من تلك الجزئيات المحسوسة.
ـــــــ
الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أوائل المخلوقات فيكون المراد بالنور المنور كما فسر في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وأيضا قد يطلق العقل على الأثر الفائض من هذا الجوهر في الإنسان فيمكن أن يراد
................................................................................................
وسكناته, وكلامه إلى غير ذلك من المعاني المتفاوتة, والمقاربة فاحتج في هذا المقام إلى تفسير العقل فقالوا:
هو نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس فيتبدى المطلوب للقلب فيدركه القلب بتأمله, وبتوفيق الله تعالى, ومعنى ذلك أنها قوة للنفس بها ينتقل من الضروريات إلى النظريات إلا أنه لما كان ظاهر هذا التفسير أخفى من العقل احتاج المصنف رحمه الله تعالى إلى توضيحه, وتبيين المراد منه فزعم أنه يحتمل أن يراد بالعقل هاهنا ذلك الجوهر المجرد الذي هو أول المخلوقات على أن يكون النور بمعنى المنور, ولا يخفى بعد هذا الاحتمال عن الصواب فإنهم جعلوا العقل من صفات الراوي, والمكلف ثم فسروه بهذا التفسير, ويحتمل أن يراد به الأثر الفائض من هذا الجوهر على نفس الإنسان كما ذكره الحكماء من أن العقل الفعال هو الذي يؤثر في النفس, ويعدها للإدراك, وحال نفوسنا بالإضافة إليه حال أبصارنا بالنسبة إلى الشمس فكما أن بإفاضة نور الشمس تدرك المحسوسات كذلك بإفاضة نوره تدرك المعقولات فقوله نور أي قوة شبيهة بالنور في أنه بها يحصل الإدراك. يضيء أي يصير ذا ضوء به أي بذلك النور. طريق يبتدأ به أي بذلك الطريق والمراد به الأفكار, وترتيب المبادئ الموصلة إلى المطالب, ومعنى إضاءتها صيرورتها بحيث يهتدي القلب إليها, ويتمكن من ترتيبها وسلوكها توصيلا إلى المطلوب, وقوله من حيث ينتهي إليه متعلق يبتدأ, والضمير في إليه عائد إلى حيث أي من محل ينتهي إليه إدراك الحواس فيتبدى أي يظهر المطلوب للقلب أي الروح المسمى بالقوة العاقلة, والنفس الناطقة فيدركه القلب بتأمله أي التفاته إليه, والتوجه نحوه بتوفيق الله تعالى وإلهامه لا بتأثير النفس أو توليدها فإن الأفكار معدات للنفس, وفيضان المطلوب إنما هو بإلهام الله تعالى.
واعلم أن العقل الذي يحصل الإدراك بإشراقه, وإفاضة نوره, ويكون نسبته إلى النفوس نسبة الشمس إلى الأبصار على ما ذكره الحكماء هو العقل العاشر المسمى بالعقل الفعال لا العقل الذي هو أول المخلوقات ففي كلام المصنف رحمه الله تعالى تسامح.
قوله: "وقد يطلق العقل على قوة للنفس بها تكسب العلوم" إشارة إلى معنى آخر للعقل باعتباره يحصل للنفس مراتبها الأربع فعلى ما سبق كان حاصل معناه حصول شرائط الوصول إلى المطلوب, وانكشاف الحجب عنه بينه وبين المطالب, والتهدي إلى طريق التوصل إلى المقاصد, وأما(2/328)
مراتب التصرف
ولهذا التصرف مراتب: استعداده لهذا الانتزاع ثم علم البديهيات على وجه يوصل إلى النظريات ثم علم النظريات منها ثم استحضارها بحيث لا تغيب وهذا نهايته، ويسمى العقل المستفاد والمرتبة الثانية هي مناط التكليف.
ـــــــ
بهذا التعريف هذا المعنى, وبيانه أن النفس الإنسانية مدركة بالقوة فإذا أشرف عليها الجوهر المذكور خرج إدراكها من القوة إلى الفعل بمنزلة الشمس إذا أشرقت خرج إدراك العين من القوة إلى الفعل فالمراد بالعقل هذا النور المعنوي الذي حصل بإشراق ذلك الجوهر, وقد يطلق العقل على قوة للنفس بها تكسب العلوم, وهي قابلية النفس لإشراق ذلك الجوهر, ولها أربع مراتب كما ذكرت في المتن, ويسمى الأول العقل الهيولاني, والثاني العقل بالملكة, والثالث العقل بالفعل والرابع العقل المستفاد, وأيضا يطلق على بعض العلوم فقيل: علم بوجوب الواجبات, واستحالة المستحيلات, وجواز الجائزات, وقوله يبتدأ به يلزم من هذا
................................................................................................
على هذا فمعناه قابلية النفس بهذه المعاني فإن قيل: من شأن القوة التأثير والعقل, ومعنى القابلية التأثر والانفعال فكيف يفسر بها قلت هي قوة باعتبار ترتيب المبادئ وتهيئة المعدات والتصرفات فيها وقابلية من حيث إن حصول المطلوب إنما هو بالإلهام وبتوفيق الملك العلام فإن قلت: القوة التي بها تكتسب النفس العلوم تشتمل مراتبها الأربع فكيف تفسر بقابلية الإشراق التي هي المرتبة الأولى أعني العقل الهيولاني قلت: المراد قابلية الإشراق إلى أن يكمل جميع الآثار, ويحصل غاية المطلوب, وهذا يتناول المراتب الأربع فإن قلت: كيف جعل المراتب الأربع في الشرح مراتب قوة النفس وقابليتها للإشراق, وفي المتن مراتب تصرف القلب بواسطة العقل فيما ارتسم في الحواس؟ قلت: حاصلهما واحد فإن هذه المراتب مراتب للنفس باعتبار قوتها في اكتساب العلوم, وتصرفها في المبادئ لحصول المطالب فيجعل تارة مراتب النفس, وتارة مراتب قوتها النظرية أي التي بها يتمكن من اكتساب العلوم, وتارة مراتب تصرفاتها في المبادئ ومعنى تصرف القلب فيما ارتسم في الحواس أن يدرك الغائب من الشاهد أي يستدل من الآثار واللوازم على المؤثرات, والملزومات مثل استدلاله من العالم, وتغيراته على أن له صانعا قديما غنيا عمن سواه بريئا عن النقائص وأن ينتزع الكليات من الجزئيات وأن ينتزع من الإحساس بحرارة هذه النار أن كل نار حارة, وكذا في جانب التصورات مثلا ينتزع من الجزئيات المكتنفة بالعوارض المشخصة واللواحق الخارجية حقائقها الكلية.
وأما تحقيق المراتب الأربع فهو أن للنفس الإنسانية قوتين: إحداهما مبدأ الإدراك, وهي باعتبار(2/329)
الكلام أن يكون لدرك الحواس الخمس بداية, ونهاية, وكذا للإدراك العقلي بداية, ونهاية فنهاية درك الحواس هي بداية الإدراك العقلي فاعلم أن بداية درك الحواس ارتسام المحسوسات في إحدى الحواس الخمس, ونهايته ارتسامه في الحواس الباطنة والمشهور أن الحواس الباطنة خمس: الحس المشترك في مقدم الدماغ, وهو الذي يرتسم فيه صور المحسوسات
................................................................................................
تأثرها عما فوقها مستكملة في ذاتها, وتسمى عقلا نظريا, والثانية مبدأ الفعل, وهي باعتبار تأثيرها في البدن الموضوع مكملة إياه تأثيرا اختياريا, وتسمى عقلا عمليا وللقوة النظرية في تصرفاتها في الضروريات, وترتيبها لاكتساب الكمالات أربع مراتب, وذلك أن النفس مبدأ الفطرة خالية عن العلوم مستعدة لها, وتسمى حينئذ عقلا هيولانيا تشبيها لها بالهيولي الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها, وذلك بمنزلة استعداد الطفل للكتابة ثم إذا أدركت الضروريات, واستعدت لحصول النظريات سميت عقلا بالملكة لحصول ملكة الانتقال كاستعداد الأمي لتعلم الكتابة ثم إذا أدركت النظريات, وحصل لها القدرة على استحضارها متى شاءت من غير تجسم كسب جديد سميت عقلا بالفعل لشدة قربه من الفعل وذلك بمنزلة استعداد القادر على الكتابة الذي لا يكتب, وله أن يكتب متى شاء, وإذا كانت النظريات حاضرة عندها مشاهدة لها سميت عقلا مستفادا لاستفادة هذه القوة والحالة من العقل الفعال, وذلك بمنزلة الشخص حينما يكتب بالفعل, وعبارة المحققين أن العقل المستفاد هو حضور اليقينيات, وحصول صور المعقولات للنفس, وهو الظاهر من التسمية بالمستفاد, وأن العقل الهيولاني يكون قبل استعمال الحواس, وإدراك الضروريات, والعقل بالملكة بعده والمصنف رحمه الله تعالى جعل الهيولاني استعداد النفس للانتزاع بعد حصول المحسوسات. والعقل بالملكة علم البديهات على وجه يوصل إلى النظريات أي مترتبة للتأدي إلى المجهولات النظرية, وأما جعل المستفاد نهاية, ومرتبة رابعة فإنما هو باعتبار الغاية, وكونه الرئيس المطلق الذي يخدمه سائر القوى, وإلا فالمستفاد مقدم بحسب الوجود على العقل بالفعل لأنه إنما يكون بعد التحصيل, والإحضار مرة أو مرات.
ثم هذه المراتب استعدادات للنفس مختلفة بالشدة والضعف كالثلاث الأول أو كمال لها كالرابعة وتطلق على النفس بحسب ما لها من هذه الأحوال, ولا شك أن للنفس في كل حال من تلك الأحوال قوة لم تكن قبل فيطلق على نفس القوى أيضا, ونعني بالقوة المعنى الذي به يصير الشيء فاعلا أو منفعلا, وجعلوا المرتبة الثانية, وهي أن تدرك البديهات مرتبة على وجه توصل إلى النظريات مناط التكليف إذ بها يرتفع الإنسان عن درجة البهائم, ويشرق عليها نور العقل بحيث يتجاوز إدراك المحسوسات.
قوله: "فاعلم أن بداية درك الحواس" يعني لما ذكر في تعريف العقل لدرك الحواس نهاية لزم أن يكون له بداية ولما ذكر لطريق إدراك العقل بداية لزم أن يكون له نهاية لأن إدراكاتنا أمور حادثة منقطعة, ولما جعل قوله من حيث متعلقا بيبتدأ, والضمير في إليه عائد إلى حيث أي طريق يبتدأ به من المقام الذي ينتهي إليه إدراك الحواس لزم أن يكون نهاية درك الحواس بداية درك العقل فذكر أن بداية درك الحواس هو ارتسام المحسوس في إحدى الحواس الخمس الظاهرة, وهي(2/330)
ثم الخيال, وهو خزانة الحس المشترك ثم الوهم في مؤخر الدماغ يرتسم فيه المعاني الجزئية ثم بعده الحافظة, وهي خزانة الوهم ثم المفكرة في وسط الدماغ تأخذ المدركات من الطرفين وتتصرف فيها, وتركب بينها تركيبا, وتسمى مخيلة أيضا فهذا نهاية إدراك الحواس
................................................................................................
