سد الذرائع وتحريم الحيل المفضية إلى محرم لابن القيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فهذه رسالة قيمة جدا حول مبدأ سد الذرائع وتحريم الحيل المفضية إلى الحرام للإمام العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله جمعتها من كتابه القيم إعلام الموقعين ومن كتابه النفيس إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
تكلم فيها حول هذا الموضوع الخطير والذي نحتاجه كل يوم
والسَّدُّ فِي اللُّغَةِ : إغْلَاقُ - الْخَلَلِ . وَالذَّرِيعَةُ : الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ يُقَالُ : تَذَرَّعَ فُلَانٌ بِذَرِيعَةٍ أَيْ تَوَسَّلَ بِهَا إلَى مَقْصِدِهِ , وَالْجَمْعُ ذَرَائِعُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى فِعْلٍ مَحْظُورٍ . وَمَعْنَى سَدِّ الذَّرِيعَةِ : حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ دَفْعًا لَهَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً إلَى مَفْسَدَةٍ .
وقداخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاعْتِبَارِهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ :
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَأْتِي :(1/1)
1 - قوله تعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } , قَالُوا : نَهَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْكُفَّارِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى , وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ كَلِمَةِ ( رَاعِنَا ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلْيَهُودِ إلَى سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ كَلِمَةَ ( رَاعِنَا ) فِي لُغَتِهِمْ سَبٌّ لِلْمُخَاطَبِ .
2 - قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ , وَمَنْ وَقَعَ فِي الْمُشَبَّهَاتِ كَانَ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى , أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ } . وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ : إنَّ أَبْوَابَ الذَّرَائِعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا .(1/2)
3 - إنَّ إبَاحَةَ الْوَسَائِلِ إلَى الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ نَقْضٌ لِلتَّحْرِيمِ , وَإِغْرَاءٌ لِلنُّفُوسِ بِهِ , وَحِكْمَةُ الشَّارِعِ وَعِلْمُهُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ , بَلْ سِيَاسَةُ مُلُوكِ الدُّنْيَا تَأْبَى ذَلِكَ , فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ مَنَعَ جُنْدَهُ أَوْ رَعِيَّتَهُ مِنْ شَيْءٍ , ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمْ الطُّرُقَ وَالْوَسَائِلَ إلَيْهِ , لَعُدَّ مُتَنَاقِضًا , وَلَحَصَلَ مِنْ جُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ خِلَافُ مَقْصُودِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ إذَا أَرَادُوا حَسْمَ الدَّاءِ مَنَعُوا صَاحِبَهُ مِنْ الطُّرُقِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ , وَإِلَّا فَسَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَرُومُونَ إصْلَاحَهُ .(1/3)
4 - اسْتِقْرَاءُ مَوَارِدِ التَّحْرِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ , كَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ الْعُدْوَانِ , وَمِنْهَا مَا هُوَ تَحْرِيمٌ لِلْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ لِذَلِكَ وَالْمُسَهِّلَةِ لَهُ . اسْتَقْرَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَذَكَرَ لِتَحْرِيمِ الذَّرَائِعِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مِثَالًا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إلَى الزِّنَى : تَحْرِيمُ النَّظَرِ الْمَقْصُودِ إلَى الْمَرْأَةِ , وَتَحْرِيمُ الْخَلْوَةِ بِهَا , وَتَحْرِيمُ إظْهَارِهَا لِلزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ , وَتَحْرِيمُ سَفَرِهَا وَحْدَهَا سَفَرًا بَعِيدًا وَلَوْ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ , وَتَحْرِيمُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَاتِ , وَوُجُوبُ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ إلَى الْبُيُوتِ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ . وَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ : تَحْرِيمُ الْقَلِيلِ مِنْهُ وَلَوْ قَطْرَةً , كَمَا فِي الْحَدِيثِ { لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَأُوشِكُ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ } . وَالنَّهْيُ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ , وَالنَّهْيُ عَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ , وَالنَّهْيُ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي بَعْضِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يُسْرِعُ التَّخَمُّرُ إلَى مَا يُنْتَبَذُ فِيهَا .(1/4)
وَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إلَى الْقَتْلِ : النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ , وَالنَّهْيُ عَنْ تَعَاطِي السَّيْفِ مَسْلُولًا , وَإِيجَابُ الْقِصَاصِ دَرْءًا لِلتَّهَاوُنِ بِالْقَتْلِ , لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } . وَكَثِيرٌ مِنْ مَنْهِيَّاتِ الصَّلَاةِ وَمَكْرُوهَاتِهَا مَرْجِعُهَا إلَى هَذَا الْأَصْلِ , كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ زَوَالِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا , وَكَرَاهَةُ الصَّلَاةِ إلَى الصُّورَةِ , أَوْ النَّارِ , أَوْ وَجْهِ إنْسَانٍ . وَكَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ وَسِيلَةٌ إلَى التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهَا . وَفِي فَسْخِ الْبَيْعِ إنْ وَقَعَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ خِلَافٌ .(1/5)
3 - وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ . وَقَالُوا : إنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ لَيْسَ مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ ; لِأَنَّ الذَّرَائِعَ هِيَ الْوَسَائِلُ , وَالْوَسَائِلُ مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا شَدِيدًا , فَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا , وَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً , وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً , أَوْ مَنْدُوبَةً , أَوْ مُبَاحَةً . وَتَخْتَلِفُ مَعَ مَقَاصِدِهَا حَسَبَ قُوَّةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَضَعْفِهَا , وَخَفَاءِ الْوَسِيلَةِ , وَظُهُورِهَا , فَلَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ دَعْوَى كُلِّيَّةٍ بِاعْتِبَارِهَا وَلَا بِإِلْغَائِهَا , وَمَنْ تَتَبَّعَ فُرُوعَهَا الْفِقْهِيَّةَ ظَهَرَ لَهُ هَذَا , وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي الِاعْتِبَارِ . إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاعْتُبِرْت مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فَضْلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا أَوْ إلْغَاءَهَا . وَقَالُوا : إنَّ الشَّرْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ , كَمَا قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى قَوْمٍ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ , وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَا أَظْهَرُوا . وَحَكَمَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِدَرْءِ الْحَدِّ مَعَ وُجُودِ عَلَامَةِ الزِّنَى , وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَتَتْ بِالْوَلَدِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَكْرُوهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا يُبْطِلُ حُكْمَ الدَّلَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْ الذَّرَائِعِ , فَإِذَا أُبْطِلَ الْأَقْوَى مِنْ الدَّلَائِلِ أُبْطِلَ الْأَضْعَفُ مِنْ الذَّرَائِعِ كُلِّهَا .(1/6)
4 - وَقَدْ قَسَّمَ الْقَرَافِيُّ : الذَّرَائِعَ إلَى الْفَسَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأَمَةُ عَلَى سَدِّهِ وَمَنْعِهِ وَحَسْمِهِ , كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إهْلَاكِهِمْ فِيهَا , وَكَذَلِكَ إلْقَاءُ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ , وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا , وَيُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ سَبِّهَا . وَقِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ , وَأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لَا تُسَدُّ , وَوَسِيلَةٌ لَا تُحْسَمُ , كَالْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ خَشْيَةَ أَنْ تُعْصَرَ مِنْهُ الْخَمْرُ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ , وَكَالْمَنْعِ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْبُيُوتِ خَشْيَةَ الزِّنَى . وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَدُّ أَمْ لَا , كَبُيُوعِ الْآجَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , كَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إلَى شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ , ثُمَّ اشْتَرَاهَا نَقْدًا بِخَمْسَةٍ قَبْلَ آخِرِ الشَّهْرِ . فَمَالِكٌ يَقُولُ : إنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ خَمْسَةً الْآنَ وَأَخَذَ عَشْرَةً آخِرَ الشَّهْرِ , فَهَذِهِ وَسِيلَةٌ لِسَلَفِ خَمْسَةٍ بِعَشْرَةٍ إلَى أَجَلٍ تَوَسُّلًا بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْبَيْعِ لِذَلِكَ . وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : يُنْظَرُ إلَى صُورَةِ الْبَيْعِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ , قَالَ الْقَرَافِيُّ : وَهَذِهِ الْبُيُوعُ تَصِلُ إلَى أَلْفِ مَسْأَلَةٍ اخْتَصَّ بِهَا مَالِكٌ وَخَالَفَهُ فِيهَا الشَّافِعِيُّ .(1/7)
5 - أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ , فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيًّا , فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُسَدُّ , وَلَكِنَّ التَّقِيَّ السُّبْكِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ : لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ , بَلْ هُوَ مِنْ تَحْرِيمِ الْوَسَائِلِ , وَالْوَسَائِلُ تَسْتَلْزِمُ الْمُتَوَسَّلَ إلَيْهِ , وَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا , كَمَنْ حَبَسَ شَخْصًا وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَهَذَا قَاتِلٌ لَهُ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي شَيْءٍ . وَالنِّزَاعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ لَيْسَ فِي الذَّرَائِعِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي سَدِّهَا . وَقَالَ التَّاجُ بْنُ السُّبْكِيّ : وَلَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ يَقُولُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ , فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا . وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِمَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَفْسُدُ عَقْدٌ أَبَدًا إلَّا بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ , وَلَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ تَقَدَّمَهُ وَلَا تَأَخَّرَهُ , وَلَا بِتَوَهُّمٍ . وَلَا تَفْسُدُ الْعُقُودُ بِأَنْ يُقَالَ : هَذِهِ ذَرِيعَةٌ , وَهَذِهِ نِيَّةُ سُوءٍ , أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى سَيْفًا , وَنَوَى بِشِرَائِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ , كَانَ الشِّرَاءُ حَلَالًا , وَكَانَتْ نِيَّةُ الْقَتْلِ غَيْرَ جَائِزَةٍ , وَلَمْ يَبْطُلْ بِهَا الْبَيْعُ . قَالَ : وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْبَائِعُ سَيْفًا مِنْ رَجُلٍ لَا يَرَاهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ رَجُلًا كَانَ هَكَذَا .(1/8)
6 - وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَدُّ فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إلَى الْمَفْسَدَةِ قَلِيلًا أَوْ نَادِرًا . وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ تُسَدُّ سَوَاءٌ قَصَدَ الْفَاعِلُ التَّوَصُّلَ بِهَا إلَى الْفَسَادِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ .
7 - وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِيهِ فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لَكِنَّهُ لَيْسَ غَالِبًا , فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ . وَالْخِلَافُ مِنْ ذَلِكَ جَارٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَدُّهُ مِنْ الذَّرَائِعِ , أَمَّا مَا جَاءَ النَّصُّ بِسَدِّهِ مِنْهَا فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ فَلَا خِلَافَ فِي الْأَخْذِ بِذَلِكَ , كَالنَّهْيِ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَسُبُّوا اللَّهَ تَعَالَى , وَكَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا . وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ حُكْمِ الْمُجْتَهِدِ بِتَحْرِيمِ الْوَسِيلَةِ الْمُبَاحَةِ إنْ كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَوْ الْغَلَبَةِ .
**************
وحتى يكون هذا الموضوع متكاملا فقد قمت بتلخيص أقوال أهل العلم في هذا الموضوع
أخوكم
علي بن حمزة الشامي
13 رجب 1425 هـ الموافق 28/8/2004 م
***********************
وفي الموسوعة الفقهية :
سَدُّ الذَّرَائِعِ . التَّعْرِيفُ :(1/9)
1 - السَّدُّ فِي اللُّغَةِ : إغْلَاقُ - الْخَلَلِ . وَالذَّرِيعَةُ : الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ يُقَالُ : تَذَرَّعَ فُلَانٌ بِذَرِيعَةٍ أَيْ تَوَسَّلَ بِهَا إلَى مَقْصِدِهِ , وَالْجَمْعُ ذَرَائِعُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى فِعْلٍ مَحْظُورٍ . وَمَعْنَى سَدِّ الذَّرِيعَةِ : حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ دَفْعًا لَهَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً إلَى مَفْسَدَةٍ .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :(1/10)
2 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاعْتِبَارِهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ : فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَأْتِي : 1 - قوله تعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } , قَالُوا : نَهَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْكُفَّارِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى , وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ كَلِمَةِ ( رَاعِنَا ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلْيَهُودِ إلَى سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ كَلِمَةَ ( رَاعِنَا ) فِي لُغَتِهِمْ سَبٌّ لِلْمُخَاطَبِ . 2 - قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ , وَمَنْ وَقَعَ فِي الْمُشَبَّهَاتِ كَانَ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى , أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ } . وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ : إنَّ أَبْوَابَ الذَّرَائِعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا .(1/11)
3 - إنَّ إبَاحَةَ الْوَسَائِلِ إلَى الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ نَقْضٌ لِلتَّحْرِيمِ , وَإِغْرَاءٌ لِلنُّفُوسِ بِهِ , وَحِكْمَةُ الشَّارِعِ وَعِلْمُهُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ , بَلْ سِيَاسَةُ مُلُوكِ الدُّنْيَا تَأْبَى ذَلِكَ , فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ مَنَعَ جُنْدَهُ أَوْ رَعِيَّتَهُ مِنْ شَيْءٍ , ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمْ الطُّرُقَ وَالْوَسَائِلَ إلَيْهِ , لَعُدَّ مُتَنَاقِضًا , وَلَحَصَلَ مِنْ جُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ خِلَافُ مَقْصُودِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ إذَا أَرَادُوا حَسْمَ الدَّاءِ مَنَعُوا صَاحِبَهُ مِنْ الطُّرُقِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ , وَإِلَّا فَسَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَرُومُونَ إصْلَاحَهُ . 4 - اسْتِقْرَاءُ مَوَارِدِ التَّحْرِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ , كَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ الْعُدْوَانِ , وَمِنْهَا مَا هُوَ تَحْرِيمٌ لِلْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ لِذَلِكَ وَالْمُسَهِّلَةِ لَهُ . اسْتَقْرَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَذَكَرَ لِتَحْرِيمِ الذَّرَائِعِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مِثَالًا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .(1/12)
فَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إلَى الزِّنَى : تَحْرِيمُ النَّظَرِ الْمَقْصُودِ إلَى الْمَرْأَةِ , وَتَحْرِيمُ الْخَلْوَةِ بِهَا , وَتَحْرِيمُ إظْهَارِهَا لِلزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ , وَتَحْرِيمُ سَفَرِهَا وَحْدَهَا سَفَرًا بَعِيدًا وَلَوْ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ , وَتَحْرِيمُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَاتِ , وَوُجُوبُ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ إلَى الْبُيُوتِ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ . وَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ : تَحْرِيمُ الْقَلِيلِ مِنْهُ وَلَوْ قَطْرَةً , كَمَا فِي الْحَدِيثِ { لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَأُوشِكُ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ } . وَالنَّهْيُ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ , وَالنَّهْيُ عَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ , وَالنَّهْيُ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي بَعْضِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يُسْرِعُ التَّخَمُّرُ إلَى مَا يُنْتَبَذُ فِيهَا . وَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إلَى الْقَتْلِ : النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ , وَالنَّهْيُ عَنْ تَعَاطِي السَّيْفِ مَسْلُولًا , وَإِيجَابُ الْقِصَاصِ دَرْءًا لِلتَّهَاوُنِ بِالْقَتْلِ , لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } . وَكَثِيرٌ مِنْ مَنْهِيَّاتِ الصَّلَاةِ وَمَكْرُوهَاتِهَا مَرْجِعُهَا إلَى هَذَا الْأَصْلِ , كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ زَوَالِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا , وَكَرَاهَةُ الصَّلَاةِ إلَى الصُّورَةِ , أَوْ النَّارِ , أَوْ وَجْهِ إنْسَانٍ . وَكَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ وَسِيلَةٌ إلَى التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهَا .(1/13)
وَفِي فَسْخِ الْبَيْعِ إنْ وَقَعَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ خِلَافٌ . 3 - وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ . وَقَالُوا : إنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ لَيْسَ مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ ; لِأَنَّ الذَّرَائِعَ هِيَ الْوَسَائِلُ , وَالْوَسَائِلُ مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا شَدِيدًا , فَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا , وَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً , وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً , أَوْ مَنْدُوبَةً , أَوْ مُبَاحَةً . وَتَخْتَلِفُ مَعَ مَقَاصِدِهَا حَسَبَ قُوَّةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَضَعْفِهَا , وَخَفَاءِ الْوَسِيلَةِ , وَظُهُورِهَا , فَلَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ دَعْوَى كُلِّيَّةٍ بِاعْتِبَارِهَا وَلَا بِإِلْغَائِهَا , وَمَنْ تَتَبَّعَ فُرُوعَهَا الْفِقْهِيَّةَ ظَهَرَ لَهُ هَذَا , وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي الِاعْتِبَارِ . إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاعْتُبِرْت مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فَضْلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا أَوْ إلْغَاءَهَا . وَقَالُوا : إنَّ الشَّرْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ , كَمَا قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى قَوْمٍ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ , وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَا أَظْهَرُوا . وَحَكَمَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِدَرْءِ الْحَدِّ مَعَ وُجُودِ عَلَامَةِ الزِّنَى , وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَتَتْ بِالْوَلَدِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَكْرُوهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا يُبْطِلُ حُكْمَ الدَّلَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْ الذَّرَائِعِ , فَإِذَا أُبْطِلَ الْأَقْوَى مِنْ الدَّلَائِلِ أُبْطِلَ الْأَضْعَفُ مِنْ الذَّرَائِعِ كُلِّهَا .(1/14)
4 - وَقَدْ قَسَّمَ الْقَرَافِيُّ : الذَّرَائِعَ إلَى الْفَسَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأَمَةُ عَلَى سَدِّهِ وَمَنْعِهِ وَحَسْمِهِ , كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إهْلَاكِهِمْ فِيهَا , وَكَذَلِكَ إلْقَاءُ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ , وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا , وَيُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ سَبِّهَا . وَقِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ , وَأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لَا تُسَدُّ , وَوَسِيلَةٌ لَا تُحْسَمُ , كَالْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ خَشْيَةَ أَنْ تُعْصَرَ مِنْهُ الْخَمْرُ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ , وَكَالْمَنْعِ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْبُيُوتِ خَشْيَةَ الزِّنَى . وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَدُّ أَمْ لَا , كَبُيُوعِ الْآجَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , كَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إلَى شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ , ثُمَّ اشْتَرَاهَا نَقْدًا بِخَمْسَةٍ قَبْلَ آخِرِ الشَّهْرِ . فَمَالِكٌ يَقُولُ : إنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ خَمْسَةً الْآنَ وَأَخَذَ عَشْرَةً آخِرَ الشَّهْرِ , فَهَذِهِ وَسِيلَةٌ لِسَلَفِ خَمْسَةٍ بِعَشْرَةٍ إلَى أَجَلٍ تَوَسُّلًا بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْبَيْعِ لِذَلِكَ . وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : يُنْظَرُ إلَى صُورَةِ الْبَيْعِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ , قَالَ الْقَرَافِيُّ : وَهَذِهِ الْبُيُوعُ تَصِلُ إلَى أَلْفِ مَسْأَلَةٍ اخْتَصَّ بِهَا مَالِكٌ وَخَالَفَهُ فِيهَا الشَّافِعِيُّ .(1/15)
5 - أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ , فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيًّا , فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُسَدُّ , وَلَكِنَّ التَّقِيَّ السُّبْكِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ : لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ , بَلْ هُوَ مِنْ تَحْرِيمِ الْوَسَائِلِ , وَالْوَسَائِلُ تَسْتَلْزِمُ الْمُتَوَسَّلَ إلَيْهِ , وَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا , كَمَنْ حَبَسَ شَخْصًا وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَهَذَا قَاتِلٌ لَهُ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي شَيْءٍ . وَالنِّزَاعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ لَيْسَ فِي الذَّرَائِعِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي سَدِّهَا . وَقَالَ التَّاجُ بْنُ السُّبْكِيّ : وَلَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ يَقُولُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ , فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا . وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِمَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَفْسُدُ عَقْدٌ أَبَدًا إلَّا بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ , وَلَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ تَقَدَّمَهُ وَلَا تَأَخَّرَهُ , وَلَا بِتَوَهُّمٍ . وَلَا تَفْسُدُ الْعُقُودُ بِأَنْ يُقَالَ : هَذِهِ ذَرِيعَةٌ , وَهَذِهِ نِيَّةُ سُوءٍ , أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى سَيْفًا , وَنَوَى بِشِرَائِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ , كَانَ الشِّرَاءُ حَلَالًا , وَكَانَتْ نِيَّةُ الْقَتْلِ غَيْرَ جَائِزَةٍ , وَلَمْ يَبْطُلْ بِهَا الْبَيْعُ . قَالَ : وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْبَائِعُ سَيْفًا مِنْ رَجُلٍ لَا يَرَاهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ رَجُلًا كَانَ هَكَذَا . 6 - وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَدُّ فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إلَى الْمَفْسَدَةِ قَلِيلًا أَوْ نَادِرًا .(1/16)
وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ تُسَدُّ سَوَاءٌ قَصَدَ الْفَاعِلُ التَّوَصُّلَ بِهَا إلَى الْفَسَادِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ . 7 - وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِيهِ فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لَكِنَّهُ لَيْسَ غَالِبًا , فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ . وَالْخِلَافُ مِنْ ذَلِكَ جَارٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَدُّهُ مِنْ الذَّرَائِعِ , أَمَّا مَا جَاءَ النَّصُّ بِسَدِّهِ مِنْهَا فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ فَلَا خِلَافَ فِي الْأَخْذِ بِذَلِكَ , كَالنَّهْيِ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَسُبُّوا اللَّهَ تَعَالَى , وَكَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا . وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ حُكْمِ الْمُجْتَهِدِ بِتَحْرِيمِ الْوَسِيلَةِ الْمُبَاحَةِ إنْ كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَوْ الْغَلَبَةِ .
وَفِيمَا يَلِي فُرُوعٌ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ .
8 - أ - بُيُوعُ الْآجَالِ : وَهِيَ بُيُوعٌ ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ , لَكِنْ مَنَعَ مِنْهَا مَالِكٌ مَا كَثُرَ قَصْدُ النَّاسِ لَهُ تَوَصُّلًا لِلرِّبَا الْمَمْنُوعِ فَيُمْنَعُ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ الْعَاقِدُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ , فَإِنْ قَلَّ قَصْدُ النَّاسِ لَهُ لَمْ يُمْنَعْ . فَمِمَّا يُمْنَعُ مِنْهَا الْبَيْعُ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى سَلَفٍ بِمَنْفَعَةٍ , كَمَا لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِعَشْرَةٍ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بِخَمْسَةٍ نَقْدًا , فَآلَ أَمْرُهُ لِدَفْعِ خَمْسَةٍ نَقْدًا يَأْخُذُ عَنْهَا بَعْدَ الْأَجَلِ عَشْرَةً .
9 - ب - وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ تَأْجِيلِ الصَّدَاقِ :(1/17)
فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَأْجِيلُ الصَّدَاقِ وَلَوْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ كَسَنَةٍ مَثَلًا إنْ كَانَ الْمُؤَجَّلُ الصَّدَاقَ كُلَّهُ , لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ النَّاسُ إلَى النِّكَاحِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَيُظْهِرُوا أَنَّ هُنَاكَ صَدَاقًا مُؤَجَّلًا .
10 - ج - إذَا اشْتَرَى ثَمَرًا عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ جَازَ إنْ شَرَطَا الْقَطْعَ فِي الْحَالِ
, فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ ثُمَّ تُرِكَ عَلَى الشَّجَرِ حَتَّى بَدَا صَلَاحُهُ , فَإِنْ كَانَ قَاصِدًا لِتَرْكِهِ حَالَ الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ , أَمَّا إنْ تَرَكَهُ وَلَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِذَلِكَ حِينَ الْعَقْدِ فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ : أَصَحُّهُمَا : يَبْطُلُ أَيْضًا ; لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى شِرَاءِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ثُمَّ تُتْرَكُ إلَى أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا , فَيَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى الْحَرَامِ , فَيَكُونَ حَرَامًا . وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ , وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ .
11 - د - صِيَامُ يَوْمِ الشَّكِّ وَالسِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ :(1/18)
جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ نَقْلًا عَنْ تُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ : يُكْرَهُ الصَّوْمُ قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ , إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ } قَالَ : وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا اعْتَادُوا ذَلِكَ , وَعَنْ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُكْرَهُ وَصْلُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ . قَالَ : وَلَا يُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ تَطَوُّعًا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْعَوَّامُ لِئَلَّا يَعْتَادُوا صَوْمَهُ فَيَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً فِي رَمَضَانَ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي صِيَامِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ . قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ : كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُلْحَقَ بِرَمَضَانَ صِيَامُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ , وَأَمَّا الرَّجُلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ صِيَامُهَا . وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ } الْحَدِيثُ . قَالَ : وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ صِيَامَهَا فِي غَيْرِهِ خَوْفًا مِنْ إلْحَاقِهَا بِرَمَضَانَ عِنْدَ الْجُهَّالِ . وَإِنَّمَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ مِنْ شَوَّالٍ لِلْخِفَّةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِقُرْبِهِ مِنْ الصَّوْمِ , وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِهِ فَيَشْرَعُ التَّأْخِيرُ جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ . ا هـ . وَإِتْبَاعُ صَوْمِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .(1/19)
12 - هـ - قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ فَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى مَنْعِ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا , وَهُوَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تُهْمَةِ الْقَاضِي , وَالْحُكْمُ بِمَا اشْتَهَى وَيُحِيلُهُ عَلَى عِلْمِهِ . وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ , وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي عَلِمَهَا قَبْلَ وِلَايَتِهِ , لَا فِيمَا عَلِمَهُ مِنْهَا بَعْدَ وِلَايَتِهِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ , وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ : يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ .
فَتْحُ الذَّرَائِعِ :(1/20)
13 - الْمُرَادُ بِفَتْحِ الذَّرَائِعِ تَيْسِيرُ السُّبُلِ إلَى مَصَالِحِ الْبَشَرِ قَالَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الذَّرِيعَةَ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا , وَتُكْرَهُ وَتُنْدَبُ وَتُبَاحُ , فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ هِيَ الْوَسِيلَةُ , فَكَمَا أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ فَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ . وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ , وَإِلَى أَقْبَحِ الْمَقَاصِدِ أَقْبَحُ الْوَسَائِلِ , وَإِلَى مَا يُتَوَسَّطُ مُتَوَسِّطَةٌ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْوَسَائِلِ الْحَسَنَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ فِعْلِهِمْ لِأَنَّهُمَا حَصَلَا لَهُمْ بِسَبَبِ التَّوَسُّلِ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَصَوْنِ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَمْثِلَةً مِنْ ذَلِكَ , مِنْهَا التَّوَسُّلُ إلَى فِدَاءِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ , بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .(1/21)
وَمِنْهَا دَفْعُ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ حَرَامًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ عَنْهَا إلَّا بِذَلِكَ , وَكَدَفْعِ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى لَا يَقَعَ الْقَتْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ عِنْدَ مَالِكٍ , وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الْمَالِ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا . قَالَ : فَهَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا الدَّفْعُ فِيهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ بِأَكْلِ الْمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ , لِرُجْحَانِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَعَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ .
وفي الموسوعة الفقهية أيضا عن الحيل :
( حِيلَةٌ ) التَّعْرِيفُ :
1 - الْحِيلَةُ لُغَةً : الْحِذْقُ فِي تَدْبِيرِ الْأُمُورِ , وَهُوَ تَقْلِيبُ الْفِكْرِ حَتَّى يَهْتَدِيَ إلَى الْمَقْصُودِ , وَأَصْلُ الْيَاءِ وَاوٌ , وَهِيَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى حَالَةٍ مَا , فِي خُفْيَةٍ . وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِي تَعَاطِيهِ خُبْثٌ . وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا فِيهِ حِكْمَةٌ . وَأَصْلُهَا مِنْ الْحَوْلِ , وَهُوَ التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ بِنَوْعِ تَدْبِيرٍ وَلُطْفٍ يُحِيلُ بِهِ الشَّيْءَ عَنْ ظَاهِرِهِ , أَوْ مِنْ الْحَوْلِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ . وَتُجْمَعُ الْحِيلَةُ عَلَى الْحِيَلِ . أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ الْحِيلَةَ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ , فَهِيَ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَحَوَّلُ بِهِ فَاعِلُهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ , ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا عُرْفًا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى حُصُولِ الْغَرَضِ , بِحَيْثُ لَا يُتَفَطَّنُ لَهَا إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :(1/22)
الْخُدْعَةُ : 2 - أَصْلُ الْخُدْعَةِ إخْفَاءُ الشَّيْءِ أَوْ الْفَسَادُ . وَيُرَادُ بِهَا إظْهَارُ مَا يُبْطَنُ خِلَافُهُ , أَرَادَ اجْتِلَابَ نَفْعٍ , أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ , وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تَدَبُّرٍ , وَنَظَرٍ , وَفِكْرٍ , وَهَذَا مَا يُفَرِّقُهُ عَنْ الْحِيلَةِ . فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَدِيعَةِ , وَكَذَلِكَ الْخِلَابَةُ .
الْغُرُورُ : 3 - الْغُرُورُ : إيهَامٌ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِ مَا يَضُرُّهُ .
التَّدْبِيرُ : 4 - التَّدْبِيرُ تَقْوِيمُ الْأَمْرِ عَلَى مَا يَكُونُ فِيهِ صَلَاحُ عَاقِبَتِهِ . وَأَصْلُهُ مِنْ الدُّبُرِ , وَأَدْبَارُ الْأُمُورِ عَوَاقِبُهَا . فَيَشْتَرِكُ التَّدْبِيرُ وَالْحِيلَةُ , مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي كُلِّ إحَالَةِ شَيْءٍ مِنْ جِهَةٍ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى , وَاخْتَصَّ التَّدْبِيرُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ صَلَاحُ الْعَاقِبَةِ , أَمَّا الْحِيلَةُ فَتَعُمُّ الصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ .
الْكَيْدُ : 5 - الْكَيْدُ إيقَاعُ الْمَكْرُوهِ بِالْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ . وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الِاحْتِيَالِ وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا أَوْ مَمْدُوحًا , وَفِي الْأَوَّلِ أَكْثَرُ , وَكَذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجُ وَالْمَكْرُ وَبَعْضُ ذَلِكَ مَمْدُوحٌ كَمَا فِي قوله تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
الْمَكْرُ : 6 - الْمَكْرُ صَرْفُ الْغَيْرِ عَمَّا يَقْصِدُهُ بِحِيلَةٍ , وَمِنْهُ الْمَحْمُودُ وَالْمَذْمُومُ . وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْحِيلَةِ . التَّوْرِيَةُ وَالتَّعْرِيضُ : 7 - التَّوْرِيَةُ وَالتَّعْرِيضُ :
أَنْ تُطْلِقَ لَفْظًا ظَاهِرًا فِي مَعْنًى , وَتُرِيدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ . وَأَصْلُ التَّوْرِيَةِ السِّتْرُ , وَالتَّعْرِيضُ خِلَافُ التَّصْرِيحِ .(1/23)
الذَّرِيعَةُ : 8 - الذَّرِيعَةُ : الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ , وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ قَطْعُ الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمِ .
تَقْسِيمُ الْحِيَلِ :
تَنْقَسِمُ الْحِيَلِ بِاعْتِبَارِ مَشْرُوعِيَّتِهَا إلَى حِيَلٍ مَشْرُوعَةٍ وَحِيَلٍ مُحَرَّمَةٍ . الْحِيَلُ الْمَشْرُوعَةُ : 9 - وَهِيَ الْحِيَلُ الَّتِي تُتَّخَذُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الْمَآثِمِ لِلتَّوَصُّلِ إلَى الْحَلَالِ , أَوْ إلَى الْحُقُوقِ , أَوْ إلَى دَفْعِ بَاطِلٍ , وَهِيَ الْحِيَلُ الَّتِي لَا تَهْدِمُ أَصْلًا مَشْرُوعًا وَلَا تُنَاقِضُ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً . وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أ - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُحَرَّمَةً وَيُقْصَدَ بِهَا الْوُصُولُ إلَى الْمَشْرُوعِ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَيَجْحَدَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ , فَيُقِيمُ صَاحِبُ الْحَقِّ شَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ بِهِ وَلَا يَعْلَمَانِ ثُبُوتَ هَذَا الْحَقِّ . وَمُتَّخِذُ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ الْحِيَلِ يَأْثَمُ عَلَى الْوَسِيلَةِ دُونَ الْقَصْدِ . وَيُجِيزُ هَذَا مَنْ يُجِيزُ مَسْأَلَةَ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ , فَيَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضٍ . ب - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مَشْرُوعَةً وَتُفْضِي إلَى مَشْرُوعٍ . وَمِثَالُهَا الْأَسْبَابُ الَّتِي نَصَبَهَا الشَّارِعُ مُفْضِيَةً إلَى مُسَبَّبَاتِهَا , كَالْبَيْعِ , وَالْإِجَارَةِ وَأَنْوَاعِ الْعُقُودِ الْأُخْرَى , وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّحَيُّلُ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ . ج - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ لَمْ تُوضَعْ وَسِيلَةً إلَى الْمَشْرُوعِ فَيَتَّخِذُهَا الْمُتَحَيِّلُ وَسِيلَةً إلَى ذَلِكَ , وَمِثَالُهُ الْمَعَارِيضُ الْجَائِزَةُ فِي الْكَلَامِ .(1/24)
وَمِنْ الْحِيَلِ الْمَشْرُوعَةِ مَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَحَلُّ تَرَدُّدٍ وَإِشْكَالٍ وَمَوْضِعُ خِلَافٍ . الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ : 10 - وَهِيَ الْحِيَلُ الَّتِي تُتَّخَذُ لِلتَّوَصُّلِ بِهَا إلَى مُحَرَّمٍ , أَوْ إلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ , أَوْ لِتَمْوِيهِ الْبَاطِلِ أَوْ إدْخَالِ الشُّبَهِ فِيهِ . وَهِيَ الْحِيَلُ الَّتِي تَهْدِمُ أَصْلًا شَرْعِيًّا أَوْ تُنَاقِضُ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً . وَالْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْهَا مَا لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَحَلُّ تَرَدُّدٍ وَخِلَافٍ . وَالْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ وَهِيَ : أ - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُحَرَّمَةً وَيُقْصَدَ بِهَا مُحَرَّمٌ : وَمِثَالُهُ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ عَارِ التَّحْلِيلِ , فَإِنَّهُ يُحَالُ لِذَلِكَ بِالْقَدْحِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ , أَوْ الشُّهُودِ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ . ب - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُبَاحَةً فِي نَفْسِهَا وَيُقْصَدَ بِهَا مُحَرَّمٌ . كَمَا يُسَافِرُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ , أَوْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ . ج - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ لَمْ تُوضَعْ وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ بَلْ إلَى الْمَشْرُوعِ , فَيُتَّخَذُهَا الْمُحْتَالُ وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ . كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ لِوَارِثِهِ , فَيَحْتَالَ لِذَلِكَ بِأَنْ يُقِرَّ لَهُ , فَيَتَّخِذَ الْإِقْرَارَ وَسِيلَةً لِلْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ .
أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْحِيَلِ الْمُبَاحَةِ :(1/25)
11 - تَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِالْحِيَلِ الْمَشْرُوعَةِ وَهَذَا بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا : أ - قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوَلَدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } , أَرَادَ بِالْحِيلَةِ التَّحَيُّلَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْكُفَّارِ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا مَنْ عَمِلَهَا . ب - مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ حِيلَةٌ عَلَى حُصُولِ مُسَبَّبَاتِهَا , كَالْأَكْلِ , وَالشُّرْبِ , وَاللُّبْسِ وَالسَّفَرِ الْوَاجِبِ , وَكَذَلِكَ الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا وَمُبَاحُهَا كُلُّهَا حِيلَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , فَإِذَا كَانَتْ الْحِيلَةُ سَبَبًا مَشْرُوعًا وَمَا تُفْضِي إلَيْهِ مَشْرُوعٌ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِهَا . ج - إنَّ الْعَاجِزَ الَّذِي لَا حِيلَةَ عِنْدَهُ لِجَهْلِهِ بِطُرُقِ تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ مَذْمُومٌ , لِأَنَّهُ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِطُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ خَفِيِّهَا وَظَاهِرِهَا , فَيُحْسِنُ التَّوَصُّلَ إلَى مَقَاصِدِهِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ , وَيَعْرِفُ طُرُقَ الشَّرِّ الظَّاهِرَةَ وَالْخَفِيَّةَ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى خِدَاعِهِ وَالْمَكْرِ بِهِ فَيَحْتَرِزُ مِنْهَا . وَقَدْ كَانَ { حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ - رضي الله عنه - أَعْلَمَ النَّاسِ بِالشَّرِّ وَالْفِتَنِ , وَكَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَيْرِ , وَكَانَ هُوَ يَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَهُ } .(1/26)
د - إنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ حُرِّمَتْ الْحِيَلُ هُوَ أَنَّهَا تَهْدِمُ الْأُصُولَ الشَّرْعِيَّةَ , وَتُنَاقِضُ الْمَصَالِحَ الشَّرْعِيَّةَ , فَإِذَا انْتَفَى هَذَا الْمَعْنَى وَكَانَتْ الْحِيَلُ مِمَّا لَا يُنَاقِضُ الْأُصُولَ الشَّرْعِيَّةَ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِهَا بَلْ كَانَتْ مِنْ الْمَشْرُوعِ . هـ - أَجَازَتْ الشَّرِيعَةُ لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إحْرَازًا لِدَمِهِ , وَفِي هَذَا تَحَيُّلٌ عَلَى إحْرَازِ الدَّمِ , وَالتَّحَيُّلُ هُنَا كَالتَّحَيُّلِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ إحْرَازًا لِلدَّمِ , كَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : صلى الله عليه وسلم { فَإِذَا قَالُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } فَكُلٌّ مِنْ الْحَالَتَيْنِ نَطَقَ بِكَلِمَةٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ مَعْنَاهَا تَوَصُّلًا إلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ , وَهُوَ إحْرَازُ الدَّمِ , فَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ . و - إنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْحَرَامِ إلَى الْحَلَالِ وَالتَّخَلُّصَ مِنْ الْمَآثِمِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا , وَالتَّحَيُّلُ لَهُ بِاِتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ وَالْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَيْهِ أَمْرٍ مَطْلُوبٍ شَرْعًا كَذَلِكَ , وَلَا تَخْرُجُ الْحِيَلُ الْمُبَاحَةُ عَنْ هَذَا .(1/27)
مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } وَهِيَ حِيلَةٌ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْحِنْثِ , وَقَدْ عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي زَنَى , وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ فِي السُّنَنِ , حَيْثُ إنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ { اشْتَكَى رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى أَضْنَى , فَعَادَ جِلْدَةً عَلَى عَظْمٍ , فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ لِبَعْضِهِمْ , فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا , فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَالُ قَوْمِهِ يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ , وَقَالَ : اسْتَفْتُوا لِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي قَدْ وَقَعَتْ عَلَى جَارِيَةٍ دَخَلَتْ عَلَيَّ , فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا بِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الضُّرِّ مِثْلَ الَّذِي هُوَ بِهِ , لَوْ حَمَلْنَاهُ إلَيْك لَتَفَسَّخَتْ عِظَامُهُ , مَا هُوَ إلَّا جِلْدٌ عَلَى عَظْمٍ , فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ مِائَةَ شِمْرَاخٍ , فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً } . وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ , فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا ا بِالصَّاعَيْنِ , وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ , ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } .(1/28)
وَفِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا , وَنَهْيِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِثْلِهِ خُرُوجٌ مِمَّا لَا يَحِلُّ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا إلَى مَا يَحِلُّ وَهُوَ الْبَيْعُ , وَهُوَ خُرُوجٌ مِنْ الْإِثْمِ .
أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ :(1/29)
12 - إنَّ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ تَقُومُ عَلَى الْمُخَادَعَةِ وَالتَّلْبِيسِ وَالتَّدْلِيسِ , وَعَلَى اتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ الْمَشْرُوعَةِ , وَغَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ , لِلْوُصُولِ إلَى الْحَرَامِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ : 1 - قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . لِأَنَّ فِيهِ اسْتِحْلَالَ الزِّنَى بِاسْمِ النِّكَاحِ , فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَلِّلِ تَزَوَّجْت هَذِهِ الْمَرْأَةَ , أَوْ قَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ , وَهُوَ غَيْرُ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَةِ النِّكَاحِ وَلَا يَقْصِدُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ , وَلَا هِيَ مَرِيدَةٌ لِذَلِكَ وَلَا الْوَلِيُّ , فَقَدْ تَوَسَّلَ بِاللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ إلَى مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ , أَوْ إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ , وَهُوَ عَوْدُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ . وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ : لَا , إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ , لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ , وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ اللَّهِ , ثُمَّ يَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا } . 2 - قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ , حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا } فَاحْتَالُوا عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الشُّحُومِ بِأَكْلِ أَثْمَانِهَا .(1/30)
3 - قَوْلُ الْمُرَابِي بِعْتُك هَذِهِ السِّلْعَةَ بِكَذَا كَمَا فِي بَيْعِ الْعِينَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا , وَلَمْ يَكُنْ مَرِيدًا لِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي غَرَضٌ فِي السِّلْعَةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , وَإِنَّمَا قَصَدَ الْبَائِعُ عَوْدَ السِّلْعَةِ إلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ . وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ الْعِينَةِ , فَقَالَا إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , فَسَمَّيَا ذَلِكَ خِدَاعًا . 4 - لَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْيَهُودَ عَلَى تَحَايُلِهِمْ عَلَى الْحَرَامِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } , فَلَقَدْ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ يَعْمَلُوا فِي السَّبْتِ شَيْئًا , فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ , وَيَجْعَلُ لَهَا نَهَرًا إلَى الْبَحْرِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ فَتَحَ النَّهَرَ فَأَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ , فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ , جَاءُوا فَأَخَذُوا مَا تَجَمَّعَ فِي الْحَفِيرَةِ مِنْ حِيتَانٍ وَقَالُوا : إنَّمَا صِدْنَاهُ يَوْمَ الْأَحَدِ , فَعُوقِبُوا بِالْمَسْخِ قِرَدَةً لِأَنَّهُمْ اسْتَحَلُّوا الْحَرَامَ بِالْحِيلَةِ .(1/31)
وَلَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ارْتِكَابِ الْحِيَلِ , كَمَا فَعَلَتْهُ بَنُو إسْرَائِيلَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } . وَمَعْنَى أَدْنَى الْحِيَلِ , أَيْ أَسْهَلِهَا وَأَقْرَبِهَا , كَمَا فِي الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا , فَمِنْ السَّهْلِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ مَالًا لِمَنْ يَنْكِحُ مُطَلَّقَتَهُ لِيُحِلَّهَا لَهُ , بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي هِيَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ , فَإِنَّهَا يَصْعُبُ مَعَهَا عَوْدُهَا إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ , فَمِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا إلَّا دِرْهَمًا بِاسْمِ الْقَرْضِ , وَيَبِيعَهُ خِرْقَةً تُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٍ , فَإِنَّهَا مِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ إلَى الرِّبَا وَأَسْهَلِهَا , كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ فِي الِاعْتِدَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ . 5 - قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِهَا وَنِيَّاتِهَا , وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ وَأَبْطَنَهُ لَا مَا أَعْلَنَهُ وَأَظْهَرَهُ , فَمَنْ نَوَى الرِّبَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَأَدَّى إلَى الرِّبَا كَانَ مُرَابِيًا , وَكُلُّ عَمَلٍ قُصِدَ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى تَفْوِيتِ حَقٍّ كَانَ مُحَرَّمًا . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( مَخَارِجُ ) .
***********
وفي فتاوى الأزهر :
الموضوع (331) الحيل
.المفتى : فضيلة الشيخ عطية صقر.مايو 1997
المبدأ : القرآن والسنة.(1/32)
سئل : قد يصعب فى بعض الأحيان تنفيذ حكم من الأحكام ، فيفكر بعضى الناس فى حيلة تعفى من تنفيذ هذا الحكم دون مؤاخذة عليه فهل الحيل مشروعة أو ممنوعة ؟
أجاب :
عقد البخارى فى صحيحه كتابا عن الحيل وأورد صورا منها فى العبادات وغيرها ، وابن حجر فى كتابه فتح البارى " ج 12 ص 342 " ذكر أن الحيلة هى ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفى. وحكم عليها بقوله : وهى عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها-أى الداعى إليها -فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهى حرام ، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهى واجبة أو مستحبة ، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع فى مكروه فهى مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهى مكروهة. ثم قال : ووقع الخلاف بين الأئمة فى القسم الأول : هل يصح مطلقا وينفذ ظاهرا وباطنا ، أو يبطل مطلقا ، أو يصح مع الإثم. ولمن أجازها مطلقا أو أبطلها مطلقا أدلة كثيرة.
فمن الأول قوله تعالى { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } ص : 44 ، وهو فى حق أيوب حين حلف أن يضرب زوجته مائة جلدة-وقد عمل به النبى صلى الله عليه وسلم فى حق الضعيف الذى زنى - هو من حديث أبى أمامة بن سهل فى السنن. ومنه قوله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا} الطلاق : 2 ، والحيل فيها مخارج من المضايق فتكون جائزة. ومن الثانى قصة أصحاب السبت وحديث " حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها " وحديث لعن المحلل والمحلل له.(1/33)
والأصل فى اختلاف العلماء فى ذلك اختلافهم : هل المعتبر فى صيغ العقود ألفاظها أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجاز الحيل. ثم اختلفوا فمنهم من جعلها تنفذ ظاهرا وباطنا فى جميع الصور أو فى بعضها، ومنهم من قال : تنفذ ظاهرًا لا باطنا ، ومن قال بالثانى أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذى تدل عليه القرائن الحالية. وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية، لكون أبى يوسف صنف فيها كتابا، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق. قال صاحب المحيط : أصل الحيل قوله تعالى { وخذ بيدك ضغثا} الآية، وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد عن الإثم فحسن ، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا، بل هى إثم وعدوان.
ثم قال ابن حجر: نص الشافعى على كراهة تعاطى- الحيل فى تفويت الحقوق ، فقال بعض أصحابه : هى كراهة تنزيه - أى لا عقوبة فيها - وقال كثير من محققيهم كالغزالى : هى كراهة تحريم - أى فيها عقوبة - ويأثم بقصده ، ويدل عليه قول " وإنما لكل امرائ ما نوى " فمن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ودخل فى الوعيد على ذلك باللعن ، ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح. وكل شىء قصد به تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله كان إثما ، ثم قال : وفى الجملة فلا يلزم من صحة العقد فى الظاهر رفع الحرج عمن يتعاطى الحيلة الباطلة فى الباطن. وقد نقل النسفى الحنفى فى "الكافى " عن محمد بن الحسن قال :
ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصِّلة إلى إبطال الحق.(1/34)
والقرطبى فى تفسيره "ج 9 ص 236 " عند قوله تعالى{ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف } يوسف : 76 ، قال فى قوله : {كذلك كدنا ليوسف } جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة ولا هدمت أصلا، خلافا لأبى حنيفة فى تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول وحرمت التحليل. وذكر أن العلماء أجمعوا على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف فى ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة. وقال : من رام أن ينقض شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها لا يفلح ولا يقوم بذلك عذره عند الله ، وما أجازه الفقهاء من تصرف صاحب المال فى ماله قرب حلول الحول إنما هو ما لم يرد بذلك الهرب من الزكاة. ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقط ، والله حسيبه.
ولم يرتض القرطبى-ومذهبه مالكى-ما رآه الشافعية أو بعضهم من جواز الحيلة للوصول إلى المباح واستخراج الحقوق.
هذه نبذة عن الحيل واختلاف العلماء فى جوازها ومنعها، وفى اختلافهم رحمة ، وفى رأى أن ربطها بالنية مطلوب ، وما ذكره ابن حجر فى ذلك جميل.
*****************
الموضوع (1324) الحيل المشروعة وغيرها.
المفتى : فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق.
17 محرم 1402 هجرية - 14 نوفمبر 1981 م.
المبادئ:
1 - الحيل المشروعة هى ما لا تهدم أصلا شرعيا ولا تتعارض مع مصلحة شرعية.
2 - مبنى الشريعة على مصالح العباد فى العالج والآجل.
3 - قبض الشخص مبلغا لشراء شىء ثم استقطاعه منه مبلغ باعتبار أنه حقه ورده الباقى لصاحبه من الحيل غير المشروعة.
سئل : بالطلب المقيد وبه أن السائل يشتغل فى شركة قطاع خاص، وقد اتفق معه صاحب العمل على أجر إضافى بواقع 50 % من الأجر الأصلى إذا مكث فى العمل من الساعة السابعة صباحا حتى الساعة السادسة مساء، وأنه قبل ونفذ العمل فى هذه المدة طوال أيام الشهر، وأنه فى نهاية الشهر صرف له صاحب العمل المرتب فقط، وامتنع عن صرف ال- 50 % المتفق عليها أجرا إضافيا.(1/35)
وأن السائل بحكم وضعه فى العمل قبض مبلغ 130 جنيها لشراء مستلزمات للورشة، مع أن الورشة فى غير حاجة إلى شراء هذه المستلزمات وبعد أن قبض هذا المبلغ فى يده ذهب إلى الإدارة المالية بالشركة لحساب قيمة الأجر الإضافى وهو ال- 50 % فبلغ 95 جنيها أخذها من المبلغ الذى كان قد قبضه لحساب شراء المستلزمات ورد إلى إدارة الشركة الباقى وهو 35 جنيها - إعلاما لصاحب العمل بأنه قد فعل ذلك لهذا الغرض.
والسؤال ما رأى الدين هل طريقة أخذه للمبلغ والحصول عليه حرام أو حلال.
أجاب :
فى لسان العرب لابن منظور أن الحيلة - بالكسر - الاسم من الاحتيال، ويقال لا حيلة له ولا احتيال ولا محالة ولا محيلة، والاحتيال مطالبتك الشىء بالحيل.
وقال الشاطبى فى كتاب الموافقات فى أصول الشريعة التحيل بوجه سائغ، مشروع فى الظاهر، أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قبله إلى حكم آخر، بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة، فتفعل، ليتوصل بها إلى الغرض المقصود، مع العلم بكونها لم تشرع له، فكان التحيل مشتملا على أمرين أحدهما قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض فى ظاهر الأمر.
والآخر جعل الأفعال المقوصد بها فى الشرع معان، وسائل إلى قلب تلك الأحكام.
ثم قال الحيل فى الدين بالمعنى المذكور غير مشورعة فى الجملة والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة، لكن فى خصوصات يفهم من مجموعاها منعها والنهى عنها على القطع.(1/36)
وساق الشاطبى الأدلة على هذه القاعدة التى قررها إلى أن قال لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك ، لأن مقصود الشارع فيها مما يتبين، فإذا كان الأمر فى ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع، لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى هى معانيها، وهى المصالح التى شرعت لأجلها، فالذى عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات ( ج - 2 ص 378، 380 حتى 385 وما بعدها تحقيق المرحوم الشيخ عبد الله دراز طبع المكتبة التجارية ) وقد أقام الشاطبى حكمه هذا على الاحتيال والحيلة على جملة من الأصول الشرعية الكلية، والقواعد القطعية موجزها.
أولا الاحيتال ومخالفة قصد الشارع ذلك أن المحتال قد قصد إلى ما ينافى قصد الشارع فبطل عمله لأن قصد المكلف ينبغى أن يكون موافقا لقصد الشارع، ومن ابتغى غير هذا فأولئك هم العادون، لأنه ناقض الشريعة وكل من ناقضها كان عمله النقيض باطلا.
وقد أقام الشاطبى الأدلة على أن مخالفة قصد الشارع مبطلة للعمل.(1/37)
باعتبار أن هذه المقاصد مشروعة للامتثال ( الموافقات ج - 2 ص 231 وما بعدها ) ثانيا الاحتيال وقاعدة اعتبال المآل فقد بين الشاطبى أن تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعى أو تحويله فى الظاهر إلى حكم آخر، كان مآل العمل خرم قواعد الشريعة فى الواقع ( المرجع السابق ج - 4 ص 201 ) إذ أن هذا العمل مناقض لقاعدة المصالح مع أنها معتبرة فى الأحكام وهو أيضا مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد سببا وحصل فى الوجود صار مقتضيا شرعا لمسببه لا لغيرة وما كان مضادا لقصد الشارع كان باطلا ( ذات المرجع ج - 2 ص 278 ) ثالثا - فى الاحتيال انعدام الإرادة فى العقد المتحيل به ذلك أن ركن العقد هو الرضا، وإذا كانت الإرادة أمرا خفيا لا يطلع عليه أحد جعل الشارع مظنة الرضا، وهو صيغة العقد قائمة مقام الرضا، وإذا قصد العاقد خلاف معنى لفظ العقد لم يصح القول بأنه قاصد لمدلوله حكما، وترتب الأثر إنما يكون بحكم الشارع لا بإرادة العاقد ( المرجع السابق ج - 1 ص 216 ص 330 وأعلام الموقعين لابن القيم ج - 3 ص 95 وما بعدها طبع ادارة الطباعة المنيرية ) هذا.(1/38)
وقد أفاض ابن القيم فى الحديث عن الحيل مبينا منها المحرم والمباح موردا أمثلة شتى بلغت المائة وست عشرة مثالا ( المرجع السابق ج - 3 ص 140 وما بعدها حتى نهاية الجزء و ج - 4 من افتتاحه حتى ص 101، واغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم ج - 2 ص 69 ) هذا ولما كان قد تردد فى بعض النقول السابقة أن الحيلة قد تكون مباحة، لا سيما بعد ما سلف من أن ابن القيم قد أورد أمثلة للمباح منها فى كتابيه أعلام الموقعين، وإغاثه اللهفان من مصايد الشيطان - لزم أن نشير إلى ضابط عام للحيل المشروعة ذلك أن الحيل التى جاء الشرع بذمها والتحذير منها، بل وإبطالها هى ما هدم أصلا شرعيا، أو نقض مصلحة شرعية، فان كانت الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا، ولا تناقض مصلحة شهد الشارع باعتبارها، فهى غير داخلة فى النهى وغير باطلة.
وقد وقع اختلاف الفقهاء فى بعض مسائل الحيل من جهة أنه لم يتبين فيها بدليل واضح أنها من النوع المحظور، أو من ذلك النوع المشروع ، ومن ثم يلحقها بعضهم بالأول، بينما قد يلحقها بعضهم بالثانى والحيل المشروعة هى ما كان المقصود بها إحياء حق، أو دفع ظلم أو فعل واجب، أو ترك محرم، أو إحقاق حق، أو إبطال باطل، ونحو ذلك مما يحقق مقصود الشارع الحكيم، إذا كان الطريق سائغا مأذونا فيه شرعا.
وبهذا الاعتبار يمكن تعريف الحيلة الجائزة بأنها.
طريق خفى مأذون فيه شرعا، يتوصل به إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة لا تتنافى ومقاصد الشرع ولا بد فيها من توافر ثلاثة أمور الأول أن يكون طريقها خفيا، إما لأن ظاهرة خلاف باطنه، أو لأن الذهن لا يلتفت إلى هذا الطريق عادة وإن لم يكن له ظاهر وباطن.
الثانى أن يكون الطريق مأذونا فيه شرعا، بألا يكون فيه تفويت حق الله أو للعباد.
الثالث أن يكون المقصود الذى يراد التوصل إليه مشروعا.(1/39)
ومع هذه الأمور قد قسموا الحيل الجائزة إلى قسمين الأول أن تكون الطريق التى يسلكها المحتال مفضية إلى المقصود شرعا ، ولكن فى إفضائها إليه نوع خفاء.
أما إن كانت مفضية إلى المقصود إفضاء ظاهرا بوضع الشارع لها فليست من الحيل عند الاطلاق لغة، كالعقود الشرعية التى تترتب عليها أحكامها مثل البيع والإقالة والكفالة والحوالة والإجارة والسلم والخيارات، فإن أحكامها تترتب عليها بحكم الشارع وإذنه، وهى فى الأحكام التشريعية وزان الأسباب الحسية فى الأحكام القدرية كل يفضى إلى المقصود وسالكه سالك للطريق المشروع.
الثانى أن تكون الطريق التى يسلكها المحتال لمقصوده قد وضعت فى الشرع لمقصود آخر، غير أن ما يقصده المحتال منها لا يتنافى مع ما يقصده الشارع، فإن حصلت المنافاة بين المقصودين كانت الحيلة من الفريق المحظور ( هذا التقسيم وما قبله من سمات الحيل الجائزة مستخلص من المراجع السابقة ) وقد قال ابن القيم فى إغاثة اللهفان بعد إيراده لأمثلة من الحيل الجائزة بلغت ثمانين مثالا، قال والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها مما لم نذكره بيان أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وسهله للأمة عن الدخول فى الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال، كما إغنانا عن كل باطل ومحرم وضار ، وبما هو أنفع لنا منه من الحق والمباح النافع.
( ج - 2 ص 69 ) لما كان ذلك وكان بناء الشريعة على مصالح العباد فى العاجل والآجل وهذا ثابت بالعديد الوفير من آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت الأعمال متعبرة بذلك، لأن مقصود الشارع فيها.(1/40)
فإذا كان الأمر فى ظاهره وباطنه أصل المشروعية، كان موافقا لأحكام الشرع دون إشكال، وإن كان الظاهر موافقا والباطن مخالفا فالعمل غير صحيح وغير مشروع لوجوه الأول أن الشارع لما لم يشرع هذا السبب لذلك المسبب المعين دل على أن ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة، وأن المصلحة المشروع لها المسبب منتفية بذلك التسبب، فيصبح العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع.
الثانى أن هذا السبب بالنسبة إلى المقصود غير مشروع، فصار كالسبب الذى لم يشرع أصلا، وإذا كان السبب الذى لم يشرع أصلا لا يصح، فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له.
الثالث أن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود بها أمور أخر هى معانيها، وهى المصالح التى شرعت لأصلها، فما يفعل على غير وضعه الشرعى لا يكون مشروعا.
من أجل ذلك كانت قاعدة سد الذرائع من قواعد الشريعة الثابتة قطعا بالكتاب والسنة، لأن من الأفعال ما يكون مباحا فى ذاته، ولكنه يؤدى إلى الإضرار بالدين أو بالعباد، فإجازة الحيل بإطلاق فيه عبث ظاهر بالحقوق، فوق ما فيه من مناكير أخرى يأباها الإسلام.
وإذا كانت العقود الشرعية معتبرة، وسد الذرائع قاعدة سديدة ثابتة وفق الأدلة المشروحة فى مواضعها، والمشار إلى بعضها فيما تقدم، كان ما فعله السائل داخلا فى نطاق الحيلة غير المشروعة، لأنه قد اقتضى من صاحب العمل مبلغا من النقود نقدا بقصد شراء مستلزمات للعمل الذى يقوم به لحساب رب العمل، وتكييف هذا أنه صار وكيلا فى هذا الشراء وأمينا على ما أقبضه إياه، وهذا هو القصد المشروع من هذا الفعل، والذى يقره الشرع حين أقبضه المبغل (130 جنيها) فإذا ما اقتضى السائل من هذا المبلغ ما اعتبره دينار له على رب العمل فقد احتال إلى هذا بطريق غير مشروع لاقتضاء الدين الذى قد يكون محل منازعة، وقد انقلب السائل بهذا العمل إلى قاض يقضى لنفسه فى خصومة هو مدعيها، دون رضاء أو استماع لأقوال المدعى عليه رب العمل.(1/41)
وبذلك فقد ظفر السائر - بغير اختيار من عليه الحق - بما يدعيه حقا له مع أن سبب الحق فى هذه الواقعة ليس ثابتا طقعا، والآخذ بهذا الطريق ظالم فى الظاهر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الفعال وسمى الآخذ بهذا الطريق خائنا فى الحديث الذى رواه أبو هريرة ( الكنز الثمين فى أحاديث النبى الأمين برقم 109 ومراجعة من كتب السنة ) ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) ونزولا على هذا الحديث كان على السائل سلوك الطريق القانونى لاقتضاء الحق إن كان.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
******************
وقال ابن العربي :
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قوله تعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
.(1/42)
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : لَا تَسُبُّوا آلِهَةَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا إلَهَكُمْ وَكَذَلِكَ هُوَ ; فَإِنَّ السَّبَّ فِي غَيْرِ الْحُجَّةِ فِعْلُ الْأَدْنِيَاءِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ; وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ , وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } ; فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إلَى مَحْظُورٍ ; وَلِأَجْلِ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ , وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ ; وَسَتَرَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُنَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا لَنَسُبَّنَّ إلَهَكُمْ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَكُفَّ عَنْ حَقٍّ [ يَكُونُ ] لَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ يَكُونُ فِي الدِّينِ ؟ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ , اخْتِصَارُهُ : أَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَيَأْخُذُهُ بِكُلِّ حَالٍ , وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ :(1/43)
إذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ الَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ , فَفِيهِ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَهْلٌ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ , وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : يَأْكُلُ مِنْهُ . وَقَالَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِنَا : إنَّهُ إذَا أَكَلَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ فِدْيَةِ الْأَذَى بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحَلَّتَهُ غَرِمَ . وَمَاذَا يَغْرَمُ ؟ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ الْهَدْيَ كُلَّهُ ; قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ . الثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا غُرْمُ قَدْرِ مَا أَكَلَ , وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ , لَا شَيْءَ غَيْرُهُ . وَكَذَا لَوْ نَذَرَ هَدْيَ الْمَسَاكِينِ , فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحِلَّهُ لَا يَغْرَمُ إلَّا مَا أَكَلَ , خِلَافًا لِلْمُدَوِّنَةِ ; لِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي مَا ذَكَرْته لَكُمْ , إذْ النَّحْرُ قَدْ وَقَعَ , وَالتَّعَدِّي إنَّمَا هُوَ فِي اللَّحْمِ , فَيَغْرَمُ بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى فِيهِ . وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يَغْرَمُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ اللَّحْمِ . وَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ : إنَّهُ يَغْرَمُهُ طَعَامًا .(1/44)
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ الطَّعَامَ إنَّمَا هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْهَدْيِ كُلِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ عِبَادَةً , وَلَيْسَ حُكْمُ التَّعَدِّي حُكْمَ الْعِبَادَةِ , فَأَمَّا إذَا عَطِبَ الْوَاجِبُ كُلُّهُ قَبْلَ مَحَلِّهِ فَلِيَأْكُلْ مِنْهُ ; لِأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ , وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ لَمْ يَأْكُلْ ; لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ أَسْرَعَ بِهِ لِيَأْكُلَهُ , وَهَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ , وَهِيَ :
وفي أنوار البروق :
( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَقَاصِدِ وَقَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ )(1/45)
وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْ الْوَسَائِلِ بِالذَّرَائِعِ وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَصْحَابِنَا وَهَذَا اللَّفْظُ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِنَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ سَدُّ الذَّرَائِعِ وَمَعْنَاهُ حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ دَفْعًا لَهَا فَمَتَى كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً لِلْمَفْسَدَةِ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَلَيْسَ سَدُّ الذَّرَائِعِ مِنْ خَوَاصِّ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بَلْ الذَّرَائِعُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى سَدِّهِ وَمَنْعِهِ وَحَسْمِهِ كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إهْلَاكِهِمْ وَكَذَلِكَ إلْقَاءُ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ وَسَبُّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ سَبِّهَا وَقِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ وَأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لَا تُسَدُّ وَوَسِيلَةٌ لَا تُحْسَمُ كَالْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ خَشْيَةَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَكَالْمَنْعِ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْبُيُوتِ خَشْيَةَ الزِّنَى .(1/46)
وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَدُّ أَمْ لَا ؟ كَبُيُوعِ الْآجَالِ عِنْدَنَا كَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ قَبْلَ الشَّهْرِ فَمَالِكٌ يَقُولُ : إنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ خَمْسَةً الْآنَ وَأَخَذَ عَشْرَةً آخِرَ الشَّهْرِ فَهَذِهِ وَسِيلَةٌ لِسَلَفِ خَمْسَةٍ بِعَشْرَةٍ إلَى أَجَلٍ تَوَسُّلًا بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْبَيْعِ لِذَلِكَ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ يُنْظَرُ إلَى صُورَةِ الْبَيْعِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْبُيُوعُ يُقَالُ إنَّهَا تَصِلُ إلَى أَلْفِ مَسْأَلَةٍ اخْتَصَّ بِهَا مَالِكٌ وَخَالَفَهُ فِيهَا الشَّافِعِيُّ وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي النَّظَرِ إلَى النِّسَاءِ هَلْ يُحَرَّمُ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الزِّنَى أَوْ لَا يُحَرَّمُ وَالْحُكْمُ بِالْعِلْمِ هَلْ يُحَرَّمُ ; لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْقُضَاةِ السُّوءِ أَوْ لَا يُحَرَّمُ وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ ; لِأَنَّهُمْ يُؤَثِّرُونَ فِي السِّلَعِ بِصَنْعَتِهِمْ فَتَتَغَيَّرُ السِّلَعُ فَلَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا بِيعَتْ فَيَضْمَنُونَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْأَخْذِ أَمْ لَا يَضْمَنُونَ ; لِأَنَّهُمْ أُجَرَاءُ وَأَصْلُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَمَانَةِ قَوْلَانِ وَكَذَلِكَ تَضْمِينُ حَمَلَةِ الطَّعَامِ لِئَلَّا تَمْتَدَّ أَيْدِيهِمْ إلَيْهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَسَائِلِ فَنَحْنُ قُلْنَا بِسَدِّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ سَدُّ الذَّرَائِعِ خَاصًّا بِمَالِكٍ رحمه الله بَلْ قَالَ بِهَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَأَصْلُ سَدِّهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . ((1/47)
تَنْبِيهٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الذَّرِيعَةَ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا وَتُكْرَهُ وَتُنْدَبُ وَتُبَاحُ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ هِيَ الْوَسِيلَةُ فَكَمَا أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ فَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَمَوَارِدُ الْأَحْكَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ مَقَاصِدُ وَهِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي أَنْفُسِهَا وَوَسَائِلُ وَهِيَ الطُّرُقُ الْمُفْضِيَةُ إلَيْهَا وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ غَيْرَ أَنَّهَا أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْمَقَاصِدِ فِي حُكْمِهَا وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ وَإِلَى أَقْبَحِ الْمَقَاصِدِ أَقْبَحُ الْوَسَائِلِ وَإِلَى مَا يُتَوَسَّطُ مُتَوَسِّطَةٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْوَسَائِلِ الْحَسَنَةِ قوله تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ فِعْلِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا حَصَلَا لَهُمْ بِسَبَبِ التَّوَسُّلِ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَصَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الِاسْتِعْدَادُ وَسِيلَةَ الْوَسِيلَةِ . ((1/48)
تَنْبِيهٌ ) الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ كُلَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَقْصِدِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَسِيلَةِ فَإِنَّهَا تَبَعٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ خُولِفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَجِّ فِي إمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إزَالَةِ الشَّعْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ . ( تَنْبِيهٌ ) قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةُ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إذَا أَفَضْت إلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَالتَّوَسُّلِ إلَى فِدَاءِ الْأَسَارَى بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا وَكَدَفْعِ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ حَرَامًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ عَنْهَا إلَّا بِذَلِكَ , وَكَدَفْعِ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى لَا يَقَعَ الْقَتْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله تعالى وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا , فَهَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا الدَّفْعُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ بِأَكْلِ الْمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِرُجْحَانِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ . ((1/49)
تَنْبِيهٌ ) تَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ فَرْقٌ آخَرُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ , فَإِنَّ الْأَسْبَابَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَسَائِلِ وَقَدْ الْتَبَسَتْ هَاهُنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَأَمَّا الْمَعَاصِي فَلَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَلِذَلِكَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ ; لِأَنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ ; لِأَنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا .(1/50)
وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَلَا تَمْتَنِعُ إجْمَاعًا كَمَا يَجُوزُ لِأَفْسَقِ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمْ التَّيَمُّمُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ رُخْصَةٌ وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ إذَا أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ وَالْجُلُوسُ إذَا أَضَرَّ بِهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ وَيُقَارِضُ وَيُسَاقِي وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الرُّخَصِ وَلَا تَمْنَعُ الْمَعَاصِي مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَسْبَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ بَلْ هِيَ عَجْزُهُ عَنْ الصَّوْمِ وَنَحْوُهُ وَالْعَجْزُ لَيْسَ مَعْصِيَةً فَالْمَعْصِيَةُ هَاهُنَا مُقَارَنَةٌ لِلسَّبَبِ لَا سَبَبٌ وَبِهَذَا الْفَرْقِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ إذَا اضْطَرَّ إلَيْهَا ; لِأَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِ خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا سَفَرُهُ فَالْمَعْصِيَةُ مُقَارِنَةٌ لِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لَا أَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ لَا يُبِيحَ لِلْعَاصِي جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ فَهُوَ جَلِيلٌ حَسَنٌ فِي الْفِقْهِ وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يَجْعَلَ السَّفَرَ هُوَ سَبَبُ عَدَمِ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ حَتَّى احْتَاجَ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِيَسْرِقَ فَوَقَعَ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ أَنْ لَا يَمْسَحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَلَا يُفْطِرَ إذَا خَافَ مِنْ الصَّوْمِ وَمِنْ الْكَسْرِ الْهَلَاكَ وَأَنْ لَا يَتَيَمَّمَ إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَتَّى يَتُوبَ كَمَا قَالَ فِي الْأَكْلِ فِي السَّفَرِ فَيَلْزَمُ بَقَاءُ الْمُصِرِّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ بِلَا صَلَاةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ وَتَتَعَطَّلُ عَلَيْهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا قَائِلَ بِهَا(1/51)
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَقَاصِدِ وَقَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ ) قُلْت : جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ غَيْرَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْوَسَائِلِ حُكْمُ مَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِيمَا لَمْ يُصَرِّحْ الشَّرْعُ بِوُجُوبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
((1/52)
الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَقَاصِدِ وَقَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ ) وَكَذَا بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ . أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَاصِدِ وَالْوَسَائِلِ فَهُوَ أَنَّ مَوَارِدَ الْأَحْكَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ : الْأُولَى الْمَقَاصِدُ وَهِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي أَنْفُسِهَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو إسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ وَقَوْلُ الرَّازِيُّ إنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ لَيْسَتْ مُعَلَّلَةً بِعِلَّةٍ أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَهُ كَذَلِكَ خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ وَذَلِكَ ; لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَا مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمَصَالِح الْعِبَادِ اسْتِقْرَاءً لَا يُنَازِعُ فِيهِ الرَّازِيُّ وَلَا غَيْرُهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَهِيَ الْأَصْلُ { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } { وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } وَقَالَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } .(1/53)
وَأَمَّا التَّعَالِيلُ لِتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى كَقَوْلِهِ بَعْدَ آيَةِ الْوُضُوءِ { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } وَقَالَ فِي الصِّيَامِ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وَفِي الصَّلَاةِ { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } . وَقَالَ فِي الْقِبْلَةِ { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } وَفِي الْجِهَادِ { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } وَفِي الْقِصَاصِ { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } وَفِي التَّقْرِيرِ عَلَى التَّوْحِيدِ بِ { أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ وَإِذَا دَلَّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَى هَذَا وَكَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَبَتَ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ فَلْنَجْرِ عَلَى مُقْتَضَاهُ وَيَبْقَى الْبَحْثُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ مَوْكُولًا إلَى عِلْمِهِ ثُمَّ إنَّهُ قَسَّمَ الْمَقَاصِدَ وَبَيَّنَ أَقْسَامَهَا بِمَسَائِلَ بَدِيعَةٍ فَانْظُرْهُ .(1/54)
الْقِسْمُ الثَّانِي : الْوَسَائِلُ وَالْمَشْهُورُ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالذَّرَائِعِ وَهِيَ الطُّرُقُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمَقَاصِدِ قِيلَ وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَفْضَتْ إلَيْهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهَا أَخْفَضُ رُتْبَةً فِي حُكْمِهَا مِمَّا أَفْضَتْ إلَيْهِ فَلَيْسَ كُلُّ ذَرِيعَةٍ يَجِبُ سَدُّهَا بَلْ الذَّرِيعَةُ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا وَتُكْرَهُ وَتُنْدَبُ وَتُبَاحُ بَلْ قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إذَا أَفْضَتْ إلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَالتَّوَسُّلِ إلَى فِدَاءِ الْأَسَارَى بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِنَاءً عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَنَا مِنْ خِطَابِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَكَدَفْعِ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ حَرَامًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ عَنْهَا إلَّا بِذَلِكَ وَكَدَفْعِ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى لَا يَقَعَ الْقَتْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله تعالى وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْوَسَائِلِ الْحَسَنَةِ قوله تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ فِعْلِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ حَصَلَا لَهُمْ بِسَبَبِ التَّوَسُّلِ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَصَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الِاسْتِعْدَادُ وَسِيلَةَ(1/55)
الْوَسِيلَةِ فَالذَّرَائِعُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُحَرَّمِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ . ( وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى سَدِّهِ وَمَنْعِهِ وَحَسْمِهِ وَلَهُ مَثَلٌ مِنْهَا حَفْرُ الْآبَارِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إهْلَاكِهِمْ فِيهَا وَمِنْهَا إلْقَاءُ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ , وَمِنْهَا سَبُّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ سَبِّهَا . ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ وَأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لَا تُسَدُّ وَوَسِيلَةٌ لَا تُحْسَمُ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا زِرَاعَةُ الْعِنَبِ وَسِيلَةٌ إلَى الْخَمْرِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْمَنْعِ مِنْهَا خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَمِنْهَا الْمُجَاوَرَةُ فِي الْبُيُوتِ وَسِيلَةٌ إلَى الزِّنَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَنْعِهَا خَشْيَةَ الزِّنَا . ( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَدُّ أَمْ لَا , وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا بُيُوعُ الْآجَالِ وَهِيَ كَمَا قِيلَ تَصِلُ إلَى أَلْفِ مَسْأَلَةٍ كَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ قَبْلَ الشَّهْرِ فَاخْتَصَّ مَالِكٌ رحمه الله تعالى بِالْقَوْلِ بِوُجُوبِ سَدِّهَا نَظَرًا إلَى أَنَّهُ تَوَسُّلٌ بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْبَيْعِ لِسَلَفِ خَمْسَةٍ بِعَشَرَةٍ إلَى أَجَلٍ مَثَلًا ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ خَمْسَةً الْآنَ وَأَخَذَ عَشَرَةً آخِرَ الشَّهْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ .(1/56)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُنْظَرُ إلَى صُورَةِ الْبَيْعِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَمِنْهَا النَّظَرُ إلَى النِّسَاءِ قِيلَ يُحَرَّمُ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الزِّنَا وَقِيلَ لَا يُحَرَّمُ وَمِنْهَا حَكَمَ بِعِلْمِهِ قِيلَ يُحَرَّمُ ; لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْقُضَاةِ السُّوءِ , وَقِيلَ لَا يُحَرَّمُ وَمِنْهَا صُنَّاعُ السِّلَعِ قِيلَ يَضْمَنُونَهَا إذَا ادَّعَوْا ضَيَاعَهَا سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْأَخْذِ ; لِأَنَّهُمْ يُؤَثِّرُونَ فِيهَا بِصَنْعَتِهِمْ فَتَتَغَيَّرُ فَلَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا بِيعَتْ وَقِيلَ لَا يَضْمَنُونَ ; لِأَنَّهُمْ أُجَرَاءُ وَأَصْلُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَمَانَةِ , وَمِنْهَا حَمَلَةُ الطَّعَامِ قِيلَ : يَضْمَنُونَهُ إذَا تَلِفَ لِئَلَّا تَمْتَدَّ أَيْدِيهِمْ إلَيْهِ , وَقِيلَ : لَا يَضْمَنُونَهُ قُلْت وَمِنْهَا آلَاتُ الْمَلَاهِي فَإِنَّهَا مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا إنْ تَرَتَّبَ فُسُوقٌ وَمَشْهُورُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا كَمَا فِي مَجْمُوعِ الْأَمِيرِ وَالصَّاوِيِّ عَلَى أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ بَلْ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الزَّوَاجِرِ وَقَدْ حَكَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الْمِزْمَارِ الْعِرَاقِيِّ وَمَا يُضْرَبُ بِهِ مِنْ الْأَوْتَارِ ا هـ .(1/57)
وَاخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً وَالْأَصَحُّ الثَّانِي كَمَا فِي الدُّسُوقِيِّ عَلَى الدَّرْدِيرِ عَلَى خَلِيلٍ وَفِي الْإِحْيَاءِ الْمَنْعُ مِنْ الْأَوْتَارِ كُلِّهَا لِثَلَاثِ عِلَلٍ : كَوْنُهَا تَدْعُو إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ تَدْعُو إلَيْهَا فَلِهَذَا حُرِّمَ شُرْبُ قَلِيلِهَا , وَكَوْنُهَا فِي قَرِيبِ الْعَهْدِ بِشُرْبِهَا تُذَكِّرُهُ مَجَالِسَ الشُّرْبِ وَالذِّكْرُ سَبَبُ انْبِعَاثِ الْفُسُوقِ وَانْبِعَاثُهُ سَبَبُ الْإِقْدَامِ , وَكَوْنُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَوْتَارِ صَارَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ مَعَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ كَمَا فِي الزَّوَاجِرِ قَالَ أَيْ فَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ وَفِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَلَا يَبْعُدُ مَا فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّظَرِ لِمَا يَتَرَتَّبُ ا هـ . قَالَ الشَّيْخُ حِجَازِيٌّ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ فَمَنْ حَسُنَ قَصْدُهُ وَتَطَهَّرَ مِنْ حُظُوظِ الشَّهَوَاتِ وَرَذَائِلِ الشُّبُهَاتِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى سَمَاعِهِ بِالْحُرْمَةِ ا هـ الْمُرَادُ . وَفِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ دَاعِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ فَلِذَا قَالَ وَلَا يَبْعُدُ إلَخْ وَلَمْ يَجْزِمْ ا هـ . بِتَغْيِيرٍ . وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي قُلْنَا بِسَدِّهَا وَلَمْ يَقُلْ بِسَدِّهَا الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ سَدُّ الذَّرَائِعِ خَاصًّا بِمَالِكٍ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بَلْ قَالَ بِهَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَأَصْلُ سَدِّهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ا هـ .(1/58)
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَكَوْنُ مَا أَفْضَى إلَى الْوَاجِبِ وَاجِبًا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِيمَا لَمْ يُصَرِّحْ الشَّرْعُ بِوُجُوبِهِ ا هـ . ( تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ) قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَقَاعِدَةُ الذَّرِيعَةِ الَّتِي يَجِبُ سَدُّهَا شَرْعًا هُوَ مَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ إلَى مَحْظُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقِ مَحْظُورٍ فَمِنْ هُنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِي الْوَلِيُّ فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِصْلَاحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي آيَةِ { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } إلَخْ فَلَا يُقَالُ لِمَ تَرَكَ مَالِكٌ أَصْلَهُ فِي التُّهْمَةِ وَالذَّرَائِعِ وَجَوَّزَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ يَتِيمَتِهِ ; لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا فِي صُورَةِ الْمُخَالَطَةِ وَوَكَلَ الْحَاضِنِينَ إلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَوَكَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْمُكَلَّفَ إلَى أَمَانَتِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ يَتَذَرَّعُ إلَى مَحْظُورٍ فَمَنَعَ مِنْهُ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى فُرُوجِهِنَّ مَعَ عِظَمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْسَابِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ فَتَأَمَّلُوهُ وَاِتَّخِذُوهُ دُسْتُورًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَصِّلُوهُ ا(1/59)
هـ . ( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) قَالَ الْأَصْلُ الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ كُلَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَقْصِدِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَسِيلَةِ فَإِنَّهَا تَبَعٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ خُولِفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَجِّ فِي إمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إزَالَةِ الشَّعْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ ا هـ . قُلْت : وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ أَغْلَبِيَّةٌ كَقَاعِدَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَكَذَا كَوْنُ الْوَسِيلَةِ إلَى أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ أَفْضَلَ الْوَسَائِلِ وَإِلَى أَقْبَحِ الْمَقَاصِدِ أَقْبَحَ الْوَسَائِلِ وَإِلَى مَا يَتَوَسَّطُ مُتَوَسِّطَةً كَمَا لَا يَخْفَى فَافْهَمْ . ( وَأَمَّا الْفَرْقُ ) بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخْصِ ; لِأَنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا فَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ كَالْآبِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَلَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ ; لِأَنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ الرُّخْصَتَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ .(1/60)
وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَلَا تَمْتَنِعُ إجْمَاعًا وَمِنْ مِثْلِهِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَفْسَقُ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمْ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَهُوَ رُخْصَةٌ , وَإِذَا أَضَرَّ الصَّوْمُ بِأَفْسَقِ النَّاسِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَإِذَا أَضَرَّ بِهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ جَازَ لَهُ الْجُلُوسُ وَيُقَارِضُ وَيُسَاقِي وَلَا يَمْنَعُهُ عِصْيَانُهُ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرُّخْصِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّ أَسْبَابَ هَذِهِ الرُّخَصِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مُقَارِنَةٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ أَوْ الْعَجْزُ عَنْ الصَّوْمِ أَوْ عَنْ الْقِيَامِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا لَيْسَ هُوَ بِمَعْصِيَةٍ لَا أَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ إذَا اضْطَرَّ إلَيْهَا وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُبِيحَ لِلْعَاصِي جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَا قَالَهُ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ضَرُورَةَ أَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِ خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا سَفَرِهِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ فَالْمَعْصِيَةُ مُقَارِنَةٌ لِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لَا أَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُسَدُّ مِنْ الذَّرَائِعِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُسَدُّ مِنْهُمَا )(1/61)
اعْلَمْ أَنَّ الذَّرِيعَةَ هِيَ الْوَسِيلَةُ لِلشَّيْءِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى سَدِّهِ وَمِنْهَا مَا أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ سَدِّهِ وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ , فَالْمُجْمَعُ عَلَى عَدَمِ سَدِّهِ كَالْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَالتَّجَاوُرِ فِي الْبُيُوتِ خَشْيَةَ الزِّنَا فَلَمْ يُمْنَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ وَسِيلَةً لِلْمُحَرَّمِ , وَمَا أُجْمِعَ عَلَى سَدِّهِ كَالْمَنْعِ مِنْ سَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَئِذٍ , وَكَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عَلِمَ وُقُوعَهُمْ فِيهَا أَوْ ظَنَّ وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَهَا فَيَهْلَكُونَ وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَالنَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِلزِّنَا , وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ مَعَهَا وَمِنْهَا بُيُوعُ الْآجَالِ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله وَيُحْكَى عَنْ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ اخْتِصَاصُهُ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ مِنْهَا مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ عَدَمُ فَائِدَةِ اسْتِدْلَالِ الْأَصْحَابِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } فَذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ بِحَبْسِ الصَّيْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبِقَوْلِهِ عليه السلام { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ(1/62)
فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُفْتَرِقَيْنِ وَتَحْرِيمُهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ لِذَرِيعَةِ الرِّبَا , وَلِقَوْلِهِ عليه السلام { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ شَهَادَةَ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ } خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ وَمَنَعَ شَهَادَةَ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَالْعَكْسَ , فَهَذِهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَهِيَ لَا تُفِيدُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعِ فِي الْجُمْلَةِ , وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الذَّرَائِعِ خَاصَّةً وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ وَإِلَّا فَهَذِهِ لَا تُفِيدُ وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّتُهُمْ الْقِيَاسَ خَاصَّةً وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ إبْدَاءُ الْجَامِعِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِدَفْعِهِ بِالْفَارِقِ وَيَكُونُ دَلِيلُهُمْ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ الْقِيَاسُ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُدْرِكَهُمْ هَذِهِ النُّصُوصُ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ , بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَذْكُرُوا نُصُوصًا أُخَرَ خَاصَّةً بِذَرَائِعِ بُيُوعِ الْآجَالِ خَاصَّةً وَيَقْتَصِرُونَ عَلَيْهَا , نَحْوُ مَا فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ أُمَّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَتْ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْته بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ(1/63)
أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ قَالَتْ أَرَأَيْتنِي إنْ أَخَذْته بِرَأْسِ مَالِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } فَهَذِهِ هِيَ صُورَةُ النِّزَاعِ , وَهَذَا التَّغْلِيظُ الْعَظِيمُ لَا تَقُولُهُ رضي الله عنها إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ فَتَكُونُ هَذِهِ الذَّرَائِعُ وَاجِبَةَ السَّدِّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ( سُؤَالٌ ) زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم كُلُّهُمْ عُدُولٌ سَادَةٌ أَتْقِيَاءُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ فِعْلُ مَا يُقَالُ فِيهِ ذَلِكَ ( جَوَابُهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ هَذِهِ الْمُبَايَعَةُ كَانَتْ بَيْنَ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قَبْلَ الْعِتْقِ فَيَتَخَرَّجُ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الذَّرَائِعِ وَلَعَلَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ قَالَ وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي زَيْدٍ أَنَّهُ وَطِئَ أُمَّ وَلَدِهِ عَلَى شِرَاءِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إلَى أَجَلٍ ( سُؤَالٌ ) إذَا قُلْنَا بِالتَّحْرِيمِ عَلَى رَأْيِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَمَا مَعْنَى إحْبَاطِ الْجِهَادِ وَإِحْبَاطُ الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالشِّرْكِ ( جَوَابُهُ ) أَنَّ الْإِحْبَاطَ إحْبَاطَانِ إحْبَاطُ إسْقَاطٍ وَهُوَ إحْبَاطُ الْكُفْرِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْهَا مَعَهُ وَإِحْبَاطُ مُوَازَنَةٍ وَهُوَ وَزْنُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالسَّيِّئِ فَإِنْ رَجَحَ(1/64)
السَّيِّئُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَالصَّالِحُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ كِلَاهُمَا مُعْتَبَرٌ غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَمَعَ الْكُفْرِ لَا عِبْرَةَ أَلْبَتَّةَ فَالْإِحْبَاطُ فِي الْأَثَرِ إحْبَاطُ مُوَازَنَةٍ بَقِيَ كَيْفَ يُحْبِطُ هَذَا الْفِعْلُ جُمْلَةَ ثَوَابِ الْجِهَادِ قُلْت لَهُ مَعْنَيَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ لَا التَّحْقِيقُ ( وَثَانِيهَا ) أَنَّ مَجْمُوعَ الثَّوَابِ الْمُتَحَصِّلِ مِنْ الْجِهَادِ لَيْسَ بَاقِيًا بَعْدَ هَذِهِ السَّبَبِيَّةِ , بَلْ بَعْضُهُ , فَيَكُونُ الْإِحْبَاطُ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ وَظَاهِرُ الْإِحْبَاطِ وَالتَّوْبَةِ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ أَمَّا يَتْرُكُ التَّعَلُّمَ لِحَالِ هَذَا الْعَقْدِ قَبْلَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ فِيهِ وَرَأَتْ أَنَّ اجْتِهَادَهُ مِمَّا يَجِبُ نَقْضُهُ وَعَدَمُ إقْرَارِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ أَوْ هُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فَخَشِيَتْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ فَيَنْفَتِحَ بَابُ الرِّبَا بِسَبَبِهِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَتِهِ فَيَعْظُمُ الْإِحْبَاطُ فِي حَقِّهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْإِحْبَاطِ قَوْلُهُ عليه السلام { مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } أَيْ بِالْمُوَازَنَةِ وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ فِي سَدِّ ذَرَائِعِ بُيُوعِ الْآجَالِ الَّتِي هِيَ صُورَةُ النِّزَاعِ وَإِنْ خَالَفَنَا فِي تَفْصِيلِ بَعْضِهَا .(1/65)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَمْتَنِعُ بَيْعُ السِّلْعَةِ مِنْ أَبِ الْبَائِعِ بِمَا تَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ الْبَائِعِ وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَبِمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أُتِيَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ أَتَمْرُ خَيْبَرُ كُلُّهُ هَكَذَا فَقَالُوا إنَّا نَبْتَاعُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ تَمْرِ الْجَمْعِ فَقَالَ عليه السلام لَا تَفْعَلُوا هَذَا , وَلَكِنْ بِيعُوا تَمْرَ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَرُوا بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } فَهُوَ بَيْعُ صَاعٍ بِصَاعَيْنِ وَإِنَّمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الدَّرَاهِمِ فَأُبِيحَ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ خَاصٌّ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ عَامٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ , وَعَنْ الثَّانِي إنَّا إنَّمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الثَّانِي مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي الْخَبَرِ مَعَ أَنَّ بَيْعَ النَّقْدِ إذَا تَقَابَضَا فِيهِ ضَعُفَتْ التُّهْمَةُ وَإِنَّمَا الْمَنْعُ حَيْثُ تَقْوَى وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُقْتَضِيَ لِلْفَسَادِ لَا يَكُونُ فَاسِدًا إذَا صَحَّتْ أَرْكَانُهُ كَبَيْعِ السَّيْفِ مِنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْعِنَبِ مِنْ الْخَمَّارِ مَعَ أَنَّ الْفَسَادَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ أَعْظَمُ مِنْ سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ ذَهَابِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ , وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفَسَادَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْقَصْدِ بِالذَّاتِ بِخِلَافِ عُقُودِ صُوَرِ النِّزَاعِ فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْرَاضَ الْفَاسِدَةَ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْعَقْدِ ; لِأَنَّهُ(1/66)
الْمُحَصِّلُ لَهَا وَالْبَيْعُ لَيْسَ مُحَصِّلًا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَعَمَلِ الْخَمْرِ .
( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُسَدُّ مِنْ الذَّرَائِعِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُسَدُّ مِنْهَا ) الذَّرِيعَةُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ وَأَصْلُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ مَا تَأْلَفُهُ النَّاقَةُ الشَّارِدَةُ مِنْ الْحَيَوَانِ لِتُضْبَطَ بِهِ , ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى الْبَيْعِ الْجَائِزِ صُورَةً الْمُتَخَيَّلِ بِهِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ وَهُوَ السَّلَفُ الْجَارُّ نَفْعًا , وَكَذَا غَيْرُ الْبَيْعِ عَلَى وَجْهِ التَّخَيُّلِ بِهِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ وَسِيلَةً لِشَيْءٍ مَا عَدَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ كَأَنْ يُكْرِمَ بَائِعٌ مَنْ أُرِيدَ الشِّرَاءُ مِنْهُ لِأَجْلِ أَنْ يَغُرَّهُ بِالْبَيْعِ لَهُ بِثَمَنٍ مُرْتَفِعٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ بِتَشْبِيهِ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ وَسِيلَةً لِشَيْءٍ غَيْرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِجَامِعِ مُطْلَقِ التَّوَسُّلِ فِي كُلٍّ , ثُمَّ صَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَانْقَسَمَتْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ سَدِّهِ أَيْ عَلَى إلْغَاءِ حُكْمِهِ كَالْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَالْمَنْعِ مِنْ التَّجَاوُرِ فِي الْبُيُوتِ خَشْيَةَ الزِّنَى فَلَمْ يُمْنَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ وَسِيلَةً وَسَبَبًا لِلْمُحَرَّمِ ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا أَجْمَعُوا عَلَى سَدِّهِ أَيْ إعْمَالِ حُكْمِهِ كَالْمَنْعِ مِنْ سَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَئِذٍ وَالْمَنْعُ مِنْ حَفْرِ الْآبَارِ فِي(1/67)
طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عَلِمَ وُقُوعَهُمْ فِيهَا أَوْ ظَنَّ وَالْمَنْعُ مِنْ إلْقَاءِ السُّمِّ فِي أَطْعِمَةِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَهَا فَيَهْلَكُونَ وَالْمَنْعُ مِنْ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُجْتَمِعَيْنِ خَشْيَةَ الرِّبَا وَحِوَارُهُمَا مُفْتَرِقِينَ لقوله تعالى { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } وقوله تعالى { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } حَيْثُ ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ بِحَبْسِ الصَّيْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حَرُمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } . وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ شَهَادَةَ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ } خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ وَمَنَعَ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَالْعَكْسَ فَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ سَدَّ الذَّرَائِعِ فِي الْجُمْلَةِ , وَلَيْسَ الْمَذْهَبُ الْمَالِكِيُّ مُخْتَصًّا بِسَدِّهَا كَمَا يُحْكَى ذَلِكَ عَنْهُ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَالنَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِلزِّنَى قَالَ الْعَدَوِيُّ عَلَى الْخَرَشِيِّ أَيْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَمَالِكٌ يُجِيزُهُ وَغَيْرُهُ يَمْنَعُهُ أَمَّا بِشَهْوَةٍ فَمُتَّفَقٌ عَلَى مَنْعِهِ ا هـ .(1/68)
وَكَالتَّحَدُّثِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ حَيْثُ مَا ذُكِرَ قَالَ الْعَدَوِيُّ أَيْضًا فَمَذْهَبُنَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ إنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ ا هـ . أَيْ شُرَّاح خَلِيلٍ وَكَبُيُوعِ الْآجَالِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ مَنْعُهَا بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْبَيْعَةُ الْأُولَى لِأَجَلٍ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا هُوَ الْبَائِعُ أَوْ لَا أَوْ مَنْ تَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ وَثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ ثَانِيًا هُوَ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا أَوْ مَنْ تَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ وَالْمُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ وَكِيلُهُ سَوَاءٌ عَلِمَ الْوَكِيلُ أَوْ الْمُوَكِّلُ بَيْعَ الْآخَرِ وَشِرَاءَهُ أَوْ جَهْلًا وَعَبْدُ كُلٍّ إنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ وَهُوَ يَتَّجِرُ لِلسَّيِّدِ كَوَكِيلِهِ وَرَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا هُوَ الْمَبِيعُ أَوَّلًا وَخَامِسُهَا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ الثَّانِي مِنْ صِفَةِ ثَمَنِهِ الَّذِي بَاعَ بِهِ أَوَّلًا ; لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صُورَةِ بَيْعٍ جَائِزٌ فِي الظَّاهِرِ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَثُرَ قَصْدُ النَّاسِ التَّوَصُّلَ إلَى مَمْنُوعٍ فِي الْبَاطِنِ كَبَيْعٍ بِسُلَفٍ وَسَلَفٍ بِمَنْفَعَةٍ مُنِعَتْ قِيَاسًا عَلَى الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعِ عَلَى مَنْعِهَا بِجَامِعِ أَنَّ الْأَغْرَاضَ الْفَاسِدَةَ فِي كُلٍّ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى عَقْدِهَا ; لِأَنَّهُ الْمُحَصِّلُ لَهَا بِخِلَافِ نَحْوِ بَيْعِ السَّيْفِ مِنْ نَحْوِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُحَصِّلًا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْفَسَادَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ أَعْظَمُ مِنْ سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا(1/69)
لِمَا فِيهِ مِنْ ذَهَابِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذْ الْفَسَادُ لَيْسَ مَقْصُودًا مِنْ الْبَيْعِ بِالذَّاتِ حَتَّى يَكُونَ بَاعِثًا عَلَى عَقْدِهِ كَصُورَةِ النِّزَاعِ فَافْهَمْ قَالَ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ وَالصُّوَرُ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا مَالِكٌ فِي الذَّرَائِعِ فِي هَذِهِ الْبُيُوعِ هِيَ أَنْ يَتَذَرَّعَ مِنْهَا إلَى أَنْظِرْنِي أَزِدْك أَوْ إلَى بَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا أَوْ بَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ نَسَاءً أَوْ إلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ أَوْ إلَى ذَهَبٍ وَعَرْضٍ بِذَهَبٍ أَوْلَى ضَعْ وَتَعَجَّلْ أَوْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى أَوْ بَيْعٍ وَصَرْفٍ قَالَ هَذِهِ هِيَ أُصُولُ الرِّبَا ا هـ .(1/70)
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ صُورَةِ النِّزَاعِ حَدِيثُ الْعَالِيَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا سَمِعَتْهَا , وَقَدْ قَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ عَبْدًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةٍ فَاحْتَاجَ إلَى ثَمَنِهِ فَاشْتَرَيْته مِنْ قِبَلِ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ أَيْ نَقْدًا فَقَالَتْ عَائِشَةُ بِئْسَمَا شَرَيْت وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت أَبْلَغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ قَالَتْ أَرَأَيْت إنْ تَرَكْت وَأَخَذْت السِّتَّمِائَةِ دِينَارٍ قَالَتْ نَعَمْ وَفِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّإِ قَالَتْ أَرَأَيْتنِي إنْ أَخَذْته بِرَأْسِ مَالِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } فَهَذَا التَّغْلِيظُ الْعَظِيمُ لَا تَقُولُهُ رضي الله عنها إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ فَتَكُونُ هَذِهِ الذَّرَائِعُ وَاجِبَةُ السَّدِّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ قَالَ صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ هَذِهِ الْمُبَايَعَةُ كَانَتْ بَيْنَ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قَبْلَ الْعِتْقِ فَيَتَخَرَّجُ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الذَّرَائِعِ وَلَعَلَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ قَالَ وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي زَيْدٍ أَنَّهُ وَاطَأَ أُمَّ وَلَدِهِ عَلَى شِرَاءِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إلَى أَجَلٍ ا هـ .(1/71)
فَانْدَفَعَ مَا يُقَالُ كَيْفَ يَلِيقُ بِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ فِعْلُ مَا يُقَالُ فِيهِ ذَلِكَ وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ رضي الله عنهم عُدُولٌ سَادَةٌ أَتْقِيَاءٌ وَالْإِحْبَاطُ إحْبَاطٌ إنَّ أَحَدَهُمَا إحْبَاطُ إسْقَاطٍ وَهُوَ إحْبَاطُ الْكُفْرِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْهَا مَعَهُ وَثَانِيهَا إحْبَاطُ مُوَازَنَةٍ وَهُوَ وَزْنُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ السَّيِّئَ فَإِنْ رَجَحَ السَّيِّئُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ أَوْ الصَّالِحُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ كِلَاهُمَا مُعْتَبَرٌ غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَمَعَ الْكُفْرِ لَا عِبْرَةَ أَلْبَتَّةَ وَالْإِحْبَاطُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إحْبَاطُ مُوَازَنَةٍ كَالْإِحْبَاطِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام { مِنْ تَرْكِ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } أَيْ بِالْمُوَازَنَةِ وَمُرَادُهَا رضي الله عنها إمَّا الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ لَا التَّحْقِيقُ . وَأَمَّا الْإِحْبَاطُ فِي مَجْمُوعِ الْمُتَحَصِّلِ مِنْ الْجِهَادِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ , فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ هَذِهِ السَّيِّئَةِ بَعْضُهُ وَظَاهِرُ الْإِحْبَاطِ وَالتَّوْبَةِ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ إمَّا بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ لِحَالِ هَذَا الْعَقْدِ قَبْلَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ فِيهِ رَأَتْ أَنَّ اجْتِهَادَهُ مِمَّا يَجِبُ نَقْضُهُ وَعَدَمُ إقْرَارِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ أَوْ هُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فَخَشِيت أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ فَيَنْفَتِحَ بَابُ الرِّبَا بِسَبَبِهِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَتِهِ فَيَعْظُمُ الْإِحْبَاطُ فِي حَقِّهِ .
( تَنْبِيهٌ ) قَالَ اللَّخْمِيُّ اُخْتُلِفَ فِي وَجْهِ الْمَنْعِ فِي بُيُوعِ الْآجَال(1/72)
ِ أَبُو الْفَرَجِ ; لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مُعَامَلَاتِ أَهْلِ الرِّبَا . وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ : بَلْ سَدًّا لِذَرَائِعِ الرِّبَا فَعَلَى الْأَوَّلِ مَنْ عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ تَعَمُّدُ الْفَسَادِ حُمِلَ عَقْدُهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا أُمْضِيَ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْعَادَةُ مُنِعَ الْجَمِيعُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَإِنَّ زَيْدًا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ قَصْدِ الرِّبَا قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنْ كَانَا يَقْصِدَانِ إظْهَارَ مَا يَجُوزُ لِيَتَوَصَّلَا بِهِ إلَى مَا لَا يَجُوزُ فَيُفْسَخُ الْعَقْدُ إذَا كَثُرَ الْقَصْدُ إلَيْهِ اتِّفَاقًا مِنْ الْمَذْهَبِ كَبَيْعٍ وَسَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا فَإِنْ بَعُدَتْ التُّهْمَةُ بَعْضَ الْبُعْدِ وَأَمْكَنَ الْقَصْدُ إلَيْهِ كَدَفْعِ الْأَكْثَرِ مِمَّا فِيهِ ضَمَانٌ وَأَخْذِ الْأَقَلِّ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فَأَمَّا مَعَ ظُهُورِ مَا يُبْرِئُ مِنْ التُّهْمَةِ لَكِنْ فِيهِ صُورَةُ الْمُتَّهَمِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَصَوَّرَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ غَيْرَ يَدٍ بِيَدٍ وَتَظْهَرُ الْبَرَاءَةُ بِتَعْجِيلِ الْأَكْثَرِ فَجَائِزٌ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ , وَقِيلَ يَمْتَنِعُ حِمَايَةً لِلذَّرِيعَةِ وَالْأَصْلُ أَنْ يُنْظَرَ مَا خَرَجَ مِنْ الْيَدِ وَمَا خَرَجَ إلَيْهَا فَإِنْ جَازَ التَّعَامُلُ بِهِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا وَلَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُمَا , بَلْ أَفْعَالُهُمَا فَقَطْ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّرَائِعِ الَّتِي يَجِبُ سَدُّهَا وَالذَّرَائِعِ الَّتِي لَا يَجِبُ سَدُّهَا وَالْخِلَافُ فِيهِ وَالْوِفَاقُ وَالْمُدْرِكُ فِي ذَلِكَ .(1/73)
قَالَ اللَّخْمِيُّ اُخْتُلِفَ فِي وَجْهِ الْمَنْعِ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ; لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مُعَامَلَاتِ أَهْلِ الرِّبَا . وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ , بَلْ سَدًّا لِذَرَائِعِ الرِّبَا فَعَلَى الْأَوَّلِ مَنْ عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ تَعَمُّدُ الْفَسَادِ حُمِلَ عَقْدُهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا أُمْضِيَ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَادَةُ مُنِعَ الْجَمِيعُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَإِنَّ زَيْدًا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ قَصْدِ الرِّبَا قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنْ كَانَا يَقْصِدَانِ إظْهَارَ مَا يَجُوزُ لِيَتَوَصَّلَا بِهِ إلَى مَا لَا يَجُوزُ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إذَا كَثُرَ الْقَصْدُ إلَيْهِ اتِّفَاقًا مِنْ الْمَذْهَبِ كَبَيْعٍ وَسَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا فَإِنْ بَعُدَتْ التُّهْمَةُ بَعْضَ الْبُعْدِ وَأَمْكَنَ الْقَصْدُ بِهِ كَدَفْعِ الْأَكْثَرِ مِمَّا فِيهِ ضَمَانٌ وَأُخِذَ الْأَقَلُّ إلَى أَجَلٍ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فَأَمَّا مَعَ ظُهُورِ مَا يُبَرِّئُ مِنْ التُّهْمَةِ لَكِنَّ فِيهِ صُورَةَ الْمُتَّهَمِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَصَوَّرَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ غَيْرَ يَدٍ بِيَدٍ وَتَظْهَرُ الْبَرَاءَةُ بِتَعْجِيلِ الْأَكْثَرِ فَجَائِزٌ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ , وَقِيلَ يَمْتَنِعُ حِمَايَةً لِلذَّرِيعَةِ وَالْأَصْلُ أَنْ يُنْظَرَ مَا خَرَجَ مِنْ الْيَدِ وَمَا خَرَجَ إلَيْهَا فَإِنْ جَاءَ الْعَامِلُ بِهِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا وَلَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُمَا , بَلْ أَفْعَالُهُمَا فَقَطْ ا هـ .(1/74)
وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ فِي سَدِّ ذَرَائِعِ بُيُوعِ الْآجَالِ الَّتِي هِيَ صُورَةُ النِّزَاعِ وَإِنْ خَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلِ الْبَعْضِ , وَقَالَ يَمْتَنِعُ بَيْعُ السِّلْعَةِ مِنْ أَبٍ الْبَائِعِ بِمَا تَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ الْبَائِعِ وَفِي الْإِقْنَاعِ مِنْ شَرْحِهِ .(1/75)
وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِنَسِيئَةٍ أَيْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ بِثَمَنٍ حَالٍّ لَمْ يَقْبِضْهُ صَحَّ الشِّرَاءُ حَيْثُ لَا مَانِعَ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى بَائِعِهَا شِرَاؤُهَا وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ شِرَاؤُهَا نَصًّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ أَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا بِهِ بِنَقْدٍ أَيْ حَالٍ أَوْ نَسِيئَتِهِ , وَلَوْ بَعْدَ حَلِّ أَجَلِهَا أَيْ أَجَلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ نَصًّا نَقَلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَنَدٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ الْعَالِيَةِ قَالَتْ دَخَلْت أَنَا وَأُمُّ وَلَدِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَلَى عَائِشَةَ إلَخْ ; وَلِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّبَا لِيَسْتَبِيحَ بَيْعَ أَلْفٍ بِنَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ وَالذَّرَائِعُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الشَّرْعِ بِدَلِيلِ مَنْعِ الْقَاتِلِ مِنْ الْإِرْثِ بِهَا إلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ صِفَتُهَا لِمَا يُنْقِصُهَا كَعَبْدٍ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ يُقْبَضُ ثَمَنُهَا بِأَنْ بَاعَ السِّلْعَةَ وَقَبَضَ ثَمَنَهَا , ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَيَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا تَوَسُّلَ بِهِ إلَى الرِّبَا وَإِنْ اشْتَرَاهَا أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ وَنَحْوُهُمَا كَغُلَامِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ وَلَا حِيلَةَ جَازَ وَصَحَّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْأَجْنَبِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشِّرَاءِ أَوْ اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا مِنْ غَيْرِ مُشْتَرِيهَا كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ وَارِثِهِ أَوْ مِمَّنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ مِنْهُ بِتَبِيعٍ أَوْ نَحْوِهِ جَازَ لِعَدَمِ الْمَانِعِ أَوْ اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِنَقْدٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ أَوْ اشْتَرَاهَا بِعِوَضٍ أَوْ بَاعَهَا بِعِوَضٍ , ثُمَّ(1/76)
اشْتَرَاهَا بِنَقْدٍ صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَمْ يَحْرُمْ لِانْتِفَاءِ الرِّبَا الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ بِهِ وَإِنْ قُصِدَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ الْعَقْدُ الثَّانِي بَطَلَا أَيْ الْعَقْدَانِ قَالَهُ الشَّيْخُ . وَقَالَ هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ مُرَادُ مَنْ أَطْلَقَ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا بَطَلَ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ ذَرِيعَةً لِلرِّبَا مَوْجُودَةٌ إذَنْ فِي الْأَوَّلِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ ; لِأَنَّ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ إلَى أَجَلٍ يَأْخُذُ بِهَا عَيْنًا أَيْ نَقْدًا حَاضِرًا قَالَ الشَّاعِرُ : أَنَعْتَانِ أَمْ نِدَّانِ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا فَتًى مِثْلُ نَقْلِ السَّيْفِ مُيِّزَتْ مَضَارِبُهُ وَمَعْنَى نَعْتَانِ نَشْتَرِي عِينَةً كَمَا وَصَفْنَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ } ا هـ .(1/77)
وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَثْبُتُ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ زَيْدًا قَدْ خَالَفَهَا , وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فَمَذْهَبُنَا الْقِيَاسُ وَاحْتَجُّوا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ ( أَحَدُهَا ) قوله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا عَامٌّ وَمَا ذَكَرْنَاهُ خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ( الْأَمْرُ الثَّانِي ) مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَتَى بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ أَتَمْرُ خَيْبَرُ كُلُّهُ هَكَذَا فَقَالُوا إنَّا نَبْتَاعُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ تَمْرِ الْجَمْعِ فَقَالَ عليه السلام لَا تَفْعَلُوا هَذَا , وَلَكِنْ بِيعُوا تَمْرَ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَرُوا بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } فَهُوَ بَيْعُ صَاعٍ بِصَاعَيْنِ وَإِنَّمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الدَّرَاهِمِ فَأُبِيحَ وَجَوَابُهُ إنَّا إنَّمَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الثَّانِي مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي الْخَبَرِ مَعَ أَنَّ بَيْعَ النَّقْدِ إذْ تَقَابَضَا فِيهِ ضَعْفُ التُّهْمَةِ وَإِنَّمَا الْمَنْعُ حَيْثُ تَقْوَى ( الْأَمْرُ الثَّالِثُ ) إنَّ الْعَقْدَ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ لَا يَكُونُ فَاسِدًا إذَا صَحَّتْ أَرْكَانُهُ كَبَيْعِ السَّيْفِ مِنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْعِنَبِ مِنْ الْخِمَارِ مَعَ أَنَّ الْفَسَادَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ أَعْظَمُ مِنْ سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ ذَهَابِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَجَوَابُهُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَغْرَاضُ الْفَاسِدَةُ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْعَقْدِ وَإِلَّا مُنِعَ كَمَا فِي عُقُودِ صُوَرِ النِّزَاعِ(1/78)
كَمَا تَقَدَّمَ تَوْضِيحُهُ قَالَ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ا هـ . هَذَا تَوْضِيحُ مَا فِي الْأَصْلِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّرَائِعِ الَّتِي يَجِبُ سَدُّهَا وَالذَّرَائِعُ الَّتِي لَا يَجِبُ سَدُّهَا وَالْخِلَافُ فِيهِ وَالْوِفَاقُ وَالْمَدَارِكُ فِي ذَلِكَ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ الْخَرَشِيِّ وَحَاشِيَتِهِ وَالْبِدَايَةِ وَغَيْرِهَا لَكِنْ رَأَيْت فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ صَاحِبَ جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ , وَقَدْ أَطْلَقَ الْقَرَافِيُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ أَيْ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ عَلَى أَعَمَّ مِنْهَا , ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ بِبَعْضِهَا مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا كَمَا سَيَتَّضِحُ وَأَنَّ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ مُسَمَّى سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي شَيْءٍ نَعَمْ حَاوَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ تَخْرِيجَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ الْأُمِّ عِنْدَ النَّهْيِ عَنْ مَنْعِ الْمَاءِ أَيُمْنَعُ بِهِ الْكَلَأُ إنْ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَمْ يَحِلَّ , وَكَذَا مَا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى إحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ا هـ فَقَالَ فِي هَذَا مَا يُثْبِتُ أَنَّ الذَّرَائِعَ إلَى الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ تُشْبِهُ مَعَانِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ا هـ .(1/79)
وَنَازَعَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ يَعْنِي وَالِدَهُ تَقِيَّ الدِّينِ السُّبْكِيّ , وَقَالَ إنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ لَا سَدَّ الذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلُ تَسْتَلْزِمُ الْمُتَوَسَّلَ إلَيْهِ وَمِنْ هَذَا مَنْعُ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَنْعَ الْكَلَأِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ الْوَسَائِلِ وَلِذَلِكَ نَقُولُ مَنْ حَبَسَ شَخْصًا وَمَنَعَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ قَاتِلٌ لَهُ وَمَا هَذَا مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي شَيْءٍ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي نَفْيِ الذَّرَائِعِ لَا فِي سَدِّهَا وَأَصْلُ النِّزَاعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي سَدِّهَا ا هـ . فَتَنَبَّهْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وقال ابن تيمية :
وَأَمَّا الْغَرَرُ , فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ :(1/80)
الْمَعْدُومُ , كَحَبَلِ الْحَبَلَةِ , وَاللَّبَنُ , وَالْمَعْجُوزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ : كَالْآبِقِ , وَالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ , أَوْ الْمُعَيَّنِ الْمَجْهُولِ جِنْسُهُ , أَوْ قَدْرُهُ كَقَوْلِهِ : بِعْتُك عَبْدًا , أَوْ بِعْتُك مَا فِي بَيْتِي , أَوْ بِعْتُك عَبِيدِي . أَمَّا الْمُعَيَّنُ الْمَعْلُومُ جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ الْمَجْهُولُ نَوْعُهُ أَوْ صِفَتُهُ , كَقَوْلِهِ : بِعْتُك الثَّوْبَ الَّذِي فِي كُمِّي , أَوْ الْعَبْدَ الَّذِي أَمْلِكُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ , فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ يُلْتَفَتُ إلَى مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَايِبَةِ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهُنَّ : لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِحَالٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ . وَالثَّانِيَةُ : يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُوصَفْ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ , وَكَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى رَوَى عَنْ أَحْمَدَ لَا خِيَارَ لَهُ .(1/81)
وَالثَّالِثَةُ : وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالصِّفَةِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِهَا , كَالْمُطْلَقِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَمَفْسَدَةُ الْغَرَرِ أَقَلُّ مِنْ الرِّبَا , فَكَذَلِكَ رُخِّصَ فِيمَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ , فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ كَوْنِهِ غَرَرًا , مِثْلُ : بَيْعِ الْعَقَارِ , وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ دَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَالْأَسَاسِ , وَمِثْلُ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ أَوْ الْمُرْضِعِ , وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْحَمْلِ وَاللَّبَنِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْحَمْلِ مُفْرَدًا , وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ , وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا , فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُسْتَحِقُّ الْإِبْقَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ , وَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَإِنْ كَانَتْ الْأَجْزَاءُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الصَّلَاحُ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ .(1/82)
وَجُوِّزَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ثَمَرَتَهَا , فَيَكُونُ قَدْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا , لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ لِلْأَصْلِ , فَظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ , وَلَمَّا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الْعَرَايَا أُرْخِصَ فِي بَيْعِهَا بِالْخَرْصِ , وَلَمْ يُجَوَّزْ الْفَاضِلُ الْمُتَيَقَّنُ , بَلْ صَوْغُ الْمُسَاوَاةِ بِالْخَرْصِ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ , وَهُوَ قَدْرُ النِّصَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ , أَوْ مَا دُونَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ مَا دُونَ النِّصَابِ , إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَأُصُولُ مَالِكٍ فِي الْبُيُوعَاتِ أَجْوَدُ مِنْ أُصُولِ غَيْرِهِ , أُخِذَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , الَّذِي كَانَ يُقَالُ هُوَ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْبُيُوعِ , كَمَا كَانَ يُقَالُ عَطَاءٌ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْمَنَاسِكِ ; وَإِبْرَاهِيمُ أَفْقَهُهُمْ فِي الصَّلَاةِ , وَالْحَسَنُ أَجْمَعُهُمْ كَذَلِكَ .(1/83)
وَلِهَذَا وَافَقَ أَحْمَدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي أَغْلَبِ مَا فُضِّلَ فِيهِ لِمَنْ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ مِنْ أَجْوِبَتِهِ ; وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مُوَافِقٌ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ , يُحَرِّمَانِ الرِّبَا وَيُشَدِّدَانِ فِيهِ حَقَّ التَّشْدِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شِدَّةِ تَحْرِيمِهِ وَعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ , وَيَمْنَعَانِ الِاحْتِيَالَ عَلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى قَدْ يَمْنَعَا الذَّرِيعَةَ الَّتِي تُفْضِي إلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حِيلَةٌ , وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يُبَالِغُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ مَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِيهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ : لَكِنْ يُوَافِقُهُ بِلَا خِلَافٍ مِنْهُ عَلَى مَنْعِ الْحِيَلِ كُلِّهَا
1022 - 1 كِتَابُ الْمَلَاهِي مَسْأَلَةٌ : عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ , أَحَرَامٌ هُوَ أَمْ مَكْرُوهٌ أَمْ مُبَاحٌ ؟(1/84)
فَإِنْ قُلْتُمْ حَرَامٌ , فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ , وَإِنْ قُلْتُمْ مَكْرُوهٌ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ , أَوْ يُبَاحُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , اللَّعِبُ بِهَا مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ , وَلَيْسَ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ كَانَ حَرَامًا بِالِاتِّفَاقِ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إمَامُ الْمَغْرِبِ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ قِمَارٌ لَا يَجُوزُ , وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ , أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ مِثْلَ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا , أَوْ تَرْكَ مَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ أَعْمَالِهَا الْوَاجِبَةِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا , فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ حَرَامًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ , يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا صَارَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ , فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } . فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ , وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ صَلَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } .(1/85)
وَقَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } . وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ السَّهْوَ عَنْهَا بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا , وَبِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهِ , كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ صَلَاةَ الْمُنَافِقِ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّطْفِيفِ . قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : إنَّ الصَّلَاةَ مِكْيَالٌ , فَمَنْ وَفَى وُفِّيَ لَهُ , وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ فِي الْمُطَفِّفِينَ . وَكَذَلِكَ فَسَرُّوا قَوْلَهُ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } . قَالَ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهَا , كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَكْمَلَ الصَّلَاةَ بِطُهُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَخُشُوعِهَا صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ , وَتَقُولُ : حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتنِي , وَإِذَا لَمْ يُكْمِلْ طُهُورَهَا وَقِرَاءَتَهَا وَخُشُوعَهَا فَإِنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ , وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ : ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي } . وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَقَامَ صُورَةَ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةَ فَلَا ثَوَابَ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهِ مِنْهَا , كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد , وَغَيْرِهِ : عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا , إلَّا ثُلُثُهَا , إلَّا رُبْعُهَا , إلَّا خُمُسُهَا , إلَّا سُدُسُهَا , إلَّا سُبُعُهَا , إلَّا ثُمُنُهَا , إلَّا تُسْعُهَا , إلَّا عُشْرُهَا } .(1/86)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْتَ مِنْهَا . وَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الْوَسْوَاسُ فَفِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ , وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا " . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ مَتَى شَغَلَ عَمَّا يَجِبُ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَشَغْلُهُ عَنْ إكْمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَسْطٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ شَغَلَ عَنْ وَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ مِنْ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ أَوْ الْأَهْلِ , أَوْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , أَوْ صِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ , أَوْ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ مِنْ نَظَرٍ فِي وِلَايَةٍ أَوْ إمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ , وَقَلَّ عَبْدٌ اشْتَغَلَ بِهَا إلَّا شَغَلَتْهُ عَنْ وَاجِبٍ , فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ اسْتَلْزَمَتْ مُحَرَّمًا . فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ , مِثْلَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْكَذِبِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ , أَوْ الْخِيَانَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُغَاضَاةَ أَوْ عَلَى الظُّلْمِ , أَوْ الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ , فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ , فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي الشِّطْرَنْجِ , وَالنَّرْدِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ .(1/87)
وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ فَسَادًا غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلَ اجْتِمَاعٍ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الْفَوَاحِشِ , أَوْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْعُدْوَانِ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , أَوْ مِثْلَ أَنْ يُفْضِيَ اللَّعِبُ بِهَا إلَى الْكَثْرَةِ وَالظُّهُورِ الَّذِي يُشْتَمَلُ مَعَهُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَهَذِهِ الصُّوَرُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَتَّفِقُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهَا فِيهَا . وَإِذَا قُدِّرَ خُلُوُّهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ , وَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ شَبَّهَهُمْ بِالْعَاكِفِينَ عَلَى الْأَصْنَامِ , كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ { النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ } . وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ قَرِينَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْهَا مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَصْحَابِهِ , وَأَحْمَدَ , وَأَصْحَابِهِ تَحْرِيمُهَا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا لِلْخَبَرِ , وَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ بِغَيْرِ قِمَارٍ وَإِنْ كَرِهْنَاهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ النَّرْدِ , وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّا مَضْمُونُهُ أَنَّهُ يَكْرَهُهَا وَيَرَاهَا دُونَ النَّرْدِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَرَاهَتَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ فَإِنَّهُ قَالَ لِلْخَبَرِ . وَلَفْظُ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ عَنْ مَالِكٍ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .(1/88)
فَإِذًا كَرِهَ الشِّطْرَنْجَ وَإِنْ كَانَتْ أَخَفَّ مِنْ النَّرْدِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي التَّحْرِيمِ وَقَالَ لَا يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّهَا حَرَامٌ , وَمَا بَلَغَنَا أَنَّ أَحَدًا نَقَلَ عَنْهُ لَفْظًا يَقْتَضِي نَفْيَ التَّحْرِيمِ . وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ لَمْ تَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُمْ فِي تَحْرِيمِهَا أَكْثَرُ أَلْفَاظِهِمْ الْكَرَاهَةُ . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ , وَلَا بِالشِّطْرَنْجِ , وَقَالُوا : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُدْمِنِ الْمُوَاظِبِ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ . وَقَالَ يَحْيَى : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا خَيْرَ فِي الشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهَا , وَسَمِعْته يَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْبَاطِلِ , وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ , فَالْأَرْبَعَةُ تُحَرِّمُ كُلَّ اللَّهْوِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْجُمْهُورُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : هَلْ يُسَلَّمُ عَلَى اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ , فَمَنْصُوصُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَحْمَدَ وَالْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ , وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ , وَمَذْهَبُ مَالِكٍ , وَأَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٍ : أَنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ , وَمَعَ هَذَا أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ . وَمَذْهَبَ أَحْمَدَ : أَنَّ النَّرْدَ شَرٌّ مِنْ الشِّطْرَنْجِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ .(1/89)
وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا اشْتَمَلَا عَلَى عِوَضٍ , أَوْ خَلَوَا عَنْ عِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ ; لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّرْدِ فِيهَا وَزِيَادَةً مِثْلَ صَدِّ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ , وَعَنْ الصَّلَاةِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ الشِّطْرَنْجَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَدَرِ وَالنَّرْدَ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ , وَاشْتِغَالُ الْقَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ . وَأَمَّا إذَا اشْتَمَلَ النَّرْدُ عَلَى عِوَضٍ فَالنَّرْدُ شَرٌّ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا جَعَلُوا النَّرْدَ شَرًّا لِاسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّ الْعِوَضَ يَكُونُ فِي النَّرْدِ دُونَ الشِّطْرَنْجِ . وَمِنْ هُنَا تَبِينُ الشُّبْهَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْبَابِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْسِرَ فِي كِتَابِهِ , وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ , وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُغَالَبَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِمَارِ مِنْ الْمَيْسِرِ , سَوَاءٌ كَانَ بِالشِّطْرَنْجِ , أَوْ بِالنَّرْدِ , أَوْ بِالْجَوْزِ , أَوْ بِالْكِعَابِ , أَوْ الْبَيْضِ , قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَعَطَاءٍ , وَطَاوُسٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ . فَاَلَّذِينَ لَمْ يُحَرِّمُوا الشِّطْرَنْجَ كَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ لَفْظَ الْمَيْسِرِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مَا كَانَ قِمَارًا , فَيَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , كَمَا يَحْرُمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ .(1/90)
وَالْمُنَاضَلَةِ لَوْ أَخْرَجَ كُلٌّ مِنْهُمَا السَّبَقَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ حَرَّمُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ قِمَارٌ . وَفِي السُّنَنِ : عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ آمِنٌ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ , وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ } . وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ بُيُوعَ الْغَرَرِ , لِأَنَّهَا مِنْ نَوْعِ الْقِمَارِ , مِثْلَ : أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ الْآبِقَ , وَالْبَعِيرَ الشَّارِدَ , فَإِنْ وَجَدَهُ كَانَ قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَهُ . فَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ الْمُغَالَبَاتِ إنَّمَا حَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لَمْ يُحَرِّمُوهَا إذَا خَلَتْ عَنْ الْعِوَضِ , وَلِهَذَا طَرَدَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي النَّرْدِ فَلَمْ يُحَرِّمُوهَا إلَّا مَعَ الْعِوَضِ , لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرَ مَذْهَبِهِ تَحْرِيمُ النَّرْدِ مُطْلَقًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِوَضٌ , وَلِهَذَا قَالَ : أَكْرَهُهَا لِلْخَبَرِ , فَبَيَّنَ أَنَّ مُسْتَنِدَهُ فِي ذَلِكَ الْخَبَرُ لَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ .(1/91)
وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ إذَا حَرُمَ النَّرْدُ وَلَا عِوَضَ عَلَيْهِ فِيهَا , فَالشِّطْرَنْجُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهَا فَلَيْسَ دُونَهَا , وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ خَبَرَ حَقِيقَةَ اللَّعِبِ بِهَا , فَإِنَّ مَا فِي النَّرْدِ مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ , وَعَنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ هُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ بِلَا رَيْبٍ , وَهِيَ تَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ . فَتَصُدُّ عُقُولَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُمُورِ وَالْحَشِيشَةِ , وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا فَتَحْرِيمُ النَّرْدِ الْخَالِيَةِ عَنْ عِوَضٍ مَعَ إبَاحَةِ الشِّطْرَنْجِ , مِثْلُ تَحْرِيمِ الْفِطْرَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ وَإِبَاحَةِ الْغَرْفَةِ مِنْ نَبِيذِ الْحِنْطَةِ . وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ , وَالْقِيَاسِ , وَالْعَدْلِ , فَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ . وَتَحْرِيمُ النَّرْدِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ , كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ , وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا سُكَّانًا لَهَا عِنْدَهُمْ نَرْدٌ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ إنْ لَمْ تُخْرِجُوهَا لَأُخْرِجُكُمْ مِنْ دَارِي , وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ .(1/92)
وَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ضَرَبَهُ وَكَسَرَهَا . وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ : عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ : عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَنْ ضَرَبَ بِكِعَابِهَا يَلْعَبُ بِهَا } فَعَلَّقَ الْمَعْصِيَةَ بِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ بِهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ عِوَضًا بَلْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الضَّرْبُ بِكِعَابِهَا . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ رضي الله عنه , عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : { فَلْيُشَقِّصْ الْخَنَازِيرَ } فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ اللَّاعِبَ بِهَا كَالْغَامِسِ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ , وَاَلَّذِي يُشَقِّصُ الْخَنَازِيرَ , يُقَصِّبُهَا وَيُقَطِّعُ لَحْمَهَا كَمَا يَصْنَعُ الْقَصَّابُ , وَهَذَا التَّشْبِيهُ مُتَنَاوِلٌ اللَّعِبَ بِهَا بِالْيَدِ , سَوَاءٌ وُجِدَ أَكْلٌ أَوْ لَمْ يُوجَدْ , كَمَا أَنَّ غَمْسَ الْيَدِ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ وَتَشْقِيصِ لَحْمِهِ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ أَكْلٌ بِالْفَمِ , أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ .(1/93)
وَهَذَا يَتَقَرَّرُ بِوُجُوهٍ يَتَبَيَّنُ بِهَا تَحْرِيمُ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَنَحْوِهِمَا : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِصُورَةِ الْمُقَامَرَةِ فَقَطْ , فَإِنَّهُ لَوْ بَذَلَ الْعِوَضَ أَحَدُ الْمُتَلَاعِبَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيٌّ لَكَانَ مِنْ صُوَرِ الْجَعَالَةِ , وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَنْفَعُ : كَالْمُسَابَقَةِ , وَالْمُنَاضَلَةِ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَسْبَقِ : { إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ , وَلَا فِي الدُّنْيَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِمَارًا , وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْمَلَاعِبُ مِنْ الْبَاطِلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ , أَوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ , أَوْ مُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } . قَوْلُهُ : " مِنْ الْبَاطِلِ " أَيْ مِمَّا لَا يَنْفَعُ , فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ : وَالْحَقُّ يُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ اعْتِقَادُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ , وَيُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْمَقْصُودُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقْصَدَ , وَهُوَ الْأَمْرُ النَّافِعُ , فَمَا لَيْسَ مِنْ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ لَيْسَ بِنَافِعٍ . وَقَدْ يُرَخَّصُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ لَكِنْ لَا يُؤْكَلُ بِهِ الْمَالُ , وَلِهَذَا جَازَ السِّبَاقُ بِالْأَقْدَامِ , وَالْمُصَارَعَةُ , وَغَيْرُ ذَلِكَ , وَإِنْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ .(1/94)
وَكَذَلِكَ رُخِّصَ فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي الْأَفْرَاحِ , وَإِنْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ , فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْمُقَامَرَةِ , فَلَا يَجُوزُ قَصْرُ النَّهْيِ عَلَى ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ النَّرْدِ وَنَحْوِهِ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ لَكَانَ النَّرْدُ مِثْلَ سِبَاقِ الْخَيْلِ , وَمِثْلَ الرَّمْيِ بِالنُّشَّابِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ , فَإِنَّ الْمُقَامَرَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي هَذَا حَرَّمُوهُ , مَعَ أَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ , وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ , كَمَا فِي الصَّحِيحِ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { ارْمُوا وَارْكَبُوا , وَإِنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا } . { وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } . وَكَانَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يُسَابِقُونَ بَيْنَ الْخَيْلِ , وَقَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ : { أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ , أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ , أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ } . فَكَيْفَ يُشْبِهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ , وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ , بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ , وَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا مُجَرَّدَ الْمُقَامَرَةِ كَانَ النَّرْدُ , وَالشِّطْرَنْجُ , كَالْمُنَاضَلَةِ .(1/95)
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ هَبْ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمُقَامَرَةُ , لَكِنَّ الشَّارِعَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي التَّحْرِيمِ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } . فَوَصَفَ الْأَرْبَعَةَ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ , وَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا , ثُمَّ خَصَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِأَنَّهُ { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ } . وَيُهَدِّدُ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } كَمَا عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالِاجْتِنَابِ فِي قَوْلِهِ : { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . وَلِهَذَا يُقَالُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ .(1/96)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا أَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا حَرُمَ مُقَارَبَتُهَا بِوَجْهٍ , فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا وَلَا شُرْبُ قَلِيلِهَا , بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا , وَشَقِّ ظُرُوفِهَا , وَكَسْرِ دِنَانِهَا , وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا , وَإِنْ كَانَتْ لِيَتَامَى مَعَ أَنَّهَا اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ , وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ , وَابْنِ الْمُبَارَكِ , وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَمْرِ شَيْءٌ مُحْتَرَمٌ , لَا خَمْرَةُ الْخِلَالِ وَلَا غَيْرُهَا , وَأَنَّهُ مِنْ اتَّخَذَ خَلًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْسِدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَخَمَّرَ بِأَنْ يَصُبَّ فِي الْعَصِيرِ خَلًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ تَخْمِيرَهُ , بَلْ كَانَ { النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ } لِئَلَّا يَقْوَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيُفْضِي إلَى أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ الْمُسْكِرَ مَنْ لَا يَدْرِي , وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يَدِبُّ السَّكَرُ فِيهَا وَلَا يُدْرَى مَا بِهِ : كَالدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ وَالْمَنْقُورِ مِنْ الْخَشَبِ وَأَمَرَ بِالِانْتِبَاذِ فِي السِّقَاءِ الْمُوكَئِ لِأَنَّ السَّكَرَ يُنْظَرُ . إذَا كَانَ فِي الشَّرَابِ انْشَقَّ الظَّرْفُ , وَإِنْ كَانَ فِي نَسْخِ ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ .(1/97)
فَالْمَقْصُودُ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , وَكَذَلِكَ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ ثَلَاثًا , وَبَعْدَ الثَّلَاثِ يَسْقِيهِ أَوْ يُرِيقُهُ ; لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَظِنَّةُ سُكْرِهِ , بَلْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَهَذَا كُلُّهُ . لِأَنَّ النُّفُوسَ لَمَّا كَانَتْ تَشْتَهِي ذَلِكَ وَفِي اقْتِنَائِهَا وَلَوْ لِلتَّخْلِيلِ مَا قَدْ يُفْضِي إلَى شُرْبِهَا , كَمَا أَنَّ شُرْبَ قَلِيلِهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ . فَهَذَا الْمَيْسِرُ الْمَقْرُونُ بِالْخَمْرِ إذَا قُدِّرَ أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ وَتَرْكِ الْمَنْفَعَةِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْمَلَاعِبَ تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ , وَإِذَا قَوِيَتْ الرَّغْبَةُ فِيهَا أَوْ دَخَلَ فِيهَا الْعِوَضُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ , وَكَانَ مِنْ حُكْمِ الشَّارِعِ أَنْ يَنْهَى عَمَّا يَدْعُو إلَى ذَلِكَ , لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ , وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُغَالَبَاتِ الَّتِي قَدْ تَنْفَعُ مِثْلَ : الْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّ تِلْكَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ لِتَقْوِيَةِ الْأَبْدَانِ , فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ النُّفُوسِ بِالِاكْتِسَابِ بِهَا .(1/98)
وَهَذَا الْمَعْنَى نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } فَإِنَّ الْغَامِسَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَكْلِ الْخِنْزِيرِ , وَذَلِكَ مُقَدِّمَةُ أَكْلِهِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ فَإِذَا حَرُمَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ اللَّعِبُ الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَةُ أَكْلٍ بِالْبَاطِلِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْمُغَالَبَاتِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ . فَمَا كَانَ مُعِينًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } جَازَ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ , وَمَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ : كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ , وَمَا قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِلَا مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ جَازَ بِلَا جُعْلٍ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ الْمَيْسِرَ إنَّمَا حَرُمَ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ , وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ : يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ } فَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَهِيَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ , وَزَوَالِ الْمَصْلَحَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ , فَإِنَّ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ .(1/99)
وَصُدُودُ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَنَحْوِهِمَا , وَإِنْ يَكُنْ فِيهِ عِوَضٌ , وَهُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَقْوَى , فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَسْتَغْرِقُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَفِكْرَهُ فِيمَا فَعَلَ خَصْمُهُ , وَفِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ هُوَ , وَفِي لَوَازِمِ ذَلِكَ وَلَوَازِمِ لَوَازِمِهِ حَتَّى لَا يُحِسَّ بِجُوعِهِ وَلَا عَطَشِهِ , وَلَا بِمَنْ يَحْضُرُ عِنْدَهُ , وَلَا بِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ , وَلَا بِحَالِ أَهْلِهِ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ , فَضْلًا أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ أَوْ الصَّلَاةَ . وَهَذَا كَمَا يُجْعَلُ لِشَارِبِ الْخَمْرِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّابِ يَكُونُ عَقْلُهُ أَصْحَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ , وَاللَّاعِبُ بِهَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَتَهُ مِنْهَا إلَّا بِدَسْتٍ بَعْدَ دَسْتُ , كَمَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ إلَّا بِقَدَحٍ بَعْدَ قَدَحٍ , وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا أَكْثَرَ مِنْ آثَارِ شَارِبِ الْخَمْرِ , حَتَّى تَعْرِضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْمَرَضِ وَعِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ , بَلْ وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَطْلُبُ فِيهَا ذِكْرَهُ لِرَبِّهِ وَتَوَجُّهَهُ إلَيْهِ , تَعْرِضُ لَهُ تَمَاثِيلُهَا وَذِكْرُ الشَّاةِ وَالرُّخِّ وَالْفِرْزَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .(1/100)
فَصَدُّهَا لِلْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ صَدِّ الْخَمْرِ ; وَهِيَ إلَى الشِّرْكِ أَقْرَبُ كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لِلَاعِبِهَا : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } , وَقَلَبَ الرُّقْعَةَ . وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بِسَبَبِ غَلَبَةِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ , وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّظَالُمِ وَالتَّكَاذُبِ وَالْخِيَانَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ , وَمَا يَكَادُ لَاعِبُهَا يَسْلَمُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَالْفِعْلُ إذَا اشْتَمَلَ كَثِيرًا عَلَى ذَلِكَ , وَكَانَتْ الطِّبَاعُ تَقْتَضِيهِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ , جَرَّمَهُ الشَّارِعُ قَطْعًا , فَكَيْفَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبًا .(1/101)
وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَغَيْرِهَا , وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ أَفْضَى إلَى الْمُحَرَّمِ كَثِيرًا كَانَ سَبَبًا لِلشَّرِّ وَالْفَسَادِ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ شَرْعِيَّةٌ , وَكَانَتْ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةً , نُهِيَ عَنْهُ , بَلْ كُلُّ سَبَبٍ يُفْضِي إلَى الْفَسَادِ نُهِيَ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ , فَكَيْفَ بِمَا كَثُرَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْفَسَادِ , وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ , وَأَمَّا النَّظَرُ لَهَا كَانَتْ الْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى بَعْضِهِ وَخُصَّ مِنْهُ فِيمَا تَدْعُو لَهُ الْحَاجَةُ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ , كَمَا أَنَّ الْفَسَادَ وَالضَّرَرَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ , فَإِذَا اجْتَمَعَا رَجَحَ أَعْلَاهُمَا , كَمَا رَجَحَ عِنْدَ الضَّرَرِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ , لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْمَوْتِ شَرٌّ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِالْخَبِيثِ . وَالنَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْمُغَالَبَاتِ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يُحْصَى , وَلَيْسَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ , فَضْلًا عَنْ مَصْلَحَةِ مُقَاوَمَةٍ غَايَتُهُ أَنْ يُلْهِيَ وَيُرِيحَهَا عَمَّا يَقْصِدُ شَارِبُ الْخَمْرِ ذَلِكَ . وَفِي إرَاحَةِ النَّفْسِ بِالْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَصُدُّ عَنْ الْمَصَالِحِ , وَلَا يَجْتَلِبُ الْمَقَاصِدَ غُنْيَةً , وَالْمُؤْمِنُ قَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِهِ , وَبِفَضْلِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } .(1/102)
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ : عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { يَا أَبَا ذَرٍّ , لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ , لَوَسِعَتْهُمْ } . وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ , وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ , وَيَجْلِبَ لَهُ الْمَنْفَعَةَ وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ . وَكُلُّ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْحَيُّ مِمَّا تَسْتَرِيحُ بِهِ النُّفُوسُ , وَتَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي طِيبِهَا وَانْشِرَاحِهَا فَهُوَ مِنْ الرِّزْقِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ ذَلِكَ لِمَنْ اتَّقَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ , وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ , وَمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ , وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَيْسِرِ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالْخَمْرِ , وَصَاحِبُ الْخَمْرِ يَطْلُبُ الرَّاحَةَ وَلَا يَزِيدُهُ إلَّا تَعَبًا وَغَمًّا . وَإِنْ كَانَتْ تُفِيدُهُ مِقْدَارًا مِنْ السُّرُورِ فَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَضَارِّ , وَيَفُوتُهُ مِنْ الْمَسَار أَضْعَافُ ذَلِكَ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ مَنْ جَرَّبَهُ , وَهَكَذَا سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ .(1/103)
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَيْسِرَ لَمْ يُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , وَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمًا , وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنْ الْمَيْسِرِ , فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي الْمَيْسِرِ , بَلْ فِي الْمَيْسِرِ عِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , كَمَا فِي الْخَمْرِ أَنَّ اللَّهَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ , وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا هِيَ الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ هَذَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ تُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , فَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ أَوَّلُ مَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَالْمَنَافِعُ الَّتِي كَانَتْ قِيلَ : هِيَ الْمَالُ . وَقِيلَ هِيَ اللَّذَّةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ فِيهَا كِلَا هَذَيْنِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِثَمَنِهَا وَالتِّجَارَةِ , فِيهَا كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِاللَّذَّةِ الَّتِي فِي شُرْبِهَا , ثُمَّ إنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا , وَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ كَانَتْ النُّفُوسُ تَنْتَفِعُ بِمَا تُحَصِّلُهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ , وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ لَذَّةِ اللَّعِبِ .(1/104)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } . لِأَنَّ الْخَسَارَةَ فِي الْمُقَامَرَةِ أَكْثَرُ , وَالْأَلَمَ وَالْمَضَرَّةَ فِي الْمُلَاعَبَةِ أَكْثَرُ . وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْمَيْسِرِ , إنَّمَا هُوَ الِانْشِرَاحُ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ , كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ مَا فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الشُّرْبِ , وَإِنَّمَا حَرُمَ الْعِوَضُ فِيهَا لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالٍ بِلَا مَنْفَعَةٍ فِيهِ , فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ , كَمَا حَرُمَ ثَمَنُ الْخَمْرِ , وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ , وَالْأَصْنَامِ , فَكَيْفَ تُجْعَلُ الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ هِيَ حِكْمَةُ النَّهْيِ , فَقَطْ وَهِيَ تَابِعَةٌ , وَتُتْرَكُ الْمَفْسَدَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَسَادُ الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ , وَالْمَالُ مَادَّةُ الْبَدَنِ . وَالْبَدَنُ تَابِعُ الْقَلْبِ , وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ , وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ , أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَالْقَلْبُ هُوَ مَحَلُّ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ . فَأَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إفْسَادُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْبَدَنِ أَنْ يُصَدَّ عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ , وَيَدْخُلُ فِيمَا يُفْسِدُ مِنْ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ وَالصَّلَاةُ حَقُّ الْحَقِّ , وَالتَّحَابُّ وَالْمُوَالَاةُ حَقُّ الْخَلْقِ , وَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ .(1/105)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْبَدَنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَالِ , وَمَصْلَحَةُ الْقَلْبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَدَنِ , وَإِنَّمَا حُرْمَةُ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَادَّةُ الْبَدَنِ , وَلِهَذَا قَدَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ رَبْعَ الْعِبَادَاتِ عَلَى رَبْعِ الْمُعَامَلَاتِ , وَبِهِمَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ , ثُمَّ ذَكَرُوا رَبْعَ الْمُنَاكَحَاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الشَّخْصِ , وَهَذَا مَصْلَحَةُ النَّوْعِ الَّذِي يَبْقَى بِالنِّكَاحِ . ثُمَّ لَمَّا ذَكَرُوا الْمَصَالِحَ ذَكَرُوا مَا يَدْفَعُ الْمَفَاسِدَ فِي رَبْعِ الْجِنَايَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَعِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْخُضُوعَ لَهُ , بَلْ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَأَصْلُ ذَلِكَ وَأَجَلُّهُ مَا فِي الْقُلُوبِ : الْإِيمَانُ , وَالْمَعْرِفَةُ , وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ , وَالْخَشْيَةُ لَهُ , وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ , وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ , وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ , مِمَّا تَضَمَّنَهُ الصَّلَاةُ , وَالذِّكْرُ , وَالدُّعَاءُ , وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ , وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ , وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } . وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ } . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } .(1/106)
فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الصَّلَاةِ سَعْيًا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ . وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَضَمِّنَةً لِذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ , قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أَيْ ذِكْرُ اللَّهِ خَارِجَ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ كَوْنِهَا عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ , وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ . وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : مَا دُمْتَ تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْتَ فِي السُّوقِ . وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ قَالُوا : إنَّ مَجَالِسَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ مَجَالِسُ الذِّكْرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يَعْرِفَ مَرَاتِبَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ , وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا لَا يَبْغُضُهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا , وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يَبْغُضُهَا وَيَسْخَطُهَا , وَمَا نَهَى عَنْهُ كَانَ لِتَضَمُّنِهِ مَا يَبْغُضُهُ , وَيَسْخَطُهُ , وَمَنَعَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ .(1/107)
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْصُرُ نَظَرُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ وَمَفَاسِدِهَا , وَمَا يَنْفَعُهَا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَا يَضُرُّهَا مِنْ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ } . فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَرَى مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَّا مَا عَادَ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ . وَغَايَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إذَا تَعَدَّى ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ مِثْلَ أَصْحَابِ رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا وَأَمْثَالِهِمْ , فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ , وَمَا ضَمُّوا إلَيْهِ مِمَّا ظَنُّوهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ , وَهُمْ فِي غَايَةِ مَا يَنْتَهُونَ إلَيْهِ دُونَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرٍ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .(1/108)
وَقَوْمٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ , وَتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ , وَأَنَّ تَرْتِيبَ الشَّارِعِ لِلْأَحْكَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ , وَدَفْعَ مَضَارِّهِمْ , وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ نَوْعَانِ : أُخْرَوِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ , جَعَلُوا الْأُخْرَوِيَّةَ مَا فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ مِنْ الْحُكْمِ . وَجَعَلُوا الدُّنْيَوِيَّةَ مَا تَضَمَّنَ حِفْظَ الدِّمَاءِ , وَالْأَمْوَالِ , وَالْفُرُوجِ , وَالْعُقُولِ , وَالدَّيْنِ الظَّاهِرِ , وَأَعْرَضُوا عَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَمَلَائِكَتِهِ , وَكُتُبِهِ , وَرُسُلِهِ , وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ , وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَتِهِ وَدُعَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَكَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ , وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُقُوقِ الْمَمَالِيكِ وَالْجِيرَانِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ حِفْظًا لِلْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ . وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ .(1/109)
فَهَكَذَا مَنْ جَعَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , وَالنَّفْعُ الَّذِي كَانَ فِيهِمَا بِمُجَرَّدِ أَخْذِ الْمَالِ يُشْبِهُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْمُغَالَبَاتِ تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عَمَلًا لَا مِنْ جِهَةِ أَخْذِ الْمَالِ بِهَا لَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا كَمَا يَصُدُّ سَائِرُ أَنْوَاعِ أَخْذِ الْمَالِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا الْمَالُ لَا يُنْهَى عَنْهَا مُطْلَقًا لِكَوْنِهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ , بَلْ يُنْهَى مِنْهَا عَمَّا يَصُدُّ عَنْ الْوَاجِبِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } . فَمَا كَانَ مُلْهِيًا وَشَاغِلًا عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ذِكْرِهِ وَالصَّلَاةِ لَهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسُهُ مُحَرَّمًا كَالْبَيْعِ وَالْعَمَلِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .(1/110)
فَلَوْ كَانَ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ , وَنَحْوِهِمَا فِي جِنْسِهِ مُبَاحًا , وَإِنَّمَا حَرُمَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , كَانَ تَحْرِيمُهُ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيمِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ : كَبُيُوعِ الْغَرَرِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ لَا يُعَلَّلُ النَّهْيُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَصُدُّ عَمَّا يَجِبُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ , فَإِنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ مِنْهُ مَا كَانَ يَصُدُّ , فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ لَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُهَا بِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ الصَّحِيحَةَ يُنْهَى مِنْهَا عَمَّا يَصُدُّ عَنْ الْوَاجِبِ , فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْسِرِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ , كَمَا حَرُمَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , قَرَنَ بِذَلِكَ ذِكْرُ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ , وَقَدَّمَ عَلَيْهِ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ إحْسَانٌ , فَذَكَرَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكْمَ الْأَمْوَالِ الْمُحْسِنِ وَالْعَادِلِ وَالظَّالِمِ .(1/111)
ذَكَرَ الصَّدَقَةَ , وَالْبَيْعَ , وَالرِّبَا وَالظُّلْمَ فِي الرِّبَا , وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِهِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْمَيْسِرِ , فَإِنَّ الْمُرَابِيَ يَأْخُذُ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِنْ الْمُحْتَاجِ , وَلِهَذَا عَاقَبَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَقَالَ : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .(1/112)
وَأَمَّا الْمُقَامِرُ فَإِنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ فَيَظْلِمُ , وَقَدْ يُغْلَبُ فَيُظْلَمُ , فَقَدْ يَكُونُ الْمَظْلُومُ هُوَ الْغَنِيُّ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْفَقِيرُ , وَظُلْمُ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْغَنِيِّ , وَظُلْمٌ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الظَّالِمُ الْقَادِرُ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الظَّالِمُ , فَإِنَّ ظُلْمَ الْقَادِرِ الْغَنِيِّ لِلْعَاجِزِ الضَّعِيفِ أَقْبَحُ مِنْ تَظَالُمِ قَادِرَيْنِ غَنِيَّيْنِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا هُوَ الَّذِي يَظْلِمُ , فَالرِّبَا فِي ظُلْمِ الْأَمْوَالِ أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ , وَمَعَ هَذَا فَتَأَخَّرَ تَحْرِيمُهُ وَكَانَ آخِرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَيْسِرِ إلَّا مُجَرَّدُ الْقِمَارِ لَكَانَ أَخَفَّ مِنْ الرِّبَا لِتَأَخُّرِ تَحْرِيمِهِ , وَقَدْ أَبَاحَ الشَّارِعُ أَنْوَاعًا مِنْ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ , كَمَا أَبَاحَ اشْتِرَاطَ ثَمَرِ النَّخْلِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ , وَجَوَّزَ بَيْعَ الْمُجَازَفَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ , وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يُبِحْ مِنْهُ شَيْئًا , وَلَكِنْ أَبَاحَ الْعُدُولَ عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ إلَى التَّقْدِيرِ بِالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ , كَمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ إذْ الْخَرْصُ تَقْدِيرٌ بِظَنٍّ , وَالْكَيْلُ تَقْدِيرٌ بِعِلْمٍ , وَالْعُدُولُ عَنْ الْعِلْمِ إلَى الظَّنِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ .(1/113)
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّبَا أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , لَكِنَّ الْمَيْسِرَ تُطْلَبُ بِهِ الْمُلَاعَبَةُ وَالْمُغَالَبَةُ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْإِنْسَانِ مَعَ فَسَادِ مَالِهِ لَا لِفَسَادِ مَالِهِ , مِثْلَ مَا فِيهِ مِنْ الصُّدُودِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ , وَكُلٌّ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِيهِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ , وَفِيهِ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ مِنْ الرَّبَّا وَغَيْره مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ . تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْسِرَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَتَيْنِ : مَفْسَدَةٌ فِي الْمَالِ , وَهِيَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ . وَمَفْسَدَةٌ فِي الْعَمَلِ ; وَهِيَ مَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمَالِ وَفَسَادِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ , وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ . وَكُلٌّ مِنْ الْمَفْسَدَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالنَّهْيِ , فَيُنْهَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُطْلَقًا , وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ مَيْسِرٍ كَالرِّبَا , وَيُنْهَى عَمَّا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ , وَيُوقِعُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ . وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أَكْلِ مَالٍ , فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظُمَ التَّحْرِيمُ , فَيَكُونُ الْمَيْسِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمَ مِنْ الرِّبَا , وَلِهَذَا حَرُمَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا .(1/114)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا وَلَوْ كَانَ الشَّارِبُ يَتَدَاوَى بِهَا , كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ , وَحَرَّمَ بَيْعَهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ , وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا لَا يَسُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ , وَلَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ , كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الِاجْتِنَابِ , فَهَكَذَا الْمَيْسِرُ مَنْهِيٌّ عَنْ هَذَا وَعَنْ هَذَا , وَالْمُعِينُ عَلَى الْمَيْسِرِ كَالْمُعِينِ عَلَى الْخَمْرِ , فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَكَمَا أَنَّ الْخَمْرَ تَحْرُمُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهَا بِبَيْعٍ , أَوْ عَصْرٍ , أَوْ سَقْيٍ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , فَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَيْسِرِ , كَبَائِعِ آلَاتِهِ , وَالْمُؤَجِّرِ لَهَا , وَالْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُعِينُ أَحَدَهُمَا , بَلْ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيْسِرِ كَالْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } .(1/115)
وَقَدْ رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ , فَأَمَرَ بِضَرْبِهِمْ , فَقِيلَ لَهُ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا , فَقَالَ : ابْدَءُوا بِهِ , ثُمَّ قَالَ : أَمَا سَمِعْتَ قوله تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } . فَاسْتَدَلَّ عُمَرُ بِالْآيَةِ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ مِثْلَ فَاعِلِهِ , بَلْ إذَا كَانَ مَنْ دَعَا إلَى دَعْوَةٍ مُبَاحَةٍ كَدَعْوَةِ الْعُرْسِ لَا تُجَابُ دَعْوَتُهُ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرٍ حَتَّى يَدَعَهُ , مَعَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقٌّ , فَكَيْفَ بِشُهُودِ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ هَذَا مِنْ الْمَيْسِرِ , فَكَيْفَ اسْتَجَازَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ . قِيلَ لَهُ : الْمُسْتَجِيزُ لِلشِّطْرَنْجِ مِنْ السَّلَفِ بِلَا عِوَضٍ : كَالْمُسْتَجِيزِ لِلنَّرْدِ بِلَا عِوَضٍ مِنْ السَّلَفِ , وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ , بَلْ فِي الشِّطْرَنْجِ قَدْ تَبَيَّنَ عُذْرُ بَعْضِهِمْ كَمَا كَانَ الشَّعْبِيُّ يَلْعَبُ بِهِ لَمَّا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ , رَأَى أَنْ يَلْعَبَ بِهِ لِيُفَسِّقَ نَفْسَهُ , وَلَا يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ لِلْحَجَّاجِ , وَرَأَى أَنْ يَحْتَمِلَ مِثْلَ هَذَا لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ إعَانَةَ مِثْلِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَظَالِمِ الْمُسْلِمِينَ , وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مَحْذُورًا عِنْدَهُ , وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاعْتِذَارُ إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ .(1/116)
ثُمَّ يُقَالُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ , وَاَلَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ السَّلَفِ أَكْثَرُ وَأَجْمَلُ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ , فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ , وَمُعَاوِيَةَ , وَغَيْرَهُمَا رَخَّصُوا فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُمُ إلَّا فِي النِّسَاءِ لَا فِي الْيَدِ بِالْيَدِ وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ إلَّا الْمُسْكِرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ , فَهَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ الْخَمْرِ نَوْعًا مِنْهُ دُونَ نَوْعٍ , وَظَنُّوا أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِهِ , وَشُمُولُ الْمَيْسِرِ لِأَنْوَاعِهِ كَشُمُولِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا لِأَنْوَاعِهِمَا .(1/117)
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْبَعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ , كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ قَدْ فَعَلْت , وَأَمَرَنَا أَنْ نَتْبَعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتْبَعُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءً , وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَنَسْتَغْفِرُ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ , فَنَقُولُ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } الْآيَةَ - وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ , وَتُعَظِّمُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَتَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ , فَقَدْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ , وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ , وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ , وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ سَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمَحَارِمِ بِأَنْ حَرَّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا .(1/118)
وَالذَّرِيعَةُ مَا كَانَ وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ , لَكِنْ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةً عَمَّا أَفَضْت إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ , وَلَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْ ذَلِكَ الْإِفْضَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَفْسَدَةٌ , وَلِهَذَا قِيلَ الذَّرِيعَةُ الْفِعْلُ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ , أَمَّا إذَا أَفْضَتْ إلَى فَسَادٍ لَيْسَ هُوَ فِعْلًا كَإِفْضَاءِ شُرْبِ الْخَمْرِ إلَى السُّكْرِ وَإِفْضَاءِ الزِّنَا إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ أَوْ كَانَ الشَّيْءُ نَفْسُهُ فَسَادًا كَالْقَتْلِ وَالظُّلْمِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , فَإِنَّا نَعْلَمُ إنَّمَا حُرِّمَتْ الْأَشْيَاءُ لِكَوْنِهَا فِي نَفْسِهَا فَسَادًا بِحَيْثُ تَكُونُ ضَرَرًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ . أَوْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى فَسَادٍ بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ فِي نَفْسِهَا فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إلَى ضَرَرٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فَتَحْرُمُ , فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَسَادُ فِعْلَ مَحْظُورٍ سُمِّيَتْ ذَرِيعَةً وَإِلَّا سُمِّيَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضِيًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَشْهُورَةِ , ثُمَّ هَذِهِ الذَّرَائِعُ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمُحَرَّمِ غَالِبَا فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهَا مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قَدْ تُفْضِي وَقَدْ لَا تُفْضِي لَكِنَّ الطَّبْعَ مُتَقَاضٍ لِإِفْضَائِهَا . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ إنَّمَا تُفْضِي أَحْيَانًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذَا الْإِفْضَاءِ الْقَلِيلِ , وَإِلَّا حَرَّمَهَا أَيْضًا , ثُمَّ هَذِهِ الذَّرَائِعُ مِنْهَا مَا يُفْضِي إلَى الْمَكْرُوهِ بِدُونِ قَصْدِ فَاعِلِهَا .(1/119)
وَمِنْهَا مَا تَكُونُ إبَاحَتُهَا مُفْضِيَةً لِلتَّوَسُّلِ بِهَا إلَى الْمَحَارِمِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي يُجَامِعُ الْحِيَلَ بِحَيْثُ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ الِاحْتِيَالُ تَارَةً وَقَدْ لَا يَقْتَرِنُ كَمَا أَنَّ الْحِيَلَ قَدْ تَكُونُ بِالذَّرَائِعِ وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ مُبَاحَةٍ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ ذَرَائِعَ . فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً . الْأَوَّلُ : مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ وَهُوَ مِمَّا يُحْتَالُ بِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ , وَكَاشْتِرَاءِ الْبَائِعِ السِّلْعَةَ مِنْ مُشْتَرِيهَا بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ تَارَةً وَبِأَكْثَرَ أُخْرَى , وَكَالِاعْتِيَاضِ عَنْ ثَمَنِ الرِّبَوِيِّ بِرِبَوِيٍّ لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسَئًا , وَكَقَرْضِ بَنِي آدَمَ . الثَّانِي : مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ لَا يُحْتَالُ بِهَا كَسَبِّ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ سَبُّ الرَّجُلِ وَالِدَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يَسُبَّ وَالِدَهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَقْصِدُهُمَا مُؤْمِنٌ . الثَّالِثُ : مَا يَحْتَالُ بِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فِي الْأَصْلِ كَبَيْعِ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ وَكَإِغْلَاءِ الثَّمَنِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ .(1/120)
وَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الذَّرَائِعَ حَرَّمَهَا الشَّارِعُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْمُحَرَّمَ خَشْيَةَ إفْضَائِهَا إلَى الْمُحَرَّمِ , فَإِذَا قَصَدَ بِالشَّيْءِ نَفْسَ الْمُحَرَّمِ كَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الذَّرَائِعِ وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ فِي مَسَائِلِ الْعِينَةِ وَأَمْثَالِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْبَائِعُ الرِّبَا ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ يَغْلِبُ فِيهَا قَصْدُ الرِّبَا فَيَصِيرُ ذَرِيعَةً فَيَسُدُّ هَذَا الْبَابَ لِئَلَّا يَتَّخِذَهُ النَّاسُ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا وَيَقُولُ الْقَائِلُ لَمْ أَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ , وَلِئَلَّا يَدْعُو الْإِنْسَانُ فِعْلَهُ مَرَّةً إلَى أَنْ يَقْصِدَ مَرَّةً أُخْرَى , وَلِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ جِنْسَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ حَلَالٌ وَلَا يُمَيِّزَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ , وَلِئَلَّا يَفْعَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ قَصْدٍ خَفِيٍّ يَخْفَى مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَلِلشَّرِيعَةِ أَسْرَارٌ فِي سَدِّ الْفَسَادِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشَّرِّ لِعِلْمِ الشَّارِعِ مَا جُلِبَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ وَبِمَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ مِنْ خَفِيِّ هُدَاهَا الَّذِي لَا يَزَالُ يَسْرِي فِيهَا حَتَّى يَقُودَهَا إلَى الْهَلَكَةِ , فَمَنْ تَحَذْلَقَ عَلَى الشَّارِعِ وَاعْتَقَدَ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِعِلَّةِ كَذَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَقْصُودَةٌ فِيهِ فَاسْتَبَاحَهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَهُوَ ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ جَهُولٌ بِأَمْرِ رَبِّهِ وَهُوَ إنْ نَجَا مِنْ الْكُفْرِ لَمْ يَنْجُ غَالِبًا مِنْ بِدْعَةٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ قِلَّةِ فِقْهٍ فِي الدِّينِ وَعَدَمِ بَصِيرَةٍ . أَمَّا شَوَاهِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ , فَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا حَضَرَ .(1/121)
فَالْأَوَّلُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهَ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } حَرَّمَ سَبَّ الْآلِهَةِ مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; لِأَنَّ مَصْلَحَةَ تَرْكِهِمْ سَبَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ . الثَّانِي : مَا رَوَى حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ , قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ سَابًّا لَاعِنًا لِأَبَوَيْهِ إذَا سَبَّ سَبًّا يُجْزِيهِ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالسَّبِّ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ , وَبَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فَرْقٌ ; لِأَنَّ سَبَّ أَبَا النَّاسِ هُنَا حَرَامٌ لَكِنْ قَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لِكَوْنِهِ شَتْمًا لِوَالِدَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُقُوقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إثْمٌ مِنْ جِهَةِ إيذَاءِ غَيْرِهِ .(1/122)
الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكُفُّ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى قَوْلِ النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ النُّفُورَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ وَمِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَهَذَا النُّفُورُ حَرَامٌ . الرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى زَوَالِ الْعَقْلِ وَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ قَلِيلَ الْخَمْرِ وَحَرَّمَ اقْتِنَاءَهَا لِلتَّخْلِيلِ وَجَعَلَهَا نَجِسَةً لِئَلَّا تُفْضِيَ إبَاحَتُهُ مُقَارَبَتَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَا لِإِتْلَافِهَا عَلَى شَارِبِهَا , ثُمَّ إنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ , وَعَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ , وَعَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا نَعْلَمُ بِتَخْمِيرِ النَّبِيذِ فِيهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ فِي بَقَاءِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ خِلَافٌ - وَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى بَعْضَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً فَقَالَ : { لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَأَوْشَكَ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ } . يَعْنِي صلى الله عليه وسلم أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمُبَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا . الْخَامِسُ : أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالسَّفَرَ بِهَا وَلَوْ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ حَسْمًا لِمَادَّةِ مَا يُحَاذَرُ مِنْ تَغَيُّرِ الطِّبَاعِ وَشِبْهِ الْغَيْرِ .(1/123)
السَّادِسُ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ بِنَاء الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَنَهَى عَنْ تَكْبِيرِ الْقُبُورِ وَتَشْرِيفِهَا وَأَمَرَ بِتَسْوِيَتِهَا , وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَعِنْدَهَا , وَعَنْ إيقَادِ الْمَصَابِيحِ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا , وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَصَدَ هَذَا وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ خِلَافَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . السَّابِعُ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمَا وَقْتُ سُجُودِ الْكُفَّارِ لِلشَّمْسِ فَفِي ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِهِمْ وَمُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُعْطَى بَعْضُ أَحْكَامِهِ فَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ أَوْ أَخْذِ بَعْضِ أَحْوَالِ عَابِدِيهَا .(1/124)
الثَّامِنُ : أَنَّهُ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ { إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ } - { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } , وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَاشُورَاءَ : { لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ } , وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : { لَا تَشَبَّهُوا بِالْأَعَاجِمِ } وَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا } , حَتَّى قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ , وَمَا ذَاكَ إلَّا ; لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي بَعْضِ الْهُدَى الظَّاهِرِ يُوجِبُ الْمُقَارَبَةَ وَنَوْعًا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ يُفْضِي إلَى الْمُشَارَكَةِ فِي خَصَائِصِهِمْ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبِ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ . التَّاسِعُ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا .(1/125)
وَقَالَ : { إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } حَتَّى لَوْ رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تُنْكَحَ عَلَيْهَا أُخْتُهَا كَمَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ { أُمُّ حَبِيبَةَ لَمَّا طَلَبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا دُرَّةَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ } , وَإِنْ زَعَمَتَا أَنَّهُمَا لَا يَتَبَاغَضَانِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَتَغَيَّرُ فَيَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ الْقَطِيعَةِ , وَكَذَلِكَ حَرَّمَ نِكَاحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجَوْرِ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسَمِ , وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ مَعَ الْكَثْرَةِ , وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ إفْضَاءُ ذَلِكَ إلَى كَثْرَةِ الْمَئُونَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى أَكْلِ الْحَرَامِ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِهِنَّ , وَقَدْ بَيَّنَ الْعَيْنَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } وَهَذَا نَصٌّ فِي اعْتِبَارِ الذَّرِيعَةِ . الْعَاشِرُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ خِطْبَةَ الْمُعْتَدَّةِ صَرِيحًا حَتَّى حَرَّمَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ , وَإِنْ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي انْقِضَائِهَا لَيْسَ هُوَ إلَى الْمَرْأَةِ فَإِنَّ إبَاحَتَهُ الْخِطْبَةَ قَدْ يَجُرُّ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ . الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْعِدَّةِ . وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ حَسْمًا لِمَادَّةِ دَوَاعِي النِّكَاحِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ , وَلِهَذَا حَرَّمَ التَّطَيُّبَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ .(1/126)
الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اشْتَرَطَ لِلنِّكَاحِ شُرُوطًا زَائِدَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْعَقْدِ تَقْطَعُ عَنْهُ شُبْهَةَ بَعْضِ أَنْوَاعِ السِّفَاحِ بِهِ مِثْلَ اشْتِرَاطِ إعْلَانِهِ إمَّا بِالشَّهَادَةِ أَوْ تَرْكِ الْكِتْمَانِ أَوْ بِهِمَا , وَمِثْلُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِيهِ , وَمَنَعَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَلِيَهُ , وَنَدَبَ إلَى إظْهَارِهِ حَتَّى اُسْتُحِبَّ فِيهِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ وَالْوَلِيمَةُ , وَكَانَ أَصْلُ ذَلِكَ فِي قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وَ { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } وَإِنَّمَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ فِي الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى وُقُوعِ السِّفَاحِ بِصُورَةِ النِّكَاحِ وَزَوَالِ بَعْضِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ حَجْرِ الْفِرَاشِ , ثُمَّ إنَّهُ وَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لِلنِّكَاحِ حَرِيمًا مِنْ الْعِدَّةِ يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الِاسْتِبْرَاءِ وَأَثْبَتَ لَهُ أَحْكَامًا مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَحُرْمَتِهَا وَمِنْ الْمُوَارَثَةِ زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ مَقْصُودِ الِاسْتِمْتَاعِ , فَعَلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ سَبَبًا وَصِلَةً بَيْنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا جَعَلَ بَيْنَهُمَا فِي قوله تعالى : { نَسَبًا وَصِهْرًا } , وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ تَمْنَعُ اشْتِبَاهَهُ بِالسِّفَاحِ وَتُبَيِّنُ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَلِّ بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْخَصَائِصُ غَيْرَ مُتَيَقَّنَةٍ فِيهِ .(1/127)
الثَّالِثَ عَشَرَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ صَحَّ , وَإِنَّمَا ذَاكَ ; لِأَنَّ اقْتِرَانَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ ثَمَانَمِائَةٍ بِأَلْفٍ أُخْرَى فَيَكُونُ قَدْ أَعْطَاهُ أَلْفًا وَسِلْعَةً بِثَمَانِمِائَةٍ لِيَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفَيْنِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ لِلْبُطْلَانِ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ قَالَ إنَّ مَنْ جَوَّزَهَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ أَلْفَ دِينَارٍ وَمِنْدِيلًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِينَارِ تِبْرٍ يَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّبَا وَهَذِهِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ , لَكِنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَا مِمَّنْ يُجَوِّزُ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ الْمِنْدِيلَ بِخَمْسِمِائَةٍ , وَهِيَ بِعَيْنِهَا الصُّورَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَالْعِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ بِعَيْنِهَا مَوْجُودَةٌ فِيهَا فَكَيْفَ يُنْكِرُ عَلَى غَيْرِهِ مَا هُوَ مُرْتَكِبٌ لَهُ . الرَّابِعَ عَشَرَ : إنَّ الْآثَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الْعِينَةِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عَوْدَةِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى الرِّبَا وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ .(1/128)
الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مَنْعَ الْمُقْرِضِ قَبُولَ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ إلَى أَنْ يَحْسِبَهَا لَهُ أَوْ يَكُونَ قَدْ جَرَى ذَلِكَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَرْضِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا تُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى تَأْخِيرِ الدَّيْنِ لِأَجْلِ الْهَدِيَّةِ فَيَكُونُ رِبًا إذَا اسْتَعَادَ مَالَهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فَضْلًا , وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ مِنْ مَنْعِ الْوَالِي وَالْقَاضِي قَبُولَ الْهَدِيَّةِ , وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ , فَإِنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ ذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ فِي الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ . السَّادِسَ عَشَرَ : أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِقَاتِلٍ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ , إمَّا الْقَاتِلُ عَمْدًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ , وَالْقَاتِلُ مُبَاشَرَةً كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمَا , أَوْ الْقَاتِلُ قَتْلًا مَضْمُونًا بِقَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ , أَوْ الْقَاتِلُ بِغَيْرِ حَقٍّ , أَوْ الْقَاتِلُ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْقَاتِلُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمِيرَاثَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ , فَإِنَّ رِعَايَةَ هَذَا الْقَصْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمَنْعِ وِفَاقًا , وَمَا ذَاكَ إلَّا ; لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْقَاتِلِ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ فَسَدَتْ الذَّرِيعَةُ بِالْمَنْعِ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عِلَلٍ أُخَرَ .(1/129)
السَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَرَّثُوا الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ يُتَّهَمُ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْحِرْمَانَ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذَرِيعَةٌ , وَأَمَّا حَيْثُ لَا يُتَّهَمُ فَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ مَأْخَذُ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوَرِّثَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهَا بِمَالِهِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْ قَطْعِهِ أَوْ سَدِّ الْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ , وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إجْمَاعِ السَّابِقِينَ . الثَّامِنَ عَشَرَ : أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعَامَّةَ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْجَمْعِ بِالْوَاحِدِ , وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ الْقِصَاصِ يَمْنَعُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ عَدَمُ الْقِصَاصِ ذَرِيعَةً إلَى التَّعَاوُنِ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ . التَّاسِعَ عَشَرَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ بِدَارِ الْحُرُوبِ } لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اللَّحَاقِ بِالْكُفَّارِ .(1/130)
الْعِشْرُونَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ فَلْيَصُمْهُ } { وَنَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ } إمَّا مَعَ كَوْنِ طُلُوعِ الْهِلَالِ مَرْجُوحًا وَهُوَ حَالُ الصَّحْوِ وَإِمَّا سَوَاءٌ كَانَ رَاجِحًا أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَلْحَقَ بِالْفَرْضِ مَا لَيْسَ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ حَرَّمَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي آخِرَ الصَّوْمِ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ . وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ تَمْيِيزًا لِوَقْتِ الْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يُفْضِيَ الصَّوْمُ الْمُتَوَاصِلُ إلَى التَّسَاوِي , وَرَاعَى هَذَا الْمَقْصُودَ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفُطُورِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَاسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ , وَكَذَلِكَ نَدَبَ إلَى تَمْيِيزِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنْ نَفْلِهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فَكَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي مَكَانِهِ وَأَنْ يَسْتَدِيمَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ , وَنَدَبَ الْمَأْمُومَ إلَى هَذَا التَّمْيِيزِ , وَمِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِ ذَلِكَ سَدُّ الْبَابِ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْفَرَائِضِ . الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الصَّلَاةَ إلَى مَا قَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَحَبَّ لِمَنْ صَلَّى إلَى عَمُودٍ أَوْ عُودٍ وَنَحْوِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى أَحَدِ حَاجِبَيْهِ وَلَا يَصْمُدَ إلَيْهِ صَمْدًا قَطْعًا لِذَرِيعَةِ التَّشْبِيهِ بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .(1/131)
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَاعِنَا مَعَ قَصْدِهِمْ الصَّالِحَ ; لِئَلَّا تَتَّخِذَهُ الْيَهُودُ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِئَلَّا يُشْتَبَهَ بِهِمْ , وَلِئَلَّا يُخَاطَبَ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ مَعْنًى فَاسِدًا . الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الشَّرِكَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُعَلَّقَةِ بِالشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ سَدًّا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُوحِيَ إلَيْهِ الْبَاطِنَ , وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَوِّيَ الدَّعَاوَى بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ شَهَادَةَ ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ وَإِنْ وَثِقَ بِتَقْوَاهُ , حَتَّى لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لِيَنْضَبِطَ طَرِيقُ الْحُكْمِ , فَإِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْخُصُومِ وَالشُّهُودِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا لَا يَزُولُ إلَّا بِحَسْمِ هَذِهِ الْمَادَّةِ وَإِنْ أَفْضَتْ فِي آحَادِ الصُّوَرِ إلَى الْحُكْمِ لِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ فَسَادَ ذَلِكَ قَلِيلٌ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ فِي جَنْبِ فَسَادِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ مَضْبُوطٍ مِنْ قَرَائِنَ أَوْ فِرَاسَةٍ أَوْ صَلَاحِ خَصْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ بِهَذَا صَلَاحٌ قَلِيلٌ مَغْمُورٌ بِفَسَادٍ كَثِيرٍ .(1/132)
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَهُ فَيَسُبُّونَ الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ . السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ إقَامَةَ الْحُدُودِ سَدًّا لِلتَّذَرُّعِ إلَى الْمَعَاصِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا زَاجِرٌ وَإِنْ كَانَتْ الْعُقُوبَاتُ مِنْ جِنْسِ الشَّرِّ , وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَعْ الْحُدُودُ إلَّا فِي مَعْصِيَةٍ تَتَقَاضَاهَا الطِّبَاعُ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ دُونَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالرَّمْيِ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ اكْتَفَى فِيهِ بِالتَّعْزِيرِ , ثُمَّ إنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ إقَامَةَ الْحُدُودِ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ الْجَرِيمَةُ وَإِنْ تَابَ الْعَاصِي عِنْدَ ذَلِكَ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ تَرْكُ الْحَدِّ بِهَذَا السَّبَبِ إلَى تَعْطِيلِ الْحُدُودِ , مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ .(1/133)
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَفِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ إمَامَيْنِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الصَّلَاةِ الْأَصْلِيَّةِ لِمَا فِي التَّفْرِيقِ مِنْ خَوْفِ تَفْرِيقِ الْقُلُوبِ وَتَشَتُّتِ الْهِمَمِ , ثُمَّ إنَّ مُحَافَظَةَ الشَّارِعِ عَلَى قَاعِدَةِ الِاعْتِصَامِ بِالْجَمَاعَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَزَجْرِهِ عَمَّا قَدْ يُفْضِي إلَى ضِدِّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ , وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْرَعُ لِوَسَائِلِ الْأُلْفَةِ وَهِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَزَجْرٍ عَنْ ذَرَائِعِ الْفُرْقَةِ , وَهِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَيْضًا . الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِكَرَاهَةِ إفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ . وَكَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ , وَجَاءَ عَنْ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ أَيَّامِ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْسُهُ عَمَلًا صَالِحًا لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ وَتَعْظِيمُ الشَّيْءِ تَعْظِيمًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ . التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَضْرُوبَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَضَمَّنَتْ تَمْيِيزَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اللِّبَاسِ وَالشُّعُورِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِهَا لِئَلَّا تُفْضِي مُشَابَهَتُهُمْ إلَى أَنْ يُعَامَلَ الْكَافِرُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ .(1/134)
الثَّلَاثُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الَّذِي أَرْسَلَ مَعَهُ بِهَدِيَّةٍ إذَا عَطِبَ شَيْءٌ مِنْهُ دُونَ الْمَحَلِّ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيَصْبُغَ نَعْلَهُ الَّذِي قَلَّدَهُ بِدَمِهِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَنَهَاهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ , قَالُوا وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يُطْعِمَ أَهْلَ رُفْقَتِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَحَلِّ فَرُبَّمَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يُقَصِّرَ فِي عَلَفِهَا وَحِفْظِهَا مِمَّا يُؤْذِيهَا لِحُصُولِ غَرَضِهِ بِعَطَبِهَا دُونَ الْمَحَلِّ كَحُصُولِهِ بِبُلُوغِهَا الْمَحَلَّ مِنْ الْأَكْلِ وَالْإِهْدَاءِ , فَإِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِ غَرَضِهِ فِي عَطَبِهَا كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى إبْلَاغِهَا الْمَحَلَّ وَأَحْسَمُ لِمَادَّةِ هَذَا الْفَسَادِ , وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ سَدِّ الذَّرَائِعِ . وَالْكَلَامُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاسِعٌ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ , وَلَمْ نَذْكُرْ مِنْ شَوَاهِدِ هَذَا الْأَصْلِ إلَّا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَوْ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَوْ مَأْثُورٌ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ شَائِعٌ عَنْهُمْ , إذْ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا يُحْتَجُّ لَهَا بِهَذِهِ الْأُصُولِ لَا يُحْتَجُّ بِهَا , وَلَمْ يَذْكُرْ الْحِيَلَ الَّتِي قَصَدَ بِهَا الْحَرَامَ كَاحْتِيَالِ الْيَهُودِ , وَلَا مَا كَانَ وَسِيلَةً إلَى مَفْسَدَةٍ لَيْسَتْ هِيَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَإِنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ مَنْ اسْتَشْهَدَ لِلذَّرَائِعِ فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَدْخُلَ عَامَّةُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الذَّرَائِعِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ فَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ هُنَا .(1/135)
ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي بَعْضِهَا حِكَمٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الذَّرَائِعِ وَإِنَّمَا قَصَدْنَا أَنَّ الذَّرَائِعَ مِمَّا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ إمَّا مُفْرَدَةً أَوْ مَعَ غَيْرِهَا , فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ إمَّا بِأَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْمُحَرَّمَ أَوْ بِأَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ يُحَرِّمُهُ الشَّارِعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً تُوجِبُ حِلَّهُ أَوْ وُجُوبَهُ فَنَفْسُ التَّذَرُّعِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالِاحْتِيَالِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَأَوْلَى بِإِبْطَالِ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ مِنْهُ إذَا عَرَفَ قَصْدَ فَاعِلِهِ وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يُعَانَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ , وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَجْوِيزَ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً(1/136)
, فَإِنَّ الشَّارِعَ سَدَّ الطَّرِيقَ إلَى ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ , وَالْمُحْتَالُ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَسَّلَ إلَيْهِ , وَلِهَذَا لَمَّا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ فِي الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا شُرُوطًا سَدَّ بِبَعْضِهَا التَّذَرُّعَ إلَى الزِّنَا وَالرِّبَا وَكَمَّلَ بِهَا مَقْصُودَ الْعُقُودِ لَمْ يُمَكِّنْ الْمُحْتَالَ الْخُرُوجَ عَنْهَا فِي الظَّاهِرِ , فَإِذَا أَرَادَ الِاحْتِيَالَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْعُقُودِ عَلَى مَا مَنَعَ الشَّارِعُ مِنْهُ أَتَى بِهَا مَعَ حِيلَةٍ أُخْرَى تُوَصِّلُهُ بِزَعْمِهِ إلَى نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي سَدَّ الشَّارِعُ ذَرِيعَتَهُ فَلَا يَبْقَى لِتِلْكَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَأْتِي بِهَا فَائِدَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ . بَلْ يَبْقَى بِمَنْزِلَةِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ وَتَطْوِيلِ الطَّرِيقِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ .(1/137)
وَلِهَذَا تَجِدُ الصَّحِيحَ الْفِطْرَةَ لَا يُحَافِظُ عَلَى تِلْكَ الشُّرُوطِ لِرُؤْيَتِهِ أَنَّ مَقْصُودَ الشُّرُوطِ تَحْقِيقُ حُكْمِ مَا شُرِطَتْ لَهُ وَالْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ إنَّمَا قَصْدُهُ ذَاكَ لَا الْآخَرُ وَلَا مَا شُرِطَتْ لَهُ , وَلِهَذَا تَجِدُ الْمُحْتَالِينَ عَلَى الرِّبَا وَعَلَى حِلِّ الْمُطَلَّقَةِ وَعَلَى حِلِّ الْيَمِينِ لَا يَتَمَسَّكُونَ بِشُرُوطِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ لِعَدَمِ فَائِدَةٍ تَتَعَلَّقُ لَهُمْ بِذَلِكَ وَلِتَعَلُّقِ رَغْبَتِهِمْ بِمَا مُنِعُوا مِنْهُ مِنْ الرِّبَا وَعَوْدِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَإِسْقَاطِ الثَّمَنِ الْمَعْقُودَةِ , وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ انْتِزَاعَ الشِّقْصِ مِنْ مُشْتَرِيهِ وَهُوَ لَا يُخْرِجُ الْمِلْكَ عَنْ مَالِكِهِ بِقِيمَةٍ أَوْ بِغَيْرِ قِيمَةٍ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ , وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ هُنَا تَكْمِيلَ الْعَقَارِ لِلشَّرِيكِ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَزُولُ ضِرَارُ الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّكْمِيلِ ضَرَرٌ عَلَى الشَّرِيكِ الْبَائِعِ ; لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الثَّمَنِ يَحْصُلُ بِأَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالشَّرِيكِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ وَاَلَّذِي يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا بِأَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ غَرَضُهُ بَيْعُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ دُونَ الشَّرِيكِ إمَّا ضِرَارًا لِلشَّرِيكِ أَوْ نَفْعًا لِلْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ هُوَ مُنَاقِضًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مُضَادًّا لَهُ فِي حُكْمِهِ , فَالشَّارِعُ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكُهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ; وَهَذَا يَقُولُ لَا تَلْتَفِتُ إلَى الشَّرِيكِ وَأَعْطِهِ لِمَنْ شِئْت .(1/138)
ثُمَّ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَثَلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَاقَدَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَقَبَضَ مِنْهُ تِسْعَمِائَةٍ وَصَارَفَهُ عَنْ الْأَلْفِ وَمِائَةٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَتَعَذَّرَ عَلَى الشَّرِيكِ الْأَخْذُ أَلَيْسَ عَيْنُ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فَوْتَهُ مَعَ إظْهَارِهِ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِيهِ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَأَنَّ صَاحِبَهَا مُتَعَرِّضٌ لِسَخَطِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ , وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْقُضَ عَلَى صَاحِبِهَا مَقْصُودَهُ مِنْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ حِيلَةٍ بِحَسْبِهَا , فَلَا يَخْلُو الِاحْتِيَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ . فَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَالُ مِنْ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ , فَإِنْ كَانَا عَقَدَا بَيْعَيْنِ تَوَاطَآ عَلَيْهِمَا تَحَيَّلَا إلَى الرِّبَا كَمَا فِي الْعِينَةِ حُكِمَ بِفَسَادِ ذَيْنِك الْعَقْدَيْنِ وَيَرُدُّ إلَى الْأَوَّلِ رَأْسَ مَالِهِ كَمَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِأُمِّ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ , وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِعَقْدِ رِبًا لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَبَدَلُهُ إنْ كَانَ فَائِتًا . وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَا بَيْنَ بَيْعٍ وَقَرْضٍ , أَوْ إجَارَةٍ وَقَرْضٍ , أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ , أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ مُزَارَعَةٍ مَعَ قَرْضٍ حُكِمَ بِفَسَادِهِمَا فَيَجِبُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَدَلَ مَالِهِ فِيمَا جَعَلَاهُ قَرْضًا , وَالْعَقْدُ الْآخَرُ فَاسِدٌ لَهُ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ .(1/139)
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نِكَاحًا تَوَاطَآ عَلَيْهِ كَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا لَهُ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ , وَكَذَلِكَ إذَا تَوَاطَآ عَلَى بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ , أَوْ عَلَى هِبَةٍ لِتَصْحِيحِ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَقْفِ فَسَادٍ , مِثْلَ أَنْ تُرِيدَ مُوَاقَعَةَ مَمْلُوكِهَا فَتُوَاطِئَ رَجُلًا عَلَى أَنْ تَهَبَهُ الْعَبْدَ فَيُزَوِّجَهَا بِهِ ثُمَّ يَهَبَهَا إيَّاهُ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ فَاسِدَانِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ .(1/140)
فَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَالُ مِنْ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَتْ حِيلَةً يَسْتَقِلُّ بِهَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَا غَرَضُهُ , فَإِنْ كَانَتْ عَقْدًا كَانَ عَقْدًا فَاسِدًا مِثْلُ أَنْ يَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِئَلَّا تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْهِبَةِ كَعَدَمِهَا لَيْسَتْ هِبَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ , لَكِنْ إنْ ظَهَرَ الْمَقْصُودُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِلَّا بَقِيَتْ فَاسِدَةً فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ , وَإِنْ كَانَتْ حِيلَةً لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ التَّحْلِيلَ وَلَا يُظْهِرُ لِلزَّوْجَةِ , أَوْ يَرْتَجِعُ الْمَرْأَةَ ضِرَارًا بِهَا , أَوْ يَهَبُ مَالَهُ ضِرَارًا لِوَرَثَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِلَى مَنْ عَلِمَ غَرَضَهُ بَاطِلَةً فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ وَلَا يَرِثُهَا لَوْ مَاتَتْ , وَإِذَا عَلِمَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُوصَى لَهُ غَرَضَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْبَاطِنِ فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ لَوْلَا الْعَقْدُ الْمُحْتَالُ بِهِ , وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَاقِدِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ يُفِيدُ مَقْصُودَ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ , وَإِنْ كَانَتْ الْحِيلَةُ لَهُ وَعَلَيْهِ كَطَلَاقِ الْمَرِيضِ صُحِّحَ الطَّلَاقُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ وَلَمْ يُصَحَّحْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ الْإِرْثَ . فَإِنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ مَنْ قَطَعَ الْإِرْثَ لَا مِنْ إزَالَةِ مِلْكِ الْبُضْعِ .(1/141)
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحِيلَةُ فِعْلًا يُفْضِي إلَى غَرَضٍ لَهُ مِثْلُ أَنْ يُسَافِرَ فِي الصَّيْفِ لِيَتَأَخَّرَ عَنْهُ لِلصَّوْمِ إلَى الشِّتَاءِ لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ . بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي هَذَا السَّفَرِ , فَإِنْ كَانَ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ حَقِّ غَيْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ لِيَنْفَسِخَ نِكَاحُهُ , أَوْ مِثْلُ أَنْ يُبَاشِرَ الْمَرْأَةَ ابْنُ زَوْجِهَا أَوْ أَبُوهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا فَهَذِهِ الْحِيلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْلَافِ لِلْمِلْكِ بِقَتْلٍ أَوْ غَصْبٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهَا ; لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَرْأَةِ بِهَذَا السَّبَبِ حَقٌّ لِلَّهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَسْخُ النِّكَاحِ ضِمْنًا . وَالْأَفْعَالُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّحْرِيمِ لَا يُعْتَبَرُ لَهَا الْعَقْلُ فَضْلًا عَنْ الْقَصْدِ , وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى نَجَاسَةِ دُهْنِهِ أَوْ خَلِّهِ أَوْ دِبْسِهِ بِأَنْ يُلْقِيَ فِيهِ نَجَاسَةً , فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَائِعَاتِ بِالْمُخَالَطَةِ وَتَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمُبَاشَرَةِ أَحْكَامٌ تَنْبُتُ بِأُمُورٍ حِسِّيَّةٍ لَا تَرْفَعُ الْأَحْكَامَ مَعَ وُجُوبِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ .(1/142)
وَإِنْ كَانَتْ الْحِيلَةُ فِعْلًا يُفْضِي إلَى التَّحْلِيلِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ , مِثْلُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ أَوْ لِيُزَوِّجَهَا صِدِّيقًا لَهُ فَهُنَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ مَنْ قَصَدَ تَزَوُّجَهَا بِهِ , فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ الزَّوْجَ لِمَعْنًى فِيهِ , وَأَمَّا الَّذِي قَصَدَ بِالْقَتْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ إمَّا بِمُوَاطَأَتِهَا أَوْ غَيْرِ مُوَاطَأَتِهَا فَهَذَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا لَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ بِنَقْلِهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْقِيَ فِيهَا شَيْئًا فَإِنَّ التَّخْلِيلَ لَمَّا حَصَلَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ , وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ , وَإِنْ كَانَتْ لَوْ تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ حَلَّتْ , وَكَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ لَوْ مَاتَ بِدُونِ هَذَا الْقَصْدِ حَلَّتْ , فَإِذَا قَتَلَهُ لِهَذَا الْقَصْدِ أَمْكَنَ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ مَعَ حِلِّهَا لِغَيْرِهِ , وَيُشْبِهُ هَذَا الْحَلَالَ إذَا صَادَ الصَّيْدَ وَذَبَحَهُ لِحَرَامٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى ذَلِكَ الْمُحْرِمِ وَيُحَلَّلُ لِلْحَلَالِ . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا : أَنَّ الْقَاتِلَ يَمْنَعُهُ الْإِرْثَ وَلَمْ يَمْنَعْ غَيْرَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَالُ الرَّجُلِ تَتَطَلَّعُ عَلَيْهِ نُفُوسُ الْوَرَثَةِ كَانَ الْقَتْلُ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ , بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يُقْصَدُ .(1/143)
إذْ الْتِفَاتُ الرَّجُلِ إلَى امْرَأَةِ غَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْتِفَاتِ الْوَارِثِ إلَى مَالِ الْمَوْرُوثِ قَلِيلٌ فَكَوْنُهُ يَقْتُلُهُ لِيَتَزَوَّجَهَا أَقَلَّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْرَعْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ كَمَا يُمْنَعُ مِيرَاثُهُ , فَإِذَا قَصَدَ التَّزَوُّجَ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةٌ لِحِكْمَةٍ فِيهِ فَيُعَاقَبُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ . فَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي رَدِّ هَذَا أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُحَرَّمَةَ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تُفِيدُ الْحِلَّ كَذَبْحِ الصَّيْدِ وَتَحْلِيلِ الْخَمْرِ وَالتَّذْكِيَةِ فِي غَيْرِ الْمُحَلَّلِ , أَمَّا الْمُحَرَّمُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ كَذَبْحِ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحِلَّ , أَوْ يُقَالُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَشْرُوعَ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ يُشْتَرَطُ فِيهِ وُقُوعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ كَالذَّكَاةِ وَالْقَتْلِ لَمْ يَشْرَعْ لِحِلِّ الْمَرْأَةِ , وَإِنَّمَا انْقِضَاءُ النِّكَاحِ بِانْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَحَصَلَ الْحِلُّ ضِمْنًا وَتَبَعًا . وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِ هَذَا أَنَّ قَتْلَ الْآدَمِيِّ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ , بِخِلَافِ ذَبْحِ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِمَحْضِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ حَلَّ , وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمُحَرَّمُ هُنَاكَ إنَّمَا هُوَ تَفْوِيتُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ لَا إزْهَاقُ الرُّوحِ .(1/144)
ثُمَّ يُقَالُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي الذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ , وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ , وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَبْحِ الْمَغْصُوبِ , وَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا أَنَّهُ ذَكِيٌّ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَفِيهِ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ الْمَشْهُورُ فِي ذَبْحِ الْغَنَمِ الْمَنْهُوبَةِ . وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَضَافَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَبَحَتْ لَهُ الشَّاةَ الَّتِي أَخَذَتْهَا بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا فَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ أَطْعِمُوهَا لِلْأُسَارَى وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْبُوحَ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ الْمَذْبُوحُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الصَّيْدَ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ لِحَرَامٍ حَرُمَ عَلَى الْحَرَامِ دُونَ الْحَلَالِ , وَقَدْ نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا قَالَ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا يَعْنِي لَهُ قُلْت لِأَبِي فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا قَالَ تُؤْكَلُ , فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَى الذَّابِحِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّحْرِيمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْأَكْلِ لَمْ يَخُصَّ الذَّابِحَ بِالتَّحْرِيمِ . فَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي الْحَقِيقَةِ حُجَّةٌ لِتَحْرِيمِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ عَلَى الْقَاتِلِ لِيَتَزَوَّجَهَا دُونَ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْحِيَلَ نَوْعَانِ : أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ . وَالْأَقْوَالُ يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ أَحْكَامِهَا الْعَقْلُ , وَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَصْدُ .(1/145)
وَتَكُونُ صَحِيحَةً تَارَةً وَهُوَ مَا تَرَتَّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ فَأَفَادَ حُكْمَهُ . وَفَاسِدَةً أُخْرَى وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ , ثُمَّ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ وَرَفْعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ , وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَهَذَا الضَّرْبُ إذَا قَصَدَ بِهِ الِاحْتِيَالَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ إسْقَاطِ وَاجِبٍ أَمْكَنَ إبْطَالُهُ إمَّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَإِمَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُبْطِلُ مَقْصُودَ الْمُحْتَالِ بِحَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَمَا حَكَمَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَاقِ الْعَارِ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حَقًّا لِلْمُقِرِّ وَعَلَيْهِ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ حُرٌّ . وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَإِنْ اقْتَضَتْ الرُّخْصَةَ لِلْمُحْتَالِ لَمْ يَحْصُلْ كَالسَّفَرِ لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ , وَإِنْ اقْتَضَتْ تَحْرِيمًا عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَإِنْ اقْتَضَتْ حِلًّا عَامًّا إمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِوَاسِطَةِ زَوَالِ الْمِلْكِ , فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ , وَذَبْحِ الصَّيْدِ لِلْحَلَالِ وَذَبْحِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ . وَبِالْجُمْلَةِ إذَا قَصَدَ بِالْفِعْلِ اسْتِبَاحَةَ مُحَرَّمٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ , وَإِنْ قَصَدَ إزَالَةَ مِلْكِ الْغَيْرِ لِتَحِلَّ فَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ أَيْضًا , وَإِنْ حَلَّ لِغَيْرِهِ , وَهُنَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا هُنَا .(1/146)
وَقَدْ دَخَلَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ فَهِيَ لَا تَمْشِي غَالِبًا إلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْفُرْقَةَ تَتَنَجَّزُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَوْ يَقُولُ بِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ بِهَا النِّكَاحُ , إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا إنَّمَا ارْتَدَّتْ لِذَلِكَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ مُرْتَدَّةً مِنْ حَيْثُ الْعُقُوبَةُ وَالْقَتْلُ غَيْرَ مُرْتَدَّةٍ مِنْ جِهَةِ فَسَادِ النِّكَاحِ , حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ أَوْ قُتِلَتْ قَبْلَ الرُّجُوعِ اسْتَحَقَّ الْمِيرَاثَ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا فِي حَالِ الرِّدَّةِ , فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَدْ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا بِأَسْبَابٍ مِنْ جِهَتِهَا كَمَا لَوْ مَكَّنَتْ مِنْ وَطِئَهَا أَوْ أَحْرَمَتْ , لَكِنْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهَا ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّهَا إنَّمَا ارْتَدَّتْ لِفَسْخِ النِّكَاحِ لَمْ يُقْبَلْ هَذَا , لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ يَجْعَلُ هَذَا ذَرِيعَةً إلَى عَوْدِ نِكَاحِ كُلِّ مُرْتَدَّةٍ بِأَنْ تُلَقَّنَ إنِّي إنَّمَا ارْتَدَدْت لِلْفَسْخِ ; وَلِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي ذَلِكَ ; وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهَا مُرْتَدَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ .
وفي إعلام الموقعين :
فَصْلٌ : [ رِبَا الْفَضْلِ ](1/147)
وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ , كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ; فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّمَّا } وَالرِّمَّا هُوَ الرِّبَا , فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ , وَلَا يُفْعَلُ هَذَا إلَّا لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إمَّا فِي الْجَوْدَةِ , وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ , وَإِمَّا فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّلِ فِيهَا إلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ , وَهُوَ عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ , وَهَذِهِ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا ; فَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ , وَمَنَعَهُمْ مِنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً ; فَهَذِهِ حِكْمَةٌ مَعْقُولَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْعُقُولِ , وَهِيَ تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ . [(1/148)
الْأَجْنَاسُ الَّتِي يَحْرُمُ فِيهَا رِبَا الْفَضْلِ وَآرَاءِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ] فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ : الشَّارِعُ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ فِي سِتَّةِ أَعْيَانٍ , وَهِيَ الذَّهَبُ , وَالْفِضَّةُ , وَالْبُرُّ , وَالشَّعِيرُ , وَالتَّمْرُ , وَالْمِلْحُ , فَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ , وَتَنَازَعُوا فِيمَا عَدَاهَا ; فَطَائِفَةٌ قَصَرَتْ التَّحْرِيمَ عَلَيْهَا , وَأَقْدَمُ مَنْ يُرْوَى هَذَا عَنْهُ قَتَادَةُ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ , وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ مَعَ قَوْلِهِ بِالْقِيَاسِ , قَالَ : لِأَنَّ عِلَلَ الْقِيَاسِيَّيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا عِلَلٌ ضَعِيفَةٌ , وَإِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِي عِلَّةٍ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ . وَطَائِفَةٌ حَرَّمَتْهُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ , وَهَذَا مَذْهَبُ عَمَّارٍ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا وَلَا مَوْزُونًا , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالطَّعَامِ إذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا , وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ , وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالْقُوتِ وَمَا يُصْلِحُهُ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَهُوَ أَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كَمَا سَتَرَاهُ .(1/149)
وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ , فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْعِلَّةُ فِيهِمَا كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْنِ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَطَائِفَةٌ قَالَتْ : الْعِلَّةُ فِيهِمَا الثَّمَنِيَّةُ , وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ , فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إسْلَامِهِمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مِنْ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِمَا ; فَلَوْ كَانَ النُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ رِبَوِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمَا إلَى أَجَلٍ بِدَرَاهِمَ نَقْدًا ; فَإِنَّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرَّدُّ إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُهُ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ دُونَ النِّسَاءِ , وَالْعِلَّةُ إذَا انْتَقَضَتْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا .(1/150)
وَأَيْضًا فَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ لَيْسَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ , فَهُوَ طَرْدٌ مَحْضٌ , بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالثَّمَنِيَّةِ , فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ , وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ تَقْوِيمُ الْأَمْوَالِ , فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لَا يَرْتَفِعُ وَلَا يَنْخَفِضُ ; إذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ الْمَبِيعَاتِ , بَلْ الْجَمِيعُ سِلَعٌ , وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ , وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ , وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الْأَشْيَاءُ , وَيَسْتَمِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ , وَلَا يَقُومُ هُوَ بِغَيْرِهِ ; إذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ , فَتَفْسُدُ مُعَامَلَاتُ النَّاسِ , وَيَقَعُ الْخُلْفُ , وَيَشْتَدُّ الضَّرَرُ , كَمَا رَأَيْت مِنْ فَسَادِ مُعَامَلَاتِهِمْ وَالضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِهِمْ حِينَ اُتُّخِذَتْ الْفُلُوسُ سِلْعَةً تُعَدُّ لِلرِّبْحِ فَعَمَّ الضَّرَرُ وَحَصَلَ الظُّلْمُ , وَلَوْ جَعَلْت ثَمَنًا وَاحِدًا لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْقُصُ بَلْ تَقُومُ بِهِ الْأَشْيَاءُ وَلَا تَقُومُ هِيَ بِغَيْرِهَا لِصُلْحِ أَمْرِ النَّاسِ , فَلَوْ أُبِيحَ رِبَا الْفَضْلِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ - مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَ صِحَاحًا وَيَأْخُذَ مُكَسَّرَةً أَوْ خِفَافًا وَيَأْخُذَ ثِقَالًا أَكْثَرَ مِنْهَا - لَصَارَتْ مَتْجَرًا , أَوْ جَرَّ ذَلِكَ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ فِيهَا وَلَا بُدَّ ; فَالْأَثْمَانُ لَا تُقْصَدُ لِأَعْيَانِهَا , بَلْ يُقْصَدُ التَّوَصُّلُ بِهَا إلَى السِّلَعِ , فَإِذَا(1/151)
صَارَتْ فِي أَنْفُسِهَا سِلَعًا تُقْصَدُ لِأَعْيَانِهَا فَسَدَ أَمْرُ النَّاسِ , وَهَذَا مَعْنًى مَعْقُولٌ يَخْتَصُّ بِالنُّقُودِ لَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ .
فَصْلٌ [ وَجْهُ تَغَيُّرِ الْفَتْوَى بِتَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ ]
إذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَغَيَّرَتْ الْفَتْوَى بِهَا بِحَسَبِ الْأَزْمِنَةِ كَمَا عَرَفْتَ ; لِمَا رَأَتْهُ الصَّحَابَةُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مَفْسَدَةَ تَتَابُعِ النَّاسِ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِإِمْضَائِهَا عَلَيْهِمْ , فَرَأَوْا مَصْلَحَةَ الْإِمْضَاءِ أَقْوَى مِنْ مَفْسَدَةِ الْوُقُوعِ , وَلَمْ يَكُنْ بَابُ التَّحْلِيلِ الَّذِي لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاعِلَهُ مَفْتُوحًا بِوَجْهٍ مَا , بَلْ كَانُوا أَشَدَّ خَلْقِ اللَّهِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ , وَتَوَعَّدَ عُمَرُ فَاعِلَهُ بِالرَّجْمِ , وَكَانُوا عَالِمِينَ بِالطَّلَاقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَغَيْرِهِ , وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الَّتِي قَدْ شَكَتْ الْفُرُوجُ فِيهَا إلَى رَبِّهَا مِنْ مَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ , وَقُبْحِ مَا يَرْتَكِبُهُ الْمُحَلِّلُونَ مِمَّا هُوَ رَمَدٌ بَلْ عَمًى فِي عَيْنِ الدِّينِ وَشَجًى فِي حُلُوقِ الْمُؤْمِنِينَ : مِنْ قَبَائِحَ تُشْمِتُ أَعْدَاءَ الدِّينِ بِهِ وَتَمْنَعُ كَثِيرًا مِمَّنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِيهِ بِسَبَبِهِ , بِحَيْثُ لَا يُحِيطُ بِتَفَاصِيلِهَا خِطَابٌ , وَلَا يَحْصُرُهَا كِتَابٌ , يَرَاهَا الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ , وَيَعُدُّونَهَا مِنْ أَعْظَمِ الْفَضَائِحِ , قَدْ قَلَبَتْ مِنْ الدِّينِ رَسْمَهُ , وَغَيَّرَتْ مِنْهُ اسْمَهُ , وَضَمَّخَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ فِيهَا الْمُطَلَّقَةَ بِنَجَاسَةِ التَّحْلِيلِ ,(1/152)
وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ طَيَّبَهَا لِلْحَلِيلِ , فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , أَيُّ طِيبٍ أَعَارَهَا هَذَا التَّيْسُ الْمَلْعُونُ ؟ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ حَصَلَتْ لَهَا وَلِمُطَلِّقِهَا بِهَذَا الْفِعْلِ الدُّونِ ؟ أَتَرَوْنَ وُقُوفَ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ أَوْ الْوَلِيِّ عَلَى الْبَابِ وَالتَّيْسُ الْمَلْعُونُ قَدْ حَلَّ إزَارَهَا وَكَشَفَ النِّقَابَ وَأَخَذَ فِي ذَلِكَ الْمَرْتَعِ وَالزَّوْجُ أَوْ الْوَلِيُّ يُنَادِيه : لَمْ يُقَدَّمْ إلَيْك هَذَا الطَّعَامُ لِتَشْبَعَ , فَقَدْ عَلِمْت أَنْتَ وَالزَّوْجَةُ وَنَحْنُ وَالشُّهُودُ وَالْحَاضِرُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْكَاتِبُونَ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّك لَسْت مَعْدُودًا مِنْ الْأَزْوَاجِ , وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَوْ أَوْلِيَائِهَا بِك رِضًا وَلَا فَرَحٌ وَلَا ابْتِهَاجٌ , وَإِنَّمَا أَنْتَ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ لِلضِّرَابِ , الَّذِي لَوْلَا هَذِهِ الْبَلْوَى لَمَا رَضِينَا وُقُوفَك عَلَى الْبَابِ ; فَالنَّاسُ يُظْهِرُونَ النِّكَاحَ وَيُعْلِنُونَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا , وَنَحْنُ نَتَوَاصَى بِكِتْمَانِ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ وَنَجْعَلُهُ أَمْرًا مَسْتُورًا ; بِلَا نِثَارٍ وَلَا دُفٍّ وَلَا خِوَانٍ وَلَا إعْلَانٍ , بَلْ التَّوَاصِي بِهَسٍّ وَمَسٍّ وَالْإِخْفَاءِ وَالْكِتْمَانِ ; فَالْمَرْأَةُ تُنْكَحُ لِدِينِهَا وَحَسَبِهَا وَمَالِهَا وَجَمَالِهَا , وَالتَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ لَا يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ لَا يُمْسِكُ بِعِصْمَتِهَا , بَلْ قَدْ دَخَلَ عَلَى زَوَالِهَا , وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ سَكَنًا لِصَاحِبِهِ , وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةً وَرَحْمَةً لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ مَقْصُودُ هَذَا الْعَقْدِ الْعَظِيمِ , وَتَتِمُّ بِذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي(1/153)
شَرَعَهُ لِأَجْلِهَا الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ , فَسَلْ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ : هَلْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ , أَوْ هُوَ مِنْ حِكْمَةِ هَذَا الْعَقْدِ وَمَقْصُودِهِ وَمَصْلَحَتِهِ أَجْنَبِيٌّ غَرِيبٌ ؟ وَسَلْهُ : هَلْ اتَّخَذَ هَذِهِ الْمُصَابَةَ حَلِيلَةً وَفِرَاشًا يَأْوِي إلَيْهِ ؟ ثُمَّ سَلْهَا : هَلْ رَضِيَتْ بِهِ قَطُّ زَوْجًا وَبَعْلًا تَعُولُ فِي نَوَائِبِهَا عَلَيْهِ ؟ وَسَلْ أُوَلِي التَّمْيِيزِ وَالْعُقُولِ : هَلْ تَزَوَّجَتْ فُلَانَةُ بِفُلَانٍ ؟ وَهَلْ يُعَدُّ هَذَا نِكَاحًا فِي شَرْعٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ فِطْرَةِ إنْسَانٍ ؟ وَكَيْفَ يَلْعَنُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أُمَّتِهِ نَكَحَ نِكَاحًا شَرْعِيًّا صَحِيحًا , وَلَمْ يَرْتَكِبْ فِي عَقْدِهِ مُحَرَّمًا وَلَا قَبِيحًا ؟ وَكَيْفَ يُشْبِهُهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ , وَهُوَ مِنْ جُمْلَة الْمُحْسِنِينَ الْأَبْرَارِ ؟ وَكَيْفَ تُعَيَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ طُولَ دَهْرِهَا بَيْنَ أَهْلِهَا وَالْجِيرَانِ ; وَتَظَلُّ نَاكِسَةً رَأْسَهَا إذَا ذُكِرَ ذَلِكَ التَّيْسُ بَيْنَ النِّسْوَانِ ؟ وَسَلْ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ : هَلْ حَدَّثَ نَفْسَهُ وَقْتَ هَذَا الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ النِّفَاقِ , بِنَفَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ وَزْنِ صَدَاقٍ ؟ وَهَلْ طَمِعَتْ الْمُصَابَةُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , أَوْ حَدَّثَتْ نَفْسَهَا بِهِ هُنَالِكَ ؟ وَهَلْ طَلَبَ مِنْهَا وَلَدًا نَجِيبًا وَاِتَّخَذَتْهُ عَشِيرًا وَحَبِيبًا ؟ وَسَلْ عُقُولَ الْعَالَمِينَ وَفِطَرَهُمْ : هَلْ كَانَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرَهُمْ تَحْلِيلًا , أَوْ كَانَ الْمُحَلَّلُ الَّذِي لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَهْدَاهُمْ سَبِيلًا ؟ وَسَلْ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ وَمَنْ اُبْتُلِيَتْ بِهِ : هَلْ تَجَمَّلَ أَحَدٌ مِنْهُمَا(1/154)
بِصَاحِبِهِ كَمَا يَتَجَمَّلُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ بِالرِّجَالِ , أَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا رَغْبَةٌ فِي صَاحِبِهِ بِحَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَمَالٍ ؟ وَسَلْ الْمَرْأَةَ : هَلْ تَكْرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا هَذَا التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ أَوْ يَتَسَرَّى , أَوْ تَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا أُخْرَى , أَوْ تَسْأَلُهُ عَنْ مَالِهِ وَصَنْعَتِهِ أَوْ حُسْنِ عِشْرَتِهِ وَسَعَةِ نَفَقَتِهِ ؟ وَسَلْ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ : هَلْ سَأَلَ قَطُّ عَمَّا يَسْأَلُهُ عَنْهُ مَنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ , أَوْ يَتَوَسَّلُ إلَى بَيْتِ أَحْمَائِهِ بِالْهَدِيَّةِ وَالْحُمُولَةِ وَالنَّقْدِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ خَاطِبُ الْمِلَاحِ ؟ وَسَلْهُ : هَلْ هُوَ أَبُو يَأْخُذُ أَوْ أَبُو يُعْطِي ؟ وَهَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ جَادَ هَذَا الْعَقْدَ : خُذِي نَفَقَةَ هَذَا الْعُرْسِ أَوْ حُطِّي ؟ وَسَلْهُ : هَلْ تَحَمَّلَ مِنْ كُلْفَةِ هَذَا الْعَقْدِ خُذِي نَفَقَةَ هَذَا الْعُرْسِ أَوْ حُطِّي ؟ ] وَسَلْهُ عَنْ وَلِيمَةِ عُرْسِهِ : هَلْ أَوْلَمَ وَلَوْ بِشَاةٍ ؟ وَهَلْ دَعَا إلَيْهَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَضَى حَقَّهُ وَأَتَاهُ ؟ وَسَلْهُ : هَلْ تَحَمَّلَ مِنْ كُلْفَةِ هَذَا الْعَقْدِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْمُتَزَوِّجُونَ , أَمْ جَاءَهُ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ الْأَصْحَابُ وَالْمُهَنَّئُونَ ؟ وَهَلْ قِيلَ لَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا وَعَلَيْكُمَا وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ , أَمْ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ لَعْنَةً تَامَّةً وَافِيَةً ؟ .(1/155)
فَصْلٌ ثُمَّ سَلْ مَنْ لَهُ أَدْنَى اطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ : كَمْ مِنْ حُرَّةٍ مَصُونَةٍ أَنْشَبَ فِيهَا الْمُحَلِّلُ مَخَالِبَ إرَادَتِهِ فَصَارَتْ لَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ مِنْ الْأَخْدَانِ وَكَانَ بَعْلُهَا مُنْفَرِدًا بِوَطْئِهَا فَإِذَا هُوَ وَالْمُحَلِّلُ فِيهَا بِبَرَكَةِ التَّحْلِيلِ شَرِيكَانِ ؟ فَلَعَمْرُ اللَّهِ كَمْ أَخَرَجَ التَّحْلِيلُ مُخَدَّرَةً مِنْ سِتْرِهَا إلَى الْبِغَاءِ , وَأَلْقَاهَا بَيْنَ بَرَاثِنِ الْعُشَرَاءِ وَالْحُرَفَاءِ ؟ وَلَوْلَا التَّحْلِيلُ لَكَانَ مَنَالُ الثُّرَيَّا دُونَ مَنَالِهَا , وَالتَّدَرُّعُ بِالْأَكْفَانِ دُونَ التَّدَرُّعِ بِجَمَالِهَا , وَعِنَاقُ الْقَنَا دُون عِنَاقِهَا , وَالْأَخْذُ بِذِرَاعِ الْأَسَدِ دُونَ الْأَخْذِ بِسَاقِهَا , وَسَلْ أَهْلَ الْخِبْرَةِ : كَمْ عَقَدَ الْمُحَلِّلُ عَلَى أُمٍّ وَابْنَتِهَا ؟ وَكَمْ جَمَعَ مَاءَهُ فِي أَرْحَامِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ وَفِي رَحِمِ الْأُخْتَيْنِ ؟ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ بَاطِلُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ , وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فِي كُتُبِ مَفَاسِدِ التَّحْلِيلِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُفْرَدَ بِالذِّكْرِ وَهِيَ كَمَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأَمْوَاجِ , وَمَنْ يَسْتَطِيعُ عَدَّ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ ؟ , وَكَمْ مِنْ امْرَأَةٍ كَانَتْ قَاصِرَةَ الطَّرْفِ عَلَى بَعْلِهَا , فَلَمَّا ذَاقَتْ عُسَيْلَةَ الْمُحَلِّلِ خَرَجَتْ عَلَى وَجْهِهَا فَلَمْ يَجْتَمِعْ شَمْلَ الْإِحْصَانِ وَالْعِفَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَمْلِهَا , وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَكَيْفَ يَحْتَمِلُ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ وَأَحْكَمُهَا تَحْلِيلَهُ ؟ فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِلَعْنَتِهِ , وَسَمَّاهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ مِنْ بَيْنِ فُسَّاقِ أُمَّتِهِ , كَمَا شَهِدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي(1/156)
طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِفَاحًا .(1/157)
أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ النَّسَائِيّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : حَدَّثَنِي أَبُو قَيْسٍ الْأَوْدِيُّ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة , وَالْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ , وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ } وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ { لَعَنَ الْمُحَلِّلَ } وَصَحَّحَهُ , ثُمَّ قَالَ : وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ , وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ , وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْوَاصِلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } , وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ , وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ , وَلَاوِي الصَّدَقَةِ وَالْمُعْتَدِي فِيهَا , وَالْمُرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ , مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .(1/158)
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَفِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُسْنَدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَخْنَسِيِّ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ } قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : عُثْمَانُ بْنُ الْأَخْنَسِيُّ ثِقَةٌ , وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ , وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ ; فَالْإِسْنَادُ جَيِّدٌ , وَفِي كِتَابِ الْعِلَلِ لِلتِّرْمِذِيِّ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثنا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَخْنَسِيِّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ , فَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ صَدُوقٌ , وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَخْنَسِيُّ ثِقَةٌ , وَكُنْت أَظُنُّ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ , وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ .(1/159)
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَمُجَالِدٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْوَى مِنْهُ فَحَدِيثُهُ شَاهِدٌ وَمُقَوٍّ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : هُوَ الْمُحَلِّلُ , لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ , فَذَكَرَهُ , وَقَدْ أُعِلَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِثَلَاثِ عِلَلٍ ; إحْدَاهَا : أَنَّ أَبَا حَاتِمٍ الْبُسْتِيَّ ضَعَّفَ مِشْرَحَ بْنَ هَاعَانَ . , وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ عَنْ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ , هُوَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ , وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } فَقَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ فِي أَيَّامِنَا , مَا أَرَى اللَّيْثَ سَمِعَهُ مِنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ ; لِأَنَّ حَيْوَةَ يَرْوِي عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِشْرَحٍ .(1/160)
وَالْعِلَّةُ الثَّالِثَةُ : مَا ذَكَرَهَا الْجُوزَجَانِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ فَقَالَ : كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى عُثْمَانَ هَذَا الْحَدِيثَ إنْكَارًا شَدِيدًا ; فَأَمَّا الْعِلَّةُ الْأُولَى فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيُّ : مِشْرَحٌ قَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ , وَابْنِ مَعِينٍ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ حِبَّانَ , قُلْت : وَهُوَ صَدُوقٌ عِنْدَ الْحُفَّاظِ , لَمْ يَتَّهِمْهُ أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ , وَلَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَطُّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ , وَلَا ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ , وَإِنَّمَا يُقَالُ : يَرْوِي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَنَاكِيرَ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا ; فَالصَّوَابُ تَرْكُ مَا انْفَرَدَ بِهِ , وَانْفَرَدَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْقَوْلِ فِيهِ , وَأَمَّا الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّيْثِ , وَكَوْنُهُ لَمْ يُخْرِجْهُ وَقْتَ اجْتِمَاعِ الْبُخَارِيِّ بِهِ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا ; وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إنَّ حَيْوَةَ يَرْوِي عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ عَنْ مِشْرَحٍ " فَإِنَّهُ يُرِيدُ [ بِهِ ] أَنَّ حَيْوَةَ مِنْ أَقْرَانِ اللَّيْثِ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ , وَإِنَّمَا رَوَى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِشْرَحٍ , وَهَذَا تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ , وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ " قَالَ مِشْرَحٌ " وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا , وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ; فَإِنَّ اللَّيْثَ كَانَ مُعَاصِرًا لِمِشْرَحٍ وَهُوَ فِي بَلَدِهِ , وَطَلَبُ اللَّيْثُ الْعِلْمَ وَجَمْعُهُ لَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ مِشْرَحٍ حَدِيثَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ مَعَهُ(1/161)
فِي الْبَلَدِ . وَأَمَّا التَّعْلِيلُ الثَّالِثُ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : إنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى عُثْمَانَ غَيْرُ جَيِّدٍ , وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ انْفِرَادِهِ بِهِ عَنْ اللَّيْثِ وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَعَلَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ اللَّيْثِ , كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الرَّجُلِ مَنْ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيهِ وَعِلَّةً قَادِحَةً , وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ هَهُنَا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ عَنْهُ , رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرٍ الْقَطِيعِيِّ ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي فَرِيقٍ ثنا أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهِ , فَذَكَرَهُ , وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ : ثنا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ , فَذَكَرَهُ .(1/162)
الثَّانِي : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ صَالِحٍ هَذَا الْمِصْرِيُّ نَفْسُهُ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ , وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ , وَقَالَ : هُوَ شَيْخٌ صَالِحٌ سَلِيمُ التَّأْدِيَةِ , قِيلَ لَهُ : كَانَ يُلَقِّنُ ؟ قَالَ : لَا , وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حُجَّةً , وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا خَالَفَ بِهِ الثِّقَاتِ , لَا مَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْهُمْ , فَكَيْفَ إذَا تَابَعَهُ مِثْلُ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ كَاتِبُ اللَّيْثِ وَأَكْثَرُ النَّاس حَدِيثًا عَنْهُ ؟ وَهُوَ ثِقَةٌ أَيْضًا , وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ , وَمِشْرَحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ : ثِقَةٌ , وَقَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : هُوَ مَعْرُوفٌ ; فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ , انْتَهَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ الشَّاذُّ أَنْ يَنْفَرِدَ الثِّقَةُ عَنْ النَّاسِ بِحَدِيثٍ , إنَّمَا الشَّاذُّ أَنْ يُخَالِفَ مَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَفِي إسْنَادِهِ زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ , وَقَدْ ضَعَّفَهُ قَوْمٌ , وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ , وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَقْرُونًا بِآخَرَ , وَعَنْ ابْنِ مَعِينٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ .(1/163)
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ , حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ , فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا , فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ بَيْنَهُ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ : هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ؟ قَالَ : لَا , إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ , كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } , قَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ , وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ نَشِيطٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ : قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ : لُعِنَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ , وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ : هَذَا التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ .(1/164)
فَصْلٌ فَسَلْ هَذَا التَّيْسَ : هَلْ دَخَلَ فِي قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلْقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وَهَلْ دَخَلَ فِي قوله تعالى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ } وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمِ الْقِيَامَة } وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ : النِّكَاحُ , وَالتَّعَطُّرُ , وَالْخِتَانُ , وَذَكَرَ الرَّابِعَةَ } وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { النِّكَاحُ سُنَّتِي ; فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : خَيْرُ هَذِهِ الْأَمَةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً ؟ وَهَلْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ : النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ , وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ } وَذَكَرَ الثَّالِثَ , أَمْ حَقَّ عَلَى اللَّهِ لَعْنَتُهُ تَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ ؟ وَسَلْهُ : هَلْ يَلْعَنُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَنْ يَفْعَلُ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ صَغِيرَةً , أَمْ لَعْنَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا ؟ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ(1/165)
نَارٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ , وَسَلْهُ : هَلْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مُحَلِّلٌ وَاحِدٌ أَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى التَّحْلِيلِ ؟ وَسَلْهُ لِأَيِّ شَيْءٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لَا أُوتَى بِمُحَلَّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا . وَسَلْهُ : كَيْفَ تَكُونُ الْمُتْعَةُ حَرَامًا نَصًّا مَعَ أَنَّ الْمُسْتَمْتِعَ لَهُ غَرَضٌ فِي نِكَاحِ الزَّوْجَةِ إلَى وَقْتٍ لَكِنْ لَمَّا كَانَ غَيْرَ دَاخِلٍ عَلَى النِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ كَانَ مُرْتَكِبًا لِلْمُحَرَّمِ ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ الَّذِي إنَّمَا قَصْدُهُ أَنْ يُمْسِكَهَا سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ أَوْ دُونَهَا , وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَلْبَتَّةَ ؟ بَلْ قَدْ شَرَطَ انْقِطَاعَهُ وَزَوَالَهُ إذَا أَخْبَثَهَا بِالتَّحْلِيلِ , فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ فِي عَقْلٍ أَوْ شَرْعٍ تَحْلِيلُ هَذَا وَتَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ ؟ هَذَا مَعَ أَنَّ الْمُتْعَةَ أُبِيحَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ , وَفَعَلَهَا الصَّحَابَةُ , وَأَفْتَى بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَمْ يُبَحْ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ قَطُّ وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَلَا أَفْتَى بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ؟ وَلَيْسَ الْغَرَضُ بَيَانَ تَحْرِيمِ هَذَا الْعَقْدِ وَبُطْلَانِهِ وَذِكْرِ مَفَاسِدِهِ وَشَرِّهِ , فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي سِفْرًا ضَخْمًا نَخْتَصِرُ فِيهِ الْكَلَامَ , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا شَأْنُ التَّحْلِيلِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَصْحَابِ رَسُولِهِ , فَأَلْزَمَهُمْ عُمَرُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إذَا جَمَعُوهَا لِيَكُفُّوا عَنْهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحَرَّمُ بِهِ , وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى عَوْدِهَا بِالتَّحْلِيلِ , فَلَمَّا(1/166)
تَغَيَّرَ الزَّمَانُ , وَبَعُدَ الْعَهْدِ بِالسَّنَةِ وَآثَارِ الْقَوْمِ , وَقَامَتْ سُوقُ التَّحْلِيلِ وَنَفَّقَتْ فِي النَّاسِ ; فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخَلِيفَتِهِ مِنْ الْإِفْتَاءِ بِمَا يُعَطِّلُ سُوقَ التَّحْلِيلِ أَوْ يُقَلِّلُهَا وَيُخَفِّفُ شَرَّهَا , وَإِذَا عَرَضَ عَلَى مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَبَصَّرَهُ بِالْهُدَى وَفَقَّهَهُ فِي دِينِهِ مَسْأَلَةُ كَوْنِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَمَسْأَلَةُ التَّحْلِيلِ وَوَازَنَ بَيْنَهُمَا تَبَيَّنَ لَهُ التَّفَاوُتُ , وَعُلِمَ أَيُّ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَوْلَى بِالدِّينِ وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ . فَهَذِهِ حُجَجُ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَدْ عُرِضَتْ عَلَيْك , وَقَدْ أُهْدِيَتْ إنْ قَبِلْتَهَا إلَيْك , وَمَا أَظُنُّ عَمَى التَّقْلِيدِ إلَّا يَزِيدُ الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ , وَلَا يَدَعُ التَّوْفِيقَ يَقُودَك اخْتِيَارًا إلَيْهِ , وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ إشَارَةً تُطْلِعُ الْعَالِمَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .(1/167)
فَصْلٌ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَمْرُ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَمْنَعُ التَّحْلِيلَ , أَفْتَى بِهَا الْمُفْتِي , وَقَدْ قَالَ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ; فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ التَّحْلِيلِ , حَتَّى لَوْ أَفْتَى الْمُفْتِي بِحِلِّهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ , لَكَانَ أَعْذَرَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَصْحَابِ التَّحْلِيلِ , وَإِنْ اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ ; فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمَانِعَةَ مِنْ التَّحْلِيلِ الْمُصَرِّحَةَ بِلَعْنِ فَاعِلِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَالصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَيْهَا , وَالنُّصُوصُ الْمُشْتَرِطَةُ لِلدُّخُولِ لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَهَا , وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا التَّابِعُونَ ; فَمُخَالَفَتُهَا أَسْهَلُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحَادِيثِ التَّحْلِيلِ , وَالْحَقُّ مُوَافَقَةُ جَمِيعِ النُّصُوصِ , وَأَنْ لَا يُتْرَكَ مِنْهَا شَيْءٌ , وَتَأَمَّلْ كَيْفَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنْ كَوْنِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَالتَّحْلِيلُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ , ثُمَّ صَارَ فِي بَقِيَّةِ خِلَافَةِ عُمَرَ الثَّلَاثُ ثَلَاثٌ وَالتَّحْلِيلُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ , وَعُمَرُ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ فِيهِ , وَكُلُّهُمْ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ فِيهِ , ثُمَّ صَارَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ التَّحْلِيلُ كَثِيرًا مَشْهُورًا وَالثَّلَاثُ ثَلَاثًا .(1/168)
وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَة مُعَاقَبَةُ النَّاسِ بِمَا عَاقَبَهُمْ بِهِ عُمَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ , لَا سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَى تَحْرِيمَهُ , فَكَيْفَ يُعَاقَبُ مِنْ لَمْ يَرْتَكِبْ مُحَرَّمًا عِنْدَ نَفْسِهِ ؟ الثَّانِي : أَنَّ عُقُوبَتَهُمْ بِذَلِكَ تَفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّحْلِيلِ الَّذِي كَانَ مَسْدُودًا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ , وَالْعُقُوبَةُ إذَا تَضَمَّنَتْ مُفْسِدَةً أَكْثَرَ مِنْ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ كَانَ تَرْكُهَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ التَّحْلِيلَ مِمَّا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَمَعَاذَ اللَّهِ لَكَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ إذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي قَدْ تَفَاحَشَ قُبْحُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ , وَتَعَيَّنَ عَلَى الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ الْمَنْعُ مِنْهُ جُمْلَةً , وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ جَائِزٌ ; إذْ لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى التَّحْلِيلِ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْهَازِلَ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ كَالْجَادِّ بِهَا , مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ حَقَائِقَ هَذِهِ الْعُقُودِ(1/169)
, وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ , فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ , فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَحِلُّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ , وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلَالَةٌ عَلَى إلْغَاءِ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي الْعُقُودِ , وَإِبْطَالُ سَدِّ الذَّرَائِعِ , وَاتِّبَاعُ ظَوَاهِرِ عُقُودِ النَّاسِ وَأَلْفَاظِهِمْ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . [(1/170)
الْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ] فَانْظُرْ مُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ , وَمُعْتَرَكَ الْفَرِيقَيْنِ , فَقَدْ أَبْرَزَ كُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّتَهُ , وَخَاضَ بَحْرَ الْعِلْمِ فَبَلَغَ مِنْهُ لُجَّتَهُ , وَأَدْلَى مِنْ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ بِمَا لَا يُدْفَعُ , وَقَالَ مَا هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ قُلْ يُسْمَعْ , وَحُجَجُ اللَّهِ لَا تَتَعَارَضُ , وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ , وَالْحَقُّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا , وَلَا يَقْبَلُ مُعَارَضَةً وَلَا نَقْصًا , وَحَرَامٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الطِّرَازِ الْأَوَّلِ , أَوْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ وَبَحْثِهِ إذَا حَقَّتْ الْحَقَائِقُ الْمُعَوَّلُ , فَلْيُجَرِّبْ الْمُدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ وَالْمُدَّعِي فِي قَوْمٍ لَيْسَ مِنْهُمْ نَفْسُهُ وَعِلْمُهُ وَمَا حَصَّلَهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ , وَالْقَضَاءُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَغَالِبَيْنِ , وَلْيُبْطِلْ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ , لِيَسْلَمَ لَهُ قَوْلُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ , وَإِلَّا فَيَلْزَمُ حَدَّهُ , وَلَا يَتَعَدَّى طَوْرَهُ , وَلَا يَمُدُّ إلَى الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعًا يَقْصُرُ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ , وَلَا يَتَّجِرُ بِنَقْدٍ زَائِفٍ لَا يُرَوِّجُ عَلَيْهِ , وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَالَيْنِ إلَّا مَنْ تَجَرَّدَ لِلَّهِ مُسَافِرًا بِعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ إلَى مَطْلَعِ الْوَحْيِ , مُنَزِّلًا نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَلَقَّاهُ غَضًّا طَرِيًّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ وَلَا يَعْرِضُهُ عَلَيْهَا , وَيُحَاكِمُهَا إلَيْهِ وَلَا(1/171)
يُحَاكِمُهُ إلَيْهَا , فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : [ وُضِعَتْ الْأَلْفَاظُ لِتَعْرِيفِ مَا فِي النَّفْسِ ] إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْأَلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلَالَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ , فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْآخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ , وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الْأَلْفَاظِ , وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ , وَلَا عَلَى مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَمْ يُرِدْ مَعَانِيَهَا وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا , بَلْ تَجَاوَزَ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تُكَلِّمْ بِهِ , وَتَجَاوَزَ لَهَا عَمَّا تَكَلَّمَتْ بِهِ مُخْطِئَةً أَوْ نَاسِيَةً أَوْ مُكْرَهَةً أَوْ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُرِيدَةً لِمَعْنَى مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ أَوْ قَاصِدَةً إلَيْهِ , فَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَصْدُ وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ أَوْ الْفِعْلِيَّةُ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ .(1/172)
هَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ , وَهِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ , فَإِنَّ خَوَاطِرَ الْقُلُوبِ وَإِرَادَةَ النُّفُوسِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ , فَلَوْ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ , وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ تَأْبَى ذَلِكَ , وَالْغَلَطُ وَالنِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ وَسَبْقُ اللِّسَانِ بِمَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ بَلْ يُرِيدُ خِلَافَهُ وَالتَّكَلُّمُ بِهِ مُكْرَهًا وَغَيْرَ عَارِفٍ لِمُقْتَضَاهُ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ ; فَلَوْ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ لَحَرَجَتْ الْأُمَّةُ وَأَصَابَهَا غَايَةُ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ ; فَرَفَعَ عَنْهَا الْمُؤَاخَذَةَ بِذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى الْخَطَأِ فِي اللَّفْظِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ وَالسُّكْرِ كَمَا تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ
[ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُقَارِنُ ] :(1/173)
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَلَا يَفْسُدُ عَقْدٌ إلَّا بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ , وَلَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ تَقَدَّمَهُ وَلَا تَأَخَّرَهُ , وَلَا بِتَوَهُّمٍ , وَلَا أَمَارَةَ عَلَيْهِ " يُرِيدُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ إذَا عَرَّى صُلْبُ الْعَقْدِ عَنْ مُقَارَنَتِهِ , وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَقَالُوا : لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُقَارِنِ ; إذْ مَفْسَدَةُ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ تَزُلْ بِتَقَدُّمِهِ وَإِسْلَافِهِ , بَلْ مَفْسَدَتُهُ مُقَارِنًا كَمَفْسَدَتِهِ مُتَقَدِّمًا , وَأَيُّ مَفْسَدَةٍ زَالَتْ بِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ إذَا كَانَا قَدْ عَلِمَا وَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحَاضِرُونَ أَنَّهُمَا إنَّمَا عَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ وَأَظْهَرَا صُورَةَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا ؟ وَهُوَ مُقَيَّدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْمُحَرَّمِ ؟ فَإِذَا اشْتَرَطَا قَبْلَ الْعَقْدِ أَنَّ النِّكَاحَ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ أَوْ مُتْعَةٍ أَوْ شِغَارٍ , وَتَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ , وَتَوَاطَآ عَلَيْهِ , ثُمَّ عَقَدَا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ , وَسَكَتَا عَنْ إعَادَةِ الشَّرْطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ اعْتِمَادًا عَلَى تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ وَالْتِزَامِهِ , لَمْ يَخْرُجْ الْعَقْدُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ تَحْلِيلٍ وَمُتْعَةٍ وَشِغَارٍ حَقِيقَةً .(1/174)
وَكَيْفَ يَعْجَزُ الْمُتَعَاقِدَانِ اللَّذَانِ يُرِيدَانِ عَقْدًا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِوَصْفِ أَنْ يَشْتَرِطَا قَبْلَ الْعَقْدِ إرَادَةَ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ يَسْكُتَا عَنْ ذِكْرِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لِيَتِمَّ غَرَضُهُمَا ؟ وَهَلْ إتْمَامُ غَرَضِهِمَا إلَّا عَيْنُ تَفْوِيتِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَهِيَ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا - إلَّا فَتْحٌ لِبَابِ الْحِيَلِ ؟ بَلْ هِيَ أَصْلُ الْحِيَلِ وَأَسَاسُهَا , وَكَيْف تُفَرِّقُ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي تَقَدُّمِ لَفْظٍ وَتَأَخُّرِهِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَعْنَى وَالْقَصْدِ ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ أَقْرَبِ الْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ إلَى حُصُولِ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ عَدَمَهُ وَإِبْطَالَهُ ؟ وَأَيْنَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ؟ وَلِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُهَا بِبُطْلَانِ سَدِّ الذَّرَائِعِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِتِلْكَ ; فَالشَّارِعُ سَدَّ الذَّرَائِعَ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ بِكُلِّ طَرِيقٍ , وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُوَسِّعُ الطُّرُقَ إلَيْهَا وَتَنْهَجُهَا .(1/175)
وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَجَدَهَا تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ أَوْ الْوُجُوبَ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهُمَا حَقِيقَةً , وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا فِعْلَ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ , وَمِنْ جِهَةِ اشْتِمَالِهَا عَلَى التَّدْلِيسِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّوَسُّلِ بِشَرْعِ اللَّهِ الَّذِي أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ لِعِبَادِهِ إلَى نَفْسِ مَا حَرَّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ بَيِّنٌ فِي الْحَقِيقَةِ , بِحَيْثُ يَظْهَرُ لِلْعُقُولِ مُضَادَّةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخِرِ , وَالْفَرْقُ فِي الصُّورَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَا مُؤَثِّرٍ ; إذْ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ , فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهَا أَوْ مَوَاضِعُهَا بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا , وَلَوْ اتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا , وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ , وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ عَلِمَ صِحَّةَ هَذَا بِالِاضْطِرَارِ ; فَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ دُونَ مُقَارَنَةِ صُورَتِهِ صُورَةَ الْحَلَالِ الْمَشْرُوعِ وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ الْحَرَامِ الْبَاطِلِ , فَلَا تُرَاعَى الصُّورَةُ وَتُلْغَى الْحَقِيقَةُ وَالْمَقْصُودُ , بَلْ مُشَارَكَةُ هَذَا لِلْحَرَامِ صُورَةً وَمَعْنَى وَإِلْحَاقُهُ بِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَصْدِ وَالْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ .(1/176)
وفي البحر المحيط :
سَدُّ الذَّرَائِعِ .
قَالَ الْبَاجِيُّ : ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى الْمَنْعِ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ , وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ , مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ , وَيَشْتَرِيهَا بِخَمْسِينَ نَقْدًا , فَهَذَا قَدْ تَوَصَّلَ إلَى خَمْسِينَ بِذِكْرِ السِّلْعَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ . قُلْنَا : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } وَقَوْلُهُ : { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } وَقَوْلُهُ عليه السلام : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } , وَقَوْلُهُ عليه السلام : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَقَوْلُهُ عليه السلام : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ } . انْتَهَى . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَسَدُّ الذَّرَائِعِ ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ تَأْصِيلًا , وَعَمِلُوا عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ فُرُوعِهِمْ تَفْصِيلًا , ثُمَّ حَرَّرَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فَقَالَ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ الْوُقُوعُ قَطْعًا أَوْ لَا , وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , بَلْ مِنْ بَابِ مَا لَا خَلَاصَ مِنْ الْحَرَامِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَفِعْلُهُ حَرَامٌ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ .(1/177)
وَاَلَّذِي لَا يَلْزَمُ إمَّا أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْمَحْظُورِ غَالِبًا أَوْ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُسَمَّى ب " الذَّرَائِعِ " عِنْدَنَا : فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهِ , وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيهِ , فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِيهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُرَاعِيهِ , وَرُبَّمَا يُسَمِّيهِ التُّهْمَةَ الْبَعِيدَةَ وَالذَّرَائِعَ الضَّعِيفَةَ . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ فِي الْقَوَاعِدِ " : إنَّ مَالِكًا لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ , بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ بِهَا , وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ زِيَادَتُهُ فِيهَا . قَالَ : فَإِنَّ مِنْ الذَّرَائِعِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا , كَالْمَنْعِ مِنْ حَفْرِ الْآبَارِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي طَعَامِهِمْ , وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمْ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ . وَ ( مِنْهَا ) مَا هُوَ مَلْغِيٌّ إجْمَاعًا , كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ , فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ , وَ ( مِنْهَا ) مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ , كَبُيُوعِ الْآجَالِ , فَنَحْنُ نَعْتَبِرُ الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَنَا غَيْرُنَا . فَحَاصِلُ الْقَضِيَّةِ أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِنَا , لَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ .(1/178)
قَالَ : وَبِهَذَا نَعْلَمُ بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا } وَقَوْلُهُ : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدُّوا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } فَقَدْ ذَمُّهُمْ بِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ . عَلَيْهِمْ بِحَبْسِ الصَّيْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . وَقَوْلُهُ عليه السلام : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ } الْحَدِيثُ . وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُفْتَرِقَيْنِ , وَتَحْرِيمِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لِلذَّرِيعَةِ إلَيْهَا . وَبِقَوْلِهِ عليه السلام : { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَظَنِينٍ } خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ , وَمَنْعِ شَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ . وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَا تُفِيدُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعِ فِي الْجُمْلَةِ , وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ذَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ , وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوُهَا , فَيَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ بِمَحِلِّ النِّزَاعِ . وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمْ الْقِيَاسَ , وَحِينَئِذٍ فَلْيَذْكُرُوا الْجَامِعَ حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِرَفْعِهِ بِالْفَارِقِ .(1/179)
وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دَلِيلَهُمْ الْقِيَاسُ , فَإِنَّ مِنْ أَدِلَّةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ أَمَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ : إنِّي بِعْت مِنْهُ عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ نَقْدًا بِسِتِّمِائَةٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت , وَأَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ . قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ : وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ كَانَتْ مِنْ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قَبْلَ الْعِتْقِ , فَيَتَخَرَّجُ قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ , مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الذَّرَائِعِ وَلَعَلَّ زَيْدًا لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ قَالَ : وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي زَيْدٍ أَنَّهُ وَاطَأَ أُمَّ وَلَدِهِ عَلَى الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إلَى أَجَلٍ . وَقَوْلُ عَائِشَةَ : أَحْبَطَ عَمَلَهُ . مَعَ أَنَّ الْإِحْبَاطَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالشِّرْكِ , لَمْ تُرِدْ إحْبَاطَ الْإِسْقَاطِ بَلْ إحْبَاطَ الْمُوَازَنَةِ , وَهُوَ وَزْنُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِشَيْءٍ , كَقَوْلِهِ : { مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَالْقَصْدُ ثَمَّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ لَا التَّحْقِيقُ , وَأَنَّ مَجْمُوعَ الثَّوَابِ الْمُتَحَصِّلِ مِنْ الْجِهَادِ لَيْسَ بَاقِيًا بَعْدَ هَذِهِ السَّيِّئَةِ , بَلْ بَعْضُهُ , فَيَكُونُ الْإِحْبَاطُ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ , بِحَيْثُ لَوْ اقْتَدَى بِهِ النَّاسُ انْفَتَحَ بَابُ الرِّبَا نَسِيئَةً . .
((1/180)
قَالَ : وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي سَدِّ ذَرَائِعِ بُيُوعَ الْآجَالِ ) .
وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَتَى بِتَمْرٍ جَنِيبٍ , فَقَالَ : لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ بِيعُوا تَمْرَ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَرُوا بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } . فَهَذَا بَيْعُ صَاعٍ بِصَاعَيْنِ وَإِنَّمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الدَّرَاهِمِ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي مَعَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَالْكَلَامَ فِيهِ . قُلْت : وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ عَائِشَةَ إنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهَا , وَاجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ , كَمَا سَبَقَ نَقْلُهُ عَنْ الْقَاضِي . ثُمَّ قَوْلُهَا مُعَارِضٌ لِفِعْلِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ . ثُمَّ إنَّمَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ لِفَسَادِ الْبَيْعَيْنِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ , فَإِنَّ وَقْتَ الْعَطَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ , وَالثَّانِي بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ , فَيَكُونُ أَيْضًا فَاسِدًا .(1/181)
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الرِّفْعَةِ رحمه الله - حَاوَلَ تَخْرِيجَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الذَّرَائِعِ مِنْ نَصِّهِ فِي بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ الْأُمِّ إذْ قَالَ بَعْدَمَا ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ , وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ إنَّمَا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَمْ يَحِلَّ , وَكَذَا مَا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى إحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مَا نَصُّهُ : وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَفِي هَذَا مَا يَثْبُتُ أَنَّ الذَّرَائِعَ إلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يُشْبِهُ مَعَانِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ . انْتَهَى . وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ : إنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ لَا سَدَّ الذَّرَائِعِ , وَالْوَسَائِلُ مُسْتَلْزَمَةُ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ . وَمِنْ هَذَا بَيْعُ الْمَاءِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزَمٌ عَادَةً لِمَنْعِ الْكَلَأِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ . وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ الْوَسَائِلِ . قَالَ : وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي نَفْسِ الذَّرَائِعِ لَا فِي سَدِّهَا . وَالنِّزَاعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي سَدِّهَا . ثُمَّ قَالَ : الذَّرِيعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَقْطَعُ بِتَوْصِيلِهِ إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ . وَالثَّانِي : مَا يَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَا تُوصِلُ وَلَكِنْ اخْتَلَطَتْ بِمَا يُوصِلُ , فَكَانَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ سَدُّ الْبَابِ وَإِلْحَاقُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ الَّتِي قَطَعَ بِأَنَّهَا لَا تُوصِلُ إلَى الْحَرَامِ بِالْغَالِبِ مِنْهَا الْمُوصِلُ إلَيْهِ . وَهَذَا غُلُوٌّ فِي الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ . وَالثَّالِثُ : مَا يَحْتَمِلُ وَيَحْتَمِلُ .(1/182)
وَفِيهِ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ وَيَخْتَلِفُ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُمْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِهَا . قَالَ : وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ فِي جَمِيعِهَا إلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ , لِانْضِبَاطِهِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ . انْتَهَى . وَقِيلَ : أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ , بَلْ نَقُولُ بِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ كَمَا نَقُولُ : مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . أَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ فِي الثَّانِي فَكَذَلِكَ . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَعَلَّهُ الَّذِي حَاوَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ تَخْرِيجَ قَوْلٍ مِنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ عَنْ النَّصِّ , وَقَدْ عَرَفَ مَا فِيهِ . وَاسْتَشْهَدَ لَهُ أَيْضًا بِالْوَصِيِّ يَبِيعُ شِقْصًا عَلَى الْيَتِيمِ فَلَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ . وَبِالْمَرِيضِ يَبِيعُ الشِّقْصَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ عَلَى وَجْهٍ , سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشَّرْعِ . وَحَاوَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِذَلِكَ تَخْرِيجَ وَجْهٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَيِّنَةِ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ هَذَا , فَتِلْكَ عُقُودٌ قَائِمَةٌ بِشُرُوطِهَا وَلَا خَلَلَ فِيهَا وَإِنْ مَنَعَهَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ . وَقَدْ يَقُولُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي مَسَائِلَ : ( مِنْهَا ) إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى قَوْلِ الْإِبْطَالِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ , بَلْ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ . ثُمَّ هُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . و ( مِنْهَا ) إذَا ادَّعَتْ الْمُجْبَرَةُ مَحْرَمِيَّةً أَوْ رَضَاعًا بَعْدَ الْعَقْدِ . قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ : يُقْبَلُ قَوْلُهَا , لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ , وَرُبَّمَا انْفَرَدَتْ بِعِلْمِهِ . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : لَا يُقْبَلُ .(1/183)
وَهُوَ الصَّحِيحُ , لِأَنَّ النِّكَاحَ مَعْلُومٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَحْرَمِيَّةِ . وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ طَرِيقُ الْفَسَادِ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ بَلْ اعْتِمَادٌ عَلَى الْأَصْلِ . قُلْت : وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله تعالى - فِي " الْبُوَيْطِيِّ " عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّجْمِيعِ بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَتْ فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ إذَا كَانَ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ قَالَ : وَإِنَّمَا كَرِهْتُهُ لِئَلَّا يَعْمِدَ قَوْمٌ لَا يَرْضَوْنَ إمَامًا فَيُصَلُّونَ بِإِمَامٍ غَيْرَهُ . انْتَهَى . وَقَالَ فِي الْأُمِّ " فِي مَنْعِ قَرْضِ الْجَارِيَةِ الَّتِي يَحِلُّ لِلْمُسْتَقْرِضِ وَطْؤُهَا : وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ يَصِيرَ ذَرِيعَةً أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ يَمْلِكُ رَدَّهَا . قَالَ الْمَحَامِلِيُّ : يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ بِالْقَرْضِ وَطْءَ الْجَارِيَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَى الْمُقْرِضِ , فَيَسْتَبِيحُ الْوَطْءَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ . قِيلَ : وَفِيهِ مَنْعُ الذَّرَائِعِ . .
وفي تبصرة الحكام :
فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ وَالذَّرِيعَةِ الْوَسِيلَةِ إلَى الشَّيْءِ ,(1/184)
وَمَعْنَى ذَلِكَ : حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ , فَمَتَى كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً إلَى الْمَفْسَدَةِ مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله وَالْقَوْلُ بِسَدِّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } , فَمَتَى خَافَ الْمُسْلِمُ إذَا سَبَّ دِينَ الْكُفْرِ يُؤَدِّي إلَى سَبِّ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ الْإِسْلَامِ أَوْ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسُبَّ دِينَهُمْ وَلَا صُلْبَانَهُمْ , وَلَا مَا يَتَعَرَّضُ إلَى مَا يَدْعُو إلَى ذَلِكَ , قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ . وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ : أَبْوَابُ الذَّرَائِعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا , مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } , وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ , فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ , وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَانَ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ , أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى , أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ } .(1/185)
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْقَرَافِيُّ : الذَّرِيعَةُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِلْقَاءِ السِّلْمِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ , وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَئِذٍ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مُلْغًى إجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعَلْسِ , فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدَّارِ خَشْيَةَ الزِّنَا . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الْآجَالِ , اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ . مَسْأَلَةٌ وَسِيلَةُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ , وَكَذَلِكَ وَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالسَّفَرِ لِلْحَجِّ , فَكَمَا يَجِبُ سَدُّ الذَّرَائِعِ يَجِبُ فَتْحُهَا كَمَا مَثَّلْنَا .
فَرْعٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْعُ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ الْمُوجِبُ لِسَعْيِ الْمُتَبَايِعِينَ أَوْ أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهَا , فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُفْسَخُ , وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ مِنْ الْعُقُودِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالْإِجَارَةِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ , فَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا كَالْبَيْعِ لِأَنَّهَا مُشْغِلَةٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْفَسْخِ أَيْضًا وَحَكَى اللَّخْمِيُّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْفَسْخَ فِي الْإِقَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ .(1/186)
فَرْعٌ : قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ : يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا خَافَ مِنْ الْمُتَبَايِعِينَ الْوُقُوعَ فِي الْمُحَرَّمِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْهُ .
فَرْعٌ : وَمِنْ ذَلِكَ السَّفَرُ بِالْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ خَشْيَةَ تَمَلُّكِهِ وَوُقُوعِهِ بِأَيْدِيهِمْ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ إلَى بِلَادِهِمْ .
فَرْعٌ : وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ آلَةِ الْحَرْبِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالسُّرُوجِ وَالتُّرُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَّقَى بِهِ لِلْحَرْبِيِّينَ , لِمَا يُتَّقَى مِنْ تَقْوِيَتِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
فَرْعٌ : وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِي مِنْ الْحَرْبِيِّينَ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَجَاسَتِهِمْ كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ أَوْ عَهْدٍ .(1/187)
فَرْعٌ : وَمِنْ ذَلِكَ زَوَاجُ الْمُسْلِمِ النَّصْرَانِيَّةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَا يُخْشَى عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنْ التَّنَصُّرِ , وَمِنْ ذَلِكَ عُقُودُ الْغَرَرِ لِأَنَّهَا ذَرِيعَةٌ إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَتُرَابِ الصَّوَّاغِينَ , وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالْإِبِلِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي يَصْعُبُ انْقِيَادُهَا وَلَا يُعْلَمُ هَلْ تَسْلَمُ فِي أَخْذِهَا وَتَسْلِيمُهَا لِلْمُشْتَرَى مِنْهُ , وَمِنْهُ الْعَقْدُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ كَالْحُرِّ وَلَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْقِرْدِ وَالدَّمِ غَيْرِ ذَلِكَ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ . فَرْعٌ : وَمِنْ ذَلِكَ عُقُودُ الرِّبَا وَعُقُودُ الْعَيِّنَةِ وَسَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَمَا أَشْبَهَهُ , وَكُلُّ هَذِهِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَنْعُ مِنْهُ ابْتِدَاءً إذَا عَلِمَ بِهِ , وَفَسَخَهُ إذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مَعَ تَأْدِيبِ مَنْ اعْتَادَ تَعَاطِيَ هَذِهِ الْعُقُودِ .(1/188)
تَنْبِيهٌ : وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ قَالَ الْقَرَافِيُّ وَقَدْ تَكُون وَسِيلَةُ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إذَا أَفَضْت إلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ , كَالتَّوَسُّلِ إلَى فِدَاءِ الْأَسْرَى بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى الْعَدُوِّ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ , لِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا , وَكَذَلِكَ دَفْعُ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ مَجَّانًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِهِ , وَكَذَلِكَ دَفْعُ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى يُخَلِّصَ هُوَ صَاحِبَ الْمَالِ وَاشْتَرَطَ مَالِكٌ فِيهِ الْإِشَارَةَ . وَالْحَمْدُ اللَّه وَحْدَهُ , وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ , وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
وفي مواهب الجليل :(1/189)
ص ( وَمُنِعَ بَيْعُ مُسْلِمٍ , وَمُصْحَفٍ وَصَغِيرٍ لِكَافِرٍ ) ش : لَمَّا ذَكَرَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ , وَشَرْطَ لُزُومِهِ ذَكَرَ شَرْطَ جَوَازِهِ ابْتِدَاءً , وَهُوَ صِحَّةُ تَقَرُّرِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ , وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ شِرَاءُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مِلْكَهُ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ لِعِتْقِهِ عَلَيْهِ أَعْنِي تَقَرُّرَ مِلْكِهِ عَلَيْهِ , وَأَمَّا الْمُسْلِمُ , وَالْمُصْحَفُ فَلَا يَصِحُّ تَقَرُّرُ مِلْكِ الْكَافِرِ عَلَيْهِمَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْبَيْعَ يَمْضِي وَيُجْبَرُ الْكَافِرُ عَلَى إخْرَاجِ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ التِّجَارَةِ لِأَرْضِ الْحَرْبِ : فَإِنْ ابْتَاعَ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُعَاهَدُ مُسْلِمًا أَوْ مُصْحَفًا أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ مُسْلِمٍ , وَلَمْ يُنْقَضْ شِرَاؤُهُ ا هـ . ثُمَّ قَالَ : وَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ الْمُشْتَرَى لَهُ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ ; لِأَنَّهُ لَهُ حَتَّى يَنْزِعَهُ سَيِّدُهُ ا هـ . وَصَرَّحَ الْمَازِرِيُّ بِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ , وَقَالَ سَحْنُونٌ : وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ يُنْقَضُ الْبَيْعُ , وَبِهِ صَدَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ : بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلَيْنِ , وَقَيَّدَ ابْنُ رُشْدٍ الْخِلَافَ بِأَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ نَصْرَانِيٌّ قَالَ : وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ , وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ بِيعَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يُفْسَخْ اتِّفَاقًا ا . هـ .(1/190)
قَالَ فِي الْوَاضِحَةِ : وَيُعَاقَبُ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَسْخِ , وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ , وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : قُلْت : وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَا أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ إلَّا أَنْ يُعْذَرَا بِالْجَهْلِ انْتَهَى . وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ : أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْزُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ , وَأَسْقَطَ مِنْهُ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يُعْذَرَا بِالْجَهْلِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ ابْنِ حَارِثٍ : وَفِي مُبَايَعَةِ الْكَافِرِ بِالْعَيْنِ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا كَرَاهَةٌ مَالِكٌ , وَأُعَظِّمُ ذَلِكَ وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَوْ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي التِّجَارَةِ لِأَرْضِ الْحَرْبِ ا هـ . وَكَذَا يَحْرُمُ بَيْعُ الْحَرْبِيِّينَ آلَةَ الْحَرْبِ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ سُرُوجٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّنْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ فِي الْحَرْبِ مِنْ نُحَاسٍ , وَخُرْثِيٍّ , وَغَيْرِهِ ا هـ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : قَوْلُهُ , وَخُرْثٍ وَغَيْرِهِ هُوَ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ الْمَتَاعُ الْمُخْتَلِطُ الشَّيْخُ يَعْنِي نَفْسَهُ أَثَاثُ الْخِبَاءِ , وَآلَةُ السَّفَرِ وَمَاعُونُهُ قَالَ أَبُو إسْحَاقَ : فَإِنْ بِيعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ بِيعَ عَلَيْهِمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُسْلِمِ , وَالْمُصْحَفِ ا هـ .(1/191)
وَأَمَّا بَيْعُ الطَّعَامِ فَقَالَ ابْنُ يُونُسَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ يَجُوزُ فِي الْهُدْنَةِ , وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْهُدْنَةِ فَلَا قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ , وَكَذَا يَحْرُمُ بَيْعُ الدَّارِ , وَكِرَاؤُهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ وَكَذَا لِمَنْ يَجْعَلُ فِيهَا الْخَمْرَ وَقَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ , وَكَذَا بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يَعْمَلُهَا صَلِيبًا , وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ وَالْأَبِيُّ فِي أَوَائِلِ شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْصِرُهَا خَمْرًا قَوْلَيْنِ قَالَ الْأَبِيُّ : وَالْمَذْهَبُ فِي هَذَا سَدُّ الذَّرَائِعِ كَمَا يَحْرُمُ بَيْعُ السِّلَاحِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ إثَارَةَ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ قَالَهُ فِي أَوَّلِ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ , وَفِي رَسْمِ الْبُيُوعِ الْأَوَّلُ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ , وَفِي مَسَائِلِ الْمِدْيَانِ , وَالتَّفْلِيسِ مِنْ الْبُرْزُلِيِّ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْمَمْلُوكَةِ مِنْ قَوْمٍ عَاصِينَ يَتَسَامَحُونَ فِي الْفَسَادِ وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ , وَهُمْ آكِلُونَ لِلْحَرَامِ وَيُطْعِمُونَهَا مِنْهُ فَأَجَابَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ ا هـ . بِ وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُشْتَرِي قَصَدَ بِالشِّرَاءِ أَمْرًا لَا يَجُوزُ , وَاَللَّه أَعْلَمُ . ( تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ) : أَلْحَقُوا الصَّغِيرَ الْكَافِرَ بِالْمُسْلِمِ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ لِكَافِرٍ , وَجَبْرِهِ عَلَى بَيْعِهِ إنْ اشْتَرَاهُ , وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ . ((1/192)
الثَّانِي ) : قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ : وَالْإِسْلَامُ الْحُكْمِيُّ كَالْوُجُودِيِّ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ إنْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ , وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ زَوْجَتِهِ النَّصْرَانِيَّةِ الْمَمْلُوكَةِ لِسَيِّدِهِ بِيعَ الثَّلَاثَةُ لِمَنْعِ بَيْعِ الصَّغِيرِ دُونَ أُمِّهِ يَعْنِي , وَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعِ الصَّغِيرِ ; لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ لِإِسْلَامِ أَبِيهِ ص ( وَأُجْبِرَ عَلَى إخْرَاجِهِ بِعِتْقٍ أَوْ هِبَةٍ ) ش : يَعْنِي إذَا قُلْنَا أَنَّ شِرَاءَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ مَمْنُوعٌ ابْتِدَاءً , وَلَكِنَّهُ يَصِحُّ إذَا وَقَعَ فَإِنَّا نُجْبِرُهُ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ , وَلَوْ بِالْعِتْقِ وَلِذَا لَوْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ : وَلَوْ بِعِتْقٍ لَكَانَ أَحْسَنُ .(1/193)
وَقَالَ ابْنُ غَازِيٍّ : عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ بِالْعِتْقِ , وَالْهِبَةِ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ بِالْبَيْعِ , وَهِبَةَ الثَّوَابِ وَالصَّدَقَةِ أَحْرَى مِنْهُمَا , وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي نُسْخَتِهِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ إلَّا بِإِسْقَاطِهَا وَشَمِلَ قَوْلُهُ بِعِتْقٍ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ مِنْ تَنْجِيزٍ , وَتَدْبِيرٍ , وَتَأْجِيلٍ , وَإِيلَادٍ , وَتَبْعِيضٍ فَأَمَّا التَّنْجِيزُ فَوَاضِحٌ , وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ , وَيُؤَاجَرُ عَلَى سَيِّدِهِ الْكَافِرِ سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ مُسْلِمًا ثُمَّ دَبَّرَهُ أَوْ أَسْلَمَ عِنْدَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ أَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ التَّدْبِيرِ وَالْمُعْتَقُ إلَى أَجَلٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُدَبَّرِ بَلْ هُوَ أَوْلَى , وَفِي كَلَامِ ابْنِ يُونُسَ فِي التَّدْبِيرِ إشَارَةٌ إلَيْهِ , وَأَمَّا الْإِيلَادُ فَاَلَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ فِي أُمِّ , وَلَدِ الذِّمِّيِّ تُسْلِمُ هِيَ أَوْ , وَلَدُهَا بَعْدَ إسْلَامِهَا أَنَّهُ يُنَجَّزُ عِتْقُهَا إلَّا أَنْ يُسْلِمَ قَبْلَ عِتْقِهَا فَتَبْقَى لَهُ أُمَّ , وَلَدٍ قَالَهُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتِبِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ , وَأُمِّ الْوَلَدِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا إلَّا الِاسْتِمْتَاعُ , وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ , وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ , فَلَهُ خِدْمَتُهُ وَلِذَلِكَ أُوجِرَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا التَّبْعِيضُ , فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي فِي الْعِتْقِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ((1/194)
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ) : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي شِرَاءِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ , وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ , فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ لَهُ , وَلَا صَدَقَتُهُ عَلَيْهِ , وَإِنْ وَقَعَ مَضَى , وَأُجْبِرَ عَلَى إخْرَاجِهِ , وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ , وَالْوَاهِبُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا قَالَ فِي كِتَابِ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ : وَإِنْ وَهَبَ مُسْلِمٌ عَبْدًا مُسْلِمًا لِنَصْرَانِيٍّ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ جَازَ ذَلِكَ وَبِيعَ عَلَيْهِ , وَالثَّمَنُ لَهُ قَالَ ابْنُ يُونُسَ : قَوْلُهُ , وَإِنْ وَهَبَ مُسْلِمٌ يُرِيدُ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . وَقَوْلُهُ جَازَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : يُرِيدُ مَضَى , وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ ابْتِدَاءً وَمِثْلُ ذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْكَافِرِ , فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ , وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ : إنْ عَقَلَ الْإِسْلَامَ ا هـ . ((1/195)
الثَّانِي ) : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَافِرَ يَتَوَلَّى بَيْعَ الْعَبْدِ , وَهُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ فِيهِ إهَانَةَ الْمُسْلِمِ بَلْ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ بِبَيِّنَةِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ بِيعَ عَلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ : وَلَوْ وَهَبَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ الَّذِي اشْتَرَاهُ لِمُسْلِمٍ لِلثَّوَابِ فَلَمْ يُثِبْهُ فَلَهُ أَخْذُهُ , وَيُبَاعُ عَلَيْهِ أَقَامَ بَعْضُ الشُّيُوخِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إذَا اشْتَرَى مُسْلِمًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ . وَلَا يُنْتَقَضُ ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ , وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ : يُنْقَضُ بَيْعُهُ ; لِأَنَّ تَوْلِيَةَ الْبَيْعِ فِيهِ إهَانَةٌ لِلْمُسْلِمِ فَيُفْسَخُ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ ا هـ . ( الثَّالِثُ ) : قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ : قَالَ الْمَازِرِيُّ لَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْكَافِرِ الْمُؤَجَّرُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ فُسِخَ بَاقِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ , وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى فَسْخِ شِرَاءِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ , وَعَلَى بَيْعِهِ عَلَيْهِ يُؤَاجَرُ مِنْ مُسْلِمٍ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ ابْنُ عَرَفَةَ يُفَرَّقُ بِبَقَاءِ مِلْكِ الْكَافِرِ فِي إجَارَتِهِ عَلَيْهِ , وَلِذَا يُفْتَقَرُ لِبَيْعِهِ بَعْدَهَا ا . هـ .(1/196)
قُلْت : وَلَوْ كَانَ مُؤَاجَرًا مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَى مَا قَالَ الْمَازِرِيُّ لَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ , وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ , وَهُوَ الظَّاهِرُ , وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ قَبْلَ كَلَامِهِ هَذَا عَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ , وَعَنْ التُّونُسِيِّ أَنَّهُ جَعَلَهُ مَحَلَّ نَظَرٍ وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّدْبِيرِ وَالْعِتْقِ الْمُؤَجَّلِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ هُنَاكَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ . ( الرَّابِعُ ) : قَالَ فِي الْمَسَائِلِ الْمَلْقُوطَةِ : يُجْبَرُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ فِي عَشْرَةِ مَوَاضِعَ الْأَوَّلُ الْكَافِرُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ الْمُسْلِمِ , الثَّانِي عَلَى بَيْعِ الْمُصْحَفِ , الثَّالِثُ مَالِكُ الْمَاءُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِمَنْ بِهِ عَطَشٌ فَإِنْ تَعَذَّرَ الثَّمَنُ أُجْبِرَ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ .(1/197)
الرَّابِعُ مَنْ انْهَارَتْ بِئْرُهُ وَخَافَ عَلَى زَرْعِهِ الْهَلَاكَ يُجْبَرُ جَارُهُ عَلَى سَقْيِهِ بِالثَّمَنِ , وَقِيلَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ , الْخَامِسُ الْمُحْتَكِرُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ طَعَامِهِ , السَّادِسُ جَارُ الطَّرِيقِ إذَا أَفْسَدَهَا السَّيْلُ يُؤْخَذُ مَكَانُهَا بِالْقِيمَةِ , السَّابِعُ إذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ يُجْبَرُ جَارُهُ عَلَى بَيْعِ مَا يُوَسَّعُ بِهِ , الثَّامِنُ صَاحِبُ الْفَدَّانِ فِي رَأْسِ الْجَبَلِ إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى أَنْ يَتَحَصَّنُوا فِيهِ , التَّاسِعُ صَاحِبُ الْفَرَسِ أَوْ الْجَارِيَةِ يَطْلُبُهَا السُّلْطَانُ فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهِ جَارَ عَلَى النَّاسِ , وَأَضَرَّ بِهِمْ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا لِارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ , الْعَاشِرُ إذَا أُسِرَ رَجُلٌ بِيَدِ الْعَدُوِّ , وَامْتَنَعَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ مِنْ قَبُولِ الْفِدَاءِ إلَّا أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ عَبْدُ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَأَبَى صَاحِبُهُ مِنْ بَيْعِهِ إلَّا بِأَضْعَافِ ثَمَنِهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِالْأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ فَتَاوَى ابْنِ رُشْدٍ ا هـ . وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ سَبْعًا فَتَرَك الْأَوَّلَ , وَالثَّانِي وَالْعَاشِرَ لِشُهْرَةِ ذَلِكَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/198)
ص ( وَلِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ عَلَى الْأَرْجَحِ ) ش : الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ وَتَرْجِيحُ ابْنِ يُونُسَ إنَّمَا هُوَ فِي مَسْأَلَةِ النَّصْرَانِيَّةِ يُسْلِمُ , وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي اشْتِرَاءِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ , فَكَأَنَّهُ رَأَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا , وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَ الْبِسَاطِيُّ : وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لِوَلَدِهَا ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ مُسْلِمُونَ , وَأَبُوهُمْ كَافِرٌ عَلَى الْمَذْهَبِ قُلْت : قَدْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ الْوَلَدُ , وَهُوَ صَغِيرٌ . وَقَدْ عَقَلَ الْإِسْلَامَ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ , وَوَلَدُهَا الْكَبِيرُ مِثْلُ الصَّغِيرِ .(1/199)
ص ( وَإِنْ أَسْلَمَ فَرَسًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ ثُمَّ اسْتَرَدَّ مِثْلَهُ مَعَ خَمْسَةٍ مُنِعَ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ اسْتَرَدَّهُ إلَّا أَنْ تَبْقَى الْخَمْسَةُ لِأَجَلِهَا ; لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ أَوْ الْمُؤَخَّرَ مُسَلِّفٌ ) ش : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا لَيْسَتَا مِنْ بُيُوعِ الْآجَالِ وَلَكِنْ ذَكَرَهُمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ الْآجَالِ لِمُشَابَهَتِهِمَا لِمَسَائِلِهِ فِي بِنَائِهِمَا عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ وَتُسَمَّى الْأُولَى مِنْهُمَا مَسْأَلَةَ الْبِرْذَوْنِ ; لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ الْمُدَوَّنَةِ فُرِضَتْ فِي بِرْذَوْنٍ وَفَرَضَهَا الْبَرَاذِعِيُّ فِي فَرَسٍ وَالثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ حِمَارِ رَبِيعَةَ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا وَلَكِنَّهَا مُوَافِقَةً لِأُصُولِ الْمَذْهَبِ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَفِيهَا مَسْأَلَتَا الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ فِي بَعْضِ نُسَخِهِ وَمِنْهَا وَالْأُولَى هِيَ الصَّوَابُ لِإِيهَامِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ مَسَائِلِ بُيُوعِ الْآجَالِ وَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ أَسْلَمَ فَرَسًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ ثُمَّ اسْتَرَدَّ مِثْلَهُ أَيْ فَرَسًا مِثْلَهُ مَعَ خَمْسَةٍ أَيْ مِنْ الْعَشَرَةِ وَأَبْرَأَ ذِمَّتَهُ مِنْ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ مُنِعَ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ عَجَّلَ الْخَمْسَةَ أَوْ أَخَّرَهَا إلَى أَجَلٍ دُونَ الْأَجَلِ أَوْ إلَى الْأَجَلِ نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْأَجَلِ ; لِأَنَّهُ قَدْ آلَ أَمْرُهُ إلَى أَنَّهُ أَسْلَفَهُ فَرَسًا فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ , وَكُلُّ مَا يُعْطِيهِ مَعَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ لِأَجْلِ السَّلَفِ فَإِنْ قِيلَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَمْنَعَ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ مُقَوَّمًا إلَى أَجَلٍ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى(1/200)
مِثْلَهُ بِثَمَانِيَةٍ نَقْدًا ; لِأَنَّهُ قَدْ آلَ أَمْرُهُ إلَى أَنَّهُ أَسْلَفَهُ ذَلِكَ الْمُقَوَّمَ يَنْتَفِعُ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ وَيُعْطِيهِ ثَمَانِيَةً وَيَأْخُذُ عَنْهَا عَشَرَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِثْلَهُ كَغَيْرِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَقْصِدْ الْمُتَبَايِعَانِ نَقْضَ الْبَيْعَةِ الْأُولَى بَلْ أَبْقَيَاهَا وَاسْتَأْنَفَا بَيْعَةً ثَانِيَةً لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْأُولَى فَوَجَبَ بَقَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهَا فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْفَرَسِ فَكَأَنَّهُمَا قَصَدَا نَقْضَ الْبَيْعَةِ الْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا خَرَجَ مِنْ الْيَدِ وَعَادَ إلَيْهَا كَمَا فِي بِيَاعَاتِ الْأَجَلِ بَلْ أَوْلَى ; لِأَنَّ قُصَارَى الْأَمْرِ فِي مَسَائِلِ الْآجَالِ إنْ نَتَّهِمَهُمَا عَلَى نَقْضِ الْبَيْعَةِ الْأُولَى وَهُنَا قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْمُقَوَّمِ لَيْسَ كَعَيْنِهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/201)
وَقَوْلُهُ كَمَا لَوْ اسْتَرَدَّهُ إلَخْ أَيْ وَكَذَلِكَ يُمْتَنَعُ أَيْضًا إذَا اسْتَرَدَّ الْفَرَسَ نَفْسَهُ مَعَ خَمْسَةِ أَثْوَابٍ مِنْ الْعَشَرَةِ وَأَبْرَأَ ذِمَّتَهُ مِنْ الْخَمْسَةِ الْأُولَى لَكِنْ إنَّمَا يُمْتَنَعُ إذَا كَانَتْ الْخَمْسَةُ الْأَثْوَابُ مُعَجَّلَةً أَوْ مُؤَخَّرَةً إلَى أَجَلٍ دُونَ الْأَجَلِ أَوْ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْأَجَلِ وَأَمَّا إذَا أَبْقَاهَا إلَى الْأَجَلِ فَيَجُوزُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ تَبْقَى الْخَمْسَةُ إلَى أَجَلِهَا ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ الْمَنْعِ فَقَالَ : لِأَنَّ الْمُعَجِّلَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ أَوْ الْمُؤَخِّرَ مُسْلِفٌ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا عَجَّلَهَا صَارَ كَأَنَّهُ أَسْلَفَهُ إيَّاهَا ; لِأَنَّ الْمُعَجِّلَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ مُسَلِّفٌ لِمَا عَجَّلَهُ لِتَقَضِّيهِ مِنْ نَفْسِهِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَقَدْ أَسْلَفَهُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ وَدَفَعَ لَهُ الْفَرَسَ عِوَضًا عَنْ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ وَهَذَا بَيْعٌ وَسَلَفٌ وَكَذَا إذَا أَجَّلَهَا إلَى أَجَلٍ دُونَ الْأَجَلِ وَأَمَّا إذَا أَخَّرَهَا إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْأَجَلِ فَقَدْ صَارَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ آخِذًا الْفَرَسَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَسَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ الْخَمْسَةَ الْأُخْرَى ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَّرَهُ بِهَا عَنْ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ صَارَ مُسْلِفًا لَهُ وَهَذَا أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْمُعَجِّلَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يُعَدُّ مُسْلِفًا أَمْ لَا وَأَمَّا الْمُؤَخِّرُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مُسْلِفٌ وَأَمَّا إذَا أَبْقَى الْخَمْسَةَ إلَى أَجَلِهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ لِانْتِقَاءِ السَّلَفِ حِينَئِذٍ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنْ تَبْقَى الْخَمْسَةُ(1/202)
لِأَجَلِهَا عَائِدٌ لِمَا بَعْدَ الْكَافِ وَكَذَا التَّعْلِيلُ وَهَذَا الْحُكْمُ جَارٍ فِيمَا إذَا أَخَذَ بَعْضَ الْأَثْوَابِ وَأَخَذَ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ شَيْئًا مُخَالِفًا لِلْفَرَسِ فَيُمْتَنَعُ إذَا كَانَ مَا يَأْخُذُ مِنْ الْأَثْوَابِ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَخَّرًا لِأَبْعَدَ مِنْ الْأَجَلِ وَيَجُوزُ إذَا أَبْقَى إلَى الْأَجَلِ نَفْسِهِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ تَجْعَلُوهُ إذَا رَدَّ الْفَرَسَ بِمَثَابَةِ مَا إذَا رَدَّ مِثْلَهُ وَكَأَنَّهُ آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ أَسْلَفَهُ فَرَسًا فَرَدَّهُ وَمَا يَأْخُذُ زِيَادَةً فَإِنَّهُ قَدْ انْتَفَعَ بِهِ وَالسَّلَفُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ رَدُّ الْمِثْلِيِّ فَالْجَوَابُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/203)
أَنْ يُقَالَ لَمَّا رَجَعَتْ الْعَيْنُ فَكَأَنَّهُمَا اشْتَرَطَا ذَلِكَ فَخَرَجَا عَنْ حَقِيقَةِ السَّلَفِ وَيُؤْخَذُ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْمِثْلِيِّ يَقُومُ مَقَامَهُ ص ( وَإِنْ بَاعَ حِمَارًا بِعَشَرَةٍ لِأَجَلٍ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ وَدِينَارًا نَقْدًا أَوْ مُؤَجَّلًا مُنِعَ مُطْلَقًا إلَّا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ لِلْأَجَلِ ) ش : أَيْ وَإِنْ بَاعَ حِمَارًا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ أَيْ الْحِمَارَ وَدِينَارًا نَقْدًا يُرِيدُ أَوْ مِثْلَهُ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ مُؤَجَّلًا يَعْنِي أَوْ كَانَ الدِّينَارُ أَوْ صَرْفُهُ مِنْ الْفِضَّةِ مُؤَجَّلًا مُنِعَ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَ إلَى أَجَلٍ دُونَ الْأَجَلِ أَوْ إلَى الْأَجَلِ نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْأَجَلِ ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نَقْدًا فَهُوَ الْبَيْعُ وَالسَّلَفُ ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَقَرَّرَ فِي ذِمَّتِهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ دَفَعَ عَنْهَا مُعَجَّلًا الْحِمَارَ وَدِينَارًا لِيَأْخُذَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْأَجَلِ عَشَرَةً , تِسْعَةٌ عِوَضٌ عَنْ الْحِمَارِ وَدِينَارٌ عَنْ الدِّينَارِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ دُونَ الْأَجَلِ أَوْ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْأَجَلِ فَهُوَ فَسْخُ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الْعَشَرَةُ فِي دَيْنٍ آخَرَ .(1/204)
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ; لِأَنَّهُ بَاعَ بَعْضَ دَيْنِهِ الْوَاجِبَ لَهُ أَوَّلًا بِالدَّيْنِ الَّذِي زَادَهُ مَعَ الْحِمَارِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَزِيدُ مَعَ الْحِمَارِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إلَى مِثْلِ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ وَيَدْخُلُهُ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الصَّرْفُ الْمُؤَخَّرُ ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةً فَقَالَ إلَّا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ لِلْأَجَلِ أَيْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَزِيدُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ يَعْنِي مِنْ نَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَكَانَ مُؤَخَّرًا لِأَجَلِ نَفْسِهِ كَمَا إذَا بَاعَ الْحِمَارَ بِعَشَرَةٍ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ وَدِينَارًا مُؤَخَّرًا لِلشَّهْرِ ; لِأَنَّ مَا آلَ أَمْرُهُ إلَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْحِمَارَ بِتِسْعَةٍ مِنْ الْعَشَرَةِ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ وَقَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْقَاضِي عَبْدُ الْقَادِرِ الْأَنْصَارِيُّ - رحمه الله - هَكَذَا قَرَّرُوا وَلَوْ قِيلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْمَنْعِ كَمَا قِيلَ فِي غَيْرِهَا ; لِأَنَّهُ بَاعَ بَعْضَ دَيْنِهِ الْوَاجِبَ لَهُ أَوَّلًا بِالدَّيْنِ الَّذِي زَادَهُ مَعَ الْحِمَارِ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( قُلْت ) وَلَا خَفَاءَ فِي بُعْدِهِ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الْعِوَضَيْنِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاخْتِلَافِ إمَّا فِي الْجِنْسِ أَوْ النَّوْعِ أَوْ الْأَجَلِ , وَالْمَزِيدُ هُنَا إنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ وَأَجَلِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْبَيْعُ وَإِنَّمَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ بَاعَ الْحِمَارَ بِتِسْعَةٍ كَمَا قَالُوا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ص ( وَأَنْ لَا يَكُونَا طَعَامَيْنِ وَلَا نَقْدَيْنِ )(1/205)
ش : الضَّمِيرُ فِي يَكُونَا عَائِدٌ عَلَى الْعِوَضَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ لَهُمَا ذِكْرٌ ; لِأَنَّهُمَا مَعْلُومَانِ وَيَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَلَمُ طَعَامٍ فِي طَعَامٍ وَلَا نَقْدٍ فِي نَقْدٍ وَتَصَوُّرُهُ وَاضِحٌ ( تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَا طَعَامَيْنِ وَلَا نَقْدَيْنِ لِلنَّسَأِ وَالتَّفَاضُلِ وَجَرَى يَعْنِي ابْنَ الْحَاجِبِ فِي ذِكْرِ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ فِي الشُّرُوطِ عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالتَّحْقِيقُ إنَّمَا هِيَ مَوَانِعُ ; لِأَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مُنَافٍ لِلسَّلَمِ وَكُلُّ مَا كَانَ وُجُودُهُ مُنَافِيًا لِلْمَاهِيَّةِ فَهُوَ مَانِعٌ ا هـ . ( الثَّانِي ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَيْضًا إنْ قُلْت لِأَيِّ مَعْنًى ذَكَرَ هَذِهِ الصُّورَةَ فِي شُرُوطِ السَّلَمِ , وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ شُرُوطِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ لَا فِيمَا هُوَ شَرْطٌ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ السَّلَمِ , وَهُوَ الْبَيْعُ إذْ الطَّعَامَانِ وَالنَّقْدَانِ يَمْتَنِعُ فِيهِمَا التَّفَاضُلُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ السَّلَمِ أَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَا قَبْلَ هَذَا , وَأَنَّهُمَا مَمْنُوعَانِ فَأَيُّ وَجْهٍ لِإِعَادَتِهِمَا ( قُلْت ) لَيْسَ ذِكْرُهُمَا هُنَا مَقْصُودًا بِالذَّاتِ , وَإِنَّمَا هُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ الْمُؤَلِّفُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ السَّلَمُ إلَى بَيْعِ شَيْءٍ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْعِبَارَاتِ فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ الطَّعَامَيْنِ وَالنَّقْدَيْنِ عَلَى جِهَةِ التَّدْرِيجِ وَتَكْمِيلِ الْفَائِدَةِ ا هـ .(1/206)
وَمِثْلُهُ يُقَالُ عَلَى عِبَارَةِ الْمُؤَلِّفِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( فَرْعٌ ) وَاخْتُلِفَ فِي سَلَمِ النَّخْلِ الْمُثْمِرَةِ فِي الطَّعَامِ فَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَجَازَهُ سَحْنُونٌ , وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ : إنْ أَزْهَى مُنِعَ وَإِلَّا جَازَ ا هـ . مِنْ التَّوْضِيحِ وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الْأَصَحُّ قَالَهُ فِي الشَّامِلِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ص ( وَلَا شَيْئًا فِي أَكْثَرَ أَوْ أَجْوَدَ ) ش : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ يَكُونُ , وَإِنَّمَا مُنِعَ ; لِأَنَّهُ سَلَفٌ بِزِيَادَةٍ . ص ( كَالْعَكْسِ ) ش : ; لِأَنَّهُ ضَمَانٌ بِجُعْلٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَإِنَّمَا تَمْتَنِعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ فَإِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَمْ يَنُصَّا عَلَى الضَّمَانِ بِالْجُعْلِ , ثُمَّ قَالَ : عَلَى أَنَّ دَفْعَ كَثِيرٍ فِي قَلِيلٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ غَالِبًا فَلِذَلِكَ تُضَعَّفُ التُّهْمَةُ عَلَيْهِ ا هـ .
