المجلد الأول
خطبة الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
الحمد لله الذي أحكم بكتابه أصول الشريعة الغراء، ورفع بخطابه فروع الحنيفية السمحة البيضاء، حتى أضحت كلمته الباقية راسخة الأساس شامخة البناء. كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أوقد من مشكاة السنة لاقتباس أنوارها سراجا وهاجا، وأوضح لإجماع الآراء على اقتفاء آثارها قياسا ومنهاجا، حتى صادفت بحار العلم والهدى تتلاطم أمواجا. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، والصلاة على من أرسله لساطع الحجة معوانا وظهيرا، وجعله لواضح المحجة سلطانا ونصيرا، محمد المبعوث هدى للأنام مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ثم على من التزم بمقتضى إشاراته الدالة على طريق العرفان، واعتصم فيها بما تواتر من نصوصه الظاهرة البيان، واغتنم في شريف ساحته كرامة الاستصحاب والاستحسان، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وبعد فإن علم الأصول الجامع بين المعقول والمنقول، النافع في الوصول إلى مدارك المحصول أجل ما يتنسم في إحكام أحكام الشرع قبول القبول، وأعز ما يتخذ لإعلاء أعلام الحق عقول العقول، وإن كتاب التنقيح - مع شرحه المسمى بالتوضيح للإمام المحقق والنحرير المدقق علم الهداية وعالم الدراية معدل ميزان المعقول، والمنقول، ومنقح أغصان الفروع والأصول صدر الشريعة والإسلام، أعلى الله درجته في دار السلام - كتاب شامل لخلاصة كل مبسوط واف، ونصاب كامل من خزانة كل منتخب كاف، وبحر محيط بمستصفى كل مديد وبسيط، وكنز مغن عما سواه من كل وجيز ووسيط، فيه كفاية لتقديم ميزان الأصول وتهذيب أغصانها، وهو نهاية في تحصيل مباني الفروع وتعديل أركانها، نعم قد سلك منهاجا بديعا في كشف أسرار التحقيق، واستولى على الأمد الأقصى من رفع منار التدقيق، مع شريف زيادات ما مستها أيدي الأفكار، ولطيف ما فتق بها رتق آذانهم أولو الأبصار، ولهذا طار كالأمطار في الأقطار، وصار كالأمثال في الأمصار، ونال في الآفاق حظا من الاشتهار، ولا اشتهار الشمس في نصف النهار. وقد صادفت مجتازي ما وراء النهر لكثير من فضلاء الدهر أفئدة تهوى إليه وأكبادا هائمة عليه، وعقولا جاثية بين يديه، ورغبات مستوقفة المطايا لديه، معتصمين في كشف أستاره بالحواشي والأطراف، قانعين في بحار أسراره على اللآلئ بالأصداف لا تحل أنامل الأنظار عقد معضلاته ولا يفتح بنان البيان أبواب مغلقاته فلطائفه بعد تحت حجب الألفاظ مستورة وخرائده في خيام الأستار مقصورة ترى حواليها همما مستشرفة(1/5)
حامدا لله تعالى أولا وثانيا ولعنان الثناء إليه ثانيا وعلى أفضل رسله وآله مصليا
................................................................................................
الأعناق، ودون الوصول إليها أعينا ساهرة الأحداق، فأمرت بلسان الإلهام، لا كوهم من الأوهام، أن أخوض في لجج فوائده وأغوص على غرر فرائده، وأنشر مطويات رموزه، وأظهر مخفيات كنوزه، وأسهل مسالك شعابه، وأذلل شوارد صعابه، بحيث يصير المتن مشروحا، ويزيد الشرح بيانا ووضوحا، فطفقت أقتحم موارد الشهر في ظلم الدياجر، وأحتمل مكابد الفكر في ظمإ الهواجر، راكبا كل صعب وذلول، لاقتناص شوارد الأصول، ونازفا غلالة الجد في الأصول إلى مقاصد الأبواب والفصول، حتى استوليت على الغاية القصوى من أسرار الكتاب، وأمطت عن وجوه خرائد قناع الارتياب، ثم جمعت هذا الشرح المرسوم بالتلويح إلى كشف حقائق التنقيح. مشتملا على تقرير قواعد الفن وتحرير معاقده، وتفسير مقاصد الكتاب وتكثير فوائده، مع تنقيح لما آثر فيه المصنف بسط الكلام، وتوضيح لما اقتصر فيه على ضبط المرام، في ضمن تقريرات تنفتح لورودها أصداف الآذان، وتحقيقات تهتز لإدراكها أعطاف الأذهان، وتوجيهات ينشط لاستماعها الكسلان، وتقسيمات يطرب عند سماعها الثكلان، معولا في متون الرواية على ما اشتهر من الكتب الشريفة، ومعرجا في عيون الدراية على ما تقرر من النكت اللطيفة، وسيحمد الغائص في بحار التحقيق الفائض عليه أنوار التوفيق، ما أودعت هذا الكتاب الذي لا يستكشف القناع عن حقائقه إلا الماهر من علماء الفريقين، ولا يستهل للاطلاع على دقائقه إلا البارع في أصول المذهبين، مع بضاعة في صناعة التوجيه والتعديل، وإحاطة بقوانين، الاكتساب والتحصيل، والله سبحانه ولي الإعانة والتأييد، والملي بإفاضة الإصابة والتسديد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قوله: "حامدا" حال من المستكن في متعلق الباء أي بسم الله أبتدئ الكتاب حامدا آثر طريقة الحال على ما هو المتعارف عندهم من الجملة الاسمية والفعلية نحو الحمد لله وأحمد الله تسوية بين الحمد والتسمية ورعاية للتناسب بينهما فقد ورد في الحديث: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجزم" فحاول أن يجعل الحمد قيدا للابتداء حالا عنه كما وقعت التسمية كذلك إلا أنه قدم التسمية؛ لأن النصين متعارضان ظاهرا، إذ الابتداء بأحد الأمرين يفوت الابتداء بالآخر وقد أمكن الجمع بأن يقدم أحدهما على الآخر فيقع الابتداء به حقيقة وبالآخر بالإضافة إلى ما سواه فعمل بالكتاب الوارد بتقديم التسمية والإجماع المنعقد عليه وترك العاطف لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية ولا يجوز أن يكون حامدا حالا من فاعل يقول؛ لأن قوله وبعد فإن العبد على ما في النسخة المقررة عند المصنف صارف عن ذلك. وأما على النسخة القديمة الخالية عن هذا الصارف فالظاهر أنه حال عنه. وأما تفصيل الحمد بقوله أولا وثانيا فيحتمل وجوها: الأول أن الحمد يكون على النعمة وغيرها فالله تعالى يستحق الحمد أولا بكمال ذاته وعظمة صفاته وثانيا بجميل نعمائه وجزيل
آلائه التي من جملتها التوفيق لتأليف هذا الكتاب الثاني أن نعمة الله تعالى على كثرتها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولا وإيجاد وإبقاء ثانيا فيحمده على القسمين تأسيا بالسور المفتتحة بالتحميد حيث أشير في الفاتحة إلى الجميع وفي الأنعام إلى الإيجاد وفي الكهف إلى الإبقاء أولا وفي السبأ إلى الإيجاد وفي الملائكة إلى الإبقاء. ثانيا الثالث الملاحظة لقوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص:70](1/6)
وفي حلبة الصلوات مجليا ومصليا. وبعد: فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة
................................................................................................
على معنى أنه يستحق الحمد في الدنيا على ما يعرف بالحجة من كماله ويصل إلى العباد من نواله وفي الآخرة على ما يشاهد من كبريائه ويعاين من نعمائه التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10] فإن قلت فقد وقع التعرض للحمد على الكبرياء والآلاء في داري الفناء والبقاء فما معنى قوله ولعنان الثناء ثانيا أي: صارفا عطفا على "حامدا" قلت: معناه قصد تعظيمه ونية التقرب إليه في كل ما يصلح لذلك من الأقوال والأفعال وصرف الأموال إشارة إلى أنواع العبادات فإن نعم الله تعالى تستوجب الشكر بالقلب واللسان والجوارح والحمد لا يكون إلا باللسان، وفيه إشارة إلى أن الأخذ في العلوم الإسلامية ينبغي أن يعرض عن جانب الخلق ويصرف أعنة الثناء من جميع الجهات إلى جناب الحق تعالى وتقدس عالما بأنه المستحق للثناء وحده، فإن قلت: من شرط الحال المقارنة للعامل والأحوال المذكورة أعني حامدا وغيره لا تقارن الابتداء بالتسمية قلت: ليس الباء صلة ل "أبتدئ" بل الظرف حال والمعنى متبركا بسم الله أبتدئ الكتاب، والابتداء أمر عرفي يعتبر ممتدا من حين الأخذ في التصنيف إلى الشرع في البحث ويقارنه التبرك بالتسمية والحمد والصلاة، فإن قلت: فعلى الوجه الثالث يكون حامدا ثانيا بمعنى ناويا للحمد وعازما عليه ليكون مقارنا للعامل وحينئذ يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز قلت: يجعل من قبيل المحذوف أي وحامدا ثانيا بمعنى عازما عليه فلا يلزم الجمع.
قوله: "وعلى أفضل رسله مصليا" لما كان أجل النعم الواصلة إلى العبد هو دين الإسلام، وبه التوصل إلى النعم الدائمة في دار السلام، وذلك بتوسط النبي عليه الصلاة والسلام صار الدعاء له تلو الثناء على الله تعالى فأردف الحمد بالصلاة، وفي ترك التصريح باسم النبي عليه السلام على ما في النسخة المقررة تنويه بشأنه وتنبيه على أن كونه أفضل الرسل عليه السلام أمر جلي لا يخفى على أحد. والحلبة بالسكون خيل تجمع للسباق من كل أوب استعيرت للمضمار. والمجلي هو السابق من أفراس السباق والمصلي هو الذي يتلوه؛ لأن رأسه عند صلويه، ومعنى ذلك تكثير الصلاة وتكريرها أو أشار بالمجلي إلى الصلاة على النبي وبالمصلي إلى الصلاة على الآل؛ لأنها إنما تكون ضمنا وتبعا، ثم لا يخفى حسن ما في قرائن الحمد والصلاة من التجنيس وما في القرينة الثانية من الاستعارة بالكناية والتخييل والترشيح وما في الرابعة من التمثيل، وإن تقديم المعمولات في القرائن الثلاث الأخيرة لرعاية السجع والاهتمام، إذ الحصر لا يناسب المقام، وإن انتصاب أولا وثانيا على الظرفية. وأما التنوين في أولا مع أنه أفعل التفضيل بدليل الأولى والأوائل كالفضل والأفاضل فلأنه هاهنا ظرف بمعنى قبل، وهو حينئذ منصرف لا وصفية له أصلا، وهذا معنى ما قال في الصحاح إذا جعلته صفة لم تصرفه تقول لقيته عاما أول وإذا لم تجعله صفة صرفته تقول لقيته عاما أولا ومعناه في الأول أول من هذا العام، وفي الثاني قبل هذا العام.
قوله: "سعد جده" فيه إيهام، إذ الجد البخت وأب الأب.
قوله: "وفقني الله" التوفيق جعل الأسباب متوافقة ويعدى باللام وتعديته بالباء تسامح أو(1/7)
عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وأنجح جده يقول لما وفقني الله بتأليف تنقيح الأصول أردت أن أشرح مشكلاته وأفتح مغلقاته معرضا عن شرح المواضع التي من يحلها بغير إطناب لا يحل له النظر في ذلك الكتاب واعلم أني لما سودت كتاب التنقيح، وسارع بعض الأصحاب إلى انتساخه ومباحثته وانتشر النسخ في بعض الأطراف ثم بعد ذلك وقع فيه قليل من التغييرات وشيء من المحو والإثبات فكتبت في هذا الشرح عبارة المتن على النمط الذي تقرر عندي لتغيير النسخ المكتوبة قبل التغييرات إلى هذا النمط.
ثم لما تيسر إتمامه وفض بالاختتام ختامه مشتملا على تعريفات وحجج مؤسسة على قواعد المعقول وتفريعات مرصصة بعد ضبط الأصول وترتيب أنيق لم يسبقني على مثله أحد مع تدقيقات غامضة لم يبلغ فرسان هذا العلم إلى هذا الأمد سميت هذا الكتاب بالتوضيح في حل غوامض التنقيح، والله تعالى مسئول أن يعصم عن الخطأ والخلل كلامنا وعن السهو والزلل أقلامنا وأقدامنا.
................................................................................................
تضمين لمعنى التشريف والمصنف كثيرا ما يتسامح في صلاة الأفعال ميلا منه إلى جانب المعنى.
قوله: "وفض" من فضضت ختم الكتاب فتحته والفض الكسر بالتفريق واختتمت الكتاب بلغت آخره والختام الطين الذي يختم به جعل الكتاب قبل التمام لاحتجابه عن نظر الأنام بمنزلة الشيء المختوم الذي لا يطلع على مخزوناته ولا يحاط بمستودعاته، ثم جعل عرضه على الطالبين بعد الاختتام وعدم منعهم عن مطالعته بعد التمام بمنزلة فض الختام.
قوله: "مؤسسة على قواعد المعقول" أي مبنية على الوجوه والشرائط المذكورة في علم الميزان لا كما هو دأب قدماء المشايخ من الاقتصار على حصول المقصود.
قوله: "وترتيب أنيق" أي: حسن معجب يريد به بعض ما تصرف فيه من التقديم والتأخير في المباحث والأبواب على الوجه الأحسن الأليق لم يسبقني والصواب لم يسبقني إلى مثله سبقت العالمين إلى المعالي.
قوله: "لم يبلغ" صفة تدقيقات والعائد محذوف أي لم يبلغها فرسان علم الأصول إلى هذه الغاية من الزمان أو المراد لم يصل فرسان هذا العلم إلى تلك الغاية من التدقيق فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير وتعدية البلوغ بإلى لجعله بمعنى الوصول والانتهاء.
قوله: "سميت هذا الكتاب" جواب لما وضع اسم الإشارة موضع الضمير لكمال العناية بتمييزه، فإن قلت: لما لثبوت الثاني لثبوت الأول فيقتضي سببية ما ذكره بعد لما لتسمية هذا الكتاب بالتوضيح فما وجهه قلت: وجهه أن الضمير في إتمامه للشرح المذكور الموصوف بأنه شرح لمشكلات التنقيح وفتح لمغلقاته وإتمام مثل هذا الشرح مع اشتماله على الأمور المذكورة يصلح سببا لتسميته بالتوضيح في حل غوامض التنقيح.(1/8)
إليه يصعد الكلم الطيب من محامد لأصولها من مشارع الشرع ماء ولفروعها من قبول القبول نماء على أن جعل أصول الشريعة ممهدة المباني وفروعها رقيقة الحواشي بنى على أربعة أركان قصر الأحكام وأحكمه بالمحكمات غاية الإحكام وجعل المتشابهات مقصورات خيام الاستتار ابتلاء لقلوب الراسخين والنصوص منصة عرائس أبكار أفكار المتفكرين وكشف القناع عن جمال مجملات كتابه بسنة نبيه المصطفى وفصل خطابه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما رفع أعلام الدين بإجماع المجتهدين ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين.
ـــــــ
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] افتتح بالضمير قبل الذكر ليدل على حضوره في الذهن، فإن ذكر الله تعالى كيف لا يكون في الذهن سيما عند افتتاح الكلام كقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105] وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] وقوله الطيب صفة الكلم. والكلم إن كان جمعا وكل جمع يفرق بينه وبين واحدة بالتاء يجوز في وصفه التذكير والتأنيث نحو نخل خاوية ونحو "منقعر", "من محامد لأصولها من مشارع
................................................................................................
قوله: "إليه يصعد" افتتاح غريب واقتباس لطيف أتى بالضمير قبل الذكر دلالة على حضور ذكر الله تعالى في قلب المؤمن سيما عند افتتاح الكلام في أصول الشرع وإشارة إلى أن الله تعالى متعين لتوجه المحامد إليه لا يفتقر إلى التصريح بذكره ولا يذهب الوهم إلى غيره، إذ له العظمة والجلالة ومنه العطاء والنوال وإيماء إلى أن الشارع في العلوم الإسلامية ينبغي أن يكون مطمح نظره ومقصد همته جناب الحق تعالى وتقدس ويقتصر على طلب رضاه ولا يلتفت إلى ما سواه لا يقال: إن ابتدأ المتن بالتسمية فلا إضمار قبل الذكر، وإن لم يبدأ لزم ترك العمل بالسنة؛ لأنا نقول يكفي في العمل بالسنة أن تذكر التسمية باللسان أو تخطر بالبال أو تكتب على قصد التبرك من غير أن تجعل جزءا من الكتاب وعلى كل تقدير يكون الإضمار قبل ذكر المرجع في الكتاب، والصعود الحركة إلى المعالي مكانا وجهة استعير للتوجه إلى العالي قدرا ومرتبة والكلم من الكلمة بمنزلة التمر من التمرة يفرق بين الجنسي وواحده بالتاء، واللفظ مفرد إلا أنه كثيرا ما يسمى جمعا نظرا إلى المعنى الجنسي ولاعتبار جانبي اللفظ والمعنى يجوز في وصفه التذكير والتأنيث قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20] أي منقطع عن مغارسه ساقط على وجه الأرض وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] أي متآكلة الأجواف، ثم الكلم غلب على الكثير لا يستعمل في الواحد ألبتة حتى توهم بعضهم أنها جمع كلمة وليس على حد تمر وتمرة إلا أن الكلم الطيب بتذكير الوصف يدل على ما ذكرنا مع أن "فعلا" ليس من أبنية الجمع فلا ينبغي أن يشك في أنه اسم جمع كتمر وركب وأنه ليس بجمع كنسب ورتب ففي قوله والكلم إن كان جمعا حرازة لا تخفى والصواب، وإن كان بالواو.
قوله: "من محامد" حال من الكلم بيانا له على ما قال النبي عليه السلام "هو سبحان الله(1/9)
الشرع ماء ولفروعها من قبول القبول نماء" القبول الأول ريح الصبا "على أن جعل أصول الشريعة ممهدة المباني وفروعها رقيقة الحواشي" أي لطيفة الأطراف والجوانب ودقيقة
................................................................................................
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل" ، وإنما صلح الجمع المنكر بيانا للمعرف المستغرق لما سيجيء من أن النكرة تعم بالوصف كامرأة كوفية، ولأن التنكير هاهنا للتكثير، وهو يناسب التعميم. والمحامد جمع محمدة بمعنى الحمد، وهو مقابلة الجميل من نعمة أو غيرها بالثناء والتعظيم باللسان. والشكر مقابلة النعمة بالإظهار وتعظيم المنعم قولا أو عملا أو اعتقادا فلاختصاص الحمد باللسان كان بيان الكلم بها أنسب والمشارع جمع مشرعة الماء وهي مورد الشاربة والشرع والشريعة ما شرع الله تعالى لعباده من الدين أي أظهر وبين وحاصله الطريقة المعهودة الثابتة من النبي عليه السلام جعلها على طريق الاستعارة المكنية بمنزلة روضات وجنات فأثبت لها مشارع يردها المتعطشون إلى زلال الرحمة والرضوان وبهذا الطريق أثبت لقبول العبادة الذي هو مهب ألطاف الرحمن ومطلع أنوار الغفران ريح الصبا التي بها روح الأبدان ونماء الأغصان فإن القبول الأول ريح الصبا ومهبها المستوي مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ويقابلها الدبور والعرب تزعم أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء، ثم تسوقه فإذا علا كشف عنه واستقبلته الصبا فوزعت بعضه على بعض حتى يصير كسفا واحدا، ثم ينزل مطرا تنمي به الأشجار والقبول الثاني من المصادر الشاذة لم يسمع له ثان والنماء الزيادة والارتفاع نما ينمي نماء ونما ينمو نموا وحقيقة النمو الزيادة في أقطار الجسم على تناسب طبيعي، ثم في وصف المحامد بما ذكر تلميح إلى قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [ابراهيم:24] فإن المحامد لما كانت هي الكلم الطيب والكلمة الطيبة كشجرة طيبة فالمحمدة شجرة لها أصل هو الإيمان والاعتقادات وفروع هو الأعمال والطاعات وتحقيق ذلك أن الحمد، وإن كان في اللغة فعل اللسان خاصة إلا أن حمد الله تعالى على ما صرح به الإمام الرازي في تفسيره ليس قول القائل الحمد لله، بل ما يشعر بتعظيمه وينبئ عن تمجيده من اعتقاد اتصافه بصفات الكمال والترجمة عن ذلك بالمقال والإتيان بما يدل عليه من الأعمال فالاعتقاد أصل لولاه لكان الحمد كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار والعمل فرع لولاه لما كان للحمد نماء إلى الله تعالى وقبول عنده بمنزلة دوحة لا غصن لها وشجرة لا ثمرة عليها، إذ العمل هو الوسيلة إلى نيل الجنات ورفع الدرجات قال الله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وفي الحديث: "فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل" فأشار المصنف إلى أن لشجرة المحامد أصلا ثابتا هو الاعتقاد الراسخ الإسلامي المبتنى على علم التوحيد والصفات وفرعا ناميا إلى الله تعالى مقبولا عنده هو العمل الصالح الموافق للشريعة المطهرة المبتنى على علم الشرائع والأحكام وأشار إلى الاختصاص والدوام بقوله إليه يصعد بتقديم الظرف المفيد للاختصاص ولفظ المضارع المنبئ عن الاستمرار.
قوله: "على أن جعل" تعليق للمحامد ببعض النعم إشارة إلى عظم أمر العلم الذي وقع التصنيف فيه ودلالة على جلالة قدره والشريعة نعم الفقه وغيره من الأمور الثابتة بالأدلة السمعية(1/10)
المعاني "بني على أربعة أركان قصر الأحكام وأحكمه بالمحكمات غاية الإحكام وجعل المتشابهات مقصورات خيام الاستتار ابتلاء لقلوب الراسخين" فإن إنزال المتشابهات على مذهبنا وهو الوقف اللازم على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]
................................................................................................
كمسألة الرؤية والمعاد وكون الإجماع والقياس حجة وما أشبه ذلك وأصول الشريعة أدلتها الكلية ومباني الأصول ما تبتنى هي عليه من علم الذات والصفات والنبوات وتمهيدها تسويتها وإصلاحها بكونها على وفق الحق ونهج الصواب وفروع الشريعة أحكامها المفصلة المبينة في علم الفقه ومعانيها العلل الجزئية التفصيلية على كل مسألة ودقتها كونها غامضة لطيفة لا يصل إليها كل أحد بسهولة وجميع ذلك نعم تستوجب الحمد، إذ بالشريعة نظام الدنيا وثواب العقبى وبدقة معاني الفقه رفعة درجات العلماء ونيلهم الثواب في دار الجزاء، وفي هذا الكلام إشارة إلى أن علم الأصول فوق الفقه ودون الكلام؛ لأن معرفة الأحكام الجزئية بأدلتها التفصيلية موقوفة على معرفة أحوال الأدلة الكلية من حيث توصل إلى الأحكام الشرعية وهي موقوفة على معرفة الباري وصفاته وصدق المبلغ ودلالة معجزاته ونحو ذلك مما يشتمل عليه علم الكلام الباحث عن أحوال الصانع والنبوة والإمامة والمعاد وما يتصل بذلك على قانون الإسلام.
قوله: "بني على أربعة أركان" بمنزلة البدل من الجملة السابقة شبه الأحكام الشرعية بقصر من جهة أن الملتجئ إليها يأمن من غوائل عدو الدين وعذاب النار فأضاف المشبه به إلى المشبه كما في لجين الماء والأحكام تستند إلى أدلة جزئية ترجع مع كثرتها إلى أربعة دلائل هي أركان قصر الأحكام فذكرها في أثناء الكلام على الترتيب الذي بنى الشارع الأحكام عليها من تقديم الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم العمل بالقياس ذكر الثلاثة الأول صريحا والقياس بقوله ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين أي القائلين المتأملين في النصوص وعلل الأحكام من قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] تقول اعتبرت الشيء إذا نظرت إليه وراعيت والعلم الأثر الذي يستدل به على الطريق عبر به عن علة الحكم التي بها يستدل على ثبوت الحكم في المقيس، فإن قلت: ليس ترتيب الشارع تقديم السنة على الإجماع مطلقا، بل إذا كانت قطعية قلت: الكلام في متن السنة ولا خفاء في تقدمه، وإنما يؤخر حيث يؤخر لعارض الظن في ثبوته، ثم ذكر بعض أقسام الكتاب إشارة إلى أنه كما يشتمل القصر على ما هو غاية في الظهور وعلى ما هو دونه وعلى ما هو غاية في الخفاء والاستتار بحيث لا يصل إليه غير رب القصر وعلى ما هو دونه كذلك قصر الأحكام يشتمل على محكم هو غاية في الظهور ونص هو دونه وعلى متشابه هو غاية في الخفاء ومجمل هو دونه وسيجيء تفسيرها.
قوله: "مقصورات" أي محبوسات جعل خيام الاستتار مضروبة على المتشابه محيطة به بحيث لا يرجى بدوه وظهوره أصلا على ما هو المذهب من أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وفائدة إنزاله ابتلاء الراسخين في العلم بمنعهم عن التفكير فيه والوصول إلى ما هو غاية متمناهم من العلم بأسراره فكما أن الجهال مبتلون بتحصيل ما هو غير مطلوب عندهم من العلم والإمعان في(1/11)
لابتلاء الراسخين في العلم بكبح عنان ذهنهم عن التفكر فيها، والوصول إلى ما يشتاقون إليه من العلم بالأسرار التي أودعها فيها ولم يظهر أحدا من خلقه عليها "والنصوص منصة عرائس أبكار أفكار المتفكرين" منصة العروس مكان يرفع العروس عليه للجلوة "وكشف القناع عن جمال مجملات كتابة بسنة نبيه المصطفى وفصل خطابه" أي الخطاب الفاصل بين الحق
................................................................................................
الطلب كذلك العلماء مبتلون بالوقف وترك ما هو محبوب عندهم، إذ ابتلاء كل أحد إنما يكون بما هو على خلاف هواه وعكس متمناه.
قوله: "بكبح عنان ذهنهم" تقول كبحت الدابة إذا جذبتها إليك باللجام لكي تقف ولا تجري.
قوله: "أودعها فيها" أي أودع الله الأسرار في المتشابهات والإيداع متعد إلى مفعولين تقول أودعته مالا إذا دفعته إليه ليكون وديعة عنده، وإنما عداه بفي تسامحا أو تضمينا بمعنى الإدراج والوضع.
قوله: "منصة" بفتح الميم المكان الذي يرفع عليه العروس للجلوة من نصصت الشيء رفعته والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما يجمع المؤنث على عرائس والمذكر على عرس بضمتين، وفي هذا الكلام نوع حزازة؛ لأن المعاني التي أظهرت بالنصوص وجليت بها على الناظرين هي مفهوماتها والأحكام المستفادة منها وهي ليست نتائج أفكار المتفكرين، بل أحكام الملك الحق المبين فكأنه أراد أن المجتهدين يتأملون في النصوص فيطلعون على معان ودقائق ويستخرجون أحكاما وحقائق وهي نتائج أفكارهم الظاهرة على النصوص بمنزلة العروس على المنصة.
قوله: "وفصل خطابه" أي خطابه الفاصل المميز بين الحق والباطل أو خطابه المفصول الذي يتبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه على أن الفصل مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، وهذا من عطف الخاص على العام تنبيها على عظم أمره وفخامة قدره، إذ السنة ضربان قول وفعل والقول هو الموضوع لبيان الشرائع المبني عليه أكثر الأحكام المتفق على حجيته بين الأنام.
قوله: "ما رفع" أي ما دام رايات مراسم الدين مرفوعة عالية بإجماع المجتهدين الباذلين وسعهم في إعلاء كلمة الله وإحياء مراسم الدين فإن الحكم المجمع عليه مرفوع لا يوضع ومنصوب لا يخفض.
قوله: "جليل الشأن" أي عظيم الأمر باهر البرهان أي غالب الحجة وفائقها مركوز أي مدفون من ركزت الرمح غرزته في الأرض والكنوز الأموال المدفونة والصخور والحجارة العظام شبه بها عباراته الصعبة الجزلة لصعوبة التوصل بها إلى فهم المعاني التي هي بمنزلة الجواهر النفيسة والرمز الإشارة بالشفتين أو الحاجب تعدى بإلى فأصل الكلام مرموز إلى غوامض حذف الجار وأوصل الفعل فصار غوامض مسندا إليه والنكتة اللطيفة المنقحة من نكت في الأرض بالقضيب إذا ضرب فأثر فيها يعني قد أومأ إلى النكت الخفية اللطيفة في أثناء إشاراته الدقيقة والنظر تأمل الشيء(1/12)
والباطل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما رفع أعلام الدين بإجماع المجتهدين، ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين. أراد بمعالم العلم العلل التي يعلم القائس بها الحكم في المقيس، وأراد بالمعتبرين بكسر الباء القائسين، ومسالكهم هي مواقع سلوكهم بأقدام الفكر من مواد النصوص إلى الأحكام الثابتة في الفروع، فمبدأ سلوكهم هو لفظ النص فيعبرون منه إلى معانيه اللغوية الظاهرة، ثم منها إلى معانيه الشرعية الباطنة فيجدون فيها علامات وأمارات وضعها الشارع ليهتدوا بها إلى مقاصدهم، ولما قال بني على أربعة أركان قصر الأحكام ذكر الأركان الأربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الوجه الذي بنى الشارع قصر الأحكام عليها.
................................................................................................
بالعين والإمعان فيه واللحظ النظر إلى الشيء بمؤخر العين واللحاظ بالفتح مؤخر العين والتنقيح التهذيب تقول نقحت الجذع وشذبته إذا قطعت ما تفرق من أغصانه ولم يكن في لبه وتنظيم الدرر في السلك جمعها كما ينبغي مترتبة متناسقة والكلام لا يخلو عن تعريض ما بان في أصول فخر الإسلام زوائد يجب حذفها وشتائت يجب نظمها ومغالق يجب حلها وأنه ليس بمبني على قواعد المعقول بأن يراعى في التعريفات والحجج شرائطها المذكورة في علم الميزان، وفي التقسيمات عدم تداخل الأقسام إلى غير ذلك مما لم يلتفت إليه المشايخ.
قوله: "موردا فيه" في ذلك المنقح الموصوف يعني كتابه وكذا الضمائر التي تأتي بعد ذلك.
قوله: "الإعجاز في الكلام أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق" ليس تفسير المفهوم إعجاز الكلام؛ لأنه لا يلزم أن يكون بالبلاغة، بل هو عبارة عن كون الكلام بحيث لا يمكن معارضته والإتيان بمثله من أعجزته جعلته عاجزا ولهذا اختلفوا في جهة إعجاز القرآن من الاتفاق على كونه معجزا فقيل إنه ببلاغته وقيل بإخباره عن المغيبات، وقيل بأسلوبه الغريب وقيل بصرف الله العقول عن المعارضة، بل المراد أن إعجاز كلام الله تعالى إنما هو بهذا الطريق، وهو كونه في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة على ما هو الرأي الصحيح فباعتبار أنه يشترط في إعجاز الكلام كونه أبلغ من جميع ما عداه يكون واحدا لا تعدد فيه بخلاف سحر الكلام فإنه عبارة عن دقته ولطف مأخذه، وهذا يقع على طرق متعددة ومراتب مختلفة فلهذا قال أهداب السحر بلفظ الجمع وعروة الإعجاز بلفظ المفرد وهدب الثوب ما على أطرافه وعروة الكوز كليته الذي تؤخذ عنه أخذه وهي أقوى من الهدب فخصها بالإعجاز الذي هو أوثق من السحر، وفي الصحاح السحر الأخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، ومعنى تمسكه بذلك مبالغته في تلطيف الكلام وتأدية المعاني بالعبارات اللائقة الفائقة حتى كأنه يتقرب إلى السحر والإعجاز وهاهنا بحثان الأول أن كون طريق تأدية المعنى أبلغ من جميع ما عداه من الطرق المحققة الموجودة غير كاف في الإعجاز، بل لا بد من العجز عن معارضته والإتيان بمثله من الطرق المحققة والمقدرة حتى لا يمكن الإتيان بمثله غير مشروط؛ لأن الله تعالى قادر على الإتيان بمثل القرآن مع كونه معجزا فما معنى قوله أبلغ من جميع ما عداه والثاني أن الطرف الأعلى من البلاغة وما يقرب منه من المراتب العلية التي لا يمكن للبشر الإتيان بمثله كلاهما معجز على ما ذكر في المفتاح ونهاية الإعجاز(1/13)
وبعد: فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وجد سعده يقول لما رأيت فحول العلماء مكبين في كل عهد وزمان على مباحثة أصول الفقه للشيخ الإمام مقتدى الأئمة العظام فخر الإسلام علي البزدوي بوأه الله تعالى دار السلام وهو كتاب جليل الشأن باهر البرهان مركوز كنوز معانيه في صخور عباراته ومرموز غوامض نكته في دقائق إشاراته ووجدت بعضهم طاعنين على ظواهر ألفاظه لقصور نظرهم عن مواقع ألحاظه.
أدرت تنقيحه وتنظيمه وحاولت تبيين مراده وتفهيمه وعلى قواعد المعقول تأسيسه وتقسيمه موردا فيه زبدة مباحث المحصول وأصول الإمام المدقق جمال العرب ابن الحاجب مع تحقيقات بديعة وتدقيقات غامضة منيعة تخلو الكتب عنها سالكا فيه مسلك الضبط والإيجاز متشبثا بأهداب السحر متمسكا بعروة الإعجاز.
وسميته: تنقيح الأصول والله تعالى مسؤول أن يمتع به مؤلفه وكاتبه وقارئه وطالبه ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم.
ـــــــ
"وبعد فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وجد سعده يقول لما رأيت فحول العلماء مكبين في كل عهد وزمان على مباحثة أصول الفقه", أي: مقبلين عليها من أكب على وجهه سقط عليه فإن من أقبل على الشيء غاية الإقبال فكأنه أكب عليه "للشيخ الإمام مقتدى الأئمة العظام فخر الإسلام علي البزدوي بوأه الله تعالى دار السلام وهو كتاب جليل الشأن باهر البرهان مركوز كنوز معانيه في صخور عباراته ومرموز غوامض نكته في دقائق إشاراته ووجدت بعضهم طاعنين على ظواهر ألفاظه؛ لقصور نظرهم عن مواقع ألحاظه". أي لا يدركون بإمعان لنظر ما يدركه هو بلحاظ عينه من غير أن ينظر إليه قاصدا "أردت تنقيحه وتنظيمه وحاولت", أي طلبت "تبيين مراده وتفهيمه وعلى قواعد المعقول وتأسيسه وتقسيمه موردا فيه زبدة مباحث المحصول وأصول الإمام المدقق جمال العرب ابن الحاجب مع تحقيقات بديعة وتدقيقات غامضة منيعة تخلو الكتب عنها سالكا فيه مسلك الضبط والإيجاز متشبثا بأهداب السحر متمسكا بعروة الإعجاز", اختار في الإعجاز العروة و في السحر الأهداب لأن الإعجاز أقوى و أوثق من السحر و اختار في العروة لفظ الواحد و في الأهداب لفظ الجمع لأن الإعجاز في الكلام أن يؤدي المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق و لا يكون هذا إلا واحدا و أما السحر في الكلام فهو دون الإعجاز و طرقه فوق الواحد فأورد فيه لفظ الجمع.
"وسميته بتنقيح الأصول، والله تعالى مسئول أن يمتع به مؤلفه وكاتبه وقارئه وطالبه
................................................................................................
وحينئذ يتعدد طريق الإعجاز أيضا بأن يكون على الطرف الأعلى أو على بعض المراتب القريبة(1/14)
أصول الفقه
مدخل
تعريف الأصل
...
أصول الفقه
الأصل ما يبتني عليه غيره وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد لأنه لا يطلق على الفاعل والصورة والغاية والشروط.
ـــــــ
ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم أصول الفقه أي هذا أصول الفقه أو أصول الفقه ما هي فنعرفها أولا باعتبار الإضافة وثانيا باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف والمضاف إليه فقال "الأصل ما يبتنى عليه غيره" فالابتناء شامل للابتناء الحسي وهو ظاهر والابتناء العقلي وهو ترتب الحكم على دليله "وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد" وقد عرفه الإمام في المحصول بهذا، واعلم أن التعريف، إما حقيقي كتعريف الماهيات الحقيقية، وإما اسمي كتعريف الماهيات الاعتبارية كما إذا ركبنا شيئا من أمور هي أجزاؤه باعتبار تركيبنا، ثم وضعنا لهذا المركب اسما كالأصل والفقه والجنس والنوع ونحوها فالتعريف الاسمي هو تبيين أن هذا الاسم لأي شيء وضع "وشرط لكلا التعريفين الطرد" أي كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود "والعكس" أي كل ما صدق ما عليه المحدود صدق عليه الحد فإذا قيل في تعريف الإنسان: إنه حيوان ماش لا يطرد ولو قيل حيوان إن كان بالفعل لا ينعكس "ولا شك أن تعريف الأصل تعريف اسمي" أي بيان أن لفظ الأصل لأي شيء وضع فالتعريف الذي ذكر في المحصول لا يطرد "لأنه" أي الأصل "لا يطلق على الفاعل" أي العلة الفاعلية "والصورة" أي العلة الصورية "والغاية" أي العلة الغائبة "والشروط" كأدوات الصناعة مثلا فعلم أن هذا التعريف صادق على هذه الأشياء لكونها محتاجا إليها والمحدود لا يصدق عليها؛ لأن شيئا من هذه الأشياء لا يسمى أصلا فلا يصح هذا التعريف الاسمي.
................................................................................................
منه والجواب عن الأول أن الإعجاز ليس إلا في كلام الله تعالى ومعنى كونه أبلغ من جميع ما عداه أنه أبلغ من كل ما هو غير كلام الله تعالى محققا ومقدرا حتى لا يمكن الإتيان للغير بمثله وعن الثاني أن الإعجاز سواء كان في الطرف الأعلى أو فيما يقرب منه متحد باعتبار أنه حد من الكلام هو أبلغ مما عداه بمعنى أنه لا يمكن للغير معارضته والإتيان بمثله بخلاف سحر الكلام فإنه ليس له حد يضبطه.
قوله: "أصول الفقه" الكتاب مرتب على مقدمة وقسمين؛ لأن المذكور فيه إما مقاصد الفن أو لا الثاني المقدمة والأول إما أن يكون البحث فيه عن الأدلة، وهو القسم الأول عن الأحكام، وهو القسم الثاني، إذ لا يبحث في هذا الفن عن غيرهما والقسم الأول مبني على أربعة أركان الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهو مذيل ببابي الترجيح والاجتهاد والثاني على ثلاثة أبواب في الحكم والمحكوم به والمحكوم عليه وستعرف بيان الانحصار والمقدمة مسوقة لتعريف العلم وتحقيق موضوعه؛ لأن من حق الطالب للكثرة المضبوطة بجهة واحدة أن يعرفها بتلك الجهة ليأمن من(1/15)
تعريف الفقه
...
والفقه: معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا لتخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصوف ومن لم يرد أراد الشمول.
ـــــــ
"والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا ليخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصوف ومن لم يزد أراد الشمول" هذا التعريف منقول عن أبي حنيفة فالمعرفة إدراك الجزئيات عن دليل فخرج التقليد وقوله ما لها وما عليها يمكن أن يراد به ما تنتفع به النفس وما تتضرر به في الآخرة كما في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، فإن أريد بهما الثواب والعقاب فاعلم أن ما يأتي به المكلف، إما واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه كراهة تنزيه أو مكروه كراهة تحريم أو حرام فهذه ستة، ثم لكل واحد طرفان طرف الفعل وطرف الترك يعني عدم الفعل فصارت اثني عشر ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه وفعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب مما يعاقب عليه والباقي لا يثاب، ولا يعاقب عليه فلا يدخل في شيء من القسمين.
................................................................................................
فوات المقصود والاشتغال بغيره وكل علم هو كثرة مضبوطة بتعريفه الذي به يتميز عند الطالب وموضوعه الذي به يمتاز في نفسه عن سائر العلوم فحين تشوفت نفس السامع إلى التعريف ليتميز العلم عنده قال المصنف هذا الذي أذكره أصول الفقه إغناء للسامع عن السؤال وقال عن لسانه أصول الفقه ما هي، ثم أخذ في تعريفه وأصول الفقه لقب لهذا الفن منقول عن مركب إضافي فله بكل اعتبار تعريف قدم بعضهم التعريف اللقبي نظرا إلى أن المعنى العلمي هو المقصود في الإعلام وأنه من الإضافي بمنزلة البسيط من المركب والمصنف قدم الإضافي نظرا إلى أن المنقول عنه مقدم وإلى أن الفقه مأخوذ في التعريف اللقبي، فإن قدم تفسيره أمكن ذكره في اللقبي كما قال المصنف هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها الفقه وإلا احتيج إلى إيراد تفسيره تارة في اللقبي وتارة في الإضافي كما في أصول ابن الحاجب ولما كان أصول الفقه عند قصد المعنى الإضافي جمعا وعند قصد المعنى اللقبي مفردا كعبد الله قال فنعرفها أولا باعتبار الإضافة بتأنيث الضمير، وقال فالآن نعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص بتذكيره واللقب علم يشعر بمدح أو ذم وأصول الفقه علم لهذا الفن مشعر بكونه مبنى الفقه الذي به نظام المعاش ونجاة المعاد، وذلك مدح.
قوله: "أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف" ، وهو الأصول. "والمضاف إليه"، وهو الفقه؛ لأن تعريف المركب يحتاج إلى تعريف مفرداته الغير البينة ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه ويحتاج إلى تعريف الإضافة أيضا؛ لأنها بمنزلة الجزء الصوري إلا أنهم لم يتعرضوا له للعلم بأن معنى إضافة المشتق وما في معناه اختصاص المضاف إليه باعتبار مفهوم المضاف مثلا دليل المسألة ما يختص بها باعتبار كونه دليلا عليها فأصل الفقه ما يختص به من حيث إنه مبني له ومستند إليه فالأصول جمع أصل، وهو في اللغة ما يبنى عليه الشيء من حيث إنه يبتنى عليه وبهذا القيد خرج أدلة الفقه مثلا من حيث تبتنى على علم التوحيد فإنها بهذا الاعتبار فروع لا أصول وقيد الحيثية لا بد منه في تعريف الإضافيات إلا أنه كثيرا ما يحذف لشهرة أمره. ثم(1/16)
وإن أريد بالنفع عدم العقاب وبالضرر العقاب ففعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب يكون من القسم الثاني أي مما يعاقب عليه والتسعة الباقية تكون من الأول أي مما لا يعاقب عليه وإن أريد بالنفع الثواب وبالضرر عدم الثواب ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه، ثم العشرة الباقية مما لا يثاب عليه عليها ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يجب عليها ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها وفعل الواجب وترك الحرام والمكروه تحريما مما يجب عليها بقي فعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب خارجين عن القسمين ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يحرم عليها فيشملان جميع الأصناف.
إذا عرفت هذا فالحمل على وجه لا يكون بين القسمين واسطة أولى، ثم ما لها وما عليها يتناول الاعتقاديات كوجوب الإيمان ونحوه والوجدانيات أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها فمعرفة ما لها وما عليها من الاعتقاديات هي علم الكلام ومعرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات هي علم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحو ذلك، ومعرفة ما لها وما عليها من العمليات هي الفقه المصطلح، فإن أردت بالفقه هذا المصطلح زدت عملا على قوله ما لها وما عليها وإن أردت ما يشمل الأقسام الثلاثة لم تزد وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد عملا؛ لأنه أراد الشمول أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات، ثم سمى الكلام فقها أكبر.
................................................................................................
نقل الأصل في العرف إلى معان أخر، مثل الراجح والقاعدة الكلية والدليل فذهب بعضهم إلى أن المراد هاهنا الدليل وأشار المصنف إلى أن النقل خلاف الأصل ولا ضرورة في العدول إليه؛ لأن الابتناء كما يشمل الحسي كابتناء السقف على الجدران وابتناء أعالي الجدران على أساسه وأغصان الشجر على دوحته كذلك يشمل الابتناء العقلي كابتناء الحكم على دليله فهاهنا يحمل على المعنى اللغوي وبالإضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلم أن الابتناء هاهنا عقلي فيكون أصول الفقه ما يبنى هو عليه ويستند إليه لا معنى بمستند العلم ومبتناه إلا دليله وبهذا يندفع ما يقال إن المعنى العرفي أعني الدليل مراد قطعا فأي حاجة إلى جعله بالمعنى اللغوي الشامل للمقصود وغيره. فإن قلت: ابتناء الشيء على الشيء إضافة بينهما، وهو أمر عقلي قطعا قلت: أراد بالابتناء الحسي كون الشيئين محسوسين وحينئذ يدخل فيه مثل ابتناء السقف على الجدار وابتناء المشتق على المشتق منه كالفعل على المصدر أو أراد ما هو المعتبر في العرف من أن ابتناء السقف على الجدار بمعنى كونه مبتنيا عليه وموضوعا فوقه مما يدرك بالحس وحينئذ يخرج مثل ابتناء الفعل على المصدر من الحسي ولا يدخل في العقلي بتفسيره والحق أن ترتب الحكم على دليله لا يصلح تفسيرا للابتناء العقلي، وإنما هو مثال له للقطع بأن ابتناء المجاز على الحقيقة والأحكام الجزئية على القواعد الكلية والمعلولات على عللها والأفعال على المصادر وما أشبه ذلك ابتناء عقلي.(1/17)
تعريف العلم
...
وقيل: العلم بالأحكام الشرعية العلمية من أدلتها التفصيلة.
ـــــــ
"وقيل العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" فالعلم جنس، والباقي فصل فقوله بالأحكام يمكن أن يراد بالحكم هاهنا إسناد أمر إلى آخر ويمكن أن يراد
.....................................................................................................
قوله: "واعلم أن التعريف إما حقيقي" الماهية إما أن يكون لها تحقق وثبوت مع قطع النظر عن اعتبار العقل أو لا الأولى الماهية الحقيقية أي الثابتة في نفس الأمر ولا بد فيها من احتياج بعض الأجزاء إلى البعض إذا كانت مركبة والثانية الماهية الاعتبارية أي الكائنة بحسب اعتبار العقل كما إذا اعتبر الواضع عدة أمور فوضع بإزائها اسما من غير احتياج الأمور بعضها إلى بعض كالأصل الموضوع بإزاء الشيء ووصف ابتناء الغير عليه والفقه الموضوع بإزاء المسائل المخصوصة والجنس الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثرة المختلفة الحقيقة والنوع الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو والتمثيل بالمركبة من عدة أمور لا ينافي كون بعض الماهيات الاعتبارية بسائط على أن الحق أنها إنما يقال لها الأمور الاعتبارية لا الماهيات الاعتبارية إذا تمهد هذا فنقول ما يتعقله الواضع ليضع بإزائه اسما إما أن يكون له ماهية حقيقة أو لا وعلى الأول إما أن يكون متعقله نفس حقيقة ذلك الشيء أو وجودها واعتبارات منه فتعريف الماهية الحقيقية لمسمى الاسم من حيث إنها ماهية حقيقة تعريف حقيقي يفيد تصور الماهية في الذهن بالذاتيات كلها أو بعضها أو بالعرضيات أو بالمركب منهما وتعريف مفهوم الاسم وما تعقله الواضع فوضع الاسم بإزائه تعريف اسمي يفيد تبيين ما وضع الاسم بإزائه بلفظ أشهر كقولنا الغضنفر الأسد أو بلفظ يشتمل على تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالا كقولنا الأصل ما يبتنى عليه غيره فتعريف المعلومات لا يكون إلا اسميا، إذ لا حقائق لها، بل مفهومات وتعريف الموجودات قد يكون اسميا وقد يكون حقيقيا، إذ لها مفهومات وحقائق. فإن قلت: ظاهر عبارته مشعر بأن تعريف الماهيات الحقيقية حقيقي ألبتة كما أن تعريف الماهيات الاعتبارية اسمي ألبتة قلت: في العدول عن ظاهر العبارة سعة إلا أن التحقيق أن الماهية الحقيقية قد تؤخذ من حيث إنها حقيقة مسمى الاسم وماهيته الثابتة في نفس الأمر وتعريفها بهذا الاعتبار حقيقي ألبتة؛ لأنه جواب ل "ما" التي لطلب الحقيقة وهي متأخرة عن "هل" البسيطة الطالبة لوجود الشيء المتأخرة عن "ما" التي لطلب تفسير الاسم وبيان مفهومه وقد تؤخذ من حيث إنها مفهوم الاسم ومتعقل الواضع عند وضع الاسم وتعريفا بهذا الاعتبار اسمي ألبتة؛ لأنه جواب عن "ما" التي لطلب مفهوم الاسم ومتعقل الواضع فهذا التعريف قد يكون نفس حقيقة ذلك الشيء بأن يكون متعقل الواضع نفس الحقيقة وقد يكون غيرها ولهذا صرحوا بأنه قد يتحد التعريف الاسمي والحقيقي إلا أنه قبل العلم بوجود الشيء يكون اسميا وبعد العلم بوجوده ينقلب حقيقيا مثلا تعريف المثلث في مبادئ الهندسة بشكل يحيط به ثلاثة أضلاع تعريف اسمي وبعد الدلالة على وجوده يصير هو بعينه تعريفا حقيقيا.
قوله: "وشرط لكلا التعريفين" أي الحقيقي والاسمي الطرد والعكس أما الطرد فهو صدق المحدود على ما صدق عليه الحد مطردا كليا أي كلما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود، وهو معنى قولهم كلما وجد الحد وجد المحدود فبالاطراد يصير الحد مانعا عن دخول غير المحدود.(1/18)
الحكم المصطلح، وهو خطاب الله تعالى المتعلق إلخ، فإن أريد الأول يخرج العلم بالذوات والصفات التي ليست بأحكام عن الحد أي يخرج التصورات ويبقي التصديقات وبالشرعية يخرج العلم بالأحكام العقلية والحسية كالعلم بأن العالم محدث والنار محرقة وإن أريد الثاني فقوله بالأحكام يكون احترازا عن علم ما سوى خطاب الله تعالى المتعلق إلى آخره فالحكم بهذا التفسير قسمان شرعي أي خطاب الله تعالى بما يتوقف على الشرع وغير شرعي أي خطاب الله تعالى بما لا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام ونحوهما مما لا يتوقف على الشرع لتوقف الشرع عليه.
ثم الشرعي، إما نظري، وإما عملي فقوله العملية يخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية كالعلم بأن الإجماع حجة وقوله من أدلتها أي العلم الحاصل للشخص الموصوف به من أدلتها المخصوصة بها وهي الأدلة الأربعة، وهذا القيد يخرج التقليد؛ لأن المقلد وإن كان قول المجتهد دليلا له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة وقوله التفصيلية يخرج الإجمالية كالمقتضي والنافي، وقد زاد ابن الحاجب على هذا قوله بالاستدلال، ولا شك أنه مكرر. ولما عرف الفقه بالعلم بالأحكام الشرعية وجب تعريف الحكم وتعريف الشرعية فقال:
................................................................................................
وأما العكس فأخذه بعضهم من عكس الطرد بحسب متفاهم العرف، وهو جعل المحمول موضوعا مع رعاية الكمية بعينها كما يقال كل إنسان ضاحك وبالعكس أي كل ضاحك إنسان وكل إنسان حيوان ولا عكس أي ليس كل حيوان إنسانا فلهذا قال في العكس إن كل ما صدق عليه المحدود صدق عليه الحد عكسا لقولنا كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود فصار حاصل الطرد حكما كليا بالمحدود على الحد والعكس حكما كليا بالحد على المحدود وبعضهم أخذه من أن عكس الإثبات نفي ففسره بأنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود أي كلما لم يصدق عليه الحد لم يصدق عليه المحدود فصار العكس حكما كليا بما ليس بمحدود على ما ليس بحد والحاصل واحد، وهو أن يكون الحد جامعا لأفراد المحدود كلها.
قوله: "ولا شك أن تعريف الأصل اسمي"؛ لأنه تبيين أن لفظ الأصل في اللغة موضوع للمركب الاعتباري الذي هو الشيء مع وصف ابتناء الغير عليه أو احتياج الغير إليه، وهذا لا دخل له في بيان فساد التعريف، إذ عدم الاطراد مفسد له اسميا كان أو غيره ففي الجملة تعريف الأصل بالمحتاج إليه غير مطرد، إذ لا يصدق أن كل محتاج إليه أصل؛ لأن ما يحتاج إليه الشيء إما داخل فيه أو خارج عنه والأول إما أن يكون وجود الشيء معه بالقوة، وهو المادة كالخشب للسرير أو بالفعل، وهو الصورة كالهيئة السريرية له. والثاني إن كان ما منه الشيء فهو الفاعل كالنجار للسرير، وإن كان ما لأجله الشيء فهو الغاية كالجلوس على السرير وإلا فهو الشرط كآلات النجار وقابلية الخشب ونحو ذلك فهذه أقسام خمسة للمحتاج إليه لا يطلق لفظ الأصل لغة إلا على واحد منها هو المادة كما يقال أصل هذا السرير خشب كذا والأربعة الباقية يصدق على كل واحد منها أنه محتاج إليه(1/19)
ولا يصدق عليه أنه أصل فلا يكون التعريف مطردا مانعا وهاهنا بحث من وجوه أحدها منع اشتراط الطرد في مطلق التعريف لا سيما في الاسمي فإن كتب اللغة مشحونة بتفسير الألفاظ بما هو أعم من مفهوماتها وقد صرح المحققون بأن التعريفات الناقصة يجوز أن تكون أعم بحيث لا يفيد الامتياز إلا عن بعض ما عدا المحدود وأن الغرض من تفسير الشيء قد يكون تميزه عن شيء معين فيكتفى بما يفيد الامتياز عنه كما إذا قصد التمييز بين الأصل والفروع فيفسر الأول بالمحتاج إليه والثاني بالمحتاج وثانيها منع عدم صدق الأصل على الفاعل كيف والفعل مترتب عليه ومستند إليه ولا معنى للابتناء إلا ذلك. وثالثها أن كلامه في باب المجاز عند بيان جريان الأصالة والتبعية من الجانبين يدل على أن كل محتاج إليه فهو أصل. ورابعها أنا إذا قلنا الفكر ترتيب أمور معلومة فلا شك أن الأمور المعلومة مادة للفكر وأصل له مع أن ابتناء الفكر عليها ليس حسيا، وهو ظاهر ولا عقليا بتفسير المصنف، وهو ترتب الحكم على دليله.
قوله: "والفقه" نقل للمضاف تعريفين مقبولا ومزيفا وللمضاف إليه تعريفين صرح بتزييف أحدهما دون الآخر، ثم ذكر من عنده تعريفا ثالثا فالأول: معرفة النفس ما لها وما عليها يجوز أن يريد بالنفس العبد نفسه؛ لأن أكثر الأحكام متعلقة بأعمال البدن وأن يريد النفس الإنسانية، إذ بها الأفعال ومعها الخطاب، وإنما البدن آلة وفسر المعرفة بإدراك الجزئيات عن دليل والقيد الأخير مما لا دلالة عليه أصلا لا لغة ولا اصطلاحا وذهب في قوله ما لها وما عليها إلى ما يقال إن اللام للانتفاع وعلى للتضرر وقيدهما بالأخروي احترازا عما تنتفيه النفس أو تتضرر في الدنيا من اللذات والآلام والمشعر بهذا التقيد شهرة أن الفقه من العلوم الدينية فذكر على هذا التقدير ثلاثة معان، ثم ذكر معنيين آخرين فصارت المعاني المحتملة خمسة: ثلاثة منها تشمل جميع أقسام ما يأتي به المكلف واثنان لا تشملها كلها والأقسام اثنا عشر؛ لأن ما يأتي به المكلف إن تساوى فعله وتركه فمباح وإلا، فإن كان فعله أولى فمع المنع عن الترك واجب وبدونه مندوب، وإن كان تركه أولى فمع المنع عن الفعل بدليل قطعي حرام وبدليل ظني مكروه كراهة التحريم وبدون المنع عن الفعل مكروه كراهة التنزيه هذا على رأي محمد رحمه الله، وهو المناسب هاهنا؛ لأن المصنف جعل المكروه تنزيها مما يجوز فعله والمكروه تحريما مما لا يجوز فعله، بل يجب تركه كالحرام، وهذا لا يصح على رأيهما، وهو أن ما يكون تركه أولى من فعله فهو مع المنع عن الفعل حرام وبدونه مكروه كراهة التنزيه إن كان إلى الحل أقرب بمعنى أنه لا يعاقب فاعله لكن يثاب تاركه أدنى ثواب وكراهة التحريم إن كان إلى الحرام أقرب بمعنى أن فاعله مستحق محذورا دون العقوبة بالنار كحرمان الشفاعة، ثم المراد بالواجب ما يشمل الفرض أيضا؛ لأن استعماله بهذا المعنى شائع عندهم كقولهم الزكاة واجبة والحج واجب بخلاف إطلاق الحرام على المكروه تحريما. والمراد بالمندوب ما يشمل السنة والنقل فصارت الأقسام ستة ولكل منها طرفا فعل أي إيقاع على ما هو المعنى المصدري وترك أي عدم فعل فتصير اثني عشر والمراد بما يأتي به المكلف الفعل بمعنى الحاصل من المصدر كالهيئة التي تسمى صلاة والحالة التي تسمى صوما ونحو ذلك مما هو أثر صادر عن المكلف وطرف فعله إيقاعا وطرف تركه عدم إيقاعه والأمور المذكورة من الواجب والحرام وغيرهما، وإن كانت في الحقيقة من صفات فعل المكلف خاصة إلا أنها قد تطلق على عدم الفعل(1/20)
أيضا فيقال عدم مباشرة الواجب حرام وعدم مباشرة الحرام واجب، وهو المراد هاهنا، وإنما فسر الترك بعدم الفعل ليصير قسما آخر، إذ لو أريد به كف النفس لكان ترك الحرام مثلا فعل الواجب بعينه، فإن قلت: أي حاجة إلى اعتبار الفعل والترك وجعل الأقسام اثني عشر وهلا اقتصر على الستة بأن يراد بالواجب مثلا أهم من الفعل والترك قلت؛ لأنه إذا قال الواجب يدخل فيما يثاب عليه لم يصح ذلك في الواجب بمعنى عدم فعل الحرام فلا بد من التفصيل المذكور، ثم لا يخفى أن المراد أن عدم الإتيان بالواجب يستحق العقاب إلا أنه قد لا يعاقب لعفو من الله تعالى أو سهو من العبد أو نحو ذلك وباقي كلامه واضح إلا أن فيه مباحث.
الأول: أنه جعل ترك الحرام مما لا يثاب عليه ولا يعاقب واعترض عليه بأنه واجب والواجب يثاب عليه، وفي التنزيل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] وجوابه أن المثاب عليه فعل الواجب لا عدم مباشرة الحرام وإلا لكان لكل أحد في كل لحظة مثوبات كثيرة بحسب كل حرام لا يصدر عنه ونهي النفس كفها عن الحرام، وهو من قبيل فعل الواجب ولا نزاع في أن ترك الحرام بمعنى كف النفس عنه عند تهيؤ الأسباب وميلان النفس إليه مما يثاب عليه. والثاني أن المراد بالجواز في الوجه الرابع عدم منع الفعل والترك على ما يناسب الإمكان الخاص ليقابل الوجوب، وفي الخامس عدم منع الفعل على ما يناسب الإمكان العام ليقابل الحرمة، فإن قلت: إن أريد بالجواز عدم منع الفعل والترك لم يصح قوله ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها؛ لأن ما سوى الحرام والمكروه تحريما يشمل الواجب مع أنه لا يجوز بهذا المعنى وكذا ترك ما سوى الواجب يشمل ترك الحرام والمكروه تحريما مع أنه لا يجوز قلت: هذا مخصوص بقرينة التصريح بدخوله فيما يجب عليها. والثالث أن ما يحرم عليها في الوجه الخامس بمعنى المنع عن الفعل يشمل الحرام والمكروه تحريما والرابع أن ليس المراد بمعرفة ما لها وما عليها تصورهما ولا التصديق بثبوتهما لظهور أن ليس الفقه عبارة عن تصور الصلاة وغيرها ولا عن التصديق بوجودها في نفس الأمر، بل المراد معرفة أحكامها من الوجوب وغيره كالتصديق بأن هذا واجب وذاك حرام وإليه أشار بقوله كوجوب الإيمان فأحكام الوجدانيات من الوجوب ونحوه تدرك بالدليل وثبوتها في نفس الأمر بالوجدان كما في العمليات بعرف وجوب الصلاة بالدليل ووجودها بالحس، ثم لا يخفى أن اعتراضه على التعريف الثاني بأنه لا يجوز أن يراد بالأحكام كلها ولا بعضها المعين ولا المبهم وارد هاهنا فيما لها وما عليها مع أن إطلاق اللفظ المحتمل للمعاني المتعددة مع عدم تعين المراد غير مستحسن في التعريفات.
قوله: "وقيل العلم" عرف أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى الفقه بأنه "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية", وبيان ذلك أن متعلق العلم إما حكم أو غيره والحكم إما مأخوذ من الشرع أو لا والمأخوذ من الشرع إما أن يتعلق بكيفية العمل أو لا والعمل إما أن يكون العلم به حاصلا من دليله التفصيلي الذي نيط به الحكم أو لا فالعلم المتعلق بجميع الأحكام الشرعية العملية الحاصل من أدلتها التفصيلية هو الفقه وخرج العلم بغير الأحكام من الذوات والصفات والعلم بالأحكام الغير المأخوذة من الشرع كالأحكام المأخوذة من العقل كالعلم بأن العالم(1/21)
تعريف الحكم
...
والحكم :
قيل خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما وبعضهم قد
ـــــــ
"والحكم قيل خطاب الله تعالى" هذا التعريف منقول عن الأشعري فقوله خطاب الله تعالى يشمل جميع الخطابات. وقوله "المتعلق بأفعال المكلفين" يخرج ما ليس كذلك فبقي
................................................................................................
حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع وخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية وتسمى اعتقادية وأصلية ككون الإجماع حجة والإيمان واجبا وخرج أيضا علم الله تعالى وعلم جبريل والرسول عليهما الصلاة والسلام وكذا علم المقلد؛ لأنه لم يحصل من الأدلة التفصيلية.
قوله: "يمكن أن يراد بالحكم" الحكم يطلق في العرف على إسناد أمر إلى آخر أي نسبته إليه بالإيجاب أو السلب، وفي اصطلاح الأصول على خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وفي اصطلاح المنطق على إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة ويسمى تصديقا، وهو ليس بمراد هاهنا؛ لأنه علم والفقه ليس علما بالعلوم الشرعية والمحققون على أن الثاني أيضا ليس بمراد وإلا لكان ذكر الشرعية والعملية تكرارا، بل المراد النسبة التامة بين الأمرين التي العلم بها تصديق وبغيرها تصور وإلى هذا أشار بقوله يخرج التصورات ويبقى التصديقات فيكون الفقه عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العمل تصديقا حاصلا من الأدلة التفصيلية التي نصبت في الشرع على تلك القضايا وفوائد القيود ظاهرة على هذا التقدير والمصنف جوز أن يراد بالحكم هاهنا مصطلح الأصول فاحتاج إلى تكلف في تبيين فوائد القيود وتعسف في تقدير مراد القوم فذهب إلى أن المراد بالشرعي ما يتوقف على الشرع ولا يدرك لولا خطاب الشارع والأحكام منها ما هو خطاب بما يتوقف على الشرع كوجوب الصلاة والصوم ومنها ما هو خطاب بما لا يتوقف عليه كوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام؛ لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه السلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور فالتقييد بالشرعية يخرج هذه الأحكام؛ لأنها ليست شرعية بمعنى التوقف على الشرع، وإنما قال الخطاب بما يتوقف أو لا يتوقف؛ لأن الحكم المفسر بالخطاب قديم عندهم فكيف يتوقف على الشرع ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب الله تعالى أو شريعة النبي عليه السلام وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي عليه السلام على الإيمان بالله تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي عليه السلام ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق، وهو غير مفيد ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع.
قوله: "ثم الشرعي" أي المتوقف على الشرع إما نظري لا يتعلق بكيفية عمل وإما عملي(1/22)
عرف الحكم الشرعي بهذا والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا كالخلق على المخلوق يرد عليه أن الحكم المصطلح بين ما ثبت بالخطاب لا هو
ـــــــ
في الحد نحو: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] مع أنه ليس بحكم فقال "بالاقتضاء" أي الطلب وهو إما طلب الفعل جازما كالإيجاب أو غير جازم كالندب وأما
................................................................................................
يتعلق بها فالتقييد بالعملية لإخراج النظرية يكون الإجماع حجة، وهذا إنما يصح على التقدير الثاني لو كان الحكم المصطلح شاملا للنظري، وفيه كلام سيجيء.
قوله: "أي العلم الحاصل" قد يتوهم أن قوله من أدلتها متعلق بالأحكام وحينئذ لا يخرج علم المقلد؛ لأنه علم بالأحكام الحاصلة عن أدلتها التفصيلية، وإن لم يكن علم المقلد حاصلا عن الأدلة فدفع ذلك متعلق بالعلم لا بالأحكام إذ الحاصل من الدليل هو العلم بالشيء لا الشيء نفسه على أنه إذا أريد بالحكم الخطاب فهو قديم لا يحصل من شيء، ومعنى حصول العلم من الدليل أنه ينظر في الدليل فيعلم منه الحكم فعلم المقلد، وإن كان مستندا إلى قول المجتهد المستند إلى علمه المستند إلى دليل الحكم لكنه لم يحصل من النظر في الدليل وقيد الأدلة بالتفصيلية؛ لأن العلم بوجوب الشيء لوجود المقتضي أو بعدم وجوده لوجود النافي ليس من الفقه.
قوله: "ولا شك أنه مكرر" ذهب ابن الحاجب إلى أن حصول العلم بالأحكام عن الأدلة قد يكون بطريق الضرورة كعلم جبريل والرسول عليهما السلام وقد يكون بطريق الاستدلال أو الاستنباط كعلم المجتهد والأول لا يسمى فقها اصطلاحا فلا بد من زيادة قيد الاستدلال أو الاستنباط احترازا عنه والمصنف توهم أنه احتراز عن علم المقلد فجزم بأنه مكرر لخروجه بقوله من أدلتها التفصيلية، فإن قيل حصول العلم عن الدليل مشعر بالاستدلال، إذ لا معنى لذلك إلا أن يكون العلم مأخوذا عن الدليل فيخرج علم جبريل والرسول عليهما السلام أيضا قلنا لو سلم فذكر الاستدلال للتصريح بما علم التزاما أو لدفع الوهم أو للبيان دون الاحتراز ومثله شائع في التعريفات.
قوله: "ولما عرف الفقه" المذكور في كتب الشافعية أن خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين تعريف للحكم الشرعي المتعارف بين الأصوليين لا للحكم المأخوذ في تعريف الفقه والمصنف ذهب إلى أنه تعريف له وأن الشرعي قيد زائد على خطاب الله تعالى وأن كونه تعريفا للحكم الشرعي إنما هو رأي بعض الأشاعرة كل ذلك لعدم تصفحه كتبهم فنقول عرف بعض الأشاعرة الحكم الشرعي بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين والخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، ثم نقل إلى ما يقع به التخاطب، وهو هاهنا الكلام النفسي الأزلي ومن ذهب إلى أن الكلام لا يسمى في الأزل خطابا فسر الخطاب بالكلام الموجه للإفهام أو الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ لفهمه، ومعنى تعلقه بأفعال المكلفين تعلقه بفعل من أفعالهم وإلا لم يوجد حكم أصلا، إذ لا خطاب يتعلق بجميع الأفعال فدخل في الحد خواص النبي عليه السلام كإباحة ما فوق الأربع من النساء وخرج خطاب الله المتعلق بأحوال ذاته وصفاته(1/23)
وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إلا أن يقال يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا لا أنه ثبت بالقياس وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال
ـــــــ
طلب الترك جازما كالتحريم أو غير جازم كالكراهة "أو التخيير" أي الإباحة "وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما" اعلم أن الخطاب نوعان، إما تكليفي، وهو المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وإما وضعي، وهو الخطاب بأن هذا سبب
................................................................................................
وتنزيهاته وغير ذلك مما ليس بفعل المكلف لا يقال إضافة الخطاب إلى الله تعالى تدل على أن لا حكم إلا خطابه تعالى وقد وجب طاعة النبي عليه السلام وأولي الأمر والسيد فخطابهم أيضا حكم؛ لأنا نقول إنما وجبت طاعتهم بإيجاب الله تعالى إياها فلا حكم إلا حكمه تعالى، ثم اعترض على هذا التعريف بأنه غير مانع؛ لأنه يدخل فيه القصص المبينة لأحوال المكلفين وأفعالهم والأخبار المتعلقة بأعمالهم كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] مع أنها ليست أحكاما فزيد على التعريف قيد يخصصه ويخرج ما دخل فيه من غير أفراد المحدود، وهو قولهم بالاقتضاء أو التخيير، فإن تعلق الخطاب بالأفعال في القصص والإخبار عن الأعمال ليس تعلق الاقتضاء أو التخيير، إذ معنى التخيير إباحة الفعل والترك للمكلف، ومعنى الاقتضاء طلب الفعل منه مع المنع عن الترك، وهو الإيجاب أو بدونه، وهو الندب أو طلب الترك مع المنع عن الفعل، وهو التحريم أو بدونه، وهو الكراهة وقد يجاب بأنه لا حاجة إلى زيادة قولهم بالاقتضاء أو التخيير؛ لأن قيد الحيثية مراد والمعنى خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث هو فعل المكلف وليس تعلق الخطاب بالأفعال في صور النقض من حيث إنها أفعال المكلفين، وهو ظاهر.
قوله: "وقد زاد البعض" اعترضت المعتزلة على هذا التعريف بثلاثة أوجه الأول أن الخطاب عندكم قديم والحكم حادث لكونه متصفا بالحصول بعد العدم كقولنا حلت المرأة بعد ما لم تكن حلالا ولكونه معللا بالحادث كقولنا حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق الثاني أنه يشتمل على كلمة أو، وهو للتشكيك والترديد فينا في التعريف والتحديد. الثالث أنه غير جامع للأحكام الوضعية مثل سببية الدلوك لوجوب الصلاة وشرطية الطهارة لها ومانعية النجاسة عنها والمصنف أهمل في تفسير الخطاب الوضعي ذكر المانعية فأجابت الأشاعرة عن الأول بمنع اتصاف الحكم بالحصول بعد العدم، بل المتصف بذلك هو التعلق والمعنى تعلق الحل بها بعد ما لم يكن متعلقا وبمنع تعليل الحكم بالحادث بمعنى تأثير الحادث فيه، بل معناه كون الحادث أمارة عليه ومعرفا له، إذ العلل الشرعية أمارات ومعرفات لا موجبات ومؤثرات والحادث يصلح أمارة ومعرفا للقديم كالعالم للصانع وعن الثاني بأن أو هاهنا لتقسيم المحدود وتفصيله؛ لأنه نوعان نوع له تعلق الاقتضاء ونوع له تعلق التخيير فلا يمكن جمعهما في حد واحد بدون التفصيل. وأما الثالث فالتزمه بعضهم وزاد في التعريف قيدا يعمه ويجعله شاملا للحكم الوضعي فقال بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع أي وضع الشارع وجعله وأجاب بعضهم بأنا لا نسلم أن خطاب الوضع حكم ونحن لا نسميه حكما، وإن اصطلح غيرنا على تسميته حكما فلا مشاحة معه وعليه تغيير التعريف، ولو سلم(1/24)
المكلفين إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح.
ـــــــ
ذلك أو شرطه كالدلوك سبب للصلاة والطهارة شرط فلما ذكر أحد النوعين، وهو التكليفي وجب ذكر النوع الآخر، وهو الوضعي والبعض لم يذكر الوضعي؛ لأنه داخل في الاقتضاء أو التخيير؛ لأن المعنى من كون الدلوك سببا للصلاة أنه إذا وجد الدلوك وجبت الصلاة حينئذ والوجوب من باب الاقتضاء لكن الحق هو الأول؛ لأن المفهوم من الحكم الوضعي تعلق شيء بشيء آخر، والمفهوم من الحكم التكليفي ليس هذا ولزوم أحدهما للآخر في صورة لا يدل على اتحادهما نوعا "وبعضهم قد عرف الحكم الشرعي بهذا" أي بعض المتأخرين من متابعي الأشعري قالوا الحكم الشرعي خطاب الله تعالى "فالحكم على هذا إسناد أمر إلى آخر والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا" بطريق إطلاق اسم المصدر على المفعول "كالخلق على المخلوق" لكن لما شاع فيه صار منقولا اصطلاحيا، وهو حقيقة اصطلاحية "يرد عليه" أي على تعريف الحكم، وهو خطاب الله تعالى إلخ "إن الحكم المصطلح بين" الفقهاء "ما ثبت بالخطاب لا هو" أي لا الخطاب فلا يكون ما ذكر تعريفا للحكم المصطلح بين الفقهاء، وهو المقصود بالتعريف هنا
................................................................................................
فلا نسلم خروجها عن الحد فإن مرادنا من الاقتضاء والتخيير أعم من التصريح والضمني وخطاب الوضع من قبيل الضمني، إذ معنى سببية الدلوك وجوب الصلاة عنده، ومعنى شرطية الطهارة وجوبها في الصلاة أو حرمة الصلاة بدونها، ومعنى مانعية النجاسة حرمة الصلاة معها أو وجوب إزالتها حالة الصلاة وكذا في جميع الأسباب والشروط والموانع وذهب المصنف أن الحق زيادة القيد؛ لأن الخطاب نوعان تكليفي ووضعي فلما ذكر أحدهما وجب ذكر الآخر ولا وجه لجعل الوضع داخلا في الاقتضاء أو التخيير أي في التكليفي؛ لأنهما مفهومان متغايران ولزوم أحدهما للآخر في بعض الصور لا يدل على اتحادهما وأنت خبير بأنه لا توجيه لهذا الكلام أصلا أما أولا فلأن الخصم يمنع كون الخطاب الوضعي حكما ويصطلح على تسمية بعض أقسام الخطاب حكما دون البعض فكيف يجب عليه ذكر الوضعي في تعريف الحكم، بل كيف يصح. وأما ثانيا فلأنه يمنع كونه خارجا عن التعريف ويجعل الخطاب التكليفي أعم منه شاملا له فأي ضرر له في تغاير مفهوميهما، بل كيف يتحد مفهوم العام والخاص على أن قوله المفهوم من الخطاب الوضعي تعلق شيء بشيء فيه تسامح؟ والمعنى أن المفهوم منه الخطاب بتعلق شيء بشيء لكونه شرطا له أو سببا أو مانعا.
قوله: "وبعضهم عرف" ذكر في بعض المختصرات أن الحكم خطاب الله تعالى إشارة إلى الحكم الشرعي المعهود وصرح في كثير من الكتب بأن الحكم الشرعي خطاب الله تعالى فتوهم المصنف أن هذا تعريف للحكم عند البعض وللحكم الشرعي عند البعض ولا خلاف لأحد من الأشاعرة في أن هذا التعريف للحكم الشرعي قال المصنف إذا كان تعريفا للحكم فمعنى الشرعي(1/25)
تعريف الشرعية
...
والشرعية :
ما لا تدرك لولا خطاب الشارع فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين ولا يزاد عليه التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل بل هو
ـــــــ
"وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي" كجواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة ونحو ذلك فإنه ليس بمتعلق بأفعال المكلفين مع أنه حكم، فإن قيل هو حكم باعتبار تعلقه بفعل وليه قلنا هذا في الإسلام والصلاة لا يصح. وأما في غير الإسلام والصلاة فإن تعلق الحق بماله أو بذمته حكم شرعي، ثم أداء الولي حكم آخر مترتب على الأول لا عينه وسيجيء في باب الحكم الأحكام المتعلقة بأفعاله، فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إذ لا خطاب هنا، "إلا أن يقال" اعلم أن المصادر قد تقع ظرفا، نحو "آتيك طلوع الفجر", أي وقت طلوعه فقوله: "إلا أن يقال هذا القبيل", فإنه استثناء
................................................................................................
ما يتوقف على الشرع ليكون قيدا مفيدا مخرجا لوجوب الإيمان ونحوه وإذا كان تعريفا للحكم الشرعي فمعنى الشرعي ما ورد به خطاب الشرع لا ما يتوقف على الشرع وإلا لكان الحد أعم من المحدود لتناوله مثل وجوب الإيمان مع أن المحدود لا يتناوله حينئذ لعدم توقفه على الشرع.
قوله: "فالحكم على هذا" أي على تقدير أن يكون خطاب الله إلخ تعريفا للحكم الشرعي إسناد أمر إلى آخر لا خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف وإلا لكان ذكر الشرعية مكررا لما سبق من أن الشرع على هذا التقدير ما ورد به خطاب الشرع لا ما يتوقف على الشرع، فإن قيل فيدخل في الأحكام الشرعية مثل وجوب الإيمان من أنه ليس من الفقه قلنا يخرج بقيد العملية.
قوله: "والفقهاء" يريد أن الحكم في اصطلاح الفقهاء حقيقة فيما ثبت بالخطاب من الوجوب والحرمة ونحوهما، وهو مجاز لغوي حيث أطلق المصدر أعني الحكم على المفعول أعني المحكوم به.
قوله: "يرد عليه" إشارة إلى اعتراضات على تعريف الحكم مع الجواب عن البعض الأول أن المقصود تعريف الحكم المصطلح بين الفقهاء، وهو ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة وغيرهما مما هو من صفات فعل المكلف لا نفس الخطاب الذي هو من صفات الله تعالى، وهذا مما أورد في كتب الشافعية وأجيب عنه بوجوه: الأول أنه كما أريد بالحكم ما حكم به أريد بالخطاب ما خوطب به للقرينة العقلية على أن الوجوب ليس نفس كلام الله الثاني أن الحكم هو الإيجاب والتحريم ونحوهما وإطلاقه على الوجوب والحرمة تسامح الثالث، وهو للعلامة المحقق عضد الملة والدين أن الحكم نفس خطاب الله تعالى فالإيجاب هو نفس قوله افعل وليس للفعل منه صفة حقيقية فإن القول ليس لمتعلقه منه صفة لتعلقه بالمعدوم، وهو إذا نسب إلى الحاكم يسمى إيجابا وإذا نسب إلى ما فيه الحكم وهو الفعل يسمى وجوبا وهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار فلذلك تراهم يجعلون أقسام الحكم الوجوب والحرمة مرة والإيجاب والتحريم(1/26)
العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها.
ـــــــ
مفرغ من قوله ويخرج منه ما ثبت بالقياس أي جميع الأوقات إلا وقت قوله في جواب الإشكال "يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا إلا أنه ثبت بالقياس" فإن القياس مظهر للحكم لا مثبت فاندفع الإشكال "وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا" أي من الحد مع أنها حكم فالمراد بالإيمان هنا التصديق فوجوب التصديق حكم مع أنه ليس من الأفعال إذ المراد
................................................................................................
أخرى وتارة الوجوب والتحريم كما في أصول ابن الحاجب الثاني أنه غير منعكس لخروج الأحكام المتعلقة بأفعال الصبيان فالأولى أن يقال المتعلق بأفعال العباد وقد أجيب عن ذلك في كتبهم بأن الأحكام التي يتوهم تعلقها بفعل الصبي إنما هي متعلقة بفعل الولي مثلا يجب عليه أداء الحقوق من مال الصبي ورده المصنف أولا بأنه لا يصح في جواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة وثانيا بأن تعلق الحق بمال الصبي أو ذمته حكم شرعي وأداء الولي حكم آخر مترتب عليه، وهذا السؤال لا يتأتى على مذهب من عرف الحكم بهذا التعريف فإنهم مصرحون بأن لا حكم بالنسبة إلى الصبي إلا وجوب أداء الحق من ماله، وذلك على الولي، ثم لا يخفى أن تعلق الحكم بماله أو ذمته لا يدخل في تعريف الحكم، وإن أقيم العباد مقام المكلفين لانتفاء التعلق بالأفعال بأن الصحة والفساد ليسا من الأحكام الشرعية؛ لأن كون المأتي به موافقا لما ورد به الشرع أو مخالفا أمر يعرف بالعقل ككون الشخص مصليا أو تاركا للصلاة، ومعنى جواز البيع صحته، ومعنى كون صلاته مندوبة أن الولي مأمور بأن يحرضه على الصلاة ويأمره بها لقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع" 1 الثالث أن التعريف غير متناول للحكم الثابت بالقياس لعدم خطاب الله تعالى وأجاب بأن القياس مظهر للحكم لا مثبت ولا يخفى عليك أن السؤال وارد فيما ثبت بالسنة والإجماع أيضا والجواب أن كلا منهما كاشف عن خطاب الله ومعرف له، وهذا معنى كونها أدلة الأحكام الرابع أنه غير شامل للأحكام المتعلقة بأفعال القلب، مثل وجوب الإيمان أي التصديق ووجوب الاعتبار أي القياس؛ لأن الظاهر من الأفعال أفعال الجوارح. الخامس أنه لما أخذ في تعريف الحكم المتعلق بفعل المكلف اختص بالعمليات وخرجت النظريات بناء على اختصاص الفعل بالجوارح فيكون ذكر العملية في تعريف الفقه مكررا وأجاب عنهما بأن المراد بالفعل ما يعم القلب والجوارح وبالعمل ما يخص الجوارح فلا يخرج مثل وجوب الإيمان والاعتبار عن تعريف الحكم ولا يكون ذكر العملية مكررا لإفادته خروج ما لا يتعلق بفعل الجوارح عن تعريف الفقه ولقائل أن يقول إذا حمل الحكم في تعريف الفقه على المصطلح فذكر العملية مكرر قطعا؛ لأن مثل وجوب الإيمان خارج بقيد الشرعية على ما مر ومثل كون الإجماع حجة غير داخل في الحكم المصطلح لخروجه بقيد الاقتضاء أو التخيير لا يقال معنى كون السنة والإجماع والقياس حججا وجوب العمل بمقتضاها فيدخل في الاقتضاء الضمني؛ لأنا نقول فحينئذ لا يخرج بقيد العملية،
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 026أحمد في مسنده "2/180،187"(1/27)
بالأفعال المذكورة أفعال الجوارح ووجوب الاعتبار أي القياس حكم مع أنه ليس من أفعال الجوارح. "ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال المكلفين"؛ لأنه قال في حد الفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية والحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين فيكون حد الفقه العلم بخطابات الله تعالى المتعلقة بأفعال المكلفين الشرعية العملية فيقع التكرار "إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح" فاندفع بهذه العناية التكرار وخرج جواب الإشكال المتقدم، وهو قوله يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا؛ لأنهما من أفعال القلب. "والشرعية ما لا تدرك لولا خطاب الشارع" سواء كان الخطاب واردا في عين هذا الحكم أو واردا في صورة يحتاج إليها هذا الحكم كالمسائل القياسية فتكون أحكامها شرعية إذ لولا خطاب الشارع في المقيس عليه لا يدرك الحكم في المقيس "فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين" اعلم أن عندنا وعند جمهور المعتزلة حسن بعض الأفعال وقبحها يدركان عقلا وبعضها لا بل يتوقف على
................................................................................................
ويلزم أن يكون العلم به من الفقه ويمكن أن يقال إن التقييد بالعملية يقيد إخراج مثل جواز الإجماع ووجوب القياس، وهو حكم شرعي.
قوله: "والشرعية ما لا يدرك لولا خطاب الشارع" بنفس الحكم أو بأصله المقيس هو عليه فيخرج عنها وجوب الإيمان ويدخل مثل كون الإجماع أو القياس حجة على تقدير أن يكون حكما، وإنما لم يفسر الشرعية بما ورد به خطاب الشرع؛ لأن التقدير أن الحكم مفسر بخطاب الله تعالى إلى آخره وحينئذ يكون تقييده بالشرع تكرارا أو عند الأشاعرة ما ورد به خطاب الشرع في قوله ما لا يدرك لولا خطاب الشرع، إذ لا مجال للعقل في درك الأحكام فلو كان خطاب الله تعالى إلى آخره تعريفا للحكم على ما زعم المصنف لا للحكم الشرعي لكان ذكر الشرعي تكرارا ألبتة أي تفسير فسر.
قوله: "فيدخل" يريد أن تعريف الفقه على رأي الأشاعرة شامل للعلم عن دليل بحسن الجود والتواضع أي وجوبهما أو ندبهما وقبح البخل والتكبر أي حرمتهما أو كراهتهما وما أشبه ذلك؛ لأنها أحكام لا تدرك لولا خطاب الشرع على رأيهم مع أن العلم بها من علم الأخلاق لا من علم الفقه وأقول إنما يلزم ذلك لو كانت هذه الأحكام عملية بالمعنى المذكور، وهو ممنوع. كيف والأمور المذكورة أخلاق ملكات نفسانية جعل المصنف العلم بحسنها وقبحها من علم الأخلاق وقد صرح فيما سبق بأنه يزاد عملا على معرفة النفس ما لها وما عليها ليخرج علم الأخلاق وبأن معرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات أي الأخلاق الباطنية والملكات النفسانية علم الأخلاق، ومن العمليات علم الفقه فكأنه نسي ما ذكره ثمة أو ذهل عن قيد العملية هاهنا.
قوله: "ولا يراد عليه" المصطلح بين الشافعية أن العلم بالأحكام إنما يسمى فقها إذا كان حصوله بطريق النظر والاستدلال حتى أن العلم بوجوب الصلاة والصوم ونحو ذلك مما اشتهر كونه من الدين بالضرورة بحيث يعلمه المتدين وغيره لا يعد من الفقه اصطلاحا ولهذا يذكرون قيد(1/28)
خطاب الشارع فالأول لا يكون من الفقه، بل هو علم الأخلاق والثاني هو الفقه وحد الفقه يكون صحيحا جامعا مانعا على هذا المذهب. وأما عند الأشعري وأتباعه فحسن كل فعل وقبحه شرعي فيكونان من الفقه مع أن حسن التواضع والجود ونحوهما وقبح أضدادهما لا يعدان من الفقه المصطلح عند أحد فيدخل في حد الفقه المصطلح ما ليس منه فلا يكون هذا تعريفا صحيحا للفقه المصطلح على مذهب الأشعري. "ولا يزاد عليه" أي على حد الفقه المصطلح "التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل" اعلم أن هذا القيد ذكر في المحصول ليخرج مثل الصلاة والصوم وأمثالهما إذ لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها وليس كذلك فأقول هذا القيد ضائع؛ لأنا لا نسلم أنه لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها؛ لأن المراد بالأحكام ليس بعضها وإن قل فإن الشخص العالم بمائة مسألة من أدلتها سواء يعلم كونها من الدين ضرورة أو لا يعلم كالمسائل الغريبة التي في كتاب الرهن ونحوه لا يسمى فقيها فالعلم بوجوب الصلاة والصوم من الفقه مع أن العالم بذلك وحده لا يسمى فقيها كالعلم بمائة مسألة غريبة فإنه من الفقه لكن العالم بها وحدها ليس بفقيه فلا معنى لإخراجهما منه بذلك العذر الفاسد.
ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام الكل؛ لأن الحوادث لا تكاد تتناهى، ولا ضابط يجمع أحكامها، ولا يراد كل واحد لوجود لا أدري، ولا بعض له نسبة معينة بالكل كالنصف أو
................................................................................................
الاكتساب والاستدلال فالإمام قيد في المحصول الأحكام بالتي لا يعلم كونها من الدين بالضرورة، وقال هو احتراز عن العلم بوجوب الصلاة والصوم فإنه لا يسمى فقها بمعنى أنه لا يدخل في مسمى الفقه ولا يعد منه على ما صرح به في قيد العملية لا بمعنى أنه لو لم يحترز عنه لزم أن يكون العالم بمجرد وجوبهما فقيها على ما فهمه المصنف فاعترض بمنع لزوم ذلك بناء على أن الفقيه من له الفقه والفقه ليس علما ببعض الأحكام، وإن قل حتى يكون العالم بمسألة أو مسألتين فقيها، بل العالم بمائة مسألة غريبة استدلالية وحدها لا يسمى فقيها، ثم إذا كان اصطلاحهم على أن العلم بضروريات الدين ليس من الفقه فلا بد من إخراجها عن تعريفهم الفقه فلا يكون القيد المخرج لها ضائعا ولا القول بكونها من الفقه صحيحا عندهم ولا الاصطلاح على ذلك صالحا للاعتراض عليهم.
قوله: "ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام" اعتراض على تعريف الفقه بأن المراد بالأحكام إما الكل أي المجموع، وإما كل واحد، وإما بعض له نسبة معينة إلى الكل كالنصف أو الأكثر كالثلثين مثلا، وإما البعض مطلقا، وإن قل والأقسام بأسرها باطلة، أما الأول فلأن الحوادث، وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاصرين وضبط المجتهدين، وهو المعني بقوله لا تكاد تتناهى فلا يعلم أحكامها جزئيا فجزئيا لعدم إحاطة البشر بذلك ولا كليا تفصيليا؛ لأنه لا ضابط يجمعها لاختلاف الحوادث اختلافا لا يدخل(1/29)
الأكثر للجهل به، ولا التهيؤ للكل إذ التهيؤ البعيد قد يوجد لغير الفقيه والقريب مجهول غير منضبط، ولا يراد أنه يكون بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد؛ لأن العلماء المجتهدين لم يتيسر لهم علم بعض الأحكام مدة حياتهم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يدر الدهر
................................................................................................
تحت الضبط فلا يكون أحد فقيها. وأما الثاني فلأن بعض من هو فقيه بالإجماع قد لا يعرف بعض الأحكام كمالك سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري. وأما الثالث فلأن الكل مجهول الكمية والجهل بكمية الكل يستلزم الجهل بكمية الكسور المضافة إليه من النصف وغيره ضرورة وبهذا يظهر أنه لا يصح أن يراد أكثر الأحكام؛ لأنه عبارة عما فوق النصف، وهو أيضا مجهول. وأما الرابع فلأنه يستلزم أن يكون العالم بمسألة أو مسألتين من الدليل فقيها وليس كذلك اصطلاحا، وهذا مذكور فيما سبق فلم يصرح به هاهنا، بل أشار إليه بلفظ: "ثم" أي بعدما لا يراد البعض، وإن قل لإيراد الكل إلى آخره وهاهنا بحث، وهو أن من الأحكام ما يصح حمله على الكل دون كل واحد كقولنا كل القوم يرفع هذا الحجر لا كل واحد منهم ومنها ما هو بالعكس كقولنا كل واحد من الناس يكفيه هذا الطعام لا كل الناس ومنها ما لا يختلف كقولنا ضربت كل القوم أو كل واحد منهم ومعرفة الأحكام من هذا القبيل، إذ معرفة جميع الأحكام معرفة كل حكم وبالعكس، وإن التزم المصنف أن معرفة جميع الأحكام أعم من معرفة كل واحد أو البعض فقط فعدم تناهي الحوادث لا ينافي ذلك والظاهر أنه قصد بالكل مجموع الأحكام الماضية والآتية وبكل واحد ما يقع ويدخل في الوجود على التفصيل ويلتفت إليه ذهن المجتهدين حيث علل عدم إرادة الأول بلا تناهي الحوادث والثاني بثبوت لا أدري ولما أجاب ابن الحاجب بأن المراد بالأحكام المجموع، ومعنى العلم بها التهيؤ لذلك رده المصنف بأن التهيؤ البعيد حاصل لغير الفقيه، والقريب غير مضبوط، إذ لا يعرف أن أي قدر من الاستعداد يقال له التهيؤ القريب ولما فسر التهيؤ بكون الشخص بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد من الحوادث لاستجماعه المأخذ والأسباب والشرائط التي يتمكن بها من تحصيلها ويكفيه الرجوع إليها في معرفة الأحكام رده المصنف بأربعة أوجه يمكن الجواب عنها بأنا لا نسلم أن عدم تيسر معرفة بعض الأحكام لبعض الفقهاء أو الخطأ في الاجتهاد ينافي التهيؤ بالمعنى المذكور لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة أو وجود الموانع أو معارضة الوهم العقلي أو مشاكلة الحق الباطل ونحو ذلك ولا نسلم أن شيئا من الأحكام التي لم يرد بها نص ولا إجماع يكون بحيث لا مساغ فيه للاجتهاد ويدل عليه حديث معاذ رضي الله عنه حيث اعتمد الاجتهاد برأيه فيما لا يجد فيه النص ولم يقل النبي عليه السلام، فإن لم يكن محل للاجتهاد ولا نسلم أن لا دلالة للفظ العلم على التهيؤ المخصوص فإن معناه ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام، وإطلاق العلم عليها شائع ذائع في العرف كقولهم في تعريف العلوم علم كذا وكذا فإن المحققين على أن المراد به هذه الملكة ويقال لها أيضا الصناعة لا نفس الإدراك وكقولهم: وجه الشبه بين العلم والحياة كونهما جهتي الإدراك.
قوله: "بل هو العلم" تعريف مخترع للفقه بحيث تنضبط معلوماته والتقييد بكل الأحكام يخرج به البعض إلا أنه يدل على أنه إذا ظهر نزول الوحي بحكم أو بحكمين فالعالم به مع الملكة المذكورة(1/30)
وللخطأ في الاجتهاد ولأن حكم بعض الحوادث ربما يكون مما ليس للاجتهاد فيه مساغ وأيضا لا يليق في الحدود أن يذكر العلم ويراد به تهيؤ مخصوص إذ لا دلالة للفظ عليه أصلا وإذا عرفت هذا فلا بد أن يكون الفقه علما بجملة متناهية مضبوطة فلهذا قال: "بل هو العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها" فالمعتبر أن يعلم في أي وقت كان جميع ما قد ظهر نزول الوحي به في ذلك الوقت فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا فقهاء في وقت نزول بعض الأحكام بعده، ثم ما لم يظهر نزول الوحي به قد لا يعلمه الفقيه والصحابة رضي الله عنهم لعربيتهم كانوا عالمين بما ذكر ولم يطلق الفقيه إلا على المستنبطين منهم وعلم المسائل الإجماعية يشترط إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم الإجماع في زمنه
................................................................................................
لا يسمى فقيها وإذا علم ثلاثة أحكام يسمى فقيها وقيد نزول الوحي بالظهور احترازا عما نزل به الوحي ولم يبلغ بعد فليس من شرط الفقيه معرفته.
قوله: "مع ملكة الاستنباط" أي العلم بما ذكر بشرط كونه مقرونا بملكة استنباط الفروع القياسية من تلك الأحكام أو استنباط الأحكام من أدلتها حتى إن العلم بالحكم بمجرد سماع النص للعلم باللغة من غير اقتدار على النظر والاستدلال لا يعد من الفقه والأول أوجه.
قوله: "لا المسائل القياسية" أي لا يشترط في الفقيه العلم بالمسائل القياسية؛ لأنها نتيجة الفقاهة والاجتهاد لكونها فروعا مستنبطة بالاجتهاد فيتوقف العلم بها على كون الشخص فقيها فلو توقفت الفقاهة عليها لزم الدور، فإن قيل هذا إنما يستقيم في أول القائسين. وأما من بعده فيجوز أن يشترط فيه العلم بالمسائل القياسية التي استنبطها المجتهد الأول من غير لزوم دور قلنا لا يجوز للمجتهد التقليد، بل يجب عليه أن يعرف المسائل القياسية باجتهاده فلو اشترط العلم بها لزم الدور نعم يشترط أن يعرف أقوال المجتهدين في المسائل القياسية لئلا يقع في مخالفة الإجماع، فإن قيل المسائل القياسية مما ظهر نزول الوحي بها، إذ القياس مظهر لا مثبت فيشترط للمجتهد الأخير العلم بها قلنا نزول الوحي بها إنما ظهر للمجتهد السابق لا في الواقع ولا عند المجتهد الثاني وليس له تقليد الأول فلا يشترط له معرفته ويمكن أن يراد ما ظهر نزول الوحي به لا يتوسط القياس، ثم هاهنا أبحاث الأول أن المقصود تعريف الفقه المصطلح بين القوم، وهو عندهم اسم لعلم مخصوص معين كسائر العلوم وعلى ما ذكره المصنف هو اسم لمفهوم كلي يتبدل بحسب الأيام والأعصار فيوما يكون علما بجملة من الأحكام ويوما بأكثر وأكثر وهكذا يتزايد إلى انقراض زمن النبي عليه السلام، ثم أخذ يتزايد بحسب الأعصار وانعقاد الإجماعات وأيضا ينتقص بحسب النواسخ والإجماع على خلاف أخبار الآحاد. الثاني أن التعريف لا يصدق على فقه الصحابة في زمن النبي عليه السلام لعدم الإجماع في زمانه وكأنه أراد أنه العلم بما ظهر نزول الوحي به فقط إن لم يكن إجماع وبه وبما انعقد عليه الإجماع إن كان ومثله في التعريفات بعيد. الثالث أنه يلزم أن يكون العلم بالأحكام القياسية خارجا عن الفقه، وذلك عندهم معظم مسائل الفقه اللهم إلا أن يقال إنه فقه بالنسبة إلى من أدى إليه اجتهاده، إذ قد ظهر عليه نزول الوحي به وحينئذ(1/31)
لا المسائل القياسية للدور، بل يشرط ملكة الاستنباط الصحيح هو أن يكون مقرونا بشرائطه وما قيل: إن الفقه ظني فلم أطلق العلم عليه فجوابه أولا أنه مقطوع به فإن الجملة التي ذكرنا أنها فقه وهي ما قد ظهر نزول الوحي به وما انعقد الإجماع عليه قطعية. وثانيا: أن العلم يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات كالطب ونحوه، وثالثا أن الشارع لما اعتبر غلبة الظن في الأحكام صار كأنه قال كلما غلب ظن المجتهد بالحكم يثبت الحكم فكلما وجد غلبة ظن المجتهد يكون ثبوت الحكم مقطوعا به فهذا الجواب على مذهب من يقول إن كل مجتهد مصيب يكون صحيحا، وأما عند من لا يقول به فيراد بقوله كلما غلب ظن المجتهد يثبت الحكم أنه يجب عليه العمل أو يثبت الحكم بالنظر إلى الدليل وإن لم يثبت في علم الله تعالى
................................................................................................
يكون الفقه بالنسبة إلى كل مجتهد شيئا آخر. الرابع أنه إن أريد بظهور نزول الوحي لظهور في الجملة فكثير من فقهاء الصحابة لم يعرفوا كثيرا من الأحكام التي ظهر نزول الوحي بها على بعض الصحابة كما رجعوا في كثير من الوقائع إلى عائشة رضي الله تعالى عنها ولم يقدح ذلك في فقاهتهم، وإن أريد الظهور على الأعم الأغلب فهو غير مضبوط لكثرة الرواة وتفرقهم في الأسفار والأشغال ولو سلم فيلزم أن لا يكون العلم بالحكم الذي يرويه الآحاد من الفقه حتى يصير شائعا ظاهرا على الأكثر فيصير فقها وبالجملة هذا التعريف لا يخلو عن الإشكال والاختلال.
قوله: "فجوابه أولا" مشعر بأن ما أظهر القياس نزول الوحي به فهو خارج عن الفقه للقطع بأنه ظني، ثم ما ورد به النص أو الإجماع أيضا إنما يكون قطعيا إذا كان ثبوتهما أيضا قطعيا القطع بأن الأحكام الثابتة بأخبار الآحاد ظنية.
قوله: "وثالثا" هو الذي ذكر في المحصول وغيره أن الحكم مقطوع والظن في طريقه وتقريره أنه لما دل الإجماع على وجوب العمل بالظن وكثرت أخبار الآحاد في ذلك حتى صارت متواترة المعنى، وهذا معنى اعتبار الشارع غلبة الظن في الأحكام صار ذلك بمنزلة نص قطعي من الشارع على أن كل حكم يغلب على ظن المجتهد فهو ثابت في علم الله فيكون ثبوت الحكم المظنون قطعيا فيصح إطلاق العلم على إدراكه هذا على تقدير تصويب كل مجتهد، فإن قيل المظنون ما يحتمل النقيض والمعلوم ما لا يحتمله فيتنافيان قلنا يكون مظنونا فيصير معلوما بملاحظة هذا القياس، وهو أنه قد علم كونه مظنونا للمجتهد وكل ما علم كونه مظنونا للمجتهد على كونه ثابتا في نفس الأمر قطعا بناء على تصويب كل مجتهد. وأما على تقدير أن المصيب واحد فكأنه ثبت نص قطعي على أن كل حكم غلب على ظن المجتهد فهو واجب العمل أو ثابت بالنظر إلى الدليل، وإن لم يكن ثابتا في علم الله تعالى فيكون وجوب العمل به أو ثبوته بالنظر إلى الدليل قطعيا لكن يلزم على الأول أن يكون الفقه عبارة عن العلم بوجوب العمل بالأحكام وعلى الثاني أن يكون الثابت بالنظر إلى الدليل الظني، وإن لم يعلم ثبوته في الواقع قطعيا وأنت تعلم أن الثابت القطعي ما لا يحتمل عدم الثبوت في الواقع وغاية ما أمكن في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين في شرح المنهاج، وهو أن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به قطعا للدليل القاطع وكل حكم يجب العمل به قطعا(1/32)
وأصول الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس وإن كان ذا فرعا للثلاثة إذ العلة فيه مستنبطة من مواردها
ـــــــ
"وأصول الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس وإن كان ذا فرعا للثلاثة" لما ذكر أن أصول الفقه ما يبتنى عليه الفقه أراد أن يبين أن ما يبتنى عليه الفقه أي شيء هو؟ فقال هو هذه الأربعة؛ فالثلاثة الأول أصول مطلقة؛ لأن كل واحد منها مثبت للحكم أما القياس فهو أصل من وجه؛ لأنه أصل بالنسبة إلى الحكم وفرع من وجه؛ لأنه فرع بالنسبة إلى الثلاثة الأول "إذ العلة" فيه مستنبطة من مواردها فيكون الحكم الثابت بالقياس ثابتا بتلك الأدلة وأيضا هو ليس بمثبت، بل هو مظهر. أما نظير القياس المستنبط من الكتاب فكقياس حرمة اللوطة على حرمة الوطء في حالة الحيض الثابتة بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] والعلة هي الأذى وأما المستنبط من السنة فكقياس حرمة قفيز من الجص بقفيزين على حرمة قفيز من الحنطة بقفيزين الثابتة بقوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا" وأما المستنبط من الإجماع فأوردوا لنظيره قياس الوطء الحرام على الحلال في حرمة المصاهرة يعني قياس حرمة وطء أم المزنية على
................................................................................................
علم قطعا أنه حكم لله تعالى وإلا لم يجب العمل به وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا فكل ما يجب العمل به معلوم قطعا فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا فالفقه علم قطعي والظن وسيلة إليه وحله أنا لا نسلم أن كل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا أنه حكم الله تعالى لم لا يجوز أن يجب العمل قطعا بمن يظن أنه حكم الله فقوله وإلا لم يجب العمل به عين النزاع، وإن بنى ذلك على أن كل ما هو مظنون المجتهد فهو حكم الله تعالى قطعا كما هو رأي البعض يكون ذكر وجوب العمل ضائعا لا معنى له أصلا.
قوله: "وأصول الفقه" ما سبق كان بيان مفهوم أصول الفقه، وهذا بيان ما صدق عليه هذا المفهوم من الأنواع المنحصرة بحكم الاستقراء في الأربعة ووجه ضبطه أن الدليل الشرعي إما وحي أو غيره والوحي إن كان متلوا فالكتاب وإلا فالسنة وغير الوحي إن كان قول كل الأمة في عصر فالإجماع وإلا فالقياس أو أن الدليل إما أن يصل من الرسول عليه السلام أو لا والأول إن تعلق بنظمه الإعجاز فالكتاب وإلا فالسنة والثاني إن اشترط عصمة من صدر عنه فالإجماع وإلا فالقياس. وأما شرائع من قبلنا والتعامل وقول الصحابي ونحو ذلك فراجعة إلى الأربعة وكذا المعقول نوع استدلال بأحدها وإلا فلا دخل للرأي في إثبات الأحكام وما جعله بعضهم نوعا خامسا من الأدلة وسماه الاستدلال فحاصله يرجع إلى التمسك بمعقول النص أو الإجماع صرح بذلك في الأحكام، ثم الثلاثة الأول أصول مطلقة لكونها أدلة مستقلة مثبتة للأحكام والقياس أصل من وجه لاستناد الحكم إليه ظاهرا دون وجه لكونه فرعا للثلاثة لابتنائه على علة مستنبطة من موارد الكتاب والسنة والإجماع فالحكم بالتحقيق مستند إليها وأثر القياس في إظهار الحكم وتغيير وصفه من الخصوص إلى العموم ومن هنا يقال أصول الفقه ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع،(1/33)
تعريف علم أصول الفقه
...
وعلم أصول الفقه:
العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه على وجه التحقيق فيبحث فيه عن أحوال الأدلة المذكورة وما يتعلق بها ويلحق به البحث عما يثبت بهذه الأدلة، وهو الحكم وعما يتعلق به فنضع الكتاب على قسمين القسم الأول في الأدلة الشرعية وهي على أربعة أركان.
ـــــــ
حرمة وطء أم أمته التي وطئها والحرمة في المقيس عليه ثابتة إجماعا، ولا نص فيه، بل النص ورد في أمهات النساء من غير اشتراط الوطء. ولما عرف أصول الفقه باعتبار الإضافة فالآن يعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص فيقول. "وعلم أصول الفقه العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه على وجه التحقيق" أي العلم بالقضايا الكلية التي يتوصل بها إلى الفقه توصلا قريبا
................................................................................................
والأصل الرابع القياس المستنبط من هذه الأصول الثلاثة واعترض بوجوه الأول أنه لا معنى للأصل المطلق إلا ما يبتنى عليه غيره سواء كان فرعا لشيء آخر أو لم يكن ولهذا صح إطلاقه على الأب، وإن كان فرعا الثاني أن السبب القريب للشيء مع أنه مسبب عن البعيد أولى بإطلاق اسم السبب عليه من البعيد، وإن لم يكن مسببا عن شيء آخر. الثالث أن أولوية بعض الأقسام في معنى المقسم لازمة في كل قسمة فيلزم أن بفرد القسم الضعيف فيقال مثلا الكلمة قسمان اسم وفعل والقسم الثالث هو الحرف الرابع أن تغيير الحكم من الخصوص إلى العموم لا يمكن إلا بتقديره في صورة أخرى، وهو معنى الأصالة المطلقة. الخامس أن الإجماع أيضا يفتقر إلى السند فينبغي أن لا يكون أصلا مطلقا.
والجواب عن الأول؛ إنا لا ندعي أن لعدم الفرعية دخلا في مفهوم الأصل، بل إن الأصل مقول بالتشكيك وإن الأصل الذي يستقل في معنى الأصالة وابتناء الفرع عليه كالكتاب مثلا أقوى من الأصل الذي يبتنى في ذلك المعنى على شيء آخر بحيث يكون فرعه في الحقيقة مبتنيا على ذلك الشيء كالقياس والأضعف غير داخل في الأصل المطلق بمعنى الكامل في الأصالة، وهذا بين. وأما الأب فإنما يبتنى على أبيه في الوجود لا في الأبوة، والأصالة للولد فلا يكون مما ذكرنا في شيء وعن الثاني أن السبب القريب هو المؤثر في فرعه والمفضي إليه وأثر البعيد إنما هو في الواسطة التي هي السبب القريب لا في فرعه فبالضرورة يكون أولى وأقوى من البعيد في معنى السببية والأصالة لذلك الفرع، وفيما نحن فيه القياس ليس بمثبت لحكم الفرع فضلا عن أن يكون قريبا ليكون أولى بالأصالة، بل هو مظهر لاستناد حكم الفرع إلى النص أو الإجماع وعن الثالث أنا لا نسلم لزوم أولوية بعض الأقسام في كل تقسيم وكيف يتصور ذلك في تقسيم الماهيات الحقيقية إلى أنواعها وأفرادها كتقسيم الحيوان إلى الإنسان وغيره ولو سلم لزوم ذلك في كل قسمة فلا نسلم لزوم الإشارة إلى ذلك والتنبيه عليه غاية ما في الباب أنه يجوز عن الرابع أنه إن أريد بالتقدير التقرير بحسب الواقع حتى يكون القياس هو الذي يقرر الحكم ويثبته في صورة الفرع فلا نسلم امتناع التغيير بدونه، وإن أريد التقرير بحسب علمنا فهو لا يقتضي إسناد الحكم حقيقة إلى القياس ليكون أصلا له كاملا وعن الخامس بعد تسليم ما ذكر أن الإجماع إنما يحتاج إلى السند في تحققه لا في نفس الدلالة على الحكم فإن المستدل به لا يفتقر إلى ملاحظة السند والالتفات إليه بخلاف القياس(1/34)
وإنما قلنا توصلا قريبا احترازا عن المبادئ كالعربية والكلام وإنما قلنا على وجه التحقيق احترازا عن علم الخلاف والجدل فإنه وإن اشتمل على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه لكن لا على وجه التحقيق، بل الغرض منه إلزام الخصم وذلك كقواعدهم المذكورة في الإشارة والمقدمة ونحوهما لتبتنى عليها النكت الخلافية "ونعني بالقضايا الكلية المذكورة ما يكون إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه" أي إذا استدللت على حكم مسائل الفقه بالشكل الأول فكبرى الشكل الأول هي تلك القضايا الكلية كقولنا هذا الحكم ثابت؛ لأنه حكم يدل على ثبوته القياس وكل حكم يدل على ثبوته القياس فهو ثابت وإذا استدللت على مسائل الفقه بالملازمات الكلية مع وجود الملزوم فالملازمات الكلية هي تلك القضايا كقولنا هذا الحكم ثابت؛ لأنه كلما دل القياس على ثبوت هذا الحكم يكون هذا الحكم ثابتا لكن القياس دل على ثبوت هذا الحكم فيكون ثابتا.
واعلم أنه يمكن أن لا يكون هذه القضية الكلية بعينها مذكورة في مسائل أصول الفقه
................................................................................................
فإن الاستدلال به لا يمكن بدون اعتبار أحد الأصول الثلاثة والعلة المستنبطة منها وقد يجاب بأن الإجماع يثبت أمرا زائدا على ما يثبته السند، وهو قطعية الحكم بخلاف القياس فإنه لا يفيد زيادة، بل ربما يورثه نقصانا بأن يكون حكم الأصل قطعيا وحكمه ظني.
قوله: "وعلى الفقه" بعد ما تقرر أن أصول الفقه لقب للعلم المخصوص لا حاجة إلى إضافة العلم إليه إلا أن يقصد زيادة بيان وتوضيح كشجر الأراك والقاعدة حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه كقولنا كل حكم دل عليه القياس فهو ثابت والتوصل القريب مستفاد من الباء السببية الظاهرة في السبب القريب ومن إطلاق التوصل إلى الفقه، إذ في البعيد يتوصل إلى الواسطة ومنها إلى الفقه فيخرج العلم بقواعد العربية والكلام؛ لأنها من مبادئ أصول الفقه والتوصل بهما إلى الفقه ليس بقريب، إذ يتوصل بقواعد العربية إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولاتها الوضعية وبواسطة ذلك يقتدر على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وكذلك يتوصل بقواعد الكلام إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما ليتوصل بذلك إلى الفقه والتحقيق في هذا المقام أن الإنسان لم يخلق عبثا ولم يترك سدى، بل تعلق بكل من أعمال حكم من قبل الشارع منوط بدليل يخصه ليستنبط منه عند الحاجة ويقاس على ذلك الحكم ما يناسبه لتعذر الإحاطة بجميع الجزئيات فحصلت قضايا موضوعاتها أفعال المكلفين ومحمولاتها أحكام الشارع على التفصيل فسمي العلم بها الحاصل من تلك الأدلة فقها، ثم نظروا في تفاصيل تلك الأدلة والأحكام وعمومها فوجدوا الأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس والأحكام راجعة إلى الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة وتأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا من غير نظر إلى تفاصيلهما إلا على طريق المثال فحصل لهم قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا وبيان طرقه وشرائطه ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية فضبطوها ودونوها وأضافوا إليها من اللواحق والمتممات وبيان الاختلافات ما يليق بها وسموا العلم بها أصول الفقه فصارت عبارة عن العلم(1/35)
لكن تكون مندرجة في قضية كلية هي مذكورة في مسائل أصول الفقه كقولنا كلما دل القياس على الوجوب في صورة النزاع يثبت الوجوب فيها فإن هذه الملازمة مندرجة تحت هذه الملازمة وهي كلما دل القياس على ثبوت كل حكم هذا شأنه يثبت هذا الحكم والوجوب من جزئيات ذلك الحكم فكأنه قيل كلما دل القياس على الوجوب يثبت
................................................................................................
بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه ولفظ القواعد مشعر بقيد الإجمال وزاد المصنف قيد التحقيق احترازا عن علم الخلاف ولقائل أن يمنع كون قواعده مما يتوصل به إلى الفقه توصلا قريبا، بل إنما يتوصل بها إلى محافظة الحكم المستنبط أو مدافعته ونسبته إلى الفقه وغيره على السوية فإن الجدلي إما مجيب يحفظ وضعا، وإما معترض يهدم وضعا إلا أن الفقهاء أكثروا فيه من مسائل الفقه وبنوا نكاته عليها حتى توهم أن له اختصاصا بالفقه.
قوله: "ونعني بالقضايا الكلية" اعلم أن المركب التام المحتمل للصدق والكذب يسمى من حيث اشتماله على الحكم قضية ومن حيث احتماله الصدق والكذب خبرا ومن حيث إفادته الحكم إخبارا ومن حيث كونه جزءا من الدليل مقدمة ومن حيث إنه يطلب بالدليل مطلوبا ومن حيث يحصل من الدليل نتيجة ومن حيث يقع في العلم ويسأل عنه مسألة فالذات واحدة واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات والمحكوم عليه في القضية يسمى موضوعا والمحكوم به محمولا وموضوع المطلوب يسمى أصغر ومحموله أكبر والدليل يتألف لا محالة من مقدمتين تشتمل إحداهما على الأصغر وتسمى الصغرى والأخرى على الأكبر وتسمى الكبرى وكلتاهما مشتمل على أمر متكرر فيهما يسمى الأوسط، والأوسط إما محمول في الصغرى موضوع في الكبرى ويسمى الدليل بهذا الاعتبار الشكل الأول أو بالعكس ويسمى الشكل الرابع أو محمول فيهما ويسمى الشكل الثاني أو موضوع فيهما ويسمى الشكل الثالث مثلا إذا قلنا الحج واجب؛ لأنه مأمور الشارع وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب فالحج الأصغر والواجب الأكبر والمأمور الأوسط وقولنا الحج مأمور الشارع هي الصغرى وقولنا وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب هي الكبرى والدليل المذكور من الشكل الأول فالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه هي القضايا الكلية التي تقع كبرى لصغرى سهلة الحصول عند الاستدلال على مسائل الفقه بالشكل الأول كما في المثال المذكور وضم القواعد الكلية إلى الصغرى السهلة الحصول ليخرج المطلوب الفقهي من القوة إلى الفعل هو معنى التوصل بها إلى الفقه لكن تحصيل القاعدة الكلية يتوقف على البحث عن أحوال الأدلة والأحكام وبيان شرائطهما وقيودهما المعتبرة في كلية القاعدة فالمباحث المتعلقة بذلك هي مطالب أصول الفقه وتندرج كلها تحت العلم بالقاعدة على ما شرحه المصنف بما لا مزيد عليه.
قوله: "ويكون القياس قد أدى إليه رأي مجتهد" يعني يشترط ذلك فيما سبق فيه اجتهاد الآراء ليحترز به عن مخالفة الإجماع أما إذا لم يسبق في المسألة اجتهاد أو سبق اجتهاد مجتهد واحد فقط فلا خفاء في جواز الاجتهاد على خلافه.
قوله: "ولا يبعد أن يقال" الظاهر إنه بعيد لم يذهب إليه أحد والمتعرضون لمباحث التقليد في كتبهم مصرحون بأن البحث عنه إنما وقع من جهة كونه في مقابلة الاجتهاد لا من جهة أنه من أصول الفقه.(1/36)
الوجوب وكلما دل القياس على الجواز يثبت الجوار فالملازمة التي هي إحدى مقدمتي الدليل تكون من مسائل أصول الفقه بطريق التضمن، ثم اعلم أن كل دليل من الأدلة الشرعية إنما يثبت به الحكم إذا كان مشتملا على شرائط تذكر في موضعها، ولا يكون الدليل منسوخا، ولا يكون له معارض مساو أو راجح. ويكون القياس قد أدى إليه رأي مجتهد حتى لو خالف إجماع المجتهدين يكون باطلا فالقضية المذكورة سواء جعلناها كبرى أو ملازمة إنما تصدق كلية إذا اشتملت على هذه القيود فالعلم بالمباحث المتعلقة بهذه القيود يكون علما
................................................................................................
قوله: "ولا يقال إلى الفقه"؛ لأن المقلد يتوصل بقواعده إلى مسائل الفقه لا إلى الفقه الذي هو العلم بالأحكام عن أدلتها الأربعة؛ لأن علمه بها ليس عن أدلتها الأربعة.
قوله: "يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية والأحكام" يعني عن أحوالهما عن حذف المضاف، إذ لا يبحث في العلم عن نفس الموضوع، بل عن أحواله وعوارضه إلا أن حذف هذا المضاف شائع في عبارة القوم.
قوله: "فموضوع هذا العلم" المراد بموضوع العلم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية والمراد بالعرض هاهنا المحمول على الشيء الخارج عنه وبالعرض الذاتي ما يكون منشؤه الذات بأن يلحق الشيء لذاته كالإدراك للإنسان أو بواسطة أمر يساويه كالضحك للإنسان بواسطة تعجبه أو بواسطة أمر أعم منه داخل فيه كالتحرك للإنسان بواسطة كونه حيوانا والمراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضوع العلم كقولنا الكتاب يثبت الحكم قطعا أو على أنواعه كقولنا الأمر يفيد الوجوب أو على أعراضه الذاتية كقولنا العام يفيد القطع أو على أنواع أعراضه الذاتية كقولنا العام الذي خص منه البعض يفيد الظن وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات الأعراض الذاتية للأدلة والأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت أحكام بالأدلة بمعنى أن جميع محمولات مسائل هذا الفن هو الإثبات والثبوت وما له نفع ودخل في ذلك فيكون موضوعه الأدلة الأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت الأحكام بالأدلة، فإن قلت فما بالهم يجعلون من مسائل الأصول إثبات الإجماع والقياس للأحكام ويجعلون منها إثبات الكتاب والسنة لذلك قلت؛ لأن المقصود بالنظر في الفن هي الكسبيات المفقرة إلى الدليل وكون الكتاب والسنة حجة بمنزلة البديهي في نظر الأصول لتقرره في الكلام وشهرته بين الأنام بخلاف الإجماع والقياس ولهذا تعرضوا لما ليس إثباته للحكم بينا كالقراءة الشاذة وخبر الواحد.
قوله: "وأما الثالث" يعني العوارض الذاتية التي لا تكون مبحوثا عنها في هذا العلم ولا دخل لها في لحوق ما هي مبحوث عنها من القسمين يعني قسمي العوارض التي للأدلة والعوارض التي للأحكام، وذلك كالإمكان والقدم والحدوث والبساطة والتركيب وكون الدليل جملة اسمية أو فعلية ثلاثية مفرداته أو رباعية معربة أو مبنية إلى غير ذلك مما لا دخل له في الإثبات والثبوت فلا يبحث عنها في الأصول، وهذا كما أن النجار ينظر في الخشب من جهة صلابته ورخاوته ورقته وغلظه واعوجاجه واستقامته ونحو ذلك مما يتعلق بصناعته لا من جهة إمكانه وحدوثه وتركبه وبساطته ونحو ذلك.(1/37)
بالقضية الكلية التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه فتكون تلك المباحث من مسائل أصول الفقه وقولنا يتوصل بها إليه. الظاهر أن هذا يختص بالمجتهد فإن المبحوث عنه في هذا العلم قواعد يتوصل المجتهد بها إلى الفقه فإن المتوصل إلى الفقه ليس إلا المجتهد فإن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة التي ليس دليل المقلد منها فلهذا لم تذكر
................................................................................................
قوله: "أن يذكر مباحث الحكم بعد مباحث الأدلة"؛ لأن الدليل مقدم بالذات والبحث عنه أهم في فن الأصول.
قوله: "كما أن موضوع المنطق التصورات والتصديقات"؛ لأنه يبحث عن أحوال التصور من حيث إنه حد أو رسم فيوصل إلى تصور ومن حيث إنه جنس أو فصل أو خاصة فيركب منها حد أو رسم وعن أحوال التصديق من حيث إنه حجة توصل إلى تصديق ومن حيث إنه قضية أو عكس قضية أو نقيض فيؤلف منها حجة وبالجملة جميع مباحثه راجعة إلى الإيصال وما له دخل في الإيصال وقد يقع البحث عن أحوال التصور الموصل إليه بأنه إن كان بسيطا لا يحد، وإن كان مركبا من الجنس والفصل يحد، وإن كان له خاصة لازمة بينة يرسم وإلا فلا ويمكن أن يجعل ذلك راجعا إلى البحث عن أحوال التصور من حيث إنه الموصل بأن يقال: معناه أن الحد يوصل إلى المركب دون البسيط فيكون من المسائل.
قوله: "لكن الصحيح" ذهب صاحب الأحكام إلى أن موضوع أصول الفقه هو الأدلة الأربعة ولا يبحث فيه عن أحوال الأحكام، بل إنما يحتاج إلى تصورها ليتمكن من إثباتها ونفيها لكن الصحيح أن موضوعه الأدلة والأحكام؛ لأنا رجعنا الأدلة بالتعميم إلى الأربعة والأحكام إلى الخمسة ونظرنا في المباحث المتعلقة بكيفية إثبات الأدلة للأحكام إجمالا فوجدنا بعضها راجعة إلى أحوال الأدلة وبعضها إلى أحوال الأحكام كما ذكره المصنف في تحصيل القضية الكلية التي يتوصل بها إلى الفقه فجعل أحدهما من المقاصد والآخر من اللواحق تحكم غاية ما في الباب أن مباحث الأدلة أكثر وأهم لكنه لا يقتضي الأصالة والاستقلال.
قوله: "فإن أريد بالحكم" هذا كلام لا حاصل له؛ لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات ولو سلم أنها أدلة حقيقية فلا معنى للدليل إلا ما يفيد العلم بثبوت الشيء أو انتفائه، غاية ما في الباب أن العلم يؤخذ بمعنى الإدراك الجازم أو الراجح ليعم القطعي والظني فيصح في جميع الأدلة، وهذا لا يتفاوت بقدم الحكم وحدوثه وقد اضطر إلى ذلك آخر الأمر وليس معنى الدليل ما يفيد نفس الثبوت كما هو شأن العلل الخارجية، وإن جعلنا الحكم حادثا على ما يشعر به كلامه.
قوله: "واعلم إلخ" هذه ثلاثة مباحث في الموضوع أوردها مخالفا لجمهور المحققين يتعجب منها الناظر فيها الواقف على كلام القوم في هذا المقام الأول أن إطلاق القول بجواز تعدد الموضوع، وإن كان فوق الاثنين غير صحيح بل التحقيق أن المبحوث عنه في العلم إما أن يكون إضافة بين الشيئين أو لا وعلى الأول إما أن تكون العوارض التي لها دخل في المبحوث عنه بعضها ناشئا عن أحد المضافين وبعضها ناشئا عن المضاف الآخر أو لا، فإن كان كذلك فموضوع العلم كلا(1/38)
مباحث التقليد والاستفتاء في كتبنا ولا يبعد أن يقال إنه يعم المجتهد والمقلد والأدلة الأربعة إنما يتوصل بها المجتهد لا المقلد فأما المقلد فالدليل عنده قول المجتهد فالمقلد يقول هذا الحكم واقع عندي؛ لأنه أدى إليه رأي أبي حنيفة رحمه الله وكل ما أدى إليه رأيه فهو واقع عندي فالقضية الثانية من أصول الفقه أيضا فلهذا ذكر بعض العلماء في كتب الأصول مباحث التقليد والاستفتاء
................................................................................................
المضافين كما وقع البحث في الأصول عن إثبات الأدلة للأحكام والأحوال التي لها دخل في ذلك بعضها ناشئ عن الدليل كالعموم والاشتراك والتواتر وبعضها عن الحكم ككونه عبادة أو عقوبة فموضوعه الأدلة والأحكام جميعا. وأما إذا لم يكن المبحوث عنه إضافة كما في الفقه الباحث عن وجوب فعل المكلف وحرمته وغير ذلك أو كان إضافة لكن لا دخل للأحوال الناشئة عن أحد المضافين في المبحوث عنه كما في المنطق الباحث عن إيصال تصور أو تصديق إلى تصور أو تصديق ولا دخل لأحوال التصور والتصديق الموصل إليه في ذلك على ما قرره المصنف فيما سبق فالموضوع لا يكون إلا واحدا؛ لأن اختلاف الموضوع يوجب اختلاف المسائل الموجب لاختلاف العلم ضرورة أن العلم إنما يختلف باختلاف المعلومات وهي المسائل، وفيه نظر؛ لأنه إن أريد باختلاف المسائل مجرد تكثرها فلا نسلم أنه يوجب اختلاف العلم وظاهر أن مسائل العلم الواحد كثيرة ألبتة، وإن أريد عدم تناسبها فلا نسلم أن مجرد تكثر الموضوعات يوجب ذلك، وإنما يلزم ذلك لو لم تكن الموضوعات الكثيرة متناسبة والقوم صرحوا بأن الأشياء الكثيرة إنما تكون موضوعا لعلم واحد بشرط تناسبها ووجه التناسب اشتراكها في دان كالخط والسطح والجسم التعليمي للهندسة فإنها تتشارك في جنسها، وهو المقدار أعني الكم المتصل القار الذات أو في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه والأغذية والأدوية والأركان والأمزجة وغير ذلك إذا جعلت موضوعات الطب فإنها تتشارك في كونها منسوبة إلى الصحة التي هي الغاية في ذلك العلم فعلم أنهم لم يهملوا رعاية معنى يوجب الوحدة وأن ليس لأحد أن يصطلح على أن الفقه والهندسة علم واحد موضوعه فعل المكلف والمقدار أنه فيما أورد من المثالين مناقض نفسه؛ لأن موضوع الأصول ثم أشياء كثيرة، إذ محمولات مسائله ليست أعراضا ذاتية لمفهوم الدليل، بل للكتاب والسنة والإجماع والقياس على الانفراد أو التشارك بين اثنين أو أكثر، وكذا التصور والتصديق في المنطق.
قوله: "ومنها أنه قد يذكر الحيثية" المبحث الثاني في تحقيق الحيثية المذكورة في الموضوع حيث يقال موضوع هذا العلم هو ذلك الشيء من حيث كذا ولفظ حيث موضوع للمكان استعير لجهة الشيء واعتباره يقال الموجود من حيث إنه موجود أي من هذه الجهة وبهذا الاعتبار فالحيثية المذكورة في الموضوع قد لا تكون من الأعراض المبحوث عنها في العلم كقولهم موضوع العلم الإلهي الباحث عن أحوال الموجودات المجردة هو الموجود من حيث إنه موجود بمعنى أنه يبحث عن العوارض التي تلحق الموجود من حيث إنه موجود لا من حيث إنه جوهر أو عرض أو جسم أو مجرد، وذلك كالعلية والمعلولية والوجوب والإمكان والقدم والحدوث ونحو ذلك ولا يبحث فيه عن حيثية الوجود، إذ لا معنى لإثباتها للموجود وقد تكون من الأعراض المبحوث عنها(1/39)
فعلى هذا علم أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى مسائل الفقه، ولا يقال إلى الفقه؛ لأن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة وقولنا على وجه التحقيق لا ينافي هذا المعنى فإن تحقيق المقلد أن يقلد مجتهدا يعتقد ذلك المقلد حقيقة رأي ذلك المجتهد هذا الذي ذكرنا إنما هو بالنظر إلى الدليل وأما بالنظر إلى المدلول فإن القضية
................................................................................................
في العلم كقولهم: موضوع علم الطب بدن الإنسان من حيث يصح ويمرض وموضوع العلم الطبيعي الجسم من حيث يتحرك ويسكن والصحة والمرض من الأعراض المبحوث عنها في الطب وكذا الحركة والسكون في الطبيعي فذهب المصنف إلى أن الحيثية في القسم الأول جزء من الموضوع، وفي الثاني بيان للأعراض الذاتية المبحوث عنها في العلم، إذ لو كانت جزءا من الموضوع كما في القسم الأول لما صح أن يبحث عنها في العلم وتجعل من محمولات مسائله، إذ لا يبحث في العلم عن أجزاء الموضوع، بل عن أعراضه الذاتية ولقائل أن يقول لا نسلم أنها في الأول جزء من الموضوع، بل قيد لموضوعيته بمعنى أن البحث يكون عن الأعراض التي تلحقه من تلك الحيثية وبذلك الاعتبار وعلى هذا لو جعلنا الحيثية في القسم الثاني أيضا قيدا للموضوع على ما هو ظاهر كلام القوم لا بيانا للأعراض الذاتية على ما ذهب إليه المصنف لم يكن البحث عنها في العلم بحثا عن أجزاء الموضوع ولم يلزمنا ما لزم المصنف من تشارك العلمين في موضوع واحد بالذات والاعتبار نعم يرد الإشكال المشهور، وهو أنه يجب أن لا تكون الحيثية من الأعراض المبحوث عنها في العلم ضرورة أنها ليست مما تعرض للموضوع من جهة نفسها وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه ضرورة أن ما به يعرض الشيء للشيء لا بد وأن يتقدم على العارض مثلا ليست الصحة والمرض مما يعرض لبدن الإنسان من حيث يصح ويمرض ولا الحركة والسكون مما يعرض للجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمشهور في جوابه أن المراد من حيث إمكان الصحة والمرض والحركة والسكون والاستعداد لذلك، وهذا ليس من الأعراض والمبحوث عنها في العلم والتحقيق أن الموضوع لما كان عبارة عن المبحوث في العلم عن أعراضه الذاتية قيد بالحيثية على معنى أن البحث عن العوارض يكون باعتبار الحيثية وبالنظر إليها أي يلاحظ في جميع المباحث هذا المعنى الكلي لا على معنى أن جميع العوارض المبحوث عنها يكون لحوقها للموضوع بواسطة هذه الحيثية البتة.
قوله: "ومنها أن المشهور" المبحث الثالث في جواز تشارك العلوم المختلفة في موضوع واحد بالذات والاعتبار وكما خالف القوم في جواز تعدد الموضوع لعلم واحد كذلك خالفهم في امتناع اتحاد الموضوع لعلوم متعددة وادعى جوازه، بل وقوعه أما الجواز فلأنه يصح أن يكون لشيء واحد أعراض ذاتية متنوعة أي مختلفة بالنوع يبحث في علم عن بعض أنواعها، وفي علم آخر عن بعض آخر فيتمايز العلمان بالأعراض المبحوث عنها، وإن اتحد الموضوع، وذلك؛ لأن اتحاد العلم واختلافه إنما هو بحسب المعلومات أعني المسائل وكما تتحد المسائل باتحاد موضوعاتها بأن يرجع الجميع إلى موضوع العلم وتختلف باختلافها كذلك تتحد باتحاد محمولاتها بأن يرجع الجميع إلى نوع من الأعراض الذاتية للموضوع وتختلف باختلافها فكما اعتبر اختلاف العموم باختلاف الموضوعات يجوز أن يعتبر باختلاف المحمولات بأن يؤخذ موضوع واحد بالذات والاعتبار ويجعل البحث عن(1/40)
المذكورة إنما يمكن إثباتها كلية إذا عرف أنواع الحكم وأن أي نوع من الأحكام يثبت بأي نوع من الأدلة بخصوصية ناشئة من الحكم ككون هذا الشيء علة لذلك فإن هذا الحكم لا يمكن إثباته بالقياس، ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم به، وهو فعل المكلف ككونه عبادة أو عقوبة ونحو ذلك مما يندرج في كليلة تلك القضية فإن الأحكام تختلف باختلاف أفعال المكلفين فإن العقوبات لا يمكن إثباتها بالقياس، ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم عليه، وهو المكلف ومعرفة الأهلية والعوارض التي تعرض على الأهلية سماوية ومكتسبة مندرجة تحت تلك القضية الكلية أيضا لاختلاف الأحكام باختلاف المحكوم عليه بالنظر إلى وجود العوارض وعدمها فيكون تركيب الدليل على إثبات مسائل الفقه بالشكل الأول هكذا هذا الحكم ثابت؛ لأنه حكم هذا شأنه متعلق بفعل هذا شأنه، وهذا الفعل صادر من مكلف هذا شأنه ولم توجد العوارض المانعة من ثبوت هذا الحكم ويدل على ثبوت هذا الحكم قياس هذا شأنه.
هذا هو الصغرى، ثم الكبرى قولنا وكل حكم موصوف بالصفات المذكورة يدل على ثبوته القياس الموصوف فهو ثابت فهذه القضية الأخيرة من مسائل أصول الفقه وبطريق الملازمة هكذا كلما وجد قياس موصوف بهذه الصفات دال على حكم موصوف بهذه الصفات يثبت ذلك الحكم لكنه وجد القياس الموصوف إلخ فعلم أن جميع المباحث المتقدمة مندرجة تحت تلك القضية الكلية المذكورة التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه، فهذا هو معنى التوصل القريب المذكور وإذا علم أن جميع مسائل الأصول راجعة إلى قولنا كل حكم كذا يدل على ثبوته دليل كذا فهو ثابت أو كلما وجد دليل كذا دال على حكم كذا يثبت ذلك الحكم على أنه يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية لأحكام الكليتين من حيث إن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى والمباحث التي ترجع إلى أن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى بعضها ناشئة عن الأدلة وبعضها ناشئة عن الأحكام فموضوع هذا العلم الأدلة الشرعية والأحكام إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية وهي إثباتها الحكم وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي ثبوتها بتلك الأدلة. "فيبحث فيه عن أحوال الأدلة المذكورة وما يتعلق بها" الفاء في قوله فيبحث متعلق بحد هذا العلم أي إذا كان حد أصول الفقه هذا يجب أن يبحث فيه عن أحوال الأدلة والأحكام ومتعلقاتهم والمراد بالأحوال العوارض الذاتية وما يتعلق بها عطف على الأدلة والضمير في قوله بها يرجع إلى الأدلة وما يتعلق بها هو الأدلة المختلف فيها كاستصحاب الحال والاستحسان وأدلة المقلد والمستفتي وأيضا ما يتعلق بالأدلة الأربعة مما له مدخل في
................................................................................................
بعض أعراضه الذاتية علما وعن البعض الآخر علما آخر فيكونان علمين متشاركين في الموضوع متمايزين في المحمول. وأما الوقوع فلأنهم جعلوا أجسام العالم وهي البسائط موضوع علم الهيئة من حيث الشكل وموضوع علم السماء والعالم من حيث الطبيعية والحيثية فيهما بيان الأعراض(1/41)
كونها مثبتة للحكم كالبحث عن الاجتهاد ونحوه. واعلم أن العوارض الذاتية للأدلة ثلاثة أقسام منها العوارض الذاتية المبحوث عنها وهي كونها مثبتة للأحكام ومنها ما ليست بمبحوث عنها لكن لها مدخل في لحوق ما هي مبحوث عنها ككونها عامة أو مشتركة أو خبر واحد وأمثال ذلك ومنها ما ليس كذلك ككونه ثلاثيا أو رباعيا قديما أو حادثا أو غيرها فالقسم الأول يقع محمولات في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والقسم الثاني يقع أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا كقولنا الخبر الذي يرويه واحد يوجب غلبة الظن بالحكم، وقد يقع موضوعا لتلك القضايا كقولنا العام يوجب الحكم قطعا، وقد يقع محمولا فيها، نحو النكرة في موضوع النفي عامة.
وكذلك الأعراض الذاتية للحكم ثلاثة أقسام أيضا الأول ما يكون مبحوثا عنه، وهو كون الحكم ثابتا بالأدلة المذكورة، والثاني ما يكون له مدخل في لحوق ما هو مبحوث عنه ككونه متعلقا بفعل البالغ أو بفعل الصبي ونحوه. والثالث ما لا يكون كذلك فالأول يكون محمولا في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والثاني أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا، وقد يقع موضوعا وقد يقع محمولا كقولنا الحكم المتعلق بالعبادة يثبت بخبر الواحد ونحو العقوبة لا تثبت بالقياس ونحو زكاة الصبي عبادة. وأما الثالث من كلا القسمين بمعزل عن هذا العلم وعن مسائله. "ويلحق به البحث عما يثبت بهذه الأدلة، وهو الحكم وعما يتعلق به" الضمير المجرور في قوله ويلحق به راجع إلى البحث المدلول في قوله فيبحث عما يثبت أي عن أحوال ما يثبت وقوله عما يتعلق به أي بالحكم، وهو الحاكم والمحكوم به والمحكوم عليه.
واعلم أن قوله ويلحق به يحتمل أمرين أحدهما أن يراد به أن يذكر مباحث الحكم بعد مباحث الأدلة على أن موضوع هذا العلم الأدلة والأحكام. والثاني أن موضوع هذا العلم الأدلة فقط وإنما يبحث عن الأحكام على أنه من لواحق هذا العلم فإن أصول الفقه هي أدلة الفقه، ثم أريد به العلم بالأدلة من حيث إنها مثبتة للحكم فالمباحث الناشئة عن الحكم وما يتعلق به خارجة عن هذا العلم وهي مسائل قليلة تذكر على أنها لواحق وتوابع لمسائل هذا العلم كما أن موضوع المنطق التصورات والتصديقات من حيث إنها موصلة إلى تصور وتصديق فمعظم مسائل المنطق راجع إلى أحوال الموصل وإن كان يبحث فيه على سبيل الندرة عن أحوال التصور الموصل إليه كالبحث عن الماهيات أنها قابلة للحد فهذا البحث يذكر على طريق التبعية فكذا هنا وفي بعض كتب الأصول لم يعد مباحث الحكم من مباحث هذا العلم لكن الصحيح هو الاحتمال الأول وقوله وهو الحكم، فإن أريد بالحكم
................................................................................................
الذاتية المبحوث عنها لأجزاء الموضوع وإلا لما وقع البحث عنها في العلمين فموضوع كل منهما أجسام العالم على الإطلاق إلا أن البحث في الهيئة عن أشكالها، وفي السماء والعالم عن طبائعها(1/42)
الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، وهو قديم فالمراد بثبوته بالأدلة الأربعة ثبوت علمنا به بتلك الأدلة وإن أريد بالحكم أثر الخطاب كالوجوب والحرمة فثبوته ببعض الأدلة الأربعة صحيح وبالبعض لا كالقياس مثلا؛ لأن القياس غير مثبت للوجوب، بل مثبت غلبة ظنه بالوجوب كما قيل: إن القياس مظهر لا مثبت فيكون المراد بالإثبات إثبات غلبة الظن وإن نوقش في ذلك بأن اللفظ الواحد لا يراد به المعنى الحقيقي والمجازي معا فنقول نريد في الجميع إثبات العلم لنا أو غلبة الظن لنا.
واعلم أني لما وقعت في مباحث الموضوع والمسائل أردت أن أسمعك بعض مباحثها التي لا يستغني المحصل عنها وإن كان لا يليق بهذا الفن منها أنهم قد ذكروا أن العلم الواحد قد يكون له أكثر من موضوع واحد كالطب فإنه يبحث فيه عن أحوال بدن الإنسان وعن الأدوية ونحوها، وهذا غير صحيح والتحقيق فيه أن المبحوث عنه في العلم إن كان إضافة شيء إلى آخر كما أن في أصول الفقه يبحث عن إثبات الأدلة للحكم وفي المنطق يبحث فيه عن إيصال تصور أو تصديق، إلى تصور أو تصديق وقد يكون بعض العوارض التي لها مدخل في المبحوث عنه ناشئة عن أحد المضافين وبعضها عن الآخر فموضوع هذا العلم كلا المضافين وإن لم يكن المبحوث عنه الإضافة لا يكون موضوع العلم الواحد أشياء كثيرة؛ لأن اتحاد العلم واختلافه إنما هو باتحاد المعلومات أي المسائل واختلافها فاختلاف الموضوع يوجب اختلاف العلم وإن أريد بالعلم لواحد ما وقع الاصطلاح على أنه علم واحد من غير رعاية معنى يوجب الوحدة فلا اعتبار به على أن لكل واحد أن يصطلح حينئذ على أن الفقه والهندسة علم واحد وموضوعه شيئان فعل المكلف والمقدار وما أوردوا من النظير، وهو بدن الإنسان والأدوية فجوابه أن البحث في الأدوية إنما هو من حيث إن بدن الإنسان يصح ببعضها ويمرض ببعضها فالموضوع في الجميع بدن الإنسان.
ومنها أنه قد يذكر الحيثية أحدهما أن الشيء مع تلك الحيثية موضوع كما يقال
................................................................................................
فهما علمان مختلفان باختلاف محمولات المسائل مع اتحاد الموضوع وعلم السماء والعالم علم تعرف فيه أحوال الأجسام التي هي أركان العالم وهي السماوات وما فيها والعناصر الأربعة وطبائعها وحركاتها ومواضعها وتعريف الحكمة في صنعها وتنضيدها، وهو من أقسام العلم الطبيعي الباحث عن أحوال الأجسام من حيث التغير وموضوعه الجسم المحسوس من حيث هو معروض للتغير في الأحوال والثبات فيها ويبحث فيه عما يعرض له من حيث هو كذلك كذا ذكره أبو علي ولا يخفى أن الحيثية في الطبيعي مبحوث عنها وقد صرح بأنها قيد للعروض وهاهنا نظر.
أما أولا فلأن هذا مبني على ما ذكر من كون الحيثية تارة جزءا من الموضوع وأخرى بيانا للمبحوث عنها وقد عرفت ما فيه، أما ثانيا فإنهم لما حاولوا معرفة أحوال الأعيان الموجودات وضعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وبحثوا عما أحاطوا به من أعراضه الذاتية فحصلت لهم مسائل(1/43)
الموجود من حيث إنه موجود موضوع للعلم الإلهي فيبحث فيه عن الأعراض الذاتية التي تلحقه من حيث إنه موجود كالوحدة والكثرة ونحوهما، ولا يبحث فيه عن تلك الحيثية؛ لأن الموضوع ما يبحث عن أعراضه لا ما يبحث عنه أو عن أجزائه وثانيهما أن الحيثية تكون بيانا للأعراض الذاتية المبحوث عنها فإنه يمكن أن يكون للشيء أعراض ذاتية متنوعة وإنما يبحث في علم عن نوع منها فالحيثية بيان ذلك النوع فقولهم موضوع الطب بدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض وموضوع الهيئة أجسام العالم من حيث إن لها شكلا يراد به المعنى الثاني لا الأول إذ في الطب يبحث عن الصحة والمرض وفي الهيئة عن الشكل فلو كان المراد هو الأول يجب أن يبحث في الطب والهيئة عن أعراض لاحقة لأجل الحيثيتين ولا يبحث عن الحيثيتين والواقع خلاف ذلك.
ومنها أن المشهور أن الشيء الواحد لا يكون موضوعا للعلمين أقول هذا غير ممتنع، بل واقع فإن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة ففي كل علم يبحث عن بعض منها كما ذكرناه.
وإنما قلنا إن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة فإن الواحد الحقيقي يوصف
................................................................................................
كثيرة متحدة في كونها بحثا عن أحوال ذلك الموضوع، وإن اختلفت محمولاتها فجعلوها بهذا الاعتبار علما واحدا يفرد بالتدوين والتسمية وجوزوا لكل أحد أن يضيف إليه ما يطلع عليه من أحوال ذلك الموضوع فإن المعتبر في العلم هو البحث عن جميع ما تحيط به الطاقة الإنسانية من الأعراض الذاتية للموضوع فلا معنى للعلم الواحد إلا أن يوضع شيء أو أشياء متناسبة فنبحث عن جميع عوارضه الذاتية ونطلبها ولا معنى لتمايز العلوم إلا أن هذا ينظر في أحوال شيء وذاك في أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار بأن يؤخذ في أحد العلمين مطلقا، وفي الآخر بالبرهان مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر وتلك الأحوال مجهولة مطلوبة والموضوع معلوم بين الوجود فهو الصالح سببا للتمايز. وأما ثالثا فلأنه ما من علم إلا ويشتمل موضوعه على أعراض ذاتية متنوعة فلكل أحد أن يجعله علوما متعددة بهذا الاعتبار مثلا يجعل البحث عن فعل المكلف من حيث الوجوب علما ومن حيث الحرمة علما آخر إلى غير ذلك فيكون الفقه علوما متعددة موضوعها فعل المكلف فلا ينضبط الاتحاد والاختلاف وتحقيق هذه المباحث في كتاب البرهان من منطق الشفاء.
قوله: "وإنما قلنا" استدل على ثبوت الأعراض الذاتية المتنوعة لشيء واحد بأن الواحد الحقيقي الذي لا كثرة في ذاته بوجه من الوجوه يتصف بصفات كثيرة، وإن كان بعضها حقيقيا كالقدرة وبعضها إضافيا كالخلق وبعضها سلبيا كالتجرد عن المادة والمتصف بصفات كثيرة متصف بأعراض ذاتية متنوعة ضرورة أنه لا شيء من تلك الصفات لاحقا له لجزئه لعدم الجزء له ولا المباين لامتناع احتياج الواحد الحقيقي في صفاته إلى أمر منفصل وكان ينبغي أن يتعرض لهذا أيضا وحينئذ إما أن يكون لحقوق كل منها لصفة أخرى فيلزم التسلسل في المبادئ أعني الصفات(1/44)
بصفات كثيرة، ولا يضر أن يكون بعضها حقيقة وبعضها إضافية وبعضها سلبية، ولا شيء منها يلحقه لجزئه لعدم الجزء له فلحوق بعضها لا بد أن يكون لذاته قطعا للتسلسل في المبدأ فلحوق البعض الآخر إن كان لذاته فهو المطلوب وإن كان لغيره نتكلم في ذلك الغير حتى ينتهي إلى ذاته قطعا للتسلسل في المبدأ.
ولأنه يلزم استكماله من غيره إذا ثبت ذلك يمكن أن يكون الشيء الواحد موضوع علمين ويكون تميزهما بحسب الأعراض المبحوث عنها وذلك؛ لأن اتحاد العلمين واختلافهما بحسب اتحاد المعلومات واختلافها والمعلومات هي المسائل فكما أن المسائل تتحد وتختلف بحسب موضوعاتها وهي راجعة إلى موضوع العلم فكذلك تتحد المسائل وتختلف بحسب محمولاتها وهي راجعة إلى تلك الأعراض وإن أريد أن الاصطلاح جرى بأن الموضوع معتبر في ذلك لا المحمول فحينئذ لا مشاحة في ذلك على أن قولهم: إن موضوع الهيئة هي أجسام العالم من حيث إنها شكل وموضوع علم السماء والعالم من الطبيعي أجسام العالم من حيث إنها طبيعية قول بأن موضوعهما واحد لكن اختلافهما باختلاف المحمول؛ لأن الحيثية فيهما بيان المبحوث عنه لا أنها جزء الموضوع وإلا يلزم أن لا يبحث فيهما عن هاتين الحيثيتين، بل عما يلحقهما لهاتين الحيثيتين والواقع خلاف ذلك، والله أعلم
................................................................................................
التي كل منها مبدأ لصفة أخرى، وهو محال لبرهان المذكورة في الكلام أو يكون بعضها لذاته فيثبت عرض ذاتي وحينئذ فالبعض الآخر لا يجوز أن يكون لجزئه لما مر فهو إما لذاته فيثبت عرض ذاتي آخر، وهو المطلوب أو لغيره ولا يجوز أن يكون الغير مباينا لما مر، بل يكون صفة من صفاته ولا بد أن ينتهي إلى ما يكون لحوقه لذاته وإلا لزم التسلسل في المبادئ، فإن قيل يجوز أن ينتهي إلى العرض الذاتي الأول فلا يلزم تعدد الأعراض الذاتية ولو سلم فاللازم تعددها، وهو غير مطلوب والمطلوب تنوعها، وهو غير لازم قلنا اللاحق بواسطة العرض الذاتي الأول أيضا عرض ذاتي فيلزم التعدد والصفات المتعددة في محل واحد متنوعة لا محالة ضرورة أن اختلاف أشخاص نوع واحد من الصفات إنما هو باختلاف المحل.
قوله: "ولأنه يلزم" عطف على مضمون الكلام السابق أي، وإن كان لغيره فهو باطل؛ لأنه يلزم استكمال الواحد الحقيقي في صفاته بالغير، وهو محال؛ لأنه يوجب النقصان في ذاته والاحتياج في كمالاته، وفيه نظر؛ لأنه إن أريد الاستكمال بالأمر المنفصل فظاهر أنه غير لازم لجواز أن يكون لحوق البعض الآخر لصفة، وإن أريد أعم من المنفصل والصفة فلا نسلم أن احتياج بعض الصفات إلى البعض يوجب النقصان في الذات كيف والخلق يتوقف على العلم والقدرة والإرادة ويمكن أن يجعل هذا مختصا بما يكون الغير منفصلا وما سبق مختصا بما يكون غير منفصل فيتم بمجموعهما المطلوب أعني إثبات عرض ذاتي آخر(1/45)
الأدلة الشرعية - الركن الأول: القرآن
مدخل
...
الركن الأول: في الكتاب أي القرآن،
وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواترا ولا دور ; لأن المصحف معلوم وليس هذا تعريف ماهية الكتاب بل تشخيصه في جواب أي كتاب تريد، ولا القرآن لأن القرآن اسم يطلق على الكلام الأزلي وعلى المقروء فهذا تعيين أحد محتمليه، وهو المقروء على أن الشخصي لا يحد ونورد أبحاثه في بابين الأول في إفادته المعنى والثاني: في إفادته الحكم الشرعي.
ـــــــ
"فنضع الكتاب على قسمين القسم الأول في الأدلة الشرعية وهي على أربعة أركان: الركن الأول في الكتاب أي القرآن، وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواترا" فخرج سائر الكتب والأحاديث الإلهية والنبوية والقراءة الشاذة، وقد أورد ابن الحاجب أن هذا
................................................................................................
قوله: "فنضع" تفريع على قوله فيبحث عن كذا وكذا يعني بسبب أن البحث في هذا الفن إنما هو عن أحوال الأدلة والأحكام نضع الكتاب أي مقاصده على قسمين وإلا فبحث التعريف والموضوع أيضا من الكتاب مع أنه خارج عن القسمين لكونه غير داخل في المقاصد والقسم الأول مرتب على أربعة أركان في الأدلة الأربعة الكتاب، ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس تقديما للإقدام بالذات والشرف. وأما بابا الترجيح والاجتهاد فكأنه جعلهما تتمة وتذييلا لركن القياس.
قوله: "الركن الأول في الكتاب"، وهو في اللغة اسم للمكتوب غلب في عرف أهل الشرع على كتاب الله تعالى المثبت في المصاحف كما غلب في عرف أهل العربية على كتاب سيبويه والقرآن في اللغة مصدر بمعنى القراءة غلب في العرف العام على المجموع المعين من كلام الله تعالى المقروء على ألسنة العباد، وهو في هذا المعنى أشهر من لفظ الكتاب وأظهر فلهذا جعل تفسيرا له حيث قيل الكتاب هو القرآن المنزل على الرسول المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلا متواترا بلا شبهة على أن القرآن هو تفسير للكتاب وباقي الكلام تعريف للقرآن وتمييز له عما يشتبه به لا أن المجموع تعريف للكتاب ليلزم ذكر المحدود في الحد ولا أن القرآن مصدر بمعنى المقروء ليشمل كلام الله تعالى وغيره على ما توهمه البعض؛ لأنه مخالف للعرف بعيد عن الفهم، إن كان صحيحا في اللغة والمشايخ، وإن كانوا لا يناقشون في ذلك إلا أنه لا وجه لحمل كلامهم عليه مع ظهور الوجه الصحيح المقبول عند الكل فلإزالة هذا الوهم صرح المصنف بحرف التفسير، وقال أي القرآن، وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواترا، ثم كل من الكتاب والقرآن يطلق عند الأصوليين على المجموع وعلى كل جزء منه؛ لأنهم إنما يبحثون عنه من حيث إنه دليل على الحكم، وذلك آية آية لا مجموع القرآن فاحتاجوا إلى تحصيل صفات مشتركة بين الكل والجزء مختصة بهما ككونه معجزا منزلا على الرسول مكتوبا في المصاحف منقولا بالتواتر فاعتبر في تفسيره بعضهم جميع الصفات لزيادة التوضيح وبعضهم الإنزال والإعجاز؛ لأن الكتابة والنقل ليسا من اللوازم لتحقق القرآن بدونهما في زمن النبي عليه السلام وبعضهم الكتابة والإنزال والنقل؛ لأن المقصود تعريف القرآن لمن لم يشاهد الوحي ولم يدرك زمن النبوة وهم إنما يعرفونه بالنقل والكتابة في المصاحف ولا ينفك عنهما في زمانهم فهما بالنسبة إليهم من أبين اللوازم البينة وأوضحها دلالة على المقصود(1/46)
الباب الأول: تقسيم اللفظ بالنسبة إلى المعنى
التقسيم الأول: في اللفظ
*
...
الباب الأول:
لما كان القرآن نظما دالا على المعنى قسم اللفظ بالنسبة إلى المعنى أربع تقسيمات باعتبار وضعه له ثم باعتبار استعماله فيه ثم باعتبار ظهور المعنى عنه وخفائه ومراتبهما ثم في كيفية دلالته.
التقسيم الأول: اللفظ
إن وضع للكثير وضعا متعددا فمشترك أو وضعا واحدا
ـــــــ
التعريف دوري؛ لأنه عرف القرآن بما نقل في المصحف، فإن سئل ما المصحف فلا بد وأن يقال الذي كتب فيه القرآن فأجبت عن هذا بقولي "ولا دور؛ لأن المصحف معلوم" أي في العرف فلا يحتاج إلى تعريفه بقوله الذي كتب فيه القرآن ثم أردت تحقيقا في هذا
................................................................................................
بخلاف الإعجاز فإنه ليس من اللوازم البينة ولا الشاملة لكل جزء، إذ المعجز هو السورة أو مقدارها أخذ من قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] والمصنف اقتصر على ذكر النقل في المصاحف تواترا لحصول الاحتراز بذلك عن جميع ما عدا القرآن؛ لأن سائر الكتب السماوية وغيرها والأحاديث الإلهية والنبوية ومنسوخ التلاوة لم ينقل شيء منها بين دفتي المصاحف؛ لأنه اسم لهذا المعهود المعلوم عند جميع الناس حتى الصبيان والقراءة الشاذة لم تنقل إلينا بطريق التواتر، بل بطريق الآحاد كما اختص بمصحف أبي رضي الله عنه أو الشهرة كما اختص بمصحف ابن مسعود رضي الله عنه ولا حاجة إلى ذكر الإنزال والإعجاز ولا إلى تأكيد التواتر بقولهم بلا شبهة لحصول المقصود بدونها.
وأما التسمية فالمشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله على ما ذكر في كثير من كتب المتقدمين أنها ليست من القرآن إلا ما تواتر بعض آية من سورة النمل، وإن قولهم بلا شبهة احتراز عنها إلا أن المتأخرين ذهبوا إلى أن الصحيح من المذهب أنها في أوائل السور آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور بدليل أنها كتبت في المصاحف بخط القرآن من غير إنكار من السلف وعدم جواز الصلاة بها إنما هو للشبهة في كونها آية تامة وجواز تلاوتها للجنب والحائض إنما هو على قصد التبرك والتيمن كما إذا قال الحمد لله رب العالمين على قصد الشكر دون التلاوة وعدم تكفير من أنكر كونها من القرآن في غير سورة النمل إنما هو لقوة الشبهة في ذلك بحيث يخرج كونها من القرآن من حيز الوضوح إلى حيز الإشكال، ومثل هذا يمنع التكفير، فإن قيل فعلى ما اختاره المتأخرون هل يبقى اختلاف بين الفريقين قلنا نعم هي عند الشافعية مائة وثلاث عشرة آية من السور كما أن قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} عدة آيات من سورة الرحمن وعند الحنفية آية واحدة من القرآن كررت للفصل والتبرك وليست بآية من شيء من السور وجاز تكريرها في أوائل السور؛ لأنها نزلت لذلك ونقلت كذلك بخلاف من أخذ يلحق بالمصحف آيات مكررة مثل أن يكتب في أول كل سورة الحمد لله رب العالمين فإنه يعد زنديقا أو مجنونا فعلى ما هو المناسب لغرض الأصولي يكون المراد بما نقل إلينا بين دفتي المصاحف هو ما يشمل الكل والبعض إلا أنه إن أبقي على عمومه يدخل في الحد الحرف أو الكلمة من القرآن ولا يسمى قرآنا في عرف الشرع، وإن خص بالكلام التام خرج بعض ما ليس بكلام تام مع أنه يسمى قرآنا(1/47)
والكثير غير محصور فعام إن استغرق جميع ما يصلح له وإلا فجمع منكر ونحوه وإن كان محصورا أو وضع للواحد فخاص ثم المشترك أن ترجح بعض معانيه بالرأي يسمى مؤولا وأيضا الاسم الظاهر إن كان معناه عين ما وضع له المشتق منه مع وزن المشتق فصفة وإلا فإن تشخص معناه فعلم وإلا فاسم جنس وهما إما مشتقان أو لا ثم كل من الصفة واسم الجنس إن أريد المسمى بلا قيد فمطلق أو معه فمقيد أو أشخاصه كلها فعام أو بعضها معينا فمعهود أو منكرا فنكرة فهي ما وضع لشيء لا بعينه عند الإطلاق للسامع والمعرفة ما وضع لمعين عند الإطلاق له.
ـــــــ
الموضع ليعلم أن هذا التعريف أي نوع من أنواع التعريفات فإن إتمام الجواب موقوف على هذا فقلت "وليس هذا تعريف ماهية الكتاب". بل تشخيصه في جواب أي كتاب تريد، "ولا القرآن" فإن علماءنا قالوا هو ما نقل إلينا إلخ فلا يخلو إما أن عرفوا الكتاب بهذا أو عرفوا القرآن بهذا، فإن عرفوا الكتاب بهذا فليس تعريفا لماهية الكتاب، بل تشخيصه في جواب أي كتاب تريد وإن عرفوا القرآن بهذا فليس تعريفا لماهية القرآن أيضا، بل تشخيصه "لأن القرآن اسم يطلق على الكلام الأزلي وعلى المقروء فهذا تعيين أحد محتمليه، وهو المقروء" فإن القرآن لفظ مشترك يطلق على الكلام الأزلي الذي هو صفة للحق عز وعلا ويطلق أيضا على ما يدل عليه، وهو المقروء فكأنه قيل أي المعنيين تريد، فقال ما نقل إلينا إلخ أي تريد المقروء فعلى هذا لا يلزم الدور وإنما يلزم الدور إن أريد تعريف ماهية القرآن؛ لأنه لو
................................................................................................
ويحرم مسه على المحدث وتلاوته على الجنب وعلى ما دل عليه سياق كلام المصنف المراد بما نقل مجموع ما نقل؛ لأنه جعله تعريفا للمجموع الشخصي لا للمعنى الكلي فلا يرد عليه شيء إلا أنه لا يناسب غرض الأصولي، فإن قيل فالكتاب بالمعنى الثاني هل يصح تفسيره بالقرآن قلنا نعم على أن يكون القرآن أيضا حقيقة في البعض كما هو حقيقة في الكل، فإن قيل فيلزم عموم المشترك قلنا ليس معنى كونه حقيقة في البعض كما أنه حقيقة في الكل أنه موضوع للبعض خاصة كما أنه موضوع للكل خاصة حتى يكون حمله على الكل وعلى البعض من عموم المشترك، بل هو موضوع تارة للكل خاصة وتارة لما يعم الكل والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواترا فيكون حقيقة في الكل والبعض باعتبار وضع واحد ولا يكون من عموم المشترك في شيء.
قوله: "فإن إتمام الجواب موقوف على هذا" يعني أن جعل التعريف المذكور تفسيرا للفظ الكتاب أو القرآن وتمييزا له عن سائر الكتب أو الكلام الأزلي يجوز في معرفة المصحف الاكتفاء بالعرف أو الإشارة ونحو ذلك ولا يلزم الدور وإن جعل تعريفا لماهية الكتاب أو القرآن فلا بد من معرفة ماهية المصحف وهي موقوفة على معرفة ماهية القرآن ضرورة أنه لا معنى له إلا ما كتب فيه القرآن فيلزم الدور لا يقال فالدور إنما يلزم إذا جعل تعريفا لماهية القرآن دون الكتاب؛ لأنا نقول ماهية الكتاب هي بعينها ماهية القرآن لما مر من أنهما اسمان لشيء واحد فتوقف المصحف على(1/48)
عرف ماهية القرآن بالمكتوب في المصحف فلا بد من معرفة ماهية المصحف فلا يكفي حينئذ معرفة المصحف ببعض الوجوه كالإشارة ونحوها، ثم معرفة ماهية المصحف موقوفة على معرفة ماهية القرآن.
ثم أراد أن يبين أن القرآن ليس قابلا للحد بقوله "على أن الشخصي لا يحد" فإن الحد هو القول المعرف للشيء المشتمل على أجزائه، وهذا لا يفيد معرفة الشخصيات بل لا بد
................................................................................................
ماهية القرآن توقفه على ماهية الكتاب، وبهذا يظهر أن تفسير المصحف بما جمع فيه الوحي المتلو لا يدفع الدور؛ لأنه أيضا عبارة عن الكتاب والقرآن فالمصحف صرح بأنه ليس تعريفا للماهية سواء عرف به الكتاب أو القرآن إشارة إلى أنه لا فرق في لزوم الدور بين الصورتين، ثم قال، وإنما يلزم الدوران لو أريد تعريف ماهية القرآن إشارة إلى أن ماهية الكتاب هي ماهية القرآن فذكر أحدهما مغن عن ذكر الآخر، فإن قيل يفسر المصحف بما جمع فيه الصحائف مطلقا على ما هو موضوع في اللغة ويخرج منسوخ التلاوة عن التعريف بقيد التواتر فلا دور قلنا عدول عن الظاهر إلى الخفي وعن الحقيقة إلى المجاز العرفي فلا يحسن في التعريفات، فإن قيل تعريف الأصول إنما هو للمفهوم الكلي الصادق على المجموع وعلى كل بعض ومعرفة المصحف إنما تتوقف على القرآن بمعنى المجموع الشخصي، وهو معلوم معهود بين الناس يحفظونه ويتدارسونه فلا يشتبه عليهم فلا دور قلنا لو سلم معرفة المجموع الشخصي بحقيقته بدون معرفة المفهوم الكلي فمبنى كلام المصنف على أن التعريف للمجموع الشخصي دون المفهوم الكلي.
قوله: "بل تشخيصه" أي تمييزه بخواصه فإن كلمة أي إنما يطلب بها تمييز الشيء بما يخصه شخصا كان أو غيره.
قوله: "يطلق على الكلام الأزلي" كما في قوله عليه السلام: "القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق" الحديث، وهو صفة قديمة منافية للسكوت والآفة ليست من جنس الحروف والأصوات لا تختلف إلى الأمر والنهي والإخبار ولا تتعلق بالماضي والحال والاستقبال إلا بحسب التعلقات والإضافات كالعلم والقدرة وسائر الصفات، وهذا الكلام اللفظي الحادث المؤلف من الأصوات والحروف القائمة بمحالها يسمى كلام الله تعالى والقرآن على معنى أنه عبارة عن ذلك المعنى القديم إلا أن الأحكام لما كانت في نظر الأصولي منوطة بالكلام اللفظي دون الأزلي جعل القرآن اسما له واعتبر في تفسيره ما يميزه عن المعنى القديم لا يقال التمييز يحصل بمجرد ذكر النقل فلا حاجة إلى باقي القيود؛ لأنا نقول التعريف، وإن كان للتمييز لا بد وأن يساوي المعرف فذكر باقي القيود لتحصيل المساواة.
قوله: "على أن الشخصي لا يحد"؛ لأن معرفته لا تحصل إلا بتعيين مشخصاته بالإشارة أو نحوها كالتعبير عنه باسمه العلم والحد لا يفيد ذلك؛ لأن غايته الحد التام، وهو إنما يشتمل على مقومات الشيء دون مشخصاته ولقائل أن يقول الشخصي مركب اعتباري، وهو مجموع الماهية والتشخص فلم لا يجوز أن يحد بما يفيد معرفة الأمرين لا يقال تعريف المركب الاعتباري لفظي(1/49)
من الإشارة أو نحوها إلى مشخصاتها لتحصل المعرفة. إذا عرفت هذا فاعلم أن القرآن لما نزل به جبرائيل صلوات الله عليه فقد وجد مشخصا، فإن كان القرآن عبارة عن ذلك المشخص لا يقبل الحد لكونه شخصيا وإن لم يكن عبارة عن ذلك المشخص، بل القرآن هذه الكلمات المركبة تركيبا خاصا سواء يقرأ جبرائيل أو زيد أو عمرو على أن الحق هذا فقولنا على أن الشخصي لا يحد له تأويلان أحدهما أنا لا نعني أن القرآن شخصي، بل عنينا أن القرآن لما كان هو الكلام المركب تركيبا خاصا فإنه لا يقبل الحد كما أن الشخصي لا يقبل الحد فكون الشخصي لا يحد جعل دليلا على أن القرآن لا يحد إذ معرفة
................................................................................................
والكلام في الحد الحقيقي؛ لأنا نقول لو سلم ذلك فمجموع القرآن مركب اعتباري لا محالة فحينئذ لا حاجة إلى سائر المقومات ولا إلى ما ذكر في تشخيصه من التكلفات، وقد يقال إن اقتصر في تعريف الشخصي على مقومات الماهية لم يختص بالشخصي فلم يفد التمييز الذي هو أقل مراتب التعريف، وإن ذكر معها العرضيات المشخصة أيضا لم يجب دوام صدقها لإمكان زوالها فلا يكون حدا، وفيه نظر لجواز أن يذكر معها العرضيات المشخصة وعند زوالها يزول المحدود أيضا أعني ذلك الشخصي فلا يضر عدم صدق الحد، بل يجب والحق أن الشخصي يمكن أن يحد بما يفيد امتيازه عن جميع ما عداه بحسب الوجود لا بما يفيد تعينه وتشخصه بحيث لا يمكن اشتراكه بين كثيرين بحسب العقل فإن ذلك إنما يحصل بالإشارة لا غير.
قوله: "على أن الحق هذا"، وهو أن القرآن عبارة عن هذا المؤلف المخصوص الذي لا يختلف باختلاف المتلفظين للقطع بأن ما يقرؤه كل واحد منا هو هذا القرآن المنزل على النبي عليه السلام بلسان جبريل عليه السلام ولو كان عبارة عن ذلك المشخص القائم بلسان جبريل عليه السلام لكان هذا مماثلا له لا عينه ضرورة أن الأعراض تتشخص بمحالها فتعدد بتعدد المحال وكذا الكلام في كل كتاب أو شعر ينسب إلى أحد فإنه اسم لذلك المؤلف المخصوص سواء قرأه زيد أو عمرو أو غيرهما وإذا تحققت هذا فالعلوم أيضا من هذا القبيل مثلا النحو عبارة عن القواعد المخصوصة سواء علمها زيد أو عمرو فالمعتبر في جميع ذلك هو الواحدة في غير المحال فعلى هذا التقدير الحق، وهو أن القرآن ليس اسما للشخص الحقيقي القائم بلسان جبريل عليه السلام خاصة يكون لقوله على أن الشخصي لا يحد تأويلان: أحدهما أن الشخصي الحقيقي لا يقبل الحد؛ لأنه لا يمكن معرفته إلا بالإشارة ونحوها فكذا القرآن لا يقبل الحد؛ لأنه لا يمكن معرفته حقيقة إلا بأن يقرأ من أوله إلى آخره ويقال هو هذه الكلمات بهذا الترتيب، وثانيهما أن يكون اصطلاحا على تسمية مثل هذا المؤلف الذي لا يتعدد إلا بتعدد المحال شخصيا ويحكم بأنه لا يقبل الحد لامتناع معرفة حقيقته إلا بالإشارة إليه والقراءة من أوله إلى آخره ولا يخفى أن الكلام في تعريف الحقيقة. وأما إذا قصد التمييز فهو ممكن بأن يقال القرآن هو المجموع المنقول بين دفتي المصاحف تواترا كما يقال الكشاف هو الكتاب الذي صنفه جار الله في تفسير القرآن، والنحو علم يبحث فيه عن أحوال الكلم إعرابا وبناء.(1/50)
كل منهما موقوفة على الإشارة أما معرفة الشخصي فظاهر. وأما معرفة القرآن فلا تحصل إلا بأن يقال هو هذه الكلمات ويقرأ من أوله إلى آخره وثانيهما أنا نقول لا مشاحة في الاصطلاح فنعني بالشخصي هذه الكلمات مع الخصوصيات التي لها مدخل في هذا التركيب فإن الأعراض تنتهي بمشخصاتها إلى حد لا يقبل التعدد.
ولا اختلاف باعتبار ذاتها، بل باعتبار محلها فقط كالقصيدة المعينة لا يمكن تعددها إلا بحسب محلها بأن يقرأها زيد أو عمرو فعنينا بالشخصي هذا والشخصي بهذا المعنى لا يقبل الحد فإذا سئل عن القرآن فإنه لا يعرف أصلا إلا بأن يقال هو هذا التركيب المخصوص فيقرأ من أوله إلى آخره فإن معرفته لا تمكن إلا بهذا الطريق، وقد عرف ابن الحاجب القرآن بأنه الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه، فإن حاول تعريف الماهية يلزم الدور أيضا؛ لأنه إن قيل ما السورة فلا بد أن يقال بعض من القرآن أو نحو ذلك فيلزم الدور وإن لم يحاول تعريف الماهية، بل التشخيص ويعني بالسورة هذا المعهود المتعارف كما عنينا بالمصحف لا يرد الإشكال عليه، ولا علينا
"ونورد أبحاثه" أي: أبحاث الكتاب
................................................................................................
قوله: "فإن الأعراض تنتهي" أي تبلغ بواسطة المشخصات حدا لا يمكن تعددها إلا بتعدد المحال كقول امرئ القيس "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل", إلى آخر القصيدة فإنه بواسطة مشخصاته من التأليف المخصوص من الحروف والكلمات والأبيات والهيئة الحاصلة بالحركات والسكنات بلغ حدا لا يمكن تعدده إلا بتعدد اللافظ حتى إذا انضاف إليه لشخص اللافظ أيضا يصير شخصيا حقيقيا لا يتعدد أصلا فالمصنف اصطلح على تسمية مثل هذا المؤلف شخصيا قبل أن ينضاف إليه تشخص المحل ويصير شخصيا حقيقيا.
قوله: "وقد عرف ابن الحاجب" ظاهر تعريفه للمجموع الشخصي دون المفهوم الكلي إلا أن يقال المراد بسورة من جنسه في البلاغة والفصاحة وعلى التقديرين لزوم الدور ممنوع؛ لأنا لا نسلم توقف معرفة مفهوم السورة على معرفة القرآن، بل هو بعض مترجم أوله وآخره توقيفا من كلام منزل قرآنا كان أو غيره بدليل سور الإنجيل والزبور ولهذا احتاج إلى قوله بسورة منه أي من ذلك الكلام المنزل فافهم.
قوله: "ونورد أبحاثه" أي: بيان أقسامه وأحواله المتعلقة بإفادة المعاني، وإثبات الأحكام فالكلام في تعريفه خارج عن ذلك، والمراد بالأبحاث المتعلقة بإفادة المعاني ما له مزيد تعلق بإفادة الأحكام ولم يبين في علم العربية مستوفى كالخصوص، والعموم والاشتراك ونحو ذلك لا كالإعراب والبناء والتعريف والتنكير وغير ذلك من مباحث العربية، وإن تعلقت بإفادة المعاني لا يقال المراد ما يتعلق بإفادة الكتاب المعنى وهذه تعم الكتاب وغيره لأنا نقول وكذلك المباحث الموردة في الباب الأول بل الثاني أيضا، ولهذا قيل كان حقها أن تؤخر عن الكتاب والسنة إلا أن نظم الكتاب لما كان متواترا محفوظا كانت مباحث النظم به أليق وألصق فذكر عقيبه.(1/51)
"في بابين الأول في إفادته المعنى" اعلم أن الغرض إفادته الحكم الشرعي لكن إفادته الحكم الشرعي موقوفة على إفادته المعنى فلا بد من البحث في إفادته المعنى فيبحث في هذا الباب عن الخاص والعام والمشترك والحقيقة والمجاز، وغيرها من حيث إنها تفيد المعنى "والثاني: في إفادته الحكم الشرعي" فيبحث في الأمر من حيث إنه يوجب الوجوب، وفي النهي من حيث إنه يوجب الحرمة والوجوب، والحرمة حكم شرعي. "الباب الأول لما كان
................................................................................................
قوله: "لما كان القرآن" يريد أن اللفظ الدال على المعنى بالوضع لا بد له من وضع للمعنى، واستعمال فيه ودلالة عليه فتقسيم اللفظ بالنسبة إلى معناه إن كان باعتبار وضعه له فهو الأول، وإن كان باعتبار استعماله فيه فهو الثاني، وإن كان باعتبار دلالته عليه، فإن اعتبر فيه الظهور والخفاء فهو الثالث وإلا فهو الرابع. وجعل فخر الإسلام هذه الأقسام أقسام النظم والمعنى وجعل الأقسام الخارجة من التقسيمات الثلاث الأول ما هو صفة للفظ، وأما الأقسام الخارجة من التقسيم الرابع فجعلها تارة الاستدلال بالعبارة وبالإشارة وبالدلالة وبالاقتضاء وتارة الاستدلال بالعبارة وبالإشارة والثابت بالدلالة وبالاقتضاء وتارة الوقوف بعبارة النص وإشارته ودلالته واقتضائه. وذكر في تفسيرها ما هو صفة للمعنى كالثابت بالنظم مقصودا أو غير مقصود والثابت بمعنى النظم والثابت بالزيادة على النص شرطا لصحته فذهب بعضهم إلى أن أقسام التقسيم الرابع أقسام للمعنى والبواقي للنظم وبعضهم إلى أن الدلالة والاقتضاء أقسام للمعنى وللبواقي للنظم. وصرح المصنف بأن الجميع أقسام اللفظ بالنسبة إلى المعنى أخذا بالحاصل وميلا إلى الضبط بأقسام التقسيم الرابع هو الدال بطريق العبارة والإشارة، والدالة والاقتضاء وعدم الالتفات إلى العبارات واختلافها من دأب المشايخ وعلى ما ذكر من تقسيم اللفظ بالنسبة إلى المعنى يحمل قولهم أقسام النظم والمعنى كما قالوا القرآن هو النظم والمعنى جميعا وأرادوا أنه النظم الدال على المعنى للقطع بأن كونه عربيا مكتوبا في المصاحف منقولا بالتواتر صفة للفظ الدال على المعنى لا لمجموع اللفظ والمعنى، وكذا الإعجاز يتعلق بالبلاغة، وهي من الصفات الراجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى فإنه إذا قصدت تأدية المعاني بالتراكيب حدثت أغراض مختلفة تقتضي اعتبار كيفيات وخصوصيات في النظم، فإن روعيت على ما ينبغي بقدر الطاقة صار الكلام بليغا، وإذا بلغ في ذلك حدا يمتنع معارضته صار معجزا فالإعجاز صفة النظم باعتبار إفادته المعنى لا صفة النظم والمعنى، وقد يقال إن معنى القرآن نفسه أيضا معجز؛ لأن الاطلاع عليه خارج عن طوق البشر كما نقل أن تفسير الفاتحة أوقار من العلم. والجواب أن هذا أيضا من إعجاز النظم؛ لأنه يحتمل من المعاني ما لا يحتمله كلام آخر، ومقصود المشايخ من قولهم هو النظم والمعنى جميعا دفع التوهم الناشئ من قول أبي حنيفة رحمه الله بجواز القراءة بالفارسية في الصلاة أن القرآن عنده اسم للمعنى خاصة.
قوله: "المراد بالنظم هاهنا اللفظ" لا يقال النظم على ما فسره المحققون هو ترتيب الألفاظ مترتبة المعاني متناسقة الدلالات على وفق ما يقتضيه العقل لا تواليها في النطق، وضم بعضها إلى بعض كيفما اتفق، أو هو الألفاظ المترتبة بهذا الاعتبار حتى لو قيل في، قفا نبك من ذكرى حبيب نبك قفا من حبيب ذكرى كان لفظا لا نظما؛ لأنا نقول هو يطلق في هذا المقام على المفرد حيث(1/52)
القرآن نظما دالا على المعنى قسم اللفظ بالنسبة إلى المعنى أربع تقسيمات" المراد بالنظم هاهنا اللفظ إلا أن في إطلاق اللفظ على القرآن نوع سوء أدب؛ لأن اللفظ في الأصل إسقاط شيء من الفم فلهذا اختار النظم مقام اللفظ، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لم يجعل النظم ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة، بل اعتبر المعنى فقط حتى لو قرأ بغير العربية في الصلاة من غير عذر جازت الصلاة عنده وإنما قال خاصة؛ لأنه جعله لازما في غير جواز الصلاة كقراءة الجنب والحائض حتى لو قرأ آية من القرآن بالفارسية يجوز؛ لأنه ليس بقرآن لعدم النظم.
................................................................................................
ينقسم إلى الخاص، والعام والمشترك ونحو ذلك فالمراد به اللفظ لا غير. اللهم إلا أن يقال المراد بأقسام النظم الأقسام المتعلقة بالنظم بأن تقع صفة لمفرداته، والألفاظ الواقعة فيه لا صفة للنظم نفسه، إذ الموصوف بالخاص والعام والمشترك ونحو ذلك عرفا هو اللفظ دون النظم، فإن قيل كما أن اللفظ يطلق على الرمي فكذا النظم على الشعر فينبغي أن يحترز عن إطلاقه. قلنا النظم حقيقة في جمع اللؤلؤ في السلك ومنه نظم الشعر واللفظ حقيقة في الرمي، ومنه اللفظ بمعنى التكلم فأوثر النظم رعاية للأدب وإشارة إلى تشبيه الكلمات بالدرر.
قوله: "بل اعتبر المعنى" لأن مبنى النظم على التوسعة، والمعنى هو المقصود لا سيما في حالة المناجاة فرخص في إسقاط لزوم النظم ورخصة الإسقاط لا تختص بالعذر وذلك فيمن لا يتهم بشيء من البدع، وقد تكلم بكلمة أو أكثر غير مؤولة ولا محتملة للمعاني، وقيل من غير اختلال النظم حتى تبطل الصلاة بقراءة التفسير فيها اتفاقا وقيل من غير تعمد وإلا لكان مجنونا فيداوى أو زنديقا فيقتل. وأما الكلام في أن ركن الشيء كيف لا يكون لازما فسيجيء، فإن قيل إن كان المعنى قرآنا يلزم عدم اعتبار النظم في القرآن، وعدم صدق الحد أعني المنقول بين دفتي المصاحف تواترا عليه، وإن لم يكن قرآنا يلزم عدم فريضة قراءة القرآن في الصلاة. قلنا أقام العبارة الفارسية مقام النظم المنقول فجعل النظم مرعيا منقولا في المصاحف تقديرا، أو إن لم يكن تحقيقا أو حمل قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] على وجوب رعاية المعنى دون اللفظ بدليل لاح له، فإن قيل فعلى الأول يلزم في الآية الجمع بين الحقيقة والمجاز وذا لا يجوز، إذ القرآن حقيقة في النظم العربي المنقول مجاز في غيره قلنا ممنوع لجواز أن تراد الحقيقة، ويثبت الحكم في المجاز بالقياس أو دلالة النص نظرا إلى المعتبر هو المعنى على ما سبق.