اللمس أعني قوة سارية في البدن كله بها يدرك الحار, والبارد والرطب, واليابس, ونحو ذلك, والذوق وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم, والشم وهو قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي يدرك بها الروائح, والسمع وهو قوة مرتبة في العصب المفروش على سطح باطن الصماخ يدرك بها الأصوات, والبصر هو قوة مرتبة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان في مقدم الدماغ فيفترقان إلى العينين يدرك بها الألوان, والأضواء, ولا خفاء في أن المرتسم فيها هو صورة المحسوس لا نفسه فإن المحسوس هو هذا اللون الموجود في الخارج مثلا وهو ليس بمرتسم في الباصرة بل صورته كما أن المعلوم هو ذلك الموجود, والحاصل في النفس صورته, ومعنى معلوميته حصول صورته لا حصول نفسه, ونهاية درك الحواس ارتسام المحسوس في الحواس الباطنة.
والمشهور أنها أيضا خمس الحس المشترك وهي قوة مرتبة في التجويف الأول من الدماغ, ومبادئ عصب الحس يجتمع فيها صور جميع المحسوسات فيدركها والخيال هو قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم يجتمع فيها مثل المحسوسات, وتبقى فيها بعد الغيبة عن الحس المشترك فهي خزانته, والوهم وهي قوة مرتبة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ لا في مؤخره على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى بها يدرك المعاني الجزئية الغير المحسوسة أعني التي لم يتأد إليها من طرق الحواس, وإن كانت موجودة في المحسوسات كعداوة زيد, وصداقة عمرو, والحافظة وهي قوة مرتبة في التجويف الأخير من الدماغ تحفظ المعاني الجزئية التي أدركها الوهم فهي خزانة للوهم بمنزلة الخيال للحس المشترك والمفكرة وهي قوة مرتبة في الجزء الأول من التجويف الأوسط من الدماغ بها يقع التركيب والتفصيل بين الصور المحسوسة المأخوذة عن الحس المشترك, والمعاني المدركة بالوهم كإنسان له رأسان, وإنسان عديم الرأس, وهذا معنى أخذ المدركات عن الطرفين, وهذه القوة تستعملها النفس على أي نظام تريد فإن استعملتها بواسطة القوة الوهمية وحدها سميت متخلية, وإن استعملتها بواسطة القوة العقلية وحدها أو مع الوهمية سميت مفكرة, وما ذكرنا من محال للقوى هو الموافق لما ذكره المحققون من علماء التشريع, واستدلوا عليه بأن الآفة في ذلك المحل توجب الآفة في فعل تلك القوة ولفظ ثم في كلام المصنف رحمه الله تعالى ليس لترتيب هذه القوى في الوجود والمحل بل لترتيب تصرفاتها, وأفعالها فإنه يرتسم أولا صورة المحسوس ثم تخزن ثم ترتسم منه المعاني ثم تحفظ ثم يقع بينهما التركيب والتفصيل فلذا قال: ثم بعده الحافظة فأشار بلفظ بعد إلى أن محلها بعد محل الوهم.
قوله: "فإذا تم هذا" أي ارتسام الصور والمعاني وأخذ المفكرة إياهما من الطرفين تنتزع النفس الناطقة من المفكرة علوما أي صورا أو معاني كلية لأنها بالتصرف والتفكر في الأشخاص الجزئية(2/331)
معلومات النفس
ثم معلومات النفس إما أن لا يتعلق بها العمل كمعرفة الصانع تعالى، وتسمى علوما نظرية وإما أن يتعلق، وتسمى علمية فإذا اكتسبت العلمية حركت البدن إلى ما هو خير، وعما هو شر فيستدل بهذا على وجود تلك القوة وعدمها.
ـــــــ
فإذا تم هذا انتزع النفس الإنسانية من المفكرة علوما فهذا بداية تصرف النفس بواسطة إشراق العقل, وله أربع مراتب كما ذكرنا, والعلم عند الله تعالى.
"ثم معلومات النفس إما أن لا يتعلق بها العمل كمعرفة الصانع تعالى, وتسمى علوما نظرية وإما أن يتعلق, وتسمى علمية فإذا اكتسبت العلمية حركت البدن إلى ما هو خير, وعما هو شر فيستدل بهذا على وجود تلك القوة وعدمها" أي يستدل بهذا التحريك على وجود تلك القوة, وهي قابلية النفس لإشراق ذلك الجوهر, وإنما يستدل; لأن النفس لا محالة آمرة للبدن محركة إلى ما هو خير عندها, وعما هو شر عندها, والجوهر المذكور دائم الإشراق فإذا حركته إلى الخير, وعن الشر علم معرفتها بالخير والشر, وهي لا تحصل إلا بالقابلية
................................................................................................
تكتسب استعدادا نحو قبول صورة الإنسانية مثلا, وصورة الصداقة الكليتين المجردتين عن العوارض المادية قبولا عن العقل الفعال المتنفس بهما لمناسبة ما بين كل كلي وجزئياته, وهذا هو تمام التقريب في أن نهاية درك الحواس هو بداية إدراك العقل على ما يشعر به التعريف المذكور للعقل, وأما تحقيق هذه المباحث فمما لا يليق بهذا الكتاب ثم الظاهر أن معنى التعريف المذكور ليس ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى, وغيره من الشارحين, وأنه لا يحتاج إلى هذا التطويل, وأن عود الضمير إلى حيث, وهو لازم الظرفية مما لم يعهد في العربية بل المراد أن العقل نور يضيء به الطريق الذي يبتدأ به في الإدراكات من جهة انتهاء إدراك الحواس إلى ذلك الطريق بمعنى أنه لا مجال فيه لدرك الحواس, وهو طريق إدراك الكليات من الجزئيات والمغيبات من المشاهدات فإن طريق إدراك المحسوسات مما يسلكه العقلاء والصبيان والمجانين بل البهائم فلا يحتاج إلى العقل الذي نحن بصدده ثم انتهى ذلك الطريق, وأريد سلوك طريق إدراك الكليات, واكتساب النظريات والاستدلال على المغيبات لم يكن بد من قوة بها يتمكن من سلوك ذلك الطريق فهي نور للنفس به تهتدي أي سلوكه بمنزلة نور الشمس في إدراك المبصرات فإذا ابتدأ الإنسان بذلك الطريق, وشرع فيه, ورتب المقدمات على ما ينبغي يتبدى المطلوب للقلب بفيض الملك العلام.
قوله: "ثم معلومات النفس" يريد بهذا الكلام الإشارة إلى طريق معرفة حصول ذلك النور في الإنسان, وذلك أن الموجود إذا لم يكن باختيارنا أثر في وجوده يسمى العلم به نظريا, وإلا فعلميا لا بمعنى أنه عمل بل بمعنى أنه علم بأشياء تتعلق بالعمل وبهذا الاعتبار تنقسم الحكمة إلى النظرية والعملية, ويحصل للنفس القوة النظرية والقوة العملية, والأولى مكملة للنفس والثانية مكملة للنفس والبدن بتحريك البدن عن الشرور إلى الخيرات, وهذا التحريك يستلزم المعرفة بالخير, والشر(2/332)
ثم لما كان ميزان العقل متفاوتا في أفراد الناس متدرجا من النقصان إلى الكمال والاطلاع على حصول ما ذكرنا أنه مناط التكليف متعذر قدره الشرع بالبلوغ إذ عنده يتم التجارب بتكامل القوى الجسمانية التي هي مراكب للقوى العقلية، ومسخرة لها بإذن الله تعالى.
ـــــــ
المذكورة, وإذا لم تحركه إلى الخير وعن الشر علم عدم معرفتها بالخير والشر إذ لو كانت عارفة لحركته ثم عدم معرفتها لعدم قابليتها إذ لو كانت قابلة وقد قلنا: إن ذلك الجوهر دائم الإشراق لكانت عارفة فعلم أن وجود العقل, وعدمه يعرفان بالأفعال "ثم لما كان العقل متفاوتا في أفراد الناس", وذلك التفاوت إنما يكون لزيادة قابلية بعض النفوس ذلك الفيض والإشراق لشدة صفائها ولطافتها في مبدأ الفطرة, ونقصان قابلية بعضها لكدورتها, وكثافتها في أصل الخلقة "متدرجا من النقصان إلى الكمال" بواسطة كثرة العلوم, ورسوخ الملكات المحمودة فيها فتصير أشد تناسبا بذلك الجوهر, ويزداد استضاءتها بأنواره, واستفادتها مغانم آثاره فالقابلية المذكورة سبب لحصول العلم والعمل ثم حصول العلم والعمل سبب لزيادة تلك القابلية.
"والاطلاع على حصول ما ذكرنا أنه مناط التكليف متعذر قدره الشرع بالبلوغ إذ عنده يتم التجارب بتكامل القوى الجسمانية التي هي مراكب للقوى العقلية, ومسخرة لها بإذن الله تعالى, وقد سبق في باب الأمر الخلاف في إيجابه الحسن, والقبح فعند المعتزلة الخطاب
................................................................................................
من حيث إنهما خير وشر, وبالعكس أما الأول فلأن الشرور مستلذات البدن, وملاءمات الشهوة والغضب والخيرات مشاق وتكاليف ومخالفات للهوى فلا يتصور الميل عن الملائم إلى المنافر إلا بعد معرفة أن الأول شر والثاني خير وأما الثاني فلأن الخير والكمال محبوب بالذات, والنفس مائلة إلى الكمالات مهيأة لتطويع القوى وأمرها بالخيرات فإذا اكتسبت العلم بالخير والشر, وعرفتهما من حيث إنهما خير وشر حركت البدن نحو الخير لا محالة ثم معرفة الخيرات والشرور تستلزم قابلية النفس لإشراق نور العقل عليها بمعنى حصول الشرائط, وارتفاع الموانع من جانبها, وهذا ظاهر, والقابلية تستلزم المعرفة لأن ذلك الجوهر المفيض دائم الإشراق لا انقطاع لفيضه, ولا ضنة من جانبه بمنزلة الشمس في الإضاءة فيكون بين فعل الخيرات وترك الشرور وبين القابلية المسماة بالعقل تلازم فيستدل من فعل الخيرات على وجود العقل استدلالا بوجود الملزوم على وجود اللازم ويستدل من ترك الخيرات على عدم العقل استدلالا من عدم اللازم على عدم الملزوم.