وفي الفتاوى الفقهية الكبرى :(1/207)
وَمِمَّا يُبْطِلُ مَا قَالَهُ أَيْضًا مَا فِي فَتَاوَى الْإِمَامِ الْكَمَالِ الرَّدَّادِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ , فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتَعَدٍّ عَلَى وَقْفٍ لَهُ نَاظِرٌ فَطَلَبَ نَاظِرُهُ مِنْ الْحَاكِمِ رَفْعَ يَدِ الْمُتَعَدَّيْ هَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ إجَابَتُهُ ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ : نَعَمْ يَجِبُ . عَلَى الْحَاكِمِ رَفْعُ يَدِ الْمُتَعَدَّيْ عَنْهَا وَيُؤَجِّرُهَا النَّاظِرُ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ لَهُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ . ا هـ . فَاشْتَرَطَ مَعَ الْمَصْلَحَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ فَأَفْهَمْ أَنَّ الْإِيجَارَ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي , فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْمُفْتِي مِنْ أَنَّهُ يَكْفِي , وَقَالَ الْكَمَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا : وَأَمَّا تَأْجِيرُ النَّاظِرِ ثَلَاثِينَ سَنَةً . فَالْمَنْقُولُ الصِّحَّةُ مَعَ مُرَاعَاةِ الْغِبْطَةِ وَكَوْنِهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ , فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّصْرِيحِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْإِمَامِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْغِبْطَةِ وَكَوْنِهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ . وَقَالَ أَيْضًا : عَلَى النَّاظِرِ الْعَمَلُ فِي الْوَقْفِ بِمَا يَتَوَجَّهُ شَرْعًا مِنْ الْبَدَاءَةِ بِعِمَارَتِهِ وَتَأْجِيرِهِ . بِالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ عَلَى ثِقَةِ مَلِيءٍ أَمِينٍ .(1/208)
ا هـ وَبِذَلِكَ كُلِّهِ عُلِمَ أَنَّ زَعْمَ الِاكْتِفَاءِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَحْدَهَا بَاطِلٌ صَرِيحٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ , وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ ظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجَارَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا ; لِأَنَّ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْحَاكِمُ إلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ فِيهِ هُوَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ زِيَادَةُ الْأُجْرَةِ , وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تُفِيدُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ فَإِذَا اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا كَانَ مُسْتَنِدًا إلَى مَا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ وَلَا الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَحْدَهُ , فَبَانَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُصَادِفٍ لِمَا يُصَحِّحُهُ فَكَانَ لَغْوًا مِنْ أَصْلِهِ , وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ .(1/209)
وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ فَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِإِجَارَةِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ هِيَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ , وَقَدْ انْحَصَرَتْ فِي إيجَارِهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ لَا إلَى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ , أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا يَأْتِي عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِ , وَأَمَّا الثَّانِي فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَرَّرْته مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ زِيَادَةِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا تُجَوِّزُ إجَارَةَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيّ حَيْثُ قَالَ : لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا يَأْتِي عَنْهُ فَخَصَّ الْجَوَازَ بِالْعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا وَعَلَى مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ الْإِجَارَةَ لِمُجَرَّدِ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ لَا تَجُوزُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ إطْلَاقُ الْأَذْرَعِيِّ امْتِنَاعَ الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ ; لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى تَمَلُّكِ الْوَقْفِ وَمَفَاسِدَ أُخْرَى تُعْلَمُ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ فَمَحَلُّ امْتِنَاعِهَا إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ عَائِدَةً لِلْمُسْتَحِقِّينَ فَقَطْ , وَأَمَّا إطْلَاقُهُ امْتِنَاعَهَا وَإِنْ عَادَتْ إلَى عَيْنِ الْوَقْفِ فَلَا يُتَّجَهُ كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ وَسَيَأْتِي فَتَعَيَّنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ , وَكَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ تِلْمِيذِهِ الزَّرْكَشِيّ : جَوَازُ إجَارَةِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ وَنَحْوِهَا بَعِيدٌ , فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِهِ وَيَدُلُّ عَلَى حَمْلِ كَلَامِهِ أَعَنَى الزَّرْكَشِيّ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا .(1/210)
وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سُرَاقَةَ وَأَبِي الْفَرَجِ الْجَزْمُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا فِي الْخَرَابِ , وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ لِيُحْتَكَرَ ا هـ . فَافْهَمْ أَنَّ اسْتِبْعَادَهُ الْأَوَّلَ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْخَرَابِ وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي غَيْرِ الْخَرَابِ إنَّمَا تَعُودُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ , فَلَمْ تَكُنْ مُسَوِّغَةً لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَفَاسِدَ فَلَا تُفْعَلُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَرْجِعُ إلَى عَيْنِ الْوَقْفِ ; لِأَنَّ رِعَايَةَ حِفْظِهِ بِالْعِمَارَةِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ تَوَهُّمِ تَمَلُّكِهِ , وَمِمَّا يُؤَيِّدُ اشْتِمَالَهَا عَلَى مَفَاسِدَ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : إنَّ الْحُكَّامَ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ لِئَلَّا يَنْدَرِسَ مَالُوا إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله تعالى عنه ; لِأَنَّهُ أَحْوَطُ , وَقَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ وَصَاحِبِ الْأَنْوَارِ : مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ هُوَ الِاحْتِيَاطُ . وَقَوْلُ السُّبْكِيّ مُنْتَصِرًا لِهَذَا الِاصْطِلَاحِ لَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّ إجَارَةَ الْوَقْفِ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ بِالْقِيمَةِ , وَتَقْوِيمُ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْبَعِيدَةِ صَعْبٌ قَالَ : وَفِيهِ أَيْضًا تَوَقُّعُ الِانْتِقَالِ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي , وَقَدْ تَتْلَفُ الْأُجْرَةُ فَتَضِيعُ عَلَيْهِمْ , وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا , فَالْحَاكِمُ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيَقْصِدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى ا هـ .(1/211)
قَالَ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ شَارِحُ الْإِرْشَادِ وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ , وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا إجَارَةَ بَعْضِ الْحُكَّامِ الْوَقْفَ مُدَّةً طَوِيلَةً أَدَّتْ إلَى تَمَلُّكِهِ وَإِبْطَالِ وَقْفِيَّتِهِ وَانْدِرَاسِهِ , وَالِاحْتِيَاطُ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِلَا شَكٍّ . ا هـ . وَقَالَ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ أَرَادَتْ أَنْ تُؤَجِّرَ وَقْفًا خَمْسِينَ سَنَةً بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فِرَارًا مِنْ الْبَطْنِ الَّذِي بَعْدَهَا لَا يَجُوز لَهَا ذَلِكَ , وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْإِذْنُ لَهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ التَّقْوِيمَ لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ الْمُدَّةَ الْبَعِيدَةَ صَعْبٌ ; وَلِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَى الْوَقْفِ إذَا أُجِّرَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ انْدِرَاسُهُ كَمَا رَأَيْنَا ذَلِكَ وَشَاهَدْنَاهُ , عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ وَتِلْمِيذَهُ الْبَغَوِيَّ وَالْمُتَوَلِّي ذَكَرُوا أَنَّ الْحُكَّامَ اصْطَلَحُوا عَلَى مَنْعِ إجَارَةِ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ هَذَا فِي زَمَانِهِمْ فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ قَاضٍ أَمِينٌ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ ؟ بَلْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : قُضَاةُ الْعَصْرِ كَقَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ , وَهَذَا فِي زَمَانِهِ فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا ؟ ا هـ . وَقَالَ أَيْضًا : وَقَدْ كَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ مِنْ نُظَّارِ الْوَقْفِ فِي تَأْجِيرِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَمَاكِنِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ مُنْدَرِسَ الْوَقْفِ وَيُتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمِلْكِ , وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ قَادِحٌ فِي نَظَرِهِمْ فَعَلَى الْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ أَصْلَحَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إزَالَةُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ا هـ .(1/212)
فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مَفَاسِدَ فَلِذَا وَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فِيهَا أَكْثَرَ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ إلَّا إنْ انْحَصَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الْعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا , مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْوَقْفِ وَبَقَائِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو زُرْعَةَ مُحَقِّقُ عَصْرِهِ بِاتِّفَاقِ مَنْ بَعْدَهُ . وَمِنْ ثَمَّ تَرْجُمُوهُ بِأَنَّهُ مَا رَأَى مِثْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِقْهَ شَيْخَيْهِ الْإِسْنَوِيِّ وَالْبُلْقِينِيِّ وَحَدِيثَ وَالِدِهِ حَافِظِ الْمُتَأَخِّرِينَ , وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَفْعَلُهُ حُكَّامُ مَكَّةَ مِنْ إجَارَةِ دُورِ مَكَّةَ الْخَرِبَةِ السَّاقِطَةِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا مِمَّنْ يَقُومُ بِعِمَارَتِهَا وَيُقَدِّرُونَ ذَلِكَ أُجْرَتَهَا فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَيَأْذَنُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي صَرْفِهِ فِي الْعِمَارَةِ وَيُقِرُّونَ الدَّارَ مَعَهُ بَعْد عِمَارَتِهَا .(1/213)
عَلَى حُكْمِ الْإِجَارَةِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْأُجْرَةِ , هَلْ هَذَا التَّصَرُّفُ حَسَنٌ يَسُوغُ اعْتِمَادُهُ وَتَكْرَارُهُ أَمْ لَا ؟ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ تُؤَدِّي إلَى تَمَلُّكِ الْوَقْفِ غَالِبًا , وَذَلِكَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ الْخَرَابِ وَأَطَالُوا فِي السُّؤَالِ فَأَجَابَ وَأَطَالَ وَمُلَخَّصُهُ : أَنَّ مَنَافِعَ الْوَقْفِ كَمَنَافِعِ الطَّلْقِ يَتَصَرَّفُ النَّاظِرُ فِيهَا بِالْمَصْلَحَةِ , وَقَدْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ تَكْثِيرَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَتَقْلِيلِهَا وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ إجَارَةُ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ مُدَّةً تَبْقَى إلَيْهَا غَالِبًا , وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدُّورِ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي أَحْكَامِ مَا يَبْنُونَ بِهِ وَإِتْقَانِهِ وَمُدَّةِ بَقَائِهِ غَالِبًا , فَمَا يَفْعَلُهُ حُكَّامُ مَكَّةَ مِنْ إجَارَةِ دُورِ الْوَقْفِ الْخَرِبَةِ السَّاقِطَةِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لِأُجْرَةِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ حَسَنٌ يَسُوغُ اعْتِمَادُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ حَاصِلٌ يُعَمَّرُ بِهِ , وَلَا وُجِدَ مَنْ يُقْرِضُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ , فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَارَةِ مُدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِذَلِكَ , وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّاهُ وَسَوَّغْنَاهُ ; لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ عَيْنِ الْوَقْفِ , وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْمَقَاصِدِ , وَقَدْ تَعَيَّنَتْ الْإِجَارَةُ الْمَذْكُورَةُ طَرِيقًا لِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَلَا نَظَرَ لِخَشْيَةِ تَمَلُّكِ الْوَقْفِ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّ الْأُمُورَ إذَا ظُنَّتْ مَصْلَحَتُهُمَا فِي الْحَالِ لَا نَظَرَ فِي(1/214)
إبْطَالِهَا إلَى احْتِمَالِ مَفْسَدَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ . وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ الْعِمَارَةَ إنَّمَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ فَقَطْ ; لِأَنَّ مُدَّتَهُ لَا تَفْرُغُ إلَّا وَقَدْ عَادَتْ الدَّارُ خَرِبَةً كَمَا كَانَتْ لِحُصُولِ غَرَضِ الْوَاقِفِ مَعَ ذَلِكَ بِعِمَارَتِهِ لَهَا , وَذَلِكَ الْغَرَضُ هُوَ بَقَاءُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ مُنْفَكَّةً عَنْ مِلْكِ الْآدَمِيِّينَ لِرَقَبَتِهَا مَمْلُوكَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , فَيَبْقَى ثَوَابُهُ مُسْتَمِرًّا حَتَّى يُجْرَى عَلَيْهِ , وَلَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِرَيْعِهَا , وَالصُّورَةُ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمَذْكُورَةَ تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا لِبَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ تَدَاعَى لِلسُّقُوطِ , وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ مِنْ رَيْعٍ حَاصِلٍ وَالْقَرْضِ , وَالْأَوْلَى إذَا خَرِبَ الْوَقْفُ وَلَمْ يَنْهَضْ بِعِمَارَتِهِ إلَّا أُجْرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ أَنْ يُؤَجَّرَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ , لِيُعْمَرَ جَمِيعُهُ بِالْأُجْرَةِ ; لِأَنَّ بَقَاءَ عَيْنِ الْوَقْفِ مَقْصُودٌ شَرْعًا فِي غَرَضِ الْوَاقِفِ , وَلَا نَظَرَ إلَى خَشْيَةِ الْإِفْضَاءِ إلَى تَمَلُّكِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَقِّقٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَتَى أَمْكَنَتْ الْمُبَادَرَةُ إلَى عِمَارَةِ الْوَقْفِ وَبَقَاءِ عَيْنِهِ كَمَا كَانَتْ , فَهُوَ حَسَنٌ فَلْيُفْعَلْ ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ شَرْعِيٍّ . وَيُحْتَرَزُ عَمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ بِمَا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ بِهِ , وَلَا تُتْرَكُ الْمَصَالِحُ الْمَظْنُونَةُ لِلْمَفَاسِدِ الْمَوْهُومَةِ ا هـ .(1/215)
حَاصِلُ كَلَامِ الْوَلِيِّ رحمه الله تعالى وَهُوَ صَرِيحٌ لِمَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ , لِمَا ذَكَرْته أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْحَاجَةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ عَوْدِهَا إلَى عَيْنِ الْوَقْفِ لِتَوَقُّعِ بَقَائِهَا عَلَى ذَلِكَ , أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لِأُجْرَةِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ حَسَنٌ يَسُوغُ اعْتِمَادُهُ , إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ حَاصِلٌ يُعْمَرُ بِهِ , وَلَا وُجِدَ مَنْ يُقْرِضُ الْقَرْضَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ , فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَارَةِ مُدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٌ لِذَلِكَ , وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّاهُ إلَخْ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ وَقَوْلَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ إلَخْ وَقَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ , لِذَلِكَ تَجِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ كَبَقِيَّةِ كَلَامِهِ صَرِيحًا فِيمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى الْعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا , وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ . وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ السُّبْكِيّ السَّابِقُ , وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا , فَإِنْ قُلْت : الْحَاجَةُ أَخَصُّ مِنْ .(1/216)
الْمَصْلَحَةِ وَهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي إجَارَةِ النَّاظِرِ إلَّا الْمَصْلَحَةَ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْأَعَمِّ اشْتِرَاطُ الْأَخَصِّ , وَإِذَا أَجَّرَهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً , فَلِمَ لَا يُسَوَّغُ أَنَّ زِيَادَةَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ هُنَا بِمُجَرَّدِهَا تَكُونُ مَصْلَحَةً مُسَوِّغَةً لِلْإِجَارَةِ , وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهَا , وَكَلَامُ السُّبْكِيّ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَاجَةِ وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي نَحْوِ الْعِمَارَةِ , فَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ : مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قُلْتُ : أَمَّا كَوْنُ الْحَاجَةِ أَخَصَّ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا اشْتِرَاطُهُمْ فِي النَّاظِرِ مَا ذُكِرَ , فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي كُلِّ إجَارَةٍ ثُمَّ بَعْضُ الْإِجَارَاتِ كَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ يُشْتَرَطُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ الْحَاجَةُ , وَبَعْضُهَا كَإِجَارَةِ الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ يَكْفِي فِيهِ مُطْلَقُ الْمَصْلَحَةِ , وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ , بَلْ حَيْثُ كَانَ فِي الْإِجَارَةِ مَصْلَحَةٌ اُكْتُفِيَ فِيهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ , وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَمْ يُكْتَفَ فِيهَا إلَّا بِالزِّيَادَةِ , كَمَا مَرَّ عَنْ الْكَمَالِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ , فَعَلِمْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَصْلَحَةً كَافِيَةً عَنْ غَيْرِهَا لَا فِي الْإِجَارَةِ الْقَصِيرَةِ , وَلَا فِي الطَّوِيلَةِ , فَبَطَلَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ , وَلَمْ يَجُزْ النَّظَرُ إلَيْهَا وَبِهَذَا عُلِمَ الْجَوَابُ عَنْهُ .(1/217)
فَإِنْ قُلْتَ : لِمَ اشْتَرَطْتُمْ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الْحَاجَةَ وَاكْتَفَيْتُمْ فِي الْقَصِيرَةِ بِمُجَرَّدِ الْمَصْلَحَةِ , قُلْتُ : لِأَنَّ الطَّوِيلَةَ فِيهَا مَفَاسِدُ شَتَّى كَمَا مَرَّ , وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُطْلِقِينَ لِلْمَنْعِ وَالْمُجَوِّزِينَ لَهَا بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ , وَإِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَفَاسِدَ مُنَافِيَةٍ لِغَرَضِ الْوَاقِفِ وَالشَّارِعِ مِنْ بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ , فَكَانَ الْأَصْلُ امْتِنَاعَهَا , وَمَا كَانَ الْأَصْلُ امْتِنَاعَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ حَاقَّةٍ , وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِمَارَةَ إذَا تَوَقَّفَتْ عَلَى الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ كَانَ ذَلِكَ إمَّا ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً , فَمِنْ ثَمَّ جَوَّزُوهَا حِينَئِذٍ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً وَلَا حَاجَةً بِأَنْ كَانَ الْمَكَانُ عَامِرًا لَا يُخْشَى عَلَيْهِ انْهِدَامٌ , وَلَا يَحْتَاجُ لِتَرْمِيمٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعِمَارَاتِ , فَالْمَنْعُ بَاقٍ بِحَالِهِ خَشْيَةً مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ قَالَ فِي رَدِّهِ : مَنْعُ الْأَذْرَعِيِّ الطَّوِيلَةَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِهِ لَمْ أَرَ مَنْ قَالَهُ هَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَلَا نَظِيرَ يَشْهَدُ لَهُ , وَمَنْعُ الْإِجَارَةِ بِأَمْرٍ مُتَوَهَّمٍ , وَهُوَ إفْضَاءُ الْأَمْرِ إلَى اسْتِهْلَاكِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ , وَلَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُنَا , وَكَيْفَ نُثْبِتُ أَمْرًا بِالشَّكِّ , وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِنَا سَدُّ الذَّرَائِعِ ا هـ .(1/218)
فَرَدُّهُ لِهَذَا مَعَ تَقْيِيدِهِ الْجَوَازَ بِمَا مَرَّ عَنْهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ رَدَّ إطْلَاقِ الْمَنْعِ لَا أَصْلِ الْمَنْعِ , وَإِلَّا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْجَوَازِ مَا قَدَّمْتُهُ عَنْهُ , وَنَتَجَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الطَّوِيلَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا لِحَاجَةٍ , وَلَيْسَ عِلَّتُهُ إلَّا مَا قَرَّرْته فَافْهَمْهُ , فَإِنْ قُلْتَ : يُنَافِي مَا ذَكَرْتَهُ كَلَامُ الْكَمَالِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ فِي فَتَاوِيهِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ بَيْتًا يَمْلِكُهُ عَلَى وَلَدَيْ ابْنٍ لَهُ لِيَسْكُنَاهُ وَيُؤَجِّرَاهُ وَيَنْتَفِعَا بِهِ وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمَا . ثُمَّ مَاتَ الْوَاقِفُ وَأَحَدُ الْوَلَدَيْنِ صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ فَاحْتَاجَ إلَى الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ فَنَصَبَ الْحَاكِمُ الِابْنَ الْبَالِغَ عَلَى أَخِيهِ الْيَتِيمِ فَأَجَّرَ الْمَنْصُوبُ حِصَّةَ أَخِيهِ الْيَتِيمِ بِالْمَصْلَحَةِ لِحَاجَتِهِ وَضَرُورَتِهِ إلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى أَخِيهِ بِأُجْرَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْوَقْفِ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ وَقَبَضَ لَهُ الْأُجْرَةَ فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ أَمْ لَا ؟ ( فَأَجَابَ ) : نَعَمْ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ الْمَذْكُورَةُ ا هـ .(1/219)
قُلْت : لَا يُنَافَى مَا ذَكَرْته , أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ أَطْلَقَ هُنَا الصِّحَّةَ وَقَدْ قَدَّمْتُ عَنْهُ عِدَّةَ أَمَاكِنَ مِنْ فَتَاوِيهِ مُصَرِّحَةً بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرَ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ , وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ جَوَابَهُ مُنَزَّلٌ عَلَى مَا قَالَهُ السَّائِلُ وَهُوَ أَنَّهُ أَجَّرَ الْحِصَّةَ بِالْمَصْلَحَةِ وَلِحَاجَةِ الْيَتِيمِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ , فَذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أَسْبَابٍ الْمَصْلَحَةَ وَحَاجَةَ الْيَتِيمِ وَزِيَادَةَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ . فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ رَاجِعَةٌ لِعَيْنِ الْوَقْفِ , وَلَيْتَ مُسْتَنَدَ الْإِجَارَةِ فِي السُّؤَالِ ذُكِرَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إذْ لَوْ ذُكِرَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ لَكَانَ أَمْرُهُ وَاضِحًا جَلِيًّا , وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي لِلْوَقْفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مُقَيَّدَةٌ بِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ وَوَضَّحْتُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذِهِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ , وَتَنَبَّهْ لَهُ , فَإِنَّ بَعْضَ الْمُعَانِدِينَ رُبَّمَا اطَّلَعَ عَلَى كَلَامِ الْكَمَالِ هَذَا فَجَعَلَهُ مُسْتَنَدًا لَهُ عَلَى صِحَّةِ مَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ الَّذِي فِي السُّؤَالِ , وَلَيْسَ فِيهِ مُسْتَنَدٌ لِذَلِكَ بِوَجْهٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ إيضَاحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا , ثُمَّ رَأَيْت بَعْدَ فَرَاغِي مِنْ جَوَابِ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ وَالْآتِيَةِ الرَّافِعِيَّ صَرَّحَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ الْوَجِيزِ بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيمَا .(1/220)
قَدَّمْتُهُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِ , مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ لِلْوَقْفِ دُونَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ الْوَجِيزِ : وَتَأْثِيرُهُ أَيْ : لُزُومِ الْوَقْفِ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَحَبْسُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ , وَيَجُوزُ أَنْ يُغَيَّرَ قَوْلُهُ وَحَبْسُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا يُلَائِمُ غَرَضَ الْوَاقِفِ وَيَمْنَعُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ ا هـ .(1/221)
كَلَامُ الرَّافِعِيِّ , فَتَأَمَّلْ تَفْسِيرَهُ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ النَّاظِرِ عَلَى مَا يُلَائِمُ غَرَضَ الْوَاقِفِ وَيَمْنَعُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ تَجِدْهُ قَاضِيًا بِمَا قُلْنَاهُ : مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ التَّصَرُّفِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَرْجِعَ إلَى غَرَضِ بَقَاءِ الْوَقْفِ , وَأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ هَذَا مَعَ غَرَضِ الْمُسْتَحِقِّ قُدِّمَ الْأَوَّلُ وَمُنِعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ غَرَضِهِ الْمُنَافِي لَهُ , فَإِنْ قُلْتَ : لَا شَاهِدَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ لِأَنَّ مِنْ غَرَضِ الْوَاقِفِ نَفْعَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قُلْتُ : نَعَمْ هُوَ مِنْهُ , لَكِنْ إنَّمَا يُرَاعَى حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْ غَرَضَ الْوَقْفِ , أَمَّا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فَيُقَدَّمُ غَرَضُ الْوَقْفِ , وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ جَعَلْنَا مُجَرَّدَ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ مُسَوِّغًا لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى اسْتِهْلَاكِ الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةِ الْوَقْفِ إلَى ذَلِكَ لَكِنَّا قَدَّمْنَا غَرَضَ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى غَرَضِ الْوَاقِفِ , وَهُوَ مُمْتَنِعٌ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ هَذَا , وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَسْكُنُ الدَّارَ .(1/222)
وَقَالَ النَّاظِرُ أُؤَجِّرُهَا لِأُرَمِّمَهَا بِأُجْرَتِهَا أُجِيبَ النَّاظِرُ , فَهَذَا فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُمْ بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَقَوْلُهُمْ فِي مَوْقُوفٍ لَهُ مَنَافِعُ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْوَاقِفِ , وَأَجْرَى الرَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى انْهِدَامٍ , فَفِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ إذَا تَقَابَلَ غَرَضُ الْوَاقِفِ وَغَرَضُ الْمُسْتَحِقِّ قُدِّمَ غَرَضُ الْوَاقِفِ , وَمَا نَحْنُ فِيهِ تَقَابَلَ غَرَضَاهُمَا , فَلْيُقَدَّمْ غَرَضُ الْوَاقِفِ مِنْ عَدَمِ الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ عَلَى غَرَضِ الْمُسْتَحِقِّ , وَقَوْلُهُمْ يُرَاعَى غَرَضُ الْوَاقِفِ مَا أَمْكَنَ فَانْظُرْ قَوْلَهُمْ مَا أَمْكَنَ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِيمَا قُلْنَاهُ , وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ . وَالْعِبَارَةُ لِلشَّيْخَيْنِ : يُؤَجَّرُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْمُفْلِسِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةَ إلَى أَنْ يَفِيَ الدَّيْنَ , وَتَبِعَهُمَا الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُمْ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى .(1/223)
وَلَمْ يَقُولُوا يُؤَجَّرُ مُدَّةً طَوِيلَةً تَرَاهُ شَاهِدًا لِمَا قَرَّرْتُهُ مِنْ رِعَايَةِ غَرَضِ الْوَاقِفِ دُونَ الْمُسْتَحِقِّ , وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَكَرُّرِ الْإِجَارَةِ , وَأُجِّرَ مُدَّةً طَوِيلَةً رِعَايَةً لِغَرَضِهِ مَعَ قُوَّتِهِ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَدُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْفِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا فِيهِ , وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَلْتَفِتْ الْأَئِمَّةُ إلَى هَذَا الْغَرَضِ , وَيُجَوِّزُونَ الْإِجَارَةَ لِأَجْلِ ارْتِفَاعِ الْحَجْرِ مُدَّةً طَوِيلَةً تَفِي بِالدَّيْنِ , بَلْ أَوْجَبُوا أَنْ يُؤَجَّرَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ , وَإِنْ أَدَّى إلَى دَوَامِ الْحَجْرِ فَإِنْ قُلْتَ : قَدْ خَالَفَ السُّبْكِيّ كَلَامَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ أَيْ : الْعَيْنُ الْمَوْقُوفَةُ مِمَّا تُؤَجَّرُ غَالِبًا لِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ يَغْلِبُ الْبَقَاءُ فِيهَا أُلْزِمَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ جُمْلَةَ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالْمَالِ الْحَاضِرِ عُرْفًا , وَتُضَافُ تِلْكَ الْأُجْرَةُ إلَى بَقِيَّةِ أَمْوَالِهِ وَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَيُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ .(1/224)
وَقَالَ فِي غَيْرِهِ : الْأَقْرَبُ أَنَّهُ يُؤَجَّرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ لَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ , خِلَافًا لِلشَّيْخَيْنِ قُلْتُ : لَا نَظَرَ لِمُخَالَفَتِهِ هَذِهِ فَإِنَّهُ نَفْسَهُ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا رَأْيٌ لَهُ وَلَمْ يَرَهُ مَنْقُولًا , وَإِذَا تَعَارَضَ رَأْيُهُ وَمَنْقُولُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا , قُدِّمَ الْمَنْقُولُ وَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الرَّأْيِ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ لِمَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى إلْمَامٍ بِأُصُولِ الْمَذْهَبِ وَمَأْخَذِهِ , فَتَأَمَّلْ جَمِيعَ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَفِيهِ دَلَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ صَرِيحَةٌ لِمَا قَرَّرْتُهُ . فَإِنْ قُلْتَ : مَا وَجْهُ دَلَالَةِ عِبَارَتِهِمْ عَلَى امْتِنَاعِ إيجَارِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ هُنَا ؟ قُلْتُ : صَرَاحَةُ عِبَارَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لَا تَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ , وَكَفَاك شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ مُخَالَفَةُ السُّبْكِيّ الْمَذْكُورَةُ إذْ لَوْلَا أَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ لِلِاشْتِرَاطِ لَمَا قَالَ خِلَافًا لِلشَّيْخَيْنِ , وَلَمَا قَالَ عَمَّا قَالَهُ هَذَا مَا رَأَيْتُهُ وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا .(1/225)
وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ فَهُوَ أَنَّ كَلَامَهُمْ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا فِي النَّاظِرِ بَيْنَ أَنْ يَشْرُطَ لَهُ الْوَاقِفُ الْعَمَلَ بِمَا يَرَاهُ وَأَنْ لَا , وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيهِ لَيْسَ لِحَظِّ الْوَاقِفِ فَحَسْبُ ; لِأَنَّ الْمِلْك انْقَطَعَ عَنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ صَارَ مِلْكًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , بِمَعْنَى أَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْ رَقَبَتِهِ اخْتِصَاصُ الْآدَمِيِّينَ , وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِلْكُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ بِكُلِّ تَقْدِيرٍ , وَإِذَا صَارَ الْمِلْكُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ تَعَلُّقٌ بِمَنَافِعِهِ ; لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ النَّاظِرُ مُتَكَلِّمًا عَلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ , فَلَا أَثَرَ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ , فَإِنْ قُلْتَ : شَرْطُ الْوَاقِفِ مُرَاعًى كَنَصِّ الشَّارِعِ قُلْتُ : مَحَلُّ مُرَاعَاتِهِ حَيْثُ لَمْ يُخَالِفْ غَرَضَ الشَّارِعِ عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ عَلَى النَّاظِرِ الْعَمَلُ بِمَا يَرَاهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤَجَّرُ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَا مُدَّةً طَوِيلَةً , بِلَا مَصْلَحَةٍ ; لِأَنَّ إطْلَاقَهُ هَذَا يَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَرَاهُ مِمَّا يُوَافِقُ غَرَضَ الشَّارِعِ , فَإِنْ صَرَّحَ بِعَمَلِهِ بِمَا يَرَاهُ , وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ كَانَ لَغْوًا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ .(1/226)
وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ : فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ , فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ إذْ الْأَعَمُّ كَالْحَيَوَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ كَالْإِنْسَانِ , وَبِمَا ذَكَرْته أَفْتَى شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ خَاتِمَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ سَقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَرَاهُ , فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَافِعِيٍّ حَكَمَ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ فِي أَمَاكِنَ مَلَكَهَا الْبَائِعُ مِنْ وَالِدَتِهِ , وَثَبَتَ عِنْدَهُ التَّمْلِيكُ وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ أَيْضًا , فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ ؟ ( فَأَجَابَ ) : بِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي كَوْنِهِ صَحِيحًا أَوْ لَا , وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مِلْكِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِلْعَاقِدِ , فَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ بِالْمُوجِبِ إنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهُ عَنْهُ كَعَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْعَاقِدِ ا هـ .(1/227)
وَكَلَامُهُ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ جَعَلَ كَأَصْلِهِ وَغَيْرِهِ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ أَهْلِيَّةَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ , وَثُبُوتَ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ حَالَةَ الْعَقْدِ , وَوُجُودَ الصِّيغَةِ الْمُعْتَبَرَةِ , وَلِلْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ ثُبُوتُ الْأَهْلِيَّةِ , وَوُجُودُ الصِّيغَةِ , قَالَ : فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ ثُمَّ قَالَ : فَقَوْلُ السُّبْكِيّ : إنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ إلَّا أَنَّهُ دُونَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ فِيهِ نَظَرٌ , بَلْ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمٌ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْبَيِّنَةُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَصَحِيحٌ أَوْ فَاسِدًا فَفَاسِدٌ ا هـ .(1/228)
وَقَدْ بَيَّنْت فِي كِتَابِي فِي بَيْعِ الْمَاءِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ حَاصِلَ مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ وَالْبُلْقِينِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ , وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ مَجْمُوعًا فِي كِتَابٍ , وَبَيَّنْتُ فِيهِ أَنَّ السُّبْكِيّ لَمْ يُطْلِقْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ , وَإِنَّمَا جَعَلَهُ حُكْمًا بِهَا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ , وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ لَكِنْ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَوَارِثِهِ وَمَنْ صَدَّقَهُ دُونَ غَيْرِهِمْ , فَالْحُكْمَانِ إنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِيمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ , فَفِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ السُّبْكِيّ بِزِيَادَةٍ تُبَيِّنُ أَنَّهُ قَائِلٌ : بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ أَعَمُّ فِي كِتَابِهِ الْمُوعَبُ فِي الْقَضَاءِ بِالْمُوجَبِ فَقَالَ : مَا حَاصِلُهُ فَإِنْ قُلْتَ : أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُوجَبَ هُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يُوجِبُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَالصِّحَّةُ بِكَوْنِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَثَرُ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ , وَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالثَّانِي شَرْعِيٌّ , وَقِيلَ : عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهِ لِاسْتِلْزَامِهِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ , وَالْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الْإِيجَابُ أَوْ التَّحْرِيمُ أَوْ الصِّحَّةُ أَوْ الْفَسَادُ أَوْ السَّبَبِيَّةُ أَوْ الشَّرْطِيَّةُ أَوْ الْمَانِعِيَّةُ , بِخِلَافِ الْكَرَاهَةِ(1/229)
أَوْ النَّدْبِ إذْ لَا الْتِزَامَ فِيهِمَا وَلَا اسْتِلْزَامَ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْأَوَّلَ ثُبُوتُ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَمُؤَاخَذَتُهُ بِهِ , وَالثَّانِي كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَشَرْطُ الصِّحَّةِ اخْتِيَارُهُ وَصِحَّةُ عِبَارَتِهِ وَأَنْ لَا يُكَذِّبُهُ حِسٌّ وَلَا عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ فَالْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ يَقْتَضِي حُصُولَ ذَلِكَ كُلِّهِ , فَلَا يَحْكُمُ بِهَا إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِحُصُولِ هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا وَلَا يَضُرُّ احْتِمَالُ كَذِبِ الْمُقِرِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَالْإِقْرَارُ فَاسِدٌ ظَاهِرًا , فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ صَحَّ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ السَّابِقِ , وَمَتَى عَلِمَ الْقَاضِي فَوَاتَ شَرْطِ الصِّحَّةِ أَوْ عَلِمَ حَجْرًا وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلَا بِمُوجَبِهِ بَلْ بِفَسَادِهِ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ . أَمَّا فِيهَا فَلَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ وَلَا بِمُوجَبِهِ حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهُ . وَقَوْلُ الْقَاضِي : لَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارٍ مُطْلَقٍ حُمِلَ عَلَى الصِّحَّةِ , وَإِنْ احْتَمَلَ عَوَارِضَ يَمْنَعُهَا مَحَلُّهُ حَيْثُ لَا مُعَارِضَ حَصَلَ بِسَبَبِهِ شَكٌّ لَمْ يَثْبُتْ .(1/230)
فَحِينَئِذٍ يُقْتَصَرُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَبَيَّنَ عِنْدَهُ حَالُهَا , وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ لَا يَقْتَضِي إلَّا أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى شَرْطٍ أَوْ انْتِفَاءِ مَانِعٍ فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ حُكْمٌ بِسَبَبِيَّةِ الْمُؤَاخَذَةِ , ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ أَعْمَلْنَا السَّبَبَ وَأَثْبَتْنَا الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ اعْتِمَادًا عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ يَتَلَازَمُ الْحُكْمَانِ , وَعَلَى الْأَوَّلِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ وَبِهِ ظَهَرَ عُذْرُ الْحُكَّامِ فِي تَوَقُّفِهِمْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ دُونَ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ , وَشُرُوطُ الْإِقْرَارِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَهَا الْحَاكِمُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ , وَإِلَّا اُكْتُفِيَ بِعِلْمِهِ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ : صِحَّةُ الصِّيغَةِ وَإِمْكَانُ الْمُقَرِّ بِهِ وَرُشْدُ الْمُقِرِّ , وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَانِعٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِنْشَاءِ وَصِحَّةِ الْإِنْشَاءِ . أَنَّ مُوجَبَهُ أَثَرُهُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ شَرْعًا , وَصِحَّتَهُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ وَلِلصِّحَّةِ شُرُوطٌ تَرْجِعُ إلَى الْمُتَصَرِّفِ وَالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ , فَإِنْ ثَبَتَتْ حُكِمَ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَإِنْ ثَبَتَ فَقْدُ بَعْضِهَا حُكِمَ بِفَسَادِهِ , وَإِنْ تَرَدَّدَ فَمَا رَجَعَ لِلصِّيغَةِ أَوْ لِحَالِ الْمُتَصَرِّفِ ظَاهِرٌ مِمَّا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ أَوْ لِحَالِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الْوُجُودِيَّةِ كَالْمِلْكِ .(1/231)
وَنَحْوِهِ اُشْتُرِطَ ثُبُوتُهُ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ أَوْ الْعَدَمِيَّةِ كَكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَنَحْوِهِ لَمْ يُشْتَرَطْ ثُبُوتُهُ , فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ وَلَا عَدَمُهُ وَثَبَتَ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِالصِّحَّةِ , وَلَكِنَّ التَّصَرُّفَ صَالِحٌ وَسَبَبٌ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَمْلُوكِ فَيُحْكَمُ بِمُوجَبِهِ , وَلَهُ فَوَائِدُ : كَوْنُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ سَبَبًا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِشَرْطِهِ حَتَّى إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي إفَادَتِهِ كَالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ , وَالْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَاهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ وَمُؤَاخَذَةُ الْوَاقِفِ بِذَلِكَ .(1/232)
وَكَذَا وَارِثُهُ وَكُلُّ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ إذَا أَقَرَّ لِلْوَاقِفِ بِالْمِلْكِ وَصُرِفَ الرَّيْعُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِاعْتِرَافِ ذِي الْيَدِ , وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ وَقْفُ الْوَاقِفِ لِمَا فِي يَدِهِ أَوْ اعْتِرَافُ ذِي الْيَدِ لَهُ كَافٍ فِيهِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ , فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فِي الْحَقِيقَةِ حُكْمٌ بِالسَّبَبِيَّةِ وَبِثُبُوتِ أَثَرِهَا فِي حَقِّ مَنْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ كَالْوَاقِفِ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ , وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَإِنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَحُكْمَ الْإِقْرَارِ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ , فَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ لَازِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ , وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ لَازِمًا لِذِي الْيَدِ وَمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ وَلَا نَقُولُ : إنَّ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ , بَلْ الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ إمَّا بِإِقْرَارٍ وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ : الْحُكْمُ بِالشَّرْطِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا , وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ , فَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِثُبُوتِ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ , وَلَوْ مُتَجَدِّدَيْنِ بَعْدَهُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي حَقِّهِمْ لَا مُطْلَقًا , وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ حُكْمٌ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ التَّامَّةِ(1/233)
مُطْلَقًا , وَيَلْزَمُ مِنْهَا ثُبُوتُ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ , ثُمَّ الْقِسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي الْحُجَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِدَافِعٍ , وَقَوْلُ الْحَاكِمِ فِي إسْجَالِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ عِنْد الْحَاكِمِ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ , وَإِلَّا كَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا , وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا بَلْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ , فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى الشَّرَائِطَ الْمُعْتَبَرَةَ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ حُكْمَهُ بِالْمُلْكِ , وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْحُ فِيهِ عَلَى أَنَّ بَعْدَ إلَخْ تَأْكِيدٌ , فَإِنَّ الْحَاكِمَ الْأَمِينَ الدَّيِّنَ إنَّمَا يَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ .
وفي تحفة المحتاج :
((1/234)
فَرْعٌ ) وَطِئَ حَلِيلَتَهُ مُتَفَكِّرًا فِي مَحَاسِنِ أَجْنَبِيَّةٍ حَتَّى خُيِّلَ إلَيْهِ أَنَّهُ يَطَؤُهَا فَهَلْ يَحْرُمُ ذَلِكَ التَّفَكُّرُ وَالتَّخَيُّلُ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ بَعْدَ أَنْ قَالُوا إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مَنْقُولَةً فَقَالَ جَمْعٌ مُحَقِّقُونَ كَابْنِ الْفِرْكَاحِ وَجَمَالِ الْإِسْلَامِ ابْنِ الْبِزْرِيِّ وَالْكَمَالِ الرَّدَّادِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ وَالْجَلَالِ السُّيُوطِيّ وَغَيْرِهِمْ يَحِلُّ ذَلِكَ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ التَّقِيِّ السُّبْكِيّ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاسْتَدَلَّ الْأَوَّلُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا } وَلَك رَدُّهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِي ذَلِكَ بَلْ فِي خَاطِرٍ تَحَرَّكَ فِي النَّفْسِ هَلْ يَفْعَلُ الْمَعْصِيَةَ كَالزِّنَا وَمُقَدَّمَاتِهِ , أَوْ لَا فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ إلَّا إنْ صَمَّمَ عَلَى فِعْلِهِ بِخِلَافِ الْهَاجِسِ وَالْوَاجِسِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَزْمِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ التَّفَكُّرِ وَالتَّخَيُّلِ فِعْلُ زِنًا وَلَا مُقَدِّمَةٌ لَهُ فَضْلًا عَنْ الْعَزْمِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْوَاقِعُ مِنْهُ تَصَوُّرُ قَبِيحٍ بِصُورَةِ حَسَنٍ فَهُوَ مُتَنَاسٍ لِلْوَصْفِ الذَّاتِيِّ مُتَذَكِّرٌ لِلْوَصْفِ الْعَارِضِ بِاعْتِبَارِ تَخَيُّلِهِ وَذَلِكَ لَا مَحْذُورَ فِيهِ إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ تَصَوُّرُ شَيْءٍ فِي الذِّهْنِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْخَارِجِ فَإِنْ قُلْت يَلْزَمُ مِنْ تَخَيُّلِهِ وُقُوعَ وَطْئِهِ فِي تِلْكَ الْأَجْنَبِيَّةِ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الزِّنَا بِهَا قُلْت مَمْنُوعٌ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ وَإِنَّمَا(1/235)
اللَّازِمُ فَرْضُ مَوْطُوءَتِهِ هِيَ تِلْكَ الْحَسْنَاءُ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ عَلَى أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ يَضُمُّ إلَيْهِ خُطُورَ الزِّنَا بِتِلْكَ الْحَسْنَاءِ لَوْ ظَفَرَ بِهَا حَقِيقَةً لَمْ يَأْثَمْ إلَّا إنْ صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَاتَّضَحَ أَنَّ كُلًّا مِنْ التَّفَكُّرِ وَالتَّخَيُّلِ حَالُ غَيْرِ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ الْخَمْسَةِ , وَأَنَّهُ لَا إثْمَ إلَّا إنْ صَمَّمَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ بِتِلْكَ الْمُتَخَيَّلَةِ لَوْ ظَفَرَ بِهَا فِي الْخَارِجِ .(1/236)
قَالَ ابْنُ الْبِزْرِيِّ وَيَنْبَغِي كَرَاهَةُ ذَلِكَ وَرُدَّ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نَهْيٍ خَاصٍّ أَيْ , وَإِنْ اُسْتُفِيدَ مِنْ قِيَاسٍ , أَوْ قُوَّةِ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْفِعْلِ فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ أَوْ حُرْمَتِهِ فَيُكْرَهُ كَلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ إذْ لَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثٌ وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَصُونُ بِهِ دِينَهُ وَاسْتَقَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَّا إذَا صَحَّ قَصْدُهُ بِأَنْ خَشِيَ تَعَلُّقَهَا بِقَلْبِهِ وَاسْتَأْنَسَ لَهُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ أَمْرِ { مَنْ رَأَى امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ أَنَّهُ يَأْتِي امْرَأَتَهُ فَيُوَاقِعُهَا } ا هـ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ إدْمَانَ ذَلِكَ التَّخَيُّلِ يُبْقِي لَهُ تَعَلُّقًا مَا بِتِلْكَ الصُّورَةِ فَهُوَ بَاعِثٌ عَلَى التَّعَلُّقِ بِهَا لَا أَنَّهُ قَاطِعٌ لَهُ وَإِنَّمَا الْقَاطِعُ لَهُ تَنَاسِي أَوْصَافِهَا وَخُطُورِهَا بِبَالِهِ وَلَوْ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى يَنْقَطِعَ تَعَلُّقُهُ بِهَا رَأْسًا وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ وَأَتَى امْرَأَتَهُ جَعْلُ تِلْكَ الصُّورَةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الزِّنَا كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ أَخَذَ كُوزًا يَشْرَبُ مِنْهُ فَتَصَوَّرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَنَّهُ خَمْرٌ فَشَرِبَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَصِيرُ حَرَامًا عَلَيْهِ ا هـ وَرَدَّهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَأَصْحَابُنَا لَا يَقُولُونَ بِهَا(1/237)
وَوَافَقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الزَّاهِدُ , وَهُوَ شَافِعِيٌّ غَفْلَةً عَنْ هَذَا الْبِنَاءِ ا هـ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآرَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْفَتَاوَى وَبَيَّنْت أَنَّ قَاعِدَةَ مَذْهَبِهِ لَا تَدُلُّ لِمَا قَالَهُ فِي الْمَرْأَةِ وَفَرَّقَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صُورَةِ الْمَاءِ بِفَرْقٍ وَاضِحٍ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ فَرَاجِعْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فَإِنْ قُلْت يُؤَيِّدُ التَّحْرِيمَ قَوْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ كَمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ لِمَا لَا يَحِلُّ يَحْرُمُ التَّفَكُّرُ فِيمَا لَا يَحِلُّ لقوله تعالى { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } فَمَنَعَ مِنْ التَّمَنِّي لِمَا لَا يَحِلُّ كَمَا مَنَعَ مِنْ النَّظَرِ لِمَا لَا يَحِلُّ قُلْت اسْتِدْلَالُ الْقَاضِي بِالْآيَةِ وَقَوْلُهُ عَقِبَهَا فَمَنَعَ مِنْ التَّمَنِّي إلَخْ صَرِيحَانِ فِي أَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ التَّفَكُّرِ وَالتَّخَيُّلِ السَّابِقَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي حُرْمَةِ تَمَنِّي حُصُولِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ بِأَنْ يَتَمَنَّى الزِّنَا بِفُلَانَةَ , أَوْ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ نِعْمَةُ فُلَانٍ بَعْدَ سَلْبِهَا عَنْهُ وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ كَلَامَهُ فِي قَاعِدَةِ حُرْمَةِ تَمَنِّي الرَّجُلِ حَالَ أَخِيهِ مِنْ دِينٍ , أَوْ دُنْيَا قَالَ وَالنَّهْيُ فِي الْآيَةِ لِلتَّحْرِيمِ وَغَلَّطُوا مَنْ جَعَلَهُ لِلتَّنْزِيهِ نَعَمْ إنْ ضَمَّ فِي مَسْأَلَتِنَا إلَى التَّخَيُّلِ وَالتَّفَكُّرِ تَمَنِّيَ وَطْئِهَا زِنًا فَلَا شَكَّ فِي الْحُرْمَةِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُصَمِّمٌ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا رَاضٍ بِهِ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ وَلَمْ يَتَأَمَّلْ كَلَامَ الْقَاضِي هَذَا مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ لِلْحُرْمَةِ وَلَا مَنْ أَجَابَ(1/238)
عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَكُّرِ تَحْرِيمُ التَّخَيُّلِ إذْ التَّفَكُّرُ إعْمَالُ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ا هـ .
( قَوْلُهُ : فَرْعٌ ) إلَى قَوْلِهِ فِي كَلَامِهِ فِي النِّهَايَةِ ( قَوْلُهُ ابْنِ الْبِزْرِيِّ ) بِكَسْرِ الْبَاءِ نِسْبَةً لِبِزْرِ الْكَتَّانِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ( قَوْلُهُ يَحِلُّ ذَلِكَ ) مُعْتَمَدٌ ا هـ ع ش ( قَوْلُهُ وَاسْتَدَلَّ الْأَوَّلُ ) أَيْ الْجَمْعُ الْمُحَقِّقُونَ غَيْرَ السُّبْكِيّ ا هـ كُرْدِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَلَك رَدُّهُ ) أَيْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ( قَوْلُهُ : فِي ذَلِكَ ) أَيْ التَّفَكُّرِ وَالتَّخَيُّلِ ( قَوْلُهُ : مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ ) عِبَارَتُهُ فِي فَتْحِ الْمُبِينِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ السَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مَا نَصُّهُ قَالَ أَيْ السُّبْكِيُّ فِي حَلَبِيَّاتِهِ مَا حَاصِلُهُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ الْأُولَى الْهَاجِسُ , وَهُوَ مَا يُلْقَى فِيهَا ثُمَّ جَرَيَانُهُ فِيهَا , وَهُوَ الْخَاطِرُ ثُمَّ حَدِيثُ النَّفْسِ , وَهُوَ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ التَّرَدُّدِ هَلْ يَفْعَلُ , أَوْ لَا ثُمَّ الْهَمُّ , وَهُوَ مَا يُرَجِّحُ قَصْدَ الْفِعْلِ ثُمَّ الْعَزْمُ , وَهُوَ قُوَّةُ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَالْجَزْمُ بِهِ فَالْهَاجِسُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إجْمَاعًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ طَرَقَهُ قَهْرًا عَلَيْهِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْخَاطِرِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ , وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهِمَا لَكِنَّهُمَا مَرْفُوعَانِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ لَا أَجْرَ لَهَا فِي الْحَسَنَاتِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْقَصْدِ .(1/239)
وَأَمَّا الْهَمُّ فَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ بِالْحَسَنَةِ تُكْتَبُ حَسَنَةً وَبِالسَّيِّئَةِ لَا تُكْتَبُ سَيِّئَةً فَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ حَسَنَةً , وَإِنْ فَعَلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا الْعَزْمُ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ا هـ بِحَذْفٍ وَعُلِمَ بِذَلِكَ مُرَادُ الشَّارِحِ هُنَا بِالْهَاجِسِ الْخَاطِرُ وَبِالْعَزْمِ الْهَمُّ ( قَوْلُهُ تَصَوُّرٌ قَبِيحٌ ) وَقَوْلُهُ بِصُورَةِ حَسَنٍ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْإِضَافَةِ ( قَوْلُهُ : وُقُوعَ وَطْئِهِ ) مَفْعُولُ تَخَيُّلِهِ وَقَوْلُهُ : أَنَّهُ عَازِمٌ إلَخْ فَاعِلُ يَلْزَمُ ( قَوْلُهُ : هِيَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَفْعُولُ فَرْضُ إلَخْ ) وَقَوْلُهُ تِلْكَ إلَخْ بَدَلٌ مِنْهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : هِيَ بَدَلًا عَنْ مَوْطُوءَتِهِ رَاجِعًا إلَى حَلِيلَتِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ تِلْكَ إلَخْ مَفْعُولُ فَرْضُ إلَخْ ( قَوْلُهُ : كَرَاهَةُ ذَلِكَ ) أَيْ التَّفَكُّرِ وَالتَّخَيُّلِ ( قَوْلُهُ : وَرُدَّ إلَخْ ) قَدْ يُجَابُ أَنَّهُ أَرَادَ الْكَرَاهَةَ بِاصْطِلَاحِ الْقُدَمَاءِ , وَهِيَ تَشْمَلُ خِلَافَ الْأَوْلَى ا هـ سم . ((1/240)
قَوْلُهُ : وَإِنْ اُسْتُفِيدَ إلَخْ ) غَايَةٌ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى نَهْيٍ خَاصٍّ ( قَوْلُهُ : أَوْ حُرْمَتِهِ ) عَطْفٌ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ وَقَوْلُهُ فَيُكْرَهُ أَيْ الْفِعْلُ وَقَوْلُهُ عَنْهُ أَيْ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ ( قَوْلُهُ : أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ) أَيْ التَّخَيُّلُ الْمَذْكُورُ ( قَوْلُهُ : مِنَّا ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ ( قَوْلُهُ تَعَلُّقَهَا بِقَلْبِهِ ) فِيهِ قَلْبٌ وَالْأَصْلُ تَعَلُّقُ قَلْبِهِ بِهَا ( قَوْلُهُ وَاسْتَأْنَسَ ) أَيْ الْبَعْضُ لَهُ أَيْ الِاسْتِحْبَابِ ( قَوْلُهُ : بِأَنَّهُ ) مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرٍ ( قَوْلُهُ : انْتَهَى ) أَيْ قَوْلُ الْبَعْضِ ( قَوْلُهُ جَعَلَ تِلْكَ إلَخْ ) فَاعِلُ يَحْرُمُ ( فَقَوْلُهُ عُلَمَاؤُنَا ) أَيْ السَّادَةُ الْمَالِكِيَّةُ ( قَوْلُهُ إنَّ ذَلِكَ إلَخْ ) مَقُولُ قَالَ ( قَوْلُهُ : وَرَدَّهُ ) أَيْ ابْنُ الْحَاجِّ الْمَالِكِيُّ وَكَذَا ضَمِيرُ مَذْهَبِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآتِيَيْنِ وَضَمِيرُ أُوَافِقُهُ الْآتِي ( قَوْلُهُ وَأَصْحَابُنَا ) أَيْ الشَّافِعِيَّةُ وَقَوْلُهُ بِهَا أَيْ بِتِلْكَ الْقَاعِدَةِ ( قَوْلُهُ : انْتَهَى ) أَيْ كَلَامُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ الرَّادُّ عَلَى ابْنِ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ ( قَوْلُهُ : عَلَى هَذِهِ الْآرَاءِ الْأَرْبَعَةِ ) أَيْ قَوْلُ جَمْعٍ مُحَقِّقِينَ بِالْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ وَقَوْلُ ابْنِ الْبِزْرِيِّ بِالْكَرَاهَةِ وَقَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِالِاسْتِحْبَابِ وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ بِالْحُرْمَةِ ( قَوْلُهُ : بَيْنَهَا ) أَيْ صُورَةِ الْمَرْأَةِ ( قَوْلُهُ : فَمَنَعَ ) أَيْ اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بِبِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَقَوْلُهُ مِنْ التَّمَنِّي نَائِبُ فَاعِلِهِ ( قَوْلُهُ بِأَنْ يَتَمَنَّى الزِّنَا بِفُلَانَةَ ) لَا يَخْفَى(1/241)
بُعْدَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ : كَلَامَهُ ) أَيْ الْقَاضِي ( قَوْلُهُ : قَالَ ) أَيْ الزَّرْكَشِيُّ ( قَوْلُهُ : وَغَلِطُوا إلَخْ ) مِنْ كَلَامِ الزَّرْكَشِيّ ( قَوْلُهُ : وَكِلَاهُمَا ) أَيْ التَّصْمِيمِ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا وَالرِّضَا بِهِ ( قَوْلُهُ : هَذَا ) بَدَلٌ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي وَقَوْلُهُ مَنْ اسْتَدَلَّ إلَخْ فَاعِلُ لَمْ يُتَأَمَّلْ وَقَوْلُهُ بِهِ أَيْ كَلَامِ الْقَاضِي وَقَوْلُهُ لِلْحُرْمَةِ أَيْ لِحُرْمَةِ التَّفَكُّرِ وَالتَّخَيُّلِ السَّابِقَيْنِ وَقَوْلُهُ عَنْهُ أَيْ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ ( قَوْلُهُ : انْتَهَى ) أَيْ كَلَامُ مَنْ أَجَابَ إلَخْ
وفي بريقة محمودية :
((1/242)
وَأَمَّا سَائِرُ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ ) عِلْمُ الْفَلَاسِفَةِ هُوَ اسْتِكْمَالُ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ , وَالْعَمَلِ أَوْ هُوَ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( فَالْمَنْطِقُ ) الْمُعَرَّفُ بِآلَةٍ قَانُونِيَّةٍ تَعْصِمُ مُرَاعَتُهَا الذِّهْنَ عَنْ الْخَطَأِ فِي الْفِكْرِ وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ ; لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ الْقَرِيحَةِ هُوَ أَرِسْطُو وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ جَعْلُهُمْ جُزْءًا مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ مَثَلًا عَلَى وَجْهِ الْمَبْدَئِيَّةِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمٌ مَبْدَأً لِعِلْمٍ آخَرَ وَذَاكَ غَيْرٌ لِذَلِكَ كَمَا سَتَسْمَعُ ( دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ ) إذْ أَصْلُ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ , وَالِاسْتِدْلَالِ الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَنْطِقِ إذْ حَاصِلُهُ اسْتِحْصَالُ الْمَجْهُولَاتِ بِالْمَعْلُومَاتِ فَيَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ . اعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي الْمَنْطِقِ قَالَ بَعْضُهُمْ بِالْحُرْمَةِ وَبَعْضُهُمْ بِعَدَمِهَا بَلْ بِوُجُوبِهِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ فِي الْأَشْبَاهِ عِلْمُ الْفَلْسَفَةِ حَرَامٌ وَدَخَلَ فِيهِ الْمَنْطِقُ . وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ حَرَامٌ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْ الْمَدَارِسِ وَسَجْنِهِمْ وَكَفِّ شَرِّهِمْ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرْعِيَّةِ مُنْكَرٌ بَشِيعٌ .(1/243)
وَفِي أُنْمُوذَجِ حَفِيدٍ السَّعْدِ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعِلْمِ الْمُحْتَرَمِ حَتَّى يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِكُتُبِهِ وَمِثْلُهُ ذَكَرَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مَوْرِدًا الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْوَرَقِ الْخَالِي عَنْ الْخَطِّ وَيَجُوزُ إهَانَتُهُ فِي الشَّرْعِ . وَعَنْ الْإِسْنَوِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ , وَنُقِلَ عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَكَشُرْبِ الْخَمْرِ . وَعَنْ قُوتِ الْقُلُوبِ أَنَّ الْجُهَّالَ جَعَلُوا أَصْحَابَ الْمَنْطِقِ عُلَمَاءَ . وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّهُ تَضْيِيعُ الْعُمْرِ . وَعَنْ شَرْحِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي أَيْضًا عَنْ السُّيُوطِيّ : أَنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَبَرِينَ كَابْنِ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيِّ . وَعَنْ الْقَزْوِينِيِّ : رَجَعَ الْغَزَالِيُّ إلَى تَحْرِيمِهِ بَعْدَمَا أَثْنَى عَلَيْهِ . وَعَنْ السَّلَفِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ مُشْتَغِلِهِ . وَفِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ : الْقَوْلُ بِتَصْرِيحٍ كَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِالْحُرْمَةِ لِكَوْنِهِ تَضْيِيعَ الْعُمْرِ وَلِإِفْضَائِهِ إلَى مَيْلِ سَائِرِ الْفَلْسَفَةِ فَمَنْ قِيلَ سَدُّ الذَّرَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنَافِي الشَّرْعِ . وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي أُنْمُوذَجِ الْحَفِيدِ أَيْضًا عَنْ الْغَزَالِيِّ : أَنَّ الْمَنْطِقَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَوَّاهُ الشَّيْخُ السُّبْكِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ انْتَهَى . وَفِي الْحَدِيقَةِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا فِي الْمُسْتَصْفَى : الْمَنْطِقُ مُقَدِّمَةٌ لِكُلِّ الْعُلُومِ , وَمَنْ لَا يُحِيطُ بِهَا لَا ثِقَةَ بِعُلُومِهِ .(1/244)
وَفِي مُنْقِذِ الضَّلَالِ لَهُ أَيْضًا : الْمَنْطِقُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدِّينِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا . ثُمَّ فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ هُنَاكَ لُزُومُهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْآفَةُ مِنْ إهْمَالِهِ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ بَعْدَمَا حَصَّلُوهُ إلَى أَنْ يُفِيدَ الْيَقِينَ , وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا فِي أَوَّلِ الْمُنْتَقَى مَدْحُهُ الْمَنْطِقَ . وَفِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ سَمَّاهُ : " مِعْيَارَ الْعُلُومِ " وَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِهِ لَا ثِقَةَ بِعِلْمِهِ , وَالْعَلَّامَةُ الْقُطْبُ حَكَى عَنْ الْعُلَمَاءِ الْحُكْمَ بِمُطْلَقِ وُجُوبِهِ , وَالْعَلَّامَةُ الشَّرِيفُ بَعْدَمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي مُطْلَقِ وُجُوبِهِ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ بِعَيْنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ لِتَوَقُّفِ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَوْ بِكِفَايَةِ فَرْضِيَّتِهِ لِتَوَقُّفِ شِعَارِ الدِّينِ عَلَيْهِ . وَفِي شَرْحِ حَدِيثِ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ صَرَّحَ بِجَوَازِهِ بَلْ بِلُزُومِهِ . وَفِي الْحَدِيقَةِ : عَنْ الْقَرَافِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الْمَنْطِقُ شَرْطٌ لِلِاجْتِهَادِ , وَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ مَتَى جَهِلَهُ سُلِبَ عَنْهُ اسْمُ الِاجْتِهَادِ .(1/245)
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : يَنْبَغِي تَقْدِيمُ الِاشْتِغَالِ بِهِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْكِتَابِ , وَالسُّنَّةِ , وَالْفِقْهِ لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَنْطِقَ مُجَرَّدُ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَادَّةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ هَذِهِ الْمَادَّةَ مِنْ الشَّرْعِيَّةِ لِيَكُونَ كَدُّهُ فِي الشَّرْعِيَّةِ وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي لَا يَطْرُقُهُ الْعَيْبُ إلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ثُمَّ قَالَ : هُوَ أَحْسَنُ الْعُلُومِ وَأَنْفَعُهَا فِي كُلِّ بَحْثٍ , وَمَنْ قَالَ إنَّهُ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ فَجَاهِلٌ . وَفِي إتْقَانِ السُّيُوطِيّ : الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِجَجِ الْمَنْطِقِيَّةِ , وَالْقَوَاعِدِ الْجَدَلِيَّةِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الصَّرَاحَةِ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ عِنْدَ مَنْ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ , وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُصُولِ , وَصَرِيحُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ جُزْءٌ مِنْ الْكَلَامِ وَأَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ جَعَلَ الْمَنْطِقَ تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ مَبَادِئَ كَلَامِيَّةً لِلْأُصُولِ وَمَشَى عَلَيْهِ شُرَّاحُهُ وَمُحَشِّيهِ كَالْعَضُدِ , وَالْأَبْهَرِيِّ , وَالسَّعْدِ , وَالشَّرِيفِ وَغَيْرِهِمْ وَصَنَّفَ فِي الْمَنْطِقِ كُتُبًا وَرَسَائِلَ خَلْقٌ لَا يُحْصَى مِنْ السَّلَفِ , وَالْخَلَفِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحِيلُ الْعَقْلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْجَهَالَةِ , وَالْغَوَايَةِ , وَالْمُكَابَرَةِ وَنِسْبَةُ حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى الضَّلَالَةِ سَتُبَيَّنُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ } ثُمَّ الْمُحَاكَمَةُ , وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ .(1/246)
قَالَ الشَّارِحُ الْحَمَوِيُّ لِلْأَشْبَاهِ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحُرْمَةِ . قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَمْ أَرَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا حُرْمَةَ الْمَنْطِقِ فَلَا بُدَّ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ النَّقْلِ . أَقُولُ لَعَلَّ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى حُكْمَ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَةِ الْفَلْسَفَةِ وَكَانَ الْمَنْطِقُ جُزْءًا مِنْ الْفَلْسَفَةِ عِنْدَهُ حُكِمَ بِحُرْمَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَيْسَ كُلُّ الْفَلْسَفَةِ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَأَثَرِ الْإِلَهِيَّاتِ , وَالطَّلَبِ وَبَعْضِ النُّجُومِ وَنَحْوِهَا . ثُمَّ قَالَ عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ : الْمُحَرَّمُ مَنْطِقُ الْفَلَاسِفَةِ . وَأَمَّا مَنْطِقُ الْإِسْلَامِيِّينَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي الشَّرْعَ فَلَا يَحْرُمُ وَنَحْوُهُ حُكِيَ فِي الْحَدِيقَةِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مَا يُلْتَزَمُ فِيهِ نَفْيُ الشَّرْعِيَّاتِ وَهُوَ مَحْمَلُ أَقْوَالِ نَحْوِ ابْنِ الصَّلَاحِ . وَأَمَّا الْمَنْطِقُ الْمُتَدَاوَلُ الْيَوْمَ بَيْنَ كِبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الظَّاهِرُ إعَانَتُهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَمَعَاذَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْكِرَهُ نَحْوُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَلَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْمَنْطِقِ ; لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ وَكَفَى حُجَّةً عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَفَوَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ الْعَارِفِ مَعَ عَارِفِهِ . وَفَصَّلَ الْقَوْلَ أَنَّهُ كَسَيْفِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا يُنْكَرُ فِي أَصْلِهِ إلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ .(1/247)
أَقُولُ وَمِثْلُهُ عُرِفَ آنِفًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الْمُنْقِذِ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ أَصْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَحَلِّهِ أَوْ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَعَلَّ مَنْعَ السَّلَفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا شَاهَدُوا فِي زَمَانِهِمْ مِنْ جَعْلِهِمْ الْمَنْطِقَ آلَةً لِتَرْوِيجِ الْفَلْسَفِيَّاتِ , وَلِهَجْرِ الشَّرْعِيَّاتِ لِأَنَّهُ أَوَانُ أَوَّلِ تَرْجَمَةِ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِيَّةِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَدُلُّ قَصَصُهُمْ وَحِكَايَةُ أَحْوَالِهِمْ . وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ فِي أَصْلِهِ , وَالذَّمُّ إنَّمَا يَتَطَرَّقُ مِنْ عَوَارِضِهِ فَالْمُثْبِتُونَ نَظَرُوا إلَى ذَاتِهِ وَإِعَانَتِهِ لِلْأُصُولِ , وَالْفُرُوعِ حَتَّى جَعَلُوهُ مَبَادِئَ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْكَلَامِ , وَالْأُصُولِ , وَالنَّافُونَ نَظَرُوا إلَى عَوَارِضِهِ مِنْ نَحْوِ التَّعَصُّبِ وَإِلْزَامِ الْمُوَحَّدِ أَوْ كَثْرَةِ تَوَغُّلٍ تُوجِبُ هَجْرَ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا الْمَنْطِقُ مَبَادِئٌ فَلْيُسْرَعْ مِنْهُ إلَى الْمَقَاصِدِ فَنَفَوْهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ حَرَامٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ أَيْضًا قَدْ تَحْرُمُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعَوَارِضِ كَالتَّعَلُّمِ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيَأْكُلَ أَمْوَالَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَسْتَخْدِمَ الْفُقَرَاءَ وَيَتَقَرَّبَ إلَى الْأُمَرَاءِ كَمَا ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَبِمَا ذَكَرْنَا وَشَيَّدْنَا أَمْكَنَ لَك دَفْعُ مَا أُورِدَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْخَيَالَاتِ , وَالْأَوْهَامِ مِنْ مَنْعِ كَوْنِ الْمَنْطِقِ قِسْمَيْنِ .(1/248)
أَقُولُ وَقَدْ أَشَرْنَا أَنَّ تَعَدُّدَهُ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ وَحَالِ مُسْتَعْمَلِهِ , وَمَنْ مَنْعَ عَدَمَ ضَرَرِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَيْفَ وَعَامَّةُ فِرَقِ الضَّلَالَةِ بِسَبَبِ تَشَبُّثِ هَذَا الْعِلْمِ أَفْسَدُوا هَذَا الدِّينَ الْقَوِيمَ . أَقُولُ لَيْسَ إفْسَادُهُمْ بِمُجَرَّدِ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ بَلْ بِمَوَادِّهَا وَلَوْ سَلَّمَ فَتَخَلَّصَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَغَلَبَتْهُمْ عَلَيْهِمْ إنَّمَا هُوَ بِتَمَيُّزِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مِنْ الْفَاسِدِ وَذَلِكَ بِهَذَا الْعِلْمِ وَمَنْ مَنَعَ كَوْنَهُ شَرْطًا لِلِاجْتِهَادِ بِالِاسْتِنَادِ أَنَّ الصَّحَابَةَ مُجْتَهِدُونَ وَلَيْسُوا بِعَارِفِي هَذَيَانَاتِ الْمَنَاطِقَةِ كَيْفَ وَهُوَ يُفْضِي إلَى أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله تعالى عليه وسلم وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ كُفْرٌ لِتَحْقِيرِ عِلْمِهِ عليه الصلاة والسلام وَلِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ الْأَحْكَامِ مُعَلَّلَةً بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ .(1/249)
أَقُولُ : مُرَاعَاةُ الْمَنْطِقِ حَاصِلٌ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ لَكِنْ لِقُوَّةِ ذَكَائِهِمْ وَجِيَادَةِ طِبَاعِهِمْ اسْتَغْنَوْا عَنْ تَفْصِيلِهِ كَعِلْمِ الْأُصُولِ بِالْإِجْمَالِ مَعَ عَدَمِ تَفْصِيلِهِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ عِلْمٌ آلِيٌّ لَيْسَ فِيهِ مَادَّةٌ قَصْدِيَّةٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اسْتِلْزَامُ مُتَارَكَةِ الشَّرْعِيَّاتِ بِكَوْنِ الْعِلَلِ هِيَ الْعَقْلِيَّاتُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْجَهْلِيَّاتِ وَأَنَّهُ هَلْ يُتَصَوَّرُ لُزُومُ أَخْذِ الْمُجْتَهِدِ أَحْوَالَ اجْتِهَادِهِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي اجْتِهَادِهِ عليه الصلاة والسلام وَبَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ عَرَفْته كَمَا عَرَفْت حَالَ نِسْبَتِهِ إلَى الْكُفْرِ وَمَا اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ فَإِذَا عَرَفْت حَالَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ فَلَعَلَّك قَدَرْت أَنْ تَعْرِفَ بِوَاقِيَ وَهْمِيَّاتِهِ السَّاقِطَةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاشْتِغَالُ بِتَمَامِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الْمَلَالَ وَقَسْوَةَ الْبَالَ , وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ .
((1/250)
وَمِنْهَا الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يُعْطِ ) الْجَالِسُ ( حَقَّهُ ) حَقَّ الطَّرِيقِ وَإِلَّا فَلَا يُمْنَعُ , وَحَقُّ الطَّرِيقِ نَحْوُ غَضِّ الْبَصَرِ وَكَفِّ الْأَذَى كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ ( خ م عَنْ ) أَبِي سَعِيدٍ ( الْخُدْرِيِّ رضي الله تعالى عنه مَرْفُوعًا { إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ } ) يَعْنِي احْذَرُوا مِنْ الْجُلُوسِ فِيهَا ; لِأَنَّ الْجَالِسَ فِيهَا قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُ وَسَمَاعِ مَا لَا يَحِلُّ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ وَمُعَايَنَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَغَيْرِهَا ( { فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ } ) أَيْ مُفَارَقَةٌ ( { نَتَحَدَّثُ فِيهَا } ) بِبَعْضِ مُهِمَّاتِنَا فَمَا نَفْعَلُ ( { فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَبَيْتُمْ إلَّا الْمَجْلِسَ } ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ امْتَنَعْتُمْ عَنْ الْجَمِيعِ إلَّا عَنْ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ كَأَنْ دَعَتْ حَاجَةٌ ( { فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ } ) فَلَا يَضُرُّ حِينَئِذٍ لَكِنْ فِيهِ إيمَاءٌ إلَى الْمَنْعِ مَا أَمْكَنَ وَأَنَّ الْأَوْلَى عِنْدَ إعْطَاءِ حَقِّهِ عَدَمُ الْجُلُوسِ ( { قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ } ) كَفُّهُ عَنْ نَظَرِ الْمُحَرَّمِ ( { وَكَفُّ الْأَذَى } ) أَعْنِي الِامْتِنَاعَ عَمَّا يُؤْذِي الْمَارِّينَ مِنْ نَحْوِ ازْدِرَاءٍ وَغِيبَةٍ وَتَضْيِيقِ طَرِيقٍ ( { وَرَدُّ السَّلَامِ } ) مِنْ الْمَارَّةِ إكْرَامًا لَهُمْ ( { وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ } ) , وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَتَشْمِيتِ عَاطِسٍ وَإِفْشَاءِ سَلَامٍ مِنْ كُلِّ مَا يُنْدَبُ مِنْ الْمُحَسَّنَاتِ(1/251)
الشَّرْعِيَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ مُسْتَقْبَحَاتِهَا ( وَزَادَ د ) يَعْنِي أَبُو دَاوُد ( فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ ) رضي الله تعالى عنه ( { وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ } ) وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ لِئَلَّا يَضْعُفَ الْجَالِسُ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ إنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ أَوْلَوِيٌّ لَا لُزُومِيٌّ ; لِأَنَّهُ نَهَى أَوَّلًا عَنْ الْجُلُوسِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ فَلَمَّا قَالُوا لَا بُدَّ لَنَا مِنْهُ فَسَحَ لَهُمْ فِيهِ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الْحَقِّ ( وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ ) رضي الله تعالى عنه ( { وَتُعِينُوا } ) بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ ( { الْمَلْهُوفَ } ) الْعَاجِزَ أَوْ الْمَظْلُومَ ( { وَتَهْدُوا الضَّالَّ } ) إلَى الطَّرِيقِ .
وفي غذاء الألباب :(1/252)
مَطْلَبٌ : فِي أَنَّ السُّكْنَى فَوْقَ الطَّرِيقِ مُوجِبَةٌ لِلتُّهْمَةِ : وَسُكْنَى الْفَتَى فِي غُرْفَةٍ فَوْقَ سِكَّةِ تَئُولُ إلَى تُهْمَى الْبَرِيِّ الْمُشَدِّدِ ( وَسُكْنَى الْفَتَى ) يَعْنِي إذَا سَكَنَ الرَّجُلُ ( فِي غُرْفَةٍ ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْعَلِيَّةِ جَمْعُهَا غُرُفَاتٍ بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا , وَغُرَفٌ كَصُرَدٍ حَالَ كَوْنِ الْغُرْفَةِ ( فَوْقَ سِكَّةٍ ) أَيْ طَرِيقٍ ( تَئُولُ ) أَيْ تَرْجِعُ سُكْنَاهُ كَذَلِكَ ( إلَى تُهْمَى ) وَسُوءِ ظَنِّ النَّاسِ فِيهِ . وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً جَبَّ الْغِيبَةَ عَنْ نَفْسِهِ } . وَفِي حَدِيثٍ { مَنْ وَقَفَ مَوَاقِفَ التُّهَمِ فَلَا يَلُومُنَّ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ فِيهِ } وَذَلِكَ أَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ تَئُولُ إلَى تُهْمَى ( الْبَرِيِّ ) مِنْ الْعَيْبِ , النَّزِهِ مِنْ قَاذُورَاتِ الذُّنُوبِ , الْمُتَحَفِّظِ فِي أَمْرِ دِينِهِ ( الْمُشَدِّدِ ) عَلَى نَفْسِهِ فِي صَوْنِهَا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ , وَالْمُضَيِّقِ عَلَى بَصَرِهِ مِنْ الطُّمُوحِ وَلِسَانِهِ مِنْ الْبَذَاذَةِ , الصَّائِنِ لِكُلِّ جَوَارِحِهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا اتِّهَامُ الْبَرِيِّ الَّذِي بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ بِحَالِ غَيْرِهِ . فَالْأَوْلَى وَالْأَحْرَى لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَا يَسْكُنُ مَكَانًا مُشْرِفًا عَلَى حُرَمِ الْمُسْلِمِينَ .(1/253)
وَيُحْتَمَلُ إرَادَةُ النَّاظِمِ أَنَّ سُكْنَى الْفَتَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ يَئُولُ إلَى تُهْمَى أَهْلِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ , فَرُبَّمَا رَأَى زَوْجَتَهُ بَعْضُ النَّاسِ فَتَشَبَّبَ بِهَا أَوْ وَصَفَهَا لِآخَرَ فَيُوهِمُ بِوَصْفِهِ إيَّاهَا اطِّلَاعَهُ عَلَيْهَا . فَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْأَوْلَى حَسْمُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَادَّةِ . وَهَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
*********************
أمثلة عن سد الذرائع من الموسوعة الفقهية :
احْتِيَالٌ التَّعْرِيفُ :(1/254)
1 - يَأْتِي الِاحْتِيَالُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْحِيلَةِ , وَهِيَ الْحِذْقُ فِي تَدْبِيرِ الْأُمُورِ , أَيْ تَقْلِيبِ الْفِكْرِ حَتَّى يَهْتَدِيَ إلَى الْمَقْصُودِ . وَيَأْتِي بِمَعْنَى الِاحْتِيَالِ بِالدِّينِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا , إلَّا أَنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ ذَكَرَ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى الْحِيلَةِ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الرَّجُلُ إلَى حُصُولِ غَرَضِهِ بِحَيْثُ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ . فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مَوْضُوعِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ , وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا جَائِزًا أَمْ مُحَرَّمًا , وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا اسْتِعْمَالُهَا فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْغَرَضِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا أَوْ عَادَةً . وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ . إطْلَاقَاتُهُ : الْأَوَّلُ : بِمَعْنَى اسْتِعْمَالِ الطُّرُقِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْإِنْسَانُ إلَى غَرَضِهِ . الثَّانِي : بِمَعْنَى نَقْلِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ , وَهُوَ الْحَوَالَةُ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : أَوَّلًا : بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ : يَخْتَلِفُ حُكْمُ الِاحْتِيَالِ بِاخْتِلَافِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ , وَبِاخْتِلَافِ مَآلِ الْعَمَلِ , وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي : 2 - يَكُونُ الِاحْتِيَالُ حَرَامًا إذَا تَسَبَّبَ بِهِ الْمُكَلَّفُ فِي إسْقَاطِ مَا وَجَبَ شَرْعًا , حَتَّى يَصِيرَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الظَّاهِرِ , أَوْ فِي جَعْلِ الْمُحَرَّمِ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ .(1/255)
ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ إذَا قُصِدَ بِهِ إبْطَالُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَحْوِيلُهُ فِي الظَّاهِرِ إلَى حُكْمٍ آخَرَ , حَتَّى يَصِيرَ مَآلُ ذَلِكَ الْعَمَلِ خَرْمَ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاقِعِ , فَهُوَ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَذَلِكَ كَمَا لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَشَرِبَ خَمْرًا أَوْ دَوَاءً مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ , أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ فَوَهَبَهُ كَيْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ . وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ لِلْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ , فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنْ الْوُجُوبِ لِإِبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ . وَفِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ الْأَصَحُّ . وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُكْرَهُ . وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ حَمِيدُ الدِّينِ الضَّرِيرُ ; لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ , وَإِبْطَالَ حَقِّهِمْ مَآلًا . وَقِيلَ : الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ , كَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ , فَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَالشِّرْوَانِيِّ : يُكْرَهُ تَنْزِيهًا إنْ قَصَدَ بِهِ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ . وَقَالَ الشِّرْوَانِيُّ : وَفِي الْوَجِيزِ يَحْرُمُ . زَادَ فِي الْإِحْيَاءِ : وَلَا تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ بَاطِنًا , وَأَنَّ هَذَا مِنْ الْفِقْهِ الضَّارِّ , وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ يَأْثَمُ بِقَصْدِهِ لَا بِفِعْلِهِ . كَذَلِكَ يَحْرُمُ الِاحْتِيَالُ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَإِبْطَالِ حُقُوقِهِمْ .(1/256)
وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ الِاحْتِيَالِ قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ . . . } ; لِأَنَّهُمْ احْتَالُوا لِلِاصْطِيَادِ فِي السَّبْتِ بِصُورَةِ الِاصْطِيَادِ فِي غَيْرِهِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ } 3 - وَيَكُونُ الِاحْتِيَالُ جَائِزًا إذَا قَصَدَ بِهِ أَخْذَ حَقٍّ , أَوْ دَفْعَ بَاطِلٍ , أَوْ التَّخَلُّصَ مِنْ الْحَرَامِ , أَوْ التَّوَصُّلَ إلَى الْحَلَالِ , وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ الْوَسِيلَةُ مُحَرَّمَةً أَمْ مَشْرُوعَةً , إلَّا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَهُوَ آثِمٌ عَلَى الْوَسِيلَةِ دُونَ الْمَقْصُودِ , وَقَدْ يُطْلَبُ الِاحْتِيَالُ وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرْبِ ; ; لِأَنَّهَا خُدْعَةٌ . وَالْأَصْلُ فِي الْجَوَازِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } . 4 - وَمِنْهُ مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ مَقْصِدٌ لِلشَّارِعِ يَتَّفِقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ , وَلَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ . فَمَنْ رَأَى مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الِاحْتِيَالَ فِي أَمْرٍ مَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْمَصْلَحَةِ فَالتَّحَيُّلُ جَائِزٌ عِنْدَهُ فِيهِ , وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ فَالتَّحَيُّلُ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ فِيهِ .(1/257)
عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مَنْ يُجِيزُ التَّحَيُّلَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّمَا يُجِيزُهُ بِنَاءً عَلَى تَحَرِّي قَصْدِ الْمُكَلَّفِ الْمُحْتَالِ , وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ ; لِأَنَّ مُصَادَمَةَ الشَّارِعِ صُرَاحًا , عِلْمًا أَوْ ظَنًّا , مَمْنُوعٌ , كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا مَنَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ ; وَلِمَا وُضِعَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ الْمَصَالِحِ . وَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ , فَإِنَّهُ تَحَيُّلٌ إلَى رُجُوعِ الزَّوْجَةِ إلَى مُطَلِّقِهَا الْأَوَّلِ بِحِيلَةٍ تُوَافِقُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلَهُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَقَدْ نَكَحَتْ الْمَرْأَةُ هَذَا الْمُحَلِّلَ , فَكَانَ رُجُوعُهَا إلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ تَطْلِيقِ الثَّانِي مُوَافِقًا . وَنُصُوصُ الشَّارِعِ مُفْهِمَةٌ لِمَقَاصِدِهِ , وَمِنْ ذَلِكَ بُيُوعُ الْآجَالِ . 5 - وَأَكْثَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِالِاحْتِيَالِ هُمْ الْحَنَفِيَّةُ فَالشَّافِعِيَّةُ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَنْعُ الِاحْتِيَالِ غَالِبًا , وَهُوَ لَا يُفِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي الْمُعَامَلَاتِ ; لِأَنَّ تَجْوِيزَ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ , فَإِنَّ الشَّارِعَ يَسُدُّ الطَّرِيقَ إلَى الْمَفَاسِدِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ , وَالْمُحْتَالُ يَفْتَحُ الطَّرِيقَ إلَيْهَا بِحِيلَةٍ .(1/258)
ثَانِيًا بِالْمَعْنَى الثَّانِي : 6 - الِاحْتِيَالُ بِالْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْمُحِيلِ يَكُونُ نَتِيجَةَ عَقْدِ الْحَوَالَةِ , فَالْحَوَالَةُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْلَ دَيْنٍ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى أُخْرَى , وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ - كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ . 7 - وَهِيَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا . وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ } وَالْحُكْمُ فِيهَا بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ مِنْ دَيْنِ الْمُحَالِ لَهُ . وَقَدْ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهَا شُرُوطًا , كَرِضَا الْمُحِيلِ الْمُحَالِ لَهُ , وَالْعِلْمِ بِمَا يُحَالُ بِهِ وَعَلَيْهِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاصِيلِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( حَوَالَةٌ ) . ( مَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) : 8 - لِلِاحْتِيَالِ بِمَعْنَى الطُّرُقِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْإِنْسَانُ إلَى غَرَضِهِ أَحْكَامٌ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِ ( حِيلَةٌ ) وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَلَهَا عَلَاقَتُهَا بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَبِالذَّرَائِعِ . وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ .
الزَّوَاجُ بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ :(1/259)
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الزَّوَاجَ بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ - مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ - صَحِيحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَتَحِلُّ الْمَرْأَةُ بِوَطْءِ الزَّوْجِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ , لِأَنَّ النِّيَّةَ بِمُجَرَّدِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ , فَوَقَعَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا لِتَوَافُرِ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فِي الْعَقْدِ , وَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ , كَمَا لَوْ نَوَيَا التَّأْقِيتَ وَسَائِرَ الْمَعَانِي الْفَاسِدَةِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الزَّوَاجَ بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ - وَلَوْ بِدُونِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ - بَاطِلٌ , وَذَلِكَ بِأَنْ تَوَاطَأَ الْعَاقِدَانِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَ الْعَقْدِ , ثُمَّ عُقِدَ الزَّوَاجُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ , وَلَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ بِهِ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ , عَمَلًا بِقَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ . وَلِحَدِيثِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
الْمَعَاصِي الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ :(1/260)
8 - الْمَعْصِيَةُ : فِعْلُ مَا حَرُمَ , وَتَرْكُ مَا فُرِضَ , يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْعِقَابِ دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا . أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى : أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ مَعْصِيَةٌ فِيهَا التَّعْزِيرُ , إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَمِثَالُ تَرْكِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ : مَنْعُ الزَّكَاةِ , وَتَرْكُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ , وَعَدَمُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ , وَعَدَمُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ , وَكَتْمُ الْبَائِعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُهُ , كَأَنْ يُدَلِّسَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبًا خَفِيًّا وَنَحْوِهِ , وَالشَّاهِدُ وَالْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ يُعَزِّرُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ . وَمِثَالُ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ : سَرِقَةُ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ , لِعَدَمِ تَوَافُرِ شُرُوطِ النِّصَابِ أَوْ الْحِرْزِ مَثَلًا , وَتَقْبِيلُ الْأَجْنَبِيَّةِ , وَالْخَلْوَةُ بِهَا , وَالْغِشُّ فِي الْأَسْوَاقِ , وَالْعَمَلُ بِالرِّبَا , وَشَهَادَةُ الزُّورِ . وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُبَاحًا فِي ذَاتِهِ لَكِنَّهُ يُؤَدِّي لِمَفْسَدَةٍ , وَحُكْمُهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ - وَعَلَى الْخُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ يَصِيرُ حَرَامًا , بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ , وَعَلَى ذَلِكَ فَارْتِكَابُ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ فِيهِ التَّعْزِيرُ , مَا دَامَ لَيْسَتْ لَهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ .(1/261)
وَمَا ذُكِرَ هُوَ عَنْ الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ , أَمَّا عَنْ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ - فَعِنْدَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ : الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ , وَمَطْلُوبٌ فِعْلُهُ , وَالْمَكْرُوهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ , وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ , وَيُمَيَّزُ الْمَنْدُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ أَنَّ الذَّمَّ يَسْقُطُ عَنْ تَارِكِ الْمَنْدُوبِ , لَكِنَّهُ يَلْحَقُ تَارِكَ الْوَاجِبِ . وَيُمَيَّزُ الْمَكْرُوهُ عَنْ الْمُحَرَّمِ : أَنَّ الذَّمَّ يَسْقُطُ عَنْ مُرْتَكِبِ الْمَكْرُوهِ , وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمُحَرَّمِ , وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ أَوْ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا ; لِأَنَّ الْعِصْيَانَ اسْمُ ذَمٍّ , وَالذَّمُّ أُسْقِطَ عَنْهُمَا , وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَنْ يَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ أَوْ يَأْتِي الْمَكْرُوهَ مُخَالِفًا , وَغَيْرَ مُمْتَثِلٍ . وَعِنْدَ آخَرِينَ : الْمَنْدُوبُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْأَمْرِ , وَالْمَكْرُوهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ النَّهْيِ , فَيَكُونُ الْمَنْدُوبُ مُرَغَّبًا فِي فِعْلِهِ , وَالْمَكْرُوهُ مُرَغَّبًا عَنْهُ . وَعِنْدَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ وَفَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَعْزِيرِ تَارِكِ الْمَنْدُوبِ , وَفَاعِلُ الْمَكْرُوهِ , فَفَرِيقٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ ; لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ , وَلَا تَعْزِيرَ بِغَيْرِ تَكْلِيفٍ . وَفَرِيقٌ أَجَازَهُ , اسْتِنَادًا عَلَى فِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه , فَقَدْ عَزَّرَ رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً لِذَبْحِهَا , وَأَخَذَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ وَهِيَ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ , وَهَذَا الْفِعْلُ لَيْسَ إلَّا مَكْرُوهًا , وَيَأْخُذُ هَذَا الْحُكْمَ مَنْ يَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ .(1/262)
وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : قَدْ يُشْرَعُ التَّعْزِيرُ وَلَا مَعْصِيَةَ , كَتَأْدِيبِ طِفْلٍ , وَكَافِرٍ , وَكَمَنْ يَكْتَسِبُ بِآلَةِ لَهْوٍ لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا .
ذَرِيعَةٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الذَّرِيعَةُ لُغَةً : الْوَسِيلَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الشَّيْءِ , جَاءَ فِي اللِّسَانِ : يُقَالُ : فُلَانٌ ذَرِيعَتِي إلَيْك أَيْ سَبَبِي وَصِلَتِي الَّذِي أَتَسَبَّبُ بِهِ إلَيْك . وَالذَّرِيعَةُ السَّبَبُ إلَى الشَّيْءِ , وَأَصْلُهُ أَنَّ الذَّرِيعَةَ فِي كَلَامِهِمْ جَمَلٌ يُخْتَلُ بِهِ الصَّيْدُ يَمْشِي الصَّيَّادُ إلَى جَنْبِهِ فَيَسْتَتِرُ وَيَرْمِي الصَّيْدَ إذَا أَمْكَنَهُ , وَذَلِكَ الْجَمَلُ يُسَيَّبُ أَوَّلًا مَعَ الْوَحْشِ حَتَّى تَأْلَفَهُ . وَالذَّرِيعَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ : مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الشَّيْءِ . وَالذَّرِيعَةُ كَمَا تَكُونُ إلَى الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ , تَكُونُ إلَى الْمَصَالِحِ أَيْضًا , فَالْوَسِيلَةُ إلَى الْحَجِّ كَالسَّفَرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ , فَالْحَجُّ مِنْ الْمَقَاصِدِ , وَالسَّفَرُ مِنْ الْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعُ , وَالْمَقَاصِدُ هِيَ الْأُمُورُ الْمُكَوِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي ذَاتِهَا , فَالرِّبَا مَقْصِدٌ مُحَرَّمٌ , وَبُيُوعُ الْآجَالِ ذَرِيعَةٌ إلَيْهِ , وَالْحَجُّ مَقْصِدٌ مَشْرُوعٌ , وَالسَّفَرُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 2 - حُكْمُ الذَّرِيعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ جِهَتَيْنِ : الْأُولَى سَدُّ الذَّرَائِعِ , وَالثَّانِيَةُ : فَتْحُهَا . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( سَدُّ الذَّرَائِعِ ) وَالْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ .
رِبًا التَّعْرِيفُ :(1/263)
1 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ : اسْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْهَرِ , وَهُوَ مِنْ رَبَا يَرْبُو رَبْوًا , وَرُبُوًّا وَرِبَاءً . وَأَلِفُ الرِّبَا بَدَلٌ عَنْ وَاوٍ , وَيُنْسَبُ إلَيْهِ فَيُقَالُ : رِبَوِيٌّ , وَيُثَنَّى بِالْوَاوِ عَلَى الْأَصْلِ فَيُقَالُ : رِبَوَانِ , وَقَدْ يُقَالُ : رِبَيَانِ - بِالْيَاءِ - لِلْإِمَالَةِ السَّائِغَةِ فِيهِ مِنْ أَجْلِ الْكَسْرَةِ . وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَاهُ الزِّيَادَةُ , يُقَالُ : رَبَا الشَّيْءُ إذَا زَادَ , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } . وَأَرْبَى الرَّجُلُ : عَامَلَ بِالرِّبَا أَوْ دَخَلَ فِيهِ , وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى } وَالْإِجْبَاءُ : بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ . وَيُقَالُ : الرِّبَا وَالرَّمَا وَالرَّمَاءُ , وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَوْلُهُ : إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَا , يَعْنِي الرِّبَا . وَالرُّبْيَةُ - بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ - اسْمٌ مِنْ الرِّبَا , وَالرُّبْيَةُ : الرِّبَاءُ , وَفِي الْحَدِيثِ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صُلْحِ أَهْلِ نَجْرَانَ : أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ رِبِّيَّةٌ وَلَا دَمٌ } . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هَكَذَا رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ , وَقَالَ الْفَرَّاءُ : أَرَادَ بِهَا الرِّبَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَالدِّمَاءَ الَّتِي كَانُوا يَطْلُبُونَ بِهَا , وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ كُلَّ رِبًا كَانَ عَلَيْهِمْ إلَّا رُءُوسَ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهَا .(1/264)
وَالرِّبَا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ : عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ : فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ . وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ : عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُلِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا . وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ : تَفَاضُلٌ فِي أَشْيَاءَ , وَنَسْءٌ فِي أَشْيَاءَ , مُخْتَصٌّ بِأَشْيَاءَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا - أَيْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا - نَصًّا فِي الْبَعْضِ , وَقِيَاسًا فِي الْبَاقِي مِنْهَا . وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا عَلَى حِدَةٍ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْبَيْعُ : 2 - الْبَيْعُ لُغَةً : مَصْدَرُ بَاعَ , وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ , وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ . وَالْبَيْعُ مِنْ الْأَضْدَادِ مِثْلُ الشِّرَاءِ , وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَفْظُ بَائِعٍ , وَلَكِنْ اللَّفْظُ إذَا أُطْلِقَ فَالْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ بَاذِلُ السِّلْعَةِ , وَيُطْلَقُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَبِيعِ فَيُقَالُ : بَيْعٌ جَيِّدٌ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : عَرَّفَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ : عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي مُصْطَلَحِ : ( بَيْعٌ ) . وَالْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ حَلَالٌ , وَالرِّبَا حَرَامٌ .(1/265)
ب - الْعَرَايَا : 3 - الْعَرِيَّةُ لُغَةً : النَّخْلَةُ يُعْرِيهَا صَاحِبُهَا غَيْرَهُ لِيَأْكُلَ ثَمَرَتَهَا فَيَعْرُوهَا أَيْ يَأْتِيهَا , أَوْ هِيَ النَّخْلَةُ الَّتِي أُكِلَ مَا عَلَيْهَا , وَالْجَمْعُ عَرَايَا , وَيُقَالُ : اسْتَعْرَى النَّاسُ أَيْ : أَكَلُوا الرُّطَبَ . وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْعَرَايَا بِأَنَّهُ : بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ فِي الْأَرْضِ , أَوْ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ , فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِتَقْدِيرِ الْجَفَافِ بِمِثْلِهِ . وَيَذْهَبُ آخَرُونَ فِي تَعْرِيفِ بَيْعِ الْعَرَايَا وَحُكْمِهِ مَذَاهِبَ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إلَى مُصْطَلَحِ : ( تَعْرِيَةٌ ) ( وَبَيْعُ الْعَرَايَا ) مِنْ الْمَوْسُوعَةِ 9 91 . وَبَيْعُ الْعَرَايَا مِنْ الْمُزَابَنَةِ , وَفِيهِ مَا فِي الْمُزَابَنَةِ مِنْ الرِّبَا أَوْ شُبْهَتِهِ , لَكِنَّهُ أُجِيزَ بِالنَّصِّ , وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ , وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا } , وَفِي لَفْظٍ : { عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ } وَقَالَ : ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ , إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ : { النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا } .
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :(1/266)
4 - الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ , وَمِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ , وَلَمْ يُؤْذِنْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَاصِيًا بِالْحَرْبِ سِوَى آكِلَ الرِّبَا , وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ فَقَدْ كَفَرَ - لِإِنْكَارِهِ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - فَيُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , أَمَّا مَنْ تَعَامَلَ بِالرِّبَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ الرِّبَا لَمْ يَحِلَّ فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لقوله تعالى : { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } يَعْنِي فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ . وَدَلِيلُ التَّحْرِيمِ مِنْ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ . . . } . 5 - قَالَ السَّرَخْسِيُّ : ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِآكِلِ الرِّبَا خَمْسًا مِنْ الْعُقُوبَاتِ : إحْدَاهَا : التَّخَبُّطُ . . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } . الثَّانِيَةُ : الْمَحْقُ . . قَالَ تَعَالَى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } وَالْمُرَادُ الْهَلَاكُ وَالِاسْتِئْصَالُ , وَقِيلَ : ذَهَابُ الْبَرَكَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ بِهِ , وَلَا وَلَدُهُ بَعْدَهُ . الثَّالِثَةُ : الْحَرْبُ . . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } . الرَّابِعَةُ : الْكُفْرُ . .(1/267)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّبَا : { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أَيْ : كَفَّارٍ بِاسْتِحْلَالِ الرِّبَا , أَثِيمٍ فَاجِرٍ بِأَكْلِ الرِّبَا . الْخَامِسَةُ : الْخُلُودُ فِي النَّارِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . وَكَذَلِكَ - قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } , قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِهِ , بَلْ لِمُرَاعَاةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْعَادَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِذَلِكَ , إذْ كَانَ الرَّجُلُ يُرْبِي إلَى أَجَلٍ , فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ لِلْمَدِينِ : زِدْنِي فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَك فِي الْأَجَلِ , فَيَفْعَلُ , وَهَكَذَا عِنْدَ مَحَلِّ كُلِّ أَجَلٍ , فَيَسْتَغْرِقُ بِالشَّيْءِ الطَّفِيفِ مَالَهُ الْكُلِّيَّةَ , فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتْ الْآيَةُ . 6 - وَدَلِيلُ التَّحْرِيمِ مِنْ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا : مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالسِّحْرُ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ , وَأَكْلُ الرِّبَا , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ , وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } .(1/268)
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله تعالى عنهما قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ , وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ } . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَصْلِ تَحْرِيمِ الرِّبَا . وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ مَسَائِلِهِ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ وَتَفْسِيرِ شَرَائِطِهِ . 7 - هَذَا , وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يُقْرِضُ أَوْ يَقْتَرِضُ أَوْ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي أَنْ يَبْدَأَ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَهَا , حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً وَبَعِيدَةً عَنْ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ , وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ , وَتَرْكُهُ إثْمٌ وَخَطِيئَةٌ , وَهُوَ إنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ قَدْ يَقَعُ فِي الرِّبَا دُونَ أَنْ يَقْصِدَ الْإِرْبَاءَ , بَلْ قَدْ يَخُوضُ فِي الرِّبَا وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ تَرَدَّى فِي الْحَرَامِ وَسَقَطَ فِي النَّارِ , وَجَهْلُهُ لَا يُعْفِيهِ مِنْ الْإِثْمِ وَلَا يُنَجِّيهِ مِنْ النَّارِ ; لِأَنَّ الْجَهْلَ وَالْقَصْدَ لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الرِّبَا , فَالرِّبَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ - مِنْ الْمُكَلَّفِ - مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ بِهِ الْمُرَابِينَ , يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ : لَوْ لَمْ يَكُنْ الرِّبَا إلَّا عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إلَّا عَلَى الْفُقَهَاءِ .(1/269)
وَقَدْ أُثِرَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَذِّرُونَ مِنْ الِاتِّجَارِ قَبْلَ تَعَلُّمِ مَا يَصُونُ الْمُعَامَلَاتِ التِّجَارِيَّةَ مِنْ التَّخَبُّطِ فِي الرِّبَا , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه : لَا يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إلَّا مَنْ فَقِهَ , وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا , وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه : مَنْ اتَّجَرَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ ثُمَّ ارْتَطَمَ , أَيْ : وَقَعَ وَارْتَبَكَ وَنَشِبَ . وَقَدْ حَرَصَ الشَّارِعُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الرِّبَا ; لِأَنَّ مَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ , وَكُلُّ ذَرِيعَةٍ إلَى الْحَرَامِ هِيَ حَرَامٌ , رَوَى أَبُو دَاوُد بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ . .(1/270)
} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ لَمْ يَذَرْ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ الْمُخَابَرَةُ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ , وَالْمُزَابَنَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ , وَالْمُحَاقَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءِ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فِي الْحَقْلِ بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ , إنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْلَ الْجَفَافِ , وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْجَهْلُ بِالْمُمَاثَلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ , وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الرِّبَا وَالْوَسَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ , وَتَفَاوَتَ نَظَرُهُمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ الْعِلْمِ .(1/271)
8 - وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَلِ الْأَبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : ثَلَاثٌ وَدِدْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ : الْجَدُّ وَالْكَلَالَةُ وَأَبْوَابٌ مِنْ الرِّبَا , يَعْنِي - كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - بِذَلِكَ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا شَائِبَةُ الرِّبَا , وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا , وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا , فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ , وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ : ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَهُنَّ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا : الْكَلَالَةُ , وَالرِّبَا , وَالْخِلَافَةُ .
رِبَا النَّسِيئَةِ :(1/272)
13 - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ نَظِيرِ الْأَجَلِ أَوْ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الرِّبَا رِبَا النَّسِيئَةِ مِنْ أَنْسَأْته الدَّيْنَ : أَخَّرْته - لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ مُقَابِلُ الْأَجَلِ أَيًّا كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا . وَسُمِّيَ رِبَا الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهُ حُرِّمَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً . . . } . ثُمَّ أَكَّدَتْ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ تَحْرِيمَهُ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى . ثُمَّ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِهِ . وَسُمِّيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ , لِأَنَّ تَعَامُلَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالرِّبَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِهِ كَمَا قَالَ الْجَصَّاصُ . وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَتَفْعَلُهُ إنَّمَا كَانَ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اسْتَقْرَضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ . وَسُمِّيَ أَيْضًا الرِّبَا الْجَلِيُّ , قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : الْجَلِيُّ : رِبَا النَّسِيئَةِ , وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ , وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَهُ فِي الْمَالِ حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً . . 14 - وَرِبَا الْفَضْلِ يَكُونُ بِالتَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا إذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ , كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا , أَوْ بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ الْقَمْحِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ .(1/273)
وَيُسَمَّى رِبَا الْفَضْلِ لِفَضْلِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , وَإِطْلَاقُ التَّفَاضُلِ عَلَى الْفَضْلِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ , فَإِنَّ الْفَضْلَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ . وَيُسَمَّى رِبَا النَّقْدِ فِي مُقَابَلَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ : وَيُسَمَّى الرِّبَا الْخَفِيَّ , قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : الرِّبَا نَوْعَانِ : جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ , فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ , لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ , وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ , لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجَلِيِّ , فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلِ قَصْدًا , وَتَحْرِيمُ الثَّانِي لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ , فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ } وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا , فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ - وَلَا يُفْعَلُ هَذَا إلَّا لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إمَّا فِي الْجَوْدَةِ , وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ , وَإِمَّا فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّلِ فِيهَا إلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ وَهُوَ عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ , وَهَذَا ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا , فَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ , وَهِيَ تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ . .
شُبْهَةٌ . التَّعْرِيفُ :(1/274)
1 - الشُّبْهَةُ لُغَةً : مِنْ أَشْبَهَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ أَيْ : مَاثَلَهُ فِي صِفَاتِهِ . وَالشِّبْهُ , وَالشَّبَهُ , وَالشَّبِيهُ , الْمِثْلُ . وَالْجَمْعُ : أَشْبَاهٌ , وَالتَّشْبِيهُ التَّمْثِيلُ . وَالشُّبْهَةُ الْمَأْخَذُ الْمُلْبِسُ وَالْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ أَيْ : الْمُشْكِلَةُ لِشَبَهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ . وَاصْطِلَاحًا هِيَ : مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا . أَوْ مَا جُهِلَ تَحْلِيلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ . أَوْ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ . مَا تَتَنَاوَلُهُ الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ : 2 - فَسَّرَ الْعُلَمَاءُ الشُّبْهَةَ بِأَرْبَعَةِ تَفْسِيرَاتٍ الْأَوَّلُ : مَا تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ . الثَّانِي : مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ مُتَفَرِّعٌ مِنْ الْأَوَّلِ . الثَّالِثُ : الْمَكْرُوهُ . الرَّابِعُ : الْمُبَاحُ الَّذِي تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ . وَيَدُلُّ لِلتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ , وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ , اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ , وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ , كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ , أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى , أَلَا إنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ , أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ , وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ , أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } .(1/275)
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ } وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ { لَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَمِنَ الْحَلَالِ هِيَ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ } . وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ : " كَثِيرٌ " أَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِهَا مُمْكِنٌ لِلْقَلِيلِ مِنْ النَّاسِ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ . فَالشُّبَهُ تَكُونُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ , أَوْ مَعْرِفَةُ الرَّاجِحِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ . مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ لَا يُقَالُ : إنَّهُ مِنْ الْحَلَالِ الْبَيِّنِ وَلَا مِنْ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ , وَالْمُتَبَيِّنُ : هُوَ مَا لَا إشْكَالَ فِيهِ وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ } . وَيَدُلُّ لِلتَّفْسِيرِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ يَتَجَاذَبُهُ جَانِبَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ , وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ هُنَا مَا اسْتَوَى فِيهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ , بَلْ يُقْصَدُ بِهِ مَا كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى , بِأَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ رَاجِحُ التَّرْكِ عَلَى الْفِعْلِ , بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ لِأَنَّ مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْمَكْرُوهِ اجْتَرَأَ عَلَى الْحَرَامِ , وَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْمُبَاحِ اجْتَرَأَ عَلَى الْمَكْرُوهِ , وَقَدْ يُحْمَلُ اعْتِيَادُ تَعَاطِي الْمَكْرُوهِ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْمُحَرَّمِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ .(1/276)
وَيَدُلُّ لَهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ : { اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنْ الْحَلَالِ مَنْ فَعَلَ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَلِدِينِهِ } . وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَلَالَ حَيْثُ يُخْشَى أَنْ يُؤَوَّلَ فِعْلُهُ مُطْلَقًا إلَى مَكْرُوهٍ أَوْ مُحَرَّمٍ , يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ كَالْإِكْثَارِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ , فَإِنَّهُ يَحُوجُ إلَى كَثْرَةِ الِاكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي أَخْذِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ أَوْ يُفْضِي إلَى بَطَرِ النَّفْسِ . وَيُرَاجَعُ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَاتُ : ( إبَاحَةٌ , حَلَالٌ , سَدُّ الذَّرَائِعِ ) . أَقْسَامُ الشُّبْهَةِ : 3 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الشُّبْهَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : اتَّفَقَا فِي اثْنَيْنِ مِنْهَا وَانْفَرَدَ كُلُّ مَذْهَبٍ بِقَسَمٍ ثَالِثٍ . فَاتَّفَقَ الْمَذْهَبَانِ فِي الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَشُبْهَةِ الْفَاعِلِ . أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ : وَتُسَمَّى شُبْهَةَ الْمَحَلِّ أَيْ : الْمِلْكِ . وَسُمِّيَتْ حُكْمِيَّةً لِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّ ثَبَتَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ . أَوْ شُبْهَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ بِحِلِّ الْمَحَلِّ , لِأَنَّ نَفْسَ حُكْمِ الشَّرْعِ وَمَحَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ شُبْهَتُهُ لِكَوْنِ دَلِيلِ الْحِلِّ عَارَضَهُ مَانِعٌ . وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا : وَطْءُ مُعْتَدَّةِ الْكِنَايَاتِ وَالْوَطْءِ فِي الْخُلْعِ الْخَالِي عَنْ الْمَالِ . وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةَ الْمِلْكِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ وَارِدَةٌ عَلَى كَوْنِ الْمَحَلِّ مَمْلُوكًا .(1/277)
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ شُبْهَةُ الْفِعْلِ : وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ أَيْ : شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ حَصَلَ لَهُ اشْتِبَاهٌ , وَذَلِكَ إذَا ظَنَّ الْحِلَّ ; لِأَنَّ الظَّنَّ , هُوَ الشُّبْهَةُ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَائِمٍ تَثْبُتُ بِهِ الشُّبْهَةُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ شُبْهَةِ الْفِعْلِ وَشُبْهَةِ الْمَحَلِّ أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ جَاءَتْ مِنْ دَلِيلِ حِلِّ الْمَحَلِّ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى ظَنِّ الْحِلِّ . وَمِنْ أَمْثِلَةِ شُبْهَةُ الْفِعْلِ : وَطْءُ مُعْتَدَّةِ الثَّلَاثِ , وَوَطْءُ مُعْتَدَّةِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ , وَوَطْءُ الْمُخْتَلِعَةِ عَلَى مَالٍ . وَانْفَرَدَ الْحَنَفِيَّةُ بِقِسْمِ شُبْهَةِ الْعَقْدِ : وَهُوَ مَا وُجِدَ فِيهِ صُورَةُ الْعَقْدِ لَا حَقِيقَتُهُ وَمَثَّلُوا لَهُ بِمَنْ وَطِئَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ نِكَاحُهَا بِعَقْدٍ . وَلَا تُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ يُوجِبُهُ إنْ عَلِمَ الْحُرْمَةَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى . وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِقِسْمِ شُبْهَةِ الطَّرِيقِ , أَوْ شُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ , وَهِيَ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ قَالَ بِالْحِلِّ . وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ بِدُونِ وَلِيٍّ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ دَاخِلًا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ ( الشُّبْهَةَ الْحُكْمِيَّةَ ) .
النَّوْعُ الرَّابِعُ - بَيْعُ جُمْلَةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا :(1/278)
33 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : ( الْمَالِكِيَّةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ , وَزُفَرُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ) إلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جُمْلَةً مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ , أَوْ بِجُمْلَةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بَطَلَ الْعَقْدُ . وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعَ مَسْأَلَةِ : ( مُدِّ عَجْوَةٍ ) , وَقَالُوا فِي عِلَّةِ بُطْلَانِهِ إنَّ اشْتِمَالَ أَحَدِ طَرَفَيْ الْعَقْدِ أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْزِيعُ مَا فِي الْآخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ , وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوْ الْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْجَهْلُ بِالْمُمَاثَلَةِ حَقِيقَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي بَابِ الرِّبَا قَالُوا : إنَّ التَّوْزِيعَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ , كَمَا فِي بَيْعِ شِقْصٍ مَشْفُوعٍ وَسَيْفٍ بِأَلْفٍ . وَقِيمَةُ الشِّقْصِ مِائَةٌ وَالسَّيْفِ خَمْسُونَ , فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثُلُثَيْ الْقِيمَةِ , وَلَوْلَا التَّوْزِيعُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ . قَالَ السُّبْكِيّ : وَلَا يُتْرَكُ التَّوْزِيعُ وَإِنْ أَدَّى إلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ , فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ لَهُ مُقْتَضًى حُمِلَ عَلَيْهِ , سَوَاءٌ أَدَّى إلَى فَسَادِ الْعَقْدِ أَوْ إلَى صَلَاحِهِ , كَمَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ , وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُقَابَلَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ لِلثَّمَنِ حُمِلَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى إلَى فَسَادِهِ , وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةٌ وَالْآخَرَ ثَمَنٌ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ .(1/279)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ مِنْ جَانِبٍ بِمِثْلِهِمَا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ . فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ , لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بِاحْتِمَالِ رَغْبَةِ أَحَدِهِمَا فِي دِينَارِ الْآخَرِ , فَيُقَابِلُهُ بِدِينَارِهِ وَبَعْضِ دِرْهَمِهِ , وَيَصِيرُ بَاقِي دِرْهَمِهِ فِي مُقَابَلَةِ دِرْهَمِ الْآخَرِ . قَالُوا : إنَّ قَاعِدَةَ الْمَذْهَبِ سَدُّ الذَّرَائِعِ فَالْفَضْلُ الْمُتَوَهَّمُ كَالْمُحَقَّقِ , وَتَوَهُّمُ الرِّبَا كَتَحَقُّقِهِ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَوْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ نَوْعِهِ . 34 - وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ , صَحَّ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارٍ بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ , وَيُجْعَلُ كُلُّ جِنْسٍ مُقَابَلًا بِخِلَافِ جِنْسِهِ , فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ بِدِينَارَيْنِ , وَبَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِينَارٍ , وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ , وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِيهِمَا , فَيَصِحُّ الْعَقْدُ . وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ إنَّ فِي صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِهِ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ , وَإِلَى جِنْسِهِ فَسَادَهُ , وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ , فَحَمْلُ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى , وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي مُطْلَقَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمُقَيَّدٍ , لَا مُقَابَلَةُ الْكُلِّ بِالْكُلِّ بِطَرِيقِ الشُّيُوعِ , وَلَا مُقَابَلَةُ الْفَرْدِ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ الْمُصَحِّحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ .(1/280)
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ : إنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْمِلُ الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ , كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَإِنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ , فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ . وَقَالَ الْمَوْصِلِيُّ فِي تَوْجِيهِهِ : إنَّهُمَا قَصَدَا الصِّلَةَ ظَاهِرًا , فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِقَصْدِهِمَا وَدَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا . 35 - وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ بِعَشَرَةٍ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا , وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ ; لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُلُ وَهُوَ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا , إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْبَائِعِ إرَادَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُقَابَلَةِ حَمْلًا عَلَى الصَّلَاحِ , وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ , فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ , وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ , وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا .
الْقِسْمُ الثَّامِنُ : التَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا :(1/281)
25 - إذَا كَانَ أَدَاءُ التَّصَرُّفِ إلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لَا غَالِبًا وَلَا نَادِرًا , فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ . فَيَرَى فَرِيقٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ صِحَّةِ الْإِذْنِ , لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ بِوُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ مُنْتَفِيَانِ , إذْ لَيْسَ - هُنَا - إلَّا احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ وَلَا قَرِينَةَ تُرَجِّحُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , وَاحْتِمَالُ الْقَصْدِ لِلْمَفْسَدَةِ , وَالْإِضْرَارِ لَا يَقُومُ مَقَامَ نَفْسِ الْقَصْدِ وَلَا يَقْتَضِيهِ . وَذَهَبَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ , لِأَنَّ الْقَصْدَ لَا يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ لَكِنْ لَهُ مَجَالٌ - هُنَا - وَهُوَ كَثْرَةُ الْوُقُوعِ فِي الْوُجُودِ أَوْ هُوَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ , فَكَمَا اُعْتُبِرَتْ الْمَظِنَّةُ وَإِنْ صَحَّ التَّخَلُّفُ , كَذَلِكَ نَعْتَبِرُ الْكَثْرَةَ لِأَنَّهَا مَجَالُ الْقَصْدِ . وَلِلتَّفْصِيلِ : ( ر : سَدُّ الذَّرَائِعِ ) .
فِتْنَةٌ التَّعْرِيفُ :(1/282)
1 - الْفِتْنَةُ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ , وَأَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِك : فَتَنْت الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ إذَا أَذَبْتهمَا بِالنَّارِ لِتُمَيِّزَ الرَّدِيءَ مِنْ الْجَيِّدِ . وَتَأْتِي الْفِتْنَةُ بِمَعْنَى الْكُفْرِ كَمَا فِي قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } كَمَا تَأْتِي بِمَعْنَى الْفَضِيحَةِ كَمَا فِي قوله تعالى : { وَمَنْ يَرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } وَتَأْتِي الْفِتْنَةُ بِمَعْنَى الْعَذَابِ , وَبِمَعْنَى الْقَتْلِ , وَالْفَاتِنُ : الْمُضِلُّ عَنْ الْحَقِّ . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 2 - تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ الْفِتَنِ وَالْأَمْرِ بِتَجَنُّبِهَا وَاعْتِزَالِهَا وَعَدَمِ الْخَوْضِ فِيهَا , فَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } وَمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ , وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ , اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ } قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : فِتْنَةُ الْمَحْيَا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ الِافْتِنَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ , وَأَعْظَمُهَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ .(1/283)
وَهُنَاكَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِتْنَةِ وَمِنْهَا : أ - ( بَيْعُ السِّلَاحِ زَمَنَ الْفِتْنَةِ ) : 3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى حُرْمَةِ بَيْعِ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ وَاعْتَبَرُوهُ مِنْ أَقْسَامِ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا , وَمَثَّلُوا لَهُ بِبَيْعِ السِّلَاحِ زَمَنَ الْفِتْنَةِ , وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ مُطْلَقٍ وَعَامٍّ , وَفِي مَنْعِهِ سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى كَرَاهَتِهِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ , لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَقُومُ بِعَيْنِهِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 100 , 112 , 115 , 116 ) وَمُصْطَلَحِ ( سَدُّ الذَّرَائِعِ ف 9 ) .
مَخَارج الحِيَل *
التّعريف :
1 - مخارج الحيل مركّب إضافي من مخارج وحيلٍ .
فالمخارج في اللغة : جمع مخرجٍ وهو موضع الخروج ويقال : وجدت للأمر مخرجاً مخلصاً ، وفلان يعرف موالج الأمور ومخارجها أي : متصرّف خبير بالأشياء .
والمخارج في استعمالات الفقهاء : هي الحيل المباحة والعمل بها لأنّها مخارج بالنّسبة لمن حلّت به نازلة وضيّق عليه في أمرٍ من الأمور .
قال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } قال غير واحدٍ من المفسّرين : مخرجاً ممّا ضاق على النّاس .
ولا ريب أنّ الحيل مخارج ممّا ضاق على النّاس فالحالف يضيق عليه إلزام ما حلف عليه فيكون له بالحيلة مخرج منه والرّجل تشتد به الضّرورة إلى نفقةٍ ولا يجد من يقرضه فيكون له من هذا الضّيق مخرج بالعينة والتّورق ونحوهما .
والحيلة لغةً : الحذق في تدبير الأمور .
وفي الاصطلاح قال النّسفيّ : ما يتلطّف به لدفع المكروه .(1/284)
وقال ابن القيّم : غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفيّة الّتي يتوصّل بها الرّجل إلى حصول غرضه بحيث لا يتفطّن له إلا بنوع من الذّكاء والفطنة وسواء كان المقصود أمراً جائزاً أو محرّماً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرخصة :
2 - الرخصة في اللغة : التّسهيل في الأمر والتّيسير .
وفي الاصطلاح : ما وسّع للمكلّف في فعله لعذر وعجزٍ عنه مع قيام سبب المحرّم .
وقال ابن عابدين : الرخصة ما بني على أعذار العباد ويقابلها العزيمة .
وتشترك الرخصة مع مخارج الحيل في التّيسير في كلٍّ .
ب - التّيسير :
3 - من معاني التّيسير : التّسهيل والتّهيئة .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والعلاقة بين مخارج الحيل والتّيسير أنّ المخارج سبب في التّيسير .
الحكم التّكليفي :
4 - اختلف الفقهاء في جواز الحيل :
قال الحنفيّة - كما قال السّرخسيّ - إنّ الحيل في الأحكام المخرجّة عن الآثام جائز عند جمهور العلماء واستدلّ بقوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَََلا تَحْنَثْ } , ووجه الاستدلال أنّ هذا تعليم المخرج لأيوب عليه السلام عن يمينه الّتي حلف ليضربن زوجته مائةً .
وبما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب لنعيم بن مسعودٍ رضي الله عنه وقد أسلم : « إنّما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإنّما الحرب خدعة » . وقال : والحاصل أنّ ما يتخلّص به الرّجل من الحرام أو يتوصّل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن وإنّما يكره من ذلك أن يحتال في حقّ شخصٍ حتّى يبطله أو في باطلٍ حتّى يموّهه أو في حقٍّ حتّى يدخل فيه شبهةً فما كان على هذا السّبيل فهو مكروه وما كان على سبيل الأوّل فلا بأس به لأنّ اللّه تعالى قال : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .(1/285)
وعند المالكيّة - كما قال الشّاطبيّ - الحقيقة المشهورة للحيل أنّها : تقديم عملٍ ظاهر الجواز لإبطال حكمٍ شرعيٍّ وتحويله في الظّاهر إلى حكمٍ آخر ، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشّريعة في الواقع ، كالواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزّكاة ، فإنّ أصل الهبة على الجواز ، ولو منع الزّكاة من غير هبةٍ لكان ممنوعاً فإنّ كلّ واحدٍ منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة ، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزّكاة وهو مفسدة ، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشّرعيّة والحيل في الدّين - بمعنى قلب الأحكام الثّابتة شرعاً إلى أحكامٍ أخر بفعل صحيح الظّاهر لغو في الباطن - غير مشروعةٍ في الجملة .
وقال الشّاطبيّ : ومرجع الأمر في الحيل أنّها على ثلاثة أقسامٍ :
أحدها : لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين .
والثّاني : لا خلاف في جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراهاً عليها لأنّه مأذون فيه لكونه مصلحةً دنيويّةً لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة .
والثّالث : وهو محل الإشكال والغموض : وهو ما لم يتبيّن فيه بدليل واضحٍ قطعيٍّ لحاقه بالقسم الأوّل أو الثّاني ، ولا تبيّن فيه للشّارع مقصد يتّفق على أنّه مقصود له ، ولا ظهر أنّه على خلاف المصلحة الّتي وضعت لها الشّريعة بحسب المسألة المفروضة فيه ، فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعاً فيه .(1/286)
وعند الشّافعيّة قال ابن حجرٍ : الحيل عند العلماء على أقسامٍ بحسب الحامل عليها ، فإن توصّل بها بطريق مباحٍ إلى إبطال حقٍّ أو إثبات باطلٍ فهي حرام ، أو إلى إثبات حقٍّ أو دفع باطلٍ فهي واجبة أو مستحبّة ، وإن توصّل بها بطريق مباحٍ إلى سلامةٍ من وقوعٍ في مكروهٍ فهي مستحبّة أو مباحة ، أو إلى ترك مندوبٍ فهي مكروهة ، ونقل ابن حجرٍ عن الشّافعيّ أنّه نصّ على كراهة تعاطي الحيل في تفويت الحقوق فقال بعض أصحابه هي كراهة تنزيهٍ ، وقال كثير من محقّقيهم كالغزاليّ : هي كراهة تحريمٍ ويأثم بقصده ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » فمن نوى بعقد البيع الرّبا وقع في الرّبا ولا يخلّصه من الإثم صورة البيع ، ومن نوى بعقد النّكاح التّحليل كان محلّلاً ودخل في الوعيد على ذلك باللّعن , ولا يخلّصه من ذلك صورة النّكاح وكل شيءٍ قصد به تحريم ما أحلّ اللّه أو تحليل ما حرّم اللّه كان إثماً ، ولا فرق في حصول الإثم في التّحليل على الفعل المحرّم بين الفعل الموضوع له , والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعةً له .
وعند الحنابلة : قال ابن القيّم : تجويز الحيل يناقض سدّ الذّرائع مناقضةً ظاهرةً فإنّ الشّارع يسد الطّريق إلى المفاسد بكلّ ممكنٍ ، والمحتال يفتح الطّريق إليها بحيلة ، والحيل المحرّمة مخادعة للّه ، ومخادعة اللّه حرام ، فحقيق بمن اتّقى اللّه وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم اللّه بأنواع المكر والاحتيال ، ويدل على تحريم الحيل الحديث الصّحيح وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا يجمع بين متفرّقٍ ولا يفرّق بين مجتمعٍ خشية الصّدقة » وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزّكاة أو تنقيصها بسبب الجمع أو التّفريق ، وممّا يدل على التّحريم : أنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أجمعوا على تحريم هذه الحيل وإبطالها وإجماعهم حجّة قاطعة .(1/287)
وممّا يدل على بطلان الحيل وتحريمها : أنّ اللّه تعالى إنّما أوجب الواجبات وحرّم المحرّمات لما تتضمّن من مصالح عباده ومعاشهم ومعادهم ، فإذا احتال العبد على تحليل ما حرّم اللّه وإسقاط ما فرض اللّه وتعطيل ما شرع اللّه كان ساعياً في دين اللّه تعالى بالفساد ، وأكثر هذه الحيل لا تمشي على أصول الأئمّة بل تناقضها أعظم مناقضةٍ .
وقال ابن قدامة : لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة وإن فعل لم تسقط .
قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيدٍ وقد سألته عن الحيلة في إبطال الشفعة : لا يجوز شيء من الحيل في ذلك ولا في إبطال حقّ مسلمٍ .
مخارج الحيل في التّصرفات الشّرعيّة :
تدخل الحيل في العديد من أبواب الفقه من ذلك ما يأتي :
الحيلة في المسح على الخفّين :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يشترط لجواز المسح على الخفّين لبسهما على طهارةٍ كاملةٍ ، واختلفوا فيما لو لبس المتوضّئُ أحد الخفّين قبل غسل الرّجل الأخرى ثمّ غسل الأخرى ولبس عليها الخفّ :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز المسح لأنّه لم يلبس على كمال الطّهارة والحيلة في جواز المسح عند الحنابلة كما صرّح به ابن القيّم : أن يخلع هذه الفردة الثّانية ثمّ يلبسها .
الحيلة في الصّلاة :
6 - من الحيل في الصّلاة عند الحنفيّة ما صرّح به ابن نجيمٍ : بأنّه إذا صلّى الظهر منفرداً أربعاً فأقيمت الجماعة في المسجد فالحيلة أن لا يجلس على رأس الرّابعة حتّى تنقلب هذه الصّلاة نفلاً ويصلّي مع الإمام .
قال الحمويّ : وإذا انقلبت هذه الصّلاة نفلاً يضمّ إليها ركعةً أخرى لئلا يلزم التّنفل بالبتراء .
الحيلة في قراءة الحائض :
7 - قال الحنابلة : لا يحرم على الجنب قراءة بعض آيةٍ ما لم تكن طويلةً ولو كرّره ، لأنه لا إعجاز فيه ، ما لم يتحيّل على قراءةٍ تحرم عليه كقراءة آيةٍ فأكثر ، لأنّ الحيل غير جائزةٍ في شيءٍ من أمور الدّين .
الحيلة في قراءة آية السّجدة :(1/288)
8 - من الحيل عند الحنفيّة في قراءة آية السّجدة أن يقرأ سورة السّجدة , ويدع آيتها أو يقرأها سراً بحيث لا يسمع نفسه لأنّ المعتبر إسماع نفسه لا مجرّد تصحيح الحروف على المشهور .
واختلفوا في حكم هذه الحيلة : فيرى أبو يوسف بأنّها لا تكره ، وقال محمّد : تكره ، وعليه الفتوى .
الحيلة في الزّكاة :
الكلام على الحيل في الزّكاة في موضعين :
أ - في سقوط الزّكاة :
9 - اختلف الفقهاء في التّحيل على إسقاط الزّكاة بإبدال النّصاب بغير جنسه قبل نهاية الحول :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى سقوط الزّكاة لأنّ النّصاب نقص قبل تمام حوله ، فلم تجب فيه كما لو أتلفه لحاجته .
وذهب المالكيّة والحنابلة والأوزاعي وإسحاق وأبو عبيدٍ إلى تحريم التّحيل لإسقاط الزّكاة ، وأنّه لا تسقط عنه الزّكاة سواء كان المبدّل ماشيةً أو غيرها من النصب .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( زكاة ف 114 ) .
ب - في مصرف الزّكاة :
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز دفع الزّكاة إلى أصله وإن علا ولا إلى فرعه وإن سفل وإن كانا معسرين ، والحيلة عند الحنفيّة في جواز ذلك مع الكراهة أن يتصدّق بها على الفقير ثمّ يصرفها الفقير إليهما .
وكذلك التّمليك شرط في مصارف الزّكاة ، فلا تصرف الزّكاة إلى بناء نحو مسجدٍ كبناء القناطر والسّقايات وإصلاح الطرقات وكري الأنهار والحجّ والتّكفين وكلّ ما لا تمليك فيه ، والحيلة في جواز الدّفع لهذه الأشياء مع صحّة الزّكاة عند الحنفيّة : أن يتصدّق على الفقير ثمّ يأمره بفعل هذه الأشياء فيكون له ثواب الزّكاة وللفقير ثواب هذه القرب .
وصرّح الحنفيّة بأنّه لا يجوز في الزّكاة أداء الدّين عن العين ، والمراد بالدّين ما كان ثابتاً في الذّمّة من مال الزّكاة ، وبالعين ما كان قائماً في ملكه من نقودٍ وعروضٍ ، وأداء الدّين عن العين كجعله ما في ذمّة مديونه زكاةً لماله الحاضر .(1/289)
وكذلك لا يجوز أداء دينٍ عن دينٍ سيقبض ، كما لو أبرأ الفقير عن بعض النّصاب ناوياً به الأداء عن الباقي لأنّ الباقي يصير عيناً بالقبض فيصير مؤدّياً الدّين عن العين .
وحيلة الجواز عندهم فيما إذا كان له دين على معسرٍ وأراد أن يجعله زكاةً عن عينٍ عنده ، أو عن دينٍ له على آخر سيقبضه : أن يعطي مديونه الفقير زكاته , ثمّ يأخذها عن دينه ، قال في الأشباه : وهو أفضل من غيره ، واستدلّ ابن عابدين لهذا بقوله : لأنّه يصير وسيلةً إلى براءة ذمّة المديون .
وصرّح المالكيّة والحنابلة بأنّه يجوز إلا إذا كان حيلةً ، قال الحطّاب : ومحل الجواز إذا لم يتواطآ عليه وإلا منع اتّفاقاً .
وقال أحمد : إن كان حيلةً فلا يعجبني ، قال القاضي وغيره : معنى الحيلة أن يعطيه بشرط أن يردّها عليه من دينه ، لأنّ من شرطها كونها تمليكاً صحيحاً ، فإذا شرط الرجوع لم يوجد ، ولأنّ الزّكاة حق اللّه تعالى فلا يجوز صرفها إلى نفعه ، وإن ردّ الغريم من نفسه ما قبضه وفاءً عن دينه من غير شرطٍ ولا مواطأةٍ جاز لربّ المال أخذه من دينه لأنّه بسبب متجدّدٍ كالإرث والهبة .
الحيلة في الحجّ :
11 - ذهب الحنفيّة إلى جواز الحيلة في الحجّ ، وذلك كأن يهب ماله لابنه قبل أشهر الحجّ واختلفوا في حكمها :
فقال أبو يوسف : لا تكره ، وقال محمّد : تكره وعليه الفتوى .
وإذا خاف الرّجل لضيق الوقت أن يحرم بالحجّ فيفوته ، فيلزمه القضاء ودم الفوات ، فالحيلة من الخلاص من ذلك : أن يحرم إحراماً مطلقاً ولا يعيّنه ، فإن اتّسع له الوقت جعله حجاً مفرداً أو قراناً أو تمتعاً ، وإن ضاق عليه الوقت جعله عمرةً ولا يلزمه غيرها .
قال ابن نجيمٍ : إذا أراد الآفاقي دخول مكّة بغير إحرامٍ من الميقات فالحيلة أن يقصد مكاناً آخر داخل المواقيت كبستان بني عامرٍ .(1/290)
وعلّق الحمويّ عليه بقوله : عبارة التّتارخانيّة : قصد مكاناً آخر وراء ميقاتٍ نحو بستان بني عامرٍ أو موضعاً آخر بهذه الصّفة لحاجة , ثمّ إذا وصل إلى ذلك الموضع يدخل مكّة بغير إحرامٍ .
وعن أبي يوسف أنّه شرط الإقامة بذلك المكان خمسة عشر يوماً , يعني لو نوى أقلّ من ذلك لا يدخل بغير إحرامٍ .
الحيلة في النّكاح :
12 - الأصل أنّه إذا ادّعت امرأة نكاح رجلٍ فأنكر ، ولا بيّنة ولا يمين عليه عند أبي حنيفة فلا يمكنها التّزوج ، ولا يؤمر بتطليقها لأنّه يصير عقداً بالنّكاح ، فالحيلة عند أبي حنيفة كما صرّح به ابن نجيمٍ : أن يأمره القاضي أن يقول : إن كنت امرأتي فأنت طالق ثلاثاً .
ومن الحيل في باب النّكاح ما ذكره محمّد بن الحسن أنّ أبا حنيفة سئل عن أخوين تزوّجا أختين ، فزفّت كل واحدةٍ منهما إلى زوج أختها ولم يعلموا حتّى أصبحوا ، فذكر ذلك لأبي حنيفة وطلبوا المخرج منه فقال : ليطلّق كل واحدٍ من الأخوين امرأته تطليقةً ، ثمّ يتزوّج كل واحدٍ منهما المرأة الّتي دخل بها مكانها فيكون جائزاً لأنّه لم يكن بينه وبين زوجته دخول ولا خلوة , ولا عدّة عليها من الطّلاق لأنّه طلّقها قبل الدخول ، وعدّتها من الواطئ لا تمنع نكاحه .
ونقل ابن القيّم ذلك ثمّ قال : وهذه الحيلة في غاية اللطف , فإنّ المرأة الّتي دخل بها كل منهما قد وطئها بشبهة فله أن ينكحها في عدّتها فإنّه لا يصان ماؤه عن مائه , وأمره أن يطلّق واحدةً فإنّه لم يدخل بالّتي طلّقها فالواحدة تبينها ولا عدّة عليها منه , فللآخر أن يتزوّجها .
الحيلة في الطّلاق :
13 - الأصل أنّه يقع الطّلاق بقول الزّوج لزوجته : أنت طالق ، فالحيلة في عدم وقوع ذلك كما روي عن أبي حنيفة : أن يصل قوله بالاستثناء ويقول : أنت طالق إن شاء اللّه . والتّفصيل في : ( طلاق ف 55 وما بعدها ) .
الحيلة السريجيّة في الطّلاق :(1/291)
14 - صورة هذه الحيلة - كما نقلها ابن القيّم - أن يقول زوج لزوجته : كلّما طلّقتك أو كلّما وقع عليك الطّلاق فأنت طالق قبله ثلاثاً ، يقول أبو العبّاس بن سريجٍ - ووافقه عليه جماعة من أصحاب الشّافعيّ - : إنّه لا يتصوّر وقوع الطّلاق بعد ذلك إذ لو وقع لزم ما علّق به وهو الثّلاث ، وإذا وقعت الثّلاث امتنع وقوع هذا المنجّز ، فوقوعه يفضي إلى عدم وقوعه وما أفضى وجوده إلى عدم وجوده لم يوجد .
وأبى ذلك جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وكثير من الشّافعيّة ثمّ اختلفوا في وجه إبطال هذا التّعليق فقال الأكثرون : هذا التّعليق لغو وباطل من القول .
الحيلة في الأيمان :
15 - الأصل عند أبي حنيفة ومحمّدٍ : أنّ إمكان تصور البرّ في المستقبل شرط انعقاد اليمين ولو بطلاق ، وكذلك شرط بقائها ، وقال أبو يوسف : لا يشترط تصور البرّ ولهذا الأصل فروع كثيرة منها :
قال الزّوج لزوجته : إن لم تهبيني صداقك اليوم فأنت طالق ، وقال أبوها : إن وهبته فأمك طالق ، فالحيلة في ذلك : أن تشتري الزّوجة من زوجها بمهرها ثوباً ملفوفاً ، فإذا مضى اليوم لم يحنث أبوها لعدم الهبة ولا الزّوج لعجزها عن الهبة عند الغروب ، لسقوط المهر بالبيع ، ثمّ إذا أرادت الرجوع ردّته بخيار الرؤية .
وكذلك الأصل أنّ المعتبر ملكيّة المالك حين الحنث لا حين الحلف ، وعلى هذا لو قال رجل : إن فعلت كذا فما أملكه صدقة فحيلته عند الحنفيّة : أن يبيع ملكه من رجلٍ بثوب في منديلٍ ، ويقبضه ولم يره ، ثمّ يفعل المحلوف عليه ، ثمّ يرده بخيار الرؤية فلا يلزمه شيء ، لأنّ المعتبر الملك حين الحنث لا حين الحلف ، ولا يدخل المشتري بخيار الرؤية حتّى يراه ويرضى به .
الحيلة في الوقف :
16 - صرّح ابن نجيمٍ من الحنفيّة بأنّه إذا أراد شخص وقف داره في مرض موته ، وخاف عدم إجازة الورثة ، فالحيلة : أن يقرّ أنّها وقف رجلٍ وإن لم يسمّه ، وأنّه متولّيها وهي في يده .(1/292)
الحيلة في الوصاية :
17 - إذا أراد المريض الّذي لا وارث له أن يوصي بجميع أمواله في أبواب البرّ ، ففي الصّحيح عن القول عند الحنابلة أنّه لا يملك ذلك ، فالحيلة في ذلك : أن يقرّ لإنسان يثق بدينه وأمانته بدين يحيط بماله كلّه ، ثمّ يوصيه إذا أخذ ذلك المال أن يضعه في الجهات الّتي يريد .
الحيلة في التّركة :
18 - الأصل في التّركة أنّ نقدها وعينها ودينها شائع بين الورثة , فليس لبعضهم الاستقلال بشيء دون قسمةٍ معتبرةٍ ، حتّى لو قبض بعضهم شيئاً من الدّين لم يختصّ به وإن قصد المدين الأداء عن حصّته فقط .
ومن حيل الاستقلال - كما صرّح به الشّافعيّة - أن يحيل بعض الورثة دائنه على قدر حصّته من دين التّركة , فإذا وفّى مدين التّركة المحتال عن الحوالة اختصّ بحصّتها ولم يشارك فيها الوارث الآخر .
الحيلة في البيع والشّراء :
19 - لو اشترى رجل داراً بألف درهمٍ فخاف أن يأخذها جارها بالشفعة ، فاشتراها بألف دينارٍ من صاحبها ثمّ أعطاه بالألف دينارٍ ألف درهمٍ ، فصرّح أبو يوسف من الحنفيّة بأنّ العقد جائز ، لأنّه مصارفة بالثّمن قبل القبض ، وذلك جائز لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّي أبيع الإبل بالبقيع , وربّما أبيعها بالدّراهم , وآخذ مكانها دنانير , فقال عليه الصلاة والسلام : لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما عمل », فإن حلّفه القاضي : ما دلّست ولا والست ، فحلف , كان صادقاً لأنّ هذه عبارة عن الغرور والخيانة ولم يفعل شيئاً من ذلك .
الحيلة في الرّبا والصّرف :
20 - من الحيل في البيع الرّبويّ بجنسه متفاضلاً كبيع ذهبٍ بذهب متفاضلاً كما صرّح به الشّافعيّة : أن يبيع الذّهب من صاحبه بدراهم أو عرضٍ ، ويشتري بالدّراهم أو بالعرض الذّهب بعد التّقابض ، فيجوز ولو اتّخذه عادةً قياساً بما : « أمر النّبي صلى الله عليه وسلم عامل خيبر أن يبيع الجمع بالدّراهم , ثمّ يشتري بها جنيباً » .(1/293)
أو أن يقرض كل منهما صاحبه ويبرئه ، أو أن يتواهبا فهذه الحيل كلها جائزة - عند الحنفيّة والشّافعيّة - إذا لم يشترط في بيعه وإقراضه وهبته ما يفعله الآخر ، ولكنّها مكروهة إذا نويا ذلك ، لأنّ كلّ شرطٍ أفسد التّصريح به العقد إذا نواه كره ، كما لو تزوّج امرأةً بشرط أن يطلّقها لم ينعقد ، وبقصد ذلك كره .
ثمّ هذه الطرق ليست حيلاً في بيع الرّبويّ بجنسه متفاضلاً لأنّه حرام ، بل حيل في تمليكه لتحصيل ذلك .
الحيلة في السّلم :
21 - الأصل أنّه لا يصح أن يستبدل عن المسلم فيه غير جنسه كبرّ عن شعيرٍ ، والحيلة في جواز هذا الاستبدال كما صرّح به الشّافعيّة : أن يفسخا السّلم بأن يتقايلا فيه ثمّ يعتاض عن رأس المال ، ولو كان أكثر من رأس المال بكثير ، وأيضاً مع بقاء رأس المال الأصليّ .
الحيلة في الشفعة :
22 - الحيلة في الشفعة أن يظهر المتعاقدان في البيع شيئاً لا يؤخذ بالشفعة معه ، وأن يتواطآ في الباطن على خلاف ما أظهراه ، والكلام على الحيلة في الشفعة في موضعين :
أ - الحيلة لإبطال حقّ الشفعة :
23 - الحيلة لإبطال الشفعة إمّا أن تكون للرّفع بعد الوجوب أو لدفعه قبل الوجوب .
النّوع الأوّل : مثل أن يقول المشتري للشّفيع : أنا أبيعها منك بما أخذت فلا حاجة لك في الأخذ ، فيقول الشّفيع : نعم ، واختلفوا في حكمها :
فذهب الحنفيّة إلى أنّه مكروه وفاقاً ، وعند الشّافعيّة حرام على الرّاجح .
والنّوع الثّاني : مثل أن يبيع داراً إلا مقدار ذراعٍ منها في طول الحدّ الّذي يلي الشّفيع فلا شفعة له لانقطاع الجوار .
وكذا إذا وهب منه هذا المقدار وسلّمه إليه تسقط الشفعة عند الحنفيّة والشّافعيّة , لكنّهم اختلفوا في حكمها على أقوالٍ :(1/294)
فذهب محمّد من الحنفيّة , وهو الأصح عند الشّافعيّة , وبه قال ابن سريجٍ والشّيخ أبو حامدٍ إلى أنّها تكره هذه الحيلة لأنّها شرعت لدفع الضّرر عن الشّفيع ، والحيلة تنافيه ، ولأنّ الّذي يحتال لإسقاطها يكون بمنزلة القاصد إلى الإضرار بالغير , وذلك مكروه .
ويرى أبو يوسف من الحنفيّة أنّها لا تكره , وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، صرّح به أبو حاتمٍ القزويني الشّافعي في كتاب الحيل بقوله : وأمّا الحيل في دفع شفعة الجار فلا كراهة فيها مطلقاً ، لأنّه دفع الضّرر عن نفسه لا الإضرار بالغير ، لأنّ في الحجر عليه عن التّصرف أو تملك الدّار عليه بغير رضاه إضراراً به ، وهو إنّما قصد دفع هذا الضّرر ولاحتمال أن يكون الجار فاسقاً يتأذّى به ، وفي استعمال الحيلة لإسقاط الشفعة تحصيل الخلاص من مثل هذا الجار .
والفتوى في المذهب الحنفيّ على قول أبي يوسف وقيّد عدم الكراهة في السّراجيّة بما إذا كان الجار غير محتاجٍ إليه ، واستحسنه شرف الدّين الغزّيّ من فقهاء الأحناف في تنوير الأبصار حيث قال : وينبغي اعتماد هذا القول لحسنه .
ب - الحيلة لتقليل رغبة الشّفيع :
24 - إذا أراد شخص أن يبيع داره بعشرة آلاف درهمٍ يبيعها بعشرين ألفاً ثمّ يقبض تسعة آلافٍ وخمسمائةٍ ويقبض بالباقي عشرة دنانير أو أقلّ أو أكثر ، فلو أراد الشّفيع أن يأخذها بعشرين ألفاً إن شاء , فلا يرغب في الشفعة بسبب كثرة الثّمن .
وللحيل المسقطة للشفعة , والمقلّلة لرغبة الشّفيع أمثلة كثيرة في كتب الفقه .
وقال المالكيّة : الحيل لا تفيد في العبادات ولا في المعاملات .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة وإن فعل لم تسقط ، قال أحمد : لا يجوز شيء من الحيل في ذلك ولا في إبطال حقّ مسلمٍ .(1/295)
وبهذا قال أبو أيوب وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وأبو إسحاق والجوزجانيّ ، واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود , فتستحلوا محارم اللّه بأدنى الحيل » ، ولأنّ الشفعة وضعت لدفع الضّرر , فلو سقطت بالتّحيل للحق الضّرر , فلم تسقط , مثل أن يشتري شقصاً يساوي عشرة دنانير بألف درهمٍ ثمّ يقضيه عنها عشرة دنانير .
وأمّا إذا لم يقصد به التّحيل فتسقط به الشفعة ، لأنّه لا خداع فيه ولا قصد به إبطال حقٍّ ، والأعمال بالنّيّات , والقول قول المشتري فيما إذا اختلفا في كونه حيلةً أم لا ، لأنّ المشتري أعلم بنيّته وحاله .
الحيلة في الإجارة والمساقاة :
25 - الأصل أنّ اشتراط المرمّة على المستأجر يفسد الإجارة , والحيلة في جواز ذلك عند الحنفيّة والحنابلة : أن ينظر إلى قدر ما يحتاج إليه , فيضمّ إلى الأجرة , ثمّ يأمره المؤجّر بصرفه إلى المرمّة , فيكون المستأجر وكيلاً بالإنفاق .
وكذلك اشتراط خراج الأرض على المستأجر غير جائزٍ , لأنّ الأصل أنّ الخراج على المالك وليس على المستأجر , والحيلة في جوازه عند الحنفيّة والحنابلة : أن يزيد في الأجرة بقدره , ثمّ يأذن له أن يدفع في خراجها ذلك القدر الزّائد على أجرتها , لأنّه متى زاد مقدار الخراج على الأجرة أصبح ذلك ديناً على المستأجر , وقد أمره أن يدفعه إلى مستحقّ الخراج وهو جائز .
ونظير هذا عند الحنفيّة أن يؤجّر دابّةً , ويشترط علفها على المستأجر , فإنّه غير جائزٍ , لأنّه مجهول والأجر من شرطه أن يكون معلوماً والحيلة في جوازه كما سبق .
وهذه الحيلة غير محتاجٍ إليها عند الحنابلة , لأنّهم يجوّزون استئجار الظّئر بطعامها وكسوتها والأجير بطعامه وكسوته , فكذلك إجارة الدّابّة بعلفها وسقيها .(1/296)
والأصل عند الحنفيّة : أنّ الإجارة تنفسخ بموت أحد طرفي العقد , وبه قال الثّوري واللّيث وعلى هذا إذا أراد المستأجر أن لا تنفسخ بموت المؤجّر , فالحيلة : أن يقرّ المؤجّر بأنّها للمستأجر عشر سنين يزرع فيه ما شاء , وما خرج فهو له , فلا تبطل بموت أحدهما . والأصل عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : أنّه لو دفع غزلاً لآخر لينسجه له بنصف الغزل , أواستأجر بغلاً ليحمل طعامه ببعضه , أو ثوراً ليطحن برّه ببعض دقيقه , فسدت الإجارة في الكلّ , لأنّه استأجره بجزء عمله , ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطّحّان .
والحيلة في جواز ذلك عند الحنفيّة : أن يفرز الأجر أوّلاً ويسلّمه إلى الأجير , أو يسمّي قفيزاً بلا تعيينٍ , ثمّ يعطيه قفيزاً منه فيجوز , فلو خلطه بعد ذلك , وطحن الكلّ ثمّ أفرز الأجرة , وردّ الباقي جاز , لأنّه لم يستأجره أن يطحن بجزء منه .
الحيلة في الرّهن :
26 - الأصل عند الحنفيّة أنّه لا يجوز رهن مشاعٍ , والحيلة في جواز ذلك عندهم : أن يبيع نصف داره مشاعاً من طالب الرّهن , ويقبض منه الثّمن على أنّ المشتري بالخيار , ويقبض الدّار ثمّ يفسخ البيع بحكم الخيار , فتبقى في يده بمنزلة الرّهن بالثّمن .
وأمّا الأئمّة الثّلاثة فلا حاجة للحيلة عندهم , لأنّه يجوز عندهم رهن مشاعٍ .
الحيلة في الوكالة :
27 - الأصل أنّ شراء الوكيل المعيّن من نفسه غير جائزٍ عند الحنفيّة وهو رواية عن أحمد لأنّ الآمر اعتمد عليه في شرائه فيصير كأنّه قد خدعه بقبول الوكالة ليشتريه لنفسه , وأنّه لا يجوز .
والحيلة عند من يقول بعدم جواز ذلك : أن يشتريه بخلاف جنس ما أمر به , أو بأكثر ممّا أمر به أو بأقلّ ممّا أمر به , لأنّه خالف أمر الآمر فلا ينفذ تصرفه عليه , ولا يكون آثماً في اكتساب هذه الحيلة ليشتريها لنفسه .
الحيلة في الكفالة :(1/297)
28 - رجل كفل بنفس رجلٍ آخر على أنّه إن لم يواف بما عليه غداً فهو ضامن للمال الّذي للطّالب على المطلوب , فلم يواف المطلوب , فالكفيل ضامن المال , فهذا يجوز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند بعض فقهاء الأحناف .
والحيلة في ذلك حتّى يجوز عند الجميع : أن يشهد عليه أنّه ضامن للألف الّتي على المطلوب , على أنّه إن وافى به غداً فهو بريء , فيجوز من غير خلافٍ بين فقهاء الأحناف .
الحيلة في الحوالة :
29 - الأصل أنّ الحوالة لا تصح إلا برضا المحتال , فإذا أراد المدين أن يحيل الدّائن على رجلٍ ولم يقبل الدّائن الحوالة مخافة أن يتوي حقه , فالحيلة في ذلك : أن يشهد المدين أنّ الدّائن وكيل له في قبض ماله على غريمه , ويقرّ له الغريم بالوكالة , أو أنّ الحيلة يقول طالب الحقّ - الدّائن - للمحال عليه : اضمن لي هذا الدّين الّذي على غريمي , ويرضى منه بذلك بدل الحوالة , فإذا ضمنه تمكّن من مطالبة أيّهما شاء .
الحيلة في الصلح :
30 - اختلف الفقهاء فيما يجوز الصلح عليه من حالات الإقرار والإنكار والسكوت . والتّفصيل في مصطلح : ( صلحٍ ف 11 وما بعدها ) .
والحيلة على الصلح على الإنكار - عند من يمنعه - أن يقول رجل أجنبي للمدّعي : أنا أعلم أنّ ما في يد المدّعى عليه لك , وهو يعلم أنّك صادق في دعواك , وأنا وكيله فصالحني على كذا , فينقلب حينئذٍ على الإنكار وهو جائز , وإن دفع المدّعى عليه المال إلى الأجنبيّ وقال : صالح عنّي جاز أيضاً .
والحيلة في جواز الصلح على الإقرار عند من يمنعه : أن يبيعه سلعةً ويحابيه فيها بالقدر الّذي اتّفقا على إسقاطه بالصلح .
الحيلة في الشّركة :(1/298)
31 - الأصل عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في ظاهر المذهب أنّه لا تجوز الشّركة في العروض , كما إذا كان لأحدهما متاع ومع الآخر مال , فأراد أن يشتركا , فالحيلة في ذلك أن يبيع صاحب المتاع من صاحب المال بنصف ذلك المال , فيصير المال والمتاع بينهما نصفين , ثمّ يتعاقدان الشّركة على ما يريدان , وكذلك الحكم إذا كان مع كلّ واحدٍ متاع , فالحيلة : أن يبيع كل واحدٍ منهما نصف متاعه من صاحبه بنصف متاع صاحبه , ويتقابضان ويتّفقان ويشتركان على ما اتّفقا .
وللحيل في الشّركة أمثلة أخرى كثيرة ذكرها النّووي وابن القيّم .
ولا حاجة إلى هذه الحيل عند المالكيّة , وهو رواية عن أحمد لأنّه تجوز عندهم الشّركة في العروض بالقيمة .
الحيلة في المضاربة :
32 - الأصل أنّ المضارب أمين فلا يضمن ما تلف تحت يده من مال المضاربة ما لم يتعدّ أو يقصّر , ولو شرط رب المال على المضارب ضمان مال المضاربة لم يصحّ .
والحيلة في تضمينه عند الحنفيّة والحنابلة : أن يقرض رب المال المضارب ما يريد دفعه إليه , ثمّ يخرج من عنده درهماً واحداً , فيشاركه على أن يعملا بالمالين جميعاً على أنّ ما رزقه اللّه تعالى فهو بينهما نصفين , فإن عمل أحدهما بالمال بإذن صاحبه فربح كان الرّبح بينهما على ما شرطاه , وإن خسر كان الخسران على قدر المالين , وعلى ربّ المال بقدر الدّرهم , وعلى المضارب بقدر رأس المال , وذلك لأنّ المضارب هو الملزم نفسه الضّمان بدخوله في القرض .
الحيلة في الهبة :
33 - الأصل أنّ الموهوب إن كان مشغولاً بملك الواهب لا تصح الهبة , كما لو وهب دابّةً عليها سرجه , وسلّمها كذلك لا تصح الهبة كما صرّح به الحنفيّة , لأنّ استعمال السّرج إنّما يكون للدّابّة , فكانت للواهب عليه يد مستعملة , فتوجب نقصاناً في القبض .
والحيلة في جواز ذلك عند الحنفيّة : أن يودع الشّاغل أوّلاً عند الموهوب له , ثمّ يسلّمه الدّابّة , فتصح لشغلها بمتاع في يده .(1/299)
وكذلك لو وهب داراً فيها متاع الواهب , أو جراباً فيه طعامه .
الحيلة في المزارعة :
الأصل عند أبي حنيفة أنّه لا تجوز المزارعة بالنّصف أو الثلث أو الربع , والحيلة في ذلك حتّى تجوز المزارعة في قول أبي حنيفة : أن يأخذها مزارعةً , ثمّ يتنازعان إلى قاضٍ يرى أنّ المزارعة جائزة فيحكم بجوازها عليهم , فيجوز ذلك إذا قضى به قاضٍ , أو يكتبان كتاب إقرارٍ عنهما يقرّان بذلك , فيجوز إقرارهما بذلك على أنفسهما , ولا حاجة إلى الحيلة على قول أبي يوسف ومحمّدٍ لأنّ المزارعة ببعض الخارج جائزة عندهما , والفتوى على قولهما لحاجة النّاس .
الحيلة في إسقاط حدّ السّرقة والزّنا :
35 - الأصل أنّه يشترط للقطع في السّرقة بجانب الشروط الأخرى أن يكون المسروق ملكاً لغير السّارق , وإليه ذهب جميع الفقهاء , فلا قطع على من سرق مال نفسه من يد غيره كالمرتهن والمستأجر .
وعلى هذا فمن الحيل لمنع القطع كما صرّح به الشّافعيّة : أن يدّعي السّارق أنّ المال المسروق ملكه , أو سرقه شخصان , ثمّ ادّعى أحدهما أنّ المسروق له أو لهما , فكذّبه الآخر , لم يقطع , لأنّ ما ادّعاه محتمل في ذاته , وإن كذّبه الشّرع أو الحس , أو قامت بيّنة بخلافه , أو كذّبه المقر أو المقر له , وكذا لو ادّعى أنّه أخذه من غير حرزٍ , أو أنّه دون نصابٍ , أو أنّ المالك أذن له في الأخذ لم يقطع , نظراً إلى أنّ الحدود تدرأ بالشبهات . قال أبو حامدٍ من الشّافعيّة : هذه الدّعاوى كلها من الحيل المحرّمة , ويسمّى مدّعيها بالسّارق الظّريف كما قال الشّافعي .
وأمّا دعوى زوجيّة المزنيّ بها لإسقاط حدّ الزّنا فمن الحيل المباحة .
الحيلة في الإفتاء :(1/300)
36 - صرّح الشّافعيّة بأنّه يكره للمفتي تتبع الحيل طلباً للتّرخيص على من يروم نفعه , أو التّغليظ على من يروم ضرّه , فمن فعل هذا فلا وثوق به , وأمّا إذا صحّ قصده فاحتسب في طلب حيلةٍ لا شبهة فيها , ولا تجر إلى مفسدةٍ ليخلّص بها المستفتي من ورطة يمينٍ ونحوها فذلك حسن , وعليه يحمل ما جاء عن بعض السّلف من هذا .
ويحرم سؤال من عرف بالتّساهل واتّباع الحيل المذكورة .
وفي واضح ابن عقيلٍ للحنابلة : أنّه يستحب إعلام المستفتي بمذهب غيره إن كان أهلاً للرخصة كطالب التّخلص من الرّبا فيردّه إلى من يرى الحيل جائزةً للخلاص منه .
ويرى ابن القيّم : أنّه لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرّمة والمكروهة , ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه , فإن حسن قصده في حيلةٍ جائزةٍ لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرجٍ جاز ذلك , بل استحب , وقد أرشد اللّه تعالى نبيّه أيوب عليه السلام إلى التّخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثاً , فيضرب به المرأة ضربةً واحدة , وأرشد النّبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التّمر بدراهم ثمّ يشتري بالدّراهم تمراً آخر فيتخلّص من الرّبا , فأحسن المخارج ما خلّص من المآثم , وأقبحها ما أوقع في المحارم .
********************
فَصْلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ [(1/301)
لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ ] لَمَّا كَانَتْ الْمَقَاصِدُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بِأَسْبَابٍ وَطُرُقٍ تُفْضِي إلَيْهَا كَانَتْ طُرُقُهَا وَأَسْبَابُهَا تَابِعَةً لَهَا مُعْتَبَرَةً بِهَا , فَوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَعَاصِي فِي كَرَاهَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَاتِهَا وَارْتِبَاطَاتِهَا بِهَا , وَوَسَائِلُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ فِي مَحَبَّتِهَا وَالْإِذْنِ فِيهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَتِهَا ; فَوَسِيلَةُ الْمَقْصُودِ تَابِعَةٌ لِلْمَقْصُودِ , وَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ , لَكِنَّهُ مَقْصُودٌ قَصْدَ الْغَايَاتِ , وَهِيَ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ ; فَإِذَا حَرَّمَ الرَّبُّ تَعَالَى شَيْئًا وَلَهُ طُرُقٌ وَوَسَائِلُ تُفْضِي إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهَا وَيَمْنَعُ مِنْهَا , تَحْقِيقًا لِتَحْرِيمِهِ , وَتَثْبِيتًا لَهُ , وَمَنْعًا أَنْ يُقْرَبَ حِمَاهُ , وَلَوْ أَبَاحَ الْوَسَائِلَ وَالذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلتَّحْرِيمِ , وَإِغْرَاءً لِلنُّفُوسِ بِهِ , وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى وَعِلْمُهُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ , بَلْ سِيَاسَةُ مُلُوكِ الدُّنْيَا تَأْبَى ذَلِكَ ; فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إذَا مَنَعَ جُنْدَهُ أَوْ رَعِيَّتَهُ أَوْ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمْ الطُّرُقَ وَالْأَسْبَابَ وَالذَّرَائِعَ الْمُوَصِّلَةَ إلَيْهِ لَعُدَّ مُتَنَاقِضًا , وَلَحَصَلَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ ضِدُّ مَقْصُودِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ إذَا أَرَادُوا حَسْمَ الدَّاءِ مَنَعُوا صَاحِبَهُ مِنْ الطُّرُقِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ , وَإِلَّا فَسَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَرُومُونَ إصْلَاحَهُ .(1/302)
فَمَا الظَّنُّ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي هِيَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْكَمَالِ ؟ وَمَنْ تَأَمَّلَ مَصَادِرَهَا وَمَوَارِدَهَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ سَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمَحَارِمِ بِأَنْ حَرَّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا , وَالذَّرِيعَةُ : مَا كَانَ وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَ تَقْرِيرِهِ لِيَزُولَ الِالْتِبَاسُ فِيهِ , فَنَقُولُ [ أَنْوَاعُ الْوَسَائِلِ وَحُكْمُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ] الْفِعْلُ أَوْ الْقَوْلُ الْمُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ قِسْمَانِ ; أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ وَضْعُهُ لِلْإِفْضَاءِ إلَيْهَا كَشُرْبِ الْمُسْكِرِ الْمُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ السُّكْرِ , وَكَالْقُذُفِ الْمُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ الْفِرْيَةِ , وَالزِّنَا الْمُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ ; فَهَذِهِ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ وُضِعَتْ مُفْضِيَةً لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَلَيْسَ لَهَا ظَاهِرٌ غَيْرُهَا , وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْإِفْضَاءِ إلَى أَمْرٍ جَائِزٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ , فَيُتَّخَذَ وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ إمَّا بِقَصْدِهِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ ; فَالْأَوَّلُ كَمَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ قَاصِدًا بِهِ التَّحْلِيلَ , أَوْ يَعْقِدُ الْبَيْعَ قَاصِدًا بِهِ الرِّبَا , أَوْ يُخَالِعُ قَاصِدًا بِهِ الْحِنْثَ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَالثَّانِي كَمَنْ يُصَلِّي تَطَوُّعًا بِغَيْرِ سَبَبٍ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ , أَوْ يَسُبُّ أَرْبَابَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ , أَوْ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ الْقَبْرِ لِلَّهِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ .(1/303)
ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ الذَّرَائِعِ نَوْعَانِ ; أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةُ الْفِعْلِ أَرْجَحَ مِنْ مَفْسَدَتِهِ , وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ ; فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الْمَفْسَدَةِ , الثَّانِي : وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ قُصِدَ بِهَا التَّوَسُّلُ إلَى الْمَفْسَدَةِ , الثَّالِثُ : وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التَّوَسُّلُ إلَى الْمَفْسَدَةِ لَكِنَّهَا مُفْضِيَةٌ إلَيْهَا غَالِبًا وَمَفْسَدَتُهَا أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا , الرَّابِعُ : وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ وَقَدْ تُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ وَمَصْلَحَتُهَا أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَتِهَا , فَمِثَالُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي قَدْ تَقَدَّمَ , وَمِثَالُ الثَّالِثِ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَمَسَبَّةُ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ , وَتَزَيُّنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي زَمَنِ عِدَّتِهَا , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ , وَمِثَالُ الرَّابِعِ النَّظَرُ إلَى الْمَخْطُوبَةِ وَالْمُسْتَامَةِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهَا وَمَنْ يَطَؤُهَا وَيُعَامِلُهَا , وَفِعْلُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَكَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; فَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِإِبَاحَةِ هَذَا الْقِسْمِ أَوْ اسْتِحْبَابِهِ أَوْ إيجَابِهِ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ , وَجَاءَتْ بِالْمَنْعِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِ فِي الْمَفْسَدَةِ , بَقِيَ النَّظَرُ فِي الْقِسْمَيْنِ الْوَسَطِ : هَلْ هُمَا مِمَّا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِإِبَاحَتِهِمَا أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُمَا ؟ فَنَقُولُ :
[(1/304)
الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَامِ وَلَوْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ ] الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ وُجُوهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : قوله تعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ - مَعَ كَوْنِ السَّبِّ غَيْظًا وَحَمِيَّةً لِلَّهِ وَإِهَانَةً لِآلِهَتِهِمْ - لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ اللَّهَ تَعَالَى , وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ تَرْكِ مَسَبَّتِهِ تَعَالَى أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ , وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ بَلْ كَالتَّصْرِيحِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْجَائِزِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا فِي فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : قوله تعالى : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } فَمَنَعَهُنَّ مِنْ الضَّرْبِ بِالْأَرْجُلِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا إلَى سَمْعِ الرِّجَالِ صَوْتَ الْخَلْخَالِ فَيُثِيرُ ذَلِكَ دَوَاعِيَ الشَّهْوَةِ مِنْهُمْ إلَيْهِنَّ .(1/305)
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } الْآيَةَ - أَمَرَ تَعَالَى مَمَالِيكَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ الْحُلُمَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لِئَلَّا يَكُونَ دُخُولُهُمْ هَجْمًا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِيهَا ذَرِيعَةٌ إلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَقْتَ إلْقَاءِ ثِيَابِهِمْ عِنْدَ الْقَائِلَةِ وَالنَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ , وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِهَا وَإِنْ أَمْكَنَ فِي تَرْكِهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ لِنُدُورِهَا وَقِلَّةِ الْإِفْضَاءِ إلَيْهَا فَجُعِلَتْ كَالْمُقَدَّمَةِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا } نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ - مَعَ قَصْدِهِمْ بِهَا الْخَيْرَ - لِئَلَّا يَكُونَ قَوْلُهُمْ ذَرِيعَةً إلَى التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَخِطَابِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَقْصِدُونَ بِهَا السَّبَّ , وَيَقْصِدُونَ فَاعِلًا مِنْ الرُّعُونَةِ , فَنَهَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ قَوْلِهَا ; سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ , وَلِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَقُولَهَا الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَشَبُّهًا بِالْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَ بِهَا غَيْرَ مَا يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُونَ .(1/306)
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : قوله تعالى لِكَلِيمِهِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ : { اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } فَأَمَرَ تَعَالَى أَنْ يُلِينَا الْقَوْلَ لِأَعْظَمِ أَعْدَائِهِ وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا وَأَعْتَاهُمْ عَلَيْهِ ; لِئَلَّا يَكُونَ إغْلَاظُ الْقَوْلِ لَهُ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِهِ ذَرِيعَةً إلَى تَنْفِيرِهِ وَعَدَمِ صَبْرِهِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ , فَنَهَاهُمَا عَنْ الْجَائِزِ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ تَعَالَى .
الْوَجْه السَّادِسُ : أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ عَنْ الِانْتِصَارِ بِالْيَدِ , وَأَمَرَهُمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ ; لِئَلَّا يَكُونَ انْتِصَارُهُمْ ذَرِيعَةً إلَى وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِغْضَاءِ وَاحْتِمَالِ الضَّيْمِ , وَمَصْلَحَةُ حِفْظِ نُفُوسِهِمْ وَدِينِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الِانْتِصَارِ وَالْمُقَابَلَةِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى التَّشَاغُلِ بِالتِّجَارَةِ عَنْ حُضُورِهَا .(1/307)
الْوَجْهُ الثَّامِنُ : مَا رَوَاهُ حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ , يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ , وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ , قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ , وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَابًّا لَاعِنًا لِأَبَوَيْهِ بِتَسَبُّبِهِ إلَى ذَلِكَ وَتَوَسُّلِهِ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكُفُّ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ - مَعَ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً - لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى تَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ , وَقَوْلُهُمْ : إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ , فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ النُّفُورَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ , وَمَفْسَدَةُ التَّنْفِيرِ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ قَتْلِهِمْ , وَمَصْلَحَةُ التَّأْلِيفِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْقَتْلِ .(1/308)
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى زَوَالِ الْعَقْلِ , وَهَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ , لَكِنْ حَرَّمَ الْقَطْرَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا , وَحَرَّمَ إمْسَاكَهَا لِلتَّخْلِيلِ وَنَجَسِهَا , لِئَلَّا تُتَّخَذَ الْقَطْرَةُ ذَرِيعَةً إلَى الْحُسْوَةِ وَيُتَّخَذَ إمْسَاكُهَا لِلتَّخْلِيلِ ذَرِيعَةً إلَى إمْسَاكِهَا لِلشُّرْبِ , ثُمَّ بَالَغَ فِي سَدِّ الذَّرِيعَةِ فَنَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ , وَعَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ , وَعَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي قَدْ يَتَخَمَّرُ النَّبِيذُ فِيهَا وَلَا يَعْلَمُ بِهِ , حَسْمًا لِمَادَّةِ قُرْبَانِ الْمُسْكِرِ , وَقَدْ صَرَّحَ صلى الله عليه وسلم بِالْعِلَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ فَقَالَ : { لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَأَوْشَكَ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ }
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَوْ فِي إقْرَاءِ الْقُرْآنِ , وَالسَّفَرَ بِهَا وَلَوْ فِي الْحَجِّ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ , سَدًّا لِذَرِيعَةِ مَا يُحَاذِرُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَغَلَبَاتِ الطِّبَاعِ .
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ - وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَحَاسِنِ الْخِلْقَةِ وَالتَّفَكُّرِ فِي صُنْعِ اللَّهِ - سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْإِرَادَةِ وَالشَّهْوَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمَحْظُورِ .(1/309)
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ , وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَنَهَى عَنْ تَجْصِيص الْقُبُورِ , وَتَشْرِيفِهَا , وَاِتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ , وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَعِنْدَهَا , وَعَنْ إيقَادِ الْمَصَابِيحِ عَلَيْهَا , وَأَمَرَ بِتَسْوِيَتِهَا , وَنَهَى عَنْ اتِّخَاذِهَا عِيدًا , وَعَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إلَيْهَا , لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا وَالْإِشْرَاكِ بِهَا , وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ خِلَافَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا , وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمَا وَقْتُ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّمْسِ , وَكَانَ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ الظَّاهِرَةِ , الَّتِي هِيَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُشَابَهَةِ فِي الْقَصْدِ مَعَ بُعْدِ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ , فَكَيْفَ بِالذَّرَائِعِ الْقَرِيبَةِ ؟(1/310)
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ , كَقَوْلِهِ : { إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } وَقَوْلِهِ فِي عَاشُورَاءَ : { خَالِفُوا الْيَهُودَ صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَشَبَّهُوا بِالْأَعَاجِمِ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا } وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الْهَدْيِ الظَّاهِرِ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ .
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَقَالَ : { إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } حَتَّى لَوْ رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْقَطِيعَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَمَا عَلَّلَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجَوْرِ , وَقِيلَ : الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى كَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى أَكْلِ الْحَرَامِ , وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ . وَأَبَاحَ الْأَرْبَعَ - وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ الْجَوْرُ فِي اجْتِمَاعِهِنَّ - لِأَنَّ حَاجَتَهُ قَدْ لَا تَنْدَفِعُ بِمَا دُونَهُنَّ ; فَكَانَتْ مَصْلَحَةُ الْإِبَاحَةِ أَرْجَحَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْجَوْرِ الْمُتَوَقَّعَةِ .(1/311)
الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ خُطْبَةَ الْمُعْتَدَّةِ صَرِيحًا , حَتَّى حَرَّمَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاءِ وَإِنْ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي انْقِضَائِهَا لَيْسَ إلَى الْمَرْأَةِ ; فَإِنَّ إبَاحَةَ الْخُطْبَةِ قَدْ تَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى اسْتِعْجَالِ الْمَرْأَةِ بِالْإِجَابَةِ وَالْكَذِبِ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا .
الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْعِدَّةِ وَفِي الْإِحْرَامِ , وَإِنْ تَأَخَّرَ الْوَطْءُ إلَى وَقْتِ الْحِلِّ لِئَلَّا يُتَّخَذَ الْعَقْدُ ذَرِيعَةً إلَى الْوَطْءِ , وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِالصِّيَامِ ; فَإِنَّ زَمَنَهُ قَرِيبٌ جِدًّا , فَلَيْسَ عَلَيْهِ كُلْفَةٌ فِي صَبْرِهِ بَعْضَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ .
الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ : أَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ الطِّيبَ عَلَى الْمُحْرِمِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَسْبَابِ دَوَاعِي الْوَطْءِ , فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ .(1/312)
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الشَّارِعَ اشْتَرَطَ لِلنِّكَاحِ شُرُوطًا زَائِدَةً عَلَى الْعَقْدِ تَقْطَعُ عَنْهُ شُبَهَ السِّفَاحِ , كَالْإِعْلَامِ , وَالْوَلِيِّ , وَمَنْعِ امْرَأَةٍ أَنْ تَلِيَهُ بِنَفْسِهَا , وَنَدَبَ إلَى إظْهَارِهِ حَتَّى اُسْتُحِبَّ فِيهِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ وَالْوَلِيمَةُ ; لِأَنَّ فِي الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ السِّفَاحِ بِصُورَةِ النِّكَاحِ , وَزَوَالِ بَعْضِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ جَحْدِ الْفِرَاشِ , ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لِلنِّكَاحِ حَرِيمًا مِنْ الْعِدَّةِ تَزِيدُ عَلَى مِقْدَار الِاسْتِبْرَاءِ , وَأَثْبَتَ لَهُ أَحْكَامًا مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَحُرْمَتِهَا وَمِنْ الْمُوَارَثَةِ زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ ; فَعُلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ سَبَبًا وَوَصْلَةً بَيْنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ تَمْنَعُ شَبَهَهُ بِالسِّفَاحِ , وَتَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ .(1/313)
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : { نَهَى أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ صَحَّ , وَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّ اقْتِرَانَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي ثَمَانِمِائَةٍ بِأَلْفٍ أُخْرَى ; فَيَكُونُ قَدْ أَعْطَاهُ أَلْفًا وَسِلْعَةً بِثَمَانِمِائَةٍ لِيَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفَيْنِ , وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا , فَانْظُرْ إلَى حِمَايَتِهِ الذَّرِيعَةَ إلَى ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ , وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْمَانِعِينَ لِمَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ بِأَنْ قَالَ : إنَّ مَنْ جَوَّزَهَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ دِينَارًا فِي مِنْدِيلٍ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مُفْرَدَةً , قَالَ : وَهَذَا ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّبَا , ثُمَّ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ الْمِنْدِيلَ بِخَمْسِمِائَةٍ , وَهَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَهُوَ مِنْ أَقْرَبِ الذَّرَائِعِ إلَى الرِّبَا , وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أَنْ يُخَالِفَ النُّصُوصَ وَيُجِيزَ ذَلِكَ , فَكَيْف يَتْرُكُ أَمْرًا وَيَرْتَكِبَ نَظِيرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؟
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الْآثَارَ الْمُتَظَاهِرَةَ فِي تَحْرِيمِ الْعِينَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عَوْدِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ إنْ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى الرِّبَا , وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ .(1/314)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ الْمُقْرِضَ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ , وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ , حَتَّى يَحْسِبَهَا مِنْ دَيْنِهِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى تَأْخِيرِ الدَّيْنِ لِأَجْلِ الْهَدِيَّةِ فَيَكُونُ رِبًا ; فَإِنَّهُ يَعُودُ إلَيْهِ مَالُهُ وَأَخَذَ الْفَضْلَ الَّذِي اسْتَفَادَهُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الْوَالِيَ وَالْقَاضِيَ وَالشَّافِعَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ , وَهُوَ أَصْلُ فَسَادِ الْعَالَمِ , وَإِسْنَادُ الْأَمْرِ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ , وَتَوْلِيَةُ الْخَوَنَةِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْعَاجِزِينَ , وَقَدْ دَخَلَ بِذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِمُهَادَاتِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ , وَحُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ , فَيَقُومُ عِنْدَهُ شَهْوَةٌ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مُكَافَأَةً لَهُ مَقْرُونَةٌ بِشَرِّهِ وَإِغْمَاضٍ عَنْ كَوْنِهِ لَا يَصْلُحُ .(1/315)
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ : إمَّا عَمْدًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ , وَإِمَّا مُبَاشَرَةً كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِمَّا قَتْلًا مَضْمُونًا بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ , وَإِمَّا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ , وَإِمَّا قَتْلًا مُطْلَقًا كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ , وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْقَاتِلُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمِيرَاثَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ فَإِنَّ رِعَايَةَ هَذَا الْقَصْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمَنْعِ وِفَاقًا , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْقَاتِلِ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ ; فَسَدَّ الشَّارِعُ الذَّرِيعَةَ بِالْمَنْعِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَرَّثُوا الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ يُتَّهَمُ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْحِرْمَانَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذَرِيعَةٌ , وَأَمَّا إذَا لَمْ يُتَّهَمْ فَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ مَأْخَذُهُ أَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهَا بِمَالِهِ ; فَلَا يُمْكِنُ مِنْ قَطْعِهِ أَوْ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إجْمَاعِ السَّابِقِينَ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعَامَّةَ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْجَمِيعِ بِالْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْقِصَاصِ يَمْنَعُ ذَلِكَ ; لِئَلَّا يَكُونَ عَدَمُ الْقِصَاصِ ذَرِيعَةً إلَى التَّعَاوُنِ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ .(1/316)
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُقْطَعَ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى إلْحَاقِ الْمَحْدُودِ بِالْكُفَّارِ , وَلِهَذَا لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْغَزْوِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ , إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ عَادَةٌ تُوَافِقُ ذَلِكَ الْيَوْمَ , وَنَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَلْحَقَ بِالْفَرْضِ مَا لَيْسَ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ حَرَّمَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ تَمْيِيزًا لِوَقْتِ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْوَاجِبِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى , ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْغَرَضَ بِاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ , وَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ , وَكَذَلِكَ نُدِبَ إلَى تَمْيِيزِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنْ نَفْلِهَا ; فَكُرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي مَكَانِهِ , وَأَنْ يَسْتَدِيمَ جُلُوسَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ , كُلُّ هَذَا سَدًّا لِلْبَابِ الْمُفْضِي إلَى أَنْ يُزَادَ فِي الْفَرْضِ مَا لَيْسَ مِنْهُ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الصَّلَاةَ إلَى مَا قَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَحَبَّ لِمَنْ صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ عَمُودٍ أَوْ شَجَرَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ , وَلَا يَصْمُدُ إلَيْهِ صَمْدًا , قَطْعًا لِذَرِيعَةِ التَّشَبُّهِ بِالسُّجُودِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى .(1/317)
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ شَرَعَ الشُّفْعَةَ وَسَلَّطَ الشَّرِيكَ عَلَى انْتِزَاعِ الشِّقْصِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ الْحَاكِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ رَفْعِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَعَنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ دُونَهُ , وَعَنْ مُشَاوَرَتِهِ وَالْقِيَامِ لَهُ دُونَ خَصْمِهِ , لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى انْكِسَارِ قَلْبِ الْآخَرِ وَضَعْفِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ وَثِقَلِ لِسَانِهِ بِهَا .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ ; لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى حُكْمِهِ بِالْبَاطِلِ وَيَقُولُ : حَكَمْت بِعِلْمِي .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَنَعَتْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بُلُوغِ غَرَضِهِ مِنْ عَدُوِّهِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ رَسُولَهُ حَيْثُ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَهُ فَيَسُبُّونَ الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ .(1/318)
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْحُدُودَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْجَرَائِمِ الَّتِي تَتَقَاضَاهَا الطِّبَاعُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا وَازِعٌ طَبْعِيٌّ , وَالْحُدُودُ عُقُوبَاتٌ لِأَرْبَابِ الْجَرَائِمِ فِي الدُّنْيَا كَمَا جُعِلَتْ عُقُوبَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ إذَا لَمْ يَتُوبُوا , ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ; فَمَنْ لَقِيَهُ تَائِبًا تَوْبَةً نَصُوحًا لَمْ يُعَذِّبْهُ مِمَّا تَابَ مِنْهُ , وَهَكَذَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إذَا تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , فَإِذَا رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ لَمْ تُسْقِطْ تَوْبَتُهُ عَنْهُ الْحَدَّ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى تَعْطِيلِ حُدُودِ اللَّهِ ; إذْ لَا يَعْجِزُ كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنْ يُظْهِرَ التَّوْبَةَ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَإِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا سَدًّا لِذَرِيعَةِ السُّكُوتِ بِالْكُلِّيَّةِ .(1/319)
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى , وَفِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ , مَعَ كَوْنِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِإِمَامَيْنِ أَقْرَبَ إلَى حُصُولِ صَلَاةِ الْأَمْنِ , وَذَلِكَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ , وَطَلَبًا لِاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ وَتَأَلُّفِ الْكَلِمَةِ , وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ , وَقَدْ سَدَّ الذَّرِيعَةَ إلَى مَا يُنَاقِضُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ , حَتَّى فِي تَسْوِيَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ ; لِئَلَّا تَخْتَلِفَ الْقُلُوبُ , وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِكَرَاهَةِ إفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ , وَكَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ وَلَيْلَتِهَا بِالْقِيَامِ , سَدًّا لِذَرِيعَةِ اتِّخَاذِ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ تَخْصِيصِ زَمَانٍ أَوْ مَكَان بِمَا لَمْ يَخُصَّهُ بِهِ ; فَفِي ذَلِكَ وُقُوعٌ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ .
الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ : أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَضْرُوبَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَضَمَّنَتْ تَمْيِيزَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اللِّبَاسِ وَالشُّعُورِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِهَا لِئَلَّا تُفْضِيَ مُشَابَهَتُهُمْ إلَى أَنْ يُعَامَلَ الْكَافِرُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ , فَسَدَتْ هَذِهِ الذَّرِيعَةُ بِإِلْزَامِهِمْ التَّمَيُّزَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ .(1/320)
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيَّ وَقَدْ أُرْسِلَ مَعَهُ هَدْيٌ إذَا عَطِبَ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ الْمَحَلِّ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيَصْبُغَ نَعْلَهُ الَّتِي قَلَّدَهُ بِهَا فِي دَمِهِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ , وَنَهَاهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ } , قَالُوا : وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُطْعِمَ أَهْلَ رُفْقَتِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَحَلِّ فَرُبَّمَا دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُقَصِّرَ فِي عَلَفِهَا وَحِفْظِهَا لِحُصُولِ غَرَضِهِ مِنْ عَطَبِهَا دُونَ الْمَحَلِّ كَحُصُولِهِ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَحَلِّ مِنْ أَكْلِهِ هُوَ وَرُفْقَتُهُ وَإِهْدَائِهِمْ إلَى أَصْحَابِهِمْ , فَإِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِ غَرَضِهِ فِي عَطَبِهَا كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى حِفْظِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مَحَلَّهَا وَأَحْسَمَ لِمَادَّةِ هَذَا الْفَسَادِ , وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ أَنْوَاعِ سَدِّ الذَّرَائِعِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُلْتَقِطَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى اللَّقْطَةِ , وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَمِينٌ , وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الطَّمَعِ وَالْكِتْمَانِ , فَإِذَا بَادَرَ وَأَشْهَدَ كَانَ أَحْسَمَ لِمَادَّةِ الطَّمَعِ وَالْكِتْمَانِ , وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَلْطَفِ أَنْوَاعِهَا .(1/321)
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ } وَذَمَّ الْخَطِيبَ الَّذِي قَالَ : مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ , وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى , سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّشْرِيكِ فِي الْمَعْنَى بِالتَّشْرِيكِ فِي اللَّفْظِ , وَحَسْمًا لِمَادَّةِ الشِّرْكِ حَتَّى فِي اللَّفْظِ , وَلِهَذَا قَالَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ : { مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت : أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا } ؟ فَحَسَمَ مَادَّةَ الشِّرْكِ وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ إلَيْهِ فِي اللَّفْظِ كَمَا سَدَّهَا فِي الْفِعْلِ وَالْقَصْدِ , فَصَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَكْمَلَ صَلَاةٍ وَأَتَمَّهَا وَأَزْكَاهَا [ وَأَعَمَّهَا ]
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا إذَا صَلَّى إمَامُهُمْ قَاعِدًا وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ ذَلِكَ , وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ مَا يَنْسَخُهُ , وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِذَرِيعَةِ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ حَيْثُ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ كَمَا عَلَّلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ , وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْهُ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ , مَعَ أَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ إذَا نَعَسَ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَرْقُدْ , وَقَالَ : لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ , فَأَمَرَهُ بِالنَّوْمِ لِئَلَّا تَكُونَ صَلَاتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِ لِنَفْسِهِ , وَهُوَ لَا يَشْعُرُ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ .(1/322)
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ الشَّارِعَ صلوات الله عليه نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي ; فَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَأْجِرُ عَلَى إجَارَتِهِ وَلَا يَخْطُبَ وِلَايَةً وَلَا مَنْصِبًا عَلَى خِطْبَتِهِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى خُرُوجِ حَيَوَانٍ يُؤْذِيه , وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مَسَاكِنِ الْجِنِّ فَيُؤْذِيهِمْ بِالْبَوْلِ , فَرُبَّمَا آذَوْهُ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبِرَازِ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ وَالْمَوَارِدِ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِاسْتِجْلَابِ اللَّعْنِ كَمَا عُلِّلَ بِهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ : { اتَّقُوا الْمُلَاعَنَ الثَّلَاثَ } وَفِي لَفْظٍ : { اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ , قَالُوا : وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ , وَفِي ظِلِّهِمْ } .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُ نَهَاهُمْ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَنْ يَقُومُوا حَتَّى يَرَوْهُ قَدْ خَرَجَ ; لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى قِيَامِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَلَوْ كَانُوا إنَّمَا يَقْصِدُونَ الْقِيَامَ لِلصَّلَاةِ , لَكِنَّ قِيَامَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ ذَرِيعَةٌ وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهَا فَنَهَوْا عَنْهُ .(1/323)
الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ أَوْ يَخْرُجَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى تَغْيِيرِ الْفَرْضِ , وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ : صَلَّيْت الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ , فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْت فِي مَقَامِي فَصَلَّيْت , فَلَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ أَرْسَلَ إلَيَّ , فَقَالَ : لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْت , إذَا صَلَّيْت الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَتَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ أَلَّا تُوصَلَ الصَّلَاةُ حَتَّى يَتَكَلَّمَ أَوْ يَخْرُجَ
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ صَلَّى فِي رَحْلِهِ ثُمَّ جَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَتَكُونَ لَهُ نَافِلَةً ; لِئَلَّا يَتَّخِذَ قُعُودَهُ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ ذَرِيعَةً إلَى إسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِ , وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُصَلِّينَ .(1/324)
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسْمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إلَّا لِمُصَلٍّ أَوْ مُسَافِرٍ , وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ النَّوْمَ قَبْلَهَا ذَرِيعَةٌ إلَى تَفْوِيتِهَا , وَالسَّمَرُ بَعْدَهَا ذَرِيعَةٌ إلَى تَفْوِيتِ قِيَامِ اللَّيْلِ , فَإِنْ عَارَضَهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَالسَّمَرِ فِي الْعِلْمِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُكْرَهْ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ إذَا صَلَّيْنَ مَعَ الرِّجَالِ أَنْ يَرْفَعْنَ رُءُوسَهُنَّ قَبْلَ الرِّجَالَ ; لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةٌ مِنْهُنَّ إلَى رُؤْيَةِ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ مِنْ وَرَاءِ الْأُزُرِ كَمَا جَاءَ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَتَخَطَّى الْمَسْجِدَ الَّذِي يَلِيه إلَى غَيْرِهِ , كَمَا رَوَاهُ بَقِيَّةُ عَنْ الْمُجَاشِعِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِيه , وَلَا يَتَخَطَّاهُ إلَى غَيْرِهِ } وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى هَجْرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِيه وَإِيحَاشِ صَدْرِ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يُتِمُّ الصَّلَاةَ أَوْ يُرْمَى بِبِدْعَةٍ أَوْ يَلْعَنُ بِفُجُورٍ فَلَا بَأْسَ بِتَخَطِّيهِ إلَى غَيْرِهِ .(1/325)
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ بَعْدَ الْأَذَانِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُصَلِّيَ ; لِئَلَّا يَكُونَ خُرُوجُهُ ذَرِيعَةً إلَى اشْتِغَالِهِ عَنْ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً كَمَا قَالَ عَمَّارٌ لِرَجُلٍ رَآهُ قَدْ خَرَجَ بَعْدَ الْأَذَانِ : " أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ " .
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاحْتِبَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الِاحْتِبَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى النَّوْمِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ نَهَى الْمَرْأَةَ إذَا خَرَجَتْ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ تَتَطَيَّبَ أَوْ تُصِيبَ بَخُورًا , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى مَيْلِ الرِّجَالِ وَتَشَوُّفِهِمْ إلَيْهَا , فَإِنَّ رَائِحَتَهَا وَزِينَتَهَا وَصُورَتَهَا وَإِبْدَاءَ مَحَاسِنِهَا تَدْعُو إلَيْهَا ; فَأَمَرَهَا أَنْ تَخْرُجَ تَفِلَةً , وَأَنْ لَا تَتَطَيَّبَ , وَأَنْ تَقِفَ خَلْفَ الرِّجَالِ , وَأَنْ لَا تُسَبِّحَ فِي الصَّلَاةِ إذَا نَابَهَا شَيْءٌ , بَلْ تُصَفِّقَ بِبَطْنِ كَفِّهَا عَلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى , كُلُّ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَحِمَايَةً عَنْ الْمَفْسَدَةِ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ تَنْعَتَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ وَحِمَايَةٌ عَنْ مُفْسِدَةِ وُقُوعِهَا فِي قَلْبِهِ وَمَيْلِهِ إلَيْهَا بِحُضُورِ صُورَتِهَا فِي نَفْسِهِ , وَكَمْ مِمَّنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ بِالْوَصْفِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ .(1/326)
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ بِالطَّرَقَاتِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمِ , فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ , قَالَ أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ , قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ , وَكَفُّ الْأَذَى , وَرَدُّ السَّلَامِ }
الْوَجْهُ السِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عِنْدَ امْرَأَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْأَجْنَبِيَّةِ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُحَرَّمِ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبَاعُ حَتَّى تُنْقَلَ عَنْ مَكَانِهَا , وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى جَحْدِ الْبَائِعِ الْبَيْعَ وَعَدَمِ إتْمَامِهِ إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي قَدْ رَبِحَ فِيهَا , فَيَغُرُّهُ الطَّمَعُ , وَتَشِحُّ نَفْسُهُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ . وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِالنَّهْيِ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ , وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَأَلْطَفُ بَابٍ لِسَدِّ الذَّرَائِعِ .(1/327)
الْوَجْه الثَّانِي وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ , وَهُوَ الشَّرْطَانِ فِي الْبَيْعِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ , وَهُوَ الَّذِي لِعَاقِدَةِ أَوْكَسُ الْبَيْعَتَيْنِ أَوْ الرِّبَا فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ , وَذَلِكَ سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الرِّبَا ; فَإِنَّهُ إذَا بَاعَهُ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَتَيْنِ حَالَّةٍ فَقَدْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ , فَإِنْ أَخَذَ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ أَخَذَ بِالرِّبَا , وَإِنْ أَخَذَ بِالنَّاقِصِ أَخَذَ بِأَوْكَسِهِمَا , وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الذَّرَائِعِ إلَى الرِّبَا , وَأَبْعَدُ كُلِّ الْبَعْدِ مِنْ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الْبَيْعِ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ أَوْ خَمْسِينَ حَالَّةٍ , وَلَيْسَ هَاهُنَا رِبًا وَلَا جَهَالَةٌ وَلَا غَرَرٌ وَلَا قِمَارٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ ; فَإِنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَيِّ الثَّمَنَيْنِ شَاءَ , وَلَيْسَ هَذَا بِأَبْعَدَ مِنْ تَخْيِيرِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْإِمْضَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَرِيعَةٌ ظَاهِرَةٌ جِدًّا إلَى الرِّبَا - وَهُمَا السَّلَفُ وَالْبَيْعُ , وَالشَّرْطَانِ فِي الْبَيْعِ - وَهَذَانِ الْعَقْدَانِ بَيْنَهُمَا مِنْ النَّسَبِ وَالْإِخَاءِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِمَا إلَى أَكْلِ الرِّبَا مَا يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ , فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ كَلَامُهُ الشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ وَالْهُدَى وَالنُّورُ .(1/328)
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْمَضَاجِعِ , وَأَنْ لَا يُتْرَكَ الذَّكَرُ يَنَامُ مَعَ الْأُنْثَى فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى نَسْجِ الشَّيْطَانِ بَيْنَهُمَا الْمُوَاصَلَةَ الْمُحَرَّمَةَ بِوَاسِطَةِ اتِّحَادِ الْفِرَاشِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الطُّولِ , وَالرَّجُلُ قَدْ يَعْبَثُ فِي نَوْمِهِ بِالْمَرْأَةِ فِي نَوْمِهَا إلَى جَانِبِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ , وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَلْطَفِ سَدِّ الذَّرَائِعِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : خَبُثَتْ نَفْسِي , وَلَكِنْ لِيَقُلْ , لَقِسَتْ نَفْسِي , سَدًّا لِذَرِيعَةِ اعْتِيَادِ اللِّسَانِ لِلْكَلَامِ الْفَاحِشِ , وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ اتِّصَافِ النَّفْسِ بِمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ ; فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ تَتَقَاضَى مَعَانِيهَا وَتَطْلُبُهَا بِالْمُشَاكَلَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى , وَلِهَذَا قَلَّ مَنْ تَجِدُهُ يَعْتَادُ لَفْظًا إلَّا وَمَعْنَاهُ غَالِبٌ عَلَيْهِ , فَسَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَرِيعَةَ الْخُبْثِ لَفْظًا وَمَعْنًى , وَهَذَا أَيْضًا أَلْطَفُ الْبَابِ .(1/329)
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَقُولَ لِغُلَامِهِ وَجَارِيَتِهِ : عَبْدِي وَأَمَتِي , وَلَكِنْ يَقُولُ : فَتَايَ وَفَتَاتِي , وَنَهَى أَنْ يَقُولَ لِغُلَامِهِ : وَضِّئْ رَبَّك , أَطْعِمْ رَبَّك , سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى , وَإِنْ كَانَ الرَّبُّ هَاهُنَا هُوَ الْمَالِكُ كَرَبِّ الدَّارِ وَرَبِّ الْإِبِلِ ; فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْعَبْدِ وَالْأُمَّةِ إلَى لَفْظِ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ , وَمَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الرَّبِّ عَلَى السَّيِّدِ , حِمَايَةً لِجَانِبِ التَّوْحِيدِ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ , وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ سَفَرَهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى الطَّمَعِ فِيهَا وَالْفُجُورِ بِهَا .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَصْدِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَكْذِيبِهِمْ فِيمَا يُحَدِّثُونَ بِهِ ; لِأَنَّ تَصْدِيقَهُمْ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى التَّصْدِيقِ بِالْبَاطِلِ وَتَكْذِيبَهُمْ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى التَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ , كَمَا عَلَّلَ بِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَمِّيَ عَبْدَهُ بِأَفْلَحَ وَنَافِعٍ وَرَبَاحٍ وَيَسَارٍ , لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى مَا يَكْرَهُ مِنْ الطِّيَرَةِ بِأَنْ يُقَالَ : لَيْسَ هَاهُنَا يَسَارٌ , وَلَا رَبَاحٌ , وَلَا أَفْلَحُ , وَإِنْ كَانَ قَصَدَ اسْمَ الْغُلَامِ , وَلَكِنْ سَدًّا لِذَرِيعَةِ اللَّفْظِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ السَّامِعُ .(1/330)
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ : أَنَّهُ نَهَى الرِّجَالَ عَنْ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ ظَاهِرَةٌ .
الْوَجْهُ السَّبْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَمَّى بِاسْمِ بَرَّةَ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِهَذَا الِاسْمِ , وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَصَدَ الْعَلَمِيَّةَ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَةُ التَّدَاوِي رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَةِ مُلَابَسَتِهَا , سَدًّا لِذَرِيعَةِ قُرْبَانِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَمَحَبَّةِ النُّفُوسِ لَهَا , فَحَسَمَ عَلَيْهَا الْمَادَّةَ حَتَّى فِي تَنَاوُلِهَا عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي , وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ سَدِّ الذَّرَائِعِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى حُزْنِهِ وَكَسْرِ قَلْبِهِ وَظَنِّهِ السُّوءَ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأَمَةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ إذَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى إرْقَاقِ وَلَدِهِ , حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ الْآيِسَاتِ مِنْ الْحَبَلِ وَالْوِلَادَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ , وَلِهَذَا مَنَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْأَسِيرَ وَالتَّاجِرَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي دَارِ الْحَرْبِ خَشْيَةَ تَعْرِيضِ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ , وَعَلَّلَهُ بِعِلَّةِ أُخْرَى , وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُ الْعَدُوِّ مِنْ مُشَارَكَتِهِ فِي زَوْجَتِهِ .(1/331)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُورَدَ مُمْرَضٌ عَلَى مُصِحٍّ : لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إمَّا إلَى إعْدَائِهِ وَإِمَّا إلَى تَأَذِّيه بِالتَّوَهُّمِ وَالْخَوْفِ , وَذَلِكَ سَبَبٌ إلَى إصَابَةِ الْمَكْرُوهِ لَهُ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ دُخُولِ دِيَارِ ثَمُودَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا بَاكِينَ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ , فَجَعَلَ الدُّخُولَ مِنْ غَيْرِ بُكَاءٍ ذَرِيعَةً إلَى إصَابَةِ الْمَكْرُوهِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَاللِّبَاسِ ; فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى ازْدِرَائِهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاحْتِقَارِهِ بِهَا , وَذَلِكَ سَبَبُ الْهَلَاكِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ إنْزَاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى قَطْعِ نَسْلِ الْخَيْلِ أَوْ تَقْلِيلِهَا , وَمِنْ هَذَا نَهْيُهُ عَنْ أَكْلِ لُحُومِهَا إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى تَقْلِيلِهَا , كَمَا نَهَاهُمْ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ عَنْ نَحْرِ ظُهُورِهِمْ لَمَّا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى لُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِمْ بِفَقْدِ الظَّهْرِ .(1/332)
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى مَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُهَا أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهَا ; فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى انْتِقَالِهَا مِنْ مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ اللَّفْظِيِّ إلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ كَمَا انْتَقَلَتْ مِنْ الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ إلَى اللَّفْظِيِّ , وَهَكَذَا عَامَّةُ الْأُمُورِ تَكُونُ فِي الذِّهْنِ أَوَّلًا ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى الذِّكْرِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى الْحِسِّ , وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَأَنْفَعِهَا , وَمَنْ تَأَمَّلَ عَامَّةَ الشَّرِّ رَآهُ مُتَنَقِّلًا فِي دَرَجَاتِ الظُّهُورِ طَبَقًا بَعْد طَبَقٍ مِنْ الذِّهْنِ إلَى اللَّفْظِ إلَى الْخَارِجِ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا , فَقَالَ : لَا , مَعَ إذْنِهِ فِي خَلِّ الْخَمْرِ الَّذِي حَصَلَ بِغَيْرِ التَّخْلِيلِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِذَرِيعَةِ إمْسَاكِهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ , إذْ لَوْ أَذِنَ فِي تَخْلِيلِهَا لَحَبَسَهَا أَصْحَابُهَا لِذَلِكَ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى الْمَحْذُورِ .
الْوَجْهُ الثَّمَانُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا , وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الْإِصَابَةِ بِمَكْرُوهٍ , وَلَعَلَّ الشَّيْطَانَ يُعِينُهُ وَيَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ الْمَحْذُورُ وَيَقْرُبُ مِنْهُ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ : أَنَّهُ أَمَرَ الْمَارَّ فِي الْمَسْجِدِ بِنِبَالٍ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى نَصْلِهَا بِيَدِهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى تَأَذِّي رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِالنِّصَالِ .(1/333)
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ : أَنَّهُ حَرَّمَ الشِّيَاعَ , وَهُوَ الْمُفَاخَرَةُ بِالْجِمَاعِ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى تَحْرِيكِ النُّفُوسِ وَالتَّشَبُّهِ , وَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ مَنْ يُغْنِيه مِنْ الْحَلَالِ فَيَتَخَطَّى إلَى الْحَرَامِ , وَمِنْ هَذَا كَانَ الْمُجَاهِرُونَ خَارِجِينَ مِنْ عَافِيَةِ اللَّهِ , وَهُمْ الْمُتَحَدِّثُونَ بِمَا فَعَلُوهُ مِنْ الْمَعَاصِي ; فَإِنَّ السَّامِعَ تَتَحَرَّكُ نَفْسُهُ إلَى التَّشَبُّهِ , وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ الْمُنْتَشِرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ تَوَاتُرَ الْبَوْلِ فِيهِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ , وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَبَوْلِ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ , وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ بِمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ أَوْ بِمَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ ; فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ لَا يَأْذَنُ لِلنَّاسِ أَنْ يَبُولُوا فِي الْمِيَاهِ الدَّائِمَةِ إذَا جَاوَزَتْ الْقُلَّتَيْنِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا , فَإِنَّ فِي ذَلِكَ [ مِنْ ] إفْسَادِ مِيَاهِ النَّاسِ وَمَوَارِدِهِمْ مَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ , فَحِكْمَةُ شَرِيعَتِهِ اقْتَضَتْ الْمَنْعَ مِنْ الْبَوْلِ فِيهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ إفْسَادِهِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ; فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ كَمَا عَلَّلَ بِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ .(1/334)
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاحْتِكَارِ , وَقَالَ : " لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ " فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى النَّاسِ أَقْوَاتَهُمْ , وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ احْتِكَارِ مَا لَا يَضُرُّ النَّاسَ . الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ; لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ فَضْلِ الْكَلَأِ كَمَا عَلَّلَ بِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ , فَجَعَلَهُ بِمَنْعِهِ مِنْ الْمَاءِ مَانِعًا مِنْ الْكَلَأِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَوَاشِي إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الشُّرْبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْمَرْعَى الَّذِي حَوْلَهُ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ , لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى قَتْلِ مَا فِي بَطْنِهَا , كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَأَمَرْت فِتْيَانِي أَنْ يَحْمِلُوا مَعَهُمْ حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ فَأُخَالِفَ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ } فَمَنْعُهُ مِنْ تَحْرِيقِ بُيُوتِهِمْ الَّتِي عَصَوْا اللَّهَ فِيهَا بِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ الْجَمَاعَةِ كَوْنُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى عُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ .(1/335)
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ إدَامَةِ النَّظَرِ إلَى الْمَجْذُومِينَ , وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُصَابُوا بِإِيذَائِهِمْ , وَهِيَ مِنْ أَلْطَفِ الذَّرَائِعِ , وَأَهْلُ الطَّبِيعَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهِ , وَهُوَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ , وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُ جَلَسَ قَرَابَةٌ لَهُ يُكَحِّلُ النَّاسَ فَرَمِدَ ثُمَّ بَرِئَ , فَجَلَسَ يُكَحِّلُهُمْ فَرَمِدَ مِرَارًا , قَالَ : فَعَلِمْت أَنَّ الطَّبِيعَةَ تَنْتَقِلُ , وَأَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ فِي أَعْيُنِ الرُّمْدِ نَقَلَتْ الطَّبِيعَةُ الرَّمَدَ إلَى عَيْنَيْهِ , وَهَذَا لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ نَوْعِ اسْتِعْدَادٍ , وَقَدْ جُبِلَتْ الطَّبِيعَةُ وَالنَّفْسُ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالْمُحَاكَاةِ .(1/336)
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَنْحَنِيَ لِلرَّجُلِ إذَا لَقِيَهُ } كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالسُّنَّةِ , بَلْ يُبَالِغُونَ إلَى أَقْصَى حَدِّ الِانْحِنَاءِ مُبَالَغَةً فِي خِلَافِ السُّنَّةِ جَهْلًا حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمْ بِصُورَةِ الرَّاكِعِ لِأَخِيهِ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ كَمَا يَفْعَل إخْوَانُهُمْ مِنْ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْ شُيُوخِهِمْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ; فَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا مِنْ الصَّلَاةِ سُجُودَهَا , وَأُولَئِكَ رُكُوعَهَا , وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ قِيَامَهَا يَقُومُ عَلَيْهِمْ النَّاسُ وَهُمْ قُعُودٌ كَمَا يَقُومُونَ فِي الصَّلَاةِ , فَتَقَاسَمَتْ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ أَجْزَاءَ الصَّلَاةِ , وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ انْحِنَاءِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ , كَمَا نَهَى عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَكَمَا نَهَاهُمْ أَنْ يَقُومُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى رَأْسِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَنَّ قِيَامَهُمْ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى , فَمَا الظَّنُّ إذَا كَانَ الْقِيَامُ تَعْظِيمًا لِلْمَخْلُوقِ وَعُبُودِيَّةً لَهُ ؟ فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .(1/337)
الْوَجْهُ التِّسْعُونَ : أَنَّهُ حَرَّمَ التَّفْرِيقَ فِي الصَّرْفِ وَبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِمِثْلِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ; لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى التَّأْجِيلِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ بَابِ الرِّبَا , فَحَمَاهُمْ مِنْ قُرْبَانِهِ بِاشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الْحَالِ , ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِيهِمْ التَّمَاثُلَ , وَأَنْ لَا يَزِيدَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يُبَاعَ مُدٌّ جَيِّدٌ بِمُدَّيْنِ رَدِيئَيْنِ وَإِنْ كَانَا يُسَاوِيَانِهِ , سَدًّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الرِّبَا , وَأَنَّهُ إذَا مَنَعَهُمْ مِنْ الزِّيَادَةِ مَعَ الْحُلُولِ حَيْثُ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ جَوْدَةٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ سِكَّةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا , فَمَنْعُهُمْ مِنْهَا حَيْثُ لَا مُقَابِلَ لَهَا إلَّا مُجَرَّدُ الْأَجَلِ أَوْلَى ; فَهَذِهِ هِيَ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ , حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : لَا يَتَبَيَّنُ لِي حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ , وَقَدْ ذَكَرَ الشَّارِعُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ بِعَيْنِهَا ; فَإِنَّهُ حَرَّمَهُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النَّسَاءِ , فَقَالَ فِي حَدِيثِ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ : { فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّمَا } وَالرِّمَا هُوَ الرِّبَا , فَتَحْرِيمُ الرِّبَا نَوْعَانِ : نَوْعٌ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَهُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ , وَنَوْعٌ حُرِّمَ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ وَسَدًّا لِلذَّرَائِعِ ; فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَكَمَالُ شَرِيعَتِهِ الْبَاهِرَةِ فِي تَحْرِيمِ النَّوْعَيْنِ , وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الذَّرَائِعَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِسَدِّهَا أَنْ يُجْعَلَ(1/338)
تَحْرِيمُ رِبَا الْفَضْلِ تَعَبُّدًا مَحْضًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ : أَنَّهُ أَبْطَلَ أَنْوَاعًا مِنْ النِّكَاحِ الَّذِي يَتَرَاضَى بِهِ الزَّوْجَانِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزِّنَا ; فَمِنْهَا النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ ; فَإِنَّهُ أَبْطَلَهُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزِّنَا ; فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يَعْجَزُ أَنْ يَقُولُ لِلْمَرْأَةِ : " أَنْكِحِينِي نَفْسَك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ " وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ , فَمَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزِّنَا , وَمِنْ هَذَا تَحْرِيمُ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الَّذِي لَا رَغْبَةَ لِلنَّفْسِ فِيهِ فِي إمْسَاكِ الْمَرْأَةِ وَاِتِّخَاذِهَا زَوْجَةً بَلْ لَهُ وَطَرٌ فِيمَا يَقْضِيه بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الصُّورَةُ , وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ الَّذِي يَعْقِدُ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ عَلَى الْمَرْأَةِ مُدَّةً يَقْضِي وَطَرَهُ مِنْهَا فِيهَا ; فَحَرَّمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا سَدًّا لِذَرِيعَةِ السِّفَاحِ , وَلَمْ يُبِحْ إلَّا عَقْدًا مُؤَبَّدًا يَقْصِدُ فِيهِ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الْمَقَامَ مَعَ صَاحِبِهِ وَيَكُونُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَحُضُورِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا مِنْ الْإِعْلَانِ ; فَإِذَا تَدَبَّرْت حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ وَتَأَمَّلْتهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ رَأَيْت تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ , هِيَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَكَمَالِهَا .(1/339)
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ : أَنَّهُ مَنَعَ الْمُتَصَدِّقَ مِنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ وَلَوْ وَجَدَهَا تُبَاعُ فِي السُّوقِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْعَوْدِ فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ لِلَّهِ وَلَوْ بِعِوَضِهِ ; فَإِنَّ الْمُتَصَدِّقَ إذَا مُنِعَ مِنْ تَمَلُّكِ صَدَقَتِهِ بِعِوَضِهَا فَتَمَلُّكُهُ إيَّاهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ أَشَدُّ مَنْعًا وَأَفْطَمُ لِلنُّفُوسِ عَنْ تَعَلُّقِهَا بِمَا خَرَجَتْ عَنْهُ لِلَّهِ , وَالصَّوَابُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَنْعِ مِنْ شِرَائِهَا مُطْلَقًا , وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى التَّحَيُّلِ عَلَى الْفَقِيرِ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةَ مَالِهِ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا , وَيَرَى الْمِسْكِينُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ - مَعَ حَاجَتِهِ - فَتَسْمَحُ نَفْسُهُ بِالْبَيْعِ , وَاَللَّهُ عَالِمٌ بِالْأَسْرَارِ , فَمِنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ وَمَنْعُ الْمُتَصَدِّقِ مِنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا , لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى أَكْلِ مَالِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ حَقٍّ إذَا كَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ , وَقَدْ يَمْنَعُهَا اللَّهَ , وَأَكَّدَ هَذَا الْغَرَضَ بِأَنْ حَكَمَ لِلْمُشْتَرِي بِالْجَائِحَةِ إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ الْجَائِزِ , كُلُّ هَذَا لِئَلَّا يُظْلَمَ الْمُشْتَرِي وَيُؤْكَلَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ .(1/340)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ : أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ بَعْدَ إصَابَةِ مَا قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا , وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى عَمَلِ الشَّيْطَانِ , فَإِنَّهُ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إلَّا الْحُزْنُ وَالنَّدَمُ وَضِيقَةُ الصَّدْرِ وَالسُّخْطُ عَلَى الْمَقْدُورِ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَقْدُورِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَذَلِكَ يُضْعِفُ رِضَاهُ وَتَسْلِيمَهُ وَتَفْوِيضَهُ وَتَصْدِيقَهُ بِالْمَقْدُورِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ , وَإِذَا أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْ هَذَا انْفَتَحَ لَهُ عَمَلُ الشَّيْطَانِ , وَمَا ذَاكَ لِمُجَرَّدِ لَفْظِ " لَوْ " بَلْ لِمَا قَارَنَهَا مِنْ الْأُمُورِ الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ الْمُنَافِيَةِ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ الْفَاتِحَةِ لِعَمَلِ الشَّيْطَانِ , بَلْ أَرْشَدَ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْقَدْرِ وَالتَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَلَا بُدَّ ; فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ , فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ كَلَامُهُ شِفَاءٌ لِلصُّدُورِ وَنُورٌ لِلْبَصَائِرِ وَحَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ وَغِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ , وَعَلَى آلِهِ ; فَلَقَدْ أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ أَتَمَّ نِعْمَةٍ , وَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ أَعْظَمَ مِنَّةٍ ; فَلِلَّهِ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْمِنَّةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ .(1/341)
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ : { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ } , وَهُمَا الرَّجُلَانِ يَقْصِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَارَاةَ الْآخَرِ وَمُبَاهَاتَهُ , إمَّا فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالرَّجُلَيْنِ يَصْنَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا دَعْوَةً يَفْتَخِرُ بِهَا عَلَى الْآخَرِ وَيُبَارِيهِ بِهَا , وَأَمَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَائِعَيْنِ يُرَخِّصُ كُلٌّ مِنْهُمَا سِلْعَتَهُ لِمَنْعِ النَّاسِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ صَاحِبِهِ , وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى كَرَاهِيَةِ الشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ , وَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ سَدَّ الذَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَسْلِيطَ النُّفُوسِ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُمَا وَأَكْلِ طَعَامِهِمَا تَفْرِيجٌ لَهُمَا وَتَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمَا وَإِغْرَاءٌ لَهُمَا عَلَى فِعْلِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَالثَّانِي : أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِهِمَا ذَرِيعَةٌ إلَى امْتِنَاعِهِمَا وَكَفِّهِمَا عَنْ ذَلِكَ .(1/342)
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ : أَنَّهُ تَعَالَى عَاقَبَ الَّذِينَ حَفَرُوا الْحَفَائِرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَوَقَعَ فِيهَا السَّمَكُ يَوْمَ السَّبْتِ فَأَخَذُوهُ يَوْمَ الْأَحَدِ وَمَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ , وَقِيلَ : إنَّهُمْ نَصَبُوا الشِّبَاكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَخَذُوا الصَّيْدَ يَوْمَ الْأَحَدِ , وَصُورَةُ الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلُوهُ مُخَالِفٌ لَمَا نُهُوا عَنْهُ , وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا الشِّبَاكَ وَالْحَفَائِرَ ذَرِيعَةً إلَى أَخْذِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ اصْطَادَ فِيهِ ; إذْ صُورَةُ الْفِعْلِ لَا اعْتِبَارَ بِهَا , بَلْ بِحَقِيقَتِهِ وَقَصْدِ فَاعِلِهِ , وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أَنْ لَا يُحَرِّمَ مِثْلَ هَذَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي نَظِيرِهِ سَوَاءٌ , وَهُوَ وَلَوْ نَصَبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ وَهُوَ مُحَرَّمٌ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ بَعْدَ الْحِلِّ , وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمَقَاصِدَ وَلَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ .(1/343)
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ , وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا الْبَيْعَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَتَضَمَّنُ الْإِعَانَةَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , وَفِي مَعْنَى هَذَا كُلُّ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ تُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِلْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ , وَبَيْعِ الرَّقِيقِ لِمَنْ يَفْسُقُ بِهِ أَوْ يُؤَاجِرُهُ لِذَلِكَ , أَوْ إجَارَةُ دَارِهِ أَوْ حَانُوتِهِ أَوْ خَانِهِ لِمَنْ يُقِيمُ فِيهَا سُوقَ الْمَعْصِيَةِ , وَبَيْعِ الشَّمْعِ أَوْ إجَارَتِهِ لِمَنْ يَعْصِي اللَّهَ عَلَيْهِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ إعَانَةٌ عَلَى مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيُسْخِطُهُ , وَمِنْ هَذَا عَصْرُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَقَدْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَالْمُعْتَصِرَ مَعًا , وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أَنْ لَا يَلْعَنَ الْعَاصِرَ , وَأَنْ يُجَوِّزَ لَهُ أَنْ يَعْصِرَ الْعِنَبَ لِكُلِّ أَحَدٍ , وَيَقُولَ : الْقَصْدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعَقْدِ , وَالذَّرَائِعُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ , وَنَحْنُ مُطَالَبُونَ فِي الظَّوَاهِرِ , وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ , وَقَدْ صَرَّحُوا بِهَذَا , وَلَا رَيْبَ فِي التَّنَافِي بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .(1/344)
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ : نَهْيُهُ عَنْ قِتَالِ الْأُمَرَاءِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ - وَإِنْ ظَلَمُوا أَوْ جَارُوا مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ , سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفَسَادِ الْعَظِيمِ وَالشَّرِّ الْكَثِيرِ بِقِتَالِهِمْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ; فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ , وَالْأُمَّةُ فِي بَقَايَا تِلْكَ الشُّرُورِ إلَى الْآنِ , وَقَالَ : { إذَا بُويِعَ الْخَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا } سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفِتْنَةِ .(1/345)
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ : جَمْعُ عُثْمَانُ الْمُصْحَفَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْقُرْآنِ , وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم . وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنْ الْأَمْثِلَةِ الْمُوَافِقِ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى الَّتِي مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ , تَفَاؤُلًا بِأَنَّهُ مَنْ أَحْصَى هَذِهِ الْوُجُوهَ وَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ الدِّينِ وَعَمِلَ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ; إذْ قَدْ يَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ لَهُ مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ , وَلِلَّهِ وَرَاءَ ذَلِكَ أَسْمَاءٌ وَأَحْكَامٌ . وَبَابُ سَدِّ الذَّرَائِعِ أَحَدُ أَرْبَاعِ التَّكْلِيفِ ; فَإِنَّهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ , وَالْأَمْرُ نَوْعَانِ ; أَحَدُهُمَا : مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ , وَالثَّانِي : وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ , وَالنَّهْيُ نَوْعَانِ ; أَحَدُهُمَا : مَا يَكُون الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَفْسَدَةً فِي نَفْسِهِ , وَالثَّانِي : مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَفْسَدَةِ ; فَصَارَ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْحَرَامِ أَحَدَ أَرْبَاعِ الدِّينِ .(1/346)
فَصْلٌ [ تَجْوِيزُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرِيعَةِ ] وَتَجْوِيزُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً ; فَإِنَّ الشَّارِعَ يَسُدُّ الطَّرِيقَ إلَى الْمَفَاسِدِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ , وَالْمُحْتَالُ يَفْتَحُ الطَّرِيقَ إلَيْهَا بِحِيلَةٍ , فَأَيْنَ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ الْجَائِزِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ إلَى مَنْ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي التَّوَصُّلِ إلَيْهِ ؟ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَضْعَافُهَا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَالْعَمَلِ بِهَا وَالْإِفْتَاءِ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثَ اللَّعْنِ وَجَدَ عَامَّتَهَا لِمَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَ اللَّهِ , وَأَسْقَطَ فَرَائِضَهُ بِالْحِيَلِ , كَقَوْلِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ , حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا } . { لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ } { لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَاتِبَ وَالشَّاهِدَ إنَّمَا يَكْتُبُ وَيَشْهَدُ عَلَى الرِّبَا الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ بِخِلَافِ رِبَا الْمُجَاهَرَةِ الظَّاهِرِ , وَلَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً : عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا عَصَرَ عِنَبًا , { وَلَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة } .(1/347)
وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ آكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ , وَالْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ , فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ , وَذَلِكَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ وَهُوَ التَّدْلِيسُ وَالتَّلْبِيسُ ; فَإِنَّ هَذِهِ تُظْهِرُ مِنْ الْخِلْقَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا , وَالْمُحَلِّلُ يُظْهِرُ مِنْ الرَّغْبَةِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ , وَآكِلُ الرِّبَا يَسْتَحِلُّهُ بِالتَّدْلِيسِ وَالْمُخَادَعَةِ فَيَظْهَرُ مِنْ عَقْدِ التَّبَايُعِ مَا لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةً , فَهَذَا يَسْتَحِلُّ الرِّبَا بِالْبَيْعِ , وَذَاكَ يَسْتَحِلُّ الزِّنَا بِاسْمِ النِّكَاحِ , فَهَذَا يُفْسِدُ الْأَمْوَالَ , وَذَاكَ يُفْسِدُ الْأَنْسَابَ , وَابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ : { مَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ الْعِقَابَ } . " وَاَللَّهُ تَعَالَى مَسَخَ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُ بِالْحِيَلِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ جَزَاءً مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ لَمَّا مَسَخُوا شَرْعَهُ وَغَيَّرُوهُ عَنْ وَجْهِهِ مَسَخَ وُجُوهَهُمْ وَغَيْرَهَا عَنْ خِلْقَتِهَا , وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ أَهْلَ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ , وَمَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ , وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمُخَالَفَةِ ظَوَاهِرِهِمْ لِبَوَاطِنِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ لِعَلَانِيَتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ لِأَفْعَالِهِمْ .(1/348)
وَهَذَا شَأْنُ أَرْبَابِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ , وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ هِيَ الِاحْتِيَالُ وَالْمُرَاوَغَةُ بِإِظْهَارِ أَمْرٍ جَائِزٍ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى أَمْرٍ مُحَرَّمٍ يُبْطِنُهُ , وَلِهَذَا يُقَالُ : " طَرِيقٌ خَيْدَعٌ " إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَصْدِ لَا يُفْطَنُ لَهُ , وَيُقَالُ لِلسَّرَابِ : " الْخَيْدَعُ " لِأَنَّهُ يَخْدَعُ مَنْ يَرَاهُ وَيَغُرُّهُ وَظَاهِرُهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ , وَيُقَالُ لِلضَّبِّ : " خَادِعٌ " وَفِي الْمَثَلِ : " أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ " لِمُرَاوَغَتِهِ . وَقَالَ : " سُوقٌ خَادِعَةٌ " أَيْ مُتَلَوِّنَةٌ , وَأَصْلُهُ الِاخْتِفَاءُ وَالسَّتْرُ , وَمِنْهُ " الْمَخْدَعُ " فِي الْبَيْتِ ; فَوَازَنَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ : آمَنَا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ; إنْشَاءً لِلْإِيمَانِ وَإِخْبَارًا بِهِ , وَهُوَ غَيْرُ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَا قَاصِدٍ لَهُ وَلَا مُطْمَئِنٍّ بِهِ , وَإِنَّمَا قَالَهُ , مُتَوَسِّلًا بِهِ إلَى أَمْنِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ أَوْ نَيْلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ , وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُرَابِي : بِعْتُك هَذِهِ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ .(1/349)
وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرَضٌ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , وَلَيْسَ مُبْطِنًا لِحَقِيقَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ , وَلَا قَاصِدًا لَهُ وَلَا مُطْمَئِنًّا بِهِ , وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَا مُتَوَسِّلًا إلَى الرِّبَا , وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُحَلِّلِ : تَزَوَّجْت هَذِهِ الْمَرْأَةَ , أَوْ قَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ , وَهُوَ غَيْرُ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَةِ النِّكَاحِ , وَلَا قَاصِدٍ لَهُ وَلَا مُرِيدٍ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ بِوَجْهٍ , وَلَا هِيَ مُرِيدَةٌ لِذَلِكَ وَلَا الْوَلِيُّ , هَلْ تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ الْعُرْفِ ؟ فَكَيْف يُسَمَّى أَحَدُهُمَا مُخَادِعًا دُونَ الْآخَرِ , مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَاقْتَرَضْت وَأَنْكَحْت وَتَزَوَّجْت غَيْرُ قَاصِدٍ بِهِ انْتِقَالَ الْمِلْكِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَلَا يَنْوِي النِّكَاحَ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بَلْ قَصْدُهُ مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ أَوْ أَمْرٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَهُوَ عَوْدُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ . وَعَوْدُ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ بِمُبَاشَرَتِهِ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا حَقَائِقُ وَمَقَاصِدُ مُظْهِرًا لِإِرَادَةِ حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَمُبْطِنًا لِخِلَافِهِ ; فَالْأَوَّلُ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ , وَهَذَا نِفَاقٌ فِي فُرُوعِهِ , يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا , أَيُحِلُّهَا لَهُ رَجُلٌ ؟ فَقَالَ : مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ .(1/350)
وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ الْعِينَةِ , فَقَالَا : إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ , هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَسَمَّيَا ذَلِكَ خِدَاعًا , كَمَا سَمَّى عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ نِكَاحَ دُلْسَةٍ , وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ فِي أَهْلِ الْحِيَلِ : يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ , فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ , وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْحِيَلِ : هُوَ كِتَابُ الْمُخَادَعَةِ .
[(1/351)
دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ ] وَتَلْخِيصُ هَذَا أَنَّ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ , وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ حَرَامٌ : أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ - وَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعَانِيهِ - سَمَّوْا ذَلِكَ خِدَاعًا , وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ أَهْلَ الْخِدَاعِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ خِدَاعَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ , وَأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضًا , وَأَنَّهُ تَعَالَى خَادِعُهُمْ , فَكُلُّ هَذَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ , وَمَدَارُ الْخِدَاعِ عَلَى أَصْلَيْنِ ; أَحَدُهُمَا : إظْهَارُ فِعْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي جَعَلَ لَهُ , الثَّانِي : إظْهَارُ قَوْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ , وَهَذَا مُنْطَبِقٌ عَلَى الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ , وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَحَيِّلِينَ عَلَى إسْقَاطِ نَصِيبِ الْمَسَاكِينِ وَقْتَ الْجِدَادِ بِجَدِّ جَنَّتِهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِهْلَاكِ ثِمَارِهِمْ , فَكَيْفَ بِالْمُتَحَيِّلِ عَلَى إسْقَاطِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ ؟ وَلَعَنَ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ عَلَى احْتِيَالِهِمْ عَلَى فِعْلِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ .(1/352)
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } قَالَ : رَمَوْا الْحِيتَانَ فِي السَّبْتِ , ثُمَّ أَرْجَئُوهَا فِي الْمَاءِ , فَاسْتَخْرَجُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ , فَطَبَخُوهَا فَأَكَلُوهَا , وَاَللَّهِ أَوْخَمُ أَكْلَةٍ أَكْلَةٌ أَسْرَعَتْ فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةً وَأَسْرَعَتْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ , وَاَللَّهِ مَا كَانَتْ لُحُومُ الْحِيتَانِ تِلْكَ بِأَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دِمَاءِ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ , إلَّا أَنَّهُ عَجَّلَ لِهَؤُلَاءِ وَأَخَّرَ لِهَؤُلَاءِ . وَقَوْلُهُ : " رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ " يَعْنِي احْتَالُوا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا بَيَّنَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ حَفَرُوا لَهَا حِيَاضًا ثُمَّ فَتَحُوهَا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ , وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُمْ بَاشَرُوا رَمْيَهَا يَوْمَ السَّبْتِ ; إذْ لَوْ اجْتَرَءُوا عَلَى ذَلِكَ لَاسْتَخْرَجُوهَا , قَالَ شَيْخُنَا : وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْفُرُوا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمُوسَى , وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَأْوِيلًا وَاحْتِيَالًا ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ الِاتِّقَاءِ وَحَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الِاعْتِدَاءِ , وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُسِخُوا قِرَدَةً لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرْدِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ , وَفِي بَعْضِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ شَبَهٌ مِنْهُ , وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ , فَلَمَّا مَسَخَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ دِينَ اللَّهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَسَّكُوا إلَّا بِمَا يُشْبِهُ الدِّينَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً تُشْبِهُ الْإِنْسَانَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ الْحَقِيقَةِ , جَزَاءً وِفَاقًا .(1/353)
وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكَلُوا الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ , وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ , وَلَمْ يُعَاقِبْ أُولَئِكَ بِالْمَسْخِ كَمَا عُوقِبَ بِهِ مَنْ اسْتَحَلَّ الْحَرَامَ بِالْحِيلَةِ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَعْظَمَ , فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِالذَّنْبِ بَلْ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ , بِخِلَافِ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَرِنُ بِمَعْصِيَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالتَّحْرِيمِ وَخَشْيَتُهُ لِلَّهِ وَاسْتِغْفَارُهُ وَتَوْبَتُهُ يَوْمًا مَا , وَاعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ عَاصٍ , وَانْكِسَارُ قَلْبِهِ مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ , وَازْدِرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ , وَرَجَاؤُهُ لِمَغْفِرَةِ رَبِّهِ لَهُ , وَعَدُّ نَفْسِهِ مِنْ الْمُذْنِبِينَ الْخَاطِئِينَ , وَهَذَا كُلُّهُ إيمَانٌ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى خَيْرٍ , بِخِلَافِ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ الْمُحْتَالِ عَلَى قَلْبِ دِينِ اللَّهِ , وَلِهَذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْحِيَلِ فَقَالَ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَوْ هَذِهِ الْفَعْلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا بِأَهْلِهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .(1/354)
فَحَقِيقٌ بِمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَخَافَ نَكَالَهُ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلَالَ مَحَارِمِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ , وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخَلِّصُهُ مِنْ اللَّهِ مَا أَظْهَرَهُ مَكْرًا وَخَدِيعَةً مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ , وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لِلَّهِ يَوْمًا تَكِعُّ فِيهِ الرِّجَالُ , وَتُنْسَفُ فِيهِ الْجِبَالُ , وَتَتَرَادَفُ فِيهِ الْأَهْوَالُ , وَتَشْهَدُ فِيهِ الْجَوَارِحُ وَالْأَوْصَالُ , وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ , وَتَظْهَرُ فِيهِ الضَّمَائِرُ , وَيَصِيرُ الْبَاطِلُ فِيهِ ظَاهِرًا , وَالسِّرُّ عَلَانِيَةً , وَالْمَسْتُورُ مَكْشُوفًا , وَالْمَجْهُولُ مَعْرُوفًا , وَيُحَصَّلُ وَيَبْدُو مَا فِي الصُّدُورِ , كَمَا يُبَعْثَرُ وَيَخْرُجُ مَا فِي الْقُبُورِ , وَتَجْرِي أَحْكَامُ الرَّبِّ تَعَالَى هُنَالِكَ عَلَى الْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ , كَمَا جَرَتْ أَحْكَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَقْوَالِ وَالْحَرَكَاتِ , يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا مِنْ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ لِلْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ , وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا مِنْ الْخَدِيعَةِ وَالْغِشِّ وَالْكَذِبِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ , هُنَالِكَ يَعْلَمُ الْمُخَادِعُونَ أَنَّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَخْدَعُونَ , وَبِدِينِهِمْ كَانُوا يَلْعَبُونَ , وَمَا يَمْكُرُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ . [ الْأَعْمَالُ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِ عَامِلِهَا ] وَقَدْ فَصَّلَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى } الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ وَأَنْوَاعِهَا .(1/355)
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِهَا وَنِيَّاتِهَا , وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ وَأَبْطَنَهُ لَا مَا أَعْلَنَهُ وَأَظْهَرَهُ , وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَنْ نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ مُحَلِّلًا , وَمَنْ نَوَى الرِّبَا بِعَقْدِ التَّبَايُعِ كَانَ رَابِيًا , وَمَنْ نَوَى الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ كَانَ مَاكِرًا مُخَادِعًا . وَيَكْفِي هَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ , وَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ حَافِظُ الْأُمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ إبْطَالَ الْحِيَلِ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبْطَلَ ظَاهِرَ هِجْرَةِ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ بِمَا أَبْطَنَهُ وَنَوَاهُ مِنْ إرَادَةِ أُمِّ قَيْسٍ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا , إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ } .(1/356)
" فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ : فِيهِ إبْطَالُ الْحِيَلِ , وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ ; فَإِنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ مَشَى خُطُوَاتٍ , وَلَا إشْكَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ , وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ ; فَإِنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ حِكْمَةً وَمَصْلَحَةً لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ , وَلِيَحْصُلَ تَمَامُ الرِّضَى الَّذِي شَرَطَهُ تَعَالَى فِيهِ ; فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ وَلَا نَظَرٍ فِي الْقِيمَةِ , فَاقْتَضَتْ مَحَاسِنُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعَقْدِ حَرِيمًا يَتَرَوَّى فِيهِ الْمُتَبَايِعَانِ , وَيُعِيدَانِ النَّظَرَ , وَيَسْتَدْرِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبًا كَانَ خَفِيًّا .(1/357)
فَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ , وَلَا أَرْفَقَ لِمَصْلَحَةِ الْخَلْقِ ; فَلَوْ مَكَّنَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْغَابِنَ لِلْآخَرِ مِنْ النُّهُوضِ فِي الْحَالِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَى التَّفَرُّقِ لَفَاتَتْ مَصْلَحَةُ الْآخَرِ , وَمَقْصُودُ الْخِيَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ , وَهَبْ أَنَّك أَنْتَ اخْتَرْت إمْضَاءَ الْبَيْعِ فَصَاحِبُكَ لَمْ يَتَّسِعْ لَهُ وَقْتٌ يَنْظُرُ فِيهِ وَيَتَرَوَّى , فَنُهُوضُك حِيلَةٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الْخِيَارِ , فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُخَيِّرَهُ ; فَلَوْ فَارَقَ الْمَجْلِسَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْحَاجَةِ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ الْخِيَارِ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ , وَلَا يُقَالُ : هُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى إسْقَاطِ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ الْخِيَارِ ; لِأَنَّ بَابَ سَدِّ الذَّرَائِعِ مَتَى فَاتَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ أَوْ تَضَمَّنَ مَفْسَدَةً رَاجِحَةً لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ . فَلَوْ مَنَعَ الْعَاقِدَ مِنْ التَّفَرُّقِ حَتَّى يَقُومَ الْآخَرُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ وَمَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ ; فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَوْفَقُهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } .(1/358)
أَيْ أَسْهَلِهَا وَأَقْرَبِهَا , وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَدْنَى الْحِيَلِ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا مَثَلًا مِنْ أَسْهَلِ الْحِيَلِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ التُّيُوسِ الْمُسْتَعَارَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَسْتَعِيرَهُ لِيَنْزُوَ عَلَى امْرَأَتِهِ نَزْوَةً وَقَدْ طَيَّبَهَا لَهُ , بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي هِيَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهَا يَصْعُبُ مَعَهَا عَوْدُهَا إلَى الْأَوَّلِ جِدًّا , وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ , فَمِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا إلَّا دِرْهَمًا بِاسْمِ الْقَرْضِ وَيَبِيعَهُ خِرْقَةً تُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةٍ , وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ حِيلَةُ الْيَهُودِ بِنَصْبِ الشِّبَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَخْذِ مَا وَقَعَ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ أَسْهَل الْحِيَلِ . وَكَذَلِكَ إذَابَتُهُمْ الشَّحْمَ وَبَيْعُهُ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ : ثنا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ , وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ , وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ , وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَلَاءً فَلَا يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ } . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .(1/359)
قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه : وَهَذَانِ إسْنَادَانِ حَسَنَانِ ; أَحَدُهُمَا يَشُدُّ الْآخَرَ وَيُقَوِّيه , فَأَمَّا رِجَالُ الْأَوَّلِ فَأَئِمَّةٌ مَشَاهِيرُ , وَلَكِنْ يُخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَعْمَشُ سَمِعَهُ مِنْ عَطَاءٍ أَوْ أَنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ ; فَالْإِسْنَادُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ; فَإِنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ , وَحَيْوَةَ بْنَ شُرَيْحٍ كَذَلِكَ وَأَفْضَلُ . وَأَمَّا إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَشَيْخٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةُ الْمِصْرِيِّينَ مِثْلُ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ . قَالَ : فَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ مِنْ حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ الْجُنَيْدِ سَابُورِيٍّ بِإِسْنَادٍ مَشْهُورٍ إلَيْهِ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُشَيْدٍ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا مِنَّا رَجُلٌ يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ .(1/360)
وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ , وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ , وَتَرَكُوا الْجِهَادَ , وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ ; أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنْ عَطَاءٍ , وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِمُطَيَّنٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ لَهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ , فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ , هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَرَوَى أَيْضًا فِي كِتَابِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : اتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَةَ , لَا تَبِعْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ , وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ حَرِيرَةً بِمِائَةٍ , ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ , فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ , فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةً دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ . وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ الْعِينَةِ - يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ - فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ , هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ } . يَعْنِي الْعِينَةَ , وَهَذَا الْمُرْسَلُ صَالِحٌ لِلِاعْتِضَادِ بِهِ وَالِاسْتِشْهَادِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ الِاعْتِمَادُ .(1/361)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثنا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ : " أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَامْرَأَةٍ أُخْرَى فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدٍ : إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِ مِائَةٍ نَسِيئَةً , وَاشْتَرَيْته بِسِتِّ مِائَةٍ نَقْدًا , فَقَالَتْ : أَبْلَغِي زَيْدًا أَنْ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , إلَّا أَنْ يَتُوبَ , بِئْسَمَا شَرَيْت , وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت " . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَمِلَ بِهِ , وَهَذَا حَدِيثٌ فِيهِ شُعْبَةُ , وَإِذَا كَانَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثٍ فَاشْدُدْ يَدَيْك بِهِ , فَمَنْ جَعَلَ شُعْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ لِدِينِهِ . وَأَيْضًا فَهَذِهِ امْرَأَةُ أَبِي إسْحَاقَ وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْكِبَارِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِامْرَأَتِهِ وَبِعَدَالَتِهَا , فَلَمْ يَكُنْ لِيَرْوِيَ عَنْهَا سُنَّةً يُحَرِّمُ بِهَا عَلَى الْأُمَّةِ وَهِيَ عِنْدَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِكَلِمَةٍ , بَلْ يُحَابِيهَا فِي دِينِ اللَّهِ , هَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ دُونَ أَبِي إسْحَاقَ , وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ وَسَمِعَتْ مِنْهَا وَرَوَتْ عَنْهَا , وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ قَدَحَ فِيهَا بِكَلِمَةٍ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالْفِسْقَ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِي التَّابِعِينَ بِحَيْثُ تُرَدُّ بِهِ رِوَايَتُهُمْ .(1/362)
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ مَعْرُوفَةٌ , وَاسْمُهَا الْعَالِيَةُ , وَهِيَ جَدَّةُ إسْرَائِيلَ , كَمَا رَوَاهُ حَرْبٌ مِنْ حَدِيثِ إسْرَائِيلَ : حَدَّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ عَنْ جَدَّتِهِ الْعَالِيَةِ يَعْنِي جَدَّةَ إسْرَائِيلَ ; فَإِنَّهُ إسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إسْحَاقَ , وَالْعَالِيَةُ امْرَأَةُ أَبِي إسْحَاقَ وَجَدَّةُ يُونُسَ , وَقَدْ حَمَلَا عَنْهَا هَذِهِ السُّنَّةَ - وَإِسْرَائِيلُ أَعْلَمُ بِجَدَّتِهِ وَأَبُو إسْحَاقَ أَعْلَمُ بِامْرَأَتِهِ . وَأَيْضًا فَلَمْ يُعْرَفْ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ التَّابِعِينَ أَنْكَرَ عَلَى الْعَالِيَةِ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَا قَدَحَ فِيهَا مِنْ أَجْلِهِ , وَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَرْوِيَ حَدِيثًا بَاطِلًا وَيَشْتَهِرَ فِي الْأُمَّةِ وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهَا مُنْكِرٌ وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَأْتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَثَرٌ لَكَانَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ وَحِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمَهَا أَعْظَمَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا ; فَإِنَّهَا رِبَا مُسْتَحَلٌّ بِأَدْنَى الْحِيَلِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً , وَعِنْدَ الْحُفَّاظِ إذَا كَانَ فِيهِ قِصَّةٌ دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَحْفُوظٌ .(1/363)
قَالَ أَبُو إسْحَاقَ : حَدَّثَتْنِي امْرَأَتِي الْعَالِيَةُ , قَالَتْ : دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ , فَقَالَتْ : مَا حَاجَتُكُنَّ ؟ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَهَا أُمُّ مَحَبَّةٍ , فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ , قَالَتْ : فَإِنِّي بِعْته جَارِيَةً لِي بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ , وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا , فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى , فَقَالَتْ : بِئْسَمَا شَرَيْت , وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت , أَبْلَغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ , وَأَفْحَمَتْ صَاحِبَتَنَا فَلَمْ تَكَلَّمْ طَوِيلًا , ثُمَّ إنَّهَا سَهُلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي ؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } وَأَيْضًا فَهَذَا الْحَدِيثُ إذَا انْضَمَّ إلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَفَادَتْ بِمَجْمُوعِهَا الظَّنَّ الْغَالِبَ إنْ لَمْ تُفِدْ الْيَقِينَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ آثَارَ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مُوَافِقَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ , مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ , مُفَسِّرَةٌ لَهُ .(1/364)
وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَعَنَتْ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ , وَبَالَغَتْ فِي تَحْرِيمِهِ , وَآذَنَتْ صَاحِبَهُ بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , أَنْ تُبِيحَهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْمَفْسَدَةِ ؟ وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها عِلْمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَسْتَرِيبُ فِيهِ وَلَا تَشُكُّ بِتَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ لَمَا أَقْدَمَتْ عَلَى الْحُكْمِ بِإِبْطَالِ جِهَادِ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِاجْتِهَادِهَا , لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَلَ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ , وَاسْتِحْلَالُ الرِّبَا رِدَّةٌ , وَلَكِنَّ عُذْرَ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ , كَمَا عُذِرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِإِبَاحَتِهِ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهَا هَذَا , بَلْ قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُقَاوِمُ إثْمُهَا ثَوَابَ الْجِهَادِ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً وَسَيِّئَةً بِقَدْرِهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا , وَلَوْ كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا مِنْهَا لَمْ تَمْنَعْ زَيْدًا مِنْهُ , وَلَمْ تَحْكُمْ بِبُطْلَانِ جِهَادِهِ , وَلَمْ تَدْعُهُ إلَى التَّوْبَةِ ; فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُحَرِّمُ الِاجْتِهَادَ , وَلَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ عَمَلِ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَهِدِ بِمُخَالَفَتِهِ لِاجْتِهَادِ نَظِيرِهِ , وَالصَّحَابَةُ - وَلَا سِيَّمَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ - أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَأَفْقَهُ فِي دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ .(1/365)
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ , وَغَلَّظُوا فِيهَا هَذَا التَّغْلِيظَ فِي أَوْقَاتٍ وَوَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ ; فَلَمْ يَجِئْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ , فَيَكُونُ إجْمَاعًا . فَإِنْ قِيلَ : فَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَدْ خَالَفَ عَائِشَةَ وَمَنْ ذَكَرْتُمْ , فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ ذَاتُ قَوْلَيْنِ لِلصَّحَابَةِ , وَهِيَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ . قِيلَ : لَمْ يَقُلْ زَيْدٌ قَطُّ إنَّ هَذَا حَلَالٌ , وَلَا أَفْتَى بِهَا يَوْمًا مَا , وَمَذْهَبُ الرَّجُلِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِهِ ; إذْ لَعَلَّهُ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ ذَاهِلًا أَوْ غَيْرَ مُتَأَمِّلٍ وَلَا نَاظِرٍ أَوْ مُتَأَوِّلًا أَوْ ذَنْبًا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ وَيَتُوبُ أَوْ يُصِرُّ عَلَيْهِ وَلَهُ حَسَنَاتٌ تُقَاوِمُهُ , فَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا .(1/366)
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْعِلْمُ عِلْمُ الرِّوَايَةِ , يَعْنِي أَنْ يَقُولَ : رَأَيْت فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ; إذْ لَعَلَّهُ قَدْ فَعَلَهُ سَاهِيًا , وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ : لَا تَنْظُرْ إلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ , وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ , وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ أَقَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ إنْكَارِ عَائِشَةَ , وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ الْكَبِيرَ الشَّيْءَ مَعَ ذُهُولِهِ عَمَّا فِي ضِمْنِهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ فَإِذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ , وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْحُكْمِ , وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ : مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَوَازُ الْعِينَةِ , لَا سِيَّمَا وَأُمُّ وَلَدِهِ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ تَسْتَفْتِيهَا فَأَفْتَتْهَا بِأَخْذِ رَأْسِ مَالِهَا , وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا جَازِمَيْنِ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَجَوَازِهِ , وَأَنَّهُ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَأَيْضًا فَبَيْعُ الْعِينَة إنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا مِنْ مُضْطَرٍّ إلَيْهَا , وَإِلَّا فَالْمُسْتَغْنِي عَنْهَا لَا يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي مُقَابِلَةِ أَلْفٍ بِلَا ضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ , وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ , وَبَيْعِ الْغَرَرِ , وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ } .(1/367)
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْهُ قَالَ : " سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ , وَلَمْ يُؤَثِّرْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } وَيَنْهَرُ الْأَشْرَارُ , وَيُسْتَذَلُّ الْأَخْيَارُ , وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ , وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ , وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ , وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ } .(1/368)
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ مَكْحُولٍ : بَلَغَنِي عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانًا عَضُوضًا , يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ , وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } وَيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ , يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ , أَلَا أَنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ , الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخُونُهُ , إنْ كَانَ عِنْدَك خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيك وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إلَى هَلَاكِهِ } وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ , فَإِنَّ عَامَّةَ الْعِينَةُ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ مُضْطَرٍّ إلَى نَفَقَةٍ يَضِنُّ بِهَا عَلَيْهِ الْمُوسِرُ بِالْقَرْضِ حَتَّى يَرْبَحَ عَلَيْهِ فِي الْمِائَةِ مَا أَحَبَّ , وَهَذَا الْمُضْطَرُّ إنْ أَعَادَ السِّلْعَةَ إلَى بَائِعِهَا فَهِيَ الْعِينَةُ , وَإِنْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ فَهُوَ التَّوَرُّقُ , وَإِنْ رَجَعَتْ إلَى ثَالِثٍ يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُحَلِّلُ الرِّبَا , وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ يَعْتَمِدُهَا الْمُرَابُونَ , وَأَخَفُّهَا التَّوَرُّقُ , وَقَدْ كَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَقَالَ : هُوَ أُخَيَّةُ الرِّبَا وَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ , وَأَشَارَ فِي رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ إلَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ , وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ رضي الله عنه , قَالَ : فَإِنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مُضْطَرٌّ , وَكَانَ شَيْخُنَا رحمه الله يَمْنَعُ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ , وَرُوجِعَ فِيهَا(1/369)
مِرَارًا وَأَنَا حَاضِرٌ , فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهَا , وَقَالَ : الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حُرِّمَ الرِّبَا مَوْجُودٌ فِيهَا بِعَيْنِهِ مَعَ زِيَادَةِ الْكُلْفَةِ بِشِرَاءِ السِّلْعَةِ وَبَيْعِهَا وَالْخَسَارَةِ فِيهَا ; فَالشَّرِيعَةُ لَا تُحَرِّمُ الضَّرَرَ الْأَدْنَى وَتُبِيحُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَال عَلَى تَحْرِيمِ الْعِينَةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ , وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ } وَبِقَوْلِهِ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ إلَّا عَلَى الْعِينَةِ .
[(1/370)
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ ] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ , مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ , وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ { يَحْيَى بْنِ أَبِي إسْحَاقَ قَالَ : سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : الرَّجُلُ مِنَّا يُقْرِضُ أَخَاهُ الْمَالَ فَيُهْدِي إلَيْهِ , فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأُهْدِيَ إلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ } رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الضَّبِّيَّ عَنْ يَحْيَى . قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه : وَهَذَا يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ الْهُنَائِيُّ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ , وَعُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْهُنَائِيِّ . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ مَعَ تَشَدُّدِهِ : هُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ , وَقَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ثِقَةٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ , وَرَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ , لَكِنْ قَالَ : عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي إسْحَاقَ الْهُنَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْهُنَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ : { إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذْ هَدِيَّةً } قَالَ شَيْخُنَا : وَأَظُنُّهُ هُوَ ذَاكَ انْقَلَبَ اسْمُهُ .(1/371)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَةَ , فَلَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ , فَقَالَ لِي : إنَّك بِأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ , فَإِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إلَيْك حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا , وَفِي سُنَنِ سَعِيدٍ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ , وَجَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَأَتَى رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ : إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَأَهْدَى إلَيَّ هَدِيَّةً جَزْلَةً , فَقَالَ : رُدَّ إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ أَوْ اُحْسُبْهَا لَهُ , وَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا يَبِيعُ السَّمَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا , فَأَهْدَى إلَيَّ سَمَكَةً قَوَّمْتهَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا , فَقَالَ : خُذْ مِنْهُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ , ذَكَرَهُمَا سَعِيدٌ , وَذَكَرَ حَرْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا أَسْلَفْت رَجُلًا سَلَفًا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ هَدِيَّةً وَلَا عَارِيَّةً رُكُوبَ دَابَّةٍ ; فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ قَبْلَ الْوَفَاءِ ; فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْهَدِيَّةِ أَنْ يُؤْجِرَ الِاقْتِضَاءَ - وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ - سَدًّا لِذَرِيعَةِ الرِّبَا , فَكَيْفَ تَجُوزُ الْحِيلَةُ عَلَى الرِّبَا ؟ وَمَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ وَلَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ وَلَمْ يُحَرِّمْ الْحِيَلَ يُبِيحُ ذَلِكَ كُلَّهُ , وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَدْيُ أَصْحَابِهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ السَّلَفِ(1/372)
وَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ حِيلَةً إلَى الرِّبَا . [ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ ] وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ , وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْن مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الْحِيلَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى إسْقَاطِ الزَّكَاةِ أَوْ تَنْقِيصِهَا بِسَبَبِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ , فَإِذَا بَاعَ بَعْضَ النِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَحَيُّلًا عَلَى إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ , فَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ بِالْفِرَارِ مِنْهَا , وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا قوله تعالى : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : لَا تُعْطِ عَطَاءً تَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْهُ , وَهُوَ أَنْ تُهْدِيَ لِيُهْدَى إلَيْك أَكْثَرُ مِنْ هَدِيَّتِك . وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُوَرَ الْعُقُودِ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي حِلِّهَا وَحُصُولِ أَحْكَامِهَا إلَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا قَصْدًا فَاسِدًا , وَكُلُّ مَا لَوْ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ حَرَامًا فَاسِدًا فَقَصْدُهُ حَرَامٌ فَاسِدٌ , وَاشْتِرَاطُهُ إعْلَانُ إظْهَارٍ لِلْفَسَادِ , وَقَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ غِشٌّ وَخِدَاعٌ وَمَكْرٌ ; فَقَدْ يَكُونُ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ الِاشْتِرَاطِ ظَاهِرًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , وَالِاشْتِرَاطُ الظَّاهِرُ أَشَدُّ فَسَادًا مِنْهُ مِنْ جِهَةِ إعْلَانِ الْمُحَرَّمِ وَإِظْهَارِهِ . [(1/373)
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ أَيْضًا ] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا , وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ , بَلْ هِيَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ وَآكَدِهَا , وَمَنْ جَعَلَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ لِدِينِهِ . بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا , وَأَقَرَّهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ , وَأَفْتَى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِلُّ بِنِكَاحِ التَّحْلِيلِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ كَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ , وَجَعَلُوا قَبُولَهَا رِبًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ تَحْرِيمُ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ , وَالتَّغْلِيظُ فِيهَا , وَأَفْتَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمَبْثُوثَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ , وَوَافَقَهُمْ سَائِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَمَنْ عَدَاهُمْ .(1/374)
وَهَذِهِ وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي أَزْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ , وَالْعَادَةُ تُوجِبُ اشْتِهَارَهَا وَظُهُورَهَا بَيْنَهُمْ , لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ أَعْيَانُ الْمُفْتِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانَتْ تَضْبِطُ أَقْوَالَهُمْ , وَتَنْتَهِي إلَيْهِمْ فَتَاوِيهمْ , وَالنَّاسُ عُنُقٌ وَاحِدٌ إلَيْهِمْ مُتَلَقُّونَ لِفَتَاوِيهِمْ , وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الْإِنْكَارُ وَلَا إبَاحَةُ الْحِيَلِ مَعَ تَبَاعُدِ الْأَوْقَاتِ وَزَوَالِ أَسْبَابِ السُّكُوتِ , وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالْعِينَةِ وَهَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ إلَى الْمُقْرِضِ فَمَاذَا يَقُولُونَ فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ , بَلْ لِإِسْقَاطِ حُقُوقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَإِخْرَاجِ الْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ عَنْ مِلْكِ أَرْبَابِهَا , وَتَصْحِيحِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ ؟ وَقَدْ صَانَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرَوْا فِي وَقْتِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوْ يُفْتِي بِهِ , كَمَا صَانَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّة وَأَضْرَابِهِمْ , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَنْهُمْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا .(1/375)
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَكُلُّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْآثَارِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ ثُمَّ أَنْصَفَ لَمْ يَشُكَّ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا وَمُنَافَاتِهَا لِلدِّينِ أَقْوَى مِنْ تَقْرِيرِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُدَّعَى فِيهِ إجْمَاعُهُمْ , كَدَعْوَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ , وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ , وَعَلَى الْإِلْزَامِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ , وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَإِذَا وَازَنْت بَيْنَ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَتِلْكَ الْإِجْمَاعَاتِ ظَهَرَ لَك التَّفَاوُتُ , وَانْضَمَّ إلَى هَذَا أَنَّ التَّابِعِينَ مُوَافِقُونَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ , وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كَأَيُّوبَ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ , وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ .(1/376)
وَهَذَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ , فَإِنَّهُ انْضَمَّ إلَى كَثْرَةِ فَتَاوِيهِمْ بِالتَّحْرِيمِ فِي أَفْرَادِ هَذَا الْأَصْلِ وَانْتِشَارِهَا أَنَّ عَصْرَهُمْ انْصَرَمَ , وَبُقَعُ الْإِسْلَامِ مُتَّسِعَةٌ , وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا , وَقَدْ اتَّسَعَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمَ اتِّسَاعٍ , وَكَثُرَ مَنْ كَانَ يَتَعَدَّى الْحُدُودَ , وَكَانَ الْمُقْتَضِي لِوُجُودِ هَذِهِ الْحِيَلِ مَوْجُودًا فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَفْتَى بِحِيلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا أَوْ دَلَّ عَلَيْهَا , بَلْ الْمَحْفُوظُ عَنْهُمْ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ عَنْهَا ; فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَأَفْتَى بِجَوَازِهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ , وَلَكَانَتْ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ كَغَيْرِهَا , بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا , وَمَضَى عَلَى أَثَرِهِمْ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِي الْإِنْكَارِ .(1/377)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّيْدَانِيِّ : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ فِي الْحِيَلِ , وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ عَمَّنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ احْتَالَ لِإِبْطَالِهَا , فَقَالَ : نَحْنُ لَا نَرَى الْحِيلَةَ , وَقَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ : إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَصَارَ إلَيْهَا فَقَدْ صَارَ إلَى ذَلِكَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ , وَقَالَ : مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَهُوَ حَانِثٌ , وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي الْحَارِثِ وَقَدْ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِ الْحِيَلِ فَأَنْكَرَهُ , وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلَ عَمَّنْ احْتَالَ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ , فَقَالَ : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي إبْطَالِ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ , وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ وَيَنْوِي غَيْرَ ذَلِكَ : فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَا يَحْلِفُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَظْلُومًا , فَإِذَا كَانَ مَظْلُومًا حَلَفَ عَلَى نِيَّتِهِ , وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ نِيَّةِ الَّذِي حَلَفَهُ شَيْءٌ , وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ مَنْصُورٍ : مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ فِي بَيْتِهِ يُفْتِي بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
[(1/378)
مَنْ ذَكَرُوا الْحِيَلَ لَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ كُلَّهَا جَائِزٌ ] قُلْت : وَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا الْحِيَلَ لَمْ يَقُولُوا إنَّهَا كُلَّهَا جَائِزٌ , وَإِنَّمَا أَخْبَرُوا أَنَّ كَذَا حِيلَةٌ وَطَرِيقٌ إلَى كَذَا , ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الطَّرِيقُ مُحَرَّمَةً , وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً , وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِيهَا , فَإِذَا قَالُوا : الْحِيلَةُ فِي فَسْخِ الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ أَنْ تَرْتَدَّ ثُمَّ تُسْلِمَ , وَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَنْ يَقْتُلَ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ , وَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَمَّنْ أَرَادَ الْوَطْءَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يَتَغَدَّى ثُمَّ يَطَأَ بَعْدَ الْغَدَاءِ , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْسَخَ نِكَاحَ زَوْجِهَا أَنْ تُمَكِّنَ ابْنَهُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ وَيُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ أَنْ يَطَأَ حَمَاتَهُ أَوْ يُقَبِّلَهَا , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ حَدِّ الزِّنَا عَنْهُ أَنْ يَسْكَرَ ثُمَّ يَزْنِيَ , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ الْحَجِّ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُمَلِّكَ مَالَهُ لِابْنِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ عِنْدَ خُرُوجِ الرَّكْبِ فَإِذَا بَعُدَ اسْتَرَدَّ مَالَهُ , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ حِرْمَانَ وَارِثِهِ مِيرَاثَهُ أَنْ يُقِرَّ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِغَيْرِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ إبْطَالَ الزَّكَاةِ وَإِسْقَاطَ فَرْضِهَا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ أَنْ يُمَلِّكَ مَالَهُ عِنْدَ الْحَوْلِ لِابْنِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ ثُمَّ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ , وَيَفْعَلُ هَكَذَا كُلَّ عَامٍ , فَيَبْطُلُ فَرْضُ(1/379)
الزَّكَاةِ عَنْهُ أَبَدًا , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَمْلِكَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ أَنْ يُفْسِدَهُ عَلَيْهِ أَوْ يُغَيِّرَ صُورَتَهُ فَيَمْلِكَهُ , فَيَذْبَحَ شَاتَه , وَيَشُقَّ قَمِيصَهُ , وَيَطْحَنَ حَبَّهُ وَيَخْبِزَهُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِهِ وَلَا يُقْتَلُ بِهِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِدَبُّوسٍ أَوْ مِرْزَبَّةِ حَدِيدٍ يَنْثُرُ دِمَاغُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِكَنْسِ بَيْتِهِ أَوْ لِطَيِّ ثِيَابِهِ أَوْ لِغَسْلِهَا أَوْ لِنَقْلِ مَتَاعٍ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ثُمَّ يَزْنِيَ بِهَا مَا شَاءَ مَجَّانًا بِلَا حَدٍّ وَلَا غَرَامَةٍ , أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا لِنَفْسِ الزِّنَا , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ حَدَّ السَّرِقَةِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الْمَالَ لَهُ وَأَنَّ لَهُ فِيهِ شَرِكَةً فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ , أَوْ يَنْقُبُ الدَّارَ ثُمَّ يَدَعُ غُلَامَهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ شَرِيكَهُ يَدْخُلُ وَيُخْرِجُ مَتَاعَهُ أَوْ يَدَعُهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ تَخْرُجُ بِهِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ .(1/380)
وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ حَدِّ الزِّنَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ عُدُولٍ غَيْرِ مُتَّهَمِينَ أَنْ يُصَدِّقَهُمْ فَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِهِمْ , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ قَطْعَ يَدِ غَيْرِهِ , وَلَا يُقْطَعُ بِهَا أَنْ يُمْسِكَ هُوَ وَآخَرُ السِّكِّينَ أَوْ السَّيْفَ وَيَقْطَعَانِهَا مَعًا , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَتْ التَّخَلُّفَ عَنْ زَوْجِهَا فِي السَّفَرِ أَنْ تُقِرَّ لِغَيْرِهِ بِدَيْنٍ , وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ الصَّيْدَ فِي الْإِحْرَامِ أَنْ يَنْصِب الشِّبَاكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ يَأْخُذَ مَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ إحْرَامِهِ بَعْدَ أَنْ يُحِلَّ . فَهَذِهِ الْحِيَلُ وَأَمْثَالُهَا لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى , وَمَنْ اسْتَحَلَّ الْفَتْوَى بِهَذِهِ فَهُوَ الَّذِي كَفَّرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ , حَتَّى قَالُوا : إنَّ مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْحِيَلِ فَقَدْ قَلَبَ الْإِسْلَامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ , وَنَقَضَ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً , وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِيَلِ : مَا نَقَمُوا عَلَيْنَا مِنْ أَنَّا عَمَدْنَا إلَى أَشْيَاءَ كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ فَاحْتَلْنَا فِيهَا حَتَّى صَارَتْ حَلَالًا , وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ : إنَّا نَحْتَالُ لِلنَّاسِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .(1/381)
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ مَرْوَانَ : كَانَتْ امْرَأَةٌ هَاهُنَا بِمَرْوَ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا , فَأَبَى زَوْجُهَا عَلَيْهَا , فَقِيلَ لَهَا : لَوْ ارْتَدَدْتِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَبِنْتِ مِنْهُ , فَفَعَلْت , فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ , فَقَالَ : مَنْ وَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَهُوَ كَافِرٌ , وَمَنْ سَمِعَ بِهِ وَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ , وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ , وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ , وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ : إنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ , وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ , فَذَكَرَ شَيْئًا , ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغْضَبٌ : أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ , وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ , وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ بِهِ أَوْ هَوِيَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ , ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : مَا رَأَى الشَّيْطَانُ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا , حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَهَا حِينَئِذٍ , أَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ .(1/382)
وَقَالَ إسْحَاقُ الطَّالَقَانِيُّ : قِيلَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ هَذَا الْكِتَابَ وَضَعَهُ إبْلِيسُ , قَالَ : إبْلِيسُ مِنْ الْأَبَالِسَةِ , وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : فِي كِتَابِ الْحِيَلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا كُفْرٌ , وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ : قَالَ شَرِيكٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ وَذُكِرَ لَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ , فَقَالَ : مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ , وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ : يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْفُجُورِ , وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ : قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَاضِي الْكُوفَةِ : كِتَابُكُمْ هَذَا الَّذِي كَتَبْتُمُوهُ فِي الْحِيَلِ كِتَابُ الْفُجُورِ , وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : سَمِعْت أَيُّوبَ يَقُولُ : وَيْلَهُمْ , مَنْ يُخْدَعُونَ ؟ يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ , وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ : سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ : لَقَدْ أَفْتَى أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِشَيْءٍ لَوْ أَفْتَى بِهِ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ كَانَ قَبِيحًا , فَقَالَ : إنِّي حَلَفْتُ أَنِّي لَا أُطَلِّقُ امْرَأَتِي بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , وَإِنَّهُمْ قَدْ بَذَلُوا لِي مَالًا كَثِيرًا , فَقَالَ لَهُ : قَبِّلْ أُمَّهَا , فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : وَيْلَهُ , يَأْمُرُهُ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً ؟ وَقَالَ حُبَيْشُ بْنُ مُبَشِّرٍ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي جَارِيَةً ثُمَّ يُعْتِقُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَيَتَزَوَّجُهَا , أَيَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ ؟ فَقَالَ : كَيْفَ يَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَقَدْ(1/383)
وَطِئَهَا ذَلِكَ بِالْأَمْسِ ؟ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحِيلَةِ , وَغَضِبَ , وَقَالَ : هَذَا أَخْبَثُ قَوْلٍ , وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ : يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَفْتَيْت رَجُلًا فِي يَمِينٍ حَلَفَتْ بِهَا فَقَالَ لِي : إنْ فَعَلْتَ كَذَا حَنِثْتَ , وَأَنَا أَحْتَالُ لَك حَتَّى تَفْعَلَ وَلَا تَحْنَثَ , فَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ : تَعْرِفُ الرَّجُلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : ارْجِعْ إلَيْهِ فَاسْتَثْبِتْهُ فَإِنِّي أَحْسَبُهُ شَيْطَانًا شُبِّهَ لَك فِي صُورَةِ إنْسَانٍ .(1/384)
وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَأَمْثَالُهُمْ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ لِأَنَّ فِيهَا الِاحْتِيَالَ عَلَى تَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ , وَإِسْقَاطَ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ , وَإِسْقَاطَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ , وَاسْتِحْلَالَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ الرِّبَا وَالزِّنَا , وَأَخْذَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَسَفْكَ دِمَائِهِمْ , وَفَسْخَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ , وَالْكَذِبَ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَإِبَاحَةَ الْكُفْرِ , وَهَذِهِ الْحِيَلُ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ هَذِهِ الْحِيَلُ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ , وَمَنْ نَسَبَهَا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ جَاهِلٌ بِأُصُولِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْحِيَلِ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى أُصُولِ إمَامٍ بِحَيْثُ إذَا فَعَلَهَا الْمُتَحَيِّلُ نَفَذَ حُكْمُهَا عِنْدَهُ , وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ الْإِذْنِ فِيهَا وَإِبَاحَتِهَا وَتَعْلِيمِهَا فَإِنَّ إبَاحَتَهَا شَيْءٌ وَنُفُوذَهَا إذَا فُعِلَتْ شَيْءٌ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفَقِيهِ وَالْمُفْتِي لَا يُبْطِلُهَا أَنْ يُبِيحَهَا وَيَأْذَنَ فِيهَا , وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُقُودِ يُحَرِّمُهَا الْفَقِيهُ ثُمَّ يُنْفِذُهَا وَلَا يُبْطِلُهَا , وَلَكِنَّ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ تَحْرِيمُهَا وَإِبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَنْفِيذِهَا , وَمُقَابَلَةُ أَرْبَابِهَا بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ مُوَافَقَةً لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
[(1/385)
لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْحِيَلِ إلَى إمَامٍ ] : وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ لَا تَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ إلَى إمَامٍ ; فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِ , وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الْأُمَّةِ حَيْثُ ائْتَمَّتْ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ , وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ , وَلَوْ فَرَضَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَعْضُ هَذِهِ الْحِيَلِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِكَايَةُ بَاطِلَةً , أَوْ يَكُونَ الْحَاكِي لَمْ يَضْبِطْ لَفْظَهُ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَتْوَاهُ بِنُفُوذِهَا بِفَتْوَاهُ بِإِبَاحَتِهَا مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا , وَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُهَا مِنْهُ فِي وَقْتٍ مَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي الْإِمَامِ وَفِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْتَمِّينَ بِهِ , وَكِلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ , وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ , إلَّا الْمُكْرَهَ إذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ . ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ ; فَإِنَّهُمْ لَا يَأْذَنُونَ فِي كَلِمَاتٍ وَأَفْعَالٍ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ , وَيَقُولُونَ : إنَّهَا كُفْرٌ , حَتَّى قَالُوا : لَوْ قَالَ الْكَافِرُ لِرَجُلٍ : " إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ " فَقَالَ لَهُ : " اصْبِرْ سَاعَةً " فَقَدْ كَفَرَ , فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الْكُفْرِ ؟ وَقَالُوا : لَوْ قَالَ : " مُسَيْجِدٌ " أَوْ صَغَّرَ لَفْظَ الْمُصْحَفِ كَفَرَ .(1/386)
فَعَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يُفْتُونَ بِالْحِيَلِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ لَيْسُوا مُقْتَدِينَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ , وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ وَأَتْقَى لَهُ مِنْ أَنْ يُفْتُوا بِهَذِهِ الْحِيَلِ , وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ : سَمِعْت أَحْمَدَ وَذَكَرَ أَصْحَابَ الْحِيَلِ : يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ الصَّانِعِ : هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعُوهَا عَمَدُوا إلَى السُّنَنِ وَاحْتَالُوا لِنَقْضِهَا , وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا فِيهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ , قَالُوا : الرَّهْنُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ , ثُمَّ قَالُوا : يَحْتَالُ لَهُ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ , فَكَيْفَ يَحِلُّ بِحِيلَةٍ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَأَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } أَذَابُوهَا حَتَّى أَزَالُوا عَنْهَا اسْمُ الشَّحْمِ , وَقَدْ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .(1/387)
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ : عَجِبْت مِمَّا يَقُولُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ فِي الْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ , يُبْطِلُونَ الْأَيْمَانَ بِالْحِيَلِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وَقَالَ : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ , وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ : إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ عَلَى دَرَجَةٍ إنْ صَعِدْت أَوْ نَزَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ , " قَالُوا : تُحْمَلُ حَمْلًا , فَقَالَ : هَذَا هُوَ الْحِنْثُ بِعَيْنِهِ , لَيْسَتْ هَذِهِ حِيلَةٌ , هَذَا هُوَ الْحِنْثُ , وَقَالُوا : إذَا حَلَفَ لَا يَطَأُ بِسَاطًا يَطَأُ بِسَاطَيْنِ , وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا يُحْمَلُ , فَأَقْبَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْجَبُ , وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : فِي كِتَابِ الْحِيَلِ إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ الْأَمَةَ فَأَرَادَ أَنْ يُقْنِعَ بِهَا يُعْتِقُهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا , فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ , مَا أَعْجَبَ هَذَا , أَبْطَلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَالسُّنَّةَ , جَعَلَ اللَّهُ عَلَى الْحَرَائِرِ الْعِدَّةَ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ , فَلَيْسَ مِنْ امْرَأَةٍ تَطْلُقُ أَوْ يَمُوتُ زَوْجُهَا إلَّا تَعْتَدُّ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ , فَفَرْجٌ يُوطَأُ يَشْتَرِيه ثُمَّ يُعْتِقُهُ عَلَى الْمَكَانِ فَيَتَزَوَّجُهَا فَيَطَؤُهَا .(1/388)
فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ يَطَؤُهَا رَجُلٌ الْيَوْمَ وَيَطَؤُهَا الْآخَرُ غَدًا ؟ هَذَا نَقْضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُوطَأُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ , وَلَا غَيْرُ الْحَامِلِ حَتَّى تَحِيضَ } وَلَا يَدْرِي [ هَلْ ] هِيَ حَامِلٌ أَمْ لَا ] سُبْحَانَ اللَّهِ , مَا أَسْمَجَ هَذَا , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - يَحْكِي عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : شَهِدْت هِشَامًا وَهُوَ يُقْرِئُ كِتَابًا , فَانْتَهَى بِيَدِهِ إلَى مَسْأَلَةٍ فَجَازَهَا , فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ , فَقَالَ : دَعُوهُ , وَكَرِهَ مَكَانِي , فَتَطَلَّعْت فِي الْكِتَابِ , فَإِذَا فِيهِ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَفَّ عَلَى ذَكَرِهِ حَرِيرَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ جَامَعَ امْرَأَتَهُ نَهَارًا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ .(1/389)
فَصْلٌ [ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ ] : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَتَحْرِيمِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ لِمَا تَتَضَمَّنُ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ ; فَالشَّرِيعَةُ لِقُلُوبِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَالدَّوَاءِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ الدَّاءُ إلَّا بِهِ , فَإِذَا احْتَالَ الْعَبْدُ عَلَى تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَ اللَّهُ وَتَعْطِيلِ مَا شَرَعَ اللَّهُ كَانَ سَاعِيًا فِي دِينِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : إبْطَالُهَا مَا فِي الْأَمْرِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ وَنَقْضِ حِكْمَتِهِ فِيهِ وَمُنَاقَضَتِهِ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ حَقِيقَةً , وَلَا هُوَ مَقْصُودُهُ , بَلْ هُوَ ظَاهِرُ الْمَشْرُوعِ ; فَالْمَشْرُوعُ لَيْسَ مَقْصُودًا لَهُ , وَالْمَقْصُودُ لَهُ هُوَ الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ , وَهَذَا ظَاهِرٌ كُلَّ الظُّهُورِ فِيمَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ ; فَإِنَّ الْمُرَابِيَ مَثَلًا مَقْصُودُهُ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ , وَصُورَةُ الْبَيْعِ الْجَائِزِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ , وَكَذَلِكَ الْمُتَحَيِّلُ عَلَى إسْقَاطِ الْفَرَائِضِ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ لِمَنْ لَا يَهَبُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا حَقِيقَةُ مَقْصُودِهِ إسْقَاطُ الْفَرْضِ , وَظَاهِرُ الْهِبَةِ الْمَشْرُوعَةِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ .(1/390)
الثَّالِثُ : نِسْبَتُهُ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَإِلَى شَرِيعَتِهِ الَّتِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَدَوَاؤُهَا وَشِفَاؤُهَا , وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَحَيَّلَ حَتَّى قَلَبَ الْغِذَاءَ وَالدَّوَاءَ إلَى ضِدِّهِ , فَجَعَلَ الْغِذَاءَ دَوَاءً وَالدَّوَاءَ غِذَاءً , إمَّا بِتَغْيِيرِ اسْمِهِ أَوْ صُورَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حَقِيقَتِهِ ; لَأَهْلَكَ النَّاسَ , فَمَنْ عَمَدَ إلَى الْأَدْوِيَةِ الْمُسَهِّلَةِ فَغَيَّرَ صُورَتَهَا أَوْ أَسْمَاءَهَا وَجَعَلَهَا غِذَاءً لِلنَّاسِ , أَوْ عَمَدَ إلَى السَّمُومِ الْقَاتِلَةِ فَغَيَّرَ أَسْمَاءَهَا وَصُورَتَهَا وَجَعَلَهَا أَدْوِيَةً , أَوْ إلَى الْأَغْذِيَةِ الصَّالِحَةِ فَغَيَّرَ أَسْمَاءَهَا وَصُوَرَهَا ; كَانَ سَاعِيًا بِالْفَسَادِ فِي الطَّبِيعَةِ , كَمَا أَنَّ هَذَا سَاعٍ بِالْفَسَادِ فِي الشَّرِيعَةِ ; فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ لِلْأَبْدَانِ , وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَقَائِقِهَا لَا بِأَسْمَائِهَا وَصُوَرِهَا .(1/391)
وَبَيَانُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ الرِّبَا وَالزِّنَا وَتَوَابِعَهُمَا وَوَسَائِلَهُمَا ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ , وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَتَوَابِعَهُمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ , وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ فِي الْحَقِيقَةِ , وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا وَالنِّكَاحُ مِثْلَ الزِّنَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرْقَ فِي الصُّورَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ مُلْغَى عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي فِطْرِ عِبَادِهِ ; فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ , فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا , فَإِذَا اتَّفَقَتْ الْأَلْفَاظُ وَاخْتَلَفَتْ الْمَعَانِي كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا , وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ إذَا اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا وَاتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهَا , وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُبْنَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ , وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ صِحَّةَ هَذَا ; فَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ صُورَتُهُ صُورَةُ الْحَلَالِ , وَحَقِيقَتُهُ وَمَقْصُودُهُ حَقِيقَةُ الْحَرَامِ ; فَلَا يَكُونُ حَلَالًا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَلَالِ فَيَقَعُ بَاطِلًا , وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ الْحَرَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صُورَتُهُ صُورَتَهُ , فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لِمُشَارَكَتِهِ لِلْحَرَامِ فِي الْحَقِيقَةِ .(1/392)
وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , أَيْنَ الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةِ وَغَيْرِ الْمُؤَثِّرَةِ فَرْقًا وَجَمْعًا ؟ وَالْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ وَتَخْرِيجِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ , فَكَيْفَ يُعَلِّقُهُ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ لِضِدِّ الْحُكْمِ ؟ وَكَيْفَ يُعَلِّقُ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ وَالصُّوَرِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا وَيَدَعُ الْمَعَانِيَ الْمُنَاسِبَةَ الْمُفْضِيَةَ لَهَا الَّتِي ارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ بِمَعْلُولَاتِهَا ؟ وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يُنْكِرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِظَوَاهِرِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ حَيْثُ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ثُمَّ يَتَمَسَّكُ بِظَوَاهِرِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَقْوَالِهِمْ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَاطِنَ وَالْقَصْدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؟ وَيَعْلَمُ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ غَيْرُ ذَلِكَ , كَمَا يَقْطَعُ بِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ إيجَابِ الزَّكَاةِ سَدُّ خَلَّةِ الْمَسَاكِينِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَحُصُولُ الْمَصَالِحِ الَّتِي أَرَادَهَا بِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ حِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ , فَإِذَا أَسْقَطَهَا بِالتَّحَيُّلِ فَقَدْ خَالَفَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْمُتَحَيِّلِ , وَالْوَاجِبُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنْ يَحْصُلَ مَقْصُودُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَبْطُلَ مَقَاصِدَ(1/393)
الْمُتَحَيِّلِينَ الْمُخَادِعِينَ , وَكَذَلِكَ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ [ إنَّمَا ] حَرَّمَ الرِّبَا لِمَنْ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمَحَاوِيجِ , وَأَنَّ مَقْصُودَهُ إزَالَةُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ ; فَإِذَا أُبِيحَ التَّحَيُّلُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ سَعْيًا فِي إبْطَالِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُرَابِي , وَهَذِهِ سَبِيلُ جَمِيعِ الْحِيَلِ الْمُتَوَسَّلِ بِهَا إلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ , وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ تَبْطُلُ جَمِيعًا , أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَحَيِّلَ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ مُبْطِلٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ حِكْمَةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَمَصْلَحَتِهِ ; فَالْمُعِينُ [ لَهُ ] عَلَى ذَلِكَ مُفَوِّتٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مُحَصِّلٌ لِمَقْصُودِ الْمُتَحَيِّلِ , وَكَذَلِكَ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي مَلَّكَهُمْ إيَّاهَا الشَّارِعُ وَجَعَلَهُمْ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ إزَالَةً لِضَرَرِهِمْ وَتَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهِمْ ; فَلَوْ أَبَاحَ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِهَا لَكَانَ عَدَمُ إثْبَاتِهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ أَوْلَى وَأَقَلَّ ضَرَرًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَهَا وَيُوصِيَ بِهَا وَيُبَالِغَ فِي تَحْصِيلِهَا ثُمَّ يُشَرِّعَ التَّحَيُّلَ لِإِبْطَالِهَا وَإِسْقَاطِهَا , وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَنَى بِنَاءً مَشِيدًا وَبَالَغَ فِي إحْكَامِهِ وَإِتْقَانِهِ , ثُمَّ عَادَ فَنَقَضَهُ , وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَمَرَ بِإِكْرَامِ رَجُلٍ وَالْمُبَالَغَةِ فِي بِرِّهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَأَدَاءِ حُقُوقِهِ , ثُمَّ أَبَاحَ لِمَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَحَيَّلَ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ لِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ حُقُوقِهِ , وَلِهَذَا يُسِيءُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ الْمَرَضُ(1/394)