قوله: "بغير العربية" إشارة إلى أن الفارسية وغيرها سواء في ذلك الحكم وقيل الخلاف في الفارسية لا غير.
قوله: "حتى لو قرأ آية" إشارة إلى أنه لا يجوز الاعتياد والمداومة على القراءة بالفارسية للجنب والحائض بل للمتطهر أيضا، فإن قيل المتأخرون على أنه تجب سجدة التلاوة بالقراءة بالفارسية ويحرم لغير المتطهر مس مصحف كتب بالفارسية فقد جعل النظم غير لازم في ذلك أيضا فلا يصح قوله خاصة قلنا بنى كلامه على رأي المتقدمين، فإنه لا نص عنهم في ذلك، والمتأخرون بنوا الأمر على الاحتياط لقيام الركن المقصود أعني المعنى.(1/53)
لكن الأصح أنه رجع عن هذا القول أي: عن عدم لزوم النظم في حق جواز الصلاة فلهذا لم أورد هذا القول في المتن، بل قلت إن القرآن عبارة عن النظم الدال على المعنى ومشايخنا قالوا: إن القرآن هو النظم والمعنى، والظاهر أن مرادهم النظم الدال على المعنى فاخترت هذه العبارة. "باعتبار وضعه له" هذا هو التقسيم الأول من التقاسيم الأربعة فينقسم
................................................................................................
قوله: "لكن الأصح أنه رجع" إلى قولهما على ما روى نوح بن أبي مريم عنه قال فخر الإسلام؛ لأن ما قاله يخالف كتاب الله تعالى ظاهرا حيث وصف المنزل بالعربي، وقال صدر الإسلام أبو اليسر: هذه مسألة مشكلة إذ لا يتضح لأحد ما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وقد صنف الكرخي فيها تصنيفا طويلا ولم يأت بدليل شاف.
قوله: "باعتبار وضعه" بيان للتقسيمات الأربع إجمالا وفي لفظ ثم دلالة على ترتيبها على الوجه المذكور؛ لأن السابق في الاعتبار هو وضع اللفظ للمعنى ثم استعماله فيه، ثم ظهور المعنى، وخفاؤه من اللفظ المستعمل فيه وبعد ذلك البحث عن كيفية دلالة اللفظ على المعنى المستعمل هو فيه ظاهرا كان أو خفيا وفخر الإسلام قدم التقسيم باعتبار ظهور المعنى وخفائه عن اللفظ على التقسيم باعتبار استعماله في المعنى نظرا إلى أن التصريف في الكلام نوعان تصرف في اللفظ، وتصرف في المعنى والأول مقدم، ثم الاستعمال مرتب على ذلك حتى كأنه لوحظ أولا المعنى ظهورا أو خفاء، ثم استعمال اللفظ فيه فاللفظ بالنسبة إلى المعنى ينقسم بالتقسيم الأول عند القوم إلى الخاص والعام، والمشترك والمؤول؛ لأنه إن دل على معنى واحد، فإما على الانفراد وهو الخاص، أو على الاشتراك بين الأفراد وهو العام، وإن دل على معان متعددة، فإن ترجح البعض على الباقي فهو المؤول وإلا فهو المشترك والمصنف أسقط المؤول عن درجة الاعتبار، وأدرج الجمع المنكر، وبالتقسيم الثاني إلى الحقيقة، والمجاز والصريح والكناية؛ لأنه إن استعمل في موضوعه فحقيقة وإلا فمجاز وكل منهما إن ظهر مراده فصريح، وإن استتر فكناية، وبالتقسيم الثالث إلى الظاهر والنص والمفسر والمحكم وإلى مقابلاتها؛ لأنه إن ظهر معناه فإما أن يحتمل التأويل أو لا، فإن احتمل، فإن كان ظهور معناه لمجرد صيغته فهو الظاهر وإلا فهو النص، وإن لم يحتمل، فإن قبل النسخ فهو المفسر، وإن لم يقبل فهو المحكم، وإن خفي معناه فإما أن يكون خفاؤه لغير الصيغة فهو الخفي أو لنفسها، فإن أمكن إدراكه بالتأمل فهو المشكل وإلا، فإن كان البيان مرجوا فيه فهو المجمل وإلا فهو المتشابه وبالتقسيم الرابع إلى الدال بطريق العبارة وبطريق الإشارة، وبطريق الدلالة، وبطريق الاقتضاء؛ لأنه إن دل على المعنى بالنظم، فإن كان مسوقا له فعبارة وإلا فإشارة، وإن لم يدل عليه بالنظم، فإن دل عليه فالمفهوم لغة فهو الدلالة وإلا فهو الاقتضاء والعمدة في ذلك هو الاستقراء إلا أن هذا وجه الضبط، فإن قلت من حق الأقسام التباين والاختلاف، وهو منتف في هذه الأقسام ضرورة صدق بعضها على بعض كما لا يخفى. قلت هذه تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة فلا يلزم التباين، والاختلاف بين جميع أقسامها بل بين الأقسام الخارجة من تقسيم، وهذا كما يقسم الاسم تارة إلى المعرب والمبني، وتارة إلى المعرفة والنكرة مع أن كلا منهما إما معرب أو مبني على أنه لو جعل الجمع أقساما متقابلة لكفى فيها الاختلاف بالحيثيات، والاعتبارات كما في أقسام(1/54)
الكلام باعتبار الوضع إلى الخاص والعام، والمشترك كما سيأتي، وهذا ما قال فخر الإسلام رحمه الله الأول في وجوه النظم صيغة ولغة "ثم باعتبار استعماله فيه" هذا هو التقسيم الثاني فينقسم اللفظ باعتبار الاستعمال أنه مستعمل في الموضوع له أو في غيره كما يجيء. "ثم باعتبار ظهور المعنى عنه وخفائه ومراتبهما"، وهذا ما قال فخر الإسلام والثاني في وجوه البيان بذلك النظم، وإنما جعلت هذا التقسيم ثالثا واعتبار الاستعمال ثانيا على عكس ما أورده فخر الإسلام؛ لأن الاستعمال مقدم على ظهور المعنى وخفائه. "ثم في كيفية دلالته عليه"، وهذا ما قال فخر الإسلام والرابع: في وجوه الوقوف على أحكام النظم.
"التقسيم الأول" أي: الذي باعتبار وضع اللفظ للمعنى. "اللفظ إن وضع للكثير وضعا متعددا فمشترك" كالعين مثلا وضع تارة للباصرة، وتارة للذهب، وتارة لعين الميزان. "أو وضعا
................................................................................................
التقسيم الأول فإن لفظ العين مثلا عام من حيث إنه يتناول جميع أفراد الباصرة، ومشترك من حيث إنه وضع للباصرة وغيرها، وكذا التقسيم الثاني.
قوله: "وهذا ما قال" عبر فخر الإسلام عن التقسيم الأول بقوله في وجوه النظم صيغة، ولغة، فقيل الصيغة واللغة مترادفان والمقصود واحد وهو تقسيم النظم باعتبار معناه نفسه لا باعتبار المتكلم والسامع والأقرب ما ذكره المصنف وهو أنه عبارة عن الوضع؛ لأن الصيغة هي الهيئة العارضة للفظ باعتبار الحركات والسكنات وتقديم بعض الحروف على بعض واللغة هي اللفظ الموضوع والمراد بها هاهنا مادة اللفظ، وجوهر حروفه بقرينة انضمام الصيغة إليها والواضع كما عين حروف ضرب بإزاء المعنى المخصوص عين هيئته بإزاء معنى المضي، فاللفظ لا يدل على معناه إلا بوضع المادة والهيئة فعبر بذكرهما عن وضع اللفظ وعبر عن التقسيم الثاني بقوله في وجوه استعمال ذلك النظم وجريانه في باب البيان أي: في طرق استعماله من أنه في الموضوع له فيكون حقيقة أو في غيره فيكون مجازا أو في طريق جريان النظم في بيان المعنى وإظهاره من أنه بطريق الوضوح فيكون صريحا أو بطريق الاستتار فيكون كناية وعن الثالث بقوله في وجوه البيان بذلك النظم أي: في طرق إظهار المعنى ومراتبه، وعن الرابع بقوله في معرفة وجوه الوقوف على المراد والمعاني أي: معرفة طرق اطلاع المسامع على مراد المتكلم ومعاني الكلام بأنه يطلع عليه من طريق العبارة أو الإشارة أو غيرهما.
قوله: "التقسيم الأول" اللفظ الموضوع إما أن يكون وضعه لكثير، أو لواحد والأول إما أن يكون وضعه للكثير بوضع كثير أو لا، فإن كان بوضع كثير فهو المشترك وإلا فإما أن يكون الكثير محصورا في عدد معين بحسب دلالة اللفظ أو لا، فإن لم يكن محصورا، فإن كان اللفظ مستغرقا لجميع ما يصلح له من آحاد ذلك الكثير فهو العام وإلا فهو الجمع المنكر ونحوه، وإن كان محصورا في عدد معين فهو من أقسام الخاص. والثاني وهو ما يكون وضعه لواحد شخصي أو نوعي أو جنسي أيضا من أقسام الخاص فينحصر اللفظ بهذا التقسيم في المشترك والعام والخاص والواسطة بينهما فالمشترك ما وضع لمعنى كثير بوضع كثير ومعنى الكثرة ما يقابل الوحدة لا ما يقابل القلة،(1/55)
واحدا" أي: وضع للكثير وضعا واحدا. "والكثير غير محصور فعام إن استغرق جميع ما يصلح له وإلا فجمع منكر ونحوه" فالعام لفظ وضع وضعا واحدا لكثير غير محصور، مستغرق جميع ما يصلح له فقوله وضعا واحدا يخرج المشترك، والكثير يخرج ما لم يوضع لكثير كزيد وعمرو وغير محصور يخرج أسماء العدد، فإن المائة مثلا وضعت وضعا واحدا للكثير وهي مستغرقة جميع ما يصلح له لكن الكثير محصور، وقوله مستغرق جميع ما يصلح له يخرج
................................................................................................
فيدخل فيه المشترك بين المعنيين فقط وهذا التعريف شامل للأسماء التي وضعت أولا للمعاني الجنسية، ثم نقلت إلى المعاني العلمية لمناسبة أو لا لمناسبة، بل لجميع الألفاظ المنقولة والألفاظ الموضوعة اصطلاح في المعنى، وفي اصطلاح آخر لمعنى آخر كالزكاة والفعل والدوران ونحو ذلك وليست من المشترك على ما صرح به البعض. والعام لفظ وضع وضعا واحدا لكثير غير محصور مستغرق بجميع ما يصطلح له فقوله وضعا واحدا يخرج المشترك بالنسبة إلى معانيه المتعددة. وأما بالنسبة إلى أفراد معنى واحد له كالعيون لأفراد العين الجارية فهو عام مندرج تحت الحد والأقرب أن يقال هذا القيد للتحقيق والإيضاح؛ لأن المشترك بالنسبة إلى معانيه المتعددة ليس بمستغرق على ما سيجيء، فإن قيل المراد بالاستغراق أعم من أن يكون على سبيل الشمول كما في صيغ الجموع وأسمائها، مثل الرجال والقوم أو سبيل البدل كما في مثل من دخل داري أولا فله كذا، والمشترك مستغرق لمعانيه على سبيل البدل قلنا فحينئذ يدخل في حد العام النكرة المثبتة فإنها تستغرق كل فرد على سبيل البدل، فإن قيل هي ليست بموضوعة للكثير قلنا لو سلم فإنما يصلح جوابا عن النكرة المفردة دون الجمع المنكر فإنه يستغرق الآحاد على سبيل البدل عند القائلين بعدم عمومه أيضا، والمراد بالوضع للكثير الوضع لكل واحد من وحدان الكثير أو لأمر يشترك فيه وحدان الكثير أو لمجموع وحدانه من حيث هو مجموع فيكون كل واحد من الوحدان نفس الموضوع له أو جزئيا من جزئياته أو جزءا من أجزائه، وبهذا الاعتبار يندرج فيه المشترك والعام، وأسماء العدد، فإن قيل فيندرج فيه مثل زيد وعمرو ورجل وفرس أيضا؛ لأنه موضوع للكثير بحسب الأجزاء قلنا المعتبر هو الأجزاء المتفقة في الاسم كآحاد المائة، فإنها تناسب جزئيات المعنى الواحد المتحدة بحسب ذلك المفهوم، فإن قيل النكرة المنفية عام ولو توضع للكثرة قلنا الوضع أعم من الشخصي، والنوعي، وقد ثبت من استعمالهم للنكرة المنفية أن الحكم منفي عن الكثير الغير المحصور، واللفظ مستغرق لكل فرد في حكم النفي بمعنى عموم النفي عن الآحاد في المفرد، وعن المجموع في الجمع لا نفي العموم، وهذا معنى الوضع النوعي لذلك، وكون عمومها عقليا ضروريا بمعنى أن انتفاء فرد مبهم لا يمكن إلا بانتفاء كل فرد لا ينافي ذلك لا يقال النكرة المنفية مجاز، والتعريف للعام الحقيقي؛ لأنا نقول: لا نسلم أنها مجاز كيف ولم تستعمل إلا فيما وضعت له بالوضع الشخصي وهو فرد مبهم، وقد صرح المحققون من شارحي أصول ابن الحاجب بأنها حقيقة، ومعنى كون الكثير غير محصور أن لا يكون في اللفظ دلالة على انحصاره في عدد معين وإلا فالكثير المتحقق محصور لا محالة لا يقال المراد بغير المحصور ما لا يدخل تحت الضبط والعد بالنظر إليه؛ لأنا نقول فحينئذ يكون لفظ السماوات موضوعا لكثير محصور ولفظ ألف موضوعا لكثير غير محصور والأمر بالعكس ضرورة أن الأول عام، والثاني اسم عدد لا يقال هذا القيد(1/56)
الجمع المنكر نحو رأيت رجالا، وهذا معنى قوله وإلا فجمع منكر أي: وإن لم يستغرق جميع ما يصلح له، وقوله ونحوه، مثل رأيت جماعة من الرجال فعلى قول من لا يقول بعموم الجمع المنكر يكون الجمع المنكر واسطة بين الخاص والعام على قول من يقول بعمومه يراد بالجمع المنكر هاهنا الجمع المنكر الذي تدل القرينة على أنه غير عام، فإن هذا يكون واسطة بين العام، والخاص نحو رأيت اليوم رجالا فإن من المعلوم أن جميع الرجال غير مرئي. "وإن كان" أي: الكثير. "محصورا" كالعدد والتثنية. "أو وضع للواحد فخاص" سواء كان الواحد باعتبار الشخص كزيد، أو باعتبار النوع كرجل وفرس. "ثم المشترك أن ترجح بعض معانيه بالرأي يسمى مؤولا". أصحابنا قسموا اللفظ باعتبار الصيغة، واللغة أي: باعتبار الوضع على الخاص والعام، والمشترك والمؤول، وإنما لم أورد المؤول في القسمة؛ لأنه ليس باعتبار الوضع، بل باعتبار رأي المجتهد ثم هاهنا تقسيم آخر لا بد من معرفته ومعرفة الأقسام التي تحصل منه وهو هذا.
................................................................................................
مستدرك؛ لأن الاحتراز عن أسماء العدد حاصل بقيد الاستغراق لما يصلح له ضرورة أن لفظ المائة مثلا إنما يصلح لجزئيات المائة لا لما يتضمنها المائة من الآحاد؛ لأنا نقول أراد بالصلوح صلوح اسم الكلي لجزئياته أو الكل لأجزائه فاعتبر الدلالة مطابقة أو تضمنا وبهذا الاعتبار صار صيغ الجموع، وأسماؤها، مثل الرجال والمسلمين والرهط والقوم بالنسبة إلى الآحاد مستغرقة لما تصلح له فدخلت في الحد، وقوله مستغرق مرفوع صفة لفظ ومعنى استغراقه لما يصلح له تناوله لذلك بحسب الدلالة.
قوله: "إلا فجمع منكر" المعتبر في العام عند فخر الإسلام وبعض المشايخ هو انتظام جمع من المسميات باعتبار أمر يشترك فيه سواء وجد الاستغراق أم لا فالجمع المنكر عندهم عام سواء كان مستغرقا أو لا والمصنف لما اشترط الاستغراق على ما هو اختيار المحققين فالجمع المنكر يكون واسطة بين العام والخاص عند من يقول بعدم استغراقه وعاما عند من يقول باستغراقه وعلى هذا التقدير يكون المراد بالجمع المنكر في قوله وإلا فجمع منكر الجمع الذي تدل قرينة على عدم استغراقه، مثل رأيت اليوم رجالا وفي الدار رجال إلا أن هذا غير مختص بالجمع المنكر، بل كل عام مقصور على البعض بدليل العقل أو غيره يلزم أن يكون واسطة جمعا منكرا أو نحوه على مقتضى عبارة المصنف لدخوله في قوله، وإن لم يستغرق فجمع منكر ونحوه وفساده بين.
قوله: "أو باعتبار النوع كرجل وفرس" إشارة إلى أن النوع في عرف الشرع قد يكون نوعا منطقيا كالفرس، وقد لا يكون كالرجل فإن الشرع قد يجعل الرجل والمرأة نوعين مختلفين نظرا إلى اختصاص الرجل بأحكام مثل النبوة، والإمامة والشهادة في الحد والقصاص ونحو ذلك.
قوله: "ثم المشترك" ذكر فخر الإسلام وغيره أن أقسام النظم صيغة ولغة أربعة: الخاص والعام، والمشترك والمؤول وفسر المؤول بما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي، وأورد عليه أن المؤول قد لا يكون من المشترك، وترجحه قد لا يكون بغالب الرأي كما ذكر في الميزان أن المجمل والمشكل والخفي والمشترك إذا لحقها البيان بدليل قطعي يسمى مفسرا وإذا زال خفاؤها(1/57)
"وأيضا الاسم الظاهر إن كان معناه عين ما وضع له المشتق منه مع وزن المشتق فصفة وإلا فإن تشخص معناه فعلم وإلا فاسم جنس وهما إما مشتقان أو لا ثم كل من الصفة واسم الجنس إن أريد المسمى بلا قيد فمطلق أو معه فمقيد أو أشخاصه كلها فعام أو بعضها معينا
................................................................................................
بدليل فيه شبهة كخبر الواحد والقياس يسمى مؤولا، وأجيب عن الأول بأن ليس المراد تعريف مطلق المؤول، بل المؤول من المشترك؛ لأنه الذي من أقسام النظم صيغة ولغة، وعن الثاني بأن غالب الرأي معناه الظن الغالب سواء حصل من خبر الواحد أو القياس أو التأمل في الصيغة كما في ثلاثة قروء، ومعنى كونه من أقسام النظم صيغة ولغة أن الحكم بعد التأويل مضاف إلى الصيغة، وقيل: المراد بغالب الرأي التأمل، والاجتهاد في نفس الصيغة، وقيد بالاشتراك والترجح بالاجتهاد والتأمل في نفس الصيغة ليتحقق كونه من أقسام النظم، ولغة فإن المشترك موضوع لمعان متعددة يحتمل كلا منها على سبيل البدل فإذا حمل على أحدها بالنظر في الصيغة أي: اللفظ الموضوع لم يخرج عن أقسام النظم صيغة ولغة أي: وضعا بخلاف ما إذا حمل عليه بقطعي فإنه يكون تفسيرا لا تأويلا أو بقياس أو خبر واحد فإنه لا يكون بهذا الاعتبار من أقسام النظم صيغة ولغة وكذا إذا لم يكن مشتركا، بل خفيا أو مجملا أو مشكلا فأزيل خفاؤه بقطعي أو ظني.
قوله: "وأيضا الاسم الظاهر" قيد بذلك؛ لأن المضمر خارج عن الأقسام وكذا اسم الإشارة فكأنه أراد ما ليس بمضمر ولا اسم إشارة والصفة بمقتضى هذا التقسيم اسم مشتق يكون معناه عين ما وضع له المشتق منه مع وزن المشتق فالضارب لفظ مشتق من الضرب معناه معنى الضرب مع الفاعل، والمضروب معناه معنى الضرب مع المفعول، وهذا معنى قوله ما دل على ذات مبهمة ومعنى معين يقوم بها واحترز بقوله مع وزن المشتق عن اسم الزمان والمكان والآلة ونحو ذلك من المشتقات، إذ ليس معنى المقتل هو القتل مع المفعل، ومعنى المفتاح هو الفتح مع المفعال، إذ التعبير عما يصدر عنه الفعل أو يقع عليه بالفاعل أو المفعول شائع بخلاف التعبير عن المكان والآلة بالمفعل والمفعال، ولقائل أن يقول هذا التفسير لا يصدق إلا على صفة تكون على وزن الفاعل والمفعول؛ لأن التعبير عما يقوم به المعنى إنما يكون بالفاعل، أو المفعول لا بالأفعل والفعلان والفعل والمستفعل والمفعلل، ونحو ذلك فليس معنى الأبيض والأفضل مثلا هو البياض والفضل مع الأفضل ولا معنى العطشان هو العطش مع الفعلان، ولا معنى الخير هو الخيرية مع الفعل ولا معنى المستخرج والمدحرج هو الاستخراج والدحرجة مع المستفعل والمفعلل، وإن منع ذلك نمنع خروج اسم المكان والآلة للقطع بأن القول بأن معنى المقتل هو القتل مع المفعل ليس بأبعد من القول بأن الأبيض معناه البياض مع الأفعل والمدحرج معناه الدحرجة مع المفعلل.
قوله: "وهما" أي: العلم واسم الجنس إما مشتقان كحاتم ومقتل ولا يصح التمثيل بنحو ضارب؛ لأنه جعل الصفة قسيما لاسم الجنس أو لا كزيد ورجل، والاشتقاق يفسر تارة باعتبار العلم فيقال هو أن تجد بين اللفظين تناسبا في أصل المعنى، والتركيب فترد أحدهما للآخر فالمردود مشتق، والمردود إليه مشتق منه، وتارة باعتبار العمل فيقال هو أن تأخذ من اللفظ ما يناسبه في حروفه الأصول وترتيبها فتجعله دالا على معنى يناسب معناه فالمأخوذ مشتق والمأخوذ منه مشتق(1/58)
فمعهود أو منكرا فنكرة فهي ما وضع لشيء لا بعينه عند الإطلاق للسامع والمعرفة ما وضع لمعين عند الإطلاق له" أي: للسامع، وإنما قلت عند الإطلاق إذ لا فرق بين المعرفة والنكرة في التعيين وعدم التعيين عند الوضع، وإنما قلت للسامع؛ لأنه إذا قال جاءني رجل يمكن أن يكون الرجل متعينا للمتكلم فعلم من هذا التقسيم حد كل واحد من الأقسام وعلم أن المطلق من أقسام الخاص؛ لأن المطلق وضع للواحد النوعي. واعلم أنه يجب في كل قسم من هذه الأقسام أن يعتبر من حيث هو كذلك حتى لا يتوهم التنافي بين كل قسم وقسم، فإن بعض الأقسام قد يجتمع مع بعض وبعضها لا، مثل قولنا جرت العيون
................................................................................................
منه، ولا يخفى أن العلم لا يكون مشتقا باعتبار المعنى العلمي، بل باعتبار المعنى الأصلي المنقول عنه فالمشتق حقيقة هو اسم الجنس لا غير.
قوله: "إن أريد منه المسمى بلا قيد فمطلق" مشعر بأن المراد في المطلق نفس المسمى دون الفرد، وليس كذلك للقطع بأن المراد بقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] تحرير فرد من أفراد هذا المفهوم غير مقيد بشيء من العوارض.
قوله: "فهي ما وضع" لما كان الخارج من التقسيم بعض أنواع النكرة وهو ما استعمل في الفرد دون نفس المسمى وفي مقابلته بعض أقسام المعرفة وهو المعهود الذهني أورد تعريفي المعرفة، والنكرة على ما يشتمل الأقسام كلها.
قوله: "عند الإطلاق للسامع" قيدان للتعين وعدمه والأحسن في تعريفهما ما قيل: إن المعرفة ما وضع ليستعمل في شيء بعينه والنكرة ما وضع ليستعمل في شيء لا بعينه، فالمعتبر في التعين وعدمه أن يكون ذلك بحسب دلالة اللفظ، ولا عبرة بحالة الإطلاق دون الوضع ولا بما عند السامع دون المتكلم على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى؛ لأنه إذا قال جاءني رجل يمكن أن يكون الرجل معينا للسامع أيضا إلا أنه ليس بحسب دلالة اللفظ.
قوله: "واعلم أنه يجب إلخ" يريد أن تمايز الأقسام المذكورة ليس بحسب الذات، بل بحسب الحيثيات والاعتبارات والحيثيتان قد لا تتنافيان كالوضع الكثير للمعنى الكثير ووضع واحد لأفراد معنى واحد كما في لفظ العيون فإنه عام من حيث إنه وضع وضعا واحدا لأفراد العين الجارية، ومشترك من حيث إنه وضع وضعا كثيرا للعين الجارية، والعين الباصرة والشمس والذهب وغير ذلك، وقد تتنافيان كالوضع لكثير غير محصور والوضع لواحد أو لكثير محصور فاللفظ الواحد لا يكون عاما وخاصا باعتبار الحيثيتين؛ لأن الحيثيتين متنافيتان لا تجتمعان في لفظ واحد، وما ذكر من أن النكرة الموصوفة خاصة من وجه عامة من وجه فسيجيء جوابه، هذا غاية ما تكلفت لتقرير هذا التقسيم وتبين أقسامه، والكلام يعد موضع نظر
قوله: "فصل" لما فرغ عن الكلام في نفس التقسيم أورد ستة فصول للأحكام المتعلقة بالأقسام: الأول: في حكم الخاص. الثاني في حكم العام. الثالث: في قصر العام. الرابع: في ألفاظ العام. الخامس: في المطلق، والمقيد. السادس: في المشترك، وقد علم مما سبق أن الخاص لفظ وضع لواحد أو لكثير محصور وضعا واحدا وأشرنا إلى أن مثل لفظ المائة أيضا موضوع لواحد(1/59)
فمن حيث أن العين وضعت تارة للباصرة، وتارة لعين الماء تكون العين مشتركة بهذه الحيثية ومن حيث إن العيون شاملة لأفراد تلك الحقيقة، وهي عين الماء مثلا تكون عامة بهذه الحيثية فعلم أنه لا تنافي بين العام والمشترك لكن بين العام والخاص تناف إذ لا يمكن أن يكون اللفظ الواحد خاصا وعاما بالحيثيتين فاعتبر هذا في البواقي فإنه سهل بعد الوقوف على الحدود التي ذكرنا
"فصل: الخاص من حيث هو خاص" أي: من غير اعتبار العوارض والموانع كالقرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة مثلا.
"يوجب الحكم" فإذا قلنا زيد عالم فزيد خاص فيوجب الحكم بالعلم على زيد وأيضا العلم لفظ خاص بمعناه فيوجب الحكم بذلك الأمر الخاص على زيد. "قطعا" وسيجيء
................................................................................................
بالنوع كالرجل والفرس إلا أن المصنف جعله قسيما له نظرا إلى اشتمال معناه على أجزاء متفقة، فاحتاج في التعريف إلى كلمة أو وذكر فخر الإسلام رحمه الله أن الخاص كل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد، وكل اسم وضع لمسمى معلوم على الانفراد، فقيل: المراد بالمعنى مدلول اللفظ واحترز بقيد الوحدة عن المشترك وبقيد الانفراد عن العام ولم يخرج التثنية؛ لأنه أراد بالانفراد عدم المشاركة بين الأفراد، وقد تم التعريف بهذا إلا أنه أفرد خصوص العين بالذكر بطريق عطف الخاص على العام تنبيها على كمال مغايرته لخصوص الجنس والنوع وقوة خصوصه بحيث لا شركة في مفهومه أصلا ولا يخفى ما في هذا من التكلف، وقيل: المراد بالمعنى ما يقابل العين كالعلم والجهل. وهذا تعريف لقسمي الخاص الاعتباري، والحقيقي تنبيها على جريان الخصوص في المعاني، والمسميات بخلاف العموم فإنه لا يجري في المعاني، وهذا وهم، إذ ليس المراد بعدم جريان العموم في المعاني أنه مختص باسم العين دون اسم المعنى للقطع بأن مثل لفظ العلوم والحركات عام، بل المراد أن المعنى الواحد لا يعم متعددا، واعترض أيضا بأنه إذا كان تعريفا لقسمي الخاص كان الواجب أن يورد كلمة أو دون الواو ضرورة أن المحدود ليس مجموع القسمين، وجوابه أن المراد هذا بيان للتسمية على وجه يؤخذ منه تعريف قسمي الخاص بدليل أنه ذكر كلمة كل. والخاص اسم لكل من القسمين لا لأحد القسمين على أن الواو قد تستعمل بمعنى أو، وقيل: المراد أو لفظ الخاص مقول بالاشتراك على معنيين: أحدهما: الخاص مطلقا، والآخر: خاص الخاص أعني الاسم الموضوع للمسمى المعلوم أي: المعين المشخص.
قوله: "يوجب الحكم" أي: يثبت إسناد أمر إلى آخر على ما ذكر في مثل "زيد عالم" أن زيدا خاص فيوجب الحكم بثبوت العلم له، وكذا عالم ولو فسر بالحكم الشرعي بناء على أن الكلام في خاص الكتاب المتعلق بالأحكام لم يبعد، فإن قيل الموجب للحكم هو الكلام لا زيد أو عالم قلنا: كأنه أراد أن له دخلا في ذلك، وعبارتهم في هذا المقام أن الخاص يتناول مدلوله قطعا ويقينا لما أريد به من الحكم الشرعي كلفظة الثلاثة في {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] يتناول الآحاد المخصوصة قطعا لأجل ما أريد به من تعلق وجوب التربص به.
قوله: "قطعا" أي: على وجه يقطع الاحتمال الناشئ عن دليل وسيجيء في آخر التقسيم(1/60)
فصل: الخاص من حيث هو خاص يوجب الحكم قطعا ففي قوله تعالى: ثلاثة قروء لا يحمل القرء على الطهر وإلا فإن احتسب الطهر الذي طلق فيه يجب طهران
ـــــــ
أنه يراد بالقطع معنيان والمراد هاهنا المعنى الأعم، وهو أن لا يكون له احتمال ناشئ عن دليل لا أن لا يكون له احتمال أصلا.
"ففي قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} لا يحمل القرء على الطهر" وإلا فإن احتسب الطهر الذي طلق فيه يجب طهران، وبعض وإن لم يحتسب تجب ثلاثة وبعض. اعلم أن القرء لفظ مشترك وضع للحيض، ووضع للطهر ففي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] المراد من القرء الحيض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى والطهر عند الشافعي رحمه الله تعالى فنحن نقول لو كان المراد الطهر لبطل موجب الخاص وهو لفظ ثلاثة؛ لأنه لو كان المراد الطهر، والطلاق المشروع هو الذي يكون في حالة الطهر فالطهر الذي طلق فيه إن لم يحتسب من العدة يجب ثلاثة أطهار وبعض وإن احتسب كما هو
................................................................................................
الثالث أن القطع يطلق على نفي الاحتمال أصلا، وعلى نفي الاحتمال الناشئ عن دليل وهذا أعم من الأول؛ لأن الاحتمال الناشئ عن دليل أخص من مطلق الاحتمال ونقيض الأخص أعم من نقيض الأعم، فلذا قال: والمراد هاهنا المعنى الأعم.
قوله: "ففي قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} " بيان لتفريعات على أن موجب الخاص قطعي تقرير الأول أن القرء إن حمل على الطهر بطل موجب الثلاثة إما بالنقصان من مدلولها إن اعتبر الطهر الذي وقع فيه الطلاق، وإما بالزيادة إن لم يعتبر وهو ظاهر، فإن قيل كلاهما جائزان. أما النقصان فكما في إطلاق الأشهر على شهرين وبعض شهر في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]. وأما الزيادة فيلزمكم من حمل القرء على الحيض فيما إذا طلقها في الحيض فإنه لا يعتبر بتلك الحيضة فالواجب ثلاث حيض وبعض. أجيب عن الأول بأن الكلام في الخاص وأشهر ليس كذلك، بل هو عام أو واسطة، وعن الثاني بأنه وجب تكميل الحيضة الأولى بالرابعة فوجبت بتمامها ضرورة أن الحيضة الواحدة لا تقبل التجزئة ومثله جائز في العدة كما في عدة الأمة فإنها على النصف من عدة الحرة، وقد جعلت قرأين ضرورة وليس الواجب عند الشافعي ثلاثة أطهار غير الطهر الذي وقع فيه الطلاق حتى يتأتى له مثل ذلك وأيضا الظاهر حمل الكلام على الطلاق المشروع الواقع في الطهر؛ لأنه المقصود بنظر الشرع في بيان ما يتعلق به من الأحكام ويعرف حكم غير المشروع بدلالة نص أو إجماع أو كأن قوله والطلاق المشروع هو الذي يكون في حالة الطهر إشارة إلى هذا وعلى أصل الاستدلال منع لطيف وهو أنا لا نسلم أنه إذا لم يعتبر الطهر الذي وقع فيه الطلاق كان الواجب ثلاثة أطهار وبعضا، بل الواجب بالشرع لا يكون إلا الأطهار الثلاثة الكاملة، ويلزم مضي البعض الذي وقع فيه الطلاق بالضرورة لا باعتبار أنه مما وجب بالعدة لكنه لا يفيد الشافعي؛ لأنه لا يقول بوجوب ثلاثة أطهار كاملة غير ما وقع فيه الطلاق نعم يفيد أبا حنيفة رحمه الله في دفع ما يورد من المعارضة بوجوب ثلاثة حيض وبعض فيما إذا طلقها في الحيض.(1/61)
وبعض إن لم يحتسب تجب ثلاثة وبعض على أن بعض الطهر ليس بطهر وإلا لكان الثالث كذلك وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} الفاء لفظ خاص للتعقيب وقد
ـــــــ
مذهب الشافعي يجب طهران وبعض. "على أن بعض الطهر ليس بطهر وإلا لكان الثالث كذلك" جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال لم قلتم إنه إذا احتسب يكون الواجب طهرين وبعضا، بل الواجب ثلاثة؛ لأن بعض الطهر طهر فإن الطهر أدنى ما يطلق عليه لفظ الطهر وهو طهر ساعة مثلا فنقول في جوابه إن بعض الطهر ليس بطهر؛ لأنه لو كان كذلك لا يكون بين الأول، والثالث فرق فيكفي في الثالث بعض طهر فينبغي أنه إذا مضى من الثالث شيء يحل لها التزوج، وهذا خلاف الإجماع، وهذا الجواب قاطع لشبهة الشافعي رحمه الله، وقد تفردت بهذا.
وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} الفاء لفظ خاص للتعقيب، وقد عقب الطلاق بالافتداء
................................................................................................
قوله: "على أن بعض الطهر" جواب سؤال مقدر توجيهه أنا لا نسلم أنه إذا اعتبر الطهر الذي وقع فيه الطلاق كان الواجب الطهرين، وبعضا لا ثلاثة، وإنما يلزم ذلك لو كان الطهر اسما لمجموع ما يتخلل بين الدمين وهو ممنوع، بل هو اسم للقليل والكثير حتى يطلق على طهر ساعة مثلا وتوجيه الجواب على ما ذكره القوم أن الطهر إن كان اسما للمجموع فقد ثبت ما ذكرنا سالما عن المنع، وإن لم يكن لزوم انقضاء العدة بطهر واحد، بل ناقل ضرورة اشتماله على ثلاثة أطهار، وأكثر باعتبار الساعات وعلى ما ذكره المصنف أنه إذا لم يكن اسما للمجموع لم يبق فرق بين الأول والثالث في صحة الإطلاق على البعض، فيلزم انقضاء العدة بمضي شيء من الطهر الثالث من غير توقف على انقضائه وليس كذلك، فإن قيل الطهر حالة مستمرة لا يدخل تحت العدد إلا باعتبار انقطاعه بالحيض كسائر الأمور المستمرة، مثل القيام والقعود فإنها لا تتصف بأسماء الأعداد إلا عند انقطاعها بالأضداد وكون كل بعض من تلك الحالة المستمرة طهرا لا يستلزم كونه طهرا واحدا فعلى هذا لا يلزم انقضاء العدة بطهر واحد، وإنما يلزم ذلك أن لو كان كل بعض منه طهرا واحدا ولا يلزم عدم الفرق بين الأول والثالث، بل الفرق ظاهر؛ لأن البعض من الأول قد انقطع بالحيض فيكون طهرا واحدا بخلاف البعض من الثالث فإنه لا يكون طهرا واحدا ما لم ينقطع قلنا دخول الأمور المستمرة تحت العدد كما يتوقف على انتهاء يتوقف على ابتداء، فإنه كما لا يتصف أول النهار بكونه يوما واحدا فكذلك آخره، فإن جاز إطلاق الطهر الواحد على البعض من الأول بمجرد الانتهاء إلى الحيض جاز إطلاقه على البعض من الثالث بمجرد الابتداء من الحيض، وإن امتنع هذا امتنع ذاك، وإن ادعى جواز الأول دون الثاني لم يكن بد من البيان.
قوله: "وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} " ذكر فخر الإسلام رحمه الله من فروع العمل بالخاص أن الخلع طلاق لا فسخ عملا بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] إلى قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] وأن الطلاق بعد الخلع مشروع عملا بالفاء في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} إلا أن يكون الأول من هذا الباب غير ظاهر فلهذا اقتصر المصنف على الثاني مشيرا في أثناء تحقيقه(1/62)
عقب الطلاق الافتداء فإن لم يقع الطلاق بعد الخلع كما هو مذهب الشافعي يبطل موجب الخاص تحقيقه أنه تعالى ذكر الطلاق المعقب للرجعة مرتين ثم ذكر افتداء المرأة، وفي تخصيص فعلها هنا تقرير فعل الزوج على ما سبق وهو الطلاق فقد بين نوعيه بلا مال وبمال لا كما يقول الشافعي رحمه الله تعالى أن الافتداء فسخ فإن ذلك
ـــــــ
فإن لم يقع الطلاق بعد الخلع كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى يبطل موجب الخاص تحقيقه أنه تعالى ذكر الطلاق المعقب للرجعة مرتين ثم ذكر افتداء المرأة، وفي تخصيص فعلها هنا تقرير فعل الزوج على ما سبق وهو الطلاق فقد بين نوعيه بغير مال وبمال كما يقول الشافعي رحمه الله تعالى أن الافتداء فسخ فإن ذلك زيادة على الكتاب ثم قال فإن طلقها أي: بعد المرتين سواء كانتا بمال أو بغيره، ففي اتصال الفاء بأول الكلام وانفصاله عن الأقرب. "فساد التركيب" اعلم أن الشافعي رحمه الله تعالى يصل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] ويجعل ذكر الخلع وهو قوله تعالى: {وَلا
................................................................................................
إلى الأول، وتحقيقه أن الله تعالى ذكر الطلاق المعقب للرجعة مرتين مرة بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228] إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] ومرة بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] أي: التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع، كذا قيل نظرا إلى ظاهر عبارة المصنف وليس بمستقيم؛ لأن قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} إلى آخره بيان لوجوب العدة، وقوله الطلاق مرتان كلام مبتدأ لبيان كيفية الطلاق ومشروعيته، وذكر الطلاق ألف مرة بدون ما يدل على تعدد وترتيب لا يقتضي تعدده حتى يكون قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} بيانا للثالثة، بل الصواب أن قوله: "مرتين", قيد للطلاق لا لذكره أي: أنه تعالى ذكر الطلاق الذي يكون مرتين بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أي: ثنتان بدليل قوله، ثم قال طلقها أي: بعد المرتين فإنه صريح في أنه أراد بالمرتين التطليقتين، ثم ذكر افتداء المرأة بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة:229] أي: علمتم أو ظننتم أيها الحكام {أَلَّا يُقِيمَا} أي: الزوجان {حُدُودَ اللَّهِ}, أي: حقوق الزوجية {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي: فلا إثم على الرجل فيما أخذ، ولا على المرأة فيما افتدت به نفسها، وفي تخصيص فعل المرأة بالافتداء تقرير فعل الزوجية على ما سبق وهو الطلاق؛ لأنه تعالى لما جمعهما في قوله: {أَلَّا يُقِيمَا} ، ثم خص جانب المرأة مع أنها لا تتلخص بالافتداء إلا بفعل الزوج كان بيانا بطريق الضرورة إن فعل الزوج هو الذي تقرر فيما سبق وهو الطلاق فكان هذا بيانا لنوعي الطلاق أعني بغير مال وبمال، وهو الافتداء وصار كالتصريح بأن فعل الزوج في الخلع وافتداء المرأة طلاق لا فسخ كما ذهب إليه الشافعي فيما روي عنه، وإن كان الصحيح من مذهبه أنه طلاق لا فسخ وإلا يلزم ترك العمل بهذا البيان الذي هو في حكم المنطوق وهو الذي عبر عنه فخر الإسلام رحمه الله بترك العمل بالخاص والمصنف بالزيادة على الكتاب، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي: بعد المرتين سواء كانتا على مال أو بدونه فدل على مشروعية الطلاق بعد الخلع عملا بموجب الفاء.
قوله: "فساد التركيب" هو ترك العطف على الأقرب إلى الأبعد مع توسط الكلام الأجنبي، فإن قيل اتصال الفاء بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} هو قول عامة المفسرين ويدل عليه كلام المصنف(1/63)
زيادة على الكتاب ثم قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي: بعد المرتين سواء كانتا بمال أو بغيره، ففي اتصال الفاء بأول الكلام وانفصاله عن الأقرب. فساد التركيب وقوله
ـــــــ
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} إلى قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} معترضا ولم يجعل الخلع طلاقا، بل فسخا وإلا يصر الأولان مع الخلع ثلاثة فيصير قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} رابعا وقال: المختلعة لا يلحقها صريح الطلاق فإن قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} متصل بأول الكلام ووجه تمسكنا مذكور في المتن مشروحا.
................................................................................................
أيضا حيث قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي: بعد المرتين فكيف حكم بفساده قلنا الحكم بالفساد إنما هو على تقدير أن يكون قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} إلخ كلاما معترضا مستقلا وأراد في بيان الخلع غير منصرف إلى الطلقتين المذكورتين. وأما على ما ذهب إليه المصنف وعامة المفسرين دل عليه سياق النظم، وهو أن الافتداء منصرف إلى الطلقتين والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا في الطلقتين شيئا إن لم يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خافا ذلك فلا إثم في الأخذ والافتداء فلا فساد؛ لأن اتصاله بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} هو معنى اتصاله بالافتداء؛ لأنه ليس بخارج عن الطلقتين فكأنه قال: فإن طلقها بعد الطلقتين اللتين كلتاهما أو إحداهما خلع وافتداء، وبهذا يندفع إشكالان: الأول: لزوم عدم مشروعية الخلع قبل الطلقتين عملا بموجب الفاء في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا} [البقرة:229] الآية. الثاني: لزوم تربيع الطلاق بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} لترتبه على الخلع المترتب على الطلقتين، وذلك لأن الخلع ليس بمترتب على الطلقتين، بل مندرج فيهما، والمذكور عقيب الفاء ليس نفع الخلع، بل إنه على تقدير الخوف لا جناح في الافتداء لكن يرد إشكالان. أحدهما: أن لا يكون المراد بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} هو الطلاق الرجعي على ما صرحوا به؛ لأن الخلع طلاق بائن. وثانيهما: أن لا يصح التمسك بالآية في أن الخلع طلاق وأنه يلحقه الصريح؛ لأن المذكور هو الطلاق على مال لا الخلع، وأجيب عن الأول بأن كونه رجعيا إنما هو على تقدير عدم الأخذ وعن الثاني بأن الآية نزلت في الخلع لا الطلاق على مال، وقد يجاب بأن الطلاق على مال أعم من الخلع؛ لأنه قد يكون بصيغة الطلاق وقد يكون بصيغة الخلع وفيه نظر، إذ لم يقع نزاع الخصم إلا في أن ما يكون بصيغة الخلع طلاق على مال حتى لو سلم ذلك لم يصح نزاعه في أنه طلاق وأنه يلحقه صريح الطلاق، فإن قيل الفاء في الآية لمجرد العطف من غير تعقيب ولا ترتيب، وإلا لزم من إثبات مشروعية الطلقة الثالثة، ووجوب التحليل بعدها من غير سبق الافتداء والطلاق على المال الزيادة على الكتاب، بل ترك العمل بالفاء في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} قلنا لو سلم فبالإجماع والخبر المشهور كحديث العسيلة لا يقال الترتيب في الذكر لا يوجب الترتيب في الحكم؛ لأنا نقول الفاء للترتيب في الوجود، وإلا فالترتيب في الذكر حاصل في جميع حروف العطف. واعلم أن هذا البحث مبني على أن يكون التسريح بإحسان إشارة إلى ترك الرجعة. وأما إذا كان إشارة إلى الطلقة الثالثة على ما روي عن النبي عليه السلام فلا بد أن يكون قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} بيانا لحكم التسريح على معنى أنه، إذا ثبت أنه لا بد بعد الطلقتين من الإمساك بالمراجعة أو التسريح بالطلقة الثالثة، فإن آثر التسريح فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وحينئذ لا دلالة(1/64)
تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} الباء لفظ خاص يوجب الإلصاق فلا ينفك الابتغاء وهو العقد الصحيح عن المال أصلا فيجب بنفس العقد خلافا للشافعي وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} خص فرض المهر أي: تقديره بالشارع فيكون أدناه مقدرا خلافا له.
ـــــــ
"وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء:24] الباء لفظ خاص يوجب الإلصاق فلا ينفك الابتغاء" أي: الطلب. "وهو العقد الصحيح عن المال أصلا فيجب بنفس العقد" بخلاف الفاسد فإن المهر لا يجب بنفس العقد إذا كان فاسدا. "خلافا للشافعي" والخلاف هاهنا في مسألة المفوضة أي: التي نكحت بلا مهر أو نكحت على أن لا مهر لها لا يجب المهر عند الشافعي رحمه الله عند الموت وأكثرهم على وجوب المهر إذا دخل بها، وعندنا يجب كمال مهر المثل إذا دخل بها أو مات أحدهما. "وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:50] خص فرض المهر أي: تقديره بالشارع فيكون أدناه مقدرا خلافا له"؛ لأن قوله فرضنا معناه قدرنا وتقدير الشارع إما أن يمنع الزيادة أو يمنع النقصان والأول منتف؛ لأن الأعلى غير مقدر في المهر إجماعا فتعين الثاني فيكون الأدنى مقدرا، ولما لم يبين ذلك المفروض قدرناه بطريق الرأي والقياس بشيء هو معتبر شرعا في مثل هذا الباب أي: كونه عوضا لبعض أعضاء الإنسان وهو عشرة
................................................................................................
في الآية على شرعية الطلاق عقيب الخلع.
قوله: " {أَنْ تَبْتَغُوا} [البقرة:198]" مفعول له أي: بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن تبتغوا النساء بالمهور ويجوز أن يكون بدلا عن ما وراء ذلكم، والابتغاء هو الطلب بالعقد لا بالإجارة والمتعة لقوله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء:24] والمراد العقد الصحيح، إذ لا يجب المهر بنفس العقد الفاسد إجماعا، بل يتراخى إلى الوطء.
قوله: "الباء لفظ خاص" يعني: أنه حقيقة في الإلصاق مجاز في غيره ترجيحا للمجاز على الاشتراط.
قوله: "والخلاف هاهنا في مسألة المفوضة" من التفويض وهو التسليم وترك المنازعة استعمل في النكاح بلا مهر أو على أن لا مهر لكن المفوضة التي نكحت نفسها بلا مهر لا تصلح محلا للخلاف؛ لأن نكاحها غير منعقد عند الشافعي، بل المراد من المفوضة هي التي أذنت لوليها أن يزوجها من غير تسمية المهر، أو على أن لا مهر لها فزوجها، وقد يروى المفوضة بفتح الواو على أن الولي زوجها بلا مهر، وكذا الأمة إذا زوجها سيدها بلا مهر.
قوله: " {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} [الأحزاب:50]" المشهور أن الفرض حقيقة في القطع والإيجاب، ومعنى الآية قد علمنا ما أوجبنا على المؤمنين في الأزواج والإماء من النفقة والكسوة والمهر بقرينة تعديته بعلى، وعطف ما ملكت أيمانهم على الأزواج مع أن الثابت في حقهن ليس بمقدر في الشرع، وذهب(1/65)
فصل: حكم العام
التوقف عند البعض حتى يقوم الدليل ; لأنه مجمل لاختلاف أعداد الجمع وإنه يؤكد بكل وأجمع ولو كان مستغرقا لما احتيج إلى ذلك ولأنه يذكر الجمع ويراد به الواحد كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} وعند البعض يثبت الأدنى، وهو الثلاثة في الجمع والواحد في غيره ; لأنه المتيقن وعندنا وعند الشافعي رحمه الله يوجب الحكم في الكل لأن العموم معنى مقصود فلا بد أن يكون لفظ يدل عليه وقد قال علي كرم الله وجهه عنه في الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين أحلتهما آية وهي قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وحرمتهما آية وهي أن تجمعوا بين
ـــــــ
دراهم فإنه يتعلق بها وجوب قطع اليد، وعند الشافعي رحمه الله تعالى كل ما يصلح ثمنا يصلح مهرا، وقد أورد فخر الإسلام رحمه الله تعالى في هذا الفصل مسائل أخر أوردتها في الزيادة على النص في آخر فصل النسخ إلا مسألتين تركتهما بالكلية مخافة التطويل وهما مسألتا الهدم والقطع مع الضمان.
"فصل: حكم العام التوقف عند البعض حتى يقوم الدليل ; لأنه مجمل لاختلاف أعداد الجمع" فإن جمع القلة يصح أن يراد منه كل عدد من الثلاثة إلى العشرة، وجمع الكثرة يصح أن يراد منه كل عدد من العشرة إلى ما لا نهاية له، فإنه إذا قال لزيد علي أفلس يصح بيانه من الثلاثة إلى العشرة فيكون مجملا. "وإنه يؤكد بكل وأجمع ولو كان مستغرقا لما احتيج إلى ذلك ولأنه يذكر الجمع ويراد به الواحد كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} المراد منه نعيم بن السعود أو أعرابي آخر، والناس الثاني أهل مكة. "وعند البعض يثبت الأدنى، وهو الثلاثة في الجمع والواحد في غيره" ; لأنه المتيقن فإنه إذا قال لفلان علي دراهم تجب ثلاثة باتفاق بيننا، وبينكم لكنا نقول إنما تثبت الثلاثة ; لأن العموم غير ممكن فيثبت أخص الخصوص.
...............................................................................................
الأصوليون إلى أن الفرض لفظ خاص حقيقة في التقدير بدليل غلبة استعماله فيه شرعا يقال فرض النفقة أي: قدرها: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236] تقدروا وفرضنا أي: قدرناها ومنه الفرائض للسهام المقدرة مجاز في غيره دفعا للاشتراك، وتعديته بعلى لتضمين معنى الإيجاب وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50] معناه وما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم على أن الفرض هاهنا بمعنى الإيجاب، ولما كان هذا مخالفا لتصريح الأئمة بأنه حقيقة في القطع لغة، وفي الإيجاب شرعا عدل المصنف عن ذلك فقال: خص فرض المهر أي: تقديره بالشارع، وتحقيقه أن إسناد الفعل إلى الفاعل حقيقة في صدور الفعل عنه فيكون لفظ فرضنا من حيث اشتماله على الإسناد خاصا في أن مقدر المهر هو الشارع على ما هو وضع الإسناد، وهذا تدقيق منه إلا أنه يتوقف على كون الفرض هاهنا بمعنى التقدير دون الإيجاب.
قوله: "وهما مسألتا الهدم والقطع مع الضمان" هما مسألتان خالف فيهما الشافعي أبا حنيفة محتجا بأن فيما ذهب إليه ترك العمل بالخاص. تقرير الأولى أن لفظ حتى في قوله تعالى: {فَلا(1/66)
الأختين فالمحرم راجح وابن مسعود رضي الله تعالى عنه جعل قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} ناسخا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} حتى جعل عدة حامل توفي عنها زوجها بوضع الحمل وذلك عام كله لكن عند الشافعي رحمه الله تعالى هو دليل فيه شبهة فيجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس لأن كل عام يحتمل التخصيص وهو شائع فيه وعندنا هو قطعي مساو للخاص وسيجيء معنى القطعي فلا يجوز تخصيصه بواحد منهما ما لم يخص بقطعي ; لأن اللفظ متى وضع لمعنى كان ذلك المعنى لازما له إلا أن تدل القرينة على خلافه، ولو جاز إرادة البعض بلا قرينة يرتفع الأمان عن اللغة والشرع بالكلية ; لأن خطابات الشرع عامة والاحتمال الغير الناشئ عن دليل لا يعتبر، فاحتمال الخصوص هنا كاحتمال المجاز في الخاص فالتأكيد يجعله محكما وإذا ثبت هذا فإن تعارض الخاص والعام، فإن لم يعلم التاريخ حمل على المقارنة فعند الشافعي رحمه الله يخص به، وعندنا يثبت حكم التعارض في قدر ما تناولاه وإن كان العام متأخرا ينسخ الخاص عندنا، وإن كان الخاص متأخرا، فإن كان موصولا يخصه، فإن كان متراخيا ينسخه في ذلك القدر عندنا حتى لا يكون العام عاما مخصصا.
ـــــــ
"وعندنا وعند الشافعي رحمه الله يوجب الحكم في الكل" نحو جاءني القوم يوجب الحكم وهو نسبة المجيء إلى كل أفراد تناولها القوم. "لأن العموم معنى مقصود فلا بد أن يكون لفظ يدل عليه" فإن المعاني التي هي مقصودة في التخاطب قد وضع الألفاظ لها. "وقد قال رضي الله تعالى عنه في الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين أحلتهما آية وهي قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]" فإنها تدل على حل وطء كل أمة مملوكة سواء كانت مجتمعة مع أختها في الوطء أو لا. "وحرمتهما آية وهي: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23]" تدل على حرمة الجمع بين الأختين سواء كان الجمع بطريق النكاح، أو بطريق الوطء بملك اليمين. "فالمحرم راجح" كما يأتي في فصل التعارض أن المحرم راجح على المبيح. "وابن مسعود رضي الله تعالى عنه جعل قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق:4] ناسخا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة:234]
................................................................................................
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] خاص في الغاية، وأثر الغاية في انتهاء ما قبلها لا في إثبات ما بعدها فوطء الزوج الثاني يكون غاية للحرمة السابقة لا مثبتا لحل جديد، وإنما يثبت الحل بالسبب السابق وهو كونها من بنات آدم خالية من المحرمات كما في الصوم تنتهي حرمة الأكل والشرب بالليل، ثم يثبت الحل بالإباحة الأصلية، فوطء الزوج الثاني يهدم حكم ما مضى من طلقات الزوج الأول إذا كانت ثلاثا لثبوت الحرمة بها ولا يهدم ما دون الثلاث، إذ لا تثبت به الحرمة ولا تصور لغاية الشيء قبل وجود أصله، ففي القول بأنه يهدم ما دون الثلاث أيضا كما هو مذهب أبي حنيفة بناء على أن وطء الزوج الثاني مثبت لحل جديد ترك العمل بالخاص، وجوابه أن(1/67)
فصل: قصر العام
على بعض ما تناوله لا يخلو من أن يكون بغير مستقل وهو الاستثناء والشرط والصفة والغاية أو بمستقل وهو التخصيص وهو إما بالكلام أو غيره وهو إما العقل نحو خالق كل شيء يعلم ضرورة أن الله تعالى مخصوص منه،
ـــــــ
حتى جعل عدة حامل توفي عنها زوجها بوضع الحمل". اختلف علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما في حامل توفي عنها زوجها، فقال علي رضي الله تعالى عنه تعتد بأبعد الأجلين توفيقا بين الآيتين إحداهما في سورة البقرة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] والأخرى في سورة النساء القصرى وهي قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة النساء الطولى، وقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نزلت بعد قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] فقوله: { يَتَرَبَّصْنَ} يدل على أن عدة المتوفى عنها زوجها بالأشهر سواء كانت حاملا أو لا، وقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} يدل على أن عدة الحامل بوضع الحمل سواء توفي عنها زوجها، أو طلقها فجعل قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} ناسخا لقوله: {يَتَرَبَّصْنَ} في مقدار ما تناوله الآيتان وهو ما إذا توفي عنها زوجها وتكون حاملا. "وذلك عام كله" أي: النصوص الأربعة التي تمسك بها علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما في الجمع بين الأختين والعدة. "لكن عند الشافعي رحمه الله تعالى هو دليل فيه شبهة فيجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس" أي: تخصيص عام الكتاب بكل واحد من خبر الواحد والقياس. "لأن كل عام يحتمل التخصيص وهو شائع فيه" أي: التخصيص شائع في العام "وعندنا هو قطعي مساو للخاص وسيجيء معنى القطعي فلا يجوز تخصيصه بواحد منهما ما لم يخص بقطعي؛ لأن اللفظ متى وضع لمعنى كان ذلك المعنى لازما له إلا أن تدل القرينة على خلافه، ولو جاز إرادة البعض بلا قرينة يرتفع الأمان عن اللغة والشرع بالكلية؛ لأن خطابات الشرع عامة والاحتمال الغير الناشئ عن دليل لا يعتبر، فاحتمال الخصوص هنا
................................................................................................
المراد بالنكاح هاهنا العقد بدليل إضافته إلى المرأة، واشتراط الدخول إنما ثبت بالحديث المشهور وهو حديث العسيلة حيث قال: "لا حتى تذوقي" جعل الذوق غاية لعدم العود فإذا وجد ثبت العود وهو حادث لا سبب له سوى الذوق، فيكون الذوق هو المثبت للحل، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "لعن الله المحلل والمحلل له" جعل الزوج الثاني محللا أي: مثبتا للحل ففيما دون الثلاث يكون(1/68)
وتخصيص الصبي والمجنون من خطابات الشرع من هذا القبيل. وأما الحس نحو وأوتيت من كل شيء وأما العادة نحو لا يأكل رأسا يقع على المتعارف وأما كون بعض
ـــــــ
كاحتمال المجاز في الخاص فالتأكيد يجعله محكما" هذا جواب عما قاله الواقفية أنه مؤكد بكل أو أجمع وأيضا جواب عما قاله الشافعي رحمه الله أنه يحتمل التخصيص، فنقول نحن لا ندعي أن العام لا احتمال فيه أصلا، فاحتمال التخصيص فيه كاحتمال المجاز في الخاص، فإذا أكد يصير محكما أي: لا يبقى فيه احتمال أصلا لا ناشئ عن دليل ولا غير ناشئ عن دليل، فإن قيل احتمال المجاز الذي في الخاص ثابت في العام مع احتمال آخر، وهو احتمال التخصيص فيكون الخاص راجحا فالخاص كالنص والعام كالظاهر، قلنا: لما كان العام موضوعا للكل كان إرادة البعض دون البعض بطريق المجاز، وكثرة احتمالات المجاز لا اعتبار لها فإذا كان لفظ خاص له معنى واحد مجازي، ولفظ خاص آخر له معنيان مجازيان أو أكثر ولا قرينة للمجاز أصلا، فإن اللفظين متساويان في الدلالة على المعنى الحقيقي بلا ترجيح الأول على الثاني فعلم أن احتمال المجاز الواحد الذي لا قرينة له مساو لاحتمال مجازات كثيرة لا قرينة لها، ولا نسلم أن التخصيص الذي يورث شبهة في العام شائع بلا قرينة فإن المخصص إذا كان هو العقل أو نحوه فهو في حكم الاستثناء على ما يأتي، ولا يورث شبهة فإن كل ما يوجب العقل كونه غير داخل لا يدخل وما سوى ذلك يدخل تحت العام وإن كان المخصص هو الكلام، فإن كان متراخيا لا نسلم أنه مخصص، بل هو ناسخ. بقي الكلام في المخصص الذي لا يكون موصولا وقليل ما هو.
................................................................................................
الزوج الثاني متمما للحل الناقص بالطريق الأولى، وتقرير الثانية أن في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] لفظ القطع خاص بالإبانة عن الشيء من غير دلالة إبطال العصمة، ففي القول بأن القطع يوجب إبطال العصمة الثابتة للمال قبل القطع حتى لا يجب الضمان بهلاكه، أو استهلاكه كما هو مذهب أبي حنيفة ترك العمل بالخاص، وجوابه أن انتفاء الضمان ثبت بقوله تعالى: {جَزَاءً} فإن الجزاء المطلق في معرض العقوبات ما يجب حقا لله تعالى خالصا فيجب أن تكون الجناية واقعة على حقه تعالى، ومن ضرورته تحول العصمة التي هي محل الجناية إلى الله تعالى عند فعل القطع حتى يصير المال في حق العبد ملحقا بما لا قيمة له كالعصير إذا تخمر، وفي المسألتين اعتبارات سؤالا وجوابا أعرضنا عنها مخافة التطويل.
قوله: "فصل" حكم العام عند عامة الأشاعرة التوقف حتى يقوم دليل عموم، أو خصوص، وعند البلخي والجبائي الجزم بالخصوص كالواحد في الجنس والثلاثة في الجمع، والتوقف فيما فوق ذلك وعند جمهور العلماء إثبات الحكم في جميع ما يتناوله من الأفراد قطعا ويقينا عند مشايخ العراق وعامة المتأخرين، وظنا عند جمهور الفقهاء والمتكلمين، وهو مذهب الشافعي والمختار عند مشايخ سمرقند حتى يفيد وجوب العمل دون الاعتقاد، ويصح تخصيص العام من الكتاب بخبر الواحد والقياس واستدل على مذهب التوقف تارة ببيان أن مثل هذه الألفاظ التي ادعى عمومها(1/69)
الأفراد ناقصا فيكون اللفظ أولى بالبعض الآخر، نحو كل مملوك لي حر لا يقع على المكاتب ويسمى مشككا أو زائدا لا تقع على العنب ففي غير المستقل هو
ـــــــ
مجمل، وأخرى ببيان أنه مشترك. أما الأول فلأن أعداد الجمع مختلفة من غير أولوية للبعض؛ ولأنه يؤكد بكل وأجمع مما يفيد بيان الشمول والاستغراق فلو كان للاستغراق لما احتيج إليه فهو للبعض وليس بمعلوم فيكون مجملا. وأما الثاني فلأنه يطلق على الواحد، والأصل في الإطلاق الحقيقة فيكون مشتركا بين الواحد والكثير فقوله وأنه يؤكد عطف على قوله لاختلاف أعداد الجمع فيكون دليلا آخر على الإجمال، ويحتمل أن يكون عطفا على قوله؛ لأنه مجمل فيكون دليلا على مذهب أهل التوقف والجواب عن الأول أنه يحمل على الكل احترازا عن ترجيح البعض بلا مرجح فلا إجمال، وعن الثاني أن التأكيد دليل العموم والاستغراق وإلا لكان تأسيسا لا تأكيدا صرح بذلك أئمة العربية، وعن الثالث أن المجاز راجح على الاشتراك فيحمل عليه للقطع أنه حقيقة في الكثير على أن كون الجمع مجازا في الواحد مما أجمع عليه أئمة اللغة، والمراد بالجمع هاهنا ما يعم صيغة الجمع كالرجال واسم الجمع كالناس، وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أن يوافيه العام المقبل ببدر الصغرى فلما دنى الموعد رعب وندم وجعل لنعيم بن مسعود الأشجعي عشرا من الإبل على أن يخوف المؤمنين فهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران:173] أي: نعيم بن مسعود: {إِنَّ النَّاسَ} أي: أهل مكة: {قَدْ جَمَعُوا} أي: الجيش لكم أي: لقتالكم.
قوله: "لأنه المتيقن" استدل على المذهب الثاني بأنه لا يجوز إخلاء اللفظ من المعنى، والواحد في الجنس والثلاثة في الجمع هو المتيقن؛ لأنه إن أريد الأقل فهو عين المراد، وإن أريد ما فوقه فهو داخل في المراد هو البعض والجواب أنه إثبات اللغة بالترجيح وهو باطل، ولو سلم فالعموم ربما كان أحوط فيكون أرجح ولا يخفى أن التوضيح بقوله لفلان علي دراهم مبني على تقدير كون الجمع المنكر عاما، وعلى كون الأقل في جمع الكثرة أيضا هو الثلاثة على خلاف ما صرح به في دليل الإجمال.
قوله: "لأن العموم معنى مقصود" استدل على المذهب المختار بالمعقول والإجماع. أما المعقول فلأن العموم معنى ظاهر يعقله الأكثر وتمس الحاجة إلى التعبير عنه فلا بد من أن يوضع له لفظ بحكم العادة ككثير من المعاني التي وضع لها الألفاظ لظهورها إلى التعبير عنها، فقوله فلا بد أن يكون لفظ يدل عليه يعني: بالوضع ليثبت كونه عاما، وفيه نظر؛ لأن المعنى الظاهر قد يستغنى عن الوضع له خاصة بالمجاز، أو الاشتراك، أو نحو ذلك كخصوص الروائح والطعوم التي اكتفي في التعبير عنها بالإضافة كرائحة المسك على أن هذا إثبات الوضع بالقياس. وأما الإجماع فلأنه ثبت من الصحابة وغيرهم الاحتجاج بالعمومات وشاع ذلك وذاع من غير نكير، فإن قيل فهم ذلك بالقرائن قلنا فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يثبت للفظ مفهوم ظاهر لجواز أن يفهم بالقرائن، فإن الناقلين لنا لم ينقلوا نص الواضع، بل أخذوا الأكثر من تتبع موارد الاستعمال.
قوله: "وحرمتهما" أي: الجمع بينهما وطئا آية أخرى هي قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23] عطفا على المحرمات السابقة قيل ذلك بطريق الدلالة؛ لأن الجمع بين(1/70)
حقيقة في الباقي وهو حجة بلا شبهة فيه وفي المستقل كلاما أو غيره مجاز بطريق إطلاق اسم الكل على البعض من حيث القصر حقيقة من حيث التناول وهو حجة فيه
ـــــــ
الأختين لما حرم نكاحا وهو سبب مفض إلى الوطء، فلأن يحرم وطئا بملك اليمين أولى، فاعترض بأن هذا حينئذ لا يعارض النص المبيح؛ لأنه بطريق العبارة، وأجيب بأنه قد خصت من المبيح الأمة المجوسية، والأخت من الرضاعة، وأخت المنكوحة فلم يبق قطعيا فيعارضه النص المحرم، وإن كان بطريق الدلالة فأشار المصنف إلى أن تحريم الأختين وطئا بملك اليمين ثبت أيضا بالعبارة؛ لأن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} في معنى مصدر معرف بالإضافة أو اللام أي: جمعكم أو الجمع بين الأختين سواء كان في النكاح، أو في الوطء بملك اليمين.
قوله: "في مقدار ما تناوله الآيتان"؛ لأن أولات الأحمال لا يتناول المتوفى عنها زوجها الغير الحامل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} أي: أزواج الذين يتوفون لا يتناول الحامل المطلقة فقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} باعتبار إيجاب عدة الحامل المطلقة بوضع الحمل لا يكون ناسخا وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} باعتبار إيجاب عدة غير الحامل بأربعة أشهر وعشر لا يكون منسوخا.
قوله: "لكن عند الشافعي رحمه الله" قد سبق أن القائلين بأن العام يوجب الحكم فيما يتناوله منهم من ذهب إلى أن موجبه ظني، ومنهم من ذهب إلى أنه قطعي بمعنى أنه لا يحتمل الخصوص احتمالا ناشئا عن الدليل تمسك الفريق الأول بأن كل عام يحتمل التخصيص، والتخصيص شائع فيه كثير بمعنى أن العام لا يخلو عنه إلا قليلا بمعونة القرائن كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران:109] حتى صار بمنزلة المثل أنه ما من عام إلا وقد خص منه البعض، وكفى بهذا دليلا على الاحتمال، وهذا بخلاف احتمال الخاص المجاز فإنه ليس بشائع في الخاص شيوع التخصيص في العام حتى ينشأ عنه احتمال المجاز في الخاص، فإن قيل، بل لا معنى لاحتمال المجاز عند عدم القرينة المانعة؛ لأن وجود القرينة المانعة عن إرادة الموضوع له مأخوذ في تعريف المجاز. قلنا احتمال القرينة كاف في احتمال المجاز وهو قائم، إذ لا قطع بعدم القرينة إلا نادرا، ولما كان المختار عند المصنف أن موجب العام قطعي استدل على إثباته أولا وعلى بطلان مذهب المخالف ثانيا وأجاب عن تمسكه ثالثا. أما الأول فتقريره أن اللفظ إذا وضع لمعنى كان ذلك المعنى لازما ثابتا بذلك اللفظ عند إطلاقه حتى يقوم الدليل على خلافه والعموم مما وضع له اللفظ فكان لازما قطعا حتى يقوم دليل الخصوص كالخاص يثبت مسماه قطعا حتى يقوم دليل المجاز. وأما الثاني فتقريره أنه لو جاز إرادة بعض مسميات العام من غير قرينة لارتفع الأمان عن اللغة؛ لأن كل ما وقع في كلام العرب من الألفاظ العامة يحتمل الخصوص فلا يستقيم ما يفهم السامعون من العموم وعن الشارع؛ لأن عامة خطابات الشرع عامة فلو جوزنا إرادة البعض من غير قرينة لما صح منا فهم الأحكام بصيغة العموم ولما استقام منا الحكم بعتق جميع عبيد من قال كل عبد لي فهو حر، وهذا يؤدي إلى التلبيس على السامع وتكليفه بالمحال، فإن قيل لما لم يكلفنا الله ما ليس في الوسع سقط اعتبار الإرادة الباطنة في حق العمل فلزمنا العمل بالعموم الظاهر لكنها بقيت في حق العلم فلم يلزمنا الاعتقاد القطعي، ومع القول(1/71)
شبهة، ولم يفرقوا بين كونه بالكلام أو غيره لكن يجب هناك فرق وهو أن المخصوص بالعقل ينبغي أن يكون قطعيا ; لأنه في حكم الاستثناء لكنه حذف الاستثناء معتمدا على العقل على أنه مفروغ عنه حتى لا نقول أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ
ـــــــ
بوجوب العمل بالعموم الظاهر لا يرتفع الأمان قلنا لما كان التكليف بحسب الوسع وليس في وسعنا الوقوف على الباطن لم تعتبر الإرادة الباطنة في حقنا لا علما ولا عملا، وأقيم السبب الظاهر مقام الباطل تيسيرا، وبقي ما يفهم من العموم الظاهر قطعيا، وقد يقال إن العلم عمل القلب وهو الأصل ولما لم تعتبر الإرادة الباطنة في حق التبع وهو العمل فأولى أن لا تعتبر في حق الأصل وهو العلم، وفيه نظر؛ لأنه ينتقض بخبر الواحد والقياس؛ ولأن عدم اعتبارها في حق التبع احتياط، وذلك في حق العمل دون العلم؛ ولأن الأصل أقوى من التبع فيجوز أن لا يقوى مثبت التبع على إثبات الأصل. وأما الثالث وهو الجواب عن تمسك المخالف فقد ذكره على وجه يستتبع الجواب عن استدلال القائلين بالتوقف في العموم بأنه يؤكد بكل وأجمعين، وتقريره أنه إن أريد باحتمال العام التخصيص مطلق الاحتمال فهو لا ينافي القطع بالمعنى المراد، وهو عدم الاحتمال الناشئ عن الدليل فيجوز أن يكون العام قطعيا مع أنه يحتمل الخصوص احتمالا غير ناشئ عن الدليل كما أن الخاص قطعي مع احتمال المجاز كذلك فيؤكد العام بكل وأجمعين ليصير محكما ولا يبقى فيه احتمال الخصوص أصلا كما يؤكد الخاص في مثل جاءني زيد نفسه أو عينه لدفع احتمال المجاز بأن يجيء رسوله أو كتابه، وإن أريد أنه يحتمل التخصيص احتمالا ناشئا عن دليل فهو ممنوع.
قوله: "لأن التخصيص شائع فيه" وهو دليل الاحتمال قلنا لا نسلم أن التخصيص الذي يورث الشبهة والاحتمال شائع فيه، بل هو في غاية القلة؛ لأنه إنما يكون بكلام مستقل موصول بالعام على ما سيأتي، وفيه نظر؛ لأن مراد الخصم بالتخصيص قصر العام على بعض المسميات سواء كان بغير مستقل أو بمستقل موصول أو متراخ، ولا شك في شيوعه وكثرته بهذا المعنى فإذا وقع النزاع في إطلاق اسم التخصيص على ما يكون بغير المستقل، أو بالمستقل المتراخي فله أن يقول قصر العام على بعض مسمياته شائع فيه بمعنى أن أكثر العمومات مقصور على البعض فيورث الشبهة في تناول الحكم لجميع الأفراد في العام سواء ظهر له مخصص أم لا، ويصير دليلا على احتمال الاقتصار على البعض فلا يكون قطعيا والمصنف توهم أن مراد الخصم أن التخصيص شائع في العام فيورث الشبهة في تناوله لجميع ما بقي بعد التخصيص كما هو المذهب في العام الذي خص منه البعض فلا يكون قطعيا، ولهذا قال لا نسلم أن التخصيص الذي يورث شبهة في العام شائع بلا قرينة، وقد عرفت أن المراد أن التخصيص أي: القصر على البعض شائع كثيرا في العموميات بالقرائن المخصصة فيورث شبهة البعضية في كل عام فيصير ظنيا في الجميع وحينئذ لا ينطبق الجواب المذكور عليه أصلا ولا يكون لقوله بلا قرينة معنى، ثم لا يخفى أن قوله، وإن كان المخصص هو الكلام، فإن كان متراخيا لا نسلم أنه مخصص لا يستقيم إلا أن يريد بالمخصص الأول ما أراده الخصم، وحينئذ لا فائدة في منع كونه مخصصا بالمعنى الآخر الأخص.(1/72)
إِلَى الصَّلاةِ} ونظائره دليل فيه شبهة وأما المخصوص بالكلام فعند الكرخي لا يبقى
ـــــــ
"وإذا ثبت هذا فإن تعارض الخاص والعام، فإن لم يعلم التاريخ حمل على المقارنة" مع أن في الواقع أحدهما ناسخ، والآخر منسوخ لكن لما جهلنا الناسخ والمنسوخ حملنا على المقارنة وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح. "فعند الشافعي رحمه الله يخص به، وعندنا يثبت حكم التعارض في قدر ما تناولاه وإن كان العام متأخرا ينسخ الخاص عندنا، وإن كان
................................................................................................
قوله: "وإذا ثبت هذا" أي: كون العام قطعيا عندنا خلافا للشافعي فإن تعارض الخاص والعام بأن يدل أحدهما على ثبوت حكم، والآخر على انتفائه، فإما أن يعلم تأخر أحدهما عن الآخر أو لا، فإن لم يعلم حمل على المقارنة، وإن جاز أن يكون أحدهما في الواقع ناسخا لتأخره متراخيا، والآخر منسوخا لتقدمه، وإنما قيدنا بالجواز لاحتمال أن يكون الخاص في الواقع موصولا بالعام فيكون مخصصا لا ناسخا، وإذا حمل على المقارنة فعند الشافعي يخص العام بالخاص في الواقع؛ لأنه ظني والخاص قطعي فلا يثبت حكم التعارض وعندنا يثبت حكم التعارض في القدر الذي تناوله الخاص، والعام جميعا لا في القدر الذي تفرد العام بتناوله فإن حكمه ثابت بلا معارض وسيجيء حكم تعارض النصين عند الجهل بالتاريخ مثال ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية وقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} على رأي علي رضي الله تعالى عنه فيثبت حكم التعارض في الحامل المتوفى عنها زوجها لا في الحامل المطلقة، إذ لا يتناولها الأول، ولا في غير الحامل المتوفى عنها زوجها، إذ لا يتناولها الثاني، فإن قيل: كل من الآيتين عام قلنا المراد بالخاص هاهنا الخاص بالنسبة إلى العام بأن يتناول بعض أفراده كلها سواء كان خاصا في نفسه أو عاما متناولا لشيء آخر فيكون العموم، والخصوص من وجه كما في المثال، أو غير متناول فيكون العموم والخصوص مطلقا كما في اقتلوا الكافرين ولا تقتلوا أهل الذمة، فإن علم التاريخ فالمتأخر إما العام وإما الخاص فعلى الأول العام ناسخ للخاص، وعلى الثاني الخاص مخصص للعام إن كان موصولا به وناسخ له في قدر ما تناولاه إن كان متراخيا عنه كما في الآيتين على رأي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} متراخ عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} فمن حيث إنه عام من وجه، وخاص من وجه يكون مثالا لتأخر العام عن الخاص وعكسه ويكون ناسخا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} في حق الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن قلت انتساخ الخاص بالعام المتأخر ينبغي أيضا أن يقيد بقدر ما تناولاه؛ لأن ذلك الخاص يجوز أن يتناول أفرادا لا يتناولها العام فلا ينسخ في حقها كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} في حق غير الحامل قلت هو من هذه الحيثية يكون عاما لا خاصا، وإنما يكون خاصا من حيث تناوله لبعض أفراد العام، فالخاص المتقدم ينسخ بالعام في حق كل ما تناوله من حيث إنه خاص فلا حاجة إلى التقييد وإنما يحتاج إلى ذلك إذا عبر عنه بالعام فإنه إنما يكون عاما من حيث تناوله للخاص المتأخر وغيره.
قوله: "حتى لا يكون" تفريع على جعل الخاص المتراخي ناسخا لا مخصصا يعني: يكون العام فيما لم يتناوله الخاص قطعيا لا ظنيا كما إذا كان الخاص المتأخر موصولا به على ما سيجيء(1/73)
الخاص متأخرا، فإن كان موصولا يخصه، فإن كان متراخيا ينسخه في ذلك القدر عندنا" أي: في القدر الذي تناوله العام، والخاص ولا يكون الخاص ناسخا للعام بالكلية، بل في ذلك القدر فقط "حتى لا يكون العام عاما مخصصا"، بل يكون قطعيا في الباقي لا كالعام الذي خص منه البعض.
"فصل: قصر العام على بعض ما تناوله لا يخلو من أن يكون بغير مستقل" أي: بكلام يتعلق بصدر الكلام ولا يكون تاما بنفسه، والمستقل ما لا يكون كذلك سواء كان كلاما أو لم يكن. "وهو" أي: غير المستقل. "الاستثناء والشرط والصفة والغاية" فالاستثناء يوجب قصر العام
................................................................................................
قوله: "فصل قصر العام على بعض ما تناوله" تخصيص عند الشافعية. وأما عند الحنفية ففيه تفصيل وهو أنه إما أن يكون بغير مستقل، أو بمستقل والأول ليس بتخصيص، بل إن كان بإلا وأخواتها فالاستثناء وإلا، فإن كان بإن وما يؤدي مؤداها فشرط وإلا، فإن كان بإلى وما يفيد معناها فغاية وإلا فصفة نحو في الغنم السائمة الزكاة أو غيرها، نحو جاءني القوم أكثرهم فعلم أنه لا ينحصر في الأربعة والثاني هو التخصيص سواء كان بدلالة اللفظ أو العقل أو الحس أو العادة أو نقصان بعض الأفراد أو زيادته، وفسر غير المستقل بكلام يتعلق بصدر الكلام ولا يكون تاما بنفسه لا يقال إنه غير شامل للشرط المتقدم على الجزاء، والاستثناء المتقدم على المستثنى منه، نحو إن دخلت الدار فأنت طالق، وما جاءني إلا زيدا أحد لتعلقهما بآخر الكلام لا بصدره ولا للوصف بالجمل، نحو لا تكرم رجلا أبوه جاهل، والاستثناء بمثل ليس زيدا ولا يكون زيدا؛ لأنه كلام تام؛ لأنا نقول المراد بصدر الكلام ما هو متقدم في الاعتبار سواء قدم في الذكر أو أخر، ولا يخفى أنه لا بد من اعتبار الشيء أولا، ثم إخراج البعض منه أو تعليقه وقصره على بعض التقادير، والمراد بالكلام الغير التام ما لا يفيد المعنى لو ذكر منفردا، والجمل الوصفية والاستثناء بمثل ليس زيدا ولا يكون زيدا كذلك لاحتياجها إلى مرجع الضمير، فإن قلت لا معنى للقصر إلا ثبوت الحكم للبعض، ونفيه عن البعض، وهذا قول بمفهوم الصفة والشرط وهو خلاف المذهب قلت، بل المراد هاهنا يدل على الحكم في البعض ولا يدل في البعض الآخر لا نفيا ولا إثباتا حتى لو ثبت بدليل آخر ولو انعدم انعدم بالعدم الأصلي، وبهذا يخرج الجواب عن إشكال آخر، وهو أن كون الشرط للقصر على بعض التقادير إنما هو مذهب الشافعي وعند أبي حنيفة رحمهما الله تعالى مجموع الشرط والجزاء كلام واحد موجب للحكم على تقدير، وساكت عن سائر التقادير حتى إن مجرد الجزاء بمنزلة أنت من أنت طالق ليس هو مفيدا للحكم على جميع التقادير، والشرط تعليقا وقصرا له على البعض كما هو مذهب الشافعي وجواب آخر وهو أنه لولا الشرط لأفاد الكلام الحكم على جميع التقادير فحين علق بالشرط لم يفد ذلك فكأنه قصره على البعض، وكذا الكلام في الاستثناء على ما سيجيء، فإن قيل جعل المستقل هاهنا مخصصا من غير فرق بين المتراخي وغيره، وقد سبق أن المتراخي نسخ لا تخصيص قلنا التخصيص قد يطلق على ما يتناول النسخ فلا يقيد بعدم التراخي ولهذا يقال النسخ تخصيص، وقد يطلق على ما يقابله، وهو المقيد بعدم التراخي.
والقول بأن التخصيص لا يطلق إلا على غير المتراخي يوجب بطلان كلام القوم في كثير من(1/74)
على بعض أفراده، والشرط يوجب قصر صدر الكلام على بعض التقادير، نحو أنت طالق إن دخلت الدار، والصفة توجب القصر على ما يوجد فيه الصفة، نحو: في الإبل السائمة زكاة، والغاية توجب القصر على البعض الذي جعل الغاية حدا له، نحو قوله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ونحو: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}.
................................................................................................
المواضع، مثل تخصيص الكتاب بالسنة والإجماع وتخصيص بعض الآيات بالبعض مع التراخي.
قوله: "وأما الحس" فيه تسامح؛ لأن المدرك بالحس هو أن له كذا وكذا. وأما أنه ليس له غير ذلك فإنما هو بالعقل لا غير، وفي التمثيل بقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} رد على من زعم أن التخصيص لا يجري في الخبر كالنسخ.
قوله: "وأما العادة" فلو حلف لا يأكل رأسا فالرأس، وإن كان مستعملا عرفا في رأس كل حيوان إلا أنه معلوم عادة أنه غير مراد، إذ لا يدخل فيه عادة رأس العصفور والجراد فيخص بما يكون متعارفا بأن يكبس في التنانير ويباع مشويا وباعتبار اختلاف العادات بحسب الأزمنة والأمكنة خصه أبو حنيفة رحمه الله تعالى أولا برأس البقر والغنم والإبل، وثانيا برأس البقر والغنم وهما برأس الغنم خاصة.
قوله: "ويسمى مشككا" يعني: اللفظ الموضوع لمعنى لا يستوي فيه جميع أفراده، بل تختلف بالشدة والضعف كالمملوك في القن والمكاتب أو بالأولوية أو بالتقدم، والتأخر كالوجود في الواجب والممكن يسمى مشككا؛ لأنه يشك الناظر أنه من قبيل المشترك أو المتواطئ أعني: ما وضع لمعنى واحد يستوي فيه الأفراد فلو قال كل مملوك لي فهو حر لا يدخل فيه المكاتب لنقصان الملك فيه؛ لأنه يملك رقبة لا يدا حتى يكون أحق بمكاسبه، ولا يملك المولى استكسابه ولا وطء المكاتبة بخلاف المدبر وأم الولد، فإن قيل فكيف تتأدى الكفارة بالمكاتب دون المدبر وأم الولد قلنا؛ لأن ذلك باعتبار الرق وهو في المكاتب كامل؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم والكتابة محتملة للفسخ واشتراط الملك إنما هو بقدر ما يصح به التحرير وهو حاصل بخلاف المدبر وأم الولد فإن الرق فيهما ناقص؛ لأن ما ثبت فيهما من جهة العتق لا يحتمل الفسخ ولو حلف لا يأكل فاكهة، ولا نية له لم يحنث بأكل العنب والرطب والرمان وعند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن كلا منها، وإن كان فاكهة لغة وعرفا إلا أن فيه معنى زائدا على التفكه أي: التلذذ والتنعم وهو الغذائية وقوام البدن به فبهذه الزيادة يخص عن مطلق الفاكهة.
قوله: "ففي غير المستقل" اختلفوا في العام الذي أخرج منه البعض، هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز؟ فالجمهور على أنه مجاز، وقالت الحنابلة حقيقة، وقال أبو بكر الرازي حقيقة إن كان الباقي غير منحصر أي: له كثرة يعسر العلم بقدرها وإلا فمجاز، وقال أبو الحسين البصري حقيقة إن كان بغير مستقل من شرط، أو صفة أو استثناء، أو غاية، ومجاز إن كان بمستقل من عقل، أو سمع، وقال القاضي أبو بكر حقيقة إن كان بشرط أو استثناء لا صفة وغيرها، وقال القاضي عبد الجبار حقيقة إن كان بشرط أو صفة لا استثناء وغيره، وقيل حقيقة إن كان بدليل لفظي اتصل أو انفصل، وقال إمام الحرمين: حقيقة في تناوله، مجاز في الاقتصار عليه واختار المصنف أن إخراج البعض إن(1/75)
"أو بمستقل وهو" أي: القصر بمستقل "التخصيص وهو إما بالكلام أو غيره وهو إما العقل" الضمير يرجع إلى غيره. "نحو: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} يعلم ضرورة أن الله تعالى مخصوص منه، وتخصيص الصبي والمجنون من خطابات الشرع من هذا القبيل. وأما الحس نحو: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وأما العادة نحو لا يأكل رأسا يقع على المتعارف وأما كون بعض الأفراد ناقصا فيكون اللفظ أولى بالبعض الآخر، نحو كل مملوك لي حر لا يقع على المكاتب ويسمى مشككا أو زائدا" عطف على قوله ناقصا أي: وأما كون بعض أفراده زائدة. "كالفاكهة لا تقع على العنب ففي غير المستقل" أي: فيما إذا كان الشيء الموجب لقصر العام غير مستقل "وهو" أي: العام "حقيقة في الباقي"؛ لأن الواضع وضع اللفظ الذي استثنى منه للباقي. "وهو" أي: العام. "حجة بلا شبهة فيه" أي: في الباقي، وهذا إذا كان الاستثناء معلوما. أما إذا كان مجهولا فلا "وفي المستقبل كلاما أو غيره" أي: فيما إذا كان القاصر مستقلا ويسمى هذا تخصيصا سواء كان المخصص كلاما أو غيره
................................................................................................
كان بغير مستقل فصيغة العام حقيقة في الباقي، وإن كان بمستقل فهي في الباقي مجاز من حيث الاقتصار عليه حقيقة من حيث التناول له. أما الأول فلأن اللفظ الذي أخرج منه البعض باستثناء أو صفة أو شرط أو غاية موضوع للباقي مثلا إذا قال عبيده أحرار إلا سالما فالعبيد المخرج منهم سالم موضوع للباقي، وفيه نظر؛ لأنه إن أراد الوضع الشخصي بمعنى أنه وضع هذا اللفظ للمجموع عند الإطلاق وللباقي عند اقترابه بالاستثناء ونحوه فهو ممنوع وإلا لكان مشتركا وسيجيء في فصل الاستثناء أن المستثنى منه متناول للمجموع، وإنما الاستثناء يمنع دخول المستثنى في الحكم، وإن أراد الوضع النوعي بمعنى أنه ثبت من الواضع أنه إذا قرن اللفظ بالاستثناء ونحوه يكون معناه الباقي فاللفظ لا يصير بهذا حقيقة؛ لأن المجاز أيضا كذلك على ما سيجيء، وقد صرح في بحث الاستثناء بأن الذاهبين إلى المستثنى منه مستعمل في الباقي والاستثناء قرينة على ذلك قائلون بأنه مجاز فيه هذا.
ولننبهك على فائدة جليلة وهي أن الوضع النوعي قد يكون بثبوت قاعدة دالة على أن كل لفظ يكون بكيفية كذا فهو متعين للدلالة بنفسه على معنى مخصوص يفهم منه بواسطة تعينه له، مثل الحكم بأن كل اسم آخره ألف أو باء مفتوحة ما قبلها ونون مكسورة فهو لفردين من مدلول ما ألحق بآخره هذه العلامة وكل اسم غير إلى نحو رجال ومسلمين ومسلمات فهو لجمع من مسميات ذلك الاسم، وكل جمع عرف باللام فهو لجميع تلك المسميات إلى غير ذلك، ومثل هذا من باب الحقيقة بمنزلة الموضوعات الشخصية بأعيانها، بل أكثر الحقائق من هذا القبيل كالمثنى المجموع والمصغر والمنسوب وعامة الأفعال والمشتقات، والمركبات وبالجملة كل ما يكون دلالته على المعنى بالهيئة من هذا القبيل، وقد يكون بثبوت قاعدة دالة على أن كل لفظ معين للدلالة بنفسه على معنى فهو عند القرينة المانعة عن إرادة ذلك المعنى متعين لما يتعلق بذلك المعنى تعلقا مخصوصا، ودال عليه بمعنى أنه يفهم منه بواسطة القرينة لا بواسطة هذا التعيين حتى لو لم يثبت من الواضع جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي لكانت دلالته عليه، وفهمه منه عند قيام القرينة بحالها، ومثله مجاز؛(1/76)
"مجاز" أي: لفظ العام مجاز في الباقي. "بطريق اسم الكل على البعض من حيث القصر" أي: من حيث إنه مقصور على الباقي. "حقيقة من حيث التناول" أي: من حيث إن لفظ العام متناول للباقي يكون حقيقة فيه. "على ما يأتي في فصل المجاز إن شاء الله تعالى وهو حجة فيه شبهة، ولم يفرقوا بين كونه" أي: التخصيص "بالكلام أو غيره" فإن العلماء قالوا كل عام خص بمستقل فإنه دليل فيه شبهة، ولم يفرقوا في هذا الحكم بين أن يكون المخصص كلاما أو غيره. "لكن يجب هناك فرق وهو أن المخصوص بالعقل ينبغي أن يكون قطعيا؛ لأنه في حكم الاستثناء لكنه حذف الاستثناء معتمدا على العقل على أنه مفروغ عنه حتى لا نقول أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] ونظائره دليل فيه شبهة"، وهذا فرق تفردت بذكره وهو واجب الذكر حتى لا يتوهم أن خطابات الشرع التي خص منها الصبي والمجنون بالعقل دليل فيه شبهة كالخطابات الواردة بالفرائض فإنه يكفر جاحدها إجماعا مع كونها مخصوصة عقلا، فإن التخصيص بالعقل لا يورث شبهة فإن. "كل ما يوجب العقل تخصيصه يخص وما لا فلا.
................................................................................................
لتجاوزه المعنى الأصلي، فالوضع عند الإطلاق يراد به تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه سواء كان ذلك التعيين بأن يفرد اللفظ بعينه بالتعيين أو بدرج في القاعدة الدالة على التعيين، وهو المراد بالوضع المأخوذ في تعريف الحقيقة والمجاز، ويشمل الوضع الشخصي والقسم الأول من النوعين فلفظ الأسود في مثل قولنا ركبت الأسود من حيث قصد به الشجعان مستعمل في غير ما وضع له، ومن حيث قصد به العموم مستعمل فيما وضع له فليتدبر. وأما الثاني؛ فلأنه موضوع للكل فإذا أخرج منه البعض بقي مستعملا في الباقي، وهو غير الموضوع له فيكون مجازا من حيث الاقتصار على البعض إلا أنه يتناول الباقي كما كان يتناوله قبل التخصيص ولم يتغير التناول، وإنما طرأ عدم إرادة البعض، وهو لا يوجب تغير صفة التناول للباقي فيكون حقيقة من هذه الحيثية وسيجيء في فصل المجاز أن اللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد يكون حقيقة أو مجازا باعتبار حيثيتين، وفيه نظر؛ لأن ذلك إنما هو باعتبار وضعين. وأما بحسب وضع واحد فذلك المعنى، إما نفس الموضوع له فيكون اللفظ حقيقة أو غيره فيكون مجازا نعم لو كانت صيغة العموم موضوعة للكل، والبعض بالاشتراك لكانت عند استعمالها في الباقي مجازا من حيث الوضع للكل، وحقيقة من حيث الوضع للبعض إلا أن التقدير أنها موضوعة للاستغراق خاصة لا يقال مراده أن هذا النوع من المجاز أعني: إطلاق الكل على البعض حقيقة قاصرة على ما هو مصطلح فخر الإسلام رحمه الله تعالى؛ لأنا نقول الحقيقة بهذا المعنى لا يقابل مطلق المجاز ولا إشارة إليه في فصل المجاز على ما وعده المصنف.
وقد يجاب بأن الباقي ليس نفس الموضوع له إلا أن اللفظ إنما يكون مجازا فيه إذا كانت إرادته باستعمال ثان، وليس كذلك، بل بالاستعمال الأول، وإنما طرأ عليه عدم إرادة البعض، وهو لا يوجب التغيير في الاستعمال فكما أن تناول العبيد لغير سالم ليس بطريق المجاز عند عدم إخراجه فكذا عند إخراجه وعلى هذا يكون المقصور على البعض بغير المستقل أيضا حقيقة في الكل بحسب التناول، وإن أخرج البعض عن الدخول في الحكم على ما اختاره في فصل الاستثناء، فإن(1/77)
وأما المخصوص بالكلام فعند الكرخي لا يبقى حجة أصلا معلوما كان المخصوص كالمستأمن" حيث خص من قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] بقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة:6]. "أو مجهولا كالربا" حيث خص من قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] "لأنه إن كان مجهولا صار الباقي مجهولا؛ لأن التخصيص كالاستثناء إذ هو يبين أنه لم يدخل" أي: التخصيص يبين أن المخصوص لم يدخل تحت العام كالاستثناء فإنه يبين أن المستثنى لم يدخل في صدر الكلام، والاستثناء إن كان مجهولا يكون الباقي في صدر الكلام مجهولا ولا يثبت به الحكم. "وإن كان معلوما فالظاهر أن يكون معللا؛ لأنه كلام مستقل" والأصل في النصوص التعليل. "ولا يدرى كم يخرج بالتعليل فيبقى الباقي مجهولا، وعند البعض إن كان معلوما بقي العام فيما وراء المخصوص كما كان؛ لأنه كالاستثناء" في أنه يبين أنه لم يدخل "فلا يقبل التعليل" إذ الاستثناء لا يقبل التعليل؛ لأنه غير مستقل بنفسه، وفي صورة الاستثناء العام حجة في الباقي كما كان فكذا التخصيص. "وإن كان مجهولا لا يبقى العام حجة لما قلنا" إن التخصيص كالاستثناء
................................................................................................
قيل: فما وجه فرق المصنف هاهنا بين المستقل وغيره قلنا لما كان بغير المستقل صيغ مخصوصة مضبوطة أمكن أن يقال إن اللفظ موضوع للباقي عند انضمامه إلى إحدى تلك الصيغ بخلاف المستقل فإنه غير محصور، فلا ينضبط باعتبار الوضع، وفيه نظر لانتقاضه بالصفة، والمنقول عن إمام الحرمين في تحقيق كونه حقيقة في التناول أن العام بمنزلة تكرير الآحاد المتعددة على ما نقل عن أهل العربية أن معنى الرجال فلان فلان فلان إلى أن يستوعب إنما وضع الرجال اختصارا لذلك لا شك أن في تكرير الآحاد إذا بطل إرادة البعض لم يصر الباقي مجازا فكذا هاهنا وأجيب بأنا لا نسلم أنه كتكرير الآحاد، بل هو موضوع للكل فبإخراج البعض يصير مستعملا في غير ما وضع له فيكون مجازا بخلاف المتكرر فإن كل واحد موضوع لمعناه فبإخراج البعض لا يصير الباقي مستعملا في غير معناه، ومقصود أهل العربية بيان الحكمة في وضعه لا أنه مثل المتكرر بعينه، وذكر شمس الأئمة أن حقيقة صيغة العموم للكل ومع ذلك فهي حقيقة فيما وراء المخصوص؛ لأنها إنما تتناوله من حيث إنه كل لا بعض كالاستثناء يصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى بطريق أنه كل لا بعض حتى لو كان الباقي دون الثلث فهو كل أيضا، وإن كان أيضا بصيغة العموم نظرا إلى احتمال أن يكون أكثر فلو قال: مماليكي أحرار إلا فلانا وفلانا ولا مملوك له سواهما كان الاستثناء صحيحا لاحتمال أن يكون المستثنى بعضا إذا كان سواهما بخلاف ما لو قال: مماليكي أحرار إلا مماليكي.
قوله: "أي: لفظ العام مجاز" كان الأحسن أن يقول أي: لفظ العام بالوصف دون الإضافة، إذ الكلام في صيغ العموم لا في لفظ العام على ما يشعر به كلام من قال إن هذا الاختلاف مبني على الاختلاف في اشتراط الاستغراق، فإن اشترط كان إطلاق لفظ العام على ما أخرج منه البعض مجازا باعتبار أنه عام لولا الإخراج، وإن اكتفى بانتظام جمع من المسميات فهو حقيقة حتى ينتهي التخصيص إلى ما دون الثلاث.(1/78)
والاستثناء المجهول يجعل الباقي مجهولا فلا يبقى العام حجة في الباقي. "وعند البعض إن كان معلوما فكما ذكرنا آنفا" إن العام يبقى فيما وراء المخصوص كما كان. "وإن كان مجهولا يسقط المخصص؛ لأنه كلام مستقل بخلاف الاستثناء" ولما كان المخصص كلاما مستقلا وكان معناه مجهولا يسقط هو بنفسه ولا تتعدى جهالته إلى صدر الكلام بخلاف الاستثناء؛ لأنه غير مستقل بنفسه، بل يتعلق بصدر الكلام فجهالته تتعدى إلى صدر الكلام. "وعندنا تمكن فيه شبهة؛ لأنه علم أنه غير محمول على ظاهره" وهو إرادة الكل فعلم أن المراد البعض بطريق المجاز مثلا إذا كان كل أفراده مائة، وعلم أن المائة غير مرادة فكل واحد من الأعداد التي دون المائة مساو في أن اللفظ مجاز فيه فلا يثبت عدد معين منها؛ لأنه ترجيح من غير مرجح ثم ذكر ثمرة تمكن الشبهة فيه بقوله. "فيصير عندنا كالعام الذي لم يخص عند الشافعي رحمه الله تعالى حتى يخصصه خبر الواحد والقياس" ثم أراد أن يبين أن مع وجود هذه الشبهة لا يسقط الاحتجاج به فقال "لكن لا يسقط الاحتجاج به؛ لأن المخصص يشبه الناسخ بصيغة، والاستثناء بحكمه كما قلنا، فإن كان مجهولا يسقط في نفسه للشبه الأول، ويوجب جهالة في العام للشبه الثاني فيدخل الشك في سقوط العام فلا يسقط به" أي: بالشك
................................................................................................
قوله: "وهو حجة" تقرير كلامه أن العام المقصور على البعض لا يخلو من أن يكون مقصورا على البعض بغير مستقل أو بمستقل فعلى الأول إن كان المخصص المخرج معلوما فهو حجة بلا شبهة كما كان قبل القصر على البعض لعدم مورث الشبهة؛ لأنه إما جهالة المخرج أو احتماله التعليل، وغير المستقل لا يحتمل التعليل، وإن كان مجهولا كما إذا قال عبيده أحرار إلا بعضا أورث ذلك جهالة في الباقي فلم تصلح حجة إلى أن يتبين المراد وعلى الثاني إما أن يكون المخصص عقلا أو كلاما أو غيرهما. فإن كان المخصص هو العقل كان العام قطعيا في الباقي لعدم مورث الشبهة؛ لأن ما يقتضي العقل إخراجه فهو مخرج وغيره باق على ما كان كما في الاستثناء، وفيه نظر؛ لأن العقل قد يقتضي إخراج بعض مجهول بأن يكون الحكم مما يمتنع على الكل دون البعض، مثل الرجال في الدار فالأولى أن يفصل كالاستثناء ويجعل قطعيا إذا كان المخصوص معلوما كما في الخطابات التي خص منها الصبي والمجنون لا يقال يجوز أن يكون قطعيتها بواسطة الإجماع؛ لأنا نقول كان قطعيا قبل أن يتحقق الاجتهاد والإجماع، وإن كان المخصص غير العقل والكلام فلم يتعرض له المصنف والظاهر أنه لا يبقى قطعيا لاختلاف العادات، وخفاء الزيادة، والنقصان وعدم اطلاع الحس على تفاصيل الأشياء اللهم إلا أن يعلم القدر المخصوص قطعا، وإن كان المخصص هو الكلام ففالعام فيه اختلاف فعند الكرخي لا يبقى حجة أصلا، وعند البعض إن كان المخصوص معلوما قطعي في الباقي، وإن كان مجهولا يسقط المخصص، ويبقى العام على ما كان والمختار أن العام بعد التخصيص دليل تمكن فيه الشبهة معلوما كان المخصص أو مجهولا والتمسكات مشروحة في الكتاب.
قوله: "وإن كان مجهولا يسقط المخصص" ويبقى العام حجة فيما تناوله كما كان؛ لأن المجهول لا يصلح دليلا فلا يصلح معارضا للدليل فيبقى حكم العام على ما كان ولا يتعدى جهالة(1/79)
حجة أصلا معلوما كان المخصوص كالمستأمن أو مجهولا كالربا لأنه إن كان مجهولا صار الباقي مجهولا ; لأن التخصيص كالاستثناء إذ هو يبين أنه لم يدخل وإن كان
ـــــــ
إذ قبل التخصيص كان معمولا به فلما خص دخل الشك في أنه هل بقي معمولا به أم بطل فلا يبطل بالشك.
"وإن كان" أي: المخصص. "معلوما فللشبه الأول يصح تعليله" لا يريد بقوله فللشبه الأول أنه من حيث إنه يشابه الناسخ يصح تعليله كما يصح أن يعلل الناسخ الذي ينسخ بعض أفراد العام لينسخ بالقياس بعضا آخر من أفراد العام فإن تعليل الناسخ على هذا الوجه لا يصح على ما يأتي في هذه الصفحة، بل يريد أنه من حيث إنه نص مستقل بنفسه يصح تعليله. "كما هو عندنا" فإن عندنا وعند أكثر العلماء يصح تعليله خلافا للجبائي وإذا صح تعليله لا يدرى أنه كم يخرج بالتعليل أي: بالقياس وكم يبقى تحت العلم. "فيوجب جهالة فيما بقي تحت العام، وللشبه الثاني لا يصح تعليله كما هو عند البعض فدخل الشك في سقوط العام فلا سقط به" أي: الشبه الثاني هو شبه الاستثناء من حيث إن المخصص يبين أن
................................................................................................
المخصص إليه لكون المخصص مستقلا بخلاف الاستثناء؛ فإنه بمنزلة وصف قائم بصدر الكلام لا يفيد بدونه شيئا حتى إن مجموع الاستثناء، وصدر الكلام بمنزلة كلام واحد، فجهالته توجب جهالة المستثنى منه، فيصير مجهولا مجملا متوقفا على البيان.
قوله: "وعندنا تمكن فيه شبهة" أي: العام الذي خص منه البعض دليل فيه شبهة حتى لا يكون موجبا قطعا ويقينا. أما كونه حجة فلاحتجاج السلف من الصحابة وغيرهم المخصوص منها البعض شائعا زائعا من غير نكير فكان إجماعا. وأما تمكن الشبهة فلأنه إذا أخرج منه البعض لم يبق مستعملا في الكل، بل فيما دونه مجازا، وما دون الكل أفراد متعددة متساوية في كون اللفظ مجازا فيها من غير رجحان فلا يثبت بعض منها؛ لأنه ترجيح من غير مرجح، وفيه نظر. أما أولا فلأن ما ذكر إنما يصح في المخصوص المجهول أما في المعلوم فعدم الرجحان ممنوع، بل مجموع ما وراء المخصوص متعين مثلا إذا أخرج من المائة عشرة تعين التسعون، وإذا أخرج عشرون تعين الثمانون، وإذا أخرج من المشركين أهل الذمة تعين غيرهم. وأما ثانيا فلأن الدليل المذكور على تقدير تمامه لا يدل على تمكن الشبهة، بل يدل على أن لا يبقى العام حجة أصلا ويصير مجملا موقوفا على البيان، وغاية توجيهه أن المراد أنه لا يثبت عدد معين منها على سبيل القطع، بل إن كان المخصوص مجهولا لا يترجح شيء منها، وإن كان معلوما يترجح مجموع ما وراء المخصوص لكن ظنا لا قطعا لاحتمال خروج بعض آخر بالتعليل فعلى هذا يكون قوله "لأنه ترجيح من غير مرجح" مختصا بصورة المجهول.
قوله: "حتى يخصصه" يعني: لما لم يبق العام بعد التخصيص قطعيا جاز في العام بعد التخصيص من الكتاب، والمتواتر من الحديث معلوما كان المخصوص أو مجهولا أن يخصص بخبر(1/80)
معلوما فالظاهر أن يكون معللا ; لأنه كلام مستقل ولا يدرى كم يخرج بالتعليل فيبقى الباقي مجهولا وعند البعض إن كان معلوما بقي العام فيما وراء المخصوص كما كان ; لأنه كالاستثناء فلا يقبل التعليل وإن كان مجهولا لا يبقى العام حجة لما قلنا وعند البعض إن كان معلوما فكما ذكرنا آنفا وإن كان مجهولا يسقط المخصص ; لأنه كلام
ـــــــ
المخصص غير داخل في العام؛ فلهذا الشبه لا يصح تعليله كما هو مذهب الجبائي كما لا يصح تعليل المستثنى وإخراج البعض الآخر بطريق القياس فمن حيث إنه يصح تعليله يصير الباقي تحت العام مجهولا فلا يبقى العام حجة، ومن حيث إنه لا يصح تعليله يبقى العام حجة، وقد كان قبل التخصيص حجة فوقع الشك في بطلانه فلا يبطل بالشك هذا ما قالوا، ويرد عليه أنه لما كان المذهب عندكم، وعند أكثر العلماء صحة تعليل فيجب أن يبطل العام عندكم بناء على زعمكم في صحة تعليله، ولا تمسك لكم بزعم الجبائي أن عنده لا يصح تعليله فلدفع هذه الشبهة قال: "على أن احتمال التعليل لا يخرجه من أن يكون حجة؛ لأن مقتضى القياس تخصيصه يخص وما لا فلا" فإن المخصص إن لم يدرك فيه علة لا يعلل فيبقى العام في الباقي حجة، وإن عرف فيه علة فكل ما توجد العلة فيه يخص قياسا وما لا فلا فلا يبطل العام باحتمال التعليل "فظهر هنا الفرق بين التخصيص والنسخ" أي: لما ذكرنا أن تعليل المخصص صحيح ظهر من هذا الحكم الفرق بين المخصص والناسخ، فإنه لا يصح تعليل الناسخ الذي ينسخ الحكم في بعض أفراد العام ليثبت النسخ في بعض آخر قياسا صورته أن يرد نص خاص حكمه مخالف لحكم العام، ويكون وروده متراخيا عن ورود العام فإنا نجعله ناسخا لا مخصصا على ما سبق. "فإن العام الذي نسخ بعض ما تناوله لا ينسخ بالقياس؛ لأن القياس لا ينسخ النص إذ هو لا يعارضه؛ لأنه دونه لكن يخصصه، ولا يلزم به المعارضة؛ لأنه يبين أنه لم يدخل وهنا مسائل من الفروع تناسب ما ذكرنا" من الاستثناء والنسخ والتخصيص.
"فنظير الاستثناء ما إذا باع الحر والعبد بثمن أو باع عبدين إلا هذا بحصته من الألف
................................................................................................
الواحد والقياس إجماعا ويعلم من جواز تخصيصه بالقياس أنه دون خبر الواحد في الدرجة؛ لأن القياس لا يصلح معارضا لخبر الواحد حتى رجحوا خبر القهقهة على القياس وكذا خبر الأكل ناسيا في الصوم، وذلك؛ لأن ثبوت الحكم فيما وراء المخصوص إنما هو مع شك في أصله، واحتمال فيجوز أن يعارضه القياس بخلاف خبر الواحد، فإنه لا شك في أصله، وإنما الاحتمال في طريقه باعتبار توهم غلط الراوي أو ميله عن الصدق إلى الكذب فلا يصلح القياس معارضا له، وقد يستدل بجواز تخصيص هذا العام بالقياس على أن المخصص لا يجب أن يكون مقارنا للقطع بتراخي القياس عن الكتاب وليس بسديد؛ لأن القياس مظهر لا مثبت، فالمخصص بالحقيقة هو النص المثبت للحكم في الأصل ولا يعلم تراخيه بطريق القطع.(1/81)
مستقل بخلاف الاستثناء وعندنا تمكن فيه شبهة ; لأنه علم أنه غير محمول على ظاهره فيصير عندنا كالعام الذي لم يخص عند الشافعي رحمه الله تعالى حتى يخصصه خبر الواحد والقياس لكن لا يسقط الاحتجاج به ; لأن المخصص يشبه الناسخ بصيغة، والاستثناء بحكمه كما
ـــــــ
يبطل البيع؛ لأن أحدهما لم يدخل في البيع فصار البيع بالحصة ابتداء؛ ولأن ما ليس بمبيع يصير شرطا لقبول المبيع فيفسد بالشرط الفاسد" ففي المسألة الأولى ليست حقيقة الاستثناء موجودة لكنها تناسب الاستثناء في أن الاستثناء يمنع دخول المستثنى في حكم صدر الكلام، وفي هذه المسألة لم يدخل الحر تحت الإيجاب مع أن صدر الكلام تناوله فصار كأنه مستثنى، وفي المسألة الثانية وهي ما إذا باع عبدين إلا هذا حقيقة الاستثناء موجودة فإذا لم يدخل أحدهما في البيع لا يصح البيع في الآخر لوجهين: أحدهما: أنه يصير البيع في الآخر بحصته من الثمن المقابل بهما والبيع بالحصة ابتداء باطل للجهالة، وإنما قلنا ابتداء؛ لأن البيع بالحصة بقاء صحيح كما يأتي في المسألة التي هي نظير النسخ. والثاني: أن البيع في الآخر بيع بشرط مخالف لمقتضى العقد وهو أن قبول ما ليس بمبيع وهو الحر أو العبد المستثنى يصير شرطا لقبول المبيع. "ونظير النسخ ما إذا باع عبدين بألف فمات أحدهما قبل التسليم يبقى العقد في الباقي بحصته" "فهذه المسألة تناسب النسخ" من حيث إن العبد الذي مات قبل التسليم كان داخلا تحت البيع لكن لما مات في يد البائع قبل التسليم انفسخ البيع فيه فصار كالنسخ لأن النسخ تبديل بعد الثبوت فلا يفسد البيع في العبد الآخر مع أنه يصير
................................................................................................
قوله: "لكن لا يسقط الاحتجاج به؛ لأن المخصص يشبه الناسخ بصيغته"؛ لأنه كلام مبتدأ مفهوم بنفسه مفيد للحكم، وإن لم يتقدمه العام، ويشبه الاستثناء بحكمه؛ لأن حكمه بيان إثبات الحكم فيما وراء المخصوص، وعدم دخول المخصوص تحت حكم العام لا رفع الحكم عن محل المخصوص بعد ثبوته، فهو مستقل من وجه دون وجه. والأصل فيما يتردد بين الشبهين أن يعتبر بهما ويوفي حظا من كل منهما ولا يبطل أحدهما بالكلية، فالمخصص إن كان مجهولا أي: متناولا لما هو مجهول عند السامع فمن جهة استقلاله يسقط هو بنفسه، ولا تتعدى جهالته إلى العام كالناسخ المجهول، ومن جهة عدم استقلاله يوجب جهالة العام، وسقوط الاحتجاج به لتعدي جهالته إليه كما في الاستثناء المجهول، فوقع الشك في سقوط العام، وقد كان ثابتا بيقين فلا يزول بالشك، بل يتمكن فيه شبهة جهالة تورث زوال اليقين فيوجب العمل دون العلم، وإن كان معلوما فمن جهة استقلاله يصح تعليله كما هو الأصل في النصوص المستقلة فيوجب جهالة فيما بقي تحت العام، إذ لا يدرى أنه كم خرج بالقياس فينبغي أن تسقط العام، ومن جهة عدم استقلاله لا يصح تعليله على ما هو مذهب الجبائي كما لا يصح تعليل الاستثناء؛ لأنه ليس نصا مستقلا، بل بمنزلة وصف قائم بصدر الكلام دال على عدم دخول المستثنى في حكم المستثنى منه، والعدم لا يعلل فيكون ما وراء المخصوص معلوما فيجب أن يبقى العام بحاله، فوقع الشك في عدم حجية العام فلا نبطل حجيته الثابتة بيقين، بل يتمكن فيه ضرب شبهة لكونه ثابتا من وجه دون وجه فيوجب العمل دون العلم فالحاصل أن المخصص(1/82)
قلنا، فإن كان مجهولا يسقط في نفسه للشبه الأول، ويوجب جهالة في العام للشبه الثاني فيدخل الشك في سقوط العام فلا يسقط به وإن كان معلوما فللشبه الأول يصح تعليله كما هو عندنا فيوجب جهالة فيما بقي تحت العام، وللشبه الثاني لا يصح تعليله كما هو عند البعض فدخل الشك في سقوط العام فلا يسقط به على أن احتمال التعليل لا
ـــــــ
بيعا بالحصة لكن في حالة البقاء، وأنه غير مفسد؛ لأن الجهالة الطارئة لا تفسد. "ونظير التخصيص ما إذا باع عبدين بألف على أنه بالخيار في أحدهما صح إن علم محل الخيار وثمنه؛ لأن المبيع بالخيار يدخل في الإيجاب لا في الحكم فصار في السبب كالنسخ، وفي الحكم كالاستثناء فإذا جهل أحدهما لا يصح لشبه الاستثناء، وإذا علم كل واحد منهما يصح لشبه النسخ ولم يعتبر هنا شبه الاستثناء حتى يفسد بالشرط الفاسد بخلاف الحر والعبد إذا بين حصة كل واحد منهما عند أبي حنيفة" رحمه الله تعالى وبيان مناسبتها التخصيص أن التخصيص يشابه النسخ بصيغته، والاستثناء بحكمه، وهنا العبد الذي فيه الخيار داخل في الإيجاب لا الحكم على ما عرف فمن حيث إنه داخل في الإيجاب يكون رده بخيار الشرط تبديلا فيكون كالنسخ ومن حيث إنه غير داخل في الحكم يكون رده بخيار الشرط بيان أنه لم يدخل فيكون كالاستثناء وإذا كان له شبهان يكون كالتخصيص الذي له شبه بالنسخ وشبه بالاستثناء فلرعاية الشبهين قلنا إن علم محل الخيار وثمنه يصح البيع، وإلا فلا، وهذه المسألة على أربعة أوجه: أحدها: أن يكون محل الخيار وثمنه معلومين كما
................................................................................................
المجهول باعتبار الصيغة لا يبطل العام باعتبار الحكم يبطله، والمعلوم بالعكس فيقع الشك في بطلانه والشك لا يرفع أصل اليقين، بل وصفه.
قوله: "لا يريد بقوله" لما كان معنى سقوط المخصص المجهول للشبه الأول أنه لشبهه بالناسخ فسقط كما سقط الناسخ المجهول، ومعنى إيجابه جهالة العام للشبه الثاني أنه لشبهة بالاستثناء يوجب ذلك كما يوجبه الاستثناء، ومعنى عدم صحة تعليل المخصص المعلوم للشبه الثاني أنه لشبهه بالاستثناء لا يصح تعليله كما لا يصح تعليل الاستثناء كان السابق إلى الوهم من قوله فللشبه الأول يصح تعليله أنه لشبهه بالناسخ يصح تعليله كما يصح تعليل الناسخ فدفع ذلك الوهم بأن الناسخ لا يصح تعليله لما يلزم من نسخ النص بالقياس على ما سيأتي. فإن قيل فيجب أن يصح تعليل المخصص أصلا؛ لأن كلا شبهيه يقتضيان عدم التعليل قلنا شبهه بالناسخ وهو الاستقلال يقتضي صحة التعليل إلا أنه لم يصح في الناسخ لمانع وهو صيرورة القياس معارضا للنص، ولا مانع في المخصص فيصح تعليله لشبهه بالناسخ أي: لاستقلاله.
قوله: "على أن احتمال التعليل" يصلح فعلا للشبهة الموردة من قبل الكرخي في بطلان الاحتجاج بالعام المخصوص لا جوابا عن الإشكال الوارد على كلام القوم بأنه لو كانت صحة تعليل المخصوص توجب جهالة في العام وتقتضي سقوطه، وبطلان حجيته كما زعمتم لوجب بطلان حجية(1/83)
يخرجه من أن يكون حجة ; لأن ما اقتضى القياس تخصيصه يخص وما لا فلا فظهر هنا الفرق بين التخصيص والنسخ فإن العام الذي نسخ بعض ما تناوله لا ينسخ بالقياس ; لأن القياس لا ينسخ النص إذ هو لا يعارضه ; لأنه دونه لكن يخصصه، ولا يلزم به
ـــــــ
إذا باع هذا وذاك بألفين هذا بألف وذاك بألف صفقة واحدة على أنه بالخيار في ذلك. والثاني: أن يكون محل الخيار معلوما لكن ثمنه لا يكون معلوما. والثالث: على العكس. والرابع: أن لا يكون شيء منهما معلوما فلو راعينا كونه داخلا في الإيجاب يصح البيع في الصور الأربع غاية ما في الباب أنه يصير بيعا بالحصة لكنه في البقاء لا في الابتداء فلا يفسد البيع، ولو راعينا كونه غير داخل في الحكم يفسد البيع في الصور الأربع. أما إذا كان كل واحد من محل الخيار وثمنه معلوما فلأن قبول غير المبيع يصير شرطا لقبول المبيع وأما إذا كان أحدهما أو كلاهما مجهولا فلهذه العلة ولجهالة المبيع أو الثمن أو كليهما، فإذا علم أن شبه النسخ يوجب الصحة في الجميع، وشبه الاستثناء يوجب الفساد في الجميع فراعينا الشبهين، وقلنا إذا كان محل الخيار أو ثمنه مجهولا لا يصح البيع رعاية لشبه الاستثناء، وإذا كان كل منهما معلوما يصح البيع رعاية لشبه النسخ، ولم يعتبر هنا شبه الاستثناء حتى يفسد بالشرط الفاسد وهو أن قبول ما ليس بمبيع يصير شرطا لقبول المبيع بخلاف ما إذا باع الحر والعبد بألف صفقة واحدة، وبين ثمن كل واحد منهما حيث يفسد البيع في العبد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ لأن الحر غير داخل في البيع أصلا فيصير كالاستثناء بلا مشابهة النسخ، فيكون ما ليس بمبيع شرطا لقبول المبيع
"فصل في ألفاظه، وهي إما عام بصيغته، ومعناه كالرجال، وإما عام بمعناه، وهذا إما أن
................................................................................................
العام المخصوص عندكم؛ لأنكم قائلون بصحة تعليل المخصوص، إذ لا يخفى أن المذكور لا يصلح جوابا عن هذا الإشكال لما فيه من تسليم بطلان المقدمة القائلة بأن صحة التعليل توجب جهالة في العام، فإن قيل المخصص إذا لم يدرك عليه فاحتمال التعليل باق على ما هو الأصل في النصوص، وإذا أدركت فاحتمال الغير قائم لما في العلل من التزاحم، وبعدما تعينت لا يدرى أنها في أي قدر من أفراد العام توجد، وكل ذلك يوجب جهالة العام، وبطلان حجته قلنا لا، بل يوجب تمكن الشبهة فيه لما عرفت من أنه ثابت بيقين والشك لا يوجب زوال أصل اليقين، بل وصف كونه يقينا.
قوله: "إذ هو" أي: القياس لا يعارض النص؛ لأنه دون النص فلا ينسخه؛ لأن عمل الناسخ إنما هو في رفع الحكم باعتبار المعارضة لكن يخصص النص العام الذي خص منه البعض؛ لأن عمل المخصص إنما هو على وجه البيان دون المعارضة، فالقياس المستنبط من المخصص يبين أن قدر ما تعدى إليه العلة لم يدخل تحت العام كما أن النصف المخصص يبين أن قدر ما تناوله لم يدخل تحته، فإن قيل: فلم لم يجز التخصيص بالقياس ابتداء؟ قلنا؛ لأن ما يتناوله القياس داخل تحت العام(1/84)
المعارضة ; لأنه يبين أنه لم يدخل وهنا مسائل من الفروع تناسب ما ذكرنا فنظير الاستثناء ما إذا باع الحر والعبد بثمن أو باع عبدين إلا هذا بحصته من الألف يبطل البيع ; لأن أحدهما لم يدخل في البيع فصار البيع بالحصة ابتداء ; ولأن ما ليس بمبيع يصير شرطا لقبول المبيع فيفسد بالشرط الفاسد ونظير النسخ ما إذا باع عبدين بألف
ـــــــ
يتناول المجموع كالرهط، والقوم، وهو في معنى الجمع أو كل واحد على سبيل الشمول نحو من يأتيني فله درهم أو على سبيل البدل نحو من يأتيني أولا فله درهم فالجمع، وما في معناه يطلق على الثلاثة فصاعدا" فقوله يطلق على الثلاثة فصاعدا أي يصح إطلاق اسم الجمع، والقوم، والرهط على كل عدد معين من الثلاثة فصاعدا إلى ما لا نهاية له فإذا أطلقت على عدد معين تدل على جميع أفراد ذلك العدد المعين فإذا كان له ثلاثة عبيد مثلا أو عشرة عبيد فقال عبيدي أحرار يعتق جميع العبيد، وليس المراد أنه يحتمل الثلاثة فصاعدا فإن
................................................................................................
قطعا، والقياس يبين عدم دخوله ظنا فلا يسمع بخلاف العام بعد التخصيص فإنه أيضا ظني، والقياس مؤيد بما يشاركه في بيان عدم دخول بعض الأفراد، وقد يقال؛ لأن الأصل الذي يسند إليه القياس لا يصلح مبينا لهذا العام لعدم تناوله شيئا من أفراده، فكذا القياس المستنبط منه لا يصلح مبينا للعام فلو اعتبر لم يكن إلا معارضا، وفيه نظر؛ لأن عدم صلوح الأصل إنما هو باعتبار عدم التناول لشيء من أفراد العام، والكلام في القياس المتناول له وإلا لم يتصور كونه مخصصا، فعدم صلوح الأصل للبيان لا يستلزم عدم صلوح القياس لذلك، وأيضا لم يشترطوا في القياس المخصص للعام الذي خص منه البعض أن يكون أصله مخصصا لذلك العام بل إذا خص العام بقطعي صار ظنيا فجاز تخصيصه بالقياس، وإن كان مستندا إلى أصل لا يتناول شيئا من أفراد العام.
قوله: "فنظير الاستثناء ما إذا باع الحر والعبد بثمن" أي: بثمن واحد، إذ لو فصل الثمن بأن قال بعتهما بألف كل واحد بخمسمائة صح في العبد عندهما خلافا لأبي حنيفة رحمه الله.
قوله: "لم يدخل الحر تحت الإيجاب"؛ لأن دخول الشيء في العقد إنما هو بصفة المالية، والتقوم، وذلك لا يوجد في الحر وكذا إذا جمع بين حي وميت أو بين ميتة وذكية أو بين خل وخمر.
قوله: "فصار البيع بالحصة ابتداء" بأن يقسم الألف على قيمة العبد المبيع، وقيمة الحر بعد أن يفرض عبدا في الصورة الأولى وعلى قيمة العبد المبيع، وقيمة العبد المستثنى في الثانية حتى لو كان قيمة كل واحد منهما خمسمائة فحصة العبد من الألف خمسمائة على التناصف وصورة البيع بالحصة ما إذا قال بعت منك هذا العبد بحصته من الألف الموزع على قيمته، وقيمة ذلك العبد الآخر وهو باطل لجهالة الثمن وقت البيع.
قوله: "ولأن ما ليس بمبيع يصير شرطا"، وذلك لأنه لما جمع بينهما في الإيجاب فقد شرط قبول العقد في كل واحد منهما قبوله في الآخر حتى لا يملك المشتري قبول أحدهما دون الآخر، فإن قيل هذا الاشتراط إنما هو عند صحة الإيجاب فيهما لئلا يكون المشتري ملحقا للضرر بالبائع(1/85)
فمات أحدهما قبل التسليم يبقى العقد في الباقي بحصته ونظير التخصيص ما إذا باع عبدين بألف على أنه بالخيار في أحدهما صح إن علم محل الخيار وثمنه ; لأن المبيع بالخيار يدخل في الإيجاب لا في الحكم فصار في السبب كالنسخ، وفي الحكم كالاستثناء فإذا جهل أحدهما لا يصح لشبه الاستثناء، وإذا علم كل واحد منهما يصح لشبه النسخ ولم يعتبر هنا شبه الاستثناء حتى يفسد بالشرط الفاسد بخلاف الحر والعبد إذا بين حصة كل واحد منهما عند أبي حنيفة.
ـــــــ
في قبول أحدهما دون الآخر بخلاف ما إذا لم يصح كما إذا اشترى عبدا، ومكاتبا أو مدبرا، أو أم ولد يصح في العبد. قلنا الكلام في كونه شرطا فاسدا، وذلك إنما يكون عند عدم صحة الإيجاب فيهما. وأما إذا صح فهو شرط صحيح، وفيه نظر؛ لأن حاصل السؤال منع الاشتراط عند عدم صحة الإيجاب فيهما وما ذكر لا يدفع المنع.
قوله: "العبد الذي فيه الخيار داخل في الإيجاب" لورود الإيجاب على العبدين لا في الحكم لما عرفت في موضعه من أن شرط الخيار يمنع الملك عن الثبوت لا السبب عن الانعقاد على ما سيجيء تحقيقه في فصل مفهوم المخالفة.
قوله: "وهذه المسألة على أربعة أوجه" لأنه إما أن يكون محل الخيار والثمن كلاهما معلومين، أو محل الخيار معلوما والثمن مجهولا، أو بالعكس، أو كلاهما مجهولين. مثال الأول باع سالما وغانما بألفين كلا منهما بألف صفقة واحدة على أن البائع أو المشتري بالخيار في سالم ثلاثة أيام مثال الثاني: باعهما بألفين على أنه بالخيار في سالم. مثال الثالث باعهما بألفين كلا منهما بألف على أنه بالخيار في أحدهما. مثال الرابع باعهما بألفين على أنه بالخيار في أحدهما من غير تعيين لثمن كل واحد ولا لما فيه الخيار فرعاية شبه النسخ أعني: كون محل الخيار داخلا في الإيجاب تقتضي صحة البيع في الصور الأربع؛ لأن كلا من العبدين بالنظر إلى الإيجاب مبيع بيعا واحدا، فلا يكون بيعا بالحصة ابتداء بل بقاء، ورعاية شبه الاستثناء أعني: كون محل الخيار غير داخل في الحكم تقتضي فساد البيع في الصور الأربع لوجود الشرط الفاسد في الأولى مع جهالة الثمن في الثانية، وجهالة المبيع في الثالثة، وجهالتهما في الرابعة فلرعاية الشبهين صح البيع في الصورة الأولى دون الثلاثة الباقية أعني: صح في الأولى رعاية لشبه النسخ، ولم يصح في البواقي رعاية لشبه الاستثناء، ووجه الاختصاص أن معلومية محل الخيار، والثمن ترجح جانب الصحة فيلائم شبه النسخ المقتضي للصحة، وجهالة محل الخيار أو الثمن أو كليهما ترجح جانب الفساد فيلائم شبه الاستثناء، وقد يقال إن في كل من الصور عملا بالشبهين. أما في الأولى فلأن شبه الاستثناء أيضا يوجب صحتها لكونه استثناء معلوما. وأما في الثانية فلأن شبه النسخ يوجب لزوم العقد في غير محل الخيار؛ لأن جهالة الثمن طارئة، وشبه الاستثناء يوجب فساده فلا يثبت الجواز بالشك. وأما في الأخيرين فلأن شبه الاستثناء يوجب فساد العقد، وشبه النسخ يوجب انعقاده في العبدين فلا ينعقد بالشك، وفيه نظر أما أولا فلأن معنى شبه الاستثناء أن محل الخيار غير داخل في الحكم فيكون بهذا(1/86)
فصل: في ألفاظه، وهي إما عام بصيغته، ومعناه كالرجال، وإما عام بمعناه، وهذا إما أن يتناول المجموع كالرهط، والقوم، وهو في معنى الجمع أو كل واحد على سبيل الشمول نحو من يأتيني فله درهم أو على سبيل البدل نحو من يأتيني أولا فله درهم فالجمع، وما في معناه يطلق على الثلاثة فصاعدا لأن أقل الجمع ثلاثة، وعند البعض اثنان لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} ، والمراد اثنان وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة"، ولنا إجماع أهل اللغة في اختلاف صيغ الواحد، والتثنية، والجمع. ولا نزاع في الإرث، والوصية فإن أقل الجمع فيهما اثنان. وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} مجاز كما يذكر الجمع للواحد. والحديث محمول على المواريث أو على سنية تقدم الإمام أو على اجتماع الرفقة بعد قوة الإسلام ولا تمسك لهم بنحو فعلنا لأنه مشترك بين التثنية، والجمع لا أن المثنى جمع فيصح تخصيص الجمع وما في معناه إلى الثلاثة، والمفرد كالرجل، وما في معناه نحو لا أتزوج النساء إلى الواحد والطائفة كالمفرد.
ـــــــ
هذا ينافي معنى العموم "لأن أقل الجمع ثلاثة"، وعند البعض اثنان لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11]، والمراد اثنان وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 1، ولنا إجماع أهل اللغة في اختلاف صيغ الواحد، والتثنية، والجمع. "ولا نزاع في الإرث، والوصية" فإن أقل الجمع فيهما اثنان. "وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]" مجاز كما يذكر الجمع للواحد. "والحديث محمول على المواريث أو على سنية تقدم الإمام" فإنه إذا كان المقتدي واحدا يقوم على جنب الإمام، وإذا كان اثنين فصاعدا فالإمام يتقدم "أو على اجتماع الرفقة بعد قوة الإسلام" فإنه لما كان الإسلام ضعيفا نهى عليه السلام عن أن يسافر واحد أو اثنان لقوله عليه السلام: "الواحد شيطان، والاثنان 2 شيطانان، والثلاثة ركب" فلما ظهر قوة الإسلام رخص في سفر اثنين.
................................................................................................
الاعتبار غير مبيع فيكون قبوله شرطا فاسدا مفسدا للبيع، ومعلومية الاستثناء لا تدفع ذلك؛ ولهذا جعل الاستثناء في صورة جهالة الثمن وحده موجبا للفساد مع أنه معلوم. وأما ثانيا فلأن الأصل في العقود هو الانعقاد والجواز إذا لم توضع في الشرع إلا لذلك فعلى ما ذكره يلزم أن لا يثبت الفساد في شيء من الصور؛ لأنه لا يثبت بالشك.
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 035النسائي في كتاب الإقامة باب 045 ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 045 ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 044
2 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 079الموطأ في كتاب الأستئذان حديث 035أحمد في مسنده " 2/186،214" بلفظ: " الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب".(1/87)
ومنها الجمع المعرف باللام: إذا لم يكن معهودا لأن المعرف ليس هو الماهية في الجمع، ولا بعض الأفراد لعدم الأولوية فتعين الكل ولتمسكهم بقوله عليه الصلاة والسلام: "الأئمة من قريش" ولصحة الاستثناء قال مشايخنا هذا الجمع مجاز عن الجنس، وتبطل الجمعية حتى لو حلف لا أتزوج النساء يحنث بالواحدة، ويراد الواحد بقوله
ـــــــ
وإنما حملناه على أحد هذه المعاني الثلاثة لئلا يخالف إجماع أهل العربية. "ولا تمسك لهم بنحو فعلنا لأنه مشترك بين التثنية، والجمع لا أن المثنى جمع" فإنهم يقولون فعلنا صيغة مخصوصة بالجمع، ويقع على اثنين فعلم أن الاثنين جمع فنقول فعلنا غير مختص بالجمع بل مشترك بين التثنية، والجمع لا أن المثنى جمع "فيصح تخصيص الجمع" تعقيب لقوله إن أقل الجمع ثلاثة، والمراد التخصيص بالمستقل. "وما في معناه" كالرهط، والقوم "إلى الثلاثة، والمفرد" بالجر عطف على الجمع أي المفرد الحقيقي. "كالرجل"، وما في معناه كالجمع الذي يراد به الواحد "نحو لا أتزوج النساء إلى الواحد" أي يصح تخصيص المفرد إلى الواحد.
................................................................................................
قوله: "ولجهالة المبيع أو الثمن" فإن قيل: جهالة الثمن طارئة بعارض الخيار بعد صحة التسمية فلا تمنع الجواز كما في بيع القن مع المدبر أجيب بأن حكم العقد لما انعدم في محل الخيار بنص قائم من كل وجه وهو الخيار لزم انعدامه من كل وجه؛ لأن العقد لا ينعقد إلا بحكمه فصار الإيجاب في حق الحكم في محل الخيار بمنزلة العدم كما في بيع الحر فيبقى الإيجاب في حق الآخر بحصته من الثمن ابتداء بخلاف المدبر مع القن، فإن الإيجاب تناولهما، وإنما امتنع الحكم فيه لضرورة صيانة حقه لا بنص قائم يمنع ثبوت الحكم فيه، والثابت بالضرورة لا يظهر حكمه في غير موضع الضرورة فيبقى الإيجاب متناولا له فيما وراء هذه الضرورة كذا في شرح التقويم وقيل: محل الخيار لا يدخل تحت الحكم، فيصير الثمن مجهولا من الابتداء بخلاف المدبر فإنه يدخل في العقد، والحكم جميعا؛ لأنه قابل له بقضاء القاضي، ثم يخرج فتحدث جهالة ثمن القن به.
قوله: "ولم يعتبر هنا" إشارة إلى جواب سؤال تقريره أن البيع في الصورة الأولى ينبغي أن يكون فاسدا بناء على وجود الشرط الفاسد وهو صيرورة قبول ما ليس بمبيع شرطا لقبول المبيع كما في بيع العبد مع الحر وتقرير الجواب أن كون محل الخيار غير مبيع إنما هو باعتبار شبه الاستثناء؛ لأنه غير داخل في الحكم. وأما باعتبار شبه النسخ فهو مبيع لكونه داخلا في الإيجاب، فيكون قبوله شرطا صحيحا بخلاف الحر أو العبد المصرح باستثنائه، فإنه ليس بمبيع أصلا والحاصل أن محل الخيار مبيع من وجه دون وجه فاعتبر في صورة معلومية محل الخيار والثمن جهة كونه مبيعا حتى لا يفسد البيع رعاية لشبه النسخ، وفي غيرها جهة كونه غير مبيع حتى يفسد رعاية لشبه الاستثناء.
قوله: "فصل في ألفاظه" أي في ألفاظ العام على ما ذكره المصنف حيث فسر قوله، ومنها بقوله أي من ألفاظ العام، والأولى ألفاظ العموم على ما ذكره غيره.(1/88)
"والطائفة كالمفرد" بهذا فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122].
"ومنها" أي أي من ألفاظ العام "الجمع المعرف باللام إذا لم يكن معهودا لأن المعرف ليس هو الماهية في الجمع، ولا بعض الأفراد لعدم الأولوية فتعين الكل" اعلم أن لام التعريف إما للعهد الخارجي أو الذهني، وإما لاستغراق الجنس، وإما لتعريف الطبيعة لكن العهد هو الأصل ثم الاستغراق ثم تعريف الطبيعة لأن اللفظ الذي يدخل عليه اللام دال على الماهية بدون اللام فحمل اللام على الفائدة الجديدة أولى من حمله على تعريف الطبيعة، والفائدة الجديدة أما تعريف العهد أو استغراق الجنس، وتعريف العهد أولى من الاستغراق لأنه إذا ذكر بعض أفراد الجنس خارجا أو ذهنا فحمل اللام على ذلك البعض المذكور أولى من حمله على جميع الأفراد لأن البعض متيقن، والكل محتمل فإذا علم ذلك ففي الجمع المحلى، بالألف، واللام لا يمكن حمله بطريق الحقيقة على تعريف الماهية لأن الجمع وضع لأفراد الماهية لا للماهية من حيث هي لكل يحمل عليها بطريق المجاز على ما يأتي في هذه الصفحة، ولا يمكن حمله على العهد إذا لم يكن عهد فقوله، ولا بعض الأفراد لعدم الأولوية إشارة. "إلى هذا فتعين الاستغراق، ولتمسكهم بقوله عليه الصلاة والسلام: "الأئمة من قريش" لما، وقع الاختلاف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلافة، وقال الأنصار منا أمير، ومنكم أمير تمسك أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: "الأئمة من قريش"، ولم يروه أحد.
................................................................................................
قوله: "وهي إما لفظ عام بصيغته، ومعناه" بأن يكون اللفظ مجموعا والمعنى مستوعبا سواء وجد له مفرد من لفظه كالرجال أو لا كالنساء، وإما عاما بمعناه فقط بأن يكون اللفظ مفردا مستوعبا لكل ما يتناوله، ولا يتصور أن يكون العام عاما بصيغته فقط إذ لا بد من استيعاب المعنى، وهذا أي العام بمعناه فقط إما أن يتناول مجموع الأفراد، وإما أن يتناول كل واحد، والمتناول لكل واحد إما أن يتناوله على سبيل الشمول أو على سبيل البدل فالأول أن يتعلق الحكم بمجموع الآحاد لا بكل واحد على الانفراد، وحيث يثبت للآحاد إنما يثبت لأنه داخل في المجموع كالرهط اسم لما دون العشرة من الرجال لا تكون فيهم امرأة والقوم اسم لجماعة الرجال خاصة فاللفظ مفرد بدليل أنه يثنى، ويجمع، ويوحد الضمير العائد إليه مثل: الرهط دخل، والقوم خرج، والتحقيق أن القوم في الأصل مصدر قام فوصف به ثم غلب على الرجال خاصة لقيامهم بأمور النساء ذكره في الفائق، وينبغي أن يكون هذا تأويل ما يقال إن قوما جمع قائم كصوم جمع صائم، وإلا ففعل ليس من أبنية الجمع، وكل منهما متناول لجميع آحاده لا لكل واحد من حيث إنه واحد حتى لو قال الرهط أو القوم الذي يدخل هذا الحصن فله كذا فدخله جماعة كان النقل لمجموعهم، ولو دخله واحد لم يستحق شيئا فإن قلت فإذا لم يتناول كل واحد فكيف يصح استثناء الواحد منه في مثل جاءني القوم إلا زيدا، ومن شرطه دخول المستثنى في حكم المستثنى منه لولا الاستثناء قلت يصح من حيث إن مجيء(1/89)
المجموع لا يتصور بدون مجيء كل واحد حتى لو كان الحكم متعلقا بالمجموع من حيث هو المجموع من غير أن يثبت لكل فرد لم يصح الاستثناء مثل يطيق رفع هذا الحجر القوم إلا زيدا، وهذا كما يصح عندي عشرة إلا واحدا ولا يصح العشرة زوج إلا واحدا، وليس الحكم على الآحاد بل على المجموع، والثاني أن يتعلق الحكم بكل واحد سواء كان مجتمعا مع غيره أو منفردا عنه مثل من دخل هذا الحصن فله درهم فلو دخله واحد استحق درهما، ولو دخله جماعة معا أو متعاقبين استحق كل واحد الدرهم، والثالث أن يتعلق الحكم بكل واحد بشرط الانفراد، وعدم التعلق بواحد آخر مثل من دخل هذا الحصن أولا فله درهم فكل واحد دخله أولا منفردا استحق الدرهم، ولو دخله جماعة معا لم يستحقوا شيئا، ولو دخلوه متعاقبين لم يستحق إلا الواحد السابق، وسيأتي تحقيق ذلك. فالحكم في الأول مشروط بالاجتماع، وفي الثالث بالانفراد، وفي الثاني غير مشروط بشيء منهما.
قوله: "فالجمع" مثل الرجال، والنساء، وما في معناه من العام المتناول للمجموع مثل الرهط، والقوم، ويصح إطلاقه على أي عدد كان من الثلاثة إلى ما لا نهاية له يعني أن مفهومه جميع الآحاد سواء كانت ثلاثة أو أربعة أو ما فوق ذلك، وليس المراد أنه عند الإطلاق يحتمل أن يراد به الثلاثة وأن يراد به الأربعة، وغير ذلك من الأعداد لأنه حينئذ يكون مبهما غير دال على الاستغراق فلا يوجب العموم بل ينافيه لأن الدلالة على الاستغراق شرط فيه، ولا يخفى أن الكلام في الجمع المعرف، وأما المنكر فسيأتي ذكره. وكذا سائر أسماء الجموع، وإلا فقد سبق أن الرهط اسم لما دون العشرة من الرجال على ما صرح به في كتب اللغة فصار الحاصل أن المعرف باللام من الجموع، وأسمائها لجميع الأفراد قلت أو كثرت، وإن كان دون اللازم لما دون العشرة كالرهط أو للعشرة فما دونها كجمع القلة مثل المسلمين، والمسلمات، والأنفس، ونحو ذلك. وأما تحقيق أن الموضوع للعموم هو مجموع الاسم، وحرف التعريف أو الاسم بشرط التعريف، وعلى الثاني هل يصير مشتركا حيث وضع بدون التعريف لمطلق الجمع وأن هذا الوضع لا شك أنه نوعي فكيف يكون اللفظ باعتباره حقيقة، وإن الحكم في مثله على كل جمع أو على كل فرد، وأنه للأفراد المحققة خاصة أو المحققة، والمقدرة جميعا، وأن مدلوله الاستغراق الحقيقي أو أعم من الحقيقي، والعرفي فالكلام فيه طويل لا يحتمله المقام.
قوله: "لأن أقل الجمع ثلاثة" اختلفوا في أقل عدد تطلق عليه صيغة الجمع فذهب أكثر الصحابة، والفقهاء، وأئمة اللغة إلى أنه ثلاثة حتى لو حلف لا يتزوج نساء لا يحنث بتزوج امرأتين، وذهب بعضهم إلى أنه اثنان حتى يحنث بتزوج امرأتين، وتمسكوا بوجوه الأول قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11]، والمراد اثنان فصاعدا لأن الأخوين يحجبان الأم إلى السدس كالثلاثة، والأربعة، وكذا كل جمع في المواريث، والوصايا حتى إن في الميراث للأختين الثلثين كما للأخوات، وفي الوصية للاثنين ما أوصى لأقرباء فلان الثاني قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] أي قلبا كما إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. الثالث: قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 1، ومثل حجة من اللغوي فكيف من النبي عليه السلام.
وتمسك الذاهبون إلى أن أقل الجمع ثلاثة بإجماع أهل العربية على اختلاف صيغ الواحد
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 035النسائي في كتاب الإقامة باب 045ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 044(1/90)
والتثنية، والجمع في غير ضمير المتكلم لما ستعرف مثل: رجل رجلان رجال، وهو فعل، وهما فعلا، وهم فعلوا، وأيضا ما فوق الاثنين هو المتبادر إلى الفهم من صيغة الجمع، وأيضا يصح نفي الجمع عن الاثنين ما في الدار رجال بل رجلان وأيضا يصح رجال ثلاثة، وأربعة، ولا يصح رجال اثنان، وليس ذلك لوجوب مراعاة صورة اللفظ بأن يكون الموصوف، والصفة كلاهما مثنى أو مجموعا لأن أسماء الأعداد ليست جموعا، ولا لفظ اثنان مثنى على ما تقرر في موضعه، ولأنه يصح جاءني زيد، وعمر، والعاملان، ولا يصح العاملون ثم أجابوا عن تمسكات المخالف.
أما عن الأول فبأنه لا نزاع في أن أقل الجمع اثنان في باب الإرث استحقاقا، وحجبا، والوصية لكن لا باعتبار أن صيغة الجمع موضوعة للاثنين فصاعدا بل باعتبار أنه ثبت بالدليل أن للاثنين حكم الجمع أما الاستحقاق فلأنه علم من قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا} أي من يرث بالأخوة يعني الأختين لأب، وأم أو لأب اثنتين فلهما الثلثان مما ترك أن للأختين حكم الأخوات في استحقاق الثلثين مع أن قرابة الأخوة متوسطة لكونها قرابة مجاورة فيكون للبنتين أيضا حكم البنات في استحقاق الثلثين بطريق دلالة النص لأن قرابتهما قريبة لكونها قرابة الجزئية، وأيضا يعلم ذلك بطريق الإشارة من قوله تعالى: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فإنه يدل على أن حظ الابن مع الابنة الثلثان فيكون ذلك حظ الأنثيين أعني البنتين ثم لما كان هذا موهما أن النصيب يزداد بزيادة العدة نفى ذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] فإن قلت هب أنه يعلم أن حظ البنتين مع الابن مثل حظه مع البنت لكون من أين يعلم أن حظهما ذلك بدون الابن قلت من حيث إن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخ لها فمع أخت لها بالطريق الأولى. وأما الحجب فلأنه مبني على الإرث إذ الحاجب لا يكون إلا، وارثا بالقوة أو بالفعل على أن الحجب بالأخوين قد ثبت باتفاق من الصحابة كما روي أن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال لعثمان رضي الله تعالى عنه حين رد الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11]، وليس الأخوان إخوة في لسان قومك فقال عثمان نعم لكن لا أستجيز أن أخالفهم فيما رأوا، وروى لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلي، وتوارثه الناس. وأما الوصية فلأنها ملحقة بالميراث من حيث إن كلا منها يثبت الملك بطريق الخلافة بعد الفراغ عن حاجة الميت.
وأما الجواب عن الثاني فهو أن إطلاق الجمع على الاثنين مجاز بطريق إطلاق اسم الكل على البعض أو تشبيه الواحد بالكثير في العظم، والخطر كما يطلق الجمع على الواحد تعظيما في مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12] مع الاتفاق على أن الجمع لا يطلق على الواحد حقيقة، وإنما كثر مثل هذا المجاز أعني ذكر العضو الذي لا يكون في الشخص إلا واحدا بلفظ الجمع عند الإضافة إلى الاثنين مثل قلوبهما، وأنفسهما، ورءوسهما، ونحو ذلك احترازا عن استثقال الجمع بين التثنيتين مع وضوح أن المراد بمثل هذا الجمع الاثنان، وقد يجاب بأن المراد بالقلوب الميول، والدواعي المختلفة كما يقال لمن مال قلبه إلى جهتين أو تردد بينهما أنه ذو قلبين.
وأما الجواب عن الثالث فهو أنه لما دل الإجماع على أن أقل الجمع ثلاثة، وجب تأويل الحديث في ذلك بأن يحمل على أن للاثنين حكم الجمع في المواريث استحقاقا، وحجبا أو في حكم الاصطفاف خلف الإمام، وتقدم الإمام عليهما أو في إباحة السفر لهما، وارتفاع ما كان منهيا في أول الإسلام من مسافر واحد أو اثنين بناء على غلبة الكفار أو في انعقاد صلاة الجماعة بهما، وإدراك(1/91)
فضيلة الجماعة، وذلك لأن الغالب من حال النبي عليه السلام تعريف الأحكام دون اللغات عن أن هذا الدليل على تقدير تمامه لا يدل على المطلوب إذ ليس النزاع في جمع، وما يشتق من ذلك لأنه في اللغة ضم شيء إلى شيء، وهذا حاصل في الاثنتين بلا خلاف، وإنما النزاع في صيغ الجمع، وضمائره، ولذا قال ابن الحاجب اعلم أن النزاع في نحو رجال، ومسلمين، وضربوا لا في لفظ جمع، ولا في نحو نحن فعلنا، ولا في نحو صغت قلوبكما فإنه وفاق فعلى هذا لا حاجة إلى ما ذكره المصنف جوابا عن مثل فعلنا ومع ذلك يجب أن يحمل اشتراكه بين التثنية، والجمع على الاشتراك المعنوي دون اللفظي لأنه موضوع للمتكلم مع الغير واحدا كان الغير أو أكثر، وهذا مفهوم واحد يصدق على الاثنين، والثلاثة وما فوق ذلك كما يصدق هم فعلوا على الثلاثة، والأربعة، وما فوقهما من غير اشتراط لفظ، وتعدد وضع وأبعد من ذلك ما قبل أن مثل فعلنا حقيقة في الجمع مجاز في الاثنين واكتفى بهذا المجاز ولم يوضع للمتكلم مع واحد آخر اسم خاص لئلا يكون التبع مزاحما للأصل لأن المتكلم بهذه الصيغة يحكي عن نفسه، وعن غيره على أن ذلك الغير تبع له في الدخول تحت الصيغة لأنه ليس بمتكلم بهذا الكلام حقيقة، وهو ظاهر بخلاف ما إذا كان الغير فوق الواحد فإنه يتقوى بكثرته، ويصير بمنزلة الأصل، واعلم أنهم لم يفرقوا في هذا المقام بين جمع القلة، وجمع الكثرة فدل بظاهره على أن التفرقة بينهما إنما هي في جانب الزيادة بمعنى أن جمع القلة مختص بالعشرة فما دونها، وجمع الكثرة غير مختص لأنه مختص بما فوق العشرة، وهذا أوفق بالاستعمالات، وإن صرح بخلافه كثير من الثقات.
قوله: "فيصح تخصيص الجمع" قد اختلفوا في منتهى التخصيص فقيل لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام، وقيل يجوز إلى ثلاثة، وقيل إلى اثنين، وقيل إلى واحد، والمختار عند المصنف أن العام إن كان جمعا مثل الرجال، والنساء أو في معناه مثل الرهط، والقوم يجوز تخصيصه إلى الثلاثة تفريعا على أنها أقل الجمع فالتخصيص إلى ما دونها يخرج اللفظ عن الدلالة على الجمع فيصير نسخا، وإن كان مفردا كالرجال أو ما في معناه كالنساء في لا أتزوج النساء يجوز تخصيصه إلى الواحد لأنه لا يخرج بذلك عن الدلالة على الفرد على ما هو أصل وضع المفرد، وفيه نظر من وجوه: الأول: أن الجمع إنما يكون عاما عند قصد الاستغراق على ما تقرر، وحينئذ هو حقيقة في جمع الأفراد، ومجاز في البعض، وكون الثلاثة أقل الجمع إنما هو اعتبار الحقيقة إذ لا نزاع في إطلاقه على الاثنين بل الواحد مجازا كما سبق وأيضا النزاع في الجمع الغير العام إذ العام مستغرق للجميع لا أقل، ولا أكثر فحينئذ لا معنى لهذا التفريع أصلا. الثاني: إن حمل الجمع على المفرد في مثل لا أتزوج النساء إنما يكون عند تعذر الاستغراق على ما سيأتي، وحينئذ لا عموم فلا تخصيص. الثالث: إن من قال لقيت كل رجل في البلد وأكلت كل رمانة في البستان ثم قال أردت واحدا عد لاغيا عرفا، وعقلا، ويمكن الجواب عن الأول بأن نفس الصيغة للجمع، والعموم عارض باللام، والتخصيص إنما يرفع العموم فلا بد أن يبقى مدلول الصيغة، وأقله ثلاثة، وعن الثاني بأن المتعذر حمل اللازم على الاستغراق فيكون الاسم للجنس، ونفيه يكون نفيا لجميع الأفراد فيصير المعنى لا أتزوج امرأة، وهو معنى العموم، والاستغراق في النفي، وعن الثالث بأن الكلام في الصحة لغة.
قوله: "والمراد التخصيص بالمستقل" قد سبق أن التخصيص لا يكون إلا بمستقل فهذا تأكيد(1/92)
لدفع توهم حمله على المعنى اللغوي، وتنبيه على أن قصر العام على البعض بالاستثناء، ونحوه، ويجوز إلى الواحد في الجمع أيضا نحو أكرم الرجال إلا الجهال، وإن لم يكن العالم إلا واحدا.
قوله: "والطائفة كالمفرد" يعني أنه اسم للواحدة فما فوقه كما فسره ابن عباس لأنه اسم لقطعة من الشيء واحدا كان أو أكثر، وقبل لأنه مفرد انضمت إليه علامة الجماعة أعني التاء فروعي المعنيان، وفي الكشاف: الطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء فمقصود المصنف أنها ليست للجمع كالرهط بل بمنزلة المفرد فيصبح تخصيصها إلى الواحد
قوله: "ومنها الجمع المعرف باللام" استدل على عمومه بالمعقول، والإجماع، والاستعمال، وتقرير الأخيرين ظاهر وتقرير الأول أن المعرف باللام قد يكون نفس الحقيقة من غير نظر إلى الأفراد مثل الرجل خير من المرأة، وقد يكون حصة معينة منها واحدا كان أو أكثر مثل جاءني رجل فقال الرجل كذا، وقد يكون حصة غير معينة منها لكن باعتبار عهديتها في الزمن مثل أدخل السوق، وقد يكون جميع أفرادها مثل: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، واللام بالإجماع للتعريف، ومعناه الإشارة، والتعيين، والتمييز، والإشارة إما إلى حصة معينة من الحقيقة، وهو تعريف العهد وإما إلى نفس الحقيقة، وذلك قد يكون بحيث لا يفتقر إلى اعتبار الأفراد، وهو تعريف الحقيقة، والماهية، والطبيعة، وقد يكون بحيث يفتقر إليه، وحينئذ إما أن توجد فيه قرينة البعضية كما في أدخل السوق، وهو العهد الذهني أولا، وهو الاستغراق احترازا عن ترجيح بعض المتساويات فالعهد الذهني، والاستغراق من فروع تعريف الحقيقة، ولهذا ذهب المحققون إلى أن اللام لتعريف العهد، والحقيقة لا غير إلا أن القوم أخذوا بالحاصل، وجعلوه أربعة أقسام توضيحا، وتسهيلا إذا تمهد هذا فنقول:
الأصل أي الراجح هو العهد الخارجي لأنه حقيقة التعيين، وكمال التمييز ثم الاستغراق لأن الحكم على نفس الحقيقة بدون اعتبار الأفراد قليل الاستعمال جدا، والعهد الذهني موقوف على وجود قرينة البعضية فالاستغراق هو المفهوم من الإطلاق حيث لا عهد في الخارج خصوصا في الجمع فإن الجمعية قرينة القصد إلى الأفراد دون نفس الحقيقة من حيث هي هي هذا ما عليه المحققون، وفيما ذكره المصنف نظر لأنه جعل العهد الذهني مقدما على الاستغراق بناء على أن البعض متيقن وهذا معارض بأن الاستغراق أعم فائدة، وأكثر استعمالا في الشرع، وأحوط في أكثر الأحكام أعني الإيجاب والندب، والتحريم، والكراهة، وإن كان البعض أحوط في الإباحة، ومنقوضا بتعريف الماهية فإنه لا يوجد فرد بدون الماهية، وقد جعله متأخرا عن الاستغراق بناء على أنه لا يفيد فائدة جديدة زائدة على ما يفيده الاسم بدون اللام، وهذا ممنوع، ولو سلم فمنقوض بتعريف العهد الذهني فإن عدم الفائدة فيه أظهر لأن دلالة النكرة على حصة غير معينة أظهر من دلالتها على نفس الحقيقة، ولهذا صرحوا بأن المعهود الذهني في المعنى كالنكرة فإن قيل يعتبر فيه العهدية في الذهن فيتميز عن النكرة قلنا، وكذلك يعتبر في تعريف الماهية حضورها في الذهن، والإشارة إليها ليتميز عن اسم الجنس النكرة مثل رجع رجعي، ورجع الرجعي، وبالجملة توقف العهد الذهني على قرينة البعضية، وعدم الاستغراق مما اتفقوا عليه، وقد صرح به المصنف أيضا حيث مثل بعد ذلك لتعريف الماهية المتأخر عن الاستغراق بنحو أكلت الخبز، وشربت الماء إذ لا نعني بالمعهود(1/93)
"ولصحة الاستثناء قال مشايخنا هذا الجمع" أي الجمع المحلى باللام "مجاز عن الجنس، وتبطل الجمعية حتى لو حلف لا أتزوج النساء يحنث بالواحدة، ويراد الواحد بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60]، ولو أوصى بشيء لزيد، وللفقراء نصف بينه، وبينهم لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52]" هذا دليل على أن الجمع مجاز عن الجنس. "ولأنه لما لم يكن هناك معهود، وليس للاستغراق لعدم الفائدة يجب حمله على تعريف الجنس"، وإنما قال لعدم الفائدة أما في قوله لا أتزوج النساء فلأن اليمين للمنع، وتزوج جميع نساء الدنيا غير ممكن
................................................................................................
الذهني إلا مثل ذلك مما تدل القرينة على أنه للفرد دون نفس الحقيقة، وللبعض دون الكل، وللمبهم دون المعين، وإذا كان هذا تعريف الماهية فليت شعري ما معنى العهد الذهني المقدم على الاستغراق، وما اسم تعريف الماهية حيث لا يكون الحكم على الأفراد كما في قولنا الإنسان حيوان ناطق.
قوله: "ولصحة الاستثناء" فإن قيل المستثنى منه قد يكون خاصا اسم عدد مثل عندي عشرة إلا واحدا، واسم علم مثل كسوت زيدا إلا رأسه أو غير ذلك مثل صمت هذا الشهر إلا يوم كذا، وأكرمت هؤلاء الرجال إلا زيدا فلا يكون الاستثناء دليل العموم أجيب عنه بوجوه الأول: أن المستثنى منه في مثل هذه الصور، وإن لم يكن عاما لكنه يتضمن صيغة عموم باعتبارها يصح الاستثناء، وهو جمع مضاف إلى المعرفة أي جميع أجزاء العشرة، وأعضاء زيد، وأيام هذا الشهر، وآحاد هذا الجمع الثاني أن المراد أن الاستثناء من متعدد غير محصور دليل العموم، وذلك لأن المستثنى منه في الاستثناء المتصل يجب أن يشتمل المستثنى، وغيره بحسب الدلالة ليكون الاستثناء لإخراجه، ومنعه عن الدخول تحت الحكم فلا بد فيه من اعتبار التعدد فإن كان محصورا شاملا للمستثنى شمول العشرة للواحد، وزيد للرأس، والشهر لليوم، والجماعة التي فيهم زيد لزيد صح الاستثناء، وإلا فلا بد من استغراقه ليتناول المستثنى، وغيره فيصح إخراجه. الثالث: أن المراد استثناء ما هو من أفراد مدلول اللفظ لا ما هو من أجزائه كما في الصور المذكورة لا يقال فالمستثنى في مثل جاءني الرجال إلا زيدا ليس من الأفراد لأن أفراد الجمع جموع لا آحاد لأنا نقول الصحيح أن الحكم في الجمع المعرف الغير المحصور إنما هو عن الآحاد دون الجمع بشهادة الاستقراء، والاستعمال أو نقول المراد أفراد مدلول أصل اللفظ، وهو هاهنا الرجل.
قوله: "قال مشايخنا" الجمع المعرف باللام مجاز عن الجنس، وهذا ما ذكره أئمة العربية في مثل فلان يركب الخيل، ويلبس الثياب البيض أنه للجنس للقطع بأن ليس القصد إلى عهد أو استغراق فلو حلف لا يتزوج النساء، ولا يشتري العبيد، أو لا يكلم الناس يحنث بالواحد لأن اسم الجنس حقيقة فيه بمنزلة الثلاثة في الجمع حتى إنه حين لم يكن من جنس الرجال غير آدم عليه السلام كانت حقيقة الجنس متحققة، ولم يتغير بكثرة أفراده، والواحد هو المتيقن فيعمل به عند الإطلاق، وعدم الاستغراق إلا أن ينوي العموم فحينئذ لا يحنث قط، ويصدق ديانة، وقضاء لأنه نوى حقيقة كلامه، واليمين ينعقد لأن تزوج جميع النساء متصور، وعن بعضهم أنه لا يصدق قضاء لأنه نوى حقيقة لا تثبت إلا بالنية فصار كأنه نوى المجاز ثم هذا الجنس بمنزلة النكرة يخص في(1/94)
تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، ولو أوصى بشيء لزيد، وللفقراء نصف بينه، وبينهم لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} هذا دليل على أن الجمع مجاز عن الجنس. ولأنه لما لم يكن هناك معهود، وليس للاستغراق لعدم الفائدة يجب حمله على تعريف الجنس فتبقى الجمعية فيه من وجه
ـــــــ
فمنعه يكون لغوا، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} لا يمكن صرف الصدقات إلى جميع فقراء الدنيا فلا يكون الاستغراق مرادا فيكون لتعريف الجنس مجازا فتكون الآية لبيان مصرف الزكاة. "فتبقى الجمعية فيه من وجه، ولو لم يحمل على الجنس لبطل اللام أصلا" أي إذا كان اللام لتعريف الجنس، ومعنى الجمعية باق في الجنس من وجه لأن الجنس يدل على الكثرة تضمنا فعلى هذا الوجه حرف اللام معمول ومعنى الجمعية باق من وجه، ولو لم يحمل على هذا المعنى، وتبقى الجمعية على حالها يبطل اللام بالكلية فحمله على تعريف الجنس، وإبطال الجمعية من وجه أولى، وهذا معنى كلام فخر الإسلام رحمه الله في باب موجب الأمر في معنى العموم، والتكرار لأنا إذا أبقيناه جمعا لغا حرف العهد أصلا إلى آخره.
فعلم من هذه الأبحاث أن ما قالوا أنه يحمل على الجنس مجازا مقيد بصور لا يمكن
................................................................................................
الإثبات كما إذا حلف يركب الخيل يحصل البر بركوب واحد، ويعم في النفي مثل لا تحل لك النساء أي واحدة منهن فقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} يكون معناه أن جنس الصدقة لجنس الفقير فيجوز الصرف إلى واحد وذلك لأن الاستغراق ليس بمستقيم إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير لا يقال بل المعنى أن جمع الصدقات لجميع الفقراء، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد بالآحاد لا ثبوت كل فرد من هذا الجمع لكل فرد من ذلك الجمع لأنا نقول لو سلم أن هذا معنى الاستغراق فالمطلوب حاصل، وهو جواز صرف الزكاة إلى فقير واحد.
قوله: "فعلى هذا الوجه"، وهو أن يكون هذا الجمع للجنس حرف اللام معمول لدلالته على تعريف الجنس أي الإشارة إلى هذا الجنس من الأجناس، ومعنى الجمعية باق من وجه لأن الجنس يدل على الكثرة تضمنا بمعنى أنه مفهوم كلي لا تمنع شركة الكثير فيه لا بمعنى أن الكثرة جزء مفهومه، وهذا معنى قول فخر الإسلام رحمه الله أن كل جنس يتضمن الجمع فمعنى الجمعية، وهو التكثر باق من وجه، وإن بطل من وجه حيث صح الحمل على الواحد، ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يحمل على ما يصح إطلاق الجمع عليه حقيقة باعتبار عهديته، وحضوره في الذهن فيكون اللام معمولا، والجمعية باقية من كل وجه لا يقال الكلام على تقدير أن لا يكون هناك معهود لأنا نقول تقدير عدم المعهود الذهني تقدير باطل لأن كل لفظ علم مدلوله جاز تعريفه باعتبار القصد إلى بعض أفراده من حيث إنها حاضرة في الذهن فحينئذ لا نسلم انتفاء العهد الذهني في شيء من الصور المذكورة، والصحيح في إثبات كون الجمع مجازا عن الجنس التمسك بوقوعه في الكلام كقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب:52]، وقولهم فلان يركب الخيل.(1/95)
ولو لم يحمل على الجنس لبطل اللام أصلا والجمع المعرف بغير اللام نحو عبيدي أحرار عام أيضا لصحة الاستثناء، واختلف في الجمع المنكر، والأكثر على أنه غير عام، وعند البعض عام لصحة الاستثناء كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، والنحويون حملوا إلا على غيره.
ـــــــ
حمله على العهد، والاستغراق حتى لو أمكن يحمل عليه كما في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فإن علماءنا قالوا إنه لسلب العموم لا لعموم السلب فجعلوا اللام لاستغراق الجنس.
"والجمع المعرف بغير اللام نحو عبيدي أحرار عام أيضا لصحة الاستثناء، واختلف في الجمع المنكر، والأكثر على أنه غير عام، وعند البعض عام لصحة الاستثناء كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، والنحويون حملوا إلا على غيره".
"ومنها المفرد المحلى باللام إذا لم يكن للمعهود كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3] وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] إلا أن تدل القرينة على أنه لتعريف الماهية نحو أكلت الخبز، وشربت الماء"، وإنما يحتاج تعريف الماهية إلى القرينة لما ذكرنا أن الأصل في اللام العهد ثم الاستغراق ثم تعريف الماهية.
................................................................................................
قوله: "وهذا معنى فخر الإسلام" عبارته أن مثل لا أتزوج النساء لا أشتري الثياب يقع على الأقل، ويحتمل الكل لأن هذا جمع صار مجازا عن اسم الجنس لأنا إذا أبقيناه جمعا لغا حرف العهد أصلا، وإذا جعلناه جنسا بقي حرف اللام لتعريف الجنس وبقي معنى الجمع في الجنس من وجه فكان الجنس أولى.
قوله: "فعلم من هذه الأبحاث" لا شك أن حمل الجمع على الجنس مجاوز وعلى العهد أو الاستغراق حقيقة، ولا مساغ للخلف إلا عند تعذر الأصل، ولهذا لو قالت خالعني على ما في يدي من الدراهم، ولا شيء فيها لزمها ثلاثة دراهم، ولو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور يقع على العشرة عنده، وعلى الأسبوع، والسنة عندهما لأنه أمكن العهد فلا يحمل على الجنس فلهذا قالوا في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] إنه للاستغراق دون الجنس، وأن المعنى لا يدركه كل بصر، وهو سلب العموم أي نفي الشمول، ورفع الإيجاب الكلي فيكون سلبا جزئيا، وليس المعنى لا يدركه شيء من الأبصار ليكون عموم السلب أي شمول النفي لكل أحد فيكون سلبا كليا لا يقال كما أن الجمع المعرف باللام في الإثبات لإيجاب الحكم لكل فرد كذلك هو في النفي لسلب الحكم(1/96)
ومنها المفرد المحلى باللام إذا لم يكن للمعهود كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} إلا أن تدل القرينة على أنه لتعريف الماهية نحو أكلت الخبز، وشربت الماء.
ومنها النكرة في موضع النفي لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} في جواب {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} ولكلمة التوحيد، والنكرة في
ـــــــ
"ومنها النكرة في موضع النفي لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام:91] في جواب: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91]" وجه التمسك أنهم قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] فلو لم يكن مثل هذا الكلام للسلب الكلي لم يستقم في الرد عليهم الإيجاب الجزئي، وهو قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام:91]. "ولكلمة التوحيد، والنكرة في موضع الشرط إذا كان" أي الشرط "مثبتا عاما في طرف النفي فإن قال: إن ضربت رجلا فكذا معناه لا أضرب رجلا لأن اليمين للمنع هنا" اعلم أن اليمين إما للحمل أو للمنع ففي قوله إن ضربت رجلا فعبدي حر اليمين للمنع فيكون كقوله لا أضرب رجلا فشرط البر أن لا يضرب أحدا من الرجال فيكون للسلب الكلي فيكون عاما في طرف النفي، وإنما قيد بقوله
................................................................................................
عن كل فرد كقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر:31] {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] لأنا نقول يجوز أن يكون ذلك باعتبار أنه للجنس والجنس في النفي يعم، وقد يجاب عن الآية بأنها لا تعم الأحوال، والأوقات، وبأن الإدراك بالبصر أخص من الرؤية فلا يلزم من نفيه نفيها.
قوله: "صحة الاستثناء" كقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر:42] فإن قيل صحة الاستثناء متوقفة على العموم فإثبات العموم بها دور قلنا يثبت العلم بالعموم بوقوع الاستثناء في الكلام من غير نكير فيكون استدلالا بالاستعمال والإجماع.
قوله: "واختلف في الجمع المنكر" لا شك في عمومه بمعنى انتظام جمع من المسميات، وإنما الخلاف في العموم بوصف الاستغراق فالأكثرون على أنه ليس بعام لأن رجالا في الجموع كرجل في الوجدان يصح إطلاقه على كل جمع كما يصح إطلاق رجل على كل فرد على سبيل البدل، وبعضهم على أنه عند الإطلاق للاستغراق فيكون عاما لصحة الاستثناء كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، ولأنه لو لم يمكن للاستغراق لكان للبعض، ولا قائل به إذ لا نزاع في صحة إطلاقه على الكل حقيقة، ولأن في حمله على ما دون الكل إجمالا لاستواء جميع المراتب في معنى الجمعية فلا بد من الحمل على الأقل لتيقنه أو على الكل لكثرة فائدته، وهذا أقرب لأن الجمعية بالعموم، والشمول أنسب، ولأنه قد ثبت إطلاقه على كل مرتبة من مراتب الجموع فحمله على الاستغراق حمل على جميع حقائقه فكان أولى والجواب عن الأول إنا لا نسلم أنه استثناء بل صفة، ولو كان استثناء لوجب نصبه، وعن الثاني أن عدم اعتبار الاستغراق لا يستلزم اعتبار عدمه لتلزم البعضية بل هو للقدر المشترك بين الكل، والبعض، وعن الثالث، والرابع أنه إثبات اللغة بالترجيح على أن الحمل على القدر المشترك إيهام كما في رجل لا إجمال إذ يعرف أن معناه جمع من الرجال، وإن لم يعلم تعيين عدده وما ذكر من الجمع بين الحقائق إن أريد به أنه(1/97)
موضع الشرط إذا كان مثبتا عام في طرف النفي فإن قال: إن ضربت رجلا فكذا معناه لا أضرب رجلا لأن اليمين للمنع هنا وكذا النكرة الموصوفة بصفة عامة عندنا نحو لا أجالس إلا رجلا عالما فله أن يجالس كل عالم لقوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} الآية ولأن النسبة إلى المشتق تدل على علية المأخذ فكذا
ـــــــ
موضوع لكل مرتبة وضعا على حدة ليكون مشتركا فهو ممنوع، وإن أريد أنه موضوع للمفهوم الأعم الصادق على كل مرتبة بطريق الحقيقة فهو قول بعدم الاستغراق.
قوله: "ومنها المفرد المحلى باللام" قد سبق أن المعرف باللام إذا لم يكن للعهد الخارجي فهو للاستغراق إلا أن تدل القرينة على أنه لنفس الماهية كما في قولنا الإنسان حيوان ناطق أو للمعهود الذهني كما في أكلت الخبز، وشربت الماء فإنه للبعض الخارجي المطابق للمعهود الذهني، وهو الخبز، والماء المقدر في الذهن أنه يؤكل، ويشرب، وهو مقدار معلوم كذا ذكر المحققون والمصنف جعله لتعريف الماهية فكأنه أراد بالمعهود الذهني المقدم على الاستغراق ما لم يسبق ذكره كقولك للغلام قد دخلت البلد، وتعلم أن فيه سوقا أدخل السوق إشارة إلى سوق البلد، ومثله عند المحققين معهود خارجي لكونه إشارة إلى معين.
قوله: "كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} " أي الذي سرق، والتي سرقت نبه بالمثالين على أن المراد باللام هاهنا أعم من حرف التعريف، واسم الموصول مع ما في المثال الأول من الدليل على كون الصيغة للعموم.
قوله: "ومنها" أي، ومن ألفاظ العام النكرة الواقعة في موضع، ورد فيه النفي بأن ينسحب عليها حكم النفي فيلزمها العموم ضرورة أن انتفاء فرد مبهم لا يكون إلا بانتفاء جميع الأفراد، وقد يقصد بالنكرة الواحد بصفة الواحدة فيرجع النفي إلى الوصف فلا تعم مثل: ما في الدار رجل بل رجلان أما إذا كانت مع من ظاهرة أو مقدرة كما في ما من رجل أو لا رجل في الدار فهو للعموم قطعا، ولهذا قال صاحب الكشاف إن قراءة: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] بالفتح توجب الاستغراق، وبالرفع تجوزه، واستدل المصنف على عموم النكرة المنفية بالنص، والإجماع أما الأول فلأن قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام:91] استفهام تقرير، وتبكيت بمعنى أنزل الله التوراة على موسى، وأنتم معترفون بذلك فهو إيجاب جزئي باعتبار أن تعلق الحكم بفرد معين من الشيء تعلق ببعض أفراده ضرورة، وقد قصد به إلزام اليهود، ورد قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] فيجب أن يكون المعنى ما أنزل الله على واحد من البشر شيئا من الكتب على أنه سلب كلي ليستقيم رده بالإيجاب الجزئي إذ الإيجاب الجزئي لا ينافي السلب الجزئي مثل أنزل الله بعض الكتب على بعض البشر، ولم ينزل بعضها على بعضهم، وإنما قال الإيجاب، والسلب دون الموجبة، والسالبة لأن الكلية، والبعضية هنا ليست في جانب المحكوم عليه بل في متعلقات الحكم. وأما الثاني: فلأن قولنا: "لا إله إلا الله", كلمة توحيد إجماعا فلو لم يكن صدر الكلام نفيا لكل معبود بحق لما كان إثبات الواحد الحق تعالى توحيدا، وللإشارة إلى هذا التقرير قال: ولكلمة التوحيد دون أن يقول، ولقولنا: "لا إله إلا الله" أو لصحة الاستثناء فإن قلت: لما فسرت الإله بالمعبود بحق لزم(1/98)
النسبة إلى الموصوف بالمشتق لأن قوله لا أجالس إلا عالما معناه إلا رجلا عالما فيعم لعموم العلة فإن قيل النكرة الموصوفة مقيدة، والمقيد من أقسام الخاص قلنا هو خاص من وجه، وعام من وجه والنكرة في غير هذه المواضع خاص لكنها تكون مطلقة إذا كانت في الإنشاء ويثبت بها واحد مجهول عند السامع إذا كانت في الأخبار نحو رأيت رجلا فإذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة كانت عينها لأن الأصل في اللام العهد، والمعرفة إذا أعيدت فكذلك في الوجهين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} لن يغلب عسر يسرين، والأصح أن هذا تأكيد، وإن أقر بألف مقيد بصك مرتين يجب ألف وإن أقر به منكرا يجب ألفان عنده إلا أن يتحد المجلس.
ـــــــ
إذا كان الشرط مثبتا حتى لو كان الشرط منفيا لا يكون عاما كقوله إن لم أضرب رجلا فعبدي حر فمعناه أضرب رجلا فشرط البر ضرب أحد من الرجال فيكون للإيجاب الجزئي.
"وكذا النكرة الموصوفة بصفة عامة" عندنا نحو لا أجالس، إلا رجلا عالما فله أن
................................................................................................
استثناء الشيء من نفسه لأن الله تعالى أيضا اسم للمعبود بالحق على ما صرحوا به قلت معناه أنه علم للمعبود بالحق الموجود الباري للعالم الذي هو فرد خاص من مفهوم الإله لا أنه اسم لهذا المفهوم الكلي كالإله ثم لا يخفى أن الاستثناء هاهنا بدل من اسم لا على المحل، والخبر محذوف أي لا إله موجود في الوجود إلا الله فإن قلت هلا قدرت في الإمكان، ونفي الإمكان يستلزم نفي الوجود من غير عكس قلت لأن هذا رد لخطأ المشركين في اعتقاد تعدد الإله في الوجود، ولأن القرينة، وهي نفي الجنس إنما تدل على الوجود دون الإمكان، ولأن التوحيد هو بيان وجوده، ونفي إله غيره، لا بيان إمكانه، وعدم إمكان غيره، ولا يجوز أن يكون الاستثناء مفرغا، واقعا موقع الخبر لأن المعنى على نفي الوجود عن آلهة سوى الله تعالى على نفي مغايرة الله عن كل إله.
قوله: "والنكرة في موضع الشرط" يريد أن الشرط في مثل إن فعلت فعبده حر، أو امرأته طالق لليمين على تحقق نقيض مضمون الشرط فإن كان الشرط مثبتا مثل إن ضربت رجلا فكذا فهو يمين للمنع بمنزلة قولك، والله لا أضرب رجلا، وإن كان منفيا مثل إن لم أضرب رجلا فكذا فهو يمين للحمل بمنزلة قولك، والله لأضربن رجلا، ولا شك أن النكرة في الشرط المثبت خاص يفيد الإيجاب الجزئي فيجب أن يكون في جانب النقيض للعموم، والسلب الكلي، والنكرة في الشرط المنفي عام يفيد السلب الكلي فيجب أن يكون في جانب النقيض للخصوص، والإيجاب الجزئي فظهر أن عموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي.
قوله: "وكذا النكرة الموصوفة بصفة عامة"، وهي التي لا تختص بفرد، واحد من أفراد تلك النكرة كما إذا حلف لا يجالس إلا رجلا عالما فإن العلم ليس مما يختص واحدا دون واحد من الرجال بخلاف ما إذا حلف لا يجالس إلا رجلا يدخل داره وحده قبل أحد فإن هذا الوصف لا يصدق إلا على فرد واحد، واستدل على عمومها لوجهين:(1/99)
ومنها أي، وهي نكرة تعم بالصفة فإن قال أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه عتقوا، وإن قال أي عبيدي ضربته لا يعتق إلا واحد قالوا لأن في الأول، وصفه بالضرب فصار عاما به، وفي الثاني قطع الوصف عنه، وهذا الفرق مشكل من جهة النحو لأن في الأول، وصفه بالضاربية، وفي الثاني بالمضروبية، وهنا فرق آخر، وهو أن أيا لا يتناول إلا
ـــــــ
يجالس كل عالم لقوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة:221] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [البقرة:263] الآية، وإنما يدل على العموم لأنه في معرض التعليل لقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221]، وهذا الحكم عام، ولو لم تكن العلة المذكورة عامة لما صح التعليل. ولأن النسبة إلى المشتق تدل على علية المأخذ فكذا النسبة
................................................................................................
الأول: الاستعمال في قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] للقطع بأن هذا الحكم عام في كل عبد مؤمن، وكل قول معروف مع أن قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ} وقع في معرض التعليل للنهي عن نكاح المشركين، وهو عام لما ذكرنا من أن الجمع المعرف باللام عام، في النفي، والإثبات فيجب عموم العلة ليلائم عموم الحكم، وفي هذه إشارة إلى الرد على من زعم أن عموم النكرة الموصوفة مختص بغير الخبر أو بكلمة أي أو بالنكرة المستثناة من النفي.