قوله: "ثم لما كان" يعني أن العقل متفاوت في أفراد الإنسان حدوثا, وبقاء أما حدوثا فلأن النفوس متفاوتة بحسب الفطرة في الكمال والنقصان باعتبار زيادة اعتدال البدن ونقصانه فكلما كان البدن أعدل, وبالواحد الحقيقي أشبه كانت النفس الفائضة عليه أكمل, وإلى الخيرات أميل, وللكمالات أقبل وهذا معنى صفاتها, ولطاقتها بمنزلة المرآة في قبول النور, وإن كانت بالعكس فبالعكس, وهذا(2/333)
الخلاف في الحسن و القبح و ثمرة ذلك
...
الخلاف في الحسن والقبح وثمرة ذلك
وقد سبق في باب الأمر الخلاف في إيجابه الحسن، والقبح فعند المعتزلة الخطاب متوجه بنفس العقل.
فالصبي العاقل، وشاهق الجبل مكلفان بالإيمان حتى إن لم يعتقدا كفرا، ولا إيمانا يعذبان عند المعتزلة، وعند الأشعري يعذران فلم يعتبر كفر شاهق الجبل
ـــــــ
متوجه بنفس العقل" هذا فرع مسألة الحسن والقبح المذكورة في باب الأمر "فالصبي العاقل, وشاهق الجبل مكلفان بالإيمان حتى إن لم يعتقدا كفرا, ولا إيمانا يعذبان عند المعتزلة, وعند الأشعري يعذران فلم يعتبر كفر شاهق الجبل فيضمن قاتله, ولا إيمان الصبي والمذهب عندنا التوسط بينهما إذ لا يمكن إبطال العقل بالعقل, ولا بالشرع, وهو مبني عليه" أي الشرع مبني على العقل لأنه مبني على معرفة الله تعالى, والعلم بوحدانيته, والعلم بأن المعجزة دالة على النبوة, وهذه الأمور لا تعرف شرعا بل عقلا قطعا للدور "لكن قد يتطرق الخطأ في العقليات" فإن مبادئ الإدراكات العقلية الحواس فيقع الالتباس بين القضايا الوهمية, والعقلية فيتطرق الغلط في مقتضيات الأفكار كما ترى من اختلافات العقلاء بل اختلاف الإنسان نفسه في زمانين فصار دليلنا على التوسط بين مذهب الأشعرية, والمعتزلة أمرين: أحدهما التوسط المذكور في مسألة الجبر والقدر, وفي مسألة الحسن والقبح, وثانيهما معارضة الوهم العقل
................................................................................................
معنى كدورتها, وكثافتها بمنزلة الحجر في قبول النور, ولا خفاء في أن النفس كلما كانت أكمل, وأقبل كان النور الفائض عليه من ذلك الجوهر المسمى بالعقل الفعال أكثر. وأما بقاء وإليه الإشارة بقوله متدرجا من النقصان إلى الكمال فلأن النفس كلما ازدادت في اكتساب العلوم بتكميل القوة النظرية, وفي تحصيل الملكات المحمودة بتكميل القوة العملية ازدادت تناسبا بالعقل الفعال الكامل من كل وجه فازدادت إفاضة نوره عليها لازدياد الاستفاضة بازدياد المناسبة, ولما تفاوتت العقول في الأشخاص تعذر العلم بأن عقل كل شخص هل بلغ المرتبة التي هي مناط التكليف؟ فقدر الشارع تلك المرتبة بوقت البلوغ إقامة للسبب الظاهر مقام حكمه كما في السفر, والمشقة, وذلك لحصول شرائط كمال العقل وأسبابه في ذلك الوقت بناء على تمام التجارب الحاصلة بالإحساسات الجزئية والإدراكات الضرورية, وتكامل القوى الجسمانية من المدركة, والمحركة التي هي مراكب للقوة العقلية بمعنى أنها بواسطتها تستفيد العلوم ابتداء, وتصل إلى المقاصد, وبمعونتها يظهر آثار الإدراك, وهي مسخرة, ومطيعة للقوة العقلية بإذن الله تعالى فهي تأمرها بالأخذ, والإعطاء, واستيفاء اللذات, والتحرك للإدراكات قدر ما ترى من المصلحة فتحصل الكمالات.
قوله: "وقد سبق في باب الأمر" اعلم أن المهم في هذا المقام تحرير المبحث, وتلخيص محل النزاع ليتأتى النظر في أدلة الجانبين, ويظهر صحة المطلوب, ولا نزاع للمعتزلة في أن العقل لا يستقل بدرك كثير من الأحكام على تفاصيلها مثل وجوب الصوم في آخر رمضان, وحرمته في أول(2/334)
فيضمن قاتله، ولا إيمان الصبي والمذهب عندنا التوسط بينهما إذ لا يمكن إبطال العقل بالعقل، ولا بالشرع، وهو مبني عليه.
لكن قد يتطرق الخطأ في العقليات فهو وحده غير كاف فالصبي العاقل لا يكلف بالإيمان ولكن يصح منه.
والمراهقة إن غفلت عن الاعتقادين لا تبين من زوجها خلافا للمعتزلة، وإن كفرت تبين وكذا الشاهق.
ـــــــ
في بعض الأمور العقلية وتطرق الخطأ فيها "فهو وحده غير كاف" أي العقل وحده غير كاف فيما يحتاج الإنسان إلى معرفته بناء على ما ذكرنا من الأمرين بل لا بد من انضمام شيء آخر إما إرشاد أو تنبيه ليتوجه العقل إلى الاستدلال أو إدراك زمان يحصل له التجربة فيه فتعينه على الاستدلال فلهذا اخترنا التوسط في المسائل المتفرعة المذكورة في المتن, وهي قوله.
"فالصبي العاقل لا يكلف بالإيمان" لعدم استيفاء مدة جعلها الله تعالى علما لحصول التجارب, وكمال العقل "ولكن يصح منه" اعتبارا لأصل العقل, ورعاية للتوسط فجعلنا مجرد العقل كافيا للصحة وشرطنا الانضمام المذكور للوجوب "والمراهقة إن غفلت عن الاعتقادين
................................................................................................
شوال, ولا نزاع للأشاعرة في أن الشرع محتاج إلى العقل وأن للعقل مدخلا في معرفة الأحكام حتى صرحوا بأن الدليل إما عقلي صرف, وإما مركب من عقلي, وسمعي, ويمتنع كونه سمعيا صرفا لأن صدق الشارع بل وجوده, وكلامه إنما يثبت بالعقل, وإنما النزاع في أن العاقل إذا لم تبلغه الدعوة, وخطاب الشارع إما لعدم وروده وإما لعدم وصوله إليه فهل يجب عليه بعض الأفعال, ويحرم بعضها بمعنى استحقاق الثواب والعقاب في الآخرة أم لا فعند المعتزلة نعم بناء على مسألة الحسن والقبح وعند الأشاعرة لا إذ لا حكم للعقل, ولا تعذيب قبل البعثة, وقد سبق تحقيق ذلك.
قوله: "قطعا للدور" يعني أن ثبوت الشرع موقوف على معرفة الله تعالى, وكلامه, وبعثة الأنبياء بدلالة المعجزات فلو توقفت معرفة هذه الأمور على الشرع لزم الدور.
قوله: "وثانيهما معارضة الوهم العقل" فإن قيل: الوهم لا يدرك إلا المعاني الجزئية, والعقل لا يدرك إلا الكليات فكيف المعارضة بينهما؟ أجيب بأن مدرك الكل هو النفس لكنها تدرك الكليات بالقوة العاقلة والجزئيات بالحواس, ومعنى المعارضة انجذاب النفس إلى آلة الوهم دون العقل فيما من حقه أن يستعمل فيه العقل, وذلك لأن إلفها بالحس, والوهم, ومدركاتهما أكثر.
قوله: "فهو" أي العقل وحده غير كاف في جميع ما يحصل به كمال النفس, وورد به أمر الشارع لما ذكرنا من تطرق الخطأ, وليس المراد أن العقل لا يستقل في إدراك شيء, واكتساب حكم ألبتة على ما هو رأي الإسماعيلية في إثبات الحاجة إلى المعلم.
قوله: "فالصبي العاقل لا يكلف بالإيمان", وهو الصحيح ذهب كثير من المشايخ حتى الشيخ أبو منصور إلى أن الصبي العاقل يجب عليه معرفة الله تعالى لأنها بكمال العقل, والبالغ والصبي(2/335)
الأهلية
فصل ثم الأهلية ضربان: أهلية وجوب وأهلية أداء.
ـــــــ
لا تبين من زوجها خلافا للمعتزلة, وإن كفرت تبين" فإنها إن لم تدرك المدة المذكورة لم يجعل مجرد عقلها كافيا في التوجه إلى الاستدلال لكن إن توجهت علم حينئذ أنها أدركت مدة إفادتها التوجه فجعلنا مجرد عقلها كافيا إذا حصل التوجه, وشرطنا الانضمام إذا لم يحصل التوجه. "وكذا الشاهق" أي لا يكلف "قبل مضي زمان يحصل فيه التجربة", وبعده يكلف فلا يضمن قاتل الشاهق, ولو قبل مدة التجربة فإنه لم يستوجب عصمة بدون دار الإسلام
"فصل" ثم الأهلية ضربان: أهلية وجوب وأهلية أداء أما الأولى فبناء على الذمة, وهي في
................................................................................................
سواء في ذلك, وإنما عذر في عمل الجوارح لضعف البنية بخلاف عمل القلب, ومعنى ذلك أن كمال العقل معرف للوجوب, والموجب هو الله تعالى بخلاف مذهب المعتزلة فإن العقل عندهم موجب بذاته كما أن العبد موجد لأفعاله كذا في الكفاية.
قوله: "وإن كفرت" أي المراهقة تبين عن الزوج لأنا إنما, وضعنا البلوغ موضع كمال العقل والتمكن من الاستدلال إذا لم تعرف ذلك حقيقة أما إذا تحقق التوجه إلى الاستدلال والكفر فلا عذر فإن قيل: إذا نيط الحكم بالسبب الظاهر دار معه وجودا, وعدما, ولم يعتد بحقيقة السبب فينبغي أن تعذر المراهقة التي كفرت كالمسافر سفرا علم أنه لا مشقة فيه أصلا فإنه تبقى الرخصة بحالها قلنا ذاك في الفروع, وأما في الأصول لا سيما في الإيمان فيجب إذا وجد السبب الحقيقي أو دليله لعظم خطره.
قوله: "وكذا" أي مثل الصبي العاقل البالغ الشاهق في الجبل إذا لم تبلغه الدعوة فإنه لا يكلف بالإيمان بمجرد عقله حتى لو لم يصف إيمانا, ولا كفرا, ولم يعتقده لم يكن من أهل النار, ولو آمن صح إيمانه, ولو وصف الكفر كان من أهل النار للدلالة على أنه وجد زمان التجربة والتمكن من الاستدلال, وأما إذا لم يعتقد شيئا فإن, وجد زمان التجربة, والتمكن فليس بمعذور, وإلا فمعذور, وليس في تقدير الزمان دلالة عقلية أو سمعية بل ذلك في علم الله تعالى; فإن تحقق يعذر به, وإلا فلا, وهذا مراد أبي حنيفة رحمه الله تعالى حيث قال: لا عذر لأحد في الجهل يخالفه لما يرى في الآفاق والأنفس وأما في الشرائع فيعذر إلى قيام الحجة فإن قيل: الشاهق لما لم يكلف بالإيمان كان ينبغي أن لا يهدر دمه بل يضمن قاتله فالجواب أن العصمة لا تثبت بدون الإحراز بدار الإسلام حتى لو أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر إلينا فقتل لم يضمن قاتله, وكذا الصبي, والمجنون إذا قتلا في دار الحرب.