الظَّنَّ بِالْإِسْلَامِ وَالشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَلِمُوا مُنَاقَضَتَهَا لِلْمَصَالِحِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً وَمُنَافَاتَهَا لِحِكْمَةِ الرَّبِّ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَصِيَانَتِهِ لِعِبَادِهِ ; فَإِنَّهُ نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ حَمِيَّةً وَصِيَانَةً , فَكَيْف يُبِيحُ لَهُمْ الْحِيَلَ عَلَى مَا حَمَاهُمْ عَنْهُ ؟ وَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُمْ التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى إضَاعَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي أَحَقَّهَا عَلَيْهِمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا لِقِيَامِ مَصَالِحِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ ؟ فَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ شَرَعَهَا الَّذِي عَلِمَ مَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَمَا فِي خِلَافِهَا مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ , وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهَا لِذَاتِهَا وَبَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا وَنَهْيِهِ عَنْهَا , فَالْمَأْمُورُ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَحَسَنٌ فِي نَفْسِهِ , وَاكْتَسَى بِأَمْرِ الرَّبِّ تَعَالَى مَصْلَحَةً وَحُسْنًا آخَرَ , فَازْدَادَ حُسْنًا بِالْأَمْرِ وَمَحَبَّةِ الرَّبِّ وَطَلَبِهِ لَهُ إلَى حُسْنِهِ فِي نَفْسِهِ , وَكَذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَفْسَدَةٌ وَقَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ , وَازْدَادَ بِنَهْيِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهُ وَبُغْضِهِ لَهُ وَكَرَاهِيَتِهِ لَهُ قُبْحًا إلَى قُبْحِهِ , وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقَلِبَ حَسَنُهُ قُبْحًا بِتَغَيُّرِ الِاسْمِ وَالصُّورَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ حَرَّمَ بَيْعَ(1/395)
الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ التَّشَاحُنِ وَالتَّشَاجُرِ , وَلِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ - إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ - مِنْ أَكْلِ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا , وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ; فَإِنَّ الْحِيلَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ , وَلَا فِي تَخْفِيفِهَا , وَلَا فِي زَوَالِ ذَرَّةٍ مِنْهَا ; فَمَفْسَدَةُ هَذَا الْعَقْدِ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهُ لِنَفْسِهِ , فَالْحِيلَةُ إنْ لَمْ تَزِدْهُ فَسَادًا لَمْ تُزِلْ فَسَادًا , وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِبْرَاءَ لِإِزَالَةِ مَفْسَدَةِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ وَسَقْيِ الْإِنْسَانِ بِمَائِهِ زَرْعَ غَيْرِهِ , وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تُوجِبُ الْعُقُولُ تَحْرِيمَهُ لَوْ لَمْ تَأْتِ بِهِ شَرِيعَةٌ , وَلِهَذَا فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى اسْتِهْجَانِهِ وَاسْتِقْبَاحِهِ , وَيَرَوْنَ مِنْ أَعْظَمِ الْهُجَنِ أَنْ يَقُومَ هَذَا عَنْ الْمَرْأَةِ وَيُخْلِفَهُ الْآخَرُ عَلَيْهَا , وَلِهَذَا حُرِّمَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ وَأَوْجَبَ الْعِدَدَ وَالِاسْتِبْرَاءَ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ عَلَى إسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ , وَلَا تَخِفُّ , وَكَذَلِكَ شُرِعَ الْحَجُّ إلَى بَيْتِهِ لِأَنَّهُ قِوَامٌ لِلنَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ , وَلَوْ عُطِّلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَامًا وَاحِدًا عَنْ الْحَجِّ لَمَا أُمْهِلَ النَّاسُ , وَلَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ , وَتَوَعَّدَ مَنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَمْ يَحُجَّ بِالْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ(1/396)
التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِهِ لَا يُزِيلُ مَفْسَدَةَ التَّرْكِ , وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ تَحَيَّلُوا لِتَرْكِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ هَذَيْنِ الْفَرْضَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ , وَارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ حُكْمُهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ , وَقِيلَ لِلنَّاسِ : إنْ شِئْتُمْ كُلُّكُمْ أَنْ تَتَحَيَّلُوا لِإِسْقَاطِهِمَا فَافْعَلُوا , فَلْيَتَصَوَّرْ الْعَبْدُ مَا فِي إسْقَاطِهِمَا مِنْ الْفَسَادِ الْمُضَادِّ لِشَرْعِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ .(1/397)
وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى زَوَاجِرَ لِلنُّفُوسِ وَعُقُوبَةً وَنَكَالًا وَتَطْهِيرًا , فَشَرْعُهَا مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ , بَلْ لَا تَتِمُّ سِيَاسَةُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ إلَّا بِزَوَاجِرَ وَعُقُوبَاتٍ لِأَرْبَابِ الْجَرَائِمِ , وَمَعْلُومٌ مَا فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا مِنْ مُنَافَاةِ هَذَا الْغَرَضِ وَإِبْطَالِهِ وَتَسْلِيطِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى تِلْكَ الْجِنَايَاتِ إذَا عَلِمْت أَنَّ لَهَا طَرِيقًا إلَى إبْطَالِ عُقُوبَاتِهَا فِيهَا , وَأَنَّهَا تُسْقِطُ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ ; فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهَا أَلْبَتَّةَ بَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهَا فِيهَا وَبَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَهَا عُقُوبَةً وَأَنَّ لَهَا إسْقَاطَهَا بِأَدْنَى الْحِيَلِ , وَلِهَذَا احْتَاجَ الْبَلَدُ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ هَذِهِ الْحِيَلُ إلَى سِيَاسَةِ وَالٍ أَوْ أَمِيرٍ يَأْخُذُ عَلَى يَدِ الْجُنَاةِ وَيَكُفُّ شَرَّهُمْ عَنْ النَّاسِ إذَا لَمْ يُمَكَّنْ أَرْبَابُ الْحِيَلِ أَنْ يَقُومُوا بِذَلِكَ , وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي قَامَ النَّاسُ فِيهَا بِحَقَائِقِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا مَعَهَا إلَى سِيَاسَةِ أَمِيرٍ وَلَا وَالٍ , كَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَدُّونَ بِالرَّائِحَةِ وَبِالْقَيْءِ وَبِالْحَبَلِ وَبِظُهُورِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ السَّارِقِ , وَيَقْتُلُونَ فِي الْقَسَامَةِ , وَيُعَاقِبُونَ أَهْلَ التُّهَمِ , وَلَا يَقْبَلُونَ الدَّعْوَى الَّتِي تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ وَالْعُرْفُ , وَلَا(1/398)
يَرَوْنَ الْحِيَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَيُعَاقِبُونَ أَرْبَابَهَا , وَيَحْبِسُونَ فِي التُّهَمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُ الْمُتَّهَمِ , فَإِنْ ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ خَلَّوْا سَبِيلَهُ , وَإِنْ ظَهَرَ فُجُورُهُ قَرَّرُوهُ بِالْعُقُوبَةِ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِينَ وَحَبْسِهِمْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ وَعَاقَبَ فِي تُهْمَةٍ , كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ وَكِفَايَةٌ وَبَيَانٌ لِإِغْنَاءِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ كُلِّ وَالٍ وَسَائِسٍ , وَأَنَّ شَرِيعَتَهُ الَّتِي هِيَ شَرِيعَتُهُ لَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إلَى غَيْرِهَا , وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِهَا مَنْ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا أَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ عَمَلًا .(1/399)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا فِي ضِمْنِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَالْمَأْمُورَاتِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْنَعُ أَنْ يُشْرَعَ إلَيْهَا التَّحَيُّلُ بِمَا يُبِيحُهَا وَيُسْقِطُهَا , وَأَنَّ ذَلِكَ مُنَاقَضَةٌ ظَاهِرَةٌ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَالَغَ فِي لَعْنِ الْمُحَلِّلِ لِلْمَفَاسِدِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي التَّحْلِيلِ الَّتِي يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِتَفَاصِيلِهَا ; فَالتَّحَيُّلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ بِتَقْدِيمِ اشْتِرَاطِ التَّحْلِيلِ عَلَيْهِ وَإِخْلَاءِ صُلْبِهِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَزِدْ مَفْسَدَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهَا وَلَا يُخَفِّفُهَا , وَلَيْسَ تَحْرِيمُهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي لَعْنِ فَاعِلِهِ تَعَبُّدًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ , بَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ , بَلْ لَا يُمْكِنُ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا غَيْرُهَا مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ تَأْتِيَ بِحِيلَةٍ ; فَالتَّحَيُّلُ عَلَى وُقُوعِهِ وَصِحَّتِهِ إبْطَالٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ وَتَصْحِيحٌ لِغَرَضِ الْمُتَحَيِّلِ الْمُخَادِعِ . وَكَذَلِكَ الشَّارِعُ حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي الْإِحْرَامِ وَتَوَعَّدَ بِالِانْتِقَامِ عَلَى مَنْ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ , لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَحْرِيمِهِ وَانْتِقَامِ الرَّبِّ مِنْ فَاعِلِهِ , وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِنَصْبِ الشِّبَاكِ لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِلَحْظَةٍ , فَإِذَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ الْإِحْرَامِ أَخَذَهُ بَعْدَ الْحِلِّ بِلَحْظَةٍ , فَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا إبْطَالٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَتَصْحِيحٌ لِغَرَضِ الْمُخَادِعِ .(1/400)
وَكَذَلِكَ إيجَابُ الشَّارِعِ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ جَبْرُ وَهْنِ الصَّوْمِ , وَزَجْرُ الْوَاطِئِ , وَتَكْفِيرُ جُرْمِهِ , وَاسْتِدْرَاكُ فَرْطِهِ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي عَلِمَهَا مَنْ شَرَعَ الْكَفَّارَةَ وَأَحَبَّهَا وَرَضِيَهَا , فَإِبَاحَةُ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا بِأَنْ يَتَعَدَّى قَبْلَ الْجِمَاعِ ثُمَّ يُجَامِعَ نَقْضٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ , وَإِبْطَالٌ لَهُ , وَإِعْمَالٌ لِغَرَضِ الْجَانِي الْمُتَحَيِّلِ وَتَصْحِيحٌ لَهُ , ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبِيدِ ; فَهُوَ إضَاعَةٌ لِلْحَقَّيْنِ وَتَفْوِيتٌ لَهُمَا . وَكَذَلِكَ الشَّارِعُ شَرَعَ حُدُودَ الْجَرَائِمِ الَّتِي تَتَقَاضَاهَا أَشَدَّ تَقَاضٍ لِمَا فِي إهْمَالِ عُقُوبَاتِهَا مِنْ مَفَاسِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ سِيَاسَةُ مَلِكٍ مَا مِنْ الْمُلُوكِ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ عُقُوبَاتِهَا أَلْبَتَّةَ , وَلَا يَقُومُ مُلْكُهُ بِذَلِكَ , فَالْإِذْنُ فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا بِصُورَةِ الْعَقْدِ وَغَيْرِهِ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بِعَيْنِهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا نَقْضٌ وَإِبْطَالٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ , وَتَصْحِيحٌ لِمَقْصُودِ الْجَانِي , وَإِغْرَاءٌ بِالْمَفَاسِدِ , وَتَسْلِيطٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى الشَّرِّ .(1/401)
وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , كَيْفَ يَجْتَمِعُ فِي الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمُ الزِّنَا وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَقَتْلُ فَاعِلِهِ شَرَّ الْقِتْلَاتِ وَأَقْبَحَهَا وَأَشْنَعَهَا وَأَشْهَرَهَا ثُمَّ يَسْقُطُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِذَلِكَ أَوْ لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَقْضِيَ غَرَضَهُ مِنْهَا ؟ وَهَلْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ زَانٍ أَبَدًا ؟ وَهَلْ فِي طِبَاعِ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَ الزَّانِي : أَنَا اسْتَأْجَرْتهَا لِلزِّنَا , أَوْ اسْتَأْجَرْتهَا لِتَطْوِيَ ثِيَابِي ثُمَّ قَضَيْت غَرَضِي مِنْهَا , فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُقِيمَ عَلَيَّ الْحَدَّ ؟ وَهَلْ رَكَّبَ اللَّهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ إفْسَادًا لِلْفِرَاشِ وَالْأَنْسَابِ بِمِثْلِ هَذَا ؟ وَهَلْ يُسْقِطُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الْحَدَّ عَمَّنْ أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَه أَوْ أُخْتَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا الْعَقْدَ ثُمَّ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ زَادَهُ صُورَةُ الْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ إلَّا فُجُورًا وَإِثْمًا وَاسْتِهْزَاءً بِدِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَلَعِبًا بِآيَاتِهِ ؟ فَهَلْ يَلِيقُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ رَفْعُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ وَإِسْقَاطُهَا بِالْحِيلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا مَضْمُومَةً إلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ بِأُمِّهِ وَابْنَتِهِ ؟ فَأَيْنَ الْقِيَاسُ وَذِكْرُ الْمُنَاسِبَاتِ وَالْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى الظَّاهِرِيَّةِ ؟ فَهَلْ بَلَغُوا بِالتَّمَسُّكِ بِالظَّاهِرِ عُشْرَ مِعْشَارِ هَذَا ؟ وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , وَيَعْتَدُّ بِخِلَافِ(1/402)
هَؤُلَاءِ , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ . وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , كَيْفَ يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَمَّنْ اعْتَادَ سَرِقَةَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَكُلَّمَا أُمْسِكَ مَعَهُ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ قَالَ : هَذَا مِلْكِي , وَالدَّارُ الَّتِي دَخَلْتهَا دَارِي , وَالرَّجُلُ الَّذِي دَخَلْت دَارِهِ عَبْدِي ؟ قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ بِدَعْوَى ذَلِكَ , فَهَلْ تَأْتِي بِهَذَا سِيَاسَةٌ قَطُّ جَائِرَةٌ أَوْ عَادِلَةٌ , فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , فَضْلًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ شَرِيعَةٍ طَرَقَتْ الْعَالَمَ ؟ . وَكَذَلِكَ الشَّارِعُ أَوْجَبَ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْأَقَارِبِ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قِيَامِ مَصَالِحِهِمْ وَمَصَالِحِ الْمُنْفِقِ , وَلِمَا فِي تَرْكِهِمْ مِنْ إضَاعَتِهِمْ ; فَالتَّحَيُّلُ لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الصُّورَةِ مُنَاقَضَةٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ وَتَتْمِيمٌ لِغَرَضِ الْمَاكِرِ الْمُحْتَالِ , وَعَوْدٌ إلَى نَفْسِ الْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ إعْدَامَهُ بِأَقْرَبِ الطُّرُقِ , وَلَوْ تَحَيَّلَ هَذَا الْمُخَادِعُ عَلَى إسْقَاطِ نَفَقَةِ دَوَابِّهِ لَهَلَكُوا , وَكَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَارِثِ مِنْ الْمِيرَاثِ هُوَ حَقٌّ لَهُ جَعَلَهُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ النَّاسِ بِهِ , فَإِبَاحَةُ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهِ بِالْإِقْرَارِ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَإِخْرَاجُ الْوَارِثِ مُضَادَّةً لِشَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَنَقْضٌ لِغَرَضِهِ وَإِتْمَامٌ لِغَرَضِ الْمُحْتَالِ , وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ الْمَرْأَةِ أَنْ تُقِرَّ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ إذَا أَرَادَ زَوْجُهَا السَّفَرَ بِهَا .(1/403)
فَصْلٌ [ أَكْثَرُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ أُصُولَ الْأَئِمَّةِ ] وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْحِيَلِ لَا تَمْشِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ , بَلْ تُنَاقِضُهَا أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ . وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه يُحَرِّمُ مَسْأَلَةَ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ وَدِرْهَمَيْنِ , وَيُبَالِغُ فِي تَحْرِيمِهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ خَوْفًا أَنْ يُتَّخَذَ حِيلَةً عَلَى نَوْعٍ مَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ , فَتَحْرِيمُهُ لِلْحِيَلِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهِمَا إلَى رِبَا النَّسَاءِ أَوْلَى مِنْ تَحْرِيمِ مُدِّ عَجْوَةٍ بِكَثِيرٍ ; فَإِنَّ التَّحَيُّلَ بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ عَلَى رِبَا الْفَضْلِ أَخَفُّ مِنْ التَّحَيُّلِ بِالْعِينَةِ عَلَى رِبَا النَّسَاءِ , وَأَيْنَ مَفْسَدَةُ هَذِهِ مِنْ مَفْسَدَةِ تِلْكَ ؟ وَأَيْنَ حَقِيقَةُ الرِّبَا فِي هَذِهِ مِنْ حَقِيقَتِهِ فِي تِلْكَ ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ , وَتَحْرِيمُهُ لَهَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ لِلْحِيلَةِ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ بِأَنْ يَبِيعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةٍ فِي خِرْقَةٍ ; فَالشَّافِعِيُّ يُبَالِغُ فِي تَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَيُبِيحُ الْعِينَةَ , وَأَبُو حَنِيفَةَ يُبَالِغُ فِي تَحْرِيمِ الْعِينَةِ وَيُبِيحُ مَسَائِلَ مُدِّ عَجْوَةٍ , وَيَتَوَسَّعُ فِيهَا , وَأَصْلُ كُلٍّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ رضي الله عنهما فِي أَحَدِ الْبَابَيْنِ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ الْحِيلَةِ فِي الْبَابِ الْآخَرِ , وَهَذَا مِنْ أَقْوَى التَّخْرِيجِ عَلَى أُصُولِهِمْ وَنُصُوصِهِمْ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَرَّجَةِ دُونَ هَذَا ; فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ فِي الدِّينِ تَقْتَضِي رَفْعَ التَّحْرِيمِ مَعَ قِيَامِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضِيهِ(1/404)
وَإِسْقَاطِ الْوُجُوبِ مَعَ قِيَامِ سَبَبِهِ , وَذَلِكَ حَرَامٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : اسْتِلْزَامُهَا فِعْلَ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ . وَالثَّانِي : مَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّلْبِيسِ , وَالثَّالِثُ : الْإِغْرَاءُ بِهَا وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا وَتَعْلِيمُهَا مَنْ لَا يُحْسِنُهَا . وَالرَّابِعُ : إضَافَتُهَا إلَى الشَّارِعِ وَأَنَّ أُصُولَ شَرْعِهِ وَدِينِهِ تَقْتَضِيهَا . وَالْخَامِسُ : أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَتُوبُ مِنْهَا وَلَا يَعُدُّهَا ذَنْبًا , وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ يُخَادِعُ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُ الْمَخْلُوقَ , وَالسَّابِعُ : أَنَّهُ يُسَلِّطَ أَعْدَاءَ الدِّينِ عَلَى الْقَدْحِ فِيهِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِ وَبِمَنْ شَرَعَهُ , وَالثَّامِنُ : أَنَّهُ يُعْمِلُ فِكْرَهُ وَاجْتِهَادَهُ فِي نَقْضِ مَا أَبْرَمَهُ الرَّسُولُ وَإِبْطَالِ مَا أَوْجَبَهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ , وَالتَّاسِعُ : أَنَّهُ إعَانَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الطَّرِيقُ ; فَهَذَا يُعِينُ عَلَيْهِ بِحِيلَةٍ ظَاهِرُهَا صَحِيحٌ مَشْرُوعٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَيْهِ , وَذَاكَ يُعِينُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِهِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ بِنَفْسِهَا , فَكَيْفَ كَانَ هَذَا مُعِينًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمُتَحَيِّلُ الْمُخَادِعُ يُعِينُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ؟ الْعَاشِرُ : أَنَّ هَذَا ظُلْمٌ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَحَقِّ دِينِهِ وَحَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ وَحُقُوقِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ ; فَإِنَّهُ يُغْرِي بِهِ وَيَعْلَمُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ , وَالْمُتَوَصِّلُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَعْصِيَةِ لَا يَظْلِمُ إلَّا نَفْسَهُ .(1/405)
وَمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ ظُلْمُهُ مِنْ الْمُعِينِينَ فَإِنَّهُ لَا يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ دِينٌ وَشَرْعٌ وَلَا يَقْتَدِي بِهِ النَّاسُ , فَأَيْنَ فَسَادُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ وَضَرَرُهُ مِنْ ضَرَرِهِ ؟ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ حُجَجُ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ ] : قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : قَدْ أَكْثَرْتُمْ مِنْ ذَمِّ الْحِيَلِ , وَأَجْلَبْتُمْ بِخَيْلِ الْأَدِلَّةِ وَرَجْلِهَا وَسَمِينِهَا وَمَهْزُولِهَا , فَاسْتَمِعُوا الْآنَ تَقْرِيرَهَا وَاشْتِقَاقَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ , وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا إنْكَارُهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } فَأَذِنَ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ يَمِينِهِ بِالضَّرْبِ بِالضِّغْثِ , وَقَدْ كَانَ نَذَرَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرَبَاتٍ مَعْدُودَةً , وَهِيَ فِي الْمُتَعَارَفِ الظَّاهِرِ إنَّمَا تَكُونُ مُتَفَرِّقَةً ; فَأَرْشَدَهُ تَعَالَى إلَى الْحِيلَةِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْيَمِينِ , فَنَقِيسُ عَلَيْهِ سَائِرَ الْبَابِ , وَنُسَمِّيه وُجُوهُ الْمَخَارِجِ مِنْ الْمَضَائِقِ , وَلَا تُسَمِّيه بِالْحِيَلِ الَّتِي يَنْفِرُ النَّاسُ مِنْ اسْمِهَا .(1/406)
وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ عليه السلام أَنَّهُ جَعَلَ صُوَاعَهُ فِي رَحْلِ أَخِيهِ يَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِهِ مِنْ إخْوَتِهِ , وَمَدَحَهُ بِذَلِكَ , وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ , كَمَا قَالَ : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا كَيْدُهُ لِنَبِيِّهِ وَأَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ , وَأَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَةَ عَبْدِهِ بِلَطِيفِ الْعِلْمِ وَدَقِيقِهِ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ سِوَاهُ , وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَكَرَ بِمَنْ مَكَرَ بِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ هَذَا شَأْنُهَا , يَمْكُرُ بِهَا عَلَى الظَّالِمِ وَالْفَاجِرُ وَمَنْ يَعْسُرُ تَخْلِيصُ الْحَقِّ مِنْهُ ; فَتَكُونُ وَسِيلَةً إلَى نَصْرِ مَظْلُومٍ وَقَهْرِ ظَالِمٍ وَنَصْرِ حَقٍّ وَإِبْطَالِ بَاطِلٍ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ وَجْهِ الْمَكْرِ الْحَسَنِ . وَلَكِنْ جَازَاهُمْ بِجِنْسِ عَمَلِهِمْ , وَلِيُعَلِّمَ عِبَادَهُ أَنَّ الْمَكْرَ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إظْهَارِ الْحَقِّ وَيَكُونُ عُقُوبَةً لِلْمَاكِرِ لَيْسَ قَبِيحًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وَخِدَاعُهُ لَهُمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَمْرًا وَيُبْطِنَ لَهُمْ خِلَافَهُ .(1/407)
فَمَا تُنْكِرُونَ عَلَى أَرْبَابِ الْحِيَلِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ أَمْرًا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى بَاطِنٍ غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ , فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ , فَقَالَ : أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ قَالَ : إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ , وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثِ , فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ , بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ , ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ , فَأَرْشَدَهُ إلَى الْحِيلَةِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الرِّبَا بِتَوَسُّطِ الْعَقْدِ الْآخَرِ , وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ الْعِينَةِ . وَهَلْ الْحِيَلُ إلَّا مَعَارِيضُ فِي الْفِعْلِ عَلَى وِزَانِ الْمَعَارِيضِ فِي الْقَوْلِ ؟ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ فَفِي مَعَارِيضِ الْفِعْلِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَخَلُّصٌ مِنْ الْمَضَايِقِ . { وَقَدْ لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : مِمَّنْ أَنْتُمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : نَحْنُ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ , فَقَالُوا : أَحْيَاءُ الْيَمَنِ كَثِيرٌ , فَلَعَلَّهُمْ مِنْهُمْ , وَانْصَرَفُوا } . { وَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : احْمِلْنِي , فَقَالَ : مَا عِنْدِي إلَّا وَلَدُ نَاقَةٍ فَقَالَ : مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : وَهَلْ يَلِدُ الْإِبِلَ إلَّا النُّوقُ ؟ } .(1/408)
وَقَدْ { رَأَتْ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ , فَذَهَبَتْ وَجَاءَتْ بِسِكِّينٍ , فَصَادَفَتْهُ وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ , فَقَالَتْ : لَوْ وَجَدْتُك عَلَى الْحَالِ الَّتِي كُنْت عَلَيْهَا لَوَجَأْتُك , فَأَنْكَرَ , فَقَالَتْ : فَاقْرَأْ إنْ كُنْت صَادِقًا , فَقَالَ : شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامٌ مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوِّمِينَا فَقَالَتْ : آمَنْتُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَكَذَّبْت بَصَرِي , فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , فَضَحِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ } , وَهَذَا تَحَيُّلٌ مِنْهُ بِإِظْهَارِ الْقِرَاءَةِ لَمَّا أَوْهَمَ أَنَّهُ قُرْآنٌ لِيَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ مَكْرُوهِ الْغِيرَةِ .(1/409)
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا أَرَادَ أَنْ لَا يُطْعِمَ طَعَامًا لِرَجُلٍ قَالَ : أَصْبَحْت صَائِمًا , يُرِيدُ أَنَّهُ أَصْبَحَ فِيمَا سَلَف صَائِمًا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ , وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إذَا اقْتَضَاهُ بَعْضُ غُرَمَائِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيه قَالَ : أُعْطِيك فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ , يُرِيدُ بِذَلِكَ يَوْمَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَسَأَلَ رَجُلٌ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ فِي دَارِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , فَكَرِهَ الْخُرُوجَ إلَيْهِ , فَوَضَعَ أَحْمَدُ إصْبَعَهُ فِي كَفِّهِ , فَقَالَ : لَيْسَ الْمَرْوَزِيِّ هَاهُنَا , وَمَا يَصْنَعُ الْمَرْوَزِيِّ هَاهُنَا ؟ وَحَضَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مَجْلِسًا , فَلَمَّا أَرَادَ النُّهُوضَ مَنَعُوهُ , فَحَلَفَ أَنَّهُ يَعُودُ , ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَ نَعْلَهُ كَالنَّاسِي لَهَا , فَلَمَّا خَرَجَ عَادَ وَأَخَذَهَا وَانْصَرَفَ . وَقَدْ كَانَ لِشُرَيْحٍ فِي هَذَا الْبَابِ فِقْهٌ دَقِيقٌ كَمَا أَعْجَبَ رَجُلًا فَرَسُهُ وَأَرَادَ أَخْذَهَا مِنْهُ , فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ : إنَّهَا إذَا أُرْبِضَتْ لَمْ تَقُمْ حَتَّى تُقَامَ , فَقَالَ الرَّجُلُ : أُفٍّ أُفٍّ , وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُقِيمُهَا . وَبَاعَ مِنْ رَجُلٍ نَاقَةً , فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي : كَمْ تَحْمِلُ ؟ فَقَالَ : احْمِلْ عَلَى الْحَائِطِ مَا شِئْت , فَقَالَ : كَمْ تَحْلِبُ ؟ قَالَ : احْلِبْ فِي أَيِّ إنَاءٍ شِئْت , فَقَالَ : كَيْفَ سَيْرُهَا ؟ قَالَ : الرِّيحُ لَا تُلْحَقُ , فَلَمَّا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , فَجَاءَ إلَيْهِ وَقَالَ : مَا وَجَدْت شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , فَقَالَ : مَا كَذَبْتُك .(1/410)
قَالُوا : وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْعُقُودَ وَسَائِلَ وَطُرُقًا إلَى إسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالْمَأْثَمِ , وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَ الْإِنْسَانُ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةٍ لَزِمَهُ الْحَدُّ , فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا عَقْدَ النِّكَاحِ ثُمَّ وَطِئَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ , وَكَانَ الْعَقْدُ حِيلَةً عَلَى إسْقَاطِ الْحَدِّ , بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَاللِّبَاسَ حِيلَةً عَلَى دَفْعِ أَذَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْبَرْدِ , وَالِاكْتِفَاءَ حِيلَةً إلَى دَفْعِ الصَّائِلِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ , وَعَقْدَ التَّبَايُعِ حِيلَةً عَلَى حُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ , وَسَائِرَ الْعُقُودِ حِيلَةً عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَا لَا يُبَاحُ إلَّا بِهَا , وَشُرِعَ الرَّهْنُ حِيلَةً عَلَى رُجُوعِ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي مَالِهِ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ إذَا أَفْلَسَ الرَّاهِنُ أَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ .(1/411)
وَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ { : سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ , فَقَالَ : لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ , فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَجْلِسِهِ , فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِالْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ رِجْلَهُ الْأُخْرَى } , وَقَدْ بَنَى الْخَصَّافُ كِتَابَهُ فِي الْحِيَلِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ , وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَأَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ الْحِنْثِ بِفِعْلِ بَعْضِهِ لَمْ يَكُنْ حَانِثًا , فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ وَلَا يَأْخُذُ هَذَا الْمَتَاعَ فَلْيَدَعْ بَعْضَهُ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَلَا يَحْنَثُ , وَهَذَا أَصْلٌ فِي بَابِهِ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ الْأَيْمَانِ . وَهَذَا السَّلَفُ الطَّيِّبُ قَدْ فَتَحُوا لَنَا هَذَا الْبَابَ , وَنَهَجُوا لَنَا هَذَا الطَّرِيقَ , فَرَوَى قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّ لِي مَعَك حَقًّا , فَقَالَ : لَا , فَقَالَ : احْلِفْ لِي بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ , فَقَالَ : يَحْلِفُ لَهُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ , وَيَعْنِي بِهِ مَسْجِدَ حَيِّهِ , وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا , وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ , فَكَيْفَ الْحِيلَةُ ؟ قَالَ : يَقُولُ وَاَللَّهِ مَا أُبْصِرُ إلَّا مَا سَدَّدَنِي غَيْرِي .(1/412)
وَذَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ : جَعَلَ حُذَيْفَةُ يَحْلِفُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَى أَشْيَاءَ بِاَللَّهِ مَا قَالَهَا , وَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُهَا , فَقُلْنَا : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , سَمِعْنَاك تَحْلِفُ لِعُثْمَانَ عَلَى أَشْيَاءَ مَا قُلْتهَا , وَقَدْ سَمِعْنَاك قُلْتهَا , فَقَالَ : إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ , وَذَكَرَ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : إنِّي أَنَالُ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَيَبْلُغُهُ عَنِّي , فَكَيْفَ أَعْتَذِرُ لَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ : قُلْ وَاَللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ مَا قُلْت مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ , وَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ مِنْ الْحَجَّاجِ : إنْ سُئِلْتُمْ عَنِّي فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ لَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا , وَلَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَنَا , وَاعْنُوا لَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا مِنْ الْبَيْتِ , وَفِي أَيِّ مَوْضِعٌ مِنْهُ , وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَا يَسُرُّنِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ حُمُرُ النَّعَمِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ - وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ - { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : رَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ : فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ , وَالرَّجُلِ يَكْذِبُ لِامْرَأَتِهِ , وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ } .(1/413)
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ : حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفْلَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ لَمَّا قَتَلَ الزَّنَادِقَةَ نَظَرَ فِي الْأَرْضِ , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ , ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ , فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ , فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشَيْءٌ عَهِدَ إلَيْك رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ شَيْءٌ رَأَيْته ؟ فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ ؟ قُلْت : لَا , قَالَ : فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى الْأَرْضِ ؟ قُلْت : لَا , قَالَ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَقُولَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ قُلْت : لَا , قَالَ : فَإِنِّي رَجُلُ مَكَائِدٌ . وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ : ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ قَالَ : كُنْت عِنْدَ إبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتُهُ تُعَاتِبُهُ فِي جَارِيَتِهِ وَبِيَدِهَا مِرْوَحَةٌ , فَقَالَ : أُشْهِدُكُمْ بِأَنَّهَا لَهَا , فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ : عَلَامَ شَهِدْتُمْ ؟ قُلْنَا : أَشْهَدْتَنَا أَنَّكَ جَعَلْت الْجَارِيَةَ لَهَا , قَالَ : أَمَا رَأَيْتُمُونِي أُشِيرُ إلَى الْمِرْوَحَةِ ؟ .(1/414)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ ; لَا بَأْسَ بِالْحِيَلِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَجُوزُ , وَإِنَّمَا الْحِيَلُ شَيْءٌ يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَامِ , وَيَخْرُجُ بِهِ إلَى الْحَلَالِ , فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ , وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يُبْطِلَهُ , أَوْ يَحْتَالَ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُوهِمَ أَنَّهُ حَقٌّ , أَوْ يَحْتَالَ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً , وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي قُلْنَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مَخَارِجُ مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَالِفَ يَضِيقُ عَلَيْهِ إلْزَامُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ , فَيَكُونُ لَهُ بِالْحِيلَةِ مَخْرَجٌ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ تَشْتَدُّ بِهِ الضَّرُورَةُ إلَى نَفَقَةٍ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُقْرِضُهُ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ مَخْرَجٌ بِالْعِينَةِ وَالتَّوَرُّقِ وَنَحْوِهِمَا , فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَهَلَكَ وَلَهَلَكَتْ عِيَالُهُ , وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُشَرِّعُ ذَلِكَ , وَلَا يَضِيقُ عَلَيْهِ شَرْعُهُ الَّذِي وَسِعَ جَمِيعَ خَلْقِهِ ; فَقَدْ دَارَ أَمْرُهُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا : إمَّا إضَاعَةُ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ , وَإِمَّا الرِّبَا صَرِيحًا , وَإِمَّا الْمَخْرَجُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ , فَأَوْجَدُونَا أَمْرًا رَابِعًا نَصِيرُ إلَيْهِ .(1/415)
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَنْزِعُهُ الشَّيْطَانُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقِ فَيَضِيقُ عَلَيْهِ جِدًّا مُفَارَقَةُ امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ وَخَرَابُ بَيْتِهِ , فَكَيْفَ يُنْكِرُ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ نَتَحَيَّلَ لَهُ بِحِيلَةٍ تُخْرِجُهُ مِنْ هَذَا الْإِصْرِ وَالْغُلِّ ؟ وَهَلْ السَّاعِي فِي ذَلِكَ إلَّا مَأْجُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ كَمَا قَالَهُ إمَامُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي وَقْتِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَحَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا إذَا شَرَطَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنَّهُ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ ؟ قَالُوا : وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : أَرْسَلَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَجُلٍ , فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا , فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا وَلَا يُطَلِّقَهَا , وَأَوْعَدَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ إنْ طَلَّقَهَا , فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ صَحَّحَ نِكَاحَهُ , وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِهِ , وَهُوَ حُجَّةٌ فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلَّلِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ . وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالتَّحْلِيلِ , إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَهُوَ قَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ . وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً مُحَلِّلًا ثُمَّ رَغِبَ فِيهَا فَأَمْسَكَهَا , قَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : لَا بَأْسَ بِالتَّحْلِيلِ إذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الزَّوْجُ .(1/416)
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : إنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ فَارَقَهَا لِتَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُطَلِّقُ وَلَا هِيَ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إحْسَانًا مِنْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ , فَإِنْ بَيَّنَ الثَّانِي ذَلِكَ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا لَمْ يَضُرَّهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ : الْمُحَلِّلُ الَّذِي يَفْسُدُ نِكَاحُهُ هُوَ الَّذِي يَعْقِدُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ عَقْدِ النِّكَاحِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا , فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَعَقْدُهُ صَحِيحٌ لَا دَاخِلَةَ فِيهِ , سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ , نَوَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ , قَالَ أَبُو ثَوْرٍ : وَهُوَ مَأْجُورٌ . وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ [ مِثْلُ هَذَا سَوَاءٌ . وَرَوَى أَيْضًا مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ] : إذَا نَوَى الثَّانِي وَهِيَ تَحْلِيلُهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِذَلِكَ . وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ زُفَرَ وَأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ إنْ اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَنَّهُ إنَّمَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَإِنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ , وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ , وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا ; فَهَذِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .(1/417)
قَالُوا : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَهَذَا زَوْجٌ , وَقَدْ عَقَدَ بِمَهْرٍ وَوَلِيٍّ وَرِضَاهَا وَخُلُوِّهَا مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ , وَهُوَ رَاغِبٌ فِي رَدِّهَا إلَى الْأَوَّلِ ; فَيَدْخُلُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ } وَهَذَا نِكَاحُ رَغْبَةٍ فِي تَحْلِيلِهَا لِلْمُسْلِمِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا شَرَطَ فِي عَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ مُجَرَّدَ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ بَيْنَهُمَا , وَغَيَّا الْحِلَّ بِذَلِكَ فَقَالَ : { لَا , حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا } فَإِذَا تَذَاوَقَا الْعُسَيْلَةَ حَلَّتْ لَهُ بِالنَّصِّ . قَالُوا : وَأَمَّا نِكَاحُ الدُّلْسَةِ فَنَعَمْ هُوَ بَاطِلٌ , وَلَكِنْ مَا هُوَ نِكَاحُ الدُّلْسَةِ ؟ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنْ تُدَلِّسَ لَهُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِهَا , أَوْ تُدَلِّسَ لَهُ أَنَّهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ تَنْقَضِ لِتَسْتَعْجِلَ عَوْدَهَا إلَى الْأَوَّلِ .(1/418)
وَأَمَّا لَعْنُهُ لِلْمُحَلِّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ كُلَّ مُحَلِّلٍ وَمُحَلَّلٍ لَهُ ; فَإِنَّ الْوَلِيَّ مُحَلِّلٌ لِمَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَ الْعَقْدِ , وَالْحَاكِمُ الْمُزَوِّجُ مُحَلِّلٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ , وَالْبَائِعُ لِأُمَّتِهِ مُحَلِّلٌ لِلْمُشْتَرِي وَطْأَهَا , فَإِنْ قُلْنَا : " الْعَامُّ إذَا خَصَّ صَارَ مُجْمَلًا " بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْحَدِيثِ , وَإِنْ قُلْنَا : " هُوَ حُجَّةٌ فِيمَا عَدَا مَحَلَّ التَّخْصِيصِ " فَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهُ , وَلَسْنَا نَدْرِي الْمُحَلِّلَ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النَّصِّ , أَهُوَ الَّذِي نَوَى التَّحْلِيلَ أَوْ شَرَطَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ شَرَطَهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ؟ أَوْ الَّذِي أَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ وَوَجَدْنَا كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا فَإِنَّهُ مُحَلِّلٌ , وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّحْلِيلَ وَلَمْ يَنْوِهِ ; فَإِنَّ الْحِلَّ حَصَلَ بِوَطْئِهِ وَعَقْدِهِ ؟ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّصِّ , فَعُلِمَ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَنْ أَحَلَّ الْحَرَامَ بِفِعْلِهِ أَوْ عَقْدِهِ , وَنَحْنُ وَكُلُّ مُسْلِمٍ لَا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ أَهْلٌ لِلَعْنَةِ اللَّهِ , أَمَّا مَنْ قَصَدَ الْإِحْسَانَ إلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَرَغِبَ فِي جَمْعِ شَمْلِهِ بِزَوْجَتِهِ , وَلَمِّ شَعْثِهِ وَشَعْثِ أَوْلَادِهِ وَعِيَالِهِ ; فَهُوَ مُحْسِنٌ , وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ , فَضْلًا عَنْ أَنْ تَلْحَقَهُمْ لَعْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .(1/419)
ثُمَّ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأَدِلَّتُهُ لَا تُحَرِّمُ مِثْلَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِطْ الْمَحْرَمُ فِي صُلْبِهَا عُقُودٌ صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحِلِّهَا مَقْرُونَةً بِشُرُوطِهَا , فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا ; لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَهُمَا تَامَّانِ , وَأَهْلِيَّةُ الْعَاقِدِ لَا نِزَاعَ فِيهَا , وَمَحَلِّيَّةُ الْعَقْدِ قَابِلَةٌ , فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ , وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي بُطْلَانِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ , لِوُجُوهٍ ; أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُحْتَالَ مَثَلًا إنَّمَا قَصَدَ الرِّبْحَ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ التِّجَارَةُ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى , فَإِذَا حَصَلَ لَهُ الرِّبْحُ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ , وَقَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ , وَالْمُحَلِّلُ غَايَتُهُ أَنَّهُ قَصَدَ الطَّلَاقَ وَنَوَاهُ إذَا وَطِئَ الْمَرْأَةَ , وَهُوَ مِمَّا مَلَّكَهُ الشَّارِعُ إيَّاهُ , فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى الْمُشْتَرِي إخْرَاجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ إذَا اشْتَرَاهُ , وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ مُقْتَضٍ لِتَأَبُّدِ الْمِلْكِ , وَالنِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجِبَ السَّبَبِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ النِّيَّةَ تُوجِبُ تَأْقِيتَ الْعَقْدِ , وَلَيْسَتْ هِيَ مُنَافِيَةً لِمُوجِبِ الْعَقْدِ , فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ .(1/420)
وَلَوْ نَوَى بِعَقْدِ الشِّرَاءِ إتْلَافَ الْمَبِيعِ وَإِحْرَاقَهُ أَوْ إغْرَاقَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ , فَنِيَّةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى , وَأَيْضًا فَالْقَصْدُ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ لِحُكْمِهِ ; لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَمَّا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ , وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى عَصِيرًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا أَوْ جَارِيَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ أَوْ يَجْعَلَهَا مُغَنِّيَةً أَوْ سِلَاحًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مَعْصُومًا فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ السَّبَبِ ; فَلَا يَخْرُجُ السَّبَبُ عَنْ اقْتِضَاءِ حُكْمِهِ . وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَصْدِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ ; فَإِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ , وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِي الرِّضَا , وَظَهَرَ أَيْضًا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ ; فَإِنَّ الشَّرْطَ الْمُقَارِنَ يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ الْعَقْدِ ; فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعَاقِدَ قَصَدَ مُحَرَّمًا , لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ , كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّ بِهَا امْرَأَةً لَهُ أُخْرَى , وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلْمَنْوِيِّ وَغَيْرِهِ , مِثْلَ الْكِنَايَاتِ , وَمِثْلَ أَنْ يَقُولَ : اشْتَرَيْت كَذَا ; فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكَّلِهِ , فَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا صَحَّ , فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ ظَاهِرًا مُتَعَيِّنًا لِمُسَبِّبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلنِّيَّةِ الْبَاطِنَةِ أَثَرٌ فِي تَغْيِيرِ حُكْمِهِ .(1/421)
يُوَضِّحُهُ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي اقْتِضَاءِ الْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمُسَبِّبَاتِهَا وَلَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي تَغْيِيرِهَا , يُوَضِّحُهُ أَنَّ النِّيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ أَوْ لَا تَكُونَ , فَإِنْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَزِمَ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ لَا يَبِيعَ مَا اشْتَرَاهُ وَلَا يَهَبُهُ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ , أَوْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ , أَوْ نَوَى أَنْ لَا يُطَلِّقَ الزَّوْجَةَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ لَا يُسَافِرَ عَنْهَا , بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ , وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ حِينَئِذٍ . وَأَيْضًا فَنَحْنُ لَنَا ظَوَاهِرُ الْأُمُورِ , وَإِلَى اللَّهِ سَرَائِرُهَا وَبَوَاطِنُهَا ; وَلِهَذَا يَقُولُ الرُّسُلُ لِرَبِّهِمْ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا سَأَلَهُمْ : { مَاذَا أُجِبْتُمْ } فَيَقُولُونَ : { لَا عِلْمَ لَنَا إنَّك أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } كَانَ لَنَا ظَوَاهِرُهُمْ , وَأَمَّا مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ فَأَنْتَ الْعَالِمُ بِهِ . قَالُوا : فَقَدْ ظَهَرَ عُذْرُنَا , وَقَامَتْ حُجَّتُنَا , فَتَبَيَّنَ أَنَّا لَمْ نَخْرُجْ فِيمَا أَصَّلْنَاهُ - مِنْ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ , وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْقُصُودِ فِي الْعُقُودِ , وَإِلْغَاءِ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْخَالِي عَنْهَا الْعَقْدُ , وَالتَّحَيُّلُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ مَضَايِقِ الْأَيْمَانِ وَمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الرِّبَا وَغَيْرِهِ - عَنْ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَأَقْوَالِ السَّلَفِ الطَّيِّبِ .(1/422)
وَلَنَا بِهَذِهِ الْأُصُولِ رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُنْكِرَةِ عَلَيْنَا .
[ ادِّعَاءٌ أَنَّ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فُرُوعًا يَنْبَنِي عَلَيْهَا تَجْوِيزُ الْحِيَلِ ] : قُلْنَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُهُونٌ كَثِيرَةٌ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ , وَقَدْ سَلَّمُوا لَنَا أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ مُلْغًى , وَسَلَّمُوا لَنَا أَنَّ الْقُصُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعُقُودِ , وَسَلَّمُوا لَنَا جَوَازَ التَّحَيُّلِ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ , وَقَالُوا : يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى بَيْعِ الْمَعْدُومِ مِنْ الثِّمَارِ فَضْلًا عَمَّا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ جُزْءٌ عَلَى جُزْءٍ , وَهَذَا نَفْسُ الْحِيلَةِ عَلَى بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ وُجُودِهَا , فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ عَلَيْنَا التَّحَيُّلَ عَلَى بَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ؟ وَهَلْ مَسْأَلَةُ الْعَيِّنَةِ إلَّا مِلْكَ بَابِ الْحِيَلِ ؟ وَهُمْ يُبْطِلُونَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ ثُمَّ يَقُولُونَ : الْحِيلَةُ فِي جَوَازِهَا أَنْ يَبِيعَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ لِصَاحِبِهِ , فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ حِينَئِذٍ بِالْفِعْلِ وَيَقُولُونَ : لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ , وَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِهَا أَنْ يُوَكِّلَهُ الْآنَ وَيُعَلِّقَ تَصَرُّفَهُ بِالشَّرْطِ . وَقَوْلُهُمْ فِي الْحِيَلِ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ بِالْمَسْأَلَةِ السريجية مَعْرُوفٌ , وَكُلُّ حِيلَةٍ سِوَاهُ مُحَلَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حِيلَةٌ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ دَائِمًا بِالطَّلَاقِ وَيَحْنَثَ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَبَدًا .(1/423)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا عَلَيْنَا لِلْحِيَلِ , وَأُصُولُهُمْ تُخَالِفُ أُصُولَنَا فِي ذَلِكَ ; إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالْمُقَارَنِ , وَالشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ , وَالْقُصُودُ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ , وَالذَّرَائِعُ يَجِبُ سَدُّهَا , وَالتَّغْرِيرُ الْفِعْلِيُّ كَالتَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ , وَهَذِهِ الْأُصُولُ تَسُدُّ بَابَ الْحِيَلِ سَدًّا مُحْكَمًا . وَلَكِنْ قَدْ عَلَّقْنَا لَهُمْ بِرُهُونٍ نُطَالِبُهُمْ بِفَكَاكِهَا أَوْ بِمُوَافَقَتِهِمْ لَنَا عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْنَا , فَجَوَّزُوا التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ , وَقَالُوا : لَوْ تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا سَنَةً صَحَّ النِّكَاحُ , وَلَمْ تَعْمَلْ هَذِهِ النِّيَّةُ فِي فَسَادِهِ . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُعْتَرَكُ النِّزَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ; فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ شَنُّوا عَلَيْنَا الْغَارَاتِ , وَرَمَوْنَا بِكُلِّ سِلَاحٍ مِنْ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ , وَلَمْ يُرَاعُوا لَنَا حُرْمَةً , وَلَمْ يَرْقُبُوا فِينَا إلًّا وَلَا ذِمَّةً . وَقَالُوا : لَوْ نَصَبَ شِبَاكًا لِلصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَخَذَ مَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْحِلِّ جَازَ . وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَحِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ عَلَى الْحِيتَانِ ؟ وَقَالُوا : لَوْ نَوَى الزَّوْجُ الثَّانِي أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ جَازَ وَحَلَّتْ لَهُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ , وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرْ فِي الْعَقْدِ .(1/424)
وَقَالُوا : لَوْ تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُقِيم مَعَهَا شَهْرًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا صَحَّ الْعَقْدُ , وَلَمْ تَكُنْ نِيَّةُ التَّوْقِيتِ مُؤَثِّرَةً فِيهِ , وَكَلَامُهُمْ فِي بَابِ الْمَخَارِجِ مِنْ الْأَيْمَانِ بِأَنْوَاعٍ الْحِيَلِ مَعْرُوفٌ , وَعَنَّا تَلَقَّوْهُ , وَمِنَّا أَخَذُوهُ . وَقَالُوا : لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُ ثَوْبًا فَاتَّهَبَهُ مِنْهُ وَشَرَطَ لَهُ الْعِوَضَ لَا يَحْنَثُ . وَقَالُوا بِجَوَازِ مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ . وَهِيَ شَقِيقَةُ مَسْأَلَةِ الْعَيِّنَةِ ; فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَصِيرِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَبَيْنَ مَصِيرِهَا إلَى غَيْرِهِ ؟ بَلْ قَدْ يَكُونُ عَوْدُهَا إلَى الْبَائِعِ أَرْفَقُ بِالْمُشْتَرِي وَأَقَلُّ كَلِفَةً عَلَيْهِ وَأَرْفَعُ لِخَسَارَتِهِ وَتَعَنِّيهِ . فَكَيْفَ تُحَرِّمُونَ الضَّرَرَ الْيَسِيرَ وَتُبِيحُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَالْحَقِيقَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ عَشَرَةٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ رَجَعَتْ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ إلَى مَالِكِهَا وَفِي الثَّانِيَةِ إلَى غَيْرِهِ ؟ وَقَالُوا : لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ أَبَدًا ثُمَّ أَرَادَ تَزْوِيجَهُ بِهَا وَلَا يَحْنَثُ فَإِنَّهُ يَبِيعُ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُزَوِّجُهُمَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَسْتَرِدُّهُمَا مِنْهُ .(1/425)
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أَصْلِنَا ; لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ قَدْ وُجِدَ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُمَا , وَلَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ بَعْد أَنْ مَلَكَهُمَا ; لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ وَقَدْ انْقَضَى وَإِنَّمَا بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَةِ حُكْمِهِ . وَقَالُوا : لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَدَعَهُ لَهُ مِنْ زَكَاتِهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ثُمَّ يَقْبِضَهُ مِنْهُ , ثُمَّ قَالُوا : فَإِنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِيهِ فَخَافَ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَهَبَ الْمَطْلُوبُ لِلطَّالِبِ مَالًا بِقَدْرِ حِصَّةِ الطَّالِبِ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ وَيَقْبِضَهُ مِنْهُ لِلطَّالِبِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ الطَّالِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمَا وَهَبَهُ لَهُ وَيَحْتَسِبُ بِذَلِكَ مِنْ زَكَاتِهِ ثُمَّ يَهَبُ الْمَطْلُوبُ مَالَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَلَا يَضْمَنُ الطَّالِبُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا ; لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِمَنْ فِي ذِمَّتِهِ بَرَاءَةٌ . وَإِذَا أَبْرَأَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَرِيمَ مِنْ نَصِيبِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا , وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إذَا حَصَلَ الدَّيْنُ فِي ضَمَانِهِ . وَقَالُوا : لَوْ أَجَّرَهُ الْأَرْضَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَرَاجَهَا لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمَالِكِ لَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ , وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهَا بِمَبْلَغٍ يَكُونُ زِيَادَتُهُ بِقَدْرِ الْخَرَاجِ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي خَرَاجِهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى أُجْرَتِهَا .(1/426)
قَالُوا : لِأَنَّهُ مَتَى زَادَ مِقْدَارُ الْخَرَاجِ عَلَى الْأُجْرَةِ حَصَلَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ , وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مُسْتَحِقِّ الْخَرَاجِ وَهُوَ جَائِزٌ . وَقَالُوا : وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَابَّةً وَيَشْتَرِطَ عَلَفَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَمْ يَجُزْ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ هَكَذَا سَوَاءٌ , يَزِيدُ فِي الْأُجْرَةِ وَيُوَكِّلَهُ أَنْ يَعْلِفَ الدَّابَّةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ . وَقَالُوا : لَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرَةِ لِلثَّمَرَةِ , وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرَةِ مِنْ كُلِّ أَلْفِ جُزْءٍ جُزْءٌ مَثَلًا . وَقَالُوا : لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ , فَلَمَّا رَآهَا أَرَادَ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ , وَخَافَ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا بِمَالِ الْمُوَكِّلِ لَهُ , وَهُوَ وَكِيلُهُ , فَالْوَجْهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ , ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ , ثُمَّ يَنْقُدُ مَا مَعَهُ مِنْ الثَّمَنِ , وَيَصِيرُ لِمُوَكِّلِهِ فِي ذِمَّتِهِ نَظِيرُهُ . قَالُوا : وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا تَأْتِي هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أُصُولِنَا ; لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ إلَّا بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ . قَالُوا : وَقَدْ قَالَتْ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا : لَوْ أَرَادَ إجَارَةً أَرْضٍ لَهُ فِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَجُزْ , وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ , فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الزَّرْعَ جَازَ .(1/427)
وَقَالُوا : لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَصِحَّ , وَالْحِيلَةُ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يُقْرِضَهُ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَقْبِضَهُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ , فَإِذَا قَبَضَهُ دَفَعَهُ إلَى مَالِكِهِ الْأَوَّلِ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَدْفَعُهُ رَبُّ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ بِضَاعَةً فَإِنْ تَوَى . فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ فَتَسْلِيمُهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً كَتَسْلِيمِ مَالٍ لَهُ آخَرَ . وَحِيلَةٌ أُخْرَى , وَهِيَ أَنْ يُقْرِضَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ مَا يُرِيدُ دَفْعُهُ إلَيْهِ , ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ عِنْدِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا , فَيُشَارِكُهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ , فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ , وَإِنْ خَسِرَ كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ , عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ وَعَلَى الْمُضَارِبِ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ , وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ , وَالْمُلْزَمَ نَفْسَهُ الضَّمَانَ بِدُخُولِهِ فِي الْقَرْضِ . وَقَالُوا : لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ عَلَى الْعَرْضِ , فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عَرْضٌ فَأَرَادَ أَنْ يُضَارِبَ عَلَيْهِ فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَرْضَ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ فَيَدْفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَشْتَرِي الْمُضَارِبُ ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِالْمَالِ .(1/428)
وَقَالُوا : لَوْ حَلَّفَتْهُ امْرَأَتُهُ أَنَّ كُلَّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ , فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ وَلَا تَعْتِقُ أَنْ يَعْنِي بِالْجَارِيَةِ السَّفِينَةَ وَلَا تَعْتِقُ , وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ هَذِهِ النِّيَّةُ وَقْتَ الْيَمِينِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا صَاحِبَهُ وَيَهَبُهُ إيَّاهَا ثُمَّ يَهَبُهُ نَظِيرَ الثَّمَنِ . وَقَالُوا : لَوْ حَلَّفَتْهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ , وَخَافَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ هَذَا التَّعْلِيقَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى طَلَاقِكِ : أَيْ يَكُونُ طَلَاقُكِ صَدَاقُهَا , أَوْ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى رَقَبَتِكِ : أَيْ تَكُونُ رَقَبَتُكِ صَدَاقُهَا , فَهِيَ طَالِقٌ , فَلَا يَحْنَثُ بِالتَّزْوِيجِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ . وَقَالُوا : لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الصَّيْرَفِيِّ مَبْلَغُ الدَّرَاهِمِ وَأَرَادَ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي لَمْ يَجُزْ , وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ صَرْفِهِ ثُمَّ يُقْرِضَهُ إيَّاهَا فَيَصْرِفُ بِهَا الْبَاقِي , فَإِنْ لَمْ يُوفِ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صَرْفَهُ , وَيَصِيرَ مَا أَقْرَضَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ , لَا أَنَّهُ عِوَضُ الصَّرْفِ . وَقَالُوا : لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ , وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مَتَاعًا وَيَنْقُدَهُ ثَمَنَهُ وَيَقْبِضَ الْمَتَاعَ , ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِدَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ , وَالتَّأْجِيلُ جَائِزٌ فِي ثَمَنِ الْمَتَاعِ .(1/429)
وَقَالُوا : لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ , فَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَتَاعًا ضَمِنَ ; لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بَعْدَ بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ . وَالْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِ الْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ رَبُّ الْمَالِ أَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً لِوَلَدِهِ , وَأَنَّهُ مُقَارِضٌ إلَى هَذَا الشَّرِيكِ بِجَمِيعِ مَا تَرَكَهُ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِوَلَدِهِ مَا أَحَبَّ فِي حَيَاتِهِ , وَبَعْدَ وَفَاتِهِ . فَيَجُوزُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ كَوْنُهُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ , فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ , وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا تَتِمُّ إذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْلَادًا صِغَارًا . وَقَالُوا : لَوْ صَالَحَ عَنْ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا لَمْ يَصِحَّ , وَالْحِيلَةُ فِي تَصْحِيحِهِ أَنْ يَفْسَخَا الْعَقْدَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الْمُؤَجَّلِ وَيَجْعَلَاهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَالِّ . وَقَالُوا : لَوْ لَبِسَ الْمُتَوَضِّئُ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ غَسْلِ الرِّجْلِ الْأُخْرَى ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ عَلَى كَمَالِ الطَّهَارَةِ , وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ أَنْ يَخْلَعَ هَذِهِ الْفَرْدَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَلْبَسَهَا .(1/430)
قَالُوا : وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ جَازَ , فَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ شِرَاءَ خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ الْأَمَةِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يَجُزْ , وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُصَالِحُوهُ عَنْ الْمُوصَى بِهِ عَلَى مَا يَبْذُلُونَهُ لَهُ فَيَجُوزُ , وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَإِنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ . قَالُوا : وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ , فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَرْضٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ , وَلِلْآخَرِ عَرْضٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَأَحَبَّا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْعَرْضَيْنِ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ صَاحِبُ الْعَرْضِ الَّذِي قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ مِنْ الْآخَرِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ عَرْضِهِ بِسُدُسِ عَرْضِهِ هُوَ ; فَيَصِيرُ لِلَّذِي يُسَاوِي عَرْضُهُ أَلْفًا سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ , وَلِلْآخَرِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَالَيْهِمَا سِتَّةُ آلَافٍ , وَقَدْ حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَرْضَيْنِ بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا , خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ لِأَحَدِهِمَا وَسُدُسَهُ لِلْآخَرِ , فَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ . قَالُوا : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُوَكَّلِ لِمُوَكِّلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلُهُ فِيهِ , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ غَيْرُهُ وَخَافَ ضَيَاعَ حَقِّهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثُمَّ يُوَكِّلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَرَادَ .(1/431)
قَالُوا : وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ , وَثُلُثَهُ يَحْتَمِلُهُ , وَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنْ يَجْحَدُوا الْمَالَ وَيَرِثُوا ثُلُثَيْهِ ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالًا يَشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْهُ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ , وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ أَقَبَضَهُ الْمَالَ , وَصَارَ الْعَبْدُ حُرًّا . قَالُوا : وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ دَيْنٌ عَلَى الْمَوْرُوثِ , وَلَيْسَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ , فَأَرَادَ بَيْعَهُ الْعَبْدَ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءٌ . قَالُوا : وَلَوْ قَالَ : " أَوْصَيْت إلَى فُلَانٍ , وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَإِلَى فُلَانٍ " وَخَافَ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى جَوَازَ تَعْلِيقِ الْوِلَايَةِ بِالشَّرْطِ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ : " فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَصِيَّانِ , فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ فَاَلَّذِي قَبِلَ هُوَ الْوَصِيُّ " فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ الْوِلَايَةَ بِالشَّرْطِ . قَالُوا : وَلَوْ أَرَادَ ذِمِّيٌّ أَنْ يُسْلِمَ وَعِنْدَهُ خَمْرٌ كَثِيرٌ , فَخَافَ أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يُبَادِرَ بِبَيْعِهَا مِنْ ذِمِّيٍّ آخَرَ ثُمَّ يُسْلِمُ , فَإِنَّهُ يَمْلِكُ تَقَاضِيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ , فَإِنْ بَادَرَ الْآخَرُ وَأَسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَجُوسِيٍّ بَاعَ مَجُوسِيًّا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَا يَأْخُذُ الثَّمَنَ , قَدْ وَجَبَ لَهُ يَوْمَ بَاعَهُ .(1/432)
قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : فَهَذَا رَهْنٌ , الْفَرْقُ عِنْدَنَا بِأَنَّهُمْ قَالُوا بِالْحِيَلِ وَأَفْتَوْا بِهَا , فَمَاذَا تُنْكِرُونَ عَلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتُشَنِّعُونَ ؟ وَمِثَالُنَا وَمِثَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْمٍ وَجَدُوا كَنْزًا فَأَصَابَ كُلٌّ مِنْهُمْ طَائِفَةً مِنْهُ فِي يَدَيْهِ , فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ , ثُمَّ أَقْبَلَ بَعْضُ الْآخِذِينَ يَنْقِمُ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ , وَمَا أَخَذَهُ مِنْ الْكَنْزِ فِي يَدَيْهِ , فَلْيَرْمِ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ ثُمَّ لِيُنْكِرْ عَلَى الْبَاقِينَ .
[(1/433)
جَوَابُ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْحِيَلَ ] قَالَ الْمُبْطِلُونَ لِلْحِيَلِ : سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ , فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَحَرَّمَ الْمَحَارِمَ وَأَوْجَبَ الْحُقُوقَ رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ , وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ الْكَامِلَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَغِذَاءً لِحِفْظِ حَيَاتِهِمْ , وَدَوَاءً لِدَفْعِ أَدْوَائِهِمْ , وَظِلَّهُ الظَّلِيلَ الَّذِي مَنْ اسْتَظَلَّ بِهِ أَمِنَ مِنْ الْحَرُورِ , وَحِصْنَهُ الْحَصِينَ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ نَجَا مِنْ الشُّرُورِ , فَتَعَالَى شَارِعُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْفَائِقَةِ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ أَنْ يَشْرَعَ فِيهَا الْحِيَلَ الَّتِي تُسْقِطُ فَرَائِضَهُ , وَتُحِلُّ مَحَارِمَهُ , وَتُبْطِلُ حُقُوقَ عِبَادِهِ , وَيَفْتَحُ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الِاحْتِيَالِ , وَأَنْوَاعَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ , وَأَنْ يُبِيحَ التَّوَصُّلَ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ , إلَى الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ , وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُضْغَةً لِأَفْوَاهِ الْمُحْتَالِينَ , عُرْضَةً لِأَغْرَاضِ الْمُخَادِعِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ , وَيُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ , وَيَرْتَكِبُونَ الْعَبَثَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ سِوَى ضِحْكَةِ الضَّاحِكِينَ وَسُخْرِيَةِ السَّاخِرِينَ .(1/434)
فَيُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ , وَيَتَلَاعَبُونَ بِحُدُودِهِ كَتَلَاعُبِ الْمُجَّانِ , فَيُحَرِّمُونَ الشَّيْءَ ثُمَّ يَسْتَحِلُّونَهُ إيَّاهُ بِعَيْنِهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ , وَيَسْلُكُونَ إلَيْهِ نَفْسَهُ طَرِيقًا تُوهِمُ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ , وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لَا غَيْرُهُ , وَيُسْقِطُونَ الْحُقُوقَ الَّتِي وَصَّى اللَّهُ بِحِفْظِهَا وَأَدَائِهَا بِأَدْنَى شَيْءٍ , وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصُّورَةِ أَوْ الِاسْمِ أَوْ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِمَا , وَيَسْتَحِلُّونَ بِالْحِيَلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِمَّا يُحَرِّمُونَهُ وَيُسْقِطُونَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ وُجُوبًا مِمَّا يُوجِبُونَهُ .(1/435)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَّهَ شَرِيعَتَهُ عَنْ هَذَا التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ , وَجَعَلَهَا كَفِيلَةٍ وَافِيَةً بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ , وَجَعَلَهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ , وَنَصَبَهَا طَرِيقًا مُرْشِدًا لِمَنْ سَلَكَهُ إلَيْهِ ; فَهُوَ نُورُهُ الْمُبِينُ , وَحِصْنُهُ الْحَصِينُ , وَظِلُّهُ الظَّلِيلُ , وَمِيزَانُهُ الَّذِي لَا يَعُولُ , لَقَدْ تَعَرَّفَ بِهَا إلَى أَلِبَّاءِ عِبَادِهِ غَايَةَ التَّعَرُّفِ , وَتَحَبَّبَ بِهَا إلَيْهِمْ غَايَةَ التَّحَبُّبِ , فَأَنِسُوا بِهَا مِنْ حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ , وَتَمَّتْ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنْهُ نِعَمُهُ السَّابِغَةُ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الَّذِي فِي شَرْعِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ , وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ , الْمُسْتَحِقُّ لِنُعُوتِ الْجَلَالِ , الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى , فَلَا يَدْخُلُ السُّوءُ فِي أَسْمَائِهِ وَلَا النَّقْصُ وَالْعَيْبُ فِي صِفَاتِهِ , وَلَا الْعَبَثُ وَلَا الْجَوْرُ فِي أَفْعَالِهِ , بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ فِي ذَاتِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ عَمَّا يُضَادُّ كَمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ .(1/436)
تَبَارَكَ اسْمُهُ , وَتَعَالَى جَدُّهُ , وَبَهَرَتْ حِكْمَتُهُ , وَتَمَّتْ نِعْمَتُهُ , وَقَامَتْ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّتُهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِهِ تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ , فَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَلْ هِيَ شَرِيعَةٌ مُؤْتَلِفَةُ النِّظَامِ , مُتَعَادِلَةُ الْأَقْسَامِ , مُبَرَّأَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ , مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا , مُؤَسَّسَةٌ عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ , وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ , قَوَاعِدُهَا وَمَبَانِيهَا , إذَا حَرَّمَتْ فَسَادًا حَرَّمَتْ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ أَوْ نَظِيرَهُ , وَإِذَا رَعَتْ صَلَاحًا رَعَتْ مَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ شِبْهَهُ ; فَهِيَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا أَمْتَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ , وَمِلَّتُهُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا ضِيقَ فِيهَا وَلَا حَرَجَ , بَلْ هِيَ حَنِيفِيَّةُ التَّوْحِيدِ سَمْحَةُ الْعَمَلِ , لَمْ تَأْمُرْ بِشَيْءٍ فَيَقُولُ الْعَقْلُ لَوْ نَهَتْ عَنْهُ لَكَانَ أَوْفَقَ , وَلَمْ تَنْهَ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ الْحِجَا لَوْ أَبَاحَتْهُ لَكَانَ أَرْفَقِ , بَلْ أَمَرَتْ بِكُلِّ صَلَاحٍ , وَنَهَتْ عَنْ كُلِّ فَسَادٍ , وَأَبَاحَتْ كُلِّ طَيِّبٍ , وَحَرَّمَتْ كُلِّ خَبِيثٍ , فَأَوَامِرُهَا غِذَاءٌ وَدَوَاءٌ , وَنَوَاهِيهَا حِمْيَةٌ وَصِيَانَةٌ , وَظَاهِرُهَا زِينَةٌ لِبَاطِنِهَا , وَبَاطِنُهَا أَجْمَلُ مِنْ ظَاهِرِهَا , شِعَارُهَا الصِّدْقُ , وَقَوَامُهَا الْحَقُّ , وَمِيزَانُهَا الْعَدْلُ , وَحُكْمُهَا الْفَصْلُ , لَا حَاجَةَ بِهَا أَلْبَتَّةَ إلَى أَنْ تُكَمَّلَ بِسِيَاسَةِ مَلِكٍ أَوْ رَأْيِ ذِي رَأْيٍ أَوْ قِيَاسِ فَقِيهٍ أَوْ ذَوْقِ ذِي رِيَاضَةٍ أَوْ مَنَامِ ذِي دِينٍ(1/437)
وَصَلَاحٍ , بَلْ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ أَعْظَمُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا , وَمَنْ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ فَلِاعْتِمَادِهِ وَتَعْوِيلِهِ عَلَيْهَا . لَقَدْ أَكْمَلَهَا الَّذِي أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِشَرْعِهَا قَبْلَ سِيَاسَاتِ الْمُلُوكِ , وَحِيلَ الْمُتَحَيِّلِينَ , وَأَقْيِسَةِ الْقِيَاسِيِّينَ , وَطَرَائِقِ الْخِلَافِيِّينَ , وَأَيْنَ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ وَالْأَقْيِسَةُ وَالْقَوَاعِدُ الْمُتَنَاقِضَةُ وَالطَّرَائِقُ الْقِدَدُ وَقْتَ نُزُولِ قَوْلِهِ { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ , وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي , وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } ؟ وَأَيْنَ كَانَتْ يَوْمَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا , لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } . وَيَوْمَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا أَعْلَمْتُكُمُوهُ } ؟ وَأَيْنَ كَانَتْ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ : لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا .(1/438)
وَعِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِسَلْمَانَ : لَقَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ , فَقَالَ : أَجَلْ ؟ فَأَيْنَ عَلَّمَهُمْ الْحِيَلَ وَالْمُخَادَعَةَ وَالْمَكْرَ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ؟ كَلًّا وَاَللَّهِ , بَلْ حَذَّرَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ , وَأَوْعَدَهُمْ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْوَعِيدِ , وَجَعَلَهُ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ , وَأَخْبَرَ عَنْ لَعْنَةِ الْيَهُودِ لِمَا ارْتَكَبُوهُ , وَقَالَ لِأُمَّتِهِ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيَلِ } , وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ , وَسَدَّ الذَّرَائِعَ , وَفَصَّلَ الْحَلَالَ مِنْ الْحَرَامِ , وَبَيَّنَ الْحُدُودَ , وَقَسَّمَ شَرِيعَتَهُ إلَى حَلَالٍ بَيِّنٍ وَحَرَامٍ بَيِّنٍ , وَبَرْزَخَ بَيْنَهُمَا ; فَأَبَاحَ الْأَوَّلَ , وَحَرَّمَ الثَّانِي , وَحَضَّ الْأُمَّةَ عَلَى اتِّقَاءِ الثَّالِثِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ , وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عُقُوبَةِ الْمُحْتَالِينَ عَلَى حِلِّ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ : وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسُ : لَقَدْ مُسِخَ الْيَهُودَ قِرَدَةً بِدُونِ هَذَا , وَصَدَقَ وَاَللَّهِ لَآكِلُ حُوتٍ صِيدَ يَوْمَ السَّبْتِ أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقَلُّ جُرْمًا مِنْ آكِلِ الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ بِالْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَةِ , وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : عُجِّلَ لِأُولَئِكَ عُقُوبَةُ تِلْكَ الْأَكْلَةِ الْوَخِيمَةِ وَأُرْجِئَتْ عُقُوبَةُ هَؤُلَاءِ .(1/439)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ : وَهَلْ أَصَابَ الطَّائِفَةَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَسْخُ إلَّا بِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ حَفَرُوا الْحَفَائِرَ عَلَى الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ سَبْتِهِمْ فَمَنَعُوهَا الِانْتِشَارَ يَوْمَهَا إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا . وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدُّرَّةِ إذْ صَيَّرَهَا فِي قَصَبَةٍ ثُمَّ دَفَعَ الْقَصَبَةَ إلَى خَصْمِهِ وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ .(1/440)
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ تَلَبَّسَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ ; إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الرِّبَوِيَّاتِ , وَاسْتِعَارَةُ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ لِتَحْلِيلِ الْمُطَلَّقَاتِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَظَائِمِ وَالْمَصَائِبِ الْفَاضِحَاتِ , الَّتِي لَوْ اعْتَمَدَهَا مَخْلُوقٌ مَعَ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ , فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ؟ وَقَالَ : وَإِذَا وَازَنَ اللَّبِيبُ بَيْنَ حِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ , وَالْحِيَلِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَرْبَابُ الْحِيَلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَبْوَابِ ظَهَرَ لَهُ التَّفَاوُتُ وَمَرَاتِبُ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْحِيَلِ , فَإِذَا عَرَفَ قَدْرَ الشَّرْعِ , وَعَظَمَةَ الشَّارِعِ وَحِكْمَتَهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ , وَقَطَعَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَنَزَّهُ وَيَتَعَالَى أَنْ يُشَرِّعَ لِعِبَادِهِ نَقْضَ شَرْعِهِ وَحِكْمَتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ .(1/441)
فَصْلٌ [ الْجَوَابُ عَلَى شُبَهِ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ تَفْصِيلًا ] قَالُوا : وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ فِي تَقْرِيرِ الْحِيَلِ وَالْعَمَلِ بِهَا , وَنُبَيِّنُ مَا فِيهِ , مُتَحَرِّينَ لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ , مُنَزِّهِينَ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ الْمُحَرَّمِ , وَنُبَيِّنُ انْقِسَامَ الْحِيَلِ وَالطُّرُقِ إلَى مَا هُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ , وَفِسْقٌ ظَاهِرٌ , وَمَكْرُوهٌ , وَجَائِزٌ , وَمُسْتَحَبٌّ , وَوَاجِبٌ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا , ثُمَّ نَذْكُرُ فَصْلًا نُبَيِّنُ فِيهِ التَّعْوِيضَ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ , فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ : [ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ أَيُّوبَ ] أَمَّا قوله تعالى لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ عليه السلام : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } فَقَالَ شَيْخُنَا : الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ; فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي مُوجِبِ هَذِهِ الْيَمِينِ فِي شَرْعِنَا قَوْلَيْنِ , يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ , أَحَدُهُمَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مُوجِبُهَا الضَّرْبُ مَجْمُوعًا أَوْ مُفَرَّقًا , ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ مَعَ الْجَمْعِ الْوُصُولَ إلَى الْمَضْرُوبِ ; فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُتْيَا مُوجِبَ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , وَلَيْسَ هَذَا بِحِيلَةٍ , إنَّمَا الْحِيلَةُ أَنْ يَصْرِفَ اللَّفْظَ عَنْ مُوجِبِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مُوجِبَهُ الضَّرْبُ الْمَعْرُوفُ , وَإِذَا كَانَ هَذَا مُوجِبُهُ فِي شَرْعِنَا لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ(1/442)
عَلَيْنَا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَنَا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلِنَا ; لِأَنَّا إنْ قُلْنَا : " لَيْسَ شَرْعًا لَنَا مُطْلَقًا " فَظَاهِرٌ , وَإِنْ قُلْنَا : " هُوَ شَرْعٌ لَنَا " فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ لِشَرْعِنَا , وَقَدْ انْتَفَى الشَّرْطُ . وَأَيْضًا ; فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا خَاصَّةَ الْحُكْمِ ; فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَامَّةَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لَمْ يَخْفَ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ مُوجِبَ يَمِينِهِ , وَلَمْ يَكُنْ فِي اقْتِصَاصِهَا عَلَيْنَا كَبِيرُ عِبْرَةٍ ; فَإِنَّمَا يَقُصُّ مَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِنَعْتَبِرَ بِهِ وَنَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا , أَمَّا مَا كَانَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا يَقُصُّ , وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ قوله تعالى : { إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا } . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي نَظَائِرِهَا ; فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذَا جَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ , وَتَخْفِيفًا عَنْ امْرَأَتِهِ , وَرَحْمَةً بِهَا , لَا أَنَّ هَذَا مُوجِبُ هَذِهِ الْيَمِينِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذِهِ الْفُتْيَا لِئَلَّا يَحْنَثَ , كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى .(1/443)
فَصْلٌ [ مَتَى شُرِعَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ؟ ] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ , بَلْ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ إلَّا الْبِرُّ وَالْحِنْثَ , كَمَا هُوَ ثَابِتُ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي شَرِيعَتِنَا ; وَكَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ , قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها : لَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ نَذَرَ ضَرْبَهَا , وَهُوَ نَذْرٌ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ , وَلَا يُغْنِي عَنْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ; لِأَنَّ تَكْفِيرَ النَّذْرِ فَرْعٌ عَنْ تَكْفِيرِ الْيَمِينِ , فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذْ ذَاكَ مَشْرُوعَةً فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ أَوْلَى , وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ يُحْتَذَى بِهِ حَذْوَ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ , وَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ يَجِبُ تَفْرِيقُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ صَحِيحًا وَيَجُوزُ جَمْعُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ مَرِيضًا مَيْئُوسًا مِنْهُ عِنْدَ الْكُلِّ أَوْ مَرِيضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ , كَمَا ثَبَتَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَازَ أَنْ يُقَامَ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ مَقَامَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ , وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ أَيُّوبَ عليه السلام ضَعِيفَةً عَنْ احْتِمَالِ مِائَةِ الضَّرْبَةِ الَّتِي حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا إيَّاهَا , وَكَانَتْ كَرِيمَةً عَلَى رَبِّهَا , فَخَفَّفَ عَنْهَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاجِبَ بِالْيَمِينِ بِأَنْ أَفْتَاهُ بِجَمْعِ(1/444)
الضَّرَبَاتِ بِالضِّغْثِ كَمَا خَفَّفَ عَنْ الْمَرِيضِ . أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ جَاءَتْ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَنَّهُ يَجْزِيهِ الثُّلُثُ , فَأَقَامَ الثُّلُثَ فِي النَّذْرِ مَقَامَ الْجَمِيعِ رَحْمَةً بِالنَّاذِرِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ , كَمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ فِي الْوَصِيَّةِ رَحْمَةً بِالْوَارِثِ وَنَظَرًا لَهُ , وَجَاءَتْ السُّنَّةُ فِيمَنْ نَذَرَتْ الْحَجَّ مَاشِيَةً أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِي , إقَامَةً لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ مَقَامَ تَرْكِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ فِي الْمَنَاسِكِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ كَطَوَافِ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ . وَأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنِهِ بِشَاةٍ , إقَامَةَ لِذَبْحِ الشَّاةِ مَقَامَ ذَبْحِ الِابْنِ كَمَا شُرِعَ ذَلِكَ لِلْخَلِيلِ , وَأَفْتَى أَيْضًا مَنْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَرْبَعٍ بِأَنْ يَطُوفَ أُسْبُوعَيْنِ , إقَامَةً لِأَحَدِ الْأُسْبُوعَيْنِ مَقَامَ طَوَافِ الْيَدَيْنِ .(1/445)
وَأَفْتَى أَيْضًا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الْمَرِيضُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ بِأَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا , إقَامَةً لِلْإِطْعَامِ مَقَامَ الصِّيَامِ وَأَفْتَى أَيْضًا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ : الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَنْ تُفْطِرَا وَتُطْعِمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكَيْنَا , إقَامَةً لِلْإِطْعَامِ مَقَامَ الصِّيَامِ , وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا , وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُخَفِّفَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّيْءَ مِنْهَا عِنْدَ الْمَشَقَّةِ بِفِعْلِ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْأَبْدَالِ وَغَيْرِهَا وَلَكِنْ مِثْلُ قِصَّةِ أَيُّوبَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي شَرْعِنَا ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ أَمَتَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ أَمْكَنَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى حِيلَةٍ وَتَخْفِيفُ الضَّرْبِ بِجَمْعِهِ , وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّائِفَةِ , وَعِنْدَ طَائِفَةٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ خُصُوصًا فِي الْأَيْمَانِ ; فَإِنَّ الرُّجُوعَ فِيهَا إلَى عُرْفِ الْخِطَابِ شَرْعًا أَوْ عَادَةً أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مُوجَبِ اللَّفْظِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ قَالَ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } , وَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا(1/446)
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } . وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ لَا مَجْمُوعَةٌ , إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَضْرُوبُ مَعْذُورًا عُذْرًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ ; فَإِنَّهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مَجْمُوعًا , وَإِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ فَهَلْ يُؤَخَّرُ إلَى الزَّوَالِ , أَوْ يُقَامُ عَلَيْهِ مَجْمُوعًا ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ الْحَالِفَ لَيَضْرِبَنَّ مُوجِبُ يَمِينِهِ هُوَ الضَّرْبُ الْمَجْمُوعُ مَعَ صِحَّةِ الْمَضْرُوبِ وَقُوَّتِهِ ؟ فَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ أَقْوَى مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْحِيَلِ , وَعَلَيْهَا بَنَوْا حِيَلَهُمْ , وَقَدْ ظَهَرَ بِحَمْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ لَهُمْ فِيهَا أَلْبَتَّةَ .(1/447)
فَصْلٌ [ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ يُوسُفَ وَجَعْلِهِ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ] وَأَمَّا إخْبَارَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عليه السلام أَنَّهُ جَعَلَ صُوَاعَهُ فِي رَحْلِ أَخِيهِ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِهِ وَكَيْدِ إخْوَتِهِ , فَنَقُولُ لِأَرْبَابِ الْحِيَلِ : أَوَّلًا : هَلْ تُجَوِّزُونَ أَنْتُمْ مِثْلَ هَذَا حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً لَكُمْ ؟ وَإِلَّا فَكَيْفَ تَحْتَجُّونَ بِمَا لَا تُجَوِّزُونَ فِعْلَهُ ؟ , فَإِنْ قُلْتُمْ : فَقَدْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِ , قُلْنَا : وَمَا يَنْفَعُكُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ جَائِزًا فِي شَرْعِنَا ؟ قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه : مِمَّا قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ الَّتِي بَيَّنَّا تَحْرِيمَهَا وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا قِصَّةُ يُوسُفَ حِين كَادَ اللَّهُ لَهُ فِي أَخْذِ أَخِيهِ كَمَا قَصَّ ذَلِكَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ , فَإِنَّ فِيهِ ضُرُوبًا مِنْ الْحِيَلِ الْحَسَنَةِ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ لِفِتْيَانِهِ : { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِمْ , وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مَعَانِيَ : مِنْهَا أَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُمْ وَرِقٌ يَرْجِعُونَ بِهَا , وَمِنْهَا أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَضُرَّ أَخْذُ الثَّمَنِ بِهِمْ , وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى لَوْ مَا أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ , وَمِنْهَا أَنَّهُ أَرَاهُمْ كَرَمَهُ فِي رَدِّ الْبِضَاعَةِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الْعَوْدِ , وَمِنْهَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَمَانَتَهُمْ تَحُوجُهُمْ إلَى الْعَوْدِ لِيَرُدُّوهَا إلَيْهِ ; فَهَذَا الْمُحْتَالُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ , وَالْمَقْصُودُ رُجُوعُهُمْ وَمَجِيءُ(1/448)
أَخِيهِ , وَذَلِكَ أَمْرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ وَلَهُ , وَهُوَ مَقْصُودٌ صَالِحٌ , وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ فِيهَا أَيْضًا مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلَهُ وَلِأَبِيهِمْ وَتَمَامٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ فِي الْبَلَاءِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِمَا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ , وَهَذَا الْقَدْرُ تَضَمَّنَ إيهَامَ أَنَّ أَخَاهُ سَارِقٌ , وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ وَرِضًا مِنْهُ بِذَلِكَ , وَالْحَقُّ لَهُ فِي ذَلِكَ , وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى : { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَرَّفَهُ أَنَّهُ يُوسُفُ وَوَطَّنَهُ عَلَى عَدَمِ الِابْتِئَاسِ بِالْحِيلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي أَخْذِهِ مِنْهُمْ , وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِأَنَّهُ يُوسُفُ , وَإِنَّمَا أَرَادَ إنِّي مَكَانَ أَخِيكَ الْمَفْقُودَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا يُعَامِلُكَ بِهِ إخْوَتُكَ مِنْ الْجَفَاءِ . وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : إنَّهُ وَضَعَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَالْأَخُ لَا يَشْعُرُ , وَلَكِنْ هَذَا خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ الْقُرْآنِ وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ , وَفِيهِ تَرْوِيعٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ التَّرْوِيعَ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ قَالَ كَعْبٌ وَغَيْرُهُ : لَمَّا قَالَ لَهُ إنِّي أَنَا أَخُوكَ , قَالَ : فَأَنَا لَا أُفَارِقُكَ .(1/449)
قَالَ يُوسُفُ : فَقَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي بِي , فَإِذَا حَبَسْتُكَ ازْدَادَ غَمُّهُ , وَلَا يُمْكِنُنِي هَذَا إلَّا بَعْدَ أَنْ أُشْهِرُكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ وَأَنْسُبَكَ إلَى مَا لَا يُحْتَمَلُ , قَالَ : لَا أُبَالِي . فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ فَإِنِّي لَا أُفَارِقُكَ , قَالَ : فَإِنِّي أَدُسُّ صُوَاعِي . هَذَا فِي رَحْلِكَ , ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ , قَالَ : فَافْعَلْ ; وَعَلَى هَذَا فَهَذَا التَّصَرُّفُ إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ الْأَخِ وَرِضَاهُ . وَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ قَوْمُهُ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ , وَأَمَرَهُمْ بِالتَّرَبُّصِ , وَكَانَ يَأْمُرُ ابْنَهُ إذَا رَعَى إبِلَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَبْعُدَ , فَإِذَا جَاءَ خَاصَمَهُ بَيْنَ يَدَيْ قَوْمِهِ وَهَمَّ بِضَرْبِهِ , فَيَقُومُونَ فَيَشْفَعُونَ إلَيْهِ فِيهِ ; وَيَأْمُرَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَزْدَادَ بُعْدًا , فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبْعُدَ بِهَا جِدًّا , وَجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَمَا دَخَلَ اللَّيْلُ وَهُوَ يَلُومُ قَوْمَهُ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ وَمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مِنْ ضَرْبِهِ , وَهُمْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ ابْنِهِ , وَلَا يُنْكِرُونَ إبْطَاءَهُ , حَتَّى إذَا انْهَارَ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي طَلَبِهِ فَلَحِقَهُ , وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ حَتَّى قَدِمَ بِهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما ; فَكَانَتْ صَدَقَاتُ طَيِّئٍ مِمَّا اسْتَعَانَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ .(1/450)
وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه : أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : بَلَى , أَعْرِفُكَ , أَسْلَمْتَ إذْ كَفَرُوا , وَوَفَيْتَ إذْ غَدَرُوا , وَأَقْبَلْتَ إذْ أَدْبَرُوا , وَعَرَفْتَ إذْ أَنْكَرُوا . وَمِثْلُ هَذَا مَا أَذِنَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْوَفْدِ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَقُولُوا , وَأَذِنَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ عَامَ خَيْبَرَ أَنْ يَقُولَ , وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الِاحْتِيَالِ الْمُبَاحِ ; لِكَوْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ قَدْ أَذِنَ فِيهِ وَرَضِيَ بِهِ , وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَأَمْرٌ مُبَاحٌ .(1/451)
الضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ : مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا : نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ , وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } إلَى قَوْلِهِ : { فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ سَارِقِينَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ وَأَنَّ يُوسُفَ نَوَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ حَيْثُ غَيَّبُوهُ عَنْهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي احْتَالُوا عَلَيْهِ , وَخَانُوهُ فِيهِ , وَالْخَائِنُ يُسَمَّى سَارِقًا , وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَرْمُوزِ , وَلِهَذَا يُسَمَّى خَوَنَةُ الدَّوَاوِينِ لُصُوصًا . الثَّانِي : أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ .(1/452)
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ : أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ , ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُوَكَّلِينَ وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرِ مَنْ أَخَذَهُ : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ , مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ لَهُمْ بِذَلِكَ , أَوْ لَعَلَّ يُوسُفَ قَدْ قَالَ لِلْمُنَادِي : هَؤُلَاءِ سَرَقُوا , وَعَنَى أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ , وَالْمُنَادِي فَهِمَ سَرِقَةَ الصُّوَاعِ فَصَدَقَ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ , وَصَدَقَ الْمُنَادِي , وَتَأَمَّلْ حَذْفَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } لِيَصِحَّ أَنْ يُضَمِّنَ سَرِقَتَهُمْ لِيُوسُفَ فَيَتِمُّ التَّعْرِيضُ , وَيَكُونُ الْكَلَامُ صِدْقًا , وَذَكَرَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ : { نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ } وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ , فَصَدَقَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا , وَتَأَمَّلْ قَوْلَ يُوسُفَ : { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } وَلَمْ يَقُلْ إلَّا مَنْ سَرَقَ , وَهُوَ أَخْصَرُ لَفْظًا , تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ , فَإِنَّ الْأَخَ لَمْ يَكُنْ سَارِقًا بِوَجْهٍ , وَكَانَ الْمَتَاعُ عِنْدَهُ حَقًّا ; فَالْكَلَامُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ وَأَصْدَقِهَا . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْمَلَكَيْنِ لِدَاوُدَ عليه السلام : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أَيْ غَلَبَنِي فِي الْخِطَابِ , وَلَكِنَّ تَخْرِيجَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى الْمَعَارِيض لَا يَكَادُ يَتَأَتَّى , وَإِنَّمَا وَجْهُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى ضَرْبِ الْمِثَالِ : أَيْ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ الْحُكْمُ بَيْنَنَا .(1/453)
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الْمَلِكِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ : " مِسْكِينٌ وَغَرِيبٌ وَعَابِرُ سَبِيلٍ , وَقَدْ تَقَطَّعَتْ بِي الْحِبَالُ , وَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ بِكَ , فَأَسْأَلُكَ بِاَلَّذِي أَعْطَاكَ هَذَا الْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي هَذَا " وَهَذَا لَيْسَ بِتَعْرِيضٍ , وَإِنَّمَا هُوَ تَصْرِيحٌ عَلَى وَجْهِ ضَرْبِ الْمِثَالِ وَإِيهَامٌ أَنِّي أَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ كَمَا أَوْهَمَ الْمَلَكَانِ دَاوُد أَنَّهُمَا صَاحِبَا الْقِصَّةِ لِيَتِمَّ الِامْتِحَانُ . وَلِهَذَا قَالَ نَصْرُ بْنُ حَاجِبٍ : سُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَذِرُ إلَى أَخِيهِ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ فَعَلَهُ , وَيُحَرِّفُ الْقَوْلَ فِيهِ لِيُرْضِيَهُ , لَمْ يَأْثَمْ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ : { لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ يَكْذِبُ فِيهِ } فَإِذَا أَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ , وَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ , وَكَرِهَ أَذَى الْمُؤْمِنِ , وَيَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ , وَيَدْفَعُ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ , وَلَا يُرِيدُ بِالْكَذِبِ اتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا طَمَعًا فِي شَيْءٍ يُصِيبُ مِنْهُمْ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخَّصْ فِي ذَلِكَ , وَرَخَّصَ لَهُ إذَا كَرِهَ مَوْجِدَتَهُمْ وَخَافَ عَدَاوَتَهُمْ . قَالَ حُذَيْفَةُ : إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ أُقْدِمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ .(1/454)
قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ الْمَلَكَانِ : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } أَرَادَ مَعْنَى شَيْءٍ وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ فَلَمْ يَصِيرَا بِذَلِكَ كَاذِبَيْنِ , وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : { إنِّي سَقِيمٌ } وَقَالَ : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } , وَقَالَ يُوسُفُ : { إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } فَبَيَّنَ سُفْيَانُ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعَارِيضِ الْمُبَاحَةِ .(1/455)
فَصْلٌ [ اسْتِنْبَاطٌ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَتَعْقِيبٌ عَلَيْهِ ] . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْغَيْرِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ . قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه : وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ ; فَإِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَبْسَ أَخِيهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ , وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَخُ مِمَّنْ ظَلَمَ يُوسُفَ حَتَّى يُقَالُ إنَّهُ قَدْ اقْتَصَّ مِنْهُ , وَإِنَّمَا سَائِرُ الْإِخْوَةِ هُمْ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ , نَعَمْ تَخَلُّفُهُ عِنْدَهُ كَانَ يُؤْذِيهِمْ مِنْ أَجْلِ تَأَذِّي أَبِيهِمْ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ , وَقَدْ اسْتَثْنَى فِي الْمِيثَاقِ بِقَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } وَقَدْ أُحِيطَ بِهِمْ , وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ يُوسُفَ بِاحْتِبَاسِ أَخِيهِ الِانْتِقَامَ مِنْ إخْوَتِهِ ; فَإِنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا , وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِيذَاءِ لِأَبِيهِ . أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ إخْوَتِهِ , وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَيَتِمَّ الْبَلَاءُ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ كَمَالَ الْجَزَاءِ , وَتَبْلُغُ حِكْمَةُ اللَّهِ الَّتِي قَضَاهَا لَهُمْ نِهَايَتُهَا .(1/456)
وَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَصَدَ الْقِصَاصَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ , وَإِنَّمَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ : هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْرِقَ أَوْ يَخُونَ مَنْ سَرَقَهُ أَوْ خَانَهُ مِثْلَ مَا سَرَقَ مِنْهُ أَوْ خَانَهُ إيَّاهُ ؟ وَقِصَّةُ يُوسُفَ لَمْ تَكُنْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ . نَعَمْ , لَوْ كَانَ يُوسُفُ أَخَذَ أَخَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَكَانَ لِهَذَا الْمُحْتَجِّ شُبْهَةٌ , مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا بِالِاتِّفَاقِ , وَهُوَ أَنْ يُحْبَسَ رَجُلٌ بَرِيءٌ , وَيُعْتَقَلَ لِلِانْتِقَامِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ جُرْمٌ , وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ يُوسُفَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ ابْتِلَاءً مِنْهُ لِذَلِكَ الْمُعْتَقَلِ , كَمَا ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ , فَيَكُونُ الْمُبِيحُ لَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَحْيًا خَاصًّا كَالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ إبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ ابْنِهِ , وَتَكُونُ حِكْمَتُهُ فِي حَقِّ الْمُبْتَلَى امْتِحَانُهُ وَابْتِلَاؤُهُ لِيَنَالَ دَرَجَةَ الصَّبْرِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ , وَتَكُونُ حَالُهُ فِي هَذَا كَحَالِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ فِي احْتِبَاسِ يُوسُفَ عَنْهُ , وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ فِقْهِ الْقِصَّةِ وَسِيَاقِهَا وَمِنْ حَالِ يُوسُفَ .(1/457)
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ , وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } فَنَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَيْدَ إلَى نَفْسِهِ كَمَا نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا } , وَفِي قَوْلِهِ : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا } , وَفِي قَوْلِهِ : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً وَخِدَاعًا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ وَمَجَازِ الْمُقَابَلَةِ نَحْوُ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } , وَنَحْوُ قَوْلِهِ : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقِيلَ وَهُوَ أَصْوَبُ : بَلْ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً عَلَى بَابِهِ ; فَإِنَّ الْمَكْرَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ خَفِيٍّ , وَكَذَلِكَ الْكَيْدُ وَالْمُخَادَعَةُ , وَلَكِنَّهُ نَوْعَانِ : قَبِيحٌ وَهُوَ إيصَالُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ , وَحَسَنٌ وَهُوَ إيصَالُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ عُقُوبَةً لَهُ ; فَالْأَوَّلُ مَذْمُومٌ وَالثَّانِي مَمْدُوحٌ , وَالرَّبُّ تَعَالَى إنَّمَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ عَدْلًا مِنْهُ وَحِكْمَةً , وَهُوَ تَعَالَى يَأْخُذُ الظَّالِمَ وَالْفَاجِرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ لَا كَمَا يَفْعَلُ الظَّلَمَةُ بِعِبَادِهِ .(1/458)
وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ فَيْعَلَةٌ مِمَّا يَسُوءُ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسُوءُ صَاحِبَهَا ; فَهِيَ سَيِّئَةٌ لَهُ حَسَنَةٌ مِنْ الْحَكَمِ الْعَدْلِ , وَإِذَا عَرَفْتُ ذَلِكَ فَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ كَانَ قَدْ كِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ : أَوَّلُهَا أَنَّ إخْوَتَهُ كَادُوا بِهِ كَيْدًا حَيْثُ احْتَالُوا بِهِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ , ثُمَّ إنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَادَتْهُ بِمَا أَظْهَرَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا ثُمَّ أُودِعَ السِّجْنَ , ثُمَّ إنَّ النِّسْوَةَ كَادُوهُ حَتَّى اسْتَعَاذَ . بِاَللَّهِ مِنْ كَيْدِهِنَّ فَصَرَفَهُ عَنْهُ , وَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ : { لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } وَقَالَ الشَّاهِدُ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ : { إنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } .(1/459)