الثاني: أن تعليق الحكم بالوصف المشتق سواء ذكر موصوفه أو لم يذكر مشعر بأن مأخذ اشتقاق الوصف علة لذلك الحكم فيعم الحكم بعموم علته، وهذا مراد من قال الصفة، والموصوف كشيء واحد فعمومها عمومه، ويدل على هذا الأصل أنه لو حلف لا يجالس إلا رجلا يحنث بمجالسة رجلين، ولو حلف لا يجالس إلا رجلا عالما لم يحنث بمجالسة عالمين أو أكثر، وقد يقال في بيان ذلك أن الاستثناء ليس بمستقل فحكمه إنما يؤخذ من صدر الكلام، وهذه النكرة في صدر الكلام عامة لوقوعها في سياق النفي لأن المعنى لا أجالس رجلا عالما، ولا رجلا جاهلا، ولا غير ذلك إلا رجلا عالما، ولا يخفى أن هذا البيان جار بعينه في مثل لا أجالس إلا رجلا، والوجه ما أشار إليه شمس الأئمة حيث قال إن النكرة إذا كانت غير موصوفة فالاستثناء باسم الشخص فيتناول، واحدا، وإذا كانت موصوفة فالاستثناء بصفة النوع فيختص ذلك النوع بصيرورته مستثنى، وتحقيق ذلك أن في النكرة معنى الوحدة، والجنسية فيكون لا أجالس إلا رجلا معناه إلا رجلا واحدا فيحنث بمجالسة رجلين إلا أنه قد تنضم إليها قرينة دالة على أن القصد منها إلى مجرد الجنسية دون الوحدة فلا يختص بعض الأفراد كما إذا وصفت بصفة عامة، والحكم مما يصح تعليله بهذا الوصف فإنه يعلم من ذلك تعلق الحكم بكل ما يوجد فيه الوصف إلا أن القرينة لا تنحصر في الوصف للقطع بأن القصد في مثل تمرة خير من جرادة، وأكرم رجلا لا امرأة إلى الجنس دون الفرد، ولا كل وصف يصلح قرينة للقطع بأنه لا عموم في مثل لقيت رجلا عالما ووالله لأجالسن رجلا عالما، ويحصل البر بمجالسة واحد فالحاصل أن النكرة في غير موضع النفي قد تعم بحسب اقتضاء المقام لا أنه يكثر في النكرة الموصوفة بوصف عام.(1/100)
الواحد المنكر ففي الأول لما كان عتقه معلقا بضربه مع قطع النظر عن الغير فيعتق كل واحد باعتبار أنه واحد مفرد فحينئذ لا تبطل الوحدة، ولو لم يثبت هذا وليس البعض أولى من البعض لبطل بالكلية، وفي الثاني، وهو قوله أي عبيدي ضربته يثبت الواحد، ويتخير فيه الفاعل نحو: "أيما إهاب دبغ فقد طهر", ونحو: كل أي خبز تريد.
ـــــــ
إلى الموصوف بالمشتق لأن قوله لا أجالس إلا عالما معناه إلا رجلا عالما فيعم لعموم العلة فإن قوله لا أجالس إلا عالما لعموم العلة، ومعناه لا أجالس إلا رجلا عالما فإن أظهرنا الموصوف، وهو الرجل، ونقول لا أجالس إلا رجلا عالما كان عاما أيضا. "فإن قيل النكرة الموصوفة مقيدة، والمقيد من أقسام الخاص قلنا هو خاص من وجه، وعام من وجه" أي خاص بالنسبة إلى المطلق الذي لا يكون فيه ذلك القيد عام في إفراد ما يوجد فيه ذلك القيد. "والنكرة في غير هذه المواضع خاص لكنها تكون مطلقة إذا كانت في الإنشاء"، ونحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]. "ويثبت بها واحد مجهول عند السامع إذا كانت في الأخبار نحو رأيت رجلا فإذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة كانت عينها لأن الأصل في اللام العهد، والمعرفة إذا أعيدت فكذلك في الوجهين" أي إذا أعيدت المعرفة نكرة كان الثاني غير الأول، وإن أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول فالمعتبر نكير الثاني، وتعريفه.
................................................................................................
قوله: "خاص من وجه وعام من وجه" فإن قلت قد صرح فيما سبق بأن اللفظ الواحد لا يكون خاصا، وعاما من حيثيتين قلت ليس المراد بالخاص هاهنا الخاص الحقيقي أعني ما وضع لكثير محصور أو لواحد بل الإضافي أي ما يكون متناولا لبعض ما تناوله لفظا آخر لا لمجموعه فيكون أقل تناولا بالإضافة إليه، وهو معنى خصوصه، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة:234] {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق:4] كل منهما بالنسبة إلى الآخر خاص من وجه عام من وجه وذكر ابن الحاجب أن التخصيص يطلق على قصر اللفظ على بعض مسمياته، وإن لم يكن عاما كما يطلق العام على اللفظ بمجرد تعدد مسمياته مثل العشرة.
قوله: "والنكرة في غير هذه المواضع" أي النفي، والشرط المثبت، والوصف بصفة عامة تخص لأنها موضوعة للفرد فلا تعم إلا بدليل يوجب العموم، ولا يخفى أن النكرة المصدرة بلفظ كل مثل أكرم كل رجل، والنكرة المستغرقة باقتضاء المقام كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ}، وقولهم تمرة خير من جرادة، واقعة في غير هذه المواضع مع أنها عامة ثم النكرة إذا كانت خاصة فإن، وقعت في الإنشاء فهي مطلقة تدل على نفس الحقيقة من غير تعلق لأمر زائد، وهذا معنى قولهم المطلق هو المتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي، ولا بالإثبات كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فإنه إنشاء للأمر بمنزلة صيغ العقود مثل بعت، واشتريت، وإن وقعت في الأخبار مثل رأيت رجلا فهي لإثبات واحد مبهم من ذلك الجنس غير معلوم التعين عند السامع، وجعله مقابلا للمطلق باعتبار اشتماله على قيد الوحدة، ولقائل أن يقول لا نسلم عدم(1/101)
ومنها: من وهو يقع خاصا كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} ويقع عاما في العقلاء إذا كان للشرط نحو: "من دخل دار أبي سفيان
ـــــــ
تعرض المطلق بقيد الوحدة للقطع بأن معنى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] ذبح بقرة واحدة، ومعنى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92] إعتاق رقبة واحدة فكان المراد أن ذلك ليس بلازم بل يجوز أن يراد به نفس الحقيقة أو فرد منها أو ما صدقت هي عليه واحدا كان أو أكثر، ولهذا فسره المحققون بالشائع في جنسه بمعنى أنه لحصة محتملة الحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك من غير تعيين. وأما النزاع في عموم النكرة في الإنشاءات والخبر فالحق أنه لفظي لأن القائلين بالعموم لا يريدون شمول الحكم لكل فرد حتى يجب في مثل أعط الدرهم فقيرا صرفه إلى كل فقير، وفي مثل: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ذبح كل بقرة وفي مثل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} تحرير كل رقبة بل المراد الصرف إلى فقير أي فقير كان، وكذا المراد ذبح بقرة أي بقرة كانت، وتحرير رقبة أي رقبة كانت فإن سمي مثل هذا عاما فعام، وإلا فلا على أنهم جعلوا مثل من دخل هذا الحصن أولا فله كذا عاما مع أنه من هذا القبيل فإن جعل مستغرقا فكل نكرة كذلك، وإلا فلا جهة للعموم.
قوله: "فإذا أعيدت نكرة" لما أبحر الكلام إلى ذكر النكرة، وإفادتها العموم، والخصوص أردفه بما اشتهر من أن النكرة إذا أعيدت نكرة فالثاني غير الأول، والمعرفة بالعكس، والكلام فيما إذا أعيد اللفظ الأول مع كيفيته من التنكير، والتعريف أو بدونها، وحينئذ يكون طريق التعريف هو اللام أو الإضافة لتصح إعادة المعرفة نكرة، وبالعكس، وتفصيل ذلك أن المذكور أولا إما أن يكون نكرة أو معرفة، وعلى التقديرين إما أن يعاد نكرة أو معرفة فيصير أربعة أقسام، وحكمها أن ينظر إلى الثاني فإن كان نكرة فهو مغاير للأول، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهودا سابقا في الذكر، وإن كان معرفة فهو الأول حملا له على المعهود الذي هو الأصل في اللام أو بالإضافة، وذكر في الكشف أنه إن أعيدت النكرة نكرة فالثاني مغاير للأول وإلا فعينه لأن المعرفة تستغرق الجنس، والنكرة تتناول البعض فيكون داخلا في الكل سواء قدم أو أخر، ومثل لإعادة المعرفة نكرة بقول الحماسي:
صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوان ... عسى الأيام أن يرجعن قوما كالذي كانوا
مع القطع بأن الثاني عين الأول، وفيه نظر أما أولا فلأن التعريف لا يلزم أن يكون للاستغراق بل العهد هو الأصل، وعند تقدم المعهود لا يلزم أن تكون النكرة عينه. وأما ثانيا فلأن معنى كون الثاني عين الأول أن يكون المراد به هو المراد الأول، والجزء بالنسبة إلى الكل ليس كذلك. وأما ثالثا فلأن إعادة المعرفة نكرة مع مغايرة الثاني للأول كثير في الكلام قال الله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} إلى قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنعام:154-155]، وقال الله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وقال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام:165] إلى غير ذلك، واعلم أن المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق، وخلو المقام عن القرائن، وإلا فقد تعاد النكرة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84](1/102)
فهو آمن" فإن قال من شاء من عبيدي عتقه فهو حر فشاءوا عتقوا، وفيمن شئت من عبيدي عتقه فاعتقه فشاء الكل يعتق الكل عندهما عملا بكلمة العموم، ومن للبيان، وعند
ـــــــ
"وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] لن يغلب عسر يسرين، والأصح أن هذا تأكيد، وإن أقر بألف مقيد بصك مرتين يجب ألف وإن أقر به منكرا يجب ألفان عنده" أي عند أبي حنيفة رحمه الله. "إلا أن يتحد المجلس" فالأقسام العقلية أربعة ففي قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15-16] أعيدت النكرة معرفة، وفي قوله تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6] أعيدت النكرة نكرة، والمعرفة معرفة، ونظير المعرفة التي تعاد نكرة غير مذكور وهو ما إذا أقر بألف مقيد بصك ثم أقر في مجلس آخر بألف منكر لا رواية لهذا، ولكن ينبغي أن يجب ألفان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
"ومنها أي، وهي نكرة تعم بالصفة فإن قال أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه عتقوا، وإن قال أي عبيدي ضربته لا يعتق إلا واحد قالوا لأن في الأول، وصفه بالضرب فصار عاما به، وفي الثاني قطع الوصف عنه، وهذا الفرق مشكل من جهة النحو لأن في الأول، وصفه بالضاربية، وفي الثاني بالضروبية، وهنا فرق آخر، وهو أن أيا لا يتناول إلا الواحد المنكر ففي الأول" في قوله أي عبيدي ضربك فهو حر. "لما كان عتقه" أي عتق الواحد المنكر. "معلقا بضربه مع قطع النظر عن الغير" فيعتق كل واحد باعتبار
................................................................................................
[الزخرف: 84] وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} [الأنعام:37] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54] يعني قوة الشباب، ومنه باب التوكيد اللفظي، وقد تعاد النكرة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} إلى قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:155-156]، وقد تعاد المعرفة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة:48]، وقد تعاد المعرفة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163]، ومثله كثير في الكلام كقوله هذا العلم علم كذا، وكذا، ودخلت الدار فرأيت دارا كذا، وكذا، ومنه بيت الحماسة.
قوله: "فكذلك في الوجهين" يعني أن المعرفة مثل النكرة في حالتي الإعادة معرفة، والإعادة نكرة في أنها إن أعيدت معرفة كان الثاني هو الأول، وإن أعيدت نكرة كان غيره، ولما كانت عبارة المتن تحتمل عكس ذلك بأن يتوهم أن المراد أن المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثاني غير الأول كالنكرة إذا أعيدت نكرة، وإذا أعيدت نكرة فالثاني هو الأول كالنكرة إذا أعيدت معرفة فسره في الشرح بما ذكرنا دفعا لذلك التوهم.
قوله: "لن يغلب عسر يسرين" منقول عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم، وروي عن النبي عليه السلام أنه خرج إلى أصحابه ذات يوم فرحا مستبشرا، وهو يضحك، ويقول: "لن يغلب عسر(1/103)
أبي حنيفة رحمه الله يعتقهم إلا واحدا لأن من للتبعيض إذا دخل على ذي أبعاض كما في كل من هذا الخبز، ولأنه متيقن فوجب رعاية العموم، والتبعيض، وفي المسألة الأولى هذا مراعى لأن عتق كل معلق بمشيئته مع قطع النظر عن غيره فكل واحد بهذا الاعتبار بعض.
ـــــــ
أنه واحد مفرد فحينئذ لا تبطل الوحدة، ولو لم يثبت هذا أي عتق كل واحد. "وليس البعض أولى من البعض لبطل" أي الكلام "بالكلية، وفي الثاني، وهو قوله أي عبيدي ضربته يثبت الواحد، ويتخير فيه الفاعل" إذ هناك يمكن التخيير من الفاعل المخاطب بخلاف الأول "نحو: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" هذا نظير الأول فإن طهارته متعلقة بدباغته من غير أن يكون له فاعل معين يمكن منه التخيير فيدل على العموم. "ونحو كل أي حين تريد" هذا نظير الثاني فإن التخيير من الفاعل المخاطب ممكن هنا فلا يتمكن من أكل كل واحد بل أكل واحد لكن يتخير فيه المخاطب، ومثل هذا الكلام للتخيير في العرف.
"ومنها من، وهو يقع خاصا كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس:42]: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس:43] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} " فإن المراد بعض مخصوص من المنافقين. "ويقع عاما في العقلاء إذا كان للشرط نحو "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فإن قال من شاء من عبيدي عتقه فهو حر فشاءوا عتقوا، وفيمن شئت من عبيدي عتقه فاعتقه فشاء الكل يعتق الكل عندهما عملا بكلمة العموم، ومن للبيان، وعند أبي حنيفة رحمه الله يعتقهم إلا واحدا" لأن من للتبعيض إذا دخل على ذي أبعاض. "كما في كل من هذا الخبز، ولأنه متيقن" أي البعض متيقن لأن من إذا كان للتبعيض فظاهر، وإن كان للبيان فالبعض مراد فإرادة البعض متيقنة، وإرادة الكل محتملة. "فوجب رعاية العموم، والتبعيض، وفي المسألة الأولى هذا مراعى لأن عتق كل معلق بمشيئته مع قطع النظر عن غيره فكل واحد بهذا الاعتبار بعض" أي كل واحد مع قطع النظر عن غيره بعض من المجموع فيعتق كل واحد مع رعاية التبعيض بخلاف من شئت فإن المخاطب إن شاء الكل فمشيئة الكل مجتمعة فيه فيبطل التبعيض، وهذا الفرق، والفرق الأخير في أي مما تفردت به.
................................................................................................
يسرين"، وهذا يدل على أن الثاني مغاير للأول في النكرة بخلاف المعرفة فتنكير يسرا للتفخيم أو للأفراد، وتعريف العسر للعهد أي العسر الذي أنتم عليه أو الجنس أي الذي يعرفه كل أحد فيكون اليسر الثاني مغايرا للأول بخلاف العسر، وقد قال فخر الإسلام فيه نظر، ووجهوه بأن الجملة الثانية هاهنا تأكيد للأولى لتقريرها في النفس، وتمكينها في القلب لأنها تكرير صريح لها فلا يدل على تعدد اليسر كما لا يدل قولنا إن مع زيد كتابا أن مع زيد كتابا على أن معه كتابين فأشار إليه المصنف بقوله: والأصح أن هذا تأكيد.(1/104)
قوله: "وإن أقر بألف" يعني لو أدار صكا على الشهود فأقر عندهم مرتين أو أكثر بألف في ذلك الصك فالواجب ألف واحد اتفاقا لأن الثاني هو الأول لكونه معترفا بالمال الثابت في الصك فإن لم يقيد بالصك بل أقر بحضرة شاهدين بألف ثم في مجلس آخر بحضرة شاهدين بألف من غير بيان للسبب فعند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه ألفان بشرط مغايرة الشاهدين الآخرين للأولين في رواية، وبشرط عدم مغايرتهما لهما في رواية، وهذا بناء على أن الثاني غير الأول كما إذا كتب لكل ألف صكا، وأشهد على كل صك شاهدين، وعندهما لم يلزمه إلا ألف واحد لدلالة العرف على أن تكرار الإقرار لتأكيد الحق بالزيادة في الشهود، وإن اتحد المجلس فاللازم ألف واحد اتفاقا على تخريج الكرخي لأن للمجلس تأثيرا في جمع الكلمات المتفرقة، وجعلها في حكم كلام واحد، وإنما قيدنا كلا من الإقرارين بكونه عند شاهدين لأنه لو أقر بألف عند شاهد، وبألف عند شاهد آخر أو بألف عند شاهدين، وألف عند القاضي فاللازم ألف، واحد اتفاقا كذا في المحيط بقي صورتان إحداهما أن يقر عند شاهدين بألف منكر ثم في مجلس آخر عند شاهدين بألف مقيد بما في هذا الصك فينبغي أن يكون الواجب ألفا اتفاقا لأن النكرة أعيدت معرفة، والأخرى أن يقر بألف مقيد بالصك عند شاهدين ثم في مجلس آخر بألف منكر عند شاهدين، وتخريج المصنف رحمه الله تعالى فيها أنه يجب أن يكون اللازم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ألفين بناء على أنها معرفة أعيدت نكرة فيكون الثاني مغايرا للأول
قوله: "ومنها أي، وهي نكرة تعم بالصفة" يريد أنها باعتبار أصل الوضع للخصوص، والقصد إلى الفرد كسائر النكرات، وإنما تعم بعموم الصفة كما سبق في لا يكلم إلا رجلا عالما، وتنكيرها حال الإضافة إلى النكرة ظاهر. وأما عند الإضافة إلى المعرفة فمعناه أنها لواحد مبهم يصلح لكل واحد من الآحاد على سبيل البدل، وإن كانت معرفة بحسب اللفظ، والمراد بوصفها الوصف المعنوي لا النعت النحوي لأن الجملة بعدها قد تكون خبرا أو صلة أو شرطا، وقد صرحوا في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] أنها نكرة وصفت بحسن العمل، وهو عام فعمت بذلك مع أنه لا خفاء في أنها مبتدأ، وأحسن عملا خبره، والأظهر أن عمومها بحسب الوضع للفرق الظاهر بين أعتق عبدا من عبيدي دخل الدار، وأعتق عبيدي دخل الدار، والاستدلال على خصوصها بعود الضمير المفرد إليه مثل أي الرجل أتاك وبصحة الجواب بالواحد مثل زيد أو عمر وضعف لجريان ذلك في كثير من كلمات العموم مثل من، وما، وغيرهما.
قوله: "فإن قال أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه" جميعا معا أو على الترتيب عتقوا جميعا، وإن قال أي عبيدي ضربته فهو حر فضربهم جميعا لا يعتق إلا واحد منهم، وهو الأول إن ضربهم على الترتيب لعدم المزاحم، وإلا فالخيار إلى المولى لأن نزول العتق من جهته، ووجه الفرق أنه وصف في الأول بالضرب، وهو عام، وفي الثاني قطع عن الوصف لأن الضرب إنما أضيف إلى المخاطب لا إلى النكرة التي تناولها أي، وإنما لم يعتقوا جميعا، ولا واحد منهم فيما إذا قال: أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر، والخشبة مما يطيق حملها واحد فحملوها معا لأن الشرط هو حمل الخشبة بكمالها ولم يحملها واحد منهم حتى لو حملوها على التعاقب يعتق الكل وأما إذا كانت الخشبة مما لا يطيق حملها واحد فحملوها معا عتقوا جميعا لأن المقصود هنا صيرورة الخشبة(1/105)
محمولة إلى موضع حاجته، وهذا يحصل بمطلق فعل الحمل من كل واحد منهم، وقد حصل بخلاف الصورة الأولى فإن المقصود معرفة جلادتهم، وذلك إنما يحصل بحمل الواحد منهم تمام الخشبة لا بمطلق الحمل لكن ينبغي أن يعتق الكل إذا حملوها على التعاقب كما في أي ضربك.
قوله: "وهذا الفرق مشكل من جهة النحو" لأنه إن أريد بالوصف النعت النحوي فلا نعت في شيء من الصورتين إذ الجملة صلة أو شرط لأن أيا هنا موصولة، وشرطية باتفاق النحاة، وإن أريد الوصف من جهة المعنى فهي موصوفة في الصورتين لأنها كما وصفت في الأولى بالضاربية للمخاطب وصفت في الثانية بالمضروبية له، والقول بأن الأول وصف، والثاني قطع عن الوصف تحكم ألا يرى أن يوما فيما إذا قال، والله لا أقربكما إلا يوما أقربكما فيه عام بعموم الوصف مع أنه مسند إلى ضمير المتكلم، وأجاب صاحب الكشف بأن الضرب قائم بالضارب فلا يكون بالمضروب لامتناع قيام الوصف الواحد بشخصين بخلاف الزمان فإن الفعل متصل به حقيقة، ويجوز أن يصير اليوم عاما به، وأيضا المفعول به فضلة يثبت ضرورة فيقدر بقدرها فلا يظهر أثره في التعميم بخلاف المفعول فيه فإنه صرح به، وقصد وصفه بصفة عامة مع ما بين الفعل والزمان من التلازم، وفيه نظر أما أولا فلأن الضرب صفة إضافية لها تعلق بالفاعل، وبهذا الاعتبار هو وصف له، وتعلق بالمفعول به بهذا الاعتبار هو ووصف له، ولا امتناع في قيام الإضافيات المضافين. وأما ثانيا فلأن الفعل المتعدي يحتاج إلى المفعول به في التعقل، والوجود جميعا، وإلى المفعول فيه في الوجود فقط فاتصاله الأول أشد، وأثر المفعول به هاهنا إنما هو في ربط الصفة بالموصوف لا في التعميم، وكونه ضروريا لا ينافي الربط، ولو سلم فالفاعل أيضا ضروري فينبغي أن لا يظهر أثره في التعميم، وكونه غير فضلة لا ينافي الضرورة بل يؤكدها.
قوله: "وهنا فرق آخر" تفرد به المصنف حاصله أن أيا لواحد منكر ففي الصورة الأولى إن لم يعتق واحد يلزم بطلان الكلام بالكلية، وإن عتق واحد دون واحد يلزم الترجيح بلا مرجح إذ لا أولوية للبعض فتعين عتق الكل، ومعنى الوحدة باق من جهة أن عتق كل واحد معلق بضربه مع قطع النظر عن الغير فهو بهذا الاعتبار واحد منفرد عن الغير، وفي الصورة الثانية يتعين الواحد باختيار المخاطب ضربه لأن الكلام لتخيير المخاطب في تعيينه فتحصل الأولوية، ويثبت الواحد من غير عموم، وظاهر أنه لا معنى لتخيير الفاعل في الصورة الأولى لأنه إنما يعقل في متعدد، ولا تعدد في المفعول، وهذا الفرق أيضا مشكل أما أولا فلأن الصورة الثانية قد تكون بحيث لا يتصور فيها التخيير مثل أي عبيدي، وطئته دابتك أو عضه كلبك فهو حر. وأما ثانيا فلأن الكلام فيما إذا لم يقع من المخاطب اختيار البعض بل ضرب الجميع معا أو على الترتيب فحينئذ ينبغي أن لا يعتق واحد منهم لعدم وقوع الشرط، وهو اختيار البعض أو يعتق كل واحد كما ذكر في الصورة الأولى بعينه لجواز أن يعتبر كل واحد منفردا بالمضروبية كما في الضاربية وأما ثالثا فلأنا نسلم في الصورة الأولى عدم أولوية البعض مطلقا بل إذا ضربوه معا، وعلى هذا التقدير لا يلزم من عدم أولوية البعض عتق كل واحد لجواز أن يعتق واحد مبهم، ويكون الخيار إلى المولى كما في الصورة الثانية، وكما إذا قال أعتقت واحدا من عبيدي فإنه لا يصح أن يقال لو لم يثبت عتق كل واحد، وليس البعض أولى من البعض يلزم بطلان الكلام بالكلية لجواز أن يكون الكلام لإعتاق كل واحد، ويكون خيار(1/106)
التعيين إلى المولى فإن قلت كون أي للواحد إنما يصح في المضاف إلى المعرفة مثل أي الرجال، وأي الرجلين. وأما إذا أضيف إلى النكرة فقد يكون للاثنين مثل أي رجلين ضرباك أو الجمع مثل أي رجال ضربوك قلت مراده المضاف إلى المعرفة لأن الكلام في أي عبيدي ضربك أو ضربته
قوله: "ومنها من"، وتكون شرطية، واستفهامية، وموصولة، وموصوفة، والأوليان تعمان ذوي العقول لأن معنى من جاءني فله درهم إن جاءني زيد، وإن جاءني عمرو، وهكذا إلى الأفراد، ومعنى من في الدار أزيد في الدار أم عمرو إلى غير ذلك فعدل في الصورتين إلى لفظ من قطعا للتطويل المتعسر، والتفصيل المتعذر. وأما الأخريان فقد يكونان للعموم، وشمول ذوي العقول، وقد يكونان للخصوص، وإرادة البعض كما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس:42] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس:43] بجمع الضمير، وإفراده نظرا إلى المعنى، واللفظ فإنه، وإن كان خاصا للبعض إلا أن البعض متعدد لا محالة فجمع الضمير لا يدل على العموم إلا عند ما يكتفي في العموم بانتظام جمع من المسميات.
قوله: "يعتقهم إلا واحدا" هو آخرهم إن وقع الإعتاق على الترتيب، وإلا فالخيار إلى المولى، وذلك لأن استعمال من في التبعيض هو الشائع الكثير حيث يكون مجرورها ذا أبعاض فيحمل عليه ما لم توجد قرينة تؤكد العموم، وترجح البيان كما في من شاء من عبيدي عتقه فهو حر بقرينة إضافة المشيئة إلى ما هو من ألفاظ العموم، وكقوله تعالى: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62]، وكقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب:51] بقرينة قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ} [الممتحنة:12] وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب:51] فإنها ترجح العموم، وكون من للبيان فصار الفرق بين من شاء من عبيدي، ومن شئت من عبيدي أن في الأول قرينة دالة على أن من للبيان دون التبعيض بخلاف الثاني، وقد يقال: إن العموم هاهنا العموم الصفة، والمشيئة صفة الفاعل دون المفعول، ولو سلم فالمفعول "عتقه" لا كلمة "من" وضعه ظاهر، وبينهما فرق آخر تفرد به المصنف تقريره أن من يحتمل التبعيض، والبيان، والتبعيض متيقن ثابت على التقديرين ضرورة وجود البعض في ضمن الكل، وإرادة الكل محتملة فيجعل من على التبعيض أخذا بالمتيقن المقطوع، وتركا للمحتمل المشكوك ففي من شاء من عبيدي أمكن العمل بعموم من، وتبعيض من بأن يعتق كل واحد لأنه لما علق عتق كل لمشيئته مع قطع النظر عن الغير كان كل من شاء العتق بعضا من العبيد بخلاف من شئت من عبيدي فإن المخاطب لو شاء عتق الكل سقط معنى التبعيض بالكلية، وهذا ظاهر على تقدير تعلق المشيئة بالكل دفعة لأن من شاء المخاطب عتقه ليس بعض العبيد بل كلهم، وأما على تقدير الترتيب ففيه إشكال لأنه يصدق على كل واحد أنه شاء المخاطب عتقه حال كونه بعضا من العبيد، ويمكن الجواب بأن تعلق المشيئة بكل على الانفراد أمر باطل لا اطلاع عليه، والظاهر من إعتاق الكل تعلق المشيئة بالكل فلا بد من إخراج البعض ليتحقق التبعيض، وهاهنا نظر، وهو أن البعضية التي تدل عليها من هي البعضية المجردة النافية للكلية لا البعضية التي هي أعم من أن تكون في ضمن الكل أو بدونه، وحينئذ لا نسلم أن التبعيض متيقن، وهو ظاهر.(1/107)
ومنها ما في غير العقلاء، وقد يستعار لمن فإن قال: إن كان ما في بطنك غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية لم تعتق لأن المراد الكل، وإن قال طلقي نفسك من ثلاث ما شئت تطلق ما دونها وعندهما ثلاثا، وقد مر وجههما.
ومنها كل، وجميع، وهما محكمان في عموم ما دخلا عليه بخلاف سائر أدوات العموم فإن دخل الكل على النكرة فلعموم الأفراد، وإن دخل على المعرفة فللمجموع
ـــــــ
"ومنها ما في غير العقلاء، وقد يستعار لمن فإن قال: إن كان ما في بطنك غلاما فأنت حرة فولدت غلاما، وجارية لم تعتق لأن المراد الكل، وإن قال طلقي نفسك من ثلاث ما شئت تطلق ما دونها وعندهما ثلاثا، وقد مر وجههما، ومنها كل، وجميع، وهما محكمان في عموم ما دخلا عليه بخلاف سائر أدوات العموم فإن دخل الكل على النكرة فلعموم الأفراد، وإن دخل على المعرفة فلمجموع قالوا عمومه على سبيل الانفراد أي يراد كل واحد مع قطع النظر عن غيره" ، وهذا إذا دخل على النكرة. "فإن قال كل من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة معا يستحق كل واحد إذ في كل فرد قطع النظر عن غيره فكل واحد أول بالنسبة إلى المتخلف بخلاف من دخل، وهاهنا فرق آخر هو أن من دخل أولا عام على سبيل البدل فإذا أضاف الكل إليه اقتضى.
................................................................................................
قوله: "ومنها ما في غير العقلاء" هذا قول بعض أئمة اللغة، والأكثرون على أنه يعم العقلاء، وغيرهم فإن قيل ففي قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] يجب قراءة جميع ما تيسر عملا بالعموم كما في قولهم إن كان ما في بطنك غلاما فأنت حرة قلنا بناء الأمر على التيسر دل على أن المراد ما تيسر بصفة الانفراد دون الاجتماع لأنه عند الاجتماع ينقلب متعسرا.
قوله: "وقد مر، وجههما" أما، وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فهو أن ما عام، ومن للبيان والثلاث جميع عدد الطلاق المشروع. وأما وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فهو أن من للتبعيض فيجب أن يكون ما شاءت بعض الثلاث.
قوله: "وهما محكمان" ليس المراد أنهما لا يقبلان التخصيص أصلا لأن قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام:101]، وقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] مخصوص على ما سبق بل المراد أنهما لا يقعان خاصين بأن يقال كل رجل أو جميع الرجال، والمراد واحد بخلاف سائر أدوات العموم على ما سبق في المعرف باللام، ومن، وما وذكر شمس الأئمة وفخر الإسلام أن كلمة كل تحتمل الخصوص نحو كلمة من كما إذا قال كل من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخلوا على التعاقب فالنفل للأول خاصة لاحتمال الخصوص في كلمة كل فإن الأول اسم لفرد سابق، وهذا الوصف متحقق فيه دون من دخل بعده، وقد جعل المصنف مثل ذلك من العموم الذي يكون تناوله على سبيل البدل.
قوله: "فإن دخل الكل" يعني إذا أضيف لفظ كل إلى النكرة فهو لعموم أفرادها، وإذا أضيف(1/108)
قالوا عمومه على سبيل الانفراد أي يراد كل واحد مع قطع النظر عن غيره فإن قال كل من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة معا يستحق كل واحد إذ في كل فرد قطع النظر عن غيره فكل واحد أول بالنسبة إلى المتخلف بخلاف من دخل، وهاهنا فرق آخر هو أن من دخل أولا عام على سبيل البدل فإذا أضاف الكل إليه اقتضى عموما آخر لئلا يلغو فيقتضي العموم في الأول فيتعدد الأول وجميع عمومه على سبيل الاجتماع فإن قال جميع من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة فلهم نفل واحد وإن دخلوا فرادى يستحق الأول فيصير جميع مستعارا لكل.
ـــــــ
عموما آخر لئلا يلغو فيقتضي العموم في الأول فيتعدد الأول"، وهذا الفرق قد تفرد به أيضا، وتحقيقه أن الأول عبارة عن الفرد السابق بالنسبة إلى كل واحد ممن هو غيره ففي قوله من دخل هذا الحصن أولا يمكن حمل الأول على هذا المعنى، وهو معناه الحقيقي أما في قوله كل من دخل أولا فلفظ كل دخل على قوله من دخل أولا فاقتضى التعدد في المضاف إليه، وهو من دخل أولا فلا يمكن حمل الأول على معناه الحقيقي لأن الأول الحقيقي لا يكون متعددا فيراد معناه المجازي، وهو السابق بالنسبة إلا المتخلف. "وجميع عمومه على سبيل الاجتماع فإن قال جميع من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة فلهم نفل واحد إن دخلوا فرادى يستحق الأول فيصير جميع مستعار الكل" كذا ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى في أصوله، ويرد عليه أنه يلزم الجمع بين الحقيقة، والمجاز، ولا يمكن أن يقال إن اتفق الدخول على سبيل الاجتماع يحمل على الحقيقة، وإن اتفق فرادى يحمل على المجاز لأنه في حال التكلم لا بد أن يراد أحدهما معينا، وإرادة كل واحد منهما معينا تنافي إرادة الآخر فحينئذ يلزم الجمع بين الحقيقة، والمجاز فأقول معنى قوله إنه مستعار لكل أن الكل إلا فرادى يدل على أمرين أحدهما استحقاق الأول النفل سواء كان الأول واحدا أو جمعا، والثاني أنه إذا كان الأول جمعا يستحق كل واحد منهم نفلا تاما فهاهنا يراد
................................................................................................
إلى المعرفة فلعموم أجزائها فيصح كل رجل يشبعه هذا الرغيف بخلاف كل الرجال ويصح كل الرجال يحمل هذا الحجر بخلاف كل رجل.
قوله: "فدخل عشرة معا " إنما قال ذلك لأنهم لو دخلوا متعاقبين فالنفل للأول خاصة لأن من دخل بعده ليس داخلا أولا لكونه مسبوقا بالغير، ومعنى الأول السابق الغير المسبوق.
قوله: "فكل" أي كل واحد من العشرة الداخلين معا أول بالنسبة إلى المتخلف الذي يقدر دخوله بعد فتح الحصن، وذلك لأن الداخل أولا يجب أن تعتبر إضافته إلى الداخل ثانيا لا إلى من ليس بداخل أصلا.
قوله: "بخلاف من دخل" أي لو قال من دخل هذا الحصن أولا فله ألف فدخله عشرة معا لم يكن لهم، ولا لواحد منهم شيء لأنه ليس عموم من على سبيل الانفراد بل عموم الجنس، وهنا لم(1/109)
الأمر الأول حتى يستحق الأول النفل سواء كان واحدا أو أكثر، ولا يراد المعنى الحقيقي، ولا الأمر الثاني حتى لو دخل جماعة يستحق الجميع نفلا واحدا أو ذلك لأن هذا الكلام للتحريض، والحث على دخول الحصن أولا فيجب أن يستحق السابق النفل سواء كان منفردا أو مجتمعا، ولا يشترط الاجتماع لأنه إذا أقدم الأول على الدخول فتخلف غيره من
................................................................................................
يتحقق أحد دخل أولا، ولا يجوز أن يجعل من استعارة عن الكل أو الجميع ليكون لكل منهم أو لمجموعهم نفل واحد لأن عموم الكل على سبيل الانفراد، وعموم الجميع على سبيل الاجتماع قصد، أو عموم من إنما يثبت ضرورة إبهامه كالنكرة في موضع النفي فلا مشاركة تصحح الاستعارة.
قوله: "وهاهنا فرق آخر" حاصله أن الأول هو السابق على جميع ما عداه، وهو بهذا المعنى لا يتعدد فعند إضافة الكل إليه يجب أن يكون مجازا للسابق على الغير مطلقا سواء كان جميع ما عداه أو بعضه كالمتخلف ليجري فيه التعدد فتصح إضافة الكل الإفرادي إليه فعلى هذا يجب أن يكون من نكرة موصوفة إذ لو كانت موصولة، وهي معرفة لكان كل لشمول الأجزاء بمعنى كل الرجال الذين يدخلون هذا الحصن أولا فلهم كذا فيجب أن يكون للمجموع نفل واحد، وفي هذا الفرق نظر، وهو أنه يقتضي في صورة الدخول فرادى أن يستحق النفل كل واحد منهم غير الأخير لدخوله تحت عموم هذا المجاز أعني السابق بالنسبة إلى المتخلف، وليس كذلك لتصريحهم بأن النفل للأول خاصة، ويمكن الجواب بأن قيد عده المسبوقية بالغير مراد فلا يصدق إلا على الأول خاصة، ومما يجب التنبه له أن أولا هاهنا ظرف بمعنى قبل، وليس من أوصاف الداخلين فكان المراد من قولهم الأول اسم للفرد السابق أن الداخل أولا مثلا اسم لذلك.
قوله: "فإن قال جميع من دخل هذا الحصن أولا" اعلم أن المشروط له النفل في مسائل تقييد دخول الحصن بقيد الأولية إما أن يكون مذكورا بمجرد لفظ من أو مع إضافة الكل أو الجميع إليه، وعلى التقادير الثلاث إما أن يكون الداخل أولا واحدا أو متعددا معا أو على سبيل التعاقب يصير تسعة فإن كان الداخل واحدا فقط فله كمال النفل في الصور الثلاث أما في من دخل، وكل من دخل فظاهر. وأما في جميع من دخل فلأن هذا التنفيل للتشجيع، وإظهار الجلادة فلما استحقه الجماعة بالدخول أولا قالوا حد أولى لأن الجلادة في ذلك أقوى، وإن كان الداخل متعددا فإن دخلوا معا فلا شيء لهم في صورة من دخل، ولكل واحد نفل تام في صورة كل من دخل، وللمجموع نفل واحد في صورة جميع من دخل لأن لفظ جميع للإحاطة على صفة الاجتماع فالعشرة كشخص واحد سابق بالدخول على سائر الناس بخلاف كل فإن عمومه على سبيل الانفراد كما مر، وإن دخلوا على سبيل التعاقب فالنفل للأول منهم في الصور الثلاث أما في من، وكل فظاهر. وأما في الجميع فلأنه يجعل مستعار الكل لقيام الدليل على استحقاق الواحد، وهو أن الجلادة في دخوله، وحده أقوى فهو بالنفل أحرى كذا ذكره فخر الإسلام، واعترض عليه بأن في ذلك جمعا بين الحقيقة، والمجاز لأنهم لو دخلوا معا استحقوا النفل عملا بعموم الجميع، ولو دخلوا فرادى استحقه الأول منهم عملا بمجازه كما إذا لم يدخل إلا واحد، وأجيب بأنهم إن دخلوا معا يحمل على الحقيقة، وإن دخلوا فرادى أو دخل واحد فقط يحمل على المجاز.(1/110)
مسألة: حكاية الفعل لا تعم لأن الفعل المحكي عنه، واقع على صفة معينة نحو صلى النبي عليه السلام في الكعبة فيكون هذا في معنى المشترك فيتأمل فإن ترجح
ـــــــ
المسابقة لا يوجب حرمان الأول عن استحقاق النفل فالقرينة دالة على عدم اشتراط الاجتماع فلا يراد المعنى الحقيقي، وأيضا لا دليل على أنه إذا دخل جماعة يستحق كل واحد من الجماعة نفلا تاما بل الكلام دال على أن للمجموع نفلا واحدا فصار الكلام مجازا عن قوله إن السابق يستحق النفل سواء كان منفردا أو مجتمعا فإن دخل منفردا أو مجتمعا يستحق لعموم المجاز فالاستحقاق مجتمعا ليس لأنه المعنى الحقيقي بل لدخوله تحت عموم المجاز، وهذا بحث في غاية التدقيق.
"مسألة: حكاية الفعل" لا تعم لأن الفعل المحكي عنه، واقع على صفة معينة نحو صلى النبي عليه السلام في الكعبة فيكون هذا في معنى المشترك فيتأمل فإن ترجح بعض المعاني
................................................................................................
ورده صاحب الكشف والمصنف بأن امتناع الجمع بين الحقيقة، والمجاز، إنما هو بالنظر إلى الإرادة دون الوقوع، وهاهنا قد تحقق الجمع في الإرادة ليصح الحمل تارة على حقيقة الجمع، وأخرى على مجازه كما يقال اقتل أسدا، ويراد به سبع أو رجل شجاع حتى يعد ممتثلا بأيهما كان إذ لو أريد حقيقة الجمع لم يستحق الفرد، ولو أريد مجاز، لم يستحق الجمع نفلا واحدا بل يستحق كل واحد نفلا تاما كما إذا صرح بلفظ كل فلدفع هذا الإشكال أورد المصنف كلاما حاصله أن الجميع هاهنا ليس في معناه الحقيقي حتى يتوقف استحقاق النفل على صفة الاجتماع للقرينة المانعة عن ذلك، وهي أن هذا الكلام للتشجيع، والتحريض على الدخول أولا على ما ذكرنا، وليس أيضا مستعار المعنى كل من دخل أولا حتى يستحق كل واحد كمال النفل عند الاجتماع لعدم القرينة على ذلك بل هو مجاز عن السابق في الدخول واحدا كان أو جماعة فيكون للجماعة نفل واحد كما للواحد عملا بعموم المجاز، وهذا المعنى بعض معنى كل من دخل أولا لأن معناه أن السابق يستحق النفل، وأنه لو كان جماعة لكان لكل واحد من آحادها كمال النفل فصار جميع من دخل أولا مستعار البعض معنى كل من دخل أولا فإن قوله الكل الإفرادي يدل على أمرين معناه أن مدلوله مجموع الأمرين إذا ليس كل واحد منهما مدلولا على حدة حتى يكون مشتركا بينهما فإن قلت فالأمر الأول هو استحقاق السابق النفل واحدا كان أو جماعة من غير قيد عدم استحقاق كل واحد من الجماعة تمام النفل، وهاهنا قد اعتبر ذلك مع هذا القيد فلا يكون المراد هو الأمر الأول قلت عدم استحقاق كل واحد تمام النفل ليس من جهة أنه معتبر في المعنى المجازي بل هو من جهة أنه لا دليل على الاستحقاق، والحكم لا يثبت بدون الدليل فقوله لا يراد المعنى الحقيقي أي اعتبار وصف الاجتماع، ولهذا لا يستحق الواحد ولا الأمر الثاني أي استحقاق كل واحد تمام النفل عند الاجتماع، ولهذا كان لمجموع الداخلين معا نفل واحد، وقوله حتى لو دخل جماعة تفريع على عدم إرادة المعنى الثاني، واعلم أنهم لو حملوا الكلام على حقيقته، وجعلوا استحقاق المفرد كمال النفل ثابتا بدلالة النص لكفى.(1/111)
بعض المعاني بالرأي فذاك، وإن ثبت التساوي فالحكم في البعض يثبت بفعله عليه الصلاة والسلام، وفي البعض الآخر بالقياس وأما نحو قضى بالشفعة للجار فليس من هذا القبيل، وهو عام لأنه نقل الحديث بالمعنى، ولأن الجار عام.
ـــــــ
بالرأي فذاك، وإن ثبت التساوي فالحكم في البعض يثبت بفعله عليه السلام، وفي البعض الآخر بالقياس قال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز الفرض في الكعبة لأنه يلزم استدبار بعض أجزاء الكعبة، ويحمل فعله عليه السلام على النفل، ونحن نقول لما ثبت جواز البعض بفعله عليه السلام، والتساوي بين الفرض، والنفل في أمر الاستقبال حالة الاختيار ثابت فيثبت الجواز في البعض الآخر قياسا. "وأما نحو قضى بالشفعة للجار فليس من هذا القبيل، وهو عام لأنه نقل الحديث بالمعنى، ولأن الجار عام" جواب إشكال هو أن يقال حكاية الفعل لما لم تعم فما روي أنه عليه السلام قضى بالشفعة للجار يدل على ثبوت الشفعة للجار الذي لا يكون شريكا فأجاب بأن هذا ليس من باب حكاية الفعل بل هو نقل الحديث بالمعنى فهو حكاية عن قول النبي عليه السلام الشفعة ثابتة للجار، ولئن سلمنا أنه حكاية الفعل لكن الجار عام لأن اللام لاستغراق الجنس لعدم المعهود فصار كأنه قال قضى عليه السلام بالشفعة لكل جار.
"مسألة اللفظ الذي ورد بعد سؤال أو حادثة" إما أن لا يكون مستقلا أو يكون فحينئذ إما أن يخرج مخرج الجواب قطعا أو الظاهر أنه جواب مع احتمال الابتداء أو بالعكس "أي الظاهر
................................................................................................
قوله: "مسألة" تحرير النزاع على ما صرح به في أصول الشافعية أنه إذا حكى الصحابي فعلا من أفعال النبي عليه السلام بلفظ ظاهره العموم مثل: نهى عن بيع الغرر، وقضى بالشفعة للجار هل يكون عاما أم لا فذهب بعضهم إلى عمومه لأن الظاهر من حال الصحابي العدل العارف باللغة أنه لا ينقل العموم إلا بعد علمه بتحققه، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يعم لأن الاحتجاج إنما هو بالمحكي لا الحكاية، والعموم إنما هو في الحكاية لا المحكي ضرورة أن الواقع لا يكون إلا بصفة معينة والمصنف رحمه الله تعالى مثل لذلك بقول الصحابي: صلى النبي صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة، ولا يخفى أنه لا يكون من محل النزاع إلا على تقدير عموم الفعل المثبت في الجهات والأزمان، والصحيح أنه لا عموم له لأن الواقع إنما يكون بصفة معينة، وفي زمان معين، وغيره إنما يلحق به بدليل من دلالة نص أو قياس أو نحو ذلك ثم رد تمثيلهم لذلك بمثل: قضى بالشفعة للجار بأنه ليس حكاية الفعل بل نقل الحديث بمعناه، ولو سلم فلفظ الجار عام، وفيه نظر أما أولا فلأن مدلول الكلام ليس إلا الإخبار عن النبي عليه السلام بأنه حكم بالشفعة للجار، ولا معنى لحكاية الفعل إلا هذا. وأما ثانيا فلأن عموم لفظ الجار لا يضر بالمقصود إذ ليس النزاع إلا فيما يكون حكاية الصحابي بلفظ عام. وأما ثالثا فلأن جعله بمنزلة قول الصحابي قضى النبي عليه السلام بالشفعة لكل جار غير صحيح بعد تسليم كونه حكاية للفعل ضرورة أن الفعل أعني قضاءه بالشفعة إنما، وقع في بعض الجيران بل في جار معين فإن قيل يجوز أن يقع حكمه بصيغة العموم بأن يقول مثلا الشفعة ثابتة للجار قلنا فحينئذ يكون نقل الحديث بالمعنى لا حكاية الفعل، والتقدير بخلافه(1/112)
مسألة: اللفظ الذي ورد بعد سؤال أو حادثة إما أن لا يكون مستقلا أو يكون فحينئذ إما أن يخرج مخرج الجواب قطعا أو الظاهر أنه جواب مع احتمال الابتداء أو بالعكس نحو أليس لي عليك كذا فيه فيقول بلى أو كان لي عليك كذا فيقول نعم ونحو سها فسجد، وزنى ماعز فرجم ونحو تعال تغد معي فقال إن تغديت فكذا من غير زيادة ونحو إن تغديت اليوم مع زيادة على قدر الجواب ففي الثلاثة الأول يحمل على
ـــــــ
أنه ابتداء الكلام" مع احتمال الجواب "نحو أليس لي عليك كذا فيه فيقول بلى أو كان لي عليك كذا فيقول نعم" هذا نظير غير المستقل. "ونحو سها فسجد، وزنى ماعز فرجم" هذا نظير المستقل الذي هو جواب قطعا "ونحو تعال تغد معي فقال إن تغديت فكذا من غير زيادة" هذا نظير المستقل الذي الظاهر أنه جواب "ونحو إن تغديت اليوم مع زيادة على قدر الجواب" هذا نظير المستقل الذي الظاهر أنه ابتداء مع احتمال الجواب ففي كل موضع ذكر لفظ نحو فهو نظير قسم واحد.
"ففي الثلاثة الأول يحمل على الجواب، وفي الرابع يحمل على الابتداء عندنا حملا للزيادة على الإفادة، ولو قال عنيت الجواب صدق ديانة، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحمل على الجواب"، وهذا ما قيل إن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب عندنا فإن الصحابة، ومن بعدهم تمسكوا بالعمومات الواردة في حوادث خاصة، "فصل حكم المطلق أن يجري
................................................................................................
قوله: "اللفظ الذي ورد بعد سؤال أو حادثة" يعني يكون له تعلق بذلك السؤال أو الحادثة، وحينئذ ينحصر الأقسام الأربعة المذكورة لامتناع أن يكون اللفظ قطعا في الابتداء لا يحتمل الجواب، ونعني بغير المستقل ما لا يكون مفيدا بدون اعتبار السؤال أو الحادثة مثل نعم فإنها مقررة لما سبق من كلام موجب أو منفي استفهاما أو خبرا، وبلى فإنها مختصة بإيجاب النفي السابق استفهاما أو خبرا فعلى هذا لا يصح بلى في جواب أكان لي عليك كذا، ولا يكون نعم في جواب أليس لي عليك كذا إقرارا إلا أن المعتبر في أحكام الشرع هو العرف حتى يقام كل واحد منهما مقام الآخر فيكون إقرارا في جواب الإيجاب، والنفي استفهاما أو خبرا.
قوله: "حملا للزيادة على الإفادة" يعني لو قال إن تغديت اليوم فكذا في جواب تعال تغد معي يجعل كلامه مبتدأ حتى يحنث بالتغدي في ذلك اليوم ذلك الغداء المدعو إليه أو غيره معه أو بدونه لأن في حمله على الابتداء اعتبار الزيادة الملفوظة الظاهرة، وإلغاء الحال المبطنة، وفي حمله على الجواب الأمر بالعكس، ولا يخفى أن العمل بالحال دون العمل بالمقال، والله أعلم بحقيقة الحال.
قوله: "صدق ديانة" لأنه نوى ما يحتمله اللفظ لا قضاء لأنه خلاف الظاهر مع أن فيه تخفيفا عليه.
قوله: "إن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب" لأن التمسك إنما هو باللفظ، وهو عام،(1/113)
الجواب، وفي الرابع يحمل على الابتداء عندنا حملا للزيادة على الإفادة، ولو قال عنيت الجواب صدق ديانة، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحمل على الجواب، وهذا ما قيل إن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب عندنا فإن الصحابة، ومن بعدهم تمسكوا بالعمومات الواردة في حوادث خاصة.
ـــــــ
على إطلاقه كما أن المقيد على تقييده فإذا، وردا" أي المطلق، والمقيد. "فإن اختلف الحكم لم يحمل المطلق على المقيد إلا في مثل قولنا أعتق عني رقبة، ولا تملكني رقبة كافرة فالإعتاق يتقيد بالمؤمنة" أي إلا في كل موضع يكون الحكمان المذكوران مختلفين لكن يستلزم أحدهما حكما غير مذكور يوجب تقييد الآخر كالمثال المذكور فإن أحد الحكمين إيجاب الإعتاق، والثاني نفي تمليك الكافرة، وهما حكمان مختلفان لكن نفي تمليك الكافرة يستلزم نفي إعتاقها ضرورة أن إيجاب الإعتاق يستلزم إيجاب التمليك، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم فصار كقوله لا تعتق عني رقبة كافرة ثم هذا أوجب تقييد الأول أي إيجاب الإعتاق بالمؤمنة. "وإن اتحد" أي الحكم "فإن اختلفت الحادثة ككفارة اليمين، وكفارة القتل لا يحمل عندنا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحمل" سواء اقتضى القياس أو لا "وبعضهم زادوا إن اقتضى القياس" أي بعض أصحاب الشافعي زادوا أنه يحمل عليه إن اقتضى القياس حمله عليه. "وإن اتحدت" أي الحادثة كصدقة الفطر مثلا فإن دخلا على السبب نحو "أدوا عن كل حر، وعبد أدوا عن كل حر وعبد من المسلمين" أي دخل النص المطلق، والمقيد على السبب فإن الرأس سبب لوجود صدقة الفطر، وقد، ورد نصان يدل أحدهما على أن الرأس المطلق سبب، وهو قوله عليه السلام: "أدوا عن كل حر وعبد"، ويدل الآخر أن رأس
................................................................................................
وخصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ، ولا يقتضي اقتصاره عليه، ولأنه قد اشتهر من الصحابة، ومن بعدهم التمسك بالعمومات الواردة في حوادث، وأسباب خاصة من غير قصر لها على تلك الأسباب فيكون إجماعا على أن العبرة لعموم اللفظ، وذلك كآية الظهور نزلت في خولة امرأة أوس بن الصامت وآية اللعان في هلال بن أمية وآية السرقة في سرقة رداء صفوان أو في سرقة المجن، وكقوله عليه السلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" 1، ورد في شاة ميمونة، وقوله عليه السلام: "خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" 2، ورد جوابا للسؤال عن بئر بضاعة فإن قيل لو كان عاما للسبب، وغيره لجاز تخصيص السبب عنه بالاجتهاد لأن نسبة العام إلى جميع الأفراد على السوية، ولما كان لنقل السبب فائدة، ولما طابق الجواب السؤال لأنه عام، والسؤال خاص.
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 0105أبو داود في كتاب اللباس 038الترمذي في كتاب اللباس باب 07الدارمي في كتاب الأضاحي باب 020الموطأ في كتاب الصيد 017أحمد في مسنده "1/219،262".
2 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 076(1/114)
فصل: حكم المطلق و المقيد
...
فصل: حكم المطلق
أن يجري على إطلاقه كما أن المقيد على تقييده فإذا، وردا فإن اختلف الحكم لم يحمل المطلق على المقيد إلا في مثل قوله أعتق عني رقبة، ولا تملكني رقبة كافرة فالإعتاق يتقيد بالمؤمنة وإن اتحد فإن اختلفت الحادثة ككفارة اليمين، وكفارة القتل لا يحمل عندنا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحمل وبعضهم زادوا إن اقتضى القياس وإن اتحدت وبعضهم زادوا إن اقتضى القياس أي بعض أصحاب الشافعي زادوا أنه يحمل عليه إن اقتضى القياس وإن اتحدت فإن دخلا على السبب نحو "أدوا عن كل حر، وعبد أدوا عن كل حر وعبد من المسلمين" لم يحمل عندنا بل يجب العمل بكل منهما إذ لا
ـــــــ
المسلم سبب، وهو قوله عليه السلام: "أدوا عن كل حر، وعبد من المسلمين" "لم يحمل عندنا بل يجب العمل بكل واحدة منهما إذ لا تنافي في الأسباب" بل يمكن أن يكون المطلق سببا، والمقيد سببا. "خلافا له" أي للشافعي رحمه الله تعالى يتعلق بقوله لم يحمل عندنا. "وإن دخلا" أي المطلق، والمقيد "على الحكم" في صورة اتحاد الحادثة "نحو فصيام ثلاثة أيام مع قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهي ثلاثة أيام متتابعات" فإن الحكم وجوب صوم ثلاثة أيام من غير تقييد بالتتابع، وفي قراءة ابن مسعود الحكم وجوب صوم ثلاثة أيام متتابعات "يحمل بالاتفاق لامتناع الجمع بينهما" فإن المطلق يوجب أجزاء غير المتتابع، والمقيد يوجب عدم أجزائه.
"هذا إذا كان الحكم مثبتا فإن كان منفيا نحو لا تعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة لا يحمل اتفاقا فلا تعتق أصلا له أن المطلق ساكت، والمقيد ناطق فكان أولى لأن السكوت عدم" فنقول في جوابه نعم إن المقيد أولى لكن إذا تعارضا، ولا تعارض إلا في اتحاد الحادثة، والحكم كما ذكرنا في صوم ثلاثة أيام متتابعات. "ولأن القيد زيادة وصف يجري مجرى الشرط فيوجب النفي" أي نفي الحكم عند عدم الوصف "في المنصوص، وفي نظيره كالكفارات مثلا فإنها جنس واحد" هذا دليل على المذهب الآخر، وهو أن يحمل إن اقتضى
................................................................................................
أجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون بعض أفراد العام يعلم دخوله تحت الإرادة قطعا بحيث لا يحتمل التخصيص لدليل يدل عليه، وعن الثاني بأن فائدة نقل السبب لا تنحصر في خصوص الحكم به بل قد يكون نفس معرفة أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث، ووجوه القصص فائدة، وعن الثالث بأن معنى المطابقة هو الكشف عن السؤال، وبيان حكمه، وقد حصل مع الزيادة، ولا نسلم وجوب المطابقة بمعنى المساواة في العموم، والخصوص.
قوله: "فصل" ذكر المطلق، والمقيد عقيب العام، والخاص لمناسبتهما إياهما من جهة أن المطلق هو الشائع في جنسه بمعنى أنه حصة من الحقيقة محتملة الحصص كثيرة من غير شمول، ولا تعيين، والمقيد ما أخرج عن الشيوع بوجه ما كرقبة مؤمنة أخرجت عن شيوع المؤمنة، وغيرها، وإن كانت شائعة في الرقبات المؤمنات، وضبط الفصل أنه إذا أورد المطلق، والمقيد لبيان الحكم فإما أن(1/115)
تنافي في الأسباب خلافا له وإن دخلا على الحكم نحو فصيام ثلاثة أيام مع قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهي ثلاثة أيام متتابعات يحمل بالاتفاق لامتناع الجمع بينهما هذا إذا كان الحكم مثبتا فإن كان منفيا نحو لا تعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة لا يحمل اتفاقا فلا تعتق أصلا له أن المطلق ساكت، والمقيد ناطق فكان أولى لأن السكوت عدم ولأن القيد زيادة وصف يجري مجرى الشرط فيوجب النفي في
ـــــــ
القياس حمله، وحاصله أن التقييد بالوصف كالتخصيص بالشرط والتخصيص بالشرط يوجب نفي الحكم عما عداه عنده، وذلك النفي لما كان مدلول النص المقيد كان حكما شرعيا فيثبت النفي بالنص في المنصوص، وفي نظيره بطريق القياس. "ولنا قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]" فهذه الآية تدل على أن المطلق يجري على إطلاقه، ولا يحمل على المقيد لأن التقييد يوجب التغليظ، والمساء كما في بقرة بني إسرائيل "وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أبهموا ما أبهم الله، واتبعوا ما بين الله" أي اتركوه على إبهامه، والمطلق مبهم بالنسبة إلى المقيد المعين فلا يحمل عليه. "وعامة الصحابة ما قيدوا أمهات النساء بالدخول الوارد في الربائب ولأن إعمال الدليلين، واجب ما أمكن" فيعمل بكل واحد في مورده إلا أن لا يمكن، وهو عند اتحاد الحادثة، والحكم فهذه الدلائل لنفي المذهب الأول، وهو الحمل مطلقا فالآن شرع في نفي المذهب الثاني، وهو الحمل إن اقتضى القياس بقوله "والنفي في المقيس عليه بناء على العدم الأصلي فكيف يعدى" جواب عما قالوا إنه يحمل عليه فإنهم
................................................................................................
يختلف الحكم أو يتحد فإن لم يكن أحد الحكمين موجبا لتقييد الآخر أجرى المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده مثل أطعم رجلا، واكس رجلا عاريا، وإن كان أحدهما موجبا لتقييد الآخر بالذات مثل أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة أو بالواسطة مثل أعتق عني رقبة، ولا تملكني رقبة كافرة فإن نفي تمليك الكافرة يستلزم نفي إعتاقها عنه، وهذا يوجب تقييد إيجاب الإعتاق عنه بالمؤمنة. حمل المطلق على المقيد فإن قلت معنى حمل المطلق على المقيد تقييده بذلك القيد، وهذا لا يستقيم فيما ذكرتم من المثال لأن المقيد إنما قيد بالكافرة والمطلق إنما قيد بالمؤمنة قلت نعم معناه تقيد المطلق بذلك القيد لكن إن كان القيد موجبا فبإيجابه، وإن كان منفيا فبنفيه، وهاهنا قيد الكافرة منفي فقيد إيجاب الإعتاق بنفي الكافرة، وهو المؤمنة، ونقل عن المصنف أن معنى حمل المطلق على المقيد تقييده بقيد ما سواء كان هو المذكور في المقيد أو غيره لأنه في مقابلة إجراء المطلق على إطلاقه، ومعناه عدم تقييده بقيد ما بدليل أنهم أوردوا علينا الإشكال بتقييد الرقبة بالسلامة مع أن المذكور في المقيد هو المؤمنة لا السليمة، وفيه نظر إذ لا يخفى أن الحمل على هذا المعنى بعيد، وسيجيء أن إيراد الإشكال المذكور ليس باعتبار حمل المطلق على المقيد هذا إذا اختلف الحكم، وإن اتحد فإما أن يكون منفيا أو مثبتا فإن كان منفيا فلا حمل مثل لا تعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة لإمكان الجمع بأن لا يعتق أصلا، ولا يخفى أن هذا من العام مع الخاص لا المطلق مع المقيد، وإن كان مثبتا فإما أن تختلف الحادثة أو تتحد فإن(1/116)
المنصوص، وفي نظيره كالكفارات مثلا فإنها جنس واحد ولنا قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أبهموا ما أبهم الله، واتبعوا ما بين الله وعامة الصحابة ما قيدوا أمهات النساء بالدخول الوارد في الربائب ولأن إعمال الدليلين، واجب ما أمكن والنفي في المقيس عليه بناء على العدم الأصلي فكيف يعدى ولا يمكن أن يعدى القيد فيثبت العدم ضمنا جواب إشكال مقدر لأن القيد يدل على الإثبات في المقيد والنفي في غيره والأول حاصل في المقيس بالنص المطلق فلا يفيد تعديته فهي في المثاني فقط فتعدية القيد تعدية العدم بعينها وإن كانت غيرها فهي مقصودة منها فتكون لإثبات ما ليس بحكم شرعي وإبطال الحكم الشرعي الذي دل عليه المطلق
ـــــــ
قالوا أن النفي حكم شرعي، ونحن نقول هو عدم أصلي فإن قوله تعالى في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] يدل على إيجاب المؤمنة، وليس له دلالة على الكافرة أصلا، والأصل عدم إجزاء تحرير رقبة عن كفارة القتل، وقد ثبت إجزاء المؤمنة بالنص فبقي عدم إجزاء الكافرة على العدم الأصلي فلا يكون حكما شرعيا، ولا بد في القياس من كون المعدى حكما شرعيا، وتوضيحه أن الإعدام على قسمين: الأول: عدم إجزاء ما لا يكون تحرير رقبة كعدم إجزاء الصلاة، والصوم، وغيرهما، والثاني عدم إجزاء ما يكون تحرير رقبة
................................................................................................
اختلفت ككفارة اليمين، والقتل فلا حمل خلافا للشافعي، وإن اتحدت فإما أن يكون الإطلاق، والتقييد في السبب، ونحوه أو لا فإن كان فلا حمل كوجوب نصف الصاع في صدقة الفطر بسبب الرأس مطلقا في أحد الحديثين، ومقيدا بالإسلام في الآخر، وإلا يحمل المطلق على المقيد بالاتفاق كقراءة العامة: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89]، وقراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات لامتناع الجمع بينهما ضرورة أن المطلق يوجب إجزاء غير المتتابع لموافقة المأمور به، والمقيد يوجب عدم إجزائه لمخالفة المأمور به، وفي هذا المثال أشار إلى الجواب عما يقال إنكم حملتم المطلق، وهو كفارة اليمين على المقيد، وارد في حادثة أخرى، وهي كفارة القتل، والظهار حيث شرطتم التتابع في الصوم يعني إنما حملناه على مقيد، وارد في هذه الحادثة، وهو قراءة ابن مسعود فإنها مشهورة بمثلها يزاد على الكتاب بخلاف قراءة أبي رضي الله تعالى عنه فعدة من أيام أخر متتابعات في قضاء رمضان فإنها شاذة لا يزاد بمثلها على النص والشافعي إنما لم يشترط التتابع لأنه لا عمل عنده بالقراءة الغير المتواترة مشهورة كانت أو غير مشهورة فالمثال المتفق عليه قوله عليه السلام في حديث الأعرابي: "صم شهرين" وروي "شهرين متتابعين".
قوله: "إن المطلق ساكت" احتج من ذهب إلى حمل المطلق على المقيد، ولو عند اختلاف الحادثة أو جريان الإطلاق، والتقييد في السبب بأن المطلق ساكت عن ذكر القيد، والمقيد ناطق به فيكون أولى لأن السكوت عدم، وجوابه القول بالموجب أي نعم يكون أولى عند التعارض كما إذا دخلا في الحكم، واتحدت الحادثة، وهاهنا لا تعارض لإمكان العمل بهما للقطع بأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة القتل إعتاق رقبة مؤمنة، وفي كفارة اليمين إعتاق رقبة كيف كانت لم يكن الكلامان متعارضين.(1/117)
فكيف يقاس مع ورود النص وليس حمل المطلق على المقيد كتخصيص العام كما زعموا ليجوز بالقياس لأن التخصيص بالقياس إنما يجوز عندنا إذا كان العام مخصصا بقطعي وهنا يثبت القيد ابتداء بالقياس لا أنه قيد أولا بالنص ثم بالقياس
ـــــــ
غير مؤمنة فالقسم الأول إعدام أصلي بلا خلاف، والقسم الثاني مختلف فيه فعند الشافعي رحمه الله تعالى حكم شرعي، وعندنا عدم أصلي بناء على أن التخصيص بالوصف دال عنده على نفي الحكم عن الموصوف بدون ذلك الوصف فإنه لما قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فلو لم يقل مؤمنة لجاز تحرير الكافرة فلما قال: {مُؤْمِنَةٍ} لزم منه نفي تحرير الكافرة فيكون النفي مدلول النص فكان حكما شرعيا، ونحن نقول أوجب تحرير المؤمنة ابتداء، وهو ساكت عن الكافرة لأنه إذا كان في آخر الكلام ما يغير أوله فصدر الكلام موقوف على
................................................................................................
قوله: "لأن التقييد" فإن قلت الآية إنما تدل على أن السؤال، والبحث عن القيود والأوصاف الغير المذكورة يوجب التغليظ والمساءة لا على أن تقييد المطلق يوجب ذلك قلت إذا كان البحث عن القيد، والاشتغال به يوجب ذلك فالتقييد بالطريق الأولى على أن المفهوم من الآية أن موجب المساءة هو تلك القيود، والأشياء المسئول عنها، وقد يقال في وجه الاستدلال: إن الوصف في المطلق مسكوت عنه، والسؤال عن المسكوت عنه منهي بهذا النص، ولا يخفى ضعفه بل الاستدلال بهذه الآية في هذا المطلوب بقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
قوله: "وقال ابن عباس رضي الله عنه هذا لا يقوم حجة على الخصم" لأنه لا يجعل قول الصحابي حجة في الفروع فضلا عن الأصول.
قوله: "وعامة الصحابة قال عمر رضي الله عنه أم المرأة مبهمة في كتاب الله تعالى فأبهموها" أي خال تحريمها عن قيد الدخول الثابت في الربائب فأطلقوها، وعليه انعقد إجماع من بعدهم كذا في التقويم، وقد يجاب بأن الإجماع على عدم حمل المطلق على المقيد في صورة لا يكون إجماعا على الأصل الكلي لجواز أن يكون ذلك الدليل لاح لهم في هذه الصور.
قوله: "ولأن إعمال الدليلين، واجب ما أمكن"، وذلك في إجزاء المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده عند الإمكان إذ لو حمل المطلق على المقيد يلزم إبطال المطلق لأنه يدل على إجزاء المقيد، وغير المقيد وفي الحمل على المقيد إبطال للأمر الثاني، وبهذا ظهر فساد ما استدل به الشافعية من أن في حمل المطلق على المقيد جمعا بين الدليلين إذ العمل بالمقيد يستلزم العمل بالمطلق من غير عكس لحصول المطلق في ضمن ذلك المقيد فإن قيل حكم المقيد يفهم من المطلق فلو لم يحمل عليه يلزم إلغاء المقيد أجيب بأنه يفيد استحباب المقيد، وفضله، وأنه عزيمة، والمطلق رخصة، ونحو ذلك، وبالجملة هو أولى من إبطال حكم الإطلاق.
قوله: "والنفي في المقيس عليه" يعني أن حمل المطلق على المقيد بالقياس فاسد أما أولا فلأن هذا القياس ليس تعدية للحكم الشرعي بل للعدم الأصلي، وهو عدم إجزاء غير المقيد في صورة(1/118)
فيصير القياس هنا مبطلا للنص وقد قام الفرق بين الكفارات فإن القتل من أعظم الكبائر لا يقال أنتم قيدتم الرقبة بالسلامة لأن المطلق لا يتناول ما كان ناقصا في كونه رقبة، وهو فائت جنس المنفعة، وهذا ما قال علماؤنا أن المطلق ينصرف إلى الكامل ولا
ـــــــ
الآخر، ويثبت حكم الصدر بعد التكلم بالمغير لئلا يلزم التناقض فلا يكون إيجاب الرقبة ثم نفي الرقبة الكافرة بالنص المقيد بل النص لإيجاب الرقبة المؤمنة ابتداء فتكون الكافرة باقية على العدم الأصلي كما في القسم الأول من الإعدام، وشرط القياس أن يكون الحكم المعدى حكما شرعيا لا عدما أصليا.
"ولا يمكن أن يعدى القيد فيثبت العدم ضمنا جواب إشكال مقدر"، وهو أن يقال نحن نعدي القيد، وهو حكم شرعي لأنه ثابت بالنص فيثبت عدم إجزاء الكافرة ضمنا لا أنا نعدي هذا العدم قصدا، ومثل هذا يجوز في القياس فنجيب بقولنا "لأن القيد"، وهو قيد الإيمان مثلا "يدل على الإثبات في المقيد" أي يدل على إثبات الحكم في المقيد، وهو الإجزاء في تحرير رقبة يوجد فيه قيد الإيمان "والنفي في غيره" أي على نفي الحكم، وهو نفي
................................................................................................
التقييد لما سيجيء في فصل مفهوم المخالفة. وأما ثانيا فلأن فيه إبطالا لحكم شرعي ثابت بالنص المطلق، وهو إجزاء غير المقيد كالكافرة مثلا. وأما ثالثا فلأن شرط القياس عدم النص على ثبوت الحكم في المقيس أو انتفائه، وهاهنا المطلق نص دال على إجزاء المقيد وغيره من غير وجوب أحدهما على التعيين فلا يجوز أن يثبت بالقياس إجزاء المقيد، ولا عدم إجزاء غير المقيد لا يقال المطلق ساكت عن القيد غير متعرض له لا بالنفي، ولا بالإثبات فيكون المحل في حق الوصف خاليا عن النص لأنا نقول ممنوع بل هو ناطق بالحكم في المحل سواء وجد القيد أو لم يوجد، ومعنى قولهم أن المطلق غير متعرض للصفات لا بالنفي، ولا بالإثبات أنه لا يدل على أحدهما بالتعيين هذا، ولكن للخصم أن يقول إن المعدى هو وجوب القيد لا إجزاء المقيد، ولا نسلم أن النص المطلق يدل على وجوب القيد بل على وجوب المطلق أعم من أن يكون في ضمن المقيد أو غيره، وبهذا يندفع ما يقال إنه على تقدير صحة هذه التعدية لا يلزم عدم إجزاء غير المقيدة كالكافرة في كفارة اليمين لأن غاية الأمر أن يجمع فيه نصان مطلق، ومقيد تقديرا، ولا دلالة للمقيد على عدم الحكم عند عدم القيد فيجوز الكافرة بالنص المطلق، والمؤمنة به، وبالنص المقيد أيضا، ولا امتناع في اجتماع النص، والقياس في حكم واحد على أنا نقول المذهب أنه إذا اجتمع المطلق، والمقيد في حادثة واحدة في الحكم فالحمل، واجب اتفاقا كما مر.
قوله: "لأن القيد يدل على الإثبات في المقيد، والنفي في غيره" فإن قلت هذا صريح في أن النفي أيضا مدلول النص كالإثبات فيكون حكما شرعيا ضرورة فيناقض ما تقدم من أنه لا دلالة في المقيد على نفي الكافرة أصلا، وأنه عدم أصلي لا حكم شرعي، ولا يصح أن يكون من باب مجاراة الخصم بتسليم بعض مقدماته كما لا يخفى على الناظر في السياق، والسياق قلت تسامح في العبارة، والمقصود أنه لما ذكر القيد فهم أن عدم إجزاء الكافرة باق على العدم الأصلي.(1/119)
يقال أنتم قيدتم قوله عليه الصلاة والسلام: "في خمس من الإبل زكاة" بقوله: "في خمس من الإبل السائمة زكاة" مع أنهما دخلا في السبب وقيدتم قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} مع أنهما في حادثتين لأن قيد الإسامة إنما يثبت بقوله عليه السلام: "ليس في العوامل، والحوامل، والعلوفة صدقة"، والعدالة بقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ}.
ـــــــ
الإجزاء في الرقبة الكافرة فثبت أن القيد يدل على هذين الأمرين. "والأول"، وهو إجزاء المؤمنة "حاصل في المقيس"، وهو كفارة اليمين "بالنص المطلق"، وهو قوله أو تحرير رقبة "فلا يفيد تعديته فهي" أي التعدية "في المثاني فقط فتعدية القيد تعدية العدم بعينها" أي بعين تعدية العدم، وإن كانت غيرها فهي مقصودة منها أي، وإن كانت تعدية القيد غير تعدية العدم فتعدية العدم مقصودة من تعدية القيد، وحاصل هذا الكلام أن تعدية القيد هي عين تعدية العدم، وإن سلم أن مفهوم تعدية القيد غير مفهوم تعدية العدم فتعدية العدم مقصودة من تعدية القيد فبطل قوله نحن نعدي القيد فثبت العدم ضمنا بل العدم يثبت قصدا، وهو ليس بحكم شرعي فلا يصح القياس "فتكون" أن تعدية القيد "لإثبات ما ليس بحكم شرعي"، وهو عدم إجزاء الكافرة فإنه عدم أصلي. "وإبطال الحكم الشرعي"، وهو إجزاء الرقبة الكافرة في كفارة اليمين "الذي دل عليه المطلق"، وهو قوله تعالى في كفارة اليمين: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}. "وكيف يقاس مع ورود النص" فإن شرط القياس أن لا يكون في المقيس نص دال على الحكم المعدى أو على عدمه. "وليس حمل المطلق على المقيد كتخصيص العام كما زعموا ليجوز بالقياس" جواب عن الدليل الذي ذكر في المحصول على جواز حمل المطلق على المقيد إن اقتضى القياس حمله، وهو أن دلالة العام على الأفراد فوق دلالة المطلق عليها لأن دلالة العام على الأفراد قصدية، ودلالة المطلق عليها ضمنية، والعام يخص بالقياس اتفاقا بيننا، وبينكم فيجب أن يقيد المطلق بالقياس عندكم أيضا فأجاب بمنع جواز التخصيص بالقياس مطلقا بقوله "لأن التخصيص بالقياس إنما يجوز عندنا إذا كان العام مخصصا بقطعي، وهنا يثبت القيد ابتداء بالقياس لا أنه قيد أولا بالنص ثم بالقياس فيصير القياس هنا مبطلا للنص" فالحاصل أن العام لا يخص بالقياس عندنا مطلقا بل إنما يخص إذا خص أولا بدليل قطعي، وفي مسألة حمل المطلق على المقيد لم يقيد المطلق بنص أولا حتى يقيد ثانيا بالقياس بل الخلاف في تقييده ابتداء بالقياس فلا يكون كتخصيص العام. "وقد قام الفرق بين
................................................................................................
قوله: "ودلالة المطلق عليها" أي على الأفراد ضمنية لأن القصد منه إلى نفس الحقيقة أو إلى حصة غير معينة محتملة لحصص كثيرة، والمراد دلالته على الأفراد على سبيل البدل دون الشمول لظهور أن قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إنما يدل على وجوب إعتاق رقبة ما.(1/120)
فصل: حكم المشترك
التأمل حتى يترجح أحد معانيه، ولا يستعمل في أكثر من معنى واحد لا حقيقة لأنه لم يوضع للمجموع ولا مجازا لاستلزامه الجمع بين الحقيقة، والمجاز فإن قيل يصلون على النبي الآية والصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة
ـــــــ
الكفارات فإن القتل من أعظم الكبائر" لما ذكر الحكم الكلي، وهو أن تقييد المطلق بالقياس لا يجوز تنزله إلى هذه المسألة الجزئية، وذكر فيها مانعا آخر يمنع القياس، وهو أن القتل من أعظم الكبائر فيجوز أن يشترط في كفارته الإيمان، ولا يشترط فيما دونه فإن تغليظ الكفارة بقدر غلظ الجناية.
"لا يقال أنتم قيدتم الرقبة بالسلامة" هذا إشكال أورده علينا في المحصول، وهو أنكم قيدتم المطلق في هذه المسألة فأجاب بقوله "لأن المطلق لا يتناول ما كان ناقصا في كونه رقبة، وهو فائت جنس المنفعة، وهذا ما قال علماؤنا أن المطلق ينصرف إلى الكامل" أي الكامل فيما يطلق عليه هذا الاسم كالماء المطلق لا ينصرف إلى ماء الورد فلا يكون حمله على الكامل تقييدا. "ولا يقال أنتما قيدتم قوله عليه الصلاة والسلام: "في خمس من الإبل زكاة" بقوله: "في خمس من الإبل السائمة زكاة" مع أنهما دخلا في السبب"، والمذهب عندكم أن المطلق لا يحمل على المقيد، وإن اتحدت الحادثة إذا دخلا على السبب كما في صدقة الفطر. "وقيدتم قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] مع أنهما في حادثتين" قال الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فأجاب عن الإشكالين المذكورين بقوله "لأن قيد
................................................................................................
قوله: "لا يقال أنتم قيدتم الرقبة بالسلامة" مورد الإشكال ليس حمل المطلق على المقيد بل إبطال حكم الإطلاق بالقياس، وإنما أورده في المحصول جوابا عما قيل إن قوله: أعتق رقبة يقتضي تمكن المكلف من إعتاق أي رقبة شاء من رقاب الدنيا فلو دل القياس على أنه لا يجزيه إلا المؤمنة لكان القياس دليلا على زوال المكنة الثابتة بالنص فيكون القياس ناسخا، وأنه غير جائز.
قوله: "فصل حكم المشترك التأمل" في نفس الصيغة أو غيرها من الأدلة، والأمارات ليترجح أحد معنييه أو معانيه، ولما كان هنا مظنة أن يقال لم لا يجوز أن يحمل على كل واحد من المعنيين من غير توقف، وتأمل فيما يحصل به ترجيح أحدهما أورد عقيب ذلك مسألة امتناع استعمال المشترك في معنييه أو معانيه، وتحرير محل النزاع أنه هل يصح أن يراد بالمشترك في استعمال واحد كل واحد فمن معنييه أو معانيه بأن تتعلق النسبة بكل واحد منها لا بالمجموع من حيث هو المجموع بأن يقال رأيت العين، ويراد بها الباصرة، والجارية، وغير ذلك، وفي الدار الجون أي الأسود، والأبيض، وأقرأت هند أي حاضت، وطهرت فقيل يجوز، وقيل لا يجوز، وقيل في النفي دون الإثبات، وإليه مال صاحب الهداية في باب الوصية، ولا يخفى أن محل الخلاف ما إذا أمكن الجمع كما ذكرنا من الأمثلة بخلاف صيغة أفعل على قصد الأمر، والتهديد أو الوجوب، والإباحة مثلا ثم اختلف القائلون بالجواز فقيل حقيقة، وقيل مجاز، وعن الشافعي رحمه الله تعالى أنه ظاهر في(1/121)
استغفار قلنا لا اشتراك لأن سياق الكلام لإيجاب الاقتداء فلا بد من اتحاد معنى الصلاة من الجميع لكنه يختلف باختلاف الموصوف كسائر الصفات لا بحسب الوضع.
ـــــــ
الإسامة إنما يثبت بقوله عليه السلام: "ليس في العوامل، والحوامل، والعلوفة صدقة"، والعدالة بقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6]".
"فصل: حكم المشترك التأمل حتى يترجح أحد معانيه، ولا يستعمل في أكثر من معنى واحد لا حقيقة لأنه لم يوضع للمجموع" اعلم أن الواضع لا يخلو إما إن وضع المشترك لكل واحد من المعنيين بدون الآخر أو لكل واحد منهما مع الآخر أي للمجموع أو لكل واحد منهما مطلقا، والثاني غير واقع لأن الواضع لم يضعه للمجموع، وإلا لم يصح استعماله في أحدهما بدون الآخر بطريق الحقيقة لكن هذا صحيح اتفاقا، وأيضا على تقدير الوقوع يكون استعماله استعمالا في أحد المعنيين، وإن وجد الأول أو الثالث ثبت المدعى لأن الوضع تخصيص اللفظ بالمعنى فكل وضع يوجب أن الإيراد باللفظ إلى هذا المعنى بالموضوع له، ويوجب أن يكون هذا المعنى تمام المراد باللفظ فاعتبار كل من الموضوعين ينافي اعتبار الآخر، ومن عرف سبب وقوع الاشتراك لا يخفى عليه امتناع استعمال اللفظ في المعنيين فقوله: لا نعلم بوضع للمجموع إشارة إلى ما ذكرنا من أن المشترك إنما يصح استعماله في المعنيين إذا كان موضوعا للمجموع، ووضعه للمجموع منتف أما على التقديرين الآخرين فلا يصح استعماله فيهما كما ذكرنا. "ولا مجازا لاستلزامه الجمع بين الحقيقة، والمجاز" فإن اللفظ إن استعمل في أكثر من معنى واحد بطريق المجاز يلزم أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في المعنى الحقيقي، والمجازي معا، وهذا لا يجوز.
"فإن قيل يصلون على النبي الآية والصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار قلنا لا اشتراك لأن سياق الكلام لإيجاب الاقتداء فلا بد من اتحاد معنى الصلاة من الجميع لكنه
................................................................................................
المعنيين يجب الحمل عليهما عند التجرد عن القرائن، ولا يحمل على أحدهما خاصة إلا بقرينة، وهذا معنى عموم المشترك فالعام عنده قسمان قسم متفق الحقيقة، وقسم مختلف الحقيقة، واختلف القائلون بعدم الجواز فقيل لا يمكن للدليل القائم على امتناعه، وهو الذي اختاره المصنف، وقيل يصح لكنه ليس من اللغة ثم اختلفوا في الجمع مثل العيون فذهب الأكثرون إلى أن الخلاف فيه مبني على الخلاف في المفرد فإن جاز جاز، وإلا فلا، وقيل يجوز فيه، وإن لم يجز في المفرد، وذهب المصنف إلى أنه لا يستعمل في أكثر من معنى واحد لا حقيقة، ولا مجازا أما حقيقة فلأنه يتوقف على كون اللفظ موضوعا لمجموع المعنيين ليكون استعماله فيه استعمالا في نفس الموضوع له فيكون حقيقة، وليس كذلك لأنه لو كان موضوعا لمجموع المعنيين لما صح استعماله في أحد المعنيين على الانفراد حقيقة ضرورة أنه لا يكون نفس الموضوع له بل له جزء، واللازم باطل بالاتفاق فإن منع الملازمة مستندا بأنه يجوز أن يكون موضوعا لكل واحد من المعنيين كما أنه(1/122)
موضوع للمجموع فجوابه أن استعماله في المجموع حينئذ يكون استعمالا في أحد المعاني، ولا نزاع في صحته فإن قيل لا نعني باستعماله في مجموع المعنيين حقيقة أنه يراد به المجموع من حيث هو المجموع حتى يلزم كونه موضوعا للمجموع بل معناه أنه يراد به كل واحد من المعنيين على أنه نفس المراد لا جزء من معنى ثالث هو المراد، وحينئذ لا يلزم إلا كونه موضوعا لكل واحد من المعنيين، والأمر كذلك فجوابه أنه إذا كان موضوعا لكل واحد من المعنيين فإما أن يكون موضوعا له بدون الآخر أي بشرط انفراده عن الآخر أو مطلقا أي مع قطع النظر عن انفراده عن الآخر أو اجتماعه معه إذ لا يجوز أن يكون موضوعا لكل واحد بشرط الآخر لما مر في بيان انتفاء وضعه للمجموع، وعلى التقديرين يثبت المدعي إما على الأول فظاهر، وإما على الثاني فلأن وضع اللفظ عبارة عن تخصيصه بالمعنى أي جعله بحيث يقتصر على ذلك المعنى لا يتجاوزه، ولا يراد به غيره عند الاستعمال فدائما لا يمكن إلا اعتبار وضع واحد لأن اعتبار كل من الوضعين ينافي اعتبار الآخر ضرورة أن اعتبار وضعه لهذا المعنى يوجب إرادة هذا المعنى خاصة، واعتبار وضعه للمعنى الآخر يوجب إرادته خاصة فلو اعتبر الوضعان في إطلاق واحد لزم كل واحد من المعنيين صفة الانفراد عن الآخر، والاجتماع معه بحسب الإرادة بل يلزم أن يكون كل منهما مرادا وغير مراد في حالة واحدة، وهو باطل بالضرورة، وإليه أشار بقوله.
"ومن عرف سبب وقوع الاشتراك لا يخفى عليه امتناع استعماله" أي اللفظ المشترك في المعنيين حقيقة في إطلاق واحد، وذلك لأن سببه هو الوضع لكل واحد من المعنيين إما للابتلاء إن كان الواضع هو الله تعالى، وإما لقصد الإبهام أو لغفلة من الوضع الأول أو لاختلاف الواضعين إن كان غيره، والوضع هو تخصيص اللفظ بالمعنى فلو استعمل في المعنيين حقيقة لكان كل منهما نفس الموضوع له أي المعنى الذي خص به اللفظ، وهو باطل ضرورة انتفاء التخصيص عند إرادة المعنى الآخر، وهذه مغالطة منشؤها اشتراك لفظ تخصيص الشيء بالشيء بين قصر المخصص على المخصص به كما يقال في ما زيد إلا قائم أنه لتخصيص زيد بالقيام، وبين جعل المخصص منفردا من بين الأشياء بالحصول للمخصص به كما يقال في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] معناه نخصك بالعبادة، وفي ضمير الفصل أنه لتخصيص المسند إليه بالمسند، وخصصت فلانا بالذكر أي ذكرته، وحده، وهذا هو المراد بتخصيص اللفظ بالمعنى أي تعيينه لذلك المعنى، وجعله منفردا بذلك من بين الألفاظ وهذا لا يوجب أن يراد باللفظ إلا هذا المعنى فللخصم أن يختار أنه موضوع لكل واحد من المعنيين مطلقا أي من غير اشتراط انفراد أو اجتماع فيستعمل تارة في هذا الموضوع له خاصة من غير استعمال في الآخرة، وتارة مع استعماله فيه، والمعنى المستعمل فيه في الحالين نفس الموضوع له فيكون اللفظ حقيقة، وأما إنه لا يستعمل في أكثر من معنى واحد مجازا فلأنه يلزم منه الجمع بين الحقيقة، والمجاز، وهو باطل لما سيأتي بيان اللزوم على ما نقل عن المصنف أنه لو أريد به المجموع، وهو غير الموضوع له، وكل واحد من المعنيين مراد، وهو نفس الموضوع له يلزم إرادة المعنى الحقيقي، والمجازي من اللفظ في إطلاق واحد، وهذا معنى الجمع بين الحقيقة، والمجاز، وأورد عليه أنه إذا أريد به المجموع كان كل واحد من المعنيين داخلا في المراد لا نفس المراد، ومثل هذا لا يكون جمعا بين الحقيقة، والمجاز كالعام الموضوع للمجموع إذا أريد به المجموع، ودخل تحته كل فرد، وهو غير الموضوع له فأجاب بأن إرادة المجموع في المشترك ليست إلا إرادة كل واحد من المعنيين إذ(1/123)
يختلف باختلاف الموصوف كسائر الصفات لا بحسب الوضع" اعلم أن المجوزين تمسكوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] فإن الصلاة من الله تعالى رحمة، ومن الملائكة استغفار، وقد أوردوا على هذه الآية من قبلنا إشكالا فاسدا، وهو أن هذا ليس من المتنازع فيه فإن الفعل متعدد بتعدد الضمائر فكأنه كرر لفظ يصلي، وأجابوا عن هذا بأن التعدد بحسب المعنى لا بحسب اللفظ لعدم الاحتياج إلى هذا، وهذا الإشكال من قبلنا فاسد لأنا لا نجوز في مثل هذه الصورة أي في صورة تعدد الضمائر أيضا فتكون الآية من المتنازع فيه، والجواب الصحيح لنا أن في الآية لم يوجد استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد لأن سياق الآية لإيجاب اقتداء المؤمنين بالله تعالى، وملائكته في الصلاة على النبي عليه السلام فلا بد من اتحاد معنى الصلاة من الجميع لأنه لو قيل إن الله تعالى يرحم النبي والملائكة يستغفرون له يا أيها الذين آمنوا ادعوا له لكان هذا الكلام في غاية الركاكة فعلم أنه لا بد من اتحاد معنى الصلاة سواء كان معنى حقيقيا أو معنى مجازيا أما الحقيقي فهو الدعاء فالمراد والله أعلم أنه تعالى يدعو ذاته بإيصال الخير إلى النبي عليه السلام ثم من لوازم هذا الدعاء الرحمة فالذي قال: إن الصلاة من الله تعالى
................................................................................................
ليس هاهنا مجموع يراد باللفظ فيدخل فيه كل واحد من المعنيين بخلاف العام، وفيه نظر لأنه إن كان هنا مجموع يراد باللفظ، ويغاير كلا من المعنيين فقد تم الاعتراض، وإن لم يكن لم يتحقق المعنى المجازي المراد فلم يلزم الجمع بين الحقيقة، والمجاز إلا وجه أن يقال محل النزاع هو استعمال المشترك في المعنيين أو المعاني أو أكثر على أن يكون كل منهما مرادا باللفظ، ومناطا للحكم لا داخلا تحت معنى ثالث هو المراد، والمناط، واستعماله في المعنيين على هذا الوجه بطريق المجاز لا يتصور إلا بأن تكون بين المعنيين علاقة فيراد أحدهما على أنه نفس الموضوع له، والآخر على أنه يناسب الموضوع له بعلاقة فهذا جمع بين الحقيقة، والمجاز إذ لو أريد كل واحد على أنه نفس الموضوع له كان اللفظ حقيقة لا مجازا، والتقدير بخلافه، ولو أريد كل واحد على أنه مناسب للموضوع له فلذلك إما أن يكون باستعمال اللفظ في معنى مجازي يتناولهما لكونهما من أفراده، وقد عرفت أنه ليس محل النزاع. وأما باستعماله في كل منهما على أنه معنى مجازي بالاستقلال، وسيجيء أن استعمال اللفظ في معنيين مجازيين باطل بالاتفاق فإن قيل لم لا يجوز أن يكون لزوم الجمع بين الحقيقة، والمجاز بأن يستعمل في المجموع باعتبار إطلاق اسم البعض على الكل فيكون حقيقة كل واحد مجازا في المجموع من غير اعتبار الوضع الثالث، والعلاقة قلنا سيجيء أن إطلاق اسم البعض على الكل مشروط بلزوم، واتصال بينهما كما بين الرقبة، والشخص بخلاف إطلاق الواحد على الاثنين، وإطلاق الأرض على مجموع السماء، والأرض فإنه لا قائل بصحته على أنه حينئذ يعود الاعتراض السابق على ما نقل عن المصنف.
قوله: "لكان هذا الكلام في غاية الركاكة" لأن إيجاب الاقتداء إنما هو بالحمل، والتحريض على ما صدر عن المقتدى به إذ لا إيجاب اقتداء في مثل فلان يصلي فاقرءوا القرآن، وفيه نظر لأن ركاكة الكلام، وعدم إيجاب الاقتداء عند اختلاف معاني الأفعال المذكورة إنما يلزم إذا لم يكن بينهما(1/124)
رحمة فقد أراد هذا المعنى لا أن الصلاة وضعت للرحمة كما ذكر في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] أن المحبة من الله إيصال الثواب، ومن العبد طاعة ليس المراد أن المحبة مشتركة من حيث الموضوع بل المراد أنه أراد بالمحبة لازمها، واللازم من الله تعالى ذلك، ومن العبد هذا، وأما المجازي فكإرادة الخير، ونحوها مما يليق بهذا المقام ثم إن اختلف ذلك المعنى لأجل اختلاف الموصوف فلا بأس به فلا يكون هذا من باب الاشتراك بحسب الوضع ولما بينوا اختلاف المعنى باعتبار اختلاف المسند إليه يفهم منه أن معناه واحد لكنه يختلف بحسب الموصوف لا أن معناه مختلف وضعا، وهذا جواب حسن تفردت به.
وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:18] الآية حيث نسب السجود إلى العقلاء، وغيرهم كالشجر، والدواب فما نسب إلى غير العقلاء يراد به الانقياد لا وضع الجبهة على الأرض وما نسب إلى العقلاء يراد به وضع الجبهة على الأرض فإن قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] يدل على أن المراد بالسجود المنسوب إلى الإنسان هو وضع الجبهة على الأرض إذ لو كان المراد
................................................................................................
أمر مشترك هو المقصود بالإيجاب للقطع بأنه لا ركاكة في مثل قولنا إن السلطان قد أطلق زيدا أو الأمير قد خلع عليه فاخدموه، وعظموه أيها الرعايا فكذا المراد هاهنا أن الله تعالى يرحم النبي، ويوصل إليه من الخير ما يليق بعظمته، وكبريائه، والملائكة يعظمونه بما في وسعهم فأتوا أيها المؤمنون بما يليق بحالكم من الدعاء له، والثناء عليه فكان كلاما حسنا.
قوله: "ولما بينوا" يعني أن ذكر اختلاف المسند إليه عند بيان اختلاف المعنى حيث قالوا الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومن الناس دعاء يشعر بأن معنى الصلاة في نفسه واحد يختلف باختلاف الموصوف، ولا يدل على أنها موضوعة لمعان مختلفة بأوضاع متعددة ليلزم الاشتراك.
قوله: "هذا جواب حسن" نعم لو لم يتعرض فيه لإيجاب اتحاد معنى الصلاة في الآية بل اكتفى بمنع اشتراك لفظ الصلاة بين المعاني المذكورة، وتجويز أن يراد به في الكل معناه الحقيقي أو المجاز.
قوله: "إذ يمكن أن يراد بالسجود الانقياد في الجميع" فيه بحث لأنه أريد بالانقياد امتثال أوامر التكاليف، ونواهيها على ما هو الظاهر من كلامه فهو لا يصح في غير المكلفين، وإن أريد امتثال حكم التكوين، والتسخير أو مطلق الإطاعة أعم من هذا، وذاك فشموله لجميع الناس ظاهر فلا بد أن يكون في كثير من الناس بمعنى آخر يخصهم كوضع الجبهة أو امتثال التكاليف فالأظهر في الجواب عن الآية ما ذكره القوم من أنها على حذف الفعل أي ويسجد كثير من الناس على أن المراد بالسجود الأول الانقياد، والخضوع، وقد دل على شموله جميع الناس ذكر من في الأرض، وبالثاني سجود الطاعة، والعبادة، وهو غير شامل لجميع الناس.(1/125)
الانقياد لما قال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] لأن الانقياد شامل لجميع الناس أقول تمسكهم بهذه الآية لا يتم إذ يمكن أن يراد بالسجود الانقياد في الجميع، وما ذكر أن الانقياد شامل لجميع الناس باطل لأن الكفار لا سيما المتكبرين منهم لا يمسهم الانقياد أصلا، وأيضا لا يبعد أن يراد بالسجود، وضع الرأس على الأرض في الجميع، ولا يحكم باستحالته من الجمادات إلا من يحكم باستحالة التسبيح من الجمادات، والشهادة من الجوارح، والأعضاء يوم القيامة مع أن محكم الكتاب ناطق بهذا، وقد صح أن النبي عليه السلام سمع تسبيح الحصا وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] يحقق أن المراد هو حقيقة التسبيح لا الدلالة على، وحدانيته تعالى فإن قوله تعالى: {لا تَفْقَهُونَ} لا يليق بهذا فعلم بهذا أن وضع الرأس خضوعا لله تعالى غير ممتنع من الجمادات بل هو كائن لا ينكره إلا منكر خوارق العادات.
"التقسيم الثاني في استعمال اللفظ في المعنى فإن استعمل فيما وضع له" يشمل الوضع اللغوي، والشرعي، والعرفي، والاصطلاحي. "فاللفظ حقيقة" أي بالحيثية التي يكون الوضع بتلك الحيثية فالمنقول الشرعي يكون حقيقة في المعنى المنقول إليه من حيث الشرع، وفي المنقول عنه من حيث اللغة، وإنما قال فاللفظ حقيقة لأن بعض الناس قد يطلقون الحقيقة، والمجاز على المعنى إما مجازا، وإما على أنه من خطأ العوام. "وإن استعمل في غيره لعلاقة بينهما فمجاز" أي وإن استعمل في غير ما وضع له بحيثية ما سواء كان من حيث اللغة أو نحوها فمجاز بالحيثية التي يكون بها غير ما وضع له فالمنقول الشرعي مجاز في المعنى الأول من حيث الشرع، وفي المعنى الثاني من حيث اللغة فاللفظ الواحد يمكن أن يكون حقيقة ومجازا بالنسبة إلى المعنى الواحد لكن من جهتين. "أولا العلاقة فمرتجل، وهو حقيقة أيضا للوضع الجديد" فاستعمال اللفظ في غير ما وضع له لا لعلاقة يكون، وضعا جديدا فالمرتجل حقيقة في المعنى الثاني بسبب الوضع الثاني.
................................................................................................
قوله: "وأيضا لا يبعد" هذا أيضا بعيد لأن حقيقة السجود وضع الجبهة لا وضع الرأس حتى لو وضع الرأس من جانب القفا لم يكن ساجدا، ولو سلم فإثبات حقيقة الرأس في كثير من المذكورات كالسماويات مثلا من الشمس، والقمر، وغيرهما مشكل، ولو سلم ففي مثل هذا الأمر الخفي لا يناسب أن يقال ألم تر.
قوله: "ولا يحكم باستحالته" فيه أيضا نظر لأن الحكم باستحالته من الجمادات ليس باعتبار أن ليس ذلك في قدرة الله تعالى بل باعتبار أن ليس لها وجوه، ولا جباه كما يحكم عليها باستحالة المشي بالأرجل، والبطش بالأيدي، والنظر بالأعين بخلاف التسبيح فإنه ألفاظ، وحروف لا يمتنع صدورها عن الجمادات بإيجاد القدرة الإلهية كما روي عن الحصا، والجذع، وكذا شهادة الأعضاء، والجوارح.
قوله: "مع أن محكم التنزيل ناطق بهذا" ينبغي أن يكون إشارة إلى شهادة الأعضاء والجوارح، لا إلى حقيقة التسبيح فإن أكثر المفسرين على أنه مؤول بالدلالة على الألوهية والوحدانية، ونحو ذلك فكيف يكون محكما اللهم إلا أن يراد بالمحكم المتضح المعنى، وما ذكر من أن لا تفقهون(1/126)
غير مناسب للمعنى المذكور، وإنما يناسب حقيقة التسبيح فممنوع لأن معناه أن المشركين لا يفقهون هذه الدلالة، ولا يعرفونها لإخلالهم بالنظر الصحيح، والاستدلال الصادق بل الأنسب لحقيقة التسبيح لا تسمعون.
قوله: "التقسيم الثاني" من التقسيمات الأربعة هو تقسيم اللفظ باعتبار استعماله في المعنى فاللفظ المستعمل استعمالا صحيحا جاريا على القانون إما حقيقة أو مجازا لأنه إن استعمل فيما وضع له فحقيقة، وإن استعمل في غيره فإن كان لعلاقة بينه، وبين الموضوع له فمجاز، وإلا فمرتجل، وهو أيضا من قسم الحقيقة لأن الاستعمال الصحيح في الغير بلا علاقة وضع جديد فيكون اللفظ مستعملا فيما وضع له فيكون حقيقة، وإنما جعله من قسم المستعمل في غير ما وضع له نظرا إلى الوضع الأول فإنه أولى بالاعتبار فإن قيل فالمستعمل في غير ما وضع له في الجملة لا ينحصر في المجاز، والمرتجل بل قد يكون منقولا قلنا نعم إلا أنه لما كان حقيقة من جهة مجازا من جهة لوجود العلاقة، وكان ذلك يفتقر إلى زيادة تفصيل وبيان آخر حكمه فإن قيل الاستعمال لا لعلاقة لا يوجب عدم العلاقة فالمرتجل يجوز أن يكون مجازا في المعنى الثاني من جهة الوضع الأول قلنا لما تعسر الاطلاع على أن الناقل هل اعتبر العلاقة أم لا اعتبروا الأمر الظاهر، وهو وجود العلاقة، وعدمها فجعلوا الأول منقولا، والثاني مرتجلا فلزم في المرتجل عدم العلاقة، وفي المنقول وجودها لكن لا لصحة الاستعمال بل لأولوية هذا الاسم بالتعيين لهذا المعنى ثم قيد الاستعمال لا بد منه في تعريف الحقيقة، والمجاز إذ لا يتصف اللفظ بهما قبل الاستعمال بخلاف المرتجل فإنه يكفي فيه مجرد النقل، والتعيين.
وقيدنا الاستعمال بالصحيح احترازا على الغلط مثل استعمال لفظ الأرض في السماء من غير قصد إلى وضع جديد، والمراد بوضع اللفظ تعيينه للمعنى بحيث يدل عليه من غير قرينة أي يكون العلم بالتعيين كافيا في ذلك فإن كان ذلك التعيين من جهة واضع اللغة فوضع لغوي، وإلا فإن كان من الشارع فوضع شرعي، وإلا فإن كان من قوم مخصوص كأهل الصناعات من العلماء، وغيرهم فوضع عرفي خاص، ويسمى اصطلاحيا، وإلا فوضع عرفي عام وقد غلب العرف عند الإطلاق على العرف العام فالمعتبر في الحقيقة هو الوضع بشيء من الأوضاع المذكورة وفي المجاز عدم الوضع في الجملة ولا يشترط في الحقيقة أن تكون موضوعة لذلك المعنى في جميع الأوضاع ولا في المجاز أن لا يكون موضوعا لمعناه في شيء من الأوضاع فإن اتفق في الحقيقة لن تكون موضوعة للمعنى بجميع الأوضاع الأربعة فهي حقيقة على الإطلاق، وإلا فهي حقيقة مقيدة بالجهة التي كان بها الوضع، وإن كان مجازا بجهة أخرى كالصلاة في الدعاء حقيقة لغة مجاز شرعا، وكذا المجاز قد يكون مطلقا بأن يكون مستعملا فيما هو غير الموضوع له بجميع الأوضاع، وقد يكون مقيدا بالجهة التي بها كان غير موضوع له كلفظ الصلاة في الأركان المخصوصة مجاز لغة حقيقة شرعا فاللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد قد يكون حقيقة، ومجازا لكن من جهتين كلفظ الصلاة على ما ذكرنا بل ومن جهة واحدة أيضا لكن باعتبارين كلفظ الدابة في الفرس من جهة اللغة على ما سيجيء ثم إطلاق الحقيقة، والمجاز على نفس المعنى أو على إطلاق اللفظ على المعنى، واستعماله فيه شائع في عبارة العلماء مع ما بين اللفظ، والمعنى من الملابسة الظاهرة فيكون مجازا لا خطأ، وحمله على خطأ العوام من خطأ الخواص.(1/127)
"وأما المنقول فمنه ما غلب في معنى مجازي للموضوع الأول حتى هجر الأول، وهو حقيقة في الأول مجاز في الثاني حيث اللغة، وبالعكس" أي حقيقة في الثاني مجاز في
................................................................................................
فإن قيل لا بد في التعريفين من تقييد الوضع باصطلاح به التخاطب احترازا عن انتقاضهما جمعا ومنعا فإن لفظ الصلاة في الشرع مجاز في الدعاء مع أنه مستعمل في الموضوع له في الجملة وحقيقة في الأركان المخصوصة مع أنه مستعمل في غير الموضوع له في الجملة بل لفظ الدابة في الفرس من حيث إنه من أفراد ذوات الأربع مجاز لغة مع كونه مستعملا فيما هو من أفراد الموضوع له، ومن حيث إنه من أفراد ما يدب على الأرض حقيقة لغة مع كونه مستعملا في غير ما وضع له في الجملة أعني العرف العام قلنا قيد الحيثية مأخوذ في تعريف الأمور التي تختلف باختلاف الاعتبارات إلا أنه كثيرا ما يحذف من اللفظ لوضوحه خصوصا عند تعليق الحكم بالوصف المشعر بالحيثية فالمراد أن الحقيقة لفظ مستعمل فيما وضع له من حيث إنه الموضوع له، والمجاز لفظ مستعمل في غير ما وضع له من حيث إنه غير الموضوع له، وحينئذ لا انتقاض لأن استعمال لفظ الصلاة في الدعاء شرعا لا يكون من حيث إنه موضوع له، ولا في الأركان المخصوصة من حيث إنها غير الموضوع له، وكذا استعمال لفظ الدابة في الفرس في اللغة لا يكون مجازا إلا إذا استعمل فيه من حيث إنه فرد من أفراد ذوات الأربع خاصة، وهو بهذا الاعتبار غير الموضوع له ضرورة أن اللفظ لم يوضع في اللغة لذوات الأربع بخصوصها، ولا يكون حقيقة إلا إذا استعمل فيه من حيث إنه من أفراد ما يدب على الأرض، وهو نفس الموضوع له لغة فإن قيل تعريف المجاز شامل للكناية فلا بد من اشتراط قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له احترازا عنها قلنا سيجيء أن الكناية مستعملة في المعنى الموضوع له لكن لا لذاته بل لينتقل منه إلى ملزومه، وإن الاستعمال في غير الموضوع له ينافي إرادة الموضوع له. وأما الكناية باصطلاح الأصول فإن استعملت في الموضوع له فحقيقة، وإلا فمجاز فلا إشكال.
فإن قيل: المجاز بالزيادة أو النقصان خارج عن الحد كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] قلنا لفظ المجازفة يقال عليه وعلى ما نحن بصدده بطريق الاشتراك أو التشابه على ما ذكر في المفتاح، والتعريف المذكور إنما هو للمجاز الذي هو صفة اللفظ باعتبار استعماله في المعنى لا للمجاز بالزيادة أو النقصان الذي هو صفة الإعراب أو صفة اللفظ باعتبار تغير حكم إعرابه لا يقال اللفظ الزائد مستعمل لا لمعنى فيكون مستعملا في غير ما وضع له ضرورة أنه إنما وضع للاستعمال في معنى لأنا نقول لا نسلم أنه مستعمل لا لمعنى بل غير مستعمل لمعنى، والفرق ظاهر واضح على أن الاستعمال لا لمعنى لا يستلزم الاستعمال في معنى غير الموضوع له بل ينافيه، وهو ظاهر، والتحقيق أن معنى استعمال اللفظ في الموضوع له أو في غير طلب دلالته عليه، وإرادته منه فمجرد الذكر لا يكون استعمالا، ولو سلم فلا يصح هاهنا لاشتراط العلاقة بين المعنيين، ولا في عبارة فخر الإسلام لاعتباره إرادة معنى غير الموضوع فكيف في عبارة من جمع بين الأمرين.
قوله: "وأما المنقول" لما كان التقسيم المشهور، وهو أن اللفظ إذا تعدد مفهومه فإن لم يتخلل(1/128)
الأول. "من حيث الناقل، وهو إما الشرع أو العرف أو الاصطلاح ومنه ما غلب في بعض أفراد الموضوع له حتى هجر الباقي كالدابة مثلا فمن حيث اللغة إطلاقها على الفرس بطريق الحقيقة لكن إذا خصت به" أي إذا خصت الدابة بالفرس. "مع رعاية المعنى" أي المعنى الأول، وهو ما يدب على الأرض. "صارت مجازا إذ أريد بها غير ما وضعت له، وهو ما يدب على الأرض مع خصوصية الفرس، ومن حيث العرف صارت كأنها موضوعة له ابتداء لأنها لما خصت به" فكأنه لم يراع المعنى الأول فصارت اسما له "فظهر أن اعتبار المعنى الأول فيه"، وهو ما يدب على الأرض "ليس لصحة إطلاقه" أي المنقول "عليه" الضمير يرجع إلى المعنى الأول، ويراد بالمعنى الأول الأفراد التي يوجد فيها المعنى الأول "كما في الحقيقة" فإن الحقيقة إنما يعتبر المعنى الأول ليصح إطلاق اللفظ على كل ما يوجد فيه ذلك المعنى "ولا لصحة إطلاقه" أي المنقول "على المعنى الثاني"، وهو ما يدب مع خصوصية الفرس "كما في المجاز" فإن في المجاز إنما يعتبر المعنى الأول، وهو المعنى الحقيقي ليصح إطلاق اللفظ على كل ما يوجد فيه لازم ذلك المعنى، واللازم هو المعنى الثاني "بل لترجيح هذا الاسم على غيره" أي اعتبار المعنى الأول في الاسم المنقول إنما هو لترجيح هذا الاسم على غيره من الأسماء "في تخصيصه بالمعنى الثاني" أي تخصيص هذا الاسم بالمعنى الثاني، والمراد بالترجيح الأولوية فعلم بهذا أن الواضع قد لا يعتبر فيه المناسبة كالجدار، والحجر، وقد يعتبر فيه كالقارورة، والخمر "واعتبار" المعنى الأول في الوضع الثاني لبيان المناسبة، والأولوية لا لصحة الإطلاق، وإلا يلزم أن يسمى الدن قارورة فلهذا السر لا يجري القياس في اللغة فلا يقال: إن سائر الأشربة خمر لمعنى مخامرة العقل فإن معنى المخامرة ليس مراعى في الخمر لصحة إطلاق الخمر على كل ما يوجد فيه المخامرة بل لأجل المناسبة الأولوية ليضع الواضع لهذا المعنى لفظا مناسبا له فاحفظ هذا البحث فإنه بحث شريف بديع لم تزل أقدام من سوغ القياس في اللغة إلا لغفلة عنه "فيطلق الأسد على كل من يوجد فيه الشجاعة مجازا بخلاف الدابة، والصلاة" أي لما علم أن اعتبار المعنى الأول في المجاز إنما هو لصحة إطلاق اللفظ على كل ما يوجد فيه لازم المعنى الأول، واعتبار المعنى الأول في المنقول ليس لصحة الإطلاق فيصح إطلاق الأسد على كل ما يوجد فيه الشجاعة ولا يصح إطلاق الدابة في العرف على كل ما يوجد فيه الدبيب، ولا يصح إطلاق اسم الصلاة شرعا على كل ما يوجد فيه دعاء.
......................................................................................................
بينهما نقل فهو المشترك، وإن تخلل فإن لم يكن النقل لمناسبة فمرتجل، وإن كان فإن هجر المعنى الأول فمنقول، وإلا ففي الأول حقيقة، وفي الثاني مجاز موهما أن كلا من المنقول، والمرتجل قسم مقابل للحقيقة، والمجاز دفع ذلك ببيان أن المرتجل في المعنى الثاني حقيقة، والمنقول فيه حقيقة من جهة مجاز من جهة، والتقسيم المشهور مبني على تمايز الأقسام بالحيثية، والاعتبار دون الحقيقة، والذات فالمنقول ما غلب في غير الموضوع له بحيث يفهم بلا قرينة مع وجود العلاقة بينه، وبين الموضوع له، وينسب إلى الناقل لأن وصف المنقولية إنما حصل من جهته فيقال منقول شرعي،(1/129)
وعرفي، واصطلاحي فالمعنى الثاني إن لم يكن من أفراد المعنى الأول فاللفظ حقيقة في المعنى الأول مجاز في المعنى الثاني من جهة الوضع الأول، ومجاز في المعنى الأول حقيقة في المعنى الثاني من جهة الوضع الثاني كالصلاة حقيقة في الدعاء مجاز في الأركان المخصوصة لغة، وبالعكس شرعا، وينسب حقيقته، ومجازه إلى ما يكون المعنى المستعمل فيه موضوعا له أو غير موضوع له باعتباره، وباعتبار انقسام كل من وضعيه إلى لغوي، وشرعي، وعرفي، واصطلاحي ينقسم ستة عشر قسما حاصلة من ضرب الأربعة في الأربعة إلا أن بعض الأقسام مما لا تحقق له في الوجود كالمنقول اللغوي من معنى عرفي أو اصطلاحي مثلا، وغير ذلك بل اللغة أصل، والنقل طارئ عليه حتى لا يقال منقول لغوي، وإن كان المعنى الثاني من أفراد المعنى الأول كالدابة لذي الأربع خاصة، وهي في الأصل لما يدب على الأرض فإطلاق اللفظ ما هو من أفراد المعنى الثاني أعني المقيد إن كان باعتبار أنه من أفراد المعنى الأول أعني المطلق فاللفظ حقيقة من جهة الوضع الأول مجاز من جهة الوضع الثاني، وإن كان باعتبار أنه من أفراد المعنى الثاني فحقيقة من جهة الوضع الثاني مجاز من جهة الوضع الأول مثلا لفظ الدابة في الفرس إن كان من حيث إنه من أفراد ما يدب على الأرض فحقيقة لغة مجاز عرفا، وإن كان من حيث إنه من أفراد ذوات الأربع فمجاز لغة حقيقة عرفا لأن اللفظ لم يوضع في اللغة للمقيد بخصوصه، ولا في العرف للمطلق بإطلاقه فلفظ الدابة في الفرس بحسب اللغة حقيقة باعتبار مجاز باعتبار، وكذا بحسب العرف، ولما كان هاهنا مظنة سؤال، وهو أن اعتبار المعنى الأول، وملاحظته في نقل اللفظ إلى المعنى الثاني إن كان لصحة إطلاق المنقول على أفراد المعنى الأول أعني المنقول عنه كالحقيقة يعتبر مفهومها ليصح إطلاقها على كل ما يوجد فيه ذلك المفهوم لزم صحة إطلاق المنقول على كل ما يوجد فيه المعنى الأول لوجود المصحح، وإن كان لصحة إطلاقه على أفراد المعنى الثاني أعني المنقول إليه كالمجاز يعتبر معناه الأول أعني الحقيقي لتعرف العلاقة بينه، وبين المعنى الثاني أعني المجازي فيصح إطلاقه على أفراد المعنى الثاني هو لازم المعنى الأول أي ملابس له بنوع علاقة لأن صحة إطلاق اللفظ على المعنى إنما يكون لوضعه له أو لما هو ملابس له بنوع علاقة فهو مستغن عنه لأنه مجرد الوضع، والتعيين للمعنى الثاني كاف في ذلك، وأيضا يلزم صحة إطلاق المنقول على كل ما يوجد فيه المعنى الأول لوجود المصحح كما يصح إطلاق المجاز على كل ما توجد فيه العلاقة بينه، وبين المعنى الأول أجاب بأنه قد ظهر مما سبق من أن المنقول قد هجر معناه الأول بحيث لا يطلق على أفراده من حيث هي كذلك، وأنه قد صار موضوعا للمعنى الثاني بمنزلة الموضوعات المبتدأة التي ليس فيها اعتبار معنى سابق. إن اعتبار المعنى الأول فيه ليس لصحة إطلاقه على أفراد المعنى الأول، ولا لصحة إطلاقه على أفراد المعنى الثاني ليلزم ما ذكرتم بل لأولوية هذا اللفظ من بين الألفاظ بالتعيين لذلك المعنى الثاني فإن وضع لفظ الدابة لذوات الأربع أولى، وأنسب من وضع الجدار لها لوجود معنى الدبيب فيها فالتناسب مرعي في وضع بعض الألفاظ، ولا يلزم صحة إطلاقه حقيقة على كل ما يوجد فيه ذلك التناسب، وهذا معنى عدم جريان القياس في اللغة، وهذا البحث مما أورده صاحب المفتاح في وجه تسمية الحقيقة، والمجاز.(1/130)
"ويثبت أيضا أن الحقيقة إذا قل استعمالها صارت مجازا، والمجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة ثم كل واحد من الحقيقة، والمجاز إن كان في نفسه بحيث لا يستتر المراد فصريح، وإلا فكناية فالحقيقة التي لم تهجر صريح، والتي هجرت، وغلب معناها المجازي كناية، والمجاز الغالب الاستعمال صريح، وغير الغالب كناية" اعلم أن الصريح، والكناية اللذين هما قسما الحقيقة صريح، وكناية في المعنى الحقيقي، واللذين هما قسما المجاز صريح، وكناية في المعنى المجازي. "وعند علماء البيان الكناية لفظ يقصد بمعناه" أي بمعناه الموضوع له "معنى ثان ملزوم له، وهي لا تنافي إرادة الموضوع له فإنها استعملت فيه لكن قصد بمعناه معنى ثان كما في طويل النجاد" فإنه استعمل في الموضوع له لكن المقصود، والغرض من طويل النجاد طويل القامة فطول القامة ملزوم لطول النجاد. "بخلاف المجاز فإنه استعمل في غير ما وضع له فينافي إرادة الموضوع له ثم كل من الحقيقة، والمجاز أما في المفرد، وقد مر تعريفهما، وأما في الجملة فإن نسب المتكلم الفعل إلى ما هو فاعل عنده فالنسبة حقيقة فيه وإن نسب إلى غيره لملابسة بين الفعل، والمنسوب إليه فالنسبة مجازية نحو أنبت الربيع البقل" فقوله عنده أي عند المتكلم اعلم أن بعض العلماء قالوا إلى ما هو فاعل في العقل لكن صاحب المفتاح قال إلى ما هو فاعل عنده حتى لو قال الموحد أنبت الربيع
................................................................................................
قوله: "ثم كل واحد من الحقيقة، والمجاز" يعني أن الصريح، والكناية أيضا من أقسام الحقيقة والمجاز، وليست الأربعة أقساما متباينة أما عند علماء الأصول فلأن الصريح ما انكشف المراد منه في نفسه أي بالنظر إلى كونه لفظا مستعملا، والكناية ما استتر المراد منه في نفسه سواء كان المراد فيهما معنى حقيقة أو معنى مجازيا، واحترز بقوله في نفسه عن استتار المراد في الصريح بواسطة غرابة اللفظ أو ذهول السامع عن الوضع أو عن القرينة أو نحو ذلك، وعن انكشاف المراد في الكناية بواسطة التفسير، والبيان فمثل المفسر، والمحكم داخل في الصريح، ومثل المشكل، والمجمل في الكناية لما عرفت من أن هذه أقسام متمايزة بالحيثيات، والاعتبارات دون الحقيقة، والذات، وما يقال من أن المراد الاستتار، والانكشاف بحسب الاستعمال بأن يستعملوه قاصدين الاستتار، وإن كان واضحا في اللغة. والانكشاف، وإن كان خفيا في اللغة احترازا عن أمثال ذلك فلا يخفى ما فيه من التكلف، وأما عند علماء البيان فلأن الكناية لفظ قصد بمعناه معنى ثان ملزوم له أي لفظ استعمل في معناه الموضوع له لكن لا ليتعلق به الإثبات، والنفي، ويرجع إليه الصدق، والكذب بل لينتقل منه إلى ملزومه فيكون هو مناط الإثبات، والنفي، ومرجع الصدق، والكذب كما يقال فلان طويل النجاد قصدا بطول النجاد إلى طول القامة فيصح الكلام، وإن لم يكن له نجاد قط بل، وإن استحال المعنى الحقيقي كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأمثال ذلك فإن هذه كلها كنايات عند المحققين من غير لزوم كذب لأن استعمال اللفظ في معناه الحقيقي، وطلب دلالته عليه إنما هو لقصد الانتقال منه إلى ملزومه، وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل: إن الكناية مستعملة في المعنى الثاني لكن مع جواز إرادة المعنى الأول، ولو في محل آخر، وباستعمال آخر بخلاف المجاز فإنه من حيث إنه مجاز مشروط(1/131)
التقسيم الثاني: في استعمال اللفظ
مدخل
...
التقسيم الثاني: في استعمال اللفظ
في المعنى فإن استعمل فيما وضع له فاللفظ حقيقة وإن استعمل في غيره لعلاقة بينهما فمجاز أولا لعلاقة فمرتجل، وهو حقيقة أيضا للوضع الجديد وأما المنقول فمنه ما غلب في معنى مجازي للموضوع الأول حتى هجر الأول، وهو حقيقة في الأول مجاز في الثاني حيث اللغة، وبالعكس من حيث الناقل، وهو إما الشرع أو العرف أو الاصطلاح ومنه ما غلب في بعض أفراد الموضوع له حتى هجر الباقي كالدابة مثلا فمن حيث اللغة إطلاقها على الفرس بطريق الحقيقة لكن إذا خصت به مع رعاية المعنى صارت مجازا إذ أريد بها غير ما وضعت له، وهو ما يدب على الأرض مع خصوصية الفرس، ومن حيث العرف صارت كأنها موضوعة له ابتداء لأنها لما خصت به فكأنه لم يراع المعنى الأول فصارت اسما له فظهر أن اعتبار المعنى الأول فيه ليس لصحة إطلاقه عليه كما في الحقيقة ولا لصحة إطلاقه على المعنى الثاني كما في المجاز بل لترجيح هذا الاسم على غيره في تخصيصه بالمعنى الثاني فيطلق الأسد على كل من يوجد فيه الشجاعة مجازا بخلاف الدابة، والصلاة وثبت أيضا أن الحقيقة إذا قل استعمالها صارت مجازا، والمجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة ثم كل واحد من الحقيقة، والمجاز إن كان في نفسه بحيث لا يستتر المراد فصريح، وإلا فكناية فالحقيقة التي لم تهجر صريح، والتي هجرت، وغلب معناها المجازي كناية، والمجاز الغالب الاستعمال صريح، وغير الغالب كناية وعند علماء البيان الكناية لفظ يقصد بمعناه معنى ثان ملزوم له، وهي لا تنافي إرادة الموضوع له فإنها استعملت فيه لكن قصد بمعناه معنى ثان كما في طويل النجاد بخلاف المجاز فإنه استعمل في غير ما وضع له فينافي إرادة الموضوع له ثم كل من الحقيقة، والمجاز إما في المفرد، وقد مر تعريفهما، وأما في الجملة فإن نسب المتكلم الفعل إلى ما هو فاعل عنده فالنسبة حقيقة فيه وإن نسب إلى غيره لملابسة بين الفعل، والمنسوب إليه فالنسبة مجازية نحو أنبت الربيع البقل.
ـــــــ
البقل يكون الإسناد مجازيا لأن الفاعل عنده هو الله تعالى، وإن قال الدهري أنبت الربيع البقل فقد أسند الفعل إلى ما هو فاعل عنده فالإسناد حقيقي مع أن الربيع ليس بفاعل في العقل، وهو كاذب في هذا الكلام كما إذا قال رجل جاءني زيد نفسه مريدا معناه الحقيقي، والحال أنه لم يجئ فكلامه حقيقية مع أنه كاذب فالمراد من الفاعل عنده ما يريد إفهام المخاطب أنه فاعل عنده حتى يشمل الخبر الصادق، والكاذب.
................................................................................................
بقرينة مانعة عن إرادة الموضوع له، وميل صاحب الكشاف إلى أنه يشترط في الكناية إمكان المعنى الحقيقي لأنه ذكر في قوله تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:77] أنه مجاز عن الإهانة، والسخط وإن النظر إلى فلان بمعنى الاعتداء به، والإحسان إليه كناية إذا أسند إلى من يجوز عليه النظر، ومجاز إذا أسند إلى من لا يجوز عليه النظر، وبالجملة كون الكناية من قبيل الحقيقة صريح في المفتاح، وغيره.
فإن قيل: قد ذكر في المفتاح أن الكلمة المستعملة إما أن يراد معناها وحده أو غير معناها وحده أو معناها، وغير معناها والأول الحقيقة في المفرد، والثاني المجاز في المفرد، والثالث الكناية، وهذا مشعر بكون الكناية قسيما للحقيقة، والمجاز مباينا لهما قلنا أراد بالحقيقة هاهنا الصريح منها بقرينة جعلها في مقابلة الكناية، وتصريحه عقيب ذلك بأن الحقيقة، والكناية يشتركان في كونهما(1/132)
فصل: في أنواع علاقات المجاز
إذا أطلقت لفظا على مسمى وأردت غير
ـــــــ
"فصل" هذا الفصل في أنواع علاقات المجاز، وهي مذكورة في الكتب غير مضبوطة لكني أوردتها على سبيل الحصر، والتقسيم العقلي.
................................................................................................
حقيقتين، ويفترقان بالتصريح وعدمه لا يقال فإذا أريد بالكلمة معناها وغير معناها معا يلزم الجمع بين الحقيقة، والمجاز إذ لا معنى له لا إرادة المعنى الحقيقي، والمجازي معا لأنا نقول الممتنع إنما هو إرادتهما بالذات، وفي الكناية إنما أريد المعنى الحقيقي للانتقال منه إلى المعنى المجازي، وهذا بخلاف المجاز فإنه مستعمل في غير ما وضع له على أنه مراد به قصدا وبالذات إذ لا معنى لاستعمال اللفظ في غير معناه لينتقل منه إلى معناه فينافي إرادة الموضوع له لأن إرادته حينئذ لا تكون للانتقال إلى المعنى المجازي الداخل تحت الإرادة قصدا من غير تبعية لكونه مقصودا بالذات فيلزم إرادة المعنى الحقيقي، والمجازي معا بالذات، وهو ممتنع، وبهذا يندفع ما يقال لو كان الاستعمال في غير ما وضع له منافيا لإرادة الموضوع له لامتناع الجمع بين الحقيقة، والمجاز لكان استعماله فيما وضع له أيضا منافيا لإرادة غير الموضوع له لذلك.
قوله: "ثم كل من الحقيقة، والمجاز" يريد أن لفظ الحقيقة، والمجاز مقول على النوعين بالاشتراك، وربما يقيدان في المفرد باللغويين وفي الجملة بالعقليين أو الحكميين، وميل المصنف إلى أنهما من صفات الكلام كما هو اصطلاح الأكثرين دون الإسناد، ولذا وصف النسبة بالحقيقة، والمجازية دون الحقيقة، والمجاز إلا أن اتصاف الكلام بهما إنما هو باعتبار الإسناد فلهذا اعتبر في التقسيم النسبة فصار الحاصل أن الحقيقة العقلية جملة أسند فيها الفعل إلى ما هو فاعل عند المتكلم كقول لمؤمن أنبت الله البقل، والمجاز العقلي جملة أسند فيها الفعل إلى غير ما هو فاعل عند المتكلم لملابسة بين الفعل، وذلك الغير نحو أنبت الربيع البقل لما بين الإنبات، والربيع من الملابسة لكونه زمانا له، وأراد بالفعل المصطلح، وما في معناه من المصادر، والصفات، وبالفاعل عند المتكلم ما يريد إفهام المخاطب أنه فاعل عنده بمعنى أن الفعل حاصل له، وهو موصوف به سواء قام به في الخارج كضرب أو لاكمات، وسواء صدر عنه باختياره أو لا سواء كان فاعلا عند المتكلم في نفس الأمر أو لا فيدخل في تعريف الحقيقة ما يطابق الواقع، والاعتقاد جميعا أو لا يطابق شيئا منهما أو يطابق أحدهما فقط فلو قال الفاعل عند العقل لخرج ما يطابق الاعتقاد فقط مثل قول الدهري أنبت الربيع البقل اللهم إلا أن يقال المراد عقل المتكلم أو السامع، وقد(1/133)
الموضوع له فالمعنى الحقيقي أن حصل له بالفعل في بعض الأزمان فمجاز باعتبار ما كان أو باعتبار ما يؤول أو بالقوة فمجاز بالقوة كالمسكر لخمر أريقت، وإن لم يحصل له أصلا فلا بد وأن تريد معنى لازما لمعناه الوضعي ذهنا وهو إما ذهني محض كتسمية الشيء باسم مقابله أو منضم إلى العرفي كالغائط أو الخارجي وحينئذ أما أن يكون أحدهما جزءا للآخر كإطلاق اسم الكل على الجزء، وبالعكس كالجمع للواحد والرقبة للعبد أو خارجا عنه وحينئذ إما أن لا يكون اللازم صفة للملزوم وهو إما بحصول أحدهما في الآخر كإطلاق اسم المحل على الحال أو بالعكس وإما بالسببية كإطلاق اسم السبب على المسبب نحو عينا الغيث أو بالعكس كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً}، وهذا يحتمل العكس أيضا لأن الرزق سبب غائي للمطر وإما بالشرطية كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم وكالعلم على المعلوم أو يكون
ـــــــ
احترز به عن الفاعل في اللفظ فإن المنسوب إليه في المجاز العقلي أيضا فاعل في اللفظ، ولو أراد بالفاعل عند المتكلم ما يكون الفعل حاصلا له في اعتقاد المتكلم بحسب التحقيق لخروج الأقوال الكاذبة التي لا تطابق الواقع، ولا الاعتقاد مثل قول القائل جاء زيد مع علمه بأنه لم يجئ لأنه لم يوصف بالمجيء لا في الواقع، ولا عند المتكلم بحسب التحقيق لكن بحسب ما يفهم من ظاهر كلامه فصار الحاصل أن الفاعل عند المتكلم عبارة عما يكون الفعل حاصلا له عند المتكلم في الظاهر فيشمل نحو ضرب عمرو على لفظ المبني للمفعول لأن المضروبية صفة عمرو فهو فاعل ثم الضمير في غيره راجع إلى الفاعل عند المتكلم بالمعنى المذكور فيدخل في تعريف المجاز مثل أفعم السيل على لفظ المبني للمفعول لأن فاعله الوادي لا السيل، ومثل هو في عيشة راضية لأن الفاعل إنما هو صاحب العيشة، ويخرج مثل قول الدهري، والأقوال الكاذبة لأن الفعل فيها منسوب إلى نفس الفاعل عند المتكلم في الظاهر لا إلى غيره فلا يحتاج إلى قيد التأويل، ويكون قوله الملابسة احترازا عن مثل أنبت الخريف البقل فإنه ليس بحقيقة، وهو ظاهر، ولا مجاز لأن الغير لا بد أن يكون من ملابسات الفعل.
قوله: "فصل" قد سبق أنه لا بد في المجاز من العلاقة، وهو اتصال المعنى المستعمل فيه بالمعنى الموضوع له، والعمدة فيها الاستقراء، ويرتقي ما ذكره القوم إلى خمسة وعشرين وضبطه ابن الحاجب في خمسة الشكل، والوصف، والكون عليه، والأول إليه، والمجاورة، وأراد بالمجاورة ما يعم كون أحدهما في الآخر بالجزئية أو الحلول، وكونهما في محل، وكونهما متلازمين في الوجود أو العقل أو الخيال، وغير ذلك والمصنف في تسعة الكون، والأول، والاستعداد، والمقابلة، والجزئية، والحلول، والسببية، والشرطية، والوصفية لأن المعنى الحقيقي إما أن يكون حاصلا بالفعل للمعنى المجازي في بعض الأزمان خاصة أو لا فعلى الأول إن تقدم ذلك الزمان على زمان تعلق الحكم بالمعنى المجازي فهو للكون عليه، وإن تأخر فهو الأول إليه إذ لو كان حاصلا في ذلك الزمان أو في جميع الأزمنة لم يكن مجازا بل حقيقة، وعلى الثاني إن كان حاصلا له بالقوة فهو الاستعداد، وإلا فإن لم يكن بينهما لزوم، واتصال في العقل بوجه ما فلا علاقة، وإن كان فإما أن يكون لزوما في(1/134)
صفته، وهو الاستعارة، وشرطها أن يكون الوصف بينا كالأسد يراد به لازمه، وهو الشجاعة فيطلق على زيد باعتبار أنه شجاع، وإذا عرفت أن مبنى المجاز على إطلاق اسم الملزوم على اللازم، والملزوم أصل، واللازم فرع فإذا كانت الأصلية، والفرعية من الطرفين يجري المجاز من الطرفين كالعلة مع المعلول الذي هو علة غائية لها، وكالجزء مع الكل فإن الجزء تبع للكل والكل محتاج إلى الجزء وكالمحل فإنه أصل بالنسبة إلى الحال وأيضا على العكس إذا كان المقصود هو الحال واعلم أن الاتصالات المذكورة
ـــــــ
"إذا أطلقت لفظا على مسمى" هذا يشمل إطلاق اللفظ على المعنى سواء كان المعنى حقيقيا أو غير حقيقي، وإطلاق اللفظ على أفراد ما يصدق عليها المعنى، وكان ينبغي أن يقول فإن أردت عين الموضوع له فحقيقة لكن لم يذكر هذا القسم، وذكر ما هو بصدده، وهو أنواع المجازات فقال "وأردت غير الموضوع له فالمعنى الحقيقي إن حصل له" أي لذلك المسمى "بالفعل في بعض الأزمان فمجاز باعتبار ما كان أو باعتبار ما يئول" المراد ببعض الأزمان الزمان المغاير للزمان الذي وضع اللفظ للحصول فيه، وإنما لم يقيد في المتن بعض الأزمان بهذا القيد لأن التقدير تقدير استعمال اللفظ في غير الموضوع له مع أن المعنى الحقيقي حاصل لذلك المسمى فإن كان زمان الحصول عين زمان وضع اللفظ للحصول فيه كان اللفظ مستعملا فيما وضع له، والمقدر خلافه فهذا القيد مفروغ عنه.
"أو بالقوة فمجاز بالقوة كالمسكر لخمر أريقت، وإن لم يحصل له أصلا" أي لا بالفعل، ولا بالقوة.
................................................................................................
مجرد الذهن، وهو المقابلة أو منضما إلى الخارج، وحينئذ إن كان أحدهما جزءا للآخر فهو الجزئية، والكلية، وإلا فإن كان اللازم صفة للملزوم فهو الوصفية أعني المشابهة، وإلا فاللزوم إما أن يكون أحدهما حاصلا في الآخر، وهو الحالية، والمحلية أو سببا له، وهو السببية، والمسببية أو شرطا له، وهو الشرطية، ولا يخفى أن هذا أيضا ضبط، وتقسيم عرفي لا حصر، وتقسيم عقلي، ولو جعلناه دائرا بين النفي، والإثبات بأنه إذا لم يكن اللازم صفة للملزوم فإن كان أحدهما حاصلا في الآخر فهو الحلول، وإلا فإن كان سببا له فهو السببية، وإلا فهو الشرطية، ورد المنع على الأخير، وستسمع في أثناء الكلام ما على التقسيم من الأبحاث.
قوله: "إذا أطلقت لفظا على المسمى" مدلول اللفظ من حيث يقصد باللفظ يسمى معنى، ومن حيث يحصل منه مفهوما، ومن حيث وضع له اسم مسمى إلا أن المعنى قد يخص بنفس المفهوم دون الأفراد، والمسمى يعمهما فيقال لكل من زيد، وعمرو، وبكر مسمى الرجل، ولا يقال إنه معناه فلذا قال على مسمى، ولم يقل على معنى، وأورده بلفظ التنكير لئلا يتوهم أن المراد مسمى ذلك اللفظ فلا يتناول المجاز مع أنه المقصود بالنظر.
قوله: "في بعض الأزمان" اعلم أن المعتبر في المجاز باعتبار ما كان حصول المعنى الحقيقي(1/135)
إذا وجدت من حيث الشرع تصلح علاقة للمجاز أيضا كالاتصال في المعنى المشروع كيف شرع يصلح علاقة للاستعارة كالوصية، والإرث وكالسببية كنكاحه عليه السلام انعقد بلفظ الهبة فإن الهبة وضعت لملك الرقبة، والنكاح لملك المتعة، وذلك سبب لهذا وكذا نكاح غيره عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا ينعقد إلا بلفظ النكاح، والتزويج لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ}، ولأنه عقد شرع لمصالح لا تحصى وغير هذين اللفظين
ـــــــ
للمسمى المجازي في الزمان السابق على حال اعتبار الحكم أي زمان وقوع النسبة، وفي المجاز باعتبار ما يئول إليه حصوله له في الزمان اللاحق، ويمنع فيهما حصوله له في زمان اعتبار الحكم، وإلا لكان المسمى من أفراد الموضوع له فيكون اللفظ فيه حقيقة لا مجازا، والتقدير بخلافه، ويلزم من هذا امتناع حصوله له في جميع الأزمان، وهو ظاهر، ولا يمتنع حصوله له في حال الحكم أي زمان إيقاع النسبة، والتكلم بالجملة للقطع بأن الاسم في مثل قتلت قتيلا، وعصرت خمرا مجازا، وإن صار المسمى في زمان الأخبار قتيلا، وخمرا حقيقة، وكذا في مثل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]، وقت البلوغ هو مجاز، وإن كانوا يتامى حقيقة حال التكلم بالأمر بخلاف قولنا لا تشرب العصير إذا صار خمرا، وأكرم الرجل الذي خلفه أبوه يتيما فإنه حقيقة لكونه خمرا عند المصير، ويتيما عند التخليف فلذا قيد حصول المعنى الحقيقي للمسمى ببعض الأزمان يعني البعض خاصة ثم قيد ذلك البعض في الشرح بكونه مغايرا للزمان الذي وضع اللفظ للحصول فيه أي كان بناء الكلام ووضعه على حصول المعنى الحقيقي للمسمى في ذلك الزمان، وشرح هذا الكلام على ما نقل عن المصنف أن المجاز باعتبار ما كان أو ما يؤول إليه إن كان في الاسم فالمراد باللفظ نفس الجملة، وبالزمان زمان وقوع النسبة، والمعنى أن وضع الجملة ودلالتها على أن يكون المعنى الحقيقي حاصلا للمسمى في حالة تعلق الحكم به ففي مثل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] و: {أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36] وضع الكلام على أن تكون حقيقة اليتيم خالصة لهم، وقت إيتاء الأموال إياهم، وحقيقة الخمر حاصلة له حال العصر فلو حصل المعنى الحقيقي في هذه الحالة كما هو مقتضى وضع الكلام، ولم يكن اللفظ مجازا بل حقيقة فيجب أن يكون الحصول في زمان سابق ليكون مجازا باعتبار ما كان أو لاحق ليكون مجازا باعتبار ما يئول، وإن كان في الفعل فالمراد باللفظ نفس الفعل، وبالزمان ما يدل عليه الفعل بهيئته.
فإذا قلنا "يكتب زيد" مجازا عن "كتب زيد" باعتبار ما كان فمعنى حصول معنى الحقيقي للمسمى أن معنى جوهر الحروف، وهو الحدث حاصل للمسمى في زمان سابق على الزمان الذي هو مدلول الفعل أعني الحال أو الاستقبال إذ لو كان حاصلا له في ذلك الزمان لكان الفعل حقيقة لا مجازا، وإذا قلنا كتب زيد مجازا عن يكتب باعتبار ما يئول فمعنى حصول المعنى الحقيقي للمسمى أن الحدث حاصل له في زمان لاحق متأخر عن الزمان الماضي الذي يدل عليه الفعل بهيئته إذ لو كان حاصلا له في الزمان الماضي لكان الفعل حقيقة لا مجازا فالزمان الذي يحصل فيه المعنى الحقيقي، وللمسمى في الصورتين مغاير للزمان الذي وضع لفظ الفعل لحصول الحدث فيه هذا خلاصة كلامه، ولا يخفى ما فيه فإنه أراد المعنى الحقيقي في الاسم نفس الموضوع له، وفي(1/136)
قاصر في الدلالة عليها قلنا الخلوص في الحكم، وهو عدم وجوب المهر لا في اللفظ فإن المجاز لا يختص بحضرة الرسالة، وأيضا تلك الأمور ثمرات، وفروع، ومبنى النكاح للملك له عليها حتى لزم المهر عليه عوضا عن ملك النكاح، والطلاق بيده إذ هو المالك وإذا صح بلفظين لا يدلان على الملك لغة فأولى أن يصح بلفظ يدل عليه وإنما يصح بهما لأنهما صارا علمين لهذا العقد وكذا ينعقد بلفظ البيع لما قلنا فإن قيل ينبغي أن يثبت العكس أيضا بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب قلنا إنما كان كذلك إذا كان علة شرعت للحكم فإن قال عنيت بأحدهما الآخر صدق ديانة لا قضاء فيما فيه تخفيف أما إذا كان سببا محضا فلا ينعكس على ما قلنا فيقع الطلاق بلفظ العتق فإن العتق وضع لإزالة ملك الرقبة، والطلاق، لإزالة ملك المتعة، وتلك الإزالة سبب لهذه إذ هي تفضي إليها، وليست هذه مقصودة منها فلا يثبت العتق بلفظ الطلاق خلافا للشافعي رحمه الله تعالى ولا يثبت العتق أيضا بطريق الاستعارة إذ كل منهما إسقاط مبني على السراية، واللزوم لأنها لا تصح بكل، وصف بل بمعنى المشروع كيف شرع، ولا اتصال بينهما فيه لأن الطلاق رفع قيد النكاح، والإعتاق إثبات القوة الشرعية فإن قيل الإعتاق إزالة الملك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى والطلاق إزالة القيد فوجدت المناسبة قلنا نعم لكن بمعنى أن التصرف الصادر من المالك هي لا بمعنى أن الشارع وضع الإعتاق لإزالة الملك فالمراد بالإعتاق إثبات القوة المخصوصة أو يطلق فيسند إلى المالك مجازا لأنه صدر منه سببه، وهو إزالة الملك الإعتاق عليها مجازا فإن قيل ليس مجازا بل هو اسم منقول قلنا منقول في إثبات القوة المخصوصة ثم يطلق مجازا على سببه، وهو إزالة الملك، يرد عليه أنا نستعير
ـــــــ
الفعل جزأه أعني الحدث، وبالمسمى الاسم ما أطلق عليه اللفظ من المدلول المجازي، وفي الفعل الفاعل إذ هو الذي يحصل له الحدث في زمان سابق أو لاحق مع أنه ليس المسمى الذي أطلق عليه المجاز الذي هو لفظ الفعل، وإنما المدلول المجازي هو الحدث المقارن بزمان سابق أو لاحق، ولا معنى لحصول الحدث له في حال دون حال، والأحسن أن يقال التعبير على الماضي بالمضارع، وعكسه من باب الاستعارة على تشبيه غير الحاصل في تحقيق وقوعه، وتشبيه الماضي بالحاضر في كونه نصب العين، واجب المشاهدة ثم استعارة لفظ أحدهما للآخر ثم في كلامه نظر من وجهين: الأول: أن حصول المعنى الحقيقي للمسمى في زمان اعتبار الحكم بل في جميع الأزمنة لا يوجب كونه حقيقة لجواز أن لا يكون إطلاق اللفظ من جهة كونه من أفراد الموضوع له كما في إطلاق الدابة على الفرس مجازا مع دوام كونه مما يدب على الأرض الثاني أن الحصول بالفعل ليس بلازم في المجاز باعتبار ما يئول بل يكفي توهم الحصول كما في عصرت خمرا فأريقت في الحال فإنه مجاز باعتبار ما يئول مع عدم حصول حقيقة الخمر للمسمى بالفعل أصلا.(1/137)
الطلاق، وهو إزالة القيد لإزالة الملك ولا يتعلق ببحثنا أن الإعتاق ما هو بالجواب أن إزالة الملك أقوى من إزالة القيد، وليست لازمة لها فلا تصح استعارة هذه لتلك بل على العكس فإن الاستعارة لا تجري إلا من طرف واحد كالأسد الشجاع. وكذا إجارة الحر تنعقد بلفظ البيع دون العكس لأن ملك الرقبة سبب لملك المنفعة ولا يلزم عدم الصحة فيما أضافه إلى المنفعة لأن ذلك ليس لفساد المجاز بل لأن المنفعة المعدومة لا تصلح محلا للإضافة حتى لو أضاف الإجارة إليها لا تصح فكذا المجاز عنها واعلم أنه يعتبر السماع في أنواع العلاقات لا في أفرادها فإن إبداع الاستعارات اللطيفة من فنون البلاغة، وعند البعض لا بد من السماع فإن النخلة تطلق على الإنسان الطويل دون غيره قلنا لاشتراط المشابهة في أخص الصفات.
مسألة: المجاز خلف عن الحقيقة في حق التكلم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما في حق الحكم فعنده لفظ هذا ابني للأكبر سنا منه في إثبات الحرية خلف عن التكلم به في إثبات البنوة، والتكلم بالأصل صحيح من حيث إنه مبتدأ وخبر وعندهما ثبوت الحرية بهذا اللفظ خلف عن ثبوت البنوة به والأصل ممتنع ومن شرط الخلف إمكان الأصل وعدم ثبوته لعارض فيعتق عنده لا عندهما لهما أن في المجاز ينتقل الذهن من الموضوع له إلى لازمه فالثاني موقوف على الأول فلا بد من إمكانه كما في مسألة مس السماء قلنا موقوف على فهم الأول لا على إرادته إذ لا جمع بينهما فإذا فهم الأول وامتنع إرادته علم أن المراد لازمه وهو عتقه من حين ملكه فيجعل إقرارا فيعتق قضاء من غير نية لأنه متعين ولا يعتق بقوله يا بني لأنه لاستحضار المنادى بصورة الاسم بلا قصد المعنى فلا تجري الاستعارة لتصحيح المعنى فإن الاستعارة تقع أولا في المعنى وبواسطته في اللفظ ويعتق بقوله يا حر لأنه موضوع له فإن قيل قد ذكر في علم البيان أن زيدا أسد ليس باستعارة بل هو تشبيه بغير آلة لأنه دعوى أمر مستحيل قصدا لأن التصديق والتكذيب يتوجهان إلى الخبر وإنما يكون استعارة إذا حذف المشبه نحو رأيت أسدا يرمي وإن كان هذا مستحيلا أيضا بواسطة القرينة لكن غير مقصود فإن القصد إلى الرؤية هاهنا فعلى هذا لا يكون هذا ابني استعارة قلنا هذا في الاستعارة في أسماء الأجناس وتسمى استعارة أصلية لأنه يلزم حينئذ قلب الحقائق لا في الاستعارة في المشتقات وتسمى استعارة تبعية نحو نطقت الحال أو الحال ناطقة فإن هذا استعارة بالاتفاق ولا يلزم هنا قلب الحقائق وهذا ابني من هذا القبيل.
مسألة: قال بعض الشافعية لا عموم للمجاز لأنه ضروري يصار إليه توسعة(1/138)
فيقدر بقدر الضرورة قلنا لا ضرورة في استعماله وهو أحد نوعي الكلام بل فيه من البلاغة ما ليس في الحقيقة وهو في كلام الله تعالى كثير كقوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} وقوله تعالى: {لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} والله متعال عن العجز والضرورات نظيره قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين" وقد أريد به الطعام إجماعا فلا يشمل غيره عنده.
مسألة: لا يراد من اللفظ الواحد معناه الحقيقي والمجازي معا لرجحان المتبوع على التابع فلا يستحق معتق المعتق مع وجود المعتق إذا أوصى لمواليه ولا يراد غير الخمر بقوله عليه السلام: "من شرب الخمر فاجلدوه " لأنه أريد بها ما وضعت له ولا المس باليد بقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} لأن الوطء وهو المجاز مراد بالإجماع ولا جمع بينهما بالحنث إذا دخل حافيا أو متنعلا أو راكبا في لا يضع قدمه في دار فلان لأنه مجاز عن لا يدخل فيحنث كيف دخل فلهذا من باب عموم المجاز وكذا لا يدخل في دار فلان يراد به نسبة السكنى وهي تعم الملك والإجارة والعارية لا نسبة الملك حقيقة وغيرها مجازا حتى يلزم الجمع بينهما ولا بالحنث إذا قدم نهارا أو ليلا في قوله امرأته كذا يوم يقدم زيد لأنه يذكر للنهار وللوقت كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} فإذ تعلق بفعل ممتد فللنهار وبغير ممتد فللوقت لأن الفعل إذا نسب إلى ظرف الزمان بغير في يقتضي كونه معيارا له فإن امتد الفعل امتد المعيار فيراد باليوم النهار وإن لم يمتد كوقوع الطلاق هنا لا يمتد المعيار فيراد به الآن ولا بالحنث بأكل الحنطة وما يتخذ منها عندهما في لا يأكل من هذه الحنطة لأنه يراد باطنها عادة فيحنث بعموم المجاز ولا يرد قول أبي حنيفة ومحمد فيمن قال لله علي صوم رجب ونوى به اليمين أنه نذر ويمين حتى لو لم يصم يجب القضاء والكفارة لأنه نذر بصيغته يمين بموجبه لأن إيجاب المباح يوجب تحريم ضده وتحريم الحلال يمين لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} كما أن شراء القريب شراء بصيغته تحرير بموجبه يرد عليه أنه إن كان هذا موجبه يكون يمينا وإن لم ينو وإن لم يكن موجبه يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز ويمكن أن يقال لا جمع بينهما في الإرادة لكنه يثبت النذر بصيغته واليمين بإرادته فإن قيل يلزم أن يثبت النذر أيضا إذا نوى أنه يمين وليس بنذر قلنا لما نوى مجازه ونفى حقيقته يصدق ديانه.
مسألة: لا بد للمجاز من قرينة تمنع إرادة الحقيقة عقلا أو حسا أو عادة أو شرعا وهي إما خارجة عن المتكلم والكلام كدلالة الحال نحو يمين الفور أو معنى من المتكلم كقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} فإنه تعالى لا يأمر بالمعصية، أو(1/139)
لفظ خارج عن هذا الكلام كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فإن سياق الكلام وهو قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} يخرجه من أن يكون للتخيير ونحو طلق امرأتي إن كنت رجلا لا يكون توكيلا أو غير خارج فإما أن يكون بعض الأفراد أولى كما ذكرنا في التخصيص أو لم يكن نحو: "الأعمال بالنيات" و "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" لأن عين فعل الجوارح لا يكون بالنية وعين الخطأ والنسيان غير مرفوع بل المراد الحكم، وهو نوعان الأول الثواب والإثم والثاني الجواز والفساد ونحوهما والأول بناء على صدق عزيمته والثاني بناء على ركنه وشرطه فإن من توضأ بماء نجس جاهلا وصلى لم يجز في الحكم لفقد شرطه ويثاب عليه لصدق عزيمته، ولما اختلف الحكمان صار الاسم بعد كونه مجازا مشتركا فلا يعم أما عندنا فلأن المشترك لا عموم له وأما عنده فلأن المجاز لا عموم له فإذا ثبت أحدهما وهو الثواب اتفاقا لم يثبت الآخر ونحو لا يأكل من هذه النخلة ولا يأكل من هذا الدقيق ولا يشرب من هذا البئر حتى إذا استف أو كرع لا يحنث ونحو لا يضع قدمه في دار فلان وكالأسماء المنقولة ونحو التوكيل بالخصومة فإنه يصرف إلى الجواب لأن معناه الحقيقي مهجور شرعا وهو كالمهجور عادة فيتناول الإقرار والإنكار فأما إذا كانت الحقيقة مستعملة والمجاز متعارفا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى المعنى الحقيقي أولى لأن الأصل لا يترك إلا لضرورة وعندهما المعنى المجازي أولى ونظيره لا يأكل من هذه الحنطة يصرف إلى القضم عنده وعندهما إلى أكل ما فيها.
ـــــــ
"فلا بد وأن تريد معنى لازما لمعناه الوضعي ذهنا" أي ينتقل الذهن من الوضعي، والمراد الانتقال في الجملة، ولا يشترط أن يلزم من تصوره تصوره كالبصير إذا أطلق على الأعمى، وكالغائط إذا أطلق على الحدث "وهو" أي اللازم الذهني "إما ذهني محض" إن لم يكن بينهما لزوم في الخارج "كتسمية الشيء باسم مقابله" كما يطلق البصير عن الأعمى "أو منضم إلى العرفي" إن كان بينهما لزوم في الخارج أيضا لكن بحسب عادات الناس كالغائط
................................................................................................
قوله: "فلا بد، وأن تريد معنى لازما" لأن مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، والمراد كون المعنى الوضعي بحيث ينتقل منه الذهن إلى المعنى المجازي في الجملة، ولا يشترط اللزوم بمعنى امتناع الانفكاك في التصور كالبصير يطلق على الأعمى مع أنه لا يلزم من تصور البصير تصور الأعمى بل بالعكس لكن قد ينتقل الذهن منه إلى الأعمى باعتبار المقابلة، وكذا عن الغائط إلى الفضلات باعتبار المجاورة ففي الأول لزوم ذهني محض، وفي الثاني مع الخارجي، والتحقيق أن العلاقة في إطلاق اسم أحد المتقابلين على الآخر ليس هو اللزوم الذهني للاتفاق على امتناع إطلاق الأب على الابن بل هو من قبيل الاستعارة بتنزيل التقابل منزلة التناسب بواسطة تلميح أو تهكم كما في إطلاق الشجاع على الجبان أو تفاؤل كما في إطلاق البصير على الأعمى أو مشاكلة(1/140)
فإنه لما وقع في العرف قضاء الحاجة في المكان المطمئن حصل بينهما ملازمة عرفية فبناء على هذا العرف ينتقل الذهن من المحل إلى الحال فيكون ذهنيا منضما إلى العرفي "أو الخارجي" أي يكون الذهني منضما إلى الخارجي إن كان بينهما لزوم في الخارج لا بحسب عادات الناس بل بحسب الخلقة فصار اللزوم الخارجي قسمين عرفيا، وخلقيا فسمى الأول عرفيا، والثاني خارجيا. "وحينئذ" أي إذا كان اللزوم الذهني منضما إلى العرفي أو الخارجي. "أما أن يكون أحدهما جزءا للآخر كإطلاق اسم الكل على الجزء، وبالعكس كالجمع للواحد"، وهو نظير إطلاق اسم الكل على الجزء. "والرقبة للعبد"، وهو نظير إطلاق اسم الجزء على الكل "أو خارجا عنه" عطف على قوله جزءا للآخر. "وحينئذ إما أن لا يكون اللازم صفة للملزوم وهو" أي اللزوم "إما بحصول أحدهما في الآخر كإطلاق اسم المحل على الحال أو بالعكس وإما بالسببية كإطلاق اسم السبب على المسبب نحو عينا الغيث" أي النبت "أو بالعكس كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} [غافر:13]، وهذا يحتمل العكس أيضا" أي قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} يحتمل إطلاق اسم السبب على المسبب "لأن الرزق سبب غائي للمطر وإما بالشرطية كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي صلاتكم" هذا نظير إطلاق اسم الشروط على المشرط. "وكالعلم على المعلوم" هذا نظير إطلاق اسم المشروط على الشرط ويكون صفته، وهو الاستعارة، وشرطها أن يكون الوصف بينا كالأسد يراد به لازمه، وهو الشجاع فيطلق على زيد باعتبار أنه شجاع، وإذا عرفت أن مبنى المجاز على إطلاق اسم الملزوم على اللازم، والملزوم أصل، واللازم فرع فإذا كانت الأصلية، والفرعية من الطرفين يجري المجاز من الطرفين كالعلة مع المعلول الذي هو علة غائية لها، "وكالجزء مع الكل فإن الجزء تبع للكل" أي بالنسبة إلى اللفظ الموضوع للكل فإن الجزء يفهم من هذا اللفظ بتبعية الكل فيصح أن يطلق هذا اللفظ، ويراد به جزء الموضوع له. "والكل محتاج إلى الجزء" فيكون الجزء أصلا فيصح أن يراد الكل باللفظ الموضوع للجزء فإطلاق اسم الكل على الجزء مطرد وعكسه غير مطرد بل يجوز في صورة يستلزم الجزء الكل كالرقبة، والرأس مثلا فإن الإنسان لا يوجد بدون الرأس، والرقبة، وأما إطلاق اليد، وإرادة الإنسان فلا يجوز.
................................................................................................
كما في إطلاق السيئة على جزاء السيئة، وما أشبه ذلك.
قوله: "أو خارجا عنه" معناه أو يكون كل واحد منهما خارجا عن الآخر إذ لو حمل على ظاهره، وهو أن يكون أحدهما خارجا عن الآخر لم يناف كون أحدهما جزءا للآخر، ولم يقابله ضرورة أنه إذا كان أحدهما جزءا للآخر كان أحدهما، وهو الكل خارجا عن الآخر، وهو الجزء.
قوله: "أو يكون صفته" أي اللازم صفة الملزوم، وهو عطف على قوله إما أن لا يكون اللازم صفة للملزوم، وهذا النوع من المجاز يسمى استعارة فإن قلت قد جعل أنواع العلاقات متقابلة متباينة حتى اشترط في الاستعارة مثلا أن لا يكون أحد المعنيين جزءا للآخر، وفي المجاز باعتبار السببية، ونحوها أن لا يكون وصفا له إلى غير ذلك مما يشعر به التقسيم، وأنت خبير بأنه لا امتناع(1/141)
"وكالمحل فإنه أصل بالنسبة إلى الحال" لاحتياج الحال إلى المحل. "وأيضا على العكس إذا كان المقصود هو الحال" كالماء، والكوز فإن المقصود من الكوز الماء، والمراد
................................................................................................
في اجتماع العلاقات بعضها مع بعض مثلا إطلاق المشفر على شفة الإنسان يجوز أن يكون استعارة على قصد التشبيه في الغلظ، وأن يكون مجازا مرسلا من إطلاق الكل على الجزء أعني المقيد على المطلق، وهو أكثر من أن يحصى قلت كأنه قصد تمايز الأقسام بحسب الاعتبار، وأراد أنه إما أن يعتبر كون أحدهما جزءا للآخر أو وصفا له إلى غير ذلك فإن قلت فالاستعارة تكون باعتبار جامع داخل في الطرفين أو شكل لهما فكيف حصر الجامع في الوصفية قلت أراد أن اللازم، وهو ما حصل له الجامع وصف للملزوم أعني المعنى الحقيقي، وهذا لا ينافي كون الجامع جزءا من الطرفين أو شكلا لهما فإن قيل فاللازم أعني المعنى المجازي الذي أطلق عليه اللفظ في مثل رأيت في الحمام أسدا هو زيد الشجاع مثلا، وهو ليس بوصف الملزوم أعني الأسد الحقيقي فالجواب أن المراد بالأسد لازمه الذي هو الشجاع، وهو وصف له، وإنما وقع الإطلاق على زيد باعتبار أنه من أفراد الشجاع كما إذا قلت رأيت شجاعا، وهاهنا بحث، وهو أن اللازم استعمل فيه لفظ الأسد مجازا إن كان هو الإنسان الشجاع فظاهر أنه ليس بوصف للملزوم أعني الأسد، وإن كان هو الشجاع مطلقا أعم من الإنسان، والأسد، وغيرهما فظاهر أنه ليس بمشبه بالأسد، وإنما المشبه هو الإنسان الشجاع خاصة فحينئذ لا يكون المجاز باعتبار إطلاق اسم المشبه به، وأيضا لا يصح أن المعنى الحقيقي لا يحصل للمعنى المجازي أصلا ضرورة أن معنى الأسد حاصل لذات لها الشجاعة في الجملة، وتحقيق هذه المباحث يطلب من شرحنا للتلخيص.
قوله: "وإذا عرفت" يريد أن بعض أنواع العلاقة بين الشيئين مما يصحح المجاز من الجانبين، وبعضها من جانب واحد، وذلك لأن مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وقد عرفت أن معنى اللزوم هاهنا الانتقال في الجملة لا امتناع الانفكاك فالملزوم أصل، ومتبوع من جهة أن منه الانتقال، واللازم فرع، وتابع من جهة أن إليه الانتقال فإن كان اتصال الشيئين بحيث يكون كل منهما أصلا من وجه فرعا من وجه جاز استعمال اسم كل منهما في الآخر مجازا وإلا جاز استعمال اسم الأصل في الفرع دون العكس فالعلة أصل من جهة احتياج المعلول إليه، وابتنائه عليه، والمعلول المقصود أصل من جهة كونه بمنزلة العلة الغائية. والغاية وإن كانت معلولة للفاعل متأخرة عنه في الخارج إلا أنها في الذهن علة لفاعليته متقدمة عليها، ولهذا قالوا الأحكام علل مآلية، والأسباب علل آلية، وذلك لأن احتياج الناس بالذات إنما هو إلى الأحكام دون الأسباب، وإنما قال كالعلة مع المعلول دون السبب مع المسبب كما في بيان أنواع العلاقة لأن من السبب ما هو سبب محض ليس في معنى العلة، والمسبب لا يطلق عليه مجازا كما سيجيء، والكل أصل يبتنى عليه الجزء في الحصول من اللفظ بمعنى أنه إنما يفهم من اسم الكل بواسطة أن فهم الكل موقوف على فهمه، وهذا معنى قولهم التضمن تابع للمطابقة، والتبعية بهذا المعنى لا تنافي كون فهم الجزء سابقا على فهم الكل، والجزء أصل باعتبار احتياج الكل إليه في الوجود، والتعقل، وفي هذا تسليم ما منعه في صدر الكتاب من اطراد تعريف الأصل بالمحتاج إليه فإن قلت لما كان فهم الجزء سابقا على فهم(1/142)
بالحلول الحصول فيه، وهو أعم من حلول العرض في الجوهر، واعلم أن الاتصالات المذكورة إذا وجدت من حيث الشرع تصلح علاقة للمجاز أيضا "كالاتصال في المعنى
................................................................................................
الكل لم يكن الانتقال من الكل إلى الجزء بل بالعكس فلا يكون الكل ملزوما، والجزء لازما على ما مر من التفسير قلت ليس معنى الانتقال من الملزوم إلى اللازم أن يكون تصور اللازم متأخرا عنه في الوجود ألبتة بل أن يكون اللازم بحيث يحصل عند حصول الملزوم في الذهن في الجملة، وهذا المعنى في الجزء متحقق بصفة الدوام، والوجوب فإن قيل احتياج الكل إلى الجزء ضروري مطرد، والمجموع الذي يكون اليد أو الرجل جزءا منه لا يتحقق بدونهما ضرورة انتفاء الكل بانتفاء الجزء فما معنى اشتراط جواز إطلاق الجزء على الكل بأن يستلزم الجزء للكل كالرقبة، والرأس فإن الإنسان لا يوجد بدونهما بخلاف اليد، والرجل قلنا هذا مبني على العرف حيث يقال للشخص الذي قطعت يده أو رجله، وذلك الشخص بعينه لا غيره فاعتبر الجزء الذي لا يبقى الإنسان موجودا بدونه. وأما إطلاق العين على الرقيب فإنما هو من جهة أن الإنسان بوصف كونه رقيبا لا يوجد بدونه كإطلاق اللسان على الترجمان فإن قيل معنى استلزام الجزء الكل يقتضي كون الجزء ملزوما، والكل لازما، وعدم وجدان الإنسان بدون الرأس أو الرقبة إنما يدل على أن الجزء لازم، والكل ملزوم إذ الملزم هو الذي لا يوجد بدون اللازم قلنا ذكر المصنف أنا لا نريد بالمستلزم، واللازم مصطلح أهل الجدل بل مصطلح أهل الحكمة، والبيان، وهم يعنون بالمستلزم المستتبع، واللازم ما يتبعه فالحكماء يجعلون خواص الماهية لوازمها لا ملزوماتها مع أنها لا توجد بدون الماهية، والماهية قد توجد بدونها، وعلماء البيان يجعلون مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، ومبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم، ويعنون باللازم ما هو بمنزلة التابع، والرديف فكل من الرقبة، والرأس ملزوم، وأصل يفتقر إليه الإنسان، ويتبعه في الوجود. وفي كون ما ذكر مصطلح أهل الحكمة نظر فإنهم يقسمون الخاصة إلى لازمة، وغير لازمة، وإنما يطلقون اللوازم على ما يكون مقتضى الماهية، ويمتنع انفكاكه عنها لا يقال كل ملزوم فهو محتاج إلى لازمه فيكون اللازم أصلا له، وملزوما بمعنى كونه محتاجا إليه، ويلزم منه جريان الأصالة، والتبعية في جميع أقسام المجاز ضرورة أنه مبني على الانتقال من الملزوم إلى اللازم لأنا نقول إنما يلزم ذلك لو أريد باللازم ما يمتنع انفكاكه عن الشيء حتى يحتاج الشيء إليه، وقد عرفت أنه ليس بمراد.
قوله: "والمراد بالحلول" المتعارف عند الحكماء في حلول الشيء في الشيء اختصاصه بحيث يصير الأول ناعتا، والثاني منعوتا كحلول العرض في الجوهر، والصورة في المادة فأشار المصنف إلى أنا لا نعني بالحال، والمحل هذا المعنى بل معنى الحلول حصول الشيء في الشيء سواء كان حصول العرض في الجوهر أو الصورة في المادة أو الجسم في المكان أو غير ذلك كحصول الرحمة في الجنة.
قوله: "واعلم أن الاتصالات" يعني كما يجوز المجاز في الأسماء اللغوية إذا وجدت العلاقات المذكورة بين معانيها فكذلك يجوز في الأسماء الشرعية إذا وجد بين معانيها نوع من العلاقات المذكورة بحسب الشرع بأن يكون تصرفان شرعيان يشتركان في وصف لازم بين أو يكون معنى أحدهما سببا لمعنى الآخر، وذلك لما سيجيء من أن المعتبر في المجاز وجود العلاقة، ولا يشترط(1/143)
المشروع كيف شرع يصلح علاقة للاستعارة" أي ينظر في التصرفات المشروعة كالبيع، والإجارة، والوصية، وغيرها أن هذه التصرفات على وجه شرعت فالبيع عقد شرع لتمليك المال بالمال والإجارة شرعت لتمليك المنفعة بالمال فإذا حصل اشتراك التصرفين في هذا المعنى تصح استعارة أحدهما للآخر. "كالوصية، والإرث" فإن كلا منهما استخلاف بعد الموت إذا حصل الفراغ من حوائج الميت كالتجهيز، والدين فالحاصل أنه كما يشترط للاستعارة في غير الشرعيات اللازم البين فكذلك في الشرعيات، واللازم البين للتصرفات الشرعية هو المعنى الخارج عن مفهومها الصادق عليها الذي يلزم من تصورها تصوره.
"وكالسببية" عطف على قوله كالاتصال في المعنى المشروع كنكاحه عليه السلام انعقد بلفظ الهبة فإن الهبة وضعت لملك الرقبة، والنكاح لملك المتعة، وذلك أي ملك الرقبة "سبب لهذا" أي لملك المتعة فأطلق اللفظ الذي وضع لملك الرقبة، وأريد به ملك المتعة "وكذا نكاح غيره عندنا" أي نكاح غير النبي صلى الله عليه وسلم ينعقد بلفظ الهبة عندنا إذا كانت المنكوحة حرة حتى لو كانت أمة تثبت الهبة عندنا. "وعند الشافعي رحمه الله لا ينعقد إلا بلفظ النكاح، والتزويج لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب:50]، ولأنه عقد شرع لمصالح لا تحصى" كالنسب، وعدم انقطاع النسل، والاجتناب عن السفاح، وتحصيل الإحصان، والائتلاف بينهما، واستمداد كل منهما في المعيشة بالآخر إلى غير ذلك مما يطول تعداده، وغير هذين اللفظين أي غير لفظ النكاح، والتزويج قاصر في الدلالة عليها أي على المصالح المذكورة قلنا الخلوص في الحكم، وهو عدم وجوب المهر أي صحة النكاح بلفظ الهبة مع عدم وجوب المهر مخصوصة لك أما في غير النبي عليه السلام فالمهر واجب، وأيضا يحتمل أن يكون المراد، والله أعلم أنا
................................................................................................
السماع في أفراد المجازات فيجوز المجاز سواء كان وجود العلاقة بحسب اللغة أو الشرع، وسواء كان الكلام خبرا أو إنشاء في التمثيل بالاتصال في المعنى المشروع، وبالسببية إشارة إلى ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وغيره من ضبط أنواع العلاقات بأنها اتصال صورة كما بين السماء، والمطر أو معنى كما بين الأسد، والرجل الشجاع فإنهما لا يتصلان من جهة الذات، والصورة بل من جهة الاشتراك في معنى الشجاعة، وعبر عن علاقة المشابهة بالاتصال في معنى المشروع كيف شرع لأن المشابهة اتفاق في الكيفية، والصفة.
قوله: "فإن الهبة وضعت لملك الرقبة" يعني أنها عقد موضوع في الشرع لأجل حصول ملك الرقبة.
قوله: "حتى لو كانت أمة تثبت الهبة" فيتفرع عليها أحكام الهبة لا أحكام النكاح، ويشترط في انعقاد النكاح بلفظ الهبة أن يطلب الزوج منها الهبة إذ لو طلب منها التمكين من الوطء فقالت: وهبت نفسي منك، وقبل الزوج لا يكون نكاحا. وأما النية فلا حاجة إليها لأن المحل متعين لهذا المجاز لنبوه عن قبول الحقيقة بخلاف الطلاق بألفاظ العتق فإنه يحتاج إلى النية لصلاحية المحل للوصف بالحقيقة.(1/144)
حللنا لك أزواجك حال كونها خالصة لك أي لا تحل أزواج النبي عليه السلام لأحد غيره كما قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] "لا في اللفظ فإن المجاز لا يختص بحضرة الرسالة، وأيضا تلك الأمور" أي المصالح المذكورة "ثمرات، وفروع، ومبنى النكاح للملك له عليها" أي للزوج عن الزوجة "حتى لزم المهر عليه عوضا عن ملك النكاح، والطلاق بيده إذ هو المالك" أي لو كان وضعه لتلك المصالح، وهي مشتركة بينهما لما كان المهر واجبا للزوجة على الزوج، أو ما كان الطلاق بيد الزوج خاصة فإذا كان المهر عليه، والطلاق بيده علم أن وضع النكاح للملك له عليها. "وإذا صح بلفظين لا يدلان على الملك لغة فأولى" أن يصح بلفظ يدل عليه وإنما يصح بهما أي بلفظ النكاح، والتزويج "لأنهما صارا علمين لهذا العقد" جواب إشكال، وهو أن يقال لما قلت إن النكاح، والتزويج لا يدلان على الملك لغة ينبغي أن لا يصح النكاح بهما فأجاب بأنه إنما يصح بهما لأنهما صارا علمين لهذا العقد أي بمنزلة العلم في كونهما لفظين موضوعين لهذا العقد ولا يجب في الإعلام رعاية المعنى اللغوي.
"وكذا ينعقد" أي النكاح "بلفظ البيع لما قلنا" من طريق المجاز فإن البيع وضع لملك الرقبة فيراد به المسبب، وهو ملك المتعة، والجملة عطف على قوله، "وكذا نكاح غيره عندنا" فإن قيل ينبغي أن يثبت العكس أيضا بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب أي ينبغي أن يصح إطلاق اسم النكاح إرادة البيع أو الهبة بطريق اسم المسبب على السبب فإن النكاح وضع لملك المتعة فيذكر، ويراد به ملك الرقبة. "قلنا إنما كان كذلك" أي إنما يصح
................................................................................................
قوله: "إلى غير ذلك" أي منضما إلى مصالح أخر غير ما ذكر مثل وجوب النفقة، والمهر، وحرمة المصاهرة، وجريان التوارث، وتحصين الدين، ولفظ النكاح، والتزويج واف بالدلالة على هذه المصالح لكونه منبئا عن الضم، والاتحاد بينهما في القيام بمصالح المعيشة، وعن الازدواج، والتلفيق على وجه الاتحاد كزوجي الخف، ومصراعي الباب.
قوله: "ولا يجب" أي لا يجب في الأعلام رعاية المعنى اللغوي حتى يلزم في لفظ النكاح، والتزويج رعاية الخلو عن معنى الملك فيمتنع جعلهما علمين للعقد الموضوع في الشرع لملك المتعة ولقائل أن يقول خلو معناهما عن معنى الملك هو أنه لا دلالة فيهما على الملك، وليس المراد أنهما يدلان على عدم الملك فعلى تقدير وجوب رعاية المعنى اللغوي لا يلزم إلا أن يكون معنى الازدواج، والتلفيق معتبرا في هذا العقد، وهذا لا ينافي اعتبار المعنى في الوضع الثاني، ويمكن الجواب بأن معناهما التلفيق، والازدواج سواء كان مع الملك أو بدونه، وهذا المعنى مما لم يعتبر في العقد المخصوص بل اعتبر الملك قطعا، وفيه نظر بل الجواب أنه لا يجب في الأعلام رعاية المعنى اللغوي بحيث يكون هو بعينه المعنى العلمي بل يجوز أن يعتبر فيه زيادة خصوص لا توجد في المعنى اللغوي.
قوله: "وكذا ينعقد بلفظ البيع" لأنه مثل الهبة في إثبات ملك الرقبة، ويزيد عليها بلزوم العوض(1/145)
إطلاق المسبب على السبب "إذا كان" أي السبب "علة شرعت للحكم" أي لذلك المسبب أي يكون المقصود من شرعية السبب ذلك المسبب. "كالبيع للملك مثلا فإن الملك يصير كالعلة الغائبة فإن قال إن ملكت عبدا فهو حر أو قال إن اشتريت فشراه متفرقا يعتق في الثاني لا في الأول" رجل قال: إن ملكت عبدا فهو حر فاشترى نصف عبد ثم باعه ثم اشترى النصف الآخر لا يعتق هذا النصف لعدم تحقق الشرط، وهو ملك العبد فإنه بعد اشتراء النصف الآخر لا يوصف بملك العبد، وإن قال إن اشتريت عبدا فهو حر فشرى نصف عبد ثم باعه ثم اشترى النصف الآخر يعتق هذا النصف لأنه بعد اشتراء النصف الآخر يوصف بشراء العبد، ويقال عرفا إنه مشتري العبد، وهذا بناء على أن إطلاق اسم الصفات المشتقة كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة على الموصوف في حال قيام المشتق منه بذلك الموصوف إنما هو بطريق الحقيقة أما بعد زوال المشتق منه فمجاز لغوي لكن في بعض الصور صار هذا المجاز حقيقة عرفية ولفظ المشتري من هذا القبيل أنه بعد الفراغ من الشراء يسمى مشتريا عرفا فصار منقولا عرفيا أما لفظ المالك فلا يطلق بعد زوال الملك عرفا ففي قوله إن ملكت يراد الحقيقة اللغوية وفي قوله: إن اشتريت يراد الحقيقة العرفية، والمسألة المذكورة غير مقصودة في هذا الموضع بل المقصود المسألة التي تأتي، وهي قوله:
................................................................................................
فيكون أنسب بالنكاح، ولا ينعقد بلفظ الإجارة لأنها لتمليك المنفعة، وهي لا تكون سببا لملك المتعة بحال، وكذا الإباحة، والإحلال، والتمتع لأنها لا توجب الملك حتى أن من أباح طعاما لغيره فهو إنما يبتلعه على ملك المبيح، وكذا الوصية لأنها لا توجب الملك بنفسها بل توجب الخلافة مضافة إلى ما بعد الموت، والهبة توجب إضافة الملك لكن لضعف السبب باعتبار تعريه عن العوض يتأخر الملك إلى أن يتقوى بالقبض، ولا يبقى ذلك الضعف إذا استعملت في النكاح لأن العوض يجب بنفسه فيصير بمنزلة الهبة عين في يد الموهوب له فتوجب الملك بنفسها، واعلم أن ما ذكره المصنف من الاتصال بين حكمي الهبة، والنكاح يكون أحدهما سببا للآخر كاف في المجاز، ولا حاجة إلى ما اعتبره فخر الإسلام رحمه الله تعالى من الاتصال بين السببين أيضا أعني ألفاظ التمليك، وألفاظ النكاح بأن كلا منهما يوجب ملك المتعة لكن أحدهما بواسطة، والآخر بغير واسطة.
قوله: "فإن قال" تفريع وتمثيل لصحة إطلاق المسبب على السبب إذا كان السبب علة مشروعة للحكم، والمسبب حكما مقصودا منه بمنزلة الغائية، وإنما وضع المسألة في عبد منكر لأنه لو قال: إن ملكت هذا العبد أو اشتريته يعتق النصف الآخر في فصل الملك أيضا لأن الاجتماع صفة مرغوبة فيعتبر في غير المعين، ويلغو في المعين لأنه يعرف بالإشارة إليه.
قوله: "وهذا بناء" يعني أن قوله إن ملكت أو اشتريت عبدا في معنى أن اتصف بكوني مالكا أو مشتريا لمجموع عبد، واسم الفاعل، ونحوه من الصفات المشتقة حقيقة حال قيام معنى المشتق منه بالموصوف كالضارب لمن هو في صدد الضرب مجاز بعد انقضائه، وزواله عن الموصوف كالضارب لمن صدر عنه الضرب، وانقضى، وقيل بل حقيقة وقيل إن كان الفعل مما لا يمكن بقاؤه كالمتحرك، والمتكلم، ونحو ذلك فحقيقة، وإلا فمجاز. وأما قبل قيام المعنى به كالضارب لمن لم يضرب، ولا(1/146)
"فإن قال عنيت بأحدهما الآخر صدق ديانة لا قضاء فيما فيه تخفيف" يعني في صورة إن ملكت عبدا فهو حر إن قال عنيت بالملك الشراء بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب صدق ديانة، وقضاء لأن العبد لا يعتق في قوله إن ملكت، ويعتق في قوله إن اشتريت فقد عنى ما هو أغلظ عليه، وفي قوله اشتريت إن قال عنيت بالشراء الملك بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب صدق ديانة لا قضاء لأنه أراد تخفيفا. "أما إذا كان سببا محضا" هذا الكلام يتعلق بقوله إنما كان كذلك إذا كان علة "فلا ينعكس" أي لا يصح إطلاق اسم المسبب على السبب "على ما قلنا"، وهو قوله إذا كانت الأصلية، والفرعية من الطرفين يجري المجاز من الطرفين إلخ فإنه قد فهم منه أنه إذا لم تكن الأصلية، والفرعية من الطرفين لا يجري المجاز من الطرفين والمراد بالسبب المحض ما يفضي إليه في الجملة، ولا يكون شرعيته لأجله كملك الرقبة إذ ليس شرعيته لأجل حصول ملك المتعة لأن ملك الرقبة مشروع مع امتناع ملك المتعة كما في العبد، والأخت من الرضاعة، ونحوهما "فيقع الطلاق بلفظ العتق" أي بناء على الأصل الذي نحن فيه. "فإن العتق وضع لإزالة ملك الرقبة، والطلاق، لإزالة ملك المتعة، وتلك الإزالة سبب لهذه" أي إزالة ملك الرقبة سبب لإزالة ملك المتعة إذ هي تفضي إليها، "وليست هذه" أي إزالة ملك المتعة. "مقصودة منها" أي من إزالة ملك الرقبة "فلا يثبت العتق بلفظ الطلاق خلافا للشافعي رحمه الله تعالى" لما قلنا إنه إذا لم يكن المسبب مقصودا من السبب لا يصح إطلاق اسم المسبب على السبب. "ولا يثبت العتق أيضا بطريق الاستعارة" جواب إشكال، وهو أن يقال سلمنا أنه لا يثبت العتق بلفظ الطلاق بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب لكن ينبغي أن يثبت بطريق الاستعارة، ولا بد في الاستعارة من وصف مشترك فبينه بقوله "إذ كل منهما إسقاط مبني على السراية، واللزوم" اعلم أن التصرفات إما إثباتات كالبيع، والإجارة، والهبة، ونحوها وإما إسقاطات كالطلاق، والعتاق، والعفو عن القصاص، ونحوها فإن فيها إسقاط الحق، والمراد بالسراية ثبوت الحكم في الكل
................................................................................................
يضرب في الحال لكنه سيضرب فمجاوز اتفاقا فإذا زال ملكه للنصف الأول عند قيام ملك النصف الثاني لم يكن مالكا للعبد الذي هو اسم للمجموع، وكذا لم يكن مشتريا لغة على الأصح إلا أنه غلب في المعنى المجازي أعني من قام به الشراء حالا أو ماضيا فصار حقيقة عرفية.
قوله: "صدق ديانة" أي لو استفتى المفتي يجيبه على وفق ما نوى لا قضاء أي لو رفع إلى القاضي يحكم عليه بموجب كلامه، ولا يلتفت إلى ما نوى لمكان التهمة لا لعدم جواز المجاز.
قوله: "بناء على الأصل الذي نحن فيه"، وهو أن السبب إذا كان سببا محضا يصح إطلاقه على المسبب، ولا يصح إطلاق المسبب عليه.
قوله: "فإن العتق" أي هذا التصرف الذي هو الإعتاق موضوع في الشرع لغرض إزالة ملك الرقبة فلا يكون هذا منافيا لما سيجيء من أن الإعتاق إثبات القوة لا إزالة الملك فإن قيل فالمعتبر في المجاز هو السببية، والمسببية بين المعنى الحقيقي، والمجازي ليكون إطلاقا لاسم السبب على(1/147)
بسبب ثبوته في البعض، وباللزوم عدم قبول الفسخ، وإنما لا يثبت بطريق الاستعارة أيضا لما قلنا. "لأنها لا تصح بكل، وصف بل بمعنى المشروع كيف شرع، ولا اتصال بينهما فيه" أي بين الاعتقاد، والطلاق في معنى المشروع كيف شرع "لأن الطلاق رفع قيد النكاح، والإعتاق إثبات القوة الشرعية" فإن في المنقولات اعتبرت المعاني اللغوية، ومعنى العتق لغة القوة يقال عتق الطائر إذا قوي، وطار عن وكره، ومنه عتاق الطير، ويقال عتقت البكر إذا أدركت، وقويت فنقله الشرع إلى القوة المخصوصة.