قوله: "فصل ثم الأهلية" يعني بعد ما ثبت أنه لا بد في المحكوم عليه من أهليته للحكم, وأنها(2/336)
أما الأولى فبناء على الذمة، وهي في اللغة العهد، وفي الشرع وصف يصير به الإنسان أهلا لما له، وعليه.
ـــــــ
اللغة العهد, وفي الشرع وصف يصير به الإنسان أهلا لما له, وعليه قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ
................................................................................................
لا تثبت إلا بالعقل فإن الأهلية ضربان: أحدهما أهلية الوجوب أي صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له, وعليه, والثانية أهلية الأداء أي صلاحيته لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعا, والأولى بالذمة, ولما وقع في كلام البعض أن الذمة أمر لا معنى له, ولا حاجة إليه في الشرع, وأنه من مخترعات الفقهاء يعبرون عن وجوب الحكم على المكلف بثبوته في ذمته حاول المصنف رحمه الله تعالى الرد عليهم بتحقيق الذمة لغة, وشرعا وإثباتها بالنصوص, وتحقيق ذلك أن الذمة في اللغة العهد فإذا خلق الله تعالى الإنسان محل أمانته أكرمه بالعقل, والذمة حتى صار أهلا لوجوب الحقوق له, وعليه, وثبت له حقوق العصمة, والحرية والمالكية كما إذا عاهدنا الكفار, وأعطيناهم الذمة تثبت لهم وعليهم حقوق المسلمين في الدنيا, وهذا هو العهد الذي جرى بين الله تعالى, وعباده يوم الميثاق المشار إليه بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} على ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من بعض على حسب ما يتوالدون إلى يوم القيامة في أدنى مدة كموت الكل بالنفخ في الصور, وحياة الكل بالنفخة الثانية فصورهم, واستنطقهم, وأخذ ميثاقهم ثم أعادهم جميعا في صلب آدم ثم أنسانا تلك الحالة ابتلاء لنؤمن بالغيب.
وحاصل كلام المصنف رحمه الله تعالى من الاستدلال بالآيات أن الإنسان قد خص من بين سائر الحيوانات بوجوب أشياء له وعليه, وتكاليف يؤاخذ بها فلا بد فيه من خصوصية بها يصير أهلا لذلك, وهو المراد بالذمة فهي وصف يصير به الإنسان أهلا لما له, وما عليه, واعترض بأن هذا صادق على العقل بالمعنى المذكور فيما سبق وأن الأدلة لا تدل على ثبوت وصف مغاير للعقل, وأجيب بأنا لا نسلم أن العقل بهذه الحيثية بل العقل إنما هو بمجرد فهم الخطاب, والوجوب مبني على الوصف المسمى بالذمة حتى لو فرض ثبوت العقل بدون ذلك الوصف كما لو ركب العقل في حيوان غير الآدمي لم يثبت الوجوب له وعليه, والحاصل أن هذا الوصف بمنزلة السبب لكون الإنسان أهلا للوجوب له, وعليه, والعقل بمنزلة الشرط فإن قلت فما معنى قولهم وجب أو ثبت في ذمته كذا قلت معناه الوجوب على نفسه باعتبار ذلك الوصف فلما كان الوجوب متعلقا به جعلوه بمنزلة ظرف يستقر فيه الوجوب دلالة على كمال التعلق, وإشارة إلى أن هذا الوجوب إنما هو باعتبار العهد, والميثاق الماضي كما يقال وجب في العهد والمروءة أن يكون كذا وكذا, وأما على ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أن المراد بالذمة في الشرع نفس, ورقبة لها ذمة وعهد فمعناه أنه, وجب على نفسه باعتبار كونها محلا لذلك العهد فالرقبة تفسير للنفس, والعهد تفسير للذمة, وهذا عند التحقيق من تسمية المحل باسم الحال, والمقصود واضح.
قوله: "قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} " ذهب كثير من المفسرين إلى أنه تمثيل والمراد نصب الأدلة الدالة على الربوبية والوحدانية المميزة بين الضلال, والهدى وكذا قوله تعالى:(2/337)
أدلة ثبوت الذمة
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} وقال: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ}.
ـــــــ
ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" هذه الآية إخبار عن عهد جرى بين الله, وبين بني آدم, وعن إقرارهم بوحدانية الله تعالى وبربوبيته, والإشهاد عليهم دليل على أنهم يؤاخذون بموجب إقرارهم من أداء حقوق تجب للرب تعالى على عباده فلا بد لهم من وصف يكونون به أهلا للوجوب عليهم فيثبت لهم الذمة بالمعنى اللغوي والشرعي. "وقال {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} " العرب كانوا ينسبون الخير والشر إلى الطائر فإن مر سانحا يتيمنون به وإن مر بارحا يتشاءمون به فاستعير الطائر لما هو في الحقيقة سبب للخير والشر, وهو قضاء الله تعالى, وقدره, وأعمال
................................................................................................
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} الآية تمثيل للزوم العمل له لزوم القلادة للعنق من غير اعتبار استعارة في العنق على انفراده كما يقال جعل القضاء في عنقه لا يراد وصف به صار أهلا لذلك, وإنما المراد مجرد الإلزام, والالتزام, وتحقيق ذلك إلى علماء البيان, وأما قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} فالمراد بالأمانة الطاعة الواجبة الأداء, والمعنى أنها لعظمها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام, وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها, وحملها الإنسان مع ضعف بنيته, ورخاوة قوته لا جرم فإذا الراعي لها, والقائم بحقوقها بخير الدارين أنه كان ظلوما حيث لم يف بها, ولم يراع حقوقها جهولا بكنه عاقبتها, وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب, وقيل: لما خلق الله تعالى هذه الأجرام خلق فيها فهما, وقال لها إني فرضت فريضة, وخلقت جنة لمن أطاعني ونارا لمن عصاني فقلن نحن مسخرات على ما خلقنا لا نحمل فريضة, ولا نبغي ثوابا, ولا عقابا, ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله, وكان ظلوما لنفسه بتحمل ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته, وقيل: الأمانة العقل والتكليف, وعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن, وإباؤهن عدم اللياقة والاستعداد, وحمل الإنسان قابليته واستعداده, وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية, والشهوية, وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي, ومجاوزة الحد, والعظم. مقاصد التكليف تعديلهما, وكسر سورتهما فظهر أنه لا دليل في هذه الآيات على أن للإنسان وصفا به يصير أهلا لما عليه, وليت شعري أي دلالة للعتق على ذلك, وأي حاجة إلى اعتبار الاستعارة في كل فرد من مفردات الكلام, وأيضا لما كان مبنى هذه الاستدلالات على أن الإنسان يلزمه ويجب عليه شيء فلا بد فيه من وصف به يصير أهلا لذلك لم يكن حاجة إلى هذه التكاليف بل دلالة قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} على هذا المعنى أظهر, وكذا ثبوت الحقوق له لا يدل على أن فيه وصفا هو الذمة لجواز أن يكون ذلك لذات الإنسان على أن استحقاق الرزق غير مختص بالإنسان فيلزم ثبوت الذمة لكل دابة.(2/338)
فقبل الولادة له ذمة من وجه يصلح ليجب لهما كان صلة تشبه المؤن أو
ـــــــ
العباد فإنها وسيلة لهم إلى الخير والشر فالمعنى ألزمناه ما قضي له من خير أو شر, وألزمناه عمله لزوم القلادة أو الغل العنق أي لا ينفك عنه أبدا فدلت الآية على لزوم العمل للإنسان فمحل ذلك اللزوم, وهو الذمة فقوله في عنقه استعار العنق لذلك الوصف المعنوي الذي به يلزم التكليف لزوم القلادة أو الغل العنق. "وقال: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} " فهذه الآية تدل على خصوصية الإنسان بحمل أعباء التكليف أي وجوبها عليه فيثبت بهذه الآيات الثلاث أن للإنسان وصفا هو به يصير أهلا لما عليه وقد فسر الذمة بوصف يصير هو به أهلا لما له وما عليه, ولا دليل في هذه الآيات على وصف يصير به أهلا لما له, ولكن المقصود هنا إثبات أهلية الوجوب عليه فيكون هذا كافيا في إثبات المقصود, وأما الدلائل الدالة على الوصف الذي يصير به أهلا لما له فكثيرة منها: قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}, ونحوهما.
"فقبل الولادة له ذمة من وجه يصلح ليجب له الحق لا ليجب عليه فإذا ولد تصير
................................................................................................
قوله: "فإن مر سانحا" السانح ما ولاك ميامنه أي يمر من مياسرك إلى ميامنك والبارح بالعكس, والعرب تتطير بالبارح, وتتفاءل بالسانح لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى ينحرف فبهذا الاعتبار استعير الطائر لما هو سبب الخير والشر من قضاء الله تعالى, وقدره, وعمل العبد فإن ما قدر للعبد بمنزلة طائر يطير إليه من عش الغيب ووكر القدر, ولا يخفى ما في كلام المصنف رحمه الله تعالى من التسامح حيث جعل الطائر استعارة لسبب الخير والشر أي قضاء الله تعالى وقدره, وأعمال العباد, ثم قال فالمعنى ألزمناه ما قضي له من خير, وشر فجعل الطائر عبارة عن نفس الخير, والشر المقضي به ثم القضاء هو الحكم من الله تعالى, والأمر أولا, والقدر هو التقدير, والتفصيل بالإظهار, والإيجاد ثانيا, وفي كلام الحكماء أن القضاء عبارة عن وجود جميع المخلوقات في الكتاب المبين, واللوح المحفوظ مجتمعة مجملة على سبيل الإبداع, والقدر عبارة عن وجودها مفصلة منزلة في الأعيان بعد حصول الشرائط كما قال عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} وقريب منه ما يقال إن القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة, وقد يقال: إن الله تعالى إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون فهناك شيئان: الإرادة والقول فالإرادة قضاء, والقول قدر.
قوله: "فقبل الولادة" يعني أن الجنين قبل الانفصال عن الأم جزء منها من جهة أنه ينتقل بانتقالها, ويقر بقرارها ومستقل بنفسه من جهة التفرد بالحياة والتهيؤ للانفصال فيكون له ذمة من وجهة حتى يصل وجوب الحقوق له كالإرث, والوصية والنسب لا لوجوبها عليه حتى لو اشترى الولي له شيئا لا يجب عليه الثمن وأما بعد الانفصال عن الأم فيصير ذمته مطلقة لصيرورته نفسا مستقلة من كل وجه فيصير أهلا للوجوب له وعليه حتى كان ينبغي أن يجب عليه كل حق يجب على(2/339)
الأعواض كنفقة القريب والزوجة لا صلة تشبه الأجزية فلا يتحمل العقل وإن كان عاقلا لأنه يشبه أن يكون جزاء أنه لم يحفظه عما فعل، ولا العقوبة كالقصاص، ولا الأجزية كحرمان الميراث على ما مر.
حقوق الله لا تجب على الصبي
ـــــــ
ذمته مطلقة لكن الوجوب غير مقصود بنفسه بل المقصود حكمه, وهو الأداء فكل ما يمكن أداؤه يجب وما لا يمكن فلا فحقوق العباد ما كان منها غرما, وعرضا يجب" أي على الصبي, وهذا فهم من قوله فإذا ولد "لأن المقصود هو المال وأداؤه يحتمل النيابة, وكذا ما كان صلة تشبه المؤن أو الأعواض كنفقة القريب" نظير الصلة التي تشبه المؤن "والزوجة" نظير الصلة التي تشبه الأعواض "لا صلة تشبه الأجزية" أي لا يجب "فلا يتحمل العقل" أي لا يتحمل الصبي الدية. "وإن كان عاقلا" في هذا الكلام إبهام "لأنه يشبه أن يكون جزاء أنه لم يحفظه عما فعل, ولا العقوبة" أي لا يجب على الصبي العقوبة "كالقصاص, ولا الأجزية كحرمان الميراث على ما مر" في باب المحكوم به, وهو قوله كحرمان الميراث بالقتل في حق الصبي لأنه لا يوصف بالتقصير.
................................................................................................
البالغ إلا أنه لما لم يكن أهلا للأداء لضعف بنيته والمقصود من الوجوب هو الأداء اختص واجباته بما يمكن أداؤه عنه فلهذا احتيج إلى تفصيل الواجبات, وتميز ما يجب عليه عما لا يجب وهو ظاهر من الكتاب.
قوله: "كنفقة القرب" فإنها صلة تشبه المؤمن من جهة أنها تجب على الغني كفاية لما يحتاج إليه أقاربه بمنزلة النفقة على نفسه بخلاف نفقة الزوج فإنها تشبه الأعراض من جهة أنها وجبت جزاء للاحتباس الواجب عليها عند الرجل, وإنما جعلت صلة لا عوضا محضا لأنها لم تجب بعقد المعاوضة بطريق التسمية على ما هو المعتبر في الأعواض فلكونها صلة تسقط بمعنى المدة إذا لم يوجد التزام كنفقة الأقارب, ولشبهها بالأعواض تصير دينا بالالتزام.
قوله: "وإن كان عاقلا" أي الصبي لا يتحمل الدية وإن كان ذا عقل, وتمييز لأن الدية وإن كانت صلة إلا أنها تشبه جزاء التقصير في حفظ القاتل عن فعله, والصبي لا يوصف بذلك, ولهذا لا تجب على النساء, ثم في قوله وإن كان عاقلا إيهام أن المراد وإن كان من العاقلة لكنه ليس بمراد لأن تحمل الدية لا يتصور إلا من العاقلة فلا معنى للتأكيد بقوله, وإن كان من العاقلة.(2/340)
حقوق الله لا تجب على الصبي
وأما حقوق الله تعالى فالعبادات لا تجب عليه أما البدنية فظاهرة وأما
ـــــــ
"وأما حقوق الله تعالى فالعبادات لا تجب عليه أما البدنية فظاهرة"; لأن الصبا سبب العجز
................................................................................................
قوله: "فالعبادات لا تجب عليه" أي على الصبي فإن قلت: من جملة العبادات الإيمان, وهو ليس ببدني, ولا مالي لكونه عمل القلب قلت: جعله من البدنية تغليبا أو باعتبار اشتماله على الإقرار الذي هو عمل اللسان, وذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن الصبي إذا عقل يجب عليه نفس(2/340)
المالية فلأن المقصود هو الأداء لا المال فلا يحتمل النيابة ولا العقوبات كالحدود.
ولا عبادات فيها مؤنة كصدقة الفطر عند محمد رحمه الله تعالى لرجحان معنى العبادة، ويجب عندهما اجتزاء بالأهلية القاصرة، وما كان مؤنة محضة كالعشر، والخراج
ـــــــ
"وأما المالية فلأن المقصود هو الأداء لا المال فلا يحتمل النيابة" فصارت كالبدنية "ولا العقوبات كالحدود ولا عبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر عند محمد رحمه الله تعالى لرجحان معنى العبادة, ويجب عندهما اجتزاء" أي اكتفاء "بالأهلية القاصرة, وما كان مؤنة محضة كالعشر, والخراج يجب, وعلى الأصل المذكور" وهو أن ما يمكن أداؤه يجب, وما لا
................................................................................................
الإيمان, وإن لم يجب عليه أداؤه لأن نفس الوجوب يثبت بأسبابه على طريق الجبر إذا لم يخل عن فائدة, وحدوث العالم وهو السبب متقرر في حقه, وأما الخطاب فإنما هو لوجوب الأداء, وهو ليس بأهل له فلو أدى الإيمان بالإقرار مع التصديق وقع فرضا لأن الإيمان لا يحتمل النفل أصلا, ولهذا لا يلزمه تجديد الإيمان بعد البلوغ فإن الصبا يصلح عذرا في سقوط وجوب الأداء لأنه مما يحتمل السقوط بعد البلوغ بعذر النوم, والإغماء بخلاف نفس الوجوب فإنه لا يحتمل السقوط بحال, والصبا لا ينافيه فيبقى نفس الوجوب ولهذا لو أسلمت امرأة الصبي, وهو يأباه بعد ما عرضه القاضي عليه يفرق بينهما, وذهب الإمام السرخسي رحمه الله تعالى إلى أنه لا وجوب عليه ما لم يبلغ, وإن عقل لأن الوجوب لا يثبت بدون حكمه, وهو الأداء لكن إذا أدى يكون الإيمان المؤدى فرضا لأن عدم الوجوب إنما كان بسبب عدم الحكم فقط, وإلا فالسبب والمحل قائم فإذا وجد وجد كالمسافر إذا صلى الجمعة تقع فرضا.
قوله: "وأما المالية فلأن المقصود هو الأداء" يعني أن الغرض من شرعية العبادات المالية كالزكاة مثلا هو الأداء ليظهر المطيع عن العاصي لا المال لأن الله تعالى غني عن العالمين, وليس المعنى أن الله تعالى أراد الأداء من كل مكلف حتى يلزم من عدم أداء البعض خلاف مراد الله تعالى وهو محال ألا يرى أنه لم يخلق الجن والإنس إلا لمعرفته ولا يلزم من عدم معرفة البعض خلاف مراد الله تعالى فعلى هذه الإجابة إلى ما قيل: إن المعنى المقصود هو الأداء في حق من علم الله تعالى منه الائتمار, وأما في حق غيره فالمقصود الابتلاء, وإلزام الحجة فإن قيل: قد تجري النيابة في المالية كما إذا وكل غيره بأداء زكاته فينبغي أن يجب على الصبي ويؤدي عنه وليه أجيب بأن فعل النائب في النيابة الاختيارية ينتقل إلى المنوب عنه فيصلح عبادة بخلاف النيابة الجبرية كنيابة الولي.
قوله: "مؤنة محضة كالعشر والخراج" يعني بالمحض أنه بحسب الأصل والقصد لا يخالطه شيء من معنى العبادات والعقوبات, وقد سبق أن معنى العبادة في العشر والعقوبة في الخراج إنما هو بحسب الوصف, وليس بمقصود.(2/341)
يجب، وعلى الأصل المذكور قلنا لو وجب أداء الصلاة على الحائض والحيض ينافيها لظهور ذلك في حق القضاء، وفي قضائها حرج فيسقط أصل الوجوب بخلاف الصوم إذ ليس في القضاء حرج، والأداء محتمل لأن الحدث لا ينافي الصوم، وعدم جوازه منها خلاف القياس فينتقل إلى الخلف يندر مستوعبا شهر رمضان.
أهلية الأداء
وأما الثانية والجنون الممتد بوجوب الحرج في الصلاة والصوم، وكذا الإغماء الممتد في الصلاة دون الصوم لأنه فقاصرة، وكاملة، وكل تثبت بقدرة كذلك والقدرة القاصرة تثبت بالعقل القاصر، وهو عقل الصبي، والمعتوه والكاملة بالعقل الكامل، وهو عقل البالغ غير المعتوه فما يثبت بالقاصرة أقسام.
ـــــــ
فلا. "قلنا لو وجب أداء الصلاة على الحائض والحيض ينافيها لظهور ذلك في حق القضاء, وفي قضائها حرج فيسقط أصل الوجوب بخلاف الصوم إذ ليس في القضاء حرج, والأداء محتمل" أي يحتمل أن يكون أداء الصوم من الحائض واجبا "لأن الحدث لا ينافي الصوم, وعدم جوازه منها" أي عدم جواز الصوم من الحائض "خلاف القياس فينتقل إلى الخلف" أي ينتقل الوجوب إلى الخلف, وهو القضاء "والجنون الممتد بوجوب الحرج في الصلاة والصوم, وكذا الإغماء الممتد في الصلاة دون الصوم لأنه" أي الإغماء "يندر مستوعبا شهر رمضان, وأما الثانية" أي أهلية الأداء "فقاصرة, وكاملة, وكل تثبت بقدرة كذلك" أي أهلية الأداء القاصرة تثبت بقدرة قاصرة وأهلية الأداء الكاملة تثبت بقدرة كاملة.
"والقدرة القاصرة تثبت بالعقل القاصر, وهو عقل الصبي, والمعتوه والكاملة بالعقل الكامل, وهو عقل البالغ غير المعتوه فما يثبت بالقاصرة أقسام فحقوق الله تعالى كالإيمان وفروعه تصح من الصبي لقوله عليه الصلاة والسلام: "مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم إذا بلغوا عشرا" "وإنما الضرب للتأديب" جواب إشكال, وهو أن يقال: كيف
................................................................................................
قوله: "والكاملة" أي القدرة الكاملة تكون بالعقل الكامل أي المقرون بقوة البدن, وذلك لأن المعتبر في وجوب الأداء ليس مجرد فهم الخطاب بل مع قدرة العمل به, وهو بالبدن فإذا كانت كلتا القدرتين منحطة عن درجة الكمال كما في الصبي الغير العاقل أو إحداهما كما في الصبي العاقل أو المعتوه البالغ كانت الأهلية ناقصة.