"فإن قيل الإعتاق إزالة الملك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى" على ما عرف في مسألة تجزي الإعتاق. "والطلاق إثبات القيد فوجدت المناسبة" المجوزة للاستعارة بينهما. "قلنا نعم" يعني أن الإعتاق إزالة الملك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في مسألة تجزي الإعتاق "لكن بمعنى أن التصرف الصادر من المالك هي أي إزالة الملك" لا بمعنى أن الشارع وضع الإعتاق لإزالة الملك فالمراد بالإعتاق إثبات القوة المخصوصة أي يراد بالإعتاق إثبات القوة المخصوصة لأن الشارع، وضعه له فيرد على هذا أن الإعتاق في الشرع إذا كان موضوعا لإثبات القوة المخصوصة ينبغي أن لا يسند إلى المالك فإنه ما أثبت قوة فأجاب بقوله "فيسند إلى المالك مجازا لأنه صدر منه سببه، وهو إزالة الملك" فيكون المجاز في الإسناد كما في أنبت الربيع البقل "أو يطلق" أي الإعتاق "عليها" أي إزالة الملك "مجازا" بقوله
................................................................................................
المسبب مثلا، وهاهنا ليس كذلك قلنا قد يقام الغرض من المعنى الحقيقي مقامه، ويجعله كأنه نفس الموضوع له فيستعمل اللفظ الموضوع لأجل هذا الغرض في مسببه مجازا كالبيع، والهبة الموضوعين لغرض إثبات ملك الرقبة في إثبات ملك المتعة.
قوله: "لأنها" أي الاستعارة لا تصح بكل وصف للقطع بامتناع استعارة السماء للأرض مع اشتراكهما في الوجود، والحدوث، وغير ذلك بل لا بد من وصف مشهور له زيادة اختصاص بالمستعار منه، وهذا غير متحقق بين الطلاق، والعتاق لأنهما لفظان منقولان عن المعنى اللغوي الواجب رعايته عند استعارة الألفاظ المنقولة، والمعنى اللغوي للطلاق منبئ عن إزالة الحبس، ورفع القيد يقال أطلقت المسجون خليته، وأطلقت البعير عن عقاله، والأسير عن إساره فنقل إلى رفع قيد النكاح فإن المرأة به قد صارت محبوسة بحق الزوج مقيدة شرعا لا يحل لها الخروج، والبروز بلا إذنه، والمعنى اللغوي للعتاق منبئ عن القوة، والغلبة يقال عتق الفرخ إذا قوي، وطار عن، وكره، وعتاق الطير كواسبها جمع عتيق لزيادة قوة فيها فنقل في الشرع إلى إثبات القوة المخصوصة من المالكية، والولاية، والشهادة، ونحو ذلك فلا تشابه بين المعنيين في الوجه الذي شرعا عليه فإن قيل لو كان معنى الإعتاق إثبات القوة المخصوصة لما صح إسناده إلى المالك في مثل أعتق فلان عبده إذ ليس في وسعه إثبات تلك القوة بل مجرد إزالة الملك فجوابه من وجهين: الأول: أنه مجاز في الإسناد حيث أسند الفعل إلى السبب البعيد كما في قوله تعالى: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [لأعراف:27] فإن الملك سبب فاعلي لإزالة الملك، وهي سبب لإثبات القوة لا يقال لم يصدر(1/148)
أعتق فلان عبده معناه أزال ملكه بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، وحينئذ يكون المجاز في المفرد فقوله أو يطلق عطف على قوله فيسند. "فإن قيل ليس مجازا" هذا إشكال على قوله أو يطلق عليها مجازا أي ليس إطلاق الإعتاق على إزالة الملك بطريق المجاز "بل هو اسم منقول" أي منقول شرعي، والمنقول الشرعي حقيقة شرعية. "قلنا منقول في إثبات القوة المخصوصة" لا في إزالة الملك "ثم يطلق مجازا على سببه، وهو إزالة الملك، يرد عليه" أي على ما سبق أن الطلاق رفع القيد، والإعتاق إثبات القوة الشرعية. "أنا نستعير الطلاق، وهو إزالة القيد لإزالة الملك لا للفظ الإعتاق حتى يقولوا الإعتاق ما هو فالاتصال المجوز للاستعارة موجود بين إزالة الملك، وإزالة القيد". ولا يتعلق ببحثنا أن "الإعتاق ما هو بالجواب" اعلم أن هذا الجواب ليس لإبطال هذا الإيراد فإن هذا الإيراد حق بل يبطل الاستعارة بوجه آخر، وهو "أن إزالة الملك أقوى من إزالة القيد، وليست" أي إزالة الملك "لازمة لها" أي لإزالة القيد. "فلا تصح استعارة هذه" أي إزالة القيد "لتلك" أي لإزالة الملك. "بل على العكس فإن الاستعارة لا تجري إلا من طرف واحد" كالأسد الشجاع. "وكذا إجارة الحر" عطف على قوله فيقع الطلاق بلفظ العتق. وإنما قيد بالحر حتى لو كان عبدا يثبت البيع "تنعقد بلفظ البيع دون العكس لأن ملك الرقبة سبب لملك المنفعة"، وهذه المسألة مبنية أيضا على الأصل المذكور أن الشيء إذا كان سببا محضا يصح إطلاقه على المسبب دون العكس.
................................................................................................
من المالك سبب غير هذا اللفظ الموضوع في الشرع لإنشاء العتق لأنا نقول هو ثابت بطريق الاقتضاء لأن الإنشاءات الشرعية غير معزولة بالكلية عن المعاني الإخبارية فلا بد من صدور إزالة الملك عن المتكلم قبل التكلم تصحيحا لكلامه على ما سيجيء في فصل الاقتضاء، والثاني أنه مجاز في المسند حيث أطلق الإعتاق الموضوع لإثبات القوة على سببه الذي هو إزالة الملك، وكلا الوجهين ضعيف إذ لا يفهم من الإعتاق لغة، وعرفا، وشرعا إلا إزالة الملك، والتخليص عن الرق، ولا يصح إسناده حقيقة إلا إلى المالك، وما ذكره من معنى إثبات القوة إنما يعرفه الأفراد من الفقهاء فكون اللفظ منقولا إليه لا إلى إزالة الملك ممنوع لا بد من إثباته بنقل أو سماع لأنه العمدة في إثبات وضع الألفاظ، وكون إثبات القوة أنسب بمأخذ الاشتقاق لا يصلح دليلا على ذلك الجواز أن ينقل اللفظ إلى معنى غيره أنسب بالمعنى الحقيقي منه على أنا نسلم أن الإعتاق منقول بل هو حقيقة لغوية لم يطرأ عليهما نقل شرعي.
قوله: "يرد عليه" قد يجاب عن هذا الإيراد بأن العتق تصرف شرعي معناه إثبات القوة المخصوصة على ما مر فلا بد له من لفظ يدل على هذا المعنى حقيقة أو مجازا ليحصل العتق شرعا، واستعارة الطلاق لإزالة الملك ليست استعارة لهذا المعنى فلا يوجب ثبوته شرعا بخلاف ما إذا قال أزلت عنك الملك أو رفعت عنك قيد الرق فإنه مجاز عن إثبات القوة بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب كما كان الإعتاق في مثل أعتق فلان عبده مجازا عن إزالة الملك بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، ولا مساغ لذلك فيما نحن فيه لأنه إذا جعل الطلاق مستعارا لإزالة(1/149)
مسألة: وقد يتعذر المعنى الحقيقي والمجازي معا كقوله لامرأته وهي أكبر منه سنا أو معروفة النسب هذه بنتي أما الحقيقة وهو النسب في الفصل الأول فظاهر وفي الثاني فلأنها إما أن تثبت مطلقا أي في حقه وفي حق من اشتهر النسب منه ولا يمكن هذا لأنه يثبت ممن اشتهر منه أو في حق نفسه فقط وذا متعذر لأن الشرع يكذبه لاشتهاره من الغير ولا يكون أقل من تكذيبه نفسه والنسب مما يحتمل التكذيب والرجوع بخلاف العتق وأما المجاز وهو التحريم فلأن التحريم الذي يثبت بهذا مناف لملك النكاح فلا يكون حقا من حقوقه.
ـــــــ
"ولا يلزم عدم الصحة فيما أضافه إلى المنفعة" جواب إشكال، وهو أن يقال إذا صح استعارة البيع للإجارة ينبغي أن يصح عقد الإجارة بقوله بعت منافع هذه الدار في هذا الشهر بكذا لكنه لا يصح بهذا اللفظ. فقوله "لأن ذلك ليس لفساد المجاز" دليل على قوله، ولا يلزم، وقوله ذلك إشارة إلى عدم الصحة باللفظ المذكور "بل لأن المنفعة المعدومة لا تصلح محلا للإضافة حتى لو أضاف الإجارة إليها لا تصح فكذا المجاز عنها" فالإجارة إنما تصح إذا أضيف العقد إلى العين فإن العين تقوم مقام المنفعة في إضافة العقد ثم اعلم أن في الأمثلة
................................................................................................
الملك فليس هناك لفظ يجعل مجازا عن إثبات العتق فليتأمل، ويمكن دفعه بأن العتق يثبت بدلالة الالتزام لكونه لازما للمعنى المجازي الذي هو إزالة الملك.
قوله: "لا للفظ الإعتاق" على حذف المضاف أي لا لمفهوم لفظ الإعتاق فليتأمل.
قوله: "فالجواب" يعني لا يجوز استعارة إزالة القيد لإزالة الملك لأنه يجب في الاستعارة أن يكون المستعار منه أقوى في وجه الشبه كالأسد في الشجاعة، وأن يكون المستعار له لازما له كالشجاع للأسد، وكلا الشرطين منتف هاهنا، وللخصم أن يمنع ذلك بناء على أن في إزالة الملك يبقى نوع تعلق هو حق الولاء، وأن المراد باللزوم هاهنا الانتقال في الجملة لا امتناع الانفكاك ثم لقائل أن يقول لو سلم الامتناع إطلاق الطلاق على إزالة الملك بطريق الاستعارة أو بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب لكن لم لا يجوز إطلاقه عليه بطريق إطلاق المقيد، وهو إزالة قيد مخصوص على المطلق، وهو إزالة مطلق القيد، والملك كإطلاق المشفر على شفة الإنسان، والذوق على الإدراك باللمس، ونحوه.
قوله: "فإن الاستعارة لا تجري إلا من طرف واحد" لامتناع كون كل من الطرفين أقوى من الآخر في وجه الشبه، وفوات المبالغة في التشبيه عند تساوي الطرفين، ولقائل أن يقول قد تكون الاستعارة مبنية على التشابه كاستعارة الصبح بغرة الفرس، وبالعكس، وتحصل المبالغة بإطلاق اسم أحد المتشابهين على الآخر، وجعله هو هو، وكون المشبه به أقوى في وجه الشبه إنما يشترط في بعض أقسام التشبيه على ما تقرر في علم البيان.(1/150)
المذكورة، وهي النكاح بلفظ الهبة، والبيع، والطلاق بلفظ العتق، والإجارة بلفظ البيع الحق أن جميع ذلك بطريق الاستعارة لا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب لأن الهبة ليست سببا لملك المتعة الذي ثبت بالنكاح بل إطلاق اللفظ على مباين معناه للاشتراك بينهما في اللازم، وهو الاستعارة ثم إنما لا يثبت العكس لما ذكرت أن الاستعارة لا تجري إلا من طرف واحد، "وأما مثال البيع، والملك فصحيح".
................................................................................................
قوله: "وكذا إجارة الحر" يعني لو قال بعت نفسي منك شهرا بدرهم لعمل كذا ينعقد إجارة، ولو ترك واحدا من القيود يفسد العقد، ولو قال بعت عبدي أو داري منك بكذا فإن لم يذكر المدة ينعقد بيعا لإمكان العمل بالحقيقة مع تعذر شرط المجاز، وهو بيان المدة، وإن ذكر المدة فإن لم يسم جنس العمل فلا رواية فيه، وإن سماه مثل بعت عبدي منك شهرا بعشرة لعمل كذا انعقد إجارة لأن إطلاق البيع على الإجارة متعارف عند أهل المدينة فيجوز عند غيرهم إذا اتفق المتعاقدان عليه كذا في الأسرار، وقيل ينعقد صحيحا بحمل المدة على تأجيل الثمن أو بيعا فاسدا عملا بالحقيقة القاصرة.
قوله: "ولا يلزم" أي لا يرد علينا عدم صحة الإجارة بلفظ البيع المضاف إلى المنفعة مثل بعت منك منافع هذا العبد شهرا بكذا لعمل كذا، ولا يلزمنا هذا إشكالا، "وإلا فعدم الصحة لازم قطعا".
قوله: "ثم اعلم أن في الأمثلة المذكورة" يريد أن ما ذكروا من إطلاق اسم السبب على المسبب إنما يصح في البيع، والملك لأن الملك مسبب عنه ثابت به، ولا يصح في غيره لأنه ليس البيع، والهبة سببين لملك المتعة الثابت بالنكاح لاختصاصه بثبوت ملك الطلاق، والإيلاء، والظهار لا الإعتاق سببا لإزالة الملك الثابت بالطلاق لاختصاصها بقبول الرجعة أو ببينونة لا تحمل الملك بالنكاح إلا بعد التحليل، ولا البيع سببا لملك المنفعة الثابت بالإجارة لاختصاصه بالخلود عن ملك الرقبة، واسم السبب إنما يطلق مجازا على ما هو مسبب عنه فالحق أن هذه الإطلاقات من قبيل الاستعارة وهي إطلاق اسم أحد المتباينين على الآخر لاشتراكهما في لازم مشهور هو في أحدهما أقوى، وأعرف كإطلاق اسم الأسد على الرجل الشجاع فهاهنا معنى النكاح مباين لمعنى الهبة، والبيع لكنهما يشتركان في إثبات الملك، وهو في البيع أقوى، وكذا الطلاق، والعتاق أمران متباينان يشتركان في إزالة الملك، وهي في العتق أقوى، وكذا الإجارة، والبيع عقدان مخصوصان متباينان يشتركان في إثبات ملك المنفعة، وإباحتها، وهو في البيع أقوى فاستعير اسم أحدهما للآخر، ولم يجز العكس لما عرفت من أن الاستعارة إنما تجري من طرف واحد لئلا تفوت المبالغة المطلوبة من الاستعارة.
فإن قيل: قد سبق أن الاستعارة هي إطلاق اللفظ على اللازم الخارجي الذي هو صفة للملزوم فكيف يكون مباينا قلنا ليس الاستعارة في الإطلاق على اللازم بل على المباين لإرادة اللازم كإطلاق الأسد على الإنسان لكونه شجاعا، وإطلاق الهبة على النكاح لكونه مثبتا للملك، والمثبت للملك لازم خارجي صفة للهبة كذا نقل عن المصنف، وقد يجاب عن أصل اعتراض بأنا لا نسلم أنه يجب في المجاز باعتبار السببية أن يكون المعنى الحقيقي سببا للمعنى المجازي بعينه بل(1/151)
واعلم أنه يعتبر السماع في أنواع العلاقات لا في أفرادها فإن إبداع الاستعارات اللطيفة من فنون البلاغة، وعند البعض لا بد من السماع فإن النخلة تطلق على الإنسان الطويل دون غيره قلنا لاشتراط المشابهة في أخص الصفات * "مسألة المجاز خلف عن الحقيقة في حق التكلم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما في حق الحكم فعنده التكلم بهذا ابني للأكبر سنا منه في إثبات الحرية خلف عن التكلم به في إثبات البنوة، والتكلم بالأصل صحيح من حيث إنه مبتدأ وخبر وعندهما ثبوت الحرية بهذا اللفظ خلف عن ثبوت البنوة به والأصل ممتنع ومن شرط الخلف إمكان الأصل وعدم ثبوته لعارض فيعتق عنده لا عندهما" اتفق العلماء في أن المجاز خلف عن الحقيقة أي فرع لها ثم اختلفوا في أن الخلفية في حق التكلم أو في حق الحكم فعندهما في حق الحكم أي الحكم الذي ثبت بهذا اللفظ بطريق المجاز كثبوت الحرية مثلا بلفظ هذا ابني خلف عن الحكم الذي يثبت بهذا اللفظ بطريق الحقيقة كثبوت البنوة مثلا وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في حق التكلم فبعض الشارحين فسروه بأن لفظ هذا ابني إذا أريد به الحرية خلف عن لفظ هذا حر فيكون التكلم باللفظ الذي يفيد عين ذلك المعنى بطريق المجاز خلفا عن التكلم باللفظ الذي يفيد عين ذلك المعنى بطريق الحقيقة وبعضهم فسروه بأن لفظ هذا ابني إذا أريد به الحرية خلف عن لفظ هذا ابني إذا أريد به البنوة والوجه الأول صحيح في هذا المعنى مفيد للغرض فإن لفظ هذا ابني خلف عن لفظ هذا حر أي قائم مقامه، والأصل وهو هذا حر صحيح لفظا وحكما فيصح الخلف لكن الوجه الثاني أليق بهذا المقام لأمرين أحدهما أن المجاز خلف عن الحقيقة بالاتفاق ولم يذكروا الخلاف إلا في جهة الخلفية فقط فيجب أن لا يكون الخلاف فيما هو الأصل وفيما هو الخلف بل الخلاف يكون في جهة الخلفية
................................................................................................
بجنسه حتى يراد بالغيث جنس النبات سواء حصل بالمطر أو غيره فعلى هذا لو قال إن اشتريت عبدا فهو حر، وأراد الملك فملكه هبة أو إرثا يعتق، وعلى ما ذكره المصنف لا يعتق، وهذا الاعتراض مما أورد صاحب الكشف، وأجاب بأن ملك المتعة عبارة عن ملك الانتفاع، والوطء، وهو لا يختلف في ملك النكاح، واليمين لكن تغاير الأحكام لتغايرهما صفة لا ذاتا فإنه يثبت في باب النكاح مقصودا وفي ملك اليمين تبعا، ونحن إنما اعتبرنا اللفظ لإثبات ملك المتعة في المحل فيثبت على حسب ما يحتمله المحل فإذا جعلنا لفظ الهبة مجازا أثبتنا به ملك المتعة قصدا لا تبعا فتثبت فيه أحكام النكاح لا أحكام ملك اليمين، واعلم أنه إذا وجد بين المعنيين نوعان من العلاقة فلك أن تعتبر أيهما شئت ويتنوع المجاز بحسب ذلك مثلا إطلاق المشفر على شفة الإنسان إن كان باعتبار تشبيها به في الغلظ فاستعارة، وإن كان باعتبار استعمال المقيد في المطلق فمجاز مرسل نص عليه الشيخ عبد القاهر رحمه الله.
قوله: "واعلم أنه قد يعتبر" يعني أن المعتبر في المجاز وجود العلاقة المعلوم اعتبار نوعها في استعمالات العرب، ولا يشترط اعتبارها بشخصها حتى يلزم في آحاد المجازات أن تنقل بأعيانها عن أهل اللغة، وذلك لإجماعهم على أن اختراع الاستعارات الغريبة البديعة التي لم تسمع بأعيانها من(1/152)
فقط فعندهما هذا ابني إذا كان مجازا خلف عن هذا ابني إذا كان حقيقة في حق الحكم أي حكمه المجازي خلف عن حكمه الحقيقي وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هذا اللفظ خلف عن عين هذا اللفظ لكن بالجهتين فعلى كلا المذهبين الأصل هذا ابني والخلاف في الجهة فقط عندهما من حيث الحكم وعنده من حيث اللفظ ولو كان المراد أن هذا ابني خلف عن هذا حر فالخلاف يكون في الأصل والخلف لا في جهة الخلفية فقط والأمر الثاني أن فخر الإسلام رحمه الله تعالى قال إنه يشترط صحة الأصل من حيث إنه مبتدأ وخبر موضوع للإيجاب بصيغته وقد وجد ذلك فإذا وجد وتعذر العمل بحقيقته أي بالمعنى الحقيقي، فصحة الأصل من حيث إنه مبتدأ وخبر وتعذر العمل بالمعنى الحقيقي مخصوصان بهذا ابني فأما هذا حر فإنه صحيح مطلقا والعمل بحقيقته غير متعذر فعلم أن الأصل هذا ابني مرادا به البنوة فحاصل الخلاف أنه إذا استعمل لفظ وأريد به المعنى المجازي هل يشترط إمكان المعنى الحقيقي بهذا اللفظ أم لا فعندهما يشترط فحيث يمنع المعنى الحقيقي لا يصح المجاز وعنده لا بل يكفي صحة اللفظ من حيث العربية "لهما أن في المجاز ينتقل الذهن من الموضوع له إلى لازمه فالثاني" أي اللازم "موقوف على الأول" أي الموضوع له فيكون اللازم خلفا وفرعا للموضوع له وهذا هو المراد بالخلفية في حق الحكم "فلا بد من إمكانه" أي إمكان الأول وهو المعنى الموضوع له لتوقف المعنى المجازي عليه.
................................................................................................
أهل اللغة هو من طرق البلاغة، وشعبها التي بها ترتفع طبقة الكلام فلو لم يصح لما كان كذلك، ولهذا لم يدونوا المجازات تدوينهم الحقائق، وتمسك المخالف بأنه لو جاز التجوز بمجرد وجود العلاقة لجاز إطلاق نخلة لطويل غير إنسان للمشابهة، وشبكة للصيد للمجاورة، والأب للابن للسببية، والابن للأب للمسببية، واللازم باطل اتفاقا، وأجيب بمنع الملازمة فإن العلاقة مقتضية للصحة، والتخلف عن المقتضى ليس بقادح لجواز أن يكون لمانع مخصوص فإن عدم المانع ليس جزءا من المقتضى، وذهب المصنف إلى أنه لم تجز استعارة نخلة لطول غير إنسان لانتفاء شرط الاستعارة، وهو المشابهة في أخص الأوصاف أي فيما له مزيد اختصاص بالمشبه به كالشجاعة للأسد فإن قيل الطول للنخلة كذلك، وإلا لما جاز استعارتها لإنسان طويل قلنا لعل الجامع ليس مجرد الطول بل مع فروع، وأغصان في أعاليها، وطراوة، وتمايل فيها.
قوله: "مسألة" لا خلاف في أن المجاز خلف عن الحقيقة أي فرع لها بمعنى أن الحقيقة هي الأصل الراجح المقدر في الاعتبار، وإنما الخلاف في جهة الخلفية فعندهما هي الحكم حتى يشترط في المجاز إمكان المعنى الحقيقي لهذا اللفظ، وعنده التكلم حتى يكفي صحة اللفظ من حيث العربية سواء صح معناه أو لا فقول القائل هذا ابني لعبد معروف النسب مجاز اتفاقا إن كان أصغر منه سنا، وإن كان أكبر منه فعنده مجاز يثبت به العتق لصحة اللفظ وعندهما لغو لاستحالة المعنى الحقيقي، وهو أن يكون الأكبر مخلوقا من نطفة الأصغر.
قوله: "فالخلاف" يعني عندهما الأصل هذا ابني لإثبات البنوة، والخلف هذا ابني لإثبات(1/153)
مسألة: الداعي إلى المجاز اختصاص لفظه بالعذوبة أو صلاحيته للشعر أو السجع أو أصناف البديع أو معناه بالتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو الترهيب أو زيادة البيان فإن ذكر الملزوم بينة على وجود اللازم أو تلطف الكلام فيفيد لذة تخيلية
ـــــــ
وأيضا بناء على أن الأصل المتفق عليه أن من شرط صحة الخلف إمكان الأصل "كما في مسألة مس السماء" فإن إمكان الأصل فيها شرط لصحة الخلف وصورة المسألة أن يحلف بقوله والله لأمس السماء تجب الكفارة لأن الكفارة خلف عن البر ففي كل موضع
................................................................................................
الحرية، وكذا على التفسير الثاني لكلام الإمام فلا يقع الخلاف إلا في جهة الخلفية، وأما على التفصيل الأول فالأصل عنده هذا حر فيقع الخلاف في تعيين الحقيقة التي هي الأصل أيضا، ولا يقتصر على الخلفية، وهذا معنى قوله فالخلاف يكون في الأصل، والخلف أي في تعيين مجموعهما لا في كل واحد منهما إذ المجاز الذي هو الخلف إنما هو هذا ابني لإثبات الحرية بلا خلاف على كلا التفسيرين لا يقال قد سبق أن معنى الخلفية في الحكم أن الحكم المجازي خلف عن الحكم الحقيقي فعندهما الأصل ثبوت البنوة، والخلف ثبوت الحرية وعنده الأصل هذا حر، والخلف هذا ابني مجازا فيقع الخلاف في كل واحد من الأصل والفرع لأنا نقول هذا لازم على التفسير الثاني أيضا لأن الأصل عنده ليس هذا ابني حقيقة بل التكلم به، وهو مخالف لثبوت البنوة، والتحقيق أن الأصل والخلف هما اللفظان أعني الحقيقة والمجاز، والنزاع في أن هذا خلف عن ذاك في حكمه، أو في التكلم به، وما ذكروه من أن حكم هذا خلف عن حكم ذاك أخذ بالحاصل، وتوضيح للمقصود فعلى التفسير الأول تكون الحقيقة التي هي الأصل عنده مغايرة لما هي الأصل عندهما بخلاف التفسير الثاني فإنه لفظ واحد عندهم جميعا كالخلف على التفسيرين.
قوله: "فصحة الأصل" من كلام المصنف، ولم ينقل جواب الشرط الواقع في كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وهو قوله وجب المصير إلى خلفه احترازا عن إلغاء الكلام لحصول المقصود بدونه، وهو أنه جعل الأصل ما صح تكلما، وتعذر العمل بحقيقته، والظاهر أنه إنما يصدق على هذا ابني لا على هذا حر.
قوله: "لهما" المشهور في استدلالهما أن الحكم هو المقصود لا نفس اللفظ فاعتبار الأصالة والخلفية في المقصود أولى وفي استدلاله أن الحقيقة والمجاز من أوصاف اللفظ فاعتبار الأصالة والخلفية في التكلم الذي هو استخراج اللفظ من العدم إلى الوجود أولى، وذكر المصنف في استدلالهما ما يلائم كلام أهل العربية من أن مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم فلا بد من إمكان الملزوم ليتحقق الانتقال منه، وأجاب بأن الانتقال منه يتوقف على فهمه لا على إرادته، والفهم إنما يتوقف على صحة اللفظ، وكونه بحيث يدل على المعنى لا على إمكان معناه وصحته في نفسه ثم لا يخفى أن المجاز الذي لا يمكن صحة معناه الحقيقي في كلام البلغاء أكثر من أن يحصى بل في كلام الله تعالى أيضا.
قوله: "لأن الأصل، وهو البر غير ممكن" فإن قيل هذا ظاهر فيما إذا لم يكن في الكوز ماء،(1/154)
وزيادة شوق إلى إدراك معناه فيوجب سرعة التفهم، أو مطابقة تمام المراد أو غير ذلك مما ذكرنا في مقدمة كتاب الوشاح وفي فصلي التشبيه والمجاز.
ـــــــ
يمكن البر ينعقد اليمين وتجب الكفارة وفي كل موضع لا يمكن البر لا ينعقد اليمين ولا تجب الكفارة ففي مسألة مس السماء البر وهو مس السماء ممكن في حق البشر كما كان النبي عليه السلام وإن حلف لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه لا تجب الكفارة لأن الأصل هو البر غير ممكن فالمستشهد هاتان المسألتان والفرق الذي بينهما وإنما لم نذكر في المتن مسألة الكوز لأن المعتاد في كتبنا ذكرهما معا فكل منهما ينبئ عن الآخر "قلنا موقوف على فهم الأول لا على إرادته إذ لا جمع بينهما" أي بين الحقيقة والمجاز والمراد المعنى الحقيقي والمجازي فيها أي في الإرادة فإذا لم يتوقف على إرادة الأول لا يجب إمكان الأول وحيث توقف على فهم الأول وفهم الأول مبني على صحة اللفظ من حيث العربية يكفي صحة اللفظ من حيث العربية "فإذا فهم الأول وامتنع إرادته علم أن المراد لازمه وهو عتقه من حين ملكه" فإن هذا المعنى لازم للبنوة "فيجعل إقرارا فيعتق قضاء من
................................................................................................
وأما إذا كان فيه ماء فأريق فإعادة الماء في الكوز ممكن فينبغي أن تبقى اليمين منعقدة كما إذا حلف ليقتلن فلانا، وهو ميت وقت الحلف لإمكان إعادة حياته، وكما إذا حلف ليقلبن هذا الحجر ذهبا قلنا ابتداء اليمين في الكوز انعقدت على الممكن في الظاهر، وعند الإراقة ما بقي ذلك الممكن ممكنا فلا يبقى اليمين على خلاف ما انعقدت أما في مسألة قتل الميت، وقلب الحجر فاليمين قد انعقدت ابتداء على القدرة في الجملة لا على الإمكان في الظاهر، ولم تنعقد اليمين على ماء يخلقه الله تعالى في الكوز كما انعقدت على حياة يحدثها الله في الشخص بعدما حلف مع العلم بموته لأنه على تقدير الخلق لا يكون الماء الذي في الكوز وقت اليمين، ولا يقدر لأشربن الماء الذي في الكوز إن خلقه الله فيه كما يقدر لأقتلن الشخص إن أحياه الله تعالى لأن الماء الذي في الكوز إشارة إلى موجود لكونه مشارا إليه، وتقدير الشرط يقتضي عدمه فيلزم اتصاف الشيء بالوجود والعدم، وهو محال.
قوله: "فإذا فهم الأول" أي كون المشار إليه ابنا له، وامتنع إرادته للقرينة المانعة عن ذلك، وهي كونه معروف النسب أو أكبر سنا من القائل علم أن المراد لازمه أي لازم كونه ابنا له، وهو العتق من حين الملك على أنه استعارة حيث أطلق الابن على من ليس بابن لاشتراكهما في لازم مشهور، وهو العتق من حين الملك، وهو في الابن أقوى وأشهر، وذهب بعضهم إلى أنه من إطلاق السبب على المسبب لأن البنوة من أسباب العتق، وهي هاهنا متأخرة عن الملك لأن الملك كان ثابتا، ولا نسب ثم ادعاه فثبتت البنوة فيعتق، والحكم في علة ذات وصفين يضاف إلى آخرهما وجودا لا أن المصنف رحمه الله تعالى عدل عن ذلك لأن العتق هاهنا لا سيما في الأكبر سنا لم يثبت بالبنوة فلا يكون مسببا عنها، والسبب إنما يطلق على مسببه كما مر.
قوله: "فيجعل إقرارا" جواب لسؤال مقدر تقديره أنه لا وجه لتصحيح هذا الكلام في هذا(1/155)
فصل: في الاستعارة
...
فصل: وقد تجري الاستعارة التبعية في الحروف
فإن الاستعارة تقع أولا في متعلق معنى الحرف ثم فيه كاللام مثلا فيستعار أولا التعليل للتعقيب ثم بواسطتها يستعار اللام له نحو لدوا للموت وابنوا للخراب وهاهنا نذكر حروفا تشتد الحاجة إليها وتسمى.
ـــــــ
غير نية لأنه متعين ولا يعتق بقوله يا بني لأنه لاستحضار المنادى بصورة الاسم بلا قصد المعنى فلا تجري الاستعارة لتصحيح المعنى فإن الاستعارة تقع أولا في المعنى وبواسطته في اللفظ" فيستعار أولا الهيكل المخصوص للشجاع ثم بتوسط هذه الاستعارة يستعار لفظ الأسد للشجاع ولأجل أن الاستعارة تقع أولا في المعنى لا تجري الاستعارة في الأعلام إلا في أعلام تدل على المعنى كحاتم ونحوه.
ويعتق بقوله يا حر لأنه موضوع له فإن قيل قد ذكره في علم البيان أن زيدا أسد ليس
................................................................................................
المعنى لأنه إن جعل مجازا لإنشاء الحرية فالمعنى المذكور، وهو أنه عتق علي من حين ملكته إقرار لا إنشاء، ولهذا يبطل بالكره والهزل، ولا يقبل التعليق بالشرط، وإن جعل مجازا للإقرار فهو كذب محض بيقين لأن عتقه بالبنوة أمر مستحيل، ولم يوجد من جهة السيد إعتاق، والإقرار يبطل إذا اتصل به دليل الكذب فكيف إذا كان كذبا بيقين فأجاب بأنه مجاز للإقرار، والمستحيل إنما هو البنوة لا الحرية من حين الملك حتى لو قال أعتق علي من حين ملكته كان صحيحا فإن قيل الإعتاق لم يوجد فكيف يصح هذا الإقرار فالجواب أنه إن كان صادقا بأن سبق منه إعتاق فقد عتق العبد قضاء وديانة، وإن كان كاذبا يعتق قضاء مؤاخذة له بإقراره، ولا يعتق ديانة فالعتق قضاء لازم على كل تقدير. فإن قيل يحتمل أن يكون مجازا عن الشفقة ونحوها فلا بد من النية كما إذا قال هذا أخي يحتمل الأخوة في الدين، والاتحاد في القبيلة والأخوة في النسب فلا يعتق ما لم يبين أنه أراد الأخوة أبا وأما قلنا احتمال بعيد غير ناشئ عن دليل لأن السابق إلى الفهم عند تعذر المعنى الحقيقي هو العتق لا غير فيكون مجازا متعينا فلا يحتاج إلى النية بخلاف هذا أخي، وفيه نظر. فإن قيل فيجب ثبوت الحرمة فيما إذا قال لزوجته، وهي أصغر منه سنا هذه بنتي قلنا لم يعتبر لأنه إقرار على الغير لأن حكم النسب ليس إزالة الملك بعد ثبوته بل انتفاء حل المحلية من الأصل، وذلك حقها لا حقه فلا يصدق في إبطال حق الغير بخلاف هذا ابني فإنه إقرار على نفسه لأن من حكم البنوة بطلان الملك بعد ثبوته فإنه يملك ابنه بالشراء ثم يبطل ذلك بالعتق. فإن قيل إذا قال لعبد يا ابني يجب أن يعتق لتعذر العمل بالحقيقة، وتعين المجاز قلنا وضع النداء لاستحضار المنادى وطلب إقباله بصورة الاسم من غير قصد إلى معناه فلا يفتقر إلى تصحيح الكلام بإثبات موجبه الحقيقي أو المجازي بخلاف الخبر فإنه لتحقيق المخبر به فلا بد من تصحيحه بما أمكن. فإن قيل فينبغي أن لا يعتق بمثل يا حر قلنا لفظ الحر موضوع للمعتق، وعلم لإسقاط الرق فيقوم عينه مقام معناه حتى لو قصد التسبيح فجرى على لسانه عبدي حر يعتق.
قوله: "فإن الاستعارة تقع أولا، في المعنى" ميل إلى المذهب المرجوح في تحقيق الاستعارة،(1/156)
باستعارة بل هو تشبيه بغير آلة لأنه دعوى أمر مستحيل قصدا لأن التصديق والتكذيب يتوجهان إلى الخبر وإنما يكون استعارة إذا حذف المشبه نحو رأيت أسدا يرمي وإن كان هذا مستحيلا أيضا بواسطة القرينة لكن غير مقصود فإن القصد إلى الرؤية هاهنا فعلى هذا لا يكون هذا ابني استعارة
................................................................................................
وهو أنه ليس بمجاز لغوي بل مجاز عقلي بمعنى أن التصرف في أمر عقلي حيث جعل ما ليس بأسد أسدا أي استعير الهيكل المخصوص للرجل الشجاع ثم استعمل فيه لفظ الأسد على أنه استعمال فيما وضع له، والمذهب المنصور أنه مجاز لغوي مستعمل في غير ما وضع له، وأن جعل الرجل الشجاع أسدا ليس معناه استعارة الهيكل المخصوص له بل معناه أنه جعل أفراد الأسد قسمين: متعارفا، وهو ما له تلك الشجاعة في ذلك الهيكل وتلك الصورة المخصوصة، وغير متعارف، وهو ما له تلك الشجاعة لكن لا في ذلك الهيكل وتلك الصورة، والرجل الشجاع من هذا القبيل إلا أن لفظ الأسد لم يوضع بالتحقيق إلا للقسم الأول فيكون استعماله في القسم الثاني استعمالا في غير ما وضع له، وأما عدم جريان الاستعارة في الأعلام فمبني على أنه يجب في الاستعارة إدخال المشبه في جنس المشبه به بجعل أفراده قسمين متعارفا، وغير متعارف، والعلمية تنافي الجنسية، واعتبار الأفراد إلا إذا تضمن نوع وصفية اشتهر بها كحاتم في الجود فيجعل قسمين متعارفا، وهو ما له غاية الجود في ذلك الشخص المعهود، وغير متعارف، وهو ما له غاية الجود في ذلك الشخص فيجعل زيد من قبيل الثاني، ويستعار له لفظ حاتم، وما ذكره المصنف من أنها لا تجري في الأعلام لأن العلم لا يدل على معنى ليستعار أولا معناه ثم لفظه ففيه نظر لأن العلم دال على معناه العلمي بالضرورة فلم لا يجوز استعارته لشخص آخر ادعاء وتخييلا كما جاز استعارة الهيكل المخصوص بالأسد للإنسان الشجاع؟ لا يقال المراد أنه لا يدل على معنى مشترك بينه وبين المشبه لأنا نقول المعنى الذي يستعار أولا للمشبه هو المعنى الحقيقي للمشبه به كالهيكل المخصوص على ما صرح به المصنف لا الوصف المشترك كالشجاع مثلا فإنه ثابت للمشبه حقيقة، والتحقيق أن الاستعارة تقتضي وجود لازم مشهور له نوع اختصاص بالشبه به فإن وجد ذلك في مدلول الاسم سواء كان علما أو غير علم جاز استعارته، وإلا فلا.
قوله: "فإن قيل" حاصل السؤال أن هذا ابني من قبيل زيد أسد، وهو ليس باستعارة عند المحققين بل تشبيه بحذف الأداة أي زيد مثل الأسد، وهذا مثل ابني، وهو لا يوجب العتق بالاتفاق، وحاصل الجواب أنه ليس من قبيل زيد أسد بل من قبيل الحال ناطقة، وهو استعارة بالاتفاق، وذلك لأن ابني معناه مولود مني، ومخلوق من مائي فيكون مشتقا مثل ناطقة ثم أدرج فيه سؤالا آخر، وهو أن اتفاق المحققين على أن مثل زيد أسد ليس باستعارة لما فيه من دعوى أمر مستحيل إجماع على أنه يشترط في استعارة إمكان المعنى الحقيقي كما هو مذهب أبي يوسف ومحمد، ولا قائل بالفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل فيكون المجاز خلفا في الحكم لا في التكلم، وأشار إلى الجواب بأنهم متفقون على أن مثل الحال ناطقة استعارة مع استحالة المعنى الحقيقي، وهو ثبوت النطق للحال فعلم أن إمكان المعنى الحقيقي ليس بشرط في المجاز على الإطلاق، وهذا يمكن أن يجعل معارضة، وأن يجعل منعا مع السند.(1/157)
اعلم أن الاستعارة عند علماء البيان ادعاء معنى الحقيقة في الشيء لأجل المبالغة في التشبيه مع حذف التشبيه لفظا ومعنى فالاستعارة لا تجري في خبر المبتدأ عندهم فقولهم زيد أسد ليس باستعارة بل تشبيه بغير آلة بناء على الدليل الذي ذكر في المتن فعلى هذا لا يكون هذا ابني استعارة بل يكون تشبيها وفي التشبيه لا يعتق فعلم من هذا أنهم لا يجوزون الاستعارة إذا كانت مستلزمة لدعوى أمر مستحيل قصدا فهذا عين مذهبهما لأن شرط صحة المجاز إمكان المعنى الحقيقي "قلنا هذا في الاستعارة في أسماء الأجناس وتسمى استعارة أصلية لأنه يلزم حينئذ قلب الحقائق لا في الاستعارة في المشتقات وتسمى استعارة تبعية نحو نطقت الحال أو الحال ناطقة فإن هذا استعارة بالاتفاق ولا يلزم هنا قلب الحقائق وهذا ابني من هذا القبيل" هذا الذي ذكر وهو أن زيدا أسد ليس باستعارة بناء على أن الاستعارة لا تقع في خبر المبتدأ إنما هو مخصوص بالاستعارة في أسماء الأجناس أما الاستعارة في المشتقات فإنها تجري في خبر المبتدأ عند علماء البيان كما يقال الحال ناطقة أي دلالة استعير الناطقة للدلالة وهذه الاستعارة في خبر المبتدأ لكن ليست في أسماء الأجناس بل في الاسم المشتق فيجوزون هذا في خبر المبتدأ، وفرقهم أن الاستعارة في خبر المبتدأ تستلزم قلب الحقائق إذا كان خبر المبتدأ اسم جنس أما إذا كان اسما مشتقا فلا تستلزم قلب الحقائق نحو الحال ناطقة فلا تجوز في أسماء الأجناس وتجوز في المشتقات وهنا خبر المبتدأ وهو ابني اسم مشتق لأن معناه مولود مني فتجوز فيه الاستعارة فإنه من قبيل قولنا الحال ناطقة واعلم أنهم يسمون الاستعارة في أسماء الأجناس استعارة أصلية والاستعارة في الأفعال والأسماء المشتقة استعارة تبعية لأن الاستعارة إنما تقع فيها بتبعية وقوعها في المشتق منه وسيأتي قريبا ويجب أن يعلم أن الجواب الذي أوردته في المتن إنما هو على تقدير تسليم زعم علماء البيان وترك المناقشة على دلائلهم الواهية وذلك أن قولهم زيد أسد ليس باستعارة مع أن قولهم رأيت أسدا يرمي استعارة ليس بقوي والفرق الذي ذكرته في المتن أن زيدا أسد دعوى أمر مستحيل قصدا بخلاف رأيت أسدا يرمي لا شك أنه فرق واه وما ذكر بعد ذلك أن في أسماء الأجناس لا تجري الاستعارة في خبر المبتدأ وتجري في الأسماء المشتقة أضعف من الأول وفرقهم أن الأول يقضي إلى قلب الحقائق دون الثاني أوهن من نسج العنكبوت لأن قولهم الحال ناطقة ليس في الاستحالة أدنى من قولهم زيد أسد فما الذي أوجب أن أحدهما استعارة والآخر ليس باستعارة؟
................................................................................................
قوله: "اعلم أن الاستعارة عند علماء البيان ادعاء معنى الحقيقة في الشيء" ميل إلى المذهب المرجوح كما بينا والمحققون على أنها عبارة عن ذكر المشبه به، وإرادة المشبه مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به يجعل أفراده قسمين متعارفا، وغير متعارف مع نصب قرينة مانعة عن إرادة المتعارف، ولا يخفى أن ادعاء معنى الحقيقة مع نصب القرينة المانعة عن إرادة معنى الحقيقة أمران متدافعان.(1/158)
وإنما لم أذكر هذه الاعتراضات في المتن لعدم الاحتياج إليها فإن قولهم الحال ناطقة لما كانت استعارة بالاتفاق علم أن إمكان المعنى الحقيقي لا يشترط لصحة المجاز وعلى تقدير تسليم الفرق بين المشتقات وأسماء الأجناس قولهم هذا ابني من قبيل المشتقات فتصح فيه الاستعارة بلا اشتراط إمكان المعنى الحقيقي.
"مسألة: قال بعض الشافعية لا عموم للمجاز لأنه ضروري يصار إليه توسعة فيقدر بقدر الضرورة قلنا لا ضرورة في استعماله" لأنه إنما يستعمل لأجل الداعي الذي يأتي من بعد وإذا لم تكن الضرورة الترديد في استعماله بل يكون معنى الضرورة أنه إذا استعمل اللفظ يجب أن يحمل على المعنى الحقيقي فإذا لم يمكن فعلى المجازي فهذه الضرورة لا تنافي العموم بل العموم إنما يثبت إن استعمله المتكلم وأراد به المعنى العام ولا مانع لهذا لأنه ما وجد في الاستعمال ضرورة "وهو أحد نوعي الكلام بل فيه من البلاغة ما ليس في الحقيقة
................................................................................................
قوله: "فهذا عين مذهبهما" فيه بحث لأن الشرط على هذا عدم القصد إلى دعوى أمر مستحيل وعندهما عدم الاستحالة فأيد أحدهما عن الآخر.
قوله: "ويجب أن يعلم أن الجواب الذي أوردته في المتن إنما هو على تقدير تسليم زعم علماء البيان" قد تقرر في علم البيان نحو رأيت أسدا يرمي من باب الاستعارة بخلاف زيد أسد فإن المحققين على أنه تشبيه بليغ لا استعارة، وأن نحو الحال ناطقة بكذا من باب الاستعارة بالاتفاق ففهم المصنف من ذلك أن الاستعارة لا تجري في خبر المبتدأ إلا إذا كان مشتقا، وبين الفرق بين نحو زيد أسد، ونحو رأيت أسدا يرمي بأن الأول يشتمل على دعوى أمر مستحيل قصدا إذ التصديق والتكذيب إنما يتوجهان إلى الخبر الذي قصد المتكلم إثباته أو نفيه لأن التصديق هو الحكم بمطابقة الخبر للواقع والتكذيب بخلافه فيتصف الخبر بكونه محالا أو مستقيما فيفتقر نحو زيد أسد إلى تقدير أداة التشبيه ليخرج عن الاستحالة إلى الاستقامة بخلاف نحو رأيت أسدا يرمي فإنه، وإن اشتمل على إثبات الأسدية لزيد لكنه لم يقع قصدا بل القصد إنما هو إلى إثبات الرؤية فلا يفتقر إلى تقدير أداة التشبيه للتصحيح بين الفرق وبين ما إذا كان الخبر جامدا وبين ما إذا كان مشتقا بأن الأول يشتمل على قلب الحقائق، وهو جعل حقيقة الإنسان حقيقة الأسد بخلاف الثاني فإنه لا يشتمل إلا على إثبات وصف للحقيقة التي ليس بثابت لها ثم اعترض بأن الفرق الأول ضعيف لأن الكلام المشتمل على المحال باطل سواء قصد أو لم يقصد فلا بد من التأويل، ولأن الاستعارة ربما تشتمل على دعوى أمر مستحيل قصدا مثل رمى أسد، وتكلم بدر، ولأن المحال ربما يجوز ادعاؤه لأغراض واعتبارات لطيفة مع نصب القرينة المانعة على عدم إرادة ثبوته في الواقع، وبأن الفرق بين الجامد والمشتق أضعف من الفرق الأول لأنه ربما يفرق بين ما يثبت ضمنا وبين ما يثبت قصدا لكن إثبات المحال باطل قطعا من غير فرق بين الجامد والمشتق، وما ذكر من لزوم قلب الحقائق في الأول دون الثاني في غاية الضعف لظهور أن استحالة نطق الحال ليست أدنى من استحالة أسدية الإنسان سواء سمى قلب الحقائق أو لم يسم على أن انقلاب الحقائق معناه عند(1/159)
وهو في كلام الله تعالى كثير كقوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] وقوله تعالى: {لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} [الحاقة:11] والله متعال عن العجز والضرورات نظيره قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين" وقد أريد به الطعام إجماعا فلا يشمل غيره عنده" ذكر الصاع وأراد به ما فيه من الطعام بطريق إطلاق اسم المحل على الحال.
................................................................................................
المحققين انقلاب واحد من الواجب والممكن والممتنع إلى الآخر ولا شك أن نطق الحال ممتنع فإثباته يكون جعل الممتنع ممكنا هذا تقرير كلام المصنف، وأنا أطلعك على حقيقة الحال بأن أحكي لك كلام علماء البيان في هذا المقام.
اعلم أن الاستعارة عندهم إنما تطلق حيث يستعمل المشبه به في المشبه به، ويجعل الكلام خلوا عن المشبه صالحا لأن يراد به المشبه به لولا القرينة حتى لو كان المشبه مذكورا لفظا كما في زيد أسد، ولقيني منه أسد، ولقيت به أسدا. أو تقديرا مثل أسد في مقام الإخبار عن زيد لم يسم استعارة، ولا اعتبار بكونه خبر مبتدأ أو غير ذلك حتى ذهبوا إلى أن قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] بواسطة قوله من الفجر خرج من باب الاستعارة إلى باب التشبيه ففي مثل "زيد أسد" يجب أن يحمل على حذف أداة التشبيه لامتناع حمل الأسد على زيد، وأما نحو قولهم الحال ناطقة، ونطقت الحال بكذا فاستعارة قطعا لأن المشبه متروك بالكلية، وهو الدلالة التي شبهت بنطق الناطق فلا تعلق له بمثل "زيد أسد" ثم لا يخفى أن هذا ابني من قبيل زيد أسد لا من قبيل الحال ناطقة لأنه لا حاجة إلى تأويل الابن بالمشتق، ولأن مبناه على تشبيه العبد بالابن في ثبوت العتق له لا على تشبيه العتق بالبنوة لتكون استعارة تبعية إلا أن علماء الأصول يسمون مثله مجازا كما هو مصطلح بعض أهل البيان، ونحن نقول هو استعارة بتفسير الجمهور أيضا لكونه مستعملا في المشبه المتروك، وهو الرجل الشجاع لا في معناه الحقيقي ليفتقر إلى تقدير أداة التشبيه بدليل قولهم زيد أسد على أي مجترئ صائل، والطير أغربة عليه أي باكية، ونحن قد لخصنا ذلك في شرح التلخيص فهذا ابني معناه هو معتق من حين ملكته كالابن فترك المشبه، وأطلق عليه اسم المشبه به
قوله: "مسألة" المجاز المقترن بشيء من أدلة العموم كالمعرف باللام ونحوه لا خلاف في أنه لا يعم جميع ما يصلح له اللفظ من أنواع المجاز كالحلول والسببية والجزئية ونحو ذلك أما إذا استعمل باعتبار أحد الأنواع كلفظ الصاع المستعمل فيما يحله فالصحيح أنه يعم جميع أفراد ذلك المعنى لما سبق من أن هذه الصيغ لعمومه من غير تفرقة بين كونها مستعملة في المعاني الحقيقية أو المجازية، وقد يستدل بأن عموم اللفظ إنما هو لما يلحق به من الدلائل لا لكونه حقيقة، وإلا لكان كل حقيقة عاما، والجواب أنه يجوز أن يكون المؤثر هو المجموع، ولا يلزم من عدم تأثير الحقيقة وحدها أن لا يكون لها دخل في التأثير، ولو سلم فيجوز أن يكون القابل هو الحقيقة دون المجاز أو يكون المجاز مانعا، ونقل عن بعض الشافعية أنه لا يعم حتى إذا أريد المطعوم اتفاقا لا يثبت غيره من المكيلات لأن المجاز ضروري، والضرورة تندفع بإرادة بعض الأفراد فلا يثبت الكل كالمقتضي، وأجيب بأنه إن أريد الضرورة من جهة المتكلم في الاستعمال بمعنى أنه لم يجد طريقا لتأدية المعنى سواه فممنوع لجواز أن يعدل المجاز لأغراض سيذكرها مع القدرة على الحقيقة، ولأن للمتكلم في(1/160)
"مسألة لا يراد من اللفظ الواحد معناه الحقيقي والمجازي معا لرجحان المتبوع على التابع فلا يستحق معتق المعتق مع وجود المعتق إذا أوصى لمواليه ولا يراد غير الخمر بقوله
................................................................................................
أداء المعنى طريقين أحدهما حقيقة، والآخر مجاز يختار أيهما شاء بل في طريق المجاز من لطائف الاعتبارات ومحاسن الاستعارات الموجبة لزيادة البلاغة في الكلام أي علو درجته وارتفاع طبقته ما ليس في الحقيقة، ولأن المجاز واقع في كلام من يستحيل عليه العجز عن استعمال الحقيقة والاضطرار إلى استعمال المجاز وإن أريد الضرورة من جهة الكلام والسامع بمعنى أنه لما تعذر العمل بالحقيقة وجب الحمل على المجاز ضرورة لئلا يلزم إلغاء الكلام وإخلاء اللفظ عن المرام، فلا نسلم أن الضرورة بهذا المعنى تنافي العموم فإنه يتعلق بدلالة اللفظ وإرادة المتكلم فعند الضرورة إلى حمل اللفظ على معناه المجازي يجب أن يحمل على ما قصده المتكلم واحتمله اللفظ بحسب القرينة إن عاما فعام، وإن خاصا فخاص. بخلاف المقتضى فإنه لازم عقلي غير ملفوظ فيقتصر منه على ما يحصل به صحة الكلام من غير إثبات للعموم الذي هو من صفات اللفظ خاصة. فإن قيل قد سبق أن العموم إنما هو بحسب الوضع دون الاستعمال والمجاز بالنسبة إلى المعنى المجازي ليس بموضوع قلنا المراد بالوضع أعم من الشخصي والنوعي بدليل عموم النكرة المنفية ونحوها، والمجاز موضوع بالنوع، واعلم أن القول بعدم عموم المجاز مما لم نجده في كتب الشافعية، ولا يتصور من أحد نزاع في صحة قولنا جاءني الأسود الرماة إلا زيدا أو تخصيصهم الصاع بالمطعوم مبني على ما ثبت عندهم من علية الطعم في باب الربا لا على عدم عموم المجاز، ومع ذلك فالتعليل بكونه ضروريا من جهة المتكلم على ما هو مسطور في كتب القوم مما لا يعقل أصلا لجواز أن لا يجد المتكلم لفظا يدل على جميع أفراد مراده بالحقيقة فيضطر إلى المجاز فكما يتصور الاضطرار إلى المجاز لأجل المعنى الخاص فكذا لأجل المعنى العام، وإنما يلائمه بعض الملاءمة الضرورة من جانب السامع لتصحيح الكلام على ما مر.
قوله: "مسألة" لا نزاع في جواز استعمال اللفظ في معنى مجازي يكون المعنى الحقيقي من أفراده كاستعمال الدابة عرفا فيما يدب على الأرض، ووضع القدم في الدخول، ولا في امتناع استعماله في المعنى الحقيقي والمجازي بحيث يكون اللفظ بحسب هذا الاستعمال حقيقة ومجازا، أما إذا اشترط في المجاز قرينة مانعة من إرادة الموضوع له فظاهر، وأما إذا لم يشترط فلأن اللفظ موضوع للمعنى الحقيقي وحده فاستعماله في المعنيين استعمال في غير ما وضع له، فعلى تقدير صحة هذا الاستعمال فهو مجاز بالاتفاق، وإنما النزاع في أن يستعمل اللفظ، ويراد في إطلاق واحد معناه الحقيقي والمجازي معا بأن يكون كل منهما متعلق الحكم مثل أن تقول لا تقتل الأسد أو الأسدين أو الأسود، وتريد السبع والرجل الشجاع أحدهما من حيث إنه نفس الموضوع له، والآخر من حيث إنه متعلق به بنوع علاقة، وإن كان اللفظ بالنظر إلى هذا الاستعمال مجازا أو التحقيق أنه فرع استعمال المشترك في معنييه، فإن اللفظ موضوع للمعنى المجازي بالنوع فهو بالنظر إلى الوضعين بمنزلة المشترك فمن جوز ذاك جوز هذا، ومن لا فلا. وأما إرادة المعنيين في الكتابة على ما صرح به في المفتاح فليست من هذا القبيل لما عرفت أن مناط الحكم إنما هو المعنى الثاني لا يقال:(1/161)
عليه السلام: "من شرب الخمر فاجلدوه" لأنه أريد بها ما وضعت له ولا المس باليد بقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] لأن الوطء وهو المجاز مراد بالإجماع اعلم أن لفظ المولى حقيقة في المولى الأسفل وهو المعتق مجاز في معتق المعتق فإذا أوصى لمواليه لا يستحق معتق المعتق مع وجود المعتق وكذا إذا أوصى لأولاد فلان أو لأبنائه وله بنون وبنو بنين فالوصية لأبنائه دون بني بنيه أما دخول بني البنين في الأمان في قوله آمنونا على أولادنا فلأن الأمان لحقن الدم فيبتني على الشبهات وفي هذه المسألة روايتان "ولا جمع بينهما بالحنث إذا دخل حافيا أو متنعلا أو راكبا في لا يضع قدمه في دار فلان لأنه مجاز عن لا يدخل فيحنث كيف دخل
................................................................................................
المعنى الحقيقي جزء من مجموع المعنى الحقيقي والمجازي فيكون ذلك في جميع الصور في اعتبار إطلاق اسم البعض على الكل لأنا نقول هو مشروط بأن يكون الكل موجودا متحققا له اسم واحد لازما للجزء بمعنى انتقال الذهن من الجزء إليه كالإنسان المركب من الرقبة وغيرها، والمجموع المركب من الإنسان، والأسد ليس كذلك بل هو باعتباري محض.
وبالجملة لم يثبت في اللغة إطلاق لفظ الأرض على مجموع السماء والأرض، ولفظ الإنسان على الآدمي والسبع ثم الحق أن امتناع استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي، إنما هو من جهة اللغة إذ لم يثبت ذلك، والقوم يستدلون على امتناعه عقلا من وجوه الأول: أن المعنى الحقيقي متبوع والمجازي تابع على ما مر، والتابع مرجوح بالنسبة إلى المتبوع فلا يعتد به، ولا يدخل تحت الإرادة مع وجود الراجح، الثاني: أن المعنى الموضوع له بمنزلة المحل للفظ، والشيء الواحد في حالة واحدة لا يكون مستقرا في محل، ومتجاوز إياه. الثالث: أنه يلزم إرادة الموضوع له لمكان المعنى الحقيقي، وعدم إرادته للعدول عنه إلى المعنى المجازي، وهو محال، والرابع: أن الحقيقة توجب الاستغناء عن القرينة والمجاز يوجب الاحتياج إليها، وتنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات. الخامس: أن اللفظ للمعنى بمنزلة اللباس للشخص فيمتنع استعماله لمعنيين هو حقيقة لأحدهما مجاز للآخر كما يمتنع استعمال الثوب الواحد بطريقي الملك والعارية بل كما يمتنع اكتساء شخصين ثوبا واحدا في آن واحد يلبسه كل واحد منهما بتمامه على أنه ملك لأحدهما، وعارية للآخر، والكل ضعيف؛ أما الأول فلأنه لا نزاع في رجحان المتبوع إذا دار اللفظ بين المعنيين، وإنما الكلام فيما إذا قامت القرينة على إرادة التابع أيضا مثل رأيت أسدين يرمي أحدهما، ويفترس الآخر، ولا خفاء في جواز إرادة التابع فقط بمعونة القرينة فضلا عن إرادته مع إرادة المتبوع، وأما الثاني فلأنه لا معنى لاستعمال اللفظ في المعنى إلا إرادته عند إطلاق اللفظ من غير تصور استقراره وحلوله في المعنى، وأما الثالث فلأنا لا نسلم إرادة غير الموضوع له توجب العدول عن إرادة الموضوع له، لم لا يجوز أن يراد المجموع أو يكون كل منهما داخلا تحت المراد؟ وأما الرابع فلأن استغناء الحقيقة عن القرينة معناه أن المعنى الحقيقي يفهم بلا قرينة، وهو لا ينافي نصب القرينة على إرادة المعنى المجازي أيضا، وإن أريد أن المجاز يفتقر إلى قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له فينافي الحقيقة فقد عرفت أن محل النزاع إنما هو إرادة المعنى الحقيقي والمجازي لا كون اللفظ حقيقة ومجازا معا، والمشروط بالقرينة المانعة عن إرادة المعنى الحقيقي هو كون اللفظ مجازا لا إرادة(1/162)
فلهذا من باب عموم المجاز" اعلم أنه تذكر هنا مسائل تتراءى أنا جمعنا فيما بين الحقيقة والمجاز أولها إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان يحنث إذا دخل حافيا أو متنعلا أو راكبا والدخول حافيا معناه الحقيقي والباقي بطريق المجاز فقوله في لا يضع متعلق بقوله لا جمع بينهما وإنما حملناه على معنى المجاز لأن معناه الحقيقي مهجور إذ ليس المراد أن ينام ويضع القدمين في الدار وباقي الجسد يكون خارج الدار وفي العرف صار عبارة عن لا يدخل
................................................................................................
المعنى المجازي أي الذي يتصل بالمعنى الحقيقي بنوع علاقة فإن ذلك عين النزاع.
فإن قيل فاللفظ في المجموع مجاز، والمجاز مشروط بالقرينة المانعة عن إرادة الموضوع له فيكون الموضوع له مرادا، وهذا محال قلنا الموضوع له هو المعنى الحقيقي وحده فيجب قرينة دالة على أنه وحده ليس بمراد، وهي لا تنافي كونه داخلا تحت المراد، وأما الخامس فلأنه إن كان إثباتا للحكم بطريق القياس فباطل لأن الامتناع في المقيس عليه مبني على أن استعمال الثوب الواحد في حالة واحدة بطريق الملك والعارية محال شرعا، وحصول الشخصين في مكان واحد يشغله كل واحد منهما بتمامه محال عقلا فمن أين يلزم منه استحالة إطلاق اللفظ وإرادة المعنى الحقيقي والمجازي معا؟، وإن كان توضيحا وتمثيلا للمعقول بالمحسوس فلا بد من الدليل على استحالة إرادة المعنيين فإنها ممنوعة، ودعوى الضرورة فيها غير مسموعة على أنا لا نجعل اللفظ عند إرادة المعنيين حقيقة ومجازا ليكون استعماله فيهما بمنزلة استعمال الثوب بطريق الملك والعارية بل نجعله مجازا قطعا لكونه مستعملا في المجموع الذي هو غير الموضوع له.
قوله: "فلا يستحق" أورد في المتن من فروع الأصل المذكور ثلاثة لأنه إما أن يتحقق إرادة المجاز فيمتنع إرادة الحقيقة كالملامسة في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] أريد بها الوطء مجازا بالإجماع حتى حل للجنب التيمم فلا يراد المس باليد. فإن قيل لا إجماع مع مخالفة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فعنده المراد بها المس باليد، ولا صحة لتيمم الجنب قلنا أراد إجماع من بعد الصحابة بل إجماع الأئمة الأربعة، وفيه بحث لأن منهم من حملها على المس باليد، وجوز تيمم الجنب بدليل آخر لا يقال هو مخالف لإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أن المراد الوطء، ويحل تيمم الجنب أو لمس باليد، ولا يحل ذلك لأنا نقول لا نسلم أن مثل ذلك مخالف للإجماع، وإنما يكون لو رفع أمرا متفقا عليه، وعدم القول بأن المراد المس باليد مع جواز التيمم ليس قولا بالعدم حتى يمتنع مخالفته، وإما أن يتحقق إرادة الحقيقة فلا يراد المجاز، وذلك إما في مفرد كالخمر إذا أريد بها حقيقتها فلا يراد غيرها من المسكرات بعلاقة المشابهة في مخامرة العقل، وإنما يجب الحد في السكر منها بدليل آخر من إجماع أو سنة. فإن قيل لم لا يجوز أن يراد بالملامسة مطلق اللمس الشامل للوطء وغيره، وبالخمر مطلق ما يخامر العقل فيثبت الحكم في الجمع بطريق عموم المجاز قلنا لأنه يتوقف على القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي وحده، ولا قرينة، ولو سلم فخارج عن المبحث، وأما في نسبة كما إذا أوصى لمواليه بشيء، وله معتق، ومعتق معتق يستحق الأول لأن مولى زيد مثلا حقيقة في معتقه لأن إضافة المشتق تفيد اختصاص(1/163)
"وكذا" أي من باب عموم المجاز قوله "لا يدخل في دار فلان يراد به نسبة السكنى" أي يراد بطريق المجاز بقوله دار فلان كون الدار منسوبة إلى فلان نسبة السكنى إما حقيقة وإما دلالة حتى لو كانت ملك فلان ولا يكون فلان ساكنا فيها يحنث بالدخول فيها "وهي تعم الملك والإجارة والعارية لا نسبة الملك حقيقة وغيرها مجازا" أي لا يراد نسبة الملك بطريق الحقيقة وغيرها أي الإجارة والعارية بطريق المجاز "حتى يلزم الجمع بينهما" أي بين
................................................................................................
معناه بالمضاف إليه باعتبار مفهومه مثلا مكتوب زيد ما يختص به باعتبار مكتوبيته له مجاز في معتق معتقه لوجود الملابسة، وهي كون زيد سببا لعتقه في الجملة، وأما لفظ المولى فحقيقة في العتق سواء أعتقه حر الأصل أو غيره فهو ليس بمجاز في معتق المعتق على ما يتوهم من ظاهر عبارة المصنف، وإنما سمي العتق الأول أسفل لأنه أصل، والفروع أعالي للأصول كأغصان الشجرة، والأظهر أنه يسمى أسفل بالنسبة إلى المعتق اسم فاعل حيث سمى المولى الأعلى.
قوله: "وكذا إذا أوصى" يريد أن لفظ الابن أو الولد المضافين شخص حقيقة في أبنائه وأولاده الصلبية مجاز في ابن الابن فلو أوصى لأبنائه، وله ذكور وإناث يستحق الذكور خاصة عنده، والذكور والإناث عندهما، وهو أحد قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإن كانت له إناث خاصة فلا شيء لهن، وإن كان له أبناء وبنو أبناء يستحق الأبناء خاصة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى عملا بالحقيقة وعندهما الجميع عملا بعموم المجاز حيث يطلق الأبناء عرفا على الفريقين، وإن أوصى لأولاده فللذكور والإناث الصلبية مختلطة أو منفردة، وإن كان له أولاد وأولاد ابن فعنده يستحق الصلبية خاصة وعندهما الجميع، وقيل الصلبيات خاصة بالاتفاق لأن الأولاد لا يطلق عرفا على أولاد الابن بخلاف الأبناء. فإن قيل لو قال الكفار آمنونا على أولادنا فآمنوهم، ولهم أبناء، وبنو أبناء ينبغي أن لا يشمل الأمان بني الأبناء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما هو رواية القياس لكنه يشملهم عنده في رواية الاستحسان، فالجواب أن شمول الأمان إياهم ليس من جهة تناول اللفظ بل من جهة أن الأمان لحقن الدم، وهو مبني على التوسع إذ الإنسان بنيان الرب فنبتني على الشبهات، واسم الأبناء قد يتناول جميع الفروع مثل بني آدم وبني هاشم فجعل مجرد صورة الاسم شبهة أثبت بها الأمان لكن فيما هو تابع في الخلقة، وفي إطلاق الاسم بخلاف ما إذا آمنوهم على الآباء والأمهات فإنه لا يتناول الأجداد والجدات لأنهم وإن كان تبعا في تناول الاسم لكنهم أصول خلقة فلا يدخلون بالدليل الضعيف الذي هو ظاهر الاسم لأن الأصالة الخلقية تعارضه، وعلى هذا تكون حرمة نكاح الجدات بالإجماع لا بأن لفظ الأمهات يتناولها.
قوله: "والدخول حافيا معناه الحقيقي" لأن وضع الشيء في الشيء أن يجعل الثاني ظرفا له بلا واسطة كوضع الدرهم في الكيس، والكيس في البيت، والمعنى الحقيقي هاهنا مهجور إذ لو اضطجع، ووضع القدمين في الدار بحيث يكون باقي جسده خارج الدار لا يقال عرفا أنه وضع القدم في الدار، وهذا معنى قوله إذ ليس المراد أن ينام ويضع القدمين في الدار، وباقي الجسد يكون خارج الدار، وليس معناه أن خروج باقي الجسد شرط في حقيقة وضع القدم، ولفظ ينام ليس على حقيقته كما لا يخفى، فإن قلت فالدخول غير معتبر في حقيقة وضع القدم فكيف يصح قوله، والدخول حافيا(1/164)
الحقيقة والمجاز "ولا بالحنث" عطف على قوله بالحنث في قوله ولا جمع بينهما بالحنث "إذا قدم نهارا أو ليلا في قوله امرأته كذا يوم يقدم زيد لأنه يذكر للنهار وللوقت كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [لأنفال:16]" صورة المسألة أنه إذا قال لامرأته أنت طالق يوم يقدم زيد يحنث إن قدم نهارا أو ليلا فاليوم حقيقة في النهار مجاز في الليل فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز فقوله لأنه يذكر دليل على قوله ولا بالحنث والهاء في لأنه يرجع إلى اليوم والمراد باليوم في الآية الوقت فاليوم حقيقة في النهار وكثيرا ما يراد به الوقت مجازا فاحتجنا إلى ضابط يعرف به في كل موضع أن المراد باليوم النهار أو مطلق الوقت والضابط هو قوله "فإذ تعلق بفعل ممتد فللنهار وبغير ممتد فللوقت لأن الفعل إذا نسب إلى ظرف الزمان بغير في يقتضي كونه" أي كون ظرف الزمان "معيارا له" أي للفعل والمراد بالمعيار ظرف لا يفضل عن المظروف كاليوم للصوم وهذا البحث كله يأتي في كلمة في فصل حروف المعاني
................................................................................................
معناه الحقيقي؟ قلت أراد أنه من أفراد معناه الحقيقي بمعنى أنه إذا دخل حافيا صح أن يقال حقيقة أنه وضع القدم في الدار بخلاف ما إذا دخل متنعلا أو راكبا فإن قلت قد صرح في المبسوط، والمحيط بأن الدخول ماشيا حقيقة غير مهجورة حتى لو نواه لم يحنث بالدخول راكبا قلت كأن المراد أنه صار حقيقة عرفية في الدخول ماشيا، وهي غير مهجورة بخلاف الحقيقة اللغوية أعني وضع القدم سواء كان مع الدخول أو بدونه حتى لو وضع القدم بلا دخول لم يحنث ذكره قاضي خان لكن ظاهر قوله وفي العرف صار عبارة عن لا يدخل مشعر بأن وضع القدم حقيقة عرفية في مطلق الدخول.
قوله: "يراد به" أي بكون الدار مضافة إلى فلان نسبة السكنى بدلالة العادة، وهو أن الدار لا تعادى، ولا تهجر لذاتها بل لبعض ساكنها إلا أن السكنى قد تكون حقيقة، وهو ظاهر، وقد تكون دلالة بأن تكون الدار ملكا له فيتمكن من السكنى فيها فيحنث بالدخول في دار تكون ملكا لفلان، ولا يكون هو ساكنا فيها سواء كان غيره ساكنا فيها أو لا لقيام دليل السكنى التقديري، وهو الملك. صرح به في الخانية، والظهيرية لكن ذكر شمس الأئمة أنه لو كان غيره ساكنا فيها لا يحنث لانقطاع النسبة بفعل غيره.
قوله: "فإذا تعلق بفعل ممتد" هو ما يصح تقديره بمدة مثل لبست الثوب يومين، وركبت الفرس يوما بخلاف قدمت يومين، ودخلت ثلاثة أيام، وفيه إشارة إلى أن المعتبر في الامتداد وعدمه هو الفعل الذي تعلق به اليوم لا الفعل الذي أضيف إليه اليوم، وذلك لأن اليوم حقيقة في النهار فلا يعدل عنه إلا عند تعذره، وذلك فيما إذا كان الفعل الذي تعلق به اليوم غير ممتد لأن الفعل المنسوب إلى ظرف الزمان بواسطة تقدير في دون ذكره يقتضي كون الظرف معيارا له غير زائد عليه مثل صمت الشهر يدل على صوم جميع أيامه بخلاف صمت في الشهر فإذا امتد الفعل امتد الظرف ليكون معيارا له فيصح حمل اليوم على حقيقته، وهو ما امتد من الطلوع إلى الغروب،(1/165)
"فإن امتد الفعل امتد المعيار فيراد باليوم النهار" لأن النهار أولى "وإن لم يمتد" أي للفعل "كوقوع الطلاق هنا" أي في قوله أنت طالق يوم يقدم زيد "لا يمتد المعيار فيراد به الآن" إذ لا يمكن إرادة النهار باليوم فيراد به مطلق الآن ولا يعتبر كون ذلك الآن جزءا من النهار لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ولأن العلاقة موجودة بين معناه الحقيقي ومطلق الآن سواء كان ذلك الآن جزءا من النهار أو من الليل "ولا بالحنث" عطف على قوله بالحنث الذي سبق "بأكل الحنطة وما يتخذ منها عندهما في لا يأكل من هذه الحنطة لأنه يراد باطنها عادة فيحنث بعموم المجاز" "ولا يرد قول أبي حنيفة ومحمد"
................................................................................................
وإذا لم يمتد الفعل لم يمتد الظرف لأن الممتد لا يكون معيارا لغير الممتد فحينئذ لا يصح حمل اليوم على النهار الممتد بل يجب أن يكون مجازا عن جزء من الزمان لا يعتبر في العرف ممتدا، وهو الآن سواء كان من النهار أو من الليل بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} فإن التولي عن الزحف حرام ليلا كان أو نهارا، أو لأن مطلق الآن جزء من الآن اليومي، وهو جزء من اليوم فيكون مطلق الآن جزءا من اليوم فنحقق العلاقة، وكلام المحيط مشعر بأن اليوم مشترك بين مطلق الوقت وبين بياض النهار إلا أن المتعارف استعماله في مطلق الوقت إذا قرن بفعل لا يمتد، وفي بياض النهار إذا قرن بفعل ممتد، واستعمال الناس حجة يجب العمل بها.
فإن قلت: قد وقع في كلام كثير من المشايخ ما يدل على أن المعتبر هو المضاف إليه حيث قالوا في مثل أنت طالق يوم أتزوجك أو أكلمك إن التزوج أو التكلم لا يمتد، وكذا وقع في الجامع الصغير، وإيمان الهداية قلت هو من تسامحاتهم حيث لم يختلف الجواب لتوافق المتعلق به والمضاف إليه في الامتداد، وعدمه، وأما إذا اختلفنا في مثل أمرك بيدك يوم يقدم زيد فقد اتفقوا على أن المعتبر هو ما تعلق به الظرف، لا ما أضيف إليه حتى لو قدم ليلا لا يكون الأمر بيدها لأن كون الأمر بيدها مما يمتد فإن قلت التكلم مما يقبل التقدير بالمدة فكيف جعلوه غير ممتد قلت امتداد الأعراض إنما هو بتجدد الأمثال كالضرب والجلوس والركوب فما يكون في المرة الثانية مثلها في الأولى من كل وجه فجعل كالعين الممتد بخلاف الكلام فإن المتحقق في المرة الثانية لا يكون مثله في المرة الأولى فلا يتحقق تجدد الأمثال فإن قلت كما أن اليوم ظرف للفعل المتعلق به كذلك هو ظرف للفعل المضاف إليه فيجب امتداده بامتداده، وعدمه بعدم امتداده فيحمل على الآن عند عدم امتداد المضاف إليه فإن قلت هو ظرف له من حيث المعنى إلا أنه لم يتعلق به بتقدير في كما في صمت الشهر حتى يلزم كون الظرف معيارا له فيوم يقدم زيد بمنزلة اليوم الذي يقدم فيه زيد، ويوم يركب زيد بمنزلة اليوم الذي يركب فيه، ويكفي في ذلك وقوع الفعل في جزء من أجزاء اليوم، وقد يجاب بأن ظرفيته للعامل قصدية لا ضمنية، وحاصلة لفظا ومعنى لا مقتصرة على المعنى بخلاف المضاف إليه فاعتبار العامل أولى عند اختلافهما بالامتداد وعدمه، وما ذكره المصنف من الدليل يتضمن الجواب عن هذا السؤال وعما قيل سلمنا أن امتداد الفعل يقتضي امتداد الظرف وعدمه يقتضي عدمه لكن من أين يلزم في الأول حمله على بياض النهار، وفي الثاني على مطلق الوقت؟
فإن قلت: كثيرا ما يمتد الفعل مع كون اليوم لمطلق الوقت مثل: "اركبوا يوم يأتيكم العدو"،(1/166)
رحمهما الله تعالى أي على مسألة امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز "فيمن قال لله علي صوم رجب ونوى به اليمين أنه نذر ويمين" هذا مقول القول "حتى لو لم يصم يجب القضاء" لكونه نذرا "والكفارة" لكونه يمينا فهذه ثمرة الخلاف وإذا كان نذرا ويمينا يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز لأن هذا اللفظ حقيقة في النذر مجاز في اليمين "لأنه نذر بصيغته يمين بموجبه" هذا دليل على قوله ولا يرد ثم أثبت أنه يمين بموجبه بقوله: "لأن إيجاب المباح يوجب تحريم ضده وتحريم الحلال يمين" لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] كما أن شراء القريب شراء بصيغته تحرير بموجبه "فالحاصل أن هذا ليس جمعا بين الحقيقة والمجاز" بل الصيغة موضوعة للنذر وموجب هذا الكلام اليمين والمراد بالموجب اللازم المتأخر، فدلالة اللفظ على لازمه لا تكون مجازا كما أن لفظ الأسد إذا أريد به الهيكل المخصوص يدل على الشجاعة التي هي لازمة للأسد بطريق الالتزام ولا يكون مجازا وإنما المجاز هو اللفظ الذي استعمل ويراد به لازم الموضوع له من غير إرادة الموضوع له وهنا وقع في خاطري إشكال وهو قوله: "يرد عليه أنه إن كان هذا موجبه يكون يمينا وإن لم ينو" أي اليمين كما إذا اشترى القريب يعتق عليه وإن لم ينو
................................................................................................
وأحسنوا الظن بالله يوم يأتيكم الموت، وبالعكس مثل أنت طالق يوم نصوم، وأنت حر يوم تنكسف الشمس قلت الحكم المذكور إنما هو عند الإطلاق والخلو عند الموانع، ولا يمتنع مخالفته بمعونة القرائن كما في الأمثلة المذكورة على أنه لا امتناع في حمل اليوم في الأول على بياض النهار، ويعلم الحكم في غيره بدليل العقل، وفي الثاني على مطلق الوقت، ويحصل التقييد باليوم من الإضافة كما إذا قال أنت طالق حين يقوم أو حين تنكسف الشمس فإن قيل كيف جعل التخيير والتفويض مما يمتد، والطلاق والعتاق مما لا يمتد مع أنه إن أريد إنشاء الأمر، وحدوثه فهو غير ممتد في الكل، وإن أريد كونها مخيرة ومفوضة، وهو ممتد فكذا كونها مطلقة وكون العبد معتقا ممتد قلنا أريد في الطلاق والعتاق وقوعهما لأنه لا فائدة في تقييد كون الشخص مطلقا أو معتقا بالزمان لأنه لا يقبل التوقيت بالمدة، وفي التخيير والتفويض كونها مخيرة ومفوضة لأنه يصح أن يكون يوما أو يومين أو أكثر ثم ينقطع فيفيد توقيته بالمدة فإن قلت ذكر في الجامع الصغير أنه لو قال أمرك بيدك اليوم، وغدا دخلت الليلة قلت ليس مبنيا على أن اليوم لمطلق الوقت بل على أنه بمنزلة أمرك بيدك يومين، وفي مثله يستتبع اسم اليوم الليلة بخلاف ما إذا قال أمرك بيدك اليوم، وبعد غد فإن اليوم المنفرد لا يستتبع ما بإزائه من الليل.
قوله: "لأنه يراد باطنها" أي ما في الحنطة من الأجزاء يقال فلان يأكل الحنطة أي طعامه من أجزاء الحنطة، وأكل ما في الحنطة يعم أكل عينها، وأكل ما يتخذ منها من الخبز ونحوه دون السويق فإنه عندهما جنس الدقيق، وقيل يحنث به عند محمد رحمه الله تعالى، وأما حقيقة أكل الحنطة فهو أن يقع الأكل على نفس الحنطة بأن يضعها في الفم فيمضغها.
قوله: "لله علي صوم رجب" وقع في عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى غير منون للعلمية والعدل عن الرجب لأن المراد رجب بعينه أي الذي يأتي عقيب اليمين، والمسألة على ستة أوجه،(1/167)
"وإن لم يكن موجبه يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز ويمكن أن يقال" في جواب هذا الإشكال "لا جمع بينهما في الإرادة" لأنه نوى اليمين ولم ينو النذر "لكنه يثبت النذر بصيغته واليمين بإرادته" لأن الكلام موضوع للنذر وهو إنشاء فيثبت الموضوع له وإن لم ينو وحقيقة هذا الجواب أنا نسلم أن اليمين هو المعنى المجازي لكن في الإنشاءات يمكن أن يثبت للكلام المعنى الحقيقي والمجازي فالحقيقي لمجرد الصيغة سواء أراد أو لم يرد والمجازي إن أراد، فهذه المسألة تنقسم أقساما فإن لم ينو شيئا أو نوى النذر فقط أو نوى
................................................................................................
لأن القائل إما أن لا ينوي شيئا أو ينوي النذر مع نفي اليمين أو بدونه أو ينوي اليمين مع نفي النذر أو بدونه أو ينوي النذر واليمين جميعا. فالثلاثة الأول نذر باتفاق، والرابع يمين بالاتفاق، وفي الأخيرين خلاف، وإليهما الإشارة في أول هذه المسألة بقوله، ونوى اليمين أي مع نية النذر أو من غير تعرض له بالنفي والإثبات فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى الخامس يمين، والسادس نذر وعندهما كلاهما نذر ويمين، وهما معنيان مختلفان فموجب الأول الوفاء بالملتزم، والقضاء عند الفوت لا الكفارة، وموجب الثاني المحافظة على البر، والكفارة عند الفوت لا القضاء، واللفظ حقيقة في النذر لأنه المفهوم عرفا ولغة، ولهذا لا يتوقف على النية بخلاف اليمين فإرادتهما معا جمع بين الحقيقة والمجاز، وتقرير الجواب أن هذا الكلام نذر بصيغته لكونها موضوعة لذلك يمين بموجبه أي لازمه المتأخر يمين لأن النذر إيجاب للمباح الذي هو صوم رجب مثلا، وإيجاب المباح يوجب تحريم ضده الذي هو مباح أيضا كترك الصوم مثلا لأن إيجاب الشيء يوجب المنع عن ضده، وتحريم المباح يمين لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] أي شرع لكم تحليلها بالكفارة سمى تحريم النبي صلى الله عليه وسلم مارية أو العسل على نفسه يمينا فعلى تقرير المصنف رحمه الله تعالى الموجب هو نفس اليمين، وقيل معناه أن هذا الكلام يمين بواسطة موجبه أي أثره الثابت به لأن موجب النذر لزوم المنذر الذي هو جائز الترك في نفسه إذ لا نذر في الواجب بنفسه فصار النذر تحريما للمباح بواسطة موجبه أي حكمه، ودلالة اللفظ على لازم معناه لا تكون بطريق المجاز ما لم تستعمل في اللازم، ولم يرد به اللازم مع قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له لأن الحقيقة أيضا تدل على جزء المعنى ولازمه بطريق التضمن والالتزام، ولا يصير بذلك مجازا ففهم الجزء أو اللازم قد يكون من حيث إنه نفس المراد فاللفظ حينئذ مجاز، وقد يكون من حيث إنه جزء المراد أو لازمه فاللفظ حقيقة كما إذا فهم الجدار من لفظ البيت المستعمل في معناه، وفهم الشجاعة من لفظ الأسد المستعمل في السبع، فالحاصل أن الصيغة حقيقة لا تجوز فيها، واليمين لازم لها فلا جمع، وفيه نظر لما سبق غير مرة من أن معنى الجمع بين الحقيقة والمجاز هو إرادة المعنى الحقيقي والمجازي معا لا كون اللفظ حقيقة ومجازا، وكيف يتصور ذلك، والمجاز مشروط بعدم إرادة الموضوع له، ولهذا عدل المصنف رحمه الله تعالى في تحرير المبحث عن عبارة القوم إلى قوله لا يراد من اللفظ معناه الحقيقي والمجازي معا فإذا أريد المعنى الحقيقي للصيغة ولازمه المتأخر كان جمعا بين الحقيقة والمجاز سواء سميت الصيغة مجازا أو لا.
قوله: "ويمكن أن يقال في جواب هذا الإشكال" يعني أصل الإشكال المتوهم على مسألة(1/168)
النذر مع نفي اليمين كان نذرا فقط عملا بالصيغة وإن نواهما أو نوى اليمين فقط فنذر ويمين، أما النذر فبالصيغة ولا تأثير للإرادة فيما نواهما وأما اليمين فبالإرادة، وإن نوى اليمين مع نفي النذر فيمين فقط وهذا الذي أوردته إشكالا وهو قوله "فإن قيل يلزم أن يثبت النذر أيضا إذا نوى أنه يمين وليس بنذر" لأن النذر يثبت بالصيغة فيجب أن يثبت مع أنه نوى أنه ليس بنذر فأجاب بقوله "قلنا لما نوى مجازه ونفى حقيقته يصدق ديانة" لأن هذا حكم ثابت بينه وبين الله تعالى فإذا نفى النذر يصدق ديانة بينه وبين الله تعالى ولا مدخل للقضاء فيه حتى يوجبه القاضي ولا يصدقه في نفيه بخلاف الطلاق والعتاق فإنه إذا قال أردت المعنى المجازي ونفيت الحقيقي لا يصدق في القضاء لأن هذا حكم فيما بين العباد فقضاء القاضي أصل فيه.
"مسألة: لا بد للمجاز من قرينة تمنع إرادة الحقيقة عقلا أو حسا أو عادة أو شرعا وهي إما خارجة عن المتكلم والكلام كدلالة الحال نحو يمين الفور أو معنى من المتكلم كقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء:64]" فإنه تعالى لا يأمر بالمعصية، أو لفظ خارج عن هذا الكلام كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] فإن سياق الكلام وهو قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} يخرجه من أن يكون للتخيير ونحو طلق امرأتي إن كنت رجلا لا يكون توكيلا أو غير
................................................................................................
امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز لا الإشكال الوارد على جواب القوم فإنه لا يندفع بهذا المقال لكن هذا الجواب إنما يصح فيما إذا نوى اليمين فقط وأما إذا نواهما جميعا فقد تحقق إرادة المعنى الحقيقي والمجازي معا، ولا معنى للجمع إلا هذا فإن قلت لا عبرة بإرادة النذر لأنه ثابت بنفس الصيغة من غير تأثير للإرادة فكأنه لم يرد إلا المعنى المجازي قلت فلا يمتنع الجمع في شيء من الصور لأن المعنى الحقيقي يثبت باللفظ فلا عبرة بإرادته ولا تأثير لها، واعلم أن الإشكال المذكور إنما وقع في خاطر المصنف رحمه الله تعالى على سبيل التوارد، وإلا فقد نقله صاحب الكشف عن الإمام السرخسي مع الجواب بوجهين الأول أنه لما استعملت الصيغة في محل آخر خرجت اليمين من أن تكون مرادة فصارت كالحقيقة المهجورة فلا تثبت من غير نية، والثاني أن تحريم ترك المنذور يثبت بموجب النذر، ولا يتوقف على القصد إلا أن كونه يمينا يتوقف على القصد لأن الشرع لم يجعله يمينا إلا عند القصد بخلاف شراء القريب فإن الشرع جعله إعتاقا قصد أو لم يقصد ومن بديع الكلام في هذا المقام ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى أن كلمة الله قسم بمنزلة بالله كما في قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دخل آدم الجنة فالله ما غربت الشمس حتى خرج، وكلمة علي نذر إلا أن هذا الكلام غلب عند الإطلاق في معنى النذر عادة فحمل عليه فإذا نواهما فقد نوى بكل لفظ ما هو من محتملاته فيعمل بنيته، ولا يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة بل في كلمتين.
قوله: "مسألة لا بد للمجاز من قرينة" مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي سواء جعلت داخلة في مفهوم المجاز كما هو رأي علماء البيان أو شرطا لصحته واعتباره كما هو رأي أئمة الأصول.
قوله: "أو عادة" يشمل العرف العام والخاص، وقد يفرق بينها باستعمال العادة في الأفعال والعرف في الأقوال.(1/169)
خارج فإما أن يكون بعض الأفراد أولى كما ذكرنا في التخصيص أو لم يكن نحو "الأعمال بالنيات" "ورفع عن أمتي الخطأ والنسيان" لأن عين فعل الجوارح لا يكون بالنية وعين الخطأ والنسيان غير مرفوع بل المراد الحكم، وهو نوعان الأول الثواب والإثم والثاني الجواز والفساد ونحوهما والأول بناء على صدق عزيمته والثاني بناء على ركنه وشرطه فإن من توضأ
................................................................................................
قوله: "نحو يمين الفور" هو في الأصل مصدر فارت القدر إذا غلت استعير للسرعة ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا لبث فقيل رجع فلان من فوره أي من ساعته، ومن قبل أن يسكن.
قوله: "كقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ} [الإسراء:64]" أي استنزل أو حرك من استطعت منهم بوسوستك ودعائك إلى الشر فهاهنا قرينة مانعة عن إرادة حقيقة الطلب والإيجاب عقلا، وهي كون الآمر تعالى وتقدس حكيما لا يأمر إبليس بإغواء عباده فهو مجاز عن تمكينه من ذلك وإقداره عليه لعلاقة أن الإيجاب يقتضي تمكن المأمور من الفعل وقدرته عليه لسلامة الآلات والأسباب.
قوله: "كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ} [الكهف:29]" مثل هذا الكلام حقيقة في التخيير والإذن لكل أحد أن يختار أي الأمرين شاء لكن قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} قرينة مانعة على إرادة ذلك عقلا إذ لا عذاب على الإتيان بما خير فيه وأذن، وهذه القرينة لفظ خارج عن هذا الكلام الموضوع للتخيير، وكذا كل من الأمرين مجاز للتوبيخ والإنكار لا حقيقة أما الأول فبقرينة من شاء إذ لا يختص الإيمان شرعا بمن شاء، وأما الثاني فبدلالة العقل، وقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} الآية. فإن قيل كيف يصح جعل القرينة التي هي لفظ خارج عن هذا الكلام قسيما للقرينة التي هي خارجة عن المتكلم والكلام؟ قلنا باعتبار أنها لفظ فتكون من جنس الكلام فلا تكون خارجة عن الكلام على الإطلاق، فالحاصل أن القرينة إما أن تكون معنى من المتكلم أو لا، والثاني إما أن تكون لفظا أو لا، واللفظ إما أن يكون خارجا عن الكلام الذي وقع فيه المجاز أو لا، وغير الخارج قسمان: الأول ما يكون دلالته على المنع عن إرادة الحقيقة باعتبار أولوية بعض أفراد مفهومه بالإرادة من اللفظ لاختصاص البعض الآخر بنقصان كالمكاتب من أفراد المملوك أو بزيادة كالعنب من أفراد الفاكهة فيصير اللفظ مجازا باعتبار اختصاصه بالبعض الأولى، وهذا الذي يسميه فخر الإسلام رحمه الله تعالى حقيقة قاصرة، وذهب المصنف رحمه الله تعالى فيما سبق إلى أنه حقيقة من وجه مجاز من وجه، ولم يبين هاهنا أنه مانع عن إرادة الحقيقة عقلا أو حسا أو عادة أو شرعا، والظاهر أنه مانع عادة، وقد جعله فيما سبق قسيما لدلالة العادة أيضا لأنه أراد بالعادة ثمة ما يختص بالأفعال دون الأقوال، والثاني ما لا يكون ذلك باعتبار أولوية بعض الأفراد، وذكر له ثمانية أمثلة تمنع القرينة عن إرادة الحقيقة في الأولين عقلا، وفي الثالث، والرابع، والخامس حسا مع العرف في الخامس، وفي السادس عرفا وفي الثامن شرعا فلذا أعاد لفظ نحو، وفي السابع إما عرفا عاما أو خاصا أو شرعا من غير تعيين فلذا خالف به غيره، وذكره بلفظ الكاف.
قوله: "الأعمال بالنيات" روي مصدرا بإنما، ومجردا عنها، وكلاهما يفيد الحصر، والمراد بالنية قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل فلو سقط في الماء فاغتسل أو غسل(1/170)
بماء نجس جاهلا وصلى لم يجز في الحكم لفقد شرطه ويثاب عليه لصدق عزيمته، ولما اختلف الحكمان صار الاسم بعد كونه مجازا مشتركا فلا يعم أما عندنا فلأن المشترك لا عموم له وأما عنده فلأن المجاز لا عموم له "فإذا ثبت أحدهما" وهو النوع الأول من الحكم "وهو الثواب اتفاقا لم يثبت الآخر" أي النوع الآخر وهو الجواز "ونحو لا يأكل من هذه
................................................................................................
أعضاءه للتبرد لم يكن ناويا، ونفس هذا الكلام يدل عقلا على عدم إرادة حقيقته إذ قد يحصل العمل من غير نية بل المراد بالأعمال حكمها باعتبار إطلاق الشيء على أثره وموجبه، والحكم نوعان نوع يتعلق بالآخرة، وهو الثواب في الأعمال المفتقرة إلى النية، والإثم في الأفعال المحرمة، ونوع يتعلق بالدنيا، وهو الجواز والفساد، والكراهة، والإساءة، ونحو ذلك، والنوعان مختلفان بدليل أن مبنى الأول على صدق العزيمة، وخلوص النية فإن وجد وجد الثواب، وإلا فلا، ومبنى الثاني على وجود الأركان والشرائط المعتبرة في الشرع حتى لو وجدت صح وإلا فلا، سواء اشتمل على صدق العزيمة أو لا إذا صار اللفظ مجازا عن النوعين المختلفين كان مشتركا بينهما بحسب الوضع النوعي فلا يجوز إرادتهما جميعا أما عندنا فلأن المشترك لا عموم له، وأما عند الشافعي رحمه الله تعالى فلأن المجاز لا عموم له بل يجب حمله على أحد النوعين فحمله الشافعي رحمه الله تعالى على النوع الثاني بناء على أن المقصود الأهم من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بيان الحل والحرمة والصحة والفساد ونحو ذلك فهو أقرب إلى الفهم فيكون المعنى أن صحة الأعمال لا تكون إلا بالنية فلا يجوز الوضوء بدون النية.
وحمله أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه عن النوع الأول أي ثواب الأعمال لا يكون إلا بالنية، وذلك لوجهين الأول أن الثواب ثابت اتفاقا إذ لا ثواب بدون النية فلو أريد الصحة أيضا يلزم عموم المشترك أو المجاز، الثاني أنه لو حمل على الثواب لكان باقيا على عمومه إذ لا ثواب بدون النية أصلا بخلاف الصحة فإنها قد تكون بدون النية كالبيع والنكاح، ثم على تقدير حمله على الثواب يدل الحديث على عدم صحة العبادات بدون النية لأن المقصود منها الثواب فعند تخلف الثواب لا تبقى الصحة فالوضوء في كونه عبادة يفتقر إلى النية وفي كونه مفتاحا للصلاة لا يفتقر كذا ذكره المصنف رحمه الله، وفيه نظر أما أولا فلأنا لا نسلم أن الثواب مراد بالاتفاق، وعدم الثواب بدون النية اتفاقا لا يقتضي ذلك لأن موافقة الحكم للدليل لا تقتضي إرادته منه وثبوته به ليلزم عموم المشترك بمعنى إرادة معنييه مثلا قولنا العين جسم ليس من عموم المشترك في شيء، وإن كان الحكم بالجسمية ثابتا لمعانيه، وأما ثانيا فلأن القول بعدم عموم المجاز مما لم يثبت من الشافعي رحمه الله تعالى على ما سبق، ولو سلم فله أن يقول هذا الحديث من قبيل المحذوف لا المجاز أي حكم الأعمال بالنية، وأما ثالثا فلأن عدم بقاء الأعمال على العموم مشترك الإلزام إذ لا بد عندكم من تخصيصها بالأعمال التي هي محل الثواب فيخص عنده أيضا بغير البيع والنكاح وأمثال ذلك مما لا يفتقر صحته إلى النية بإجماع، وأما رابعا فلأن انتفاء الثواب إنما يستلزم انتفاء الصحة لو كانت الصحة عبارة عن ترتب الغرض، والغرض هو الثواب أما لو كانت الصحة عبارة عن الأجزاء أو دفع وجوب القضاء أو كان الغرض هو الامتثال موافقة للشرع فلا، وأما خامسا فلورود(1/171)
النخلة ولا يأكل من هذا الدقيق ولا يشرب من هذا البئر حتى إذا استف أو كرع لا يحنث ونحو لا يضع قدمه في دار فلان وكالأسماء المنقولة ونحو التوكيل بالخصومة فإنه يصرف إلى الجواب لأن معناه الحقيقي مهجور شرعا وهو كالمهجور عادة فيتناول الإقرار والإنكار".
اعلم أن القرينة إما خارجة عن المتكلم والكلام أي لا تكون معنى في المتكلم أي صفة له ولا تكون من جنس الكلام أو تكون معنى في المتكلم أو تكون من جنس الكلام ثم هذه القرينة التي هي من جنس الكلام إما لفظ خارج عن هذا الكلام الذي يكون المجاز فيه بل يكون في كلام آخر أي يكون ذلك اللفظ الخارج دالا على عدم إرادة الحقيقة أو
................................................................................................
الإشكال المشهور، وهو أنا لا نسلم أن الحكم مشترك بين النوعين اشتراكا لفظيا بأن يوضع بإزاء كل واحد منهما وضعا على حدة بل هو موضوع لأثر الشيء ولازمه فيعم الجواز والفساد والثواب والإثم وغير ذلك كما يعم الحيوان الإنسان، والفرس، وغيرهما، واللون السواد والبياض ونحوهما، فإرادة النوعين لا تكون من عموم المشترك في شيء.
وأجاب المصنف رحمه الله تعالى عن ذلك بأنا لا نعني بقولنا الأعمال مجاز عن الحكم أن هذا الكلام قائم مقام قولنا حكم الأعمال بالنيات لأن كون الحكم بمعنى الأثر الثابت بالشيء إنما هو من أوضاع الفقهاء، واصطلاحات المتأخرين، ولم يكن في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل المراد أن العمل مجاز عما يصدق عليه أنه أثر العمل ولازمه، وذلك معان متباينة هي الثواب والمأثم والجواز والفساد ونحو ذلك، والأعمال بالنسبة إليها بمنزلة المشترك اللفظي لكونها موضوعة لكل منها وضعا نوعيا على حدة فلا يراد الجميع، وفيه نظر لأن الاشتراك إنما يلزم عند تعدد أنواع المجاز كاللفظ بالنسبة إلى سبب معناه الحقيقي، ومسببه ومحله وحاله، ونحو ذلك لا بالنسبة إلى أفراد نوع واحد، ولا شك أن الملابس بحقيقة العمل ليس هو الثواب أو الصحة مثلا بخصوصه بل أثره ولازمه، ونحو ذلك، وهذا يشمل الصحة والثواب من حيث إن كلا منهما من أفراد المعنى المجازي فالمراد بكونه مجازا عن الحكم أنه مجاز عن المعنى الذي وضع الحكم بإزائه سواء تقدم هذا الوضع أو تأخر أو لم يوضع قط أو لم يكن لفظ الحكم متحققا فإن اللفظ مجاز عن المعنى لا عن اللفظ.
قوله: "ونحو لا يأكل" حلف لا يأكل من هذه الشجرة فإن نوى ما يحتمله الكلام فعلى ما نوى، وإلا فإن كانت الشجرة مما يأكل كالريباس فعلى الحقيقة، وإلا فإن كانت مثمرة كالنخلة فعلى ثمرتها، وإلا فعلى ثمنها كشجرة الخلاف، ولو حلف لا يشرب من هذه البئر فإن كانت ملأى فعلى الاغتراف عندهما، وعلى الكرع عنده، وإلا فعلى الاغتراف حتى لا يحنث بالكرع، وهو أن يتناول الماء بفيه من موضعه يقال كرع في الماء إذا أدخل فيه أكارعه بالخصوص فيه ليشرب، وأصل ذلك في الدابة لأنها لا تكاد تشرب الماء إلا بإدخال أكارعها فيه ثم قيل للإنسان كرع في الماء إذا شرب الماء بفيه أو لم يخص.(1/172)
غير خارج عن هذا الكلام بل عين هذا الكلام أو شيء منه يكون دالا على عدم إرادة الحقيقة، ثم هذا القسم على نوعين إما أن يكون بعض الأفراد أولى كما ذكر في التخصيص أن المخصص قد يكون كون بعض الأفراد ناقصا أو زائدا فيكون اللفظ أولى بالبعض الآخر فإذا قال كل مملوك لي حر لا يقع على المكاتب مع أن المكاتب مملوك حقيقة فيكون هذا اللفظ مجازا من حيث إنه مقصور على بعض الأفراد وهو غير المكاتب أو لم يكن بعض الأفراد أولى فانحصرت القرينة في هذه الأقسام فإن قيل قد جعل في فصل التخصيص كون بعض الأفراد أولى من قسم المخصص غير الكلامي وهنا جعل من قسم القرينة اللفظية فما الفرق بينهما؟ قلنا المراد بالمخصص الكلامي أن الكلام بصريحه يوجب في بعض الأفراد حكما مناقضا لحكم يوجبه العام وكل مخصص ليس كذلك لا يكون كلاميا فيكون بعض الأفراد أولى بكونه مخصصا غير كلامي بهذا التفسير وهاهنا نعني بالقرينة اللفظية أن يفهم من اللفظ بأي طريق كان أن الحقيقة غير مرادة وفي كل مملوك لي حر يفهم من اللفظ عدم تناوله المكاتب فتكون القرينة لفظية، جئنا إلى الأمثلة المذكورة في المتن فكل قسم من الأقسام فنظيره مذكور عقيب ذلك القسم لكن لم نذكره في كل مثال أن القرينة المانعة من إرادة الحقيقة مانعة عقلا أو حسا أو عادة أو شرعا فنبين هنا هذا المعنى ففي يمين الفور كما إذا أرادت المرأة الخروج فقال إن خرجت فأنت طالق يحمل على الفور فالقرينة مانعة عن إرادة الحقيقة عرفا والمعنى الحقيقي الخروج مطلقا وفي
................................................................................................
قوله: "وكالأسماء المنقولة" فإن نفس اللفظ قرينة مانعة عن إرادة حقيقته اللغوية عرفا عاما كالدابة أو خاصا كالفاعل أو شرعا كالصلاة.
قوله: "ونحو التوكيل بالخصومة" فإن نفس اللفظ قرينة مانعة شرعا عن إرادة حقيقة الخصومة دالة على أن الخصومة مجاز عن مطلق الجواب إقرارا كان أو إنكارا بطريق استعمال المقيد في المطلق أو الكل في الجزء بناء على عموم الجواب لأن الإنكار الذي ينشأ منه الخصومة بعض الجواب حتى يصح قراره على موكله في مجلس القاضي لأن التوكيل إنما يصح شرعا بما يملكه الموكل بنفسه، وهو لا يملك الخصومة والإنكار عندما يعرف المدعي محقا فيكون مهجورا شرعا، وهو بمنزلة المهجور عادة فلا يعتد به كما لا يعتد بالحقيقة في مسائل أكل النخلة والدقيق والشرب من البئر لا يقال فينبغي أن يتعين الإقرار ولا يصح الإنكار أصلا، لأنا نقول إنما صح من جهة دخوله في عموم المجاز، وإنما المهجور، هو الإنكار بالتعيين محقا كان المدعي أو غير محق لا يقال الواجب عند تعذر الحقيقة العدول إلى أقرب المجازات كالبحث والمدافعة لا إلى أبعدها كالإقرار لأنا نقول المدافعة هي عين الخصومة، وكذا البحث إذا أريد به المجادلة، وإن أريد به التفحص عن حقيقة الحال ثم العمل بموجبها فهو عين الجواب، والخصومة لم تجعل مجازا عن الإقرار الذي هو ضدها بل عما دلت عليه القرينة كما هو الواجب.
قوله: "فأما إذا كانت" عطف هذا البحث على ما سبق من اشتراط القرينة في المجاز ليتبين أن تعارف المجاز هل يكون قرينة مانعة عن إرادة حقيقة عند إطلاق اللفظ أم لا فتقول إن الحقيقة إذا(1/173)
قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء:64] القرينة تمنع الحقيقة عقلا وكذا في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] لأن التخيير وهو الإباحة مع العذاب المستفاد من قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} [الكهف:29] ممتنع عقلا وفي قوله طلق امرأتي إن كنت رجلا الحقيقة ممتنعة عرفا وفي قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" الحقيقة غير مرادة عقلا وفي لا يأكل من هذه النخلة أو الدقيق حسا وفي لا يشرب من هذه البئر حسا وعرفا وفي لا يضع قدمه عرفا وفي الأسماء المنقولة إما عرفا عاما أو خاصا أو شرعا وفي التوكيل بالخصومة شرعا فإن قيل لا نسلم أن المعنى الحقيقي ممتنع في قوله لا يأكل من هذه النخلة حسا لأن المحلوف عليه عدم أكلها وهو غير ممتنع حسا بل أكلها كذلك، قلنا اليمين إذا دخلت على النفي كانت للمنع فوجب اليمين أن يصير ممنوعا باليمين وما لا يكون مأكولا حسا أو عادة لا يكون ممنوعا باليمين ثم عطف أول المسألة وهو أنه لا بد للمجاز من قرينة قوله "فأما إذا كانت الحقيقة مستعملة والمجاز متعارفا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى المعنى الحقيقي أولى لأن الأصل لا يترك إلا لضرورة وعندهما المعنى المجازي أولى ونظيره لا يأكل من هذه الحنطة يصرف إلى القضم عنده وعندهما إلى أكل ما فيها"
"مسألة وقد يتعذر المعنى الحقيقي والمجازي معا كقوله لامرأته وهي أكبر منه سنا أو معروفة النسب هذه بنتي أما الحقيقة" أي المعنى الحقيقي
................................................................................................
كانت مهجورة فالعمل بالمجاز اتفاقا، وإلا فإن لم يصر المجاز متعارفا أي غالبا في التعامل عند بعض المشايخ، وفي التفاهم عند البعض فالعمل بالحقيقة اتفاقا، وإن صار متعارفا فعنده العبرة بالحقيقة لأن الأصل لا يترك إلا لضرورة وعندهما العبرة بالمجاز لأن المرجوح في مقابلة الراجح ساقط بمنزلة المهجور فيترك ضرورة، وجوابه أن غلبة استعمال المجاز لا تجعل الحقيقة مرجوحة لأن العلة لا تترجح بالزيادة من جنسها فيكون الاستعمال في حد التعارض، وهذا مشعر بترجح المجاز المتعارف عندهما سواء كان عاما متناولا للحقيقة أم لا، وفي كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وغيره ما يدل على أنه إنما يترجح عندهما إذا تناول الحقيقة بعمومه كما في مسألة أكل الحنطة حيث قالوا إن هذا الاختلاف مبني على اختلافهم في جهة خلفية المجاز فعندهما لما كانت الخلفية في الحكم كان حكم المجاز لعمومه حكم الحقيقة أولى وعنده لما كان في التكلم كان جعل الكلام عاملا في معناه الحقيقي أولى.
قوله: "أو معروفة النسب" قيد الأصغر بذلك لأن تعذر الحقيقة فيها أظهر، وإلا ففي الأصغر المجهولة النسب أيضا لا يثبت للتحريم إلا أنه إذا أصر على ذلك فرق بينهما كذا في الأسرار والمبسوط.
قوله: "بخلاف العتق" كان الأنسب ذكره عقيب بيان تعذر المجاز أيضا، والحاصل أن موجب البنوة بعد الثبوت عتق قاطع للملك كإنشاء العتق، ولهذا يقع عن الكفارة، ويثبت به الولاء لا عتق مناف للملك، ولهذا يصح شراء أمه وبنته فإثبات العتق القاطع للملك متصور منه، وثابت في وسعه(1/174)
"وهو النسب في الفصل الأول" أي في الأكبر سنا منه "فظاهر وفي الثاني فلأنها" أي الحقيقة والمراد المعنى الحقيقي "إما أن تثبت مطلقا أي في حقه وفي حق من اشتهر النسب منه" أي تكون دعوته معتبرة في حقهما يثبت النسب منه وينتفي ممن اشتهر منه "ولا يمكن هذا" أي ثبوت النسب من المدعي وانتفاؤه ممن اشتهر منه "لأنه يثبت ممن اشتهر منه أو في حق نفسه فقط" أي يثبت المعنى الحقيقي وهو النسب في حق نفسه فقط بأن يثبت منه من غير أن ينتفي ممن اشتهر منه "وذا متعذر" أي الثبوت في حق "نفسه فقط" لأن الشرع يكذبه لاشتهاره من الغير "فلا يكون" أي تكذيب الشرع المدعي "أقل من تكذيبه نفسه والنسب مما يحتمل التكذيب والرجوع بخلاف العتق" في أنه لا يحتمل التكذيب والرجوع.
"وأما المجاز" عطف على قوله أما الحقيقة والمراد أن المعنى المجازي متعذر "وهو التحريم فلأن التحريم الذي يثبت بهذا" أي بلفظ هذه بنتي "مناف لملك النكاح فلا يكون حقا من حقوقه" بيانه أنه إن ثبت التحريم بهذا اللفظ لا يخلو إما أن يثبت التحريم الذي يقتضي صحة النكاح السابق أو التحريم الذي لا يقتضيها والثاني منتف لأنه لو قال لأجنبية معروفة النسب هذه بنتي يكون لغوا فعلم أنه إن ثبت التحريم يثبت التحريم الذي يقتضي صحة النكاح السابق ويكون حقا من حقوق النكاح كالطلاق، وذلك أيضا محال لأن هذا اللفظ يدل على التحريم الذي يقتضي بطلان النكاح السابق فكيف يثبت به التحريم الذي هو حق من حقوق النكاح واعلم أن تقرير فخر الإسلام رحمه الله تعالى على هذا الوجه أن الحقيقة إما أن تثبت في حقه وحق من اشتهر منه وذا غير ممكن أو في حق نفسه فقط ثم هذا إما أن يثبت في حق النسب وذا متعذر لأن الشرع يكذبه أو في حق التحريم وذا لا يمكن أيضا لأن التحريم الذي يثبت بهذا مناف لملك النكاح كما ذكرنا وأما المجاز وهو التحريم فلتلك المنافاة أيضا.
................................................................................................
فيجعل هذا ابني للأكبر سنا منه مجازا عن ذلك، وأما التحريم الثابت بهذه بنتي أعني التحريم الذي هو من لوازم البنتية فهو مناف لملك النكاح فالزوج لا يملك إثباته إذ ليس له تبديل محل الحل، وإنما يملك التحريم القاطع للحل الثابت بالنكاح، وهو ليس من لوازم هذا الكلام بل من منافياته فلا تصح استعارته له، والحاصل أن التحريم الذي هو في وسعه لا يصلح اللفظ له، والذي يصلح اللفظ له ليس في وسعه فلا يصح منه إثبات التحريم بهذا اللفظ. فإن قيل فاللازم لقولنا رأيت أسدا هو شجاعة السبع فكيف صح جعله مجازا عن الرجل الشجاع قلنا الشجاعة فيهما معنى واحد فصح للمتكلم الإخبار بهذا الكلام عن رؤية من اتصف به بخلاف التحريم على ما بيناه.
قوله: "واعلم أن" الاستدراك المذكور، إنما هو على ما أورده المصنف رحمه الله تعالى من تقرير فخر الإسلام رحمه الله تعالى لا على عبارته في كتابه المشهور لأنه قال وفي الأصغر سنا منه تعذر إثبات الحقيقة مطلقا لأنه مستحق ممن اشتهر نسبها منه، وفي حق المقر متعذر أيضا في حكم التحريم لأن التحريم الثابت بهذا الكلام لو صح معناه مناف للملك فلم يصلح حقا من حقوق(1/175)
والفرق بين التحريم الأول والثاني أن المراد بالتحريم الأول ما ثبت بدلالة الالتزام فإن ثبوت النسب موجب للتحريم، والمراد بالتحريم الثاني ما ثبت بطريق المجاز فإن لفظ السقف إذا أريد به الموضوع له دال على الجدار بطريق الالتزام ولا يكون هذا مجازا بل إنما يكون مجازا إذا أطلق السقف وأريد به الجدار فأقول لا حاجة إلى قوله إما أن يثبت في حق النسب أو في حق التحريم لأن الموضوع له ثبوت النسب فإن لم يثبت النسب لا يمكن ثبوت التحريم بطريق الالتزام لعدم ثبوت الأصل فهذا الترديد يكون قبيحا فالدليل النافي لهذا التحريم المدلول التزاما ليس كونه منافيا لملك النكاح بل الدليل النافي هو عدم ثبوت الموضوع له فعلم أن ثبوت التحريم لا يثبت إلا بطريق المجاز وذا متعذر أيضا للمنافاة المذكورة، ولو ردد بهذا الوجه وهو أنه إن ثبت التحريم فإما أن يثبت بطريق الالتزام وهو محال لعدم ثبوت الموضوع له وهو النسب أو بطريق المجاز وهو أيضا محال للمنافاة المذكورة لكان أحسن
................................................................................................
الملك، وكذلك العمل بالمجاز، وهو التحريم في الفصلين متعذر لهذا العذر الذي أبليناه أي بيناه يعني أن الحقيقة في المعروفة النسب إما أن تجعل ثابتة مطلقا أي بالنسبة إلى جميع الناس ليثبت النسب من المقر، وينتفي من غيره، وهو باطل لأن النسب مشتهر من الغير، ولا تأثير لإقراره في إبطال حق الغير، وإما أن تجعل ثابتة بالنسبة إلى المقر وحده ليظهر الأثر في حق التحريم لكونه لازما للمدلول الحقيقي، وهو باطل أيضا لأنه لا صحة لمعنى هذا الكلام، ولا ثبوت لموجبه بناء على اشتهار النسب فلا يثبت مدلوله الحقيقي ليثبت اللازم بتبعيته، وعلى تقدير صحة معنى الكلام، وثبوت موجبه فالتحريم اللازم له مناف لملك النكاح فيتعذر إثباته من الزوج، وهذا معنى قوله لأن التحريم الثابت بهذا الكلام لو صح معناه مناف للملك فليس في بيان تعذر الحقيقة في حق المقر ما أورده فقط المصنف رحمه الله تعالى من الترديد القبيح، وأيضا لم يجعل دليل تعذر التحريم بطريق الالتزام، وهو منافاته للملك ابتداء بل أشار إلى أن دليل تعذره عدم ثبوت المدلول الحقيقي، وعلى تقدير ثبوته لا يثبت التحريم أيضا للمنافاة فبين تعذر التحريم بطريق الالتزام على أبلغ وجه، وأوكده، وإنما وقع للمصنف رحمه الله تعالى ذلك لأنه ذهل عن قوله لو صح معناه، وخرج من قوله، وفي حق المقر متعذر أيضا في حكم التحريم قسم آخر مقابل لحكم التحريم، وقد سكت عنه فخر الإسلام رحمه الله تعالى احترازا عن الترديد القبيح لا يقال قوله أيضا مشعر بذلك أي تعذر في حكم التحريم أيضا كما تعذر في حكم إثبات النسب لأنا نقول بل معناه أنه في حق المقر وحده متعذر أيضا كما تعذر مطلقا.
قوله: "والفرق" يريد أن فهم اللازم من اللفظ الموضوع للملزوم، قد يكون من حيث إنه تمام المراد فيكون اللفظ مجازا كما إذا استعمل لفظ الأسد في الشجاع، وقد يكون من حيث إنه لازم للمراد فيكون اللفظ حقيقة كما إذا أطلق لفظ الأسد على السبع، وفهم الشجاع بتبعيته على أنه مدلول التزامي فمثل هذه بنتي إذا أريد أنها محرمة علي كان ثبوت الحرمة مدلولا مجازيا، وإذا أريد به ثبوت البنتية كان ثبوت الحرمة مدلولا التزاميا، وهذا مشير إلى أن اللفظ إذا استعمل في جزء المعنى(1/176)
"مسألة الداعي إلى المجاز" اعلم أن المجاز يحتاج إلى عدة أشياء: المستعار منه وهو الهيكل المخصوص والمستعار له وهو الإنسان الشجاع والمستعار وهو لفظ الأسد والعلاقة وهي الشجاعة والقرينة الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي إلى إرادة المعنى المجازي وهو يرمي في رأيت أسدا يرمي والأمر الداعي إلى استعمال المجاز فإنك إذا حاولت أن تخبر عن رؤية شجاع فالأصل أن تقول رأيت شجاعا فإذا قلت رأيت أسدا فلا بد أن يوجد أمر يدعو إلى ترك استعمال ما هو الأصل في المعنى المطلوب واستعمال ما هو خلاف الأصل وهو المجاز وذلك الداعي إما لفظي وإما معنوي فاللفظي "اختصاص لفظه" أي لفظ المجاز "بالعذوبة" فربما يكون لفظ الحقيقة لفظا ركيكا كلفظ الخنفقيق مثلا ولفظ المجاز يكون أعذب منه "أو صلاحيته للشعر" أي إذا استعمل لفظ الحقيقة لا يكون الكلام موزونا وإن استعمل لفظ المجاز يكون موزونا "أو لسجع" فإذا كان السجع داليا مثل الأحد والعدد فلفظ الأسد يستقيم في السجع لا لفظ الشجاع "أو أصناف البديع" كالتجنيسات ونحوها فربما يحصل التجنيس بلفظ المجاز لا الحقيقة نحو البدعة شرك الشرك فإن الشرك هنا مجاز استعمل ليجانس الشرك فإن بينهما شبه الاشتقاق "أو معناه" أي اختصاص معناه فمن هنا شرع في الداعي المعنوي "بالتعظيم" كاستعارة اسم أبي حنيفة رحمه الله تعالى لرجل عالم فقيه متق "أو التحقير" كاستعارة الهمج وهو الذباب للصغير الجاهل "أو الترغيب أو الترهيب" أي اختصاص المعنى المجازي بالترغيب أو الترهيب كاستعارة ماء الحياة لبعض المشروبات ليرغب السامع واستعارة السم لبعض المطعومات ليتنفر السامع "أو
................................................................................................
أو لازمه مجازا فدلالته مطابقة لأنها دلالة اللفظ على تمام ما وضع له بالنوع من حيث هو كذلك، وإنما يتحقق التضمن والالتزام إذا استعمل اللفظ في المعنى الحقيقي، وفهم الجزء اللازم في ضمن ذلك وبتبعيته فإن قيل هذه أيضا دلالة على تمام ما وضع له بالنوع قلنا: نعم، لكن لا من حيث هو كذلك لتحقق فهم الجزء اللازم في ضمن الكل والملزوم سواء ثبت الوضع النوعي أو لم يثبت بخلاف فهمهما على أنهما تمام المراد كما في المجاز فإنه يتوقف على الوضع النوعي، وجواز استعمال لفظ الكل في الجزء، والملزوم في اللازم، هذا هو اختيار المصنف رحمه الله تعالى، والأكثرون على أن الدلالة على المجاز معناه تضمن أو التزام لا مطابقة.
قوله: "اعلم أن المجاز" أورد البيان في نوع الاستعارة تمثيلا وتوضيحا.
قوله: "فربما يكون لفظ الحقيقة لفظا ركيكا" قابل العذب بالركيك، وإنما يقابله الوحشي الذي يتنفر الطبع عنه إلا أنه مشاحة في الاصطلاح لكن اسم التفضيل في قوله، ولفظ المجاز يكون أعذب منه يقتضي وجود العذوبة في اللفظ الركيك الحقيقي كالخنفقيق فيجب أن يجعل من قبيل قولهم الشتاء أبرد من الصيف، والعسل أحلى من الخل.
قوله: "أو أصناف البديع" أي المحسنات البديعية من المقابلة، والمطابقة، والتجنيس، وغير ذلك فإنه ربما يتأتى بالمجاز، ويفوت بالحقيقة، ويدخل فيها السجع أيضا وقد أفرده بالذكر.(1/177)
زيادة البيان" أي اختصاص المعنى المجازي بزيادة البيان فإن قولك رأيت أسدا يرمي أبين في الدلالة على الشجاعة من قولك رأيت شجاعا "فإن ذكر الملزوم بينة على وجود اللازم" وفي المجاز أطلق اسم الملزوم على اللازم فاستعمال المجاز يكون دعوى الشيء بالبينة واستعمال الحقيقة يكون دعوى بلا بينة "أو تلطف الكلام" بالرفع عطف على قوله واختصاص لفظه أي الداعي إلى استعمال المجاز قد يكون تلطف الكلام كاستعارة بحر من المسك موجه الذهب لفحم فيه جمر موقد "فيفيد لذة تخيلية وزيادة شوق إلى إدراك معناه فيوجب سرعة التفهم، أو مطابقة تمام المراد" بالرفع عطف على قوله أو تلطف الكلام أي الداعي إلى استعمال المجاز قد يكون معناه مطابقة تمام المراد فيمكن أن يكون معناه مطابقة تمام المراد في زيادة وضوح الدلالة أو نقصان وضوح الدلالة فإن دلالة الألفاظ الموضوعة على معانيها تكون على نهج واحد فإن حاولت أن تؤدي المعنى بدلالة أوضح من لفظ الحقيقة أو أخفى منه فلا بد أن تستعمل لفظ المجاز فإن المجازات متكثرة فبعضها أوضح في الدلالة وبعضها أخفى. فإن قيل كيف يكون دلالة لفظ المجاز أوضح من دلالة لفظ الحقيقة بل المجاز مخل بالفهم قلنا لما كانت القرينة مذكورة ارتفع الإخلال بالفهم ثم إذا كان المستعار منه أمرا محسوسا ويكون أشهر المحسوسات المتصفة بالمعنى المطلوب والمستعار له معقولا كان المجاز أوضح من الحقيقة وأيضا ما ذكر أن ذكر الملزوم بينة على وجود اللازم وأن المجاز يوجب سرعة التفهم يؤيد هذا المعنى ويمكن أن يكون معناه أن يؤدي بعبارة لسانه كنه ما في قلبه فإنك إذا أردت وصف الشيء بالسواد على مقدار مخصوص فأصل المراد أن تصفه بالسواد وتمام المراد أن تصفه بالسواد المخصوص فاللفظ الموضوع يدل على أصل المراد لكن لا يدل على تمام المراد وهو بيان كمية السواد فلا بد
................................................................................................
قوله: "أو مطابقة تمام المراد" هذا وتلطف الكلام أيضا من الداعي المعنوي، والعطف على اختصاص لفظه لا ينافي ذلك ذكر في المفتاح أن علم البيان هو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه، وبالنقصان ليتحرز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام تمام المراد، وفسروه بأن المراد هو أداء المعنى بكلام مطابق لمقتضى الحال، وتمام المراد إيراده بتراكيب مختلفة الدلالة عليه وضوحا، وخفاء ولا خفاء في أنه لا يمكن بالدلالات الوضعية والألفاظ الحقيقية لتساويها في الدلالة عند العلم بالوضع، وعد منها عند عدمه، وإنما يمكن بالدلالات العقلية والألفاظ المجازية لاختلاف مراتب اللزوم في الوضوح والخفاء فإذا قصد مطابقة تمام المراد وتأدية المعنى بالعبارات المختلفة في الوضوح والخفاء يعدل عن الحقيقة إلى المجاز ليتيسر ذلك فعلى هذا لا حاجة إلى إثبات كون بعض المجازات أوضح دلالة من الحقيقة كما التزمه المصنف رحمه الله تعالى، وبينه بأنه إذا كان المعنى الحقيقي للفظ محسوسا مشهورا كالشمس والنور، والمعنى المجازي معقولا كالحاجة والعلم كان المجاز أوضح دلالة على المطلوب من الحقيقة على أن فيه بحثا، وهو أنه إن أراد بالمعنى ما يقصد باللفظ حقيقة أو مجازا كالحجة أو العلم مثلا فلا خفاء في أن دلالة اللفظ الموضوع له عليه أوضح عند العلم بالوضع من دلالة لفظ الشمس والنور، ولو مع(1/178)
أن يذكر شيء يعرف به السامع كمية سواده فيشبه به أو يستعار له ليتبين للسامع تمام المراد "أو غير ذلك" بالرفع أيضا أي يكون الداعي إلى المجاز غير ما ذكرنا في هذه المواضع "مما ذكرنا في مقدمة كتاب الوشاح وفي فصلي التشبيه والمجاز" فإني قد ذكرت في مقدمته وفي فصل التشبيه أن الغرض من التشبيه ما هو فإنه يكون غرضا للاستعارة أيضا وفي فصل المجاز أن المجاز ربما لا يكون مفيدا وربما يكون مفيدا ولا يكون فيه مبالغة في التشبيه وربما يكون مفيدا ويكون فيه مبالغة في التشبيه كالاستعارة.
"فصل وقد تجرى الاستعارة التبعية في الحروف" ذكر علماء البيان أن الاستعارة على قسمين استعارة أصلية وهي في أسماء الأجناس واستعارة تبعية وهي في المشتقات والحروف وإنما قالوا هي تبعية لأن الاستعارة في المشتقات لا تقع إلا بتبعية وقوعها في المشتق منه كما تقول الحال ناطقة أي دالة فاستعير الناطقة للدلالة بتبعية استعارة النطق للدلالة وكذا الاستعارة في الحروف "فإن الاستعارة تقع أولا في متعلق معنى الحرف ثم فيه" أي في الحرف كاللام مثلا فيستعار أولا التعليل للتعقيب "فإن التعقيب لازم للتعليل فإن المعلول يكون عقيب العلة فيراد بالتعليل التعقيب وهو أعم من أن يكون تعقيب العلة
................................................................................................
ألف قرينة، وإن أراد المعنى الجامع المشترك بين المستعار والمستعار له فليس لفظ المستعار منه حقيقة فيه، ولا لفظ المستعار له، وهو في المستعار منه أوضح وأشهر فلا معنى لاستبعاد كون دلالة المجاز عليه أوضح فلا حاجة في إثباته إلى اعتبار كون المستعار منه محسوسا، والمستعار له معقولا.
قوله: "فصل" قد سبق أن الاستعارة في الأفعال، والصفات المشتقة تسمى تبعية لأنها تجرى أولا في المصدر ثم بتبعية في الفعل، وما يشتق منه مثلا يقدر في نطقت الحال أو الحال ناطقة بكذا تشبيه دلالة الحال ينطق الناطق فيستعار النطق للدلالة ثم يؤخذ منه نطقت بمعنى دلت، وناطقة بمعنى دالة، وغير ذلك، واستدلوا على ذلك بأن كلا من المشبه، والمشبه به يجب أن يكون موصوفا بوجه الشبه، والصالح للموصوفية هو الحقائق دون الأفعال والصفات المشتقة منها، ولنا فيه كلام يطلب من شرح التلخيص فعقد هذا الفصل لبيان أن الاستعارة التبعية لا تختص بالأفعال والصفات بل تجري في الحروف أيضا فيعتبر التشبيه أولا في متعلق معنى الحرف، وتجرى فيه الاستعارة ثم بتبعية ذلك في الحرف نفسه، والمراد بمتعلق معنى الحرف ما يعبر به عند تفسير معاني الحروف حيث يقال من لابتداء الغاية، وإلى لانتهاء الغاية، وفي للظرفية، واللام للتعليل إلى غير ذلك فهذه ليست معانيها، وإلا لكانت أسماء لا حروفا، وإنما هي متعلقات معانيها بمعنى أن معاني تلك الحروف راجعة إلى هذه بنوع استلزام كذا في المفتاح مثال ذلك وقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص:8]، وقول الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب
شبه ترتب العداوة على الالتقاط، وترتب الموت على الولادة بترتب العلة الغائية للفعل عليه،(1/179)
حروف المعاني
منها حروف العطف الواو لمطلق الجمع بالنقل عن أئمة اللغة واستقراء مواضع استعمالها وهي بين الاسمين المختلفين كالألف بين المتحدين فإنه يمكن جاء
ـــــــ
المعلول أو غيره" ثم بواسطتها أي بواسطة استعارة التعليل للتعقيب "يستعار اللام له" أي للتعقيب نحو "لدوا للموت وابنوا للخراب" لما كان الموت عقيب الولادة جعل كأن الولادة علة للموت فاستعمل لام التعليل وأريد أن الموت واقع بعد الولادة قطعا بلا تخلف كوقوع المعلول عقيب العلة وهذا بناء على أن اللام تدخل في العلة الغائية وهي الغرض بلا شك أنه معلول للعلة الفاعلية فعلم أن اللام الداخلة في الغرض داخلة حقيقة على المعلول وهاهنا نذكر حروفا تشتد الحاجة إليها وتسمى حروف المعاني منها حروف العطف الواو
................................................................................................
ثم استعمل في المشبه اللام الموضوعة للدلالة على ترتب العلة الغائية التي هي المشبه به فجرت الاستعارة أولا في العلية، والغرضية، وبتبعيتها في اللازم، وصارت اللام بواسطة استعارتها لما يشبه العلية بمنزلة الأسد المستعار لما يشبه الهيكل المخصوص، وهذا واضح إلا أن المصنف رحمه الله تعالى اعتبر زيادة تدقيق، وهو أن التعليل يستعار أولا للتعقيب لكونه لازما للتعليل فيراد بالتعليل التعقيب أعم من أن يكون تعقيب المعلول للعلة أو غيره ثم بواسطة ذلك يستعار لام التعليل للتعقيب كما يستعار لفظ الأسد للشجاع أعم من أن يكون سبعا وإنسانا، ويقع على تعقيب غير المعلول للعلة كتعقيب الموت للولادة بناء على أنه تعقيب كما يقع أسد على زيد بناء على كونه شجاعا فيكون تعقيب الموت للولادة مشبها بتعقيب المعلول لعلته، وهذا معنى قوله جعل كأن الولادة علة للموت أي جعل الموت كأن الولادة علة له، ويكون استعمال اللام في تعقيب الموت للولادة بمنزلة استعمال اسم المشبه به في المشبه، ولما كان هاهنا اعتراض ظاهر، وهو أن ما بعد اللام يكون علة لا معلولا، والعلة تكون متقدمة لا متعقبة فلا معنى لاستعارة التعليل للتعقيب، واستعمال اللام فيه أجاب بأن هذا مبني على أن اللام تدخل على العلة الغائية التي هي الغرض من الفعل الذي يتعلق به اللام، والعلة الغائية، وإن كانت بماهيتها علة لعلية العلة الفاعلية، ومتقدمة عليها في الذهن لكنها معلولة في الخارج للعلة الفاعلية ومتأخرة عنها بحسب الوجود كالجلوس على السرير مثلا يتصور أولا فيصير علة لإقدام النجار على إيجاد السرير لكنه في الخارج يكون متأخرا عنه محتاجا إليه فيكون ما بعد اللام معلولا بحسب الخارج، ومتعقبا في الوجود للفعل المعلل به فيصح استعمالها في تعقيب غير المعلول للعلة بطريق الاستعارة فقوله، وهو أعم من أن يكون تعقيب العلة المعلول إن كان المعلول مرفوعا فظاهر، وإن كان منصوبا فمعناه تعقيب العلة الغائية فعلها المعلل بها يقال عقبته أي جئت على عقبه، ولا يخفى أن ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى تكلف لا حاجة إليه لأن معنى التعليل هو بيان العلية لا بيان المعلولية فاللام إنما تدل على أن مجرورها علة سواء كان معلولا باعتبار كما في ضربته للتأديب أو لا كما في قعدت عن الحرب للجبن، وإذا كان معلولا باعتبار فدخول اللام عليه إنما هو من جهة عليته لا من جهة معلوليته، وكونه علة غائية كاف في اعتبار الترتيب على الفعل من غير اعتبار كونه معلولا لا يقال العلة من حيث هي علة لا(1/180)
رجلان ولا يمكن هذا في رجل وامرأة فأدخلوا واو العطف وقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تجمع بينهما فلهذا لا يجب الترتيب في الوضوء وأما في السعي بين الصفا والمروة فوجب الترتيب بقوله عليه السلام: "ابدأ بما بدأ الله" لا بالقرآن فإن كونهما من الشعائر لا يحتمله وزعم البعض أنه للترتيب عند أبي حنيفة رحمه الله وللمقارنة عندهما استدلالا بوقوع الواحدة عنده والثلاثة عندهما في
ـــــــ
لمطلق الجمع بالنقل عن أئمة اللغة واستقراء مواضع استعمالها وهي بين الاسمين المختلفين كالألف بين المتحدين فإنه يمكن جاء رجلان ولا يمكن هذا في رجل وامرأة فأدخلوا واو العطف "وقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن" أي لا تجمع بينهما "فلهذا لا يجب الترتيب في الوضوء
................................................................................................
تقتضي الترتيب على شيء، وإنما يقتضيه المعلول فيجب أن يكون مراد القوم أن ترتب المعلول الذي هو عرض استعير لترتب ما ليس بمعلول وغرض فتكون الاستعارة في المعلولية لا في العلية لأنا نقول لا نسلم ذلك في العلة الغائية.
قوله: "وهي في أسماء الأجناس" أراد باسم الجنس ما ليس بصفة فيكون أخص مما هو مصطلح النحاة.
قوله: "وهاهنا نذكر حروفا" قد جرت العادة بالبحث عن معاني بعض الحروف والظروف عقيب بحث الحقيقة والمجاز لاشتداد الحاجة إليها من جهة توقف شطر من مسائل الفقه عليها وكثيرا ما يسمى الجميع حروفا تغليبا أو تشبيها للظروف بالحروف في البناء وعدم الاستقلال، والأول أوجه لما في الثاني من الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو إطلاقا للحرف على مطلق الكلمة، والظاهر أن المصنف رحمه الله تعالى أراد بالحروف حقيقتها، ولهذا سماها حروف المعاني ثم ذكر بعد ذلك الأسماء لا على أنها من الحروف، وتسميتها حروف المعاني بناء على أن وضعها لمعان تتميز بها من حروف المباني التي بنيت الكلمة عليها وركبت منها فالهمزة المفتوحة إذا قصد بها الاستفهام أو النداء فهي من حروف المعاني، وإلا فمن حروف المباني.
قوله: "الواو لمطلق الجمع" أي جمع الأمرين وتشريكهما في الثبوت مثل قام زيد وقعد عمرو أو في حكم نحو قام زيد وعمرو أو في ذات نحو قام وقعد زيد، ولا يدل على المعية والمقارنة أي الاجتماع في الزمان كما نقل عن مالك، ونسب إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى، ولا على الترتيب أي تأخر ما بعدها عما قبلها في الزمان كما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى، ونسب إلى أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، واستدل على ذلك بوجوه الأول النقل عن أئمة اللغة حتى ذكر أبو علي أنه مجمع عليه، وقد نص عليه سيبويه في مواضع من كتابه الثاني استقراء موارد استعمالها فإنا نجدها مستعملة في مواضع لا يصح فيها الترتيب أو المقارنة، والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا دليل على الترتيب أو المقارنة حتى يكون ذلك معدولا عن الأصل، وذلك مثل تشارك زيد وعمرو، واختصم بكر وخالد، والمال بين زيد وعمرو، وسيان قيامك(1/181)
إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق لغير المدخول بها وهذا باطل بل الخلاف راجع إلى أن عنده كما يتعلق الثاني والثالث بالشرط بواسطة الأول يقع كذلك فإن المعلق بالشرط كالمنجز عند الشرط وفي المنجز تقع واحدة لأنه لا يبقى المحل للثاني والثالث وعندهما يقع جملة لأن الترتيب في التكلم لا في صيرورته طلاقا كما إذا كرر ثلاث مرات مع غير المدخول بها قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فعند الشرط يقع
ـــــــ
وقعودك، وجاءني زيد وعمرو، وقبله أو بعده الثالث أنهم ذكروا أن الواو بين الاسمين المختلفين بمنزلة الألف بين الاسمين المتحدين فكمال دلالة لمثل جاءني رجلان على مقارنة أو ترتيب إجماعا فكذا جاءني رجل وامرأة إلا أن قولهم الألف بين الاسمين المتحدين تسامحا الرابع أن قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن معناه النهي عن الجمع بينهما حتى لو شرب اللبن بعد أكل السمك جاز، وتحقيقه أنه نصب تشرب بإضمار أن فيكون في معنى مصدر معطوف على مصدر مأخوذ من مضمون الجملة السابقة أي لا يكن منك أكل السمك، وشرب اللبن فلو كانت الواو للترتيب لما صح في هذا المقام كما لا تصح الفاء وثم لإفادتهما النهي عن الشرب بعد الأكل لا متقدما ولا مقارنا، ولا يخفى أن هذا الاستدلال لا ينفي المقارنة إلا أن المقصود الأهم نفي الترتيب.
قوله: "فلهذا لا يجب الترتيب في الوضوء" يحتمل أن يكون لسلب التعليل أي لا يجب الترتيب في غسل أعضاء الوضوء بناء على تعاطفها بالواو، ولما بينا من أنها لا توجب الترتيب، وأن يكون لتعليل السلب أي لما ثبت أن الواو لمطلق العطف من غير ترتيب لا يجب الترتيب في الوضوء لئلا يلزم الزيادة على الكتاب من غير دليل لا يقال قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} دليل عليه لأن الفاء للوصل والتعقيب فيجب أن يكون غسل الوجه عقيب إرادة القيام إلى الصلاة مقدما على غسل سائر الأعضاء، وحينئذ يجب الترتيب لعدم القائل بالفصل، وهو أنه يجب تقديم غسل الوجه من غير ترتيب في البواقي، لأنا نقول المذكور بعد الفاء هو غسل الأعضاء فلا يقتضي إلا كونه عقيب القيام إلى الصلاة، وذلك حاصل على تقدير عدم رعاية الترتيب فيما بينها لا يقال لكل عضو غسل على حدة فيجب أن يقدر فاغسلوا وجوهكم، واغسلوا أيديكم، وحينئذ يلزم أن يعقب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه خاصة لأنا نقول تعدد الأفعال بحسب المحال لا يوجب أن يقدر في الكلام أفعال متعددة بدليل قولنا غسلت الأعضاء، وضربت القوم، وبدليل إجماعهم على أن قوله: {وَأَيْدِيكُمْ} من عطف المفرد دون الجملة، ولهذا لو قال للعبد إذا دخلت السوق فاشتر لحما وخبزا لا يفهم منه تقديم اشتراء اللحم، ولا يعد بتقديم الخبز عاصيا، لا يقال فيلزم تقديم الغسل على المسح عملا بموجب الفاء ويجب الترتيب في الكل لعدم القائل بالفصل لأنا نقول الوظيفة في الرأس الغسل والمسح رخصة إسقاط فكأنه هو هو فلا يلزم عقيب إرادة القيام إلى الصلاة إلا الغسل على أنه معارض بأنه لا يجب الترتيب في غسل الأعضاء لما ذكرنا فلا يجب فيما بين الغسل والمسح لعدم القائل بالفصل، ولا يخفى ضعف هذين الوجهين، والجواب القاطع لأصل السؤال منع دلالة الفاء الجزائية على لزوم تعقيب مضمون الجزاء لمضمون الشرط من غير تراخ على وجوب تقديم ما بعدها على ما عطف عليه بالواو للقطع بأنه لا دلالة في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ(1/182)
الثلاث كذا هنا وإن قدم الأجزية يقع الثلاث لأنه إذا قال إن دخلت الدار تعلق به الأجزية المتوقفة دفعة فإن قيل إذا تزوج أمتين بغير إذن مولاهما ثم أعتقهما المولى معا صح نكاحهما وبكلامين منفصلين أو بحرف العطف بطل نكاح الثانية فجعلتموه
ـــــــ
وأما في السعي بين الصفا والمروة فوجب الترتيب بقوله عليه السلام: "ابدءوا بما بدأ الله تعالى" لا بالقرآن فإن كونهما من الشعائر لا يحتمله" أي الترتيب وقوله عليه السلام: "ابدءوا بما بدأ الله تعالى" لا يدل على أن بداءته تعالى موجبة لبداءتكم لكن تقديمه في القرآن لا يخلو عن مصلحة كالتعظيم أو الأهمية أو غيرهما ولا شك أن هذا يقتضي الأولوية لا الوجوب وإنما الوجوب في الحقيقة بما لاح له عليه السلام من وحي غير متلو وبالنسبة إلى علمنا بقوله: "ابدءوا" وزعم البعض أنه للترتيب عند أبي حنيفة رحمه الله وللمقارنة عندهما استدلالا بوقوع الواحدة عنده والثلاث عندهما في إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق لغير المدخول بها وهذا" أي زعم ذلك البعض "باطل بل الخلاف راجع إلى أن عنده
................................................................................................
للصلاة} الآية على أنه يجب السعي عقيب النداء بلا تراخ، وأنه لا يجوز تقديم ترك البيع على السعي.
قوله: "وأما في السعي" استدل على كون الواو للترتيب بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، وقال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأيهما نبدأ فقال صلى الله عليه وسلم: "ابدءوا بما بدأ الله تعالى به" فهم النبي صلى الله عليه وسلم منه الترتيب فأمرهم به، والجواب إنا لا نسلم ثبوت وجوب الترتيب بالآية وفهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك منها بل ثبت ذلك لنا بالحديث المذكور، وللنبي صلى الله عليه وسلم بما لاح له من وحي غير متلو، وذلك لأن الحكم في الآية هو كونهما من شعائر الله، وهذا لا يحتمل الترتيب إذ لا معنى لتقدم أحدهما على الآخر في ذلك. فإن قلت من أين ثبت أصل وجوب السعي؟ قلت من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "اسعوا فإن الله تعالى كتب عليكم السعي"، وقد يقال إن قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] في معنى فعليه أن يطوف بهما إلا أنه ذكر بطريق نفي الجناح لأن الناس كانوا يتحرجون عن الطواف بهما لما كان عليهما في الجاهلية من صنمين كانوا يعبدونهما.
قوله: "وزعم البعض" لو قال لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق، وطالق، وطالق تقع الواحدة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، والثلاث عندهما فزعم البعض أن هذا مبني على أن الواو عنده للترتيب فتبين بالأولى فلا تصادف الثانية والثالثة المحل كما لو ذكر بالفاء أو ثم وعندهما للمقارنة فيقع الثلاث دفعة كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ورد ذلك بالمنع والنقض والحل، أما المنع فلأنه لا يلزم من ثبوت المقارنة أو الترتيب في موارد استعمال الواو، وكونه مستفادا من الواو لأن المطلق لا يتحقق في الخارج إلا مقيدا، وأما النقض فلأنها لو كانت للترتيب عنده، وللمقارنة عندهما لما اتفقوا على وقوع الواحدة في أنت طالق وطالق وطالق منجزا، والثلاث في مثل أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار بتأخير الشرط، وأما الحل فهو أن(1/183)
للترتيب وإن زوجه الفضولي أختين بعقدين فأجازهما متفرقا بطل نكاح الثانية وإن أجازهما معا أو بحرف العطف بطلا فجعلتموه للقران فإن قال أعتق أبي في مرض موته هذا وهذا وهذا ولا وارث له ولا مال سوى ذلك فإن أقر متصلا عتق من كل ثلثه، وإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث فجعلتموه للقران
ـــــــ
كما يتعلق الثاني والثالث بالشرط بواسطة الأول يقع كذلك فإن المعلق بالشرط كالمنجز عند الشرط وفي المنجز تقع واحدة لأنه لا يبقى المحل للثاني والثالث وعندهما يقع جملة لأن الترتيب في التكلم لا في صيرورته طلاقا" أي لا ترتيب في صيرورته هذا اللفظ تطليقا عند الشرط "كما إذا كرر ثلاث مرات مع غير المدخول بها قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فعند الشرط يقع الثلاث كذا هنا وإن قدم الأجزية" أي قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق
................................................................................................
الاختلاف المذكور مبني على أن تعليق الأجزية بالشرط عنده على سبيل التعاقب لأن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق جملة كاملة مستغنية عما بعدها فيحصل بها التعليق بالشرط، وقوله: وطالق جملة ناقصة مفتقرة في الإفادة إلى الأولى فيكون تعليق الثانية بعد، وتعليق الأولى والثالثة بعدهما، وإذا كان تعليق الأجزية بالشرط على سبيل التعاقب دون الاجتماع كان وقوعها أيضا كذلك لأن المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط، وفي المنجز تبين بالأولى فلا تصادف الثانية والثالثة المحل، وهذا بمنزلة الجواهر المنظومة تنزل عند الانحلال على الترتيب الذي نظمت به بخلاف ما إذا كرر الشرط فإن الكل يتعلق بالشرط بلا واسطة وبخلاف ما إذا قدم الأجزية فإن الكل يتعلق بالشرط دفعة لأنه إذا كان في آخر الكلام ما يغير أوله يتوقف الأول على الآخر فلا يكون فيه تعاقب في التعليق حتى يلزم التعاقب في الوقوع وعندهما يقع الكل دفعة لأن زمان الوقوع هو زمان وجود الشرط، والتفريق إنما هو في أزمنة التعليق لا في أزمنة التطليق لأن الترتيب إنما هو في التكلم لا في صيرورة اللفظ تطليقا.
وتحقيقه أن عطف الناقصة على الكاملة يوجب تقدير ما في الكاملة تكميلا للناقصة حتى لو قال هذه طالق ثلاثا وهذه، يجب تثليث طلاق الثانية أيضا بخلاف هذه طالق ثلاثا وهذه طالق، وفي الكاملة الشرط مذكور فيجب تقديره في كل من الأخيرين فيصير بمنزلة ما إذا قال لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاث مرات فعند الدخول يقع الثلاث فكذا هاهنا لأن المقدار كالملفوظ بخلاف ما إذا ذكره بالفاء أو ثم أو قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا واحدة بعد واحدة فإنه صريح في تفريق أزمنة الوقوع، ويقرب من ذلك ما يقال إن هذا الكلام ليس بطلاق في الحال بل له عرضية أن يصير طلاقا عند وجود الشرط فلا يقبل وصف الترتيب في الحال لأن الوصف لا يسبق الموصوف فكانت العبرة بحال الوقوع اجتماعا وافتراقا لا بحال التعليق، وليس هاهنا ما يوجب تفريق أزمنة الوقوع بخلاف الفاء وثم، واعلم أن تأخير وجه قولهما مع عدم الجواب عنه لا يخلو عن ميل إلى رجحانه على ما أشير إليه في الأسرار.(1/184)
بمنزلة قولهم أعتقهم أبي معا قلنا أما الأول فلأنه لما عتقت الأولى لم تبق الثانية محلا ليتوقف نكاحها على عتقها وأما الثاني والثالث فلأن الكلام يتوقف على آخره إذا كان آخره مغيرا بمنزلة الشرط والاستثناء وهاهنا كذلك بخلاف الأمتين وقد تدخل بين الجملتين فلا توجب المشاركة ففي قوله هذه طالق ثلاثا وهذه طالق تطلق الثانية
ـــــــ
وطالق إن دخلت الدار "يقع الثلاث" أي اتفاقا "لأنه إذا قال إن دخلت الدار تعلق به الأجزية المتوقفة دفعة فإن قيل إذا تزوج أمتين بغير إذن مولاهما ثم أعتقهما المولى معا صح نكاحهما وبكلامين منفصلين" أي قال أعتقت هذه ثم قال للأخرى بعد زمان أعتقت هذه "أو بحرف العطف" أي قال أعتقت هذه وهذه "بطل نكاح الثانية فجعلتموه للترتيب" هكذا وضع المسألة في أصول شمس الأئمة وأما فخر الإسلام رحمه الله تعالى فقد وضع المسألة هكذا زوج رجل أمتين من رجل بغير إذن مولاهما وبغير إذن الزوج، فقوله بغير إذن الزوج لا حاجة إلى التقييد به وعلى تقدير أن يقيد به لا بد أن يقبل النكاح فضولي آخر من قبل الزوج إذ لا يجوز أن يتولى الفضولي الواحد طرفي النكاح وقد قيد في الحواشي كون نكاح الأمتين بعقد واحد اتباعا لوضع المسألة في الجامع الكبير ولا حاجة لنا إلى التقييد به إذ البحث الذي نحن بصدده لا يختلف بكونه بعقد واحد أو بعقدين وفي الجامع الكبير قيد المسألة بعقد واحد لأنه نظم كثيرا من المسائل في سلك واحد وبعض تلك المسائل يختلف حكمه بالعقد الواحد وبعقدين كما إذا كان نكاح الأمتين برضى المولى وبرضاهما دون رضا الزوج فإن هذه المسألة تختلف بالعقد الواحد وبعقدين فلأجل هذا الغرض قيد بعقد واحد وإن أردت معرفة تفاصيله فعليك بمطالعة الجامع الكبير
................................................................................................
قوله: "وإن قدم الأجزية" يصلح أن يكون جوابا عما يتوهم من كون الواو للمقارنة عندهم استدلالا بهذه المسألة، وأن يكون من تتمة كلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى فرقا له بين تأخير الأجزية وتقديمها حيث يقتضي الأول الافتراق والثاني الاجتماع.
قوله: "بغير إذن مولاهما" إذ لو كان بإذنه نفذ نكاحهما، ولا يبطل بالإعتاق
قوله: "فجعلتموه للترتيب" حيث جعلتم الإعتاق بالواو بمنزلة الإعتاق متعاقبا
قوله: "لا حاجة إلى التقييد به" أي بقوله بغير إذن الزوج في غرضنا هذا، وإنما قيد به فخر الإسلام رحمه الله تعالى لأنه جعل الحكم توقف النكاح على رضا كل من المولى والزوج، ولا يخفى أنه إنما يصح إذا كان بدون رضاهما جميعا.
قوله: "إذ لا يجوز أن يتولى الفضولي الواحد طرفي النكاح" فيه خلاف أبي يوسف رحمه الله، وقيل الخلاف فيما إذا تكلم الفضولي بكلام واحد أما إذا قال زوجت فلانة من فلان، وقبلت منه جازا اتفاقا، ويتوقف.(1/185)
واحدة وإنما تجب هي إذا افتقر الآخر إلى الأول فيشارك الأول فيما تم به الأول بعينه لا بتقدير مثله إن لم يمتنع الاتحاد نحو إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق وليس كتكرار قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فلا يقع الثلاث عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هنا بخلاف التكرار أو بتقديره إن امتنع نحو جاءني زيد وعمرو لا بد أن يكون مجيء زيد غير مجيء عمرو وبعضهم أوجبوا الشركة في عطف الجمل أيضا حتى قالوا إن
ـــــــ
"وإن زوجه الفضولي أختين بعقدين فأجازهما متفرقا بطل نكاح الثانية وإن أجازهما معا" أي قال أجزت نكاحهما "أو بحرف العطف" أي قال أجزت نكاح هذه وهذه "بطلا" أي بطل نكاح كل واحدة منهما "فجعلتموه للقران فإن قال أعتق أبي في مرض موته هذا وهذا وهذا ولا وارث له ولا مال سوى ذلك فإن أقر متصلا عتق من كل ثلثه، وإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث" لأنه لما قال أعتق أبي هذا وسكت يعتق كله لأنه يخرج من الثلث لأن المفروض أن قيمة العبيد على السواء فإذا قال بعد السكوت وهذا وسكت فقد عطفه على الأول وموجبه أن يعتق نصف الثاني مع نصف الأول لكن لما عتق كل الأول لا يمكن الرجوع عنه ثم لما قال وهذا فموجبه عتق ثلث الثالث مع عتق ثلث كل من الأولين فيعتق ثلث الثالث ولا يمكن الرجوع عن الأولين "فجعلتموه للقران" أي جعلتم حرف العطف فيما إذا أقر متصلا للقران "بمنزلة قولهم أعتقهم أبي معا" لأنه لو لم يكن للقران بل يثبت الترتيب كان كمسألة السكوت "قلنا أما الأول فلأنه لما عتقت الأولى لم
................................................................................................
قوله: "وبعض تلك المسائل يختلف" ذكر في الجامع أنه لو زوج رجل أمتيه من رجل برضاهما في عقدة واحدة، وقبل عن الزوج فضولي فأعتق المولى إحداهما بطل نكاح الأمة حتى لا يلحقه الإجازة، ويتوقف نكاح المعتقة على إذن الزوج، ولو أعتقهما معا فأجاز الزوج نكاحهما أو نكاح إحداهما جاز لأنهما حالة العقد أمتان، وحالة الإجازة حرتان فلا يتحقق الجمع بين الأمة والحرة، ولو أعتقهما متفرقا بكلام موصول بحرف العطف بأن قال هذه حرة، وهذه حرة أو مفصول بأن أعتق إحداهما، وسكت ثم أعتق الأخرى فأجاز الزوج نكاحهما معا أو واحدة بعد أخرى جاز نكاح المعتقة أولا لأن الحكم في حقها لا يتغير بإعتاق الثانية، وبطل نكاح الثانية بإعتاق الأولى فلا تلحقه الإجازة، وهذا إذا كان النكاحان في عقدة واحدة، وأما إذا كان في عقدتين فإن كان مولى الأمتين واحدا فالحكم كما ذكر، وإن كان لكل أمة مولى على حدة فإن أعتقت الأمتان على التعاقب فالنكاحان على حالهما فأيهما أجاز جاز لأنهما لو أنشأ العقد وإحداهما حرة والأخرى أمة توقفا لأنه لا تطابق في التوقف وأحدهما لا يملك الإجازة والرد في ملك الآخر بخلاف ما إذا كان المولى واحدا فإنه بإعتاق الأولى يصير، رادا نكاح الثانية، وأنه بسبيل من ذلك، وإن أجازهما جاز نكاح المعتقة الأولى لأن حالة الإجازة كحالة الإنشاء فيصح نكاح الحرة، ويبطل نكاح الأمة.
قوله: "بطلا" أي نكاح هذه ونكاح هذه
قوله: "فجعلتموه للقرآن" حيث جعلتم العطف بالواو بمنزلة الجمع بلفظ واحد لا بمنزلة(1/186)
القران في النظم يوجب القران في الحكم فقالوا في: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لا تجب الزكاة على الصبي كما لا تجب الصلاة عليه وهذا فاسد عندنا لأن الشركة إنما تثبت إذا افتقرت الثانية ففي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر يتعلق العتق بالشرط أيضا لأن الأصل في الواو الشركة وهذه إنما تثبت إذا عطفت على الجزاء فهذه الجملة وإن كانت تامة لكنها في قوة المفرد في حكم الافتقار فعطف على الجزاء فتكون الواو على أصلها وعطف الاسمية على مثلها بخلاف وضرتك طالق فإن إظهار الخبر هنا دليل على عدم المشاركة في الجزاء ولهذا جعلنا قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} معطوفا على الجزاء لا على قوله وأولئك هم الفاسقون.
ـــــــ
تبق الثانية محلا ليتوقف نكاحها على عتقها" فإن نكاح الأمة على الحرة لا يجوز فلم تبق الأمة محلا للنكاح فبطل نكاحها "وأما الثاني والثالث فلأن الكلام يتوقف على آخره إذا كان آخره مغيرا بمنزلة الشرط والاستثناء وهاهنا" إشارة إلى هاتين المسألتين "كذلك" أي آخر الكلام مغير لأوله، أما في الأختين فلأن إجازة نكاح الثانية توجب بطلان نكاح الأولى وأما في الإخبار بالإعتاق فلأن قوله أعتق أبي هذا يوجب عتق كله ثم قوله وهذا يوجب أن يكون الثلث منقسما بينهما ولا يعتق من الأول إلا بعضه فيكون مغيرا لأول الكلام "بخلاف الأمتين" أي في المسألة الأولى ليس آخر الكلام مغايرا للأول لأنه إذا قال أعتقت هذه وهذه فإعتاق الثانية لا يغير إعتاق الأولى فلا يتوقف أول الكلام على آخره وفي مسألة الأختين آخر الكلام مغير للأول فيتوقف وقد ذكر في الجامع الحصيري قد قيل لا فرق بين مسألة الأمتين ومسألة الأختين بل إنما جاء الفرق لاختلاف وضع المسألة وهو أن في مسألة الأمتين قال هذه حرة وهذه حرة وفي مسألة الأختين قال أجزت نكاح هذه وهذه فإنه أفرد لكل واحدة منهما تحريرا في مسألة الأمتين فلا يتوقف صدر الكلام على الآخر وفي مسألة
................................................................................................
الإجازة متفرقا فإن قلت هذا دليل على جعل الواو لمطلق الجمع لا للمقارنة إذ لا دلالة في مثل جاءني الرجلان على المقارنة قلت نعم إلا أن في الإنشاءات يثبت الحكم لهما معا حتى لو قال أعتقتهما عتقا معا.
قوله: "سوى ذلك" أي لا وارث له سوى ذلك الابن، ولا مال له سوى تلك الأعبد إذ لو كان له وارث آخر لم يتحقق الحكم إلا في نصيب ذلك الابن، ويجب السعاية، ولو كان له مال آخر، ويخرج الأعبد من الثلث يعتق الكل كما لو لم يكن في مرض الموت، وقيد بتساوي قيم العبيد حتى لو كان قيمة الأول أكثر مثلا لم يعتق كله لأنه لا يخرج من الثلث.
قوله: "لم تبق الثانية محلا ليتوقف" أي لم تبق محلا لتوقف النكاح بل بطل توقف نكاح الثانية عقيب عتق الأولى قبل الفراغ عن التكلم بإعتاق الثانية ثم لم يصح التدارك بإعتاقها لفوات المحل، وإنما قال ليتوقف لأنها بقيت محلا لأن تنكح بعد صيرورتها حرة.(1/187)
الفاء للتعقيب فلهذا تدخل في الجزاء فإن قال إن دخلت هذه الدار فهذه الدار فأنت طالق فالشرط أن تدخل على الترتيب من غير تراخ، وقد تدخل على المعلول نحو جاء الشتاء فتأهب، وقد يكون المعلول عين العلة في الوجود لكن في المفهوم غيرها نحو سقاه فأرواه ونحو قوله عليه السلام: لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فإن قال بعت هذا العبد منك فقال الآخر فهو حر يكون قبولا بخلاف هو حر ولو قال لخياط أيكفيني هذا الثوب قميصا فقال نعم فقال فاقطعه فقطع
ـــــــ
الأختين لم يفرد فيتوقف حتى لو أفرد هنا صح نكاح الأولى ولو لم يفرد في الأمتين بأن قال أعتقت هذه وهذه عتقا معا وصح نكاحهما "وقد تدخل بين الجملتين فلا توجب المشاركة ففي قوله هذه طالق ثلاثا وهذه طالق تطلق الثانية واحدة وإنما تجب هي" أي المشاركة "إذا افتقر الآخر إلى الأول فيشارك الأول" أي آخر الكلام أوله "فيما تم به الأول بعينه" أي بعين ما تم "لا بتقدير مثله" أي مثل ما تم "إن لم يمتنع الاتحاد" أي إن لم يمتنع أن يكون ما تم به الأول متحدا في المعطوف والمعطوف عليه "نحو إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق وليس كتكرار قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فلا يقع الثلاث عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هنا بخلاف التكرار" فإنه يمكن أن يتعلق الأجزية المتكثرة بشرط متحد فيتعلق طالق وطالق وطالق بعين الشرط المذكور وهو قوله إن دخلت الدار لا بتقدير
................................................................................................
قوله: "ولا يعتق من الأول إلا بعضه" الحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله يتغير الأول إلى الرق لأنه تجب عليه السعاية، والمستسعى مكاتب، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم وعندهما يتغير من براءة إلى شغل لأنه بدون آخر الكلام يعتق مجانا لأنه يخرج من الثلث، وبعد إعتاق الأخيرين، لم يبق له إلا ثلث الثلث، ووجب السعاية في ثلثي قيمته، ثم التغيير إنما يؤثر إذا كان متصلا فلذا لا يثبت فيما إذا وقع الإعتاق أو الإجازة متفرقا متراخيا مع سكوت.
قوله: "وقد تدخل بين الجملتين" الجمل المتعاطفة بالواو إن وقعت في موضع خبر المبتدأ أو جزاء الشرط أو نحو ذلك فالواو تفيد الجمع بينها في ذلك التعلق، وإلا فالواو تفيد الجمع بينها في حصول مضمونها إذ بدون الواو يحتمل الرجوع عن الأول والإضراب، وأما الزيادة على ذلك من اعتبار بعض قيود الأولى في الثانية أو بالعكس فمفوضة إلى القرائن، والواو لا يوجبها، ولا يدل عليها.
قوله: "وإنما تجب هي إذا افتقر الآخر إلى الأول" هذا الحكم في مطلق العطف بالواو لا في عطف الجمل خاصة للقطع بأن مثل أنت طالق وطالق من عطف المفرد، ولا حاجة إلى تقدير المبتدأ في الثاني.
قوله: "لا بتقدير مثله" لأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا عند الضرورة.
قوله: "أي بتقدير مثله" عطف على قوله بعينه لا على قوله لا بتقدير مثله على ما ذكره(1/188)
فإذا هو لا يكفي يضمن كما لو قال إن كفاني فاقطعه بخلاف قوله اقطعه، وقد تدخل على العلل نحو أبشر فقد أتاك الغوث ونظيره أد إلي ألفا فأنت حر يعتق في الحال وكذا انزل فأنت آمن.
ـــــــ
مثلها أي لا يقدر شرط آخر حتى يصير كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق كما زعم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى "وبتقديره" أي بتقدير مثله وهو عطف على قوله لا بتقدير مثله "إن امتنع" أي الاتحاد "نحو جاءني زيد وعمرو لا بد أن يكون مجيء زيد غير مجيء عمرو وبعضهم أوجبوا الشركة في عطف الجمل أيضا حتى قالوا إن القران في النظم يوجب القران في الحكم فقالوا في: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] لا تجب الزكاة على الصبي كما لا تجب الصلاة عليه" يشبه أن يكون هذا الحكم عندهم بناء على أنه يجب أن يكون المخاطب بأحدهما عين المخاطب بالآخر ولما لم يكن الصبي مخاطبا بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} لا يكون مخاطبا بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} لكنا نقول إنما لا تجب الزكاة على الصبي لأنها عبادة محضة والصبي ليس من أهلها لا للقران في النظم والقائل بوجوب الزكاة على الصبي يقول الخطاب بالصلاة والزكاة يتناول الصبيان لكن العقل خصهم عن وجوب الصلاة إذ هي عبادة بدنية لا عن وجوب الزكاة إذ هي عبادة مالية يمكن أداء الولي عنه "وهذا فاسد عندنا" الإشارة راجعة إلى إيجاب الشركة في الجمل "لأن الشركة إنما تثبت إذا افتقرت الثانية ففي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر يتعلق العتق بالشرط أيضا لأن الأصل في الواو الشركة وهذه إنما تثبت إذا عطفت على الجزاء فهذه الجملة وإن كانت تامة لكنها في قوة
................................................................................................
المصنف يعرف بالتأمل، ولا يخفى عليك أن تقدير المثل في نحو جاءني زيد وعمرو، مما لا حاجة إليه لأن المجيء المستفاد من جاء معنى كلي يمكن تعلقه بالمتعددات، ولهذا أجمعوا على أنه عطف المفردات دون الجمل، وقد عرفت ذلك في مسألة ترتيب الوضوء.
قوله: "لأنها" أي الزكاة عبادة محضة لكونها أحد أركان الدين، ولأن المزكي يجعل المال خالصا لله تعالى ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية من الله، ولا بد في العبادة المحضة من نية وعزيمة ممن عليه الأداء أو ممن له نيابة عنه باختياره، وهذا مفقود في الصبي فلا يكون من أهل العبادات المحضة، وقد يقال إنه لو لم يكن أهلا لها لما صح إيمانه، وصلاته وصيامه فالأولى أن يقال إنه أهل لها لكن لزوم الضرر يمنع لزوم العبادة عليه، واحترز بالعبادة المحضة عن صدقة الفطر، والعشر، والخراج لما فيها من معنى المعونة.
قوله: "يمكن أداء الوالي عنه" يعني عدم لزوم العبادات عليه إنما هو لعجزه عن الأداء نظرا له، ولا عجز عن أداء الماليات لأنها تتأدى بالنائب. والجواب أنه لا بد في الإنابة اختيار كامل شرعا ليحصل معنى الابتلاء، وهذا لا يوجد في الصبي.(1/189)
ثم للترتيب مع التراخي وهو راجع إلى التكلم عنده وإلى الحكم عندهما فإن قال أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار فعندهما يتعلقن جميعا وينزلن مرتبا فإن كانت مدخولا بها يقع الثلاث وإن لم تكن مدخولا بها تقع واحدة وكذا إن قدم
ـــــــ
المفرد في حكم الافتقار فعطف على الجزاء فتكون الواو على أصلها وعطف الاسمية على مثلها بخلاف وضرتك طالق فإن إظهار الخبر هنا دليل على عدم المشاركة في الجزاء" لما ذكرنا أن الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه إنما تثبت إذا افتقرت الثانية فقوله وعبدي حر في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر يراد إشكالا لأنها جملة تامة غير مفتقرة إلى ما قبلها فينبغي أن لا يتعلق بالشرط بل يكون كلاما مستأنفا عطفا على المجموع فأجاب بأنها في قوة المفرد في حكم الافتقار مع أنها جملة تامة لأن مناسبتها الجزاء في كونهما جملتين اسميتين ترجع كونها معطوفة على الجزاء لا على مجموع الشرط والجزاء وإذا كانت معطوفة على الجزاء تكون في قوة المفرد لأن جزاء الشرط بعض الجملة
................................................................................................
قوله: "فدليل المشاركة في الجزاء" أي فيما هو جزاء للقذف وحد له وهو الجلد، فإن قلت إنما يتم ذلك لو كان عدم قبول الشهادة صالحا لكونه جزاء للقذف وحدا له قلت الأمر كذلك فإن الإنسان يتألم برد كلامه وعدم قبول شهادته فوق ما يتألم بالضرب، وهذا أمر مناسب لإزالة ما لحق المقذوف من العار بتهمة الزنا، ثم إنه حد في اللسان الذي منه صدر جريمة القذف كقطع اليد في السرقة إلا أنه ضم إليه الإيلام الحسي لكمال الزجر وعمومه جميع الناس فإن منهم من لا ينزجر بالإيلام باطنا وقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] من قبيل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، وهو أب لغ من لا تقبلوا شهادتهم، وأوقع في النفس لما فيه من الإبهام ثم التفسير.
قوله: "ودليل عدم المشاركة قائم في: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]" لكونها جملة خبرية غير مخاطب بها الأئمة بدليل إفراد الكاف في أولئك فيجب أن يكون عطفا على الجملة الاسمية أعني قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:4] إلى آخره، وفيه بحث أما أولا فلأن عطف الخبر على الإنشاء، وبالعكس شائع عند اختلاف الأغراض، وأما ثانيا فلأن إفراد كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة جائز في خطاب الجماعة كقوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:52] على أن التحقيق أن: {الَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:23] ليس بمبتدأ بل منصوب بفعل محذوف على ما هو المختار أي اجلدوا الذين يرمون فهي أيضا جملة فعلية إنشائية مخاطب بها الأئمة فالمانع المذكور قائم هاهنا مع زيادة العدول عن الأقرب إلى الأبعد، ولو سلم أن الذين يرمون مبتدأ فلا بد في الإنشائية الواقعة موقع الخبر من تأويل وصرف لها عن الإنشائية كما هو رأي الأكثر، وحينئذ يصح أن يعطف عليها قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
قوله: "وثمرة هذا تأتي" من أن قوله: {إِلَّا الَّذِينَ} [البقرة:150] استثناء من: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] أو من غيره، وأن القاذف هل تقبل شهادته بعد التوبة أم لا.(1/190)
الشرط وعنده في غير المدخول بها يقع الأول ويلغو الباقي ولغا الثالث وفي المدخول بها نزل الأول والثاني وتعلق الثالث وإن قدم تعلق الأول ونزل الباقي.
ـــــــ
وأيضا الواو للعطف والأصل في العطف الشركة فتحمل على الشركة ما أمكن وهذا إذا كان المعطوف مفتقرا إلى ما قبله حقيقة كما في المفرد أو حكما كما في الجملة التي يمكن اعتبارها في قوة المفرد فحينئذ يحمل على الشركة لتكون الواو جارية على أصلها بقدر الإمكان أما إذا لم يمكن حملها على الشركة فلا تحمل وهذا إذا كان المعطوف جملة لا تكون في قوة المفرد فلا تكون مفتقرة إلى ما قبلها أصلا كما في: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فالواو وتكون لمجرد النسق والترتيب ففي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وضرتك طالق يمكن حمل قوله وضرتك طالق على الوجهين لكن إظهار الخبر وهو طالق في قوله وضرتك طالق يرجع العطف على المجموع لا على الجزاء لأنه لو كان معطوفا على الجزاء لكي أن يقول وضرتك فقوله بخلاف وضرتك طالق يرجع إلى قوله يتعلق العتق بالشرط "ولهذا جعلنا قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] معطوفا على الجزاء لا على قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]" أي ولأجل ما ذكرنا في قوله وعبدي حر مما يوجب كونه معطوفا على الجزاء وما ذكرنا في قوله وضرتك طالق من قيام الدليل على عدم المشاركة في الجزاء جعلنا قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا} [النور:4] إلخ معطوفا على الجزاء فإن قوله ولا تقبلوا جملة إنشائية مثل قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} [النور:2] والمخاطب بهما الأئمة وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ} جملة إخبارية وليس الأئمة مخاطبين بها فدليل المشاركة في الجزاء قائم ولا تقبلوا ودليل عدم المشاركة في أولئك فعطفنا الأول على الجزاء لا الآخر وثمرة هذا تأتي في آخر فصل الاستثناء إن شاء الله تعالى
"الفاء للتعقيب فلهذا تدخل في الجزاء فإن قال إن دخلت هذه الدار فهذه الدار فأنت طالق فالشرط أن تدخل على الترتيب من غير تراخ، وقد تدخل على المعلول نحو جاء الشتاء فتأهب، وقد يكون المعلول عين العلة في الوجود
................................................................................................
قوله: "وقد يدخل على المعلول" هي الحقيقة جواب شرط محذوف أي إذا كان كذلك فتأهب فإن قلت لا شك في أن العلية والمعلولية في وجود السقي والإرواء لا في مفهوميهما، والعلة يجب أن تكون مغايرة للمعلول متقدمة عليه في الوجود فكيف يتصور اتحادهما في الوجود؟ قلت تسامح في ذلك نظرا إلى أنه لم يتحقق من الفاعل إلا فعل واحد، وإلا فالسقي يحصل بمجرد وضع الماء على كفه أو صبه في حلقه، والإرواء لا يحصل إلا بعد شربه بقدر الري، ولهذا صح أن يقال سقاه فما أرواه، وأما نحو قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ} [هود:45]، و: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود:32] فذهب صاحب الكشاف إلى أنه في معنى الإرادة أي أراد النداء، وأردت جدالنا فيتحقق التعقيب، وبعضهم إلى أن مرتبة المفسر أن تكون بعد المفسر، ومرتبة المعلول بعد العلة فاستعيرت الفاء لمجرد التعقيب والتأخر في الرتبة.(1/191)
بل للإعراض عما قبله وإثبات ما بعده على سبيل التدارك نحو جاءني زيد بل عمرو فلهذا قال زفر في قوله له علي ألف درهم بل ألفان يجب ثلاثة آلاف لأنه لا يملك إبطال الأول كقوله أنت طالق واحدة بل ثنتين تطلق ثلاثا قلنا الإخبار يحتمل التدارك وذا في العرف نفي انفراده نحو سني ستون بل سبعون بخلاف الإنشاء
ـــــــ
لكن في المفهوم غيرها نحو سقاه فأرواه ونحو قوله عليه السلام "لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" فإن قال بعت هذا العبد منك فقال الآخر فهو حر يكون قبولا بخلاف هو حر ولو قال لخياط أيكفيني هذا الثوب قميصا فقال نعم فقال فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه يضمن كما لو قال إن كفاني فاقطعه بخلاف قوله اقطعه، وقد تدخل على العلل نحو أبشر فقد أتاك الغوث ونظيره أد إلي ألفا فأنت حر يعتق في الحال وكذا انزل فأنت آمن"
................................................................................................
قوله: "ولن يجزي ولد والده" يعني أن الوالد سبب لحياته الحقيقية فهو بالإعتاق يصير سببا لحياته الحكمية لأن الرق موت حكمي فالفاء هاهنا لمجرد التأخير بالمعلولية لا بالزمان فبالاشتراء يحصل الملك، وبالملك يحصل العتق لأن وضع الشراء لإثبات الملك، والإعتاق لإزالته فلا يكون حكما للشراء إلا أنه يصح إضافة العتق إلى الشراء لكونه موجبا لموجب العتق.
قوله: "فهو حر" مع الفاء يقتضي القبول كأنه قال قبلت فهو حر إذ الإعتاق لا يترتب على الإيجاب إلا بعد ثبوت القبول بخلاف هو حر فإنه يحتمل أن يكون ردا للإيجاب بثبوت الحرية قبله، وكذا الإذن بالقطع بدون الفاء إذن مطلق، ومع الفاء مقيد بالشرط أي إذا كان كافيا فاقطعه.
قوله: "وقد تدخل على العلل" دخول الفاء على الجمل الواردة بعد الأوامر والنواهي مستفيض في كلام العرب على معنى كون ما بعدها سببا لما قبلها، ولما كان الفاء للتعقيب، والسبب يكون متقدما على المسبب لا متعاقبا إياه تكلف المصنف رحمه الله تعالى لتحقيق التعقيب بأن ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار ودخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية، وذلك أن المعلول الذي هو الحكم السابق على الفاء كالإبشار مثلا علة غائية للعلة التي دخلت عليها الفاء كالإخبار بإتيان الغوث لكونه مقصودا منها فتكون تلك العلة التي دخلت عليها الفاء معلولا بالنظر إلى تلك العلة الغائية، وأنت خبير بأن ليس الإبشار علة غائية لإتيان الغوث، ولا الأمر بالتزود لكون خير الزاد التقوى، ولا الأمر بالعبادة لكون العبادة حقا لله تعالى في مثل اعبد ربك فالعبادة حق له، ولا الأمر بتركه لذهاب دولته إلى غير ذلك، وإنما هو علة غائية للإخبار بذلك، وأيضا العلة الغائية إنما تكون علة لعلية العلة لا للعلة نفسها فكيف يكون ما دخلت عليه الفاء معلولا؟ فالأقرب ما ذكره القوم من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن ابتداء الحكم فإن الغوث باق بعد الإبشار.
قوله: "أد إلي ألفا فأنت حر يعتق في الحال" بخلاف أد إلي ألفا، وأنت حر فإن الواو للحال فيفيد ثبوت الحرية مقارنا لمضمون العامل وهو تأدية الألف، وهذا معنى كون الحال قيدا للعامل أي يكون حصول مضمون العامل مقارنا لحصول مضمون الحال من غير دلالة على حصول مضمونه سابقا على حصول مضمون العامل للقطع بأنه لا دلالة لقولنا ائتني وأنت راكب إلا على كونه راكبا(1/192)
فإنه لا يحتمل الكذب فقلنا تقع الواحدة إذا قال ذلك لغير المدخول بها بخلاف التعليق فإنه يقع الثلاث عند الشرط لأنه قصد إبطال الأول وإفراد الثاني بالشرط مقام الأول ولا يملك الأول ويملك الثاني فتعلق بشرط آخر فصار كما إذا قال لا بل أنت طالق ثنتين إن دخلت الدار بخلاف الواو فإنه العطف على تقدير الأول فيتعلق الثاني بواسطة الأول كما قلنا.
ـــــــ
اعلم أن أصل الفاء أن تدخل على المعلول لأنها للتعقيب والمعلول يعقب العلة وإنما تدخل على العلل لأن المعلول إذا كان مقصودا من العلة يكون علة غائية للعلة فتصير العلة معلولا فلهذا تدخل على العلة باعتبار أنها معلول ومن ذلك قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] وقول الشاعر:
ذا ملك لم يكن ذا هبه ... فدعه فدولته ذاهبه
ونظائره كثيرة وإنما قلنا يعتق في الحال لأن قوله فأنت حر معناه لأنك حر ولا يمكن أن يكون "فأنت حر", جوابا للأمر لأن جواب الأمر لا يقع إلا الفعل المضارع لأن الأمر إنما يستحق الجواب بتقدير إن وكلمة إن تجعل الماضي بمعنى المستقبل والجملة الاسمية الدالة على الثبوت بمعنى المستقبل وإنما تجعل ذلك إذا كانت ملفوظة أما إذا كانت مقدرة فلا كما تقول: "إن تأتني أكرمتك" ولا تقول: ائتني أكرمتك بل يجب أن تقول ائتني أكرمك فكذا في الجملة الاسمية تقول إن تأتني فأنت مكرم ولا تقول ائتني فأنت مكرم فكما لا تجعل "إن" المقدرة الماضي بمعنى المستقبل فكذلك لا تجعل الاسمية بمعنى المستقبل أيضا بل أولى لأن مدلول الجملة الاسمية بعيد من المستقبل ومدلول الماضي قريب إليه لاشتراكهما في كونهما فعلا ودلالتهما على الزمان فلما لم تجعل الماضي بمعنى المستقبل لم تجعل الاسمية بمعناه بالطريق الأولى ما
"ثم للترتيب مع التراخي وهو" أي الترتيب مع التراخي "راجع إلى التكلم عنده" أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى "وإلى الحكم عندهما فإن قال أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن
................................................................................................
حالة الإتيان، وقد توهم بعضهم أنه يجب تقدم مضمون الحال على العامل لكونها قيدا له وشرطا، وحينئذ يلزم الحرية قبل الأداء فأجاب عنه بأنه من باب القلب أي كن حرا وأنت مؤد إلي ألفا أو هي حال مقدرة أي أد إلي ألفا مقدرا الحرية في حالة الأداء أو الجملة الحالية قائمة مقام جواب الأمر أي أد إلي ألفا تصر حرا أو الحال وصف، والوصف لا يتقدم الموصوف فالحرية تتأخر عن الأداء.
قوله: "يقع الأول" أي في الحال لأنه وإن وجد في آخر الكلام ما يغيره إلا أن من شرط التغيير الاتصال ليكون كلاما واحدا فيتوقف أوله على آخره، وإذا اعتبر التراخي في التكلم صار كل منهما بمنزلة كلام منفصل عن الآخر.(1/193)
لكن للاستدراك بعد النفي إذا دخل في المفرد وإن دخل في الجملة يجب اختلاف ما قبلها وما بعدها وهي بخلاف بل فإن أقر لزيد بعبد فقال زيد ما كان لي قط لكن لعمرو فإن وصل فلعمرو وإن فصل فللمقر لأن النفي يحتمل أن يكون تكذيبا لإقراره فيكون ردا إلى المقر ويمكن أن لا يكون تكذيبا إذ يجوز أن يكون العبد معروفا بكونه لزيد ثم وقع في يد المقر فأقر به لزيد فقال زيد العبد وإن كان معروفا
ـــــــ
دخلت الدار فعندهما يتعلقن جميعا وينزلن مرتبا فإن كانت مدخولا بها يقع الثلاث وإن لم تكن مدخولا بها تقع واحدة وكذا إن قدم الشرط وعنده في غير المدخول بها" أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في غير المدخول بها إذا قدم الجزاء وإنما لم نذكر تقديم الجزاء لأنه يأتي هناك قوله وإن قدم الشرط فيدل على أن البحث السابق في تقديم الجزاء "يقع الأول" أي في الحال لعدم تعلقه بالشرط كأنه قال أنت طالق وسكت لأن التراخي عنده إنما هو في التكلم "ويلغو الباقي" لعدم المحل لأن المرأة غير مدخول بها "وإن قدم الشرط تعلق الأول ونزل الثاني" أي وقع في الحال لعدم تعلقه بالشرط كأنه قال إن دخلت الدار فأنت طالق وسكت ثم قال وأنت طالق "ولغا الثالث" لعدم المحل وفائدة تعلق الأول أنه إن ملكها ثانيا ووجد الشرط يقع الطلاق "وفي المدخول بها" أي إن قدم الجزاء ولم يذكره للعذر السابق "نزل الأول والثاني" أي يقعان في الحال لعدم تعلقهما بالشرط لها كأنه سكن عنهما ثم قال أنت طالق إن دخلت الدار ولما كانت المرأة مدخولا بها تكون محلا فيقع تطليقتان "وتعلق الثالث" لقربه بالشرط "وإن قدم" أي الشرط "تعلق الأول ونزل الباقي" وهذا ظاهر وإنما جعل أبو حنيفة رحمه الله تعالى التراخي راجعا إلى التكلم لأن التراخي في الحكم مع
................................................................................................
قوله: "كأنه قال إن دخلت الدار فأنت طالق، وسكت ثم قال، وأنت طالق" فإن قلت لما جعل ثم بمنزلة السكوت فلا وجه لتقدير الواو، ولما جعل هذا في حكم المنقطع عما قبله فلا وجه لإثبات الشركة فيما تم به الأول أعني المبتدأ فيصير كأنه قال طالق من غير عاطف ولا مبتدأ فحينئذ لا يثبت به شيء قلت ثم يتضمن معنى الجمع والتراخي فإذا قام السكوت مقام التراخي بقي الجمع وهو معنى الواو، ثم الاتصال صورة كاف في صحة العطف وإثبات المشاركة في المبدأ بخلاف التعليق بالشرط فإنه يتوقف على الاتصال صورة ومعنى حتى لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق لا يتعلق الثاني والثالث.