قوله: "فما يثبت" بالقدرة الناقصة أقسام لأنها إما حقوق الله تعالى أو حقوق العباد, والأول إما حسن لا يحتمل القبح, وإما قبيح لا يحتمل الحسن وإما متردد بينهما, والثاني إما نفع محض أو ضرر محض أو متردد بينهما صارت ستة وأحكامها مذكورة في المتن.(2/342)
يصح إيمان الصبي
فحقوق الله تعالى كالإيمان وفروعه تصح من الصبي لقوله عليه الصلاة والسلام: "مروا صبيانكم" وإنما الضرب للتأديب ولأنه أهل للثواب، ولأن الشيء إذا وجد لا ينعدم شرعا إلا بحجره وهو باطل فيما هو حسن، وفيه نفع محض ولا ضرر إلا في لزوم أدائه، وهو عنه موضوع وأما حرمان الميراث، والفرقة فيضافان إلى كفر الآخر.
وأيضا هما من ثمرات الإيمان وإنما يعرف صحة الشيء بحكمه الذي وضع له وهو سعادة الدارين ألا ترى أنهما يثبتان تبعا، ولم يعدا ضررا وأما الكفر. فيعتبر منه أيضا؛ لأن الجهل لا يعد علما فتصح ردته فيلزم أحكام الآخرة وكذا أحكام الدنيا لأنها تثبت ضمنا على أنها تلزم تبعا أيضا.
ـــــــ
يضرب, والضرب عقوبة, والصبي ليس من أهلها؟ فأجاب بأن هذا الضرب للتأديب, والصبي أهل للتأديب "ولأنه" عطف على قوله لقوله عليه الصلاة والسلام "أهل للثواب, ولأن الشيء إذا وجد لا ينعدم شرعا إلا بحجره" أي بحجر الشرع, وهو باطل فيما هو حسن, وفيه نفع محض ولا ضرر إلا في لزوم أدائه, وهو عنه موضوع "وأما حرمان الميراث, والفرقة فيضافان إلى كفر الآخر" جواب إشكال, وهو أن لزوم أداء الإسلام لما كان موضوعا عن الصبي لكونه ضررا يلزم أن لا يثبت بإسلامه حرمان الميراث عن مورثه الكافر, ولا الفرقة بينه وبين زوجته الوثنية; لأن كلا منهما ضرر فأجاب بأنهما يضافان إلى كفر الآخر لا إلى إسلامه.
"وأيضا هما من ثمرات الإيمان" وإنما يعرف صحة الشيء بحكمه الذي وضع له وهو سعادة الدارين ألا ترى أنهما يثبتان تبعا, ولم يعدا ضررا حتى لو كان ضررا لا يلزم بتبعية
................................................................................................
قوله: "وهو باطل فيما هو حسن, وفيه نفع محض" يعني أن الإيمان وفروعه حسن, وفيه نفع محض فلا يليق بالشارع الحكيم الحجر عنه فإن قيل: هو يحتمل الضرر بالالتزام, والعهدة حيث يأثم بتركه فالجواب أنه لا ضرر فيه إلا من جهة لزوم الأداء, ولزوم الأداء هو موضوع عن الصبي لأنه مما يحتمل السقوط بعد البلوغ بعذر النوم والإغماء والإكراه, وأما نفس الأداء وصحته فنفع محض لا ضرر فيه فإن قيل: نفس الأداء أيضا يحتمل الضرر في حق أحكام الدنيا كحرمان الميراث عن مورثه الكافر, والفرقة بينه, وبين زوجته المشركة فالجواب أنا لا نسلم أنهما مضافان إلى إسلام الصبي بل إلى كفر المورث والزوجة, ولو سلم فهما من ثمرات إسلامه وأحكامه اللازمة منه ضمنا لا من أحكامه الأصلية الموضوعة هو لها لظهور أن الإيمان إنما وضع لسعادة الدارين, وصحة الشيء إنما تعرف من حكمه الأصلي الذي وضع هو له لا مما يلزمه من حيث إنه من ثمراته, وهذا كما أن الصبي لو ورث قريبه أو وهب منه قريبه فقبله يعتق عليه مع أنه ضرر محض لأن الحكم الأصلي للإرث, والهبة هو الملك بلا عوض لا العتق الذي ترتب عليهما في هذه الصورة.
قوله: "ألا ترى أنهما" أي حرمان الإرث عن المورث الكافر, والفرقة عن الزوجة الوثنية(2/343)
حقوق العباد بالنسبة للصبي
وأما حقوق العباد فما كان نفعا محضا كقبول الهبة، ونحوه يصح، وإن لم يأذن، وليه فإن آجر المحجور نفسه وعمل يجب الأجر استحسانا.
لكن في العبد يشترط السلامة حتى إن تلف فيه يضمن أي إن تلف العبد المحجور في ذلك العمل يضمن المستأجر بخلاف الصبي؛ لأن الغصب لا يتحقق في الحر، وإذا قاتلا لا يستحقان الرضخ ويصح تصرفهما وكيلين بلا عهدة، وإن لم يأذن الولي إذ في الصحة اعتبار الآدمية وتوسل إلى إدراك المضار والمنافع، واهتداء في التجارة بالتجربة قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}.
ـــــــ
الأب إذ تصرفات الأب لا تلزم الصغير فيما هو ضرر محض "وأما الكفر فيعتبر منه أيضا; لأن الجهل لا يعد علما فتصح ردته فيلزم أحكام الآخرة" لأنها تتبع الاعتقاديات والاعتقاديات أمور موجودة حقيقة لا مرد لها بخلاف الأمور الشرعية "وكذا أحكام الدنيا لأنها تثبت ضمنا" أي لأن أحكام الدنيا تثبت بالكفر ضمنا والأحكام القصدية في الإسلام والكفر هي الأحكام الأخروية, ولما كانت ثابتة ضمنا تثبت, وإن كانت ضررا مع أنه لا يصح منه قصدا ما هو ضرر دنيوي "على أنها تلزم تبعا أيضا" أي الأحكام الدنيوية بسبب الكفر تلزم الصبي تبعا للأبوين, وإن كان لا يلزمه تصرفاتهما الضارة قصدا. "وأما حقوق العباد فما كان نفعا محضا كقبول الهبة, ونحوه يصح, وإن لم يأذن, وليه فإن آجر المحجور" أي الصبي المحجور أو العبد المحجور "نفسه وعمل يجب الأجر استحسانا", وفي القياس لا يجب الأجر لبطلان العقد,
................................................................................................
يثبتان فيما إذا ثبت إيمان الصبي تبعا بأن أسلم أحد الأبوين, ولم يعد إضرارا يمنع صحة ثبوت الإيمان لكونهما من الثمرات واللوازم لا من المقاصد والأحكام الأصلية للإيمان.
قوله: "وأما الكفر فيعتبر" من الصبي أيضا كما يعتبر منه الإيمان إذ لو عفي عنه الكفر, وجعل مؤمنا لصار الجهل بالله تعالى علما به لأن الكفر جهل بالله تعالى, وصفاته, وأحكامه على ما هي عليه, والجهل لا يجعل علما في حق العباد فكيف في حق رب الأرباب فيصح ارتداد الصبي في حق أحكام الآخرة اتفاقا لأن العفو عن الكفر, ودخول الجنة مع الشرك مما لم يرد به شرع, ولا حكم به عقل كذا في حق أحكام الدنيا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى حتى تبين منه امرأته المسلمة, ويحرم الميراث من مورثه المسلم لأنه في حق الردة بمنزلة البالغ لأن الكفر محظور لا يحتمل المشروعية بحال, ولا يسقط بعذر, وإنما لم يقتل لأن وجوب القتل ليس بمجرد الارتداد بل بالمحاربة, وهو ليس من أهلها كالمرأة وإنما لم يقتل بعد البلوغ لأن اختلاف العلماء في صحة إسلامه حال الصبا شبهة في إسقاط القتل.(2/344)
حكم ما فيه ضرر الصبي
وما كان ضررا محضا كالطلاق، والهبة والقرض، ونحوها لا يصح منه، وإن أذن وليه ولا مباشرته إلا القرض للقاضي، فإن عليه صيانة الحقوق، والعين لا يؤمن هلاكها.
ـــــــ
وجه الاستحسان أن عدم الصحة كان لحق المحجور حتى لا يلزمه ضرر فإذا عمل فوجوب الأجرة نفع محض, وإنما الضرر في عدم الوجوب لكن في العبد يشترط السلامة حتى إن تلف فيه يضمن أي إن تلف العبد المحجور في ذلك العمل يضمن المستأجر "بخلاف الصبي; لأن الغصب لا يتحقق في الحر, وإذا قاتلا لا يستحقان الرضخ" الضمير يرجع إلى الصبي والعبد المحجورين, والرضخ عطاء لا يكون كثيرا أي لا يبلغ سهم الغنيمة "ويصح تصرفهما وكيلين بلا عهدة, وإن لم يأذن الولي إذ في الصحة اعتبار الآدمية وتوسل إلى إدراك المضار والمنافع, واهتداء في التجارة بالتجربة قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} وما كان ضررا محضا" عطف على قوله فما كان نفعا "كالطلاق, والهبة والقرض, ونحوها لا يصح منه, وإن أذن وليه ولا مباشرته" أي لا يصح مباشرة الولي الطلاق, والهبة, والقرض من قبل الصبي "إلا القرض للقاضي", وإنما يصح إقراض مال الصبي للقاضي دون غيره من الأولياء لأن القاضي أقدر على استيفائه "فإن عليه صيانة الحقوق, والعين لا يؤمن هلاكها" جملة حالية أي لما كان صيانة الحقوق على القاضي, والحال أن العين ربما تهلك فيقرضها القاضي لتلزم في ذمة المستقرض, ويأمن هلاكها.
................................................................................................
قوله: "بلا عهدة" أي لا يلزم الصبي, والعبد بتصرفاتهما بطريق الوكالة عهدة لأن ما فيه احتمال الضرر لا يملكه الصبي إلا أن يأذن الولي فيندفع قصور رأيه بانضمام رأي الولي فيلزمه العهدة.
قوله: "ولا مباشرته" لأن ولاية الولي نظرية, وليس من النظر إثبات الولاية فيما هو ضرر محض, وقال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: الحق أنه لا ضرر في إثبات أصل الحكم حتى يملك إيقاع الطلاق عند الحاجة, ولو أسلمت الزوجة, وأبى الزوج فرق بينهما, وكذا إذا ارتد الزوج وحده.
قوله: "إلا القرض" أي الإقراض إذ استقراض مال الصبي يجوز للأب دون القاضي, وأما الإقراض فإنما يجوز للقاضي لأن الإقراض قطع الملك عن العين ببدله في ذمة من هو غير ملي في الغالب فيشبه التبرع فلا يملكه الولي, وأما القاضي فيمكنه أن يطلب مليا, ويقرضه مال اليتيم, ويكون البدل مأمون التلف باعتبار الملاءة, وعلم القاضي والقدرة على التحصيل من غير دعوى وبينة وهذا معنى كون القاضي أقدر على استيفائه, وفي رواية يجوز للأب أيضا.(2/345)
ما تردد بن النفع و الضرر
...