قوله: "وإنما جعل أبو حنيفة رحمه الله تعالى" التعليل المذكور يخص الإنشاء، وما ذكره غيره من أنها لمطلق التراخي فينصرف إلى الكامل، وهو في اللفظ والحكم جميعا وأيضا دخلت كلمة التراخي على اللفظ فيظهر أثرها فيه أيضا يعم الخبر والإنشاء.
قوله: "كان المتكلم متراخيا تقديرا" جواب عن دليلهما أن التكلم متصل حقيقة فكيف يجعل منفصلا، ولا صحة للعطف مع الانفصال.(1/194)
بأنه لي لكنه كان في الحقيقة لعمرو فقوله لكنه لعمرو بيان تغيير لذلك النفي فيتوقف بيان عليه بشرط الوصل وعلى هذا قالوا في المقتضى له بدار بالبينة إذا قال ما كانت لي قط لكنها لزيد وقال زيد باع مني أو وهب لي بعد القضاء أن الدار لزيد وعلى المقتضى له القيمة للمقضي عليه لأنه إذا وصل فكأنه تكلم بالنفي والاستدراك معا فيثبت موجبهما
ـــــــ
عدمه في التكلم ممتنع في الإنشاءات لأن الأحكام لا تتراخى عن التكلم فيها فلما كان الحكم متراخيا كان التكلم متراخيا تقديرا كما في التعليقات فإن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق يصير كأنه قال عند الدخول أنت طالق وليس هذا القول في الحال تطليقا أي تكلما بالطلاق بل يصير تطليقا عند الشرط
"بل للإعراض" عما قبله وإثبات ما بعده على سبيل التدارك نحو جاءني زيد بل عمرو فلهذا قال زفر في قوله له علي ألف درهم بل ألفان يجب ثلاثة آلاف لأنه لا يملك إبطال الأول كقوله أنت طالق واحدة بل ثنتين تطلق ثلاثا قلنا الإخبار يحتمل التدارك وذا في العرف نفي انفراده ذا إشارة إلى التدارك أي التدارك في الإعداد بكلمة بل يراد به نفي الانفراد عرفا "نحو سني ستون بل سبعون بخلاف الإنشاء فإنه لا يحتمل الكذب" أي الإنشاء لا يحتمل التدارك لأن المراد بالتدارك تدارك الكذب والإنشاء
................................................................................................
قوله: "بل للإعراض عما قبله" أي جعله في حكم المسكوت عنه من غير تعرض لإثباته أو نفيه، وإذا انضم إليه صار نصا في نفي الأول نحو جاءني زيد لا بل عمرو، وكذا ذكره المحققون فعلى هذا لا يكون معنى التدارك أن الكلام الأول باطل وغلط بل إن الإخبار به ما كان ينبغي أن يقع، وبعضهم أن معنى الإعراض هو الرجوع عن الأول وإبطاله، وإثبات الثاني تدارك لما وقع أولا من الغلط، وبالجملة وقوعها في كلام الله تعالى يكون للأخذ في كلام آخر من غير رجوع وإبطال.
قوله: "ولهذا قال زفر" أي ولكونها للإعراض يلزمه ثلاثة آلاف لأنه لا يملك إبطال الأول والرجوع عنه على ما هو مقتضى، بل حتى لو لم يكن الإعراض بل لتغيير صدر الكلام لم يلزمه الثلاثة وتوقف أول الكلام على آخره، فلزوم الثلاثة تفريع على أنها للإعراض لا للتغيير، وجوابه أن الإقرار إخبار فيحتمل التدارك إلا أن التدارك في الأعداد يراد به نفي الانفراد ما أقر به أولا لا نفي أصله فكأنه قال أولا له علي ألف وليس معه غيره ثم تدارك ذلك الانفراد وأبطله وقال بل مع ذلك الألف ألف آخر، وذلك بحكم العرف كما يقال سني ستون بل سبعون، يراد به زيادة العشر فقط بخلاف ما إذا اختلف جنس المال مثل علي ألف درهم بل ألف ثوب حيث يلزمه الجميع.
قوله: "بخلاف الواو" يعني إذا كان العطف على الجزاء بالواو تعلق الثاني بالشرط المذكور بعينه من غير تقدير مثله لكن بواسطة الأول حتى يكون الوقوع عند الشرط على الترتيب فلا يبقى المحل بواسطة وقوع الأول فلا يقع الثاني والثالث، وإذا كان العطف بكلمة بل تعلق الثاني بشرط مقدر مماثل للمذكور حتى يكون بمنزلة التصريح بتكرير الشرط مثل إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة، وإن دخلت الدار فأنت طالق اثنين فيقع الثلاث بالدخول مرة واحدة، وفيه نظر إذ لا دليل(1/195)
معا وهو النفي عن نفسه وثبوت ملك زيد، ثم تكذيب الشهود وإثبات ملك المقضي عليه لازم لذلك النفي فيثبت الملك لعمرو بعد ثبوت موجبي الكلامين فيكون حجة عليه لا على زيد فيضمن القيمة ثم إن اتسق الكلام تعلق ما بعده بما قبله وإلا فهو كلام مستأنف نحو لك علي ألف قرض فقال المقر له لا لكن غصب الكلام متسق فصح الوصل على أنه نفي السبب لا الواجب بخلاف ما إذا تزوجت أمة بغير إذن مولاها بمائة فقال لا أجيز النكاح لكن أجيزه بمائتين ينفسخ النكاح وجعل لكن مبتدأ لأنه لا يمكن إثبات هذا النكاح بمائتين.
ـــــــ
لا يحتمل الكذب "فقلنا" تعقيب لقوله بخلاف الإنشاء أي لما لم يكن الإنشاء محتملا للصدق والكذب قلنا "تقع الواحدة إذا قال ذلك" أي قوله أنت طالق واحدة بل ثنتين "لغير المدخول بها" فإنه إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة وقعت واحدة لا يمكن التدارك والإبطال لكونه إنشاء فإذا وقعت واحدة لم يبق المحل ليقع بقوله: "بل ثنتين", "بخلاف التعليق" وهو قوله لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة بل ثنتين "فإنه يقع الثلاث عند الشرط لأنه قصد إبطال الأول" أي الكلام الأول وهو تعليق الواحدة بالشرط "وإفراد الثاني بالشرط مقام الأول" أي قصد تعليق الكلام الثاني بالشرط حال كونه منفردا غير منضم إلى الأول "ولا يملك الأول" أي الإبطال المذكور "ويملك الثاني" أي الإفراد المذكور "فتعلق بشرط آخر" أي تعلق الثاني وهو قوله ثنتين بشرط آخر فاجتمع تعليقان أحدهما إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة والثاني إن دخلت الدار فأنت طالق ثنتين فإذا وجد الشرط وقع الثلاث "فصار كما إذا قال لا بل أنت طالق ثنتين إن دخلت الدار بخلاف الواو فإنه العطف على تقدير الأول فيتعلق الثاني بواسطة الأول كما قلنا" أي بخلاف ما إذا قال لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق فإن الواو للعطف مع تقرير الأول فيتعلق الثاني بعين ما تعلق به الأول بواسطة الأول فعند وجود الشرط يكون.
................................................................................................
على وجوب تقدير الشرط وامتناع تعلقه بالشرط المذكور بعينه قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى إنه لما كان لإبطال الأول وإقامة الثاني مقامه كان من قضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة لكن بشرط إبطال الأول وليس في وسعه إبطال الأول وفي وسعه إفراد الثاني بالشرط لتصل به بغير واسطة كأنه قال لا بل أنت طالق ثنتين إن دخلت الدار فيصير كالحلف بيمين لكنا نقول لا نسلم أن اتصاله بذلك الشرط موقوف على إبطال الأول، وتمسك بعضهم بأن ذلك بحسب اللغة، وهو ممنوع لا بد له من نقل عن أئمة اللغة كيف، وقد أجمعوا على أن ثنتين عطف على واحدة عطف مفرد على مفرد من غير تقدير عامل له فضلا عن تقدير الشرط، ولم يفرقوا بين ما يحتمل الرجوع، وما لا يحتمله لا يقال إنه قصد إبطال الأول فكيف يجعل الثاني معلقا بما قصد إبطاله لأنا نقول إنما قصد إبطال المعطوف عليه كالواحدة لا نفس الشرط والتعليق.(1/196)
أو لأحد الشيئين لا للشك فإن الكلام للإفهام وإنما يلزم الشك من المحل وهو الإخبار بخلاف الإنشاء فإنه حينئذ للتخيير كآية الكفارة فقوله هذا حر أو هذا إنشاء شرعا فأوجب التخيير بأن يوقع العتق في أيهما شاء ويكون هذا إنشاء حتى يشترط صلاحية المحل حينئذ وإخبار لغة فيكون بيانه إظهارا للواقع فيجبر عليه وهذا
ـــــــ
الوقوع على الترتيب ولما لم يبق المحل بوقوع الأول لا يقع الثاني والثالث كما قلنا في حرف الواو
"لكن للاستدراك بعد النفي إذا دخل في المفرد وإن دخل في الجملة يجب اختلاف ما قبلها وما بعدها وهي بخلاف بل" اعلم أن لكن للاستدراك فإن دخل في المفرد يجب أن يكون بعد النفي نحو ما رأيت زيدا لكن عمرا فإنه يتدارك عدم رؤية زيد برؤية عمرو، وإن دخل في الجملة لا يجب كونه بعد النفي بل يجب اختلاف الجملتين في النفي والإثبات فإن كانت الجملة التي قبل لكن مثبتة وجب أن تكون الجملة التي بعدها منفية وإن كانت التي قبلها منفية وجب أن تكون التي بعدها مثبتة وهي بخلاف بل في أن بل للإعراض عن الأول، ولكن ليست للإعراض عن الأول "فإن أقر لزيد بعبد فقال زيد ما كان لي قط
................................................................................................
قوله: "لكن للاستدراك" أي التدارك، وفسره المحققون برفع التوهم الناشئ من الكلام السابق مثل ما جاءني زيد لكن عمرو إذا توهم المخاطب عدم مجيء عمرو أيضا بناء على مخالطة وملابسة بينهما، وفي المفتاح أنه يقال لمن توهم أن زيدا جاءك دون عمرو فبالجملة وضعها للاستدراك ومغايرة ما بعدها لما قبلها فإذا عطف بها مفرد فهو لا يحتمل النفي فيجب أن يكون ما قبلها منفيا ليحصل المغايرة، وإذا عطف بها جملة فهي تحتمل الإثبات فيكون ما قبلها منفيا، وتحتمل النفي فيكون ما قبلها مثبتا فيكفي اختلاف الكلامين سواء كان المنفي هو الأول أم الثاني، ولا يخفى أن المراد اختلاف الكلامين نفيا وإثباتا من جهة المعنى سواء كانا مختلفين لفظا نحو جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ أو لا نحو سافر زيد لكن عمرو حاضر.
قوله: "وهي بخلاف بل" ذكر النحاة أنها في عطف الجمل نظيرة بل أي في الوقوع بعد النفي والإيجاب كما أنها في عطف المفردات نقيضة لا حيث يختص لا بما بعد الإيجاب، ولكن بما بعد النفي فكأنه مظنة أن يتوهم أنها في عطف الجمل مثل بل في معنى الإعراض فنفى ذلك التوهم ففي بل إعراض عن الأول كأنه ليس بمذكور، والحكم هو الثاني فقط حتى لا يكون في العطف ببل إلا إخبار واحد، وليس في لكن إعراض عن الأول بل الحكمان متحققان، وفيه إخبار أن أحدهما نفي، والآخر إثبات، وقد يقال إن موجب بل وضعا نفي الأول وإثبات الثاني حتى أن في جاءني زيد بل عمرو انتفى مجيء زيد بكلمة بل وهو مبني على أن معنى الإعراض عن الأول إبطاله والحكم بنقيضه لا جعله في حكم المسكوت عنه.
قوله: "لكن لعمرو" في كتب الأصول لكنه لعمرو فغيره إلى العاطفة، ولم يغيره في المسألة(1/197)
ما قيل إن البيان إنشاء من وجه إخبار من وجه وفي قوله وكلت هذا أو هذا أيهما تصرف صح فلهذا أوجب البعض التخيير في كل أنواع قطع الطريق بقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا} وقلنا ذكر الأجزية مقابلة لأنواع الجناية وهي معلومة عادة من قتل أو قتل وأخذ مال أو أخذ مال أو
ـــــــ
لكن لعمرو فإن وصل فلعمرو وإن فصل فللمقر لأن النفي يحتمل أن يكون تكذيبا لإقراره فيكون" أي النفي "ردا إلى المقر ويمكن أن لا يكون تكذيبا إذ يجوز أن يكون العبد معروفا بكونه لزيد ثم وقع في يد المقر فأقر به لزيد فقال زيد العبد وإن كان معروفا بأنه لي لكنه كان في الحقيقة لعمرو فقوله لكنه لعمرو بيان تغيير لذلك النفي فيتوقف بيان عليه" أي على قوله لكن لعمرو "بشرط الوصل" لأن بيان التغيير لا يصح إلا موصولا وقد ذكرنا في المتن أنه بيان تغيير لأن ظاهر كلامه يدل على الاحتمال الأول المذكور في المتن وقد عرف في بيان التغيير أن صدر الكلام موقوف على الآخر فيثبت حكمهما معا لا أنه يثبت الحكم في الصدر ثم يخرج البعض.
"وعلى هذا قالوا في المقتضى له بدار بالبينة إذا قال ما كانت لي قط لكنها لزيد وقال زيد باع مني أو وهب لي بعد القضاء أن الدار لزيد وعلى المقتضى له القيمة للمقضي عليه لأنه إذا وصل فكأنه تكلم بالنفي والاستدراك معا فيثبت معا موجبهما وهو النفي عن نفسه وثبوت ملك لزيد، ثم تكذيب الشهود وإثبات ملك المقضي عليه لازم لذلك النفي فيثبت الملك لعمرو بعد ثبوت موجبي الكلامين" وهما النفي عن نفسه وثبوت ملك لزيد "فيكون حجة عليه" أي على المقضي له "لا على زيد فيضمن القيمة ثم إن اتسق الكلام تعلق ما بعده
................................................................................................
الثانية تنبيها على أنه لا فرق في هذا بين العاطفة وغيرها، والنفي أعني قوله ما كان لي قط يحتمل أمرين أحدهما تكذيب المقر ورد إقراره، وهو الظاهر من الكلام لأنه خرج جوابا للإقرار، والثاني أن لا يكون ردا بل تحويلا حتى كأنه صار قابلا للعبد مقرا به لعمرو فيكون النفي مجازا كما إذا قال له علي ألف درهم وديعة والمصنف عدل عن ذلك لأنه لما صرح بعدم ملكيته له في زمان من الأزمنة لم يصح منه التحويل، ولا قرينة على ما ذكروا من المجاز بل الاحتمال هو أنه وإن كان في يد زيد زمانا واشتهر أنه ملكه لكن لم يكن ملكا له قط بل لعمرو فيصير قوله لكن لعمرو بيان تغيير لما هو الظاهر من الكلام فيصح موصولا حتى يثبت النفي عن زيد والإثبات لعمرو معا لا متراخيا لأن النفي حينئذ يصير ردا للإقرار، ولا يثبت ملكية عمرو لمجرد الإخبار.
قوله: "وعلى هذا قالوا" أي إذا ادعى بكر دارا في يد عمرو أنها له، وجحد عمرو فأقام بكر بينة فقضى القاضي بالدار له ثم قال بكر ما كانت الدار لي قط لكنها لزيد بكلام متصل فصدقه زيد في الإقرار، وكذبه في أنه لم يكن له قط، وهذا معنى قوله فقال زيد باع بكر الدار مني أو وهبها لي بعد القضاء ففي هذه الصورة قالوا الدار لزيد، وعلى بكر المقضي له قيمة الدار لعمرو المقضي عليه لأنه لما وصل الاستدراك بالنفي وهو بيان تغيير له فكأنه تكلم بهما معا فيثبت موجبهما معا أعني نفي(1/198)
تخويف على أنه ورد في الحديث بيانه على هذا المثال فإن أخذ وقتل فعند أبي حنيفة رحمه الله إن شاء قطع ثم قتل أو صلب وإن شاء قتل أو صلب لأن الجناية تحتمل الاتحاد والتعدد ولهذا قالا في هذا حر أو هذا مشيرا إلى عبده ودابته أنه باطل لأن وضعه لأحدهما الذي هو أعم من كل وهو غير صالح لعتق هنا وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يحمل على الواحد للعين مجازا إذ العمل بالحقيقة متعذر ولو قال لعبيده الثلاثة
ـــــــ
بما قبله" يرجع إلى أول البحث وهو أن لكن للاستدراك فينظر أن الكلام مرتبط أم لا أي يصلح أن يكون ما بعد لكن تداركا لما قبلها أولا فإن صلح يحمل على التدارك "وإلا فهو كلام مستأنف" أي وإن لم يتسق أي لا يصلح أن يكون ما بعدها تداركا لما قبلها يكون ما بعدها كلاما مستأنفا "نحو لك علي ألف قرض فقال المقر له لا لكن غصب الكلام متسق فصح الوصل على أنه نفي السبب لا الواجب" فإن قوله لا لا يمكن حمله على نفي الواجب لأنه لو حمل على نفي الواجب لا يستقيم قوله لكن غصب ولا يكون الكلام متسقا
................................................................................................
الملك عن نفسه وثبوت الملك لزيد، وإنما احتج إلى إثباتهما معا لأنه لو حكم بالنفي أولا ينتقض القضاء ويصير الملك لعمرو المقضي عليه فالاستدراك يكون إقرارا على الغير وإخبارا بأن ملكه لغيره فلا يصح فالحاصل أن مقارنة الكلامين تثبت بتوقف أول الكلام على آخره بناء على وجود المغير حتى كأنهما جملة واحدة فلا يفصل بعضها عن بعض في حق الحكم، وحينئذ لا حاجة إلى ما يقال من أن النفي هنا لتأكيد الإثبات عرفا فيكون له حكم المؤكد لا حكم نفسه فكأنه أقر وسكت أو أنه في حكم المتأخر لأن التأكيد متأخر عن المؤكد أو أن المقر قصد تصحيح إقراره، وذلك بالتقديم والتأخير فيحمل عليه احترازا عن الإلغاء، وإنما قيدنا بما إذا كذبه زيد في النفي لأنه لو صدقه فيه أيضا ترد الدار إلى عمرو المقضي عليه لاتفاق زيد وبكر على بطلان الدعوى والبينة والحكم.
قوله: "ثم تكذيب الشهود" إشارة إلى الدليل على وجوب قيمة الدار لعمرو المقضي عليه على بكر المقضي له، وذلك لأن قوله ما كانت لي قط نفي الملك عنه في جميع الأزمنة الماضية فيشمل ما قبل القضاء، ويلزم من هذا النفي تكذيب شهوده المستلزم لإثبات الدار ملكا لعمرو المقضي عليه لكن بعد ثبوت الملك لزيد لأن إثبات الملك لعمرو المقضي عليه لازم لنفي الملك عن نفسه، وهو مقارن لثبوت الملك لزيد على ما سبق، ولازم الشيء متأخر عنه وعما معه فيكون قوله ما كانت لي قط مستلزما لأمرين: أحدهما إبطال الإقرار لزيد، وهو إقرار على الغير فلا يسمع، والثاني إبطال شهادة الشهود وهو إقرار على نفسه فيسمع، ويقوم حجة عليه حتى يثبت الدار ملكا لعمرو وقد أتلفها بالإثبات لزيد فيضمن قيمتها.
قوله: "ثم إن اتسق" أي انتظم وارتبط والمراد هاهنا أن يصلح ما بعد لكن تداركا لما قبلها مثل ما جاءني زيد لكن عمرو، وزيد قائم لكن عمرو قاعد، وما أكرمت زيدا لكن أهنته بخلاف ما جاء زيد لكن ركب الأمير، وزيد قائم لكن عمرو قاعد وما أكرمت زيدا لكن أهنته بخلاف ما جاء زيد لكن ركب الأمير وزيد قائم لكن عمرو ليس بكاتب، وبالجملة يكون المذكور بعد(1/199)
هذا حر أو هذا وهذا يعتق الثالث ويخبر في الأولين كأنه قال أحدهما حر وهذا وإذا استعمل أو في النفي يعم نحو {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي لا هذا ولا ذاك لأن تقديره لا تطع أحدا منهما فيكون نكرة في موضع النفي فإن قال لا أفعل هذا أو هذا يحنث بفعل أحدهما وإذا قال هذا وهذا يحنث بفعلهما لا بأحدهما لأن المراد المجموع إلا أن يدل الدليل على أن المراد أحدهما بأن لا يكون للاجتماع تأثير في
ـــــــ
مرتبطا فحملناه على نفي السبب فلما نفى كونه قرضا تدارك بكونه غصبا فصار الكلام مرتبطا "ولا يكون ردا لإقراره" بل يكون نفي السبب "بخلاف ما إذا تزوجت أمة بغير إذن مولاها بمائة فقال لا أجيز النكاح لكن أجيزه بمائتين ينفسخ النكاح وجعل لكن مبتدأ لأنه لا يمكن إثبات هذا النكاح بمائتين" ففي هذه المسألة الكلام غير متسق لأن اتساقه بأن لا يصح النكاح الأول بمائة لكن يصح بمائتين وذا لا يمكن لأنه لما قال لا أجيز النكاح انفسخ النكاح الأول فلا يمكن إثبات ذلك النكاح بمائتين فيكون نفي ذلك النكاح وإثباته بعينه
................................................................................................
لكن مما يكون الكلام السابق بحيث يتوهم منه المخاطب عكسه أو يكون فيه تدارك لما فات من مضمون الكلام السابق، والاتساق هو الأصل حتى يحمل عليه الكلام ما أمكن كما في قوله لا لكن غصب حيث حمل على وقوع الخطأ في السبب فنفى القرض وأثبت الغصب فاتسق الكلام بخلاف ما إذا قال لا أجيز النكاح لكن أجيزه بمائتين لأنه نفى إجازة النكاح عن أصله فلا معنى لإثباته بمائة أو بمائتين، وإنما يكون متسقا لو قال لا أجيزه بمائة، ولكن أجيزه بمائتين ليكون التدارك في قدر المهر لا في أصل النكاح فلا يبطل. صرح بذلك في جامع قاضي خان، وهو الموافق لما تقرر عندهم من أن النفي في الكلام راجع إلى القيد بمعنى أنه يفيد الحكم مقيدا بذلك القيد لا رفعه عن أصله بل إنما يفيد إثباته مقيدا بقيد آخر فإن قيل النكاح المنعقد الموقوف هو ذلك النكاح المقيد بمائة فإذا بطل لم يبق شيء حتى ينعقد بمائتين قلنا هو نكاح مقيد، وإبطال الوصف ليس إبطالا للأصل.
قوله: "أو لأحد الشيئين" فإن كانا مفردين فهي تفيد ثبوت الحكم لأحدهما، وإن كانا جملتين تفيد حصول مضمون إحداهما، وقد ذهب كثير من أئمة النحو والأصول إلى أنها في الخبر للشك بمعنى أن المتكلم شاك لا يعلم أحد الشيئين على التعيين فرد ذلك بأن وضع الكلام للإفهام فلا يوضع للشك، وإنما يحصل الشك من محل الكلام وهو الإخبار فإن الإخبار بمجيء أحد الشخصين قد يكون لشك المتكلم فيه بأن يعلم أن الجاني أحدهما، ولا يعلم بعينه، وقد يكون لتشكيك السامع لغرض له في ذلك، وقد يكون لمجرد إبهام وإظهار نصفه مثل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] بالجملة الإخبار بالمبهم لا يخلو عن غرض إلا أن المتبادر منه إلى الفهم هو إليك فمن هاهنا ذهب البعض إلى أن أو للشك، والتحقيق أنه لا نزاع لأنهم لم يريدوا إلا تبادر الذهن إليه عند الإطلاق، وما ذكروه من أن وضع الكلام للإفهام على تقدير تمامه إنما يدل على أن أو لم توضع للتشكيك، وإلا فالشك أيضا معنى يقصد إفهامه بأن يخبر المتكلم المخاطب بأنه شاك في تعيين أحد الأمرين.(1/200)
المنع وقد تكون للإباحة نحو جالس الفقهاء أو المحدثين والفرق بينها وبين التخيير أن المراد فيه أحدهما فلا يملك الجمع بينهما بخلاف الإباحة فله أن يجالس كلا الفريقين ويعرف بدلالة الحال أن المراد أيهما فعلى هذا قالوا في لا أكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا
ـــــــ
فعلم أنه غير متسق فحملنا قوله لكن أجيزه بمائتين على أنه كلام مستأنف فيكون إجازة لنكاح آخر مهره مائتان
"أو لأحد الشيئين لا للشك فإن الكلام للإفهام وإنما يلزم الشك من المحل وهو الإخبار بخلاف الإنشاء فإنه حينئذ للتخيير كآية الكفارة فقوله هذا حر أو هذا إنشاء شرعا فأوجب التخيير بأن يوقع العتق في أيهما شاء ويكون هذا" أي إيقاع العتق في أيهما شاء "إنشاء حتى يشترط صلاحية المحل حينئذ" أي حين إيقاع العتق في أيهما شاء "وإخبار لغة" عطف على قوله إنشاء شرعا "فيكون بيانه إظهارا للواقع فيجبر عليه" أي على البيان اعلم أن هذا الكلام إنشاء في الشرع لكنه يحتمل الإخبار لأنه وضع للإخبار لغة حتى لو جمع بين حر وعبد وقال أحدكما حر أو قال هذا حر أو هذا لا يعتق العبد لاحتمال الإخبار هنا فمن حيث إنه إنشاء شرعا يوجب التخيير أي يكون له ولاية إيقاع هذا العتق في أيهما شاء ويكون هذا الإيقاع إنشاء ومن حيث إنه إخبار لغة يوجب الشك ويكون إخبارا بالمجهول فعليه أن يظهر ما في الواقع وهذا الإظهار لا يكون إنشاء بل إظهارا لما هو الواقع فلما كان للبيان وهو تعيين أحدهما شبهان شبه الإنشاء وشبه الإخبار عملنا بالشبهين فمن حيث إنه إنشاء شرطنا صلاحية المحل عند البيان حتى إذا مات أحدهما فقال أردت الميت لا يصدق ومن حيث إنه إخبار قلنا يجبر على البيان فإنه لا جبر في الإنشاءات بخلاف الإخبارات كما إذا أقر بالمجهول حيث يجبر على البيان
................................................................................................
قوله: "بخلاف الإنشاء" فإنه لا يحتمل الشك أو التشكيك لأنه إثبات الكلام ابتداء فأو في الأمر للتخيير أو الإباحة أو التسوية أو نحو ذلك بما يناسب المقام فالتخيير كما في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] الآية فإنه بمعنى الأمر أي فليكفر بأحد هذه الأمور، والمشهور في الفرق بين التخيير والإباحة أنه يمتنع في التخيير الجمع ولا يمتنع في الإباحة، لكن الفرق هاهنا هو أنه لا يجب في الإباحة الإتيان بواحد، وفي التخيير يجب، وحينئذ إن كان الأصل فيه الحظر، ويثبت الجواز بعارض الأمر كما إذا قال بع عبيدي هذا أو ذاك يمتنع الجمع، ويجب الاقتصار على الواحد لأنه المأمور به، وإن كان الأصل فيه الإباحة، ووجب بالأمر واحد كما في خصال الكفارة يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية، وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة.
قوله: "إنشاء شرعا" لأنه لم يتحقق إثبات الحرية بغير هذا اللفظ فلو كان خبرا لكان كذبا فيجب أن يجعل الحرية ثابتة قبيل هذا الكلام بطريق الاقتضاء تصحيحا لمدلوله اللغوي، وهذا معنى كونه إنشاء شرعا وعرفا إخبار الحقيقة، ولغة.
قوله: "ويكون هذا إنشاء" لأن الإيجاب الأول إنشاء، وإنما نزل في مبهم لا في معين فلا يمكن إثباته في غير ما أوجبه، والعتق إنما يتحقق في المعين بالبيان فيكون في حكم الإنشاء.(1/201)
له أن يكلمهما لأن الاستثناء من الحظر إباحة وقد يستعار لحتى كقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} لأن أحدهما يرتفع بوجود الآخر كالمغيا يرتفع بالغاية فإن حلف لا أدخل هذه الدار أو أدخل تلك الدار فإن دخل الأولى أولا حنث وإن دخل الثانية أولا بر
ـــــــ
"وهذا ما قيل إن البيان إنشاء من وجه إخبار من وجه وفي قوله وكلت هذا أو هذا أيهما تصرف صح فلهذا" أي لما قلنا إن أو في الإنشاءات للتخيير "أوجب البعض التخيير" في كل أنواع قطع الطريق بقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33] وقلنا ذكر الأجزية مقابلة لأنواع الجناية وهي معلومة عادة من قتل أو قتل وأخذ مال أو أخذ مال أو تخويف "فالقتل جزاؤه القتل والقتل والأخذ جزاؤه الصلب وأخذ المال جزاؤه قطع اليد والرجل والتخويف جزاؤه النفي أي الحبس الدائم" على أنه ورد في الحديث بيانه على هذا المثال فإن أخذ وقتل فعند أبي حنيفة رحمه الله إن شاء قطع ثم قتل أو صلب وإن شاء قتل أو صلب لأن الجناية تحتمل الاتحاد والتعدد ولهذا قالا في هذا حر أو هذا مشيرا إلى عبده ودابته أنه باطل لأن وضعه لأحدهما الذي هو أعم من كل
................................................................................................
قوله: "أيهما تصرف صح" حتى لو باعه أحد الوكيلين صح، ولم يكن للآخر بعد ذلك أن يبيعه، وإن عاد إلى ملك الموكل.
قوله: "وقلنا ذكر الأجزية مقابلة لأنواع الجناية"، والجزاء مما يزداد بازدياد الجناية، وينتقص بنقصانها،: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] فيبعد مقابلة أغلظ الجناية بأخف الجزاء، وبالعكس فلا يجوز العمل بالتخيير الظاهر من الآية فوزعت الجمل المذكورة في معرض الجزاء على أنواع الجناية المتفاوتة المعلومة عادة حسب ما تقتضيه المناسبة على أنه روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع أبا بردة على أن لا يعينه، ولا يعين عليه فجاءه أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه الطريق فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال صلب، ومن قتل، ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال، ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك، وفي رواية عطية عنه "ومن أخاف الطريق، ولم يأخذ المال، ولم يقتل نفي"، والمعنى أن كل جماعة قطعوا الطريق، ووقع منهم أحد هذه الأنواع أجرى على مجموعهم الجزاء المقابل لذلك النوع، وليس المعنى أن كل فرد من الجماعة يجري عليه جزاء ما صدر عنه فإن قلت قطع الطريق على المستأمن لا يوجب الحد فكيف حدوا بقطع الطريق على قوم يريدون الإسلام؟ قلت معناه يريدون تعلم أحكام الإسلام على أنهم أسلموا، ولو سلم فمن دخل دار الإسلام ليسلم فهو بمنزلة الذمي فيحد قاطع الطريق عليه، وقوله: "من قتل وأخذ المال صلب" حمل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على اختصاص الصلب بهذه الحالة بحيث لا يجوز في غيرها لا على اختصاص هذه الحالة بالصلب بحيث لا يجوز فيها غيره بل أثبت فيها للإمام الخيار بين أربعة أمور القطع ثم القتل والقطع ثم الصلب، والقتل فقط والصلب فقط لأن(1/202)
حتى للغاية نحو {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وحتى رأسها وقد تجيء للعطف فيكون المعطوف إما أفضل أو أخس وتدخل على جملة مبتدأة فإن ذكر الخبر نحو ضربت القوم حتى زيد غضبان وإلا يقدر من جنس ما تقدم نحو أكلت السمكة حتى رأسها بالرفع أي مأكول إن دخلت الأفعال فإن احتمل الصدر الامتداد والآخر الانتهاء إليه
ـــــــ
وهو غير صالح لعتق هنا وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يحمل على الواحد للعين مجازا إذ العمل بالحقيقة متعذر ولو قال لعبيده الثلاثة هذا حر أو هذا وهذا يعتق الثالث ويخير في الأولين كأنه قال أحدهما حر وهذا يمكن أن يكون معناه هذا حر أو هذان فيخير بين الأول والأخيرين لكن حمله على قولنا أحدهما حر وهذا أولى لوجهين الأول أنه حينئذ يكون تقديره أحدهما حر وهذا حر وعلى ذلك الوجه يكون تقديره هذا حر أو هذان حران ولفظ حر مذكور في المعطوف عليه لا لفظ حران فالأولى أن يضمر في المعطوف ما هو مذكور في المعطوف عليه والثاني أن قوله أو هذا مغير لمعنى قوله هذا حر ثم قوله وهذا غير مغير لما قبله لأن الواو للتشريك فيقتضي وجود الأول فيتوقف
................................................................................................
هذه الجناية تحتمل الاتحاد من حيث إنها قطع المارة فيقتل أو يصلب، والتعدد من حيث إنه وجد سبب القتل وسبب القطع فيلزم حكم السببين، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين بقطع أيديهم، وأرجلهم، وأمر بتركهم في الحرة حتى ماتوا، وقد تعارضت الروايات في حديث ابن عباس ففي بعض الروايات أن من أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله من خلاف وصلب فسقط الاحتجاج به وعندهما يتعين الصلب عملا بظاهر الحديث.
قوله: "ولهذا" أي ولكون أو لأحد الشيئين قال أبو يوسف ومحمد فيمن قال هذا حر أو هذا مشيرا إلى عبده ودابته أن كلامه باطل أي لغو لا يثبت به شيء لأن وضع أو لأحد الشيئين أعم من كل منهما على التعيين، والأعم يجب صدقه على الأخص، والواحد الأعم الذي يصدق على العبد والدابة غير صالح للعتق، وإنما يصلح له الواحد المعين الذي هو العبد، وفيه بحث لأن إيجاب العتق إنما هو على ما يصدق عليه أنه أحد الشيئين لا على المفهوم العام إذ الأحكام تتعلق بالذوات لا بالمفهومات ثم ظاهر هذا الكلام أنه لو نوى العبد خاصة لم يعتق عندهما، وفي المبسوط أنه يتعين بالنية، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لما تعذر العمل بالحقيقة أعني الواحد الأعم فالعدول إلى المجاز وهو الواحد المعين أولى من إلغاء الكلام وإبطاله، والمعين من محتملات الكلام كما إذا قال ذلك في عبدين له فإنه يجبر على التعيين بخلاف ما إذا قال في عبده وعبد غيره فإنه لا يتعين عتق عبده لأن عبد الغير أيضا محل لإيجاب العتق لكنه موقوف على إجازة المالك.
قوله: "ولو قال لعبيده الثلاثة هذا حر أو هذا وهذا" عطفا للثاني بأو، وللثالث بالواو يعتق الثالث في الحال، ويخير في الأولين، ويعين أيهما شاء لأن سوق الكلام لإيجاب العتق في أحد الأولين وتشريك الثالث فيما سيق له الكلام فصار بمنزلة أحدهما حر، وهذا فالمعطوف عليه هو(1/203)
فللغاية نحو {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وإلا فإن صلح لأن يكون سببا للثاني يكون بمعنى كي نحو أسلمت حتى أدخل الجنة وإلا فللعطف المحض فإن قال عبدي حر إن لم أضربك حتى تصيح حنث إن أقلع قبل الصياح وإن قال عبدي حر إن لم آتك حتى تغديني فأتاه فلم يغده لم يحنث لأن قوله حتى تغديني لا يصلح للانتهاء بل هو
ـــــــ
أول الكلام على المغير لا على ما ليس بمغير فيثبت التخيير بين الأول والثاني بلا توقف على الثالث فصار معناه أحدهما حر ثم قوله وهذا يكون عطفا على أحدهما وهذان الوجهان تفرد بهما خاطري
................................................................................................
المأخوذ من صدر الكلام لا أحد المذكورين بالتعيين، وقيل إنه لا يعتق أحدهم في الحال، ويكون له الخيار بين الأول والأخيرين لأن الثالث عطف على ما قبله بالواو، والجمع بالواو بمنزلة الجمع بألف التثنية فكأنه قال هذا حر أو هذان كما إذا حلف لا يكلم هذا أو هذا، وهذا فإنه يحنث بالأول أو بالأخيرين جميعا لا بالثاني وحده أو الثالث وحده فقال المصنف هذا محتمل إلا أن ما ذكرنا أرجح لوجهين تفردت بهما، والأول مأخوذ من كلام الإمام السرخسي حيث قال الخبر المذكور في الكلام حر، وهو لا يصلح خبرا للاثنين إذ يقال للواحد حر، وللاثنين حران، ولا وجه لإثبات خبر آخر لأن العطف للاشتراك في الخبر المذكور أو لإثبات خبر آخر مثله لا لإثبات خبر آخر مخالف له لفظا، وهذا بخلاف مسألة اليمين فإن الخبر يصلح للاثنين يقال لا أكلم هذا أو لا أكلم هذين هذا كله كلامه، ولما لم يصلح ما ذكره سببا للامتناع لأن المقدر قد يغاير المذكور لفظا كما في قولك هند جالسة، وزيد، وقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
جعله المصنف سببا للأولوية والرجحان، ولا يخفى أن الوجه الأول لا يجري في مثل أعتقت هذا أو هذا وهذا، ومقتضى كلام السرخسي أن يكون التخيير بين الأول والأخيرين بمنزلة أعتقت هذا أو هذين كما في مسألة اليمين، وأما على الوجه الثاني فهو بمنزلة أعتقت أحدهما، وهذا كما في هذا حر أو هذا وهذا، ولقائل أن يقول على الوجه الأول لا نسلم أن التقدير هذا حر أو هذان حران بل هذا حر أو هذا حر وهذا حر، وحينئذ يكون المقدر مثل الملفوظ، وإنما يلزم ما ذكره لو كان ذكر الثاني والثالث بلفظ التثنية لا يقال يلزم كثرة الحذف لأنا نقول مشترك الإلزام إذ التقدير فيما هو المختار هذا حر أو هذا حر وهذا حر تكميلا للجمل الناقصة بتقدير المثل لأن الحرية القائمة بكل تغاير حرية الآخر كما مر في جاءني زيد وعمرو، ولو سلم فمعارض بالقرب وكون المعطوف عليه مذكورا صريحا، وعلى الوجه الثاني لا نسلم أن قوله، وهذا ليس بمغير لما قبله.
قوله: "لأن الواو للتشريك فيقتضي وجود الأول" قلنا لا ينافي التغيير هاهنا بل يوجبه فإنه إذا لم يكن هذا التشريك كان له أن يختار الثاني وحده، وبعد تشريك الثالث مع الثاني بعطفه عليه ليس له ذلك بل يجب اختيار الأول وحده أو الأخيرين جميعا، وإذا كان مغيرا توقف أول الكلام على آخره، ولم يثبت حرية أحد الأولين.(1/204)
داع إلى الإتيان ويصلح سببا والغداء جزاء فحمل عليه ولو قال حتى أتغدى عندك فللعطف المحض لأن فعله لا يصلح جزاء لفعله فصار كقوله إن لم آتك فأتغدى عندك حتى إذا تغدى من غير تراخ بر وليس لهذا نظير في كلام العرب بل اخترعوه.
ـــــــ
"وإذا استعمل أو في النفي يعم نحو: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان:24] أي لا هذا ولا ذاك لأن تقديره لا تطع أحدا منهما فيكون نكرة في موضع النفي فإن قال لا أفعل هذا أو هذا يحنث بفعل أحدهما وإذا قال هذا وهذا يحنث بفعلهما لا بأحدهما لأن المراد المجموع" أي لا يحنث بفعل أحدهما لأنه حلف على أنه لا يفعل هذا المجموع فلا يحنث بفعل البعض بل بفعل المجموع "إلا أن يدل الدليل على أن المراد أحدهما" كما إذا حلف لا يرتكب الزنا وأكل مال اليتيم فإن الدليل دال على أن المراد أحدهما في النفي أي لا يفعل أحدا منهما لا هذا ولا ذاك "بأن لا يكون للاجتماع تأثير في المنع" أي دلالة الدليل على أن المراد أحدهما إنما تثبت بأن لا يكون للاجتماع تأثير في المنع واعلم أن هذا اليمين للمنع فإن كان لاجتماع الأمرين تأثير في المنع أي إنما منعه لأجل الاجتماع فالمراد نفي المجموع كما إذا حلف لا يتناول السمك واللبن فهاهنا للاجتماع تأثير في المنع، فإن تناول أحدهما لا يحنث أما في الصورة الأولى فالدليل دال على أنه إنما حلف لأجل أن كل واحد منهما محرم في الشرع فالمراد نفي كل واحد منهما فيحنث بفعل أحدهما وأيضا كما أن الواو للجمع فإنها أيضا
................................................................................................
قوله: "وإذا استعمل أو في النفي" خبرا كان أو إنشاء يعم النفي كل واحد من المعطوف أو المعطوف عليه لأن أو لأحد الأمرين من غير تعيين، وانتفاء الواحد المبهم لا يتصور إلا بانتفاء المجموع فقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان:24] معناه لا تطع أحدا منهما، وهو نكرة في سياق النفي فيعم، وكذا ما جاءني زيد أو عمرو فإن قلت لفظ أحد قد يكون اسما للعدد المخصوص بمعنى الواحد، وهمزته حينئذ منقلبة عن الواو، وجمعه آحاد، وقد يكون اسما لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث والمثنى والمجموع، وهمزته أصلية، وهو في معنى العموم، ولا يستعمل في الإيجاب أصلا كذا ذكره أئمة اللغة فقولهم أن أو لأحد الشيئين، وأن مثل اضرب زيدا أو عمرا في معنى اضرب أحدهما لا يجوز أن يحمل على الثاني، وهو ظاهر بل على الأول، وهو مضاف فلا يكون نكرة فلا يعم في النفي قلت هو مع الإضافة مبهم غير معين قال ابن يعيش، وفي أحد من الإبهام ما ليس في واحد تقول جاءني أحدهما أو أحدهم، والمراد واحد غير معين، وهذا يشكل بمسألة الجامع الكبير، وهي أنه لو قال والله لا أقرب هذا أو هذه أربعة أشهر كان موليا منهما جميعا، ولو قال لا أقرب إحداكما كان موليا من واحدة لا منهما جميعا، والقياس عدم الفرق إلا أن كلمة إحدى خاصة صيغة ومعنى، ولا يعم بشيء من دلائل العموم، وكذا بوقوعها في موضع النفي بخلاف كلمة أو فإنها قد تفيد العموم بوقوعها في موضع الإباحة فالأولى أن يفسر أو بأحد منكر غير مضاف كما ذكر المصنف إلا أنه لا يصح في الإيجاب على ما صرح به أئمة اللغة.(1/205)
نائبة عن العامل فيحتمل أن يراد لا يفعل المجموع فلا يحنث بفعل واحد منهما ويحتمل أن يراد لا يفعل هذا ولا يفعل هذا فيتعدد اليمين فيحنث بفعل كل واحد منهما فيحتاج إلى الترجيح بدلالة الحال وهو ما ذكرنا فاحفظ هذا البحث فإنه بحث بديع محتاج إليه في كثير من المسائل "وقد تكون للإباحة نحو جالس الفقهاء أو المحدثين والفرق بينها وبين التخيير أن المراد فيه أحدهما فلا يملك الجمع بينهما بخلاف الإباحة فله أن يجالس كلا الفريقين" اعلم أن المراد بالتخيير منع الجمع وبالإباحة منع الخلو
................................................................................................
قوله: "فإن قال" إشارة إلى الرد على من زعم أن أو في الآية بمعنى الواو، وتنبيه على الجواب عن مسألة اليمين فإنه لما عطف الثاني على الأول بأو، والثالث على الثاني بالواو صار في معنى لا أكلم هذا أو لا هذين فيحنث بالأول أو بمجموع الآخرين لا بالثاني أو الثالث وحده فإن أو في النفي لشمول العدم، والواو لعدم الشمول، وإنما تعين العطف على الثاني دون الأول ترجيحا للقرب مع استوائهما في قصد النفي بخلاف مسألة الإعتاق فإن المقصود هو أحدهما لا بعينه، والعطف على المقصود بالحكم هو الراجح.
قوله: "إلا أن يدل الدليل" اعلم أن أو إذا استعمل في النفي فهو لنفي أحد الأمرين فيفيد شمول العدم عند الإطلاق إلا إذا قامت قرينة حالية أو مقالية على أنه لإيقاع أحد النفيين فحينئذ يفيد عدم الشمول كما ذكر جار الله في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] أنه يدل على عدم الفرق بين النفس الكافرة إذا آمنت عند ظهور أشراط الساعة وبين النفس التي آمنت من قبلها ولم تكسب خيرا يعني أن مجرد الإيمان بدون العمل لا ينفع، ولم يحمله على عموم النفي بمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ للنفس التي لم تقدم الإيمان ولا كسب الخير في الإيمان لأنه إذا نفى الإيمان كان نفي كسب الخير في الإيمان تكرارا فيجب حمله على نفي العموم أي النفس التي لم تجمع بين الإيمان والعمل الصالح، وإذا استعملت الواو في النفي فهو لعدم الشمول لأنها للجمع، ونفي المجموع يجوز أن يكون بنفي واحد إلا أن تدل قرينة حالية أو مقالية على أنها لشمول النفي وسلب الحكم عن كل واحد كما إذا حلف لا يرتكب الزنا، وأكل مال اليتيم، وكما إذا أتى بلا الزائدة المؤكدة للنفي مثل ما جاءني زيد ولا عمرو فالضابط أنه إذا قامت القرينة في الواو على شمول العدم فذاك، وإلا فهو لعدم الشمول، وأو بالعكس، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أنه إن كان للاجتماع تأثير في المنع فلعدم الشمول، وإلا فلشمول العدم ليس بمطرد فإنه إذا حلف لا يكلم هذا وهذا فهو لنفي المجموع مع أنه لا تأثير للاجتماع في المنع، ومثله أكثر من أن يحصى.
قوله: "وقد تكون للإباحة" لا خفاء في أن مثل قولنا افعل هذا أو ذاك يستعمل تارة في طلب أحد الأمرين مع جواز الجمع بينهما، ويسمى إباحة، وتارة في طلبه مع امتناع الجمع بينهما، ويسمى تخييرا، والإباحة والتخيير قد يضافان إلى صيغة الأمر، وقد يضافان إلى كلمة أو، والتحقيق أن أو لأحد الأمرين، وجواز الجمع أو امتناعه إنما هو بحسب محل الكلام ودلالة القرائن، وهذا كما قالوا أنها في الخبر للشك والمصنف رحمه الله تعالى فسر التخيير بمنع الجمع والإباحة بمنع(1/206)
"ويعرف بدلالة الحال" أن المراد أيهما فعلى هذا قالوا في لا أكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا له أن يكلمهما لأن الاستثناء من الحظر إباحة وقد يستعار لحتى كقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ
................................................................................................
الخلو فإن قلت قد لا يمتنع الجمع في التخيير كما في خصال الكفارة، وكما إذا حلف ليدخلن هذه الدار أو هذه فإنه لو دخلهما جميعا لم يحنث، وقد لا يمتنع الخلو في الإباحة كما في جالس الحسن أو ابن سيرين إذا لم يكن الأمر للوجوب، وكما إذا حلف لا يكلم إلا زيدا أو عمرا فإنه لو لم يكلم واحدا منهما لم يحنث قلت ما ذكره مختص بصورة الأمر، ومعناه منع الجمع أو الخلو في الإتيان بالمأمور به، ففي صورة الإباحة إذا لم يجالس واحدا منهما لم يكن آتيا بالمأمور به في أمر الإباحة، وإن جالسهما جميعا كانت مجالسة كل منهما إتيانا بالمأمور به بخلاف ما إذا جمع بين خصال الكفارة فإن الإتيان بالمأمور به إنما يكون في واحدة منهما، وجواز غيرها إنما هو بحكم الإباحة الأصلية حتى لو لم يكن لم يجز كما إذا قال أعتق هذا العبد أو ذاك، وأطلق هذه الزوجة أو تلك.
قوله: "وقد يستعار" أي يستعار أو لحتى إذا وقع بعدها مضارع منصوب، ولم يكن قبلها مضارع منصوب بل فعل ممتد يكون كالعام في كل زمان، ويقصد انقطاعه بالفعل الواقع بعد أو نحو لألزمنك أو تعطيني حقي ليس المراد ثبوت أحد الفعلين بل ثبوت الأول ممتد إلى غاية هي وقت إعطاء الحق كما إذا قال لألزمنك حتى تعطيني حقي فصار أو مستعارا لحتى، والمناسبة أن أو لأحد المذكورين، وتعيين كل واحد منهما باعتبار الخيار قاطع لاحتمال الآخر كما أن الوصول إلى الغاية قاطع للفعل، وهذا معنى قوله لأن أحدهما أي أحد المذكورين من المعطوف بأو والمعطوف عليه يرتفع بوجود الآخر كما أن المغيا يرتفع بالغاية، وينقطع عندها، ولهذا ذهب النحاة إلى أن أو هذه بمعنى إلى لأن الفعل الأول ممتد إلى وقوع الفعل الثاني أو إلا لأن الفعل الأول ممتد في جميع الأوقات إلا وقت وقوع الفعل الثاني فعنده ينقطع امتداده، وقد مثل لذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران:128] أي ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيء حتى تقع توبتهم أو تعذيبهم، وذهب صاحب الكشاف إلى أنه عطف على ما سبق، وليس لك من الأمر شيء اعتراض، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فلو قال والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل تلك بالنصب كان أو بمعنى حتى إذ ليس قبله مضارع منصوب يعطف عليه فيجب امتداد عدم دخول الدار الأولى إلى دخول الثانية حتى لو دخلها أولا حنث، ولو دخل الثانية أولا بر في يمينه لانتهاء المحلوف عليه كما لو قال والله لا أدخلها اليوم فلم يدخل حتى غربت الشمس، وما يقال إن تعذر العطف من جهة أن الأول منفي ليس بمستقيم إذ لا امتناع في عطف المثبت على المنفي، وبالعكس حتى لو قال أو أدخل تلك بالرفع كان عطفا إلا أنه يحتمل أن يكون عطفا على الفعل مع حرف النفي حتى يكون المحلوف عليه أحد الأمرين: عدم دخول الأولى، أو دخول الثانية فلو دخل الأولى، ولم يدخل الثانية حنث، وإلا فلا ويحتمل أن يكون عطفا على الفعل نفسه حتى يكون الفعلان في سياق النفي، ويلزم شمول العدم لوقوع أو في النفي فيحنث بدخول إحدى الدارين أيتهما كانت كما إذا حلف لا يكلم زيدا أو عمرا، وبهذا يظهر أن أو في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ [البقرة:236](1/207)
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران:128] لأن أحدهما يرتفع بوجود الآخر كالمغيا يرتفع بالغاية فإن حلف لا أدخل هذه الدار أو أدخل تلك الدار فإن دخل الأولى أولا حنث وإن دخل الثانية أولا بر
"حتى للغاية نحو: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5] وحتى رأسها وقد تجيء للعطف فيكون المعطوف إما أفضل أو أخس وتدخل على جملة مبتدأة فإن ذكر الخبر نحو ضربت القوم حتى زيد غضبان"
................................................................................................
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} عاطفة مفيدة للعموم أي عدم الجناح مقيد بانتفاء الأمرين أي المجامعة، وتقدير المهر حتى لو وجد أحدهما كان جناحا أي تبعة بإيجاب مهر فيكون تفرضوا مجزوما عطفا على تمسوهن، ولا حاجة إلى ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أنه منصوب بإضمار أن على معنى إلا أن تفرضوا أو حتى أن تفرضوا أي إذا لم توجد المجامعة فعدم الجناح ممتد إلى تقدير المهر.
قوله: "حتى للغاية" أي للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها سواء كان جزءا منه كما في أكلت السمكة حتى رأسها أو غير جزء كما في قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5]، وأما عند الإطلاق فالأكثر على أن ما بعدها داخل فيما قبلها، وقد تكون عاطفة يتبع ما بعدها لما قبلها في الإعراب، وقد تكون ابتدائية تقع بعدها جملة فعلية أو اسمية مذكور خبرها أو محذوف بقرينة الكلام السابق، وفي الكل معنى الغاية، وفي العاطفة يجب أن يكون المعطوف جزءا من المعطوف عليه أفضلها أو أدونها فلا يجوز جاءني الرجال حتى هند، وأن يكون الحكم مما ينقضي شيئا فشيئا حتى ينتهي إلى المعطوف لكن بحسب اعتبار المتكلم لا بحسب الوجود نفسه إذ قد يجوز أن يتعلق الحكم بالمعطوف أولا كما في قولك مات كل أب لي حتى آدم أو في الوسط كما في قولك مات الناس حتى الأنبياء، ولا تتعين العاطفة إلا في صورة النصب مثل أكلت السمكة حتى رأسها بالنصب، والأصل هي الجارة لأن العاطفة لا تخرج عن معنى الغاية نظرا إلى أن المعطوف يجب أن يكون جزءا من المعطوف عليه، وهذا الحكم تقتضيه حتى من حيث كونها غاية لا من حيث كونها عاطفة بل الأصل في العطف المغايرة والمباينة كما في جاء زيد وعمرو، ويمتنع حتى عمرو بالعطف كما يمتنع بالجر كما ذكره ابن يعيش.
قوله: "فإن ذكر الخبر" جوابه محذوف أي فبها ونعمت، والمعنى فمرحبا بالقضية، ونعمت القضية، وهذا معنى لطيف يجري في جميع موارد هذه الكلمة فاعرفه.
قوله: "وإن دخلت الأفعال" حتى الداخلة على الأفعال قد تكون للغاية، وقد تكون لمجرد السببية والمجازاة، وقد تكون للعطف المحض أو التشريك من غير اعتبار غائية وسببية، والأول هو الأصل فيحمل عليه ما أمكن، وذلك بأن يكون ما قبل حتى محتملا للامتداد وضرب المدة، وما بعدها صالحا لانتهاء ذلك الأمر الممتد إليه وانقطاعه عنده كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فإن القتال يحتمل الامتداد، وقبول الجزية يصلح منتهى له، وكقوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي تستأذنوا فإن المنع من دخول بيت الغير يحتمل الامتداد، والاستئذان يصلح منتهى له، وجعل حتى هذه داخلة على الفعل نظرا إلى ظاهر اللفظ وصورة الكلام، وإلا فالفعل منصوب بإضمار أن فهي داخلة حقيقة على الاسم.(1/208)
جواب الشرط هنا محذوف أي فبها ونعمت أو فالخبر ذلك "وإلا" أي وإن لم يذكر الخبر "يقدر من جنس ما تقدم نحو أكلت السمكة حتى رأسها بالرفع أي مأكول إن دخلت الأفعال فإن احتمل الصدر الامتداد والآخر الانتهاء إليه فللغاية نحو: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وإلا فإن صلح لأن يكون سببا للثاني يكون بمعنى كي نحو أسلمت حتى أدخل الجنة وإلا فللعطف المحض فإن قال عبدي حر إن لم أضربك حتى تصيح حنث إن أقلع قبل الصياح" لأن حتى للغاية في مثل هذه الصورة "وإن قال عبدي حر إن لم آتك حتى تغديني
................................................................................................
قوله: "وإلا" أي، وإن لم يحتمل الصدر الامتداد، والآخر الانتهاء إليه فإن صلح الصدر أن يكون سببا للثاني أي للفعل الواقع بعد حتى تكون بمعنى كي مفيدة للسببية والمجازاة لأن جزاء الشيء ومسببه يكون مقصودا منه بمنزلة الغاية من المغيا نحو أسلمت حتى أدخل الجنة فإنه إن أريد بالإسلام إحداثه فهو لا يحتمل الامتداد، وإن أريد الثبات عليه فدخول الجنة لا يصلح منتهى له بل الإسلام حينئذ أكثر وأقوى، وبهذا يظهر فساد ما قيل في المناسبة بين الغائية والسببية أن الفعل الذي هو السبب ينتهي بوجود الجزاء والمسبب كما ينتهي المغيا بوجود الغاية على أنه لو صح ذلك لكان حتى للغاية حقيقة حيث يحتمل الصدر أعني السبب الامتداد، والآخر أعني المسبب الانتهاء إليه.
قوله: "وإلا" أي، وإن لم يصلح الصدر سببا للثاني فحتى للعطف المحض من غير دلالة على غاية أو مجازاة فإذا وقعت حتى في المحلوف عليه ففي الغاية يتوقف البر على وجود الغاية ليتحقق امتداد الفعل إلى الغاية، وفي السببية لا يتوقف عليه بل يحصل بمجرد الفعل لتحقق الفعل الذي هو سبب وإن لم يترتب عليه المسبب، وفي العطف يشترط وجود الفعلين ليتحقق التشريك، ولنوضح ذلك في الفروع فلو قال عبدي حر إن لم أضربك حتى تصبح فحتى للغاية لأن الضرب يحتمل الامتداد بتجدد الأمثال، وصياح المضروب يصلح منتهى له فلو أقلع عن الضرب قبل الصياح عتق عبده لعدم تحقق الضرب إلى الغاية المذكورة، ولو قال عبدي حر إن لم آتك حتى تغديني فهي للسببية دون الغاية لأن آخر الكلام أعني التغدية لا يصلح لانتهاء الإتيان إليه بل هو داع إلى الإتيان فالمراد بصلوحه للانتهاء إليه أن يكون الفعل في نفسه مع قطع النظر عن جعله غاية يصلح لانتهاء الصدر إليه وانقطاعه به كالصياح للضرب، وقد يقال إن الصدر أعني الإتيان لا يحتمل الامتداد وضرب المدة، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى أقرب، فبالجملة مجموع احتمال الصدر الامتداد، والآخر الانتهاء إليه منتف، والإتيان يصلح سببا للتغدية لأنه إحسان بدني يصلح سببا للإحسان المالي، والتغدية صالحة للمجازات عن الإحسان، ولا يخفى عليك أن الامتداد أو عدمه قد يعتبر في النفي كما في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} فإنه جعل غاية لعدم الدخول، وقد يعتبر في نفس الفعل حتى يكون النفي مسلطا على الفعل المغيا بالغاية كما في هذه الأمثلة فإن اليمين هاهنا للحمل دون المنع، والتعويل على القرائن، ولو قال إن لم آتك حتى أتغدى عندك فهي للعطف المحض لتعذر الغاية والسببية أما الغاية فلما مر، وأما السببية والمجازاة فلأن فعل الشخص لا يصلح جزاء لفعله إذ المجازاة هي المكافأة، ولا معنى لمكافأته نفسه، وفيه بحث لأن المذكور سابقا هو أن حتى عند تعذر الغاية تكون بمعنى كي، وهي تفيد سببية الأول للثاني من غير لزوم مجازاة ومكافأة من شخص آخر مثل أسلمت كي أدخل الجنة، وحتى أدخل الجنة على(1/209)
فأتاه فلم يغده لم يحنث لأن قوله حتى تغديني لا يصلح للانتهاء بل هو داع إلى الإتيان ويصلح سببا والغداء جزاء فحمل عليه ولو قال حتى أتغدى عندك فللعطف المحض لأن فعله لا يصلح جزاء لفعله فصار كقوله إن لم آتك فأتغدى عندك حتى إذا تغدى من غير تراخ بر وليس لهذا" أي للعطف المحض "نظير في كلام العرب بل اخترعوه" أي الفقهاء استعارة
................................................................................................
لفظ المبني للفاعل من الدخول، ولا امتناع في كون بعض أفعال الشخص سببا للبعض ومفضيا إليه كالإتيان إلى التغدي، وإذا كان حتى للعطف المحض فقيل بمعنى الواو فلا يفيد الترتيب.
وظاهر كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وإليه ذهب المصنف أن حتى بمعنى الفاء للمناسبة الظاهرة بين التعقيب والغاية فلو أتى وتغدى عقيب الإتيان من غير تراخ حصل البر، وإلا فلا حتى لو لم يأت أو أتى، ولم يتغد أو أتى وتغدى متراخيا حنث، والمذكور في نسخ الزيادات وشروحها أن الحكم كذلك إن نوى الفور والاتصال، وإلا فهي للترتيب سواء كان مع التراخي أو بدونه حتى لو أتى وتغدى متراخيا حصل البر، وإنما يحنث لو لم يحصل منه التغدي بعد الإتيان متصلا أو متراخيا في جميع العمران أطلق الكلام، وفي الوقت الذي ذكره أن وقته مثل إن لم آتك اليوم حتى أتغدى، وقال فخر الإسلام رحمه الله تعالى إذا أتاه فلم يتغد ثم تغدى من بعد غيره متراخ فقد بر، وأورد عليه أنه إذا لم يتغد عقيب الإتيان ثم تغدى بعد ذلك كان متراخيا بالضرورة فلا معنى لقوله غير متراخ، وجوابه أن المراد ثم تغدى بعد ذلك غير متراخ عن الإتيان بأن يأتيه وقتا آخر فيتغدى عقيب الإتيان من غير تراخ، والإشكال إنما نشأ من حمل التراخي على التراخي عن الإتيان الأول المدلول عليه بقوله إذا أتاه، وحينئذ لا حاجة إلى ما يقال إن المسألة موضوعة في المؤقت أي إن لم آتك اليوم، والمعنى غير متراخ عن اليوم إلا أن لفظ اليوم سقط عن قلم الناسخ، واعلم أن قوله حتى أتغدى بإثبات الألف ليس بمستقيم، والصواب حتى أتغد بالجزم مثل فأتغد لأنه عطف على المجزوم بلم حتى ينسحب حكم النفي على الفعلين جميعا لا على مجموع الفعل، وحرف النفي حتى لا يدخل في حيز النفي لفساد المعنى، وبطلان الحكم.
قوله: "بل اخترعوه" يعني لا توجد حتى في كلام العرب مستعملة للعطف من غير اعتبار الغاية بل صرحوا بامتناع مثل جاءني زيد حتى عمرو، ولكن الفقهاء استعاروها بمعنى الفاء للمناسبة الظاهرة بين الغاية والتعقيب، ولكونها للتعقيب بشرط الغاية فاستعمل المقيد في المطلق، ولا حاجة في أفراد المجاز إلى السماع مع أن محمد بن الحسن مما يؤخذ عنه اللغة فكفى بقوله سماعا، ولفظ فخر الإسلام رحمه الله تعالى صريح في أنها استعيرت بمعنى الفاء، وتأوله صاحب الكشف بأن المراد حرف يدل على الترتيب مثل الفاء وثم ليكون موافقا لما ذكر في الزيادات، وإنما لم تجعل مستعارة لما يفيد مطلق الجمع كالواو على ما ذهب إليه الإمام العتابي لأن الترتيب أنسب بالغاية، وعند تعذر الحقيقة الأخذ بالمجاز الأنسب أنسب، ولا يخفى أن الاستعارة لمعنى الفاء أعني التعقيب من غير تراخ أنسب بعين هذا الدليل إذ الغاية لا تتراخى عن المغيا.(1/210)
حروف الجر
الباء للإلصاق والاستعانة فتدخل على الوسائل كالأثمان فإن قال بعت هذا
ـــــــ
"حروف الجر الباء للإلصاق والاستعانة فتدخل على الوسائل كالأثمان فإن قال بعت هذا العبد بكر يكون بيعا وفي بعت كرا بالعبد يكون سلما فتراعى شرائطه ولا يجري الاستبدال في الكر بخلاف الأول قال لا تخرج إلا بإذني يجب لكل خروج إذن" لأن معناه إلا خروجا ملصقا بإذني "وفي إلا أن آذن لا" أي إن قال لا تخرج إلا أن آذن لا يجب لكل خروج إذن بل إن أذن مرة واحدة فخرج ثم خرج مرة أخرى بغير إذنه لا يحنث قالوا لأنه استثنى الإذن من الخروج لأن أن مع الفعل المضارع بمعنى المصدر والإذن ليس من جنس الخروج فلا يمكن إرادة المعنى الحقيقي وهو الاستثناء فيكون مجازا عن الغاية والمناسبة بين الاستثناء والغاية ظاهرة فيكون معناه إلى أن آذن فيكون الخروج ممنوعا إلى وقت وجود الإذن وقد وجد مرة فارتفع المنع. أقول يمكن تقريره على وجه آخر وهو أن أن مع الفعل المضارع بمعنى المصدر والمصدر قد يقع حينا لسعة الكلام تقول آتيك
................................................................................................
قوله: "الباء للإلصاق"، وهو تعليق الشيء بالشيء، وإيصاله به مثل مررت بزيد إذ ألصقت مرورك بمكان يلابسه زيد، وللاستعانة أي طلب المعونة بشيء على شيء مثل بالقلم كتبت، وبتوفيق الله حججت، وقد يقال إنها راجعة إلى الإلصاق بمعنى أنك ألصقت الكتابة بالقلم فلكونها للاستعانة تدخل على الوسائل إذ بها يستعان على المقاصد كالأثمان في البيوع فإن المقصود الأصلي من البيع هو الانتفاع بالمملوك، وذلك في البيع، والثمن وسيلة إليه لأنه في الغالب من النقود التي لا ينتفع بها بالذات بل بواسطة التوسل بها إلى المقاصد بمنزلة الآلات، وفرع فخر الإسلام رحمه الله تعالى دخولها في الأثمان على كونها للإلصاق، ووجهه أن المقصود في الإلصاق هو الملصق، والملصق به تبع بمنزلة الآلة فتدخل الباء على الأثمان التي هي بمنزلة الآلات فلو قال بعت هذا العبد بكر من الحنطة يكون العبد مبيعا، والكر ثمنا يثبت في الذمة حالا، ولو قال بعت كرا من الحنطة بهذا العبد يكون سلما، ويكون العبد رأس المال والكر مسلما فيه حتى يشترط التأجيل، وقبض رأس المال في المجلس ونحو ذلك، ولا يجزي الاستبدال في الكر قبل القبض بخلاف الصورة الأولى فإنه يجوز التصرف في الكر قبل القبض بالاستبدال كما في سائر الأثمان.
قوله: "لا تخرج إلا بإذني" معناه إلا خروجا ملصقا بإذني، وهو استثناء مفرغ فيجب أن يقدر له مستثنى منه عام مناسب له في جنسه وصفته فيكون المعنى لا تخرج خروجا إلا خروجا بإذني، والنكرة في سياق النفي تعم فإذا أخرج منها بعض بقي ما عداه على حكم النفي فيكون هذا من قبيل لا آكل أكلا لأن المحذوف في حكم المذكور لا من قبيل لا أكل لما سيجيء من أن الأكل المدلول عليه بالفعل ليس بعام، ولهذا لا يجوز نية تخصيصه ألا يرى أن قولنا لا آتيك إلا يوم الجمعة أو لا آتيك إلا راكبا يفيد عموم الأزمنة والأحوال مع الاتفاق على أن قولنا لا آتيك بدون الاستثناء(1/211)
العبد بكر يكون بيعا وفي بعت كرا بالعبد يكون سلما فتراعى شرائطه ولا يجري الاستبدال في الكر بخلاف الأول قال لا تخرج إلا بإذني يجب لكل خروج إذن وفي إلا أن آذن لا وقالوا إن دخلت الباء في آلة المسح نحو مسحت الحائط بيدي
ـــــــ
خفوق النجم أي وقت خفوق النجم فيكون تقديره لا تخرج وقتا إلا وقت إذني فيجب لكل خروج إذن ويمكن أن يجاب عنه بأنه على هذا التقدير يحنث إن خرج مرة أخرى بلا إذن وعلى التقدير الأول لا يحنث فلا يحنث بالشك "وقالوا: إن دخلت الباء في آلة المسح نحو مسحت الحائط بيدي يتعدى إلى المحل فيتناول كله وإن دخلت في المحل نحو: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] لا يتناول كل المحل تقديره ألصقوها برءوسكم" اعلم أن الآلة غير مقصودة بل هي واسطة بين الفاعل والمنفعل في وصول أثره إليه والمحل هو المقصود في الفعل المتعدي فلا يجب استيعاب الآلة بل يكفي منها ما يحصل به المقصود بل يجب استيعاب المحل في مسحت الحائط بيدي لأن الحائط اسم المجموع وقد وقع مقصودا
................................................................................................
لا يفيد العموم في الأزمان والأحوال فظهر أن ما ذكر في الكشف من أن الفعل يتناول المصدر لغة، وهو نكرة في موضع النفي فيعم ليس كما ينبغي.
قوله: "والمناسبة بين الاستثناء والغاية ظاهرة" لأن الغاية قصر لامتداد المغيا، وبيان لانتهائه كما أن الاستثناء قصر للمستثنى منه وبيان لانتهاء حكمه، وأيضا كل منهما إخراج لبعض ما يتناوله الصدر.
قوله: "فلا يحنث بالشك"، ولقائل أن يقول هناك وجه ثالث يقتضي وجوب الإذن لكل خروج، وهو أن يكون على حذف الباء أي إلا بأن آذن فيصير بمنزلة إلا بإذني، وحذف حرف الجر مع إن وأن شائع كثير، وعند تعارض الوجهين يبقى هذا الوجه سالما عن المعارض، وأشار في المبسوط إلى الجواب بأن قولنا الآخر وجاء بإذني كلام مستقيم بخلاف قولنا إلا خروجا أن آذن لكم فإنه مختل لا يعرف له استعمال، وأما وجوب الإذن لكل دخول في قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] فمستفاد من القرينة العقلية واللفظية، وهي قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53].
قوله: "وقالوا إن دخلت في آلة المسح" المسح هو اللمس بباطن الكف فاليد آلة والممسوح محل الفعل، والمعتبر في الآلة قدر ما يحصل به المقصود فلا يشترط فيه الاستيعاب فإذا دخلت الباء في المحل صار شبيها بالآلة فلا يشترط استيعابه أيضا لأن المقصود حينئذ إلصاق الفعل وإثبات وصف الإلصاق في الفعل فيصير الفعل مقصودا لإثبات صفة الإلصاق، والمحل وسيلة إليه فيكتفى فيه بقدر ما يحصل به المقصود أعني إلصاق الفعل بالرأس، وذلك حاصل ببعض الرأس فيكون التبعيض مستفادا من هذا إلا من الوضع واللغة على ما نسب إلى الشافعي رحمه الله تعالى، ولهذا قال جار(1/212)
يتعدى إلى المحل فيتناول كله وإن دخلت في المحل نحو {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} لا يتناول كل المحل تقديره ألصقوها برءوسكم.
على للاستعلاء ويراد به الوجوب لأن الدين يعلوه ويركبه معنى ويستعمل
ـــــــ
فيراد كله بخلاف اليد فإذا دخلت الباء في المحل وهي حرف مخصوص بالآلة فقد شبه المحل بالآلة فلا يراد كله وإنما ثبت استيعاب الوجه في التيمم وإن دخل الباء في المحل في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [النساء:43] لأن المسح خلف عن الغسل والاستيعاب ثابت فيه فكذا في خلفه أو لحديث عمار وهو مشهور يزاد به على الكتاب
"على للاستعلاء ويراد به الوجوب لأن الدين يعلوه ويركبه معنى ويستعمل للشرط نحو: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة:12] وهي في المعاوضات المحضة بمعنى الباء إجماعا مجازا لأن اللزوم يناسب الإلصاق" هذا بيان علاقة المجاز وإنما يراد به المجاز لأن المعنى الحقيقي وهو الشرط لا يمكن في المعاوضات المحضة لأنها لا تقبل الخطر والشرط حتى لا تصير قمارا فإذا قال بعت منك هذا العبد على ألف فمعناه بألف "وكذا في الطلاق عندهما وعنده للشرط عملا بأصله" أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كلمة على في الطلاق للشرط لأن الطلاق يقبل الشرط فيحمل على معناه الحقيقي "ففي طلقني ثلاثا على ألف فطلقها واحدة" لا يجب ثلث الألف عنده لأنها للشرط عنده وأجزاء الشرط لا تنقسم على أجزاء المشروط "ويجب عندهما" أي ثلث الألف لأنها بمعنى الباء عندهما فيكون الألف عوضا لا شرطا وأجزاء العوض تنقسم على أجزاء المعوض "وأما من فقد مر مسائلها" أي في فصل العام في قوله من شئت من عبيدي "إلى لانتهاء الغاية فصدر الكلام إن احتمله فظاهر" أي
................................................................................................
الله: إن المعنى ألصقوا المسح بالرأس، وهذا شامل للاستيعاب وغيره، وإذ قد ظهر أن المراد التبعيض فالشافعي رحمه الله تعالى اعتبر أقل ما يطلق عليه اسم المسح إذ لا دليل على الزيادة، ولا إجمال في الآية، وذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى أنه ليس بمراد لحصوله في ضمن غسل الوجه مع عدم تأدي الفرض به اتفاقا بل المراد بعض مقدر فصار مجملا بينه النبي عليه السلام بمقدار الناصية، وهو الربع، وأجاب الشافعي رحمه الله تعالى بأن عدم تأدي الفرض بما حصل في ضمن غسل الوجه مبني على فوات الترتيب، وهو واجب فصار الخلاف مبنيا على الخلاف في اشتراط الترتيب، وأما وجوب استيعاب الوجه واليد في التيمم مع دخول الباء على المحل فقد ثبت بالنسبة المشهورة يكفيك ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين، وبأن التيمم خلف عن الوضوء وفيه الاستيعاب إلا أنه نصف بترك مسح الرأس، وغسل الرجلين تخفيفا.
قوله: "ويستعمل للشرط" يعني قد يستعمل على في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها كقوله تعالى: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة:12] أي بشرط عدم الإشراك، ولا خفاء في أنها صلة للمبايعة يقال بايعناه على كذا، وكونها للشرط بمنزلة الحقيقة عند(1/213)
للشرط نحو {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} وهي في المعاوضات المحضة بمعنى الباء إجماعا مجازا لأن اللزوم يناسب الإلصاق وكذا في الطلاق عندهما
ـــــــ
إن احتمل الانتهاء إلى الغاية "وإلا فإن أمكن تعلقه بمحذوف دل الكلام عليه فذاك نحو بعت إلى شهر يتأجل الثمن" لأن صدر الكلام وهو البيع لا يحتمل الانتهاء إلى الغاية لكن يمكن تعلق قوله إلى شهر بمحذوف دل الكلام عليه فصار كقوله بعت وأجلت الثمن إلى شهر "وإن لم يكن" أي وإن لم يمكن تعلقه بمحذوف دل الكلام عليه "يحمل على تأخير صدر الكلام إن احتمله" أي التأخير "نحو أنت طالق إلى شهر ولا ينوي التأخير والتنجيز يقع عند مضي شهر وعند زفر رحمه الله تعالى يقع في الحال" فيبطل قوله إلى شهر
................................................................................................
الفقهاء لأنها في أصل الوضع للإلزام، والجزاء لازم للشرط.
قوله: "وهي في المعاوضات المحضة" أي الخالية عن معنى الإسقاط كالبيع والإجارة والنكاح.
قوله: "وكذا في الطلاق عندهما" لأن الطلاق على المال معاوضة من جانب المرأة، ولهذا كان لها الرجوع قبل كلام الزوج، وكلمة على تحتمل معنى الباء فيحمل عليها بدلالة الحال، وعنده للشرط عملا بالحقيقة فلو قالت للزوج طلقني ثلاثا على ألف فطلقها واحدة فعندهما يجب ثلث الألف لأن أجزاء العوض تنقسم على أجزاء المعوض، وعنده لا يجب شيء لأن أجزاء الشرط لا تنقسم على أجزاء المشروط، وتحقيق ذلك أن ثبوت العوض مع المعوض من باب المقابلة حتى يثبت كل جزء من هذا في مقابلة جزء من ذاك، ويمتنع تقدم أحدهما على الآخر بمنزلة المتضايفين، وثبوت المشروط والشرط بطريق المعاقبة ضرورة توقف المشروط على الشرط من غير عكس فلو انقسم أجزاء الشرط على أجزاء المشروط لزم تقدم جزء من المشروط على الشرط فلا تتحقق المعاقبة، وأما إذا قالت طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة فإنه يجب ثلث الألف لأن الباء للمعاوضة، والمقابلة فيثبت التوزيع، ولو قالت طلقني وضرتي على الألف فطلقها وحدها يجب ما يخصها من الألف لأنها للمقابلة بدلالة ظاهر الحال إذ لو حمل على المعاقبة كان البدل كله عليها كما لو قالت: إن طلقتنا فلك الألف فلا فائدة لها في طلاق الضرة بعد طلاقها حتى يجعل الألف جزاء لطلاقهما جميعا بخلاف ما تقدم فإن فائدتها في الشرطية أكثر حيث لا يلزمها ببعض الطلاق شيء.
قوله: "وأما من فقد" تكون للتبيين أو للتبعيض أو غيرهما، والمحققون على أن أصلها ابتداء الغاية، والبواقي راجعة إليها، وذهب بعض الفقهاء إلى أن أصل وضعها للتبعيض دفعا للاشتراك، وهذا ليس بسديد لإطباق أئمة اللغة على أنها حقيقة في ابتداء الغاية، والمراد بالغاية في قولهم من لابتداء الغاية، وإلى لانتهاء الغاية هو المسافة إطلاقا لاسم الجزء على الكل إذ الغاية هي النهاية، وليس لها ابتداء وانتهاء.
قوله: "بعت إلى شهر" أي مؤجلا الثمن إلى شهر على أنه حال.(1/214)
وعنده للشرط عملا بأصله ففي طلقني ثلاثا على ألف فطلقها واحدة ويجب عندهما وأما
ـــــــ
"ثم الغاية إن كانت غاية قبل تكلمه نحو بعت هذا البستان من هذا الحائط إلى ذاك وأكلت السمكة إلى رأسها لا تدخل تحت المغيا وإن لم تكن" أي وإن لم تكن غاية قبل تكلمه "فصدر الكلام إن لم يتناولها فهي لمد الحكم فكذلك نحو {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإن صدر الكلام لا يتناول الغاية وهي الليل فتكون الآية حينئذ لمد الحكم إليها فقوله فكذلك جواب الشرط أي لا تدخل الغاية تحت المغيا "وإن تناولها" أي تناول صدر الكلام الغاية نحو اليد فإنها تتناول المرفق "فذكرها لإسقاط ما وراءها" أي ذكر الغاية يكون لإسقاط ما وراء الغاية نحو {إلى المرافق} فتدخل تحت المغيا وللنحويين في إلى أربعة مذاهب الدخول إلا مجازا أي دخول حكم الغاية تحت حكم المغيا إلا مجازا "وعكسه" أي المذهب الثاني هو أن لا تدخل الغاية تحت حكم المغيا إلا مجازا كالمرافق فدخولها تحت حكم المغيا يكون بطريق المجاز على هذا المذهب "والاشتراك" أي المذهب الثالث هو الاشتراك أي دخول الغاية تحت المغيا في إلى بطريق الحقيقة وعدم الدخول أيضا بطريق الحقيقة "والدخول إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها وعدمه إن لم يكن" هذا هو المذهب
................................................................................................
قوله: "أنت طالق إلى شهر" إن نوى التنجيز أو التأخير والتأجيل فذاك، وإلا يقع بعد مضي شهر صرفا للأجل إلا الإيقاع احترازا عن الإلغاء، وعند زفر يقع في الحال لأن التأجيل والتوقيت صفة لموجود فلا بد من الوجود في الحال ثم يلغو الوصف لأن الطلاق لا يقبله.
قوله: "ثم الغاية" اختلفوا في أن المذكور بعد إلى هل يدخل فيما قبله حتى يشمله الحكم أم لا والمحققون من النحاة على أنها لا تفيد إلا انتهاء الغاية من غير دلالة على الدخول أو عدمه بل هو راجع إلى الدليل وتحقيقه أن إلى للنهاية فجاز أن يقع على أول الحد وأن يتوغل في المكان لكن تمتنع المجاوزة لأن النهاية غاية، وما كان بعده شيء آخر لم يسم غاية، وفصل المصنف بأن الغاية إما أن تكون غاية في الواقع أو بمجرد التكلم ودخول إلى عليها فإن كانت غاية قبل التكلم فهي لا تدخل سواء تناولها الصدر كالسمكة للرأس أو لا كالبستان للحائط، وهذا ما قالوا إن الغاية إذا كانت قائمة بنفسها أي موجودة قبل التكلم غير مفتقرة في الوجود إلى المغيا لم تدخل لأنها قائمة بنفسها فلا يمكن أن يستتبعها المغيا لكنهم ذهبوا إلى أنها إذا تناولها الصدر تدخل سواء كانت قائمة بنفسها أو لا ففي مسألة السمكة يتناول الأكل الرأس عندهم، ولا يتناوله عند المصنف، وإن لم تكن غاية قبل التكلم فإما أن يتناولها صدر الكلام أو لا فإن تناولها تناول اليد للمرفق دخلت لأن ذكرها ليس لمد الحكم إليها لأن الحكم ممتد بل لإسقاط ما وراءها فتبقى هي داخلة تحت حكم الصدر، وإن لم يتناولها كالصيام لا يتناول الليل لم تدخل لأن ذكرها لمد الحكم إليها فيمتد الحكم إليه، وينتهي بالوصول إليه فيحرم الوصال لوجوب الانقطاع بالليل لأن الصيام إن كان عاما فظاهر،(1/215)
من فقد مر مسائلها.
إلى لانتهاء الغاية فصدر الكلام إن احتمله فظاهر وإلا فإن أمكن تعلقه بمحذوف دل الكلام عليه فذاك نحو بعت إلى شهر يتأجل الثمن وإن لم يكن يحمل على تأخير صدر الكلام إن احتمله نحو أنت طالق إلى شهر ولا ينوي التأخير والتنجيز
ـــــــ
الرابع "وما ذكرنا في الليل" وهو أن صدر الكلام لما لم يتناول الغاية لا تدخل تحت حكم المغيا "والمرافق" وهو أن صدر الكلام لما تناول الغاية دخل تحت حكم المغيا "يناسب هذا الرابع" أي معنى ما ذكرنا ومعنى ما ذكره النحويون في المذهب الرابع شيء واحد وإنما الاختلاف في العبارة فقط فإن قول النحويين إن الغاية إن كانت من جنس المغيا معناه أن لفظ المغيا إن كان متناولا للغاية وإنما اخترنا هذا المذهب الرابع لأن الأخذ به عمل بنتيجة المذاهب الثلاثة لأن تعارض الأولين أوجب الشك وكذا الاشتراك أوجب الشك فإن كان صدر الكلام لم يتناول الغاية لا يثبت دخولها تحت حكم المغيا بالشك وإن تناولها لا يثبت خروجها بالشك "وبعض الشارحين قالوا هي غاية للإسقاط فلا تدخل تحته" أي بعض المتأخرين من أصحابنا الذين شرحوا كلام علمائنا المتقدمين رحمهم الله تعالى بينوا بهذا
................................................................................................
وإن كان مختصا برمضان فلأنه لا قائل بالفصل أي بحرمة الوصال في رمضان وجوازه في غيره. فقوله وإن لم تكن شرطا جوابه الجملة الاسمية التي مبتدؤها قوله فصدر الكلام، وخبرها الجملة الشرطية التي شرطها قوله، إن لم يتناولها، وجزاؤها قوله فكذلك أي فهو مثل الأول في عدم الدخول، وقوله فهي لمد الحكم اعتراض لا جزاء ليكون قوله فكذلك جزاء شرط محذوف لأن المقصود هنا إثبات أن الغاية داخلة أو غير داخلة لا إثبات أنها لمد الحكم أو لغيره فعلى هذا ينبغي أن يكون جزاء قوله وإن تناول هو قوله فدخل تحت المغيا لا قوله فذكرها لإسقاط ما وراءها بل هو جملة معترضة تنبيها على علة الحكم فافهم واعلم فعلم المرء ينفعه.
قوله: "وللنحويين" دليل على ما اختاره من التفصيل، وفيه نظر من وجوه الأول أنه نقل المذاهب الضعيفة، وترك ما هو المختار، وهو أنه لا يدل على الدخول، ولا على عدمه بل كل منهما يدور مع الدليل، ولهذا تدخل في مثل قرأت الكتاب من أوله إلى آخره بخلاف قوله قرأته إلى باب القياس مع أن الغاية من جنس المغيا الثاني أن القول بكونه حقيقة في الدخول فقط مذهب ضعيف لا يعرف له قائل فكيف يعارض القوم بعدم الدخول، وإليه ذهب الكثير من النحاة الثالث أن ما ذكره يلزم في مسألة السمكة دخول الرأس في الأكل على ما هو مقتضى المذهب الرابع ومختار القوم لأن الصدر يتناوله، وقد اختار أنه لا تدخل فكيف يكون ما اختاره هو المذهب الرابع؟
قوله: "هي غاية للإسقاط" لما كان المختار عند أكثر الأئمة وجوب غسل المرافق في الوضوء مع وقوعها بعد أن ذهب بعضهم إلى أن إلى بمعنى مع كما في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2] أي مع أموالكم، وبعضهم إلى أنه لا دلالة إلا على الدخول أو عدمه(1/216)
يقع عند مضي شهر وعند زفر رحمه الله تعالى يقع في الحال ثم الغاية إن كانت غاية قبل تكلمه نحو بعت هذا البستان من هذا الحائط إلى ذاك وأكلت السمكة إلى رأسها لا تدخل تحت المغيا وإن لم تكن فصدر الكلام إن لم يتناولها فهي لمد الحكم فكذلك نحو {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وإن تناولها فذكرها لإسقاط ما وراءها نحو {إِلَى الْمَرَافِقِ} فتدخل تحت المغيا وللنحويين في إلى أربعة مذاهب الدخول إلا مجازا
ـــــــ
الوجه وهو أن إلى للغاية والغاية لا تدخل تحت المغيا مطلقا لكن الغاية هنا ليست الغسل بل للإسقاط فلا تدخل تحت الإسقاط فتدخل تحت الغسل ضرورة وذلك لأن اليد لما كانت اسما للمجموع لا تكون الغاية غاية لغسل المجموع لأن غسل المجموع إلى المرافق محال فقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} يفهم منه سقوط البعض ومعلوم أن البعض الذي سقط غسله هو البعض الذي يلي الإبط فقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} غاية لسقوط غسل ذلك البعض فلا يدخل تحت السقوط.
"فإن قال له علي من درهم إلى عشرة يدخل الأول للضرورة" لأنه جزء لما فوقه والكل
................................................................................................
فجعل داخلا في الوجوب أخذا بالاحتياط أو لأن غسل اليد لا يتم بدونه لتشابك عظمات الذراع والعضد أو لأنه صار مجملا وقد أدار النبي صلى الله عليه وسلم الماء على مرافقه فصار بيانا له، وذهب بعضهم إلى أنه غاية للإسقاط، وذكروا لهذا الكلام تفسيرين أحدهما أن صدر الكلام إذا كان متناولا للغاية كاليد فإنها اسم للمجموع إلى الإبط وكان ذكر الغاية لإسقاط ما وراءها لا لمد الحكم إليها لأن الامتداد حاصل فيكون قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} متعلقا بقوله اغسلوا وغاية له لكن لأجل إسقاط ما وراء المرافق عن حكم الغسل، والثاني أنه غاية للإسقاط، ومتعلق به كأنه قيل اغسلوا أيديكم مسقطين إلى المرافق فيخرج عن الإسقاط فيبقى داخلا تحت الغسل، والأول أوجه لظهور أن الجار والمجرور متعلق بالفعل المذكور، وللقاضي الإمام أبي زيد هاهنا بحث، وهو أنه إذا قرن بالكلام غاية أو استثناء أو شرط لا يعتبر بالمطلق ثم يخرج بالقيد عن الإطلاق بل يعتبر مع القيد جملة واحدة فالفعل مع الغاية كلام واحد للإيجاب إليها لا للإيجاب والإسقاط لأنهما ضدان فلا يثبتان إلا بنصين، والنص مع الغاية نص واحد.
قوله: "فإن قال له علي من درهم إلى عشرة يدخل الأول" بناء على العرف ودلالة الحال لا بناء على امتناع وجود الكل بدون الجزء كما ذكره المصنف فإنه مغلطة من باب اشتباه المعروض بالعارض فإن الواحد جزء من كل عدد لكن إذا رتبت معدودات عشرة مثلا فلا نسلم أن الواحد الذي هو الأول منها جزء مما فوقه، وإنما هو جزء من المجموع المركب منه، ومما فوقه فما بينه وبين العاشر لا يكون إلا الثاني والثالث، وهكذا حتى التاسع، وهذا بمنزلة العاشر والحادي عشر، وغير ذلك فإن كلا منها واحد، وليس بجزء مما بين الواحد والعشرة ألا يرى أنه لو قال علي من عشرين إلى ثلاثين أو ما بين عشرين إلى ثلاثين تدخل العشرون في ثلاثين مع أنها ليست جزءا من التسعة التي بينها وبين الثلاثين لا يقال مراده أن الواحد جزء من العدد الذي فوقه كالاثنين مثلا وثبوت الكل(1/217)
وعكسه والاشتراك والدخول إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها وعدمه إن لم يكن وما ذكرنا في الليل والمرافق يناسب هذا الرابع وبعض الشارحين قالوا هي غاية للإسقاط فلا تدخل تحته فإن قال له علي من درهم إلى عشرة يدخل الأول للضرورة لا الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتدخل الغاية في الخيار عنده وكذا في الأجل واليمين في رواية الحسن عنه رحمه الله تعالى لما ذكرنا في المرافق.
ـــــــ
بدون الجزء محال "لا الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى" فيجب تسعة وعندهما تدخل الغايتان فتجب عشرة لأن العشرة لا توجد إلا بعشرة أجزاء وعند زفر لا تدخل الغايتان فتجب ثمانية "وتدخل الغاية في الخيار عنده" أي إذا باع على أنه بالخيار إلى غد يدخل الغد في الخيار أي يكون الخيار ثابتا في الغد عند أبي حنيفة رحمه الله لأن قوله على أنه بالخيار يتناول ما فوقه فقوله إلى الغد لإسقاط ما وراءه "وكذا في الأجل واليمين في رواية الحسن عنه" أي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى "لما ذكرنا في المرافق" أما الأجل فنحو
................................................................................................
يستلزم ثبوت الجزء لأنا نقول لو أريد ذلك كان اللازم أربعة وأربعين بمنزلة له علي اثنان، وثلاثة، وأربعة إلى عشرة حتى إذا ضم إليه عشرة لزم أربعة وخمسون فظهر أن الكلام مبني على أن المراد الآحاد التي بين الواحد والعاشر، وإنما النزاع في أنه هل يدخل كلاهما أو أحدهما، ويدل على ذلك أنهم لم يفرقوا بين هذا وبين قولنا ما بين واحد إلى عشرة فيتأمل، ولا بناء على أنه أوجب ما بين الأول، والعاشر، وفيه الثاني والثالث، وغيرهما، والثاني لا يتصور بدون الأول فيجب ضرورة كما إذا قال أنت طالق من واحدة إلى ثلاثة فإنه إيقاع للثانية، وهي لا تتصور بدون الأولى فيقع طلقتان ضرورة بخلاف أنت طالق ثانية فإنه لا تقع إلا واحدة ويلغو الوصف لأنه لم يجر للواحدة ذكر، والطلاق لا يثبت إلا بلفظ على ما ذكره غيره لأن التضايف إنما هو بين وصفي الأولية والثانوية لا بين ذاتيهما فإيقاع ما هو ثان لا يوجب إيقاع ما هو الأول إذ لا تلازم بين المعروضين، وهذا كما يقال إن كون الأب في الدار يوجب كون الابن فيها ضرورة أي الأب لا يتصور بدون الابن، ولا يدخل الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله لأن مطلق الدرهم لا يتناول العاشر فذكر الغاية لمد حكم الوجوب وعندهما تدخل الغايتان الأول، والعاشر لأن هذه الغاية غير قائمة بنفسها إذ لا وجود للعاشر إلا بوجود تسعة قبله، ولا وجود للأول إلا بوجود الثاني بعده فلا تكونان غايتين ما لم تكونا ثابتين، وذلك بالوجوب، وقد عرفت ما فيه، وعند زفر رحمه الله يدخل شيء من الغايتين عملا بموجب اللغة، وقد حاجه الأصمعي في ذلك فقال ما قولك في رجل قيل له كم سنك فقال ما بين ستين إلى سبعين أيكون ابن تسع وستين فتحير زفر رحمه الله تعالى.
قوله: "لما ذكرنا في المرافق" متعلق بالجميع، وحاصله أن الخيار وعدم طلب الثمن وعدم التكلم ينصرف عند الإطلاق إلى التأبيد فذكر الغاية يكون للإسقاط لا لمد الحكم فيدخل الغد في الخيار، ورمضان في الأجل، وعدم التكلم وعندهما لا يدخل عملا بما هو الأصل في كلمة إلى، وقد سبق في نحو بعت إلى شهر أنه متعلق بأجلت الثمن إلى شهر، وعدل عنه هاهنا إلى لا أطلب(1/218)
في للظرف والفرق ثابت بين إثباته وإضماره نحو صمت هذه السنة يقتضي الكل بخلاف صمت في هذه السنة فلهذا في أنت طالق غدا يقع في أول النهار ليكون واقعا في جميع الغد وفي الغد إن نوى آخر النهار يصح ولو قال أنت طالق في
ـــــــ
بعت إلى رمضان أي لا أطلب الثمن إلى رمضان وأما اليمين فنحو لا أكلم زيدا إلى رمضان فإن قوله لا أطلب الثمن ولا أكلم يتناول العمر فقوله إلى رمضان لإسقاط ما وراءه "في للظرف والفرق ثابت بين إثباته وإضماره نحو صمت هذه السنة يقتضي الكل بخلاف صمت في هذه السنة فلهذا في أنت طالق غدا يقع في أول النهار ليكون واقعا في جميع الغد وفي الغد إن نوى آخر النهار يصح ولو قال أنت طالق في الدار تطلق في الحال إلا أن ينوي في دخولك الدار فيتعلق به، وقد تستعار للمقارنة إن لم تصلح ظرفا نحو أنت طالق في دخولك الدار فتصير بمعنى الشرط فلا يقع بأنت طالق في مشيئة الله ويقع في علم الله لأنه يراد به المعلوم" اعلم أن التعليق بالمشيئة متعارف لا التعليق بالعلم فلا يقال أنت طالق إن علم الله وذلك لأن مشيئة الله تعالى متعلقة ببعض الممكنات دون البعض فأما علم الله تعالى فإنه متعلق بجميع الممكنات والممتنعات فقوله في علم الله لا يراد به التعليق فالمراد أن هذا ثابت في معلوم الله
................................................................................................
الثمن ليكون نفيا فيتحقق التناول إذ ربما ينازع في كون التأجيل مؤبدا فإن المقصود منه الترفيه، وهو حاصل بأدنى ما يطلق عليه الاسم، وإنما وقع في ذلك اتباعا لما وقع في أكثر نسخ أصول فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وفي الآجال، وفي الأيمان جمع أجل ويمين والصواب وفي الآجال في الأيمان إذ لا اختلاف في رواية آجال البيوع والديون بل الغاية لا تدخل في الأجل بالاتفاق كما في الإجارة، وإنما رواية الحسن في آجال اليمين قال الإمام السرخسي، وفي الآجال والإجارات لا تدخل الغاية لأن المطلق التأييد، وفي تأخير المطالبة، وتمليك المنفعة في موضع الغاية شك، وكذا في أجل اليمين لا تدخل في ظاهر الرواية عنه، وهو قولهما لأن في حرمة الكلام، ووجوب الكفارة بالكلام في موضع الغاية شكا
قوله: "في للظرف" بأن يشتمل المجرور على ما قبلها اشتمالا مكانيا أو زمانيا تحقيقا مثل الماء في الكوز وزيد في البلد ومثل الصوم في يوم الخميس والصلاة في يوم الجمعة أو تشبيها زيد في نعمة، والدار في يده، ونحو ذلك.
قوله: "صمت هذه السنة" يقتضي الكل لأن الظرف صار بمنزلة المفعول به حيث انتصب بالفعل فيقتضي الاستيعاب كالمفعول به يقتضي تعلق الفعل بمجموعه إلا بدليل بخلاف صمت في هذه السنة فإنه يصدق بصوم ساعة بأن ينوي الصوم إلى الليل ثم يفطر لأن الظرف قد يكون أوسع فلو نوى في أنت طالق غدا آخر النهار يصدق ديانة لا قضاء، وفي أنت طالق في غد يصدق قضاء أيضا لكن إذا لم ينو شيئا كان الجزء الأول أولى لسبقه مع عدم المزاحم، ويخالف هذا ما روى(1/219)
الدار تطلق في الحال إلا أن ينوي في دخولك الدار فيتعلق به، وقد تستعار للمقارنة إن لم تصلح ظرفا نحو أنت طالق في دخولك الدار فتصير بمعنى الشرط فلا يقع بأنت طالق في مشيئة الله ويقع في علم الله لأنه يراد به المعلوم.
ـــــــ
إبراهيم عن محمد رحمهما الله أنه لو قال أمرك بيدك رمضان أو في رمضان فهما سواء، وكذا غدا أو في غد، ويكون الأمر بيدها في رمضان أو الغد كله.
قوله: "تطلق" حالا لأن المكان لا يصلح مخصصا للطلاق لامتناع أن يقع في مكان دون مكان، وإذا لم يصلح للتخصيص لم يصلح لأن يجعل شرطا فيكون تعليقا إلا أن يراد أنت طالق في دخولك الدار بحذف المضاف أو استعمال المحل في الحال فيكون تعليقا بمنزلة أنت طالق في دخولك الدار أي وقت دخولها على وضع المصدر موضع الزمان فإنه شائع أو على استعارة في للمقارنة لما بين الظرف والمظروف من المقارنة المخصوصة فيصير بمعنى الشرط ضرورة أن مقارنة الشيء بالشيء يقتضي وجوده فيلزم تعليق الطلاق بوجوب الدخول ليتقارنا، قيل وفي قوله بمعنى الشرط إشارة إلى أنه لا يصير شرطا محضا حتى يقع الطلاق بعده بل يقع معه، ويظهر الأثر فيما لو قال للأجنبية أنت طالق في نكاحك فتزوجها لا تطلق كما لو قال مع نكاحك بخلاف ما لو قال أنت طالق إن تزوجتك.
قوله: "فلا يقع" تفريع على كونها عند الاستعارة للمقارنة بمعنى الشرط فإن كان المجرور بها مما يصح تعليق الطلاق به صار معلقا كالمشيئة المتعلقة ببعض الممكنات دون البعض فيكون أنت طالق في مشيئة الله تعليقا بمنزلة أنت طالق إن شاء الله، ولا يقع الطلاق لعدم العلم بوجود الشرط، وإلا فلا كالعلم المتعلق بالجميع فلا يكون أنت طالق في علم الله تعليقا إذ لا يصح أنت طالق إن علم الله بل يقع في الحال، ويصير المعنى أنت طالق في معلوم الله أي هذا المعنى ثابت في جملة معلوماته إذ لو لم يقع لم يكن هذا المعنى في معلوم الله، والأظهر أنه لا حاجة إلى جعل العلم بمعنى المعلوم بل المراد أنه ثابت في علم الله تعالى بمعنى أن علمه محيط بذلك، فإن قيل القدرة أيضا شاملة لجميع الممكنات فينبغي أن يقع بقوله أنت طالق في قدرة الله أجيب بأنها بمعنى تقدير الله تعالى فيصير من قبيل المشيئة والإرادة، فإن قيل قد يستعمل بمعنى المقدور مثل قولك عند استعظام الأمر شاهد قدرة الله تعالى أجيب بأنه على حذف المضاف أي أثر قدرته، ولا يصح ذلك في العلم لأنه ليس من الصفات المؤثرة بخلاف القدرة، وفيه نظر إذ لا ترجيح لحذف المضاف على كون المصدر بمعنى المفعول، ولو سلم فقولنا هو من آثار القدرة بمنزلة قولنا هو في المقدورات، واعلم أن كون التقييد بمشيئة الله تعالى تعليقا قول أبي يوسف، وعند محمد هو إبطال الكلام بمنزلة الاستثناء، وإعدام لحكمه إذ لا طريق للوقوف عليها، وروي الخلاف على العكس، ويظهر أثره في أنه يكون يمينا على تقدير التعليق لا على تقدير الإعدام، وأنه لو قدم مثل إن شاء الله تعالى أنت طالق يقع عند من يقول بالتعليق لعدم حرف الجزاء، ولا يقع عند من يقول بالإبطال لعدم الفرق بين التقديم والتأخير، وفي شرح الطحاوي أنه لو قال إن لم يشأ الله أو ما شاء الله فهو(1/220)
أسماء الظروف
مع للمقارنة فيقع ثنتان إن قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة مع واحدة.
ـــــــ
"أسماء الظروف مع للمقارنة فيقع ثنتان إن قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة مع واحدة" "وقبل للتقديم فتقع واحدة إن قال لها" أي لغير المدخول بها "أنت طالق واحدة قبل واحدة" لأن القبلية صفة للطلاق المذكور أولا فلم يبق محلا للآخر "وثنتان لو قال قبلها" أي
................................................................................................
أيضا مبطل للكلام بمنزلة إن شاء الله، وكذا إذا علق بمشيئة من لا تظهر مشيئته مثل إن شاء الجن.
وهاهنا نكتة، وهي أن مثل أنت طالق إن لم يشأ الله يقتضي وقوع الطلاق ألبتة إما على تقدير المشيئة فلوجوب وقوع مراد الله، وإما على تقدير عدم المشيئة فلوجود المعلق عليه، والجواب أنا لا نسلم أن هذه الكلمة للتعليق بل للإبطال، ولو سلم فلا نسلم لزوم الحكم على تقدير وجود المعلق عليه، وإنما يلزم أن لو كان ممكنا، ووقوع الطلاق على تقدير عدم مشيئة الله محال فالتعليق مما يستحيل معه وقوع الطلاق لغو، وذكر في النوازل أنه لو قال أنت طالق اليوم واحدة إن شاء الله، وإن لم يشأ الله فثنتين فإن طلقها واحدة قبل مضي اليوم لم يقع إلا تلك الواحدة لأن وقوع الثنتين معلق بعدم مشيئة الله تعالى الواحدة اليوم، وقد شاء، وإن لم يطلقها قبل مضي اليوم يقع ثنتان لوقوع المعلق عليه أعني عدم مشيئة الله الواحدة إذ لو شاء الله الواحدة لطلقها قبل مضي اليوم، ولو لم يقيده باليوم فقال أنت طالق واحدة إن شاء الله، وأنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله فلا يقع شيء أما الواحدة فللاستثناء، وأما الثنتان فلأن قوله أنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله كلام باطل إذ لو صح لبطل من حيث صح لأنه لو وقع الطلاق ثبت مشيئة الله تعالى لأن وجود الأشياء كلها بمشيئة الله، وذكر في المنتقى أنه لو قال أنت طالق اليوم ثنتين إن شاء الله، وإن لم يشأ الله في اليوم فأنت طالق ثلاثا فمضى اليوم، ولم يطلقها طلقت ثلاثا، ولم يقيده باليوم في اليمينين فهو إلى الموت حتى لو لم يطلقها طلقت قبيل الموت بلا فصل، وهذا مخالف لما في النوازل، وقد ذكر المنتقى أيضا قبل هذه المسألة أنه لو قال أنت طالق إن لم يشأ الله طلاقك لا تطلق بهذه اليمين أبدا، وهذا موافق لما في النوازل كذا في المحيط، وأقول لا مخالفة، وإنما اختلف الجواب لاختلاف وضع المسألتين ففي مسألة المنتقى علقت الثلاث بعدم مشيئة الله تعالى التطليقتين، وقد وجد المعلق عليه قبيل الموت إذ لو شاء الله التطليقتين لأوقعهما الزوج، وفي مسألة النوازل علقت التطليقتان بعدم مشيئة الله إياهما فلا يقعان أبدا كما ذكر في المنتقى في مسألة إن لم يشأ الله طلاقك، والدليل على ما ذكرناه أنه أعاد في النوازل في غير المقيد صيغة الطلاق فقال، وأنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله بتأخير الشرط على معنى إن لم يشأ الله الثنتين بخلاف المقيد فإنه فيه مقدم، وفي المنتقى لم يعد حتى يبقى التعليق بالثلاث فقدم الشرط كما في المقيد فينصرف عدم المشيئة إلى ما انصرف إليه المشيئة، وهو أن يطلقها ثنتين
قوله: "أسماء الظروف" عقب بحث حروف المعاني ببعض أسماء الظروف مما يتعلق به(1/221)
وقبل للتقديم فتقع واحدة إن قال لها أنت طالق واحدة قبل واحدة وثنتان لو قال قبلها.
وبعد على العكس وعند للحضرة فقوله لفلان عندي ألف يكون وديعة لأنه لا يدل على اللزوم.
ـــــــ
تقع ثنتان إن قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة قبلها واحدة لأن الطلاق المذكور أولا واقع في الحال والذي وصف بأنه قبل هذا الطلاق الواقع في الحال يقع أيضا في الحال بناء على أنه لو قال أنت طالق أمس يقع في الحال فيقعان معا "وبعد على العكس" أي لو قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة بعد واحدة تقع ثنتان لما بينا في قوله قبل واحدة ولو قال لها أنت طالق واحدة بعدها واحدة تقع واحدة لما بينا في قوله قبل واحدة
"وعند للحضرة فقوله لفلان عندي ألف يكون وديعة لأنه لا يدل على اللزوم"
................................................................................................
مسائل فقهية ثم عقبها بكلمات بعضها حروف وبعضها أسماء، وهي كلمات الشرط، وأورد فيها من أسماء الظروف ما يكون فيها معنى الشرط ضبطا لأدوات الشرط في سلك واحد لتعلق مباحث بعضها بالبعض.
قوله: "قبل واحدة" صفة للواحدة السابقة لأن فاعل الظرف ضمير عائد إليها، وقبلها واحدة صفة للواحدة الثانية لأنها فاعل الظرف فتكون هي المتصفة بالقبلية والتقدم، والمراد الصفة المعنوية لا النعت النحوي، وإلا فالجملة الظرفية أعني قبلها واحدة نعت للواحدة السابقة، ولما وصفت الثانية بأنها قبل السابقة، وليس في وسعه تقديم الثانية بل إيقاعها مقارنا كما إذا قال معها واحدة ثبت من قصده قدر ما كان في وسعه كما إذا قال أنت طالق في الزمان السابق يجعل إيقاعا في الحال لأن من ضرورة الإسناد إلى ما سبق الوقوع في الحال، وهو يملك الإيقاع في الحال دون الإسناد فيثبت تصحيحا لكلامه، وقيد مسائل القبلية، والبعدية بغير المدخول بها لأنه في المدخول بها يقع الجميع لأنها لا تبين بالأولى، ولذا يلزمه درهمان في مثل له علي درهم قبل درهم أو بعد درهم أو قبله درهم أو بعده درهم إذ الدرهم بعد الدرهم يجب دينا.
قوله: "عندي ألف" للوديعة لأن الحضرة تدل على الحفظ كما لو قال وضعت الشيء عندك يفهم منه الاستحفاظ، ولا يدل على اللزوم في الذمة حتى تكون دينا لكن لا تنافيه حتى لو قال عندي ألف دينا ثبت.(1/222)
كلمات الشرط
إن للشرط فقط فتدخل في أمر على خطر الوجود فإن قال إن لم أطلقك فأنت
ـــــــ
"كلمات الشرط أن
................................................................................................
قوله: "كلمات الشرط" ظاهر كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن أسماء الظروف،، وكلمات الشرط من حروف المعاني، ولا يخفى أنه تجوز، وتغليب، ولا ضرورة في حمل كلام المصنف عليه.(1/222)
طالق فالشرط، وهو عدم الطلاق يتحقق عند الموت فيقع في آخر الحياة.
وإذا عند الكوفيين يجيء للظرف، وللشرط نحو، وإذا يحاس الحيس يدعى
ـــــــ
للشرط فقط" فتدخل في أمر على خطر الوجود فإن قال إن لم أطلقك فأنت طالق فالشرط، وهو عدم الطلاق يتحقق عند الموت فيقع في آخر الحياة، وإذا عند الكوفيين يجيء للظرف، وللشرط نحو، وإذا يحاس الحيس يدعى جندب ونحو، وإذا تصبك خصاصة فتجمل، وعند البصريين حقيقة في الظرف، وقد يجيء للشرط بلا سقوط معنى الظرف، ودخوله في أمر كائن أو منتظر لا محالة. "ومتى للظرف خاصة فيقع بأدنى سكوت في متى لم أطلقك أنت طالق" لأنه وجد وقت لم يطلق فيه.
"وإن قال: إذا" أي إن قال: إذا لم أطلقك فأنت طالق "فعندهما كمتى" أي كقوله متى لم أطلقك أنت طالق حتى يقع بأدنى سكوت "كما في إذا شئت فإنه كمتى شئت لا يتقيد بالمجلس" أي لو قال لها طلقي نفسك إذا شئت فإنه كمتى شئت بالاتفاق حتى لا يتقيد بالمجلس بخلاف طلقي نفسك إن شئت فإنه يتقيد بالمجلس فأبو يوسف ومحمد حملا كلمة إذا على كلمة متى في قوله إذا لم أطلقك أنت طالق كما أن إذا محمول على متى باتفاق في قوله طلقي نفسك إذا شئت ", وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كان" أي قوله إذا لم أطلقك أنت طالق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو كقوله: إن لم أطلقك أنت
................................................................................................
قوله: "أن للشرط" أي لتعليق حصول مضمون جملة لحصول مضمون جملة أخرى. فقط أي من غير اعتبار ظرفية ونحوها كما في إذا ومتى، فتدخل في أمر على خطر الوجود، أي متردد بين أن يكون وأن لا يكون، ولا تستعمل فيما هو قطعي الوجود أو قطعي الانتفاء إلا على تنزيلهما منزلة المشكوك لنكتة.
قوله: "فيقع في آخر الحياة" أي حياة الزوج أو الزوجة؛ لأنهما ما داما حيين يمكن أن يطلقها فلا يقع المعلق عليه، ثم إن لم يدخل بها فلا ميراث، وإن دخل فلها الميراث بحكم الفرار فإن قيل: هو في الجزء الأخير من الحياة عاجز عن التكلم بالطلاق ومن شرطه القدرة؛ لأن المعلق بالشرط كالملفوظ لدى الشرط قلنا هو أمر حكمي فلا يشترط له ما يشترط لحقيقة التطليق، ولا يكتفى بوجود ذلك عند التطليق كما إذا علق الطلاق، ثم جن فوجد الشرط حالة جنونه فإنه ينزل الجزاء، وإن لم يتصور منه حقيقة التعليق فإن قيل: ينبغي أن لا يقع الطلاق بموتها؛ لأن التطليق ممكن ما لم تمت والعجز إنما يتحقق بالموت، وحينئذ لا يتصور الوقوع قلنا: بل تحقق العجز عن الإيقاع قبيل الموت؛ لأن من حكمه أن يعقبه الوقوع ولا يتصور ذلك.
قوله: "وإذا عند الكوفيين" تستعمل للظرف بمعنى، وقت حصول مضمون ما إليه أضيف فلا يجزم به الفعل، ويكون استعماله فيما هو قطعي الوجود كقوله:
وإذا تكون كريهة أدعى إليها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب(1/223)
جندب ونحو، وإذا تصبك خصاصة فتجمل، وعند البصريين حقيقة في الظرف، وقد يجيء للشرط بلا سقوط معنى الظرف، ودخوله في أمر كائن أو منتظر لا محالة.
ومتى للظرف خاصة فيقع بأدنى سكوت في متى لم أطلقك أنت طالق لأنه وجد وقت لم يطلق فيه وإن قال: إذا فعندهما كمتى شئت
ـــــــ
الحيس الخلط، ومنه سمي الحيس، وهو تمر يخلط بسمن وأقط، وحاس الحيس اتخذه، وللشرط بمعنى تعليق حصول مضمون جملة بحصول مضمون ما دخل عليه، ويجزم به المضارع، ويكون استعماله في أمر على خطر الوجود كقوله:
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
أي إن يصبك فقر ومسكنة فأظهر الغنى من نفسك بالتزين وتكلف الجميل أو كل الجميل، وهو الشحم المذاب تعففا قال الشاعر:
قد كنت قدما مثريا متمولا ... متجملا متعففا متدينا
فالآن صرت وقد عدمت تمولي ... متجملا متعففا متدينا
أي كنت ذا ثروة، وعفة، وديانة فصرت الآن آكل شحم مذاب، وشارب عفافة أي بقية ما في الضرع من اللبن، وذا دين، وفي كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وغيره أن "إذا" حينئذ ليس باسم، وإنما هو حرف بمعنى إن بدليل استعماله فيما ليس بقطعي، وجوابه ظاهر عند علماء المعاني فإن "إذا" كثيرا ما يستعمل في المشكوك تنزيلا له منزلة المقطوع لنكتة، وهي هاهنا التنبيه على أن شيمة الزمان رد المواهب وحط المراتب حتى إن أصابه المكروه كأنه أمر لا شك فيه ليوطن المخاطب نفسه على ذلك فيأمن مفاجأة المكروه، وعند البصريين إذا حقيقة في الظرف تضاف إلى جملة فعلية في معنى الاستقبال لكنها قد تستعمل لمجرد الظرفية من غير اعتبار شرط وتعليق كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] أي، وقت غشيانه على أنه بدل من الليل إذ ليس المراد تعليق القسم بغشيان الليل وتقييده بذلك الوقت، ولهذا منع المحققون كونه حالا من الليل؛ لأنه أيضا يفيد تقييد القسم بذلك الوقت، وقد تستعمل للشرط والتعليق من غير سقوط معنى الظرف، مثل إذا خرجت خرجت أي أخرج وقت خروجك، تعليقا لخروجك بخروجه بمنزلة تعليق الجزاء بالشرط إلا أنهم لم يجعلوه لكمال الشرط ولم يجزموا به المضارع لفوات معنى الإبهام اللازم للشرط فإن قولك آتيك إذا احمر البسر بمنزلة آتيك الوقت الذي يحمر فيه البسر ففيه تعيين وتخصيص بخلاف متى تخرج أخرج فإنه في معنى إن تخرج اليوم أخرج اليوم، وإن تخرج غدا أخرج غدا إلى غير ذلك من الأزمان فجزم الفعل بإذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر تشبيها للتعليق بين جملتيها بما بين جملتي إن، وإلى هذا أشار المحققون من النحاة، وأما استعمالها في الشرط من غير جزم الفعل فشائع مستفيض لا يقال: ففي استعمالها في الشرط من غير اعتبار سقوط معنى الظرف، جمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأنا نقول هي لم تستعمل إلا في معنى الظرف لكن تضمنت معنى الشرط باعتبار إفادة الكلام تقييد حصول مضمون جملة بمضمون جملة بمنزلة المبتدأ المتضمن معنى الشرط مثل(1/224)
لا يتقيد بالمجلس، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كان والفرق أنه لما جاء لكلا المعنيين وقع الشك في مسألتنا في الوقوع في الحال فلا يقع بالشك، وثمة في انقطاع تعلقه بالمشيئة فلا ينقطع بالشك.
ـــــــ
طالق فاحتاج أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى الفرق "والفرق أنه لما جاء لكلا المعنيين وقع الشك في مسألتنا في الوقوع في الحال فلا يقع بالشك، وثمة في انقطاع تعلقه بالمشيئة فلا ينقطع بالشك" أي لما جاء إذا بمعنى متى، وبمعنى إن ففي قوله إذا لم أطلقك أنت طالق إن حمل على متى يقع في الحال، وإن حمل على إن يقع عند الموت فوقع الشك في الوقوع في الحال فلا يقع بالشك فصار مثل إن وثمة، أي في طلقي نفسك إذا شئت لا شك أن الطلاق تعلق في الحال بمشيئتها فإن حمل على إن انقطع تعلقه بالمشيئة، وإن حمل على متى لا ينقطع، ولا شك أنه في الحال متعلق فلا ينقطع بالشك. "وكيف للسؤال عن الحال فإن استقام" أي السؤال عن الحال، وجواب أن محذوف أي فيها، ويحمل على
................................................................................................
الذي يأتيني أو كل رجل يأتيني فله درهم، ولم يلزم من ذلك استعمال اللفظ في غير ما وضع له أصلا، وقد يقال: إن امتناع الجمع إنما هو باعتبار التنافي، ولا تنافي هاهنا؛ لأن الوقت يصلح شرطا، ومعناه ما ذكرنا من أنه لم يستعمل في غير الوقت أصلا، وأما ما يقال من أنه من عموم المجاز حيث استعمل اللفظ الموضوع للوقت في مجموع الوقت والشرط استعمال الجزء في الكل فلا يخفى فساده، للقطع بامتناع إطلاق الأرض على مجموع السماء والأرض.
قوله: "ودخوله" أي دخول إذا إنما يكون لأمر كائن متحقق في الحال مثل قوله، وإذا تكون كريهة أدعى لها. أي عند نزول الحادثة أو أمر منتظر لا محالة أي أمر يقطع بتحققه في الاستقبال مثل قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] فهي تقلب الماضي إلى المستقبل لأنها حقيقة في الاستقبال، وما توهم من دخوله لأمر كائن فإنما هو من جهة أنه يستعمل في الاستمرار كقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] الآية كما يستعمل فعل المضارع واسم الفاعل لذلك كذا ذكره المحققون.
قوله: "ومتى للظرف خاصة" بمعنى أنه لا يستعمل في الشرط خاصة مع سقوط معنى الظرف بمنزلة إن كما جاز ذلك في إذا في قوله، وإذا تصبك خصاصة على ما ذهبوا إليه، وإلا فلا نزاع في أن متى كلمة شرط يجزم بها المضارع مثل متى تخرج أخرج قال الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
والعجب أنهم جعلوا إذا متمحضا للشرط بواسطة وقوعه في بيت شاذ جازما للمضارع مستعملا فيما هو على خطر الوجود، ولم يجعلوا متى متمحضا للشرط مع دوام ذلك فيه.
قوله: "فعندهما إذا مثل متى" في أنه لا يسقط عنه معنى الظرف، وهو مذهب البصريين، وعنده مثل إن في التمحض للشرطية على ما جوزه الكوفيون.(1/225)
وكيف للسؤال عن الحال فإن استقام وإلا بطلت فيعتق في أنت حر كيف شئت وتطلق في أنت طالق كيف شئت، وتبقى الكيفية مفوضة إليها إن لم ينو الزوج، وإن نوى فإن اتفقا فذاك، وإلا فرجعية وعندهما يتعلق الأصل أيضا فعندهما ما لا يقبل الإشارة فحاله وأصله سواء.
ـــــــ
السؤال عن الحال "وإلا بطلت" أي، وإن لم يستقم السؤال عن الحال تبقى كلمة كيف ", ويحنث فيعتق في أنت حر كيف شئت"؛ لأنه لا يستقيم السؤال عن الحال فيعتق بقوله أنت حر، وبطل كيف شئت، واعلم أن كلمة كيف في مثل قوله أنت حر كيف شئت أو أنت طالق كيف شئت ليست للسؤال عن الحال بل صارت مجازا، ومعناها أنت حر أو أنت طالق بأية كيفية شئت فعلى هذا، المراد بالاستقامة هو أن يصح تعلق الكيفية بصدر الكلام كأنت طالق كيف شئت فإن الطلاق له كيفية، وهي أن يكون رجعيا أو بائنا، وأما العتق فلا كيفية له فلا يستقيم تعلق الكيفية بصدر الكلام.
"وتطلق في أنت طالق كيف شئت، وتبقى الكيفية" أي كونه رجعيا أو بائنا خفيفة أو غليظة "مفوضة إليها إن لم ينو الزوج، وإن نوى فإن اتفقا فذاك، وإلا فرجعية"، وهذا لأنه لما فوض الكيفية إليها فإن لم ينو الزوج اعتبر نيتهما، وإن نوى الزوج فإن اتفق نيتهما يقع ما
................................................................................................
قوله: "فاحتاج أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى الفرق" بين قوله إذا لم أطلقك فأنت طالق، وقوله طلقي نفسك إذا شئت حيث جعل إذا في الأول لمحض الشرط بمنزلة إن. حتى لا يقع الطلاق إلى آخر الحياة، وفي الثاني للظرف بمنزلة متى حتى لا يتقيد بالمشيئة في المجلس، وحاصل الفرق أن الأصل في التطليق عدم الطلاق فلا يقع الطلاق بالشك، وفي التعليق الأصل الاستمرار فلا ينقطع بالشك فإن قيل: طلقي نفسك مقيد بالمجلس، وإذا زيد عليه متى شئت يتعلق بما وراء المجلس أيضا بخلاف ما إذا زيد عليه إن شئت ففي إذا شئت وقع الشك في تعلقه بما وراء المجلس فلا يتعلق الشك فجوابه أن التقييد بالمجلس في طلقي نفسك إنما يثبت على خلاف الأصل ضرورة إجماع الصحابة فإذا قرن بمتى شئت صار راجعا إلى أصله شاملا للأزمنة، وإذا قرن بإذا شئت يكون الشك في انقطاع تعلقه بالمشيئة بناء على أن الأصل هو التعليق بالمشيئة في جميع الأزمنة.
قوله: "وكيف للسؤال" قد يظن من سياق هذا الكلام أن كيف من كلمات الشرط على ما هو رأي الكوفيين، وعلى ما هو القياس بناء على أنها للحال والأحوال شروط إلا أنها تدل على أحوال ليست في يد العبد مثل الصحة، والسقم، والكهولة، والشيخوخة فلم يصح التعليق بها إلا إذا ضمت إليها "ما" نحو كيفما تصنع أصنع، والمقصود أنها من الكلمات التي يبحث عنها في هذا المقام من غير أن تكون من أسماء الظروف أو كلمات الشرط، وذلك لأنها للاستفهام، أي السؤال عن الحال(1/226)
نويا، وإن اختلف فلا بد من اعتبار النيتين أما نيتها فلأنه فوض إليها أو نيته؛ فلأن الزوج هو الأصل في إيقاع الطلاق فإذا تعارضا تساقطا فبقي أصل الطلاق، وهو الرجعي. "وعندهما يتعلق الأصل أيضا" أي في أنت طالق كيف شئت يتعلق أصل الطلاق أي وقوع الطلاق أيضا بمشيئتها "فعندهما ما لا يقبل الإشارة" أي ما لا يكون من قبيل المحسوسات "فحاله وأصله سواء" أظن أن هذا مبني على امتناع قيام العرض بالعرض فإن العرض الأول ليس
................................................................................................
خاصة لكن لا خفاء في أنها لم تبق في مثل أنت طالق كيف شئت على حقيقتها، وإلا لما كان الوصف مفوضا إلى مشيئتها بمنزلة ما إذا قال: أنت طالق أرجعيا تريدين أم بائنا؟ على قصد السؤال بل صارت مجازا، والمعنى أنت طالق بأية كيفية شئت فالظاهر من كلام المصنف رحمه الله تعالى أأنها في الأصل بمنزلة أي الاستفهامية لأنه معنى كيف شئت عند الاستفهام أي حال شئت فاستعيرت لأي الموصولة بجامع الإبهام عند معنى أنت طالق بأية كيفية شئتها من الكيفيات، وذكر بعضهم أنه سلب عنها معنى الاستفهام، واستعملت اسما للحال كما حكى قطرب عن بعض العرب انظر إلى فلان كيف يصنع، أي إلى حال صنعته، وعلى كلا الوجهين يكون كيف منصوبا بنزع الخافض.
قوله: "وأما العتق فلا كيفية له" لقائل أن يقول: إنه يكون معلقا ومنجزا على مال وبدونه على وجه التدبير وغير مطلق أو مقيد بما يأتي من الزمان، وكل هذه كيفيات، وقد قال في المبسوط في مسألة أنت حر كيف شئت: إنه يعتق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولا مشيئة له وعندهما لا يعتق ما لم يشأ في المجلس فعلم أن بطلان تعلق الكيفية بصدر الكلام إنما هو عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قوله: "وتطلق في أنت طالق كيف شئت" أي يقع واحدة قبل المشيئة فإن كانت غير مدخولة بانت فلا مشيئة بعد، وإن كانت مدخولة فالكيفية مفوضة إليها في المجلس؛ لأن كلمة كيف إنما تدل على تفويض الأحوال والصفات دون الأصل ففي العتق وغير المدخولة لا مشيئة بعد وقوع الأصل فيلغو التفويض، وفي المدخولة يكون التفويض إليها بأن يجعلها بائنة أو ثلاثا، وصح هذا التفويض؛ لأن الطلاق قد يكون رجعيا فيصير بائنا بمضي العدة، وقد يكون واحدا فيصير ثلاثا بضم اثنين إليه، وحينئذ تصير الحرمة غليظة فلما احتمل ذلك في الجملة صار التفويض إلى مشيئتها، وأما تفويض الأصل في نحو طلقي نفسك كيف شئت فليس من كلمة كيف بل من لفظ طلقي، وكيف يفيد تفويض الأوصاف.
قوله: "وعندهما يتعلق الأصل، أيضا" بالمشيئة؛ لأنه فوض إليها كل حال حتى الرجعية فيلزم تفويض نفس الطلاق ضرورة أنه لا يكون بدون حال من الأحوال ووصف من الأوصاف كما قالوا في مثل قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة:28] الآية: إنه إنكار لأصل الكفر بإنكار أحواله ضرورة أنه لا ينفك عن حال، وتحقيق كلامهما على ما ذكره القوم أن ما لا يكون محسوسا كالتصرفات الشرعية من الطلاق، والعتاق، والبيع، والنكاح، وغيرها فحاله وأصله سواء؛ لأن وجوده لما لم يكن محسوسا كان معرفة وجوده بآثاره وأوصافه، فافتقرت معرفة ثبوته إلى معرفة أثره ووصفه(1/227)
محلا للعرض الثاني بل كلاهما حالان في الجسم، وليس أحدهما أولى بكونه أصلا ومحلا، والآخر بكونه فرعا وحالا، ففيما نحن فيه لا نقول: إن الطلاق أصل والكيفية عرض قائم به وأن الأصل موجود بدون الفرع بل هما سواء في الأصلية والفرعية لكن لا انفكاك لأحدهما عن الآخر إذ الطلاق لا يوجد إلا وأن يكون رجعيا أو بائنا فإذا تعلق أحدهما بمشيئتها تعلق الآخر.
................................................................................................
كثبوت الملك في البيع، والحل في النكاح، والوصف مفتقر، أيضا إلى الأصل فاستويا، وصار تعليق الوصف تعليق الأصل، وأما ما ظنه المصنف رحمه الله تعالى من ابتناء ذلك على امتناع قيام العرض بالعرض ففيه نظر أما أولا فلأنه لا جهة لتخصيص ذلك بما ليس بمحسوس، وأما ثانيا فلأن الأصل فيما ليس بمحسوس لا يلزم أن يكون عرضا، ويمكن دفعهما بأن الكلام في التصرفات التي هي أعراض غير محسوسة، وأما ثالثا؛ فلأنه لما ثبت عدم انفكاك أحدهما عن الآخر لزم من تعلق أحدهما بالمشيئة تعلق الآخر بها سواء قام أحدهما بالآخر أو قاما بشيء آخر فلا مدخل لامتناع قيام العرض بالعرض في ذلك، وأما رابعا فلأن عدم الانفكاك إنما هو بين الطلاق وكيفية ما لا بخصوصها، والمعلق بمشيئتها إنما هو خصوص الكيفية، ودفعه أن الطلاق لما لم يوجد بدون كيفية ما، وقد تعلق جميع الكيفيات بالمشيئة لزم تعلقه بها ضرورة.(1/228)
فصل: في الصريح و الكناية
...
فصل: في الصريح والكناية
الصريح لا يحتاج إلى النية، والكناية تحتاج إليها، ولاستتارها لا يثبت بها ما يندرئ بالشبهات فلا يحد بالتعريض، نحو لست أنا بزان قالوا وكنايات الطلاق تطلق عليها مجازا ; لأن معانيها غير مستترة لكن الإبهام فيما يتصل بها كالبائن مثلا فإنه مبهم
ـــــــ
"فصل" في الصريح، والكناية "الصريح لا يحتاج إلى النية، والكناية تحتاج إليها، ولاستتارها لا يثبت بها ما يندرئ بالشبهات فلا يحد بالتعريض، نحو لست أنا بزان قالوا وكنايات الطلاق تطلق عليها مجازا؛ لأن معانيها غير مستترة لكن الإبهام فيما يتصل بها كالبائن مثلا فإنه مبهم في أنها بائنة عن أي شيء عن النكاح أو عن غيره فإذا نوى نوعا منها، وهو البينونة عن النكاح تعين، وتبين بموجب الكلام، ولو جعلت كناية حقيقة تطلق رجعية؛ لأنهم
................................................................................................
قوله: "فصل" قد سبق تفسير الصريح والكناية فهذا بيان لحكمها فالصريح لا يحتاج إلى النية يعني أن الحكم الشرعي يتعلق بنفس الكلام أراده أو لم يرده حتى لو أراد أن يقول: سبحان الله فجرى على لسانه أنت طالق، أو أنت حر يقع الطلاق أو العتاق نعم لو أراد في أنت طالق رفع حقيقة القيد يصدق ديانة لا قضاء، والكناية تحتاج إلى النية أو ما يقوم مقامها من دلالة الحال ليزول ما فيها من استتار المراد، والتردد فيه.
قوله: "ولاستتارها" أي لخفاء المراد بالكناية وقصورها في البيان لا يثبت بها ما يندفع بالشبهات فلا يجب حد القذف إلا إذا صرح بنسبته إلى الزنا مثل زنيت أو أنت زان بخلاف(1/228)
في أنها بائنة عن أي شيء عن النكاح أو عن غيره فإذا نوى نوعا منها، وهو البينونة عن النكاح تعين، وتبين بموجب الكلام، ولو جعلت كناية حقيقة تطلق رجعية ; لأنهم فسروها بما يستتر منه المراد، والمراد المستتر هاهنا الطلاق فيصير كقوله: أنت طالق وبتفسير علماء البيان لا يحتاجون إلى هذا التكلف ; لأنها عندهم أن يذكر لفظ ويقصد بمعناه معنى ثان ملزوم له
ـــــــ
فسروها بما يستتر منه المراد، والمراد المستتر هاهنا الطلاق فيصير كقوله: "أنت طالق" اعلم أن علماءنا رحمهم الله لما قالوا بوقوع الطلاق البائن بقوله أنت بائن، وأمثاله بناء على أن موجب الكلام هو البينونة، ورد عليهم أن هذه الألفاظ كنايات عندكم، والكناية هي ما استتر المراد منها، والمراد المستتر هو الطلاق في هذه الألفاظ فيجب أن يقع بها الرجعي كما في أنت طالق فأجاب مشايخنا بأن إطلاق لفظ الكناية على هذه الألفاظ بطريق المجاز كما ذكرنا في المتن فيقع بها البائن؛ لأن موجب الكلام هو البينونة، وهذا بناء على تفسير الكناية عندهم، ولو فسروها بتفسير علماء البيان يثبت المدعى، وهو البينونة، ولا يحتاج في الجواب إلى هذا التكلف، وهو أن هذه الألفاظ كنايات بطريق المجاز فلهذا قال:
................................................................................................
جامعت فلانة أو واقعتها أو وطئتها، وكذا إذا أقر على نفسه بما يوجب الحد لا يجب الحد ما لم يصرح به فلا يجب بالتعريض، وهو أن يذكر شيئا ليدل به على شيء لم يذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك وأنظر إلى وجهك الكريم، وحقيقته إمالة الكلام إلى عرض، أي جانب يدل على المقصود فإذا قال: لست أنا بزان تعريضا بأن المخاطب زان لا يجب الحد لأن للتعريض نوع من الكناية يكون مسبوقا بموصوف غير مذكور كما تقول في عرض من يؤذي المسلمين: المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، توصلا بذلك إلى نفي الإسلام عن المؤذي.
قوله: "قالوا، وكنايات الطلاق" مثل: أنت بائن أنت بائنة أو بتلة، أنت حرام يطلق عليها لفظ الكناية بطريق المجاز دون الحقيقة؛ لأن حقيقة الكناية ما استتر المراد به، وهذه الألفاظ معانيها غير مستترة بل ظاهرة على كل واحد من أهل اللسان لكنها شابهت الكناية من جهة الإبهام فيما يتصل به هذه الألفاظ، وتعمل فيه مثل البائن المعلوم المراد إلا أن محل البينونة هي الوصلة، وهي متنوعة أنواعا مختلفة كوصلة النكاح وغيره فاستتر المراد في نفسه بل باعتبار إبهام المحل الذي يظهر أثر البينونة فيه فاستعيرت لها لفظة الكناية واحتاجت إلى النية ليزول إبهام المحل، وتتعين البينونة عن وصلة النكاح، ويقع الطلاق البائن بموجب الكلام نفسه من غير أن يجعل أنت بائن كناية عن أنت طالق حتى يلزم كون الواقع به رجعيا، ولا يخفى أن فيه ضرب تكلف إذ لقائل أن يقول: إن أريد أن مفهوماتها اللغوية ظاهرة غير مستترة فهذا لا ينافي الكناية، واستتار مراد المتكلم بها ظاهر كما في جميع الكنايات، وإن أريد أن ما أراد المتكلم بها ظاهر لا استتار فيه فممنوع كيف ولا يمكن التوصل إليه إلا ببيان من جهة المتكلم؟ وهم مصرحون بأنها من جهة المحل مبهمة مستترة، ولم يفسروا الكناية إلا بما استتر منه المراد سواء كان ذلك باعتبار المحل أو غيره، ولم يشترطوا إرادة اللازم ثم الانتقال منه إلى الملزوم بدليل أنهم جعلوا الحقيقة المهجورة والمجاز(1/229)
فيراد بالبائن معناه ثم ينتقل منه بنيته إلى الطلاق فتطلق على صفة البينونة لا أنه أريد به الطلاق إلا في اعتدى لأنه يحتمل ما يعد من الأقراء فإذا نواه اقتضى الطلاق إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله يثبت بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، ويرد عليه أن المسبب إنما يطلق على السبب إذا كان المسبب مقصودا منه، وهاهنا ليس كذلك، وكذا استبرئي رحمك بعين هذا الدليل وكذا أنت واحدة.
ـــــــ
"وبتفسير علماء البيان لا يحتاجون إلى هذا التكلف؛ لأنها عندهم أن يذكر لفظ ويقصد بمعناه معنى ثان ملزوم له، فيراد بالبائن معناه ثم ينتقل منه بنيته إلى الطلاق فتطلق على صفة البينونة لا أنه أريد به الطلاق" يتصل هذا بقوله فيراد بالبائن معناه. "إلا في اعتدي" فإنه يقع به الرجعي، وهو استثناء من قوله فتطلق على صفة البينونة "لأنه يحتمل ما يعد من الأقراء فإذا
................................................................................................
الغير المتعارف كناية لمجرد استتار المراد فلهذا قال المصنف رحمه الله تعالى إنهم لو فسروا الكناية كما فسرها به علماء البيان لما احتاجوا إلى هذا التكلف.
وتقريره أن الكناية عند علماء البيان أن يذكر لفظ ويراد معناه لكن لا لذاته بل لينتقل منه إلى معنى ثان هو ملزوم للمعنى الأول كما يراد بطول النجاد معناه الحقيقي لينتقل منه إلى ما يلزمه من طول القامة فيراد بالبائن معناه الحقيقي، ثم ينتقل منه بواسطة نية المتكلم إلى ملزومه الذي هو الطلاق فتطلق المرأة على صفة البينونة، ولا يكون أنت بائن بمنزلة أنت طالق على ما هو شأن المجاز ليلزم كونه رجعيا، وهذا مبني على أن المراد في الكناية هو اللازم بالعرض والملزوم بالذات على ما سبق تحقيقه، وأما على قول من يكتفي في الكناية بمجرد جواز إرادة المعنى الحقيقي فلا يتأتى ذلك لا يقال: اللازم من حيث إنه لازم يجوز أن يكون أعم فلا ينتقل منه إلى الملزوم ما لم يصر مختصا به حتى يكون الانتقال من الملزوم إلى اللازم، والبائن ليس بلازم للطلاق لجواز أن يكون الطلاق رجعيا، ولا ملزوم له لأن البينونة قد تكون من غير وصلة النكاح؛ لأنا نقول: المراد باللازم هاهنا ما هو بمنزلة تابع الشيء ورديفه، وقد يحصل الانتقال عنه بواسطة قرينة من عرف أو دلالة حال أو نحو ذلك، وهاهنا بحث، وهو أنه لو سلم إرادة الموضوع له في الكناية فلا خفاء في أنه لا يكون مقصودا، ولا يرجع إليه الصدق والكذب، ولا يلزم ثبوته في الواقع حتى إن قولنا: طويل النجاد كناية عن طول القامة أو كثير الرماد كناية عن كونه مضيافا لا يوجب ثبوت طول النجاد له أو كثرة الرماد فمن أين يلزم الطلاق بصفة البينونة، ولهذا جعل صاحب الكشف تفسير علماء البيان دليلا على أن هذه الألفاظ ليست بكنايات إذ ليس فيها انتقال من لازم إلى ملزوم بل لم ينتقل من معانيها إلى شيء آخر فإن المراد بها البينونة والحرمة والقطع لكن على وجه مخصوص وفي محل خاص فيه الاستتار.
قوله: "إلا في اعتدي"، أي تطلق بصفة البينونة في الكنايات إلا في اعتدي، واستبرئي رحمك، وأنت، واحدة فإن الواقع بها رجعي، وظاهر كلامه أن هذه الثلاث كنايات بتفسير علماء البيان بناء على أنه أريد بها معانيها لينتقل منها إلى الطلاق الملزوم إلا أنها دلالة في معانيها على(1/230)
نواه اقتضى الطلاق إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله يثبت بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، ويرد عليه أن المسبب إنما يطلق على السبب إذا كان المسبب مقصودا منه، وهاهنا ليس كذلك، وكذا استبرئي رحمك بعين هذا الدليل" أي الدليل الذي ذكر في اعتدي فيحتمل أنه أمرها باستبراء الرحم لتتزوج زوجا آخر فإذا نوى اقتضى الطلاق كما مر "وكذا أنت واحدة"؛ لأنها تحتمل الطلاق فإذا نوى يقع بها الرجعي، ولا تبين لعدم دلالته على البينونة
................................................................................................
البينونة بخلاف لفظ بائن، وحرام، وبتة، وبتلة، وبيان اللزوم أن قوله اعتدي يحتمل عدي الدراهم أو الدنانير أو نعم الله عليك أو ما يعد من الأقراء، والمراد مستتر فإذا نوى ما يعد من الأقراء ثبت الطلاق بطريق الاقتضاء ضرورة أن وجوب عد الأقراء يقتضي سابقية الطلاق تصحيحا للأمر، والضرورة ترتفع بإثبات واحد رجعي فلا يصار إلى الزائد، وفي هذا تنبيه على أن الملزوم المنتقل إليه في الكناية قد يكون لازما متقدما على ما هو المعتبر في الاقتضاء هذا إذا كان قوله اعتدي بعد الدخول بها، وأما إذا قال ذلك قبل الدخول بها فلا جهة للاقتضاء، وإرادة حقيقة الأمر بعد الأقراء لينتقل منه إلى الطلاق؛ لأن الطلاق غير المدخول بها لا يوجب العدة فيجعل قوله اعتدي مجازا عن كوني طالقا بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب؛ لأن الطلاق سبب لوجوب الاعتداد، ولا يجعل مجازا عن طلقي إذ لا يقع به طلاق، ولا عن أنت طالق أو طلقتك؛ لأنهم يشترطون التوافق في الصيغة، والحاصل أنه لما جاز إرادة المعنى الحقيقي جعل اللفظ كناية، ولما تعذر ذلك جعل مجازا، وأما بتفسير علماء الأصول فهو كناية على التقديرين لاستتار المراد به، ثم أورد على التعبير عن الطلاق بالاعتداد مجازا بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب أنه مشروط بكون المسبب مقصودا من السبب ليصير بمنزلة علة غائية فتحقق أصالته على ما مر في باب المجاز، وظاهر أن ليس المقصود من الطلاق هو الاعتداد، وأجيب بأن الشرط في إطلاق اسم المسبب على السبب هو اختصاصه بالسبب ليتحقق الاتصال من جانبه أيضا كاختصاص الفعل بالإرادة، والخمر بالعنب، ونحو ذلك، والاعتداد شرعا بطريق الأصالة مختص بالطلاق، لا يوجد في غيره إلا بطريق التبع والشبه كالموت وحدوث حرمة المصاهرة وارتداد الزوج وغيرها، وقد يقال: إن اعتدي من باب الإضمار أي طلقتك فاعتدي أو اعتدي لأني طلقتك، ففي المدخول بها يثبت الطلاق وتجب العدة، وفي غيرها يثبت الطلاق عما بنيته ولا تجب العدة.
قوله: "وكذا" أي مثل اعتدي، استبرئي؛ لأنه تفسير له وتوضيح لما هو المقصود من العدة أعني طلب براءة الرحم من الحمل إلا أنه يحتمل أن تكون للوطء وطلب الولد، وأن تكون لتتزوج بزوج آخر فإذا نوى ذلك يثبت الطلاق اقتضاء، والمباحث المذكورة في اعتدي آتية هاهنا.
قوله: "وكذا أنت واحدة" مرفوعة أو منصوبة أو موقوفة يحتمل أن يراد أنت واحدة في قومك أو واحدة النساء في الجمال أو منفردة عندي ليس لي غيرك أو تطليقة واحدة على أنها وصف للمصدر فإذا نوى ذلك وقع الطلاق بمنزلة أنت طالق طلقة واحدة، ولا دلالة على البينونة في الصور الثلاث فيقع الرجعي، ولا يخفى عليك أن قوله أنت واحدة ليس من باب الكناية بتفسير علماء البيان، وإنما هو من قبيل المحذوف لكنه كناية باعتبار استتار المراد.(1/231)
التقسيم الثالث: في ظهور المعنى و خفائه بالنسبة للفظ
...
التقسيم الثالث: اللفظ إذا ظهر منه المراد يسمى ظاهرا بالنسبة إليه
ثم إن زاد الوضوح بأن سيق الكلام له يسمى نصا، ثم إن زاد حتى سد باب التأويل والتخصيص يسمى مفسرا، ثم إن زاد حتى سد باب احتمال النسخ أيضا يسمى محكما كقوله تعالى
ـــــــ
"التقسيم الثالث: في ظهور" المعنى، وخفائه اللفظ إذا ظهر منه المراد يسمى ظاهرا بالنسبة إليه ثم إن زاد الوضوح بأن سيق الكلام له يسمى نصا، ثم إن زاد حتى سد باب التأويل والتخصيص يسمى مفسرا، ثم إن زاد حتى سد باب احتمال النسخ أيضا يسمى محكما كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] ظاهر في الحل والحرمة نص في التفرقة بينهما" أي بين البيع والربا؛ لأنه في جواب الكفار عن قولهم إنما البيع مثل الربا "وقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ظاهر في الحل نص في العدد"؛ لأن الحل قد علم من غير هذه الآية؛ ولأنه إذا ورد الأمر بشيء مقيد ولا يكون ذلك الشيء واجبا فالمقصود إثبات هذا القيد نحو قوله عليه الصلاة والسلام: "بيعوا سواء بسواء" 1 ونظير المفسر قوله تعالى:
................................................................................................
قوله: "التقسيم الثالث" للفظ باعتبار ظهور المعنى عنه، وخفائه، ومراتب الظهور والخفاء فباعتبار الظهور ينحصر في أربعة أقسام: الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم، وظاهر كلامه مشعر بأن المعتبر في الظاهر ظهور المراد منه سواء كان مسوقا له أو لا، وفي النص كونه مسوقا للمراد سواء احتمل التخصيص والتأويل أو لا، وفي المفسر عدم احتمال التخصيص والتأويل سواء احتمل النسخ أو لا، وفي المحكم عدم احتمال شيء من ذلك، وهذا هو الموافق لكلام المتقدمين، وقد مثلوا للظاهر بنحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] الآية، ونحو: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] الآية: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] الآية فتكون الأربعة أقساما متمايزة بحسب المفهوم واعتبار الحيثية متداخلة بحسب الوجود إلا أن المشهور بين المتأخرين أنها أقسام متباينة، وأنه يشترط في الظاهر عدم كونه مسوقا للمعنى الذي يجعل ظاهرا فيه، وفي النص احتمال التخصيص أو التأويل، أي أحدهما، وإلا فلا يكون شيء من الخاص نصا، وفي المفسر احتمال النسخ، وسيجيء من كلام المصنف ما يدل على هذا.
قوله: "ثم إن زاد الوضوح" أتى بصريح الوضوح دون الضمير العائد إلى الظهور؛ لأن الوضوح فوق الظهور، ولأنه المذكور في عبارة القوم في النص، والمفسر، والمحكم دون الظهور.
قوله: "بأن سيق الكلام له" دال على أن زيادة الوضوح في النص هو بكونه مسوقا للمراد فإن إطلاق اللفظ على معنى شيء، وسوقه له شيء آخر غير لازم للأول، فإذا دلت القرينة على أن اللفظ مسوق له فهو نص فيه من نصصت الشيء رفعته، ونصصت الدابة استخرجت منها بالتكلف سيرا فوق سيرها المعتاد.
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 77, 81. مسلم في كتاب المساقات حديث 77,80. النسائي في كتاب البيوع باب 43,44. أحمد في مسنده 3/9, 5/48.(1/232)
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ظاهر في الحل والحرمة نص في التفرقة بينهما وقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ظاهر في الحل نص في العدد ونظير المفسر قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أو قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}،
ـــــــ
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] أو قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]، والمحكم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [لأنفال:75]. وقوله عليه الصلاة والسلام: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" النظير أن الأولان للمفسر والمحكم مذكوران في كتب الأصول، وفي التمثيل بهما نظر؛ لأن الفرق بين المفسر والمحكم أن المفسر قابل للنسخ والمحكم غير قابل له، والمثالان المذكوران، وهما قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [لأنفال:75] في ذلك سواء بحسب اللفظ؛ لأنهم إن أرادوا قبول النسخ وعدمه بحسب اللفظ فكل منهما مفسر إذ ليس في الآيتين ما يمنع النسخ بحسب اللفظ، وإن أرادوا بحسب محل الكلام أو أعم من كل منهما فكل منهما محكم؛ لأن الإخبار بسجود الملائكة لا يقبل النسخ كما أن الإخبار بعلم الله لا يقبله فلأجل هذا أوردت مثالين في الحكم الشرعي ليظهر الفرق بين المفسر والمحكم فقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} مفسر؛ لأن قوله كافة سد لباب التخصيص لكنه يحتمل النسخ لكونه حكما شرعيا، وقوله عليه السلام: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" 1 محكم؛ لأن قوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55] سد لباب النسخ
................................................................................................
قوله: "حتى سد باب التأويل" من أولت الشيء صرفته، ورجعته، وهو انكشاف اعتبار دليل يصير المعنى به أغلب على الظن من المعنى الظاهر، والتفسير مبالغة الفسر، وهو الكشف فيراد به كشف لا شبهة فيه، وهو القطع بالمراد، ولهذا يحرم التفسير بالرأي دون التأويل؛ لأنه الظن بالمراد، وحمل الكلام على غير الظاهر بلا جزم فيقبله الظاهر والنص؛ لأن الظاهر يحتمل غير المراد احتمالا بعيدا، والنص يحتمله احتمالا أبعد دون المفسر؛ لأنه لا يحتمل غير المراد أصلا.
قوله: "ثم إن زاد" أي الوضوح حتى سد احتمال النسخ، أيضا كما سد احتمال التخصيص والتأويل، والمراد نسخ المعنى إذ المحكم يحتمل في زمن الوحي نسخ اللفظ بأن لا يتعلق به جواز الصلاة، ولا حرمة القراءة على الجنب، والحائض يسمى محكما من أحكمت الشيء، أي أتقنته، وبناء محكم مأمون الانتقاض، وقيل: من أحكمت فلانا منعته فالحكم ممتنع من التخصيص والتأويل ومن أن يرد عليه النسخ، والتبديل، واعتبر فخر الإسلام رحمه الله تعالى في المحكم زيادة القوة لا زيادة الوضوح حيث قال: فإذا ازداد قوة، وهو المناسب للأحكام، وعدم احتمال النسخ، وأيضا إذا بلغ المفسر من الوضوح بحيث لا يحتمل الغير أصلا فلا معنى لزيادة الوضوح عليه، نعم يزداد قوة
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 044أبو داود في كتاب الجهاد باب 033.(1/233)
والمحكم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. وقوله عليه الصلاة والسلام: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" والكل يوجب الحكم إلا أنه يظهر التفاوت عند التعارض، وإذا خفي فإن خفي لعارض يسمى خفيا، وإن خفي لنفسه فإن أدرك عقلا فمشكل أو بل نقلا فمجمل أو لا أصلا فمتشابه، فالخفي كآية السرقة خفيت في حق النباش والطرار لاختصاصهما باسم
ـــــــ
بواسطة تأكيد وتأييد يدفع عنه احتمال النسخ والانتقاض. ثم إنه بين وجه زيادة الوضوح في النص، وهو أنه يكون بكونه مسوقا للمراد، ولم يبينه في المفسر، والمحكم؛ لأنه قد يكون بوجوه مختلفة كما إذا كان الكلام في نفسه مما لا يحتمل التأويل، ولا النسخ أو لحقه قول أو فعل قاطع لاحتمال التأويل أو اقترن به ما يمنع التخصيص أو يفيد الدوام، والتأبيد.
قوله: "كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275]" مثال للظاهر، والنص، وإشارة إلى أن الكلام الواحد بعينه يجوز أن يكون ظاهرا في معنى، نصا في معنى آخر فإنه ظاهر في حل البيع، وحرمة الربا إلا أنه مسوق للتفرقة بينهما ردا على الكفرة القائلين بتماثلهما، ثم أورد مثالا آخر يكون الظاهر باعتبار لفظ، والنص باعتبار لفظ آخر، وهو قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، أي انكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا فإن لفظ انكحوا ظاهر في حل النكاح إذ ليس الأمر للوجوب إلا أنه مسوق لإثبات العدد فيكون نصا فيه باعتبار قوله مثنى، وثلاث، ورباع. واستدل على كونه مسوقا لإثبات العدد بوجهين: الأول أن حل النكاح قد علم من غير هذه الآية كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] فالحمل على قصد فائدة جديدة أولى إلا أنه يتوقف على كون هذه الآية متأخرة عن تلك، والثاني أن الأمر إذا أورد بشيء مقيد بقيد ولم يكن ذلك الشيء واجبا فهو لإثبات ذلك القيد كقوله عليه السلام: "بيعوا سواء بسواء"، وهذا يوافق ما قرره أئمة العربية: من أن الكلام إذا اشتمل على قيد زائد على مجرد الإثبات والنفي فذلك القيد هو مناط الإفادة، ومتعلق الإثبات والنفي، ومرجع الصدق والكذب، وقيد الشيء بكونه غير واجب احتراز عن مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "أدوا عن كل حر وعبد" الحديث.
قوله: "النظيران الأولان" أورد لكل من المفسر، والمحكم مثالين فالمثال الأول للمفسر هو قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30]، والمثال الأول للمحكم هو قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]، وللمصنف في التمثيل بهما نظر؛ لأنه إن اشترط في المحكم أن يكون عدم احتمال النسخ باعتبار لفظ دال على الدوام، والتأبيد كما في قوله عليه السلام: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" 1 فليس في قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ما يدل عليه فلا يكون محكما، وإن اشترط أن يكون ذلك بحسب محل الكلام بأن يكون المعنى في
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 44، أبو داود في كتاب الجهاد باب 033(1/234)
آخر، فينظر إن كان الخفاء لمزية يثبت فيه الحكم، ولنقصان لا، والمشكل إما لغموض في المعنى نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فإن غسل ظاهر البدن واجب وغسل باطنه ساقط فوقع الإشكال في الفم فإنه باطن من وجه حتى لا يفسد الصوم بابتلاع الريق
ـــــــ
"والكل يوجب الحكم إلا أنه يظهر التفاوت عند التعارض، وإذا خفي فإن خفي لعارض يسمى خفيا، وإن خفي لنفسه فإن أدرك عقلا فمشكل أو بل نقلا فمجمل أو لا أصلا فمتشابه، فالخفي كآية السرقة خفيت في حق النباش والطرار لاختصاصهما باسم آخر، فينظر إن كان الخفاء لمزية يثبت فيه الحكم، ولنقصان لا، والمشكل إما لغموض في المعنى نحو: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] فإن غسل ظاهر البدن واجب وغسل باطنه ساقط فوقع الإشكال في الفم فإنه باطن من وجه حتى لا يفسد الصوم بابتلاع الريق وظاهر من وجه حتى لا يفسد بدخول شيء
................................................................................................
نفسه مما لا يحتمل التبديل أو لم يشترط شيء من الأمرين على التعيين بل أريد عدم احتمال النسخ باعتبار لفظ يدل عليه أو باعتبار محل الكلام فقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30]، أيضا محكم؛ لأن أخبار الله تعالى لا تحتمل النسخ لتعاليه عن الكذب والغلط، ومبنى هذا الاعتراض على تباين الأقسام الأربعة، واشتراط احتمال النسخ في المفسر، وقد يجاب بأن المفسر هو قوله تعالى: {الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] من غير نظر إلى قوله فسجدوا إلا فالأقسام الأربعة متحققة في هذه الآية فإن الملائكة جمع ظاهر في العموم، وبقوله كلهم ازداد وضوحا فصار نصا، وبقوله أجمعون انقطع احتمال التخصيص فصار مفسرا، وقوله: فسجد إخبار لا يحتمل النسخ فيكون محكما وفيه نظر؛ لأن نسخ المعنى لا يتصور إلا في كلام دال على حكم للقطع بأنه لا معنى لنسخ معنى اللفظ المفرد فإذا اعتبر في المفسر احتمال النسخ فلا بد من أن يكون كلاما مفيدا لحكم، واعترض أيضا بأن قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] لا يصلح مثالا للمفسر؛ لأنه قد استثنى إبليس فيكون محتملا للتخصيص، وأجيب بأن الاستثناء منقطع؛ لأن إبليس من الجن، ورد بأن الأصل في الاستثناء الاتصال، وعد إبليس من الملائكة على سبيل التغليب، وهو باب واسع في العربية، ولهذا يتناوله الأمر في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] بل الجواب ما مر أن الاستثناء ليس بتخصيص فإن قيل: إن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، أيضا لا يحتمل النسخ لانقطاع الوحي فلا يكون مفسرا قلنا: المراد الاحتمال في زمن الوحي، وأما بعده فلا شيء من القرآن بمحتمل للنسخ ومثله يسمى محكما لغيره ليشمل الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم.
قوله: "والكل" أي الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم يوجب الحكم، أي يثبته قطعا، ويقينا، وعند البعض حكم الظاهر والنص وجوب العمل واعتقاد حقية المراد لا ثبوت الحكم قطعا ويقينا؛ لأن الاحتمال، وإن كان بعيدا قاطع لليقين، ورد بأنه لا عبرة باحتمال لم ينشأ عن الدليل، والحق أن كلا منهما قد يفيد القطع وهو الأصل، وقد يفيد الظن وهو ما إذا كان احتمال غير المراد مما يعضده دليل.(1/235)
وظاهر من وجه حتى لا يفسد بدخول شيء في الفم فاعتبرنا الوجهين فألحق بالظاهر في الطهارة الكبرى. وبالباطن في الصغرى أو لاستعارة بديعة نحو {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}، والمجمل كآية الربا، والمتشابه كالمقطعات في أوائل السور، واليد، والوجه ونحوهما، وحكم الخفي الطلب، والمشكل الطلب ثم التأمل، والمجمل الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل إن احتيج إليهما كما في الربا، والمتشابه التوقف أي حكم المتشابه التوقف فهذا من باب العطف على معمولي عاملين، والمجرور مقدم، نحو في الدار زيد، والحجرة عمرو وعلى اعتقاد الحقية عندنا على قراءة الوقف على {إلا الله} فكما ابتلي من له ضرب جهل بالإمعان في السير ابتلي الراسخ في العلم بالتوقف، وهذا أعظمها بلوى، وأعمها جدوى.
ـــــــ
في الفم فاعتبرنا الوجهين فألحق بالظاهر في الطهارة الكبرى". حتى وجب غسله في الجنابة "وبالباطن في الصغرى" فلا يجب غسله في الحدث الأصغر، وهذا أولى من العكس؛ "لأن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] بالتشديد يدل على التكلف والمبالغة لا قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] أو لاستعارة بديعة نحو: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان:16]" فقوله
................................................................................................
قوله: "إلا أنه يظهر التفاوت عند التعارض" فيقدم النص على الظاهر، والمفسر عليهما، والمحكم على الكل؛ لأن العمل بالأوضح، والأقوى أولى، وأحرى، ولأن فيه جمعا بين الدليلين بحمل الظاهر مثلا على احتماله الآخر الموافق للنص مثاله قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ظاهر في حل ما فوق الأربع من غير المحرمات وقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] نص في وجوب الاقتصار على الأربع فيعمل به، وقوله عليه السلام: "المستحاضة تتوضأ لكل صلاة" نص في مدلوله يحتمل التأويل بحمل اللام على أنها للتوقيت، وقوله عليه السلام: "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة" 1 مفسر فيعمل به.
قوله: "وإذا خفي" أي المراد من اللفظ فخفاؤه إما لنفس اللفظ أو لعارض، الثاني يسمى خفيا، والأول إما أن يدرك المراد بالعقل أو لا: الأول يسمى مشكلا، والثاني إما أن يدرك المراد بالنقل أو لا يدرك أصلا الأول يسمى مجملا، والثاني متشابها فهذه الأقسام متباينة بلا خلاف، والمشكل مأخوذ من أشكل على كذا إذا دخل في أشكاله وأمثاله بحيث لا يعرف إلا بدليل يتميز به، والمجمل من أجمل الحساب رده إلى الجملة، وأجمل الأمر أبهمه فإن قيل ينبغي أن يكون الخفي ما خفي المراد منه بنفس اللفظ؛ لأنه في مقابلة الظاهر، وهو ما ظهر المراد منه بنفس اللفظ. قلنا الخفاء بنفس اللفظ فوق الخفاء بعارض، فلو كان الخفي ما يكون خفاؤه بنفس اللفظ لم يكن في أول مراتب الخفاء فلم يكن مقابلا للظاهر.
قوله: "إن كان الخفاء" أي خفاء اللفظ فيما خفي فيه لمزية له على ما هو ظاهر فيه في المعنى الذي تعلق به الحكم يثبت في حقه الحكم كالطرار فإنه سارق كامل يأخذ مع حضور المالك، ويقظته
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 110. الدارمي في كتاب الوضوء باب 96.(1/236)
أو لاستعارة عطف على قوله، والمشكل إما لغموض في المعنى، وإنما أشكل هذا بسبب الاستعارة؛ لأن القارورة تكون من الزجاج لا من الفضة فالمراد أن صفاءها صفاء الزجاج، وبياضها بياض الفضة.
"والمجمل كآية الربا" فإن قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] مجمل؛ لأن الربا في اللغة هو الفضل، وليس كل فضل حراما بالإجماع، ولم يعلم أن المراد أي فضل فيكون مجملا، ثم لما بين النبي صلى الله عليه وسلم الربا في الأشياء الستة احتيج بعد ذلك إلى الطلب والتأمل ليعرف علة الربا
................................................................................................
فله مزية على السارق من البيت في معنى السرقة، وهو الأخذ على سبيل الخفية فيقطع، وإن كان لنقصان في ذلك لا يثبت الحكم كالنباش فإنه ناقص في معنى السرقة لعدم المحافظة بالموتى فلا يقطع.
قوله: "وهذا" أي إلحاق باطن الفم بالظاهر في الغسل حتى يجب غسله، وبالباطن في الوضوء حتى لا يجب أولى من العكس؛ لأن التطهر، وهو المذكور في الجنابة يدل على التكلف والمبالغة في التطهير، وذلك في غسل باطن الفم دون تركه؛ ولأن الطهارة الصغرى أكثر وقوعا من الكبرى فهي بالتخفيف أليق، وترك المبالغة فيها أرفق، وأما داخل العين فإيصال الماء إليه يورث العمى فألحق بالباطن في الطهارتين دفعا للحرج فإن قيل: معنى التطهر معلوم لغة، وشرعا إلا أنه مشتبه في حق داخل الفم، والأنف كآية السرقة في الطرار، والنباش فيكون من قبيل الخفي لا المشكل. قلنا لا نسلم أنه معلوم شرعا قبل الطلب والتأمل، كيف والاختلاف فيه باق بعد، وتحقيقه أن معنى التطهر غسل جميع ظاهر البدن إلا أن فيه غموضا لا يعلم قبل الطلب، والتأمل أن جميع ظاهر البدن هو البشرة والشعر مع داخل الفم والأنف أو بدونه.
قوله: "أو لاستعارة" عطف على قوله لغموض في المعنى كقوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان:15-16]، أي تكونت من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها فاستعار القوارير لما يشبهها في الصفاء، والشفيف استعارة الأسد للشجاع، ثم جعلها من الفضة مع أن القارورة لا تكون إلا من الزجاج فجاءت استعارة غريبة بديعة.
قوله: "والمجمل" وهو ما خفي المراد منه بنفس اللفظ خفاء لا يدرك إلا ببيان من المجمل سواء كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية الأقدام كالمشترك، أو لغرابة اللفظ كالهلوع، أو لانتقاله من معناه الظاهر إلى ما هو غير معلوم كالصلاة، والزكاة، والربا.
قوله: "والمتشابه" وهو ما خفي بنفس اللفظ ولا يرجى دركه أصلا كالمقطعات في أوائل السور مثل: {الم} سميت بذلك؛ لأنها أسماء لحروف يجب أن يقطع في التكلم كل منها عن الآخر على هيئته، وتسميتها بالحروف المقطعات مجاز؛ لأن مدلولاتها حروف أو لأن الحرف يطلق على الكلمة.
قوله: "واليد، والوجه، ونحوهما" مثل العين، والقدم، والسمع، والبصر، والمجيء، وجواز الرؤية بالعين، وأمثال ذلك مما دل النص على ثبوته لله تعالى مع القطع بامتناع معانيها الظاهرة الموافقة لما(1/237)
والحكم في غير الأشياء الستة ", والمتشابه كالمقطعات في أوائل السور"، واليد، والوجه ونحوهما، وحكم الخفي الطلب، والمشكل الطلب ثم التأمل، والمجمل الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل إن احتيج إليهما كما في الربا، والمتشابه التوقف أي حكم المتشابه التوقف فهذا من باب العطف على معمولي عاملين، والمجرور مقدم، نحو في الدار زيد، والحجرة عمرو "وعلى اعتقاد الحقية عندنا على قراءة الوقف على: {إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83]" في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} [آل عمران:7] فبعض العلماء قرأ بالوقف على إلا الله وقفا لازما، والبعض قرأ بلا وقف فعلى الأول، والراسخون غير عالمين بالمتشابهات، وهو مذهب علمائنا وهذا أليق بنظم القرآن حيث جعل اتباع المتشابهات حظ الزائغين، والإقرار بحقيقته مع العجز عن دركه حظ الراسخين، وهذا يفهم من قوله تعالى: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] أي سواء علمنا أو لم نعلم، والأليق بهذا المقام أن يكون قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] سؤالا للعصمة عن الزيغ السابق ذكره الداعي إلى اتباع المتشابهات الذي يوقع صاحبه في الفتنة والضلالة وأيضا على ذلك المذهب يقولون آمنا خبر مبتدأ محذوف والحذف خلاف الأصل "فكما ابتلي من له ضرب جهل بالإمعان في
................................................................................................
في الشاهد على الله تعالى لتنزهه عن الجسمية، والجهة، والمكان فهذا كله من قبيل المتشابه يعتقد حقيته، ولا يدرك كيفيته، وبعضهم يجعل المقطعات أسماء السور، والوجه مجازا عن الرضا، واليد عن القدرة، أو يجعل الكلام المذكور فيه الوجه واليد ونحوهما تمثيلا لا يعتبر في مفرداته تشبيها فلا يكون من قبيل المتشابهة، وربما يستدل على ثبوت الأمور المذكورة لله تعالى بأنها صفات كما في الشاهد، والله تعالى موصوف بصفات الكمال فيجب أن يكون موصوفا بها إلا أنا قاطعون بامتناع الجارحة والجهة في حقه تعالى فتكون الكيفية مجهولة لا يرجى دركها. والجواب أن ما هو كمال في المخلوق ربما يكون نقصانا في الخالق، وقد يقال: إن التستر عمن هو أهل للرؤية والكرامة يكون من عيب ونقصان في المتستر، والله تعالى منزه عن ذلك فيجب أن يكون مرئيا. فيجاب بأنه يجوز أن يكون لامتناع الرؤية أو لغاية العظمة كما قيل: ولا ستر إلا هيبة وجلال والحق أنه ثبت بالدليل القاطع ثبوت هذه الأمور فتكون حقا إلا أنه لا يرجى درك الكيفية فتكون من المتشابه، لا يقال: الرؤية لا تحتاج إلى الجهة والمسافة بدليل أن الله تعالى يرانا فلا تكون من المتشابه؛ لأنا نقول الكلام في الرؤية بالعين، وتحقيق هذه المسألة في علم الكلام.
قوله: "وحكم الخفي الطلب" أي الفكر القليل لنيل المراد والاطلاع على أن خفاءه لمزية أو نقصان وحكم المشكل التأمل، أي التكلف والاجتهاد في الفكر ليتميز المعنى عن إشكاله إذ الخفاء في المشكل أكثر، وحكم المجمل الاستفسار، وطلب البيان من المجمل فبيانه قد يكون شافيا ليصير به المجمل مفسرا كبيان الصلاة، والزكاة، وقد لا يكون كبيان الربا بالحديث الوارد في الأشياء الستة، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يبين لنا أبواب الربا فحينئذ يحتاج إلى طلب ضبط الأوصاف الصالحة للعلية ثم تأمل لتعيين البعض، وزيادة صلوحه لذلك،(1/238)
وحكم المتشابه التوقف عن طلب المراد مع اعتقاد حقيته بناء على قراءة الوقف على،: {إِلَّا اللَّهَ} الدالة على أن تأويل المتشابه لا يعلمه غير الله، ورجحها بوجهين على قراءة الوقف على {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الدالة على أنهم أيضا يعلمون تأويل المتشابه: الأول أنه أليق بالنظم؛ لأنه لما ذكر أن من القرآن متشابها جعل الناظرين فيه فرقتين، الزائغين عن الطريق، والراسخين في العلم، أي الثابتين المستقيمين الذين لا يتهيأ استزلالهم وتشكيكهم فجعل اتباع المتشابه حظ الزائغين لقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، وجعل اعتقاد الحقية مع العجز عن الإدراك حظ الراسخين بقوله،: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7]، أي نصدق بحقيته سواء علمناه أو لم نعلمه هو من عند الله، وفيه نظر لا يخفى على الراسخين في العربية أنه لو قصد ذلك لكان الأليق بالنظم أن يقال: وأما الراسخون في العلم. الثاني أنه على ذلك المذهب، أي مذهب القائلين بأن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه به عطفا للراسخين على الله وتركا للوقف على إلا الله يكون يقولون كلاما مبتدأ موضحا لحال الراسخين بحذف المبتدأ، أي هم يقولون، والحذف خلاف الأصل، وهكذا صرح جار الله في الكشاف، والمفصل بتقدير المبتدأ في جميع ما هو من هذا القبيل، وفيه نظر؛ لأن الجملة الفعلية صالحة للابتداء من غير احتياج إلى اعتبار حذف المبتدأ وأيضا يحتمل أن يكون يقولون حالا من المعطوف فقط أعني الراسخون لعدم الالتباس.
قوله: "فكما ابتلي" لما ذهب بعضهم إلى أن الراسخين يعلمون تأويل المتشابهة؛ لأن الخطاب بما لا يفهم، وإن جاز عقلا فهو بعيد جدا، وتخصيص الحال أعني يقولون بالمعطوف مع أن الأصل اشتراكها بين المعطوف والمعطوف عليه أهون من الخطاب بما لا يفيد أصلا، ولا تناقض في حصر الحكم على معطوف عليه ومعطوف بمعنى انفرادهما بذلك دون غيرهما مثل: ما جاءني إلا زيد وعمرو، أي لا بكر ولا خالد، أشار إلى الجواب بأن فائدة الخطاب بالمتشابه هي الابتلاء فإن الراسخ في العلم لا يمكن ابتلاؤه بالأمر بطلب العلم كمن له ضرب من الجهل؛ لأن العلم غاية متمناه فكيف يبتلى به، وإنما قال: ضرب من الجهل؛ لأنه لا تكليف للجاهل الذي لا يعلم شيئا، فللراسخ في العلم نوع من الابتلاء، ولمن له ضرب من الجهل نوع آخر، وابتلاء الراسخ أعظم النوعين بلوى؛ لأن البلوى في ترك المحبوب أكثر من البلوى في تحصيل غير المراد، وأعمها جدوى، أي نفعا؛ لأنه أشق فثوابه أكثر فإن قيل: ما من آية إلا، وقد تكلم العلماء في تأويلها من غير نكير من أحد، وهذا كالإجماع على عدم وجوب التوقف في المتشابه أجيب بأن التوقف مذهب السلف إلا أنه لما ظهر أهل البدع، وتمسكوا بالمتشابه في آرائهم الباطلة اضطر الخلف إلى التكلم في المتشابه إبطالا لأقاويلهم، وبيانا لفساد تأويلهم، وفيه نظر؛ لأن ذلك كان في القرن الأول والثاني حتى نقل تأويل المتشابهات عن الصحابة، والتابعين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول: الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه، وأنا ممن يعلم تأويله. وقد يقال: إن التوقف إنما هو عن طلب العلم حقيقة لا ظاهرا، والأئمة إنما تكلموا في تأويله ظاهرا لا حقيقة، وبهذا يمكن أن يرفع نزاع الفريقين، والحق أن هذا لا يخص المتشابه بل أكثر القرآن من هذا القبيل؛ لأنه بحر لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غرائبه فأنى للبشر الغوص على لآليه، والإحاطة بكنه ما فيه، ومن هاهنا قيل: هو معجز بحسب المعنى، أيضا.(1/239)
مسألة: قيل: الدليل اللفظي لا يفيد اليقين ; لأنه مبني على نقل اللغة، والنحو، والصرف، وعدم الاشتراك، والمجاز، والإضمار، والنقل والتخصيص والتقديم والتأخير، والناسخ، والمعارض العقلي، وهي ظنية أما الوجوديات فلعدم عصمة
ـــــــ
السير" أي في طلب العلم، والمراد بذل المجهود والطاقة في طلب العلم "ابتلي الراسخ في العلم بالتوقف" أي عن طلبه، وهذا جواب إشكال، وهو أن الكلام للإفهام فلما لم يكن للراسخين في العلم حظ في العلم بالمتشابهات فما الفائدة في إنزال المتشابهات فنجيب أن الفائدة هي الابتلاء فكما ابتلي الجاهل بالمبالغة في طلب العلم ابتلي الراسخ بكبح عنان ذهنه عن التأمل والطلب، فإن رياضة البليد تكون بالعدو، ورياضة الجواد تكن بكبح العنان والمنع عن السير ", وهذا أعظمها بلوى، وأعمها جدوى" أي هذا النوع من الابتلاء أعظم النوعين بلوى، والنوعان من الابتلاء ما ذكرنا من ابتلاء الجاهل، والعالم، وإنما كان أعظمهما بلوى؛ لأن هذا الابتلاء هو أن يسلم ذلك إلى الله تعالى، ويفوضه إليه، ويلقي نفسه في مدرجة العجز، والهوان، ويتلاشى علمه في علم الله، ولا يبقى له في بحر الفناء اسم، ولا رسم وهذا منتهى إقدام الطالبين، وقد قيل: العجز عن درك الإدراك إدراك
"مسألة قيل: الدليل اللفظي لا يفيد اليقين؛ لأنه مبني على نقل اللغة، والنحو، والصرف، وعدم الاشتراك، والمجاز، والإضمار، والنقل" أي يكون منقولا من الموضوع له إلى معنى آخر، "والتخصيص والتقديم" وقد أوردوا في مثاله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3]
................................................................................................
قوله: "مسألة" ترجمة هذا البحث بالمسألة ليست كما ينبغي، والأشبه أنه اعتراض على ما ذكر من أن اللفظ يفيد القطع، وجواب عنه، تقرير الاعتراض أن الدليل اللفظي مبني على أمور ظنية، والمبني على الظن لا يفيد اليقين، أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلتوقفه على أمور وجودية كنقل اللغة لمعرفة معاني المفردات، والنحو لمعرفة معاني هيئات التراكيب، والصرف لمعرفة معاني هيئات المفردات، وعلى أمور عدمية كعدم الاشتراك، والمجاز، ونحوهما إذ لا دلالة على تعيين المقصود مع احتمال شيء من ذلك، والأمور المذكورة كلها ظنيات أما الوجوديات فلتوقف قطعيتها على عصمة الرواة إن نقلت بطريق الآحاد، وإلا فعلى التواتر، وكلاهما منتف، وأما العدميات فلأن مبناها على الاستقراء، وهو إنما يفيد الظن دون القطع. ولا يخفى أنه لا معنى لابتناء عدم المجاز أو عدم المعارض العقلي على الاستقراء، وتقرير الجواب أنه إن أريد أن بعض الدلائل اللفظية غير قطعية فلا نزاع، وإن أريد أنه لا شيء منها بقطعي فالدليل المذكور لا يفيده؛ لأنا لا نسلم أن الأمور المذكورة ظنية في كل دليل لفظي، وقوله أما في الوجوديات فلعدم العصمة وعدم التواتر قلنا لا نسلم عدم التواتر في الكل فإن منها ما هو متواتر لغة كمعنى السماء، والأرض، ونحوا كقاعدة رفع الفاعل، وصرفا كقاعدة أن مثل ضرب: فعل ماض فيجوز أن يؤلف منها دليل لفظي، وقوله في العدميات؛ لأن مبناها على الاستقراء قلنا ممنوع بل مبناها على أن الاشتراك، والمجاز، وغيرهما من(1/240)
الرواة، وعدم التواتر، وأما العدميات فلأن مبناها على الاستقراء، وهذا باطل لأن بعض اللغات، والنحو، والتصريف بلغ حد التواتر والعقلاء لا يستعملون الكلام في خلاف الأصل عند عدم القرينة، وأيضا قد نعلم بالقرائن القطعية أن الأصل هو المراد، وإلا تبطل فائدة التخاطب، وقطعية المتواتر أصلا.
ـــــــ
تقديره، والذين ظلموا أسروا النجوى كي لا يكون من قبيل أكلوني البراغيث "والتأخير، والناسخ، والمعارض العقلي، وهي ظنية أما الوجوديات"، وهي نقل اللغة، والصرف، والنحو "فلعدم عصمة الرواة، وعدم التواتر، وأما العدميات"، وهي من قوله، وعدم الاشتراك إلى آخره "فلأن مبناها على الاستقراء، وهذا باطل" أي ما قيل: إن الدليل اللفظي لا يفيد اليقين "لأن بعض اللغات، والنحو، والتصريف بلغ حد التواتر" كاللغات المشهورة غاية الشهرة، ورفع
................................................................................................
الأمور التي يتوقف الدليل على عدمها كلها خلاف الأصل، والعاقل لا يستعمل الكلام في خلاف الأصل إلا عند قرينة تدل عليه، فاللفظ عند عدم قرينة خلاف الأصل يدل على معناه قطعا، ولو سلم عدم قطعية دلالته عليه عند عدم قرينة خلاف الأصل فيجوز أن ينضم إليه قرينة قطعية الدلالة على أن الأصل هو المراد به، وحينئذ يعلم قطعا أن الأصل هو المراد، وإلا لزم بطلان فائدة التخاطب إذ لا فائدة إلا العلم بمعاني الخطابات، ولوازمها، وبطلان كون المتواتر قطعيا؛ لأنه خبر انضم إليه قرينة دالة على تحقق معناه قطعا، وهي بلوغ رواته حدا يمتنع تواطؤهم على الكذب فإذا لم يكن مثل هذا الكلام قطعي الدلالة على أن معناه هو المراد لم يكن المتواتر قطعيا.
قوله: "وقد أوردوا في مثاله" هذا على تقدير ثبوته يصلح مثلا لمجرد التقديم لا للتقديم القادح في قطعية المراد، وتوسيط هذا الكلام بين التقديم، والتأخير ليس على ما ينبغي؛ لأنهما معا شرط واحد فلا يتصور افتراقهما.
قوله: "كي لا يكون من قبيل أكلوني البراغيث" فإن قيل: هو باعتبار التقديم لا يخرج عن هذا القبيل؛ لأن أكلوني البراغيث، أيضا يحتمل التقديم على أن يشبه البراغيث في شدة نكايتها بالعقلاء فيستعمل الواو ضمير جمع لها قلنا المراد بقبيل أكلوني البراغيث اللغة الضعيفة التي يؤتى فيها بالواو دلالة على أن الفاعل جمع سواء كان الفاعل من العقلاء أو شبيها بهم أو لم يكن كذلك، والآية باعتبار التقديم والتأخير تخرج من هذا القبيل.
قوله: "والمعارض" يشترط عدم المعارض العقلي؛ لأن النقل يقبل التأويل بخلاف العقل، ولأنه فرع العقل لاحتياجه إليه من غير عكس فلا يجوز تكذيب الأصل لتصديق الفرع المتوقف صدقه على صدق الأصل.
قوله: "ومن ادعى" أورد بطريق المعارضة دليلا على بطلان قول من زعم أن لا شيء من التركيبات، أي الأدلة اللفظية بمفيد للقطع بمدلوله: تقريره أن القول بذلك إنكار للقطع بالأحكام(1/241)
الفاعل، ونصب المفعول، وأن ضرب، وما على، وزنه فعل ماض، وأمثال ذلك. فكل تركيب مؤلف من هذه المشهورات قطعي كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [لأنفال:75]، ونحن لا ندعي قطعية جميع النقليات، ومن ادعى أن لا شيء من التركيبات بمفيد للقطع بمدلوله فقد أنكر جميع المتواترات كوجود بغداد فما هو إلا محض السفسطة والعناد. "والعقلاء لا يستعملون الكلام في خلاف الأصل عند عدم القرينة، وأيضا قد نعلم بالقرائن القطعية أن الأصل هو المراد، وإلا تبطل فائدة التخاطب، وقطعية المتواتر أصلا"، واعلم أن العلماء يستعملون العلم القطعي في معنيين: أحدهما ما يقطع الاحتمال أصلا كالمحكم والمتواتر، والثاني ما يقطع الاحتمال الناشئ عن الدليل كالظاهر، والنص، والخبر المشهور مثلا فالأول يسمونه علم اليقين، والثاني علم الطمأنينة.
................................................................................................
الثابتة بالتواتر كوجود بغداد مثلا؛ لأنه إنما يثبت بالتركيب الخبري، وإنكار ذلك إن كان مقرونا بمغالطة ودليل مزخرف فهو سفسطة، وهي في الأصل الحكمة المموهة استعملت في إقامة الأدلة على نفي ما علم تحققه بالضرورة وإلا فهو عناد، أي إنكار للضروري، وكلاهما باطل، وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أنه إنكار للمتواترات؛ لأن كون كل خبر ظنيا لا ينافي إفادة المجموع للقطع بواسطة انضمام دليل عقلي إليه، وهو جزم العقل بامتناع اجتماعهم على الكذب.
قوله: "كالمحكم" أي كالعلم الحاصل من المحكم فإنه قد انضمت إليه قرائن قطعية الدلالة على عدم إرادة خلاف الأصل.(1/242)
التقسيم الرابع: في كيفية دلالة اللفظ على المعنى
فهي على الموضوع له أو جزئه أو لازمه المتأخر عبارة إن سيق الكلام له، وإشارة إن لم يسق الكلام له، وعلى لازمه المحتاج إليه اقتضاء، وعلى الحكم في شيء يوجد فيه معنى يفهم لغة أن الحكم
ـــــــ
التقسيم الرابع: في كيفية دلالة اللفظ على المعنى فهي على الموضوع له أو جزئه أو لازمه المتأخر عبارة إن سيق الكلام له، وإشارة إن لم يسق الكلام له، وعلى لازمه المحتاج إليه اقتضاء، وعلى الحكم في شيء يوجد فيه معنى يفهم لغة "أن الحكم في المنطوق لأجله دلالة" اعلم أن مشايخنا رحمهم الله تعالى لما قسموا الدلالات على هذه الأربع وجب أن يحمل كلامهم على الحصر لئلا يفسد تقسيمهم فأقول: الذي فهمت من كلامهم ومن الأمثلة التي
................................................................................................