ما تردد بن النفع والضرر
وما كان مترددا بينهما يصح بشرط رأي الولي لأنه أهل لحكمه إذا باشر وليه فكذا إذا باشر بنفسه برأي الولي، ويحصل بهذا ما يحصل بذلك مع فضل تصحيح عبارته، وتوسيع طريق حصول المقصود ثم هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بطريق أن احتمال الضرر في تصرفه يزول برأي الولي فيصير كالبالغ حتى يصح بغبن فاحش من الأجانب، ولا يملكه الولي فأما من الولي ففي رواية يصح لما قلنا.
وفي رواية لا لأنه في الملك أصيل، وفي الرأي أصيل من، وجه دون وجه؛ لأن له أصل الرأي باعتبار أصل العقل دون وصفه إذ ليس له كمال العقل فثبت شبهة النيابة فاعتبرت في موضع التهمة وسقطت في غير موضعها وعندهما بطريق أنه يصير برأيه كمباشرته فلا يصح بالغبن الفاحش أصلا.
ـــــــ
"وما كان مترددا بينهما" أي بين النفع والضرر كالبيع, والشراء, ونحوهما فمن حيث إنه يدخل المشترى في ملك المشتري نفع, ومن حيث إنه يخرج البدل من ملكه ضرر "يصح شرط رأي الولي لأنه" أي الصبي "أهل لحكمه إذا باشر وليه فكذا إذا باشر بنفسه برأي الولي, ويحصل بهذا" أي بمباشرة الصبي برأي الولي "ما يحصل بذلك" أي بمباشرة الولي "مع فضل تصحيح عبارته, وتوسيع طريق حصول المقصود ثم هذا" أي تصرف الصبي برأي الولي فيما يتردد بين النفع, والضرر "عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بطريق أن احتمال الضرر في تصرفه يزول برأي الولي فيصير كالبالغ حتى يصح بغبن فاحش من الأجانب, ولا يملكه الولي فأما من الولي" أي بيع الصبي من الولي مع غبن فاحش "ففي رواية يصح لما قلنا" أنه يصير كالبالغ "وفي رواية لا لأنه" أي الصبي "في الملك أصيل, وفي الرأي أصيل من, وجه دون وجه; لأن له أصل الرأي باعتبار أصل العقل دون وصفه إذ ليس له كمال العقل فثبت شبهة النيابة" أي شبهة أنه نائب الولي إذا كان كذلك صار كأن الولي يبيع من نفسه مال الصبي بالغبن "فاعتبرت" أي شبهة النيابة "في موضع التهمة", وهو أن يبيع الصبي من الولي "وسقطت في غير موضعها" أي في غير موضع التهمة, وهو ما إذا باع من الأجانب "وعندهما" متعلق بقوله ثم هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى "بطريق أنه" أي تصرف الصبي "يصير برأيه" أي برأي الولي "كمباشرته" أي الوالي "فلا يصح بالغبن الفاحش أصلا" أي لا من الولي, ولا من الأجانب, "وأما, وصيته" أي, وصية الصبي "فباطلة; لأن الإرث شرع نفعا للمورث" قال عليه الصلاة والسلام: "لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء عالة يتكففون الناس" أي
................................................................................................
قوله: "وما كان مترددا بينهما" أي محتملا للنفع والضرر كالبيع, ويحتمل الربح, والخسران, وكذا الشراء والإجارة, والنكاح والمصنف رحمه الله تعالى جعل احتمال الضرر باعتبار خروج البدل عن الملك حتى لو باع الشيء بأضعاف قيمته كان ضررا ونفعا, ويلزمه أن لا يندفع الضرر بحال قط وقد ذكر أن احتمال الضرر يندفع بانضمام رأي الولي.
قوله: "لأنه أي الصبي أهل لحكمه" أي حكم ما هو متردد بين النفع والضرر إذا باشره الولي بنفسه, وذلك أنه يملك الثمن إذا باع الولي ماله, ويملك العين إذا اشتراها له, ويملك الأجرة إذا أجر عينا له.(2/346)
وصية الصبي
وأما، وصيته فباطلة؛ لأن الإرث شرع نفعا للمورث حتى شرع في حق الصبي إلا أنها شرعت في حق البالغ كالطلاق.
ـــــــ
يمدون أكفهم سائلين وإنما ذكر الوصية لأنها تراد إشكالا, وهو أن الوصية نفع لأنها سبب لثواب الآخرة مع أنه لا يزول الموصى به ما دام حيا من ملكه فينبغي أن يصح وصيته فأجاب بأن الإرث شرع نفعا للمورث وفي الوصية إبطال الإرث "حتى شرع في حق الصبي" فرع على أن الإرث شرع نفعا للمورث حتى لو كان ضررا لما شرع في حق الصبي "إلا أنها شرعت في حق البالغ كالطلاق" جواب إشكال, وهو أن الوصية لما كانت ضررا لكونها إبطالا للإرث ينبغي أن لا تصح من البالغ فأجاب بأنها شرعت من البالغ وإن كان ضررا كالطلاق
................................................................................................
قوله: "وتوسيع طريق حصول المقصود" حيث يثبت بمباشرة الولي, ومباشرة الصبي.
قوله: "وعندهما" أي تصرف الصبي بإذن الولي فيما يحتمل النفع والضرر, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إنما هو بطريق أنه يجعل بمنزلة مباشرة الولي العمل بنفسه حتى كان الصبي آلة فيقتصر على ما يقتصر عليه تصرف الولي, وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن رأي الولي شرط للجواز, وعموم رأيه كخصوصه فيجعل كأن الولي باشره بنفسه يعني أن رأي الولي شرط لجواز التصرف إما بنفسه أو بالصبي, ورأيه فيما إذا تصرف الصبي عام حيث جاوز تصرفه إلى تصرف الغير, وفيما إذا باشر بنفسه خاص لا يتجاوزه فيجعل عموم رأيه بأن عمل بيد الغير كخصوصه بأن يعمل بيد نفسه فيصير كأن الولي باشر بنفسه.
قوله: "وأما وصيته فباطلة" جواب سؤال يمكن تقريره بوجهين: أحدهما أن الوصية نفع محض لأنه يحصل بها الثواب في الآخرة بعد الاستغناء عن المال بالموت بخلاف الهبة والصدقة فإن فيهما تضرر زوال الملك في الحياة فعلى هذا التقرير كان ينبغي أن يذكر هذا عقيب الحكم بأن ما فيه نفع محض يملكه الصبي, وثانيهما أن الوصية مما يتردد بين النفع, والضرر لا سيما إذا كانت في جهة الخير لحصول الثواب في الآخرة مع تضرر إبطال الإرث الذي هو نفع للمورث, وعلى هذا لا يتم جواب المصنف رحمه الله تعالى لأن غايته بيان التضرر في الوصية, ويلزم منه صحتها بإذن الولي, ولا رواية في ذلك بل طريق الجواب أنا لا نسلم أنها تتضمن نفعا يعتد به بل هي ضرر محض, والنفع الذي تضمنته إنما وقع باتفاق الحال, وهو أنه حالة الموت فلا يعتد به بمنزلة ما لو باع ماله(2/347)
الأمور التي تعترض الأهلية - العوارض السماوية
مدخل
...
الأمور التي تعترض الأهلية
"فصل" الأمور المعترضة على الأهلية سماوية، ومكتسبة.
ـــــــ
"فصل الأمور المعترضة على الأهلية سماوية, ومكتسبة أو السماوية فمنها الجنون" وهو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال, والأقوال على نهج العقل إلا نادرا "وهو في القياس مسقط لكل العبادات لمنافاته القدرة; ولهذا عصم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عنه, وحيث لم يمكن الأداء يسقط الوجوب لكنهم استحسنوا أنه إذا لم يمتد لا يسقط الوجوب لعدم الحرج على أنه لا ينافي أهلية الوجوب فإنه يرث, ويملك لبقاء ذمته, وهو أهل للثواب ثم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى هذا" إشارة إلى أنه لا يسقط الوجوب إذا لم يمتد الجنون "إذا اعترض بعد البلوغ أما إذا بلغ مجنونا; فإنه يسقط مطلقا, ومحمد لم يفرق" بين ما عرض بعد
................................................................................................
بأضعاف قيمته لم يجز, وكما لو طلق امرأته المعسرة الشوهاء ليتزوج أختها الموسرة الحسناء, ولا يخفى ضعفه, ويمكن تطبيق جواب المصنف رحمه الله تعالى على التقرير الثاني بأن يقال: مراده أن ضررها أكثر لأن نقل الملك إلى الأقارب أفضل عقلا, وشرعا لما فيه من صلة الرحم, ولأن ترك الورثة أغنياء خير من تركهم فقراء بالنص, وترك الأفضل في حكم الضرر المحض, وبهذا يشعر قوله إلا أنها شرعت في حق البالغ كالطلاق يعني أن الضرر المحض قد يشرع للبالغ لكمال أهليته كالطلاق, وفي كونه ضررا محضا نظر.
قوله: "فصل" لما ذكر الأهلية بنوعيها شرع فيما يعترض عليهما فيزيلهما أو أحدهما أو يوجب تغييرا في بعض أحكامهما, ويسمى العوارض جمع عارض على أنه جعل اسما بمنزلة كاتب, وكاهل من عرض له كذا أي ظهر, وتبدى, ومعنى كونها عوارض أنها ليست من الصفات الذاتية كما يقال: البياض من عوارض الثلج, ولو أريد بالعروض الطريان, والحدوث بعد العدم لم يصح في الصغر إلا على سبيل التغليب ثم العوارض نوعان: سماوية إن لم يكن للعبد فيها اختيار, واكتساب: ومكتسبة إن كان له فيها دخل باكتسابها أو ترك إزالتها, والسماوية أكثر تغييرا, وأشد تأثيرا فقدمت, وهي أحد عشر: الجنون والصغر والعته والنسيان والنوم والإغماء والرق والمرض والحيض والنفاس والموت فالجنون اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة, والقبيحة المدركة للعواقب بأن لا يظهر آثارها, وبتعطل أفعالها إما لنقصان جبل عليه دماغه في أصل الخلقة, وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال بسبب خلط أو آفة, وإما لاستيلاء الشيطان عليه, وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه بحيث يفرح, ويفزع من غير ما يصلح سببا.
قوله: "لمنافاته" أي: لمنافاة الجنون القدرة التي بها يتمكن من إنشاء العبادات على النهج الذي اعتبره الشرع, وبانتفاء القدرة تنتفي الأهلية, فينتفي وجوب الأداء فينتفي نفس الوجوب.
قوله: "لكنهم" قالوا الجنون إما ممتد أو غير ممتد, وكل منهما إما أصلي بأن يبلغ مجنونا(2/348)
ما يترتب على الجنون من الأحكام
أما السماوية فمنها الجنون.
وهو في القياس مسقط لكل العبادات لمنافاته القدرة؛ ولهذا عصم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عنه، وحيث لم يمكن الأداء يسقط الوجوب لكنهم استحسنوا أنه إذا لم يمتد لا يسقط الوجوب لعدم الحرج على أنه لا ينافي أهلية الوجوب فإنه يرث، ويملك لبقاء ذمته، وهو أهل للثواب.
ثم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى هذا إذا اعترض بعد البلوغ أما إذا بلغ مجنونا؛ لا فإنه يسقط مطلقا، ومحمد لم يفرق فالممتد مسقط، وغير الممتد مسقط.
ـــــــ
البلوغ, وبين ما إذا بلغ مجنونا فالممتد مسقط, وغير الممتد مسقط ففي كل واحد من الصورتين الممتد مسقط, وغير الممتد غير مسقط عنده "ثم الامتداد في الصلاة بأن يزيد على يوم وليلة بساعة, وعند محمد بصلاة فتصير الصلاة ستا, وفي الصوم بأن يستغرق شهر رمضان, وبالزكاة بأن يستغرق الحول عند محمد رحمه الله تعالى, وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
................................................................................................
أو طارئ بعد البلوغ, فالممتد مطلقا مسقط للعبادات, وغير الممتد إن كان طارئا فليس بمسقط استحسانا لوجوه: الأول الإلحاق بالنوم, والإغماء بجامع كونه عذرا عارضا زال قبل الامتداد مع عدم الحرج في إيجاب القضاء. الثاني: أنه لا ينافي أهلية نفس الوجوب لبقاء الذمة بدليل أنه يرث, ويملك, والإرث, والملك من باب الولاية, ولا ولاية بدون الذمة إلا أنه إذا انتفى الأداء تحقيقا, وتقديرا بلزوم الحرج في القضاء ينعدم الوجوب. الثالث: أن المجنون أهل للثواب; لأنه يبقى مسلما بعد الجنون, والمسلم يثاب, والثواب من أحكام الوجوب, فيكون أهلا للوجوب في الجملة, ولا حرج في إيجاب القضاء, فيكون الأداء ثابتا تقديرا بتوهمه في الوقت, ورجائه بعد الوقت هذا إذا كان الجنون الغير الممتد طارئا, وأما إذا كان أصليا فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى مسقط بناء للإسقاط على الأصالة أو الامتداد, وعند محمد رحمه الله تعالى ليس بمسقط بناء للإسقاط على الامتداد فقط, والاختلاف في أكثر الكتب مذكور على عكس ذلك, وجه التسوية بين الأصل, والطارئ أمران أحدهما: أن الأصل في الجنون الحدوث والطريان إذ السلامة عن الآفات هي الأصل في الجبلة, فيكون أصالة الجنون أمرا عارضا, فيلحق بالأصل, وهو الجنون الطارئ, وثانيهما: أن زوال الجنون بعد البلوغ دل على أن حصوله كان لأمر عارض على أصل الخلقة لا لنقصان جبل عليه دماغه فكان مثل الطارئ, وجه التفرقة أيضا أمران أحدهما أن الطريان بعد البلوغ رجح جانب العروض فجعل عفوا عند عدم الامتداد إلحاقا بسائر العوارض بخلاف ما إذا بلغ مجنونا فزال فإن حكمه حكم الصغر فلا يوجب قضاء ما مضى, وثانيهما أن الأصلي يكون لآفة في الدماغ مانعة عن قبول الكمال, فيكون أمرا أصليا لا يقبل اللحاق بالعدم, والطارئ قد اعترض على محل كامل للحوق آفة, فيلحق بالعدم.(2/349)
تفسير الامتداد
ثم الامتداد في الصلاة بأن يزيد على يوم وليلة بساعة، وعند محمد بصلاة فتصير الصلاة ستا، وفي الصوم بأن يستغرق شهر رمضان، وبالزكاة بأن يستغرق الحول عند محمد رحمه الله تعالى، وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى أكثره كاف.
ـــــــ
أكثره كاف" أي الجنون في أكثر الحول كاف لسقوط الزكاة
............................................................................................
قوله: "ثم الامتداد في الصلاة" يعني: أن الامتداد عبارة عن تعاقب الأزمنة, وليس له حد معين فقدروه بالأدنى, وهو أن يستوعب الجنون وظيفة الوقت, وهو اليوم, والليلة في الصلاة; لأنه وقت جنس الصلاة, وجميع الشهر في الصوم حتى لو أفاق بعض ليلة يجب القضاء, وقيل: الصحيح أنه لا يجب إذ الليل ليس بمحل للصوم فالجنون, والإفاقة فيه سواء, ثم اشترطوا في الصلاة التكرار ليتأكد الكثرة, فيتحقق الحرج إلا أن محمدا اعتبر نفس الواجب أعني: جنس الصلاة فاشترط تكرارها, وذلك بأن تصير الصلوات ستا وهما اعتبرا نفس الوقت إقامة للسبب الظاهر أعني: الوقت مقام الحكم تيسيرا على العباد في سقوط القضاء فلو جن بعد الطلوع, وأفاق في اليوم الثاني قبل الظهر يجب القضاء عند محمد رحمه الله تعالى لعدم تكرر جنس الصلوات حيث لم تصر الصلوات ستا, وعندهما لا يجب لتكرر الوقت بزيادته على اليوم والليلة بحسب الساعات, وإن لم يزد بحسب الواجبات, ولم يشترطوا في الصوم التكرار; لأن من شرط المصير إلى التكرار أن لا يزيد على الأصل, ووظيفة الصوم لا تدخل إلا بمضي أحد عشر شهرا, فيصير التبع أضعاف الأصل, ولا يلزمنا زيادة المرتين في غسل أعضاء الوضوء تأكيدا للفرض; لأن السنة, وإن كثرت لا تماثل الفريضة, وإن قلت فضلا على أن تزيد عليها, والامتداد في الزكاة باستيعاب الحول; لأنه كثير في نفسه, وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى في رواية هشام عنه يقام الأكثر مقام الكل تيسيرا, وتخفيفا في سقوط الواجب.(2/350)
إيمان المجنون أو امرأته
وأما إيمانه فلا يصح لعدم ركنه وهو الاعتقاد لعدم العقل، وذلك لا يكون حجرا ويصح تبعا وإذا أسلمت امرأته عرض الإسلام على وليه، ويصير مرتدا تبعا لأبويه، وأما المعاملات فإنه يؤاخذ بضمان الأفعال في الأموال لما قلنا في الصبي ولما بينا أنه أهل.
لكن العارض من أسباب الحجر وأما ما هو من الأقوال فتفسد عباراته.
ـــــــ
"وأما إيمانه فلا يصح لعدم ركنه وهو الاعتقاد لعدم العقل, وذلك لا يكون حجرا", وإنما قال هذا جوابا لسؤال وهو: أن عدم صحة الإسلام من المجنون إذا تكلم بكلمة التوحيد إنما يكون بطريق الحجر والحجر إنما شرع بطريق النظر, ولا نظر في الحجر عن الإسلام; لأنه نفع محض فلا يصح الحجر عنه, فأجاب عنه بأن عدم صحته ليس بطريق الحجر "ويصح تبعا" عطف على قوله فلا يصح
................................................................................................
قوله: "وذلك لا يكون حجرا"; لأن الحجر هو أن يتم الفعل بركنه, ويقع في محله, ويصدر عن أهله, ثم لا يعتبر حكمه نظرا للصبي أو الولي, وإيمان المجنون استقلالا إنما لم يعتبر لعدم ركنه, وهو الاعتقاد بخلاف إيمانه تبعا لأحد أبوين فإنه يصح; لأن الاعتقاد ليس ركنا له, ولا شرطا, وبهذا يظهر الجواب عما يقال: إن غاية أمر التبع أن يجعل بمنزلة الأصل فإذا لم يصح بفعل نفسه لعدم صلوحه لذلك فبفعل غيره أولى.(2/350)
حكم الصغر
ومنها الصغر.
فقبل أن يعقل كالمجنون أما بعده، فيحدث له ضرب من أهلية الأداء لكن الصبا عذر مع ذلك، فيسقط عنه ما يحتمل السقوط عن البالغ فلا يسقط نفس الوجوب
ـــــــ
"وإذا أسلمت امرأته عرض الإسلام على وليه, ويصير مرتدا تبعا لأبويه, وأما المعاملات فإنه يؤاخذ بضمان الأفعال في الأموال لما قلنا في الصبي" في أول فصل الأهلية, وهو قوله: فحقوق العباد ما كان منها غرما وعوضا يجب "ولما بينا أنه أهل لكن هذا العارض من أسباب الحجر وأما ما هو من الأقوال فتفسد عباراته". ومنها الصغر إنما جعل الصغر من العوارض مع أنه حالة أصلية للإنسان في مبدأ الفطرة; لأن الصغر ليس لازما لماهية الإنسان إذ ماهية الإنسان لا تقتضي الصغر فنعني بالعوارض على الأهلية هذا المعنى أي: حالة لا تكون لازمة للإنسان, وتكون منافية للأهلية, ولأن الله تعالى خلق الإنسان لحمل أعباء التكاليف, ولمعرفة الله تعالى, فالأصل أن يخلقه على صفة تكون وسيلة إلى حصول ما قصده من خلقه
................................................................................................
قوله: "وإذا أسلمت امرأته" لو ذكر بالفاء على أنه تفريع على صحة إيمانه تبعا لكان أنسب يعني: لو أسلمت كتابية تحت مجنون كتابي, له ولي كتابي يعرض الإسلام على الولي فإن أسلم صار المجنون مسلما تبعا له, وبقي النكاح, وإلا فرق بينهما, وكان القياس التأخير إلى الإفاقة كما في الصغر إلا أن هذا استحسان; لأن للصغر حدا معلوما بخلاف الجنون ففي التأخير ضرر للزوجة مع ما فيه من الفساد لقدرة المجنون على الوطء.
قوله: "ويصير مرتدا تبعا لأبويه" فيما إذا بلغ مجنونا, وأبواه مسلمان فارتدا, ولحقا معه بدار الحرب, وذلك; لأن الكفر بالله تعالى قبيح لا يحتمل العفو بعد تحققه بواسطة تبعية الأبوين بخلاف ما إذا تركاه في دار الإسلام فإنه مسلم تبعا للدار, وكذا إذا بلغ مسلما, ثم جن أو أسلم عاقلا فجن قبل البلوغ فإنه صار أهلا للإيمان بتقرر ركنه فلا ينعدم بالتبعية أو عروض الجنون.
قوله: "فإنه" أي: المجنون يؤاخذ بضمان الأفعال في الأموال كما إذا أتلف مال إنسان لتحقق الفعل حسا مع أن المقصود هو المال, وأداؤه يحتمل النيابة بخلاف أقواله فإنه لا يعتد بها شرعا لانتفاء تعقل المعاني فلا تصح أقاريره, وعقوده, وإن أجازها الولي.(2/351)