قوله: "التقسيم الرابع: في كيفية دلالة اللفظ على المعنى" وقد حصروها في عبارة النص، وإشارته، ودلالته، واقتضائه، ووجه ضبطه على ما ذكره القوم أن الحكم المستفاد من النظم إما أن يكون ثابتا بنفس النظم أو لا، والأول إن كان النظم مسوقا له فهو العبارة، وإلا فهو الإشارة، والثاني إن كان الحكم مفهوما منه لغة فهي الدلالة أو شرعا فهو الاقتضاء، وإلا فهو التمسكات الفاسدة، وعلى ما ذكره المصنف أن المعنى الذي يدل عليه النظم إما أن يكون عين الموضوع له أو جزأه أو لازمه(1/242)
في المنطوق لأجله دلالة كقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} سيق لاستحقاق سهم من الغنيمة لهم، وفيه إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب، وكقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} سيق لإيجاب نفقتها على الولد، وفيه إشارة إلى أن النسب إلى الآباء وإلى أن للأب ولاية تملك ماله ; لأنه نسب إليه بلام الملك وإلى
ـــــــ
أوردوها لهذه الدلالات أن عبارة النص دلالته على المعنى المسوق له سواء كان ذلك المعنى عين الموضوع له أو جزأه أو لازمه المتأخر، وإشارة النص دلالته على أحد هذه الثلاثة إن لم يكن مسوقا له، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الحكم الثابت بالعبارة في اصطلاحهم يجب أن يكون ثابتا بالنظم ويكون سوق الكلام له، والحكم الثابت بالإشارة أن يكون ثابتا بالنظم ولا يكون سوق الكلام له، ومرادهم بالنظم اللفظ، وقد قالوا قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] الآية، سيق لإيجاب سهم من الغنيمة للفقراء المهاجرين، وفيه إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب، والمعنى الأول وهو إيجاب سهم من الغنيمة لهم هو المعنى الموضوع له، وقد جعلوه عبارة فيه فيكون المعنى الموضوع له ثابتا بالنظم، والمعنى الثاني، وهو زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب جزء الموضوع له؛ لأن الفقراء هم الذين لا يملكون شيئا فكونهم بحيث لا يملكون شيئا مما خلفوا في دار الحرب جزء لكونهم بحيث لا يملكون شيئا فيكون جزء الموضوع له، فلما سمعوا دلالته على زوال ملكهم عما خلفوا إشارة والإشارة ثابتة بالنظم فيكون جزء الموضوع له ثابتا بالنظم، وأما أن اللازم المتأخر ثابت بالنظم عندهم فلأنهم قالوا: إن قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة:233] سيق لإيجاب نفقة الزوجات على الزوج الذي ولدن لأجله، وهو المعنى الموضوع له فيه إشارة إلى أن الأب منفرد في الإنفاق على الولد إذ لا يشاركه أحد
................................................................................................
المتأخر أو لا يكون كذلك، والأول إما أن يكون سوق الكلام له فيسمى دلالته عليه عبارة أولا فإشارة، والثاني فإن كان المعنى؛ لازما "متقدما للموضوع له فالدلالة اقتضاء، وإلا فإن كان يوجد في ذلك المعنى علة يفهم كل من يعرف اللغة، أي وضع ذلك اللفظ لمعناه أن الحكم في المنطوق لأجلها فدلالة نص، وإلا فلا دلالة له أصلا، والتمسك بمثله فاسد فالأقسام المذكورة صفة الدلالة، ويحصل باعتبارها تقسيم النظم؛ لأنه إما أن يدل بطريق العبارة أو الإشارة أو الاقتضاء أو الدلالة، ولما ذكر المصنف أن تفسير الدلالات على ما ذكره مفهوم من كلام القوم، ومأخوذ من أمثلتهم، ولما كان كلام القوم أن الثابت بالعبارة والإشارة ثابت بنفس النظم لزمه بيان أن كلا من الموضوع له، وجزئه، ولازمه المتأخر ثابت بالنظم فبين ذلك بما ذكره القوم في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] الآية وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة:233].، ولما كان مقتضى كلامه أن كلا من الثابت بالعبارة والإشارة ثلاثة أقسام: نفس الموضوع له، وجزؤه، ولازمه المتأخر، أورد أمثلة أخرى تتميما للمقصود، وتوضيحا له، ولزم تكرر بعض الأمثلة ضرورة أن الإشارة تستلزم العبارة، وأن ثبوت الشيء يستلزم ثبوت أجزائه، ولوازمه.(1/243)
انفراده بالإنفاق على الولد إذ لا يشاركه أحد في هذه النسبة فكذلك في حكمها، وإلى أن أجر الرضاع يستغني عن التقدير وقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} إشارة إلى أن الورثة ينفقون بقدر الإرث ; لأن العلة هي الإرث ; لأن النسبة إلى المشتق توجب علية المأخوذ، وكقوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} فيه إشارة إلى أن الأصل
ـــــــ
في هذه النسبة فكذا في حكمها وهو الإنفاق على الولد، وهذا المعنى لازم خارجي للموضوع له متأخر عنه، ولما جعلوه إشارة إلى هذا المعنى جعلوا اللازم الخارجي المتأخر ثابتا بالنظم.
فالمثال الأول عبارة في الموضوع له إشارة إلى جزئه، والمثال الثاني عبارة في الموضوع له إشارة إلى لازمه، وهو الانفراد بنفقة الأولاد، وأيضا إلى جزئه، وهو أن النسب إلى الآباء إلى آخر ما ذكرنا في المتن. وإذا قالت المرأة لزوجها نكحت علي امرأة فطلقها فقال: إرضاء لها كل امرأة لي فطالق طلقت كلهن قضاء فالمعنى الموضوع له طلاق جميع نسائه، وقد سيق الكلام لجزء الموضوع له، وهو طلاق بعضهن أي غير هذه المرأة فيكون عبارة في جزء الموضوع له وإشارة إلى الموضوع له وهو طلاق الكل وأيضا إلى الجزء الآخر وهو طلاق هذه المرأة وأيضا إلى لازم الموضوع له، وهو لوازم الطلاق كوجوب المهر، والعدة، ونحوهما وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] سيق اللازم
................................................................................................
ثم هاهنا أبحاث: الأول أن كلام المصنف مشعر بأن معنى السوق له هاهنا ما ذكره في النص المقابل للظاهر حتى غير أن المسوق له جاز أن يكون نفس الموضوع له كما صرح به في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] أنه عبارة في اللازم المتأخر، وهو التفرقة بين البيع والربا إشارة إلى الموضوع له، وهو حل البيع، وحرمة الربا وإلى أجزائه كحل بيع الحيوان مثلا، وحرمة بيع النقدين متفاضلة، وإلى لوازمه كانتقال الملك ووجوب التسليم مثلا في البيع وحرمة الانتفاع ووجوب رد الزوائد في الربا، وفي كلام بعض الأصوليين أو معنى المسوق له هاهنا ما يكون مقصودا في الجملة سواء كان مقصودا أصليا كالعدد في آية النكاح أو غير أصلي بأن يقصد باللفظ إفادة هذا المعنى لكن لغرض إتمام معنى آخر كإباحة النكاح فيها، حتى لو انفرد عن القرينة صار مقصودا أصليا بخلاف الغير المسوق له فإنه ما يكون من لوازم المعنى كانعقاد بيع الكلب من قوله عليه السلام: "إن من السحت ثمن الكلب" صرح بذلك أبو اليسر حيث جعل حل البيع وحرمة الربا والتفرقة بينهما كلها ثابتة بعبارة النص من قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275]. الثاني أن الثابت بدلالة النص إذا لم يكن عين الموضوع له ولا جزأه ولا لازمه فدلالة النظم عليه، وثبوته به ممنوعة للقطع بانحصار دلالة اللفظ التي للوضع مدخل فيها في الثلاث، ولا خفاء في(1/244)
فيه هو الإباحة، والتمليك ملحق به لأن الإطعام جعل الغير طاعما لا جعله مالكا وألحق به التمليك دلالة ; لأن المقصود قضاء حوائجهم، وهي كثيرة فأقيم التمليك مقامها، ولا كذلك في الكسوة على أن الإباحة في الطعام تتم المقصود دون إعارة الثوب.
ـــــــ
المتأخر، وهو التفرقة بينهما فيكون عبارة فيه، وإشارة إلى الموضوع له، وإلى أجزائه، وإلى اللوازم الأخر، وإنما قيدنا اللازم بالمتأخر؛ لأنهم سموا دلالة اللفظ على اللازم المتقدم اقتضاء، وإنما جعلوا كذلك؛ لأن دلالة الملزوم على اللازم المتأخر كالعلة على المعلول أقوى من دلالته على اللازم غير المتأخر كالمعلول على العلة فإن الأولى مطردة دون الثانية إذ لا دلالة للمعلول على العلة إلا أن يكون معلولا مساويا؛ ولأن النص المثبت للعلة مثبت للمعلول تبعا لها أما المثبت للمعلول فغير مثبت لعلته التي هي أصل بالنسبة إلى المعلول فيحسن أن يقال: إن المعلول ثابت بعبارة النص المثبت للعلة، ولا يحسن أن يقال: إن العلة ثابتة بعبارة النص المثبت للمعلول فتبين من هذه الأبحاث حدود العبارة، والإشارة، والاقتضاء، وأما حد دلالة النص فهو قوله على الحكم في شيء أي دلالة اللفظ على الحكم في شيء يوجد فيه معنى، يفهم كل من يعرف اللغة أن الحكم في المنطوق لأجل ذلك المعنى يسمى دلالة النص نحو: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] يدل على حرمة
................................................................................................
أن دلالة اللفظ على الثابت بدلالة النص من هذا القبيل، ولهذا اشترط في فهمه العلم بالوضع. الثالث أن الثابت بدلالة النص كثيرا ما يكون مبنيا على علة في معنى النظم لا يفهم كثير من الماهرين في اللغة أن الحكم في المنطوق لأجلها كوجوب الكفارة بالأكل والشرب في الصوم، والحد في اللواطة، وغير ذلك مما لا يحصى فاشتراط فهم كل واحد ممن يعرف اللغة أن الحكم لأجلها مما لا صحة له أصلا. الرابع أن الجزم بأن الدلالة اللفظية إنما اعتبرت بالنسبة إلى كل من هو عالم بالوضع حتى لو لم يفهم البعض لم تتحقق الدلالة فاسد؛ لأن الثابت بإشارة النص قد يكون غامضا بحيث لا يفهمه كثير من الأذكياء العالمين بالوضع كانفراد الأب بالإنفاق، واستغناء أجر الرضاع عن التقدير، ونحو ذلك، ولهذا خفي أقل مدة الحمل على كثير من الصحابة مع سماعهم النص، وعلمهم بالوضع، وتحقيق ذلك أن المعتبر في دلالة الالتزام عند علماء الأصول، والبيان مطلق اللزوم عقليا كان أو غيره بينا كان أو غير بين، ولهذا يجري فيها الوضوح، والخفاء، ومعنى الدلالة عندهم فهم المعنى من اللفظ إذا أطلق بالنسبة إلى العالم بالوضع، وعند المنطقيين متى أطلق، فلهذا اشترطوا اللزوم البين بالنسبة إلى الكل.
قوله: "وإنما جعلوا كذلك" أي إنما جعلوا اللازم المتأخر ثابتا بنفس النظم عبارة أو إشارة،(1/245)
وأما دلالة النص، وتسمى فحوى الخطاب فكقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} يدل على حرمة الضرب ; لأن المعنى المفهوم منه، وهو الأذى موجود في الضرب بل هو أشد كالكفارة وبالوقاع، وجبت عليه نصا، وعليها دلالة وكوجوب الكفارة عندنا في الأكل، والشرب بدلالة نص، ورد في الوقاع ; لأن المعنى الذي يفهممن الوقاع موجبا للكفارة هو كونه جناية على الصوم فإنه الإمساك عن المفطرات الثلاث فيثبت الحكم
ـــــــ
الضرب فالضرب شيء يوجد فيه الأذى، والأذى هو معنى يفهم كل من يعرف اللغة أن الحكم بالحرمة في المنطوق، وهو التأفيف لأجله، ووجه الحصر في هذه الأربع أن المعنى إن كان عين الموضوع له أو جزأه أو لازمه الغير المتقدم عليه فعبارة إن سيق الكلام له وإشارة، إن لم يسق وإن كان لازمه المتقدم فاقتضاء، وإن لم يكن شيء من ذلك، فإن وجد في هذا المعنى علة يفهم كل من يعرف اللغة أن الحكم في المنطوق لأجلها فدلالة نص، وإن لم يوجد فلا دلالة له أصلا. وإنما قلنا يفهم كل من يعرف اللغة؛ لأنه إن لم يفهم أحد، أو يفهم البعض دون البعض فلا دلالة من حيث اللفظ إذ الدلالة اللفظية إنما اعتبرت بالنسبة إلى كل من هو عالم بالوضع، وبهذا القيد خرج القياس فإن المعنى في القياس لا يفهمه كل من يعرف اللغة فإنه لا يفهمه إلا المجتهد هذا هو نهاية أقدام التحقيق والتنقيح في هذا الموضع، ولم يسبقني أحد إلى كشف الغطاء عن وجوه هذه الدلالات، ومن لم يصدقني فعليه بمطالعة كتب المتقدمين، والمتأخرين والله تعالى الموفق.
كقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] سيق لاستحقاق سهم من الغنيمة لهم، وفيه إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب، وكقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة:233]
................................................................................................
واللازم المتقدم غير ثابت بنفس النظم بل بطريق الاقتضاء؛ لأن نسبة الملزوم إلى اللازم المتأخر نسبة العلة إلى المعلول، ونسبته إلى اللازم المتقدم نسبة المعلول إلى العلة نظرا إلى أنه يجب أن يثبت أولا فيصح الكلام فيثبت الملزوم، ودلالة العلة على المعلول مطردة بمعنى أن كل علة تدل على معلولها كالشمس تدل على الضوء والنار على الدخان بخلاف العكس إذ المعلول إنما يدل على علته بشرط مساواته لها كالدخان على النار بخلاف ما إذا كان أعم كالضوء فإنه لا يدل على الشمس لجواز أن يكون حصوله بالنار أو بالقمر، والمطرد لكليته أقوى من غير المطرد فاعتبر، وجعل نفس النظم الدال على الملزوم دالا على اللازم المتأخر، ولم يعتبر غير المطرد فلم يجعل نفس النظم الدال على الملزوم دالا على اللازم المتقدم. وأيضا مثبت العلة مثبت للمعلول لكونه تبعا، ومثبت المعلول ليس بمثبت للعلة لكونها أصلا بل لأن مثبت المعلول قد يكون نفس العلة، وإذا كان كذلك فيحسن أن يقال: المعلوم كاللازم المتأخر ثابت بعبارة النص المثبت للعلة كالملزوم، ولا يحسن أن يقال: العلة كاللازم المتقدم ثابت بعبارة النص المثبت للمعلول كالملزوم.
قوله: " {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} " بدل من قوله لذي القربى، وما عطف عليه في(1/246)
فيهما بل أولى ; لأن الصبر عنهما أشد، والداعية إليهما أكثر فبالأحرى أن يثبت الزاجر فيهما، وكوجوب الحد عندهما في اللواطة بدلالة نص ورد في الزنا فإن المعنى الذي يفهم فيه قضاء الشهوة بسفح الماء في محل محرم مشتهى، وهذا موجود في اللواطة بل زيادة ; لأنها في الحرمة وسفح الماء فوقه وفي الشهوة مثله لكنا
ـــــــ
سيق لإيجاب نفقتها على الولد، وفيه إشارة إلى أن النسب إلى الآباء وإلى أن للأب ولاية تملك ماله؛ لأنه نسب إليه فاللام الملك" فيقتضي كمال اختصاص الولد، واختصاص ماله بأبيه على قدر الإمكان، وتملك الولد غير ممكن لكن تملك ماله ممكن فيثبت هذا. "وإلى انفراده بالإنفاق على الولد إذ لا يشاركه أحد في هذه النسبة فكذلك في حكمها، وإلى أن أجر الرضاع يستغني عن التقدير"؛ لأنه تعالى أوجب على الأب رزق أمهات الأولاد من غير تقدير فإن
................................................................................................
قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7] الآية، وقيل: هو عطف عليه بترك العاطف، وحقيقة الفقر بعدم الملك لا بمجرد الاحتياج وبعد اليد عن المال، ولهذا لا يسمى ابن السبيل فقيرا ففي إطلاق اسم الفقراء عليهم مع كونهم ذوي ديار وأموال بمكة إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب، وأن الكفار يملكون بالاستيلاء بشرط الإحراز فإن قيل: هو استعارة شبهوا بالفقراء لاحتياجهم وانقطاع أطماعهم عن أموالهم بالكلية بقرينة أن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، والمراد السبيل الشرعي لا الحسي، وبقرينة إضافة الديار والأموال إليهم، وهي تفيد الملك؟. أجيب بأن الأصل هو الحقيقة، ومعنى الآية نفي السبيل عن أنفس المؤمنين حتى لا يملكونهم بالاستيلاء لا عن أموالهم، وإضافة الديار والأموال إليهم مجاز باعتبار ما كان؛ لأن في حملها على الحقيقة، وحمل الفقراء على المجاز مصيرا إلى الخلف قبل تعذر الأصل، وهاهنا بحث، وهو أن المعتبر في الحقيقة والمجاز كون المعنى المراد من أفراد الموضوع له وعدم ذلك حالة اعتبار الحكم من الثبوت والانتفاء لا حالة الحكم والتكلم، للقطع بأن قولنا: قتل زيد في السنة الماضية قتيلا مجاز باعتبار ما يئول إليه. وقولنا خلف هذا الرجل أبوه طفلا يتيما حقيقة مع أن القتيل حال التكلم بهذا الكلام قتيل حقيقة والرجل ليس بطفل، ثم المعتبر هو الحكم الذي جعل ذلك اللفظ من متعلقاته للقطع بأن قولنا أكرم الرجل الذي خلفه أبوه طفلا حقيقة، وقوله عليه السلام: "من قتل قتيلا فله سلبه" مجاز مع أن الرجل حال إكرامه ليس بطفل، والقتيل حال استحقاق قاتله سلبه مقتول فعلى هذا إضافة الديار والأموال، أيضا حقيقة؛ لأنها كانت ملكا لهم حال إخراجهم، وإن لم تكن حال استحقاقهم السهم من الغنيمة فإن قلت الثابت بالإشارة هاهنا من أي قسم من الأقسام الثلاثة؟ قلت جعله المصنف من قبيل جزء الموضوع له؛ لأن عدم ملك ما خلفوا في الحرب جزء من معنى الفقر، وهو عدم ملك شيء ما، وفيه نظر؛ لأن الثابت بالإشارة هو زوال ملكهم عما خلفوا، ولا نسلم أنه جزء لعدم ملكهم شيئا ما بل لازم متقدم؛ لأنه يجب أن يزول ملكهم أولا حتى يتحقق الفقر وعدم ملك شيء ما، فظهر أن الثابت بالإشارة لا يجب أن يكون لازما متأخرا.
قوله: "فإن أراد" أي الوالد استئجار الوالدة المطلقة لإرضاع الولد يكون استغناء أجرها عن(1/247)
نقول: الزنا أكمل في سفح الماء والشهوة ; لأن فيه هلاك البشر ; لأن ولد الزنا هالك.
ـــــــ
أراد استئجار الوالدة لإرضاع ولدها يكون ثابتا بالإشارة، وإن أراد استئجار غير الوالدة فثبوته بدلالة النص لا بالإشارة لعدم ثبوته بالمنطوق "وقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] إشارة إلى أن الورثة ينفقون بقدر الإرث؛ لأن العلة هي الإرث؛ لأن النسبة إلى المشتق توجب علية المأخوذ، وكقوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] فيه إشارة إلى أن الأصل فيه هو الإباحة، والتمليك ملحق به"، وعند الشافعي لا يجوز لا بالتمليك كما في الكسوة "لأن الإطعام جعل الغير طاعما لا جعله مالكا وألحق به التمليك دلالة؛ لأن المقصود قضاء حوائجهم، وهي كثيرة فأقيم التمليك مقامها، ولا كذلك في الكسوة" أي لا يكون الأصل في الكسوة الإباحة لأن الكسوة بالكسر الثوب فوجب أن تصير العين كفارة وإذا بتمليك العين لا إعارة لا إذ هي ترد على المنفعة "على أن الإباحة في الطعام تتم المقصود" أي سلمنا أن الكسوة بالكسر مصدر لكن الإباحة في الطعام، وهي أن يأكلوا على ملك المبيح يتم بها المقصود "دون إعارة الثوب"، وهي أن يلبسوا على ملك المبيح فإنه لا يتم بها المقصود فإن للمبيح ولاية الاسترداد في إعارة الثوب، ولا يمكن الرد في الطعام بعد الأكل
................................................................................................
التقدير ثابتا بالإشارة؛ لأن مثل قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ}، إنما يقال: في مجهول القدر والصفة، وإن أراد استئجار غير الوالدة فثبوت استغناء أجرها عن التقدير يكون بدلالة النص لأن جواز الاستغناء عن التقدير مبني على أن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأنهم لا يمنعون في العادة قدر الكفاية من الطعام؛ لأن نفعه يعود إليهم، ولا من الكسوة؛ لأن الولد في حجرها لا بالإشارة إلى النص؛ لأنه ليس بثابت بنفس النظم؛ لأن الضمير في: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} عائد إلى الوالدات.
قوله: "لأن الإطعام جعل الغير طاعما" أي آكلا؛ لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته، والهمزة للتعدية إلى المفعول الثاني، أي جعلته آكلا، وأما نحو: أطعمتك هذا الطعام فإنما كان هبة، وتمليكا بقرينة الحال؛ لأنه لم يجعله طعاما قالوا، والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك، وإلا فللإباحة، هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام، وهو أعم من أن يكون تمليكا أو إباحة، ولا يخفى أن حقيقة جعل الغير طاعما، أي آكلا ليست في وسع العبد.
قوله: "وألحق به" أي بالإطعام التمليك يعني كان ينبغي أن لا يجوز التمليك؛ لأنه ليس بإطعام إلا أنه ألحق بالإطعام بطريق دلالة النص؛ لأن المقصود قضاء حوائج المساكين وهي كثيرة وحقيقة الإطعام لا تكفي إلا قضاء حاجة الأكل فأقيم التمليك مقامها أي مقام حوائج المساكين كلها يعني مقام قضائها إلا أنه إذا جاز دفع بعض الحوائج كلها بطريق الأولى، وإذا كان جواز التمليك ثابتا بدلالة النص لا بنفس النظم لا يلزم في الإطعام الجمع بين الحقيقة وهي الإباحة، والمجاز وهو التمليك.(1/248)
حكما، وفيه إفساد الفراش وأما تضييع الماء فقاصر ; لأنه قد يحل بالعزل، والشهوة فيه من الطرفين فيغلب وجوده والترجيح بالحرمة غير نافع لأن الحرمة المجردة بدون هذه المعاني لا توجب الحد كالبول مثلا، وكوجوب القصاص بالمثقل عندهما بدلالة
ـــــــ
"وأما دلالة النص، وتسمى فحوى الخطاب فكقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] يدل على حرمة الضرب؛ لأن معنى المفهوم منه، وهو الأذى" أي المعنى الذي يفهم منه أن التأفيف حرام لأجله، وهو الأذى "موجود في الضرب بل هو أشد كالكفارة وبالوقاع، وجبت عليه" أي على الزوج "نصا، وعليها" أي على المرأة "دلالة"؛ لأن المعنى الذي يفهم موجبا للكفارة هو الجناية على الصوم، وهي مشتركة بينهما، وكوجوب الكفارة عندنا في الأكل، والشرب بدلالة نص، ورد في الوقاع؛ لأن المعنى الذي يفهم في الوقاع موجبا للكفارة هو كونه جناية على الصوم فإنه
................................................................................................
قوله: "فوجب أن تصير العين كفارة" فإن قلت الكفارة لا تكون عينا؛ لأنها عبادة، وفي الحقيقة اسم للفعلة التي تكفر الخطيئة فلا بد من تقدير الفعل، أي إعطاء الكسوة سواء كان بطريق الإعارة أو التمليك قلت: نعم إلا أن الله تعالى جعل الكفارة بحسب الظاهر نفس الثوب فوجب التقدير على وجه يصير هو كفارة في الجملة، وذلك في تمليكه دون إعارته إذ بالإعارة تصير الكفارة منافع الثوب لا عينه، فإن قلت المذكور في كفارة الإطعام أيضا هو العين؛ لأن قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة:89] بدل من الطعام، والبدل هو المقصود بالنسبة، ولذا جعل صاحب الكشاف: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] عطفا على محل من أوسط لا على "إطعام" فيلزم أن يشترط في الطعام أيضا التمليك قلت يحتمل أن يكون، وصفا لمحذوف، أي طعاما من أوسط على أنه مفعول ثان لإطعام أو نصب بتقدير أعني، ولا حجة مع الاحتمال، فإن قلت البدل راجح لكونه مقصودا بالنسبة ومستغنيا عن التقدير ومشتملا على زيادة البيان والتقدير ومؤديا إلى كون المعطوف عليه اسم عين كالمعطوف. قلت: معارض بأنه إذا جعل بدلا يكثر مخالفة الأصل أعني جعل الكفارة عينا لا معنى، ويصير عطف تحرير رقبة من عطف المعنى على العين، ويفتقر أيضا إلى التقدير، أي إطعام من أوسط ما تطعمون، ويقع لفظ إطعام غير مقصود بالنسبة مع القطع بأن بيان المصرف أعني عشرة مساكين أولى وأهم بالقصد من بيان كون المطعوم: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] إذ ربما يفهم ذلك من الإطلاق بقرينة العرف فجعل ما هو غاية المقصود غير مقصود، وما هو دونه مقصودا خروج عن القانون، ولهذا يجعل ضمير كسوتهم عائدا إلى عشرة مساكين لا إلى أهليكم، وأيضا في العطف اتحاد جهة الإعراب فينبغي أن تكون كسوتهم في موقع البدل من إطعام، ولا خفاء في أنه غلط لا مساغ له في فصيح الكلام إذ لا تحصل الملابسة المصححة لبدل الاشتمال بمجرد إضافتهما إلى شيء واحد كما إذا قلنا: أعجبني ثوب زيد كتابه، ومررت بفرسه حماره.
قوله: "على أن الإباحة" جواب عما يقال: إن المذكور في كثير من كتب التفسير، واللغة أن الكسوة مصدر بمعنى الإلباس لا اسم للثوب، ومن أمثلة الإشارة قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] قالوا فيه إشارة إلى جواز النية بالنهار؛ لأن كلمة ثم للتراخي فإذا ابتدئ(1/249)
قوله عليه السلام: "لا قود إلا بالسيف" فإن المعنى الذي يفهم موجبا للجزاء الكامل عن انتهاك حرمة النفس الضرب بما لا يطيقه البدن، وقال أبو حنيفة رحمه الله المعنى جرح ينقض البنية ظاهرا وباطنا فإنه حينئذ يقع الجناية قصدا على النفس الحيوانية التي بها الحياة
ـــــــ
الإمساك عن المفطرات الثلاث فيثبت الحكم فيهما بل أولى؛ لأن الصبر عنهما أشد، والداعية إليهما أكثر فبالأحرى أن يثبت الزاجر فيهما، وكوجوب الحد عندهما في اللواطة بدلالة نص ورد في الزنا فإن المعنى الذي يفهم فيه قضاء الشهوة بسفح الماء في محل محرم مشتهى، وهذا موجود في اللواطة بل زيادة؛ لأنها في الحرمة وسفح الماء فوقه أي فوق الزنا أما في الحرمة فلأن حرمة اللواطة لا تزول أبدا، وأما في سفح الماء فلأنها تضييع الماء على وجه لا يتخلق منه الولد "وفي الشهوة مثله لكنا نقول: الزنا أكمل في سفح الماء والشهوة؛ لأن فيه هلاك البشر؛ لأن ولد الزنا هالك حكما، وفيه إفساد الفراش" أي فراش الزوج؛ لأنه يجب فيه اللعان، وتثبت الفرقة بسببه، ويشتبه النسب.
................................................................................................
الصوم بعد تبين الفجر حصلت النية بعد مضي جزء من النهار؛ لأن الأصل اقتران النية بالعبادة، وكان موجب ذلك وجوب النية بالنهار إلا أنه جاز بالليل إجماعا عملا بالسنة، وصار أفضل لما فيه من المسارعة والأخذ بالاحتياط قال الشيخ أبو المعين: إن أبا جعفر الخباز السمرقندي هو الذي استدل بالآية على الوجه المذكور لكن للخصم أن يقول أمر الله تعالى بالصيام بعد الانفجار، وهو اسم للركن لا للشرط؟ "و" أيضا ينبغي أن يوجد الإمساك الذي هو الصوم الشرعي عقيب آخر جزء من الليل متصلا ليصير المأمور ممتثلا، ولن يكون الإمساك صوما شرعيا بدون النية فلا بد منها في أول جزء من أجزاء النهار حقيقة بأن تتصل به أو حكما بأن تحصل في الليل، وتجعل باقية إلى الآن.
قوله: "وتسمى فحوى الخطاب" ، أي معناه يقال: فهمت ذلك من فحوى كلامه، أي مما تنسمت من مراده بما تكلم، وقد تسمى لحن الخطاب، ومفهوم الموافقة؛ لأن مدلول اللفظ في حكم المسكوت موافق لمدلوله في حكم المنطوق إثباتا ونفيا، ويقابله مفهوم المخالفة.
قوله: "وكالكفارة" نبه بالمثالين على أن الثابت بدلالة النص قد يكون ضروريا كحرمة الضرب من حرمة التأفيف، وقد يكون نظريا كوجوب الكفارة بالوقاع على المرأة إلا أنه يرد عليه أن الشافعي رحمه الله تعالى مع علو طبقته في اللغة لم يفهم أن الكفارة لأجل الجناية على الصوم بل فهم أنها لأجل إفساد الصوم بالجماع التام، ولهذا لم يجعلها واجبة على المرأة؛ لأن صومها يفسد بمجرد دخول شيء من الحشفة في فرجها فهو لا يسلم أن سبب الكفارة هي الجناية الكاملة المشتركة بينهما بل الجناية بالوقاع التام، وهي مختصة بالرجل، ولهذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن وجوبها على المرأة في الحديث الوارد في قصة الأعرابي فإن قيل: البيان في جانبه بيان في جانبها لاتحاد كفارتهما بخلاف حديث العسيف فإن الحد في جانبه كان الجلد، وفي جانبها كان الرجم؟ أجيب بأنه مبني على تحقق السبب في جانبها، وهو ممنوع.
قوله: "بل أولى" أي ثبوت الكفارة بالجناية على الصوم بالأكل والشرب أولى من ثبوتها(1/250)
فتكون أكمل وكوجوب الكفارة عند الشافعي رحمه الله تعالى في القتل العمد، واليمين الغموس بدلالة نص ورد في الخطأ، والمعقودة لأنه لما أوجب القتل الخطأ الكفارة مع وجود العذر فأولى أن تجب، بدونه، وإذا وجبت الكفارة في المعقودة إذا كذبت
ـــــــ
"وأما تضييع الماء فقاصر" أي ما قال: من تضييع الماء في اللواطة فقاصر في الحرمة "; لأنه قد يحل بالعزل، والشهوة فيه من الطرفين فيغلب وجوده" أي وجود الزنا "والترجيح بالحرمة غير نافع" أي ترجيح اللواطة على الزنا بالحرمة غير نافع في وجوب الحد "لأن الحرمة المجردة بدون هذه المعاني" أي المعاني المخصوصة بالزنا، وهي إهلاك البشر، وإفساد الفراش، واشتباه النسب "لا توجب الحد كالبول مثلا، وكوجوب القصاص بالمثقل عندهما بدلالة قوله عليه السلام: "لا قود إلا بالسيف" يحتمل معنيين أحدهما أن القصاص لا يقام إلا بالسيف الثاني أن لا قود إلا بسبب القتل" بالسيف "فإن المعنى الذي يفهم موجبا" حال من الضمير في يفهم "للجزاء الكامل عن انتهاك حرمة النفس" متعلق بالجزاء، والانتهاك افتعال من النهك، وهو القطع يقال: سيف نهيك أي قاطع، ومعناه قطع الحرمة بما لا يحل، في تاج المصادر: الانتهاك حرمة كسي شكستن "الضرب" خبران "بما لا يطيقه البدن، وقال أبو حنيفة رحمه الله المعنى جرح ينقض البنية ظاهرا وباطنا فإنه حينئذ يقع الجناية قصدا على النفس
................................................................................................
بالجناية عليه بالجماع؛ لأنهما أحوج إلى الزاجر من الجماع لقلة الصبر عنهما، وكثرة الرغبة فيهما لا سيما بالنهار لإلف النفس بهما، وفرط الحاجة إليهما، وفي هذا تحقيق أن وجوب الكفارة ثابت بدلالة النص لا بالقياس حتى يرد عليه أن القياس لا يثبت الحدود، فإن قيل: هذا معارض بوجوه: الأول أن الجناية بالوقاع لتعلقه بالآدمي أشد من الجناية بالأكل لتعلقه بالمال، الثاني أن الجماع محظور الصوم، والأكل نقيضه، والجناية على العبادة بالمحظور فوق الجناية عليها بالنقيض؛ لأن الأولى ترد على العبادة لبقائها عند ورود المحظور عليها لعدم المضادة وإنما تبطل بعد الورود بخلاف الثانية فإن العبادة تنعدم قبل ورود النقيض لامتناع الاجتماع، الثالث أن الوقاع يوجب فساد صومين عند كون المرأة صائمة، ولهذا قال الأعرابي: هلكت، وأهلكت، الرابع أن تناهي غلبة الجوع تبيح الإفطار فوجود بعضها يورث شبهة الإباحة بخلاف تناهي غلبة الشبق.
أجيب عن الأول بأن السبب هو إفساد الصوم لا إتلاف منافع البضع حتى لو زنى عامدا تجب الكفارة لوجود الإفساد، ولو زنى ناسيا لا تجب لعدم الإفساد، وكذا تجب في الأكل لهذا الإفساد لا لإتلاف الطعام حتى لو أكل طعامه عامدا تجب، ولو أكل طعام غيره ناسيا لا تجب، وعن الثاني أن الصوم هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج فالوقاع أيضا نقيضه، وعن الثالث أن فساد صومها بفعلها، ووجوب الكفارة على الرجل إنما هو بإفساد صومه حتى لو واقع غير الصائمة تجب الكفارة، وعن الرابع أن المبيح هو خوف التلف لا تناهي الجوع كيف والصوم إنما شرع لحكمة الجوع نعم تناهي الجوع شرط خوف التلف لكن لا عبرة ببعض العلة فكيف ببعض الشرط مع عدم العلة؟(1/251)
فالأولى أن تجب في الغموس وهي كاذبة في الأصل، لكنا نقول: الكفارة عبادة ليصير ثوابها جبرا لما ارتكب فلهذا تؤدى بالصوم، وفيها معنى العقوبة فإنها جزاء يزجره عن ارتكاب المحظور فيجب أن يكون سببها دائرا بين الحظر والإباحة كقتل الخطأ والمعقودة فإن اليمين مشروعة، والكذب حرام فأما العمد والغموس فكبيرة محضة
ـــــــ
الحيوانية التي بها الحياة فتكون أكمل وكوجوب الكفارة عند الشافعي رحمه الله تعالى في القتل العمد، واليمين الغموس بدلالة نص ورد في الخطأ، والمعقودة" أوجب الشافعي الكفارة في القتل العمد بدلالة نص ورد في الخطأ، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، وأوجب الكفارة في الغموس بدلالة نص ورد في المعقودة، وهو قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89] الآية "لأنه لما أوجب القتل الخطأ الكفارة مع وجود العذر فأولى أن تجب، بدونه، وإذا وجبت الكفارة في المعقودة إذا كذبت فأولى أن تجب في الغموس وهي كاذبة في الأصل، لكنا نقول: الكفارة عبادة ليصير ثوابها جبرا لما ارتكب فلهذا تؤدى بالصوم، وفيها معنى العقوبة فإنها جزاء يزجره عن ارتكاب المحظور فيجب أن يكون سببها دائرا بين الحظر والإباحة كقتل الخطأ والمعقودة فإن اليمين مشروعة، والكذب حرام فأما العمد والغموس فكبيرة محضة، وهي لا تلائم العبادة،
................................................................................................
قوله: "فإن المعنى الذي يفهم فيه" أي في ذلك النص الوارد في الزنا أن وجوب الحد بسببه موجود في اللواطة حتى كان تبدل الاسم بينهما ليس إلا باعتبار تبدل المحل كالسارق، والطرار، وماعز، وغيره فوجوب الحد في اللواطة يكون بالدلالة لا بالقياس، وللخصم أن يمنع فهم كل من يعرف اللغة أن ذلك المعنى هو السبب لوجوب الحد كيف، وقد خفي على كثير من المجتهدين العارفين باللغة.
قوله: "لكنا نقول" حاصل الجواب أنا لا نسلم أن المعنى الموجب للحد هو مجرد قضاء الشهوة بسفح الماء في محل محرم مشتهى بل هو مع هلاك البشر، وإفساد الفراش، واشتباه النسب.
قوله: "لأن ولد الزنا هالك حكما"؛ لأنه لا تجب تربيته على الزاني لعدم ثبوت النسب منه، ولا على المرأة لعجزها عن الكسب والإنفاق عليه فيهلك، ولهذا لا يجوز الإقدام على الزنا بالإكراه ولو بالقتل كما لا يجوز الإقدام على القتل به فإن قيل: الحد واجب بزنا الخصي، والزنا بالعجوز، والعقيم التي لا زوج لها مع أنه لا يتحقق هلاك البشر وإفساد الفراش؟ قلنا المراد تحقق ذلك في جنس الزنا.
قوله: "والشهوة فيه" أي في الزنا من الطرفين لميلان طبعهما إليه بخلاف اللواطة فإن الشهوة فيها من جانب الفاعل فقط، والمفعول يمتنع عنها بطبعه على ما هو أصل الجبلة السليمة فيكون الزنا أغلب وجودا، وأسرع حصولا فيكون إلى الزاجر أحوج، وهذا بيان كون الزنا أكمل في الشهوة من اللواطة، وأيضا محل اللواطة وإن شارك محل الزنا في اللين، والحرارة إلا أن فيه ما يوجب النفرة، وهو استقذاره فتكون شهوة الطباع السليمة فيها أقل.(1/252)
وهي لا تلائم العبادة، وهي تمحو الصغائر لا الكبائر، وقال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فإن قيل: ينبغي أن لا تجب في القتل بالمثقل ; لأنه حرام محض قلنا فيه شبهة الخطأ وهي مما يحتاط في إثباته فتجب بشبهة السبب فإن قيل ينبغي أن
ـــــــ
وهي تمحو الصغائر لا الكبائر، وقال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فإن قيل: ينبغي أن لا تجب في القتل بالمثقل؛ لأنه حرام محض" هذا إشكال على قوله فيجب أن يكون سببها دائرا بين الحظر والإباحة فإن القتل بالمثقل حرام محض فيجب أن لا تجب فيه الكفارة "قلنا فيه شبهة الخطأ" أي في القتل بالمثقل شبهة الخطأ فإنه ليس بآلة القتل "وهي" أي الكفارة "مما يحتاط في إثباته فتجب بشبهة السبب"، والسبب القتل الخطأ "فإن قيل ينبغي أن تجب فيما إذا قتل مستأمنا عمدا فإن الشبهة قائمة" هذا إشكال على قوله فيه شبهة الخطأ فإن قتل المستأمن فيه شبهة الخطأ بسبب المحل فإن المستأمن كافر حربي فظنه محلا يباح قتله كما إذا قتل مسلما ظنه صيدا أو حربيا، وإذا كان فيه شبهة الخطأ ينبغي أن تجب فيه الكفارة كما في القتل بالمثقل تجب الكفارة لشبهة الخطأ
....................................................................................................
قوله: "والترجيح بالحرمة غير نافع" ادعى الخصم أن اللواطة فوق الزنا في الحرمة وسفح الماء، ومثله في الشهوة فرده ببيان زيادة الزنا في الشهوة وسفح الماء، ولم يمكنه بيان زيادته في الحرمة ضرورة أن حرمة اللواطة مما لا تزول أبدا. فأجاب بأن زيادة اللواطة عن الزنا في الحرمة غير نافع في إيجاب الحد؛ لأن زيادة بعض أجزاء علة الحكم في شيء مع نقصان البعض كالشهوة وسفح الماء، وانتفاء البعض كهلاك البشر، وإفساد الفراش، واشتباه النسب لا يوجب ثبوت الحكم فيه كشرب البول فإنه فوق الخمر في الحرمة؛ لأن حرمته لا تزول أبدا، وحرمة الخمر تزول بالتخليل مع أنه لا يجب به الحد.
قوله: "لا قود إلا بالسيف" يحتمل معنيين" فعلى المعنى الثاني وهو أن لا قصاص إلا بسبب القتل بالسيف يثبت القصاص بالقتل بالمثقل بطريق الدلالة؛ لأن المعنى الموجب للقصاص هو الضرب بما لا يطيقه البدن سواء كان بالجارح أو غيره بل الضرب بالمثقل أبلغ في ذلك؛ لأنه يزهق الروح بنفسه، والجرح بواسطة السراية، ولا يخفى أن كون الموجب هو هذا المعنى مما لا يفهمه كل من يعرف اللغة، ولهذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى أن المعنى الموجب هو الجرح الذي ينقض البنية الإنسانية ظاهرا، أي بالجرح، وتخريب الجثة، وباطنا أي بإزهاق الروح، وإفساد الطبائع الأربع فإنه حينئذ، أي عند نقض البنية ظاهرا وباطنا تقع الجناية قصدا على النفس الحيوانية التي هي البخار اللطيف الذي يتكون من ألطف أجزاء الأغذية، ويكون سببا للحس والحركة، وقواما للحياة، وهي صفة تقتضي الحس والحركة، واحترز بهذا عن النفس الإنسانية التي لا تفنى بخراب البدن فتكون تلك الجناية أكمل من الجناية بدون القصد كالقتل الخطأ أو بنقض البنية ظاهرا فقط كالجرح بدون السراية أو باطنا فقط كالقتل بالمثقل، وإذا كانت الجناية أكمل يترتب عليها الجزاء الأكمل، ويختص بها ليقع كمال الجزاء في مقابلة كمال الجناية.(1/253)
تجب فيما إذا قتل مستأمنا عمدا فإن الشبهة قائمة قلنا الشبهة في محل الفعل فاعتبرت في القود فإنه مقابل بالمحل من وجه لقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
ـــــــ
"قلنا الشبهة في محل الفعل فاعتبرت في القود فإنه مقابل بالمحل من وجه لقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فأما الفعل فعمد خالص والكفارة جزاء الفعل، وفي المثقل الشبهة في الفعل فأوجبت الكفارة وأسقطت القصاص فإنه جزاء الفعل أيضا من وجه" يعني شبهة الخطأ في قتل المستأمن إنما هي في محل الفعل لا في الفعل فإن قتل المستأمن من حيث الفعل عمد محض فاعتبرت الشبهة فيما هو جزاء المحل، والقصاص جزاء المحل من وجه فاعتبرت الشبهة فيه حتى لا يجب القصاص بقتل المستأمن، ولم تعتبر هذه الشبهة فيما هو جزاء الفعل من كل الوجوه، وهو الكفارة فلم تجب الكفارة في قتل المستأمن أما القتل بالمثقل فإن شبهة الخطأ فيه من حيث الفعل فاعتبرت فيما هو جزاء الفعل من كل الوجوه، وهو الكفارة حتى وجبت الكفارة فيه، وكذا اعتبرت فيما هو جزاء الفعل من وجه وهو القصاص حتى لم يجب القصاص فيه، وينبغي أن يعلم أن الشبهة مما تثبت الكفارة وتسقط القصاص، وإنما قلنا: إن القصاص من وجه جزاء المحل، ومن وجه آخر جزاء الفعل أما الأول فلقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وكونه حقا لأولياء المقتول يدل
................................................................................................
قوله: "فيجب أن يكون سببها" أي سبب الكفارة دائرا بين الحظر والإباحة لتضاف العقوبة إلى الحظر، والعبادة إلى الإباحة فيقع الأثر على وفق المؤثر ففي القتل الخطأ معنى الإباحة من جهة الرمي إلى صيد أو كافر، ومعنى الحظر من جهة ترك التشبث، وإصابة الإنسان المعصوم، وفي اليمين المعقودة معنى الإباحة من جهة أنها عقد مشروع لفصل الخصومات، وفيها تعظيم اسم الله تعالى، ومعنى الحظر من جهة الحنث والكذب، والدائر بين الحظر والإباحة يكون صغيرة فتمحوها العبادة التي هي الكفارة لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] بخلاف العمد، والغموس فإن كلا منهما كبيرة محضة فلا تمحوها العبادة لقوله عليه السلام: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" 1 فإن المراد لما بينهن هو الصغائر بقرينة إذا اجتنبت الكبائر فإن قيل: الكتاب عام فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد. قلنا: قد خص منه البعض كالشرك بالله بدليل قطعي هو الكتاب، والإجماع فيجوز تخصيصه بخبر الواحد فإن قيل: فينبغي أن لا تجب الكفارة بالزنا وشرب الخمر في نهار رمضان قلنا إنما، وجبت بالإفطار والجناية على الصوم، وفيه جهة الإباحة من حيث إنه تناول شيء يقضي به الشهوة.
قوله: "فإن قيل:" حاصل السؤال الأول أن القتل بالمثقل حرام محض فكيف وجبت به الكفارة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وحاصل جوابه أن فيه شبهة الخطأ من جهة أن المثقل ليس آلة للقتل خلقة بل للتأديب، وفي التأديب جهة من الإباحة، والشبهة تكفي لإثبات العبادات كما تكفي لدرء العقوبات، وحاصل السؤال الثاني المطالبة بالفرق بين قتل المعصوم بالمثقل، وقتل المستأمن
ـــــــ
1 رواه أحمد في مسنده "2/414،484.(1/254)
فأما الفعل فعمد خالص والكفارة جزاء الفعل، وفي المثقل الشبهة في الفعل فأوجبت الكفارة وأسقطت القصاص فإنه جزاء الفعل أيضا من وجه، والثابت بدلالة النص كالثابت بالعبارة والإشارة إلا عند التعارض، وهو فوق القياس ; لأن المعنى في القياس مدرك رأيا لا لغة بخلاف الدلالة فيثبت بها ما يندرئ بالشبهات ولا يثبت ذا بالقياس،
ـــــــ
على هذا. وأما الثاني فلأنه شرع ليكون زاجرا عن هدم بنيان الرب، والزواجر كالحدود، والكفارات إنما هي أجزية الأفعال، ووجوب القصاص على الجماعة بالواحد يدل على كونه جزاء الفعل "والثابت بدلالة النص كالثابت بالعبارة والإشارة إلا عند التعارض، وهو فوق القياس؛ لأن المعنى في القياس مدرك رأيا لا لغة بخلاف الدلالة فيثبت بها ما يندرئ بالشبهات ولا يثبت ذا بالقياس" أي ما يندرئ بالشبهات كالحدود، والقصاص لا يثبت
................................................................................................
بالسيف حيث وجبت الكفارة بالأول دون الثاني مع عدم القصاص فيهما لمكان الشبهة، وحاصل الجواب أن الشبهة إنما تؤثر في إثبات الشيء أو إسقاطه إذا تمكنت فيما يقابل ذلك الشيء، والقصاص مقابل للفعل من جهة، وللمحل من جهة فيسقط بالشبهة في الفعل كما في القتل بالمثقل؛ لأن الشبهة في الآلة الموضوعة لتتميم القدرة الناقصة فتدخل في فعل العبد، وتصير الشبهة فيها شبهة في الفعل، وبالشبهة في المحل كما في قتل المستأمن فإن دمه لا يماثل دم المسلم في العصمة؛ لأنه حربي متمكن من الرجوع إلى دار الحرب فكأنه فيها، والكفارة تقابل الفعل من كل وجه؛ لأن الزواجر أجزئة الأفعال فتثبت بالشبهة في الفعل كما في القتل بالمثقل لا في المحل كما في قتل المستأمن.
قوله: "والثابت بدلالة النص" اعلم أن الثابت بالعبارة والإشارة سواء في الثبوت بالنظم وفي القطعية أيضا عند الأكثر إلا أنه عند التعارض تقدم العبارة على الإشارة لمكان القصد بالسوق كقوله عليه السلام في النساء: "إنهن ناقصات عقل ودين" الحديث سيق لبيان نقصان دينهن، وفيه إشارة إلى أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما، وهو معارض بما روي أنه عليه السلام قال: "أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام"، وهو عبارة فترجع فإن قيل: لا معارضة؛ لأن المراد بالشطر البعض لا النصف على السواء، ولو سلم فأكثر أعمار الأمة ستون ربعها أيام الصبا، وربعها أيام الحيض في الأغلب فاستوى النصفان في الصوم والصلاة، وتركهما. أجيب بأن الشطر حقيقة في النصف، وأكثر أعمار الأمة ما بين الستين إلى السبعين على ما ورد في الحديث، وترك الصوم والصلاة مدة الصبا مشترك بين الرجال والنساء فلا يصلح سببا لنقصان دينهن، ثم الثابت بالدلالة مثل الثابت بالعبارة والإشارة في كونه قطعيا مستندا إلى النظم لاستناده إلى المعنى المفهوم من النظم لغة، ولهذا سميت دلالة النص فيقدم على خبر الواحد والقياس، وأما قبول التخصيص فلا مماثلة؛ لأن الثابت بالدلالة لا يقبله، وكذا الثابت بالإشارة عند البعض، والأصح أنه يقبله صح بذلك عند الإمام السرخسي.
قوله: "إلا عند التعارض" فإن الثابت بالعبارة أو الإشارة يقدم على الثابت بالدلالة؛ لأن فيهما النظم والمعنى اللغوي، وفي الدلالة المعنى فقط فيبقى النظم سالما عن المعارض. مثاله: ثبوت(1/255)
وأما المقتضي فنحو أعتق عبدك عني بألف يقتضي البيع ضرورة صحة العتق فيثبت بقدر الضرورة، ولا يكون كالملفوظ حتى لا تثبت شروطه فقال أبو يوسف رحمه الله لو قال: أعتق عبدك عني بغير شيء أنه يصح عن الآمر وتستغني الهبة عن القبض وهو شرط كما يستغني البيع ثمة عن القبول وهو ركن قلنا يسقط ما يحتمل
ـــــــ
بالقياس قال عليه السلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، واعلم أن في بعض المسائل المذكورة في المتن كلاما في أنها ثابتة بدلالة النص، أم بالقياس فعليك بالتأمل فيها
................................................................................................
الكفارة في القتل العمد بدلالة النص الوارد في الخطأ فيعارضه قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] حيث جعل كل جزائه جهنم، فيكون إشارة إلى نفي الكفارة فرجحت على دلالة النص فإن قيل: المراد جزاء الآخرة، وإلا لكان فيه إشارة إلى نفي القصاص، قلنا: القصاص جزاء المحل من وجه والجزاء المضاف إلى الفاعل هو جزاء فعله من كل وجه، ولو سلم فالقصاص يجب بعبارة النص الوارد فيه.
قوله: "وهو" أي الثابت بدلالة النص فوق الثابت بالقياس؛ لأن المعنى الذي يفهم أن الحكم في المنطوق لأجله يدرك في القياس بالرأي والاجتهاد وفي دلالة النص باللغة الموضوعة لإفادة المعاني فيصير بمنزلة الثابت بالنظم، وفي التعليل إشارة إلى أنه لا يقدم على القياس المنصوص العلة، وإلى أن دلالة النص مغايرة للقياس الشرعي، وقد يستدل على ذلك بوجوه. الأول: أن الأصل في القياس الشرعي أن لا يكون جزءا من الفرع إجماعا، وهاهنا قد يكون كما لو قال لعبده لا تعط زيدا ذرة فإنه يدل على منع إعطاء ما فوق الذرة مع أن الذرة جزء منه فإن قيل: المنصوص عليه هو الذرة بقيد الوحدة والانفراد، وهي غير داخلة فيما فوقها بصفة الاجتماع قلنا: لو سلم فمثله ممتنع في القياس بالإجماع، الثاني: أن دلالة النص ثابتة قبل شرعية القياس فإن كل أحد يفهم من: لا تقل له أف لا تضربه ولا تشتمه سواء علم شرعية القياس أو لا، وسواء شرع القياس أو لا، الثالث: أن النافين للقياس قائلون بذلك، وقيل: هو قياس لما فيه من إلحاق فرع بأصله بعلة جامعة بينهما فإن المنصوص عليه حرمة التأفيف فألحق به الضرب والشتم بجامع الأذى إلا أنه قياس جلي قطعي، وهذا النزاع لفظي.
قوله: "فيثبت" تفريع على كون المعنى في الدلالة مدركا باللغة فإن حكمها حينئذ يستند إلى النظم، وتنتفي عنه الشبهة المانعة عن ثبوت الحد والقصاص، وهي اختلال المعنى الذي يتعلق به الحكم لا الشبهة الواقعة في طريق الثبوت للإجماع على أنها تثبت بخبر الواحد مثال ذلك إثبات الرجم بدلالة نص ورد في ماعز للقطع بأنه إنما رجم بالزنا في حالة الإحصان.
قوله: "ولا يثبت ذا" أي ما يندرئ بالشبهات بالقياس الذي معناه مدرك بالرأي دون اللغة لما فيه من الشبهة الدارئة للحدود بخلاف ما إذا كانت العلة منصوصة فإنه حينئذ بمنزلة النص.
قوله: "واعلم أن في بعض المسائل" يعني أنه تابع القوم في إيراد الأمثلة المذكورة لدلالة(1/256)
السقوط والقبول مما يحتمله كما في التعاطي لا القبض، ولا عموم للمقتضى لأنه ثابت ضرورة فيتقدر بقدرها، ولما لم يعم لم يقبل التخصيص في قوله، والله لا آكل ; لأن طعاما ثابت اقتضاء، وأيضا لا تخصيص إلا في اللفظ فإن قيل يقدر أكلا، وهو مصدر ثابت لغة فيصير كقوله لا آكل أكلا قلنا المصدر الثابت لغة هو الدال على
ـــــــ
"وأما المقتضي فنحو أعتق عبدك عني بألف يقتضي البيع ضرورة صحة العتق" فصار كأنه قال بع عبدك عني بألف وكن وكيلي في الإعتاق. "فيثبت" أي البيع "بقدر الضرورة، ولا يكون كالملفوظ حتى لا يثبت شروطه" أي لا يجب أن يثبت جميع شروطه بل يثبت من الأركان والشروط ما لا يحتمل السقوط أصلا لكن ما يحتمل السقوط في الجملة لا يثبت "فقال أبو يوسف" رحمه الله تعالى هذا تفريع لما مر أنه لا يثبت شروطه "لو قال: أعتق عبدك عني بغير شيء أنه يصح عن الآمر وتستغني الهبة عن القبض وهو شرط كما يستغني البيع ثمة عن القبول وهو ركن قلنا يسقط ما يحتمل السقوط والقبول مما يحتمله" أي
................................................................................................
النص، وفي بعضها نظر كوجوب الحد باللواطة، والقصاص بالقتل بالمثقل؛ لأن المعنى الموجب ليس مما يفهم لغة بل رأيا فهو من قبيل القياس إلا أن القياس لما لم يكن مثبتا للحد والقصاص، ادعوا فيه دلالة النص.
قوله: "وأما المقتضي" بالكسر على لفظ اسم الفاعل فنحو أعتق عبدك عني بألف، ومقتضاه هو البيع؛ لأن إعتاق الرجل عبده بوكالة الغير ونيابته يتوقف على جعله ملكا له، وسبب الملك هاهنا هو البيع بقرينة قوله عني بألف فيكون البيع لازما متقدما لمعنى الكلام، والاقتضاء هو دلالة هذا الكلام على البيع، وكان الأنسب بما سبق أن يقول، وأما الاقتضاء فكما في هذا المثال، والمراد باللزوم هاهنا ما هو أعم من الشرعي والعقلي البين وغير البين، ويقرب من ذلك ما قيل: إن الاقتضاء هو دلالة اللفظ على معنى خارج يتوقف عليه صدقه أو صحته الشرعية أو العقلية، وقد يقيد بالشرعية احترازا عن المحذوف مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، ولهذا قيل: المقتضي زيادة ثبت شرطا لصحة المنصوص عليه شرعا فقوله شرطا حال من المستكن في ثبت، وبهذا الاعتبار جاز تذكيره مع كونه عائدا إلى الزيادة، والشرط يتقدم على المشروط لا محالة ففهم منه أن المقتضي لازم متقدم، وقد صرح بذلك الإمام السرخسي رحمه الله تعالى حيث قال: المقتضي زيادة على المنصوص يشترط تقديمه ليصير المنصوص مفيدا أو موجبا للحكم.
قوله: "فصار كأنه قال: بع عبدك عني بألف، وكن وكيلا في الإعتاق" قيل: هذا التقدير ليس بمستقيم؛ لأنه يحتاج إلى القبول، ورد بالمنع، وإنما يحتاج إليه إذا كان الملفوظ هو هذا المقدر، وكأنه إنما اختار هذا التقدير ليتحقق في هذا البيع عدم القبول بخلاف ما ذكره الإمام البرغري من أن الآمر كأنه قال: اشتريته منك فأعتقه عني بألف، والمأمور حين قال: أعتقه فكأنه قال: بعته منك فأعتقته عنك فإنه يشتمل على الإيجاب والقبول، نعم هذا التقدير أحسن من جهة أنه جعل عني متعلقا(1/257)
الماهية لا على الأفراد بخلاف قوله لا آكل أكلا، فإن أكلا نكرة في موضع النفي، وهي عامة فيجوز تخصيصها بالنية فإن قيل: إذا لم يكن لا آكل عاما ينبغي أن لا يحنث بكل أكل؟ قلنا إنما يحنث ; لأنه مندرج تحت ماهية الأكل فإن قوله لا آكل معناه لا يوجد منه ماهية الأكل لا لأن اللفظ يدل على جميع الأفراد فإن قيل: إن قال: لا أساكن فلانا، ونوى في بيت واحد تصح نيته، والبيت ثابت
ـــــــ
القبول باللسان في البيع مما يحتمل السقوط "كما في التعاطي لا القبض" أي في الهبة "ولا عموم للمقتضى" أي إذا كان المعنى المقتضى معنى تحته أفراد لا يجب أن يثبت جميع أفراده "لأنه ثابت ضرورة فيتقدر بقدرها، ولما لم يعم لم يقبل التخصيص في قوله، والله لا آكل؛ لأن طعاما ثابت اقتضاء، وأيضا لا تخصيص إلا في اللفظ فإن قيل يقدر أكلا، وهو مصدر ثابت لغة"، ودلالة الفعل على المصدر بطريق المنطوق؛ لأنها دلالة تضمينية، فالثابت لغة على قسمين: حقيقي منطوق كالمصدر، ومجازي محذوف نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] فيصير كقوله لا آكل أكلا، ونية التخصيص في لا آكل أكلا صحيحة بالاتفاق
................................................................................................
بأعتقه على معنى أعتقه نائبا عني أو وكيلا لأصله للبيع على ما توهمه المصنف إذ لا يقال: بعته عنك بل منك، والتحقيق أن عني حال من الفاعل، وبألف متعلق بأعتق على تضمينه معنى البيع كأنه قال: أعتقه عني مبيعا مني بألف.
قوله: "فيثبت البيع بقدر الضرورة" أي مع أركانه وشرائطه الضرورية التي لا تسقط بحال فلا يشترط القبول، ولا يثبت خيار الرؤية والعيب، نعم يعتبر في الآمر أهلية الإعتاق حتى لو كان صبيا عاقلا قد أذن له الولي في التصرفات لم يثبت منه البيع بهذا الكلام.
قوله: "لا القبض" أي لا يحتمل القبض في الهبة السقوط بحال إذ لا توجد هبة توجب الملك بدون القبض ففي الصورة المذكورة يقع العتق عن المأمور دون الآمر، وإنما قيد بالقبض في الهبة؛ لأن القبض في البيع الفاسد وإن كان شرطا لكنه يحتمل السقوط حتى يقع العتق عن الآمر فيما إذا قال: أعتقه عني بألف دينار ورطل من الخمر؛ لأن القبض ليس بشرط أصلي في البيع الفاسد بدليل أن الصحيح يعمل بدونه، والفاسد ملحق به لا أصل بنفسه فيحتمل السقوط نظرا إلى أصله بخلاف الهبة فإن القبض فيها شرط أصلي لا تعمل هي إلا به، ولأن الفاسد لضعفه احتاج إلى القبض ليتقوى به، وقد حصل التقوي بثبوته في ضمن العتق.
قوله: "ولا عموم للمقتضى" على لفظ اسم المفعول، أي اللازم المتقدم الذي اقتضاه الكلام تصحيحا له إذا كان تحته أفراد لا يجب إثبات جميعها؛ لأن الضرورة ترتفع بإثبات فرد فلا دلالة على إثبات ما وراءه فيبقى على عدمه الأصلي بمنزلة السكوت عنه، ولأن العموم من عوارض اللفظ، والمقتضى معنى لا لفظ، وقد ينسب القول بعموم المقتضى إلى الشافعي رحمه الله تعالى، وتحقيق ذلك: أن المقتضى لفظ اسم الفاعل عنده ما يتوقف صدقه أو صحته عقلا أو شرعا أو لغة على تقدير، وهو المقتضى اسم مفعول فإذا وجد تقديرات متعددة يستقيم الكلام بكل واحد منها فلا عموم له(1/258)
اقتضاء قلنا: إنما تصح نيته ; لأن المساكنة نوعان: قاصرة، وهي أن يكونا في دار واحدة وكاملة، وهي هذه فنوى الكامل، ولذلك قلنا في أنت طالق، وطلقتك، ونوى الثلاث إن نيته باطلة ; لأن المصدر الذي يثبت من المتكلم إنشاء أمر شرعي لا لغوي فيكون ثابتا اقتضاء بخلاف طلقي نفسك فإنه يصح نية الثلاث ; لأن معناه افعلي فعل الطلاق
ـــــــ
"قلنا المصدر الثابت لغة هو الدال على الماهية لا على الأفراد بخلاف قوله لا آكل أكلا، فإن أكلا نكرة في موضع النفي، وهي عامة فيجوز تخصيصها بالنية فإن قيل: إذا لم يكن لا آكل عاما ينبغي أن لا يحنث بكل أكل؟ قلنا إنما يحنث؛ لأنه مندرج تحت ماهية الأكل فإن قوله لا آكل معناه لا يوجد منه ماهية الأكل" وعدم وجود ماهية الأكل موقوف على أن لا يوجد منه فرد من أفراد الأكل أصلا للدلالة على هذا المعنى بطريق الاقتضاء لا لأن اللفظ يدل على جميع الأفراد "أي بطريق المنطوق" فإن قيل: إن قال: لا أساكن فلانا، ونوى في بيت واحد تصح نيته، والبيت ثابت اقتضاء قلنا: إنما تصح نيته؛ لأن المساكنة نوعان: قاصرة، وهي أن يكونا في دار واحدة وكاملة، "وهي هذه" أي المساكنة الكاملة هي التي يسكنان في بيت واحد فنية البيت الواحد لا تكون من باب عموم المقتضى بل من باب نية أحد محتملي اللفظ المشترك أو نية
................................................................................................
عنده أيضا بمعنى أنه لا يصح تقدير الجميع بل يقدر واحد بدليل فإن لم يوجد دليل معين لأحدها كان بمنزلة المجمل. ثم إذا تعين بدليل فهو كالمذكور؛ لأن الملفوظ والمقدر سواء في إفادة المعنى فإن كان من صيغ العموم فعام، وإلا فلا، فعلى هذا يكون العموم من صفة اللفظ، ويكون إثباته ضروريا؛ لأن مدلول اللفظ لا ينفك عنه، وبينوا الخلاف فيما إذا قال: والله لا آكل أو إن أكلت فعبدي حر فعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز نية طعام دون طعام تخصيصا للعام أعني النكرة الواقعة في سياق النفي أو الشرط؛ لأن المعنى لا آكل طعاما، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز؛ لأنه ليس بعام فلا يقبل التخصيص، ولا خلاف في شمول الحكم وشيوعه لكل طعام بل الشيوع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أوكد؛ لأنه لا ينقض أصلا لكنه مبني على وجود المحلوف عليه في كل صورة لا على عموم المقتضى، وكون المثال المذكور من قبيل المقتضى ظاهر على تفسير المصنف، وأما على تفسير من اعتبر التوقف عليه شرعا فوجهه أن الصحة الشرعية موقوفة على الصحة العقلية، وهي على المقتضى فتكون صحة الحلف على الأكل شرعا موقوفة على اعتبار المأكول.
قوله: "فإن قيل:" تقرير السؤال سلمنا أنه لا يصح نية طعام دون طعام بناء على أن المقتضى لا عموم له لكن لم لا يجوز أن ينوي أكلا دون أكل على أن يكون العموم في الأكلات فإن دلالة الفعل على المصدر ليست بطريق الاقتضاء بل بحسب اللغة فيعم لكونه نكرة في سياق النفي بمنزلة ما إذا صرح به نحو لا آكل أكلا فإنه يصدق في نية أكل دون أكل؟ وتقرير الجواب أن المصدر الثابت لغة، أي في ضمن الفعل، وهو الذي يتوقف عليه الفعل توقف الكل على الجزء هو الدال على نفس الماهية دون الإفراد إذ لا دلالة في الفعل على الفرد بل على مجرد الماهية مع مقارنة الزمان فلا يكون عاملا فلا يقبل التخصيص بخلاف المصدر في نحو: لا آكل أكلا فإنه عام اتفاقا، وفيه(1/259)
فثبوت المصدر في المستقبل بطريق اللغة فيكون كالملفوظ كسائر أسماء الأجناس على ما يأتي فإن قيل: ثبوت البينونة في أنت بائن أمر شرعي أيضا فينبغي أن لا يصح فيه نية الثلاث قلنا نعم لكن البينونة على نوعين فتصح نية أحدهما، ولا كذلك الطلاق فإنه لا اختلاف فيه إلا بالعدد ومما يتصل بذلك المحذوف وهو ما يغير إثباته
ـــــــ
أحد نوعي الجنس، وسيأتي تمامه في هذا الفصل، وقد غيرت هنا عبارة المتن بالتقديم، والتأخير هكذا "فنوى الكامل، ولذلك قلنا في أنت طالق، وطلقتك، ونوى الثلاث إن نيته باطلة؛ لأن المصدر الذي يثبت من المتكلم إنشاء أمر شرعي لا لغوي فيكون ثابتا اقتضاء بخلاف طلقي نفسك فإنه يصح نية الثلاث؛ لأن معناه افعلي فعل الطلاق فثبوت مصدر في المستقبل بطريق اللغة فيكون كالملفوظ كسائر أسماء الأجناس على ما يأتي فإن قيل: ثبوت البينونة في أنت بائن أمر شرعي أيضا فينبغي أن لا يصح فيه نية الثلاث قلنا نعم لكن البينونة على نوعين
................................................................................................
نظر؛ لأن المصدر هاهنا للتأكيد، والتأكيد تقوية مدلول الأول من غير زيادة فهو، أيضا لا يدل إلا على الماهية، ولهذا صرحوا بأنه لا يثنى ولا يجمع بخلاف ما يكون للنوع أو للمرأة، وأيضا ذكر في الجامع أنه لو قال: إن خرجت فعبدي حر، ونوى السفر خاصة صدق ديانة، ووجه بأن ذكر الفعل ذكر للمصدر، وهو نكرة في موضع النفي فيعم فيقبل التخصيص.
قوله: "فالدلالة" أي دلالة لا آكل على أنه لا يوجد منه فرد من أفراد الأكل بطريق الاقتضاء؛ لأنه ثبت ضرورة تصحيح نفي ماهية الأكل إذ لو وجد فرد من الأفراد ثبتت الماهية في ضمنه، وفيه نظر؛ لأن عموم النكرة المنفية أيضا ليس باعتبار دلالة اللفظ على جميع الأفراد بطريق المنطوق بل باعتبار أن نفي فرد مبهم يقتضي نفي جميع الأفراد ضرورة.
قوله: "فإن قيل:" تقرير السؤال أن دلالة المساكنة على المكان اقتضاء، وقد صحت نية بيت واحد، وهذا تخصيص يقتضي سابقية العموم فللمقتضى عموم، وتقرير الجواب أنا لا نسلم أنه تخصيص بل إرادة لأحد مفهومي المشترك أو أحد نوعي الجنس بقرينة كونه الكامل المفهوم من الإطلاق، وذلك؛ لأن المساكنة مفاعلة من السكنى، وهي المكث في المكان على سبيل الاستقرار والدوام فهي فعل يقوم بهما بأن يتصل فعل كل منهما بفعل صاحبه، وذلك في البيت يكون بصفة الكمال، وفي الدار إنما يكون الاتصال في توابع السكنى من إراقة الماء، وغسل الثوب، ونحوهما لا في أصل السكنى هذا ولكن قد اشتهرت المساكنة عرفا في المساكنة في دار واحدة سواء كانت في بيت واحد منها أو لا، ولهذا يحمل عليه عند هدم النية، ولا يجوز نية بيت دون بيت أو دار دون دار؛ لأنه يؤدي إلى عموم المقتضى.
قوله: "وقد غيرت" كان في نسخة الأصل قوله، ومما يتصل بذلك إلى قوله فيجري فيه العموم والخصوص مقدما على قوله، ولذلك قلنا اقتداء بفخر الإسلام رحمه الله تعالى فأخره لتقع جميع المباحث المتعلقة بعموم المقتضى وخصوصه مجتمعة.
قوله: "ولذلك قلنا" قد وقعت في باب الطلاق عبارات متشابهة صحت عند أبي حنيفة رضي(1/260)
المنطوق بخلاف المقتضى. نحو {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فإثباته يغير الكلام بنقل النسبة من القرية إليه فالمفعول حقيقة هو الأهل فيكون ثابتا لغة فيكون كالملفوظ فيجري فيه العموم والخصوص.
ـــــــ
فتصح نية أحدهما، ولا كذلك الطلاق فإنه لا اختلاف فيه إلا بالعدد ومما يتصل بذلك المحذوف وهو ما يغير إثباته المنطوق بخلاف المقتضى. نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]" أي أهلها "فإثباته يغير الكلام بنقل النسبة من القرية إليه فالمفعول حقيقة هو الأهل فيكون ثابتا لغة فيكون كالملفوظ فيجري فيه العموم والخصوص". قوله، ولذلك أي لما ذكر أن المقتضى لا عموم له أصلا لا يصح نية الثلاث في أنت طالق، وطلقتك فإن دلالة أنت طالق وطلقتك على الطلاق بطريق الاقتضاء لا بطريق اللغة؛ لأنه من حيث اللغة يدل على اتصاف المرأة بالطلاق لكن لا يدل على ثبوت الطلاق بطريق الإنشاء من المتكلم بهذا اللفظ، وإنما ذلك أمر شرعي لا ثابت لغة فإن قيل: الطلاق الذي يثبت من المتكلم بطريق الإنشاء كيف يكون ثابتا بالاقتضاء؛ لأن المقتضى في اصطلاحهم، هو اللازم والمحتاج إليه، وهنا ليس كذلك؛ لأن الطلاق يثبت بهذا اللفظ فثبوته يكون متأخرا فيكون من باب العبارة فيصح فيه نية الثلاث؟
................................................................................................
الله تعالى عنه نية الثلاث في البعض منها مثل طلقي نفسك دون البعض مثل أنت طالق أو طلقتك، وإذا صرح بالمصدر مثل أنت طالق طلاقا أو طلقتك طلاقا صحت نية الثلاثة اتفاقا، وذلك؛ لأن الطلاق في أنت طالق، وطلقتك ثابت بطريق الاقتضاء فلا يعم جميع ما تحته من الأفراد وهو الثلاث، وفي طلقي نفسك ثابت بطريق اللغة فيكون كالملفوظ فيصح حمله على الأقل وعلى الكل كسائر أسماء الأجناس، وتحقيق ذلك في أنت طالق يدل بحسب اللغة على اتصاف المرأة بالطلاق لا على ثبوت الطلاق عن الرجل بطريق الإنشاء، وإنما ذلك أي الطلاق الثابت بطريق الإنشاء عن الرجل أمر شرعي ثبت ضرورة أن اتصاف المرأة بالطلاق يتوقف شرعا على تطليق الزوج إياها فيكون ثابتا بطريق الاقتضاء فيقدر بقدر الضرورة، فإن قيل هذا إنما يصح في أنت طالق دون طلقتك فإنه صريح في الدلالة على ثبوت التطليق من قبل الزوج لغة. أجيب بأن دلالته بحسب اللغة إنما هي على مصدر ماض لا على مصدر حادث في الحال فكان ينبغي أن يكون لغوا لعدم تحقق الطلاق في الزمان الماضي إلا أن الشرع أثبت لتصحيح هذا الكلام مصدرا، أي طلاقا من قبل المتكلم في الحال، وجعله إنشاء للتطليق فصارت دلالته على هذا المصدر اقتضاء لا لغة بخلاف طلقي نفسك فإنه مختصر من افعلي فعل الطلاق من غير أن يتوقف على مصدر مغاير لما ثبت في ضمن الفعل؛ لأنه لطلب الطلاق في المستقبل فلا يتوقف إلا على تصور وجوده فيكون الطلاق الثابت به هو نفس مصدر الفعل فيكون ثابتا لغة لا اقتضاء فيكون بمنزلة الملفوظ فيصح حمله على الأقل، وعلى الكل، وإن لم يكن عاما على ما عرفت في نحو لا آكل، أن المصدر الثابت في ضمن الفعل ليس بعام.
وكذا إذا كان مذكورا نحو طلقي طلاقا، وأنت طالق طلاقا، وطلقتك طلاقا فإنه لا دلالة(1/261)
قلنا عنه جوابان: أحدهما أنه ليس المراد بوضع الشرع هذا اللفظ للإنشاء أن الشرع أسقط اعتبار معنى الإخبار بالكلية، ووضعه للإنشاء ابتداء بل الشرع في جميع أوضاعه اعتبر الأوضاع اللغوية حتى اختار للإنشاء ألفاظا تدل على ثبوت معانيها في الحال كألفاظ الماضي، والألفاظ المخصوصة بالحال فإذا قال: أنت طالق، وهو في اللغة للإخبار يجب كون المرأة موصوفة به في الحال فيثبت الشرع الإيقاع من جهة المتكلم اقتضاء ليصح هذا الكلام فيكون الطلاق ثابتا اقتضاء فهذا معنى وضع الشرع للإنشاء، وإذا كان الطلاق ثابتا اقتضاء لا يصح فيه نية الثلاث؛ لأنه عموم للمقتضى ولأن نية الثلاث إنما تصح بطريق المجاز من حيث إن الثلاث واحد اعتباري، ولا تصح نية المجاز إلا في اللفظ كنية التخصيص، وثانيهما أن قوله أنت طالق يدل على الطلاق الذي هو صفة المرأة لغة، ويدل على التطليق الذي هو صفة الرجل اقتضاء فالذي هو صفة المرأة لا تصح فيه نية الثلاث؛ لأنه غير متعدد في ذاته، وإنما التعدد في التطليق حقيقة، وباعتبار تعدده يتعدد لازمه أي الذي هو صفة المرأة فلا تصح فيه نية الثلاث.
................................................................................................
على العموم كيف، وهو نكرة في الإثبات، فإن قلت: فمن أين صحت نية الثلاث؟ قلت من جهة أن الطلاق اسم دال على الواحد حقيقة أو حكما، وهو المجموع من حيث هو المجموع أعني الطلقات الثلاث؛ لأنه المجموع في باب الطلاق. وإلى هذا المعنى أشار بقوله كسائر أسماء الأجناس على ما شرحه المصنف رحمه الله تعالى فإن قيل فلم لا تجوز نية الثلاث في المقتضى بهذا الاعتبار لا باعتبار العموم؟ قلت؛ لأنه مجاز، والمجاز صفة اللفظ، والمقتضى ليس بلفظ، وهذا لا ينافي ابتناءه على عدم عموم المقتضى أيضا، نظرا إلى أنه لو نوى الثلاث لكان الطلاق الثابت بطريق الاقتضاء قد أريد به جميع ما تحته من الأفراد، وهو معنى عموم المقتضى، ولهذا قال: المصنف رحمه الله تعالى، وإذا كان الطلاق ثابتا اقتضاء لا يصح فيه نية الثلاث؛ لأنه لا عموم للمقتضى، ولأن نية الثلاث إنما تصح بطريق المجاز من حيث إن الثلاث واحد اعتباري، ولا يصح نية المجاز إلا في اللفظ كنية التخصيص، ويرد على المصنف رحمه الله تعالى أنه فسر عدم عموم المقتضى بأنه لا يجب إثبات جميع ما تحته من الأفراد، ولهذا لا ينافي الجواز أعني صحة نية الثلاث.
قوله: "فإن قيل" هذه معارضة: تقريرها أن صيغ العقود والفسوخ مثل بعت، واشتريت، ونكحت، وطلقت كلها في الشرع إنشاءات موضوعة لإثبات هذه المعاني فالطلاق الثابت من قبل الزوج بطريق الإنشاء يكون ثابتا بقوله: أنت طالق فيكون متأخرا لا متقدما فيكون ثابتا عبارة لا اقتضاء فيصير بمنزلة طلقت طلاقا فيصح نية الثلاث لا يقال: هذا وارد على جميع صور الاقتضاء فإن البيع، في مثل: أعتق عبدك عني بألف لا يثبت بهذا اللفظ بل بقول المأمور أعتقته؛ لأنا نقول: معنى التقدم أنه يجب أن يعتبر أولا ليصح مدلول الكلام فإنه لو لم يعتبر البيع من الآمر لم يصح الإعتاق عنه شرعا، وهاهنا لا يجوز أن يعتبر ثبوت الطلاق بطريق الإنشاء أولا ليصح الإيقاع بل الأمر بالعكس؛ لأنه لا يثبت الطلاق من قبل الزوج إلا بعد الإيقاع بهذا الكلام فأجاب عن المعارضة بوجهين:(1/262)
وأما الذي هو صفة الرجل فلا يصح فيه نية الثلاث أيضا؛ لأنه ثابت اقتضاء، وهذا الوجه مذكور في الهداية، والجواب الأول شامل لأنت طالق، وطلقتك، والثاني مخصوص بأنت طالق، وإذا قال أنت طالق طلاقا أو أنت الطلاق فإنه يصح فيهما نية الثلاث، ووجهه على هذا الجواب الثاني مشكل؛ لأن الجواب الثاني هو أن الطلاق الذي هو صفة المرأة لا يصح فيه نية الثلاث، وفي قوله أنت طالق طلاقا، لا شك أن طلاقا هو صفة المرأة فينبغي أن لا يصح فيه نية الثلاث. فنقول: إذا نوى الثلاث تعين أن المراد بالطلاق هو التطليق فيكون مصدر الفعل محذوفا تقديره: أنت طالق لأني طلقتك تطليقات، وقوله ثلاثا أنت الطلاق إذا نوى الثلاث فمعناه أنت ذات، وقع عليك التطليقات الثلاث، وأما على الجواب
................................................................................................
الأول: أنه ليس معنى كون هذه الألفاظ إنشاء في الشرع أنها نقلت عن معنى الأخبار بالكلية ووضعت لإيقاع هذه الأمور بحيث يكون مدلولاتها الحقيقية ذلك بل معناه أنها صيغ يتوقف صحة مدلولاتها اللغوية على ثبوت هذه الأمور من جهة المتكلم فيعتبر الشرع إيقاعها من جهته بطريق الاقتضاء تصحيحا لهذا الكلام فمن حيث إن هذه الأمور لم تكن ثابتة وقد ثبتت بهذا النوع من الكلام يسمى إنشاء ولهذا كان جعله إنشاء ضروريا حتى لو أمكن العمل بكونه إخبارا لم يجعل إنشاء بأن يقول للمطلقة والمنكوحة: إحداكما طالق لا يقع الطلاق، وفيه نظر للقطع بأنه لا يقصد بهذه الصيغ الحكم بنسبة خارجية مثلا "بعت" لا يدل على بيع آخر غير البيع الذي يقع به، ولا معنى للإنشاء إلا هذا، وأيضا لا يوجد فيها خاصة الأخبار أعني احتمال الصدق والكذب للقطع بتخطئة من يحكم عليها بأحدهما، وأيضا لو كانت طلقت إخبارا لكان ماضيا فلم يقبل التعليق أصلا؛ لأنه توقيف أمر على أمر، وأيضا يقطع كل أحد فيما إذا قال: للمطلقة الرجعية أنت طالق بالفرق بين ما إذا قصد إنشاء طلاق ثان وبين ما إذا أراد الإخبار عن الطلاق السابق. وبالجملة كون هذه الصيغ من قبيل الإنشاء ظاهر، ولهذا تحاشى المصنف رحمه الله تعالى عن التصريح بكونها أخبارا لكنه غير مقيد؛ لأن ثبوت الطلاق بطريق الاقتضاء يتوقف على كون الصيغة خبرا وإلا فهو ثابت بالعبارة قطعا.
الثاني: أن الطلاق الذي يدل عليه طالق لغة صفة للمرأة، وهو ليس بمتعدد في ذاته بل يتعدد بتعدد ملزومه أعني التطليق الذي هو صفة الرجل، وهو هاهنا غير ثابت لغة بل اقتضاء فلا يصح نية الثلاث فيه فلا يصح فيما يبتنى تعدده عليه قال: وهذا الوجه مذكور في الهداية، وهو غير شامل لمثل طلقتك، وهذا ليس اعتراضا على الهداية بل على جعل هذا الكلام جوابا عن المعارضة المذكورة؛ لأن صاحب الهداية إنما ذكر هذا الكلام جوابا عن قول الشافعي رحمه الله تعالى إن ذكر الطالق ذكر للطلاق لغة كذكر العالم ذكر للعلم فقال ذكر الطالق ذكر الطلاق هو صفة للمرأة لا لطلاق هو تطليق هذه عبارته، ولا يخفى أنه لا يزيد على ما ذكر أولا من أن الطلاق الثابت من قبل الزوج ثابت بطريق الاقتضاء فلا تصح فيه نية الثلاث فيه، وهذا لا يدفع المعارضة المذكورة، وهو أن التطليق الذي هو صفة الرجل ليس بثابت اقتضاء بل عبارة؛ لأن مثل أنت طالق وطلقتك في الشرع إنشاء لإيقاع الطلاق فيكون الطلاق الذي هو صفة للزوج متأخرا عنه ثابتا به بطريق العبارة فتصح نية الثلاث فيه، ولا مدفع لذلك إلا منع كونه إنشاء، والقول بأنه إخبار يقتضي سابقية الطلاق(1/263)
الأول فلا يجيء هذا الإشكال إذ لم يقل: إن الطلاق الذي هو صفة المرأة لا يصح فيه نية الثلاث بل يجوز ذلك، والطلاق ملفوظ فيصح فيه نية الثلاث، وإن كان صفة للمرأة، وقوله كسائر أسماء الأجناس إذا كان كالملفوظ لكنه اسم جنس، وهو اسم فرد لا يدل على العدد بل يدل على الواحد الحقيقي أو الاعتباري كسائر أسماء الأجناس إذا كانت ملفوظة لا تدل على العدد بل على الواحد إما حقيقة أو اعتبارا على ما يأتي في فيه أن الأمر لا يدل على العموم، والتكرار أن الطلاق اسم فرد يتناول الواحد الحقيقي، ويمكن أن يراد به الواحد الاعتباري أن المجموع من حيث هو المجموع، والمجموع في الطلاق هو الثلاث.
وقوله فإن قيل ثبوت البينونة هذا إشكال على بطلان نية الثلاث في أنت طالق، وتقريره أنكم قلتم إن المصدر الذي يثبت من المتكلم إنشاء أمر شرعي لا لغوي فيكون ثابتا اقتضاء فلا يصح فيه نية الثلاث فكذلك ثبوت البينونة من المتكلم بقوله: أنت بائن أمر شرعي أيضا فينبغي أن لا يصح فيه نية الثلاث، وقوله قلنا نعم لكن البينونة جواب عن هذا الإشكال، ووجهه أنا سلمنا أن البينونة ثابتة بطريق الاقتضاء لكن البينونة من حيث هي البينونة مشتركة بين الخفيفة، وهي التي يمكن رفعها، والغليظة، وهي التي لا يمكن رفعها، وهي الثلاث أو هي جنس بالنسبة إليهما، ونية أحد المحتملين صحيحة في المقتضى، وكذلك نية أحد النوعين؛ لأنه لا بد أن يثبت أحدهما، ولا يمكن اجتماعهما فلا بد أن ينوي أحدهما لكن لا يصح فيه نية عدد معين فيه إذ لا عموم للمقتضى، ولا دلالة له على الأفراد أصلا؛ ولأن المقتضى ثابت ضرورة، ولا ضرورة في العدد المعين فيثبت ما ترتفع به الضرورة، وهو الأقل
................................................................................................
من قبل الزوج تصحيحا له فيصير بعينه الجواب الأول، وقد عرفت ما فيه، ثم قال: والوجه المذكور في الهداية منقوض بمثل أنت طالق طلاقا، وأنت الطلاق فإنه صفة المرأة، وقد صحت نية الثلاث اتفاقا، وأجاب بأنه لما تولى الثلاث تعين أنه أراد بالطلاق التطليق على التأويل المذكور في الكتاب، ولا يخفى بعده على أن تأويل أنت طالق بأنت ذات وقع عليك التطليق ليس بأبعد من ذلك فحينئذ يصح نية الثلاث لا يقال: صحة نية الثلاث موقوفة على كون الطلاق مرادا به التطليق، ولو توقف ذلك على نية الثلاث لزم الدور؛ لأنا نقول المتوقف على نية الثلاث هو علمنا بأنه أراد بالطلاق التطليق لا نفس إرادته لا يقال: الجواب الثاني ليس أن الطلاق الذي هو صفة المرأة لا يتعدد، ولا يصح نية الثلاث فيه أصلا بل إنه لا يتعدد ولا يصح ذلك فيه إلا بتبعية التطليق، وحينئذ لا يرد النقض لأنا نقول: التطليق لا يقبل التعدد له لذاته ثابت في أنت طالق طلاقا، وأنت الطلاق بطريق الاقتضاء كما في أنت طالق بعينه فلو كان صحة نية الثلاث في الطلاق مبنيا على صحته في التطليق لما صحت هاهنا، وهو النقض، وهو لا يندفع إلا بما ذكره المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: "لأن المقتضى في اصطلاحهم" تعليل لقوله كيف يكون بمعنى لا يكون.
قوله: "أي إذا كان كالملفوظ" شرط، جوابه قوله: لا يدل على العدد بل على الواحد، وقوله لكنه اسم جنس تقديره إذا كان كالملفوظ وهو ليس باسم عام لكنه اسم جنس(1/264)
المتيقن، ولا كذلك في النوعين؛ لأنه لا يتصور فيهما الأقل المتيقن؛ لأن الأنواع لا تكون إلا متنافية فلا بد وأن تصح نية أحد النوعين. وأيضا لا تصح نية المجاز في المقتضى كنية ثلاث تطليقات في أنت طالق طلاقا بناء على أنها واحد اعتباري كما ذكرنا، وقوله، ولا كذلك الطلاق فإنه لا اختلاف بين أفراده بحسب النوع بل يختلف بحسب العدد فقط، ولا يمكن أن يقال: إن الطلاق يتنوع على ما يمكن رفعه وعلى ما لا يمكن رفعه فإن الطلاق لا يمكن رفعه أصلا، وقوله، ومما يتصل بذلك أي بالمقتضى هو المحذوف، واعلم أنه يشتبه على بعض الناس المحذوف بالمقتضى، ولا يعرفون الفرق بينهما فيعطون أحدهما حكم الآخر،
................................................................................................
قوله: "قلنا نعم" يعني أن صحة نية الثلاث في أنت بائن ليست مبنية على عموم المقتضى بل من قبيل إرادة أحد معنيي المشترك أو أحد نوعي الجنس في باب المقتضى، وهو جائز، وذلك أن البينونة قد تطلق على الخفيفة، وهي القاطعة للحل الثابت للزوج في الحال، وعلى الغليظة، وهي القاطعة لحل المحلية بأن لا تبقى المرأة محلا للنكاح في حقه فإن كان لفظ البينونة موضوعا لكل من المعنيين وضعا على حدة كان مشتركا بينهما لفظا، وإلا لكان جنسهما لهما.
قوله: "لكن لا يصح فيه" أي في المقتضى نية عدد معين فيه، أي كائن في المقتضى، وهذا تكرير لما سبق، وزيادة توضيح للمقصود بأنه لا يصح نية عدد معين في المقتضى لا على وجه العموم، ولا على أنه مجاز.
قوله: "لأنه لا يتصور فيهما" أي في النوعين الأقل المتيقن يشكل بما قالوا: إنه إذا لم ينو شيئا تعين الأدنى، أي الخفيفة؛ لأنه المتيقن.
قوله: "لأن الطلاق لا يمكن رفعه أصلا" وإنما يتوهم ذلك في الرجعي من جهة أنه لا يثبت في الحال حكم الطلاق الذي هو إزالة الملك لكونه معلقا بشرط انقضاء العدة أو جعله بائنا، ولا إزالة لحل المحلية لتوقفها على انضمام الطلقتين إليه، وعدم ثبوت حكم الشيء لعدم ثبوت شرائطه ليس رفعا له.
قوله: "ومما يتصل" وجه اتصال المحذوف بالمقتضى ظاهر حتى إن كثيرا من الأصوليين جعلوه من المقتضى، وفسروا المقتضى بجعل غير المنطوق منطوقا تصحيحا للمنطوق شرعا أو عقلا أو لغة، وبعضهم فرقوا بأن المحذوف مفهوم يغير إثباته المنطوق، والمقتضى مفهوم لا يغير إثباته المنطوق فالمحذوف يكون بمنزلة المذكور يجري فيه ما يناسبه من العموم والخصوص، وتكون دلالته على معناه عبارة أو إشارة أو دلالة أو اقتضاء، وفيه بحث؛ لأنه إن أريد توجه الفرق بين المقتضى والمحذوف وجود التغيير وعدمه، فلا تغيير في مثل فانفجرت، أي فضربه فانفجرت، وقوله تعالى: حكاية: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:45-46]، أي أرسلوه فأتاه، وقال: أيها الصديق، ومثل هذا كثير في المحذوف، وإن أريد أن عدم التغيير لازم في المقتضى وليس بلازم في المحذوف لم يتميز المحذوف الذي لا تغيير فيه عن المقتضى(1/265)
فصل: مفهوم المخالفة
...
فصل: اعلم أن بعض الناس يقولون بمفهوم المخالفة،
وهو أن يثبت الحكم في المسكوت عنه على خلاف ما ثبت في المنطوق، وشرطه أن لا تظهر أولويته.
ـــــــ
"فصل: اعلم أن بعض الناس يقولون بمفهوم المخالفة، وهو أن يثبت الحكم في المسكوت عنه على خلاف ما ثبت في المنطوق، وشرطه" أي، وشرطه مفهوم المخالفة عند القائلين به "أن لا تظهر أولويته" أي أولوية المسكوت عنه من المنطوق بالحكم الثابت للمنطوق "ولا مساواته إياه" أي مساواة المسكوت عنه المنطوق في الحكم الثابت للمنطوق
................................................................................................
قوله: "فصل" قسم الشافعية المفهوم إلى مفهوم الموافقة، وهو أن يكون المسكوت عنه، أي غير المذكور موافقا للمنطوق، أي المذكور في الحكم إثباتا ونفيا، وإلى مفهوم مخالفة، وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفا له فيه، وشرطوا لمفهوم المخالفة الشرائط التي أوردها المصنف هاهنا، وقال في آخر ذكر الشرائط أو غير ذلك مما يقتضي تخصيص المنطوق بالذكر فعلم أن شرط مفهوم المخالفة أن لا يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه فالمصنف حصر الشرائط في المعدودات، وسكت عن تعميمها ليتمكن من الاعتراض على دليلهم في مفهوم الصفة والشرط بإيراد صور توجد فيها الشرائط المعدودة مع عدم نفي الحكم عن المسكوت عنه على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قوله: "أن لا يظهر أولويته، ولا مساواته" حتى لو ظهر أحدهما كان الحكم في المسكوت عنه ثابتا بدلالة النص، أي مفهوم الموافقة أو بالقياس يحتمل أن يكون هذا على سبيل اللف والنشر، أي بدلالة النص في صورة الأولوية، وبالقياس في صورة المساواة على ما هو المذكور في أصول ابن الحاجب، وغيره أن مفهوم الموافقة تنبيه بالأدنى على الأعلى، ولذلك، كان الحكم في المسكوت عنه أولى، ويحتمل أن يكون الثبوت بدلالة النص في صورة الأولوية والمساواة أيضا إذا كانت بحيث لا تتوقف معرفة الحكم في المسكوت عنه على الاجتهاد، وبالقياس إذا توقفت بناء على أن دلالة النص لا تتوقف على الأولوية كثبوت الرجم في الزنا بدلالة نص ورد في ماعز، وفي غير ماعز.
قوله: "وإلا يلزم الكفر والكذب في قول من قال محمد رسول الله، وزيد موجود" يعني يلزم الأمران في كل من القولين؛ لأن الأول يدل على أن غير محمد ليس برسول الله، وهو كذب وكفر،(1/266)
ولا مساواته إياه ولا يخرج مخرج العادة نحو قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ولا يكون لسؤال أو حادثة أو علم المتكلم بأن السامع يسمع هذا الحكم المخصوص.
ـــــــ
حتى لو ظهر أولوية المسكوت عنه أو مساواته يثبت الحكم في المسكوت عنه بدلالة النص الذي ورد في المنطوق أو بقياسه عليه "ولا يخرج" أي المنطوق "مخرج العادة نحو قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]" حرم الربائب على أزواج الأمهات، ووصفن بكونهن في حجورهم فلو لم يوجد هذا الوصف لا يقال: بانتفاء الحرمة لأنه إنما وصف الربائب بكونهن في حجورهم إخراجا للكلام مخرج العادة فإن العادة جرت بكون الربائب في حجورهم فحينئذ لا يدل على نفي الحكم عما عداه. "ولا يكون" أي المنطوق "لسؤال أو حادثة" كما إذا سئل عن وجوب الزكاة لا الإبل السائمة مثلا فقال: بناء على السؤال أو بناء على وقوع الحادثة إن "في الإبل السائمة زكاة" فوصفها بالسوم هاهنا لا يدل على عدم وجوب الزكاة عند عدم السوم "أو علم المتكلم" بالجر عطف على قوله لسؤالي "بأن السامع يسمع هذا الحكم المخصوص" كما إذا علم أن السامع لا يعلم بوجوب الزكاة في الإبل السائمة فقال: بناء على هذا: إن في الإبل السائمة زكاة لا يدل أيضا على عدم الحكم عند عدم السوم
فإذا بين شرائط مفهوم المخالفة شرع في أقسامه فقال: "منه" أي من مفهوم المخالفة هذه المسألة،
................................................................................................
والثاني يدل على أن غير زيد ليس بموجود وهو أيضا كذب وكفر لوجود الباري تعالى والمصنف خصص الكفر بالأول، والكذب بالثاني فإن قيل: إنما يلزم ذلك إذا تحقق شرائط مفهوم المخالفة، وهو هاهنا ممنوع لجواز أن يكون المقتضى للتخصيص بالذكر هو قصد الإخبار برسالة محمد عليه السلام، ووجود زيد، ولا طريق إلى ذلك سوى التصريح بالاسم قلنا فحينئذ لا يتحقق مفهوم اللقب أصلا؛ لأن هذه الفائدة حاصلة في جميع الصور.
قوله: "ولإجماع العلماء" يعني أن القول بمفهوم اللقب يؤدي إلى نفي المجمع عليه، وهو تعليل النص، وإثبات حكم المنصوص عليه فيما يشاركه في العلة، ذلك لأن الفرع إن تناوله اسم الأصل فلا قياس لثبوت الحكم فيه بالنص، وإن لم يتناوله فقد دل النص بحسب المفهوم على نفي الحكم عنه فلا يجوز إثباته فيه بالقياس إذ لا عبرة بالقياس المخالف للنص، وقد يجاب بأن موضع القياس لا يثبت فيه مفهوم المخالفة اتفاقا؛ لأن من شرط القياس المساواة، ومن شرط مفهوم المخالفة عدمها على ما مر، واستدل أيضا بأن النص لم يتناول غير المنطوق في إيجاب الحكم مع أنه وضع للإيجاب فلأن لا يتناول غيره لنفي الحكم عنه مع أنه لم يوضع للنفي أولى.، وبأن ما يكون مؤثرا في إثبات شيء لا يكون مؤثرا في إثبات ضده، ورد كلاهما بأنه لم لا يجوز أن يتناول النص ثبوت الحكم في محل بالمنطوق، ونفيه عن محل آخر بالمفهوم، ويدل على إثبات شيء في محل، وإثبات ضده في غير ذلك المحل، وعدم تناول النص لغير المنطوق عين النزاع بل يتناوله نفيا لا إثباتا(1/267)
منه أن تخصيص الشيء باسمه يدل على نفي الحكم عما عداه عند البعض ; لأن الأنصار فهموا من قوله عليه السلام: "الماء من الماء" عدم وجوب الغسل بالإكسال وعندنا لا يدل ولا يلزم الكفر والكذب في: محمد رسول الله، وفي: زيد موجود ونحوهما
ـــــــ
وهي "أن تخصيص الشيء باسمه" سواء كان اسم جنس أو اسم علم "يدل على نفي الحكم عما عداه" أي عما عدا ذلك الشيء "عند البعض؛ لأن الأنصار فهموا من قوله عليه السلام: "الماء من الماء" أي الغسل من المني "عدم وجوب الغسل بالإكسال"، وهو أن يفتر الذكر قبل الإنزال "وعندنا لا يدل ولا يلزم الكفر والكذب في: محمد رسول الله، وفي: زيد موجود ونحوهما" أي إن دل على نفي الحكم عما عداه لا يلزم الكفر في قوله محمد رسول الله إذ يلزم حينئذ أن لا يكون غير محمد رسول الله، وهو كفر، ويلزم الكذب في: زيد موجود؛ لأنه يلزم حينئذ أن لا يكون غير زيد موجودا "ولإجماع العلماء على جواز التعليل" فإن الإجماع على جواز التعليل والقياس دال على أن تخصيص الشيء باسمه لا يدل على نفي الحكم عما عداه؛ لأن القياس هو إثبات حكم مثل حكم الأصل في صورة الفرع فعلم أنه لا دلالة للحكم في الأصل على الحكم المخالف فيما عداه ", وإنما فهموا ذلك" أي عدم وجوب الغسل بالإكسال "من اللازم، وهو للاستغراق غير أن الماء يثبت مرة عيانا، ومرة دلالة" جواب
................................................................................................
قوله: "وهو" أي اللام للاستغراق بمعنى أن جميع أفراد غسل الجنابة ناشئة من وجود المني بقرينة ورود الحديث في غسل الجنابة، والإجماع على وجوب الغسل من الحيض، والنفاس.
قوله: "ومنه تخصيص الشيء بالصفة" أي نقض شيوعه، وتقليل اشتراكه، وذلك بأن يكون الشيء مما يطلق على ما له تلك الصفة، وعلى غيره فيتقيد بالوصف ليقتصر على الدلالة على ما له تلك الصفة دون القسم الآخر، ولهذا قد يعبر عن ذلك بتعليق الحكم بإحدى صفتي الذات، واستدل على دلالته على نفي الحكم عما لا يوجد فيه ذلك الوصف بوجوه:
الأول: أنه المتبادر إلى الفهم عرفا، ولهذا يستقبح مثل: الإنسان الطويل لا يطير، وأجاب بأن الاستقباح إنما هو لعدم فائدة التخصيص في هذا المثال، والمثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية، وفيه نظر؛ لأن مرادهم أن كثيرا من أهل اللغة فهموا ذلك على ما نقل عنهم في صور جزئية، والغرض من المثال التنبيه على أن كل صورة تخلو عن فائدة أخرى يفهم منه أهل اللسان هذا المعنى فلولا أنهم عارفون أنه لغة لما فهموه.
الثاني: أن الحمل على إثبات المذكور، ونفي غيره أكثر فائدة من إثبات المذكور وحده، وتكثر الفائدة مما يرجح المصير إليه لكونه ملائما لغرض العقلاء فإن قيل: فحينئذ تتوقف دلالته على النفي عن الغير على تكثير الفائدة إذ به تثبت وتكثر الفائدة إنما يحصل بدلالته على النفي عن الغير، وذلك دور. أجيب بأن ما يتوقف عليه الدلالة هو تكثر الفائدة عقلا، وهو أن يعلم أنه لو دل كثرت الفائدة، ولا تكثر الفائدة عينا، وهو حصولها في الواقع، والمتوقف على الدلالة هو تكثر الفائدة عينا لا(1/268)
ولإجماع العلماء على جواز التعليل، وإنما فهموا ذلك من اللازم، وهو للاستغراق غير أن الماء يثبت مرة عيانا، ومرة دلالة.
ومنه أن تخصيص الشيء بالوصف يدل على نفي الحكم عما عداه عند الشافعي رحمه الله تعالى للعرف فإن في قوله: الإنسان الطويل لا يطير يتبادر الفهم منه إلى ما
ـــــــ
عن إشكال، وهو أن يقال: لما قلتم إن اللام للاستغراق كان معناه أن جميع أفراد الغسل في صورة وجود المني فلا يجب الغسل بالتقاء الختانين بلا ماء فأجاب عن هذا بأن الغسل لا يجب بدون الماء إلا أن التقاء الختانين دليل الإنزال، والإنزال أمر خفي فيدور الحكم مع دليل الإنزال، وهو التقاء الختانين كما تدور الرخصة مع دليل المشقة وهو السفر
"ومنه" أي من مفهوم المخالفة، هذه المسألة، وهي "أن تخصيص الشيء بالوصف يدل على نفي الحكم عما عداه عند الشافعي رحمه الله تعالى" أو نقول تخصيص الشيء مبتدأ، ومنه خبره، وقوله يدل خبر مبتدأ محذوف أي، وهو الراجع إلى تخصيص الشيء، وقوله عما عداه أي ما عدا ذلك الوصف، والمراد نفي الحكم عن ذلك الشيء بدون ذلك الوصف كقوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] خص الحل بالفتيات المؤمنات فيلزم عندهم عدم حل نكاح الفتيات، أي الإماء غير المؤمنات "للعرف فإن في قوله: الإنسان الطويل لا يطير يتبادر الفهم منه إلى ما ذكرنا، ولهذا يستقبحه العقلاء"، والاستقباح ليس لأجل نسبة عدم الطيران إلى الإنسان الطويل؛ لأنه لو قال: الإنسان الطويل، وغير الطويل لا يطير لا يستقبحه العقلاء فعلم أن الاستقباح لأجل أنه يفهم منه أن غير الطويل يطير "ولتكثير الفائدة؛
................................................................................................
عقلا، أي حصولها في الواقع لا تعقل حصولها عند الدلالة، وجوابه ظاهر، وهو أن الوضع لا يثبت بما فيه من الفائدة بل بالنقل فلم يذكره لظهوره.
الثالث: أنه لو لم يكن في التخصيص بالوصف الدلالة على نفي الحكم عن الغير لكان ذكر الوصف ترجيحا بلا مرجح؛ لأن التقدير عدم الفوائد الأخر، واللازم ظن؛ لأنه لا يستقيم تخصيص كلام آحاد البلغاء بشيء من غير فائدة مرجحة فكلام الله ورسوله أجدر، وليس هذا إثباتا للوضع بما فيه من الفائدة بل بالاستقراء عنهم أن كل ما ظن أن لا فائدة في اللفظ سواه تعين أن يكون مرادا، وهذا كذلك فاندرج في القاعدة الكلية الاستقرائية، ولا يجري هذا في مفهوم اللقب؛ لأن المرجح هناك ظاهر، وهو أنه لو لم يعبر عنه بالاسم لاختل المقصود لا يقال المرجح هو نيل ثواب الاجتهاد بأن يقاس المسكوت عنه على المنطوق؛ لأنا نقول: محل القياس ليس بمحل لمفهوم المخالفة لما مر.
الرابع أن تعليق الحكم بالشيء المذكور صفته مشعر بعلية الوصف للحكم فيقتضي عدم الحكم عند عدم ذلك الوصف لانتفاء المعلول بانتفاء العلة.(1/269)
ذكرنا، ولهذا يستقبحه العقلاء ولتكثير الفائدة ; ولأنه لو لم يكن فيه تلك الفائدة لكان ذكره ترجيحا من غير مرجح ولأن مثل هذا الكلام يدل على علية هذا الوصف نحو في الإبل السائمة زكاة فيقتضي العدم عند عدمه، وعندنا لا يدل ; لأن موجبات
ـــــــ
ولأنه لو لم يكن فيه تلك الفائدة لكان ذكره ترجيحا من غير مرجح"؛ لأنه لو لم يدل على نفي الحكم عما عداه لكان الحكم فيما عدا الموصوف ثابتا فتخصيص الحكم بالموصوف يكون ترجيحا من غير مرجح؛ لأن التقدير تقدير عدم المرجحات الأخر كالخروج مخرج العادة إلخ. "ولأن مثل هذا الكلام يدل على علية هذا الوصف نحو في الإبل السائمة زكاة فيقتضي العدم عند عدمه، وعندنا لا يدل؛ لأن موجبات التخصيص لا تنحصر فيما ذكر" اعلم أن القائلين بمفهوم المخالفة ذكروا في شرائطه أن التخصيص إنما يدل على نفي الحكم عما عداه إذا لم يخرج مخرج العادة، ولم يكن لسؤال أو حادثة أو علم المتكلم بأن السامع يجهل هذا الحكم المخصوص فجعلوا موجبات التخصيص بالحكم منحصرة في هذه الأربعة وفي نفي الحكم عما عداه فإذا لم توجد هذه الأربعة علم أن التخصيص لنفي الحكم عما عداه فأقول: إن موجبات التخصيص لا تنحصر في تلك المذكورات "نحو: الجسم الطويل العريض العميق متحيز" فإن شيئا من هذه الأشياء لا يوجد فيه، ومع ذلك لا يراد منه نفي الحكم عما عداه؛ لأنه لو كان لنفي الحكم عما عداه يلزم أن الجسم الذي لا يوجد فيه ذلك الوصف لا يكون متحيزا، وهذا محال؛ لأن الجسم لا يوجد بدون هذه الصفة، وإنما وصفه تعريفا للجسم، وإشارة إلى أن علة التحيز هذا الوصف.
"وكالمدح، أو الذم" فإنه قد يوصف الشيء للمدح أو الذم، ولا يراد بالوصف نفي الحكم عما عداه مع أن الأمور الأربعة المذكورة غير متحققة، وقوله كالمدح عطف على
................................................................................................
قوله: "وعندنا لا يدل؛ لأن موجبات التخصيص لا تنحصر فيما ذكر" فإن قيل: هذا استدلال على إثبات مذهبه بإبطال أدلة الخصم بل بعضها فلا يكون موجها قلت إذا كان مذهب الخصم دعوى ثبوت الشيء، والمطلوب منع ذلك ونفيه، كفى في المطلوب رد ما ذكره الحصم من الأدلة؛ لأن الحكم منتف ما لم يقم عليه الدليل، وإنما سكت عن رد البعض لظهوره، على أن ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى يصح أن يجعل دليلا على مذهبه لما نبينه إن شاء الله تعالى فإن قلت أول شرائط مفهوم المخالفة أن لا يظهر أولوية ولا مساواة على ما صرح به المصنف رحمه الله تعالى، أيضا فكيف ادعى أنهم حصروا موجبات التخصيص في الأربعة المذكورة في نفي الحكم عما عداه؟ قلت؛ لأن ظهور الأولوية أو المساواة، وإن شرط عدمه في المفهوم إلا أنه ليس موجبا للتخصيص على ما لا يخفى.
قوله: "نحو: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38]" ذكر صاحب الكشاف أن معنى زيادة "في الأرض" و "يطير بجناحيه" هو زيادة التعميم والإحاطة كأنه قيل: وما من دابة قط في(1/270)
التخصيص لا تنحصر فيما ذكر نحو: الجسم الطويل العريض العميق متحيز وكالمدح، أو الذم أو التأكيد نحو: أمس الدابر لا يعود أو غيره نحو {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} فلم يوجد الجزم بأن كل الموجبات منفية إلا نفي الحكم عما عداه ولأن أقصى درجاته أن يكون علة، وهي لا تدل على ما ذكر ; لأن الحكم يثبت بعلل شتى ونحن نقول أيضا
ـــــــ
قوله نحو الجسم أي موجبات التخصيص لا تنحصر فيما ذكر نحو: الجسم إلخ، ونحو: المدح والذم فإن موجبات التخصيص في هذه الصور أشياء أخر غير ما ذكروا "أو التأكيد نحو: أمس الدابر لا يعود أو غيره" أي غير التأكيد "نحو: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} فلم يوجد الجزم بأن كل الموجبات منفية إلا نفي الحكم عما عداه" فقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ}، وصف الدابة بكونها في الأرض، ولا يراد نفي الحكم بدون ذلك الوصف؛ لأن الدابة لا تكون إلا في الأرض مع أنه لم يوجد شيء من موجبات التخصيص المذكورة، وقد ذكر في المفتاح أنه تعالى إنما وصفها بكونها في الأرض ليعلم أن المراد ليس دابة مخصوصة بل كل ما يدب في الأرض فعلم أن موجبات التخصيص، وفوائده أشياء كثيرة غير محصورة فلا يحصل الجزم بأن كل موجبات التخصيص منتفية إلا نفي الحكم عما عداه، وما ذكروا من استقباح العقلاء فلأنهم لم يجدوا في مثل هذا المثال لوصف الإنسان بالطول فائدة أصلا لكن المثال الواحد لا يفيد الحكم الكلي على أنه كثيرا ما يكون في كتاب الله وكلام الرسول لكلمة واحدة ألف فائدة تعجز عن دركها أفهام العقلاء وقوله لكان ذكره ترجيحا من غير مرجح في حيز المنع؛ لأن المرجح لا ينحصر فيما ذكر "ولأن أقصى درجاته" أي الوصف "أن يكون علة، وهي لا تدل على ما ذكر؛ لأن الحكم يثبت بعلل شتى" جواب عن قوله؛ ولأن مثل هذا الكلام يدل. "ونحن نقول أيضا بعدم الحكم" أي عند عدم الوصف "لكن بناء على عدم العلة" فيكون عدم الحكم عدما أصليا لا حكما شرعيا "لا أنه علة لعدمه" أي
................................................................................................
جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها، وقال صاحب المفتاح ذكر في الأرض مع دابة، ويطير بجناحيه مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين، وإلى تقريرهما يعني أن اسم الجنس حامل لمعنى الجنسية، والوحدة فإذا شفع بما هو من خواص الجنس دون الفرد دل على أن القصد به إنما هو إلى الجنس لا لفرد، والمعنى الذي حمل عليه المصنف رحمه الله تعالى كلام المفتاح من أنه إنما ذكر الوصف ليعلم أن المراد ليس دابة مخصوصة بعيد؛ لأن ذلك معلوم قطعا بدون الوصف؛ لأن النكرة المنفية لا سيما مع من الاستقرائية قطعية في العموم والاستغراق لا تحتمل الخصوص أصلا بإجماع أهل العربية.
قوله: "فلم يوجد الجزم" تقرير الكلام أن دلالة التخصيص بالوصف على نفي ما عداه مشروطة بالجزم بأن لا موجب للتخصيص سوى ذلك، والشرط منتف دائما فيلزم انتفاء المشروط(1/271)
بعدم الحكم لكن بناء على عدم العلة لا أنه علة لعدمه، ونظيره قوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} هذا لا يوجب تحريم نكاح الأمة الكتابية عندنا خلافا له مع أنه يحتمل الخروج مخرج العادة ولا يلزم علينا أمة، ولدت ثلاثة في بطون مختلفة فقال: المولى الأكبر مني فإنه نفى الأخيرين ; لأن هذا ليس لتخصيصه بل لأن السكوت في
ـــــــ
لا بناء على أن عدم الوصف علة لعدم الحكم عند عدم الوصف، ومن ثمرات الخلاف أنه إذا كان الحكم المذكور حكما عدميا لا يثبت الحكم الثبوتي فيما عدا الوصف عندنا كقوله: عليه السلام: "ليس في العلوفة زكاة" فإنه لا يلزم منه أن الإبل إذا لم تكن علوفة كان فيها زكاة عندنا؛ لأن الحكم الثبوتي لا يمكن أن يثبت بناء على العدم الأصلي، وعنده يثبت فيما عدا الوصف الحكم الثبوتي، وأيضا من ثمرات الخلاف صحة التعدية، وعدمها كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] هل تصح تعدية عدم جواز الكافرة في كفارة القتل إلى كفارة اليمين، وقد مر في فصل المطلق والمقيد.
................................................................................................
دائما أما الاشتراط فظاهر، وأما انتفاء الشرط دائما فلأن فوائد الوصف غير محصورة، ولا مضبوطة خصوصا في كلام الله تعالى، وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز أن يكون لكلمة واحدة منهما فوائد كثيرة يعجز عن إدراكها فهم العقلاء، وإذا لم تكن محصورة معلومة لم يحصل الجزم بانتفاء الجميع سوى الدلالة على نفي الحكم عما عداه، وهاهنا نظر أما أولا: فلأن ما نقله من أنهم حصروا موجبات التخصيص في الأربعة المذكورة وفي نفي الحكم عما عداه سهو ظاهر لما ذكر في أصول ابن الحاجب، وغيره أن شرطه أن لا يظهر أولوية ولا مساواة، ولا يخرج مخرج الأغلب، ولا لسؤال، ولا لحادثة، ولا تقرير جهالة أو خوف أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر، ولقد صرحوا بأنه إنما يحمل على نفي الحكم عما عداه إذا لم يظهر للوصف فائدة أخرى أصلا، وأما ثانيا فلأن الوصف للكشف أو المدح أو الذم أو التأكيد ليس من التخصيص بالوصف في شيء؛ لما عرفت فكأنه فهم من التخصيص بالوصف ذكر الوصف في الجملة، وإنما المراد به الوصف الذي يكون للتخصيص، أي نقص الشيوع، وتقليل الاشتراك، وأما ثالثا؛ فلأنه لا نزاع لهم في أن المفهوم ظني يعارضه القياس فلا يتوقف على الجزم بانتفاء الموجبات الأخر بل يكفي الظن بذلك، وهو حاصل بعدم ظهور شيء من الموجبات بعد التأمل والتفحص.
قوله: "وقوله لكان ذكره ترجيحا" يعني بما ذكرنا من الدليل يظهر الجواب عن دليلهم الثالث؛ لأن انتفاء الفوائد المذكورة لا يوجب انتفاء المرجح لجواز أن يكون مرجح آخر غيرها.
قوله: "ولأن أقصى درجاته" فيه نظر؛ لأن القائلين بالمفهوم إنما يقولون بذلك إذا لم يظهر للحكم علة أخرى بعد التفحص، والاستقصاء وحينئذ يحصل الظن، وهو كاف إذ لا قائل بأن المفهوم قطعي، وبهذا يظهر الجواب عما يقال: إنه لو ثبت الوصف لثبت إما بالتواتر، وهو منتف اتفاقا أو بالآحاد، وهو غير مقيد؛ لأن المسألة من الأصول.(1/272)
موضع الحاجة بيان لا يقال: لا حاجة إلى البيان فإنها صارت بالأول أم ولد فيثبت نسبا الأخيرين بلا دعوة ; لأنه إنما يكون كذلك أن لو كانت دعوة الأكبر قبل ولادة الأخيرين أما هاهنا فلا ولا يلزم إذا قال الشهود لا نعلم له وارثا في أرض كذا أنه لا تقبل شهادتهم عندهما فهذا بناء على أن التخصيص دال على ما قلنا لأن الشاهد لما
ـــــــ
ونظيره قوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] هذا لا يوجب تحريم نكاح الأمة الكتابية عندنا خلافا له مع أنه يحتمل الخروج مخرج العادة" فالعادة أن لا ينكح المؤمن إلا المؤمنة، ثم أورد مسألتين يتوهم فيهما أنا قائلون بأن التخصيص بالوصف يدل على نفي الحكم عما عداه، وهما مسألتا الدعوة، والشهادة فقال: "ولا يلزم علينا أمة، ولدت ثلاثة في بطون مختلفة فقال: المولى الأكبر مني فإنه نفى الأخيرين؛ لأن هذا ليس لتخصيصه" هذا دليل على قوله لا يلزم، والمعنى أن كونه نفيا للآخرين ليس لأجل أن التخصيص دال على نفي الحكم عما عداه "بل لأن السكوت في موضع الحاجة بيان" فإنه يحتاج إلى البيان أي إلى الدعوة لو كان الولد منه فلما سكت عن الدعوة يكون بيانا بأنه ليس منه. وأيضا إنما انتفى نسب الآخرين؛ لأن الدعوة شرط لثبوت نسبهما، ولم توجد لا لأنه نفى نسبهما، وإنما قال: في بطون مختلفة حتى لو ولدت في بطن واحدة فإن دعوة الواحد دعوة للجميع "لا يقال: لا حاجة إلى البيان فإنها صارت بالأول أم ولد فيثبت نسبا الأخيرين بلا دعوة؛ لأنه إنما يكون كذلك أن لو كانت دعوة الأكبر قبل ولادة الأخيرين" أما هاهنا فلا فإن دعوة الأكبر في مسألتنا متأخرة عن ولادة الأخيرين فلا يكون الأخيران ولدي أم لولد بل هما ولدا الأمة فيحتاج ثبوت نسبهما إلى الدعوة. "ولا يلزم إذا قال الشهود لا نعلم له وارثا في أرض كذا أنه لا تقبل شهادتهم عندهما فهذا" أي عدم قبول الشهادة عندهما "بناء على أن التخصيص دال على ما قلنا" أي على نفي
................................................................................................
قوله: "مع أنه يحتمل الخروج مخرج العادة" ؛ لأن العادة أن لا ينكح المؤمن إلا المؤمنة ليس على ما ينبغي؛ لأن معنى الخروج مخرج العادة أن يكون ذكر الوصف بناء على أن العادة جارية باتصاف المذكور بذلك الوصف، وأن الغالب هو الاتصاف ككون الربائب في حجوركم، ولو كانت الفتيات، أي الإماء مؤمنات في الغالب، والعادة جارية بذلك لصح ما ذكره.
قوله: "في بطون مختلفة" بأن تكون بين الولدين ستة أشهر فصاعدا.
قوله: "أما هاهنا فلا" يعني أن الفراش إنما يثبت لها من وقت الدعوة فكان انفصال الولدين الأخيرين قبل ظهور الفراش فيها فيكونان ولدي الأمة.
قوله: "في أرض كذا" يحتمل أن يكون صفة وارثا، وأن يكون ظرفا لغوا متعلقا بلا نعلم فيكون مناسبا للتخصيص بالصفة من جهة أنه تقييد، وهذا كما أوردوا في بحث التخصيص بالصفة قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31].
قوله: "عملا بشرطيته" فإن شرط الشيء ما يتوقف عليه تحققه، ولا يكون داخلا في ذلك الشيء(1/273)
ذكر ما لا حاجة إليه جاء شبهة، وبها ترد الشهادة، ونحن لا ننفي الشبهة فيما نحن فيه وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا سكوت في غير موضع الحاجة ; لأن ذكر المكان غير واجب، وهو هاهنا يحتمل الاحتراز عن المجازفة.
ـــــــ
الحكم عما عداه فيفهم من هذا الكلام أن الشهود يعلمون له وارثا في غير تلك الأرض فبناء على هذا المعنى لا تقبل شهادتهم "لأن الشاهد" دليل على قوله ولا يلزم "لما ذكر ما لا حاجة إليه جاء شبهة، وبها ترد الشهادة، ونحن لا ننفي الشبهة فيما نحن فيه" أي في التخصيص بالوصف أي لا ننفي كونه شبهة في نفي الحكم عما عداه، والشبهة كافية في عدم قبول الشهادة، ولا حاجة إلى الدلالة.
"وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا" أي السكوت عن غير الأرض المذكورة "سكوت في غير موضع الحاجة؛ لأن ذكر المكان غير واجب، وهو هاهنا" أي ذكر المكان المذكور "يحتمل الاحتراز عن المجازفة" فإنهم ربما كانوا متفحصين على أحوال تلك الأرض فأرادوا بنفي علمهم بالوارث في أرض كذا نفي وجوده فيها؛ لأنه لو كان موجودا فيها لكانوا عالمين به أما سائر الأراضي فلا معرفة لهم بأحوالها فخصوا عدم الوارث بالأرض المذكورة دون سائر الأراضي احترازا عن المجازفة "ومنه التعليق بالشرط يوجب العدم عند عدمه عند
................................................................................................
ولا مؤثرا فيه فبالضرورة ينتفي بانتفائه، وهذا دليل ينفرد به الشرط، وإلا فجميع ما ذكر في الصفة من المقبول والمزيف جار هاهنا، وبالجملة دلائل مفهوم الشرط أقوى حتى ذهب إليه بعض من لم يذهب إلى مفهوم الصفة.
قوله: "بعين ما ذكرنا" أي بناء على عدم علة الحكم لا بناء على أن عدم الشرط علة لعدم الحكم.
قوله: "وما ذكرنا من ثمرة الخلاف" يعني لو قال: إن كانت الإبل معلوفة فلا تؤد زكاتها لا يجب بذلك الزكاة في السائمة خلافا له، وأيضا الحكم المعدوم عند عدم الشرط لا يجوز تعديته بالقياس؛ لأنه ليس بحكم شرعي، وعنده يجوز.
قوله: "له؛ لأن الشرط" جواب عن الاستدلال المذكور، وحاصله أنا لا نسلم أن الشرط هاهنا ما يتوقف عليه الشيء بل ما علق عليه الحكم كالدخول في مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، ولا يلزم من انتفائه انتفاء المعلق عليه، وهو ظاهر، والمعنيان المذكوران للشرط كلاهما شائع في عرف الشرع، والشرط في العرف العام ما يتوقف عليه وجود الشيء، وفي اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون داخلا في الشيء، ولا مؤثرا فيه، وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه شيء من الأدوات المخصوصة الدالة على سببية الأول "و" مسببية الثاني ذهنا أو خارجا سواء كان علة للجزاء، مثل: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، أو معلوما مثل إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة أو غير ذلك مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، ومحل النزاع هو الشرط النحوي، وظاهر أنه لا يلزم(1/274)
ومنه التعليق بالشرط يوجب العدم عند عدمه عند الشافعي رحمه الله عملا بشرطيته فإن الشرط ما ينتفي بانتفائه، وعندنا العدم لا يثبت به بل يبقى الحكم على العدم الأصلي لأن الشرط يقال: لأمر خارج يتوقف عليه الشيء، ولا يترتب كالوضوء، وقد يقال: للمعلق به، وهو ما يترتب الحكم عليه ولا يتوقف به، فالشرط
ـــــــ
الشافعي رحمه الله عملا بشرطيته فإن الشرط ما ينتفي بانتفائه، وعندنا العدم لا يثبت به" أي بالتعليق "بل يبقى الحكم على العدم الأصلي" حتى لا يكون هذا العدم حكما شرعيا بل عدما أصليا بعين ما ذكرنا في التخصيص بالوصف، وما ذكرنا من ثمرة الخلاف ثمت يظهر هنا أيضا "لأن الشرط يقال: لأمر خارج يتوقف عليه الشيء، ولا يترتب كالوضوء، وقد يقال: للمعلق به، وهو ما يترتب الحكم عليه ولا يتوقف عليه، فالشرط بالمعنى الأول يوجب ما ذكرتم لا بالمعنى الثاني" أي ينتفي المشروط عند انتفاء الشرط بالمعنى الأول كالوضوء شرط لصحة الصلاة فإنه ينتفي صحة الصلاة عند انتفاء الوضوء، وليس المراد أن انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط بهذا المعنى حكم شرعي بل لا شك أن عدم صحة الصلاة عند عدم الوضوء عدم أصلي لكن مع ذلك يكون عدم الوضوء دالا على عدم صحة الصلاة، وأما الشرط بالمعنى الثاني فإنه لا دلالة لانتفائه على انتفاء المشروط فإن المشروط يمكن أن يوجد بدون الشرط نحو إن دخلت الدار فأنت طالق فعند انتفاء الدخول يمكن أن يقع الطلاق بسبب آخر. "فقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء:25] الآية يوجب عدم جواز نكاح الأمة عند طول
................................................................................................
أن يكون موقوفا عليه إلا أنه قد يجاب بأنه إن اتحد السبب فالحكم ينتفي بانتفائه، وإلا فإن ظهر سبب آخر فلا نزاع في عدم المفهوم، وإن لم يظهر فالأصل عدمه، ويحصل الظن بالمفهوم، ولا نزاع في عدم القطع.
قوله: " {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} "، أي، ومن لم يملك زيادة في المال يقدر بها على نكاح الحرة فلينكح مملوكة من الإماء المؤمنات فعنده لا يجوز نكاح الأمة عند استطاعة نكاح الحرة، ويكون هذا حكما شرعيا ثابتا بطريق المفهوم مخصصا لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، وعندنا هو عدم أصلي لا حكم شرعي فلا يصلح مخصصا لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} على ما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى في أن المخصص لا يجب أن يكون موصولا بالعام، ولا ناسخا له على ما هو مذهبنا في المتراخي أنه نسخ لا تخصيص، وذلك لأن الناسخ يجب أن يكون حكما شرعيا لا عدما أصليا، وقد يقال: المراد أنه لا يصلح مخصصا، أي على تقدير الاتصال، ولا ناسخا، أي على تقدير عدم الاتصال، وفيه نظر؛ لأن عدم الاتصال ظاهر لا خفاء فيه فإذا لم يكن مخصصا، ولا ناسخا يبقى الجواز لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، وهذا بخلاف قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة:196] {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة:4] {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] فإنه لم يقم دليل على ثبوت هذه الأحكام قبل هذه الشروط فبقيت على العدم الأصلي فإن قيل:(1/275)
بالمعنى الأول يوجب ما ذكرتم لا بالمعنى الثاني فقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} الآية يوجب عدم جواز نكاح الأمة عند طول الحرة عنده، وتجوز عندنا وهذا بناء على أن الشافعي رحمه الله تعالى اعتبر المشروط بدون الشرط فإنه يوجب الحكم على جميع التقادير فالتعليق قيده بتقدير معين، وأعدمه على غيره فيكون له تأثير في
ـــــــ
الحرة عنده، ويجوز عندنا" قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] علق جواز نكاح الأمة بعدم القدرة على نكاح الحرة فإن كانت القدرة على نكاح الحرة ثابتة يثبت عدم جواز نكاح الأمة عنده فيصير مفهوم هذه الآية مخصصا عنده لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، وعندنا لما لم يدل على نفي الجواز لا يصلح مخصصا، ولا ناسخا لتلك الآية، فيثبت الجواز بتلك الآية.
"وهذا بناء على" أي هذا الخلاف مبني على "أن الشافعي رحمه الله تعالى اعتبر المشروط بدون الشرط فإنه يوجب الحكم على جميع التقادير فالتعليق قيده" أي الحكم "بتقدير معين، وأعدمه" أي الحكم "على غيره فيكون له" أي للتعليق "تأثير في العدم" أي عدم الحكم "ونحن نعتبره معه" أي نعتبر المشروط مع الشرط "فإن الشرط والجزاء كلام واحد أوجب الحكم على تقدير، وهو ساكت عن غيره فالمشروط بدون الشرط مثل أنت في أنت طالق" أي المشروط، وهو قولنا أنت طالق في قولنا أنت طالق إن دخلت الدار، إذا أخذ
................................................................................................
المعلق بالشرط يجب أن يثبت عند ثبوته، وهذا فيما ثبت قبل الشرط محال كجواز نكاح الأمة قلنا يجب أن يثبت من حيث دلالة اللفظ، وهو لا ينافي ثبوته في الخارج قبل ذلك بنص آخر كما في الآيات المتعددة في وجوب الصلاة مثلا فإن الوجوب يجب أن يثبت بالأمر مع أن إثبات الثابت محال.
قوله: "وهذا بناء" التحقيق في الجملة الشرطية عند أهل العربية: أن الحكم هو الجزاء وحده، والشرط قيد له بمنزلة الظرف والحال، حتى إن الجزاء إن كان خبرا فالشرطية خبرية، وإن كان إنشاء فإنشائية، وعند أهل النظر أن مجموع الشرط والجزاء كلام واحد دال على ربط شيء بشيء، وثبوته على تقدير ثبوته من غير دلالة على الانتفاء عند الانتفاء فكل من الشرط والجزاء جزء من الكلام بمنزلة المبتدأ والخبر فمال الشافعي رحمه الله تعالى إلى الأول، وجعل التعليق إيجابا للحكم على تقدير وجود الشرط، وإعداما له على تقدير عدمه فصار كل من الثبوت والانتفاء حكما شرعيا ثابتا باللفظ منطوقا ومفهوما، وصار الشرط عنده تخصيصا وقصرا لعموم التقادير على بعضها، ومال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى الثاني فجعل الكلام موجبا للحكم على تقدير وجود الشرط ساكتا عن النفي والإثبات على تقدير عدمه فصار انتفاء الحكم عدما أصليا مبنيا على عدم الثبوت لا حكما شرعيا مستفادا من النظم، ولم يكن الشرط تخصيصا إذ لا دلالة على عموم التقادير حتى يقصر على البعض.(1/276)
العدم ونحن نعتبره معه فإن الشرط والجزاء كلام واحد أوجب الحكم على تقدير، وهو ساكت عن غيره فالمشروط بدون الشرط مثل أنت في أنت طالق فعلى هذا المعلق بالشرط نحو إن دخلت الدار فأنت طالق انعقد سببا عنده لكن التعليق أخر الحكم إلى زمان وجود الشرط فأبطل تعليق الطلاق، والعتاق بالملك وجوز تعجيل
ـــــــ
مجردا عن الشرط فهو بمنزلة أنت في أنت طالق؛ لأنه ليس بكلام بل مجموع الشرط والجزاء كلام واحد فلا يكون موجبا للحكم على جميع التقادير كما زعم "فعلى هذا" أي على هذا الأصل، وهو أنه اعتبر المشروط بدون الشرط، ونحن اعتبرنا المشروط مع الشرط "المعلق بالشرط" نحو إن دخلت الدار فأنت طالق انعقد سببا عنده لكن التعليق أخر الحكم إلى زمان وجود الشرط "على ما ذكرنا" من أن المشروط بدون الشرط موجب للحكم على جميع التقادير، والتعليق قيد الحكم بتقدير معين، وأعدم الحكم على غيره من التقادير فصار أنت طالق سببا للحكم، ويكون تأثير التعليق في تأخير الحكم لا في منع السببية "فأبطل تعليق الطلاق، والعتاق بالملك" هذا تفريع على أن المعلق بالشرط انعقد سببا عنده فإن وجود الملك شرط عند وجود السبب بالاتفاق، والمعلق انعقد سببا عند الشافعي رحمه الله تعالى فإذا علق الطلاق أو العتاق بالملك فالملك غير موجود عند وجود السبب فيبطل التعليق "وجوز تعجيل النذر المعلق" فإن التعجيل بعد وجود السبب قبل: وجوب الأداء صحيح بالاتفاق كتعجيل الزكاة قبل الحلول إذا وجد السبب، وهو النصاب فالنذر المعلق انعقد سببا عنده فيجوز التعجيل "وكفارة اليمين إذا كانت مالية" فإن الشافعي رحمه الله تعالى جوز تعجيل الكفارة المالية قبل الحنث فإن اليمين سبب للكفارة عنده بناء على هذا الأصل فيثبت نفس الوجوب بناء على السبب، وإنما يثبت وجوب الأداء عند الشرط، وهو الحنث "لأن المالي يحتمل الفصل بين نفس الوجوب، ووجوب الأداء كما في الثمن بأن يثبت المال
................................................................................................
قوله: "وكفارة اليمين" أي وجوز تعجيل كفارة اليمين إذا كانت مالية بأن يعتق رقبة أو يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم قبل أن يحنث بناء على هذا الأصل، وهو أن السبب ينعقد قبل وجود الشرط، وأثر الشرط إنما هو في تأخير الحكم إلى زمان وجوده لا في منع السببية فإن قيل: هذا ليس من التعليق بالشرط في شيء بالمعنى الذي نحن فيه قلنا: لما قرر هذا الأصل في نحو أنت طالق إن دخلت الدار حيث كان قوله أنت طالق سببا، والدخول شرطا أشار إلى أنه جاز في السبب والشرط مطلقا سواء وجد فيه صورة التعليق، وأدوات الشرط أو لا، فإن الحلف عنده سبب للكفارة بدليل إضافتها إليه، والحنث شرط لتوقف وجوب أدائها عليه إجماعا، ويحتمل أن يقال: إنه في معنى من حلف فليكفر إن حنث فيصير مما نحن فيه.
قوله: "بناء على هذا الأصل" متعلق بقوله جوز تعجيل الكفارة لا بقوله فإن اليمين سبب.
قوله: "وفي البدني لما لم يثبت" أي نفس الوجوب قبل وجود الشرط بناء على أن وجوب(1/277)
النذر المعلق وكفارة اليمين إذا كانت مالية لأن المالي يحتمل الفصل بين نفس الوجوب، ووجوب الأداء كما في الثمن بأن يثبت المال في الذمة مع أنه لا يجب أداؤه بخلاف البدني وعندنا لا ينعقد سببا إلا عند وجود الشرط ; لأن السبب ما يكون طريقا إلى الحكم، وقبل وجود الشرط ليس كذلك على ما عهدنا من الأصل فيختلف الحكم
ـــــــ
في الذمة مع أنه لا يجب أداؤه بخلاف البدني" ففي الكفارة المالية الفصل بين نفس الوجوب ووجوب الأداء ثابت كما في الثمن فإن نفس الوجوب بالشراء، ووجوب الأداء بالمطالبة فأما في البدنية فلا ينفك أحدهما عن الآخر ففي المالي لما ثبت نفس الوجوب بناء على السبب أفاد صحة الأداء، وفي البدني لما لم يثبت لم يصح الأداء، وأما قوله فلا ينفك أحدهما عن الآخر ففي فصل الأمر يأتي أن في العبادة البدنية لا ينفك نفس الوجوب عن وجوب الأداء.
"وعندنا لا ينعقد سببا إلا عند وجود الشرط؛ لأن السبب ما يكون طريقا إلى الحكم،
................................................................................................
الأداء لا يثبت قبل وجود الشرط إجماعا، والوجوب في البدني: إما عين وجوب الأداء أو هما متلازمان لا انفكاك بينهما فلا يثبت الوجوب حيث لا يثبت وجوب الأداء فتعجيله قبل الشرط يكون تعجيلا قبل الوجوب فلا يصح كما لا تصح الصلاة قبل الوقت بخلاف الزكاة قبل الحلول. واعلم أن المذكور في أصول الشافعية أن نفس الوجوب قد ينفصل عن وجوب الأداء كما في صلاة النائم والناسي فإنها واجبة لوجود السبب، وتعلق الخطاب، وليست بواجبة الأداء بل يظهر الأثر في حق القضاء، وتحقيقه أنه يجب عليه في الوقت أن يصلي بعد زوال العذر، وأما تعلق الوجوب بنفس المال فلا يطابق أصولهم؛ لأن الحكم لا يتعلق إلا بفعل المكلف بل لا معنى له إلا الخطاب المتعلق بفعل المكلف، ولهذا صرحوا في نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] أنه من باب الحذف بقرينة دلالة العقل على أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان، وذهب الإمام السرخسي وفخر الإسلام رحمهما الله، ومن تابعهما إلى أن الحكم يتعلق بالعين كما يتعلق بالفعل، ومعنى حرمة العين خروجها أن تكون محلا للفعل شرعا كما أن حرمة الفعل خروجه من الاعتبار شرعا فلا ضرورة إلى اعتبار الحذف أو المجاز، وأيضا معنى الحرمة المنع فمعنى حرمة الفعل أن العبد منع عن اكتسابه وتحصيله فالعبد ممنوع، والفعل ممنوع عنه، وهذا كما يقال: لا تشرب هذا الماء، وهو بين يديه، ومعنى حرمة العين أنها منعت عن العبد تصرفا فيها فالعين ممنوعة والعبد ممنوع عنه، وذلك كما إذا صب الماء الذي بين يديه فهذا أوكد، وأبلغ. وذكر في الميزان أن المعتزلة إنما أنكروا حرمة الأعيان لئلا يلزمهم نسبة خلق القبيح إلى الله تعالى بناء على أن كل محرم قبيح، والأقرب ما ذكر في الأسرار أن الحل أو الحرمة إذا كان لمعنى في العين أضيف إليها؛ لأنها سببه كما يقال: جرى النهر فيقال حرمت الميتة؛ لأن تحريمها لمعنى فيها، ولا يقال: حرمت شاة الغير؛ لأن حرمتها لاحترام المالك لا لمعنى فيها.
قوله: "وعندنا لا ينعقد" أي المعلق سببا للحكم إلا عند وجود الشرط، ولهم في بيان ذلك(1/278)
في المسائل المذكورة على أن اليمين انعقدت للبر فكيف تكون سببا للكفارة بل سببها الحنث وفرقه بين المالي والبدني غير صحيح إذ المال غير مقصود في حقوق الله تعالى وتبين الفرق بين الشرط، وبين الأجل وشرط الخيار فإن هذين دخلا على
ـــــــ
وقبل وجود الشرط ليس كذلك على ما عهدنا من الأصل"، وهو أنا نعتبر المشروط مع الشرط فلا يكون موجبا للوقوع لما ذكرنا أن الجزاء بمنزلة أنت في قولنا أنت طالق فلا ينعقد سببا للحكم بل إنما يصير سببا عند وجود الشرط "فيختلف الحكم في المسائل المذكورة على أن اليمين انعقدت للبر فكيف تكون سببا للكفارة بل سببها الحنث"؟ لما لم ينعقد سببا عندنا اختلف الحكم في المسائل المذكورة فيجوز تعليق الطلاق، والعتاق بالملك؛ لأن الملك متحقق عند وجود السبب قطعا، ولا يجوز تعجيل النذر، والكفارة عندنا؛ لأن التعجيل قبل السبب لا يجوز بالاتفاق، والسبب إنما يصير سببا عند وجود الشرط في باب النذر، والسبب للكفارة، هو الحنث عندنا فإن اليمين لم تنعقد سببا للكفارة؛ لأنها انعقدت للبر، والكفارة إنما تجب على تقدير الحنث فلا يكون اليمين سببا للكفارة بل هي شرط لها، والحنث سبب. "وفرقه بين المالي والبدني غير صحيح إذ المال غير مقصود في حقوق الله تعالى"، وإنما المقصود هو الأداء فيصير كالبدنية "وتبين الفرق" أي على مذهبنا "بين الشرط، وبين الأجل وشرط الخيار فإن هذين دخلا على الحكم أما الأجل فظاهر" فإنه داخل على الثمن لا على البيع
................................................................................................
طريقان: أحدهما أن المعلق قبل وجود الشرط بمنزلة جزء السبب لما مر من أن أنت طالق قبل الدخول بمنزلة أنت من أنت طالق، وجزء السبب لا يكون سببا الثاني: أن التعليق مانع للمعلق من الوصول إلى المحل، والأسباب الشرعية لا تصير أسبابا قبل الوصول إلى المحل؛ لأنها عبارة عما يكون طريقا إلى الشيء ومفضيا إليه، فكما لا يكون شطر البيع علة للبيع لعدم التمام كذلك بيع الحر لعدم الوصول إلى المحل، وأورد على الأول أن الإضافة أيضا ينبغي أن تكون مانعة مثل أنت طالق غدا، وأجيب بأن التعليق يمين، وهي لتحقيق البر فيه إعدام موجب المعلق لا وجوده فلا يكون المعلق مفضيا إلى وجود الحكم بخلاف الإضافة فإنها لثبوت الحكم بالإيجاب في وقته لا لمنع الحكم فيتحقق السبب لوجوده حقيقة من غير مانع إذ الزمان من لوازم الوقوع، وأورد على الثاني أنه لما لم يصل إلى المحل كان ينبغي أن يلغو كما إذا قال للأجنبية: أنت طالق، وأجيب بأنه لما كان مرجو الوصول بوجود الشرط، وانحلال التعليق جعل كلاما صحيحا له عرضية أن يصير سببا كشطر البيع حتى لو علق بشرط لا يرجى الوقوف على وجوده لغا مثل أنت طالق إن شاء الله تعالى.
قوله: "فيجوز تعليق الطلاق والعتاق بالملك" يشكل بما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أنه خطب امرأة فأبوا أن يزوجوها إلا بزيادة صداق، فقال إن تزوجتها فهي طالق ثلاثا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا طلاق قبل النكاح" فإن الحديث(1/279)
الحكم أما الأجل فظاهر وأما خيار الشرط فلأن البيع لا يحتمل الحظر، وإنما يثبت الخيار بخلاف القياس فدخوله على الحكم دون السبب أسهل من دخوله عليهما، وأما الطلاق، والعتاق فيحتملان الحظر.
ـــــــ
"وأما خيار الشرط فلأن البيع لا يحتمل الحظر، وإنما يثبت الخيار بخلاف القياس فدخوله على الحكم دون السبب أسهل من دخوله عليهما، وأما الطلاق، والعتاق فيحتملان الحظر" أي الشرط، والبيع لا يحتمله؛ لأنه يصير بالشرط قمارا فشرط الخيار شرط مع المنافي فإن كان داخلا على السبب يكون داخلا على السبب والحكم معا فدخوله على الحكم فقط أسهل من دخوله عليهما فأما الطلاق، والعتاق فيحتملان الشرط، والأصل أن يدخل التعليق في السبب كي لا يتخلف الحكم عن السبب، ولا مانع من دخوله على السبب فيدخل عليه بخلاف البيع.
................................................................................................
مفسر لا يقبل التأويل فلا بد من أن يبين نسخه أو عدم صحته.
قوله: "والسبب للكفارة هو الحنث عندنا" لوجهين: الأول أن اليمين انعقدت للبر، ووضعت للإفضاء إليه، والكفارة إنما تجب على تقدير عدم البر فلا يكون اليمين مفضيا إليها لامتناع إفضاء الشيء إلى ما لا يتحقق إلا عند عدم ذلك الشيء، والثاني أن السبب يجب تقرره عند وجود المسبب، واليمين لا يبقى عند وجود الكفارة؛ لأنها إنما تكون بعد الحنث الذي هو نقض لليمين بل السبب هو الحنث لكونه مفضيا إلى الكفارة من حيث إنه جناية وهتك لكنها لا توجد بدون اليمين فيكون شرطا، ولقائل أن يقول: على الأول لم لا يجوز أن يفضي اليمين إلى الكفارة بطريق الانقلاب والخلفية عن البر كالصوم والإحرام فإنهما يمنعان عن ارتكاب محظوريهما وبعد الارتكاب يصيران سببين لوجوب الكفارة بطريق الانقلاب؟ وعلى الثاني لم لا يجوز أن يبقى الخلف أعني الكفارة بعد انقطاع العلة كالمهر يبقى بعد انقطاع النكاح بالطلاق، وذلك؛ لأن العلة علة لإيجاب الأصل لا للبقاء، والخلف يخلفه في البقاء، وفي كون سبب الكفارة هو الإحرام أو الصوم نظر بل السبب هو الجناية عليهما.
قوله: "وفرقه" أي فرق الشافعي رحمه الله تعالى بين الحقوق المالية والبدنية بأنه ينفصل في المالية الوجوب عن وجوب الأداء فينعقد السبب وإن لم يجب الأداء بخلاف البدنية باطل؛ لأن الحق الواجب لله تعالى على العباد هو العبادة، وهو فعل يباشره العبد بخلاف هو نفسه ابتغاء لمرضاة الله تعالى فالمال لا يكون مقصودا في ذلك بل آلة يتأدى بها الواجب بمنزلة منافع البدن فتصير الحقوق المالية كالبدنية في أن المقصود بالوجوب هو الأداء، وأن تعليق وجوب الأداء بالشرط يمنع تمام السببية فيهما جميعا، وإنما جازت النيابة في المالية لحصول المقصود، وهو المشقة، ومخالفة هوى النفس بخلافه في البدنية، وسيجيء في باب الأمر أن الوجوب ينفصل عن وجوب الأداء في البدنية، وإنما قال: في حقوق الله تعالى؛ لأن المال هو المقصود في حقوق العباد إذ به ينتفع الإنسان، ويندفع الخسران.(1/280)
الباب الثاني: في إفادته الحكم الشرعي اللفظ المفيد له
مدخل
...
الباب الثاني في إفادته الحكم الشرعي اللفظ المفيد له
إما خبر أو إنشاء وأخبار الشارع آكد لأنه أدل على الوجود وأما الإنشاء فالمعتبر من أقسامه هاهنا الأمر والنهي، فالأمر، قول القائل استعلاء افعل، والنهي قوله استعلاء لا تفعل، والأمر حقيقة
ـــــــ
"الباب الثاني في إفادته الحكم الشرعي" أي في إفادة اللفظ الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة ونحوهما "اللفظ المفيد له" إما خبر إن احتمل الصدق، والكذب "من حيث هو" أي مع قطع النظر عن العوارض ككونه خبر مخبر صادق "أو إنشاء" إن لم يحتمل "وأخبار الشارع" كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233] "آكد" أي من الإنشاء "لأنه أدل على الوجود" اعلم أن إخبار الشارع يراد به الأمر مجازا، وإنما عدل عن الأمر إلى الإخبار؛ لأن المخبر به إن لم يوجد في الأخبار يلزم كذب الشارع، والمأمور به إن لم يوجد في الأمر لا يلزم ذلك فإذا أريد المبالغة في وجود المأمور به عدل إلى لفظ الإخبار مجازا.
"وأما الإنشاء فالمعتبر من أقسامه هاهنا الأمر والنهي، فالأمر، قول القائل استعلاء افعل، والنهي قوله استعلاء لا تفعل، والأمر حقيقة في هذا القول اتفاقا مجاز عن الفعل عند الجمهور
................................................................................................
قوله: "وتبين الفرق" لما جعل الشافعي رحمه الله تعالى التعليق بالشرط بمنزلة التأجيل، وشرط الخيار في أنه لا يمنع السبب عن "الانعقاد" وإنما يؤخر الحكم فقط أشار إلى الفرق بأن التأجيل إنما دخل على الثمن فيفيد تأخير لزوم المطالبة، ولا معنى لمنعه السبب عن الانعقاد والملك عن الثبوت إذ لا جهة لتأثير الشيء فيما لم يدخل فيه، وشرط الخيار دخل في الحكم فقط؛ لأنه ثبت على خلاف القياس لضرورة دفع الغبن، والضرورة تندفع بدخوله في مجرد الحكم بأن ينعقد السبب ويتأخر الحكم لحصول المقصود بذلك حيث يمكن لصاحب الخيار فسخ البيع بدون رضا صاحبه، ولا يجوز ذلك في السبب؛ لأن دخوله على السبب دخول على الحكم وتأخير له ضرورة أنه تابع للمسبب ثابت به، وأما الطلاق والعتاق فهما من الإسقاطات دون الإثباتات فيحتملان الشرط فيعمل بالأصل، وهو أن يدخل التعليق على السبب لئلا يلزم تأخير الحكم عن سببه، وأن يحمل الشيء على كماله، وكمال التعليق أن يدخل على السبب إذ لا ضرورة هنا في الاقتصار على مجرد الحكم وحمل التعليق على الناقص منه بخلاف البيع فإنه لا يحتمل الحظر أي الشرط لكونه من الإثباتات فيصير بالشرط قمارا وهو حرام محض، ولقائل أن يقول: الإعتاق أيضا من الإثباتات دون الإسقاطات على ما سبق منه أنه إثبات القوة الحكمية لا أنه إزالة الرق.
قوله: "الباب الثاني" أي الثاني من البابين اللذين أورد فيهما أبحاث الكتاب في المباحث المتعلقة بإفادة اللفظ للحكم الشرعي من الوجوب والحرمة وغيرهما، وذلك مباحث الأمر، والنهي.
قوله: "اللفظ المفيد له" الظاهر أن الضمير للحكم الشرعي إلا أن الخبر والإنشاء من اللفظ المفيد لمطلق الحكم قيد اللفظ بالمفيد ليخرج المفرد عن مورد القسمة فلا ينتقض حد الإنشاء به ضرورة أنه لفظ لا يحتمل الصدق والكذب، وقيد الاحتمال بكونه بالنظر إلى نفس اللفظ المفيد(1/281)
في هذا القول اتفاقا مجاز عن الفعل عند الجمهور، وعند البعض حقيقة، فما يدل على أنه للإيجاب يدل على إيجاب فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ; لأن فعله أمر حقيقة، وكل أمر للإيجاب احتجوا على الأصل بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} وعلى الفرع بقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" قلنا ليس حقيقة في الفعل ; لأن
ـــــــ
وعند البعض حقيقة، فما يدل على أنه" أي على أن الأمر "للإيجاب يدل على إيجاب فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن فعله أمر حقيقة، وكل أمر للإيجاب احتجوا على الأصل" وهو أن الأمر حقيقة في الفعل "بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]" أي فعله "وعلى الفرع"، وهو أن فعله عليه
................................................................................................
للحكم؛ لأنه بالنظر إلى العوارض قد لا يحتمل الكذب كخبر الشارع، ولم يتعرض لما لا يحتمل الصدق باعتبار العارض كقول القائل: السماء تحتنا لأن الكلام في اللفظ المفيد للحكم الشرعي، وهذا غير متصور فيه فعلى هذا لا حاجة إلى أن يقال المراد احتمال أحدهما، ومعنى احتماله لهما إمكان اتصافه بهما فإن كلا منهما كما يوصف به القائل يوصف به القول، لا يقال: الصدق مطابقة نسبة الخبر للواقع، والكذب عدمها فتعريف الخبر بهما دور؛ لأنا نقول: هذا تقسيم باعتبار اللازم المشهور لا تعريف، ولو سلم فماهية الخبر والإنشاء واضحة عند العقل، والمقصود تفسير لفظ الخبر، وتعريف الخبر من حيث إنه مدلول لفظ الخبر لا من حيث الماهية، والمأخوذ في تعريف الصدق والكذب نفس ماهية الخبر لا من حيث إنها مدلول هذا اللفظ فلا دور.
قوله: "وإخبار الشارع" لما كان مدلول الخبر هو الحكم بثبوت مفهوم لمفهوم أو نفيه عنه فالمحكوم به في خبر الشارع إن كان هو الحكم الشرعي مثل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] فلا يخفى أنه يفيد ثبوت الحكم الشرعي من غير أن يجعل مجازا عن الإنشاء، وإن لم يكن كذلك فوجه إفادته للحكم الشرعي أن يجعل الإثبات مجازا عن الأمر، والنفي مجازا عن النهي فيفيد الحكم الشرعي بأبلغ وجه؛ لأنه إذا حكم بثبوت الشيء أو نفيه فإن لم يتحقق ذلك لزم كذب الشارع، وهو محال بخلاف الأمر فإنه لا يلزم من عدم الإتيان بالمأمور به كذب الشارع. فإن قلت هذا إنما يتصور إذا كان الخبر على حقيقته، وأما إذا جعل مجازا عن الأمر فمن أين يتصور الكذب على تقدير عدم الإتيان بالفعل قلت نظرا إلى ظاهر صورة الخبر فإن قلت ففي مثل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233] الخبر الذي هو مجاز عن الأمر هو مجموع المبتدأ والخبر أم خبر المبتدأ وحده قلت ميل صاحب الكشاف إلى الثاني، وأن المعنى، والوالدات ليرضعن، وبعضهم يميلون إلى الأول زعما منهم أن خبر المبتدأ لا يكون جملة إنشائية، وقد بينا ذلك في شرح التلخيص.
قوله: "وأما الإنشاء" فهو إما طلبي أو غير طلبي، ولكل منهما أقسام كثيرة، والمعتبر منهما في بحث إفادة الحكم الشرعي هو الأمر والنهي إذ بهما يثبت أكثر الأحكام وعليهما مدار الإسلام ولهذا صدر بعض كتب الأصول بباب الأمر والنهي قال الإمام السرخسي أحق ما يبتدأ به في البيان الأمر والنهي؛ لأن معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتهما يتم معرفة الأحكام، ويتميز الحلال والحرام، وإنما قال: هاهنا؛ لأن المعتبر في علم المعاني هو الاستفهام لكثرة مباحثه.
قوله: "فالأمر قول القائل استعلاء" أي على سبيل طلب العلو وعد نفسه عاليا افعل، واحترز(1/282)
الاشتراك خلاف الأصل ; ولأنه إذا فعل ولم يقل افعل يصح نفيه، وتسميته أمرا مجاز إذ الفعل يجب به سلمنا أنه حقيقة فيه لكن الدلائل تدل على أن القول للإيجاب لا الفعل واللفظ كاف واللفظ كاف للمقصود، وهو الإيجاب، والترادف خلاف الأصل، وإيجاب
ـــــــ
السلام للإيجاب "بقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" قلنا ليس حقيقة في الفعل؛ لأن الاشتراك خلاف الأصل؛ ولأنه إذا فعل ولم يقل افعل يصح نفيه" أي نفي الأمر أي يصح لغة، وعرفا أن يقال: إنه لم يأمر، ومن هذا الدليل ظهر أن الأمر الذي هو مصدر ليس حقيقة في الفعل الذي هو مصدر لكن لم يثبت بهذا الدليل أن الأمر الذي هو اسم ليس بمعنى الشأن.
................................................................................................
بقيد الاستعلاء عن الدعاء، والالتماس مما هو بطريق الخضوع أو التساوي، ولم يشترط العلو ليدخل فيه قول الأدنى للأعلى افعل على سبيل الاستعلاء ولهذا ينسب إلى سوء الأدب، وعلى هذا يكون قول فرعون لقومه ماذا تأمرون مجازا، أي تشيرون، والمراد بقوله افعل ما يكون مشتقا من مصدره على طريقة اشتقاق افعل من الفعل، ثم لا نزاع في أن الأمر يطلق على نفس صيغة افعل صادرة عن القائل على سبيل الاستعلاء، وعلى التكلم بالصيغة وطلب الفعل على طريق الاستعلاء، ولهذا قال ابن الحاجب الأمر اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء، واحترز بقوله غير كف عن النهي، ويرد عليه نحو اكفف، اللهم إلا أن يراد غير كف عن الفعل الذي اشتقت منه صيغة الاقتضاء، وباعتبار الثاني، وهو كون الأمر بمعنى المصدر يشتق منه الفعل وغيره مثل أمر يأمر، والآمر والمأمور، وغير ذلك، وكذا القول يطلق بمعنى المقول، وبمعنى المصدر فالتعريف المذكور يمكن تطبيقه على الاعتبارين لكن الأول أنسب؛ لأنه جعل الأمر، والنهي من أقسام الإنشاء والإنشاء قسما من اللفظ المفيد لكن يرد عليه أنه إن أريد اصطلاح العربية فالتعريف غير جامع؛ لأن صيغة افعل عندهم أمر سواء كان على طريق الاستعلاء أو غيره، وإن أريد اصطلاح الأصول فغير مانع؛ لأن صيغة افعل على سبيل الاستعلاء قد يكون للتهديد والتعجيز ونحو ذلك، وليست بأمر، لا يقال: المراد صيغة افعل مرادا بها ما يتبادر منها عند الإطلاق؛ لأنا نقول فحينئذ يكون قيد الاستعلاء مستدركا، وهو ظاهر فإن قيل: ويرد على عكس التعريف قول الأدنى للأعلى افعل تبليغا أو حكاية عن الآمر المستعلي فإنه أمر، وليس على طريق الاستعلاء من القائل؟ قلنا: مثله لا يعد في العرف مقول هذا القائل الأدنى بل مقول المبلغ عنه، وفيه استعلاء من جهته.
قوله: "والأمر حقيقة" أعاد صريح اللفظ دون الكناية؛ لأنه أراد الاسم دون المسمى كما يقال: الأسد حقيقة في السبع مجاز في غيره، يعني أن أمر حقيقة في صيغة افعل استعلاء بالاتفاق، ويطلق على الفعل مجازا عند الجمهور، وحقيقة عند البعض حتى يكون مشتركا فقد ذهب أبو الحسين البصري إلى أن لفظ الأمر مشترك بين القول المخصوص والشيء والفعل، والصفة والشأن لتبادر الذهن عند إطلاقه إلى هذه الأمور، ورد بالمنع بل يتبادر إلى القول المخصوص، وقيل: هو حقيقة للقدر المشترك بين الفعل والقول أعني مفهوم أحدهما دفعا للمجاز والاشتراك، وهو قول حادث(1/283)
فعله عليه السلام استفيد من قوله: "صلوا", على أنه أنكر على الأصحاب صوم الوصال، وخلع النعال مع أنه فعل، وموجبه التوقف عند ابن سريج حتى يتبين المراد ; لأنه يستعمل في معان مختلفة، وهي ستة عشر قلنا لو وجب التوقف هنا لوجب في النهي لاستعماله في معان ولأن النهي أمر بالانتهاء فلا يبقى الفرق بين قولك افعل ولا
ـــــــ
"وتسميته أمرا مجاز إذ الفعل يجب به" قوله إذ الفعل إلخ بيان لعلاقة المجاز بين الأمر والفعل "سلمنا أنه حقيقة فيه" أي في الفعل "لكن الدلائل تدل على أن القول للإيجاب لا الفعل" أي الدلائل التي تدل على أن الأمر القولي للإيجاب لا الفعل فإن تلك الدلائل غير قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] يراد بها الأمر القولي، ولا
................................................................................................
مخالف للإجماع فلم يلتفت إليه، وإذا كان الأمر حقيقة في الفعل، أيضا فالأدلة الدالة على كون الأمر للإيجاب تدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أيضا يدل على الإيجاب ضرورة أنه أمر وكل أمر للإيجاب، ولا يخفى أنه إنما يستقيم عند من يقول بعموم المشترك ليكون قولنا كل أمر شاملا للقول والفعل فالقول بكون فعله عليه السلام للإيجاب فرع على كونه أمرا فالحاصل أنه إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل فإن كان سهوا أو طبعا أو خاصا به فلا يجاب إجماعا، وإن كان بيانا لمجمل الكتاب يجب اتباعه إجماعا، وإن كان غير ذلك فهل يجوز أن يقول حقيقة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، وهل يجب علينا اتباعه أم لا؟ فقال البعض نعم، وقال الأكثرون لا، وهو المختار، وللمخالفين مقامان: أحدهما الأصل، وهو أن الفعل أمر، والثاني متفرع عليه، وهو أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للإيجاب فاحتجوا على الأصل بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، أي فعله؛ لأنه الموصوف بالرشيد، وكذا قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:152] {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:73]، وأمثال ذلك، واحتجوا عن الفرع بقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1 قاله حين شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاها مرتبة فثبت بهذا النفي أن فعله واجب الاتباع، وهو معنى كونه للإيجاب كما ثبت بقوله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] أن قوله موجب فإن قلت: أي حاجة إلى الاحتجاج على الفرع بعد إثبات الأصل؟ قلت فيه تنبيه على أنه مع ابتنائه على الأصل وثبوته بأدلته ثابت بدليل مستقل.
قوله: "قلنا" لما احتج الخصم على كل من الأصل والفرع على حدة احتج المصنف على بطلان كل منهما مع إشارة إلى جواب عن احتجاجه، والاحتجاج على بطلان الأصل من وجهين: الأول أن الأمر حقيقة في القول المخصوص بمعنى أنه موضوع له بخصوصه اتفاقا فلو كان حقيقة في الفعل أيضا يلزم الاشتراك، وهو خلاف الأصل لإخلاله بالتفاهم فلا يرتكب إلا بدليل، والمجاز وإن كان خلاف الأصل إلا أنه راجح على الاشتراك لكونه أكثر، وإنما قيدنا بقولنا أنه موضوع له
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 018 الدارمي في كتاب الصلاة 042 أحمد في مسنده "5/53".(1/284)
تفعل وهذا الاحتمال يبطل الحقائق وأيضا لم ندع أنه محكم، وعند العامة موجبه واحد إذ الاشتراك خلاف الأصل، وهو الإباحة عند بعضهم إذ هي الأدنى، والندب عند بعضهم إذ لا بد من ترجيح جانب الوجود، وأدناه الندب، والوجوب عند أكثرهم لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
ـــــــ
يمكن حملها على الفعلي، وسيأتي، وأما قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] فالضمير في أمره إن كان راجعا إلى الله تعالى لا يمكن حمله على الفعل، وإن كان راجعا إلى الرسول فالقول مراد إجماعا فلا يحمل على الفعل؛ لأن المشترك لا يراد به أكثر من معنى واحد على أنا لا نحتاج إلى إقامة الدليل على أن الفعل غير مراد بل هو محتاج إلى إقامة الدليل على أن المراد الفعل، ونحن في صدد المنع فصح ما قلنا إن الدلائل الدالة على
................................................................................................
بخصوصه؛ لأن مجرد كون اللفظ حقيقة في أمرين مختلفين لا يوجب الاشتراك لجواز أن يكون موضوعا للقدر المشترك بينهما كالحيوان فإنه حقيقة في الإنسان والفرس، وليس بمشترك بل هو متواطئ، الثاني أن الأمر لو كان حقيقة في الفعل لما صح نفيه عنه؛ لأن امتناع النفي من لوازم الحقيقة، واللازم باطل للقطع بأن من فعل فعلا ولم يصدر عنه صيغة افعل يصح عرفا ولغة أن يقال إنه لم يأمر، والدليل الأول أعم؛ لأن الثاني إنما يدل على أن الأمر الذي هو مصدر لا يطلق حقيقة على الفعل بالفتح أعني مصدر فعل حتى يشتق منه أمر بمعنى فعل، ويأمر بمعنى يفعل، ولا يدل على أن الأمر الذي هو اسم مصدر لا يطلق حقيقة على الفعل بالكسر، وهو اسم بمعنى الشأن ذكره في الصحاح، وفي هذا الكلام إشارة إلى ما سبق من أن الأمر يطلق حقيقة على نفس صيغة افعل استعلاء، وعلى اقتضاء الفعل بطريق الاستعلاء، والأول اسم والثاني مصدر بمنزلة القول، والخبر، والخلاف في أن الأول هل يطلق حقيقة على الحاصل من المصدر أعني الشأن، والثاني هل يطلق على الفعل الذي هو بمصدر فعل يفعل، ثم أجاب عن احتجاج الخصم بأن تسمية الفعل أمر كما في: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، وغيره من الآيات من قبيل المجاز باعتبار إطلاق اسم السبب على المسبب بناء على أن الفعل يجب بالأمر ويثبت به فيكون من آثاره، وقد يقال: شبه الداعي إلى الفعل بالأمر فسمى الفعل أمرا تسمية للمفعول بالمصدر كتسمية المشئون أي المقصود بالشأن الذي هو مصدر شأنت، أي قصدت، وذكر الإمام في المحصول أن الأظهر أن المراد من لفظ الأمر في الآية هو القول لما تقدم من قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} [هود:97]، أي أطاعوه فيما أمرهم به: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97] فوصفه بالرشد مجاز من باب وصف الشيء بوصف صاحبه.
قوله: "سلمنا" لما كان الأصل، وهو كون الأمر حقيقة في الفعل بحثا لغويا ربما يمكن إثباته بالنقل عن أئمة اللغة والشيوع في الاستعمال سلمه واشتغل بما هو من مباحث الأصول، وهو كون الفعل موجبا أو غير موجب فأبطل التفريع أولا، والفرع ثانيا، والدليل ثالثا.
أما الأول؛ فلأن الدلائل المذكورة على كون الأمر للإيجاب إنما تدل على أن الأمر بمعنى(1/285)
عَذَابٌ أَلِيمٌ} و {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وهذا حقيقة لا مجاز عن سرعة الإيجاد فيكون الوجود مرادا بهذا الأمر فكذا في كل أمر من الله تعالى ; لأن معناه كن
ـــــــ
أن الأمر للإيجاب لا تدل على أن الفعل للإيجاب. "واللفظ كاف" أي الأمر القولي كاف "للمقصود، وهو الإيجاب، والترادف خلاف الأصل، وإيجاب فعله عليه السلام استفيد من قوله عليه السلام صلوا على أنه أنكر على الأصحاب صوم الوصال، وخلع النعال مع أنه فعل،
................................................................................................
القول المخصوص للإيجاب، ولا تدل على أن الأمر بمعنى فعل النبي صلى الله عليه وسلم للإيجاب على ما سيأتي بيانه، واستدلال المصنف على أن الفعل غير مراد بأن القول مراد إجماعا فلا يراد الفعل؛ لأن المشترك لا عموم له، ولما كان مذهب الخصم عموم المشترك أعرض عن الاستدلال إلى المنع؛ لأن الخصم هو الذي يستدل على كون الأمر للإيجاب قولا كان أو فعلا فيكفينا أن نقول: لا نسلم أن الأمر بمعنى الفعل مراد من الأدلة الدالة على كون الأمر للوجوب أما في غير قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] فظاهر على ما ستعرفه، وأما في هذه الآية فلتوقفه على عموم المشترك، وهو ممنوع.
وأما الثاني، وهو إبطال كون الفعل موجبا فلأن تعدد الدال مع اتحاد المدلول خلاف الأصل لحصول المقصود بواحد اتفاقا، وهاهنا اللفظ موضوع للإيجاب اتفاقا فالقول بكون الفعل أيضا للإيجاب مصير إلى ما هو خلاف الأصل فلا يرتكب إلا بدليل كما في تعدد المدلول مع اتحاد الدال أعني الاشتراك، وإطلاق الترادف على توافق القول والفعل في الدلالة على الإيجاب خلاف الاصطلاح؛ لأنه إنما يطلق على توافق اللفظين لكن المقصود واضح، وقد يقال: إن الموضوع للمعاني إنما هي العبارات لا غير، وهي وافية بالمقاصد بل زائدة عليها فيكون الدال على الإيجاب هو القول لا الفعل، وأيضا المقصود بالأمر من أعظم المقاصد لكونه مبنى الأحكام، ومناط الثواب والعقاب فيجب أن يختص بالصيغة، ولا يحصل بغيرها كمقاصد الماضي والحال والاستقبال لا تحصل إلا بصيغها، وكلاهما ضعيف؛ لأن انحصار الموضوع في اللفظ، وفاء بالمقاصد في حيز المنع، وعلى تقدير التسليم لا ينافي كون الفعل للإيجاب؛ لأن القائلين به لا يدعون كونه موضوعا لذلك بل يدعون أنه يجب علينا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله التي ليست بسهو، ولا طبع، ولا مختصة به للدلائل الدالة على ذلك، وعظم المقصود لا يقتضي اتحاد الدال عليه بل تعدده لشدة الاهتمام، وكثرة الاحتياج إليه، ولهذا كثرت الألفاظ المترادفة فيما لهم به اهتمام.
وأما الثالث، وهو إبطال احتجاجهم على الفرع فلأن كون فعله موجبا مستفادا من قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1، وهو صيغة الأمر لا من نفس الفعل، وإلا لما احتيج إلى هذا الأمر بعد قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92]، وفي عبارة المصنف
ـــــــ
1 المصدر السابق.(1/286)
فاعلا لهذا الفعل إلا أن هذا يعدم الاختيار فلم يثبت الوجود، ويثبت الوجوب ; لأنه مفض إلى الوجود وغيرها من النصوص وللعرف فإن كل من يريد طلب الفعل جزما يطلب بهذا اللفظ.
ـــــــ
وموجبه التوقف عند ابن سريج حتى يتبين المراد؛ لأنه يستعمل في معان مختلفة، وهي ستة عشر":
1) الإيجاب كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72].
2) الندب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33].
3) التأديب كقوله عليه السلام: "كُلْ مما يليك".
................................................................................................
تسامح؛ لأن القول بأن كون الفعل موجبا مستفاد من هذا الحديث هو عين دعوى الخصم، والأقرب أن يقال: وجوب الاتباع في الصلاة ثبت بهذا الحديث لا بالفعل فالموجب هو القول لا غير، ثم عارض تمسكهم بالسنة بما روى أبو سعيد الخدري بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما على يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم فلما قضى صلاته قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟", قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فقال عليه السلام: "إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا فليمسحه، وليصل فيهما"، وبما روي أنه عليه السلام واصل فواصل أصحابه فأنكر عليهم ونهاهم عن ذلك، وقال أيكم مثلي يطعمني ربي، ويسقيني فلو كان الفعل موجبا لما أنكر عليهم، ونعم ما قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: إنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله فكيف صار اتباعهم في البعض دليلا، ولم يصر مخالفتهم في البعض دليلا.
قوله: "وموجبه" لما فرغ من بيان ما هو المدلول الحقيقي للفظ الأمر شرع في بيان ما هو المدلول الحقيقي لمسماه أعني لصيغة افعل، وقد اختلفوا في ذلك فذهب ابن سريج من أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أن موجب الأمر، أي الأثر الثابت به التوقف؛ لأنه يستعمل في معان كثيرة بعضها حقيقة اتفاقا، وبعضها مجاز اتفاقا فعند الإطلاق يكون محتملا لمعان كثيرة، والاحتمال يوجب التوقيف إلى أن يتبين المراد فالتوقف عنده في تعيين المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له؛ لأنه عنده موضوع الاشتراك اللفظي للوجوب، والندب، والإباحة، والتهديد، وذهب الغزالي، وجماعة من المحققين إلى التوقف، وتعيين الموضوع له أنه الوجوب فقط أو الندب فقط أو مشترك بينهما لفظا.
قوله: "التأديب" هو قريب من الندب إلا أن الندب لثواب الآخرة، والتأديب لتهذيب الأخلاق وإصلاح العادات، وكذا الإرشاد قريب منه إلا أنه يتعلق بالمصالح الدنيوية، والتهديد هو التخويف، ويقرب منه الإنذار مثل قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} [الزمر:8] فإنه إبلاغ مع تخويف، وقوله كلوا للامتنان على العباد بقرينة قوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:88]، وقوله ادخلوها، أي الجنة للإكرام بقرينة قوله: {بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46]، وقوله: انجلي، أي انكشفي(1/287)
1) الإرشادات كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282].
2) الإباحة نحو: {كُلُوا} [البقرة:57].
3) التهديد نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40].
4) الامتنان نحو: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:88].
5) الإكرام نحو: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46].
6) التعجيز نحو: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة:23].
7) التسخير نحو: {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة:65].
8) الإهانة نحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49].
9) التسوية: نحو: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور:16].
10) الدعاء: نحو اللهم اغفر لي.
11) التمني: نحو ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي.
12) الاحتقار نحو: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80].
13) التكوين: نحو: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117].
"قلنا لو وجب التوقف هنا لوجب في النهي لاستعماله في معان"، وهي التحريم كقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران:130]، والكراهة كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة، والتنزيه نحو: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]، والتحقير نحو: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} [طه:131]، وبيان العاقبة: نحو: {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، والإرشاد: نحو: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة:101]، والشفقة نحو النهي عن اتخاذ الدواب كراسي والمشي في نعل واحد "ولأن النهي أمر بالانتهاء" عطف على قوله لاستعماله في معان فلا يبقى الفرق بين قولك "افعل ولا تفعل"؛ لأنه يصير موجبهما التوقف، والفرق بين طلب الفعل وطلب الترك ثابت بديهة. "وهذا الاحتمال يبطل الحقائق" يمكن أن يراد بها حقائق الأشياء فإنه لو اعتبر مثل هذه الاحتمالات يجوز أن لا يكون زيد زيدا بل عدم الشخص الأول، وخلق مكانه
................................................................................................
جعله للتمني؛ لأنه استطال تلك الليلة حتى كان انجلاؤها بالصبح من قبيل المحالات التي لا رجاء في حصولها، وقوله ألقوا احتقار لسحر السحرة في مقابلة المعجزة الباهرة بدلالة الحال، والتكوين هو الإيجاد.
قوله: "قلنا" إبطال دليل التوقف بأنه منقوض بالنهي فإنه أيضا يستعمل لمعان مع أن موجبه ليس التوقف للعلم الضروري بأنه ليس موجب "افعل، ولا تفعل" واحدا ثم عارضه بأنه لو كان موجب الأمر هو التوقف لكان موجب النهي، أيضا التوقف؛ لأنه أمر بالانتهاء وكف النفس عن الفعل، ثم أبطل المقدمة القائلة: إن الاحتمال يوجب التوقف بوجهين: الأول أنه يستلزم بطلان حقائق الأشياء لاحتمال تبدلها في الساعات أو بطلان حقائق الألفاظ ولا يتحقق حملها على معانيها لاحتمال نسخ أو خصوص أو مجاز أو اشتراك. الثاني إلا إن بان أنه إنما ينافي القطع بأحد المعاني لا الظهور فيه(1/288)
شخص آخر، وهو عين مذهب السوفسطائية النافين حقائق الأشياء، ويمكن أن يراد حقائق الألفاظ إذ ما من لفظ إلا وله احتمال قريب أو بعيد من نسخ أو خصوص أو اشتراك أو مجاز فإن اعتبرت هذه الاحتمالات مع عدم القرينة تبطل دلالات الألفاظ على المعاني الموضوع لها.
"وأيضا لم ندع أنه محكم، وعند العامة موجبه واحد إذ الاشتراك خلاف الأصل، وهو الإباحة عند بعضهم إذ هي الأدنى، والندب عند بعضهم إذ لا بد من ترجيح جانب الوجود، وأدناه الندب، والوجوب عند أكثرهم لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]" يفهم من هذا الكلام خوف إصابة الفتنة أو العذاب بمخالفة الأمر إذ لولا ذلك الخوف لقبح التحذير فيكون مأمورا به واجبا إذ ليس على ترك غير الواجب خوف الفتنة أو العذاب. و " {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]" قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، القضاء، والله أعلم بمعنى الحكم، وأمرا مصدر من غير لفظه أو حال أو تمييز، ولا يمكن أن يكون المراد من القضاء ما هو المراد من قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت:12]؛ لأن عطف الرسول على الله تعالى يمنع ذلك، ولا يراد القضاء الذي يذكر في جنب القدر بعين ذلك فتعين أن المراد الحكم، والمراد من الأمر القول لا الفعل؛ لأنه إن أريد الفعل فإما أن يراد فعل القاضي أو المقضي عليه، والأول لا يليق؛ لأن الله تعالى إذا فعل فعلا فلا
................................................................................................
ونحن لا ندعي أن الأمر محكم في أحد المعاني بحيث لا يحتمل غيره أصلا بل ندعي أنه ظاهر في الوجوب مثلا، ويحتمل الغير، وعند ظهور البعض لا وجه للتوقف بل يحمل عليه حتى يوجد صارف عنه، وهاهنا نظر أما أولا فلأن الواقفين في الأمر، واقفون في النهي، وثبوت الفرق بين طلب الفعل، وطلب الترك لا ينافي ذلك؛ لأن التوقف في الأمر توقف في أن المراد هو طلب الفعل جازما "و" هو الوجوب أو راجحا "و" هو الندب أو غير ذلك مع القطع بأنه ليس لطلب الترك، والتوقف في النهي توقف في أن المراد هو طلب الترك جازما وهو التحريم، أو راجحا وهو الكراهة مع القطع بأنه ليس لطلب الفعل فالتوقف في كل منهما توقف فيما يحتمله فمن أين يلزم التساوي، وعدم الفرق بين افعل، ولا تفعل، وأما ثانيا فلأن الاحتمال في الأمر والنهي احتمال ناشئ عن الدليل على تعدد المعاني، وهو الوضع أو الشيوع وكثرة الاستعمال فأين هذا من احتمال تبدل الأشخاص أو احتمال الألفاظ لغير معانيها الحقيقية عند الإطلاق.
قوله: "وبيان العاقبة نحو: {وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:87]" هكذا وقع في أكثر النسخ، وفي بعضها لا تعتذروا، والحق أنه سقط هاهنا شيء من قلم الكاتب، والصواب أن يكتب هكذا، وبيان العاقبة نحو: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [ابراهيم:42]، واليأس نحو: {لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:66].
قوله: "وهذا الاحتمال" أي اعتباره، والتوقف بسببه يبطل الحقائق.(1/289)
معنى لنفي الخيرة، وإن أريد فعل المقضي عليه فالمراد إذا قضى بأمر فالأصل عدم تقدير الباء، وأيضا يكون المعنى إذا حكم بفعل لا تكون الخيرة، والحكم بفعل مطلقا لا يوجب نفي الخيرة إذ يمكن أن يكون الحكم بإباحة فعل أو ندبه، وإن أوجب ذلك فهو المدعي فعلم أن المراد بالأمر ما ذكرنا لا الفعل. و " {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [لأعراف:12]" فالذم على تركه يوجب الوجوب و " {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، وهذا حقيقة لا مجاز عن سرعة الإيجاد" ذهب الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله إلى أن هذا مجاز عن سرعة الإيجاد والمراد التمثيل لا حقيقة القول، وذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن حقيقة الكلام مرادة بأن أجرى الله تعالى سننه في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة لكن المراد هو الكلام النفسي المنزه عن الحروف والأصوات، وعلى المذهبين يكون الوجود مرادا من هذا الأمر أما على المذهب الثاني فظاهر، وأما على المذهب الأول فلأنه جعل الأمر قرينة
................................................................................................
قوله: "وعند العامة" أي أكثر العلماء أن موجب الأمر واحد؛ لأن الغرض من وضع الكلام هو الإفهام، والاشتراك مخل به فلا يرتكب إلا عند قيام الدليل، وهذا ينفي القول باشتراكه لفظا بين الوجوب والندب على ما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى أو بينهما، وبين الإباحة أو بين الثلاثة وبين التهديد على ما ذهب إليه الشيعة، ونقل عن ابن سريج، ولا ينفي القول باشتراكه معنى بين الوجوب والندب؛ لأن موجبه واحد، وهو الطلب جازما كان أو راجحا، وقد يعبر عنه بترجيح الفعل، أو بين الوجوب أو الندب، والإباحة على ما ذهب إليه المرتضى من الشيعة فإن موجبه حينئذ، أيضا واحد، وهو الإذن في الفعل، ثم اختلف القائلون بأن موجبه واحد من هذه الأمور المذكورة في ذلك الواحد على ثلاثة مذاهب، فقال بعض أصحاب مالك: إنه الإباحة؛ لأنه لطلب وجود الفعل، وأدناه المتيقن إباحته، وقال أبو هاشم، وجماعة من الفقهاء، وعامة المعتزلة، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى إنه الندب؛ لأنه لطلب الفعل فلا بد من رجحان جانبه على جانب الترك، وأدناه الندب لاستواء الطرفين في الإباحة، وكون المنع عن الترك أمرا زائدا على الرجحان.
وقال أكثر العلماء إنه الوجوب؛ لأنه كمال الطلب، والأصل في الأشياء الكمال؛ لأن الناقص ثابت من وجه دون وجه فمن جعله للإباحة أو الندب جعل النقصان أصلا والكمال عارضا، وهو قلب المعقول، ولما كان هذا إثباتا للغة بالترجيح أعرض عنه المصنف رحمه الله، وتمسك بالنص ودلالة الإجماع أما النص فآيات منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] فإن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية فخوفهم، وحذرهم من إصابة الفتنة في الدنيا أو العذاب في الآخرة يجب أن يكون بسبب مخالفتهم الأمر، وهي ترك المأمور به كما أن موافقته الإتيان به؛ لأنه المتبادر إلى الفهم لا عدم اعتقاد حقيته، ولا حمله على غير ما هو عليه بأن يكون للوجوب أو الندب مثلا فيحمل على غيره يقال: خالفني فلان عن كذا إذا أعرض عنه، وأنت قاصد إياه مقبل عليه فالمعنى يخالفون المؤمنين عن أمر الله أو أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون على تضمين المخالفة معنى الإعراض، أي يعرضون عن الأمر ولا يأتون بالمأمور به، فسوق الآية للتحذير عن مخالفة الأمر، وإنما يحسن ذلك إذا كان فيها خوف الفتنة أو(1/290)
للإيجاد، ومثل سرعة الإيجاد بالتكلم بهذا الأمر وترتب وجود المأمور به عليه، ولولا أن الوجود مقصود من الأمر لما صح هذا التمثيل. "فيكون الوجود مرادا بهذا الأمر" أي إرادة الله تعالى أنه كلما وجد الأمر يوجد المأمور به.
"فكذا في كل أمر من الله تعالى؛ لأن معناه كن فاعلا لهذا الفعل" أي يكون الوجود مرادا في كل أمر من الله تعالى؛ لأن كل أمر فإن معناه كن فاعلا لهذا الفعل فقوله: صل، أي كن فاعلا للصلاة: وزك، أي كن فاعلا للزكاة فثبت أن كل أمر أمر بالكون فيجب أن يتكون ذلك الفعل "إلا أن هذا" أي كون الوجود مرادا من كل أمر "يعدم الاختيار فلم يثبت الوجود، ويثبت الوجوب؛ لأنه مفض إلى الوجود وغيرها من النصوص" كقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93]
................................................................................................
العذاب إذ لا معنى للتحذير عما لا يتوقع فيه مكروه، ولا يكون في مخالفة الأمر خوف الفتنة أو العذاب إلا إذا كان المأمور به واجبا إذ لا محذور في ترك غير الواجب، لا يقال: هذا إنما يتم على تقدير وجوب الخوف والحذر بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} [النور:63]، وهو أول المسألة وعين النزاع على تقدير كون أمره عاما، وهو ممنوع بل هو مطلق، ولا نزاع في كون بعض الأوامر للوجوب؛ لأنا نقول: لا نزاع في أن الأمر قد يستعمل للإيجاب في الجملة، والأمر بالحذر من هذا القبيل بقرينة السياق، وأنه لا معنى هاهنا للندب أو الإباحة بل الحذر عن إصابة المكروه واجب، وأمره مصدر مضاف من غير دلالة على معهود فيكون عاما لا مطلقا وعلى تقدير كونه مطلقا يتم المطلوب؛ لأن المدعى أن الأمر المطلق للوجوب، ولا نزاع في أنه قد يكون لغيره مجازا بمعونة القرائن.
والأقرب أن يقال المفهوم من الآية التهديد على مخالفة الأمر وإلحاق الوعيد بها فيجب أن يكون مخالفة الأمر حراما وتركا للواجب ليلحق بها الوعيد والتهديد، ومنها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، الضمير في لهم لمؤمن ومؤمنة جمع لعمومها بالوقوع في سياق النفي وفي أمرهم لله ورسوله جمع للتعظيم، والمعنى ما صح لهم أن يختاروا من أمرهما شيئا، ويتمكنوا من تركه بل يجب عليهم المطاوعة وجعل اختيارهم تبعا لاختيارهما في جميع أوامرهما بدليل وقوع الأمر نكرة في سياق الشرط مثل إذا جاءك رجل فأكرمه، وهذا أولى من القول بوقوعه في سياق النفي. ثم لا بد هاهنا من بيان الأمرين: أحدهما أن القضاء هاهنا بمعنى الحكم، وتحقيقه أنه إتمام الشيء قولا كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، أي حكم أو فعلا كما في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت:12]، أي خلقهن وأتقن أمرهن، ولا يخفى أن الإسناد إلى الرسول يأبى عن هذا المعنى فتعين الأول، وأما إطلاقه على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث إنه يوجبه فمجاز، وثانيهما: أن المراد من الأمر هو القول دون الفعل أو الشيء على ما ذكروا في قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْراً} [آل عمران:47]، أي إذا أراد شيئا، وذلك؛ لأنه لو أريد فعل فعلا فلا معنى لنفي خيرة المؤمنين، ولو أريد حكم بفعل أو شيء احتيج إلى تقدير الباء، وهو خلاف الأصل، وعلى تقدير ارتكابه لا يصح نفي الخيرة على الإطلاق لجواز أن يكون الحكم بندب فعل شيء أو إباحته، وحينئذ تثبت الخيرة، وعلى تقدير أن يكون الحكم بفعل موجبا لنفي الخيرة يثبت(1/291)
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]، وللعرف فإن كل من يريد طلب الفعل جزما يطلب بهذا اللفظ.
................................................................................................
المدعى، وهو أن الأمر بالشيء يقتضي نفي الخيرة للعباد ولزوم المتابعة والانقياد فظهر أن المراد من الأمر في قوله، من أمرهم هو القول المخصوص إما بمعنى المصدر أو نفس الصيغة سواء جعل أمرا نصبا على المصدر أو التمييز لما في الحكم من الإبهام أو الحال على أن المصدر بمعنى اسم الفاعل كما تقول جاءني زيد ركوبا فأعجبني ركوبه، ومنها قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [لأعراف:12] أي ما منعك من السجود على زيادة لا أو ما دعاك إلى ترك السجود مجازا؛ لأن المانع من الشيء داع إلى نقيضه، والاستفهام للتوبيخ والإنكار والاعتراض وهو إنما يتوجه على تقدير كون الأمر للإيجاب ليستحق تاركه الذم، وإلا فله أن يقول: إنك ما ألزمتني السجود فعلام اللوم والإنكار والتوبيخ فإن قلت هذا لا يدل إلا على كون الأمر بالسجود للوجوب، ولا نزاع لأحد في استعمال الأمر لذلك، وإنما النزاع في كونه حقيقة له، وخاصا به.
قلت: إطلاق قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] من غير قرينة مع قوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} [لأعراف:12] دون أن يقول: إذ أمرتك أمرا يجاب وإلزام دليل على أن الأمر المطلق للوجوب، وهو المدعي "إذ" لا نزاع في أن المقيد بالقرينة يستعمل في غير الإيجاب مجازا، ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ذهب أكثر المفسرين: إلى أن هذا الكلام مجاز عن سرعة الإيجاد وسهولته على الله تعالى، وكمال قدرته، تمثيلا للغائب أعني تأثير قدرته في المراد بالشاهد أعني أمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف ولا افتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، وليس هاهنا قول ولا كلام وإنما وجود الأشياء بالخلق والتكوين مقرونا بالعلم والقدرة والإرادة، وذهب بعضهم إلى أنه حقيقة وأن الله تعالى قد أجرى سننه في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة، وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها، والمعنى نقول له: احدث فيحدث عقيب هذا القول لكن المراد الكلام الأزلي القائم بذات الله تعالى لا الكلام اللفظي المركب من الأصوات والحروف؛ لأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر، ويتسلسل، ولأنه يستحيل قيام الصوت والحرف بذات الله تعالى، ولما لم يتوقف خطاب التكوين على الفهم، واشتمل على أعظم الفوائد، وهو الوجود جاز تعلقه بالمعدوم بل خطاب التكليف أيضا أزلي فلا بد أن يتعلق بالمعدوم على معنى أن الشخص الذي سيوجد مأمور بذلك، وبعضهم على أن الكلام في الأزل لا يسمى خطابا حتى يحتاج إلى مخاطب، وعلى المذهبين، أي سواء كان قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] مجازا أو حقيقة يكون الوجود والحدوث مرادا من هذا الأمر أعني كن.
أما على الثاني فظاهر؛ لأن معنى نقول: حدث فيحدث، أي كلما وجد الأمر بالوجود تحقق الوجود عقيبه، وأما على الأول فلأنه جعل الأمر قرينة الإيجاد، ومثل سرعة الإيجاد بالتكلم بهذه الكلمة وترتب وجود المأمور به عليها فلو لم يكن الوجود مقصودا بأمر كن لما صح هذا التمثيل لعدم الجامع، فسواء جعلنا هذا الكلام حقيقة أو مجازا يجب أن يكون الوجود مرادا بأمر كن "و" كما يكون الوجود مرادا بأمر كن يكون مرادا بجميع أوامر الله تعالى؛ لأنها كلها من قبيل أمر كن؛(1/292)
لأن معنى أقيموا الصلاة كونوا مقيمين للصلاة، وعلى هذا القياس إلا أن المراد في أمر التكوين هو الكون بمعنى الحدوث من كان التامة، وفي أمر التكليف هو الكون بمعنى وجود الشيء على صفة من كان الناقصة، وإذا كان كل أمر من الله تعالى طلبا للكون يجب تكون المطلوب، أي حدوث الشيء في أمر التكوين وحصول المأمور به في أمر التكليف، إلا أنه لو جعل الوجود والتكوين مرادا من جميع الأوامر حتى أمر التكليف لزم إعدام اختيار العبد في الإتيان بالفعل المكلف به بأن يحدث الفعل شاء أو لم يشأ كما في أمر الإيجاد، وحينئذ تبطل قاعدة التكليف إذ لا بد فيه أن يكون للمأمور به نوع اختيار، وإن كان ضروريا تابعا لمشيئة الله تعالى،: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الانسان:30]، وإلا لصار ملحقا بالجمادات فلم يثبت كون الوجود مرادا في أمر التكليف بل نقل الشرع لزوم الوجود للأمر إلى لزوم الوجوب له؛ لأن الوجوب مفض إلى الوجود نظرا إلى العقل والديانة فصار لازم الأمر هو الوجوب بعدما كان لازمه الوجود.
حاصل ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن اعتبار جانب الأمر يوجب وجود المأمور به حقيقة، واعتبار كون المأمور مخاطبا مكلفا يوجب التراخي إلى حين إيجاده فاعتبرنا المعنيين فأثبتنا بالأمر آكد ما يكون من وجوه الطلب وهو الوجوب خلفا من الوجود، وقلنا بتراخي الوجوب إلى حين اختياره فإن قلت فعلى هذا يكون الأمر حقيقة في طلب الوجود وإرادته مجازا في الإيجاب قلت: نعم بحسب اللغة لكنه حقيقة شرعية في الإيجاب إذ لا وجوب إلا بالشرع فإن قلت: الكلام في مدلول صيغة الأمر بحسب اللغة، وقد صرحوا بأنه الوجوب قلت: نعم بمعنى أنه لطلب وجود الفعل وإرادته مع المنع عن النقيض، وهو إيجاب وإلزام لكنه من العباد لا يستلزم الوجود لجواز تخلف مطالبهم عن الطلب فالأمر حقيقة لغوية في الإيجاب بمعنى الإلزام وطلب الفعل وإرادته جزما، وحقيقة شرعية في الإيجاب بمعنى الطلب والحكم باستحقاق تاركه الذم والعقاب لا بمعنى إرادة وجود الفعل، والأدلة يدل بعضها على الأول وبعضها على الثاني، ولقائل أن يقول: لا نسلم أن صيغة الأمر في اللغة لإرادة المأمور به بل لطلبه، وهو لا يستلزم الإرادة بل قد يكون معها فيحصل المأمور به في أوامر الله تعالى، وقد يكون بدونها فلا يحصل، ولا قائل بالفرق بين أوامر الله تعالى وأوامر العباد في نفس مدلول اللفظ، ولا بأن أوامر الشرع مجازات لغوية، وأيضا لو كان أمر كن لطلب وجود الحادث وإرادة تكونه من غير تخلف وتراخ وكان أزليا لزم قدم الحوادث، وأيضا إذا كان أزليا لم يصح ترتبه على تعلق الإرادة بوجود الشيء على ما تنبئ عنه الآية فالأولى أن الكلام مجاز وتمثيل لسرعة التكوين من غير قول وكلام، ومنها قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93]، أي تركت موجبه، دل على أن تارك المأمور به عاص، وكل عاص يلحقه الوعيد لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23]، أي ماكثا المكث الطويل، والوعيد على الترك دليل الوجود، ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] ذمهم على مخالفة الأمر، وهو معنى الوجوب فإن قيل: من أين يعلم أن الوعيد والذم على ترك المأمور به، ولو سلم فمن أين يعلم الوجوب في مطلق الأمر قلنا من ترتب الوعيد والذم على نفس مخالفة الأمر المطلق. وأما دلالة الإجماع على أن موجب الأمر المطلق هو الوجوب فلاتفاق أهل العرف، واللغة على أن من يريد طلب الفعل مع المنع عن تركه يطلبه بمثل صيغة افعل فيدل على(1/293)
مسألة، وكذا بعد الحظر لما قلنا، وقيل: للندب كما في {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي اطلبوا الرزق، وقيل للإباحة كما في فاصطادوا قلنا ثبت ذلك بالقرينة.
ـــــــ
"مسألة، وكذا بعد الحظر" لما قلنا، وقيل: للندب كما في: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] أي اطلبوا الرزق، وقيل للإباحة كما في فاصطادوا قلنا ثبت ذلك بالقرينة، أي الندب والإباحة في الآيتين ثبتا بالقرينة فإن الابتغاء والاصطياد إنما أمر بهما لحق العباد ومنفعتهم فلا ينبغي أن يثبتا على وجه تنقلب المنفعة مضرة بأن يجب عليهم
"مسألة: وإن أريد به الإباحة أو الندب فاستعارة عند البعض، والجامع جواز الفعل لا إطلاق اسم الكلي على البعض؛ لأن الإباحة مباينة للوجوب لا جزؤه". اعلم أن الأمر إذا كان حقيقة في الوجوب فإذا أريد به الإباحة أو الندب يكون بطريق المجاز لا محالة؛ لأنه أريد به غير ما وضع له فقد ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى في هذه المسألة اختلافا فعند الكرخي والجصاص مجاز فيهما، وعند البعض حقيقة، وقد اختار فخر الإسلام رحمه الله تعالى هذا. وتأويله أن المجاز في اصطلاحه لفظ أريد به معنى خارج عن الموضوع له فأما إذا أريد به جزاء الموضوع له فإنه لا يسميه مجازا بل يسميه حقيقة قاصرة، والذي يدل على هذا الاصطلاح قوله في هذا الموضوع أن معنى
................................................................................................
أنه لطلب الفعل جزما وهو الوجوب، وأيضا لم يزل العلماء يستدلون بصيغة الأمر على الوجوب من غير نكير، وهذا القدر كاف في إثبات مدلولات الألفاظ.
قوله: "مسألة" اختلف القائلون بأن الأمر للوجوب في موجب الأمر بالشيء بعد حظره، وتحريمه فالمختار أنه أيضا للوجوب بالدلالة المذكورة فإنها لا تفرق بين الواردة بعد الحظر وغيره، ولقائل أن يقول الدلائل المذكورة إنما هي في الأمر المطلق والورود بعد الحظر قرينة على أن المقصود رفع التحريم؛ لأنه المتبادر إلى الفهم، وهو حاصل بالإباحة، والوجوب أو الندب زيادة لا بد لها من دليل، وقيل للندب كالأمر بطلب الرزق، وكسب المعيشة بعد الانصراف عن الجمعة، وعن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشيء، وإن لم تشتره، وقيل: للإباحة كالأمر بالاصطياد بعد الإحلال، وأجيب بأن المثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية لجواز أن يثبت الندب والإباحة في الآيتين بمعونة القرينة، وهي أن مثل الكسب والاصطياد إنما شرع حقا للعبد فلو وجب لصار حقا لله تعالى عليه فيعود على موضوعه بالنقض، وذكر الإمام السرخسي أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] للإيجاب لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلب الكسب بعد الصلاة هو الفريضة بعد الفريضة"، وتلا قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] الآية، واعلم أن المشهور في كتب الأصول أن الأمر المطلق بعد الحظر للإباحة عند الأكثرين، وللوجوب عند البعض، وذهب البعض إلى التوقف، وليس القول بكونه للندب مما ذهب إليه البعض، ولا نزاع في الحمل على ما يقتضيه المقام عند انضمام القرينة.
قوله: "مسألة" قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى: إذا أريد بالأمر الإباحة أو الندب فقد زعم بعضهم أنه حقيقة، وقال الكرخي والجصاص: إنه مجاز، والظاهر أن هذا الاختلاف ليس في صيغة(1/294)
الإباحة، والندب من الوجوب بعضه في التقدير كأنه قاصر لا مغاير أما في اصطلاح غيره من العلماء فالمجاز لفظ أريد به غير ما وضع له سواء كان جزأه أو معنى خارجا عنه، وهذا التعريف صحيح عند فخر الإسلام رحمه الله تعالى لكن يحمل غير الموضوع له على المعنى الخارجي بناء على عدم إطلاق الغير على الجزء فإن الجزء عنده ليس عينا، ولا غيرا على ما عرف من تفسير الغير في علم الكلام
................................................................................................
الأمر لوجهين: أحدهما أن فخر الإسلام رحمه الله تعالى بعدما أثبت كونها حقيقة للوجوب خاصة، ونفى الاشتراك اختار القول الأول، وهو أن الأمر حقيقة إذا أريد به الإباحة أو الندب، وقال هذا أصح: وثانيهما أنه استدل على كونه مجازا بصحة النفي مثلما أمرت بصلاة الضحى أو صوم أيام البيض ولا يخفى أنه لا دلالة في هذا على كون "صلوا صلاة الضحى أو صوموا أيام البيض" مجازا، وإنما يدل على أن إطلاق لفظ الأمر على هذه الصيغة ليس بحقيقة بل الخلاف في أن إطلاق لفظ أمر على الصيغة المستعملة في الإباحة، والندب كما في قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة:60]، وقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33]، ونحو ذلك حقيقة أو مجازا، وهذا ما ذكر في أصول ابن الحاجب، وغيره أن المندوب مأمور به خلافا للكرخي وأبي بكر الرازي وهو الجصاص، والمباح ليس بمأمور به خلافا للكعبي فالجمهور على أن لفظ الأمر حقيقة في الندب؛ لأن المندوب طاعة، والطاعة فعل المأمور به؛ ولأن أهل اللغة مطبقون على أن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب، وأمر ندب، وهذا لا ينافي كون صيغة الأمر مجازا في الندب، وأما الإباحة فالجمهور على أن لفظ الأمر مجازا فيها؛ لأن الأمر للطلب، وهو يستلزم ترجيح المأمور به على مقابله. وأما عند الكعبي فالمباح واجب لكونه ترك الحرام أو مقدمة له فيكون مأمورا به، وجوابه أن المباح الذي يحصل به ترك الحرام لا يتعين لذلك بل يجوز أن يحصل ترك الحرام بمباح آخر لا يلزم كونه واجبا مخيرا؛ لأنه يجب أن يكون واحدا مبهما من أمور محصورة معينة، والمباحات التي يحصل بها ترك الحرام ليست كذلك فهذا محمل جيد لكلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى لولا نظم الندب، والإباحة في سلك واحد، وتخصيص الخلاف بالكرخي والجصاص؛ فلهذا ذهب أكثر الشارحين إلى أن هذا الاختلاف إنما هو في صيغة الأمر، وأولوا كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى بأن الأمر حقيقة الوجوب خاصة عند الإطلاق، وللندب، والإباحة عند انضمام القرينة كما أن المستثنى منه حقيقة في الكل خاصة بدون الاستثناء، وفي الباقي مع الاستثناء.
ولما كان فساد هذا التأويل ظاهر التأدية إلى إبطال المجاز بالكلية بأن يكون مع القرينة حقيقة في المعنى المجازي، ولأنه يجب في الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له أي دل عليه بلا قرينة ذكروا له تأويلا آخر، وهو أن اللفظ المستعمل في جزء ما وضع له ليس بمجاز بناء على أنه يجب في المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له، والجزء ليس غير الكل كما أنه ليس عينه لأن الغيرين موجودان يجوز وجود كل منهما بدون وجود الآخر ويمتنع وجود الكل بدون الجزء فلا يكون غيره. فعنده اللفظ إن استعمل في غير ما وضع له أي في معنى خارج عما وضع له فمجاز، وإلا فإن استعمل في عينه فحقيقة وإلا فحقيقة قاصرة، وكل من الندب، والإباحة بمنزلة الجزء من الوجوب فتكون صيغة الأمر الموضوعة للوجوب حقيقة قاصرة فيهما فيؤول الخلاف إلى أن استعمالها في(1/295)
فحاصل الخلاف في هذه المسألة أن إطلاق الأمر على الإباحة أو الندب أهو بطريق إطلاق اسم الكل على الجزء أم بطريق الاستعارة؟ ومعنى الاستعارة أن تكون علاقة المجاز وصفا بينا مشتركا بين المعنى الحقيقي، والمجازي كالشجاعة بين الإنسان الشجاع، والأسد "والأصح الثاني"، وهو إطلاق اسم الكل على الجزء؛ لأنا سلمنا أن الإباحة مباينة للوجوب فإن معنى الإباحة جواز الفعل، وجواز الترك، ومعنى الوجوب جواز الفعل مع حرمة الترك لكن معنى قولنا أن الأمر للإباحة هو أن الأمر يدل على جزء واحد من الإباحة وهو جواز الفعل فقط لا أنه يدل على كلا جزأيه؛ لأن الأمر لا دلالة له على جواز الترك أصلا بل إنما يثبت جواز الترك بناء على أن هذا الأمر لا يدل على حرمة الترك التي هي جزء آخر للوجوب فيثبت جواز الترك بناء على هذا الأصل لا بلفظ الأمر فجواز الفعل الذي يثبت بالأمر جزء للوجوب فيكون إطلاق لفظ الكل على الجزء، وهذا معنى قوله؛ "لأن الأمر دال على جواز
................................................................................................
الندب أو الإباحة من قبيل الاستعارة ليكون مجازا أو من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء ليكون حقيقة قاصرة فذهب البعض إلى أنه استعارة بجامع اشتراك الثلاثة في جواز الفعل إلا أنه في الوجوب مع امتناع الترك وفيهما مع جواز الترك على التساوي في الإباحة، وعلى رجحان الفعل في الندب فكل من الندب، والإباحة مقيد بجواز الترك، ولا يجتمع مع الوجوب المقيد بامتناع الترك فلا يكون جزءا له لامتناع تحقق الكل بدون الجزء فالمراد بالمباينة امتناع اجتماع الإباحة، والوجوب في فعل واحد لامتناع صدق أحدهما على الآخر فإنه لا ينافي الجزئية كالسقف، والبيت.
فالحاصل أن ليس الندب أو الإباحة مجرد جواز الفعل ليكون جزءا للوجوب بمنزلة الجنس بل الثلاثة أنواع متباينة داخلة تحت جنس الحكم يختص الوجوب بامتناع الترك، والندب بجوازه مرجوحا، والإباحة بجوازه على التساوي. ولهذا قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى إن معنى الإباحة، والندب من الوجوب بعضه في التقدير كأنه قاصر لا مغاير، ولم يجعله جزءا قاصرا بالتحقيق، وذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى ما اختاره فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وهو أنه من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء لكن قرره على وجه يندفع عنه الاعتراض السابق، وحاصله أن ليس معنى كون الأمر للندب، والإباحة أنه يدل على جواز الفعل، وجواز الترك مرجوحا أو متساويا حتى يكون المجموع مدلول اللفظ للقطع بأن الصيغة للطلب، ولا دلالة لها على جواز الترك أصلا بل معناه أنه يدل على الجزء الأول من الندب أو الإباحة أعني جواز الفعل الذي هو بمنزلة الجنس لهما، وللوجوب من غير دلالة اللفظ على جواز الترك أو امتناعه، وإنما يثبت جواز الترك بحكم الأصل إذ لا دليل على حرمة الترك، ولا خفاء في أن مجرد جواز الفعل جزء من الوجوب المركب من جواز الفعل مع امتناع الترك فيكون استعماله الصيغة الموضوعة للوجوب في مجرد جواز الفعل من قبيل استعمال الكل في الجزء، ويكون معنى استعمالها في الإباحة أو الندب استعمالها في جزأيهما الذي هو بمنزلة الجنس لهما فيثبت الفصل الذي هو جواز الترك بحكم الأصل لا بدلالة اللفظ، ويثبت رجحان الفعل في الندب بواسطة القرينة.(1/296)
الفعل الذي هو جزؤهما" أي الإباحة، والوجوب "لا على جواز الترك الذي به المباينة لكن يثبت ذا لعدم الدليل على حرمة الترك التي هي جزء آخر للوجوب"، وهذا بحث دقيق ما مسه إلا خاطري
................................................................................................
فإن قلت: الوجوب هو الخطاب الدال على طلب الفعل، ومنع النقيض أو الأثر الثابت به أعني كون الفعل مطلوبا ممنوع الترك أو كونه بحيث يحمد فاعله، ويذم تاركه شرعا أو كونه بحيث يثاب فاعله، ويعاقب أو يستحق العقاب تاركه فلا نسلم أن جواز الفعل جزء من مفهومه، وما نقل عن المصنف رحمه الله تعالى من أن عدم المعاقبة جزء له، وهو عبارة عن جواز الفعل فممنوع بمقدمتيه. قلت: هذا مبني على أن الوجوب هو عدم الحرج في الفعل مع الحرج في الترك، والإباحة هو عدم الحرج لا في الفعل، ولا في الترك، وأن المأذون فيه جنس للواجب، والمباح، والمندوب، والمراد بجواز الفعل هو عدم الحرج فيه، وهو كونه مأذونا فيه، والمناقشة في أمثال ذلك مما لا تليق بهذه الصناعة. ألا يرى أن قولهم الأمر حقيقة في الوجوب ليس معناه أن وجوب القيام مثلا هو المدلول المطابق للفظ قم بل معناه أنه لطلب القيام على سبيل اللزوم، والمنع عن الترك. فإن قلت قد صرحوا باستعمال الأمر في الندب، والإباحة، وإرادتهما منه، ولا ضرورة في حمل كلامهم على أن المراد أنه يستعمل في جنس الندب، والإباحة عدولا عن الظاهر، وما ذكر أن الأمر لا يدل على جواز الترك أصلا إن أراد بحسب الحقيقة فغير مفيد، وإن أراد بحسب المجاز فممنوع لم لا يجوز أن يستعمل اللفظ الموضوع لطلب الفعل جزما في طلب الفعل مع إجازة الترك. والإذن فيه مرجوحا أو مساويا بجامع اشتراكهما في جواز الفعل والإذن فيه قلت كما صرحوا باستعمال الأسد في الإنسان الشجاع، وإرادته منه فإن ذلك من حيث إنه من أفراد الشجاع لا من حيث إن لفظ الأسد يدل على ذاتيات الإنسان كالناطق مثلا فإذا كان الجامع هاهنا هو جواز الفعل، والإذن فيه، ويثبت خصوصية كونه مع جواز الترك أو بدونه بالقرينة كما أن الأسد يستعمل في الشجاع ويعلم كونه إنسانا بالقرينة ألا يرى أنه لا يجوز إطلاق لفظ الإنسان على الفرس بجامع كونه حيوانا أو ماشيا أو نحو ذلك بل قد يطلق على مطلق الحيوان من غير دلالة على خصوصه.
وبالجملة لا يخفى على المتأمل المنصف الفرق بين صيغة افعل، ولا تفعل عند قصد الإباحة بأن مدلول الأول جواز الفعل، ومدلول الثاني جواز الترك لا أن مدلول كل منهما جواز الفعل مع جواز الترك فإن قلت فعلى هذا لا فرق بين قولنا: هذا الأمر للندب، وقولنا هو للإباحة، إذ المراد أنه مستعمل في جواز الفعل قلت: المراد بكونه للندب أنه مستعمل في جواز الفعل مع قرينة دالة على أولوية الفعل، والمراد بكونه للإباحة أنه خال عن ذلك كما إذا قلنا يرمى الحيوان أو يطير حيوان فإن مدلول اللفظ واحد إلا أن الأول مستعمل في الإنسان، والثاني في الطير، ولا يخفى أن هذا البحث الدقيق لا يتم إلا بما ذكرنا من التحقيق.(1/297)
مسألة: وإن أريد به الإباحة أو الندب فاستعارة عند البعض، والجامع جواز الفعل لا إطلاق اسم الكل على البعض ; لأن الإباحة مباينة للوجوب لا جزؤه. والأصح الثاني لأن الأمر دال على جواز الفعل الذي هو جزؤهما لا على جواز الترك الذي به
ـــــــ
"هذا إذا استعمل وأريد الإباحة أو الندب ما إذا استعمل في الوجوب لكن عدم الوجوب بالنسخ حتى يبقى الندب أو الإباحة عند الشافعي فلا يكون مجازا؛ لأن هذه دلالة الكل على الجزء. والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، ولم يوجد" أي هذا الخلاف الذي ذكرنا، وهو أن دلالة الأمر على الإباحة بطريق إطلاق لفظ الكل على الجزء أم بطريق الاستعارة إنما يكون ذلك إذا استعمل الأمر، وأريد به الندب أو الإباحة أما إذا استعمل الأمر، وأريد به الوجوب، ثم نسخ الوجوب، وبقي الندب أو الإباحة على مذهب الشافعي فالأمر هل يكون مجازا أم لا فأقول لا يكون مجازا؛ لأن المجاز لفظ أريد به غير ما وضع له، ولم يوجد؛ لأنه أريد بالأمر الوجوب بل يكون دلالة الكل على الجزء، والدلالة لا تكون مجازا فإنك إذا أطلقت الإنسان، وأردت به الحيوان الناطق فإن اللفظ يدل على كل واحد من الأجزاء، ولا مجاز هنا بل إنما يكون مجازا إذا أطلقت الإنسان، وأردت به الحيوان فقط أو الناطق فقط، وإنما قلنا على مذهب الشافعي؛ لأنه على مذهبنا إذا نسخ الوجوب لا تبقى الإباحة التي تثبت في ضمن الوجوب كما أن قطع الثوب كان واجبا بالأمر إذا أصابته نجاسة، ثم نسخ الوجوب فإنه لم يبق القطع مستحبا، ولا مباحا.
"فصل: الأمر المطلق عند البعض يوجب العموم، والتكرار؛ لأن "أضرب" مختصر من أطلب منك الضرب، والضرب اسم جنس يفيد العموم، ولسؤال السائل في الحج ألعامنا هذا أم للأبد". سأل أقرع بن حابس في الحج ألعامنا هذا أم للأبد؟ فهم أن الأمر بالحج يوجب
................................................................................................
قوله: "هذا إذا استعمل" يعني أن الوجوب هو عدم الحرج في الفعل مع الحرج في الترك فارتفاعه يجوز أن يكون بارتفاع الجزأين جميعا، وأن يكون بارتفاع أحدهما فلا يدل على الإباحة، وبقاء الجواز الثابت في ضمن الوجوب، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يدل؛ لأن دليل الوجوب يدل على جواز الفعل، وامتناع الترك، ودليل النسخ لا ينافي الجواز لجواز أن يرتفع المركب بارتفاع أحد جزأيه فبقي دليل الجواز سالما عن المعارض هذا عند الإطلاق، وأما عند قيام الدليل فلا نزاع. وحاصله أن جواز الواجب لا يرتفع بنسخ الوجوب بل يتوقف على قيام المحرم، ودلالة أمر الوجوب على جواز الفعل دلالة الحقيقة على مدلولها التضمني لا دلالة المجاز على مدلوله المجازي فعلى تقدير نسخ الوجوب، وبقاء الجواز لا يصير اللفظ مجازا أو حقيقة قاصرة على اختلاف الرأيين حتى يلزم انقلاب اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز في إطلاق واحد.
قوله: "فصل" عموم الفعل شموله أفراده، وتكراره وقوعه مرة بعد أخرى، وذلك بإيقاع أفعال متماثلة في أوقات متعددة فإن كان الأمر مطلقا يجب فيه المداومة، وإن كان موقتا يجب إيقاعه في(1/298)
المباينة لكن يثبت ذا لعدم الدليل على حرمة الترك التي هي جزء آخر للوجوب هذا إذا استعمل وأريد الإباحة أو الندب ما إذا استعمل في الوجوب لكن عدم الوجوب بالنسخ حتى يبقى الندب أو الإباحة عند الشافعي فلا يكون مجازا ; لأن هذه دلالة الكل على الجزء. والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، ولم يوجد.
ـــــــ
التكرار "قلنا اعتبره بسائر العبادات، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحتمله؛ لما قلنا غير أن المصدر نكرة في موضع الإثبات فيخص على احتمال العموم، وعند بعض علمائنا لا يحتمل التكرار إلا أن يكون معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] قلنا لزوم لتجدد السبب لا لمطلق الأمر، وعند عامة علمائنا لا يحتملهما أصلا؛ لأن لفظ المصدر فرد إنما يقع على الواحد الحقيقي، وهو متيقن أو مجموع الأفراد؛ لأنه واحد من حيث المجموع، وذا محتمل لا يثبت إلا بالنية على العدد المحض" أي لا يقع على العدد المحض "ففي طلقي نفسك يوجب الثلاث على الأول، ويحتمل الاثنين، والثلاث عند الشافعي رحمه الله تعالى، وعندنا يقع على الواحد، ويصح نية الثلاث لا الاثنين"؛ لأن الثلاث مجموع أفراد الطلاق فيكون واحدا اعتباريا، ولا يصح نية الاثنين؛ لأن الاثنين
................................................................................................
ذلك الوقت مدة العمر مثل صلوا الفجر يجب العود إلى الصلاة في كل فجر فيتلازمان في مثل صلوا، وصوموا لامتناع إيقاع الأفراد في زمان، ويفترقان في مثل طلقي نفسك لجواز أن يقصد العموم دون التكرار، وعامة أوامر الشرع مما يستلزم فيه العموم التكرار فلذا يقتصر في تحرير المبحث على ذكر التكرار، وقد يذكر العموم أيضا نظرا إلى تغاير المفهومين، وصحة افتراقهما في الجملة، ثم لا خلاف في أن الأمر المقيد بقرينة العموم، والتكرار أو الخصوص، والمرة يفيد ذلك، وإنما الخلاف في الأمر المطلق ففيه أربعة مذاهب:
الأول: أنه يوجب العموم في الأفراد، والتكرار في الزمان، أما العموم فلدلالته على مصدر معرف باللام؛ لأن اضرب مختصر من أطلب منك الضرب على قصد إنشاء الطلب دون الإخبار عنه، وستعرف جوابه، وأما التكرار، فلأن الأقرع بن حابس، وهو من أهل اللسان فهم التكرار من الأمر بالحج حين سأل ألعامنا هذا أم للأبد؟ لا يقال: لو فهم لما سأل؛ لأنا نقول علم أن لا حرج في الدين، وأن في حمل الأمر بالحج على موجبه من التكرار حرجا عظيما فأشكل عليه فسأل. وجوابه أنا لا نسلم أنه فهم التكرار، بل إنما سأل لاعتباره الحج بسائر العبادات من الصلاة، والصوم، والزكاة حيث تكررت بتكرر الأوقات، وإنما أشكل عليه الأمر من جهة أنه رأى الحج متعلقا بالوقت، وهو متكرر، وبالسبب أعني البيت، وهو ليس بمتكرر، وفي أكثر الكتب أن السائل هو سراقة قال في حجة الوادع ألعامنا هذا أم للأبد؟ ولا تعلق له بالأمر، وأما حديث الأقرع بن حابس فهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال الأقرع بن حابس: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال: "لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم"، والمعنى: "لو قلت نعم", لتقرر الوجوب كل عام على ما هو المستفاد من الأمر.(1/299)
عدد محض، ولا دلالة لاسم الفرد على العدد فذكروا هذه المسألة بيانا لثمرة الاختلاف ولم يذكروا ثمرة الاختلاف بيننا، وبين من قال لا يحتمل التكرار إلا أن يكون معلقا بشرط فأوردت هذه المسألة، وهي إن دخلت الدار فطلقي نفسك فعلى ذلك المذهب ينبغي؛ أن يثبت التكرار وإنما قلت ينبغي لأنه لا رواية عن هؤلاء في هذه المسألة لكن بناء على أصلهم، وهو أنه يوجب التكرار إذا كان معلقا بشرط يجب أن يثبت التكرار عندهم.
"وفي إن دخلت الدار فطلقي نفسك ينبغي أن يثبت التكرار على المذهب الثالث لا عندنا وقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] لا يراد به كل الأفراد إجماعا فيراد الواحد فلم يدل على اليسار".
"فصل الإتيان بالمأمور به نوعان: أداء" أي تسلم عين الثابت بالأمر ", وقضاء" أي تسليم
................................................................................................
قلنا: لا بل معناه لصار الوقت سببا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان صاحب الشرع، وإليه نصب الشرائع.
الثاني: مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وهو أنه لا يوجب العموم، والتكرار، ولكن يحتمله بمعنى أنه لطلب الفعل مطلقا سواء كان مرة، ومتكررا، ولهذا يتقيد بكل منهما مثل اضربه قليلا أو كثيرا مرة أو مرات، وذلك لما مر من سؤال الأقرع، ومن كونه مختصرا من أطلب منك ضربا أو أفعل ضربا، والنكرة في الإثبات تخص لكن يحتمل أن يقدر المصدر معرفة بدلالة القرينة فيفيد العموم، ووحد الضمير في قوله يحتمله باعتبار أن المقصود من العموم، والتكرار واحد.
الثالث مذهب بعض العلماء، وهو أنه لا يحتمل التكرار إلا إذا كان معلقا بشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] أو مقيدا بثبوت وصف كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] قيد الأمر بالصلاة بتحقق وصف دلوك الشمس، وجوابه أن التكرار في أمثال هذه الأوامر إنما يلزم من تجدد السبب المقتضي لتجدد المسبب لا من مطلق الأمر المطلق أو المعلق بشرط أو المقيد بوصف، ولا يلزم تكرر المشروط بتكرر الشرط؛ لأن وجود الشرط لا يقتضي وجود المشروط بخلاف السبب فإنه يقتضي وجود المسبب فإن قلت: الكلام في الأمر المطلق، والمعلق بشرط أو وصف مقيد فلا يكون مما نحن فيه، وحينئذ لا معنى لقوله لا لمطلق الأمر؛ لأن الخصم لم يدع أنه لمطلق الأمر بل للمقيد بشرط أو وصف قلت: قد سبق أن المراد بالأمر المطلق هو المجرد عن قرينة التكرار أو المرة سواء كان موقتا بوقت أو معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف أو مجردا عن جميع ذلك، وحينئذ لا إشكال، وظاهر عبارة المصنف رحمه الله تعالى أن المعلق بالشرط أو الوصف يحتمل التكرار، والحق أنه يوجبه على هذا المذهب حتى لا ينتفي إلا بدليل كما صرح به المصنف رحمه الله تعالى في مسألة: إن دخلت الدار فطلقي نفسك، ولهذا عبر في التقويم عن هذا المذهب بأن المطلق لا يقتضي تكرارا لكن المعلق بشرط أو وصف يتكرر بتكرره. فإن قيل: كيف يؤثر التعلق في إثبات ما لا يحتمله اللفظ قلنا ليس ببعيد فإن القيد ربما يصرف اللفظ عن مدلوله كصيغ الطلاق أو العتاق عند الإطلاق يوجب الوقوع في الحال وإذا علق بالشرط يتأخر الحكم إلى زمان وجود الشرط.(1/300)
الرابع مذهب عامة العلماء الحنفية، وهو أن الأمر لا يحتمل العموم، والتكرار بل هو للخصوص، والمرة سواء كان مطلقا مثل ادخل الدار أو معلقا بشرط أو وصف مثل إن دخلت السوق فاشتر اللحم لا يقتضي إلا اشتراء اللحم مرة واحدة، وإنما يستفاد العموم، والتكرار من دليل خارجي كتكرر السبب مثلا، وهذا معنى قول الإمام السرخسي: المذهب الصحيح عندنا أنه لا يوجب التكرار، ولا يحتمله سواء كان مطلقا أو معلقا بشرط أو مخصوصا بصفة إلا أن الأمر بالفعل يقع على أقل جنسه، وهو أدنى ما يعد به ممتثلا، ويحتمل كل الجنس بدليله، وهو النية، وذلك؛ لأن الأمر يدل على مصدر مفرد، والمفرد لا يقع على العدد بل على الواحد حقيقة، وهو المتيقن فيتعين، أو اعتبارا أعني المجموع من حيث هو مجموع فإنه يقال: الحيوان جنس واحد من الأجناس، والطلاق جنس واحد من التصرفات، وكثرة الأجزاء أو الجزئيات لا يمنع الوحدة الاعتبارية، وهو محتمل فلا يثبت إلا بالنية فإن قيل لو لم يحتمل العدد لما صح تفسيره به مثل: طلقي نفسك ثنتين أو صم عشرة أيام أو كل يوم، ونحو ذلك قلنا: لا نسلم أنه تفسير بل تغيير إلى ما لا يحتمله مطلق اللفظ، ولهذا قالوا: إذا قرن بالصيغة ذكر العدد في الإيقاع يكون الوقوع بلفظ العدد لا بالصيغة حتى لو قال لامرأته: طلقتك ثلاثا أو واحدة، وقد ماتت قبل ذكر العدد لم يقع شيء، وأما الفرق بين طلقتك، وطلقي نفسك فقد سبق في بحث الاقتضاء. ولقائل أن يقول لا نسلم؛ أن المفرد لا يقع على العدد فإن المفرد المقترن بشيء من أدوات العموم، والاستغراق يكون بمعنى كل فرد لا بمعنى مجموع الأفراد فإن زعمت أنه أيضا واحد اعتباري فهو المطلوب إذ لا نعني باحتمال الأمر للعموم، والتكرار سوى أنه يراد إيقاع كل فرد من أفراد الفعل.
قوله: "وقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قد فرعوا على هذا الأصل، وهو أن اسم الجنس لا يحتمل العدد مسألة عدم قطع يسار السارق في الكرة الثانية، وكلام القوم صريح في ابتنائها على أن المصدر الذي يدل عليه اسم الفاعل، وهو السارق لا يحتمل العدد قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وعلى هذا يخرج أن كل اسم فاعل دل على أن المصدر لغة مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] لم يحتمل العدد أي كل اسم فاعل دل على مصدره لم يحتمل مصدره العدد فاللام في المصدر عوض عن المضاف إليه، وضمير لم يحتمل لمصدره، وبه يحصل الربط فيصح الكلام، والحاصل أن المصدر الذي يدل عليه اسم الفاعل لا يحتمل العدد بمنزلة المصدر الذي يدل عليه الأمر فمعنى السارق الذي سرق سرقة واحدة، ولا يجوز أن يراد الواحد الاعتباري الذي هو مجموع السرقات، وإلا لتوقف قطع السارق على آخر الحياة إذ لا يعلم تحقق جميع سرقاته إلا حينئذ، وهو باطل بالإجماع ثم الواجب بسرقة واحدة قطع يد واحدة بالإجماع فالمعنى الذي سرق، والتي سرقت سرقة واحدة يقطع من كل منهما يد واحدة، وهي اليمنى بدليل الإجماع، والسنة قولا، وفعلا، وقرأ ابن مسعود أيمانهما فلا يكون قطع اليسرى مرادا أصلا، ولا يمكن تكرر الحكم بتكرر السبب لفوات المحل، وهو اليمين بخلاف تكرر الجلد بتكرر الزنا فإن المحل باق، وهو البدن، وكلام المصنف رحمه الله تعالى ظاهر في ابتناء هذه المسألة على مصدر الأمر أعني اقطعوا فإن الواحد الحقيقي متعين للإجماع على أنه لا يقطع بالسرقة إلا يد واحدة، وقطع اليمين مراد إجماعا فلا تدل الآية على قطع اليسار، ولا يتناوله النص، وإنما عدل عن تقرير القوم؛ لأن اسم الفاعل(1/301)
كالسارق مثلا عام، وعمومه يقتضي عموم المصدر ضرورة امتناع قيام الواحد الحقيقي بالمجموع، وجوابه أن المراد بالوحدة وحدة المصدر بالنسبة إلى كل فرد من أفراد السارق مثلا.
قوله: "فصل" لا نزاع في أن إطلاق الأداء، والقضاء بحسب اللغة على الإتيان بالمؤقتات، وغيرها مثل أداء الزكاة، والأمانة، وقضاء الحقوق، وقضاء الحج، والإتيان ثانيا بعد فساد الأول، ونحو ذلك، وأما بحسب اصطلاح الفقهاء فعند أصحاب الشافعي رضي الله عنه يختصان بالعبادات المؤقتة، ولا يتصور الأداء إلا فيما يتصور فيه القضاء فلهذا قالوا: الأداء ما فعل في وقته المقدر له شرعا أولا، والقضاء ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لما سبق له من الوجوب مطلقا، وقولهم مطلقا تنبيه على أنه لا يشترط الوجوب عليه ليدخل فيه قضاء النائم، والحائض إذ لا وجوب عليهما عند المحققين، وإن وجد السبب لوجود المانع كيف، وجواز الترك مجمع عليه، وهو ينافي الوجوب، والإعادة ما فعل في وقت الأداء ثانيا لخلل في الأول، وقيل: لعذر فالصلاة بالجماعة بعد الصلاة منفردا تكون إعادة على الثاني؛ لأن طلب الفضيلة عذر لا على الأول لعدم الخلل، وظاهر كلامهم أن الإعادة قسم مقابل للأداء، والقضاء خارج عن تعريف الأداء بقوله أولا بناء على أنه متعلق بقوله فعل فإن الإعادة ما فعل ثانيا لا أولا. وذهب بعض المحققين إلى أنها قسم من الأداء، وإن قوله في تعريف الأداء أولا متعلق بقوله: المقدر له شرعا احترازا عن القضاء فإنه واقع في وقته المقدر له شرعا ثانيا حيث قال عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها فذلك وقتها" 1 فقضاء صلاة النائم أو الناسي عند التذكر قد فعل في وقتها المقدر لها ثانيا لا أولا، وعند أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأداء، والقضاء من أقسام المأمور به موقتا كان أو غير موقت فالأداء تسليم عين ما ثبت بالأمر واجبا كان أو نفلا، والقضاء تسليم مثل ما وجب بالأمر، والمراد بالثابت بالأمر ما علم ثبوته بالأمر لا ما ثبت وجوبه به إذ الوجوب إنما هو السبب، وحينئذ يصح تسليم عين الثابت مع أن الواجب وصف في الذمة لا يقبل التصرف من العبد فلا يمكن أداء عينه، وذلك لأن الممتنع تسليم عين ما وجب بالسبب، وثبت في الذمة لا تسليم عين ما علم ثبوته بالأمر كفعل الصلاة في وقتها أو إيتاء ربع العشر.
والحاصل أن العينية، والمثلية بالقياس إلى ما علم ثبوته من الأمر لا ما ثبت بالسبب في الذمة، وعلى هذا لا حاجة إلى ما يقال: إن الشرع شغل الذمة بالواجب، ثم أمر بتفريغها فأخذ ما يحصل به فراغ الذمة حكم ذلك الواجب كأنه عينه، والثابت بالأمر أعم من أن يكون ثبوته بصريح الأمر كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] أو بما هو في معناه كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، ومعنى تسليم العين أو المثل في الأفعال، والأعراض إيجادها، والإتيان بها كأن العبادة حق الله تعالى فالعبد يؤديها، ويسلمها إليه، ولم يعتبر التقييد بالوقت ليعم أداء الزكوات، والأمانات، والمنذورات، والكفارات، وقال: الثابت بالأمر دون الواجب به ليعم أداء النوافل فاعتبر في القضاء الوجوب؛ لأنه مبني على كون المتروك لا مضمونا، والنفل لا يضمن بالترك، وأما إذا شرع
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الواقيت باب 037مسلم في كتاب المساجد حديث 309،314-316. الترمذي في كتاب الصلاة باب 16، 17. النسائي في كتاب المواقيت باب 53،54.ابن ماجه في كتاب الصلاة باب 10، 11، الموطأ في كتاب الوقوت حديث 025أحمد في مسنده "3/31؛44".(1/302)
فصل: إيجاب العموم و التكرار في الأمر المطلق
...
فصل: الأمر المطلق عند البعض يوجب العموم، والتكرار ;
لأن "أضرب" مختصر من أطلب منك الضرب، والضرب اسم جنس يفيد العموم، ولسؤال السائل في الحج ألعامنا هذا أم للأبد قلنا اعتبره بسائر العبادات، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحتمله
ـــــــ
مثل الواجب به، وقلنا في الأول الثابت به ليشمل النفل. "ويطلق كل منهما على الآخر مجازا والقضاء يجب بسبب جديد عند البعض؛ لأن القربة عرفت في وقتها فإذا فات شرف الوقت لا
................................................................................................
فيه وأفسده فقد صار بالشروع واجبا فيقضى، والمراد بالواجب هاهنا ما يعم الفرض أيضا، وبعضهم قيد مثل الواجب بأن يكون من عند من وجب عليه احترازا عن صرف دراهم الغير إلى دينه فإنه لا يكون قضاء، وللمالك أن يستردها من رب الدين، وكذا لو نوى أن يكون ظهر يومه قضاء من ظهر أمسه أو عصره قضاء من ظهره لا يصح مع قوة المماثلة بخلاف صرف النفل مع أن المماثلة فيه أدنى فإن قلت: يدخل في تعريف الأداء الإتيان بالمباح الذي ورد به الأمر كالاصطياد بعد الإحلال، ولا يسمى أداء قلت: المباح ليس بمأمور به عند المحققين فالثابت بالأمر لا يكون إلا واجبا أو مندوبا، ولهذا قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى بعد ما فسر الأداء بتسليم عين الواجب بالأمر، وقد يدخل في الأداء قسم آخر، هو النفل على قول من جعل الأمر حقيقة في الإباحة، والندب يعني أن الأداء، والقضاء من أقسام المأمور به فإن جعل الأمر اسما للطلب الجازم كما هو رأي البعض اختص الأداء بالواجب، ولهذا جعلناه من أقسام موجب الأمر.
وإن جعل اسما للطلب جازما كان أو راجحا على الترك أو مساويا له دخل في المأمور به الواجب، والمندوب، والمباح فيكون الإتيان بالنفل، وهو ما يثاب فاعله، ولا يسيء تاركه، وهذا معنى المندوب أداء فيفسر بتسليم عين الواجب أو المندوب، ولا يختص بموجب الأمر، ولم يتعرض للمباح إذ ليس في العرف إطلاق الأداء عليه كالاصطياد مثلا إلا ما ذكر صاحب الكشف من أنه ينبغي أن يسمى أداء على القول بكون الأمر حقيقة للندب، والإباحة بأن الكل موجب الأمر، وذلك؛ لأنه توهم أن معنى كلام فخر الإسلام هو أنه قد يدخل في الأداء قسم آخر على قول من يجعل صيغة الأمر حقيقة في الإباحة، والندب أي يجعلها مشتركا بين الوجوب، والإباحة، والندب لفظا أو يجعلها موضوعة للإذن في الفعل فيكون حقيقة في كل من الثلاثة فلو لم يكن فعل المباح أيضا أداء لاكتفى بقول من يجعلها حقيقة في الوجوب، والندب باعتبار الاشتراك لفظا أو معنى، وقد أطلعناك على أن المراد بالأمر هنا لفظ الأمر لا صيغته، وأنه أشار إلى ما سبق من الاختلاف في اسم الأمر حقيقة في الطلب الجازم أو مطلق الطلب جازما أو راجحا أو مساويا. لكن التحقيق، وهو مذهب الجمهور أنه حقيقة في الطلب الجازم أو الراجح فيدخل في الثابت بالأمر الواجب والمندوب، وإن كان صيغة الأمر مجازا في الندب في الأحكام الثابتة بالألفاظ المجازية ثابتة بالنص لا محالة، ولا يدخل المباح؛ لأنه لم يثبت بالأمر إلا على قول الكعبي.
قوله: "يطلق كل منهما" أي من الأداء، والقضاء على الآخر مجازا شرعيا لتباين المعنيين من اشتراكهما في تسليم الشيء إلى من يستحقه، وفي إسقاط الواجب كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ(1/303)
لما قلنا غير أن المصدر نكرة في موضع الإثبات فيخص على احتمال العموم، وعند بعض علمائنا لا يحتمل التكرار إلا أن يكون معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قلنا لزوم لتجدد السبب لا لمطلق الأمر، وعند عامة علمائنا لا يحتملهما أصلا ; لأن لفظ المصدر فرد إنما يقع
ـــــــ
يعرف له مثل إلا بنص، وعند عامة أصحابنا يجب بما أوجب الأداء؛ لأنه لما وجب بسببه لا يسقط بخروج الوقت، وله مثل من عنده يصرفه إلى ما عليه فما فات إلا شرف الوقت، وقد فات غير مضمون إلا بالإثم إذا كان عامدا لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وقوله عليه السلام: "من نام عن صلاة" الحديث" قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وقال عليه السلام: "من نام على صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" استدل بالآية، والحديث على أن شرف الوقت غير مضمون أصلا إذا لم يكن عامدا في الترك.
................................................................................................
مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200] أي أديتم فإذا قضيت الصلاة وكقولك أديت الدين، ونويت أداء ظهر الأمس، وأما بحسب اللغة فقد ذكروا أن القضاء حقيقة في تسليم العين والمثل؛ لأن معناه الإسقاط، والإتمام، والإحكام، وأن الأداء مجاز في تسليم المثل؛ لأنه ينبئ عن شدة الرعاية، والاستقصاء في الخروج عما لزمه، وذلك بتسليم العين دون المثل.
قوله: "والقضاء" لا خلاف في أن القضاء بمثل غير معقول يكون بسبب جديد، واختلفوا في القضاء بمثل معقول فعند البعض بسبب جديد أي نص مبتدأ مغاير للنص الوارد بوجوب الأداء ففي عبارة أكثر المشايخ تصريح بأن المراد بالسبب هاهنا ما يعلم به ثبوت الحكم لا ما يثبت به الوجود كالوقت مثلا، وإلى هذا يشير كلام المصنف في أثناء الدليل، وعند جمهور أصحابنا كالقاضي أبي زيد، وشمس الأئمة وفخر الإسلام رحمهم الله تعالى القضاء يجب بالدليل الذي أوجب الأداء احتج الفريق الأول بأن إقامة الفعل في الوقت إنما عرفت قربة شرعا بخلاف القياس فلا يمكننا إقامة مثل هذا الفعل في وقت آخر مقامه بالقياس كما في الجمعة، وتكبيرات التشريق فإن إقامة الخطبة مقام ركعتين ليست مشروعة في غير ذلك الوقت، وكذا الجهر بالتكبير عقيب الصلوات في غير أيام التشريق، وهذا معنى قوله: فإذا فات شرف الوقت لا يعرف له أي للفعل الذي عرف كونه قربة مثل إلا بنص إذ لا مدخل للرأي في مقادير العبادات، وهيئاتها، وإثبات المماثلة بينهما لا يقال: لو وجب بنص جديد لكان بمنزلة الواجب ابتداء فلم تصح تسميته قضاء حقيقة؛ لأنا نقول سمي قضاء لكونه استدراكا لوجوب سابق بخلاف الواجب ابتداء. واحتج الفريق الثاني بأن الفعل لما وجب في وقته بسببه أي بدليله الدال عليه لا يسقط وجوبه لخروج الوقت، والحال أن للفعل مثلا من عند المكلف يصرفه إلى ما وجب عليه؛ لأن خروج الوقت يقرر ترك الامتثال، وهو يقرر ما عليه من العهدة، واحترز بقوله، وله مثل من عنده عن الجمعة، وتكبيرات التشريق حيث لم يشرع إقامة الخطبة مقام الركعتين، والجهر بالتكبير في غير ذلك الوقت فإن قيل: من جملة الهيئات والأوصاف هو الوقت، ولا قدرة عليه قلنا فيقصر الفوات على ما تحقق العجز في حقه، وهو إدراك شرف(1/304)
على الواحد الحقيقي، وهو متيقن أو مجموع الأفراد ; لأنه واحد من حيث المجموع، وذا محتمل لا يثبت إلا بالنية على العدد المحض ففي طلقي نفسك يوجب الثلاث على الأول، ويحتمل الاثنين، والثلاث عند الشافعي رحمه الله تعالى، وعندنا يقع على الواحد، ويصح نية الثلاث لا الاثنين ففي طلقي نفسك يوجب الثلاث على الأول، ويحتمل الاثنين، والثلاث عند الشافعي رحمه الله تعالى، وعندنا يقع على الواحد، ويصح نية الثلاث لا الاثنين وفي إن دخلت الدار فطلقي نفسك ينبغي أن يثبت التكرار على المذهب الثالث لا عندنا وقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} لا يراد به كل الأفراد إجماعا فيراد الواحد فلم يدل على اليسار.
ـــــــ
"وإذا ثبت في الصوم، والصلاة، وهو معقول ثبت في غيرهما كالمنذورات المعينة، والاعتكاف قياسا، وما ذكرنا من النص لإعلام أن ما وجب بالسبب السابق غير ساقط بخروج الوقت، وأن شرف الوقت ساقط لا للإيجاب ابتداء" جواب إشكال مقدر، وهو أن القضاء إنما وجب بالنص وهو: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فيكون، واجبا بسبب جديد لا بالسبب الذي أوجب الأداء فقال في جوابه، وما ذكرنا من النص لإعلام إلخ، وأيضا لا يرد قضاء الاعتكاف،
................................................................................................
الوقت، ويبقى أصل العبادة مقدورا مضمونا فيطالب بالخروج عن عهدته بأن يصرف إليه ما هو مشروع له في وقت آخر، ويماثله في الهيئات، والأذكار حسا، وعقلا، وفي إزالة المأثم شرعا، وإن لم يماثله في إحراز الفضيلة.
فإن قيل: الواجب بصفة لا يبقى بدونها كالواجب بالقدرة الميسرة يسقط بسقوطها قلنا: نعم إذا كانت الصفة مقصودة، والوقت ليس كذلك؛ لأن المقصود بالعبادة هو تعظيم الله تعالى، ومخالفة الهوى، وذلك لا يختلف باختلاف الأوقات، وامتناع التقديم على الوقت إنما هو لامتناع تقديم الحكم على السبب فإن قيل: الفائت يقابل بالمثل أو الضمان فما الذي قوبل به شرف الوقت الفائت قلنا: قد تحقق العجز عن مقابلته بالمثل إذا لم يشرع للعبد ما يماثل شرف الوقت، وأما المقابلة بالضمان فقد انتفت في غير العمد لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 1، ويثبت تحقيق الإثم في العمد بالنص، والإجماع على تأثيم تارك الواجب بتأخيره عن وقته، ثم الظاهر من كلام القوم أن يراد الآية، والحديث في هذا المقام للتمسك بهما على أن الواجب من الصوم، والصلاة لا يسقط بخروج الوقت إلا أن المصنف رحمه الله تعالى قد صرح بأنه تعليل لما يفهم من قوله إذا كان عامدا وهو أنه إذا لم يكن عامدا لا يكون شرف الوقت مضمونا أصلا، وذلك؛ لأن الشرع جعل جزاء الترك غير عامد، وهو الإتيان بالصوم في أيام أخر، والصلاة في وقت آخر، من غير تعرض لشيء آخر بل مع إيماء إلى أنه بمنزلة المأتي به في وقته، ويمكن أن يكون مراده الاستدلال بهما على عدم سقوط الصوم، والصلاة لخروج الوقت إلا أنه نبه في أثناء الكلام على زيادة فائدة.
وبالجملة بقاء الوجوب بعد الوقت ثابت في الصوم بنص الكتاب، وفي الصلاة بنص الحديث، وكلاهما معقول المعنى؛ لأن خروج الوقت لا يصلح مسقطا، ولا عجز في حق أصل العبادة فيثبت الحكم في غير الصوم، والصلاة كالمنذور، والاعتكاف قياسا عليهما بجامع أن كلا منهما عبادة، وجبت بسببها فإن قيل: هذا حجة عليكم لا لكم؛ لأن وجوب قضاء الصوم، والصلاة ثبت بنص
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 16 بلفظ: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان"(1/305)
والمنذورات قياسا؛ لأن القياس مظهر لا مثبت فإن قيل فهذا الأصل"، وهو أن القضاء يجب بما أوجب الأداء "قضاء الاعتكاف المنذور في رمضان ينبغي أن يجوز في رمضان آخر" أي إذا نذر الاعتكاف في رمضان، ولم يعتكف إلى رمضان آخر ينبغي أن يجوز قضاء الاعتكاف المنذور في رمضان آخر؛ لأن القضاء إنما يجب بما أوجب الأداء، والأداء قد أوجبه النذر، والنذر بالاعتكاف في رمضان لم يوجب صوما مخصوصا بالاعتكاف فيجوز القضاء في رمضان آخر. "قلنا: القضاء هاهنا يجب بما أوجب الأداء" أي النذر "وهو يقتضي صوما مخصوصا بالاعتكاف لكنه" أي الصوم المخصوص بالاعتكاف "سقط في رمضان بعارض شرف الوقت فإذا فات هذا" أي عارض شرف الوقت "بحيث لا يمكن دركه إلا بوقت مديد يستوي فيه الحياة والموت" وهو من شوال إلى رمضان آخر "عاد إلى الأصل موجبا لصوم مقصود" أي لصوم مخصوص بالاعتكاف "فوجوب القضاء مع سقوط شرف الوقت أحوط من وجوبه مع رعاية شرف الوقت إذ سقوطه يوجب صوما مقصودا، وفضيلة الصوم المقصود أحوط من فضيلة شرف الوقت" هذا هو مراد فخر الإسلام رحمه الله تعالى بقوله، وكان هذا
................................................................................................
الكتاب والسنة، ووجوب قضاء غيرهما من الواجبات بالقياس فيكون القضاء بسبب جديد، ودليل مبتدأ لا بما أوجب الأداء، قلنا: لا نسلم أن النص لإيجاب القضاء بل للإعلام ببقاء الواجب، وسقوط شرف الوقت لا إلى مثل، وضمان فيما إذا كان إخراج الواجب عن الوقت بعذر، والقياس مظهر لا مثبت فيكون بقاء وجوب المنذور، والاعتكاف ثابتا بالنص الوارد في بقاء وجوب الصوم، والصلاة، ويكون الوجوب في الكل بالسبب السابق لا يقال: لو ثبت القضاء بالأمر الأول لكان الأمر مقتضيا له، ونحن قاطعون بأن قول القائل: صم يوم الخميس لا يقتضي صوم يوم الجمعة، وأيضا لو اقتضاه لكان أداء بمنزلة أن يقول: صم إما يوم الخميس، وإما يوم الجمعة على التخيير، ولكانا سواء فلا يعصي بالتأخير؛ لأنا نقول: معناه أنه أمر بالصوم، وبإيقاعه في يوم الخميس فلما فات إيقاعه في يوم الخميس الذي به كمال المأمور به بقي الوجوب مع نقص فيه وحينئذ لا يلزم اقتضاء خصوص يوم الجمعة، ولا كونه أداء فيه، ولا كون صوم اليومين سواء.
قوله: "فإن قيل" لو قال لله علي أن أعتكف رمضان أو أعتكف هذا الشهر مشيرا إلى رمضان فصامه، ولم يعتكف لزمه قضاء الاعتكاف شهرا متتابعا بصوم مبتدأ، ولا يجوز أن يقضيه في رمضان آخر مكتفيا بصومه خلافا لزفر رحمه الله فلو كان القضاء بالسبب الأول، وهو النذر لجاز ذلك؛ لأن رمضان الآخر مثل الأول في كون الصوم مشروعا فيه مستحقا عليه، وكون الاعتكاف فيه صحيحا، ولما لم يجز علم أنه بسبب جديد هو التفويت، وهو سبب مطلق يوجب الاعتكاف بصوم مقصود مخصوص به بمنزلة ما إذا نذر ابتداء أن يصوم شهرا فظاهر هذا التقرير مشعر بأن المراد بالسبب الجديد أو السبب الأول هو سبب الحكم لا النص الدال على ثبوت الحكم، وإلا لكان المناسب أن يقال: السبب الموجب للأداء هو النص الدال على وجوب الوفاء بالنذر، والسبب الجديد هو قياس المنذور على الصوم، والصلاة بل النص الوارد في وجوب قضائهما، ويمكن أن يقال: كون سبب القضاء هو النذر كناية عن وجوبه بالنص الدال على وجوب المنذور، وكونه هو التفويت كناية عن وجوبه بالقياس على الصوم، والصلاة تعبيرا باللازم عن الملزوم، وفي لفظ(1/306)
أحوط الوجهين، والإشارة ترجع إلى السقوط في قوله فسقط ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة.
فالحاصل أن، وجوب القضاء مع سقوط زيادة تثبت بشرف الوقت أحوط من الوجه الآخر، وهو أن يجب القضاء مع وجوب رعاية شرف الوقت كما أن الأداء وجب معه فكأنه يرد عليه أن في سقوط شرف الوقت ترك الاحتياط فنجيب بأن هذا أحوط من وجوب رعاية شرف الوقت، والدليل على الأحوطية ما قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى؛ لأن ما ثبت بشرف الوقت إلخ فمعناه أن شرف الوقت أوجب زيادة، وأوجب نقصانا فالزيادة هي أفضلية صوم رمضان على صيام سائر الأيام، والنقصان هو عدم وجوب الصوم المقصود فلما مضى رمضان سقط وجوب رعاية تلك الزيادة لما ذكرنا من إمكان الموت قبل رمضان آخر فينبغي أن يسقط ذلك النقصان المنجبر بتلك الزيادة أيضا، وهو عدم وجوب الصوم المقصود بالطريقة الأولى. ووجه الأولوية أن العبادة مما يحتاط في إثباته فسقوط النقصان أولى من سقوط الزيادة، وأيضا سقوط الزيادة بشرف الوقت إنما يثبت بخوف الموت، وسقوط النقصان، وهو عبارة عن وجوب صوم مقصود يثبت بخوف الموت، والنذر بالاعتكاف أيضا فإذا سقطت الزيادة المذكورة سقط النقصان المذكور أيضا بالطريق الأولى. وسقوط النقصان عبارة عن وجوب صوم مقصود فعلم أن سقوط شرف الوقت يوجب وجوب صوم مقصود، ولا شك أن وجوب القضاء مع فضيلة الصوم المقصود أحوط من وجوب القضاء مع فضيلة شرف الوقت إذ فضيلة شرف الوقت فضيلة يغلب فوتها بخلاف فضيلة الصوم
................................................................................................
فخر الإسلام رحمه الله تعالى إشارة خفية إلى هذا المعنى. أو يقال: هذا تمثيل لإيجاب الشارع الفعل على المكلف بإيجاب المكلف إياه على نفسه، والمسألة تدل على أن وجوب القضاء فيما أوجبه المكلف على نفسه يكون بموجب جديد لا بالموجب الأول فكذا في إيجاب الشارع، وتقرير الجواب ظاهر من الكتاب، وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى: إن الاعتكاف الواجب بالنذر مطلقا يقتضي صوما، وللاعتكاف أثر في إيجابه، وإنما جاء هذا النقصان في مسألة شهر رمضان بعارض شرف الوقت، وما ثبت بشرف الوقت فقد فات بحيث لا يتمكن من اكتساب مثله إلا بالحياة إلى رمضان آخر، وهو وقت مديد يستوي فيه الحياة، والممات فلم تثبت القدرة فسقط ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة فبقي مضمونا بإطلاقه، وكان هذا أحوط الوجهين؛ لأن ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة لما احتمل السقوط، فالنقصان، والرخصة الواقعة بالشرف لأن يحتمل السقوط، والعود إلى الاعتكاف أولى فإذا عاد لم يتأد في رمضان الثاني فقوله يقتضي صوما مبني على اشتراط الصوم في الاعتكاف الواجب لقوله عليه السلام: "لا اعتكاف إلا بالصوم" 1، وإيجاب الشيء إيجاب لتوابعه، وشرائطه التي لا يتوسل إليه إلا بها، ويكون مما يلتزم بالنذر بخلاف الوضوء في الصلاة فإنه مما يلتزم بالنذر حتى لو نذر صلاة، وهو متوضئ جاز أداؤها به، ولم يحتج إلى وضوء لأجلها.(1/307)
وقوله: "وإنما جاء هذا النقصان" أي عدم وجوب صوم مقصود مخصوص بالاعتكاف في هذه الصورة بواسطة أن هذا الوقت بشرفه، واختصاصه بفرضية الصوم فيه لا يقبل إيجاب الصوم من جهة العبد فلو لم يسقط وجوب الصوم المخصص بالاعتكاف في هذا الوقت لما أمكن إدراك فضيلة الاعتكاف في هذا الوقت الشريف فثبت بعارض شرف الوقت نقصان هو عدم وجوب صوم مخصوص بالاعتكاف، وزيادة هي فضيلة العبادة في الوقت الشريف، وفضل صيام رمضان على صيام سائر الأيام، وقوله فلم تثبت القدرة أي على اكتساب مثل ما فات من زيادة الفضيلة الثابتة بشرف الوقت فسقط ما ثبت بشرف الوقت من زيادة الفضيلة لتحقق العجز عن اكتسابه فبقي الاعتكاف مضمونا بإطلاقه إذ لا عجز عنه، وإطلاقه يقتضي صوما مقصودا مخصوصا به، وهذا بمنزلة صلاة وجبت مع شرف الوقت، وقد تحقق العجز عن إدراك شرف الوقت لخروجه فبقي أصل الصلاة مضمونا بشرائطها.
وقوله: "وكان هذا" أي سقوط ما ثبت بشرف الوقت من زيادة الفضيلة، وبقاء الاعتكاف مضمونا بإطلاقه أحوط الوجهين اللذين أحدهما: وجوب القضاء مع سقوط ما ثبت بشرف الوقت، وذلك بأن يجب القضاء بصوم مخصوص، والآخر وجوب القضاء مع رعاية ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة، وذلك بأن يقضي الاعتكاف في رمضان آخر. والدليل على كونه أحوط الوجهين: هو أن ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة لما احتمل السقوط بمضي رمضان فالنقصان الثابت، والرخصة الواقعة بشرف الوقت أولى باحتمال السقوط، والعودة إلى الكمال الذي هو الأصل في الاعتكاف، وهو أن يقترن بصوم مقصود مخصوص به، وإذا عاد الاعتكاف المنذور إلى كماله لم يتأد بالاعتكاف في رمضان الثاني لخلوه عن الصوم المخصوص بالاعتكاف؛ ولأنه وجب كاملا فلا يتأدى ناقصا. ووجه أولوية سقوط النقصان أمران:
أحدهما أن الإتيان بالعبادة أحوط من تركها، وإيجابها أولى من نفيها، وزيادتها خير من النقصان فيها فسقوط النقصان فيها يكون أولى من سقوط الزيادة، وأيضا سقوط النقصان عبارة عن وجوب صوم مخصوص به فهو تكثير للعبادة، وتكميل للاعتكاف فيكون أولى، وثانيهما: أن موجب سقوط الزيادة أمر واحد، وهو خوف الموت قبل دخول رمضان الثاني، وموجب سقوط النقصان أمران: خوف الموت، والنذر بالاعتكاف: أما الأول فلأن خوف الموت قبل دخول رمضان الثاني يوجب قضاء الاعتكاف قبله، ولا يتصور ذلك إلا بسقوط النقصان، وإيجاب صوم مخصوص به.
وأما الثاني؛ فلأن الاعتكاف شرع بصوم له أثر في إيجابه حتى لا يسقط إلا بعارض فبالنذر بالاعتكاف يثبت صوم مخصوص به، وهو معنى سقوط النقصان فإذا ثبت ما يثبته خوف الموت فأولى أن يثبت ما يثبته خوف الموت، وشيء آخر مع تحققهما جميعا؛ لأن قوة السبب، وكثرته أدعى إلى وجود المسبب فلا يلزم من ذلك اجتماع المؤثرين على أثر واحد؛ لأن المراد بالإثبات هاهنا الاستلزام والاقتضاء لا التأثير، والإيجاد.
فإن قلت: الزيادة، والنقصان قد ثبتا بعارض شرف الوقت فيسقطان لفواته لانعدام الأثر بانعدام المؤثر فلا حاجة إلى ما ذكرتم من التطويل قلت السبب قد يكون سببا لحدوث المسبب دون بقائه فلا ينعدم بانعدامه كالصلاة وجبت بالوقت، وبقي الوجوب بعد انقضائه فلا بد في بيان المطلوب(1/308)
المقصود، وهذا البحث من مشكلات مباحث أصول فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وقد فسر في بعض الحواشي الوجهان بغير ما فسرت لكن لا يخفى على ذوي الكياسة الممارسين للعلوم أن الدليل الذي استدل به على الأحوطية يدل على أن المراد ما ذكرت لا ما توهموه، والحمد لله ملهم الصواب.
................................................................................................
مما ذكروا فيه إشارة إلى الجواب عما يقال: إن سقوط شيء لا يصلح دليلا على وجوب صوم مقصود فيكون وجوبه ثابتا بلا دليل، وذلك؛ لأن النذر بالاعتكاف موجب لصوم مقصود إلا أن عارض شرف الوقت كان مانعا عن ثبوت الحكم فبعد انعدامه ثبت الحكم لوجود سببه مع عدم المانع، وقوله: "لأن يحتمل"؛ بفتح اللام على أنها اللام الداخلة على الجملة الاسمية التي مبتدؤها أن يحتمل، وخبرها أولى، وضمير يحتمل عائد إلى النقصان والرخصة وحده لاتحادهما معنى إذ المراد بهما عدم وجوب الصوم المقصود. وقوله رمضان آخر، ورمضان الثاني بتنكير الوصف، وتعريفه أخرى مبني على أنه علم إذا قصد به معين، ومنكر إذا قصدت به مبهما مثل مررت بزيد الفاضل، وزيد آخر فأراد برمضان آخر رمضان مغايرا للذي نذر الاعتكاف فيه أيا كان، وبرمضان الثاني الذي يليه، وهو معين. إلا أن قوله في تقرير السؤال، ولا يجزئ في شهر رمضان الآخر كما ينبغي أن يكون بالنكير، ولذا قال المصنف في رمضان آخر لإبهامه، وإلى رمضان الآخر لتعينه، والعلم هو شهر رمضان بالإضافة، ورمضان محمول على الحذف لتخفيف ذكره في الكشاف، وذلك؛ لأنه لو كان رمضان علما لكان شهر رمضان بمنزلة إنسان زيد، ولا يخفى قبحه، ولهذا كثر في كلام العرب شهر رمضان، ولم يسمع شهر رجب، وشهر شعبان على الإضافة.
قوله: "وسقوط النقصان عبارة عن وجوب صوم مقصود"؛ ذكره قبيل هذا على قصد التفسير وهاهنا على قصد التقرير ليستنتج منه أن سقوط شرف الوقت يوجب وجوب صوم مقصود لأنه يوجب سقوط النقصان الذي هو عدم وجوب صوم مقصود. وسقوط العدم ثبوت؛ لأن نفي النفي إثبات فيكون سقوط النقصان عبارة عن وجوب صوم مقصود فيكون موجب السقوط موجبا له.
قوله: "إذ فضيلة شرف الوقت فضيلة يغلب فوتها"؛ لأن الاعتكاف مشروع في جميع الشهور الاثني عشر، وهذه الفضيلة لا توجد إلا في واحد منها بخلاف فضيلة الصوم المقصود فإن فوتها نادر لا يكون إلا بنذر الاعتكاف في رمضان.
قوله: "وقد فسر في بعض الحواشي الوجهان بغير ما فسرت"؛ فقيل: أحدهما إيجاب القضاء بما أوجب الأداء، والآخر: إيجابه بسبب جديد هو التفويت، والأول أحوط، وإلا لزم أن لا يجب عليه القضاء في صورة الفوات دون التفويت كما إذا حدث به في رمضان مرض مانع من الاعتكاف دون الصوم كالإسهال مثلا، وقيل أحدهما: إيجاب القضاء بصوم مقصود، والآخر إسقاط القضاء بزوال الوقت لتعذر الاعتكاف بلا صوم، وتعذر إيجاب الصوم بلا موجب كما هو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، والأول أحوط؛ لأن فيه إسقاط النقصان، وإعادة الواجب إلى صفة الكمال بإيجاد ما هو تبع له بوجوبه، وفي الثاني إسقاط أصل الواجب لتعذر إيجاب التبع. والدليل المذكور لا يدل على أن الوجه الأول أحوط من الثاني بهذين التفسيرين؛ لأنه جعل نتيجة الدليل هو عدم التأدي في(1/309)
فصل: الإتيان بالمأمور به
مدخل
...
فصل: الإتيان بالمأمور به
نوعان: أداء أي تسلم عين الثابت بالأمر، وقضاء أي تسليم مثل الواجب به، وقلنا في الأول الثابت به ليشمل النفل. ويطلق كل منهما على الآخر مجازا.، والقضاء يجب بسبب جديد عند البعض ; لأن القربة عرفت في وقتها فإذا فات شرف الوقت لا يعرف له مثل إلا بنص، وعند عامة أصحابنا يجب بما أوجب الأداء ; لأنه لما وجب بسببه لا يسقط بخروج الوقت، وله مثل من عنده يصرفه إلى ما عليه فما فات إلا شرف الوقت، وقد فات غير مضمون إلا بالإثم إذا كان عامدا لقوله
ـــــــ
"والأداء إما كامل، وهو أن يؤدى بالوصف الذي شرع كالجماعة أو قاصر إن لم يكن به كصلاة المنفرد، والمسبوق منفرد أو شبيه بالقضاء كفعل اللاحق فإنه أداء باعتبار الوقت، وقضاء؛ لأنه يقضي ما انعقد له إحرام الإمام بمثله فكأنه خلف الإمام فعلى هذا إن اقتدى المسافر بمثله في الوقت ثم سبقه الحدث، ثم أقام" إما بدخول مصره ليتوضأ، وإما بنية الإقامة في غير مصره ", وقد فرغ إمامه يبني ركعتين باعتبار أنه قضاء"، والقضاء لا يتغير أصلا لا بإقامة، ولا بالسفر "وإن لم يفرغ" أي إمامه، وصورة المسألة اقتدى مسافر بمسافر في الوقت ثم سبق المقتدي حدث فدخل مصره للوضوء أو نوى الإقامة، والإمام لم يفرغ يتم أربعا؛ لأن نية الإقامة اعترضت على الأداء فصار فرضا أربعا "أو كان هذا المسافر مسبوقا" أي كان المسافر
................................................................................................
رمضان الثاني فيجب أن يكون الوجه الثاني الغير الأحوط هو التأدي في رمضان الثاني بأن يجب القضاء مع رعاية الزيادة كما ذكره المصنف لا الوجوب بسبب جديد كما في التفسير الأول، ولا سقوط القضاء عن أصله كما في التفسير الثاني، ولهذا اعترف الذاهبون إلى التفسيرين بأن المذكور ليس دليلا على الأحوطية بل بيانا لإمكان إيجاب القضاء بصوم مقصود بمعنى أن الزيادة الثابتة للعبادة بشرف الوقت وقد تسقط بزوال الوقت كما في الصوم، والصلاة فسقوط النقصان، وهو عدم وجوب الصوم، والعود من النقصان إلى الكمال أولى؛ لأن الأول عود من الكمال إلى النقصان، وهذا عود من النقصان إلى الكمال، ومن الرخصة إلى العزيمة، ولما سقط النقصان، وعاد إلى الكمال لم يتأد في رمضان الثاني، ولا يخفى أنه بعيد لا يحتمله اللفظ.
قوله: "والأداء" قد سبق أن المأمور به إما أداء أو قضاء، ثم كل منهما إما محض إن لم يكن فيه شبه الآخر أو غير محض إن كان فيصير أربعة، وإلى هذا أشار فخر الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: الأمر يتنوع بنوعين، وكل نوع منهما يتنوع نوعين، ثم كل من الأداء المحض، والقضاء المحض ينقسم قسمين؛ لأن الأداء المحض إن كان مستجمعا لجميع الأوصاف المشروعة فأداء كامل، وإلا فقاصر، والقضاء المحض إما أن يعقل فيه المماثلة فقضاء بمثل معقول، وإما أن لا يعقل فقضاء بمثل غير معقول فبهذا الاعتبار تصير الأقسام ستة، وإليه أشار فخر الإسلام رحمه الله تعالى بأن صفة حكم الأمر أداء، وقضاء، وكل منهما ثلاثة أنواع فالأقسام بحسب الإجمال أربعة، وبحسب التفصيل ستة، ثم كل من الستة إما أن يكون في حقوق الله تعالى أو في حقوق العباد يصير اثني عشر(1/310)
تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وقوله عليه السلام: "من نام عن صلاة" الحديث وإذا ثبت في الصوم، والصلاة، وهو معقول ثبت في غيرهما كالمنذورات المعينة، والاعتكاف قياسا، وما ذكرنا من النص لإعلام أن ما وجب بالسبب السابق غير ساقط بخروج الوقت، وأن شرف الوقت ساقط لا للإيجاب ابتداء فإن قيل فعلى هذا الأصل قضاء الاعتكاف المنذور في رمضان ينبغي أن يجوز في رمضان
ـــــــ
الذي اقتدى بمسافر في صلاة الظهر في الوقت مسبوقا أي اقتدى بعد ما صلى الإمام ركعة فلما تم صلاة الإمام نوى المقتدي الإقامة فإنه يتم أربعا؛ لأن نية الإقامة اعترضت على قدر ما سبق، وهو مؤد هذا القدر من كل الوجوه؛ لأن الوقت باق، ولم يلتزم أداء هذا القدر مع الإمام حتى يكون قاضيا لما التزم أداءه مع الإمام أما اللاحق فإنه التزم أداء جميع الصلاة مع الإمام فيكون في المقدار الذي سبقه الحدث، ولم يؤد مع الإمام قاضيا. "أو تكلم" أي تكلم اللاحق "بعد فراغ الإمام أو قبله، ونوى الإقامة" "يتم أربعا؛ لأنه أداء فيتغير بالإقامة" لأن عليه الاستئناف فإذا استأنف يكون مؤديا من كل الوجوه فنية الإقامة اعترضت على الأداء فيتم أربعا "ولهذا لا يقرأ اللاحق، ولا يسجد للسهو" أي لأجل أن اللاحق كأنه خلف الإمام لا يقرأ، ولا يسجد للسهو أي إذا سها في القدر الذي لم يصل مع الإمام لا يسجد للسهو كالمقتدي إذا سها لا يسجد للسهو "بخلاف المسبوق" فإنه منفرد فيما سبق فيقرأ، ويسجد للسهو.
"وأما القضاء فإما بمثل معقول كالصلاة للصلاة، وإما بمثل غير معقول كالفدية للصوم، وثواب النفقة للحج، وكل ما لا يعقل له مثل قربة لا يقضى إلا بنص كالوقوف بعرفة، ورمي
................................................................................................
قسما. فظاهر عبارة المصنف رحمه الله تعالى أن تقسيم مطلق الأداء إلى الكامل، والقاصر حاصل دائر بين النفي، والإثبات فيلزم أن يكون الشبيه بالقضاء قسما منهما، وقد جعله قسيما لهما إلا أن المراد ما ذكرناه. وفي العبارة اختصار أي الأداء إما محض، وهو كامل أو قاصر وإما تشبيه بالقضاء.
قوله: "كالجماعة" يعني فيما شرعت فيه الجماعة مثل المكتوبات، والعيدين، والوتر في رمضان، والتراويح، وإلا فالجماعة صفة قصور بمنزلة الأصبع الزائدة، ثم الصلاة التي شرعت فيها الجماعة إما أن تؤدى كلها بالجماعة، وهو الأداء الكامل أو كلها بالانفراد، وهو الأداء القاصر أو يؤدى بالانفراد بعضها فقط فإن كان بعضها الأول فهو أيضا قاصر، وإن كان بعضها الآخر فهو أداء شبيه بالقضاء، وفي لفظ المصنف رحمه الله إشارة إلى ذلك حيث قال، والمسبوق منفردا أي فيما سبق به فيكون أداؤه قاصرا ففي التمثيل للقاصر بالمثالين تنبيه على أنه قد يكون عبادة تامة كالصلاة، وقد يكون بعضا منها كفعل المسبوق، ويلزم ذلك في الكامل ضرورة أن البعض المؤدى بالجماعة إذا لم يكن قاصرا كان كاملا، وذهب بعضهم إلى أن القاصر، والشبيه بالقضاء هو أداء الصلاة نفسها في الصورتين، والتمثيل بالمثالين تنبيه على تفاوت القصور زيادة ونقصانا.
قوله: "كفعل اللاحق" هو الذي أدرك أولا الصلاة بالجماعة، وفاته الباقي بأن نام خلف الإمام(1/311)
آخر قلنا: القضاء هاهنا يجب بما أوجب الأداء وهو يقتضي صوما مخصوصا بالاعتكاف لكنه سقط في رمضان بعارض شرف الوقت فإذا فات هذا بحيث لا يمكن دركه إلا بوقت مديد يستوي فيه الحياة والموت عاد إلى الأصل موجبا لصوم مقصود فوجوب القضاء مع سقوط شرف الوقت أحوط من وجوبه مع رعاية شرف الوقت إذ سقوطه يوجب صوما مقصودا، وفضيلة الصوم المقصود أحوط من فضيلة شرف الوقت.
ـــــــ
الجمار، والأضحية"، وتكبيرات التشريق فإنها على صفة الجهر لم تعرف قربة إلا في هذا الوقت؛ لأن الأصل فيه الإخفاء قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ} [لأعراف:205]، وقال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [لأعراف:55] "فإن كونها قربة مخصوص بزمان، ولا يقضى تعديل الأركان لأن إبطال الأصل بالوصف باطل، والوصف وحده لا يقوم بنفسه فلم يبق إلا الإثم، وكذا صفة الجودة" أي لا تقضى؛ لأن إبطال الأصل إلخ "إذا أدى الزيوف في الزكاة فإن قيل: فلم أوجبتم الفدية في الصلاة قياسا" أي على الصوم؟ هذا الإشكال على قوله، وما لا يعقل له مثل، قوله لا يقضى إلا بنص، وقد عدم النص بوجوب الفدية إذا فاتت الصلاة للشيخ الفاني، والنص ورد في الصوم بوجوب الفدية، وهذا حكم لا يدرك بالقياس فينبغي أن لا يقاس عليه غيره، وأما الأضحية فلأن إراقة الدم لم تعرف قربة في غير هذه الأيام، ولا يدرى أن التصدق بعين الشاة أو بقيمتها هل هو مثل قربة الإراقة أم لا "والتصدق بالعين أو القيمة في الأضحية قلنا يحتمل في الصوم التعليل بالعجز فقلنا بالوجوب احتياطا فيكون آتيا بالمندوب أو الواجب، ونرجو القبول" فإنه يحتمل أن تكون الفدية واجبة قضاء للصلاة، وإن لم تكن واجبة فلا أقل من أن يكون آتيا بالمندوب ومحمد قال في هذا الموضع نرجو القبول. "في الأضحية؛ لأن الأصل في العبادة المالية التصدق بالعين إلا أنه نقل إلى الإراقة تطييبا للطعام، وتحقيقا لضيافة الله لكن لم نعمل بهذا التعليل المظنون"، وهو أن الأصل في العبادة المالية التصدق بالعين "وفي الوقت" حتى لم نقل إن التصدق بالعين في الوقت يجوز "في معرض النص، وعملنا به بعد الوقت احتياطا فلهذا"
................................................................................................
ثم انتبه بعد فراغه أو سبقه الحدث خلف الإمام فتوضأ، وجاء بعد فراغه، وأتم صلاته ففعله أداء باعتبار كونه في الوقت قضاء باعتبار فوات ما التزمه من الأداء مع الإمام فهو يقضي ما انعقد له إحرام الإمام من المتابعة له، والمشاركة معه بمثله أي بمثل ما انعقد له الإحرام لا بعينه لعدم كونه خلف الإمام حقيقة إلا أنه لما كان العزيمة في حقه الأداء مع الإمام لكونه مقتديا، وقد فاته ذلك بعذر جعل الشرع أداءه في هذه الحالة كالأداء مع الإمام فصار كأنه خلف الإمام أداء، ولما كان باعتبار الأصل قضاء باعتبار الوصف جعل أداء شبيها بالقضاء لا شبيها بالأداء.
قوله: "في الوقت" إذ لو اقتدى به خارج الوقت لم يتغير الحال.(1/312)
والأداء:
إما كامل، وهو أن يؤدى بالوصف الذي شرع كالجماعة أو قاصر إن لم يكن به كصلاة المنفرد، والمسبوق منفرد أو شبيه بالقضاء كفعل اللاحق فإنه أداء باعتبار الوقت، وقضاء ; لأنه يقضي ما انعقد له إحرام الإمام بمثله فكأنه خلف الإمام
ـــــــ
الإشارة ترجع إلى قوله، وعملنا به بعد الوقت "إذا جاء العام الثاني لم ينتقل إلى التضحية لأنه لما احتمل جهة أصالته، ووقع الحكم به لم يبطل بالشك، وإما قضاء يشبه الأداء" عطف على قوله، وإما بمثل غير معقول "كما إذا أدرك الإمام في العيد راكعا كبر في ركوعه" أي كبر تكبيرات الزوائد "فإنه، وإن فات موضعه، وليس لتكبيرات العيد قضاء إذ ليس لها المثل قربة لكن للركوع شبه بالقيام فيكون شبيها بالأداء".
"وحقوق العباد أيضا تنقسم إلى هذا الوجه فالأداء الكامل كرد غير الحق في الغصب، والبيع، والصرف، والسلم لما عقد الصرف أو السلم يجب له بدل الصرف، والمسلم فيه في الذمة فكان ينبغي أن يكون تسليم بدل الصرف، والمسلم فيه قضاء إذ العين غير الدين لكن الشرع جعله عين ذلك الواجب في الذمة لئلا يكون استبدالا في بدل الصرف، والمسلم فيه، والاستبدال فيهما حرام، والقاصر كرد المغصوب، والمبيع مشغولا بجناية أو دين أو غيرهما" بأن كان حاملا أو مريضا "حتى إذا هلك بذلك السبب انتقض القبض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هذا عيب، وهو لا يمنع تمام التسليم، وكأداء الزيوف إذا لم يعلم به صاحب الحق حتى لو هلك عنده بطل حقه أصلا؛ لما مر".
................................................................................................
قوله: "وقد فرغ" حال من فاعل ثم أقام، والمعنى أن دخول المصر أو نية الإقامة يكون مع حصول فراغ الإمام.
قوله: "والقضاء لا يتغير"؛ لأنه مبني على الأصل، وهو لم يتغير في نفسه لانقضائه، والخلف لا يفارق الأصل.
قوله: "وأما القضاء" يعني أنه إما محض بمثل معقول أو غير معقول وإما غير محض.
قوله: "وثواب النفقة للحج" يشير إلى قول العامة أن الحج يقع عن المباشر، وللآمر ثواب الإنفاق؛ لأن النيابة لا تجري في العبادات البدنية إلا أن في الحج شائبة المالية من جهة الاحتياج إلى الزاد، والراحلة فمن جهة المباشرة يقع عن المأمور، ومن جهة الإنفاق عن الآمر.، وظاهر المذهب أنه يقع عن الآمر بظواهر الأحاديث، وعلى التقدير فالواجب على الآمر مباشرة الأفعال، والصادر عنه هو الإنفاق، والمماثلة بينهما غير معقولة، وفي قوله، وثواب النفقة للحج يسامح؛ لأن التمثيل إما للقضاء أو للمثل، والثواب ليس شيئا منهما.
قوله: "ولا يقضي تعديل الأركان" الفائت في الصلاة، ولا صفة الجودة الفائتة في الدراهم المؤداة في الزكاة؛ لأنه إما أن يقضي الوصف وحده، وهو باطل؛ لأنه لا يعقل له مثل، ولا يوجد له نص(1/313)
فعلى هذا إن اقتدى المسافر بمثله في الوقت ثم سبقه الحدث، ثم أقام، وقد فرغ إمامه يبني ركعتين باعتبار أنه قضاء وإن لم يفرغ أو كان هذا المسافر مسبوقا أو تكلم بعد فراغ الإمام أو قبله، ونوى الإقامة يتم أربعا ; لأنه أداء فيتغير بالإقامة، وقد فرغ إمامه يبني ركعتين باعتبار أنه قضاء وإن لم يفرغ أو كان هذا المسافر مسبوقا أو تكلم بعد فراغ الإمام أو قبله، ونوى الإقامة يتم أربعا ; لأنه أداء فيتغير بالإقامة ولهذا لا يقرأ اللاحق، ولا يسجد للسهو بخلاف المسبوق.
ـــــــ
أو مع الأصل بأن يقضي صلاة معتدلة الأركان أو يقضي نفس الركن بصفة الاعتدال، ويقضي دراهم جيادا، وهو أيضا باطل لما فيه من إبطال الأصل بواسطة بطلان الوصف، وهو نقض الأصول، وقلب المعقول.
قوله: "فقلنا بالوجوب احتياطا" أي لا قياسا، ولا دلالة؛ لأن المعنى المؤثر في إيجاب الفدية كالعجز مثلا مشكوك لا معلوم إلا أنه على تقدير التعليل بالعجز تكون الفدية في الصلاة أيضا واجبة بالقياس الصحيح، وعلى تقدير عدم التعليل تكون حسنة مندوبة تمحو سيئة فيكون القول بالوجوب أحوط ويرجى قبولها، ولهذا قال محمد رحمه الله تعالى في الزيادات في فدية الصلاة تجزيه إن شاء الله تعالى.
قوله: "وفي الأضحية" عطف على ما يدل عليه الكلام أي قلنا بوجوب الفدية في الصلاة؛ لما ذكر، وبوجوب التصديق بالعين أو القيمة في الأضحية؛ لأنها عبادة مالية تثبت في قربة بالكتاب، والسنة، والأصل في العبادات المالية التصدق بالعين مخالفة لهوى النفس بترك المحبوب إلا أن التصدق بالعين نقل في الأضحية إلى إراقة الدم تطييبا للطعام بإزالة ما اشتمل عليه مال الصدقة من أوساخ الذنوب، والآثام فبالإراقة ينتقل الخبث إلى الدماء فتصير ضيافة الله تعالى بأطيب ما عنده على ما هو مادة الكرام، ويستوي فيه الغني، والفقير إلا أنه يحتمل أن يكون نفس التضحية، والإراقة أصلا من غير اعتبار معنى التصدق ففي الوقت لم نعمل بالتعليل المظنون، ولم نقل بجواز التصدق بالعين أو القيمة في أيام النحر لقيام النص الوارد بالتضحية وبعد الوقت عملنا بالأصل، وأوجبنا التصدق بعين الشاة التي عينت للتضحية أو بالقيمة إن استهلكت المعينة أو لم يعين شيئا احتياطا في باب العبادة، وأخذ بالمحتمل لا عملا بالقياس فيما لا يعقل معناه فقوله في الوقت، وفي معرض النص متعلق بقوله لم نعمل بهذا التعليل نظرا إلى عبارة المتن إلا أنه جعل في الوقت متعلقا بالتصدق بالعين من كلام شرح.
قوله: "لم يبطل بالشك" أي باحتمال أن تكون الإراقة أصلا، وقد قدر على المثل بمجيء أيام النحر. فإن قلت فكيف ينتقل الحكم إلى الصوم فيمن وجب عليه الفدية عن الصوم فقدر على الصوم؟ قلت؛ لأن كون الأصل في الشهر هو الصوم ليس بمشكوك بل متيقن فعند زوال العذر تيقن بقاء وجوب الصوم لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
قوله: "لكن للركوع شبه بالقيام" من جهة بقاء الانتصاب، والاستواء في النصف الأسفل من البدن إنما يتحقق القعود بانتفائه؛ لأن استواء أعالي البدن موجود في الحالين إلا أنه ليس بقيام حقيقة لمكان الانحناء.(1/314)
قوله: "تنقسم إلى هذا الوجه" الصواب على هذا الوجه كما هو لفظ فخر الإسلام رحمه الله تعالى.
قوله: "والبيع" أي وكتسليم عين الحق في البيع، وفي عقد الصرف، والسلم فيكون هذا العطف من قبيل علفتها تبنا وماء باردا لأن الرد يقتضي سابقية الأخذ فيصح في الغصب دون البيع، وفي التمثيل بالأمثلة الأربعة إشارة إلى أن الأداء الكامل قد يكون تسليم عين الواجب بحسب الحقيقة كرد المغصوب، وتسليم المبيع على الوصف الذي ورد عليه الغصب، والبيع، وقد يكون تسليم عين الواجب بحسب اعتبار الشارع كتسليم بدل الصرف، وتسليم المسلم فيه إذ كل منهما ثابت في الذمة، وهو وصف لا يحتمل التسليم إلا أن الشرع جعل المؤدى عين ذلك الواجب في الذمة لئلا يلزم الاستبدال في بدل الصرف، والمسلم فيه قبل القبض، وهو حرام لئلا يلزم امتناع الجبر على التسليم بناء على أن الاستبدال موقوف على التراضي، وكذا الحكم في سائر الديون؛ لأنها إنما تقضى بأمثالها ضرورة أن الدين وصف ثابت في الذمة، والعين المؤدى مغاير له إلا أن الشارع جعله عين الواجب لما ذكرنا.
فإن قيل: القضاء مبني على تصور الأداء إذ لا معنى له إلا تسليم مثل ما يكون تسليم عينه أداء فإذا امتنع تسليم العين امتنع تسليم المثل قلنا: العين أعم من أن يكون بحسب الحقيقة أو باعتبار الشرع، والممتنع في الدين تسليم العين بحسب الحقيقة، وانتفاء الخاص لا يوجب انتفاء العام فالمؤدى في الدين عين الحق في الجملة، وإن كان مثلا للعين بحسب الحقيقة لا نفسه ضرورة تحقق التغاير في الجملة، وهذا بخلاف القرض فإن المؤدى مثل لم يجعله الشرع عين الثابت في الذمة لعدم الضرورة؛ لأن رد المقبوض ممكن فبالنظر إلى المقبوض يكون المؤدى مثلا، وأما ما يقال: من أن معنى قضاء الدين بالمثل أن المديون لما سلم المال إلى رب الدين صار ذلك دينا في ذمته كما كان ماله دينا في ذمة المديون فيتقاضان مثلا بمثل ففيه نظر؛ لأن قضاء الدين حينئذ لا يكون تسليم عين الثابت، وهو ظاهر، ولا تسليم مثله؛ لأن المثل على هذا التقدير هو ما ثبت في ذمة رب الدين. والتسليم لم يقع عليه بل على نفس المال المؤدى، وأيضا على هذا لا يكون بين قضاء الدين، والقرض فرق، وقد صرح فخر الإسلام رحمه الله تعالى، وغيره بأن تأدية القرض قضاء بمثل معقول، وتأدية الدين أداء كامل.
قوله: "والقاصر" يعني إذا غصب عبدا فارغا فرده مشغولا بجناية يستحق بها رقبته أو طرفة أو بدين بأن استهلك في يده مال إنسان تعلق الضمان برقبته أو بمرض حدث في يد الغاصب أو غصب جارية فردها حاملا أو باع عبدا أو جارية سالما عن ذلك فسلمه بإحدى هذه الصفات فهذا أداء لوروده على عين ما غصب أو باع لكنه قاصر لكونه لا على الوصف الذي وجب عليه أداؤه، ويتفرع على قصور الأداء أنه لو سلم المبيع مشغولا بالجناية فقتل لتلك الجناية انتقض القبض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى كان المشتري لم يقبضه فيرجع البائع بكل الثمن؛ لأن يدي المشتري زالت عن المبيع بسبب كانت إزالتها به مستحقة في يد البائع بمنزلة ما لو استحقه مالك أو مرتهن أو صاحب دين، وهذا استحقاق فوق العيب. وعندهما الشغل بالجناية عيب بمنزلة المرض بل أشد، والعيب لا يمنع تمام التسليم فالمشتري لا يرجع بكل الثمن بل بنقصان العيب بأن يقوم العبد حلال(1/315)
وأما القضاء:
فإما بمثل معقول كالصلاة للصلاة، وإما بمثل غير معقول كالفدية للصوم، وثواب النفقة للحج، وكل ما لا يعقل له مثل قربة لا يقضى إلا بنص كالوقوف بعرفة، ورمي الجمار، والأضحية فإن كونها قربة مخصوص
ـــــــ
"والأداء الذي يشبه القضاء كما إذا أمهر أباها فاستحق" صورة المسألة أن يكون أب المرأة عبد الرجل فتزوجها ذلك الرجل على أن المهر أبوها فاستحق "حتى وجبت قيمته" للمرأة على الزوج "ولم يقض بها القاضي حتى ملكه ثانيا فمن حيث إنه عين حقها أداء" أي تسليم الزوج إليها أداء "فلا يملك منعه" أي إذا طلبت المرأة من الزوج أن يسلم أباها إليها لا يملك الزوج أن يمنعه منها "ومن حيث إن تبدل الملك يوجب تبدل العين قضاء" روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بريرة فأتت بريرة بتمر، والقدر كان يغلي باللحم فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا تجعلين لنا من اللحم نصيبا" فقالت هو لحم تصدق علينا يا رسول الله، فقال
................................................................................................
الدم، وحرام الدم فيرجع بتفاوت ما بين القيمتين من الثمن ففي لفظ هلك، ولفظ التسليم إشارة إلى أن الخلاف في المشتغل بالجناية دون الدين، وفي المبيع دون المغصوب، وكذا الخلاف فيما إذا رد الجارية المغصوبة حاملا.
قوله: "وكأداء الزيوف" جمع زيف، وهو ما يرده بيت المال، ويروج فيما بين التجارة فلو وجب على المديون دراهم جياد فأدى زيوفا فهو من حيث تسليم الواجب أداء، ومن حيث فوات وصف الجودة قاصر فرب الدين إن لم يعلم عند القبض كون المقبوض زيوفا فإن كان قائما في يده فله أن يفسخ الأداء، ويطالب المديون بالجياد إحياء لحقه في الوصف، وإن هلك المقبوض في يد رب الدين بطل حقه في الجودة بالكلية حتى لا يرجع على المديون بشيء لما مر من أنه لا يجوز إبطال الأصل بالوصف، وهذا أداء بأصله إذ لا مثل للوصف منفرد الامتناع قيامه بنفسه. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى له أن يرد مثل المقبوض، ويطالب المديون بالجياد؛ لأن المقبوض دون حقه وصفا فيكون بمنزلة المقبوض دون حقه قدرا، وامتنع الرجوع إلى القيمة لتأديه إلى الربا فيرد مثل المقبوض كما يرد عينه إذا كان قائما فعلم أن قوله إذا لم يعلم به صاحب الحق ينبغي أن يجعل قيدا للتمكن من المقبوض لا لكون الأداء قاصرا على ما يفهم من ظاهر العبارة.
قوله: "والأداء الذي يشبه القضاء" كما إذا تزوج الرجل امرأة على عبد له هو أبو المرأة فعتق الأب لتملك المهر بنفس العقد فإن استحق العبد بقضاء القاضي بطل ملكها، وعتقه، ووجب على الزوج قيمة العبد للمرأة؛ لأنه سمى مالا، وعجز عن تسليمه فإن لم يقض القاضي بالقيمة إلى أن ملك الزوج ذلك العبد ثانيا بشراء أو هبة أو ميراث أو نحو ذلك لزم على الزوج تسليم العبد إلى المرأة فهذا التسليم أداء من حيث إن العبد عين حق المرأة؛ لأنه الذي استحقته بالتسمية لكنه يشبه القضاء من حيث إن تبدل الملك يوجب تبدل العين بدليل السنة، والمعقول، فالعبد المتملك ثانيا كأنه مثل ما استحقته بالتسمية لا عينه، ويتفرع على كونه أداء أن الزوج يجبر على تسليمه إذا طلبته المرأة(1/316)
بزمان، ولا يقضى تعديل الأركان لأن إبطال الأصل بالوصف باطل، والوصف وحده لا يقوم بنفسه فلم يبق إلا الإثم، وكذا صفة الجودة إذا أدى الزيوف في الزكاة فإن قيل: فلم أوجبتم الفدية في الصلاة قياسا والتصدق بالعين أو القيمة في الأضحية قلنا يحتمل في الصوم التعليل بالعجز فقلنا بالوجوب احتياطا فيكون آتيا بالمندوب أو
ـــــــ
عليه الصلاة والسلام: "هي لك صدقة، ولنا هدية" فقد جعل تبدل الملك موجبا لتبدل العين حكما مع أن العين واحد؛ ولأن حكم الشرع على الشيء بالحل، والحرمة، وغيرهما يتعلق بذلك الشيء من حيث إنه مملوك لا من حيث الذات حتى لو كان حكم الشرع يتعلق من حيث الذات لا يتغير أصلا كلحم الخنزير فإنه حرام لعينه، ونجس لعينه أما إذا تعلق حكم الشرع بهذا الذات من حيث الاعتبار فإذا تبدل الاعتبار تبدل هذا المجموع، وقد أراد بالعين هذا المجموع أي الذات مع الاعتبار؛ لأن العين الذي تعلق به حكم الشرع هو هذا المجموع "فلا يعتق قبل تسليمه إليها، ويملك الزوج إعتاقه، وبيعه، وقبله" أي بيع العبد قبل تسليمه إليها.
"وإن كان قضى القاضي بقيمته عليه، ثم ملكه لا يعود حقها فيه، ومن الأداء القاصر ما إذا أطعم المغصوب المالك جاهلا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يبرأ عن الضمان؛ لأنه
................................................................................................
لكونه عين حقها مع قيام موجب التسليم، وهو النكاح بخلاف ما إذا باع عبدا فاستحق بقضاء، ثم ملكه البائع ثانيا لا يجبر على التسليم إلى المشتري إذا طلبه لانفساخ البيع؛ لأنه ظهر بالاستحقاق توقف البيع على إجازة المستحق فحين لم يجز بطل، وانفسخ، ويتفرع على كونه شبه القضاء أن العبد لا يعتق قبل تسليمه إلى الزوجة، وأن الزوج يملك التصرف في العبد بالإعتاق، والكتابة، والبيع، والهبة قبل تسليمه إلى الزوج؛ لأنها تصرفات صادفت ملك نفسه، ويتفرع على كون العبد مثل المسمى لا عينه حكما أنه لو قضى في الصورة المذكورة على الزوج بقيمة العبد للزوجة ثم ملك الزوج العبد ثانيا لا يعود حق المرأة في العين فلا يجبر الزوج على التسليم، ولا الزوجة على القبول؛ لأن حقها قد انتقل من العين إلى القيمة بالقضاء، ولو كان له الحكم المسمى بعينه لعاد حقها فيه إذا كان القضاء بالقيمة بقول الزوج مع اليمين كالمغصوب إذا عاد من إباقه بعد قضاء القاضي بالقيمة للمغصوب منه يعود حقه إذا كان القضاء بقول الغاصب مع يمينه.
قوله: "دخل على بريرة" هي مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها، وعائشة من بني تيم، ولا تحرم الصدقة على مواليها بل على موالي بني هاشم على أنها كانت صدقة التطوع، وهي لا تحرم إلا على النبي عليه الصلاة والسلام.
قوله: "ولأن حكم الشرع" دليل معقول على أن تبدل الملك يوجب تبدل العين، وحاصله أن المراد بالعين هو المجموع المركب من الشيء، ومن وصف مملوكيته؛ لأن الشيء الذي يحكم الشرع بحرمة التصريف فيه على بعض المكلفين، وبحله للبعض الآخر، وإنما هو الشيء مع وصف المملوكية، والكل يتبدل بتبدل بعض الأجزاء، وعلى ظاهر عبارة المصنف مناقشة لا تخفى، ولقائل(1/317)
الواجب، ونرجو القبول وفي الأضحية ; لأن الأصل في العبادة المالية التصدق بالعين إلا أنه نقل إلى الإراقة تطييبا للطعام، وتحقيقا لضيافة الله لكن لم نعمل بهذا التعليل المظنون في الوقت في معرض النص، وعملنا به بعد الوقت احتياطا فلهذا إذا جاء العام الثاني لم ينتقل إلى التضحية لأنه لما احتمل جهة أصالته، ووقع الحكم به لم يبطل بالشك، وإما قضاء يشبه الأداء كما إذا أدرك الإمام راكعا في
ـــــــ
مأمور بالأداء لا بالتغرير، وربما يأكل الإنسان في موضع الإباحة فوق ما يأكل من ماله، ولنا أنه أداء حقيقة، وإن كان فيه قصور فتم بالإتلاف، وبالجهل لا يعذر، والعادة المخالفة للديانة لغو"، وهو أن يأكل في موضع الإباحة فوق ما يأكل من ماله.
"والقضاء بمثل معقول إما كامل كالمثل صورة، ومعنى وإما قاصر كالقيمة إذا انقطع المثل أو لا مثل له؛ لأن الحق في الصورة قد فات للعجز فبقي المعنى فلا يجب القاصر إلا عند العجز عن الكامل ففي قطع اليد، ثم القتل خير الولي بين القطع، ثم القتل، وهو مثل كامل، وبين القتل فقط، وهو قاصر، وعندهما لا يقطع؛ لأنه إنما يقتص بالقطع إذا تبين أنه لم يسر فإذا أفضى إليه يدخل موجبه في موجب القتل" المراد بالموجب هنا ما يجب بالقتل، والقطع، وهو القصاص "إذ القتل أتم موجب القطع" المراد بالموجب هنا الأثر الحاصل بالقطع في محله "فصار كما إذا قتله بضربات، قلنا
................................................................................................
أن يقول: لم لا يجوز أن تكون العين المتصفة بالحل، والحرمة هو ذلك الشيء بقيد المملوكية وتبدل الأوصاف لا يوجب تبدل الذات، وقد عرفت الفرق بين المجموع والمقيد فالأولى التمسك بالسنة
قوله: "ومن الأداء القاصر" فصل هذا المثال عن الأمثلة السابقة، وأخره عن ذكر الأداء الذي يشبه القضاء اقتداء بفخر الإسلام، وإن كان المناسب تقديمه يعني: لو غصب طعاما فقدمه إلى مالكه، وأباحه أكله فأكله جاهلا بأنه الطعام الذي غصب منه فهو أداء قاصر يبرأ به الغاصب عن الضمان، ونقل عن الشافعي رحمه الله تعالى خلافه، ولم يوجد في كتب أصحابه، وأشار بقوله: أطعم المغصوب إلى أنه لو أطعمه ما هو متخذ من المغصوب بأن كان دقيقا فخبزه أو لحما فطبخه لا يبرأ، وقيد بالإطعام؛ لأنه لو وهب المغصوب من المالك، وسلمه إليه أو باعه منه، وهو لا يعلم أو أكله من غير أن يطعمه الغاصب يبرأ عن الضمان بالاتفاق تمسك الشافعي رحمه الله تعالى بأن الغاصب مأمور بالأداء، ولم يوجد؛ لأن ما وجد منه تغرير منهي عنه فلا يكون أداء مأمورا به. وإنما قلنا إنه تغرير لما جرت به العادة من أن الإنسان يأكل في موضع الإباحة فوق ما يأكل من مال نفسه لعدم المانع الحسي أو الشرع، وحاصل هذا التقرير أنه وإن وجد صورة الأداء بتسليم عين حقه إليه إلا أنه بطل معنى الأداء، وهو إيصال حق المالك إليه نفيا للغرور المنهي عنه فلا يكون أداء حقيقة، وقد يقال: إنه نكتتان: إحداهما أنه تغرير، والتغرير لا يكون أداء؛ لأن التغرير منهي عنه، والأداء مأمور به، وتنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات، والبراءة لا تحصل إلا بالأداء المأمور به، والثانية أنه أداء قاصر فلا يعتبر نفيا للغرور.(1/318)
العيد كبر في ركوعه فإنه، وإن فات موضعه، وليس لتكبيرات العيد قضاء إذ ليس لها المثل قربة لكن للركوع شبه بالقيام فيكون شبيها بالأداء.، وحقوق العباد أيضا تنقسم إلى هذا الوجه فالأداء الكامل كرد غير الحق في الغصب، والبيع، والصرف، والسلم لما عقد الصرف أو السلم يجب له بدل الصرف، والمسلم فيه في الذمة فكان ينبغي أن يكون تسليم بدل الصرف، والمسلم فيه قضاء إذ العين غير الدين لكن الشرع جعله عين ذلك الواجب في الذمة لئلا يكون استبدالا في بدل الصرف، والمسلم فيه، والاستبدال فيهما حرام، والقاصر كرد المغصوب، والمبيع مشغولا بجناية أو دين أو غيرهما حتى إذا هلك بذلك السبب انتقض القبض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هذا عيب، وهو لا
ـــــــ
هذا من حيث المعنى" أي هذا الذي ذكر أن القتل أتم أثر القطع فاتحد الجناية فيتحد موجبهما إنما هو من حيث المعنى.
"أما من حيث الصورة في جزاء الفعل فلا"؛ لأن الفعل، وهو القطع، والقتل من حيث الصورة متعدد فيتعدد ما هو جزاء الفعل، وهو القصاص "وإنما يدخل في جزاء المحل" أي إنما يدخل ضمان الجزء في ضمان الكل فيما هو جزاء المحل "كما يدخل أرش الموضحة في دية الشعر"، وهذا؛ لأن الدية جزاء المحل "والقتل قد يمحو أثر القطع كما يتم" قال الله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] جعل القتل ماحيا أثر الجرح فهذا منع لقوله إن القتل أتم أثر القطع "وإنما لا يجب" أي القصاص جواب عن قوله فصار كما إذا قتله بضربات "بتلك الضربات إذ لا قصاص فيها، وإذا انقطع المثل يجب القيمة يوم الخصومة؛ لأنه حينئذ تحقق العجز عن الكامل بالقضاء" أي قضاء القاضي، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وعند أبي يوسف يوم الغصب، وعند محمد يوم الانقطاع.
"والقضاء بمثل غير معقول كالنفس تضمن بالمال المتقوم فلا يجب عند احتمال المثال المعقول صورة، ومعنى، وهو القصاص خلافا للشافعي رحمه الله" فإن عنده ولي الجناية مخير بين القصاص، وأخذ الدية "وإنما شرع" أي المال "عند عدم احتماله" أي القصاص "منه على
................................................................................................
قوله: "ولنا أنه أداء حقيقة"؛ لأنه أوصل المغصوب إلى يد المالك أصلا، ووضعا بحيث صار متمكنا من التصرف فيه فإن قيل أزال يدا مطلقة بجميع التصرفات، وما أعاد إلا يد الإباحة، والقاصر لا ينوب عن الكامل، قلنا عن تقدير ثبوت القصور فيه فقد تم بالإتلاف كما في أداء الزيوف عن الجياد فإن قيل: جهل الملك به يبطل الأداء؛ لما فيه من الغرور قلنا: الجهل عار، ونقيصة فلا يعذر به المالك في إبطال ما وجب على الغاصب من الرد إلى المالك كما لو غصب عبدا فقال للمالك: أعتق هذا العبد فأعتقه، وهو جاهل بأنه عبده يعتق العبد، ويبرأ الغاصب، وما ذكره من العادة الجارية بكثرة الأكل في موضع الإباحة عادة مخالفة للديانة الكاملة الداعية إلى أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه فيكون لغوا لا يبطل الأداء.
قوله: "والقضاء بمثل معقول" قيل: يجري مثل هذا التقسيم في حقوق الله تعالى أيضا كقضاء الفائتة بالجماعة فإنه كامل، وبالانفراد فإنه قاصر، ورد بأن الثابت في الذمة هو أصل الصلاة لا وصف الجماعة فالقضاء بجماعة أو منفردا إتيان بالمثل الكامل إلا أن الأول أكمل.(1/319)
يمنع تمام التسليم، وكأداء الزيوف إذا لم يعلم به صاحب الحق حتى لو هلك عنده بطل حقه أصلا ; لما مر.
والأداء الذي يشبه القضاء كما إذا أمهر أباها فاستحق حتى وجبت قيمته ولم يقض بها القاضي حتى ملكه ثانيا فمن حيث إنه عين حقها أداء فلا يملك منعه ومن حيث إن تبدل الملك يوجب تبدل العين قضاء فلا يعقل قبل تسليمه إليها، ويملك الزوج إعتاقه، وبيعه، وقبله وإن كان قضى القاضي بقيمته عليه، ثم ملكه لا يعود حقها فيه.
ـــــــ
القاتل بأن سلم نفسه، وعلى القتيل بأن لم يهدر حقه بالكلية، وما لا يعقل له مثل لا يقضى إلا بنص" قد ذكر هذه المسألة في حقوق الله تعالى فالآن نذكرها في حقوق العباد لنفرع عليها فروعها.
"فلا يضمن المنافع بالمال المتقوم؛ لأنها غير متقومة إذ لا تقوم بلا إحراز، ولا إحراز بلا بقاء، ولا بقاء للأعراض فإن قيل: فكيف يرد العقد عليها" أي إن لم تكن المنافع متقومة فكيف يرد عقد الإجارة على المنافع؟ "قلنا بإقامة العين مقامها فإن قيل: هي في العقد متقومة" أي المنافع في العقد مال متقوم لتقومها في عقد النكاح "لأن ابتغاء البضع"، وهو النكاح "لا يجوز إلا به" أي بالمال المتقوم قال الله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء:24] "ويجوز" أي
................................................................................................
قوله: "ففي قطع اليد ثم القتل" إما أن يصدر عن شخص أو شخصين، وعلى التقديرين: إما أن يكونا خطأين أو عمدين أو أحدهما عمدا والآخر خطأ وعلى التقديرين إما أن يكون القتل قبل البرء أو بعده، وتفاصيل الأحكام في كتب الفقه، ومحل الخلاف المذكور في الكتاب ما إذا كان القاطع، والقاتل شخصا واحدا متعمدا، ويكون القاتل قبل البرء.
قوله: "وعندهما" ليس للولي أن يقطع بل له أن يقتل؛ لأنه إنما يقتص بالقطع إذا تبين أنه لم يسر إلى القتل بحكم النص فإذا أفضى إلى القتل بأن قتله متعمدا سقط حكم القطع في نفسه وصار قتلا، ودخل موجبه الشرعي، وهو القصاص في موجب القتل؛ لأن القتل قد أتم الأثر الثابت بالقطع حسا، وحقيقة بدليل أن حكمه حكم السراية فيكون القطع، ثم القتل جناية واحدة بمنزلة ما إذا قتله ضربات فليس للولي فيه إلا القتل، والحاصل أنه جعل الإفضاء إلى القتل بمنزلة السراية إليه فظهر أن المراد بالموجب في الموضعين الأثر الثابت بالشيء إلا أن الأول ثابت شرعا، والثاني حسا، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى تعيين لما صدق عليه الموجب في الموضعين لا بيان اختلافهما بالمفهوم.
قوله: "والقتل قد يمحو أثر القطع" من حيث إن المحل يفوت به، ولا يتصور الإتمام، والسراية بعد فوات المحل.(1/320)
ومن الأداء القاصر ما إذا أطعم المغصوب المالك جاهلا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يبرأ عن الضمان ; لأنه مأمور بالأداء لا بالتغرير، وربما يأكل الإنسان في موضع الإباحة فوق ما يأكل من ماله، ولنا أنه أداء حقيقة، وإن كان فيه قصور فتم بالإتلاف، وبالجهل لا يعذر، والعادة المخالفة للديانة لغو.
ـــــــ
ابتغاء البضع "بمنفعة الإجارة" فتكون منفعة الإجارة في عقد النكاح مالا متقوما "فتكون في نفسها كذلك" أي لما كانت المنافع في العقد متقومة كانت في نفسها متقومة "لأن ما ليس بمتقوم لا يصير بورود العقد متقوما؛ ولأن تقومها ليس لاحتياج العقد إليه" هذا دليل آخر على قوله فتكون في نفسها كذلك "لأن العقد قد يصح بدونه كالخلع" فإن منافع البضع غير متقومة في حال الخروج عن العقد، وإن كانت متقومة في حال الدخول في العقد فمع أنها غير متقومة حال الخروج يصح مقابلتها بالمال في العقد، وهو عقد الخلع فعلم أن العقد لا يحتاج إلى تقومها فتقومها في العقد ليس لضرورة العقد، ولما ثبت تقومها في العقد تكون في نفسها متقومة "قلنا تقومها في العقد ثبت بالرضا" هذا منع لقوله إن ما ليس بمتقوم لا يصير بورود العقد متقوما بل يصير في العقد متقوما بالرضا "بخلاف القياس" لما بينا أنه لا تقوم بلا إحراز "فلا يقاس عليه" فيشمل معنيين أحدهما أنه لا يقاس تقوم المنافع في الغصب على تقومها في العقد، والثاني أنه لا يقاس كون المنافع مقابلا بالمال في الغصب على كونها مقابلا بالمال في العقد. "لهذا" أي لكونه التقوم في العقد بخلاف القياس، وهذا دليل على بطلان القياس بالمعنى الأول
................................................................................................
قوله: "وعند أبي يوسف" يجب قيمته يوم الغصب؛ لأنه لما انقطع المثل التحق بما لا مثل له، والخلف إنما يجب بالسبب الذي وجب به الأصل، وهو الغصب فيعتبر قيمته يوم الغصب، وعند محمد رحمه الله تعالى يجب قيمته يوم الانقطاع؛ لأن المصير إلى القيمة للعجز عن أداء المثل، وذلك بالانقطاع فيعتبر قيمته آخر يوم كان موجودا في أيدي الناس فانقطع.
قوله: "فلا تضمن المنافع بالمال المتقوم" قيد بالمتقوم تنصيصا على ما وقع فيه الخلاف، وهو أنها عند الشافعي رحمه الله تعالى يضمن بالمال المتقوم، وتوطئة لإقامة الدليل فإنه يقوم على سلب التقوم عن المنافع سواء كانت مالا أو لم تكن اقتصارا على المقصود، وهو انتفاء المماثلة بانتفاء التقوم، والتحقيق أن المنفعة ملك لا مال؛ لأن الملك ما من شأنه أن يتصرف فيه بوصف الاختصاص، والمال ما من شأنه أن يدخر للانتفاع به وقت الحاجة، والتقوم يستلزم المالية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، والملكية عند الشافعي رحمه الله تعالى فعنده منافع المغصوب تضمن بالغصب بأن يمسك العين المغصوبة مدة ولا يستعملها، وبالإتلاف بأن يستخدم العبد، ويركب الدابة، ويسكن الدار مثلا، وعند أبي حنيفة لا يضمن؛ لأن المنفعة عرض، والعرض غير باق، وغير الباقي غير محرز؛ لأن الإحراز هو الصيانة، والادخار لوقت الحاجة فيتوقف على البقاء لا محالة. وما ليس(1/321)
والقضاء بمثل معقول
إما كامل كالمثل صورة، ومعنى وإما قاصر كالقيمة إذا انقطع المثل أو لا مثل له ; لأن الحق في الصورة قد فات للعجز فبقي المعنى فلا يجب القاصر إلا عند العجز عن الكامل ففي قطع اليد، ثم القتل خير الولي بين القطع، ثم القتل، وهو مثل كامل، وبين القتل فقط، وهو قاصر، وعندهما لا يقطع ; لأنه إنما يقتص بالقطع إذا تبين أنه لم يسر فإذا أفضى إليه يدخل موجبه في موجب القتل إذ
ـــــــ
وقوله: "وللفارق أيضا، وهو الرضا" دليل على بطلان القياس بالمعنى الثاني "فإن له أثرا في إيجاب المال مقابلا بغير المال، ولا يضمن الشاهد بعفو الولي القصاص إذا قضى القاضي به، ثم رجع" هذا تفريع آخر على قوله، وما لا يعقل له مثل لا يقضى إلا بنص، وصورة المسألة شهد شاهدان بعفو الولي عن القصاص فقضى القاضي بالعفو، ثم رجعا عن الشهادة لم
................................................................................................
بمحرز ليس بمتقوم كالصيد، والحشيش فالمنفعة ليست بمتقومة فلا تكون مثلا للمال المتقوم فلا يقضي إلا بنص، ولا نص، وعلى عدم بقاء الإعراض منع ظاهر إذ لا يخفى أن انعدام الألوان في كل آن، وتجدد أمثالها بمنزلة انعدام الأعيان، وحدوث أمثالها في كل آن وقد سبق أنه سفسطة، اللهم إلا أن يخص الحكم بالأعراض المتصرمة مثل المنافع مثلا، وأيضا للخصم أن يقول: بل التقوم باعتبار الملكية، وإطلاق التصرف، وهي راجعة إلى المنافع إذ بها إقامة المصالح، وتقضية الحوائج لا بنفس الأموال.
قوله: "تقومها في العقد ثبت بالرضى" منع لقوله ما ليس بمتقوم في نفسه لا يصير بورود العقد متقوما فإن قلت فيه تسليم لعدم صيرورته متقوما بالعقد بل بالرضى قلت لما اشتمل العقد على الرضى كان التقوم بالرضى تقوما بالعقد؛ لأن تأثير الشيء في الشيء يجوز أن يكون بأحد أجزائه أو لوازمه.
قوله: "فلا يقاس عليه" أي لا يصح إثبات المقدمة القائلة بتقوم المنافع في الغصب بالقياس على تقومها في العقد، ولا إثبات أصل المدعى، وهو مقابلة المنافع في الغصب بالمال المتقوم بالقياس على مقابلتها به في العقد، أما الأول؛ فلأن الحكم في الأصل ثبت بالنص على خلاف القياس لانتفاء الإحراز فلا يصح مقيسا عليه، وأما الثاني فلوجود الفارق، وهو الرضى فإن له أثرا في إيجاب المال في مقابلة ما ليس بمال كما في الصلح عن دم العمد لا يقال: كل من المانعين موجود في كل من القياسين فما وجه تخصيص إبطال الأول بكون الأصل على خلاف القياس، وإبطال الثاني بوجود الفارق؛ لأنا نقول: الثابت على خلاف القياس هو تقوم ما ليس بمحرز لا مقابلة غير المال بالمال لتحقق الانتفاع المقصود، وقضاء الحوائج في كل منهما، والرضى إنما يؤثر في صحة استبدال ما ليس بمال بالمال لا في جعل ما ليس بمتقوم متقوما فيختص كل من القياسين بمانع.
قوله: "هو" أي استيفاء القصاص معنى لا يعقل له مثل، والمال ليس مثلا له صورة، وهو ظاهر، ولا معنى؛ لأن في استيفاء القصاص معنى الإحياء لما فيه من دفع شر القاتل، ودفع هلاك أولياء(1/322)
القتل أتم موجب القطع فصار كما إذا قتله بضربات، قلنا هذا من حيث المعنى أما من حيث الصورة في جزاء الفعل فلا وإنما يدخل في جزاء المحل كما يدخل أرش الموضحة في دية الشعر والقتل قد يمحو أثر القطع كما يتم وإنما لا يجب بتلك الضربات إذ لا قصاص فيها، وإذا انقطع المثل يجب القيمة يوم الخصومة ; لأنه حينئذ تحقق العجز عن الكامل بالقضاء.
والقضاء بمثل غير معقول كالنفس تضمن بالمال المتقوم فلا يجب عند احتمال المثال المعقول صورة، ومعنى، وهو القصاص خلافا للشافعي رحمه الله وإنما شرع عند عدم احتماله منه على القاتل بأن سلم نفسه، وعلى القتيل بأن لم يهدر حقه بالكلية، وما لا يعقل له مثل لا يقضى إلا بنص فلا يضمن المنافع بالمال المتقوم ; لأنها غير متقومة إذ لا تقوم بلا إحراز، ولا إحراز بلا بقاء، ولا بقاء للأعراض فإن قيل: فكيف يرد العقد عليها قلنا بإقامة العين مقامها فإن قيل: هي في العقد متقومة لأن ابتغاء البضع لا يجوز إلا به ويجوز بمنفعة الإجارة فتكون في نفسها كذلك لأن ما ليس بمتقوم لا يصير بورود العقد متقوما ; ولأن تقومها ليس لاحتياج العقد إليه لأن العقد قد يصح بدونه كالخلع قلنا تقومها في العقد ثبت بالرضا بخلاف القياس فلا يقاس عليه لهذا وللفارق أيضا، وهو الرضا فإن له أثرا في إيجاب المال مقابلا بغير المال، ولا يضمن الشاهد بعفو الولي القصاص إذا قضى القاضي به، ثم رجع ولا غير ولي القتيل إذا قتل القاتل.
والقضاء الشبيه بالأداء كالقيمة فيما إذا أمهر عبدا غير معين فإنها قضاء
ـــــــ
يضمنا "ولا غير ولي القتيل إذا قتل القاتل" أي لا يضمن غير ولي القتيل إذا قتل القاتل؛ لأن الشهود، وقاتل القتيل لم يفوتوا لولي القتيل شيئا إلا استيفاء القصاص، وهو معنى لا يعقل له مثل.
"والقضاء الشبيه بالأداء كالقيمة فيما إذا أمهر عبدا غير معين فإنها قضاء حقيقة لكن لما
................................................................................................
المقتول على يده بناء على قيام العداوة، وفي حياة أولياء المقتول، وأبنائه حياة للمقتول، وبقاء لذكره وهذا المعنى لا يوجد في المال، وإنما ثبت في الخطأ على خلاف القياس ضرورة صيانة الدم المعصوم عن الهدر بالكلية.
قوله: "والقضاء الشبيه بالأداء" كتسليم القيمة فيما إذا تزوج رجل امرأة على عبد غير معين فإن الحيوان يثبت في الذمة كالإبل في الدية، والغرة في الجنين، وهذا جهالة في الوصف لا في الجنس كما في تسمية ثوب أو دابة فيحتمل فيما يبنى على المسامحة كالنكاح، وإن لم يحتمل في البيع فتسليم عبد وسط أداء، وتسليم قيمته قضاء حقيقة لكونها مثل الواجب لا عينه لكنه يشبه الأداء لما(1/323)
حقيقة لكن لما كان الأصل مجهولا من حيث الوصف ثبت العجز فتجب القيمة فكأنها أصل، ولما كان معلوما من حيث الجنس يجب هو فيخير بينه، وبين القيمة، وأيهما أدى تجبر على القبول، وأيضا الواجب من الأصل الوسط، وذا يتوقف على القيمة فصارت أصلا من وجه فقضاؤها يشبه الأداء.
ـــــــ
كان الأصل مجهولا من حيث الوصف ثبت العجز" أي عن أداء الأصل، وهو تسليم العبد "فوجب القيمة فكأنها أصل، ولما كان" أي الأصل، وهو العبد "معلوما من حيث الجنس يجب هو" أي الأصل، وهو العبد "فيخير بينه، وبين القيمة، وأيهما أدى تجبر على القبول"، وأيضا الواجب من الأصل الوسط، وذا يتوقف على القيمة فصارت أصلا من وجه فقضاؤها يشبه الأداء.
................................................................................................
في القيمة من جهة الأصالة بناء على أن العبد بجهالة، وصفة لا يمكن أداؤه إلا بتعيينه، ولا تعيين إلا بالتقوم فصارت القيمة أصلا يرجع إليه، ويعتبر مقدما على العبد حتى إن كان العبد خلفا عنه فإن قيل فينبغي أن تتعين القيمة ولا يخير الزوج بين أداء العبد والقيمة فجوابه أن العبد معلوم الجنس مجهول الوصف فبالنظر إلى الأول يجب هو كما لو أمهر عبدا بعينه، وبالنظر إلى الثاني تجب القيمة كما لو أمهر عبد غيره فصار الواجب بالعقد كأنه أحد الشيئين فيخير الزوج إذ التسليم عليه لا على المرأة فأيهما أدى تجبر المرأة على القبول. فظهر بما ذكرنا أن قوله وأيضا الواجب من الأصل الوسط، وذا يتوقف على القيمة فصارت أصلا من وجه لا يصلح وجها برأسه في أصالة القيمة بل هو توضيح، وتتميم لما سبق على ما قررنا إذ بمجرد العجز عن الأصل، وهو العبد لا يتحقق أصالة البدل، وهو القيمة لجريانه في جميع صور القضاء فإنه لا يكون إلا عند تعذر الأداء.(1/324)
فصل: لا بد للمأمور به من الحسن
مدخل
...
فصل: لا بد للمأمور به من الحسن
فالحسن عند الأشعري ما أمر به والقبيح ما
ـــــــ
"فصل: لا بد للمأمور به من الحسن" هذه المسألة من أمهات مسائل الأصول، ومهمات مباحث المعقول، والمنقول، ومع ذلك هي مبنية على مسألة الجبر، والقدر الذي زلت في بواديها أقدام الراسخين، وضلت في مباديها أفهام المتفكرين، وغرقت في بحارها عقول المتبحرين، وحقيقة الحق فيها أعني الحق بين طرفي الإفراط، والتفريط سر من أسرار الله تعالى التي لا يطلع عليها إلا خواص عباده، وها أنا بمعزل عن ذلك لكن أوردت مع
................................................................................................
قوله: "فصل" من قضايا الشرع أنه لا بد للمأمور به من الحسن؛ لأن الشارع حكيم لا يأمر بالفحشاء، وأما من حيث اللغة فلا امتناع لأن قول القائل اشرب على سبيل الإلزام أمر لغة، وقد اختلفوا في أن أحسن المأمور به من موجبات الأمر بمعنى أنه ثبت بالأمر أو من مدلولاته بمعنى أنه ثبت بالعقل، والأمر دليل عليه، ومعرف له فالمصنف رحمه الله تعالى قبل تفصيل المذاهب، والدلائل أجمل القول بأنه لا بد للمأمور به من الحسن سواء ثبت بنفس الأمر أو بالعقل قبله قال في الميزان، وعندنا لما كان للعقل حظ في معرفة حسن بعض المشروعات كالإيمان، وأصل العبادات(1/324)
نهي عنه وعند المعتزلة ما يحمد على فعله وما يذم على فعله وبالتفسير الآخر ما يكون للقادر العالم بحاله أو يفعله وما ليس له ذلك فعند الأشعري لا يثبتان إلا بالأمر، والنهي والقبيح ما نهي عنه وعند المعتزلة ما يحمد على فعله وما يذم على فعله وبالتفسير الآخر ما يكون للقادر العالم بحاله أو يفعله وما ليس له ذلك فعند الأشعري لا يثبتان إلا بالأمر، والنهي لأنهما ليسا لذات الفعل أو لصفة له، وإلا يلزم قيام العرض وضعفه ظاهر ولأن فاعل القبيح إن لم يتمكن من تركه ففعله اضطراري، وإن تمكن فإن لم يتوقف على مرجح كان اتفاقيا، وإن توقف يجب عنده ; لأنا فرضناه مرجحا تاما، ولئلا
ـــــــ
العجز عن درك الإدراك قدر ما وقفت عليه، ووقفت لإيراده: اعلم أن العلماء قد ذكروا أن الحسن، والقبح يطلقان على ثلاثة معان: الأول كون الشيء ملائما للطبع، ومنافرا له، والثاني كونه صفة كمال، وكونه صفة نقصان، والثالث كون الشيء متعلق المدح عاجلا، والثواب
................................................................................................
كان الأمر دليلا، ومعرفا لما ثبت حسنه في العقل، وموجبا لما لم يعرف به.
قوله: "هذه المسألة" يعني مسألة الحسن، والقبح من أمهات مسائل أصول الفقه؛ لأن معظم أبوابه باب الأمر، والنهي، وهو يقتضي حسن المأمور به، وقبح النهي عنه فلا بد من البحث عن ذلك، ثم يتفرع عليه مباحث من أن الحسن حسن لنفسه أو لغيره، ونحو ذلك.
قوله: "ومن مهمات مباحث المعقول، والمنقول" يجوز أن يريد بذلك علم الأصول فإنه جامع بين الوصفين، وأن يريد بالمعقول الكلام، وبالمنقول الفقه فإن هذه المسألة كلامية من جهة البحث عن أفعال الباري تعالى هل تتصف بالحسن، وهل تدخل القبائح تحت إرادته، ومشيئته، وهل تكون بخلقه، ومشيئته، وأصولية من جهة أنها بحث عن أن الحكم الثابت بالأمر يكون حسنا، وما تعلق به النهي يكون قبيحا ثم إن معرفتهما أمر مهم في علم الفقه لئلا يثبت بالأمر ما ليس بحسن، وبالنهي ما ليس بقبيح.
قوله: "ومع ذلك" زيادة تحريض على شدة الاهتمام بهذه المسألة بمعنى أنها أصل لفروع كثيرة، وفرع لأصل عميق صعب الاطلاع عليه متعسر الوصول إليه، وبوادي مسألة الجبر، والقدر المدركات التي تطلب فيها الطرق الموصلة إليها، ومباديها المقدمات المترتبة بالقوى الفكرية للوصول إليها، وبحارها ما وصل إليه كل أحد بقوة فكره، ولم يستطع مجاوزته في هذه المسألة فمن زل قدمه في البوادي أو ضل فهمه في المبادي فقد يرجى عوده إلى طريق الحق أو اعترافه بالعجز، ومن غرق في بحره، ولم ينتبه للخطأ في مقدماته فقد هلك.
قوله: "وحقيقة الحق" الجبر إفراط في تفويض الأمور إلى الله تعالى بحيث يصير العبد بمنزلة جماد لا إرادة له، ولا اختيار، والقدر تفريط في ذلك بحيث يصير العبد خالقا لأفعاله مستقلا في إيجاد الشرور، والقبائح، وكلاهما باطل، والحق أي الثابت في نفس الأمر، وهو إلحاق أي الوسط بين الإفراط، والتفريط على ما أشار إليه بعض المحققين حيث قال: لا جبر، ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين، وحقيقة الحق احتراز عن مجازه أي عما يشبه الحق، وليس بحق.
قوله: "وقفت" أي جعلت واقفا عليه، ووفقت أي جعلت الأسباب متوافقة لإيراده فالأول من التوقيف، والثاني من التوفيق.(1/325)
يترجح المرجوح، ولا يكون المرجح باختياره لئلا يتسلسل فيكون اضطراريا، والاضطراري، والاتفاقي لا يوصفان بهما اتفاقا قلنا توقفه على مرجح لا يوجب كونه اضطراريا ; لأن لاختياره تأثيرا في فعله أيضا وعند بعض أصحابنا، والمعتزلة حسن بعض أفعال العباد، وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفة له، ويعرفان عقلا أيضا
ـــــــ
آجلا، وكونه متعلق الذم عاجلا، والعقاب آجلا فالحسن، والقبح بالمعنيين الأولين يثبتان بالعقل اتفاقا أما بالمعنى الثالث فقد اختلفوا فيه فعند الأشعري لا يثبتان بالعقل بل بالشرع فقط.
وهذا بناء على أمرين: أحدهما أنهما ليسا لذات الفعل وليس للفعل صفة يحسن الفعل أو يقبح لأجلها عند الأشعري، وثانيهما: أن فعل العبد ليس باختياره عنده فلا يوصف بالحسن، والقبح، ومع ذلك جوز كونه متعلق الثواب، والعقاب بالشرع بناء على أن عنده لا يقبح من الله تعالى أن يثيب العبد أو يعاقبه على ما ليس باختياره لأن الحسن، والقبح لا ينسبان إلى أفعال الله تعالى عنده فالحسن، والقبيح بالمعنى الثالث يكونان عند الأشعري بمجرد كون الفعل مأمورا به، ومنهيا عنه فلهذا قال "فالحسن عند الأشعري ما أمر به" سواء كان الأمر للإيجاب أو الإباحة أو الندب "والقبيح ما نهي عنه" سواء كان النهي للتحريم أو للكراهة "وعند المعتزلة ما يحمد على فعله" سواء كان يحمد عليه شرعا أو عقلا، وهذا تفسير الحسن
................................................................................................
قوله: "اعلم أن العلماء" تحرير للمبحث، وتلخيص لمحل النزاع على ما هو الواجب في المناظرة فكل من الحسن، والقبح يطلق على ثلاث معان فبالمعنى الأول: الحلو حسن، والمر قبيح، وبالثاني العلم حسن، والجهل قبيح، وبالثالث الطاعة حسنة، والمعصية قبيحة، ومعنى كون الشيء متعلق المدح أو الذم أو الثواب أو العقاب شرعا نص الشارع عليه أو على دليله، وهو لا ينافي جواز العفو، ولذا قالوا كونه متعلق العقاب، ولم يقولوا كونه بحيث يعاقب عليه، ومحل الخلاف هو الثالث، وعند المعتزلة الأفعال حسنة، وقبيحة لذواتها، أو لصفة من صفاتها فمنها ما هو ضروري كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، ومنها ما هو نظري كحسن الكذب النافع، وقبح الصدق الضار، ومنها ما لا يدرك إلا بالشرع كحسن صوم آخر يوم من رمضان، وقبح صوم أول يوم من شوال فإنه مما لا سبيل للعقل إليه لكن الشرع إذا ورد به كشف عن حسن، وقبح ذاتيين، وعند الأشعري لا يثبت الحسن، والقبح إلا بالشرع، وهذا مبني على أمرين يعني أن العمدة في إثبات ذلك أمران: أحدهما أن حسن الفعل، وقبحه ليسا لذات الفعل، ولا لشيء من صفاته حتى يحكم العقل بأنه حسن أو قبيح بناء على تحقق ما به الحسن أو القبح، وثانيهما أن فعل العبد اضطراري لا اختيار له فيه، والعقل لا يحكم باستحقاق في الثواب أو العقاب على ما لا اختيار للفاعل فيه. وليس المراد أن مذهب الأشعري مبني على هذين الأمرين بمعنى أنه لا بد من تحققها ليثبت مذهبه بل كل من الأمرين مستقل بإفادة مطلوبه بل، وله أدلة أخرى على مذهبه مستغنية عن الأمرين.(1/326)
لأن وجوب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم إن توقف على الشرع يلزم الدور وإلا كان واجبا عقلا فيكون حسنا عقلا وأيضا وجوب تصديق النبي عليه السلام موقوف على حرمة الكذب فهي إن ثبتت شرعا يلزم الدور وإن ثبتت عقلا يلزم قبحها عقلا.
ثم عند المعتزلة: العقل حاكم بالحسن، والقبح موجب للعلم بهما.
ـــــــ
"وما يذم على فعله" هذا تفسير القبيح "وبالتفسير الآخر ما يكون للقادر العالم بحاله أو يفعله" احترز بالقيدين عن فعل المضطر، والمجنون، وهذا تفسير آخر للحسن فإن المعتزلة فسروا الحسن، والقبيح بتفسيرين فالحسن بالتفسير الأول يختص بالوجوب، والمندوب، وبالتفسير الثاني يتناول المباح أيضا. "وما ليس له ذلك" أي القبيح ما ليس للقادر العالم بحاله أن يفعله فكلا تفسيري القبيح متساويان لا يتناولان إلا الحرام، والمكروه فعلى التفسير الأول للحسن المباح واسطة بين الحسن، والقبيح، وعلى الثاني لا واسطة بينهما "فعند الأشعري لا يثبتان إلا بالأمر، والنهي" لما ذكرت أن هذا الحكم مبني عنده على أصلين أوردت على مذهبه دليلين لإثبات الأصلين أما الأول فقوله "لأنهما ليسا لذات الفعل أو لصفة له، وإلا يلزم قيام العرض وضعفه ظاهر" أي ضعف هذا الدليل ظاهر؛ لأنه إن عني بقيام العرض بالعرض اتصافه به فلا نسلم امتناعه فإنه واقع كقولنا: هذه الحركة سريعة أو بطيئة على أن قيام العرض بالعرض بهذا المعنى لازم على تقدير كونهما شرعيين أيضا نحو: هذا
................................................................................................
قوله: "لأن الحسن، والقبح لا ينسبان إلى أفعال الله تعالى عنده" أي عند الأشعري، والمذكور في الكتب الكلامية أنه لا قبيح بالنسبة إلى الله تعالى بل كل أفعاله حسنة واقعة على نهج الصواب؛ لأنه مالك الأمور على الإطلاق يفعل ما يشاء لا علة لصنعه، ولا غاية لفعله، وذلك؛ لأنهم قد يفسرون الحسن بما ليس بمنهي عنه فجميع أفعال الله تعالى حسن بهذا المعنى، وبمعنى كونه صفة كمال، وأما بمعنى كون الفعل متعلق المدح، والثواب فالله تعالى منزه عنه، وما ذكروا من تفسير الحسن بما أمر به، والقبيح بما نهي عنه فإنما هو في أفعال العباد خاصة، وكون المباح داخلا في تفسير الحسن عندهم محل نظر لاتفاقهم على أنه ليس بمأمور به على ما مر؛ ولأنه ليس بمتعلق المدح، والثواب بلا نزاع، وهو معنى الحسن. والأوضح أن يقال: القبيح ما نهي عنه، والحسن ما ليس كذلك ليشمل المباح، وفعل الباري تعالى.
قوله: "وعند المعتزلة" لكل من الحسن، والقبح تفسيران: أحدهما الحسن ما يحمد على فعله شرعا أو عقلا، والقبح ما يذم عليه، وثانيهما الحسن ما يكون للقادر العالم بحاله أن يفعله، والقبيح ما ليس للقادر العالم بحاله أن يفعله، واحترزوا بالقادر أي الذي إن شاء فعل، وإن شاء ترك عن المضطر، وبالعالم عن المجنون؛ لأن ما لهما أن يفعلاه قد لا يكون حسنا بل قبيحا فلو لم يقيد لانتقض التعريفان جمعا ومنعا، والحسن بالتفسير الثاني أعم لتناوله المباح أيضا بخلاف الأول، فإنه يقتصر على الواجب، والمندوب إذ لا مدح على المباح، ولا ذم كالتنفس مثلا فهو واسطة بين الحسن،(1/327)
وعندنا: الحاكم بهما هو الله تعالى، والعقل آلة للعلم بهما فيخلق الله العلم عقيب نظر العقل نظرا صحيحا.
ـــــــ
الفعل حسن شرعا أو قبيح شرعا، وإن عني أن العرض لا يقوم بعرض آخر بل لا بد من جوهر يقوم به العرضان فالقيام بهذا المعنى غير لازم على تقدير كون الحسن، والقبح لذات الفعل أو لصفة له إذ لا بد من فاعل يقوم الفعل الحسن به، وإن عني به معنى آخر فلا بد من بيانه لنتكلم عليه.
وأما الثاني فقوله: "ولأن فاعل القبيح إن لم يتمكن من تركه ففعله اضطراري، وإن تمكن فإن لم يتوقف على مرجح كان اتفاقيا، وإن توقف يجب عنده؛ لأنا فرضناه مرجحا تاما، ولئلا يترجح المرجوح، ولا يكون المرجح باختياره لئلا يتسلسل فيكون اضطراريا، والاضطراري، والاتفاقي لا يوصفان بهما اتفاقا" تقريره أن فاعل القبيح لا يخلو: إما أن يكون متمكنا من تركه أو لا فإن لم يكن متمكنا من تركه ففعله اضطراري؛ لأن التمكن من الفعل مع عدم التمكن من الترك لا
................................................................................................
والقبيح بالتفسير الأول على التفسير الثاني لا واسطة لأن الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح والقبيح يشمل الحرام، والمكروه كما يشملهما بالتفسير الأول فالقبيح بكلا التفسيرين لا يشمل إلا الحرام، والمكروه فيكون التفسيران متساويين، وهاهنا بحثان: الأول: أن الفعل الغير المقدور الذي لا يعلم حاله مما لا يصدق عليه أن للقادر العالم بحاله أن يفعله أو لا يفعله فيكون واسطة بالتفسير الثاني، ويمكن الجواب بأنه داخل في القبيح إذ ليس للقادر العالم بحاله أن يفعله بناء على عدم القدرة عليه أو العلم بحاله الثاني: أن المكروه عندهم يمدح على تركه، ولا يذم على فعله فلا يدخل في القبيح بل يكون واسطة بمنزلة المباح، وإنما يفترقان من جهة أنه يمدح تاركه بخلاف المباح، ويمكن الجواب بأن المراد به هو المكروه كراهة التحريم فإنه قبيح بالتفسيرين، وأما المكروه كراهة التنزيه فيجوز أن يكون واسطة، وإن لم يتعرض له المصنف رحمه الله تعالى، ولقائل أن يقول: إن أريد بما له أن يفعله أو لا يفعله ما يجوز له أن يفعله، وما لا يجوز فالمكروه كراهة التنزيه داخل في الحسن، وهو بعيد، وإن أريد من شأن القادر العالم بحاله أن يفعله، وينبغي له ذلك، وما ليس من شأنه ذلك، ولا ينبغي له حتى يدخل المكروه كراهة التنزيه في القبيح بناء على أن من شأن العاقل أن لا يفعل ما يستحق بتركه المدح لم يكن كلا تفسيري القبيح متساويين بل الثاني أعم لشموله المكروه كراهة التنزيه.
قوله: "لما ذكرت أن هذا الحكم" ظاهر هذا الكلام مشعر بأن الحكم بأن الحسن، والقبح إنما يثبتان بأمر الشارع، ونهيه مبني على الأصلين المذكورين، وذكر الأدلة لإثبات الأصلين، وليس كذلك فإن لهم على هذا المطلوب أدلة كثيرة عقلية، ونقلية لا تتوقف على أن فعل العبد ليس باختياره، ولا(1/328)
الحسن لمعنى في نفسه
...
والمأمور به في صفة الحسن نوعان: حسن لمعنى في نفسه، وحسن لمعنى في غيره.
أما الأول: فإما أن لا يقبل سقوط التكليف كالتصديق، وإما أن يقبل كالإقرار باللسان يسقط حال الإكراه، والتصديق هو الأصل، والإقرار ملحق به ; لأنه دال عليه، فإن الإنسان مركب من الروح والجسد فلا تتم صفة إلا بأن تظهر من الباطن إلى
ـــــــ
يكون باختياره إذ لو كان يتكلم في ذلك الاختيار أنه باختياره أم لا فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى الاضطرار، وإن كان متمكنا من تركه ففعله إن لم يتوقف على مرجح يكون اتفاقيا وهو لا يوصف بالحسن، والقبح اتفاقا، وأيضا يكون رجحانا من غير مرجح، وهو محال، وإن توقف على مرجح يجب وجود الفعل عند وجود المرجح؛ لأنا فرضناه مرجحا تاما أي جملة ما يتوقف عليه وجود الفعل فلو لم يجب الفعل مع هذه الجملة فصدور الفعل مع هذه الجملة تارة، وعدم صدوره أخرى يكون رجحانا من غير مرجح؛ ولأنه لو لم يجب حينئذ يمكن عدمه لكن عدمه يوجب رجحان المرجوح، وهو أشد امتناعا من رجحان أحد المتساويين، وإذا وجب عند وجود المرجح لا يكون اختياريا؛ لأن المرجح لا يكون باختياره، وألا نتكلم في ذلك الاختيار كما ذكرنا فيؤدي إلى التسلسل أو الاضطرار، والتسلسل باطل فثبت أنه اضطراري، والاضطراري يوصف بالحسن، والقبح اتفاقا، واعلم أن كثيرا من العلماء
................................................................................................
تتعرض لنفي كون الحسن، والقبح لذات الفعل أو لصفة من صفاته نعم هذا المعنى لازم في هذا الحكم إذ لو كان الحسن والقبح لذات الفعل أو لصفة من صفاته لما كان بالشرع، وهو ظاهر، ثم ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في هذا المقام دليلان لهم على هذا المطلوب قد اعترفوا بضعفهما، وعدم تمامهما، أما الأول: فتقريره أن الحسن مفهوم زائد على مفهوم الفعل المتصف به إذ قد يعقل الفعل، ولا يخطر بالبال حسنه، ثم هو وجودي؛ لأن نقيضة لا حسن، وهو عدمي، وإلا لما صدق على المعدوم أنه ليس بحسن ضرورة أو الوجودي يقتضي محلا موجودا فهو معنى زائد على المحل وجودي فيكون عرضا ثم هو صفة للفعل الذي هو عرض فيكون قائما به لامتناع أن يوصف الشيء بمعنى هو قائم بشيء آخر فيلزم قيام العرض بالعرض، وهو باطل؛ لأنه يلزم إثبات الحكم لمحل الفعل لا له؛ لأن الحاصل قيامهما معا بالجوهر إذ هما معا حيث الجوهر تبعا له. وحقيقة قيام الشيء بالشيء هو كونه تابعا له في التحيز، وأيضا معنى قيامه به أنه حيث ذلك العرض، وحيث ذلك العرض هو حيث ذلك الجوهر الذي هو محل العرض فهما معا حيث ذلك الجوهر، وقائمان به فلا معنى لقيام أحدهما بالآخر غايته أن قيامه بالجوهر مشروط بقيام الآخر به، وضعفه ظاهر من وجوه:
الأول: أنه إن أريد بالقيام اختصاص الشيء بالشيء بحيث يصير أحدهما منعوتا، ويسمى محلا، والآخر ناعتا، ويسمى حالا فما ذكرتم لا يدل على امتناع قيام العرض بالعرض بهذا المعنى بل هو واقع كاتصاف الحركة بالسرعة والبطء، وإن أريد كونه تابعا له في التحيز فالقيام بهذا المعنى لم يلزم لجواز أن يكون الحسن صفة للفعل ثابتا له، ولا يكون تابعا له في التحيز بل تابعا للجوهر الذي يقوم به الفعل.(1/329)
الظاهر بالكلام الذي هو أدل على الباطن ولا كذلك سائر الأفعال فمن صدق بقلبه وترك الإقرار من غير عذر لم يكن مؤمنا وإن صدق ولم يصادف وقتا يقر فيه يكون مؤمنا وكالصلاة تسقط بالعذر.
ـــــــ
اعتقدوا هذا الدليل يقينيا، والبعض الذي لا يعتقدونه يقينيا لم يوردوا على مقدماته منعا يمكن أن يقال إنه شيء، وقد خفي على كل الفريقين مواقع الغلط فيه، وأنا أسمعك ما سنح لخاطري، وهذا مبني على أربع مقدمات.
"المقدمة الأولى" أن الفعل يراد به المعنى الذي وضع المصدر بإزائه، ويمكن أن يراد به المعنى الحاصل بالمصدر فإنه إذا تحرك زيد فقد قامت الحركة بزيد فإن أريد بالحركة الحالة التي تكون للمتحرك في أي جزء يفرض من أجزاء المسافة فهي المعنى الثاني، وإن أريد بها إيقاع تلك الحالة فهي المعنى الأول، والمعنى الثاني موجود في الخارج أما الأول فأمر يعتبره العقل، ولا وجود له في الخارج إذ لو كان لكان له موقع، ثم إيقاع ذلك الإيقاع يكون واقعا إلى ما لا يتناهى فيلزم التسلسل في طرف المبدأ في الأمور الواقعة في الخارج، وهو محال، ولأنه يلزم أنه إذا أوقع الفاعل شيئا واحدا فقد أوجد أمورا غير متناهية، وهذا بديهي الاستحالة على أن كون الإيقاع أمرا غير موجود في الخارج أظهر على مذهب الأشعري فإن التكوين عنده أمر غير موجود في الخارج.
................................................................................................
الثاني: أن الصدق على المعدوم لا يقتضي العدمية مطلقا لجواز أن يكون مفهوم كلي يصدق على موجود فتكون حصة منه موجودة، وعلى معدوم فتكون حصة منه معدومة كاللاممتنع الصادق على الواجب، والمعدوم الممكن. وبالجملة عدمية صورة النفي موقوفة على كون ما دخل عليه حرف النفي وجوديا بدليل أن اللامعدوم وجودي فلو أثبت وجودية ما دخل عليه حرف النفي بعدمية صورة النفي لزم الدور.
الثالث: أنه منقوض باتصاف الفعل بالإمكان الوجودي بعين ما ذكر من الدليل فيلزم أن لا يكون الإمكان ذاتيا له.
الرابع أنه مشترك الإلزام؛ لأن الحسن الشرعي أيضا عرض بالدليل المذكور فيلزم من اتصاف الفعل به قيام العرض بالعرض.
فإن قيل: هو أمر اعتباري لا تحقق له في الأعيان، ومثله لا يعد من قيام العرض بالعرض، ولهذا احتاجوا إلى إثبات كون الحسن العقلي وجوديا، قلنا: الدليل المذكور على إثبات وجودية الحسن العقلي جاز هاهنا بعينه، وأما الثاني فتقريره على ما ذكره المحققون أن فعل العبد غير اختياري؛ لأنه إن كان لازم الصدور عنه بحيث لا يمكنه الترك فواضح أنه اضطراري، وإن كان جائزا وجوده، وعدمه فإن افتقر إلى مرجح فمع المرجح يعود التقسم فيه بأن يقال: إن كان لازما فاضطراري، وإلا احتاج(1/330)
وإما أن يكون شبيها للحسن لمعنى في غيره كالزكاة والصوم والحج يشبه أن يكون حسنها بالغير، وهو دفع حاجة الفقير وقهر النفس وزيارة البيت، لكن الفقير والبيت لا يستحقان هذه العبادة، والنفس مجبولة على المعصية فلا يحسن قهرها فارتفع الوسائط فصارت تعبدا محضا لله تعالى حتى شرط فيه الأهلية الكاملة.
ـــــــ
إلى مرجح آخر، ولزم التسلسل، وإن لم يفتقر إلى مرجح بل يصدر عنه تارة، ولا يصدر عنه أخرى مع تساوي الحالتين من غير تحدد أمر من الفاعل فهو اتفاقي، والاتفاقي، والاضطراري لا يوصفان بالحسن، والقبح عقلا بالاتفاق، ولا يخفى أنه لا جهة للتخصيص بفعل القبيح على ما وقع في تقرير المصنف رحمه الله تعالى، وأنه لا حاجة على تقدير عدم التمكن من الترك إلى ما ذكره من الاستدلال على كون الفعل اضطراريا إذ لا معنى للاختياري إلا ما يتمكن فيه من الفعل، والترك، وأن قوله: وإن لم يتوقف على مرجح كان اتفاقيا، ورجحانا من غير مرجح إن أراد به عدم التوقف على مرجح من عند الفاعل كما هو المذكور في عبارة البعض فلا نسلم لزوم الرجحان من غير مرجح فإن نفي الخاص لا يوجب نفي العام، وإن أراد به عدم التوقف على مرجح أصلا يصح كونه اتفاقيا إذ لا بد للاتفاقي من وجود العلة أعني جميع ما يتوقف عليه؛ لأن الممكن لا يقع بدون علته، ولما كان هاهنا مظنة أن يقال: لا نسلم أنه إذا وجب عند وجود المرجح لم يكن اختياريا، وإنما يلزم ذلك لو لم يكن ذلك المرجح باختياره أو نفس اختياره أشار إلى الجواب بأنا ننقل الكلام إلى ذلك الاختيار حتى ينتهي إلى مرجح لا يكون باختياره قطعا للتسلسل المحال؛ لأن الاختيار صفة متحققة لا أمر اعتباري حتى ينقطع التسلسل بانقطاع الاعتبار أو يكون اختيار الاختيار عين اختيار. واعترض على هذا الدليل بوجوه:
الأول: أنا نجد تفرقة ضرورية بين الأفعال الاضطرارية، والاختيارية كالسقوط، والصعود، وحركتي الأخذ، والرعشة فيكون ما ذكرتم استدلالا في مقابلة الضرورة فلا يسمع، ويكون باطلا.
الثاني: أنه يجري في فعل الباري تعالى فيجب أن يكون مختارا وهو باطل.
الثالث: أنه يلزم أو لا يوصف فعل العبد بحسن، ولا قبح شرعا؛ لأن التكليف بغير المختار، وإن كان جائزا لكنه غير واقع.
الرابع: أنا نختار أنه يحتاج إلى مرجح، وهو الاختيار، وسواء قلنا يجب به الفعل أو لا يجب يكون اختياريا إذ لا معنى للاختياري إلا ما يترجح بالاختيار.
والحاصل أن معنى الاختيار استواء الطرفين بالنظر إلى القدرة، ووجوب أحدهما بحسب الإرادة لا ينافي ذلك فالمرجح هو الإرادة التي يجب الفعل عند تحققها، ويمتنع عند عدمها، وقد يجاب عن الأول بأن المعلوم ضرورة هو وجود القدرة لا تأثيرها، وعن الثاني بأن مرجح فاعليته قد تم فلا يحتاج إلى مرجح متجدد إذ علة الاحتياج إلى المرجح عندنا الحدوث دون الإمكان، وعن الثالث بأن وجود الاختيار، ومقدورية الفعل كاف في الشرع، وعندكم لولا استقلال العبد بالفعل، وتأثير قدرته(1/331)
الحسن لمعنى في غيره
...
وأما الثاني: فذلك الغير إما منفصل عن هذا المأمور به كالسعي إلى الجمعة حسن لأداء الجمعة فالوضوء حسن للصلاة وليس قربة مقصودة حيث يسقط بسقوطها فلا يحتاج في كونه وسيلة لها إلى النية، وإما قائم بهذا المأمور به كالجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى وصلاة الجنازة لقضاء حق الميت حتى إن أسلم الكفار
ـــــــ
فيه لقبح التكليف عقلا وعن الرابع بأنه إذا كان ما يجب الفعل عنده من الله تعالى بطل استقلال العبد به فقبح التكليف عندكم كما إذا كان موجد الفعل هو الله تعالى فلهذا قال المصنف رحمه الله تعالى إنهم لم يوردوا على مقدماته منعا يعتد به، وأنه قد خفي منشأ الغلط في هذا الدليل على كلا الفريقين أعني الذين يعتقدونه يقينيا، والذين لا يعتقدونه يقينيا والمصنف رحمه الله تعالى أورد المنع على المقدمة القائلة بأنه إن توقف على مرجح يجب وجود الفعل عند وجود المرجح إن أريد بالفعل الحالة الحاصلة بالإيقاع كما للمتحرك في كل جزء من أجزاء المسافة، وعلى المقدمة القائلة بأنه إذا وجب عند وجود المرجح لا يكون اختياريا إن أريد بالفعل نفس الإيقاع، وبنى تحقيق ذلك على أربع مقدمات.
قوله: "المقدمة الأولى" إن كثيرا من المصادر مما يحصل به للفاعل معنى ثابت قائم به كما إذا قام فحصل هيئة هي القيام أو تسخن فحصل له صفة هي الحرارة أو تحرك فحصل له حالة هي الحركة فلفظ الفعل، وكثير من صيغ المصادر قد يطلق على نفس إيقاع الفاعل ذلك الأمر، وهو المعنى المصدري، ويسمى تأثيرا كإحداث الحركة، وإيجادها في ذات الموقع، والمحدث فإنه تحرك لا كإيقاع الحركة في جسم آخر حتى يكون تحريكا، وكإيقاع القيام أو القعود في ذاته، وقد يطلق على الوصف الحاصل للفاعل بذلك الإيقاع، وهو المعنى الحاصل من المصدر، ويكون وصفا كالقيام أو كيفية كالحرارة أو غير ذلك كالحالة التي تكون للمحرك ما دام متوسطا بين المبدأ، والمنتهى، والأول حقيقة معنى المصدر، وهو الجزء من مفهوم الفعل الاصطلاحي، وهو أمر اعتباري لا وجود له في الخارج لوجوه ثلاثة:
الأول: أنه لو كان موجودا لكان له موقع فيكون له إيقاع، وهكذا إلى غير النهاية، وكل إيقاع معلول لإيقاعه. والتقدير أن الإيقاعات أمور موجودة فيلزم التسلسل في جانب المبدأ أي العلة في أمور موجودة في الخارج على ما هو المفروض لا في أمور اعتبارية حتى ينقطع بانقطاع الاعتبار أو يكون إيقاع الإيقاع بين الإيقاع كما في لزوم اللزوم، وإمكان الإمكان، وإنما قال: في المبدأ؛ لأن استحالة التسلسل في جانب العلة مما قام عليه البرهان، ووقع عليه الاتفاق بخلاف جانب المعلول فإنه لا برهان عليه، وبرهان التطبيق ليس بتام على ما عرف في علم الكلام.
الثاني: أنه يلزم عند إيجاد الفاعل شيئا أن يوجد أمور متحققة غير متناهية هي الإيقاعات المترتبة، وبديهة العقل قاطعة باستحالة ذلك، ولا يخفى أنه يلزم لو كان إيقاع الإيقاع أيضا فعله أما لو أوجد شيئا بإيقاعه، وكان إيقاعه بإيقاع فاعل آخر كالباري تعالى فلا يلزم ذلك، وإذا انتهى إلى إيقاع قديم كالوصف الذي يسمى تكوينا لم يلزم التسلسل أيضا.
الثالث وهو جواب إلزامي أن الإيقاع معناه التكوين، ومذهب الأشعري أنه ليس من الصفات(1/332)
بأجمعهم لا يشرع الجهاد، وإن قضى البعض حق الميت يسقط عن الباقين، ولما كان المقصود يتأدى بعين المأمور به كان هذا الضرب لا الضرب الأول شبيها بالقسم الأول والأمر المطلق يتناول الضرب الأول من القسم الأول ويصرف عنه إن دل الدليل لأن كمال الأمر يقتضي كمال صفة المأمور به فيكون الأمر الكامل مقتضيا للحسن الكامل
ـــــــ
"المقدمة الثانية" كل ممكن فلا بد من أن يتوقف وجوده على موجد، وألا يكون واجبا بالذات، ثم إن لم يوجد جملة ما يتوقف عليه وجوده يمتنع وجوده، وإلا أمكن وجوده، وكل ممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال وهاهنا يلزم؛ لأنه إن وقع بدون تلك الجملة لم تكن هي جملة ما يتوقف عليه، والمفروض خلافه، وإن وجد تلك الجملة يجب وجوده عندها، وإلا أمكن عدمه ففي حال العدم إن توقف على شيء آخر لم يكن المفروض جملة وإن لم يتوقف على شيء آخر فوجوده مع الجملة تارة، وعدمه أخرى رجحان من غير مرجح، وهو محال فإن قيل لا نسلم أنه محال بل الرجحان بلا مرجح بمعنى وجود الممكن من غير أن
................................................................................................
الموجودة في الخارج على ما تقرر في علم الكلام، والإلزام ليس بتام؛ لأن مذهب الأشعري أن التكوين ليس صفة حقيقة أزلية مغايرة للقدرة ولا يلزم من ذلك نفي التكوين الحادث عند تعلق القدرة، والإرادة لوجود الشيء بل العمدة في إثبات هذا المطلوب هو لزوم التسلسل في الإيقاعات، ويمتنع انتهاؤه إلى إيقاع قديم؛ لأنه يستلزم قدم الحادث ضرورة أنه لا يتصور إيقاعا بالمعنى المصدري من غير شيء يقع به.
قوله: "المقدمة الثانية" حاصلها أنه لا بد لكل ممكن من علة يجب وجوده عند وجودها، وعدمه عند عدمها فهو بالنظر إلى وجود العلة واجب، وهو الوجوب بالغير، وبالنظر إلى عدمها ممتنع، وهو الامتناع بالغير ما توقف وجود الممكن على علة موجدة فضروري واضح من ملاحظة مفهوم الممكن، وهو ما لا يكون وجوده، ولا عدمه من ذاته، وإنما يخفى على بعض الأذهان لعدم ملاحظة مفهوم الإمكان أو معنى الاحتياج إلى الموجد، وهذا لا ينافي الضرورة قد ينبه عليه بصورة الاستدلال فلهذا قال، وإلا أي، وإن لم يتوقف وجوده على موجد لكان واجبا إذ لا نعني بالواجب إلا ما يكون وجوده من ذاته، ولا يتوقف على موجد، وأما كون علة الممكن بحيث يجب عدم الممكن عند عدمها، ويجب وجوده عند وجودها بجميع أجزائها، وشرائطها، وهو المراد بجملة ما يتوقف عليه وجود الممكن فحاصله مقدمتان: إحداهما قولنا: كلما عدمت جملة ما يتوقف عليه وجود الممكن امتنع وجوده. والثانية قولنا: كلما وجدت جملة ما يتوقف عليه وجود الممكن وجب وجوده أما الأولى فلأنها لو لم تصدق لصدق قولنا قد يكون إذا عدمت الجملة لم يمتنع وجود الممكن بل أمكن بالإمكان العام، وهذا باطل؛ لأن وجود الممكن على تقدير عدم جملة ما يتوقف عليه لو كان ممكنا لما لزم من فرض وقوعه محال، واللازم باطل أما الملازمة؛ فلأن استحالة اللازم توجب استحالة الملزوم ضرورة امتناع الملزوم بدون اللازم تحقيقا لمعنى الملزوم، والمستحيل لا يكون ممكنا.(1/333)
وكونه عبادة يوجب ذلك أيضا فقال الشافعي: رحمه الله تعالى الأمر بالجمعة يوجب صفة حسنها، وأن لا يكون المشروع في ذلك اليوم إلا هي فلا يجوز ظهر غير المعذور إذا لم تفت الجمعة، ولما لم يخاطب المعذور بالجمعة فإذا أدى الظهر لم ينتقض بالجمعة قلنا لما كان الواجب قضاء الظهر لا الجمعة علمنا أن الأصل هو الظهر
ـــــــ
يوجده شيء آخر محال، ولم يلزم هذا المعنى قلت قد لزم هذا المعنى؛ لأنه إن أمكن عدمه مع هذه الجملة يجب أن لا يلزم من فرض عدمه محال لكنه يلزم؛ لأنه لا شك أنه في زمان عدمه لم يوجده شيء ففي الزمان الذي وجد إن وجد بإيجاد شيء آخر إياه يكون الإيجاد من جملة ما يتوقف عليه وجوده فلا يكون المفروض جملة، وإن وجد من غير إيجاد شيء
................................................................................................
وأما بطلان اللازم فلأنه لو فرض وقوع وجود الممكن بدون وجود جملة ما يتوقف عليه لزم أن لا يكون بعض الموقوف عليه موقوفا عليه، وهذا محال، وبيان الملزوم ظاهر. وأما الثانية؛ فلأنها لو لم تصدق لصدق قولنا: قد يكون إذا وجدت جملة ما يتوقف عليه وجود الممكن لم يجب وجوده بل أمكن عدمه بالإمكان العام، وهذا باطل؛ لأن عدم الممكن على تقدير وجود الجملة، وكان ممكنا لما لزم من فرض وقوعه محال، واللازم باطل. لأنا لو فرضنا وقوع عدم الممكن ما يتوقف عليه وجوده ففي تلك الحالة إما أن يتوقف الوجود على شيء آخر أو لا، وكلاهما محال: أما الأول فلاستلزامه أن لا يكون جملة ما يتوقف عليه جملة لبقاء شيء آخر، وأما الثاني فلاستلزامه الرجحان بلا مرجح، وهو وجود الممكن تارة، وعدمه أخرى مع تحقق جملة ما يتوقف عليه وجوده في الحالتين من غير زيادة أو نقصان ترجح الوجود أو العدم، وكلا الأمرين أعني الرجحان بلا مرجح، وعدم كون الجملة جملة محال بالضرورة فعدم الممكن عند تحقق جملة ما يتوقف عليه وجوده محال فوجوده واجب، وهو المطلوب.
فإن قيل: إن أردتم الرجحان من غير مرجح وجود الممكن من غير أن يوجده شيء آخر أي مغاير لذات الممكن فلا نسلم لزوم ذلك على تقدير عدم الممكن مع تحقق جملة ما يتوقف عليه وجوده فإن تلك الجملة علة موجدة غايته أن المعلول لا يجب معها، وإن أردتم به غير ذلك مثل تحقق المعلول مع علته الموجدة تارة، وعدم تحققه معها أخرى فلا نسلم استحالة ذلك بل هو أول المسألة فجوابه أن المراد هو الأول، وهو لازم؛ لأن الإيجاد غير متحقق حالة العدم، وهو ظاهر ففي حالة الوجود إن تحقق لم يكن المفروض جملة ما يتوقف عليه وجود الممكن؛ لأن من جملته الإيجاد، وقد كان منتفيا في حالة العدم، وإن لم يتحقق لزم وجود الممكن بلا إيجاد شيء إياه، وهو معنى الرجحان بلا مرجح، ويظهر لك بهذا التقرير أن في عبارة المصنف رحمه الله تعالى زيادة لا حاجة إليها إذ يكفي أن يقال: قد لزم هذا المعنى؛ لأنه لا شك أنه في زمان عدمه لم يوجده شيء إلى الآخر فإن قيل: إن كان المراد بقولكم يمتنع وجوده أو يجب وجوده الامتناع، والوجوب بحسب الذات ففساده ظاهر؛ لأن الكلام في الممكن وإن أريد بحسب الغير فالإمكان لا يناقضهما فلا وجه لقولكم، وإلا لأمكن وجوده أو عدمه. قلنا المراد بامتناع الوجود استحالته بالنظر إلى عدم العلة،(1/334)
لكنا أمرنا بإقامة الجمعة مقامه في الوقت فصارت مقررة له لا ناسخة، ولا فرق في هذا بين المعذور وغيره لعموم {فَاسَعَوْا} لكن سقطت عنه الجمعة رخصة فإذا أتى بالعزيمة صار كغير المعذور فانتقض الظهر.
ـــــــ
آخر إياه لزم ما سلمتم استحالته فثبت أنه لا بد لوجود كل شيء ممكن من شيء يجب عنده وجود ذلك الممكن، ولولاه يمتنع وجوده عند وجود جملة.
وهذه القضية متفق عليها بين أهل السنة، والحكماء لكن أهل السنة يقولون بها على وجه لا يلزم منه الموجب بالذات فإن وجود الشيء يجب على تقدير إيجاد الله تعالى إياه، ويمتنع على تقدير أن لا يوجده، واعلم أن ما زعموا أن كل موجود ممكن محفوف بوجوبين
................................................................................................
وبإمكانه عدم استحالته بالنظر إليه، وكذا المراد بوجوب الوجود استحالة العدم بالنظر إلى وجود العلة، وبإمكان العدم عدم استحالته بالنظر إليه، ولا خفاء في تناقضهما، وهذا معنى ما يقال: إن الممكنة تناقض الضرورية.
فإن قيل: المعلول النوعي قد يتعدد علله كالشمس، والقمر، والنار للضوء، ومع انتفاء علة واحدة لا يمتنع وجود المعلول قلنا إذا اعتبرت المعلول نوعيا فعلته أحد الأمور، وانتفاؤه، إنما يكون بانتفاء كل منها، وحينئذ يمتنع وجود المعلول، واعلم أن ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى مبني على أن الإيجاد أمر يتوقف عليه وجود الممكن، والحق أنه اعتبار عقلي يحصل في الذهن من اعتبار إضافة العلة إلى المعلول فهو في الذهن متأخر عنهما، وفي الخارج غير متحقق أصلا، والمشهور أنه إن أمكن عدم الممكن عند تحقق جميع ما يتوقف عليه وجوده كان وجوده تارة، وعدمه أخرى تخصيصا بلا مخصص، وترجيحا بلا مرجح؛ لأن نسبته إلى جميع الأوقات على السوية، وبطلانه ضروري فإن قيل: لم لا يكفي في وقوع الممكن أولويته من غير أن ينتهي إلى الوجوب، وحينئذ يمكن عدمه مع تحقق جملة ما يتوقف عليه الوجود بناء على أن جملة ما يتوقف عليه الوجود إنما يفيد أولويته لا وجوبه؟ قلنا: إن أمكن العدم مع تلك الأولوية فوقوعه إن كان لا لسبب لزم رجحان المرجوح وإن كان لسبب كان من جملة ما يتوقف عليه الوجود عدم ذلك السبب فلا يكون المفروض جملة ما يتوقف عليه الوجود.
قوله: "وهذه القضية"، وهي احتياج كل ممكن إلى علة يجب وجود الممكن عند وجودها، وعدمه عند عدمها مما اتفق عليه الحكماء، وأكثر أهل السنة يعني أنها مع كونها أولية مشهورة لم ينازع فيها إلا قوم من المتكلمين ذهبوا إلى أن الفاعل المختار إنما يصدر عنه الفعل على سبيل الصحة دون الوجوب لكن أهل السنة يقولون إن وجود الشيء واجب على تقدير إيجاد الله تعالى إياه، بإرادته، واختياره أي وقت أراد فالله تعالى مختار، والمعلول حادث، واعتراض الحكماء عليه بأن اختياره إن كان قديما يلزم قدم المعلول لامتناع التخلف، وإن كان حادثا ينقل الكلام إليه، ويلزم التسلسل أو قدم المعلول.(1/335)
سابق ولاحق باطل؛ لأنه إن أريد السبق الزماني فمحال؛ لأنه يلزم وجوب وجود الشيء حال عدمه، وإن أريد سبق المحتاج إليه فكذا؛ لأنه مع العلة الناقصة لا يجب، ومع التامة لا يكون الوجوب منها ضرورة أن الوجوب معلولها فالوجوب ليس إلا مقارنا بحيث لا يحتاج الوجود إليه، وكل منهما أثر المؤثر التام ثم العقل قد يعتبر أحد المتضايفين مؤخرا من حيث إنه يحتاج إلى الآخر في التعقل، ومقدما من حيث إن الآخر يحتاج إليه، وأيضا مقارنا مع أنه في الحقيقة واحد.
................................................................................................
قوله: "واعلم" أنه قد اشتهر فيما بين الحكماء أن وجود كل ممكن محفوف بوجوبين سابق، وهو وجوب صدوره عن العلة، ولاحق، وهو وجوب وجوده ما دام موجودا، وذلك؛ لأنه ما لم يخرج عن حد التساوي، ولم ينته إلى حد الوجوب لم يوجد لما مر، وبعد تحقق الوجود امتنع العدم ما دام الوجود متحققا ضرورة امتناع اجتماع الوجود، والعدم، واعترض عليه المصنف رحمه الله تعالى بأنه إن أريد بسبق الوجوب على الوجود السبق الزماني، وهو أن يكون المتقدم موجودا في زمان قبل زمان تحقق المتأخر يلزم أن يتحقق الوجوب في زمان عدم الممكن، وهو محال بالضرورة، وإن أريد السبق الاحتياجي، وهو أن يكون المتقدم بحيث يحتاج إليه المتأخر كسبق الجزء على الكل أو العلة على المعلول حتى يكون المراد أن وجود الممكن عن العلة محتاج إلى وجوبه على ما هو الظاهر من كلامهم فهو أيضا باطل؛ لأنه إن أريد الاحتياج في العقل فظاهر أن تعقل وجود الممكن لا يتوقف على تعقل وجوبه بل الأمر بالعكس، وإن أريد في الخارج، وفي نفس الأمر فإما أن يراد بالنظر إلى العلة الناقصة أو بالنظر إلى العلة التامة، وكلاهما باطل أما الأول فلأنه لا وجوب مع العلة الناقصة فضلا عن أن يكون محتاجا إليه إذ النزاع إنما هو في أنه هل يجب مع العلة التامة أم لا. وأما الثاني فلأن الوجوب إذا كان مما يحتاج إليه الوجود كان من جملة ما يتوقف عليه وجود الممكن فكان جزءا من العلة التامة فيلزم تقدمه على نفسه ضرورة أنه معلول للعلة التامة لما مر من أنه إذا وجدت العلة التامة بجميع أجزائها، وشرائطها وجب المعلول فيكون الوجوب أثرا للعلة متأخرا عنها، وكونه جزءا منها يقتضي تقدمه عليها هذا محال.
والحاصل أن كون الوجوب أثرا للعلة التامة التي هي جملة ما يتوقف عليه وجود الممكن ينافي سبقه على الوجود بمعنى احتياج الوجود إليه ضرورة امتناع كون الشيء أثر الشيء، وجزءا منه، وقد ثبت الأول فينتفي الثاني، والجواب أن المراد السبق لاحتياج إليه في نفس الأمر بمعنى أن العقل يحكم عند ملاحظة هذه الأمور بأن الممكن ما لم يجب لم يوجد؛ لما مر فالوجوب أيضا مما يحتاج إليه وجود الممكن لكنهم حين قالوا يجب وجود الممكن عند تحقق العلة التامة أرادوا بها جميع ما يتوقف عليه الممكن سوى الواجب بناء على أنه اعتبار عقلي، وهو تأكيد الوجود حتى كأنه هو هو فلم يجعلوه من أجزاء العلة التامة فإن أبيتم هذا الإطلاق، وزعمتم أن ما سوى الوجوب علة ناقصة؛ لأنها بعض ما يحتاج إليه وجود الممكن فنقول: إن أردتم بقولكم لا يجب الوجود مع العلة الناقصة السلب الجزئي فهو لا يضرنا، وإن أردتم السلب الكلي بمعنى أنه لا يجب مع شيء من العلل الناقصة فهو ممنوع فإن من العلل الناقصة ما إذا تحققت تحقق الوجوب، وهي جملة ما يتوقف عليه وجود الممكن سوى الوجوب فالوجوب أثر لها متأخر عنها بالذات، وسابق على الوجوب(1/336)
"المقدمة الثالثة" لما ثبت أنه لا بد لوجود كل ممكن من شيء يجب عنده وجود ذلك الممكن يلزم أنه لا بد أن يدخل في جملة ما يجب عنده وجود الحادث أمور لا موجودة في الخارج، ولا معدومة كالأمور الإضافية، وهو القول بالحال، وذلك؛ لأن جملة ما يجب عنده وجود زيد الحادث لا يكون تمامها قديما؛ لأن القديم إن أوجبه في وقت معين فحدوثه يتوقف على حصول ذلك الوقت فلا يكون تمام ما يجب عنده قديما، وإن أوجبه لا في وقت معين فحدوثه في وقت معين رجحان من غير مرجح فيكون بعضها حادثة فحينئذ إن لم يدخل في تلك الجملة أمور لا موجودة، ولا معدومة فهي، إما موجودات محضة، وهي مستندة
................................................................................................
بالذات بمعنى الاحتياج إليه، ولا فساد في ذلك.
قوله: "مع العلة الناقصة" أو التامة أراد المعية الزمانية، وإلا فالمعلول يتأخر عن العلة بالذات لا محالة.
قوله: "ثم العقل" كأنه تنبيه على منشأ الغلط في سبق الوجوب على الوجود، وذلك أنهما معا معلولا علة واحدة هي المؤثر التام فلا يمكن تحقق بأحدهما بدون الآخر بمنزلة وجود النهار، وإضاءة العالم المعلولين لطلوع الشمس فللعقل أن يعتبرهما معا نظرا إلى ترتبهما على العلة من غير تقدم أحدهما على الآخر، وأن يعتبر أحدهما متأخرا عن الآخر من حيث إنه محتاج إلى الآخر، ومتقدما عليه من حيث إن الآخر محتاج إليه كالإخوة مثلا فإن أخوة زيد مقارنة لأخوة عمرو، ومتأخرة عنها، ومتقدمة عليها لكن بحسب اعتبارات مختلفة، وهذا الذي يقال: له دور المعية فمن نظر إلى احتياج الوجود إلى الوجوب جزم بأنه سابق على الوجود، ولم يلاحظ مقارنتهما بالذات، وتأخر الوجوب أيضا باعتبار الاحتياج إلى الوجود وقد نبهناك على أن الوجود يتوقف على ما لا يتوقف عليه الوجوب، وهو نفس الوجوب فلا يكونان معلولي علة واحدة هي العلة التامة بل العلة المؤثرة، وهذا لا يوجب مقارنتهما، ولا ينافي تقدم أحدهما بمعنى احتياج الآخر إليه، وأيضا لا خفاء في أنه يصح أن يقال: وجب صدوره فوجد دون أن يقال: وجد فوجب صدوره إن توقف المعية لا يقتضي السبق كما بين وجود النهار، وإضاءة العالم، وأن الوجوب، والوجود على تقدير كونهما معلولي علة واحدة لا يجب أن يكونا مضافين اللهم إلا أن يعتبر وصف المقارنة، وهو ليس بلازم.
قوله: "المقدمة الثالثة" أن جملة ما يتوقف عليه وجود الحادث لا بد أن يشتمل على أمر ليس بموجود، ولا معدوم كالإيقاع الذي هو أمر إضافي مثلا، وهذا قول بالحال، وانقسام المفهوم إلى الموجود، والمعدوم والواسطة؛ لأنه إن لم يكن له كون فهو المعدوم، وإلا فإن استقل بالكائنية فموجود، وإلا فحال، وهي صفة غير موجودة، ولا معدومة قائمة بموجود، وتقرير الدليل أن جملة ما يتوقف عليه وجود زيد الحارث لا يمكن أن يكون قديما بجميع أجزائه؛ لأن وقت الحدوث إن كان من جملة ما يتوقف عليه وجود زيد لم يكن المفروض قبل الوقت جملة ما يتوقف عليه هذا خلف، وإن لم يكن من جملتها كان حدوث زيد في ذلك الوقت رجحانا من غير مرجح بمعنى وجود الممكن من غير إيجاد شيء إياه؛ لأنه قبل الوقت لم يكن إيجاد، وبعده لم يتحقق شيء آخر يتوقف عليه الوجود فلزم الوجود بلا إيجاد، وبهذا يندفع ما يقال: لم لا يجوز أن يكون من جملة ما يتوقف(1/337)
إلى الواجب فيلزم إما قدم الحادث أو انتفاء الواجب، وإما معدومات محضة، وهي لا تصلح علة الموجود، وأيضا وجود زيد متوقف على أجزائه الموجودة، وإما الموجودات مع معدومات، وهذا باطل أيضا؛ لأن هذه القضية ثابتة، وهي أنه كلما وجد جميع الموجودات التي يفتقر إليها زيد يوجد زيد من غير توقف على عدم شيء إذ لو توقف على عدم عمرو مثلا يتوقف على عدمه الذي بعد الوجود؛ لأن العدم الذي قبل الوجود قديم فيلزم قدم زيد الحادث، ثم عدم عمرو الذي بعد الوجود لا يمكن إلا بزوال جزء من العلة الموجبة لوجود عمرو أو بقائه، وذلك الجزء إما أن يكون موجودا محضا فيصير معدوما وهذا لا يمكن لأنه لا يصير معدوما إلا بعدم جزء من علة وجوده أو بقائه، وهلم جرا إلى الواجب فلا يمكن عدم
................................................................................................
عليه الوجود الإرادة التي من شأنها ترجيح ما شاء متى شاء؟ والأخصر أن يقال: لو كان المجموع قديما لزم قدم زيد الحادث؛ لما مر من وجوب وجود الممكن عند تحقق جملة ما يتوقف عليه بل الأظهر أنه لا حاجة إلى هذه المقدمات، ويكفي أن يقال: لو لم يكن في جملة ما يتوقف عليه وجود الحادث أمر ليس بموجود، ولا معدوم، لكانت إما موجودات محضة أو معدومات محضة أو مركبة من الموجودات، والمعدومات، والأقسام باطلة بأسرها.
أما الأول فلأن تلك الموجودات مستندة إلى الواجب ضرورة استحالة التسلسل في طرف المبدأ فحينئذ إن لم يكن بعض تلك الموجودات معدوما في شيء من الأزمنة لزم قدم زيد الحادث بالزمان ضرورة دوام المعلول بدوام علته التامة. وإن كان شيء منها معدوما فعدمه يكون بعدم شيء من علته التامة، وهلم جرا إلى الواجب فيلزم انتفاء الواجب في شيء من الأزمنة، وهو محال، وقد يقال في تقديره: إن تلك الموجودات إن انتهت إلى الواجب كانت قديمة، ولزم قدم زيد الحادث، وإن لم تنته إليه لزم انتفاء الواجب، ولا يخفى أنه لا معنى لقوله، وهي مستندة إلى الواجب على هذا التقرير، وإن عدم انتهاء الممكنات إلى الواجب لا يستلزم انتفاء. غاية ما في الباب أنه لا يدل على وجوده.
وأما الثاني فلأن المعدوم المحض لا يصلح علة لوجود الممكن، وهذا بديهي؛ ولأن الكلام في زيد المركب، ووجود المركب يتوقف على وجود أجزائه بالضرورة فلا يكون جملة ما يتوقف عليه معدومات محضة.
وأما الثالث فلأن علة الحادث لو كانت موجودات مع معدومات لما كان وجود جميع الموجودات التي يفتقر إليها وجود الحادث مستلزما لوجود الحادث ضرورة توقفه على المعدومات أيضا، واللازم باطل؛ لأن هذه القضية ثابتة، وهي قولنا: كلما وجد جميع الوجودات التي يفتقر إليها وجود زيد لوجد زيد من غير توقف على عدم شيء ما إذ لو توقف على عدم شيء، ولنفرضه عدم عمرو فأما أن يتوقف على عدمه السابق أو على عدمه اللاحق، وكلاهما باطل أما الأول فلأن عدمه السابق قديم أي أزلي فيلزم قدم زيد الحادث ضرورة تحقق جميع ما يتوقف عليه من الموجودات، والمعدومات.(1/338)
عمرو حينئذ لا يمكن وجود زيد لتوقفه على عدم عمرو، وكلامنا في زيد الموجود، وإما أن يكون لزوال العدم مدخل في زوال ذلك الجزء، وزوال ذلك العدم هو الوجود. ونفرضه وجود بكر فعدم عمرو يتوقف على وجود بكر، وقد فرضناه وجود زيد متوقفا على عدم عمرو فيلزم توقف وجود زيد على وجود بكر على تقدير وجود جميع الموجودات التي يفتقر إليها زيد هذا خلف، وإذا ثبت القضية المذكورة يلزم أنه كلما عدم زيد لا يكون عدمه إلا بعدم شيء من تلك الموجودات، ثم هكذا الواجب فيثبت على تقدير افتقار وجود كل ممكن إلى شيء يجب ذلك الممكن عنده دخول ما ليس بموجود، ولا معدوم في جملة ما يجب عنده وجود الحادث
................................................................................................
فإن قيل: هب أن العدم الذي هو بعض أجزاء العلة قديم فمن أين يلزم قدم مجموع العلة حتى يلزم قدم المعلول قلنا: من جهة أن وجود الممكن على هذا التقدير مستند إلى الواجب، وإلى عدم قديم فيكون جميع الموجودات التي يتوقف عليها وجود زيد قديمة فإن كان العدم الذي يتوقف عليه وجود زيد أيضا قديما كانت العلة بجميع أجزائها قديمة فإن قيل: الكلام إنما هو على تقدير حدوث بعض ما يتوقف عليه وجود زيد قلنا نعم إلا أنه لزم قدمه بالضرورة على تقدير تركب العلة من الموجودات، والمعدومات التي عدمها أزلي ضرورة استناده إلى القديم. وأما الثاني: وهو توقف وجود زيد على عدم عمرو اللاحق أعني عدمه الحادث بعد وجوده؛ فلأن عدم عمرو بعد وجوده لا يمكن إلا بزوال شيء لما يتوقف عليه وجود عمرو أو بقاؤه إذ لو وجد علة الوجود والبقاء بجميع أجزائها امتنع عدم المعلول لما مر من وجوب وجود الممكن عند وجود علته التامة فذلك الجزء الذي يحدث عدم عمرو بزواله إما أن يكون موجودا محضا فيزول بأن يصير معدوما، وإما أن لا يكون موجودا محضا بل معدوما محضا أو مركبا من الموجود، والمعدوم، ولا يكون زوالا بزوال الموجود فقط؛ لأنه حينئذ يصير القسم الأول بعينه بل بزوال المعدوم أو بزوال كلا الجزأين أعني الموجود، والمعدوم، وزوال المعدوم لا يتصور إلا بزوال عدمه فلذا عبر عن هذا الشق بقوله، وإما أن يكون لزوال العدم مدخل في زوال ذلك الجزء مقابلا لقوله، وذلك الجزء إما أن يكون موجودا محضا فكأنه قال إما أن لا يكون لزوال العدم مدخل في زوال ذلك الجزء الذي ينعدم عمرو بزواله أو يكون. وكلا القسمين باطل
أما الأول فلأن انعدام ذلك الجزء لا يمكن إلا بزوال جزء من علة وجوده أو بقائه وننقل الكلام إلى ذلك الجزء بأنه إما معدوم صار موجودا، وسيأتي الكلام عليه وإما موجود صار معدوما، وذلك لا يكون إلا بانعدام شيء مما يتوقف عليه وجوده، وهلم جرا إلى الواجب فيلزم انتفاء الواجب، وهو محال، وما يستلزم المحال محال فيلزم استحالة وجود زيد لتوقفه على المحال مع أن الكلام في زيد الموجود.
وأما الثاني، وهو أن يكون لزوال العدم مدخل في زوال ذلك الجزء فلأن زوال العدم وجود، ولنفرضه وجود بكر فيكون وجود زيد بعد تحقق مجموع ما يتوقف عليه من الموجودات موقوفا على وجود بكر ضرورة توقفه على عدم عمرو الموقوف على زوال جزء علته الموقوف على وجود بكر(1/339)
هذا خلف لأن ما فرضناه مجموع الموجودات التي يتوقف عليها وجود زيد لا يكون مجموعا ضرورة وبقاء بكر الموجود لا يقال: لم لا يجوز أن يكون وجود بكر من جملة تلك الموجودات؟ لأنا نقول: لو كان وجود بكر من جملة تلك الموجودات التي فرضناها متحققة لكان زوال عدم ذلك الجزء متحققا؛ لأنه عبارة عن وجود بكر فيكون زوال ذلك الجزء الذي فرضناه معدوما متحققا ضرورة زوال المعدوم بزوال عدمه فيلزم تحقق عدم عمرو، وضرورة انتفاء جزء مما يتوقف عليه وجوده فيلزم تحقق وجود زيد ضرورة وجود علته التامة بجميع أجزائها الموجودة، والمعدومة هذا خلف؛ لأن التقدير أنه تحقق جميع الموجودات التي يتوقف عليها وجود زيد، ولم يوجد زيد الحادث بناء على توقفه على عدم شيء فرضناه عمرا، وإذا ثبت بطلان توقف وجود الحادث بعد تحقق جميع الموجودات التي يفتقر إليها على عدم شيء ما ثبت قولنا كلما وجد جميع الموجودات التي يفتقر إليها وجود زيد، وهي القضية التي ادعينا أنها ثابتة، وتنعكس بعكس النقيض إلى قولنا: كلما لم يوجد زيد لم يوجد الموجودات التي يفتقر وجوده إليها بل لا بد من عدم شيء منها، وهذا معنى قوله: "كلما عدم زيد لا يكون عدمه إلا بعدم شيء من تلك الموجودات التي يفتقر إليها وجوده".
ثم ننقل الكلام إلى عدم ذلك الشيء بأنه لا يكون إلا بعدم شيء مما يتوقف عليه وجوده، وهلم جرا إلى أن تنتهي إلى الشيء الذي لا يكون بينه وبين الواجب واسطة فعدمه لا يكون إلا بعدم الواجب، وهو محال، وهذا تقرير الدليل على امتناع تركب علة وجود الحادث من الموجودات، والمعدومات. وفيه بحث من الوجهين: أحدهما أن ثبوت القضية المذكورة لا يوجب إلا لزوم وجود الحادث عند وجود جميع الموجودات التي يفتقر هو إليها من غير أن يبقى موقوفا على عدم شيء، وهذا لا يوجب عدم تركيب علته التامة من الموجودات، والمعدومات لجواز أن تتركب منهما، ويكون وجود جميع الموجودات المفتقرة إليها مستلزما للعدم الذي له مدخل في العلة، ولا شك أن لعدم المانع دخلا في علة الحادث فإن قلت: الشرطية المذكورة توجب لزوم وجود زيد على جميع أوضاع المقدم، وتقاديره فيثبت على تقدير أن لا يتحقق شيء من الإعدام التي جعلتموها داخلة في العلة قلت: إنما يلزم ذلك لو كان عدم تحقق الإعدام من التقادير الممكنة الاجتماع مع المقدم، وهو ممنوع لجواز أن يكون المقدم أعني وجود جميع الموجودات المفتقرة إليها مستلزما لتلك الإعدام، ويمتنع عدم تحقق اللازم مع تحقق الملزوم، وثانيهما أن قوله، وإذا ثبت القضية المذكورة يلزم أنه كلما عدم زيد لا يكون عدمه إلا بعدم شيء من تلك الموجودات إلى آخره مما لا دخل له في إثبات المطلوب، ويمكن تقريره بوجه آخر، وهو أن جملة ما يجب عنده وجود الحادث لا يجوز أن يكون موجودات مع معدومات؛ لأن القضية المذكورة مستلزمة لقولنا كلما عدم زيد عدم شيء من الموجودات المفتقر هو إليها المستندة إلى الواجب، وهذا محال لاستلزامه انتفاء الواجب إذ عدم ذلك الموجود يستلزم عدم شيء مما يفتقر هو إليه من الموجودات، وهكذا إلى الواجب فيكون عدم زيد محالا مع أن الكلام في زيد الحادث المسبوق بالعدم، واستحالة العدم بواسطة الاستناد إلى الواجب. وإن لم تناف الإمكان بالذات لكن لا خفاء في أنها تنافي الحدوث الزماني، وهذا التقرير يدل على أنه إذا وجب وجود المعلول عند وجود العلة لا يكون علة الحادث موجودا محضا، ولا موجودا مع معدوم.(1/340)
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون من جملة تلك الموجودات فاعل بالاختيار يوجد الحادث أي وقت شاء؟ قلت: لأن الكلام إنما هو على تقدير وجوب المعلول عند وجود العلة ففي أي وقت أوجد المختار ذلك الحادث وإما أن يتحقق قبله جميع الموجودات التي يفتقر هو إليها مما يسمى إرادة أو اختيارا أو غير ذلك، ولم يوجد الحادث فيلزم التخلف، وإما أن لا يتحقق فينقل الكلام إلى ذلك البعض الذي لم يوجد بأن عدمه لا بد أن يكون عند عدم شيء من الموجودات التي يفتقر هو إليها، وهكذا إلى الواجب على ما مر فيلزم انتفاء الواجب، وهو محال، وقد يجاب عن هذا السؤال بأن العلية تقتضي شدة المناسبة بين العلة، والمعلول لئلا يكون صدوره رجحانا بلا مرجح، وليكون وجود العلة مستلزما لوجود المعلول، ولا شك أن الموجب أشد مناسبة بالموجب من المختار فلا يفيض من الموجب إلا الموجب، وضعف هذا الكلام غني عن البيان، وإذ قد بطلت الأقسام الثلاثة ثبت أنه لا بد على تقدير وجوب وجود المعلول عند وجود العلة من أن يدخل في جملة ما يتوقف عليه وجود الحادث أمر ليس بموجود ولا معدوم وهو المطلوب فإن قيل لم لا يجوز أن يكون من جملة ما يتوقف عليه وجود الحادث الحركات الفلكية على أنها أزلية، وعدم كل سابق منها معد لوجود اللاحق، والكل مستند إلى الواجب من غير أن يكون لها بداية، والحركة أمر غير قادر الذات فيرتفع لامتناع بقائها لا لارتفاع شيء من الموجودات التي تفتقر هي إليها حتى يلزم ارتفاع الواجب، وحينئذ لا يتم لبرهان على امتناع تركب علل الحوادث من الموجودات، والمعدومات فلا يلزم ثبوت أجور لا موجودة، ولا معدومة أجيب بأنه لا يتصور الحركة إلا بأن يوجد أين أي كونه في مكان أو وضع فينعدم، ويحدث أين أو وضع آخر فالأين أو الوضع الأول ممكن البقاء فلو استند إلى الواجب وجوبا يجب بقاؤه فلا يحدث حركة أصلا فالماهية الغير القارة لا تكون أثرا للموجب، والذات التي يمتنع زوالها كيف توجب أثرا يجب زواله.
فإن قيل: الذات تكون علة لمطلق الحركة، وهو أمر سرمدي، وإن كان أفراده بحيث يجب زوالها قلت ماهية الحركة ليست ماهية محققة، وإلا لم تكن طبيعة المطلق مخالفة لطبيعة الأفراد بل هي ماهية اعتبارية ركبها العقل من حدوث كون، ثم عدمه، وحدوث كون آخر، فإن قيل: يمكن أن يكون المطلق باقيا بتجدد الأفراد مع أن الأفراد غير باقية قلنا: نعم لكن لا يمكن أن يكون في طبيعة الأفراد امتناع البقاء، وفي طبيعة المطلق إمكان البقاء بل طبيعة الأفراد، والمطلق تكون على نهج واحد في الإمكان، والامتناع، وهاهنا طبيعة كل فرد تقتضي عدم البقاء فلا يكون للمطلق طبيعة نوعية موجودة تحتها أفراد، فلا يكون المطلق معلول الموجب، ولا أفراده أيضا لامتناع بقائها كذا ذكره المصنف رحمه الله تعالى. وهو لا يدفع ما ذهب إليه الفلاسفة من استناد الحركات إلى إرادات حادثة من النفوس الفلكية لا إلى بداية، وتحقيق هذا المقام موضعه علوم أخر. وقد يستدل على إثبات الواسطة بين الموجود، والمعدوم بأن الإيجاد ليس اعتبارا عقليا للقطع بتحققه سواء وجد اعتبار العقل أو لم يوجد، ولا أمرا محققا موجودا، وإلا لاحتاج إلى إيجاد آخر، ولزوم التسلسل من جانب المبدأ في الأمور الموجودة، ويمتنع كون إيجاد الإيجاد عينه ضرورة تغاير المحتاج، والمحتاج إليه، ولجواب أن المعلوم قطعا هو أن الفاعل أوجد شيئا، وهذا لا ينافي كون الإيجاد أمرا اعتباريا غير متحقق في الخارج إذ لا يلزم من انتفاء مبدأ المحمول انتفاء الحمل كما في قولنا: زيد أعمى فإن الأمر كذلك سواء وجد اعتبار العقل أو لم يوجد مع أن العمى أمر عدمي فإذا قتل زيد عمرا(1/341)
فإن قيل: لا يثبت هذا الأمر على ذلك التقدير؛ لأنه يراد بالمعدوم نقيض الموجود فالأمر الذي يسمونه حالا داخل في أحد النقيضين ضرورة. قلت: هذا التأويل صحيح إلا في قوله، وذلك الجزء إما أن يكون موجودا محضا إلى آخره فإن الانحصار فيما ذكر من الأمرين ممنوع فإنه يمكن أن يدخل في العلة الموجبة لعمرو أمور لا موجودة، ولا معدومة كالإضافيات فإن فسر الموجود بما يندرج فيه الإضافيات لا نسلم أن كل موجود يجب بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب فلا يصح قوله، وهلم جرا إلى الواجب، وإن فسر بما لا يندرج فيه الإضافيات في الموجود بل في المعدوم لا نسلم حينئذ أن زوال كل معدوم لا يكون إلا بوجود شيء فإن الإضافيات الوجودية معدومة في الخارج، وزوالها لا
................................................................................................
صدق أنه أوجد القتل، ولم يصدق أن الإيجاد معدوم بمعنى أنه لم يوجد القتل لكنه لا ينافي صدق قولنا الإيجاد معدوم بمعنى أنه ليس أمرا متحققا موجودا في الخارج.
قوله: "فإن قيل:" تقدير السؤال على ما سبق إليه الأذهان إنما نعني بالموجود، والمعدوم ما لا يتصور معه الواسطة؛ لأن كل ما يمكن أن يتصور فهو إما ثابت، وهو الموجود أولا، وهو المعدوم، ولا واسطة بين النقيضين فالأمر الذي سميتموه حالا، وجعلتموه واسطة بين الموجود، والمعدوم إن كان له ثبوت فهو داخل في الموجود، وإلا ففي المعدوم، وحاصل الجواب أن هذا غير صحيح لاستلزامه ورود المنع على بعض مقدمات دليلنا على امتناع تركب علة الحادث من موجودات، ومعدومات، وهل سمعت عاقلا يجيب عن معارضة الخصم بأنها فاسدة؛ لأنه يلزم منها بطلان الدليل الذي أنا أوردته على نقيض مطلوبك. والظاهر أن مثل هذا الكلام لا يصدر عمن له أدنى تميز فكيف ينسب هذا إلى المصنف رحمه الله تعالى، وهو علم التحقيق، وعالم التدقيق، ومنشأ التوجيه، والتوضيح، ومنشأ التعديل، والتنقيح بل توجيه السؤال: إن ما ذكرتم من الدليل على امتناع كون علة الحادث موجودات محضة أو معدومات محضة أو مركبة من الموجودات، والمعدومات دال بعينه على امتناع أن يدخل فيها أمور لا موجودة، ولا معدومة؛ لأن المراد بالمعدوم نقيض الموجود أي ما ليس بموجود، ولا يخرج شيء عن النقيضين فتلك الأمور إما ثابتة فتكون موجودة أو لا فتكون معدومة فالمركب منها، ومن غيرها إما أن يكون موجودات محضة أو معدومات محضة أو مركبة من الموجودات، والمعدومات، والكل باطل بعين ما ذكرتم من الدليل.
فأجاب بأن دليلنا لا يجري فيما ذكرتم لورود المنع على المقدمة القائلة: بأن ذلك الجزء الذي ينعدم عمرو بزواله إما أن يكون موجودا محضا، وإما أن يكون لزوال العدم مدخل في زواله لجواز أن يدخل في علة وجود عمرو أمور لا موجودة، ولا معدومة بزعمنا كالإيقاع، والاختيار، ونحو ذلك من الإضافيات فإن جعلتموها داخلة في الموجودة فلا نسلم أن كل موجود ممكن فهو واجب بالنظر إلى علته المستندة إلى الواجب حتى يلزم من انعدامه انعدام علته منتهيا إلى الواجب لجواز أن يكون من جملة تلك الموجودات الاختيار الذي من شأن الإيقاع أي وقت شاء من غير أن يعلل الاختيار ومن غير أن يلزم الوجود بلا إيجاد بل لا يلزم إلا ترجيح المختار أحد المتساويين، واستحالته ممنوعة، وإن جعلتموها داخلة في المعدوم فلا نسلم أن زوال كل معدوم لا يمكن إلا بزوال العدم(1/342)
يكون بوجود شيء فثبت توقف الموجودات الحادثة على أمور لا موجودة، ولا معدومة، ولا يمكن استناد تلك الأمور إلى الواجب بطريق الإيجاب؛ لأنه يلزم حينئذ المحالات المذكورة من قدم الحادث، وانتقاء الواجب، ولا يلزم من عدم استناد الأمور المذكورة استغناؤها عن الواجب إذ لا شك أنها مفتقرة إلى الواجب بلا واسطة أو بواسطة الموجودات المستندة إليه
................................................................................................
الذي هو عبارة عن وجود شيء ما حتى يلزم من زوال ذلك الجزء المعدوم الذي هو إضافي زوال العدم بمعنى وجود بكر مثلا يلزم الخلف، وذلك لأن الإضافيات التي لا يدخل العدم في مفهوماتها كالأبوة، والأخوة، والإيقاع، وتعلق القدرة، والإرادة، ونحو ذلك كلها معدومة على هذا التقدير، وزوالها لا يكون بوجود شيء كما إذا تعلقت الإرادة بشيء، ثم انقطعت، ولا يخفى أنه إذا جعلت تلك الأمور داخلة في الوجود يرد، ومنع لزوم قدم الحوادث أو انتفاء الواجب على تقدير كون علة الحادث موجودات محضة إلا أنه لم يصرح به لانسياق الذهن إليه من قوله لا نسلم أن كل موجود يجب بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب؛ ولأن الواقع دخول المعدوم في جملة ما يفتقر إليه وجود الحادث ضرورة افتقاره إلى عدم المانع.
واعلم أنني لو لم أزده في شرح هذا الكتاب، على تقدير هذا الباب، بل على توجيه هذا السؤال، والجواب، لكفى فلقد راجعت فيه كثيرا من الحذاق فما زادوا على إتعاب النواظر، والأحداق، وأنني لو اقتديت بالمصنف في الإشارة إلى ما تفردت به لطال الكلام، وكثر الملام، والله الموفق للمرام.
قوله: "فيثبت" أي لما ثبت الدليل المذكور سالما عن النقض ثبت توقف وجود الحوادث على أمور ليست بموجودة، ولا معدومة، وتلك الأمور ممكنة فيجب استنادها إلى علة لا محاولة، ولا يمكن استنادها إلى الواجب بطريق الإيجاب؛ لأنها إن كانت منتفية في شيء من الأزمنة لزم انتفاء الواجب؛ لأن الصادر عن الشيء بطريق الإيجاب يكون لازما له، وعدم اللازم يستلزم عدم الملزوم، وإن لم تكن منفية في شيء من الأزمنة لزم قدم الحادث لاستناده إلى الواجد بواسطة الإيقاع الذي لا ينتفي في شيء من الأزمنة فإن قيل: يجوز أن يتوقف على أمور أخر موجودة قلنا الكلام في تلك الأمور كما في هذا الحادث، ويلزم قدمها فيثبت أن هذه الأمور لا تستند إلى الواجب بطريق الإيجاب، ولا يلزم من ذلك استغناؤها عن الواجب بل لا شك أنها مفتقرة إليه بلا واسطة كإيجاد المعلول الأول مثلا أو بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب لكن على سبيل الصحة، والاختيار دون الوجوب إذ لو كان استنادها إلى الواجب بواسطة الموجودات المستندة إليه على سبيل الوجوب لزم قدمها ضرورة قدم الوسائط، ويلزم قدم الحوادث فقوله لكن لا على سبيل الوجوب قيد لاستناد الموجودات إلى الواجب متعلق بقول المستندة إليه، وإذ قد افتقرت تلك الأمور إلى الواجب فصدورها عنه إما أن يكون على سبيل الوجوب أو على سبيل الوجوب، والوجوب إما أن يكون بطريق التسلسل بأن يفتقر كل إيقاع إلى إيقاع قبله لا إلى نهاية، والتسلسل باطل بالبرهان المذكور في موضعه، وإما أن يكون بطريق كون إيقاع الإيقاع عين الإيقاع بالذات حتى لا يفتقر إلى إيقاعات غير متناهية، وهذا أيضا ليس بسديد؛ لأن العقل جازم بأن إيقاع الحادث مغاير لإيقاع إيقاعه. وهذان الطريقان، وإن أمكن تمشيتهما بمنع استحالة التسلسل في غير الموجودات، وبمنع(1/343)
لكن لا على سبيل الوجوب، وحينئذ إما أن يجب بالتزام التسلسل فيها، وهذا باطل أو بكون إضافة الإضافة عين الأولى، وإما أن لا يجب. والظاهر أن الحق هذا فإن إيقاع الحركة غير واجب، ومع ذلك أوقعها الفاعل ترجيحا لأحد المتساويين، ثم الحركة أي الحالة المذكورة تجب على تقدير الإيقاع إذ لو لم تجب فوجودها رجحان بلا مرجح، ولا يلزم في الإيقاع الرجحان بلا مرجح أي الوجود بلا موجد إذ لا وجود للإيقاع.
واعلم أن إثبات تلك الأمور عن تقدير أن كل ممكن يحتاج وجوده إلى مؤثر يوجبه مخلص عن القول بالموجب بالذات، وموجب للفاعل بالاختيار، ولولا تلك الأمور لا يمكن نفي الموجب بالذات إلا بالتزام وجود بعض الموجودات من غير وجوب، ويلزم من هذا وجود الممكن بلا موجد، وهو محال كما مر في المقدمة الثانية.
................................................................................................
مغايرة إيقاع الإيقاع للإيقاع بالذات بل لا تغاير إلا بالاعتبار لكن القول بصدور الإيقاع عن العلة بطريق الاختيار دون الوجوب أظهر عند العقول، وأجدر بالقبول فإنا نجد من أنفسنا أن المتحرك يوقع الحركة مع عدم وجوب إيقاعها بل مع تساوي الإيقاع، وللإيقاع النسبة إليه.
ولا امتناع في ترجيح المختار أحد المتساويين، وذلك؛ لأن الإيقاع ليس بموجود كما أنه ليس بمعدوم فلا يلزم من ثبوتها مع العلة تارة، وعدم ثبوتها أخرى رجحان الممكن بلا مرجح بمعنى وجود الممكن بلا موجد، ولا إيجاد إذ لا وجود للإيقاع بخلاف الحركة بمعنى الحاصل من المصدر، وهي الحالة الثابتة للمتحرك في كل جزء من أجزاء المسافة فإنها موجودة فيجب وجودها على تقدير الإيقاع؛ لأن العلة قد وجدت بجميع أجزائها من الأمور الموجودة، والأمور اللاموجودة، واللامعدومة أعني الإيقاع فلو لم يجب كان وجودها رجحانا من غير مرجح بمعنى وجود الممكن من غير موجد وإيجاد، والأظهر أن يقال: إنها تجب على تقدير الإيقاع ضرورة امتناع الإيقاع بدون الوقوع فظهر الفرق بين الأمر اللاموجود، واللامعدوم كإيقاع الحركة، وبين الأمر الموجود كالحالة التي هي الحركة فإن الأول لا يجب مع علته التامة، والثاني يجب.
قوله: "واعلم أن إثبات" الأمور اللاموجودة، واللامعدومة كالاختيار، والإيقاع مخلص عن لزوم القول بكون الواجب تعالى موجبا بالذات، وموجبا لكونه فاعلا بالاختيار أما الأول فلأن القول بكونه موجبا إنما يلزم من جهة أنه لو فعل بالاختيار لكان فعله جائز الترك فيلزم عدم الممكن مع وجود علته التامة، وقد سبق أنه يلزم منه الرجحان بلا مرجح ولو منع تمامية العلة بناء على أن الاختيار أيضا من جملة ما يتوقف عليه الفعل لنقل الكلام إلى الاختيار بأنه إما قديم فيلزم قدم الحادث أو حادث فيتسلسل الاختيارات فيلزم قيام الحوادث بذات الله تعالى، ولا مخلص من ذلك على تقدير عدم إثبات الأمور اللاموجودة، واللامعدومة إلا بالتزام وجود الممكن بدون وجوبه حتى إن الفعل يصدر عن الواجب، ولا يجب وجوده ما دام ذات الواجب بل يجوز عدمه مع وجود جميع ما يتوقف عليه، وقد سبق أن هذا مستلزم للرجحان بلا مرجح أي وجود الممكن بلا موجد، وإيجاد، وأما على تقدير إثبات الأمور اللاموجودة، واللامعدومة فلا يلزم القول بالإيجاب؛ لأن من(1/344)
"المقدمة الرابعة" الرجحان بلا مرجح باطل، وكذا الترجيح من غير مرجح لكن ترجيح أحد المتساويين أو المرجوح، واقع؛ لأنه إما أن لا يكون ترجيح أصلا أو يكون للراجح فقط أو المتساوي أو المرجوح، والأول باطل؛ لأنه لولا الترجيح لا يوجد ممكن أصلا، وكذا ترجيح الراجح باطل؛ لأن الممكن لا يكون راجحا بالذات بل بالغير فترجيح الراجح يؤدي إلى إثبات الثابت أو احتياج كل ترجيح إلى ترجيح قبله إلى غير النهاية فالترجيح لا يكون إلا للمتساوي، والمرجوح، ولأن كل ممكن معدوم فعدمه راجح على وجوده في نفس الأمر بالنسبة إلى علة العدم، ومساو له بالنسبة إلى ذات الممكن فإيجاده ترجيح المرجوح أو المساوي على أن الإرادة صفة من شأنها أن يرجح الفاعل بها أحد المتساويين أو المرجوح على الآخر فعلم أن الإرادة لا تعلل كما أن الإيجاب بالذات لا يعلل؛ لأن ذات الإرادة تقتضي ما ذكرنا، وإنما يمتنع رجحان المرجوح أو المتساوي ما داما كذلك فإذا رجح
................................................................................................
جملة ما يتوقف عليه وجود الممكن الإيقاع، والاختيار، والإيقاع لا يجب ثبوته عند تحقق علته التامة إذ لا يلزم من عدم وجوبه المحال المذكور أعني الرجحان بلا مرجح بمعنى وجود الممكن من غير موجد إذ لا وجود للإيقاع، ولا للاختيار كما لا عدم لهما. وأما الثاني فلأن هذه الأمور لا يمكن استنادها إلى الواجب بطريق الإيجاب لما يلزم من قدم الحوادث أو انتفاء الواجب فيلزم استنادها إليه بطريق الاختيار فيكون الواجب فاعلا مختارا، وهو المطلوب.
قوله: "المقدمة الرابعة أن الرجحان بلا مرجح" أي وجود الممكن بلا موجد باطل، وكذا الترجيح بلا مرجح أي الإيجاد بلا موجد، وبطلان ذلك بديهي غني عن البيان، وأما ترجيح أحد المتساويين أو ترجيح المرجوح فجائز واقع، واستدل على ذلك بوجوه الأول أنه إما أن لا يكون ترجيح أصلا أو يكون للراجح أو للمساوي أو للمرجوح، والأولان باطلان فتعين الآخران أما الأول فلأنه لولا: الترجيح لما وجد ممكن أصلا؛ لأنه لا يوجد بدون الإيجاد، والإيجاد ترجيح، وأما الثاني فلأن الممكن لا يكون راجحا إلا بواسطة مرجح خارج عن ذاته لاستواء الطرفين بالنظر إلى ذاته فلو جاز ترجيح الراجح أي إثبات الرجحان فإما أن يثبت الرجحان الذي هو ثابت فيلزم إثبات الثابت، وتحصيل الحاصل، وهو محال وإما أن يثبت رجحان زائد على ما له من الرجحان فيكون كل ترجيح مسبوقا بترجيح آخر وهو لا محالة يكون بمرجح فيلزم تسلسل الترجيحات، والمرجحات لا إلى نهاية فيفتقر وجود كل حادث إلى أمور غير متناهية فإن قيل: إن كان المدعى بطلان ترجيح الراجح في الجملة بمعنى أنه لا شيء من الترجيح بترجيح للراجح فلا يلزم من ثبوته عدم تناهي الترجيحات لجواز أن ينتهي إلى ترجيح المساوي أو المرجوح أي إلى ترجيح لا يكون قبله ترجيح وإن كان المدعى بطلان انحصار ترجيح في ترجيح الراجح بمعنى أنه ليس كل ترجيح ترجيحا للراجح فلا يصح قوله فالترجيح لا يكون إلا للمساوي أو المرجوح إذ لا يلزم من بطلان انحصار الترجيح في ترجيح الراجح ثبوت انحصاره في ترجيح المساوي أو المرجوح. قلنا مراده أنه لا يكون الترجيح بالآخرة، إلا للمساوي أو المرجوح، ويثبت به المطلوب، وهو وقوع ترجيح المساوي أو المرجوح. الثاني أن وجود الممكن مساو لعدمه نظرا إلى ذات الممكن، ومرجوح نظرا إلى ما هو(1/345)
الفاعل لم يبقيا كذلك. واعلم أن المتكلمين أوردوا لتجويز ترجيح المختار أحد المتساويين المثال المشهور، وهو الهارب من السبع إذا رأى طريقين متساويين فقال الحكماء القضية البديهية التي لولاها لانسد باب العلم بالصانع هو أن الرجحان بلا مرجح باطل ولا تبطل بإيراد مثال لا يدل على عدم المرجح بل غايته عدم العلم بالمرجح، فأقول: القضية التي تستعمل في إثبات العلم بالصانع هي أن رجحان أحد طرفي الممكن بلا مرجح محال بمعنى أن وجوده بلا موجد محال مع أنه يمكن إثبات هذا المطلوب مع الغنية عن هذه القضية بأن نقول: الموجود إما أن لا يحتاج في وجوده إلى غيره أو يحتاج، ولا بد من الأول قطعا للتسلسل، ثم على تقدير تسليم تلك القضية، وبداهتها الفاعل هو المرجح فلا يلزم وجود الممكن بلا موجد وأيضا، إنما أوردوا المثال سندا للمنع فعليكم البرهان على الرجحان في المثال المذكور على أنا نقول:
إن وجب المرجوح في المثال المذكور فإما أن يجب بحسب نفس الأمر، وهذا باطل؛ لأن
................................................................................................
الأصل السابق أعني عدم علة الوجود فإنه علة للعدم فإيجاد الممكن يكون ترجيحا للمساوي نظرا إلى الذات، وللمرجوح نظرا إلى العلة. الثالث: أن الإرادة صفة من شأنها أن يرجح الفاعل بها أحد المتساويين على الآخر أو المرجوح على الراجح فالإيجاب بالاختيار قد يكون ترجيحا لذلك فإن قيل: اختيار المختار أحد المتساويين ترجيح من غير مرجح، قلنا: الإرادة، والاختيار لا يعلل بأنه لم اختار هذا دون ذاك؛ لأن الترجيح صفة ذاتية لها كما أن الإيجاب بالذات لا يعلل بأن الموجب لم أوجب هذا دون ذاك؛ فإن قيل الترجيح يستلزم الرجحان ضرورة فترجيح المساوي أو المرجوح يوجب رجحانه، وهو ممتنع بالضرورة. قلنا الممتنع هو رجحان المساوي أو المرجوح ما دام المساوي مساويا، والمرجوح مرجوحا ضرورة امتناع اجتماع النقيضين أعني الرجحان، وعدمه، وعند ترجيح الفاعل إياهما لم يبقيا مساويا، ومرجوحا؛ لأن معنى الترجيح إثبات الرجحان، وجعل الشيء راجحا، وإخراجه عن حد التساوي فضلا عن المرجوحية.
قوله: "وهو" أي القضية البديهية، وتذكير الضمير باعتبار الخبر، وهو أن الرجحان بلا مرجح باطل، والعلم بوجود الواجب مبني على هذه المقدمة إذ العمدة فيه أنه لا شك في وجود موجود فإن كان واجبا فهو المطلوب، وإن كان ممكنا فلا بد له من موجد ضرورة امتناع ترجح أحد طرفي الممكن بلا مرجح فينقل الكلام إلى موجده فإما أن يتسلسل، وهو محال أو ينتهي إلى الواجب، وهو المطلوب، وبهذا يظهر صحة ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أن هذا الاستدلال إنما يبتنى على بطلان وجود الممكن بلا موجد لا على بطلان ترجيح الفاعل أحد المتساويين باختياره فإن قيل تعلق الإرادة بوجود الممكن أمر ممكن فيفتقر إلى موجد، ويتسلسل أو يلزم وجوده بلا موجد، قلنا إرادة الإرادة عينها أو الإرادة ترجح لذاتها أو تعلق الإرادة ليس بموجود بل حال فلا يلزم وجود الممكن بلا موجد. واعلم أن نزاع الحكماء إنما هو في ترجيح أحد المتساويين من غير مرجح لا في ترجيح المختار أحد المتساويين وجعله راجحا بالإرادة.(1/346)
الاعتقاد الذي لا يطابق لما في نفس الأمر كاف للأفعال الاختيارية، وإما أن يجب بحسب اعتقاد الفاعل، وذا باطل أيضا إذ يفعل أفعالا مع عدم اعتقاد الرجحان كما في الهارب بل مع اعتقاد المرجوحية، ومن أنكر هذا فقد أنكر الوجدانيات فبطل قولهم إن غايته عدم العلم بالرجحان فإن عدم علم الفاعل بالرجحان كاف في هذا الغرض فعلم أن المراد بقولنا: إن الرجحان بلا مرجح باطل هو أن وجود الممكن بلا موجد محال سواء كان الموجد موجبا أو لا فالرجحان هو الوجود فقط لا أنه يصير راجحا قبل الوجود
................................................................................................
قوله: "مع أنه يمكن" الاستدلال على وجود الصانع بوجه لا يبتني على بطلان الرجحان بلا مرجح بأن يقال: لا بد من موجود لا يحتاج في وجوده إلى الغير قطعا للتسلسل إذ لو احتاج كل موجود إلى غيره لزم التسلسل إن ذهب إلى لا نهاية أو الدور، وإن عاد إلى الأول، والدور نوع من التسلسل بناء على عدم تناهي التوقفات، والاحتياجات فلذا اكتفى بذكره، وأقول: الموجود الذي لا يحتاج في وجوده إلى الغير لا يلزم أن يكون واجبا إلا على تقدير امتناع الرجحان بلا مرجح، وإلا لجاز أن يكون ممكنا، ولا يكون وجوده من ذاته، ولا من غيره بل يحصل بعد العدم بلا موجد فلا غنية عن هذه القضية، وإن لم يذكرها في اللفظ.
قوله: "وأيضا" يعني أن المتكلمين في مقام المنع لامتناع ترجيح أحد المتساويين، وإنما يذكرون المثال سندا للمنع أي لم لا يجوز ترجيح أحد المتساويين كما في الهارب من السبع يسلك أحد الطريقين المتساويين فإن قيل كيف يمنع نفس المدعى، قلنا: بل هو جزء من الدليل على كون الواجب موجبا بالذات فيجب على الحكماء إقامة الدليل على هذه القضية أو على كونها بديهية، وأما ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أنه يجب إقامة البرهان على وجود المرجح في المثال المذكور فخارج عن قانون التوجيه إذ على المستدل البرهان على المقدمة الممنوعة لا على بطلان السند، وإن أورد المثال بطريق النقض كان على المتكلم الدليل على تخلف الحكم فيه، وإثبات عدم الرجحان، وليس للحكيم إلا منع التساوي أو عدم المرجح فيه.
قوله: "على أنا نقول" على سبيل التبرع بإثبات سند المنع، وبعد إثباته يكون نقضا لدعوى الحكماء، وتقريره ظاهر، والحاصل أن القول بالاحتياج إلى مرجح في نفس الأمر باطل قطعا إذ كثيرا ما يكون الطريق الذي يختاره الهارب مرجوحا مؤديا إلى مهالك، وسباع أكثر فبقي الاحتياج إلى مرجح بحسب علم الفاعل، واعتقاده فإذا سلموا في المثال المذكور أنه لا علم بالرجحان فقد حصل الغرض، وهو عدم المرجح في علم الهارب، واعتقاده فيه نظر؛ لأن عدم العلم بالرجحان في اعتقاده لا يستلزم عدم الرجحان في اعتقاده لجواز أن يكون راجحا في اعتقاده، وهو لا يعلم ذلك، ولا يلاحظه. فإن قلت قد سلم المصنف رحمه الله تعالى بطلان الترجيح بلا مرجح فكيف صح منه إثبات عدم المرجح في المثال المذكور؟ قلت: المسلم هو بطلان الإيجاد بلا موجد والمدعى في المثال المذكور عدم مرجح غير الفاعل، واختياره الذي به يصير أحد المتساويين راجحا ليؤثره الفاعل.
قوله: "فعلم" مما تقدم أنه لا امتناع في ترجيح أحد المتساويين بل هو واقع، وأنه لا امتناع(1/347)
إذا عرفت هذه المقدمات فقوله يجب وجود الفعل عند وجود المرجح إن أراد بالفعل الحالة التي تكون للمتحرك في أي جزء يفرض من أجزاء المسافة فعلى تقدير القول بوجود بعض الأشياء بلا وجوب نمنع وجوب تلك الحالة فلا يلزم الجبر على أنا قد أبطلنا هذا التقدير لكن إثبات المطلوب على هذا التقدير أيضا أقرب من الاحتياط، وعلى تقدير امتناع وجود الأشياء بلا وجوب الجبر منتف أيضا إما بالقول بأن اختيار الاختيار عين الاختيار فلا يلزم التسلسل على تقدير كون المرجح من العبد، وإما بأنه يلزم حينئذ توقف الموجود على ما ليس بموجود، ولا معدوم فالحالة المذكورة تتوقف على أمر لا موجود ولا معدوم كالإيقاع مثلا، ثم هو إما أن يجب بطريق التسلسل أو بأن إيقاع الإيقاع عين الأول. وإما أن لا يجب لكن الفاعل يرجح أحد المتساويين، وإن أراد بالفعل الإيقاع فيعين ما قلنا في الإيقاع هذا الذي ذكرنا هو إبطال دليل الجبر فالآن جئنا إلى إثبات ما هو الحق، وهو التوسط بين الجبر، والقدر أي ما هو حاصل بمجموع خلق الله تعالى، وفعل العبد فنقول: التفرقة ضرورية بين الأفعال الاختيارية، والاضطرارية، وليست التفرقة بمجرد كونها موافقة
................................................................................................
في ثبوت الإيقاع من الفاعل المختار تارة، وعدمه أخرى من غير مرجح، وأن الممتنع إنما هو وجود الممكن بلا موجد فيجب أن يكون هذا هو المراد بالقضية المتفق عليها بين العقلاء، وهو امتناع الرجحان بلا مرجح فالرجحان هو الموجود، ولا حالة للممكن قبل الوجود بها يكون أقرب إلى جانب الوجود؛ لأنه حينئذ يكون معدوما فلا يكون جانب الوجود راجحا، وإنما يترجح عند تحقق الوجود، وزوال العدم، وهذا جيد إلا أن تخصيص الرجحان بالوجود ليس كما ينبغي بل العدم أيضا كذلك فإنه يترجح بعدم علة الوجود فكما أن وجود الممكن بلا علة الوجود محال كذلك عدمه بلا علة العدم، وهو عدم علة الوجود محال.
قوله: "إذا عرفت" هذه المقدمات الأربع فنقول في الجواب عن الدليل المذكور على أن فعل العبد ليس باختياره: إن المراد بالفعل في قولكم أن توقف فعل العبد على مرجح يجب وجود الفعل عند وجود المرجح أما المعنى الحاصل بالمصدر كالحالة التي تكون للمتحرك في أي جزء يفرض من أجزاء المسافة وأما نفس المعنى الذي وضع المصدر بإزائه، وهو الإحداث، والإيقاع كإيقاع تلك الحركة فإن أريد الأول فالجبر أي عدم اختيار العبد في فعله منتف إما على تقدير عدم توقف وجود الممكن على وجوبه فظاهر إذ الجبر إنما كان يلزم من الوجوب، وعدم بقاء الاختيار، وهذا التقدير، وإن بين بطلانه في المقدمة الثانية إلا أن إثبات المطلوب أعني عدم الجبر على التقديرين أقرب إلى الاحتياط لئلا يتوهم ثبوت الجبر على شيء من التقديرين وإما على تقدير توقف وجود كل ممكن على وجوبه فلجواز أن يكون المرجح من الفاعل، وباختياره قولكم نقل الكلام إلى الاختيار أنه باختياره فيلزم التسلسل أولا باختياره فيلزم الاضطرار، قلنا: هو باختياره، ولا نسلم لزوم التسلسل لجواز أن يكون اختيار الاختيار أو نقول لا يجب عند وجود المرجح لجواز توقفه على أمر آخر ليس بموجود، ولا معدوم، ووجود المرجح التام أي وجود جملة ما يتوقف عليه لا ينافي التوقف على تحقق ما ليس بموجود، ولا معدوم كالإيقاع.(1/348)
لإرادتنا؛ لأن الإرادة إن كانت صفة بها يرجح الفاعل أحد المتساويين، ويخصص الأشياء بما هي عليه من الخصوصيات يلزم من وجود الإرادة لنا كون الترجيح، والتخصيص صادرين منا، وهو المطلوب، وإن لم يكونا صادرين منا لا تكون الإرادة إلا مجرد شوق فيجب أن لا يقع فرق بين الاختيارية، والاضطرارية التي تشتاق إليها كحركة نبضنا على نسق نشتهي أن تكون عليه لكنا نفرق بينهما، ونعلم أن الأولى بفعلنا لا الثانية.
................................................................................................
فإن قيل: تنقل الكلام إلى صدور الإيقاع عن الفاعل، قلنا: يجب بطريق التسلسل في الإيقاعات بناء على أنها ليست بموجودات حتى يستحيل التسلسل فيها أو بطريق عدم التسلسل بناء على أن إيقاع الإيقاع عين الإيقاع أو لا يجب أصلا، وهو الظاهر لما مر من أن إسناد الأمور اللاموجودة، واللامعدومة كالإيقاع مثلا ليس بطريق الإيجاب بل بطريق الصحة، والاختيار فإن الإيقاع، وعدمه متساويان بالنظر إلى اختيار الفاعل فهو يختار الإيقاع أي وقت شاء ترجيحا لأحد المتساويين باختياره، وإن أريد الثاني أي الفعل بمعنى الإيقاع فلا جبر أيضا؛ لأنه يصدر عن فاعله لا بطريق الوجوب إذ لا يلزم من ذلك الرجحان بلا مرجح بمعنى وجود الممكن بلا موجد إذ لا وجود للإيقاع، وإنما لم يشر المصنف رحمه الله تعالى هاهنا إلى بطلان طريق متسلسل، ورجحان طريق عدم الوجوب اعتمادا على ما سبق في المقدمة الثالثة.
قوله: "فالآن جئنا إلى إثبات ما هو الحق" قد، ورد في الحديث أن القدرية مجوس هذه الأمة، والمجوس قائلون بإلهين: أحدهما مبدأ الخير، والآخر مبدأ الشر، وهذا يلائم القول بكون خالق الشر، والقبيح غير الله تعالى، وأيضا قائلون: بأن الله تعالى يخلق شيئا، ثم يتبرأ عنه كخلق إبليس، وهذا يلائم القول بكون الله تعالى خالقا للشرور، والقبائح مع أنه لا يرضاها فبهذين الاعتبارين ينسب القدر كل من الطائفتين إلى الأخرى، والمحققون من أهل السنة على نفي الجبر والقدر، وإثبات أمر بين الأمرين، وهو أن المؤثر في فعل العبد مجموع خلق الله تعالى، واختيار العبد لا الأول فقط ليكون جبرا، ولا الثاني فقط ليكون قدرا والمصنف رحمه الله تعالى أورد على ذلك دليلين: الأول حاصله أنه ثبت بالوجدان أن للعبد قصدا، واختيارا في بعض الأفعال وأن ذلك القصد، والاختيار لا يكفي في وجود ذلك الفعل إذ قد لا يقع مع تحقق جميع أسبابه التي من العبد، وقد يقع من غير تحقق الأسباب التي من عنده فعلم أنه حاصل بخلق الله تعالى إياه عقيب إرادة العبد، وقصده الجازم بطريق جري العادة بأن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد، ولا يخلقه بدونه، وباقي الكلام تنبيه على تلك المقدمات، وتوضيح لها، ولقائل أن يقول: خوارق العادات، وعدم وقوع المرادات مع توفر الدواعي، وسلامة الآلات لا ينافي كون العبد هو الموجد لفعله الاختياري لجواز أن يكون المؤثر قدرته، واختياره لكن بشرط أن لا يريد الله تعالى عدم وقوع الفعل حتى لو أراد العبد شيئا، وأراد الله تعالى خلافه يقع مراد الله تعالى ألبتة لا مراد العبد لانتفاء شرط تأثيره فلا يلزم من ذلك أن يكون فعله بخلق الله تعالى على ما هو المدعى.
قوله: "وإن لم يكونا صادرين منا لا تكون الإرادة إلا مجرد شوق" هذا الكلام غير صالح(1/349)
وأيضا نفرق في الاختياريات بين ما نقدر على تركه، وبين ما لا نقدر على تركه كانحدار إلى صبب بالعدو الشديد الذي لا نقدر على الإمساك عنه، وكذا نفرق في الترك بين ما نقدر على الفعل، وبين ما لا نقدر أيضا قد نفعل بداعية، وقد نفعل بلا داعية فعلم أن العلم الوجداني قاض بأنا نفعل من غير اضطرار، ولا وجوب، ونرجح أحد المتساويين أو المرجوح، وهذا الترجيح هو الاختيار، والقصد ثم مع ذلك نشاهد خوارق العادات في صدور الأفعال كالحركات القوية من القوى الضعيفة كقطع مسافة بعيدة في طرفة عين، وأمثاله، وكذا في عدم صدورها كما تواتر في أخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصديقين أن الكفار قصدوهم بأنواع الأذى فلم يقدروا على ذلك مع سلامة الآلات، وتوافر الدواعي، والإرادات مع قدرتهم في ذلك الزمان على أمور أشق من ذلك فعلم أن المؤثر في وجود الحركة أي الحالة المذكورة ليس قدرة العبد، وإرادته إذ لو كان لم يخالف إرادته، ولو كان مؤثرا طبعا فيما جرى عليه العادة لم يوجد خوارق العادات، وأيضا لا تمكن الحركات إلا بتمديد الأعصاب، وإرخائها، ولا شعور لنا بشيء من ذلك، ولا ندري أي عصبة يجب تمديدها لتحصيل الحركة المخصوصة، وكذا لا شعور لنا بكيفية خروج الحروف عن مخارجها فعلم من وجدان ما يدل على الاختيار، ووجدان اختيار العبد ليس مؤثرا في وجود الحالة المذكورة أنه جرى عادته تعالى أنا متى قصدنا الحركة الاختيارية قصدا جازما من غير اضطرار إلى القصد يخلق
................................................................................................
للإلزام فإن المحققين على أن الإرادة في الحيوان شوق إلى حصول المراد، وداع يدعو إلى تحصيله لما يعقل أو يتخيل من ملائمته، وما ذكره من أنه يجب أن لا يقع فرق بين الاختيارية، والاضطرارية التي يشتاق إليها ليس بلازم؛ لأن المراد الاختياري ما يكون مع صحة تعلق الإرادة به يصح تعلق القدرة به، وستعرف أن الفعل قد يكون متعلق الإرادة دون القدرة، وبالعكس.
قوله: "نفرق في الاختياريات بين ما نقدر على تركه، وما لا نقدر" فإن قيل: كيف يستقيم هذا، والاختياري ما يتمكن فيه من الفعل، والترك قلنا نعم، ولكن قد ينضم إليه ما يمنع التمكن من الترك كمثل الأثقال إلى المركز بالطبع في صورة الانحدار إلى صبب، وهو ما انحدر من الأرض، وكذا نفرق في الترك بين ما نقدر على فعله كترك الحركة في الأرض المستوية، وبين ما لا نقدر على فعله كترك الحركة في البناء العالي، وأيضا قد نجد في الفعل الاختياري باعثا عليه، وداعيا إليه من أنفسنا كالمشي إلى محبوب بخلاف المشي إلى مكروه.
قوله: "كقطع مسافة بعيدة في طرفة عين" لا نزاع في جواز ذلك على الأنبياء، وقد تواتر عن الأولياء أيضا إلا أن بعض الفقهاء ينكرونه.
قوله: "ثم القصد" جواب سؤال تقديره: إن قصد العبد اضطراري لا اختياري؛ لأنه إنما يحصل بخلق الله تعالى من غير اختيار للعبد، وإلا لتسلسلت الاختيارات فأجاب بأن القصد مخلوق الله تعالى بمعنى استناده لا على سبيل الوجوب إلى المخلوقات الموجودة كالقدرة مثلا لكنه من الأمور اللاموجودة، واللامعدومة فلا يجب عند وجود ما يتوقف عليه إذ لو كان القصد الذي هو(1/350)
الله تعالى عقيبه الحالة المذكورة الاختيارية، وإن لم نقصد لم يخلق، ثم القصد مخلوق الله بمعنى أنه تعالى خلق قدرة يصرفها العبد إلى كل منهما على سبيل البدل، ثم صرفها إلى واحد معين بفعل العبد، وهو القصد، والاختيار فالقصد مخلوق الله بمعنى استناده لا على سبيل الوجوب إلى موجودات هي مخلوقة الله تعالى لا أن الله خلق هذا الصرف مقصورا؛ لأن هذا ينافي خلق القدرة فحصلت الحالة المذكورة بمجموع خلق الله، واختيار العبد؛ فلهذا قال.
"قلنا توقفه على مرجح لا يوجب كونه اضطراريا؛ لأن لاختياره تأثيرا في فعله أيضا". وإنما قال أيضا ليعلم أن الاختيار ليس بمؤثر تام بل هو جزء المؤثر ببرهان آخر قد ثبت أنه لا يوجد شيء إلا، وأن يجب وجوده بالغير فإن كان العبد موجبا لوجود بلا واسطة أمر فلا صنع له فيه كما لا صنع له في وجوده، وفي ذاته، وإن كان يتوسط وجود أمر فذلك الأمر يجب بالموجودات المستندة إلى الواجب فيخرج من صنع العبد، وإن كان يتوسط عدم أمر لا يكون ذلك العدم العدم السابق على الوجود إذ لا صنع للعبد فيه فيكون العدم الذي بعد الوجود، وهذا العدم لا يمكن إلا بزوال العلة التامة لذلك الأمر أو لبقائه فالعلة التامة إن
................................................................................................
صرف القدرة إلى الفعل مخلوقا لله تعالى قصدا لكان الفاعل مضطرا إلى الفعل غير متمكن من الترك، وهذا ينافي خلق القدرة التي من شأنها التمكن من الفعل، والترك، ولقائل أن يقول لو كان الاستناد إلى مخلوقات الله تعالى لا على سبيل الوجوب كافيا في كون الفعل مخلوقا لله تعالى فلا نزاع لأحد في كون فعل العبد مخلوقا لله تعالى بهذا المعنى ضرورة استناده إلى العبد الذي هو مخلوق، وهذا لا ينافي كون العبد موجدا له، ومؤثرا فيه، والجواب أن الاستناد لا على سبيل الوجوب إنما يمكن في الأمور اللاموجودة، واللامعدومة كالقصد مثلا لا في الموجودة كالحالة الحاصلة من الإيقاع، والكلام فيها كما مر في المقدمة الثالثة.
قوله: "برهان آخر" هذا هو الدليل الثاني، وحاصله: أنا نعلم بالوجدان أن للعبد صنعا ما أي فعلا ما بالاختيار، وصنعه يجب أن يكون في أمر لا موجود، ولا معدوم لا في أمر موجود؛ لأن صنعه فيه إما أن يكون بلا واسطة أو بواسطة وجود شيء أو بواسطة عدم شيء، والأقسام بأسرها باطلة أما الأول فلأن وجود ذلك الشيء يجب عند تمام علته فلا يتصور صنع العبد فيه أي تأثيره الاختياري، وأما الثاني فلأن وجود ذلك الأمر الذي يكون الصنع بواسطته يجب بالموجودات المستندة إلى الواجب فيخرج من صنع العبد ضرورة كونه واجبا، وأما الثالث فلأن ذلك العدم إن كان عدما سابقا فهو قديم لا صنع له فيه، وإن كان عدما لاحقا توقف على زوال جزء من العلة التامة للوجود، وذلك الجزء إن كان موجودا كان واجبا بالاستناد إلى الواجب فيمتنع العبد إزالته، وإن كان لزوال العدم مدخل في زواله عاد المحذور؛ لأن زوال العدم وجود فيكون بواسطة وجود شيء هو واجب بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب فيخرج من صنع العبد فتعين أن صنع العبد لا يكون إلا في أمر لا موجود، ولا معدوم، وذلك الأمر لا يجب بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب، وإلا لخرج عن صنع العبد فلم يبق لصنع العبد أثر في فعل أمر ما، ويلزم منه بطلان ما ثبت بالوجدان.(1/351)
كانت موجودات محضة تكون واجبة بالاستناد إلى الواجب تعالى فلا يقدر العبد على إعدامها، وإن كان للعدم مدخل في تلك العلة التامة فزوال العدم هو الوجود فيكون يتوسط وجود أمر، وقد مر امتناعه، وقد ثبت بالوجدان أن للعبد صنعا ما فلا يكون إلا في أمر لا موجود، ولا معدوم، ولا يكون ذلك الأمر، واجبا بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب تعالى إذ حينئذ يخرج من صنع العبد، ثم ذلك الشيء الموجود لا يجب على تقدير ذلك الأمر لتوقفه على أمور لا صنع للعبد فيها أصلا كقدرة العبد ووجوده، وأمثالهما فالأمر الإضافي الذي هو الصادر من العبد، وهو الذي لا يجب عند وجود الأثر يسمى كسبا، وقد قال مشايخنا: إن ما يقع به المقدور مع صحة انفراد القادر به فهو خلق، وما يقع به المقدور لا مع صحة انفراد القادر به فهو كسب، ثم إن مقدورات الله قسمان: الأول ما يصح انفراد القادر به مع تحقق الانفراد كما في الموجودات التي لا صنع للعبد فيها، والثاني ما يصح انفراد القادر به لكن لا يكون منفردا بل يكون لقدرة العبد مدخل ما في ذلك الشيء كالأفعال الاختيارية للعبادة، وقد قيل: ما وقع لا في محل قدرته فهو خلق، وما وقع في محل قدرته
................................................................................................
ثم ذلك الأمر لا يجوز أن يكون هو الإيقاع، والإيجاد الذي يجب عنده الفعل ألبتة حتى يكون العبد موجدا لذلك الشيء الموجود خالقا له؛ لأن ذلك الشيء يتوقف على أمور لا أثر للعبد في وجودها كوجود العبد، وقدرته، وسلامة الآلة، ونحو ذلك فتعين أن ذلك الأمر اللاموجود، واللامعدوم الصادر عن العبد أمر لا يجب عنده وجود الأثر، وهو المسمى بالكسب، والفعل حاصل به، ويخلق الله تعالى، وكل منهما مقدوره إلا أنه في الخلق يصح انفراد القادر بالإيقاع المقدور، وفي الكسب لا يصح، وأيضا في الخلق يقع الفعل المقدور لا في محل القدرة في الكسب يقع المقدور في محل القدرة مثلا: حركة زيد وقعت بخلق الله تعالى في غير من قامت به القدرة، وهو زيد، ووقعت بكسب زيد في المحل الذي قامت به قدرة زيد، وهو نفس زيد، والحاصل أن أثر الخالق إيجاد الفعل في أمر خارج من ذاته، وأثر الكاسب صنعه في محل قائم به هذا، ولكن لقائل أن يقول: وجوب الفعل بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب لا ينافي كونه مقدورا للعبد، ومخلوقا له لجواز أن يكون استناده بواسطة قدرة العبد، وإرادته التي من شأنها الترجيح، والإيجاد وأيضا الوجوب بالقدرة، والداعي لا ينافي تعلق أصل القدرة بأصل الفعل الممكن، وكونه مخلوقا للقادر، والقائلون بأن فعل العبد بخلقه، وإرادته لا ينازعون في توقفه على أمور من الله تعالى كإيجاد العبد، وإقداره، وتمكينه، ونحو ذلك.
واعلم أن ملخص كلام بعض المحققين في هذه المسألة أنه لا شك أن بعض أحوال الحيوان لا شعور له بها كالنمو، وهضم الغذاء، وبعضها مشعور به لكن ليس بإرادته كمرضه، وصحته، ونومه، ويقظته، وبعضها مما له قصد إلى صدوره، وصحة الصدور غير القصد إذ ربما يصح صدور فعل لا يقصده، وربما يقصد ما لا يصح صدوره فصحة الصدور، واللاصدور هي المسمى بالقدرة، وهي لا تكفي في الصدور إلا بعد أن يرجع أحد الجانبين على الآخر، والترجيح إنما هو بالقصد الذي هو المسمى بالإرادة أو بالداعي، وعند القدرة، والداعي يجب الصدور عند فقد أحدهما يمتنع، والقول(1/352)
فهو كسب، هذا وإن كان تفسيرا آخر لكن في الحقيقة: المجموع تفسير واحد فالخلق أمر إضافي يجب أن يقع به المقدور لا في محل القدرة، ويصح انفراد القادر بإيقاع المقدور بذلك الأمر، والكسب أمر إضافي يقع به المقدور في محل القدرة ولا يصح انفراد القادر بإيقاع المقدور بذلك الأمر فالكسب لا يوجب وجود المقدور بل يوجب من حيث هو كسب اتصاف الفاعل بذلك المقدور.
ثم اختلاف الإضافات ككونه طاعة أو معصية حسنة أو قبيحة مبنية على الكسب لا على الخلق إذ خلق القبيح ليس بقبيح إذ خلقه لا ينافي المصلحة، والعاقبة الحميدة بل يشتمل على كثير منهما، وإنما الاتصاف به بإرادته، وقصده قبيح، وقد علم أن الكسب من حيث هو هو يوجب الاتصاف به فالقصد إليه قبيح؛ لأنه موصل إلى القبيح؛ لأنه يعلم أنه كلما قصده يخلقه الله تعالى، ولا جبر في القصد. فالحاصل أن مشايخنا رحمهم الله تعالى ينفون عن العبد قدرة الإيجاد، والتكوين فلا خالق، ولا مكون إلا الله لكن يقولون: إن للعبد قدرة ما على وجه لا يلزم منه وجود أمر حقيقي لم يكن بل إنما يختلف بقدرته النسب، والإضافات فقط كتعيين أحد المتساويين، وترجيحه هذا ما وقفت عليه من مسألة الجبر، والقدرة وبالله التوفيق.
ثم بعد ذلك رجعنا إلى ما نحن بصدده، وهو مسألة الحسن، والقبح فقوله: إن الاتفاقي، والاضطراري لا يوصفان بالحسن، والقبح غير مسلم؛ لأن كون الفعل اتفاقيا أو اضطراريا لا ينافي كونه حسنا لذاته أو لصفة من صفاته فيمكن أن يوجب ذات الفعل أو صفة من صفاته لحوق المدح أو الذم بكل من اتصف به سواء كان اتصافه به اختياريا أو
................................................................................................
بصدور الفعل عن القادر من غير ترجيح أحد الطرفين تمسكا بالأمثلة الجزئية باطل فإن الترجيح بالعلم غير العلم بالترجيح، وهو إنما يحتاج إلى وجود المرجح لا إلى العلم به، وكل فعل يصدر عن فاعله بسبب حصول قدرته، وإرادته فهو باختياره، وكل ما لا يكون كذلك فهو ليس باختياره، وسؤال السائل أنه بعد حصول القدرة، والإرادة هل يقدر على الترك كقول من يقول: إن الممكن بعد وجوده هل يمكن أن يكون معدوما حال وجوده ثم حصول قدرته، وإرادته لا بد أن ينتهي إلى أسباب لا تكون بقدرته، وإرادته دفعا للتسلسل، ولا شك أن عند الأسباب يجب الفعل، وعند فقدانها يمتنع فالذي ينظر إلى الأسباب الأولى، ويعلم أنها ليست بقدرة العبد، ولا بإرادته يحكم بالجبر، وهو غير صحيح مطلقا؛ لأن السبب القريب للفعل هو قدرة العبد، وإرادته، والذي ينظر إلى السبب القريب يحكم بالاختيار، وهو أيضا ليس بصحيح مطلقا؛ لأن الفعل لم يحصل، بأسباب كلها مقدورة، ومراده فالحق أن لا جبر، ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين.
قوله: "ثم اختلاف الإضافات" لما جعل الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى، ولا شك أن منها ما هو قبيح، والله تعالى منزه عن القبائح حاول التقصي عن ذلك بأن الحسن، والقبح، والطاعة، والمعصية اعتبارات راجعة إلى الكسب دون الخلق فيستند إلى العبد لا إلى الله تعالى، وذلك؛ لأن خلق المعصية ليس بمعصية، وخلق القبيح ليس بقبيح بل ربما يتضمن مصالح، وإنما القبيح كسب(1/353)
اضطراريا أو اتفاقيا ألا ترى أن الله تعالى يحمد على صفاته العليا مع أن اتصافه بها ليس باختياره على أن الأشعري يسلم القبح، والحسن عقلا بمعنى الكمال، والنقصان فلا شك أن كل كمال محمود، وكل نقصان مذموم، وأن أصحاب الكمالات محمودون بكمالاتهم، وأصحاب النقائص مذمومون بنقائصهم فإنكاره الحسن، والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما في غاية التناقض، وإن أنكرهما بمعنى أنه لا يوجد في الفعل شيء يثاب الفاعل أو يعاقب لأجله فنقول إنه عنى أنه لا يجب على الله تعالى الإثابة، والعقاب لأجله فنحن نساعده في هذا الفعل، وإن عني أنه لا يكون في معرض ذلك فهذا بعيد عن الحق، وذلك؛ لأن الثواب، والعقاب آجلا، وإن كان لا يستقل العقل بمعرفة كيفيتهما لكن كل من علم أن الله تعالى عالم بالكليات، والجزئيات فاعل بالاختيار قادر على كل شيء، وعلم أنه غريق في نعم الله في كل لمحة، ولحظة، ثم مع ذلك كله ينسب من الصفات، والأفعال ما يعتقد أنه في غاية القبح، والشناعة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا فلم ير بعقله أنه يستحق بذلك مذمة، ولم يتيقن أنه في معرض سخط عظيم، وعذاب أليم فقد سجل غوايته على غباوته، ولجاجته، وبرهن على سخافة عقله، واعوجاجه، واستخف بفكره، ورأيه حيث لم يعلم بالشر الذي في ورائه عصمنا الله من الغباوة، والغواية، وأهدانا هدايا الهداية. فلما أبطلنا دليل الأشعري رجعنا إلى إقامة الدليل على مذهبنا، وإلى الخلاف الذي بيننا، وبين المعتزلة
................................................................................................
المعصية، والقبيح فلا يقبح من الله تعالى خلقها، ويقبح من العبد كسبها.
قوله: "فقوله إن الاتفاقي، والاضطراري لا يوصفان بالحسن، والقبح غير مسلم" منع للمقدمة الثانية من دليل الخصم، وهو أن فعل العبد غير اختياري، ولا شيء من غير الاختياري بحسن أو قبيح، وأنت خبير بأنها مقدمة إجماعية مسلمة عند الخصم فلا وجه لمنعها، ولا حاجة إليها؛ لأن جميع المباحث السالفة إنما كان لتحقيق منع المقدمة الأولى، والتقصي عما أورد من الدليل عليها، وبيان أنه لا يمتنع أن يكون فعل العبد اختياريا، وأعجب من ذلك توضيحه سند المنع بصفات الله تعالى، وأنه يحمد عليها، وبكمالات الإنسان، ونقائصه حيث يحمد عليها، ويذم، وادعاؤه التناقض في كلام الأشعري حيث جعل كل كمال حسنا، وكل نقصان قبيحا مع أنه قرر في أول الفصل أن النزاع في الحسن، والقبيح بمعنى استحقاق المدح أو الذم في الدنيا، والثواب أو العقاب في الآخرة، ولا أدري كيف ذهب هذا على المصنف رحمه الله تعالى حتى ذكر في سند المنع ما ذكر، ثم أورد ما هو مذهب الأشعري على سبيل الترديد، والاحتمال بقوله، وإن عنى أنه لا يكون في معرض ذلك، وهو ما ذهب إليه الأشعري من أن الفعل ليس لذاته أو لصفة من صفاته بحيث يحكم العقل بأن فاعله يستحق في الدنيا المدح أو الذم، وفي الآخرة الثواب أو العقاب بل كل ما نص الشارع به أو بدليله على استحقاق المدح، والثواب فحسن أو الذم، والعقاب فقبيح، وليس للمخالف دليل يعتد به، ولا منع يعول عليه، وما ذكر المصنف رحمه الله تعالى من تلفيق العبارات، وتنميق الاستعارات وتعديل الأسجاع، وتكثير الإقراع فلعله عند الأشعري كصرير باب أو كطنين ذباب، والله أعلم بالصواب،.
قوله: "في ورائه" الصواب من ورائه(1/354)
"وعند بعض أصحابنا، والمعتزلة حسن بعض أفعال العباد، وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفة له، ويعرفان عقلا أيضا" أي يكون ذات الفعل بحيث يحمد فاعله عاجلا، ويثاب آجلا أو يذم فاعله عاجلا، ويعاقب آجلا أو يكون للفعل صفة يحمد فاعل الفعل، ويثاب لأجلها أو يذم، ويعاقب لأجلها، وإنما قال أيضا؛ لأنه لا خلاف في أنهما يعرفان شرعا "لأن وجوب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم إن توقف على الشرع يلزم الدور"، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ادعى النبوة، وأظهر المعجزة، وعلم السامع أنه نبي فأخبر بأمور مثل أن الصلاة واجبة عليكم، وأمثال ذلك فإن لم يجب على السامع تصديق شيء من ذلك تبطل فائدة النبوة، وإن وجب فلا يخلو من أن يكون وجوب تصديق بعض إخباراته عقليا أو لا يكون بل يكون وجوب تصديق كل إخباراته شرعيا، والثاني باطل؛ لأنه لو كان وجوب تصديق الكل شرعيا لكان وجوبه بقول النبي عليه السلام فأول الإخبارات الواجبة التصديق لا بد أن يجب تصديقه بقوله عليه السلام إن تصديق الإخبار الأول واجب فنتكلم في هذا القول فإن لم يجب تصديقه لا يجب تصديق الأول، وإن وجب فإما أن يجب بالإخبار الأول فيلزم الدور أو بقول آخر فنتكلم فيه فيلزم التسلسل، وإذا ثبت ذلك تعين الأول، وهو كون وجوب تصديق شيء من إخباراته عقليا فقوله. "وإلا" أي، وإن لم يتوقف على الشرع "كان واجبا عقلا فيكون حسنا عقلا"؛ لأن الواجب العقلي ما يحمد على فعله، ويذم على تركه عقلا، والحسن العقلي ما يحمد على فعله عقلا فالواجب العقلي أخص من الحسن العقلي "وكذلك" نقول في امتثال أوامره إنه إما واجب عقلا إلخ هذا الدليل لإثبات العقلي صريحا، وقوله
................................................................................................
قوله: "وعند بعض أصحابنا" تمسك على كون حسن بعض الأفعال، وقبحه عقليين بوجهين حاصل الأول أن تصديق أو إخبارات من ثبتت نبوته واجب عقلا، وكل واجب عقلا فهو حسن عقلا أما الصغرى فلأنه لو كان شرعا لتوقف على نص آخر يوجب تصديقه فالنص الثاني إن كان وجوب تصديقه بنفسه لزم توقف الشيء على نفسه، وإن كان بالنص الأول لزم الدور، وإن كان بنص ثالث لزم التسلسل، وأما الكبرى فلأن الواجب عقلا أخص من الحسن عقلا على ما سبق، ويلزم من ذلك أن يكون ترك التصديق حراما عقلا فيكون قبيحا عقلا، وحاصل الثاني أن وجوب تصديق النبي موقوف على حرمة كذبه إذ لو جاز كذبه لما وجب تصديقه، وحرمة كذبه عقلية إذ لو كانت شرعية لتوقف على نص آخر، وهو أيضا مبني على حرمة كذبه فأما أن يثبت بذلك النص فيتوقف على نفسه أو بالأول فيدور أو بثالث فيتسلسل، والحرمة العقلية تستلزم القبح العقلي، ويلزم من ذلك أن يكون صدقه واجبا عقلا. والجواب أن وجوب التصديق، وحرمة الكذب بمعنى جزم العقل بأن صدقه ثابت قطعا، وكذبه ممتنع لما قامت عليه من الأدلة القطعية مما لا نزاع في كونه عقليا كالتصديق بوجود الصانع بمعنى استحقاق الثواب أو العقاب في الآجل فيجوز أن يكون ثابتا بنص الشارع على دليله، وهو دعوى النبوة، وإظهار المعجزة فإنه بمنزلة نص على أنه يجب تصديق كل ما أخبر به، ويحرم كذبه أو بحكم الله تعالى القديم بوجوب طاعة الرسول عليه السلام غاية ما في الباب أن ظهوره يتوقف على تكلم النبي عليه الصلاة والسلام بعد ما ثبت صدقه بالدليل القطعي.(1/355)
"وأيضا وجوب تصديق النبي عليه السلام موقوف على حرمة الكذب فهي إن ثبتت شرعا يلزم الدور وإن ثبتت عقلا يلزم قبحها عقلا" هذا يدل على القبح العقلي صريحا، وكل منهما يدل على الآخر التزاما؛ لأنه إذا كان الشيء واجبا عقلا يكون تركه قبيحا عقلا، وإن كان الشيء حراما عقلا فتركه يكون واجبا فيكون حسنا عقلا "ثم عند المعتزلة: العقل حاكم بالحسن، والقبح موجب للعلم بهما وعندنا: الحاكم بهما هو الله تعالى، والعقل آلة للعلم بهما فيخلق الله العلم عقيب نظر العقل نظرا صحيحا" لما أثبتنا الحسن، والقبح العقليين، وفي هذا القدر لا خلاف بيننا، وبين المعتزلة أردنا أن نذكر بعد ذلك الخلاف بيننا، وبينهم، وذلك في أمرين: أحدهما أن العقل عندهم حاكم مطلق بالحسن، والقبح على الله تعالى، وعلى العباد أما على الله فلأن الأصلح للعباد واجب على الله بالعقل فيكون تركه حراما على الله والحكم بالوجوب، والحرمة يكون حكما بالحسن، والقبح ضرورة، وأما على العباد فلأن العقل عندهم يوجب الأفعال عليهم، ويبيحها، ويحرمها من غير أن يحكم الله فيها بشيء من ذلك، وعندنا الحاكم بالحسن، والقبح هو الله، وهو متعال عن أن يحكم عليه غيره، وعن أن يجب عليه شيء، وهو خالق أفعال العباد على ما مر جاعل بعضها حسنا، وبعضها قبيحا، وله في كل قضية كلية أو جزئية حكم معين، وقضاء مبين، وإحاطة بظواهرها، وبواطنها، وقد وضع فيها ما وضع من خير أو شر، ومن نفع أو ضر، ومن حسن أو قبح، وثانيهما أن العقل عندهم موجب للعلم بالحسن، والقبيح بطريق التوليد بأن يولد العقل العلم بالنتيجة عقيب النظر الصحيح، وعندنا
................................................................................................
قوله: "وكذلك" امتثال أوامر النبي عليه السلام إن وجب عقلا فهو المطلوب، وإن وجب شرعا توقف على أمر الشارع، ووجوب امتثال الأمر بالامتثال إن كان بالأمر الأول دار، وإلا تسلسل، والجواب أن الوجوب بمعنى اللزوم العقلي ثابت بالأدلة القطعية، وبمعنى استحقاق الثواب على الفعل، والعقاب على الترك ثابت بنص الشارع على دليله كما مر، وبقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] بعد ما علم وجوب الامتثال بمعنى اللزوم العقلي الذي هو غير المتنازع فيه كما علم لزوم تصديق ما قامت عليه الحجة القطعية من المسألة الهندسية، ثم استحقاق الثواب، والعقاب أمر آخر يثبت بحكم الشارع في الشرعيات، ولا يثبت في الهندسيات.
قوله: "فلأن الأصلح واجب" لا خفاء في أنه لا معنى للوجوب عليه بمعنى الثواب على الفعل، والعقاب على الترك فلا يتصور الحسن، والقبح بالمعنى المتنازع فيه فإن قلت: فما معنى الخلاف في أنه هل يجب على الله تعالى شيء أم لا؟. قلت: معناه أنه هل يكون بعض الأفعال الممكنة في نفسها بحيث يحكم العقل بامتناع صدوره أو لا صدوره عن الله تعالى كرعاية ما هو أصلح لعباده، وكقبول الشفاعة، وإخراج الفاسق عن النار، ونحو ذلك.
قوله: "وعندنا الحاكم بالحسن، والقبح هو الله تعالى" لا يقال: هذا مذهب الأشاعرة بعينه؛ لأنا نقول الفرق هو أن الحسن، والقبح عند الأشاعرة، لا يعرفان إلا بعد كتاب، ونبي، وعلى هذا المذهب قد يعرفهما العقل بخلق الله تعالى علما ضروريا فبهما إما بلا كسب كحسن تصديق النبي عليه(1/356)
العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك إذ كثير مما يحكم الله بحسنه أو قبحه لم يطلع العقل على شيء منه بل معرفته موقوفة على تبليغ الرسل لكن البعض منه قد أوقف الله العقل عليه على أنه غير مولد للعلم بل أجرى عادته أنه خلق بعضه من غير كسب، وبعضه بعد الكسب أي ترتيب العقل المقدمات المعلومة ترتيبا صحيحا على ما مر أنه ليس لنا قدرة إيجاد الموجودات، وترتيب الموجودات ليس بإيجاد
"والمأمور به في صفة الحسن نوعان حسن لمعنى في نفسه، وحسن لمعنى في غيره" لما ثبت أن الحسن والقبح يعرفان عقلا علم أنهما ليسا بمجرد الأمر والنهي بل إنما يحسن الفعل أو يقبح إما لعينه أو لشيء آخر، ثم ذلك الشيء حسن لعينه أو قبيح لعينه قطعا للتسلسل، وهو إما أن يكون جزء ذلك الفعل أو خارجا
................................................................................................
الصلاة والسلام، وقبح الكذب الضار، وإما مع كسب كالحسن، والقبح المستفادين من النظر في الأدلة، وترتيب المقدمات، وقد لا يعرفان إلا بالنبي، والكتاب كأكثر أحكام الشرع.
قوله: "بطريق التوليد" هو أن يحصل الفعل عن فاعله بتوسط فعل آخر كحركة المفتاح، والمباشرة أن يكون ذلك بدون توسط فعل آخر كحركة اليد، ولا توليد عند أهل السنة لاستناد الأفعال كلها إلى الله تعالى بلا واسطة بمعنى خالقها، وموجدها فحصول العلم عقيب النظر الصحيح عندهم يكون بخلق الله تعالى عادة بمعنى أنه لا يمتنع أن لا يحصل، والعادة هو تكرر الفعل أو وقوعه دائميا أو أكثريا، وعند الحكماء بطريق الوجوب بمعنى أن النظر الصحيح بعد الذهن لفيضان النتيجة عليه فيجب حصولها ضرورة تمام القابل، والفاعل، وعند المعتزلة بطريق التوليد بمعنى أن العقل يولد العلم ويوجبه بواسطة ترتيب المقدمات على ما تقرر عندهم من استناد بعض الحوادث إلى غير الباري تعالى، وقد يقال: إن النظر الصحيح هو الذي يولد النتيجة، وما ذكره المصنف أقرب، وأنسب بتفسيرهم التوليد بإيجاد الفاعل فعلا بتوسط فعل آخر.
قوله: "ثم ذلك الشيء" لفظه ثم أشار أن الشيء الذي لأجله يحسن الفعل أو يقبح يجب أن يكون بالآخرة حسنا لعينه أو قبيحا لعينه إذ لو توقف حسن كل شيء على حسن شيء آخر لزم التسلسل بمعنى وجود أشياء غير متناهية نظرا إلى غير الأشياء، وبمعنى ترتيب أمور غير متناهية نظرا إلى وصف الحسن.
قوله: "ويجب أن يعلم" المركب المشتمل على حسن أو قبح إما أن يكون حسنا بجميع أجزائه أو ببعضها مع قبح البعض الآخر أو بدونه، وإما أن يكون قبيحا بجميع أجزائه أو ببعضها مع حسن البعض الآخر أو بدونه فالمصنف رحمه الله تعالى خص الحسن باعتبار جزئه بالقسم الأول أعني ما يكون حسنا بجميع أجزائه ثم فسره بما يشمل القسم الثالث أيضا أعني ما يكون بعض أجزائه حسنا وبعضها لا حسنا ولا قبيحا فصار الحاصل أن الحسن باعتبار جزئه ما لا يكون شيء من أجزائه قبيحا لعينه ولم يتعرض لجانب القبح، والظاهر أن يكون بعض أجزائه حسنا وبعضها قبيحا يجعل من قسم القبيح تغلبا لجانب القبح والحرمة، ولا يخفى أنه إذا كان الشيء حسنا بجميع أجزائه كان حسنا لعينه، وجعله حسنا باعتبار الجزء إنما هو مجرد اصطلاح.
قوله: "وكذا القبيح" ينقسم خمسة أقسام لأنه إما أن يكون قبيحا لذاته أو لا، والثاني إما أن(1/357)
عنه، والجزء إما صادق على الكل كالعبادة تصدق على الصلاة، والصلاة عبادة مع خصوصية، فالعادة جزؤها أو لم تصدق كالأجزاء الخارجية كالسجود لا يصدق على الصلاة، والحسن لمعنى في نفسه يعم الحسن لعينه والحسن لجزئه، ويجب أن يعلم أن الحسن باعتبار الجزء إنما يكون حسنا إذا كان جميع أجزائه حسنا بمعنى أنه لا يكون جزء واحد منه قبيحا لعينه، إذ لو كان لا يكون المجموع حسنا، ثم الخارج إما أن يكون صادقا على ذلك الفعل نحو: الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى فالجهاد حسن لكونه إعلاء، والإعلاء خارج عن مفهوم الجهاد، وإما أن لا يكون صادقا كالوضوء حسن للصلاة، والصلاة لا تصدق على الوضوء فثبت أن الحسن ينقسم إلى هذه الأقسام، وكذا القبيح لكن أمثلة هذا ستأتي في فصل النهي إن شاء الله تعالى، وإنما أطلق الحسن لمعنى في نفسه على الحسن لعينه إما اصطلاحا ولا مشاحة في الاصطلاحات أو؛ لأن الحسن لعينه هو الفعل المطلق كالعبادة مثلا، وهو لا يوجد في ضمن جزئياته إلا الموجودة، وبحثنا في تلك الجزئيات المعلوم وجودها حسا، وهي لا تكون إلا حسنة لمعنى في نفسها أو حسنة لغيرها.
والفرق بين الجزء الصادق وبين الخارج الصادق أن ما يكون مفهوم الفعل متوقفا عليه فهو الجزء، وما ليس كذلك فهو الخارج كالصلاة مثلا، فإن مفهومها الشرعي إنما هو عبادة
................................................................................................
يكون قبيحا لجزئه أو لأمر خارج عنه وكل من الجزء والخارج إما محمول أو غير محمول، وما سبق من أن الحسن أو القبح يكون لذاته أو لصفة من صفاته، وإنما هو في بعض الأفعال فلا ينافي ثبوته في بعض الأفعال باعتبار أمر خارج غير محمول كالصلاة للوضوء.
قوله: "وإنما أطلق" لما ذكر أن الحسن بمعنى في نفسه يعم الحسن لعينه والحسن لجزئه ورد عليه أن هذا إنما يصح في الحسن لجزئه ضرورة، أي: جزء الشيء معنى كائن فيه، ولا يصح في الحسن لعينه إذا ليس ذات الشيء معنى فيه، فأجاب أولا بأنه مجرد اصطلاح، وكأنه تغلب باعتبار أن عامة الأشياء يكون حسنها باعتبار الأجزاء، وثانيا بأن الكلام في الأفعال الموجودة الصادرة عن فاعلها، وهي لا محالة تكون جزئيات مشخصة مركبة من التشخص، ومن المعنى الكلي الحسن لذاته كالعبادة مثلا، فبالنظر إلى هذا المركب الاعتباري يكون الحسن راجعا إلى جزئه الذي هو المعنى الكلي، والمذكور في كتب القوم أن المراد بالحسن لمعنى في نفسه أنه يتصف بالحسن باعتبار حسن ثبت في ذاته سواء كان لعينه أو لجزئه بخلاف الحسن لغيره فإنه يتصف بحسن ثبت في غيره، وهذا قريب مما يقال إن الدار حسنة في نفسها أي مع قطع النظر عن الأمور الخارجة عنها.
قوله: "والفرق بين الجزء" قد استدل نفاة الحسن والقبح العقليين بأنه لو حسن الفعل أو قبح لذاته لما اختلف بأن يكون الفعل حسنا تارة وقبيحا أخرى لأن ما بالذات يدوم بدوام الذات واللازم باطل لأن شكر المنعم حسن بخلاف غيره والكذب قبيح ثم يحسن إذا كان فيه عصمة نبي من ظالم، فأشار إلى جوابه بأن الحسن أو القبيح لذاته فيما يختلف باختلاف الإضافات هو المجموع المركب(1/358)
مخصوصة بالخصوصيات المعلومة فمفهومها متوقف على العبادة، وأما الجهاد فمفهومه القتل، والضرب، والنهب مع الكفار، وليس إعلاء كلمة الله تعالى داخلا في هذا المفهوم بل يلزم ذلك في الخارج فيكون لازما لا جزءا، وهذا هو الفرق المشهور بين الذاتي والعرضي، إذا عرفت هذا علمت بطلان قول من أنكر كون الفعل حسنا أو قبيحا لذاته بأن قال: قد يختلف حسن الفعل وقبحه باعتبار الإضافة فلا يكون حسنا لذاته أو قبيحا لذاته؛ لأن الاختلاف بالإضافة لا يدل على ما ذكر؛ لأن الإضافة داخلة في ذات ذلك الفعل؛ لأن الفعل من الأعراض النسبية، والأعراض النسبية تتقوم بالنسب، والإضافات، فالإضافات المختلفة فصول مقومة لها فقولنا شكر المنعم حسن لذاته معناه أن الشكر المضاف إلى المنعم حسن لا أن ذات الشكر من غير إضافة حسن. "أما الأول فإما أن لا يقبل سقوط التكليف كالتصديق، وإما أن يقبل كالإقرار باللسان يسقط حال الإكراه، والتصديق هو الأصل، والإقرار ملحق به؛ لأنه دال عليه، فإن الإنسان مركب من الروح والجسد فلا تتم صفة إلا بأن تظهر من الباطن إلى الظاهر بالكلام الذي هو أدل على الباطن ولا كذلك سائر الأفعال" إنما قال هذا للفرق بين الإقرار وعمل الأركان، فإن الإقرار نجعله داخلا في الإيمان، ولا نجعل عمل الأركان داخلا فيه، واعلم أن المنقول من علمائنا رحمهم الله تعالى في هذه المسألة قولان: أحدهما أن الإيمان هو التصديق وإنما الإقرار لإجراء الأحكام الدنيوية عليه، والثاني أن الإيمان هو التصديق والإقرار معا.
................................................................................................
من الفعل والإضافة فالفعل جنس، والإضافات فصول مقومة لأنواعه، والحسن أو القبيح لذاته هو الأنواع لا الجنس نفسه.
قوله: "أما الأول" أي المأمور به الحسن لمعنى في نفسه ثلاثة أضرب: لأنه إما أن يكون شبيها بالحسن لمعنى في غيره أو لا، والثاني إما أن يقبل سقوط التكليف به أو لا، وإنما جعل الشبيه بالحسن بمعنى في غيره مقابلا لهذين القسمين نظرا إلى أنه لا ينقسم إلى ما يحتمل السقوط وما لا يحتمله بل كله يحتمل السقوط، وقد يقال لأن المراد به ما يكون حسنه لكونه إتيانا للمأمور به لا لذاته ولا لجزئه، بخلاف الأولين وليس بمستقيم لأن الإتيان بالمأمور به حسن لذاته، وبهذا الاعتبار يصح جعله من أقسام الحسن بمعنى في نفسه، ثم عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أنه إما أن يقبل سقوط هذا الوصف أو لا، والظاهر أن هذا الوصف إشارة إلى كونه حسنا لمعنى في نفسه، واعترض عليه بأن الساقط في حال الإكراه هو وجوب الإقرار لا حسنه حتى لو صبر عليه حتى قتل كان مأجورا، فلذا غيره المصنف رحمه الله تعالى إلى سقوط التكليف وهو موافق لما قيل: إن هذا الوصف إشارة إلى كونه مأمورا به بمعنى أمر الوجوب لا يقال حسنه كان بالأمر فيسقط بسقوطه لا محالة وهو لا ينافي كونه حسنا باعتبار أمر الندب لأنا نقول هذا مذهب الأشعري، وسيصرح المصنف رحمه الله تعالى بنفيه، وعندنا ليس الحسن بالأمر بل إنما يتعلق الأمر بالفعل لكونه حسنا لذاته أو لجزئه أو لغيره.
قوله: "واعلم أن المنقول" يعني ذهب بعضهم إلى أن الإقرار باللسان ليس جزءا من الإيمان(1/359)
"فمن صدق بقلبه وترك الإقرار من غير عذر لم يكن مؤمنا" اعتبار الجهة ركنية الإقرار في حال الاختيار. "وإن صدق ولم يصادف وقتا يقر فيه يكون مؤمنا" اعتبار الجهة التبعية في حال الاضطرار. "وكالصلاة تسقط بالعذر" وهو عطف على قوله: كالإقرار "وإما
................................................................................................
ولا شرط له بل هو شرط لإجراء أحكام الدنيا حتى إن من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من ذلك كان مؤمنا عند الله تعالى غير مؤمن في أحكام الدنيا، كما أن المنافق لما وجد منه الإقرار دون التصديق كان مؤمنا في أحكام الدنيا كافرا عند الله تعالى، وتمسكوا على ذلك بأن حقيقة الإيمان هو التصديق وأنه عمل القلب، وبأن من أحدث الإيمان يوصف به على التحقيق وإن انقضى الإقرار، وذهب بعضهم إلى أن الإقرار جزء من الإيمان تمسكا بظواهر النصوص الدالة على كون كلمة الشهادة من الإيمان، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها، ويكتفي، ويجعلها أهم من الأعمال، إلا أن الإقرار جزء له شائبة العرضية والتبعية، ففي حال الاختيار تعتبر جهة الجزئية حتى لا يكون تارك الإقرار مع تمكنه منه مؤمنا عند الله تعالى، وفي حال الاضطرار تعتبر جهة العرضية والتبعية حتى يحكم بإيمان من صدق ولم يتمكن من الإقرار، وأما أن ركن الشيء كيف يسقط ولا يسقط ذلك الشيء فيجيء جوابه، ولقد طال النزاع بين المصنف رحمه الله تعالى وبين بعض معاصريه في تفسير التصديق المعتبر في الإيمان وأنه تصديق الذي قسم العلم إليه وإلى التصور في أوائل المنطق أو غيره، ويجب أن يعلم أن معناه هو الذي يقال له بالفارسية كرويدن وهو المراد بالتصديق في المنطق على ما صرح به ابن سينا، وحاصله إذعان وقبول لوقوع النسبة أو لا وقوعها وتسميته تسليما زيادة توضيح للمقصود وجعله مغايرا للتصديق المنطقي وهم وحصوله للكفار ممنوع، ولو سلم في البعض يكون كفره باعتبار جحوده باللسان واستكباره عن الإذعان وعدم رضاه بالإيمان، وكثير من المصدقين المقرين يكفر بما يصدر عنه من أمارات الإنكار وعلامات الاستكبار.
فإن قيل فعلى هذا يكون التصديق من الكيفيات دون الأفعال الاختيارية فكيف يصح الأمر بالإيمان.؟ قلنا باعتبار اشتماله على الإقرار وعلى صرف القوة وترتيب المقدمات ورفع الموانع واستعمال الفكر في تحصيل تلك الكيفيات ونحو ذلك من الأفعال الاختيارية كما يصح الأمر بالعلم والتيقن ونحو ذلك، وذكر المصنف رحمه الله تعالى أن التصديق أمر اختياري هو نسبة الصدق إلى المخبر اختيارا حتى لو وقع في القلب صدق المخبر ضرورة من غير أن ينسبه إليه اختيارا لم يكن ذلك تصديقا، ونحن إذا قطعنا النظر عن فعل اللسان لا نفهم من نسبة الصدق إلى المتكلم إلا قول حكمه الإذعان له، وبالجملة المعنى الذي يعبر عنه في الفارسية بكرويدن تصديق من غير أن يكون للقلب اختيار في نفس ذلك المعنى، فإن قيل لم جعل الإقرار الذي هو عمل اللسان داخلا في الإيمان بخلاف أعمال سائر الأركان فجوابه أن الإيمان وصف للإنسان المركب من الروح والجسد، والتصديق عمل الروح فجعل عمل شيء من الجسد أيضا داخلا فيه تحقيقا لكمال اتصال الإنسان بالإيمان وتعين فعل اللسان لأنه المتعين للبيان، وإظهار ما في الباطن بحسب الوضع، ولهذا جعل الحمد الذي هو فعل اللسان رأس الشكر، وفي التمثيل بالإيمان إشارة إلى أن المأمور به الحسن أعم من أن يتوقف إدراك الفعل حسنه على ورود الأمر به أو لم يتوقف، فإن حسن الإيمان ثابت قبل الأمر به مدرك بالعقل نفسه.(1/360)
أن يكون شبيها للحسن لمعنى في غيره كالزكاة والصوم والحج يشبه أن يكون حسنها بالغير، وهو دفع حاجة الفقير وقهر النفس وزيارة البيت، لكن الفقير والبيت لا يستحقان هذه العبادة، والنفس مجبولة على المعصية فلا يحسن قهرها فارتفع الوسائط فصارت تعبدا محضا لله تعالى" يرد عليه أنكم إن أردتم بالحسن لمعنى في نفسه أن يكون الحسن لذات الفعل أو لجزئه لا تكون الزكاة وأمثالها من هذا القسم إذا بينتم أن جهة حسنها لمعنى في نفسها كونها تعبدا محضا لله تعالى فيكون عينها حسنا لكونها مأمورا بها لا لذاتها ولا لجزئها، وإن
................................................................................................
قوله: "كالزكاة" يريد أن أعلى درجات الحسن في التصديق الذي لا يسقط بحال، ثم في الإقرار الذي هو ركن من الإيمان لكنه يحتمل السقوط، ثم في الصلاة التي تحتمل السقوط وليست بركن لكنها حسنة لعينها بحيث لا تشبه الحسن لغيره، ثم الزكاة والصوم والحج، فإنها مع احتمال سقوطها وعدم ركنيتها تشبه الحسن لغيره، فالصلاة حسنة لعينها لكونها تعظيما للباري وشكرا للمنعم وعبادة لمن يستحقها لا يقال حسنها بواسطة استحقاق المعبود الذي لا تحسن لغيره لأنا نقول هذا لا ينافي الحسن لعينها بل يؤكده ألا ترى أن الإيمان بالله تعالى حسن لعينه بخلاف غيره، والكفر بالله تعالى قبيح لعينه وبالجبت والطاغوت حسن لعينه فالمتصف بالحسن هو الأفعال المضافة التي ورد الأمر بها إلا أن منها ما يحسن بالنظر إلى نفس الفعل المضاف كالإيمان والصلاة المأمور بهما، ومنها ما يحسن لغيره بأن يكون المقصود الأصلي بالأمر هو ذلك الغير لا نفس الفعل المضاف كالوضوء والجهاد، وأما الزكاة والصوم والحج فكل منها حسن لمعنى في نفسه لكنه يشبه الحسن بالغير، وتحقيق ذلك أنه حسن بالغير إلا أنه الاعتبار بحسن ذلك الغير حتى إنه في حكم العدم، فصار كل منها كأنه حسن لا بواسطة أمر فجعل بهذا الاعتبار من قبيل الحسن لمعنى في نفسه فهاهنا مقامان: أحدهما أن هذه الأفعال ليست حسنة بالنظر إلى نفسها بل بواسطة أمور يعرف العقل أنها المطلوبة بالأمر والمتصفة بالحسن، وثانيهما أنه لا عبرة بهذه الوسائط، وأنها في حكم العدم حتى كان المقصود بالأمر هو نفس الأفعال التي ورد الأمر بها.
أما الأول فلأن الزكاة في نفسها تنقيص للمال إنما تحسن بواسطة حسن دفع حاجة الفقير، والصوم في نفسه إضرار بالنفس ومنع لها عما أباح لها مالكها من النعم، وإنما يحسن بواسطة حسن قهر النفس الأمارة بالسوء التي هي أعدى أعداء الإنسان زجرا لها عن ارتكاب المنهيات واتباع الشهوات، والحج في نفسه قطع للمسافة إلى أمكنة مخصوصة وزيارة لها بمنزلة السفر للتجارة وزيارة البلدان والأماكن، وإنما يحسن بواسطة زيارة البيت الشريف المكرم بتكريم الله تعالى إياه وإضافته إليه ففيه تعظيم له.
وأما الثاني فلأن الفقير والبيت وإن كان يستحقان الإحسان والزيارة نظرا إلى الفقر والشرف لكنهما لا يستحقان هذه العبادة أعني الزكاة والحج إذ العبادة حق الله تعالى خاصة، والأحسن أن يقال: الفقير إنما يستحق الإحسان من جهة مولاه، وهو الله تعالى لا من جهة العباد، والبيت لا يستحق الزيارة والتعظيم لنفسه لأنه بيت كسائر البيوت، والنفس وإن كانت بحسب الفطرة محلا للخير والشر إلا أنها للمعاصي أقبل وإلى الشهوات أميل حتى كأنها بمنزلة أمر جبلي لها فكأنها(1/361)
أردتم بالحسن لمعنى في نفسه كون الفعل مأمورا به فهذا عين مذهب الأشعري ولا يستقيم تقسيم الحسن إلى الحسن لمعنى في نفسه، والحسن لمعنى في غيره؛ لأن كل المأمورات حسنة لمعنى في نفسها بهذا المعنى، والجواب عنه وجهان: الأول أنه قد علم مما تقدم أن حسن الفعل عند الأشعري لكونه مأمورا به، وعندنا لا بل إنما أمر به؛ لأنه كان حسنا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] يقتضي كونه عدلا وإحسانا قبل الأمر لكنه خفي عن العقل فأظهره الله تعالى بالأمر.
................................................................................................
مجبولة على المعاصي بمنزلة النار على الإحراق، فبالنظر إلى هذا المعنى لا يحسن قهرها فسقط حسن دفع الحاجة وزيارة البيت وقهر النفس عن درجة الاعتبار، وصار كل من الزكاة والصوم والحج حسنا لمعنى في نفسه من غير واسطة وعبادة خالصة بمنزلة الصلاة، وقد يقال: إن هذه الوسائط لم تعتبر لأنه لا دخل فيها لقدرة العبد واختياره فلم يجعل الحسن باعتبارها، واعترض بأن الوسائط هي دفع الحاجة، وقهر النفس وزيارة البيت، وهي باختياره لا نفس الحاجة وشهوة النفس وشرف الأمكنة مما لا دخل فيه لقدرة العبد، وأجيب بأن دفع الحاجة وقهر النفس وزيارة البيت نفس الزكاة والصوم والحج فكيف تكون وسائط حسنها، وإنما الوسائط هي الحاجة والشهوة وشرف المكان، ولا اختيار للعبد فيها وفيه نظر إذ الواسطة ما يكون حسن الفعل لأجل أحسنها، وظاهر أن نفس الحاجة أو الشهوة ليست كذلك فلهذا صرح المصنف رحمه الله تعالى بأن الوسائط هي لدفع القهر والزيارة المخصوصة، ولا خفاء في أنها ليست نفس الزكاة والصوم والحج، وفي عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن الوسائط هي قهر النفس وحاجة الفقير وشرف المكان، والمقصود ما صرح به المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: "يرد عليه" قد خرج بما ذكرنا الجواب عن هذا الإيراد، وهو أن حسن هذه العبادات الثلاث، وإن كان بغيرها بدلالة العقل إلا أن ذلك الغير في حكم العدم بناء على ما ذكرنا فصارت كأنها حسنة لا بواسطة أمر خارج عن ذاتها، فألحقت بما هو حسن لعينه كالصلاة، وجعلت من قبيل الحسن لمعنى في نفسه لا بمجرد كونه مأمورا به كما هو رأي الأشعري، وأما المصنف رحمه الله تعالى فقد أجاب بوجهين حاصل الأول أنا لا نجعل جهة حسنها كونها مأمورا بها بل نستدل بذلك على أنها حسنة في نفسها، وإن لم ندرك جهة حسنها كما أن الأمر المطلق يقتضي حسن المأمور به لمعنى في نفسه، وحاصل الثاني أن كل ما أمر به الشارع فالإتيان به حسن لذاته بمعنى أن العقل يحكم بأن طاعة الله تعالى وامتثال أمره حسن لذاته فيحسن الإتيان بالزكاة والصوم والحج لكونه إتيانا بالمأمور به، وعند الأشعري لا يحسن ذلك عقلا بل الشرع هو الذي يحكم بوجوب الطاعة وحسنها، فالحسن لمعنى في نفسه نوعان: نوع يكون حسنه لعينه أو لجزئه مع قطع النظر عن كونه إتيانا بالمأمور به كالإيمان والصلاة، ونوع يكون حسنه لكونه إتيانا بالمأمور به كالزكاة ونحوها، ويشترط في حسن هذا النوع أن يكون الإتيان به لأجل كونه مأمورا به حتى لو لم يكن كذلك لم يكن حسنا لمعنى في نفسه، وبهذا يندفع لزوم حسن جميع ما أمر به لجواز أن يؤتى به لا على قصد الامتثال كالوضوء للتبرد فيحسن لغيره لا لعينه، وبما ذكرنا من قيد قطع النظر عن كونه إتيانا بالمأمور به صار النوع الثاني مغايرا للنوع الأول، وإلا فالإتيان بالمأمور به أيضا حسن لعينه.(1/362)
فالأمر بالزكاة وأمثالها دال على حسنها لمعنى في نفسها على ما يأتي في هذا الفصل أن الأمر المطلق يتناول الضرب الأول من القسم الأول فيكون حسنا لمعنى في نفسها لكنا لا نعلم ذلك المعنى، والثاني أن الإتيان بالمأمور به من حيث إنه إتيان بالمأمور به حسن لمعنى في نفسه؛ لأن طاعة الله تعالى وترك مخالفته مما يحكم العقل بحسنه خلافا للأشعري، فإن شكر المنعم عنده ليس بحسن عقلا، فأداء الزكاة يكون حسنا لمعنى في نفسه؛ لأنه إتيان بالمأمور به، والإتيان بالمأمور به حسن لمعنى في نفسه، وعند الأشعري إنما يحسن أداء الزكاة؛ لأنه مأمور به فيصدق عليه تفسير الحسن، وهو ما أمر به من غير ملاحظة أنه طاعة الله تعالى فهذا بناء على أن الحسن لمعنى في نفسه نوعان: أحدهما أن يكون حسنا إما لعينه، وإما لجزئه، والثاني أن يكون حسنا لكونه إتيانا بالمأمور به، وقد يجتمع المعنيان كالإيمان بالله تعالى، فإنه حسن لعينه وإتيان بالمأمور به، وقد يوجد الأول بدون الثاني، وإذا أتى به لكونه حسنا لعينه أو لجزئه لكن لم يؤمر به، وأيضا على العكس في الحسن لا لجزئه، ولا لعينه لكن يكون مأمورا به، وقد أتى به لكونه مأمورا به كالوضوء فعلم فساد ما قال أن كل المأمورات حسنة لمعنى في نفسها بهذا المعنى؛ لأنه إنما يكون كذلك إذا أتى به لكونه مأمورا به، فالوضوء الغير المنوي حسن لغيره عندنا لأجل الصلاة، والمنوي بنية امتثال أمر
................................................................................................
ثم النوعان وإن تباينا بحسب المفهوم والاعتبار فلا تباين بينهما في الحصول لأمر واحد كالإيمان يحسن لذاته ولكونه إتيانا بالمأمور به، والأول يثبت قبل الشرع دون الثاني، وعلى هذا لا يمتنع اجتماع الحسن لذاته ولغيره في شيء واحد كالوضوء المنوي حسن لذاته باعتبار كونه إتيانا بالمأمور به ولغيره باعتبار كونه شرطا للصلاة، فإن قيل المأمور به في الصلاة والزكاة ونحوهما هو الإتيان بهذه الأشياء إذ العبد إنما هو مأمور بإيقاع الفعل وإحداثه فما معنى الإتيان بالمأمور به والإتيان هو نفس المأمور به.؟ قلنا قد سبق أن هاهنا معنى مصدريا ومعنى حاصلا بالمصدر، والأول هو الإيقاع، والثاني هو الهيئة الموقعة، فأرادوا بالمأمور به الحاصل بالمصدر كالحركة بمعنى الحالة المخصوصة وبالإتيان به إيقاعه وإحداثه، فإن قيل فحينئذ لا يكون الحسن هو المأمور به مع أن الكلام فيه قلنا المأمور به في التحقيق هو الإيقاع والإحداث فحسنه حسن المأمور به، فإن قيل: كل من الزكاة والصوم والحج عبادة مخصوصة، والعبادة حسنة لعينها فيكون كل منها حسنا لجزئه فيكون حسنا لمعنى في نفسه، ولا حاجة إلى ما ذكر من التكلفات قلنا كونه عبادة مخصوصة لا يقتضي كون العبادة جزءا منه لجواز أن يكون خارجا عنه صادقا عليه، والأمر كذلك إذ ليست جزءا من مفهوم شيء منها بخلاف الصلاة.
قوله: "يقتضي كونه عدلا وإحسانا" لا نزاع للأشعري في كون العدل عدلا والإحسان إحسانا قبل الشرع، وإنما النزاع في كونه مناطا للمدح عاجلا والثواب آجلا.
قوله: "فالأمر بالزكاة وأمثالها دال على حسنها لمعنى في نفسها" لقائل أن يقول لا نسلم أنه أمر مطلق بل العقل قرينة على أنه إنما أمر بها لدفع حاجة الفقير ونحوه.(1/363)
الله تعالى حسن لغيره، ولمعنى في نفسه؛ لأنه إتيان بالمأمور به. "حتى شرط فيه الأهلية الكاملة" فإن العبادات يشترط لها الأهلية الكاملة حتى لا تجب على الصبي بخلاف المعاملات على ما يأتي في فصل الأهلية إن شاء الله تعالى.
"وأما الثاني" وهو الحسن لغيره. "فذلك الغير إما منفصل عن هذا المأمور به" كأداء الجمعة، فإنه منفصل عن السعي، وفي هذه العبارة تغيير، وقد كانت قبل التغيير هكذا فذلك
................................................................................................
قوله: "فذلك الغير إما منفصل" عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى فضرب منه ما هو حسن لغيره، وذلك الغير قائم بنفسه مقصود لا يتأدى بالذي قبله بحال أي بالمأمور به الحسن لغيره، وضرب منه ما هو حسن لمعنى في غيره لكنه أي: ذلك الغير يتأدى بنفس المأمور به، والمراد بالقائم بنفسه أن لا يتأدى بالإتيان بالمأمور به بل يفتقر إلى إتيان به على حدة، وهذا معنى كونه منفصلا فيكون مغنيا عن ذكره، وظاهر أن ليس المراد بالقائم بنفسه ما لا يفتقر في التحيز والإشارة إلى التبعية للغير كالجواهر لأن مثل أداء الجمعة مثلا عرض فكيف يقوم بنفسه، وكان حق العبارة أن يقول: إما منفصل، وإما غير منفصل لكنه قال: وإما قائم بهذا المأمور به تنبيها على أن المراد بالقائم بنفسه وبالمأمور به المنفصل عنه وغير المنفصل.
قوله: "فلا يحتاج" أي الوضوء في كونه وسيلة للصلاة إلى النية لأن الصلاة إنما تفتقر إلى الوضوء باعتبار ذاته، وهو كونه طهارة لا باعتبار وصفه، وهو كونه عبادة، والمفتقر إلى النية هو وصفه لا ذاته.
قوله: "كالجهاد" فإنه يحسن بواسطة الغير الذي هو إعلاء كلمة الله، وصلاة الجنازة تحسن بواسطة الغير الذي هو قضاء حق الميت، فالغيران أمران حسنان حاصلان بنفس المأمور به أعني الجهاد والصلاة لا ينفصلان عنهما، وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أنهما إنما صارا حسنين لمعنى كفر الكافر وإسلام الميت، وذلك معنى منفصل عن الجهاد والصلاة، ولا يخفى عليك أن ليس كفر الكافر وإسلام الميت مما يتأدى بنفس المأمور به أعني الجهاد والصلاة، وأن لا معنى لبيان الانفصال في هذا المقام بل ينبغي أن يبين عدم الانفصال بمعنى تأديه بنفس المأمور به وعدم قيامه بنفسه إلا أنه أراد بالانفصال التغاير، والتباين تحقيقا لكون حسن الجهاد وصلاة الجنازة بالغير.
قوله: "ولما كان المقصود" يعني أن المأمور به الحسن لغيره، لا شك أنه مغاير لذلك الغير بحسب المفهوم، فإن كان مغايرا له بحسب الخارج أيضا كأداء الجمعة والسعي فلا شبه له بالحسن لمعنى في نفسه، وإن لم يكن مغايرا له بحسب الخارج كالجهاد وإعلاء كلمة الله تعالى فهو شبيه بالحسن لمعنى في نفسه من جهة كونه في الخارج عين ذلك الغير الحسن لمعنى في نفسه، فإن قلت: لم جعل هذا القسم من قبيل الحسن لغيره الشبيه بالحسن لمعنى في نفسه دون العكس كالزكاة والصوم والحج.؟ قلت: لأنه لا جهة هنا لارتفاع الوسائط وصيرورتها في الحكم العدم بخلافها ثمة، وقد يقال لأن الواسطة هاهنا كفر الكافر، وإسلام الميت، وهما اختيار العبد، وقد عرفت ما فيه.(1/364)
الغير إما قائم بنفسه منفصل عن هذا المأمور به، فأسقطت قولي إما قائم؛ لأن الأعراض لا تقوم بنفسها فالمراد به أنه لا يكون قائما بهذا المأمور به فقوله: منفصل يكون مكررا. "كالسعي إلى الجمعة حسن لأداء الجمعة فالوضوء حسن للصلاة وليس قربة مقصودة حيث يسقط بسقوطها فلا يحتاج في كونه وسيلة لها إلى النية، وإما قائم بهذا المأمور به كالجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى وصلاة الجنازة لقضاء حق الميت حتى إن أسلم الكفار بأجمعهم لا يشرع الجهاد، وإن قضى البعض حق الميت يسقط عن الباقين، ولما كان المقصود يتأدى بعين المأمور به كان هذا الضرب" وهو أن يكون الغير قائما بالمأمور به. "لا الضرب الأول" وهو أن يكون الغير منفصلا عن المأمور به. "شبيها بالقسم الأول" وهو الحسن لمعنى في نفسه، وجه المشابهة أن مفهوم الجهاد وهو القتل والضرب وأمثالهما، وهذا المعنى ليس مفهوم إعلاء كلمة الله تعالى لكن في الخارج صار هذا القتل والضرب إعلاء كلمة الله تعالى كما أن السعي في المفهوم غير الأداء لكن في الخارج عينه، وكما أن الحيوان في الحقيقة والمفهوم غير الناطق والكاتب لكن في الخارج هو عينهما فالجهاد حقيقة، وهي القتل ليست حسنة لمعنى في نفسها لكن في الخارج، وهو عين الإعلاء، والإعلاء حسن لمعنى في نفسه فشابه هذا الضرب القسم الأول لا الضرب الأول؛ لأن السعي غير أداء الجمعة في المفهوم، وفي الخارج. "والأمر المطلق" أي: من غير انضمام قرينة تدل على الحسن لمعنى في نفسه أو غيره. "يتناول الضرب الأول من القسم الأول ويصرف عنه إن دل الدليل" أي الذي لا يقبل سقوط التكليف من الحسن بمعنى في نفسه. لأن كمال الأمر يقتضي كمال صفة المأمور به لما علم أن المطلق ينصرف إلى الكامل لزم أن الأمر المطلق يكون أمرا كاملا بأن يكون للإيجاب، فأما الأمر الذي للإباحة أو الندب فناقص في كونه أمرا إذا ثبت هذا، وقد علم أن الحسن مقتضى الأمر أي لو لم يكن الشيء حسنا لما أمر الله تعالى به "فيكون الأمر الكامل" أي الأمر الذي هو للإيجاب "مقتضيا للحسن الكامل"؛ لأن الشيء لو لم يكن بحيث يكون في فعله
................................................................................................
قوله: "والأمر المطلق" عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن الأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن يتناول الضرب الأول من القسم الأول؛ لأن كمال الأمر يقتضي كمال صفة المأمور به فكذلك كونه عبادة يقتضي هذا المعنى، ويحتمل الضرب الثاني بدليل فحمل المصنف القسم الأول على الحسن لمعنى في نفسه، والضرب الأول منه على ما يحتمل السقوط بحال وعدل عن قوله: ويحتمل الضرب الثاني إلى قوله: ويصرف عنه ليشمل الحسن لمعنى في غيره كالجهاد، وما يحتمل السقوط أو يشبه الحسن لمعنى في نفسه كالصلاة والزكاة ففي الجهاد دل الدليل على كونه حسنا لغيره، وفي الصلاة على احتمال سقوط التكليف، وفي الزكاة على كونها شبيهة بالحسن لغيره، ولا يخفى أن استدلاله الثاني، وهو أن كون المأمور به لمطلق الأمر عبادة يوجب ذلك لا يدل إلا على كونه حسنا لمعنى في نفسه من غير دلالة على عدم احتماله سقوط التكليف به، ولذا صرح بأن ذلك إشارة إلى الحسن لمعنى في نفسه إلا أن المذكور في سائر الكتب أن الأمر المطلق يقتضي(1/365)
مصلحة عظيمة، وفي تركه مفسدة عظيمة لما أوجب الله تعالى فعله ليكون الإيجاب محصلا لفعله، ومانعا من تركه فالإيجاب يدل على كمال العناية بوجود المأمور به، وكمال العناية بوجود المأمور به يدل على كمال حسنه، وكمال الحسن أن يكون حسنا لمعنى في نفسه، وهو لا يقبل سقوط التكليف.
"وكونه عبادة يوجب ذلك أيضا" وقوله: ذلك إشارة إلى الحسن لمعنى في نفسه بمعنى أنه إتيان بالمأمور به، وإنما اخترت في الأول لفظ يقتضي، وفي الثاني يوجب؛ لأن المعنى الأول مقتضى الأمر، والثاني موجب الأمر، والفرق بينهما لا يخفى على أهل التحصيل. "فقال الشافعي: رحمه الله تعالى الأمر بالجمعة يوجب صفة حسنها، وأن لا يكون المشروع في ذلك اليوم إلا هي فلا يجوز ظهر غير المعذور إذا لم تفت الجمعة، ولما لم يخاطب المعذور بالجمعة" فإذا أدى الظهر "لم ينتقض بالجمعة قلنا لما كان الواجب قضاء الظهر لا الجمعة علمنا أن الأصل هو الظهر لكنا أمرنا بإقامة الجمعة مقامه في الوقت فصارت مقررة له لا ناسخة، ولا فرق في هذا بين المعذور وغيره لعموم: {فَاسَعَوْا} [الجمعة:9] لكن سقطت عنه الجمعة رخصة فإذا أتى بالعزيمة صار كغير المعذور فانتقض الظهر" هذه المسألة تفريع على أن الأمر المطلق يقتضي ما ذكره، والخلاف هنا في أمرين أحدهما أن غير المعذور إذا أدى الظهر في البيت قبل فوات الجمعة لا يجوز عنده، ويجوز عندنا بناء على أن الأصل في هذا اليوم الجمعة عنده، والظهر عندنا، ودليلنا في المتن مذكور، وثانيهما أن المعذور إذا أدى الظهر هل ينتقض إذا حضر الجمعة أم لا فعنده لا، وعندنا ينتقض؛ لأن الأمر بالسعي يعم المعذور وغير المعذور فالعزيمة في هذا اليوم إقامة الجمعة مقام الظهر الذي هو الأصل لكن هذا ساقط من المعذور بطريق الرخصة فإذا حضر الجمعة صار كغير المعذور فانتقض الظهر.
................................................................................................
حسن المأمور به لمعنى في نفسه من غير تعرض لعدم احتمال سقوط التكليف به، وذكر في شروح أصول فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن المراد بالضرب الأول من القسم الأول هو ما يحسن لعينه حقيقة لا ما ألحق به حكما، وهو الشبيه بالحسن لمعنى في غيره كالزكاة ونحوها، والمراد بالضرب الثاني ما يقابل القسم الأول أعني: ما يكون حسنا لمعنى في غيره، ومثل هذا غير عزيز في كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى.
قوله: "والفرق بينهما" هو أن المقتضي متقدم بمعنى أن الشيء يكون حسنا، ثم يتعلق به، الأمر ضرورة أن الأمر لا يتعلق إلا بما هو حسن، والموجب متأخر بمعنى أن الأمر يوجب حسنه من جهة كونه إتيانا بالمأمور به، ولا يتصور ذلك إلا بعد ورود الأمر به، وهذا ما يقال: إن حسن المأمور به عندنا من مدلولات الأمر، وعند الأشعري من موجباته.
قوله: "ولما لم يخاطب المعذور بالجمعة" معناه أنه لم يؤمر بإقامة الجمعة عينا بل له الخيار بينها وبين الظهر فإذا أدى أحدهما اندفع الآخر.(1/366)
فصل: التكليف بما لا يطاق غير جائز
مدخل
...
فصل: التكليف بما لا يطاق غير جائز
خلافا للأشعري ; لأنه لا يليق من الحكيم ولقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} إلى غير ذلك من الآيات، وهو غير واقع في الممتنع لذاته اتفاقا واقع عنده في غيره كإيمان أبي جهل، وعندنا ليس هذا تكليفا بما لا يطاق بناء على أن لقدرة العبد تأثيرا في أفعاله توسطا بين الجبر والقدر على أن علمه تعالى بأنه لا يؤمن باختياره لا يخرجه عن حيز الإمكان.
ـــــــ
"فصل: التكليف بما لا يطاق غير جائز خلافا للأشعري؛ لأنه لا يليق من الحكيم ولقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إلى غير ذلك من الآيات، وهو غير واقع في الممتنع لذاته اتفاقا واقع عنده في غيره" أي واقع عند الأشعري في غير الممتنع لذاته. "كإيمان أبي جهل، وعندنا ليس هذا تكليفا بما لا يطاق بناء على أن لقدرة العبد تأثيرا في أفعاله توسطا بين الجبر والقدر"، وقد سبق تقريره في الفصل المتقدم، فإن قيل التكليف بالمحال لازم على تقدير التوسط أيضا؛ لأن العبد غير قادر على إيجاد الفعل بل يوجد بخلق الله فيكون التكليف بالفعل تكليفا بالمحال قلنا: نعم، لكن للعبد قصد اختياري فالمراد بالتكليف بالحركة التكليف بالقصد إليها، ثم بعد القصد الجازم يخلق الله تعالى الحركة أي: الحالة المذكورة بإجراء عادته أو التكليف بالحركة بناء على قدرته على سببها الموصل إليها غالبا وهو القصد. "على أن علمه تعالى بأنه لا يؤمن باختياره لا يخرجه عن حيز الإمكان" هذا جواب عن دليل الأشعري، وهو أن الله تعالى علم في الأزل أن أبا جهل لا يؤمن أصلا، فإن آمن ينقلب علم الله جهلا، وهو محال فإيمانه محال فالأمر بالإيمان يكون تكليفا بالمحال فنجيب بأن الله علم كل شيء على ما هو عليه، والعلم تابع للمعلوم فعلمه تعالى بأنه لا يؤمن باختياره لا يخرجه من حيز الإمكان أي: عن أن يكون مقدورا ومختارا له. "وعنده لا تأثير لها" أي لقدرة العبد في
................................................................................................
قوله: "فصل" ذكر فخر الإسلام أن من الحسن لغيره ضربا ثالثا يسمى الجامع، وهو ما يكون حسنا لحسن شرطه بعدما كان حسنا لمعنى في نفسه، وهي القدرة التي بها يتمكن العبد من أداء ما لزمه، وحاصل كلامه أن وجوب أداء العبادة يتوقف على القدرة توقف وجوب السعي على وجوب الجمعة فصار حسنا لغيره مع كونه حسنا لذاته، ثم أورد مباحث القدرة وتفاريعها، ولا يخفى أن فيه نوع تكلف، وأن جعله من أقسام الحسن لغيره ليس أولى من جعله من أقسام الحسن لذاته، فلذا أفرد المصنف رحمه الله تعالى لتلك المباحث فصلا على حدة، وذكر أن التكليف بما لا يطاق أي: لا يقدر عليه غير جائز لوجهين: الأول أن التكليف بالشيء استدعاء حصوله، واستدعاء ما لا يمكن حصوله سفه فلا يليق بالحكيم بناء على الحسن والقبح العقليين، والثاني أنه مما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه في آيات كثيرة كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] و: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وكل ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه لا يجوز أن يقع، وإلا لزم إمكان كذبه، وهو محال، وإمكان المحال محال فبهذا الطريق يمكن الاستدلال بالآية على عدم الجواز، وإلا فالظاهر منها الدلالة على عدم الوقوع دون عدم الجواز، ولم يثبت تصريح(1/367)
وعنده لا تأثير لها بل هو مجبور، ثم عندنا عدم جوازه ليس بناء على أن الأصلح واجب على الله خلافا للمعتزلة بل بناء على أنه لا يليق بحكمه وفضله، ثم القدرة شرط لوجوب الأداء لا لنفس الوجوب ; لأنه قد ينفك عن وجوب الأداء فلا حاجة إلى القدرة بل هو يثبت بالسبب والأهلية على ما يأتي.
ـــــــ
أفعاله. "بل هو مجبور، ثم عندنا عدم جوازه" أي: عدم جواز التكليف بما لا يطاق. "ليس بناء على أن الأصلح واجب على الله خلافا للمعتزلة بل بناء على أنه لا يليق بحكمه وفضله، ثم القدرة شرط لوجوب الأداء لا لنفس الوجوب؛ لأنه قد ينفك عن وجوب الأداء فلا حاجة إلى القدرة" وسيأتي الفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء في الفصل المتأخر. "بل هو يثبت" أي: نفس الوجوب "بالسبب والأهلية على ما يأتي" أي: في فصل الأهلية. "والقدرة نوعان ممكنة وميسرة فالممكنة أدنى ما يتمكن به المأمور على أداء المأمور به" أي: من غير حرج "غالبا" وإنما قيدنا بهذا؛ لأنهم جعلوا الزاد والراحلة في الحج من قبيل القدرة الممكنة. "وهي
................................................................................................
الأشعري بتكليف المحال إلا أنه نسب إليه الأصلين: أحدهما أنه لا تأثير لقدرة العبد في أفعاله بل هي مخلوقة لله تعالى ابتداء، وثانيهما أن القدرة مع الفعل لا قبله على ما سيجيء، والتكليف قبل الفعل لا معه لأن استدعاء الفعل مقدم عليه إذ لا يتصور إلا في المستقبل فهو حال التكليف مستطيع.
قوله: "وهو غير واقع" ما لا يطلق إما أن يكون ممتنعا لذاته كإعدام القديم وقلب الحقائق، فالإجماع منعقد على عدم وقوع التكليف به، والاستقراء أيضا شاهد على ذلك، والآيات ناطقة به، وإما أن يكون ممتنعا لغيره بأن يكون ممكنا في نفسه لكن لا يجوز وقوعه عن المكلف لانتفاء شرط أو وجود مانع، فالجمهور على أن التكليف به غير واقع خلافا للأشعري، ولا نزاع في وقوع التكليف بما علم الله تعالى أنه لا يقع أو أخبر بذلك كبعض تكاليف العصاة والكفار، فصار حاصل النزاع أن مثل ذلك هل هو من قبيل ما لا يطاق حتى يكون التكليف الواقع به تكليف ما لا يطاق أم لا، فعند الجمهور هو مما يطاق بمعنى أن العبد قادر على القصد إليه باختياره، وإن لم يخلق الله الفعل عقيب قصده، ولا معنى لتأثير قدرة العبد في أفعاله إلا هذا على ما سبق في تحقيق التوسط بين الجبر والقدر، وعند الأشعري هو محال لاستلزامه المحال، وهو انقلاب علم الله تعالى جهلا أو وقوع الكذب في اختياره فإيمان أبي جهل محال، وهو مكلف به فالتكليف بما لا يطاق واقع، وأجيب بأن علم الله تعالى بعدم إيمانه لا يخرجه عن الإمكان أي: عن كونه مقدورا لأبي جهل ومختارا له بمعنى صحة تعلق قدرته بالقصد إليه غاية ما في الباب أن الله تعالى لا يحدثه عقيب قصده، وإنما فسر الإمكان بذلك لأن البقاء على الإمكان الذاتي غير مفيد لأنه غير محل النزاع، وقوله: العلم تابع للمعلوم لا حاجة إليه في الجواب إلا أنه دفع لما يقال أن جميع التكاليف تكليف بما لا يطاق ضرورة أن علم الله تعالى إما متعلق بوجود الفعل فيجب أو بعدمه فيمتنع، ولا شيء من الواجب والممتنع بمستطاع ومقدر.(1/368)
شرط لأداء كل واجب فضلا من الله تعالى بدنيا كان أو ماليا فلهذا يجب التيمم مع العجز والصلاة قاعدا أو موميا معه" أي: مع العجز.
"وتسقط الزكاة إذا هلك المال بعد الحول قبل التمكن اتفاقا فعلى هذا" يتصل بقوله: وهي شرط لأداء كل واجب. "قال زفر لا يجب القضاء على من صار أهلا للصلاة في الجزء الأخير من الوقت؛ لأنه لا يجب الأداء لعدم القدرة قلنا إنما يشترط حقيقة القدرة للأداء إذا كان هو الفرض، وأما هاهنا فالفرض القضاء، وقد وجد السبب فإمكان القدرة على الأداء بإمكان امتداد الوقت كاف لوجوب القضاء كمسألة الحلف بمس السماء" فإنه ينعقد اليمين لإمكان البر في الجملة كما كان للنبي عليه السلام فإمكان الأصل، وهو البر كاف لوجوب الخلف، وهو الكفارة على أن القدرة التي شرطناها متقدمة هي سلامة الآلات والأسباب فقط، وقد وجدت هنا.
................................................................................................
ولقائل أن يمنع كون العلم تابعا للمعلوم بمعنى أنه لا يتعلق إلا بعد وقوعه، فإن الله تعالى عالم في الأزل بكل شيء أنه يكون أو لا يكون، وحينئذ يلزم الوجوب أو الامتناع، ولهذا صرح المحققون بأن معنى كون علمه تابعا للمعلوم أن المطابقة تعتبر من جهة العلم بأن يكون هو على طبق المعلوم وقوعا أو عدم وقوع، ويكفي في الجواب أن الوجوب أو الامتناع بواسطة علم الله تعالى أو إخباره لا يوجب كون الفعل غير مقدور للعبد لأن الله تعالى يعلم أنه يؤمن أو لا يؤمن باختياره وقدرته فيعلم أن له اختيارا وقدرة في الإيمان وعدمه، وكذا في الإخبار، وقد يقال في تقرير دليل الأشعري إن أبا جهل مكلف بالإيمان، وهو تصديق النبي عليه السلام في جميع ما علم مجيئه به، ومن جملة ذلك أنه لا يؤمن فقد كلف بأن يصدقه في أن لا يصدقه، وهو محال فلزم وقوع التكليف بالممتنع بالذات فضلا عما لا يطاق، وما ذكر لا يصلح جوابا عن ذلك، ولا مخلص إلا بما قيل إن تكليفه بجميع ما أنزل إنما كان قبل الإخبار بأنه لا يؤمن، وبعده هو مكلف بما عدا التصديق بأنه لا يصدق، ولا يخفى ما فيه.
قوله: "وعنده" أي: لو كان التكليف بما لا يوجد بقدرة العبد تكليفا بما لا يطاق على ما ذهب إليه الأشعري لزم أن يكون جميع التكاليف تكليفا بما لا يطاق بناء على مذهب الأشعري في أن العبد مجبور في أفعاله لا تأثير لقدرته أصلا، وهذا باطل بالإجماع إذ الأشعري وإن قال بالوقوع لم يقل بالعموم.
قوله: "ثم عندنا" يعني أن عدم جواز تكليف ما لا يطاق عند المعتزلة مبني على أنه يجب على الله تعالى ما هو أصلح لعباده ولا خفاء في أن عدم تكليف ما لا يطاق أصلح فيكون واجبا فيكون التكليف ممتنعا، وعندنا مبني على أنه لا يليق بالحكمة والفضل أن يكلف عباده بما لا يطيقونه أصلا فيلزم الترك بالضرورة ويستحقوا العذاب وما لا يليق بالحكمة والفضل سفه، وترك إحسان إلى من يستحقه، وهو قبيح لا يجوز صدوره عن الله تعالى، ولقائل أن يقول ليس معنى الوجوب على الله تعالى استحقاق العقاب على الترك بل اللزوم وعدم جواز الترك، فالقول بعدم جواز التكليف بما(1/369)
القدرة الممكنة و الميسرة
...
والقدرة نوعان: ممكنة وميسرة
فالممكنة أدنى ما يتمكن به المأمور على أداء المأمور به غالبا وهي شرط لأداء كل واجب فضلا من الله تعالى بدنيا كان أو ماليا فلهذا يجب التيمم مع العجز والصلاة قاعدا أو موميا معه وتسقط الزكاة إذا هلك المال بعد الحول قبل التمكن اتفاقا فعلى هذا قال زفر لا يجب القضاء على من صار أهلا للصلاة في الجزء الأخير من الوقت ; لأنه لا يجب الأداء لعدم القدرة
ـــــــ
لا يطاق بناء على أنه لا يليق بالحكمة والفضل قول بأنه يجب عليه ترك تكليف ما لا يطاق تفضلا على العباد وإحسانا، وهذا قول بوجوب الأصلح، فإن قيل لا يجب عليه الترك لكنه يترك تفضلا وإحسانا قلنا فحينئذ لا يثبت عدم الجواز وهو المدعي بل يثبت عدم الوقوع.
قوله: "ثم القدرة شرط لوجوب الأداء" فإن قيل نفس الوجوب لا ينفك عن التكليف إذ لا يتصور بدون الأمر، والتكليف مشروط بالقدرة فكيف ينفك نفس الوجوب عن القدرة.؟ أجيب بوجهين: الأول أن التكليف هو طلب إيقاع الفعل من العبد، ونفس الوجوب ليس كذلك لما ستعرف من أن نفس وجوب الصلاة هو لزوم وقوع هيئة مخصوصة موضوعة للعبادة عند حضور الوقت الشريف ووجوب الأداء، وهو لزوم إيقاع تلك الهيئة فعند ذلك يتحقق التكليف ألا يرى أن صوم المريض والمسافر واجب، ولا تكليف عليهما، وكذا الزكاة قبل الحول الثاني، إن معنى اشتراط التكليف بالقدرة هو أنه لا يقع التكليف إلا بما يستطيع العبد إيقاعه واحدا أنه عند تعلق الإرادة به، وإلا فلا كلام في صحة التكليف بما لا يكون مقدورا عند ورود الأمر، وعند تحقق سبب الوجود قبل المباشرة لأن المذهب أن التكليف قبل الفعل والقدرة معه.
قوله: "لأنه قد ينفك" أي: قد يوجد نفس الوجوب بدون وجوب الأداء فحينئذ لا يحتاج إلى القدرة التي منشأ الاحتياج إليها هو الأداء، وهو مصادرة على المطلوب إذ ليس المدعى، إلا أن المحتاج إلى القدرة هو وجوب الأداء لا نفس الوجوب.
قوله: "من غير حرج غالبا" قيد بذلك لأنه قد يتمكن من أداء الحج بدون الزاد والراحلة نادرا، وبدون الراحلة كثيرا لكن لا يتمكن منه بدونهما إلا بحرج عظيم في الغالب، وفرق بين الغالب والكثير بأن كل ما ليس بكثير نادر، وليس كل ما ليس بغالب نادرا بل قد يكون كثيرا، واعتبر بالصحة والمرض والجذام فإن الأول غالب، والثاني كثير، والثالث نادر.
قوله: "وهي" أي: القدرة الممكنة شرط لوجوب أداء كل واجب فضلا من الله؛ لأن القدرة التي يمتنع التكليف بدونها هي ما تكون عند مباشرة الفعل فاشتراط سلامة الأسباب والآلات قبل الفعل يكون فضلا من الله ومنة.
قوله: "فإمكان القدرة على الأداء بإمكان امتداد الوقت" كما كان لسليمان عليه السلام كاف للقضاء، ولم يعتبر إمكان القدرة في الحج بدون الزاد والراحلة، وإمكان قدرة الشيخ الفاني على الصوم، والمقعد على الركوع والسجود، وزوال عمى الأعمى مع أن هذا أقرب من امتداد الوقت لأن القضاء أيضا متعذر في هذه الصور.(1/370)
قلنا إنما يشترط حقيقة القدرة للأداء إذا كان هو الفرض، وأما هاهنا فالفرض القضاء، وقد وجد السبب فإمكان القدرة على الأداء بإمكان امتداد الوقت كاف لوجوب القضاء كمسألة الحلف بمس السماء على أن القدرة التي شرطناها متقدمة هي سلامة الآلات والأسباب فقد وجدت هنا.
ـــــــ
...............................................
................................................................................................
قوله: "كما في مسألة الحلف بمس السماء" هذا بخلاف يمين الغموس لأنه قد يمتنع إمكان إعادة الزمان الماضي، ولو سلم فصدق المحلوف عليه محال إذ بإعادة الزمان الماضي لا يصير الفعل الذي لم يوجد من الحالف موجودا فيه إذ لا يتصور وجود الفعل من الشخص بدون أن يفعل.(1/371)
فأما القدرة الحقيقية،
فإنها مقارنة للفعل أو نقول القضاء يبتنى على نفس الوجوب لا على وجوب الأداء كما في قضاء المسافر والمريض الصوم، ولا يشترط بقاء هذه القدرة لبقاء الواجب إذ التمكن على الأداء يستغني عن بقائها على هذا السفر غالبا.
ـــــــ
"فأما القدرة الحقيقية، فإنها مقارنة للفعل" أي: ولئن سلمنا أن إمكان القدرة على الأداء غير كاف لوجوب القضاء بل يشترط لوجوب القضاء وجود القدرة على الأداء فوجود القدرة على الأداء حاصل هنا؛ لأن القدرة التي تشترط لوجوب العبادات متقدمة هي سلامة الآلات والأسباب فقط، وهي حاصلة هنا، ولا تشترط القدرة التامة الحقيقية؛ لأنها مقارنة للفعل؛ لأن العلة التامة تكون مقارنة للمعلول إذ لو كانت سابقة زمانا يلزم تخلف المعلول عن العلة التامة. "أو نقول القضاء يبتنى على نفس الوجوب لا على وجوب الأداء كما في قضاء المسافر والمريض الصوم، ولا يشترط بقاء هذه القدرة" أي: الممكنة "لبقاء الواجب إذ التمكن
................................................................................................
قوله: "فأما القدرة الحقيقية" قد اختلفوا في أن القدرة مع الفعل أو قبله، والمحققون على أنه إن أريد بالقدرة القوة التي تصير مؤثرة عند انضمام الإرادة إليها فهي توجد قبل الفعل ومعه وبعده، وإن أريد القوة المؤثرة المستجمعة لجميع الشرائط فهي مع الفعل بالزمان، وإن كانت متقدمة بالذات بمعنى احتياج الفعل إليها، ولا يجوز أن تكون قبل الفعل لامتناع تخلف المعلول عن علته التامة أعني جملة ما يتوقف عليه لما مر في فصل الحسن والقبح فلهذا قال: إن القدرة التي شرط تقدمها على وجوب أداء العبادات هي سلامة الآلات والأسباب لا القدرة المؤثرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير، فإن قيل يجب أن يكون التكليف مشروطا بالقدرة بمعنى القوة المؤثرة المستجمعة لجميع الشرائط ضرورة أن الفعل بدونها ممتنع، ولا تكليف بالممتنع قلنا: معارض بأن الفعل عند جميع شرائط التأثير واجب لامتناع التخلف، ولا تكليف بالواجب لأنه غير مقدور لعدم التمكن من الترك(1/371)
على الأداء يستغني عن بقائها" أي: استمرارها فلهذا لا تشترط للقضاء فلهذا إذا ملك الزاد والراحلة فلم يحج فهلك المال لا يسقط عنه؛ لأن الحج وجب بالقدرة الممكنة فقط؛ لأن الزاد والراحلة أدنى ما يتمكن به "على هذا السفر غالبا" اعلم أن جعل الزاد والراحلة من القدرة الممكنة يناقض قوله: لأن القدرة التي شرطناها متقدمة إلخ.
................................................................................................
وبأنه لو كان التكليف مشروطا بما ذكرتم لما توجه التكليف إلا حال المباشرة، ويلزم أن لا يعصي بترك المأمور به لعدم التكليف بدون المباشرة، والتحقيق أنه قبل المباشرة مكلف بإيقاع الفعل في الزمان المستقبل، وامتناع الفعل في هذه الحالة بناء على عدم علته التامة لا ينافي كون الفعل مقدورا مختارا له بمعنى صحة تعلق قدرته وإرادته وقصده إلى إيقاعه، وإنما الممتنع تكليف ما لا يطاق بمعنى أن يكون الفعل مما لا يصح تعلق قدرة العبد به وقصده إلى إيجاده، وبهذا يندفع ما يقال إن الفعل بدون علته التامة ممتنع ومعها واجب فلا تكليف إلا بالمحال؛ لأن في الأول تكليفا بالمشروط عند عدم الشرط، وفي الثاني تكليفا بتحصيل الحاصل.
قوله: "أو نقول" جواب ثالث عن دليل زفر حاصله منع المقدمة المطوية القائلة بأن ما لا يجب أداؤه لا يجب قضاؤه والسند هو وجوب قضاء صوم المسافر والمريض مع عدم وجوب الأداء.
قوله: "ولا يشترط" يحتمل أن يكون جوابا آخر عن دليل زفر وأن يكون ابتداء كلام يعني أن القضاء إنما يجب لبقاء الواجب بالسبب السابق، وهو غير مشروط ببقاء القدرة الممكنة لأن المفتقر إلى حقيقة هذه القدرة وبقائها هو حقيقة الأداء، وأما التمكن من الأداء فمستغن عن بقائها بل يكفي مجرد إمكانها وتوهمها، وإذا كان الوجوب باقيا بدون بقاء هذه القدرة، كان القضاء ثابتا بدونها فلا يكون شرطا للقضاء بل للأداء فقط، وهو المطلوب، ولا يلزم تكليف ما ليس في الوسع لأن هذا ليس ابتداء تكليف بل بقاء التكليف الأول على ما هو المختار من أن القضاء إنما هو بالسبب الأول لا بنص جديد، وقد يستدل على اختصاص هذه القدرة بالأداء بأنه يلزمه في النفس الأخير من العمر قضاء جميع المتروكات من الصلاة والصوم مع عدم القدرة، وليس ذلك ليظهر أثره في الخلف كما في الجزء الأخير من الوقت إذ لا خلف للقضاء، وجوابه أن ذلك إنما اعتبر ليظهر أثره في المؤاخذة في الآخرة كالميت يبقى عليه الواجبات في حق بقاء الإثم المؤاخذة مع أن الموت عجز كلي يسقط معه الفعل قطعا، ومن هاهنا قيل لا فرق بين الأداء، والقضاء في أن كلا منهما إن كان مطلوبا لنفس الفعل فلا بد من بقاء القدرة إذ لا يتصور الفعل بدونها، وإن كان مطلوبا لأمر آخر يكفي توهم القدرة ففي النفس الأخير تبقى الواجبات بتوهم امتداد الوقت ليظهر أثره في المؤاخذة، وكذا الصلاة بعد فوات القدرة تبقى في الذمة لتوهم حدوث القدرة.
قوله: "لأن الزاد والراحلة" دليل على أنهما من القدرة الممكنة حتى لا يشترط بقاءهما وجوب الحج، ثم الظاهر أنهما من قبيل الآلات التي هي وسائط حصول المطلوب فجعلهما من القدرة الممكنة لا يناقض تفسيرها بسلامة الآلات والأسباب على ما زعم المصنف رحمه الله تعالى.(1/372)
والقدرة الميسرة
ما يوجب اليسر على الأداء كالنماء في الزكاة، ويشترط بقاؤها لبقاء الواجب لئلا ينقلب إلى العسر فلا تجب الزكاة في هلاك النصاب بعد الحول بعد التمكن بخلاف الاستهلاك ; لأنه تعد، فإن قيل لما شرطتم بقاءها لبقاء الواجب يجب أن يشترط بقاء النصاب للوجوب في البعض فلا تجب بعد هلاك بعضه في الباقي قلنا النصاب ما شرط لليسر ; لأن الواجب ربع العشر، ونسبته إلى كل المقادير سواء بل
ـــــــ
"والقدرة الميسرة ما يوجب اليسر على الأداء كالنماء في الزكاة، ويشترط بقاؤها لبقاء الواجب لئلا ينقلب إلى العسر فلا تجب الزكاة في هلاك النصاب بعد الحول بعد التمكن بخلاف الاستهلاك؛ لأنه تعد، فإن قيل لما شرطتم بقاءها لبقاء الواجب يجب أن يشترط بقاء
................................................................................................
قوله: "والقدرة الميسرة ما توجب اليسر على الأداء" أي: يسر قدرة العبد على أداء الواجب، والأظهر أن يقال يسر الأداء على العبد بعد ما ثبت الإمكان بالقدرة الممكنة فهي كرامة من الله تعالى في الدرجة الثانية من القدرة الممكنة، ولهذا اشترطت في أكثر الواجبات المالية التي أداؤها أشق على النفس عند العامة، وذلك كالنماء في الزكاة، فإن الأداء ممكن بدونه إلا أنه يصير به أيسر حيث ينتقص أصل المال، وإنما يفوت بعض النماء، ثم القدرة الممكنة لما كانت شرطا للتمكن من الفعل، وإحداثه كانت شرطا محضا ليس فيه معنى العلية فلم يشترط بقاؤها لبقاء الواجب إذ البقاء غير الوجود، وشرط الوجود لا يلزم أن يكون شرطا للبقاء كالشهود في النكاح شرط للانعقاد دون البقاء بخلاف الميسرة، فإنها شرط فيه معنى العلية، لأنها غيرت صفة الواجب من العسر إلى اليسر إذ جاز أن يجب بمجرد القدرة الممكنة لكن بصفة العسر، فأثرت فيه القدرة الميسرة وأوجبته بصفة اليسر فيشترط دوامها نظرا إلى معنى العلية لأن هذه العلة مما لا يمكن بقاء الحكم بدونها إذ لا يتصور اليسر بدون القدرة الميسرة، والواجب لا يبقى بدون صفة اليسر لأنه لم يشرع إلا بتلك الصفة فلهذا اشترط بقاء القدرة الميسرة دون الممكنة مع أن ظاهر النظر يقتضي أن يكون الأمر بالعكس إذ الفعل لا يتصور بدون الإمكان ويتصور بدون اليسر.
قوله: "فلا يجب" يعني بعدما تمكن من أداء الزكاة بعد الحول، ولم يؤد حتى هلك المال لم يبق الوجوب لعدم بقاء القدرة الميسرة خلافا للشافعي رحمه الله تعالى، وأما إذا لم يتمكن بأن هلك المال كما تم الحول فلا ضمان بالاتفاق، فإن قيل ففي صورة الاستهلاك بأن ينفق المال في حاجته أو يلقيه في البحر فقد انتفت القدرة الميسرة فينبغي أن لا يجب الضمان، فجوابه أن اشتراط بقاء القدرة الميسرة إنما كان نظرا للمكلف، وقد خرج بالتعدي عن استحقاق النظر له فلم يسقط الوجوب عنه، أو نقول نجعل القدرة الميسرة باقية تقديرا زجرا على المتعدي وردا لما قصده من إسقاط الحق الواجب عنه نفسه ونظرا للفقير.(1/373)
ليصير غنيا فيصير أهلا للإغناء لقوله: عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" ولا حد له فقدره الشرع بالنصاب، وكذا الكفارة وجبت بهذه القدرة لدلالة التخيير، ولقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} وليس المراد العجز في العمر ; لأن ذا يبطل أداء الصوم فالمراد العجز الحالي مع احتمال القدرة في المستقبل أي: تشترط القدرة المقارنة للأداء. كالاستطاعة مع الفعل وذا دليل اليسر فيشترط بقاؤها لبقاء الواجب إلا أن المال هاهنا غير عين فلا يكون الاستهلاك تعديا فيكون كالهلاك.
ـــــــ
النصاب للوجوب في البعض فلا تجب بعد هلاك بعضه في الباقي" توجيه السؤال أنكم شرطتم بقاء القدرة الميسرة لبقاء الواجب، والنصاب شرط لليسر فيجب أن يشترط بقاء النصاب للوجوب في البعض فينبغي أن لا تجب الزكاة في الباقي إذا هلك بعض النصاب. فنجيب بأن النصاب ما شرط لليسر بل للتمكن وفي هذا الكلام ما فيه. "قلنا النصاب ما شرط لليسر؛ لأن الواجب ربع العشر، ونسبته إلى كل المقادير سواء بل ليصير غنيا فيصير أهلا
................................................................................................
قوله: "وفي هذا الكلام ما فيه" يعني أن التمكن من أداء الزكاة لا يتوقف على ملك النصاب بل يكفي ملك قدر المؤدى، فكيف يكون وجود النصاب من شرائط التمكن وراجعا إلى القدرة الممكنة على أنهم فسروا القدرة الممكنة بسلامة الأسباب والآلات، والنصاب ليس منها، وهذا لا يرد على كلام القوم، لأنهم لم يجعلوا النصاب من القدرة الممكنة بل هو من شرائط الوجوب وحصول الأهلية بأن يكون غنيا فيتمكن من الإغناء لا من شرائط اليسر بناء على أنه لا يغير الواجب من العسر إلى اليسر؛ لأن إيتاء الخمسة من المائتين وإيتاء الدرهم من الأربعين سواء في اليسر، وهذا معنى قوله: ونسبة ربع العشر إلى كل المقادير سواء بل ربما يكون إيتاء الدرهم من الأربعين أيسر من إيتاء الخمسة من المائتين، وإذا كان النصاب شرط الوجوب لا شرط اليسر لم يشترط بقاؤه لبقاء الوجوب فيما بقي من النصاب عند هلاك البعض لأن الوجوب في واجب واحد لا يتكرر فلا يشترط دوام شرطه، فإن قيل فينبغي أن لا تسقط الزكاة بهلاك جميع النصاب قلنا: إنما تسقط لفوات القدرة الميسرة التي هي وصف النماء لا لفوات الشرط الذي هو النصاب، ولهذا لا تسقط بهلاك بعض النصاب مع أن الكل ينتفي بانتفاء البعض، وبهذا يندفع، ما قيل إن تفريع قوله فلا تجب الزكاة في هلاك النصاب على قوله، ويشترط بقاء القدرة الميسرة لبقاء الواجب مشعر بأن النصاب من القدرة الميسرة، وإلا فلا وجه للتفريع.
قوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" أي: إلا صادرة عن غنى، والظهر مقحم كما في ظهر الغيب وظهر القلب أو هو كناية عن القوة إذ المال للغني بمنزلة الظهر الذي عليه اعتماده، وإليه استناده، وقد يستدل على اشتراط الغنى لأهلية وجوب الزكاة تارة بهذا الحديث، فإنه لنفي الوجوب لا لنفي الوجود إذ كثيرا ما توجد الصدقة عن الفقير، وتارة بالمعقول، وهو أن الزكاة إغناء للفقير، ولا يصير المرء أهلا للإغناء إلا بالغنى كما لا يصير أهلا للتمليك إلا بالملك وعليه اعتراض ظاهر، وهو أن المعتبر في الزكاة ليس هو الإغناء الشرعي بل الإغناء عن السؤال، ويدفع حاجة الفقير، وهذا لا يتوقف على الغنى الشرعي فلذا جمع المصنف رحمه الله تعالى بين الأمرين، وجعل الحديث دليلا على توقف أهلية إغناء الفقير على الغنى، وقد يجاب عن الاعتراض بأن المراد أن الإغناء بصفة الحسن(1/374)
فصل: في المأمور به
القسم الأول
...
فصل: المأمور به نوعان:
مطلق ومؤقت أما المطلق فعلى التراخي لأنه جاء للفور وجاء للتراخي فلا يثبت الفور إلا بالقرينة، وحيث عدمت يثبت التراخي لا أن الأمر يدل عليه وأما المؤقت فإما أن يتضيق الوقت عن الواجب، وهذا غير واقع ; لأنه تكليف بما لا يطاق إلا لغرض القضاء كمن وجب عليه الصلاة آخر الوقت إما أن يفضل كوقت الصلاة، وإما أن يساوي، وحينئذ إما أن يكون الوقت سببا للوجوب كصوم رمضان أو لا يكون كقضاء رمضان، وقسم آخر كالحج مشكل في أن يفضل أو يساوي كالحج إلا أن المال هاهنا غير عين فلا يكون الاستهلاك تعديا فيكون كالهلاك فصل المأمور به نوعان مطلق ومؤقت أما المطلق فعلى التراخي لأنه جاء للفور وجاء للتراخي فلا يثبت الفور إلا بالقرينة، وحيث عدمت يثبت التراخي لا أن الأمر يدل عليه وأما المؤقت فإما أن يتضيق الوقت عن الواجب، وهذا غير واقع ; لأنه تكليف بما لا يطاق إلا لغرض القضاء كمن وجب عليه الصلاة آخر الوقت إما أن يفضل كوقت الصلاة، وإما أن يساوي، وحينئذ إما أن يكون الوقت سببا للوجوب كصوم رمضان أو لا يكون كقضاء رمضان، وقسم آخر كالحج مشكل في أن يفضل أو يساوي أما وقت الصلاة فهو ظرف للمؤدي وشرط للأداء إذ الأداء يفوت
ـــــــ
للإغناء لقوله: عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" ولا حد له فقدره الشرع بالنصاب، وكذا الكفارة وجبت بهذه القدرة لدلالة التخيير، ولقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة:196] وليس المراد العجز في العمر؛ لأن ذا يبطل أداء الصوم فالمراد العجز الحالي مع احتمال القدرة في المستقبل" أي: تشترط القدرة المقارنة للأداء. "كالاستطاعة مع الفعل" أي: القدرة التامة الحقيقية التي تقارن الفعل كما ذكرنا آنفا فالقدرة المشروطة في الكفارة قدرة كذلك أي: مقارنة لأداء الكفارة لا سابقة ولا لاحقة. "وذا دليل اليسر" أي: اشتراط بقاء القدرة المقارنة دليل اليسر. "فيشترط بقاؤها لبقاء الواجب" أي: يشترط بقاء القدرة في باب الكفارة لبقاء الواجب حتى إن تحققت القدرة على الإعتاق فوجب الإعتاق.
................................................................................................
يتوقف على الغنى الشرعي لأن الغالب من حال الفقير عدم الصبر على شدائد الفقر والجزع على مكايد الحاجة فلا بد في أهلية الإغناء المأمور به من الغنى الشرعي لئلا يؤدي إلى الجزع المذموم في الأعم الأغلب.
فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام: "أفضل الصدقة جهد المقل" قلت إن جعلت هذا الحديث نفيا للوجوب، فظاهر إذ لا تنافي بين عدم وجوب الصدقة إلا على الغني، وبين كون صدقة الفقير على سبيل التطوع أكثر ثوابا منه باعتبار كونها أشق، فإن أفضل الأعمال أحمزها، وإن جعلته نفيا للفضيلة، وهو الظاهر الملائم لقوله عليه الصلاة والسلام: "خير الصدقة ما يكون عن ظهر غنى" 1 فوجه الجمع أن المراد تفضيل صدقة الغني على صدقة الفقير الذي لا يصبر على شدة الفقر، ويجزع لدى الحاجة على ما هو الأعم الأغلب، وتفضيل صدقة الفقير الذي اختص بتأييد وتوفيق إلهي في الصبر على شدة الحاجة، وإيثار مراد الغير على مراده، ولو كان به خصاصة، وقد يقال: المراد بالغنى غنى القلب حتى يصبر على فقره، ويتثبت عن التكفف إن كان فقيرا، ولا يبقى
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 018مسلم في كتاب الزكاة حديث 095أبو داود في كتاب الزكاة باب 21، 22. أحمد في مسنده "2/245، 278"
" 3/330، 402".(1/375)
بفوات الوقت ; وسبب للوجوب لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ولإضافة الصلاة إليه ولتغيرها بتغيره صحة وكراهة وفسادا ولتجدد الوجوب بتجدده ولبطلان التقديم عليه، فإن التقديم على الشرط صحيح كالزكاة قبل الحول يحققه أن الوقت وإن لم يكن مؤثرا في ذاته بل بجعل الله تعالى بمعنى أنه تعالى رتب الأحكام على أمور ظاهرة تيسيرا كالملك على الشراء إلى غير ذلك فتكون الأحكام بالنسبة إلينا مضافة إلى هذه الأمور فهذه الأمور مؤثرة في الأحكام بجعل الله تعالى كالنار في الإحراق عند أهل السنة، فإن قيل الحكم قديم فلا يؤثر فيه الحادث
ـــــــ
ثم إن لم تبق القدرة يسقط الإعتاق؛ لأنها لما لم تتصل بالأداء علم أن القدرة المقارنة للأداء لم توجد، وهو الشرط لما ذكرنا أن وجوب الكفارة بالقدرة الميسرة فيشترط بقاؤها. "إلا أن المال هاهنا غير عين فلا يكون الاستهلاك تعديا فيكون كالهلاك" جواب سؤال مقدور، وهو أنه لما سوى بين الزكاة والكفارة في أنهما واجبتان بالقدرة الميسرة ينبغي أن لا تسقط الكفارة بالمال إذا استهلك المال كما لا تسقط الزكاة، فأجاب بأن المال غير معين في الكفارة فلا
................................................................................................
له تعلق قلب بما تصدق به بحيث يفضي إلى إبطاله بالمن، والاستكثار إن كان غنيا، وعلى هذا لا يبقى التمسك المذكور.
قوله: "ولا حد له" أي: للغنى لأنه بكثرة المال، وذلك يتفاوت بتفاوت الأشخاص والأزمان والأحوال فقدره الشارع بالنصاب فصار الغني من له النصاب، والفقير من لا نصاب له، وهو أعم من الفقير المقابل للمسكين بمعنى من له أدنى شيء.
قوله: "لدلالة التخيير" يعني أن التخيير الكامل، وهو التخيير في الصورة والمعنى بأن يكون بين أمور متفاوتة بعضها أسهل من البعض كخصال الكفارة دليل التيسير بخلاف التخيير صورة فقط بأن تكون الأمور متماثلة في المالية كما في صدقة الفطر من نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر، فإنه دليل التأكيد، وأنه لا بد من الأداء البتة.
قوله: "لأن ذا" أي: كون المراد بعدم وجدان المال هو العجز في العمر يبطل أداء الصوم لأن هذا العجز لا يتحقق إلا في آخر العمر، وبعده لا يتصور أداء الصوم فلا يصح ترتب الصوم على عدم الوجدان بهذا المعنى فعلم أن المراد به العجز في الحال مع احتمال أن تحصل القدرة في الاستقبال.
قوله: "حتى إن تحقق القدرة" أراد بها ملك الرقبة أو ثمنها القدرة الحقيقة المستجمعة لجميع شرائط التأثير لأنها لا تكون بدون الإعتاق فلا معنى لزوالها وسقوط الإعتاق.
قوله: "إلا أن المال هاهنا غير عين" فبهذا يخرج الجواب عن إشكال آخر، وهو أن الواجب في الكفارة يعود به هلاك المال بإصابة مال آخر قبل الأداء، ولا يعود في الزكاة فيكون دون الزكاة.(1/376)
قلنا الإيجاب قديم وهو حكمه تعالى في الأزل أنه إذا بلغ زيد يجب عليه ذا وأثره وهو الحكم المصطلح حادث، فإنه مضاف إلى الحادث فلا يوجد قبله. ثم هو سبب لنفس الوجوب ; لأن سببها الحقيقي الإيجاب القديم وهو رتب الحكم على شيء ظاهر فكان هذا سببا لها بالنسبة إلينا، ثم لفظ الأمر لمطالبة ما وجب بالإيجاب المرتب الحكم على ذلك الشيء فيكون سببا لوجوب الأداء، والفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء أن الأول هو اشتغال ذمة المكلف بالشيء، والثاني هو لزوم تفريغ الذمة عما تعلق بها فلا بد له من سبق حق في ذمته فإذا اشترى شيئا يثبت الثمن في الذمة
ـــــــ
يكون الاستهلاك تعديا، وهو في الزكاة معين؛ لأن الواجب جزء من النصاب فتعين أن الواجب من هذا المال، فإذا استهلك المال كله استهلك الواجب فيضمن.
واعلم أن في قولهم إن بقاء القدرة الميسرة شرط لبقاء الواجب، وإلا انقلب اليسر عسرا نوع نظر؛ لأنه إن يسر الله تعالى لنا أمرا لا يلزم من ذلك أن يثبت يسر آخر، وهو بقاء النصاب أبدا، فإن اشتراط هذا اليسر يؤدي إلى فوات أداء الزكاة، فإنه إن أخر أداء الزكاة خمسين سنة، ثم هلك المال بعد ذلك لا يجب عليه شيء، وأيضا لا ينقلب اليسر عسرا، فإن اليسر الذي حصل باشتراط الحول لا ينقلب عسرا بل غايته أن لا يثبت يسرا آخر أنه الميسر للصواب
"فصل: المأمور به نوعان مطلق ومؤقت" هذا الفصل هو أصل الشرائع قد تأسس عليه مباني الأصول والفروع، فإن طالعت هذا الموضع في كتب الأصول علمت سعيي في تنقيح هذه المباحث وتحقيقها المراد بالمطلق غير المؤقت كالكفارات والنذور المطلقة والزكاة. "أما المطلق فعلى التراخي لأنه" أي الأمر. "جاء للفور وجاء للتراخي فلا يثبت الفور
................................................................................................
قوله: "واعلم" اعترض رحمه الله تعالى على قولهم يشترط بقاء القدرة الميسرة لبقاء الواجب لئلا ينقلب اليسر عسرا أولا بأنه يؤدي إلى فوات أداء الزكاة فيما إذا أخر أداء الزكاة خمسين سنة ثم هلك المال، وثانيا بأنا نسلم أنه يلزم من عدم اشتراط بقاء القدرة انقلاب اليسر عسرا بل إنما يلزم ثبوت أحد اليسرين، وهو النماء مثلا دون الآخر، وهو البقاء، فإن حصول القدرة الميسرة يسر وبقاؤها يسر آخر، والجواب عن الأول التزام الفوات في صورة هلاك المال، ولا محذور في ذلك لأنه ما فوت بهذا الحبس على أحد ملكا ولا يدا بل المال حقه ملكا، ويدا، وإنما حق الفقير في أن يعين محلا للصرف إليه ولصاحب المال الخيار في اختيار محل الأداء فلعله حبس عن هذا المحل ليؤدي من محل آخر فلا يضمن ألا يرى أن منع المشتري الدار عن الشفيع حتى صار بحرا، ومنع المولى العبد المديون عن البيع أو العبد الجاني عن أولياء الجناية من غير اختيار الأرش حتى هلك لا يوجب الضمان، وعن الثاني أن معنى انقلاب اليسر إلى العسر أنه وجب بطريق إيجاب القليل من الكثير يسرا أو سهولة فلو أوجبناه على تقدير الهلاك لوجب بطريق الغرامة والتضمين فيصير عسرا، وليس المراد أن نفس اليسر يصير عسرا، فإنه محال عقلا، وإنما يصير اليسير عسيرا، وبالعكس فليتأمل إنه الميسر لكل عسير.(1/377)
أما لزوم الأداء فعند المطالبة بناء على أصل الوجوب وأيضا القضاء واجب على المغمى عليه والنائم والمريض والمسافر ولا أداء عليهم لعدم الخطاب ولا بد للقضاء من وجوب الأصل فيكون نفس الوجوب ثابتا ويكون سببه شيئا غير الخطاب وهو الوقت ثم إذا كان الوقت سببا، وليس ذلك كله لأنه إن وجبت في الوقت تقدم الأداء على السبب، وإن لم تجب فيه تأخر الأداء عن الوقت فالبعض سبب
ـــــــ
إلا بالقرينة، وحيث عدمت يثبت التراخي لا أن الأمر يدل عليه"؛ لأن المراد بالفور الوجوب في الحال، والمراد بالتراخي عدم التقييد بالحال لا التقييد بالمستقبل حتى لو أداه في الحال يخرج عن العهدة، فالفور يحتاج إلى القرينة لا التراخي.
................................................................................................
قوله: "فصل" في تقسيم المأمور به باعتبار أمر غير قائم به وهو الوقت بخلاف ما سبق من التقسيم إلى الأداء والقضاء والحسن لعينه أو لغيره، فإنه كان باعتبار حالة للمأمور به في نفسه فلذا جعله فخر الإسلام رحمه الله تعالى في الدرجة الأولى، وقال في هذا التقسيم لا بد من ترتيبه على الدرجة الأولى أي لا بد من ذكر هذا التقسيم وإيراده عقيب التقسيم الذي ورد في الدرجة الأولى، وهذا الفصل أصل للأحكام الشرعية يبتني عليه أدلة عامة القواعد الكلية والجزئية في الفقه لاشتماله على مباحث المؤقت وغير المؤقت، وما يتعلق بكل من الأقسام والأحكام، وذلك معظم أحكام الإسلام.
قوله: "مطلق ومؤقت" المراد بالمؤقت ما يتعلق بوقت محدود بحيث لا يكون الإتيان به في غير ذلك الوقت أداء بل يكون قضاء كالصلاة خارج الوقت أو لا يكون مشروعا أصلا كالصوم في غير النهار وبالمطلق ما لا يكون كذلك، وإن كان واقعا في وقت لا محالة.
قوله: "أما المطلق فعلى التراخي" اختلفوا في موجب الأمر فذهب كثير إلى أن حقه الفور، والمختار أنه لا يدل على الفور ولا على التراخي بل كل منهما بالقرينة، وهؤلاء يعنون بالفور امتثال المأجور به عقيب ورود الأمر، وبالتراخي الإتيان به متأخرا عن ذلك الوقت، الصحيح من مذهب العلماء الحنفية أنه للتراخي إلا أن مرادهم بالتراخي عدم التقييد بالحال، والمصنف اصطلح على أن المراد بالتراخي عدم التقييد بالحال لا التقييد بالاستقبال فالتراخي عنده أعم من الفور وغيره، وذلك لأنه لما استدل على كون مطلق الأمر للتراخي بأن الأمر جاء للفور وجاء للتراخي فلا يثبت الفور إلا بالقرينة، فعند الإطلاق وعدم القرينة يثبت التراخي لضرورة عدم قرينة الفور لا بدلالة الأمر كان لمعارض أن يقول جاء للفور التراخي فلا يثبت التراخي إلا بقرينة فعند عدمها يثبت الفور، فدفعها المصنف رحمه الله تعالى بأن الفور أمر زائد ثبوتي فيحتاج إلى القرينة، بخلاف التراخي فإنه عدم أصلي فصار ما ذكره موافقا لما هو المختار من أن مطلق الأمر ليس على الفور ولا على التراخي بالمعنى المشهور فلا دلالة للأمر على أحدهما بل كل منهما بالقرينة.
قوله: "أو لا يكون كقضاء رمضان" جعلوا صيام الكفارات والنذور المطلقة وقضاء رمضان من(1/378)
ولا يتعين الأول بدليل الوجوب على من صار أهلا في الآخر إجماعا ولا الآخر، وإلا لما صح التقديم عليه فالجزء الذي اتصل به الأداء سبب فهذا الجزء إن كان كاملا يجب الأداء كاملا، فإذا اعترض عليه الفساد بطلوع الشمس يفسد، وإن كان ناقصا كوقت الأحمر يجب كذلك فإذا اعترض عليه الفساد بالغروب لا يفسد لتحقق الملاءمة بين الواجب والمؤدى فإن قيل يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه
ـــــــ
"وأما المؤقت فإما أن يتضيق الوقت عن الواجب، وهذا غير واقع؛ لأنه تكليف بما لا يطاق إلا لغرض القضاء كمن وجب عليه الصلاة آخر الوقت إما أن يفضل كوقت الصلاة، وإما أن يساوي، وحينئذ إما أن يكون الوقت سببا للوجوب كصوم رمضان أو لا يكون كقضاء رمضان، وقسم آخر كالحج مشكل في أن يفضل أو يساوي كالحج" أما وقت الصلاة فهو ظرف للمؤدي وشرط للأداء إذ الأداء يفوت بفوات الوقت؛ لأن الأداء تسليم عين الثابت بالأمر،
................................................................................................
الوقت باعتبار أن الصوم لا يكون إلا بالنهار، والأظهر أنه من قسم المطلق كما ذهب إليه صاحب الميزان؛ لأن التعلق بالنهار داخل في مفهوم الصوم لا قيد له، ثم القضاء واجب بالسبب السابق، وصوم النذر والكفارة بالنذر والحنث ونحوه فلا يكون النهار الذي يصام فيه سببا لوجوبه.
قوله: "وقسم آخر مشكل" حق التقسيم أن يقال المؤقت إما أن يتضيق وقته أو لا، والثاني إما أن يعلم فضله كالصلاة، وإما أن يعلم مساواته، وحينئذ إما أن تكون مساواته سببا كصوم رمضان أو لا كصوم القضاء، وإما أن لا يعلم فضله ولا مساواته كالحج أو يقال الوقت إما أن يكون سببا للوجوب معيارا للأداء هذا ولا ذاك أو سببا لا معيارا أو بالعكس.
قوله: "أما وقت الصلاة" المؤدى من الصلاة هي الهيئة الحاصلة من الأركان المخصوصة الواقعة في الوقت، والأداء إخراجها من العدم إلى الوجود، والوجوب لزوم وقوعها في ذلك الوقت لشرف فيه فوقت الصلاة ظرف للمؤدى أي زمان يحيط به ويفضل عنه، وهو ظاهر وشرط لأدائه إذ لا يتحقق الأداء بدونه مع أنه غير داخل في مفهوم الأداء، ولا مؤثر في وجوده، وليس شرطا للمؤدي؛ لأن المختلف باختلاف الوقت هو صفة الأداء والقضاء لا نفس الهيئة فإن قلت ظرفية الوقت للمؤدى تستلزم شرطية الأداء فلا حاجة إلى ذكرها قلت لو سلم فلأنا نسلم أنه لزوم بين حتى يستغنى عن ذكره، وأيضا المقصود بيان اشتراك الصلاة والصوم في شرطية الوقت، وامتياز الصلاة بظرفيته والوقت سبب لوجوب المؤدى أي لزوم تلك الهيئة مرتب عليه حتى كأنه المؤثر بالنظر إلينا تيسيرا من الله تعالى على العباد يربط الأحكام بالأسباب الظاهرة كالملك بالشراء من أن النعم مترادفة في الأوقات والعبادة شكر فأقيم المحل مقام الحال، والمتقدمون على أن السبب نعم الله تعالى واختلاف العبادات بحسب اختلاف نعم الله تعالى، واستدل على سببية الوقت بستة أوجه كل منها أمارة تفيد الظن لا القطع لقيام الاحتمال إلا أن المجموع يفيد القطع؛ لأن رجحان المظنون يتزايد بكثرة الأمارات إلى أن يبلغ حد القطع كشجاعة علي رضي الله تعالى عنه وجود حاتم، وفيه مناقشة لا تخفى.(1/379)
في الجزء الصحيح ومدها إلى أن غربت الشمس قلنا لما كان الوقت متسعا جاز له شغل كل الوقت فيعفى الفساد الذي يتصل بالبناء ولو لم يؤد فكل الوقت سبب في حق القضاء ; لأن العدول عن الكل إلى الجزء في الأداء كان لضرورة وقد انتفت هنا فوجب القضاء بصفة الكمال ثم وجوب الأداء يثبت آخر الوقت إذ هنا توجه الخطاب حقيقة ; لأنه الآن يأثم
ـــــــ
والثابت بالأمر هو الصلاة في الوقت أما الصلاة خارج الوقت فتسليم مثل الثابت بالأمر. "وسبب للوجوب لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] ولإضافة الصلاة إليه" إذ الإضافة تدل على اختصاص فمطلقها ينصرف إلى الاختصاص الكامل أن يرى أن قوله المال لزيد ينصرف إلى الاختصاص بطريق الملك، ولو لم يمكن ينصرف إلى ما دونه أما الإضافة بأدنى ملابسة فمجاز فالاختصاص الكامل في مثل قولنا صلاة الفجر إنما هو بالسببية فالأمور التي ذكرنا من الإضافة إلى آخرها كل واحد منها يوجب غلبة الظن بالسببية لكن مجموعها يفيد القطع. "ولتغيرها بتغيره صحة وكراهة وفسادا ولتجدد الوجوب بتجدده ولبطلان التقديم عليه، فإن التقديم على الشرط" أي التقديم على شرط وجوب الأداء صحيح "كالزكاة قبل الحول يحققه" أي يحقق كون الوقت سببا للوجوب. "إن الوقت وإن لم يكن مؤثرا في ذاته بل بجعل الله تعالى بمعنى أنه تعالى رتب الأحكام على أمور ظاهرة تيسيرا كالملك على الشراء إلى غير ذلك فتكون الأحكام بالنسبة إلينا مضافة إلى هذه الأمور فهذه الأمور مؤثرة في الأحكام بجعل الله تعالى كالنار في الإحراق عند أهل السنة، فإن قيل الحكم قديم فلا يؤثر فيه
................................................................................................
قوله: "ولتغيرها" أي لتغير الصلاة بتغير الوقت حيث تصح في وقته الكامل، وتكره في أوقات مخصوصة، وتفسد في غير وقته، والأصل في اختلاف الحكم أن يكون باختلاف السبب، وإن جاز أن يكون باختلاف الظرف أو الشرط إلا أنه لا يقدح في كونه أمارة السببية نعم يرد عليه أن المتغير هو المؤدى أو الأداء والمدعي سببيته لنفس الوجوب.
قوله: "ولتجدد الوجوب بتجدد الوقت" هذا أيضا يفيد الظن؛ لأن دوران الشيء مع الشيء أمارة كون المدار علة للدائر.
قوله: "فإن التقديم على الشرط صحيح" دفع لما يقال إن بطلان تقديم وجوب الصلاة على الوقت لا تدل على سببيته لجواز أن يكون شرطا له، وتقديم الحكم على الشرط أيضا باطل فأجاب بالمنع مستندا بصحة تقديم الزكاة على الحول الذي هو شرط لوجوب الأداء، وفيه نظر؛ لأن بطلان تقديم الشيء على شرطه ضروري؛ لأنه موقوف على الشرط فلا يحصل قبله، وفي الزكاة الحول ليس شرطا للوجوب أو للأداء بل لوجوب الأداء، ولا يتصور تقدمه عليه، بخلاف وقت الصلاة فإنه شرط للأداء فيجوز أن يكون بطلان تقديم الأداء عليه باعتبار شرطيته لا باعتبار سببيته لنفس الوجوب على ما هو المدعى، والحق أن بطلان تقديم الشيء على شرطه أظهر من بطلان تقديمه على السبب(1/380)
بالترك لا قبله حتى إذا مات في الوقت لا شيء عليه، ومن حكم هذا القسم أن الوقت لما لم يكن متعينا شرعا، والاختيار في الأداء إلى العبد لم يتعين بتعيينه نصا إذ ليس له، وضع الشرائع، وإنما له الارتفاق فعلا فيتعين فعلا كالخيار في الكفارات، ومنه أنه لما كان الوقت متسعا شرع فيه غير هذا الواجب فلا بد من تعيين النية، ولا يسقط التعيين إذا ضاق الوقت بحيث لا يسع إلا لهذا الواجب لأن ما ثبت حكما أصليا بناء على سعة الوقت لا يسقط بالعواض وتقصير العباد.
ـــــــ
الحادث قلنا الإيجاب قديم وهو حكمه تعالى في الأزل أنه إذا بلغ زيد يجب عليه ذا وأثره وهو الحكم المصطلح" أي الوجوب "حادث، فإنه مضاف إلى الحادث فلا يوجد قبله.
"ثم هو" أي الوقت لما بين أن الوقت سبب للوجوب أراد أن يبين أن المراد بالوجوب نفس الوجوب لا وجوب الأداء. "سبب لنفس الوجوب؛ لأن سببها الحقيقي الإيجاب القديم وهو رتب الحكم على شيء ظاهر فكان هذا" أي الشيء الظاهر، وهو الوقت "سببا لها" أي لنفس الوجوب "بالنسبة إلينا، ثم لفظ الأمر لمطالبة ما وجب بالإيجاب المرتب الحكم على
................................................................................................
لجواز أن يثبت بأسباب شتى فبطلان التقديم لا يصلح أمارة على السببية، وقد يقال إن احتمال الشرطية قائم إلا أن الأدلة السابقة ترجح جانب السببية كالمشترك يصلح دليلا على أحد مدلوليه بمعونة القرينة.
قوله: "ثم هو سبب لنفس الوجوب" يريد أن هاهنا وجوبا ووجوب أداء ووجود أداء ولكل منها سبب حقيقي وسبب ظاهري فالوجوب سببه الحقيقي هو الإيجاب القديم، وسببه الظاهري هو الوقت، ووجوب الأداء سببه الحقيقي تعلق الطلب بالفعل وسببه الظاهري اللفظ الدال على ذلك، ووجود الأداء سببه الحقيقي خلق الله تعالى وإرادته وسببه الظاهري واستطاعة العبد أي قدرته المؤثرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير فهي لا تكون إلا مع الفعل بالزمان، وهذا معنى قول فخر الإسلام رحمه الله تعالى، ولهذا أي ولكون الوجوب جبرا من الله تعالى بالإيجاب لا بالخطاب كانت الاستطاعة مقارنة للفعل، إذ لو كانت قبله لكانت إما مع الوجوب وهو جبر لا اختيار فيه، أو مع وجوب الأداء، وقد عرفت أن المعتبر فيه صحة الأسباب وسلامة الآلات فتعين أن يكون مع الفعل، وقد صرح بذلك في بعض تصانيفه حيث قال إن السبب موجب، وهو جبري لا يعتمد القدرة، ولذلك لم يشترط القدرة سابقة على الفعل؛ لأن ما قبله نفس الوجوب وهو جبر وجوب الأداء، وأنه لا يعتمد القدرة الحقيقية، أما فعل الأداء فيعتمد القدرة فلذلك كانت الاستطاعة مع الفعل.
قوله: "والفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء" اعلم أن الوجوب في عرف الفقهاء على اختلاف عبارتهم في تفسيره يرجع إلى كون الفعل بحيث يستحق تاركه الذم في العاجل والعقاب في الآجل، فمن هاهنا ذهب جمهور الشافعية إلى أنه لا معنى له إلا لزوم الإتيان بالفعل وأنه لا معنى(1/381)