وَقَالَ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ , إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَكَادَ اللَّهُ لَهُ أَحْسَنَ كَيْدٍ وَأَلْطَفَهُ وَأَعْدَلَهُ , بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ , وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَيْدِي إخْوَتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَمَا أَخْرَجُوا يُوسُفَ مِنْ يَدِ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , وَكَادَ لَهُ عِوَضَ كَيْدِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ ضِيقِ السِّجْنِ إلَى فَضَاءِ الْمُلْكِ , وَمَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ , وَكَانَ لَهُ فِي تَصْدِيقِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي كَذَّبْنَهُ وَرَاوَدْنَهُ حَتَّى شَهِدْنَ بِبَرَاءَتِهِ وَعِفَّتِهِ , وَكَادَ لَهُ فِي تَكْذِيبِ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لِنَفْسِهَا وَاعْتِرَافِهَا بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رَاوَدَتْهُ وَأَنَّهُ مِنْ الصَّادِقِينَ ; فَهَذِهِ عَاقِبَةُ مَنْ صَبَرَ عَلَى كَيْدِ الْكَائِدِ لَهُ بَغْيًا وَعُدْوَانًا .(1/460)
فَصْلٌ [ مَكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ضَرْبَيْنِ ] وَكَيْدُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْرُجُ عَنْ نَوْعَيْنِ ; أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَغْلَبُ : أَنْ يَفْعَلَ تَعَالَى فِعْلًا خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الَّذِي كَادَ لَهُ ; فَيَكُونُ الْكَيْدُ قَدْرًا [ زَائِدًا ] مَحْضًا لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابٍ لَا يَسُوغُ , كَمَا كَادَ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ بِانْتِقَامِهِ مِنْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ , وَكَذَلِكَ كَانَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ ; فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَنْ أَلْقَى الصُّوَاعَ , فِي رَحْلِ أَخِيهِ , وَأَنْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بِسَرِقَتِهِمْ , فَلَمَّا أَنْكَرُوا قَالَ : { فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } أَيْ جَزَاءُ السَّارِقِ أَوْ جَزَاءُ السَّرَقِ : { قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أَيْ جَزَاؤُهُ نَفْسَ السَّارِقِ , يَسْتَعْبِدُهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إلَى مُدَّةٍ , وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَةُ آلِ يَعْقُوبَ . [(1/461)
إعْرَابُ جُمْلَةٍ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ ] ثُمَّ فِي إعْرَابِ هَذَا الْكَلَامِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : { جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قَائِمَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ , وَقَوْلُهُ : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ كَذَلِكَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى مُقَرِّرَةٌ لَهَا , وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى إخْبَارٌ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَسْرُوقِ لِرَقَبَةِ السَّارِقِ , وَالثَّانِيَةَ إخْبَارٌ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ فِي شَرْعِنَا وَحُكْمِنَا ; فَالْأُولَى إخْبَارٌ عَنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ , وَالثَّانِيَةُ إخْبَارٌ عَنْ الْحُكْمِ , وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ , وَإِنْ أَفَادَتْ الثَّانِيَةُ مَعْنَى الْحَصْرِ فَإِنَّهُ لَا جَزَاءَ لَهُ غَيْرُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ { جَزَاؤُهُ } الْأَوَّلَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ , وَالْمَعْنَى جَزَاءُ السَّارِقِ أَنَّ مَنْ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ فِي رَحْلِهِ كَانَ هُوَ الْجَزَاءُ , كَمَا تَقُولُ : جَزَاءُ السَّرِقَةِ مَنْ سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَجَزَاءُ الْأَعْمَالِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَبِعَشْرٍ أَوْ سَيِّئَةً فَبِوَاحِدَةٍ , وَنَظَائِرُهُ .(1/462)
قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه : وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ ` لِأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ , وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ فِعْلِ الْعُقُوبَةِ , وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْأَلَمِ الْوَاصِلِ إلَى الْمُعَاقَبِ ; وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إلْهَامَ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ كَيْدٌ كَادَهُ لِيُوسُفَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ ; إذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَرَقَ ; فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِهِ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ , وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَادِلًا لَا يَأْخُذُهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ , وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا : يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالسُّرَّاقِ فِي دِينِكُمْ , وَقَدْ كَانَ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ - كَمَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ - أَنْ يُضْرَبَ السَّارِقُ وَيُغَرَّمَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ مَرَّتَيْنِ , وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا لَا يُلْزِمُ بِهِ غَيْرَهُمْ , وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أَيْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ ; إذْ لَمْ يَكُنْ فِي دِينِهِ طَرِيقٌ لَهُ إلَى أَخْذِهِ , وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ , أَيْ لَكِنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ , أَوْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عَلَى بَابِهِ , أَيْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فَيُهَيِّئُ لَهُ سَبَبًا يُؤْخَذُ بِهِ فِي دِينِ الْمَلِكِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَ الرَّجُلُ يُعْتَقَلُ بِهَا , فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ(1/463)
الْكَيْدِ فِعْلًا مِنْ اللَّهِ - بِأَنْ يُيَسِّرَ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الْمَظْلُومِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ أُمُورًا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهُ مِنْ الِانْتِقَامِ مِنْ الظَّالِمِ - كَانَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْحِيَلِ الْفِقْهِيَّةِ ; فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي الْحِيَلِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ , لَا فِيمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى , بِمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ . تَنْبِيهٌ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَأَنَّ مَنْ كَادَ كَيْدًا مُحَرَّمًا ; فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُهُ وَيُعَامِلُهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وَبِمِثْلِ عَمَلِهِ , وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي أَرْبَابِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ أَنَّهُ لَا يُبَارِكُ لَهُمْ فِيمَا نَالُوهُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ , وَيُهَيِّئُ لَهُمْ كَيْدًا عَلَى يَدِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ يُجْزَوْنَ بِهِ مِنْ جِنْسِ كَيْدِهِمْ وَحِيَلِهِمْ . [ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ يُوسُفَ ] وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ إذَا كَادَهُ الْخَلْقُ فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُ لَهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنْهُ وَلَا قُوَّةٍ . وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَسْرُوقِ بِيَدِ السَّارِقِ كَافٍ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ , بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ , وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ , وَغَايَةُ الْبَيِّنَةِ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهَا ظَنٌّ , وَأَمَّا وُجُودُ الْمَسْرُوقِ بِيَدِ السَّارِقِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الْيَقِينُ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ وَالرَّائِحَةِ فِي الْخَمْرِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ , وَالِاحْتِجَاجُ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى هَذَا أَحْسَنُ وَأَوْضَحُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى الْحِيَلِ .(1/464)
وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْخَفِيَّ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَاتِ الْعَبْدِ ; لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ : بِالْعِلْمِ , وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ رَفْعِهِ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ , أَحَدُهَا : قَوْلُهُ : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ , نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ بِعِلْمِ الْحُجَّةِ . وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَشَاءُ بِالْعِلْمِ الْخَفِيِّ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ صَاحِبُهُ إلَى الْمَقَاصِدِ الْمَحْمُودَةِ , وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ .(1/465)
فَصْلٌ [ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ كَيْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ ] النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ كَيْدِهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ : هُوَ أَنْ يُلْهِمَهُ تَعَالَى أَمْرًا مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا يُوَصِّلُهُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ الْحَسَنِ ; فَيَكُونُ عَلَى هَذَا إلْهَامُهُ لِيُوسُفَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ هُوَ مِنْ كَيْدِهِ تَعَالَى أَيْضًا , وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } فَإِنَّ فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ الْمُوَصِّلَ إلَى الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ صِفَةُ مَدْحٍ , كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَخْصِمُ بِهِ الْمُبْطِلَ صِفَةُ مَدْحٍ ; وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْكَيْدِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ , لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَيْدُ الَّذِي تُسْتَحَلُّ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ أَوْ تُسْقَطُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ ; فَإِنَّ هَذَا كَيْدٌ لِلَّهِ , وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يَكِيدُ الْكَائِدَ , وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكَادَ دِينُهُ , وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَيْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلِ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرَ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ , وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَهُ . فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ الْمُتَحَيِّلِينَ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام , وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .(1/466)
فَصْلٌ [ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي تَمْرِ خَيْبَرَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ ] وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ : { بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } فَمَا أَصَحُّهُ مِنْ حَدِيثٍ , وَنَحْنُ نَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ , وَالْكَلَامُ مَعَكُمْ فِيهِ مِنْ مَقَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إبْطَالُ اسْتِدْلَالِكُمْ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْحِيَلِ , وَثَانِيهِمَا : بَيَانُ دَلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِكُمْ ; إذْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ دَلِيلٍ صَحِيحٍ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ عَلَى بَاطِلٍ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ ظَاهِرًا أَوْ إيمَاءً , مَعَ عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ . [(1/467)
بَحْثٌ فِي دَلَالَةِ الْمُطْلَقِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِّ ] فَأَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : غَايَةُ مَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ الْأُولَى بِثَمَنٍ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِثَمَنِهَا تَمْرًا آخَرَ } , وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْذَنُ فِي الْعَقْدِ الْبَاطِلِ ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ صَحِيحًا , وَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ فِي الْعَقْدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ; فَلَوْ سَلَّمَ لَكُمْ الْمُنَازِعُ صِحَّتَهُ لَاسْتَغْنَيْتُمْ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ , وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ ; فَإِنَّ قَوْلَهُ : " بِعْ " مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ ; فَهَذَا الْبَيْعُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَفْظٌ عَامٌّ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى تَنَاوُلِهِ , فَكَيْفَ هَذَا الْبَيْعُ مِمَّا قَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ؟ وَلَوْ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي بَيْعٍ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ , وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إدْخَالَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ ; لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ , وَمَتَى أَثْبَتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْمُطْلَقِ ; فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ .(1/468)
وَنُكْتَةُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْبَيْعِ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ , وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَوَاطَأَ فِيهَا الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الرِّبَا وَجَعْلِ السِّلْعَةِ الدَّخِيلَةِ مُحَلِّلًا لَهُ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ بِالْبَيْعِ بَيْعٌ صَحِيحٌ , وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ , وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ , وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ صُوَرِهَا ; لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ , وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُمَيِّزُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَنْ الْآخَرِ , وَلَا هُوَ مُسْتَلْزِمًا لَهُ ; فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمُشْتَرَكِ أَمْرًا بِالْمُمَيِّزِ بِحَالٍ , وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِبَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ لَا بِعَيْنِهِ , فَيَكُونُ عَامًّا لَهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ , لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِلْأَفْرَادِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ , وَهُوَ الْمُطْلَقُ فِي قَوْلِهِ : { بِعْ هَذَا الثَّوْبَ } لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِبَيْعِهِ مِنْ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو , وَلَا بِكَذَا أَوْ كَذَا , وَلَا بِهَذِهِ السُّوقِ أَوْ هَذِهِ ; فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , إذَا أَتَى بِالْمُسَمَّى حَصَلَ مُمْتَثِلًا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ , لَا مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْقُيُودِ , وَهَذَا الْأَمْرُ لَا خِلَافَ فِيهِ , لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ عَدَمَ الْأَمْرِ بِالْقُيُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ وَهُوَ خَطَأٌ , وَالصَّوَابُ أَنَّ الْقُيُودَ لَا تُنَافِي الْأَمْرَ وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ ,(1/469)
وَإِنْ كَانَ لُزُومُ بَعْضِهَا لُزُومًا عَقْلِيًّا ضَرُورَةَ وُقُوعِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي ضِمْنِ قَيْدٍ مِنْ تِلْكَ الْقُيُودِ , وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَمْرُهُ أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ لِبَائِعِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَلَا بِحُلُولٍ وَلَا تَأْجِيلٍ وَلَا بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ غَيْرِهِ , وَكُلُّ هَذِهِ الْقُيُودِ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ , وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ اللَّفْظَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ مُبْطِلًا , لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إذَا أَتَى بِهَا , وَإِنَّمَا اُسْتُفِيدَ عَدَمُ الِامْتِثَالِ إذَا بِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنْ الْعُرْفِ الَّذِي ثَبَتَ لِلْبَيْعِ الْمُطْلَقِ , وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُهُ مِنْ الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ وَلَا غَيْرِهِ , كَمَا لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُهُ , بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ ; فَمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ أُبِيحَ فِعْلُهُ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِهِ لَا بِهَذَا اللَّفْظِ , وَمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ لَمْ يُعَارَضْ دَلِيلُ الْمَنْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يُطْلَبَ التَّرْجِيحُ , بَلْ يَكُونُ دَلِيلُ الْمَنْعِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ بِهَذَا , فَإِنْ عُورِضَ بِلَفْظٍ عَامٍّ مُتَنَاوِلٍ لِإِبَاحَتِهِ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لَهُ أَوْ بِدَلِيلِ خَاصٍّ صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ ; فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَثِيرًا مَا يَغْلَطُ فِيهِ النَّاظِرُ وَالْمُنَاظِرُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .(1/470)
وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا جَوَابُ مَنْ قَالَ : " لَوْ كَانَ الِابْتِيَاعُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ " فَإِنَّ مَقْصُودَهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ اشْتِرَاءُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ لِمَنْ عِنْدَهُ رَدِيءٌ , وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِثَمَنٍ ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ جَيِّدًا , وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشُرُوطِ الْبَيْعِ وَمَوَانِعِهِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ , أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ أُحِيلَ عَلَى فَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي بَيْعٍ يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ , وَهُوَ الْبَيْعُ الْمَقْصُودُ فِي نَفْسِهِ , وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي بَيْعٍ يَكُونُ وَسِيلَةً وَذَرِيعَةً ظَاهِرَةً إلَى مَا هُوَ رِبًا صَرِيحٌ , وَكَانَ الْقَوْمُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ مِنْ أَنْ يَفْهَمُوا عَنْهُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا بَيْعٌ وَبَاطِنُهَا رِبًا , وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا بِوَجْهٍ لَمْ يَفْهَمْهَا عَنْهُ أَصْحَابُهُ بِخِطَابِهِ بِوَجْهٍ , وَمَا نَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إلَّا اسْتِدْلَالَ بَعْضِهِمْ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ ذِي النَّابِ وَالْمِخْلَبِ بِقَوْلِهِ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ بِقَوْلِهِ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ الْمُصِرَّةِ عَلَى الزِّنَا , وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ } , وَاسْتِدْلَالَ غَيْرِهِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ(1/471)
نِكَاحِ التَّحْلِيلِ بِذَلِكَ , وَعَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ , وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَائِهِ إذَا كَانَ زَانِيًا , وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَأَخَذَ يُعَارِضُ بِهِ السُّنَّةَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ , بَلْ لَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كُلِّ نِكَاحٍ حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { بِعْ الْجَمِيعَ } لَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ مُسْتَدِلٌّ عَلَى بَيْعٍ مِنْ الْبُيُوعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ , وَلَيْسَ بِالْغَالِبِ أَنَّ بَائِعَ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ يَبْتَاعُ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُقَالَ : هَذِهِ الصُّورَةُ غَالِبَةٌ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهَا , وَلَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عُرْفًا وَشَرْعًا . وَبِالْجُمْلَةِ فَإِرَادَةُ هَذِهِ الصُّورَةِ وَحْدَهَا مِنْ اللَّفْظِ مُمْتَنِعٌ , وَإِرَادَتُهَا مَعَ غَيْرِهَا فَرْعٌ عَلَى عُمُومِهِ , وَلَا عُمُومَ لَهُ , وَإِرَادَةُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَيْعِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عُرْفًا وَشَرْعًا , وَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ كُلِّهَا لَا تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ .(1/472)
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَا تَدْخُلُ فِي أَمْرِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ وَوَلَدِهِ وَوَكِيلِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ كَذَا , فَلَوْ قَالَ : " بِعْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ الْعَتِيقَةَ وَاشْتَرِ لَنَا جَدِيدَةً " لَمْ يَفْهَمْ السَّامِعُ إلَّا بَيْعًا مَقْصُودًا , أَوْ شِرَاءً مَقْصُودًا , فَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ إشْعَارٌ بِالْحِيلَةِ الرِّبَوِيَّةِ أَلْبَتَّةَ . يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : " بِعْ كَذَا , وَاشْتَرِ كَذَا " أَوْ " بِعْتُ , وَاشْتَرَيْتُ " لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْبَيْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ نَقْلُ مِلْكِ الْمَبِيعِ نَقْلًا مُسْتَقِرًّا ; وَلِهَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ بَيْعُ الْهَازِلِ وَلَا الْمُكْرَهِ , وَلَا بَيْعُ الْحِيلَةِ , وَلَا بَيْعُ الْعِينَةِ , وَلَا يَعُدُّ النَّاسُ مَنْ اتَّخَذَ خَرَزَةً أَوْ عَرْضًا يُحَلِّلُ بِهِ الرِّبَا وَيَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَهُ صُورَةً خَالِيَةَ عَنْ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَمَقْصُودِهِ تَاجِرًا , وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهُ مُرَابِيًا وَمُتَحَيِّلًا , فَكَيْفَ يَدْخُلُ هَذَا تَحْتَ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ يَزِيدُهُ إيضَاحًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوَكْسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } وَنَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا مَتَى تَوَاطَئَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِالثَّمَنِ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ , فَلَا يَكُونُ مَا نَهَى عَنْهُ دَاخِلًا تَحْتَ مَا أَذِنَ فِيهِ .(1/473)
يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ , وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ } وَتَوَاطُؤُهُمَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ غَيْرَهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ مُنْطَبِقٌ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ ; فَلَا يَدْخُلُ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَحْتَ مَا أَذِنَ فِيهِ . يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } وَهَذَا يَقْتَضِي بَيْعًا يُنْشِئُهُ وَيَبْتَدِئُهُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ , وَمَتَى وَاطَأَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ وَأَبْتَاعَ مِنْكَ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْعَقْدَيْنِ مَعًا ; فَلَا يَكُونُ الثَّانِي عَقْدًا مُسْتَقِلًّا مُبْتَدَأً , بَلْ هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا وَفِي اتِّفَاقِهِمَا , وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَ بِعَقْدَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ لَا يَرْتَبِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ .(1/474)
وَلَوْ نَزَلْنَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَسَلَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ صُورَةُ الْحِيلَةِ فَهُوَ لَا رَيْبَ مَخْصُوصٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ ; فَنَخُصُّ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَأَضْعَافِهَا , وَالْعَامُّ يُخَصُّ بِدُونِ مِثْلِهَا بِكَثِيرٍ , فَكَمْ قَدْ خُصَّ الْعُمُومُ بِالْمَفْهُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَتَخْصِيصُهُ - لَوْ فُرِضَ عُمُومُهُ - بِالنُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ أَوْلَى وَأَحْرَى , بَلْ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْحِيَل وَتَحْرِيمِهَا كَافٍ فِي التَّخْصِيصِ , وَإِذَا كُنْتُمْ قَدْ خَصَّصْتُمْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا فَخَصَصْتُمُوهُ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَا اشْتَرَطَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنَّهُ إنَّمَا تَزَوَّجَهَا لِيَحِلَّهَا وَمَتَى أَحَلَّهَا فَهِيَ طَالِقٌ , مَعَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ نَادِرَةٌ جِدًّا لَا يَفْعَلُهَا الْمُحَلِّلُ , وَالصُّوَرُ الْوَاقِعَةُ فِي التَّحْلِيلِ أَضْعَافُ هَذِهِ , فَحَمَلْتُمْ اللَّفْظَ الْعَامَّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا عَلَى أَنْدَرِ صُورَةٍ تَكُونُ لَوْ قُدِّرَ وُقُوعُهَا , وَأَخْلَيْتُمُوهُ عَنْ الصُّوَرِ الْوَاقِعَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ بَيْنَ الْمُحَلِّلِينَ ; فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ } أَوْلَى بِالتَّقْيِيدِ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَالْآثَارِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَحَمْلُهُ عَلَى(1/475)
الْبَيْعِ الْمُتَعَارَفِ الْمَعْهُودِ عُرْفًا وَشَرْعًا , وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ , وَلَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ يُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ تَمْنَعُ مِنْ صُورَةِ الْحِيلَةِ ] : وَمِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى صُورَةِ الْحِيلَةِ وَأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ وَمَنْصِبَهُ الْعَالِي مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْبَيْعَ وَأَحَلَّهُ لِأَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ مِلْكُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ وَيَحْصُلَ مِلْكُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي ; فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ بِالْبَيْعِ , هَذَا يَنْتَفِعُ بِالثَّمَنِ وَهَذَا بِالسِّلْعَةِ , وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي نَفْسَ السِّلْعَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا أَوْ التِّجَارَةِ فِيهَا وَقَصَدَ الْبَائِعُ نَفْسَ الثَّمَنِ , وَلِهَذَا يَحْتَاطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الْعَرْضِ هَذَا فِي وَزْنِ الثَّمَنِ وَنَقْدِهِ وَرَوَاجِهِ وَهَذَا فِي سَلَامَةِ السِّلْعَةِ مِنْ الْعَيْبِ وَأَنَّهَا تُسَاوِي الثَّمَنَ الَّذِي بَذَلَهُ فِيهَا , فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ فَقَدْ قَصَدَا بِالسَّبَبِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ , وَأَتَى بِالسَّبَبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا , وَسَوَاءٌ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِعَقْدٍ أَوْ تَوَقَّفَ عَلَى عُقُودٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى لَا تُبَاعُ سِلْعَتُهُ [ بِهَا ] لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَبِيعُ سِلْعَتَهُ لِيَمْلِكَ ثَمَنَهَا وَهَذَا بَيْعٌ مَقْصُودٌ(1/476)
وَعِوَضُهُ مَقْصُودٌ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِالثَّمَنِ سِلْعَةً أُخْرَى وَهَذِهِ قِصَّةُ بِلَالٍ فِي تَمْرِ خَيْبَرَ سَوَاءٌ , فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ أَرَادَ بِالْبَيْعِ مِلْكَ الثَّمَنِ , وَهَذَا مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ , ثُمَّ إذَا ابْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا فَقَدْ عَقَدَ عَقْدًا مَقْصُودًا مَشْرُوعًا ; فَلَمَّا كَانَ بَائِعًا قَصَدَ تَمَلُّكَ الثَّمَنِ حَقِيقَةً , وَلَمَّا كَانَ مُبْتَاعًا قَصَدَ تَمَلُّكَ السِّلْعَةِ حَقِيقَةً , فَإِنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ ; إذْ كُلٌّ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ , وَلِهَذَا يَسْتَوْفِيَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّقْدِ وَالْقَبْضِ وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا إذَا ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ مُبْتَاعِهِ مِنْ جِنْسِ مَا بَاعَهُ فَهَذَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا لَهُمَا , بَلْ قَصْدُهُمَا بَيْعُ السِّلْعَةِ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَيَكُونُ رِبًا بِعَيْنِهِ , وَيَظْهَرُ هَذَا الْقَصْدُ بِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى صَاعٍ بِصَاعَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَوَصَّلَانِ إلَى ذَلِكَ بِبَيْعِ الصَّاعِ بِدِرْهَمٍ وَيَشْتَرِي بِهِ صَاعَيْنِ وَلَا يُبَالِي الْبَائِعُ بِنَقْدِ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَلَا بِقَبْضِهِ وَلَا بِعَيْبٍ فِيهِ وَلَا بِعَدَمِ رَوَاجِهِ وَلَا يَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ فِيهِ احْتِيَاطَ مَنْ قَصْدُهُ تَمَلُّكُ الثَّمَنِ ; إذْ قَدْ عَلِمَ هُوَ وَالْآخَرُ أَنَّ الثَّمَنَ بِعَيْنِهِ خَارِجٌ مِنْهُ عَائِدٌ إلَيْهِ , فَنَقْدُهُ وَقَبْضُهُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ يَكُونُ عَبَثًا , وَتَأَمَّلْ حَالَ بَاعَةَ الْحُلِيِّ عَنْهُ .(1/477)
كَيْفَ يُخْرِجُ كُلَّ حَلْقَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ قِطْعَةٍ مَا وَيَبِيعُكَ إيَّاهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا مِنْكَ ؟ فَكَيْفَ لَا تَسْأَلُ عَنْ قِيمَتِهَا وَلَا عَنْ وَزْنِهَا وَلَا مُسَاوَاتِهَا لِلثَّمَنِ ؟ بَلْ قَدْ تُسَاوِي أَضْعَافَهُ وَقَدْ تُسَاوِي بَعْضَهُ ; إذْ لَيْسَتْ هِيَ الْقَصْدُ , وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَمْرٌ وَرَاءَهَا وَجُعِلَتْ هِيَ مُحَلِّلًا لِذَلِكَ الْمَقْصُودِ , وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَهُوَ إنَّمَا عَقَدَ مَعَهُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لِيُعِيدَ إلَيْهِ الثَّمَنَ بِعَيْنِهِ وَيَأْخُذَ الْعِوَضَ الْآخَرَ , وَهَذَا تَوَاطُؤٌ مِنْهُمَا حِينَ عَقَدَاهُ عَلَى فَسْخِهِ , وَالْعَقْدُ إذَا قُصِدَ بِهِ فَسْخُهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ , وَكَانَ تَوَسُّطُهُ عَبَثًا .(1/478)
وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ بِتَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ حِنْطَةٍ لِيَبْتَاعَهُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنَّهُمَا يَتَشَارَطَانِ وَيَتَرَاضَيَانِ عَلَى سِعْرِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ , وَأَنَّهُ مُدٌّ بِمُدٍّ وَنِصْفٍ مَثَلًا , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا , ثُمَّ يَقُولُ : بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ كَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ , وَكَذَلِكَ فِي الصَّرْفِ , وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي غَرَضٌ فِي الدَّرَاهِمِ , وَالْغَرَضُ مَعْرُوفٌ , فَأَيْنَ مَنْ يَبِيعُهُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ لِيَشْتَرِيَ بِهِ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهَا إلَى مَنْ يَبِيعُهُ إيَّاهَا بِثَمَنٍ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمَلُّكِهِ وَقَبْضِهِ ؟ وَتَوَسُّطِ الثَّمَنِ فِي الْأَوَّلِ عَبَثٌ مَحْضٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ , فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ مَعَ زِيَادَةِ التَّعَبِ وَالْكُلْفَةِ فِيهِ ؟ وَلَوْ كَانَ هَذَا سَائِغًا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا حِكْمَةٌ سِوَى تَضْيِيعِ الزَّمَانِ وَإِتْعَابِ النُّفُوسِ بِلَا فَائِدَةٍ ; فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَبْتَاعَ رِبَوِيًّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ الْأَوَّلِ إلَّا قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا , وَابْتَعْتُ مِنْكَ هَذَا بِهَذَا الثَّمَنِ ; فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ قَطُّ بِأَدْنَى الْحِيَلِ .(1/479)
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ : رِبَا الْفَضْلِ , وَرِبَا النَّسِيئَةِ , فَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَيُمْكِنُهُ فِي كُلِّ مَالٍ رِبَوِيٍّ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ بِكَذَا , وَيُسَمِّي مَا شَاءَ , ثُمَّ يَقُولُ : اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا لِلَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ - بِذَلِكَ الَّذِي سَمَّاهُ , وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ مَقْصُودَةٌ , وَأَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الْحَرِيرَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ صَاعًا إلَى سَنَةٍ , وَابْتَعْتُهَا مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا , وَيُمَكِّنَهُ رِبَا الْفَضْلِ , فَلَا يَشَاءُ مُرَابٍ إلَّا أَقْرَضَهُ ثُمَّ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ , فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ , أَيَعُودُ الرِّبَا - الَّذِي قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ , وَأَوْجَبَ مُحَارَبَةَ مُسْتَحِلِّهِ , وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتَبَهُ , وَجَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَجِئْ فِي غَيْرِهِ - إلَى أَنْ يُسْتَحَلَّ نَوْعَاهُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ لَا كُلْفَةَ فِيهَا أَصْلًا إلَّا بِصُورَةِ عَقْدٍ هِيَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ يُضْحَكُ مِنْهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا ؟ فَكَيْفَ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ , بَلْ أَنْ يُنْسَبَ رَبُّ الْعَالَمِينَ إلَى أَنْ يُحَرِّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَظِيمَةِ وَيُوعِدَ عَلَيْهَا بِأَغْلَظِ الْعُقُوبَاتِ وَأَنْوَاعِ الْوَعِيدِ , ثُمَّ يُبِيحُهَا بِضَرْبٍ مِنْ الْحِيَلِ وَالْعَبَثِ وَالْخِدَاعِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَقْصُودَةٌ أَلْبَتَّةَ فِي نَفْسِهِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ ؟ وَتَرَى(1/480)
كَثِيرًا مِنْ الْمُرَابِينَ - لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَقْصُودَةٌ أَلْبَتَّةَ - قَدْ جَعَلَ عِنْدَهُ خَرَزَةَ ذَهَبٍ , فَكُلُّ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ جِنْسًا بِجِنْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ ابْتَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجِنْسَ بِتِلْكَ الْخَرَزَةِ , ثُمَّ ابْتَاعَ الْخَرَزَةَ بِالْجِنْسِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ , أَفَيَسْتَجِيزُ عَاقِلٌ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَحَلَّهَا بِهَذِهِ الْخَرَزَةِ ؟ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُجَّارِ قَدْ أَعَدَّ سِلْعَةً لِتَحْلِيلِ رِبَا النَّسَاءِ , فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ يُرِيدُ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ أَدْخَلَ تِلْكَ السِّلْعَةِ مُحَلِّلًا , وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ حِيلَ الرِّبَا فِي بَابِهَا أَغْلَظَ مِنْ حِيَلِ التَّحْلِيلِ , وَلِهَذَا حَرَّمَهَا أَوْ بَعْضَهَا مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّحْلِيلَ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ , وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ فِي الرِّبَا غَالِبًا إنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُوَاطَأَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ , وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى شَهَادَةٍ , وَلَكِنْ يَتَعَاقَدَانِ ثُمَّ يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا , وَلِهَذَا إنَّمَا لَعَنَ شَاهِدَاهُ إذَا عَلِمَا بِهِ , وَالتَّحْلِيلُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ ; لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَرْطًا فِيهِ , وَالشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ تُؤْثَرُ كَالْمُقَارِنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ; إذْ تَقْدِيمُ الشَّرْطِ وَمُقَارَنَتُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ تَحْلِيلٍ وَيُدْخِلُهُ فِي نِكَاحِ الرَّغْبَةِ , وَالْقُصُودُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ .(1/481)
فَصْلٌ وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ رِبَوِيًّا بِثَمَنٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِثَمَنِهِ مِنْ جِنْسِهِ , فَإِمَّا أَنْ يُوَاطِئَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَفْظًا , أَوْ يَكُونَ الْعُرْفُ بَيْنَهُمَا قَدْ جَرَى بِذَلِكَ , أَوْ لَا يَكُونَ , فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ; فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْ مِلْكَ الثَّمَنِ وَلَا قَصَدَ هَذَا تَمْلِيكَهُ , وَإِنَّمَا قَصَدَ تَمْلِيكَ الْمُثَمَّنِ بِالْمُثَمَّنِ , وَجَعَلَا تَسْمِيَةَ الثَّمَنِ تَلْبِيسًا وَخِدَاعًا وَوَسِيلَةً إلَى الرِّبَا ; فَهُوَ فِي هَذَا الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ فِي عَقْدِ التَّحْلِيلِ , وَإِنْ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُمَا مُوَاطَأَةٌ لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ رِبَوِيًّا بِرِبَوِيٍّ فَكَذَلِكَ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ , وَهُوَ يَمْنَعُ قَصْدَ الثَّمَنِ الَّذِي يَخْرُجَانِ بِهِ عَنْ قَصْدِ الرِّبَا , وَإِنْ قَصَدَ الْبَائِعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي ; فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : هَاهُنَا لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْهُ ذَهَبًا إلَّا أَنْ يَمْضِيَ وَيَبْتَاعَ بِالْوَرِقِ مِنْ غَيْرِهِ ذَهَبًا فَلَا يَسْتَقِيمُ , فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُ ذَهَبًا , وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تَصْرِفَ دَرَاهِمَكَ مِنْ رَجُلٍ بِدَنَانِيرَ , ثُمَّ تَبْتَاعَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ غَيْرَ دَرَاهِمِكَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ .(1/482)
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : فَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَصَحَّ أَمْرُهُمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ ; فَوَجْهُ مَا مَنَعَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَ الثَّمَنِ , وَلِهَذَا لَا يَحْتَاطُ فِي النَّقْدِ وَالْوَزْنِ , وَلِهَذَا يَقُولُ : إنَّهُ مَتَى بَدَا لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُفَارَقَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ - بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجِدُ - لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَلَلٌ , وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلُوا هَذَا الْمَنْعَ مِنْهُ عَلَى التَّحْرِيمِ . وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا : إذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ وَمُوَاطَأَةٌ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْرُمْ , وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ ; قُلْتُ لِأَحْمَدَ : أَشْتَرِي مِنْ رَجُلٍ ذَهَبًا ثُمَّ أَبْتَاعُهُ مِنْهُ , قَالَ : بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَحَبُّ إلَيَّ , وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى .(1/483)
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ , وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي رِبَا الْفَضْلِ كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ فِي رِبَا النَّسَاءِ , وَلِهَذَا عَدَّهَا مِنْ الرِّبَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ , وَأَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ , وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ; فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ عَادَ الثَّمَنُ إلَى الْمُشْتَرِي , وَحَصَلَا عَلَى رِبَا الْفَضْلِ أَوْ النَّسَاءِ , وَفِي الْعِينَةِ قَدْ عَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ جَمِيعًا , ثُمَّ إنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَقْصِدْ الثَّمَنَ وَلَا الْمَبِيعَ , وَإِنَّمَا جَعَلَ وُصْلَةً إلَى الرِّبَا ; فَهَذَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ , وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ هَاهُنَا بَاطِلٌ بِلَا تَوَقُّفٍ عِنْدَ مَنْ يُبْطِلُ الْحِيَلَ .(1/484)
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ , وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَيْنِ : قَالَ شَيْخُنَا : وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ , وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنْ الْأَصْحَابِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا يُنْسَبُ الْخِلَافُ فِيهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ , وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ , وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ , وَلَهَا مَأْخَذٌ آخَرُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ; فَإِنَّهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ الْحِيَلَ وَيُحَرِّمُونَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ , وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا لَمْ يُسْتَوْفَ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ ; فَيَصِيرُ الثَّانِي مَبْنِيًّا عَلَيْهِ , وَهَذَا تَعْلِيلٌ خَارِجٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ وَالذَّرَائِعِ , فَصَارَ لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ , فَلَمَّا لَمْ يَتَمَحَّصْ تَحْرِيمُهَا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ تَوَقَّفَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَنْ تَوَقَّفَ .(1/485)
قَالَ شَيْخُنَا : وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْحِيَلِ أُعْطِيت حُكْمَ الْحِيَلِ , وَإِلَّا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْمَأْخَذَانِ الْآخَرَانِ , هَذَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ , فَإِنْ قَصَدَ حَقِيقَتَهُ فَهُوَ صَحِيحٌ , لَكِنْ مَا دَامَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الْمَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الثَّمَنَ رِبَوِيًّا لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسَاءً ; لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّقَابُضِ ; فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا , وَإِنْ تَقَابَضَا وَكَانَ الْعَقْدُ مَقْصُودًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كَمَا يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ , وَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إلَى الْحَلَالِ هِيَ الْعُقُودُ الْمَقْصُودَةُ الْمَشْرُوعَةُ الَّتِي لَا خِدَاعَ فِيهَا وَلَا تَحْرِيمَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ تُلْحَقَ بِهَا صُورَةُ عَقْدٍ لَمْ تُقْصَدْ حَقِيقَتُهُ , وَإِنَّمَا قُصِدَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ لِأَنَّهَا عُمْدَةُ أَرْبَابِ الْحِيَلِ مِنْ السُّنَّةِ , كَمَا [ أَنَّ ] عُمْدَتَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا } .(1/486)
فَصْلٌ [ دَلَالَةُ حَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ ] : فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ , وَهُوَ عَدَمُ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي - وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَفَسَادِهَا - فَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي فِي الْحِيَلِ مَقْصُودَةٌ يَرْتَفِع سِعْرُهُ لِأَجْلِهَا , وَالْعَاقِلُ لَا يَخْرُجُ صَاعَيْنِ وَيَأْخُذُ صَاعًا إلَّا لِتَمَيُّزِ مَا يَأْخُذُهُ بِصِفَةٍ , أَوْ لِغَرَضٍ لَهُ فِي الْمَأْخُوذِ لَيْسَ فِي الْمَبْذُولِ , وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يَمْنَعُ الْمُكَلَّفَ مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا لِتَضَمُّنِهِ أَوْ لِاسْتِلْزَامِهِ مَفْسَدَةً أَرْجَحَ مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ , وَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاس حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : لَا يَتَبَيَّنُ لِي مَا وَجْهُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَمُرَاعَاةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ , وَأَنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ : " رِبَا نَسِيئَةٍ , وَتَحْرِيمُهُ تَحْرِيمُ الْمَقَاصِدِ , وَرِبَا فَضْلٍ , وَتَحْرِيمُهُ تَحْرِيمُ الذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلِ , فَإِنَّ النُّفُوسَ مَتَى ذَاقَتْ الرِّبْحَ فِيهِ عَاجِلًا تَسَوَّرَتْ مِنْهُ إلَى الرِّبْحِ الْآجِلِ , فَسُدَّتْ عَلَيْهَا بِالذَّرِيعَةِ وَحُمِيَ جَانِبُ الْحِمَى , وَأَيُّ حِكْمَةٍ وَحُكْمٍ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ بِلَالًا مِنْ أَخْذِ مُدٍّ بِمُدَّيْنِ(1/487)
لِئَلَّا يَقَعَ فِي الرِّبَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ بِحِيلَةٍ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْعِهِ مِنْ بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ فَائِدَةٌ أَصْلًا , بَلْ كَانَ بَيْعُهُ كَذَلِكَ أَسْهَلَ وَأَقَلَّ مَفْسَدَةً مِنْ تَوَسُّطِ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ الَّتِي لَا تُغْنِي مِنْ الْمَفْسَدَةِ شَيْئًا , وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ : { لَا تَفْعَلْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا } فَنَهَاهُ عَنْ الْفِعْلِ , وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ بِحِيلَةٍ أَوْ غَيْرِ حِيلَةٍ ; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ لِأَجْلِهَا يَنْهَى عَنْهُ , وَتِلْكَ الْمَفْسَدَةُ لَا تَزُولُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهَا , بَلْ تَزِيدُ , وَأَشَارَ إلَى الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ : { أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَيْنِهِ , وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَقِيقَةِ ; فَلَا يُهْمَلُ قَوْلُهُ : { عَيْنُ الرِّبَا } فَتَحْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْحَقَائِقِ , وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ , وَهِيَ مَحَلُّ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِهَا وَعِبَارَاتِهَا الَّتِي يَكْسُوهَا إيَّاهَا الْعَبْدُ , وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَقَائِقِهَا وَذَوَاتِهَا , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .(1/488)
فَصْلٌ [ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحِيَلَ مَعَارِيضُ فِعْلِيَّةٌ ] : وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِجَوَازِ الْمَعَارِيضِ وَقَوْلِهِمْ : " إنَّ الْحِيَلَ مَعَارِيضُ فِعْلِيَّةٌ عَلَى وِزَانِ الْمَعَارِيضِ الْقَوْلِيَّةِ " فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْمَعَارِيضَ إذَا تَضَمَّنَتْ اسْتِبَاحَةَ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطَ الْوَاجِبَاتِ وَإِبْطَالَ الْحُقُوقِ كَانَتْ جَائِزَةً ؟ بَلْ هِيَ مِنْ الْحِيَلِ الْقَوْلِيَّةِ , وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ إذَا كَانَ فِيهِ تَخَلُّصٌ مِنْ ظَالِمٍ , كَمَا عَرَّضَ الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ : " هَذِهِ أُخْتِي " فَإِذَا تَضَمَّنَتْ نَصْرَ حَقٍّ أَوْ إبْطَالَ بَاطِلٍ كَمَا عَرَّضَ الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ : { إنِّي سَقِيمٌ } , وَقَوْلِهِ : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وَكَمَا عَرَّضَ الْمَلَكَانِ لِدَاوُدَ بِمَا ضَرَبَاهُ لَهُ مِنْ الْمِثَالِ الَّذِي نَسَبَاهُ إلَى أَنْفُسِهِمَا , وَكَمَا عَرَّضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ : { نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَكَمَا كَانَ يُوَرِّي عَنْ الْغَزْوَةِ بِغَيْرِهَا لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ , إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ مَفْسَدَةً فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا , كَمَا عَرَّضَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ : { إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ } وَبِقَوْلِهِ : { إنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا الْعُجُزُ } وَبِقَوْلِهِ : { مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ } يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ , وَبِقَوْلِهِ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ : { زَوْجُكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ } وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْبَيَاضَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي عُيُونِ بَنِي آدَمَ , وَهَذِهِ الْمَعَارِيضُ وَنَحْوُهَا مِنْ أَصْدَقِ الْكَلَامِ , فَأَيْنَ فِي(1/489)
جَوَازِ هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ ؟ . وَقَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه : وَاَلَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الرِّبَوِيَّةُ وَلَيْسَتْ مِثْلُهُ نَوْعَانِ ; أَحَدُهُمَا : الْمَعَارِيضُ , وَهِيَ : أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا , وَيُوهِمُ غَيْرَهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ ; فَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ الْوَهْمِ كَوْنُ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْن حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا أَوْ شَرْعِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا , فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيُوهِمُ السَّامِعَ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ : إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ , وَإِمَّا لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيه , وَإِمَّا لِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ يَضُمُّهَا إلَى اللَّفْظِ , أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِي مَعْنًى فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا : بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ , أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ أَوْ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ , أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ لِعُرْفٍ خَاصٍّ بِهِ أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ أَوْ جَهْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ , مَعَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ ; فَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ رَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ فَهُوَ جَائِزٌ , كَقَوْلِ الْخَلِيلِ : " هَذِهِ أُخْتِي " وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه :(1/490)
" هَادٍ يَهْدِينِي السَّبِيلَ " وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ : شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الْأَبْيَاتَ أَوْهَمَ امْرَأَتَهُ0 الْقُرْآنَ , وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا تَضَمَّنَ دَفْعَ ضَرَرٍ يَجِبُ دَفْعُهُ وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ . وَهَذَا الضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ حِيلَةٍ فِي الْخِطَابِ لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهِ الْمُحْتَالُ بِهِ ; أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِكَوْنِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ , فَلَوْ تَضَمَّنَ كِتْمَانَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَصِيحَةِ مُسْلِمٍ أَوْ التَّعْرِيفَ بِصِفَةِ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ فَإِنَّهُ غِشٌّ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ . قَالَ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ : قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ ؟ فَقَالَ : الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ , تَكُونُ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ نَحْوِ هَذَا .(1/491)
قَالَ شَيْخُنَا : وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ حَرَامٌ ; لِأَنَّهُ كِتْمَانٌ وَتَدْلِيسٌ , وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ , وَالتَّعْرِيضُ فِي الْحَلِفِ عَلَيْهِ , وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ , وَوَصْفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَالْفُتْيَا وَالْحَدِيثُ وَالْقَضَاءُ , وَكُلُّ مَا حَرُمَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ جَائِزٌ , بَلْ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ وَوَجَبَ الْخِطَابُ , كَالتَّعْرِيضِ لِسَائِلٍ عَنْ مَالٍ مَعْصُومٍ أَوْ نَفْسِهِ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ بَيَانُهُ جَائِزًا أَوْ كِتْمَانُهُ جَائِزًا ; فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي كِتْمَانِهِ أَوْ فِي إظْهَارِهِ أَوْ كِلَاهُمَا مُتَضَمِّنٌ لِلْمَصْلَحَةِ ; فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالتَّعْرِيضُ مُسْتَحَبٌّ كَتَوْرِيَةِ الْغَازِي عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ , وَتَوْرِيَةِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالِاجْتِمَاعِ بِمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ طَاعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَتَوْرِيَةِ أَحْمَدَ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ , وَتَوْرِيَةِ الْحَالِفِ لِظَالِمٍ لَهُ أَوْ لِمَنْ اسْتَحْلَفَهُ يَمِينًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالتَّوْرِيَةُ فِيهِ مَكْرُوهَةٌ , وَالْإِظْهَارُ مُسْتَحَبٌّ , وَهَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْبَيَانُ فِيهِ مُسْتَحَبًّا , وَإِنْ تَسَاوَى الْأَمْرَانِ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَرِيقًا إلَى الْمَقْصُودِ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ جَازَ الْأَمْرَانِ , كَمَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُ بِعِدَّةِ أَلْسُنٍ وَخِطَابُهُ بِكُلِّ لِسَانٍ مِنْهَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ , وَمِثْلُ هَذَا مَا لَوْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ مُبَاحٌ فِي التَّعْرِيضِ(1/492)
وَلَا حَذَرَ عَلَيْهِ فِي التَّصْرِيحِ , وَالْمُخَاطَبُ لَا يَفْهَمُ مَقْصُودُهُ , وَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , أَحَدُهَا : لَهُ التَّعْرِيضُ ; إذْ لَا يَتَضَمَّنُ كِتْمَانَ حَقٍّ وَلَا إضْرَارًا بِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ إيهَامٌ لِلْمُخَاطَبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ , وَذَلِكَ تَغْرِيرٌ , وَرُبَّمَا أَوْقَعَ السَّامِعَ فِي الْخَبَرِ الْكَاذِبِ , وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِهِ . وَالثَّالِثُ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ .(1/493)
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ زِيَادٍ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَامِهِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ , قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فَلَا بَأْسَ , فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ , وَهَذَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْجَوَابِ , فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَالْمَنْعُ فِيهِ ظَاهِرٌ , كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ , وَكُلُّهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ , وَبِكُلِّ حَالٍ فَغَايَةُ هَذَا الْقِسْمِ تَجْهِيلُ السَّامِعِ بِأَنْ يُوقِعَهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي اعْتِقَادِ مَا لَمْ يُرِدْهُ بِكَلَامِهِ , وَهَذَا التَّجْهِيلُ قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ , وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ , وَقَدْ يَتَعَارَضُ الْأَمْرَانِ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّيْءِ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ تَجْهِيلُهُ بِهِ وَكِتْمَانُهُ عَنْهُ أَصْلَحُ لَهُ وَلِلْمُتَكَلِّمِ , وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْقَائِلِ أَنْ تَفُوتَ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ هِيَ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْبَيَانِ فَلَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ عَنْ السَّامِعِ ; فَإِنْ أَبَى إلَّا اسْتِنْطَاقَهُ فَلَهُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ .(1/494)
فَالْمَقْصُودُ بِالْمَعَارِيضِ فِعْلٌ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ السَّعْيَ فِي حُصُولِهِ وَنَصَبَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ ; فَلَا يُقَاسُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ سُقُوطَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ وَتَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ , فَأَيْنَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ مِنْ الْآخَرِ ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ ؟ وَهُوَ كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ وَالْمَيْتَةِ عَلَى الْمُذَكَّى . فَصْلٌ فَهَذَا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ , وَأَمَّا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ بِهِ فَإِنَّ الْمُعَرِّضَ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِحَقٍّ , وَنَطَقَ بِصِدْقٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ , لَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَنْوِ بِاللَّفْظِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ فِي نَفْسِهِ , وَإِنَّمَا كَانَ عَدَمُ الظُّهُورِ مِنْ ضَعْفِ فَهْمِ السَّامِعِ وَقُصُورِهِ فِي فَهْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ , وَمَعَارِيضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِزَاحُهُ كَانَتْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ , كَقَوْلِهِ : { نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ } { وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْعُجُزُ } { وَزَوْجُكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ } وَأَكْثَرُ مَعَارِيضِ السَّلَفِ كَانَتْ مِنْ هَذَا , وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ , لَكِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالدِّينِ وَكَوْنِ الْبَيَانِ فِي الْعِلْمِ وَاجِبًا , بِخِلَافِ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ ظَالِمٍ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ . [(1/495)
الْمَعَارِيضُ عَلَى نَوْعَيْنِ ] وَالْمَعَارِيضُ نَوْعَانِ ; أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَا وُضِعَ لَهُ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ , وَيَقْصِدُ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَتِهِ , فَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ قَصَدَ غَيْرَهُ : إمَّا لِقُصُورِ فَهْمِهِ , وَإِمَّا لِظُهُورِ ذَلِكَ الْفَرْدِ عِنْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ , وَإِمَّا لِشَاهِدِ الْحَالِ عِنْدَهُ , وَإِمَّا لِكَيْفِيَّةِ الْمُخْبِرِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ مِنْ ضَحِكٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ إشَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْمَعَارِيضَ النَّبَوِيَّةَ وَالسَّلَفِيَّةَ وَجَدْتَ عَامَّتَهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ , وَالثَّانِي : أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْعَامُّ فِي الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ فِي الْمُقَيَّدِ , وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ , وَلَيْسَ يُفْهَمُ أَكْثَرُ مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ; فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ وَالْبَحْرِ وَالشَّمْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُ مَعْنًى , وَعِنْدَ التَّقْيِيدِ لَهُ مَعْنًى يُسَمُّونَهُ الْمَجَازُ , وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُقَيَّدٍ وَمُقَيَّدٍ وَلَا بَيْنَ قَيْدٍ وَقَيْدٍ , فَإِنْ قَالُوا : " كُلُّ مُقَيَّدٍ مَجَازٌ " لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ مُرَكَّبٍ مَجَازًا ; فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُقَيِّدُهُ بِقُيُودٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ , وَإِنْ قَالُوا : " بَعْضُ الْقُيُودِ يَجْعَلُهُ مَجَازًا دُونَ بَعْضٍ " سُئِلُوا عَنْ الضَّابِطِ مَا هُوَ , وَلَنْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا , وَإِنْ قَالُوا : " يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُفْرَدٌ قَبْلَ التَّرْكِيبِ , وَهُنَاكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ " .(1/496)
قِيلَ لَهُمْ : هَذَا أَبْعَدُ وَأَشَدُّ فَسَادًا ; فَإِنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يَنْعِقُ بِهَا وَلَا تُفِيدُ شَيْئًا , وَإِنَّمَا إفَادَتُهَا بَعْدَ تَرْكِيبِهَا , وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ : الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ , وَأَكْثَرُكُمْ يَقُولُ : اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا , وَالْمَجَازُ بِالْعَكْسِ ; فَلَا بُدَّ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ , وَهُوَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بَعْدَ تَرْكِيبِهِ , وَحِينَئِذٍ فَتَرْكِيبُهُ بَعْدَهُ بِقُيُودٍ يُفْهَمُ مِنْهَا مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ , فَمَا الَّذِي جَعَلَهُ مَعَ بَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ حَقِيقَةً وَمَعَ بَعْضِهَا مَجَازًا ؟ وَلَيْسَ الْغَرَضُ إبْطَالَ هَذَا التَّقْسِيمِ الْحَادِثِ الْمُبْتَدَعِ الْمُتَنَاقِضِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا , وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى نَوْعَيْ التَّعْرِيضِ , وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مَعَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي ظَاهِرِهِ وَتَارَةً يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ , وَلَا يَذْكُرُ الْمُعَرِّضُ قَرِينَةً تُبَيِّنُ مُرَادَهُ , وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ عَامَّةُ التَّعْرِيضِ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ , كَقَوْلِهِ : " كُلُّ امْرَأَةٍ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ " وَيَنْوِي فِي بَلَدِ كَذَا وَكَذَا , أَوْ يَنْوِي فُلَانَةَ , أَوْ قَوْلُهُ : " أَنْت طَالِقٌ " وَيَنْوِي مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; فَهَذَا الْقَسَمُ شَيْءٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ شَيْءٌ , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَصْدِ الْمُحْتَالِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ أَوْ صُورَتِهِ مَا .(1/497)
لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ مُقْتَضِيًا لَهُ بِوَجْهٍ بَلْ جَعَلَهُ مُقْتَضِيًا لِضِدِّهِ ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِيَةِ اللَّفْظِ لَهُ إخْبَارًا صَلَاحِيَتُهُ لَهُ إنْشَاءً ; فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : " تَزَوَّجْتُ " فِي الْمَعَارِيضِ وَعَنَى نِكَاحًا فَاسِدًا كَانَ صَادِقًا كَمَا لَوْ بَيَّنَهُ , وَلَوْ قَالَ : " تَزَوَّجْتُ " إنْشَاءً وَكَانَ فَاسِدًا لَمْ يَنْعَقِدْ , وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحِيَلِ ; فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَشْرَعْ الْقَرْضَ إلَّا لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَ قَرْضِهِ , وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهُ لَا بِحِيلَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا , وَكَذَلِكَ إنَّمَا شَرَعَ الْبَيْعَ لِمَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِ الثَّمَنِ وَتَمْلِيكِ السِّلْعَةِ , وَلَمْ يَشْرَعْهُ قَطُّ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ رِبَا الْفَضْلِ أَوْ النَّسَاءِ وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي الثَّمَنِ وَلَا فِي الْمُثَمَّنِ وَلَا فِي السِّلْعَةِ , وَإِنَّمَا غَرَضُهُمَا الرِّبَا , وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِرَاغِبٍ فِي الْمَرْأَةِ , لَمْ يَشْرَعْهُ لِلْمُحَلِّلِ , وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِلْمُفْتَدِيَةِ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ تَتَخَلَّصُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْعِشْرَةِ , وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِلتَّحَيُّلِ عَلَى الْحِنْثِ قَطُّ .(1/498)
وَكَذَلِكَ التَّمْلِيكُ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَّا لِمَنْ قَصَدَ نَفْعَ الْغَيْرِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ بِتَمْلِيكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ , وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِإِسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا قَطُّ , وَكَذَلِكَ الْمَعَارِيض لَمْ يَشْرَعْهَا إلَّا لِمُحْتَاجٍ إلَيْهَا أَوْ لِمَنْ لَا يُسْقِطُ بِهَا حَقًّا وَلَا يَضُرُّ بِهَا أَحَدًا , وَلَمْ يَشْرَعْهَا إذَا تَضَمَّنَتْ إسْقَاطَ حَقٍّ أَوْ إضْرَارًا لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ .
[ مَتَى تُبَاحُ الْمَعَارِيضُ ] ؟ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُبَاحَ لَيْسَ مِنْ الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ , وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَادَعَةٌ لِمَخْلُوقٍ أَبَاحَ الشَّارِعُ مُخَادَعَتَهُ لِظُلْمِهِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ مُخَادِعَةِ الظَّالِمِ الْمُبْطِلِ جَوَازُ مُخَادَعَةِ الْمُحِقِّ ; فَمَا كَانَ مِنْ التَّعْرِيضِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ قَبِيحًا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ جَائِزًا إلَّا عِنْدَ تَضَمُّنِ مَفْسَدَةٍ . وَالْمَعَارِيضُ كَمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ تَكُونُ بِالْفِعْلِ , وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا , مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ وَيُسَافِرَ إلَيْهِ لِيَحْسَبَ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِ وَهُوَ آمِنٌ مِنْ قَصْدِهِ , أَوْ يُسْتَطْرَدُ الْمُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْ خَصْمِهِ لِيَظُنَّ هَزِيمَتَهُ ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ , وَهَذَا مِنْ خِدَاعَاتِ الْحَرْبِ .(1/499)
فَصْلٌ [ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمَعَارِيضِ ] : فَهَذَا أَحَدُ النَّوْعَيْنِ الَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ , وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْكَيْدُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَكِيدَ بِهِ ظَالِمَهُ وَيَخْدَعَهُ بِهِ , إمَّا لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْهُ , أَوْ عُقُوبَةً لَهُ , أَوْ لِكَفِّ شَرِّهِ وَعُدْوَانِهِ عَنْهُ , كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ : { أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَارِهِ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ , فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ , فَفَعَلَ , فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ يَسْأَلُ عَنْ شَأْنِ الْمَتَاعِ , فَيُخْبَرُ بِأَنَّ جَارَ صَاحِبِهِ يُؤْذِيهِ , فَيَسُبُّهُ وَيَلْعَنُهُ , فَجَاءَ إلَيْهِ وَقَالَ : رُدَّ مَتَاعَكَ إلَى مَكَانِهِ فَوَاَللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا } . فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ الْفِعْلِيَّةِ , وَأَلْطَفِ الْحِيَلِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى دَفْعِ ظُلْمِ الظَّالِمِ . وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا الْجِنْسَ , وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِيَلِ عَلَى اسْتِحْلَالِ مَحَارِمِ اللَّهِ , وَإِسْقَاطِ فَرَائِضِهِ , وَإِبْطَالِ حُقُوقِ عِبَادِهِ ; فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي يَفُوتُ أَفْرَادُ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهِ الْحَصْرَ .(1/500)
فَصْلٌ [ الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ حِيَلٌ ] : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " جَعَلَ الْعُقُودَ حِيَلًا عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَا لَا يُبَاحُ إلَّا بِهَا - إلَى آخِرِهِ " فَهَذَا مَوْضِعُ الْكَلَامِ فِي الْحِيَلِ , وَانْقِسَامِهَا إلَى أَحْكَامِهَا الْخَمْسَةِ , فَنَقُولُ : لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى حِيلَةً حَرَامًا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } أَرَادَ بِالْحِيلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ بَيْنِ الْكُفَّارِ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا , وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ عَلَى هَزِيمَةِ الْكُفَّارِ , كَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ , أَوْ عَلَى تَخْلِيصِ مَالِهِ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ بِامْرَأَتِهِ , وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ عَلَى قَتْلِ رَأْسٍ مِنْ رُءُوسِ أَعْدَاءِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ قَتَلُوا ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ الْيَهُودِيَّ . وَكَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَأَبَا رَافِعٍ وَغَيْرِهِمْ ; فَكُلُّ هَذِهِ حِيَلٌ مَحْمُودَةٌ مَحْبُوبَةٌ لِلَّهِ وَمُرْضِيَةٌ لَهُ .
[(2/1)
اشْتِقَاقُ الْحِيلَةِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا ] وَالْحِيلَةُ : مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحَوُّلِ , وَهِيَ النَّوْعُ وَالْحَالَةُ كَالْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ وَالرِّكْبَةِ فَإِنَّهَا بِالْكَسْرِ لِلْحَالَةِ , وَبِالْفَتْحِ لِلْمَرَّةِ , كَمَا قِيلَ : الْفَعْلَةُ لِلْمَرَّةِ , وَالْفِعْلَةُ لِلْحَالَةِ , وَالْمَفْعَلُ لِلْمَوْضِعِ , وَالْمِفْعَلُ لِلْآلَةِ , وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ , فَإِنَّهَا مِنْ التَّحَوُّلِ مِنْ حَالَ يَحُولُ , وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا , وَهُوَ قَلْبٌ مَقِيسٌ مُطَّرِدٌ فِي كَلَامِهِمْ , نَحْوُ مِيزَانٌ وَمِيقَاتٌ وَمِيعَادٌ ; فَإِنَّهَا مِفْعَالٌ مِنْ الْوَزْنِ وَالْوَقْتِ وَالْوَعْدِ , فَالْحِيلَةُ هِيَ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْعَمَلِ الَّذِي يَتَحَوَّلُ بِهِ فَاعِلُهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ , ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهَا بِالْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الرَّجُلُ إلَى حُصُولِ غَرَضِهِ , بِحَيْثُ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ ; فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مَوْضُوعِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ , وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا جَائِزًا أَوْ مُحَرَّمًا , وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا اسْتِعْمَالُهَا فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْغَرَضِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا أَوْ عَادَةً فَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ ; فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : فُلَانٌ مِنْ أَرْبَابِ الْحِيَلِ , وَلَا تُعَامِلُوهُ فَإِنَّهُ مُتَحَيِّلٌ , وَفُلَانٌ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ , وَهَذَا مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمُطْلَقِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ كَالدَّابَّةِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِمَا .(2/2)
انْقِسَامُ الْحِيلَةُ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَأَمْثِلَتِهَا ] وَإِذَا قُسِمَتْ بِاعْتِبَارِهَا لُغَةً انْقَسَمَتْ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ ; فَإِنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَسْبَابِ الْوَاجِبَةِ حِيلَةٌ عَلَى حُصُولِ مُسَبِّبَاتِهَا ; فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللُّبْسُ وَالسَّفَرُ الْوَاجِبُ حِيلَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ , وَالْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا وَمُبَاحُهَا كُلُّهَا حِيلَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَالْأَسْبَابُ الْمُحَرَّمَةُ كُلُّهَا حِيلَةٌ عَلَى حُصُولِ مَقَاصِدِهَا مِنْهَا , وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي الْحِيلَةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ إلَى مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ ; فَالْحِيلَةُ جِنْسٌ تَحْتَهُ التَّوَصُّلُ إلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ , وَتَرْكِ الْمُحَرَّمِ , وَتَخْلِيصُ الْحَقِّ , وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ , وَقَهْرُ الظَّالِمِ , وَعُقُوبَةُ الْمُعْتَدِي , وَتَحْتَهُ التَّوَصُّلُ إلَى اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمِ , وَإِبْطَالِ الْحُقُوقِ , وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ , وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْحِيَلِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى النَّوْعِ الْمَذْمُومِ , وَكَمَا يَذُمُّ النَّاسُ أَرْبَابَ الْحِيَلِ فَهُمْ يَذُمُّونَ أَيْضًا الْعَاجِزَ الَّذِي لَا حِيلَةَ عِنْدَهُ لِعَجْزِهِ وَجَهْلِهِ بِطُرُقِ تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ , فَالْأَوَّلُ مَاكِرٌ مُخَادِعٌ , وَالثَّانِي عَاجِزٌ مُفَرِّطٌ , وَالْمَمْدُوحُ غَيْرُهُمَا , وَهُوَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِطُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ خَفِيِّهَا وَظَاهِرِهَا فَيُحْسِنُ التَّوَصُّلَ إلَى مَقَاصِدِهِ الْمَحْمُودَةِ(2/3)
الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ , وَيَعْرِفُ طُرُقَ الشَّرِّ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى خِدَاعِهِ وَالْمَكْرِ بِهِ فَيَحْتَرِزَ مِنْهَا وَلَا يَفْعَلُهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا , وَهَذِهِ كَانَتْ حَالُ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ النَّاسِ قُلُوبًا , وَأَعْلَمَ الْخَلْقِ بِطُرُقِ الشَّرِّ وَوُجُوهِ الْخِدَاعِ , وَأَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَرْتَكِبُوا مِنْهَا شَيْئًا أَوْ يُدْخِلُوهُ فِي الدِّينِ , كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : لَسْتُ بِخِبٍّ وَلَا يَخْدَعُنِي الْخِبُّ , وَكَانَ حُذَيْفَةُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالشَّرِّ وَالْفِتَنِ , وَكَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَيْرِ , وَكَانَ هُوَ يَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ , وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ لَيْسَ هُوَ الْجَاهِلُ بِالشَّرِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ , بَلْ الَّذِي يَعْرِفُهُ وَلَا يُرِيدُهُ , بَلْ يُرِيدُ الْخَيْرَ وَالْبِرَّ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَمَّى الْحَرْبَ خُدْعَةً , وَلَا رَيْبَ فِي انْقِسَامِ الْخِدَاعِ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِلَى مَا يُبْغِضُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ , وَكَذَلِكَ الْمَكْرُ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : مَحْمُودٌ , وَمَذْمُومٌ ; فَالْحِيلَةُ وَالْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ .(2/4)
فَالْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ , وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ , وَمِنْهَا مَا هُوَ صَغِيرَةٌ , وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ , وَمِنْهَا مَا هُوَ جَائِزٌ , وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ , وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ ; فَالْحِيلَةُ بِالرِّدَّةِ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ كُفْرٌ , ثُمَّ إنَّهَا لَا تَتَأَتَّى إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ بِالرِّدَّةِ , فَأَمَّا مَنْ وَقَفَهُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا لَا يَتِمُّ لَهَا غَرَضُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ; فَإِنَّهَا مَتَى عُلِمَ بِرِدَّتِهَا قُتِلَتْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ , بَلْ يَحْبِسُهَا حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ , وَكَذَلِكَ التَّحَيُّلُ بِالرِّدَّةِ عَلَى حِرْمَانِ الْوَارِثِ كُفْرٌ , وَالْإِفْتَاءُ بِهَا كُفْرٌ , وَلَا تَتِمُّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ لِبَيْتِ الْمَالِ , فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَتِمُّ الْحِيلَةُ , وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ . فَإِنَّ ارْتِدَادَهُ أَعْظَمُ مِنْ مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ , وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ هَذَا التَّعَلُّقَ بِتَبَرُّعٍ , فَهَكَذَا الْمُرْتَدُّ بِرِدَّتِهِ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ إذْ صَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ .(2/5)
فَصْلٌ [ الْحِيَلُ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ الْكَبَائِرِ ] : وَأَمَّا الْحِيَلُ الَّتِي هِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَمِثْلُ قَتْلِ امْرَأَتِهِ إذَا قَتَلَ حَمَاتَهُ وَلَهُ مِنْ امْرَأَتِهِ وَلَدٌ , وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ الْقَوَدَ , وَقَوْلُهُمْ : " إنَّهُ وَرِثَ ابْنَهُ بَعْضَ دَمِ أَبِيهِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ " مَمْنُوعٌ ; فَإِنَّ الْقَوَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِقَتْلِ أُمِّ الْمَرْأَةِ , وَكَانَ لَهَا أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ , وَلَهَا أَنْ تُسْقِطَهُ , فَلَمَّا قَتَلَهَا قَامَ وَلِيُّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مَقَامَهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى أُمِّهَا , وَلَوْ كَانَ ابْنُ الْقَاتِلِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا مِيزَانٌ عَادِلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ مِنْ وَالِدِهِ لِغَيْرِهِ . وَغَايَةُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ , عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الضَّعْفِ وَفِي حُكْمِهِ مِنْ النِّزَاعِ , وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ إذَا كَانَ الْوَلَدُ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْقَوَدِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ; فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنْعِ قَدْ أُقِيدَ بِابْنِهِ , وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ إنَّمَا أُقِيدَ بِالْأَجْنَبِيِّ , وَكَيْفَ تَأْتِي شَرِيعَةٌ أَوْ سِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ بِوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ عَادَ فَقَتَلَ نَفْسًا أُخْرَى بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَضَاعَفَ إثْمُهُ وَجُرْمُهُ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ , بَلْ لَوْ قِيلَ بِتَحَتُّمِ قَتْلِهِ وَلَا بُدَّ إذَا قَصَدَ هَذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْعُقُولِ وَالْقِيَاسِ .(2/6)
فَصْلٌ وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَفْتَى بِهَا تَمْكِينُ الْمَرْأَةِ ابْنَ زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهَا لِيَنْفَسِخَ نِكَاحُهَا حَيْثُ صَارَتْ مَوْطُوءَةَ ابْنِهِ , وَكَذَا بِالْعَكْسِ , أَوْ وَطْأَهُ حَمَاتَهُ لِيَنْفَسِخَ نِكَاحُ امْرَأَتِهِ , مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَتَمَشَّى إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالزِّنَا كَمَا تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ .(2/7)
وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ; فَإِنَّ التَّحْرِيمَ بِذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ , وَلَا دَلِيلَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ , وَقِيَاسُ السِّفَاحِ عَلَى النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفُرُوقِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الصِّهْرَ قَسِيمَ النَّسَبِ , وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي امْتَنَّ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ , فَكِلَاهُمَا مِنْ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ ; فَلَا يَكُونُ الصِّهْرُ مِنْ آثَارِ الْحَرَامِ وَمُوجِبَاتِهِ كَمَا لَا يَكُونُ النَّسَبُ مِنْ آثَارِهِ , بَلْ إذَا كَانَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ لَا يَحْصُلُ بِوَطْءِ الْحَرَامِ فَالصِّهْرُ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ عَلَيْهِ وَمُشَبَّهٌ بِهِ أَوْلَى أَلَّا يَحْصُلَ بِوَطْءِ الْحَرَامِ , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ لَا تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَحْكَامِهِ , فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْمَحْرَمِيَّةُ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ , وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا قَالَ : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ } وَمَنْ زَنَى بِهَا الِابْنُ لَا تُسَمَّى حَلِيلَةً لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ السِّفَاحِ , وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ النِّكَاحُ الْمُرَادُ بِهِ الزِّنَا قَطُّ , وَلَا الْوَطْءُ الْمُجَرَّدُ عَنْ عَقْدٍ . وَقَدْ تَنَاظَرَ الشَّافِعِيُّ هُوَ وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مُنَاظَرَتَهُ بِلَفْظِهَا .
[(2/8)
مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ إنَّ الزِّنَا مُوجِبُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ] : قَالَ الشَّافِعِيُّ : الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ , وَقَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْحَلَالِ , وَلَا يُقَاسَ شَيْءٌ عَلَى ضِدِّهِ , فَقَالَ لِي قَائِلٌ : مَا تَقُولُ لَوْ قَبَّلَتْ امْرَأَةُ الرَّجُلِ ابْنَهُ بِشَهْوَةٍ حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا ؟ فَقُلْتُ : لِمَ قُلْتَ ذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ وَنَحْوُ هَذَا بِالنِّكَاحِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ ؟ فَقَالَ : أَجِدْ جِمَاعًا وَجِمَاعًا , قُلْتُ : جِمَاعًا حُمِدَتْ بِهِ وَأُحْصِنَتْ وَجِمَاعًا رُجِمَتْ بِهِ , أَحَدُهُمَا نِقْمَةٌ وَالْآخَرُ نِعْمَةٌ , وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَأَوْجَبَ بِهِ حُقُوقًا , وَجَعَلَكَ مَحْرَمًا لِأُمِّ امْرَأَتِكَ وَابْنَتِهَا تُسَافِرُ بِهِمَا , وَجَعَلَ عَلَى الزِّنَا نِقْمَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ , إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ , فَتَقِيسَ الْحَرَامَ الَّذِي هُوَ نِقْمَةٌ عَلَى الْحَلَال الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ ؟ وَقُلْتُ لَهُ : فَلَوْ قَالَ لَكَ وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِجِمَاعِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ فَأُحِلُّهَا بِالزِّنَا لِأَنَّهُ جِمَاعٌ كَجِمَاعٍ , قَالَ : إذًا أُخْطِئ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بِنِكَاحِ زَوْجٍ , قُلْتُ : وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِنِكَاحِ زَوْجٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ , قَالَ : أَفَيَكُونُ شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ الْحَلَالُ وَلَا يُحَرِّمُهُ الْحَرَامُ أَقُولُ بِهِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ يَنْكِحُ أَرْبَعًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ النِّسَاء خَامِسَةً , أَفَيَحْرُمُ(2/9)
عَلَيْهِ إذَا زَنَى بِأَرْبَعٍ شَيْءٌ مِنْ النِّسَاءِ ؟ قَالَ : لَا يَمْنَعُهُ الْحَرَامُ مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَلَالُ , قَالَ : فَقَدْ تَرْتَدُّ فَتَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا , قُلْتُ : نَعَمْ , وَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ , وَأَقْتُلُهَا وَأَجْعَلُ مَالَهَا فَيْئًا , قَالَ : فَقَدْ نَجِدُ الْحَرَامَ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ , قُلْتُ : أَمَّا فِي مِثْلِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ النِّسَاء فَلَا , انْتَهَى . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ الَّتِي رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْعِدَّةِ وَالْإِحْدَادِ وَالْمِيرَاثِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ , وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ وَصِحَّةِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْقَصْرِ عَلَى أَرْبَعٍ وَوُجُوبِ الْقَسْمِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الرَّجْعَةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالزِّنَا , وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لِبَغِيٍّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَكَمَا فَطَرَ اللَّهُ عُقُولَ النَّاسِ عَلَى اسْتِقْبَاحِهِ , فَكَيْفَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ؟ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ بَاطِلَةٌ شَرْعًا كَمَا هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي الدِّينِ .
[(2/10)
إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ ] : وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ عَلَى إسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ بِقَوْلِ السَّارِقِ : هَذَا مِلْكِي , وَهَذِهِ دَارِي , وَصَاحِبُهَا عَبْدِي , مِنْ الْحِيَل الَّتِي هِيَ إلَى الْمَضْحَكَةِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى الشَّرْعِ , وَنَحْنُ نَقُولُ : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ قَبُولَ مِثْلِ هَذَا الْهَذَيَانِ الْبَارِدِ الْمُنَاقِضِ لِلْعُقُولِ وَالْمَصَالِحِ , فَضْلًا عَنْ أَنْ يَشْرَعَ لَهُمْ قَبُولَهُ , وَكَيْفَ يُظَنُّ بِاَللَّهِ وَشَرْعِهِ ظَنَّ السَّوْءِ أَنَّهُ شَرَعَ رَدَّ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يَقْطَعُ كُلُّ أَحَدٍ بِبُطْلَانِهِ , وَبِالْبُهْتَانِ الَّذِي يَجْزِمُ كُلُّ حَاضِرٍ بِبُهْتَانِهِ . وَمَتَى كَانَ الْبُهْتَانُ وَالْوَقَاحَةُ وَالْمُجَاهَرَةُ بِالزُّورِ وَالْكَذِبِ مَقْبُولًا فِي دِينٍ مِنْ الْأَدْيَانِ أَوْ شَرِيعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ أَوْ سِيَاسَةِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ؟ وَمَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ وَإِنْ بُلِيَ بِالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِدَعْوَى هَذَا الْبُهُتِ وَالزُّورِ , وَيَا لِلَّهِ وَيَا لَلْعُقُولِ , أَيَعْجِزُ سَارِقٌ قَطُّ عَنْ التَّكَلُّمِ بِهَذَا الْبُهْتَانِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ ؟ فَمَا مَعْنَى شَرْعِ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ ثُمَّ إسْقَاطِهِ بِهَذَا الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ ؟ , .
[(2/11)
إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنْ الْغَاصِبِ ] وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ شَيْئًا فَادَّعَاهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ , فَأَنْكَرَ , فَطَلَبَ تَحْلِيفَهُ , قَالُوا : فَالْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنْهُ أَنْ يُقِرَّ بِهِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ وَيَفُوزَ الْمَغْصُوبُ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي الدِّينِ , بَلْ الْمُقَرُّ لَهُ إنْ كَانَ كَبِيرًا صَارَ هُوَ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ , وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ , وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ بِهِ لِلْمُدَّعِي , وَغَرِمَ قِيمَتَهُ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ ; لِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ قَدْ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ رَجُلًا , فَخَشِيَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ الْجُرْحِ , فَدَفَعَ عَلَيْهِ دَوَاءً مَسْمُومًا فَقَتَلَهُ . [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ ] قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : يَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ , وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ بِالسُّمِّ , كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ بِالسَّيْفِ , وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّارِعُ الْقَتْلَ عَمَّنْ قَتَلَ بِالسُّمِّ لَمَا عَجَزَ قَاتِلٌ عَنْ قَتْلِ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ بِهِ آمِنًا ; إذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ , وَفِي هَذَا مِنْ فَسَادِ الْعَالَمِ مَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ .(2/12)
إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِخْرَاجِ الزَّوْجَةِ مِنْ الْمِيرَاثِ ] وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ إخْرَاجَ زَوْجَتِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ فِي مَرَضِهِ , وَخَافَ أَنَّ الْحَاكِمَ يُوَرِّثُ الْمَبْتُوتَةَ , قَالُوا : فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا , وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحَرَّمَةٌ بَاطِلَةٌ لَا يَحِلُّ تَعْلِيمُهَا , وَيَفْسُقُ مَنْ عَلَّمَهَا الْمَرِيضَ , وَيَسْتَحِقُّ عُقُوبَةَ اللَّهِ , وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا تَنْفُذُ , فَإِنَّهُ كَمَا هُوَ مُتَّهَمٌ بِطَلَاقِهَا فَهُوَ مُتَّهَمٌ بِالْإِقْرَارِ بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَرَضِ , وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ لَا يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ لِلتُّهْمَةِ فَالْإِقْرَارُ لَا يَمْنَعُهُ لِلتُّهْمَةِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ; فَالْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ مُحَرَّمَةٌ .
[(2/13)
إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ ] وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ فَبَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ , ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ , قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ , بَلْ لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ الْعَامِلُ زَكَاتَهُ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحَرَّمَةٌ بَاطِلَةٌ , وَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْهُ فَرْضَ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَهُ وَأَوْعَدَ بِالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ مَنْ ضَيَّعَهُ وَأَهْمَلَهُ , فَلَوْ جَازَ إبْطَالُهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي هِيَ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ لَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِهِ وَالْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ فَائِدَةٌ . وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا عَلَى مُعَاقَبَةِ الْعَبْدِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ , كَمَا حُرِمَ الْقَاتِلُ الْمِيرَاثَ , وَوَرَّثَ الْمُطَلَّقَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ , وَكَذَلِكَ الْفَارُّ مِنْ الزَّكَاةِ لَا يُسْقِطُهَا عَنْهُ فِرَارُهُ وَلَا يُعَانُ عَلَى قَصْدِهِ الْبَاطِلِ فَيَتِمُّ مَقْصُودُهُ وَيَسْقُطُ مَقْصُودُ الرَّبِّ تَعَالَى , وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْحِيَلِ إنَّمَا يُسَاعِدُ فِيهَا الْمُتَحَيِّلُ عَلَى بُلُوغِ غَرَضِهِ وَيُبْطِلُ غَرَضَ الشَّارِعِ .
[(2/14)
إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ ] وَكَذَلِكَ الْمُجَامِعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ إذَا تَغَدَّى أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوَّلًا ثُمَّ جَامَعَ , قَالُوا : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ , وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; فَإِنَّ إضْمَامَهُ إلَى إثْمِ الْجِمَاعِ إثْمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يُنَاسِبُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ , بَلْ يُنَاسِبُ تَغْلِيظَ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ , وَلَوْ كَانَ هَذَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَجِبْ كَفَّارَةٌ عَلَى وَاطِئٍ اهْتَدَى لِجَرْعَةِ مَاءٍ أَوْ ابْتِلَاعِ لُبَابَةٍ أَوْ أَكْلِ زَبِيبَةٍ , فَسُبْحَانَ اللَّهِ , هَلْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ الْكَفَّارَةَ لِكَوْنِ الْوَطْءِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مُفْطِرٌ قَبْلَهُ أَوْ لِلْجِنَايَةِ عَلَى زَمَنِ الصَّوْمِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ ؟ أَفَتَرَى بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَبْلَهُ صَارَ الزَّمَانُ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ فَانْقَلَبَتْ كَرَاهَةُ الشَّارِعِ لَهُ مَحَبَّةً وَمَنْعُهُ إذْنًا ؟ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ , وَأَفْسَدَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْحِيلَةَ فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ الْجِمَاعِ قَطْعَ الصَّوْمِ , فَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ النِّيَّةِ فَلْيُجَامِعْ آمِنًا مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ , وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ عَلَى مُجَامِعٍ أَبَدًا , وَإِبْطَالُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ رَأْسًا ; فَإِنَّ الْمُجَامِعَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى الْجِمَاعِ قَبْلَ فِعْلِهِ , وَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْجِمَاعِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ نِيَّتُهُ قَطْعَ الصَّوْمِ فَأَفْطَرَ قَبْلَ الْفِعْلِ بِالنِّيَّةِ الْجَازِمَةِ لِلْإِفْطَارِ , فَصَادَفَهُ الْجِمَاعُ وَهُوَ مُفْطِرٌ بِنِيَّةِ الْإِفْطَارِ السَّابِقَةِ عَلَى الْفِعْلِ , فَلَمْ(2/15)
يَفْطُرْ بِهِ , فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ , فَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَتَضَمَّنَ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ مُنَاقَضَةَ الدِّينِ وَإِبْطَالَ الشَّرَائِعِ ؟
[ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ وُجُوبِ قَضَاءِ الْحَجِّ ] وَكَذَلِكَ قَالُوا : لَوْ أَنَّ مُحْرِمًا خَافَ الْفَوْتَ وَخَشِيَ الْقَضَاءَ مِنْ قَابِلٍ فَالْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي حَالِ إحْرَامِهِ فَيَبْطُلُ إحْرَامُهُ , فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ , فَقَدْ أَسْلَمَ إسْلَامًا مُسْتَأْنَفًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ قَضَاءُ مَا مَضَى , وَمَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عِلْمٍ وَدِينٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ مُنَاقِضَةٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ أَشَدَّ مُنَاقَضَةٍ , فَهُوَ فِي شِقٍّ وَالْإِسْلَامُ فِي شِقٍّ .
[(2/16)
إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ ] وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَرَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَكِيلِهِ قِبَلَهُ , فَالْحِيلَةُ فِي حَلِفِهِ صَادِقًا أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ إلَى مَنْزِلِهِ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ حَقَّهُ ثُمَّ يُغْلِقُ عَلَيْهِ الْبَابَ وَيَمْضِيَ مَعَ الْوَكِيلِ , فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَكِيلِهِ قِبَلَهُ حَلَفَ صَادِقًا , فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْبَيْتِ فَشَأْنُهُ وَشَأْنُ صَاحِبِ الْحَقِّ . وَهَذِهِ شَرٌّ مِنْ حِيلَةِ الْيَهُودِ أَصْحَابِ الْحِيتَانِ , وَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا إنَّمَا هِيَ مِنْ حِيلَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ , فَمَا لِدِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِدْخَالِهَا فِيهِ ؟ وَلَا يُجْدِي عَلَيْهِ هَذَا الْفِعْلُ فِي بِرِّهِ بِالْيَمِينِ شَيْئًا , بَلْ هُوَ حَانِثٌ كُلَّ الْحِنْثِ ; إذْ لَمْ يَتَمَكَّنُ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ الظَّفَرِ بِحَقِّهِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْحَالِفِ كَمَا هُوَ ؟ وَإِنَّمَا يَبْرَأُ مِنْهُ إذَا تَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنْ قَبْضِهِ وَعَدَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ .
[(2/17)
إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ] وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُسْقِطَ زَكَاتَهَا , قَالُوا : فَالْحِيلَةُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا الْقِنْيَةَ . فِي آخِرِ الْحَوْلِ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ , ثُمَّ يَنْقُضَ هَذِهِ النِّيَّةَ وَيُعِيدَهَا لِلتِّجَارَةِ , فَيَسْتَأْنِفَ بِهَا حَوْلًا , ثُمَّ يَفْعَلَ هَكَذَا فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ , فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا أَبَدًا . فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , أَيَرُوجُ هَذَا الْخِدَاعُ وَالْمَكْرُ وَالتَّلْبِيسُ عَلَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ؟ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ كَمَا هِيَ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ , وَمَكْرٌ بِدِينِ الْإِسْلَامِ , فَهِيَ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا , فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ لِلْقِنْيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّتِهِ إعَادَتُهَا لِلتِّجَارَةِ , فَأَمَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْتَنِيهَا أَلْبَتَّةَ وَلَا لَهُ حَاجَةً بِاقْتِنَائِهَا , وَإِنَّمَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ , فَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ مِنْهُ النِّيَّةُ الْجَازِمَةُ لِلْقِنْيَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَقْتَنِيهَا وَلَا يُرِيدُ اقْتِنَاءَهَا , وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ حَدِيثِ النَّفْسِ أَوْ خَاطِرٍ أَجْرَاهُ عَلَى قَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ " أَعْدَدْتُهَا لِلْقِنْيَةِ " وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ ؟ أَفَلَا يَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ مَنْ يُسْقِطُ فَرَائِضَهُ بِهَذَا الْهَوَسِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ ؟ .
[(2/18)
إبْطَالُ حِيلَةٍ أُخْرَى لِإِبْطَالِ الزَّكَاةِ ] : وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَيْنٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَأَرَادَ إسْقَاطَ زَكَاتِهَا فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مُحْتَالٍ مِثْلِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ نَظِيرُهَا فَيُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ , ثُمَّ فِي آخِرِهِ يَعُودُ فَيَسْتَبْدِلُ بِهَا مِثْلَهَا , فَإِذَا هُوَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ مَا عَاشَ , وَأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ إضَافَةُ هَذَا الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ إلَى الرَّسُولِ , وَأَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ . وَمِثْلُ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مَنَعَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ , وَقَالُوا : كَيْفَ يَأْتِي رَسُولٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ ؟ وَأَسَاءُوا ظَنَّهُمْ بِهِ وَبِدِينِهِ , وَتَوَاصَوْا بِالتَّمَسُّكِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ , وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ , وَقَالُوا : كَيْفَ تَأْتِي بِهَذَا شَرِيعَةٌ أَوْ تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؟ وَلَوْ أَنَّ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ سَاسَ رَعِيَّتَهُ بِهَذِهِ السِّيَاسَةِ لَقَدَحَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ , قَالُوا : وَكَيْفَ يَشْرَعُ الْحَكِيمُ الشَّيْءَ لِمَا فِي شَرْعِهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَيُحَرِّمُ لِمَا فِي فِعْلِهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ ثُمَّ يُبِيحُ إبْطَالَ ذَلِكَ بِأَدْنَى حِيلَةٍ تَكُونُ ؟ وَتَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذَا نَاظَرَهُ الْمُسْلِمُ فِي صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْحِيَلِ , كَمَا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ وَكَمَا نَسْمَعُهُ مِنْ لَفْظِهِمْ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ , فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .(2/19)
وَكَذَلِكَ قَالُوا : لَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ السَّائِمَةِ فَأَرَادَ إسْقَاطَ زَكَاتِهَا فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْلِفَهَا يَوْمًا وَاحِدًا ثُمَّ تَعُودَ إلَى السَّوْم , وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي كُلِّ حَوْلٍ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ , بَلْ وَكَذَلِكَ كُلُّ حِيلَةٍ يَتَحَيَّلُ بِهَا عَلَى إسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ أَوْ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ عِبَادِهِ لَا يَزِيدُ ذَلِكَ الْفَرْضَ إلَّا تَأْكِيدًا وَذَلِكَ الْحَقَّ إلَّا إثْبَاتًا .
[ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْطَالِ الشَّهَادَةِ ] وَكَذَلِكَ قَالُوا : إذَا عَلِمَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ شَهَادَتَهُمَا فَلْيُخَاصِمْهُمَا قَبْلَ الرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ , وَهَذِهِ الْحِيلَةُ حَسَنَةٌ إذَا كَانَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ , فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِحَقٍّ لَمْ تَحِلَّ لَهُ مُخَاصَمَتُهُمَا , وَلَا تُسْقِطُ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةُ شَهَادَتَهُمَا .(2/20)
إبْطَالُ حِيلَةٍ لِضَمَانِ الْبَسَاتِينِ ] وَكَذَلِكَ قَالُوا : لَا يَجُوزُ ضَمَانُ الْبَسَاتِينِ , وَالْحِيلَةُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ جُزْءٌ عَلَى جُزْءٍ , وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تَتِمُّ إذَا كَانَ الْبُسْتَانُ وَقْفًا وَهُوَ نَاظِرُهُ أَوْ كَانَ لِيَتِيمٍ , فَإِنَّ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ فِي الْمُسَاقَاةِ تَقْدَحُ فِي نَظَرِهِ وَوَصِيَّتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهَا تُغْتَفَرُ لِأَجْلِ الْعَقْدِ الْآخَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحَابَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ , فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَابِيَ فِي الْمُسَاقَاةِ لِمَا حَصَلَ لِلْوَقْفِ وَالْيَتِيمِ مِنْ مُحَابَاةٍ أُخْرَى , وَهُوَ نَظِيرُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً بِرِبْحٍ ثُمَّ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً بِخَسَارَةٍ تُوَازِنُ ذَلِكَ الرِّبْحَ , هَذَا إذَا لَمْ يَبْنِ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ كَانَا عَقْدَيْنِ فِي عَقْدٍ , وَكَانَا بِمَنْزِلَةِ سَلَفٍ وَبَيْعٍ , وَشَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ , وَإِنْ شُرِطَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ فَسَدَا , مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَمْ يَرَ جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ أَوْ مَنْ خَصَّهَا بِالتَّحَيُّلِ وَحْدَهُ , ثُمَّ فِيهَا مَفْسَدَةٌ أُخْرَى , وَهِيَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ جَائِزٌ , فَمَتَى أَرَادَ أَحَدُهُمَا فَسْخَهَا فَسَخَهَا وَتَضَرَّرَ الْآخَرُ , وَمَفْسَدَةٌ ثَانِيَةٌ , وَهِيَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ هَذَا الْجُزْءِ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ جَمِيعِ ثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ .(2/21)
وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ يَتَعَسَّرُ , إمَّا بِأَنْ يَأْكُلَ الثَّمَرَةَ أَوْ يُهْدِيَهَا كُلَّهَا أَوْ يَبِيعَهَا عَلَى أُصُولِهَا , فَلَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ ذَلِكَ الْجُزْءِ , وَهَكَذَا يَقَعُ سَوَاءٌ , ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ الْأَلْفِ يَسِيرًا جِدًّا , فَلَا يُطَالَبُ بِهِ عَادَةً , فَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ لِلْيَتِيمِ وَجِهَةُ الْوَقْفِ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ , وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا أَفْقَهَ مِنْ ذَلِكَ , وَأَعْمَقَ عِلْمًا , وَأَقَلَّ تَكَلُّفًا , وَأَبَرَّ قُلُوبًا , فَكَانُوا يَرَوْنَ ضَمَانَ الْحَدَائِقِ بِدُونِ هَذِهِ الْحِيلَةِ , كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِحَدِيقَةِ أُسَيْدَ بْنِ حُضَيْرٍ , وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ , فَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ , وَضَمَانُ الْبَسَاتِينِ كَمَا هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ , كَمَا تُضْمَنُ الْأَرْضِ لِمُغِلِّ الزَّرْعِ فَكَذَلِكَ تُضْمَنُ الشَّجَرُ لِمُغِلِّ الثَّمَرِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ ; إذْ الْأَصْلُ هُنَا كَالْأَرْضِ هُنَاكَ , وَالْمُغِلُّ يَحْصُلُ بِخِدْمَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْقِيَامِ عَلَى الشَّجَرِ كَمَا يَحْصُلُ بِخِدْمَتِهِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْأَرْضِ , وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَحْرُثَهَا وَيَسْقِيَهَا وَيَسْتَغِلَّ مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ مِنْهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الشَّجَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ , فَهَذَا أَفْقَهُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ , وَأَبْعَدُ مِنْ الْفَسَادِ , وَأَصْلَحُ لِلنَّاسِ , وَأَوْفَقُ لِلْقِيَاسِ(2/22)
, وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنهما , وَهُوَ الصَّوَابُ .
الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ لِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَصْلًا ) : وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ , وَهِيَ تَمْنَعُ الرَّجُلَ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ أَلْبَتَّةَ , بَلْ تَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ الطَّلَاقِ بِكُلِّ وَجْهٍ , فَلَا يَبْقَى لَهُ سَبِيلٌ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا , وَلَا يُمْكِنُهُ مُخَالَعَتُهَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْخُلْعَ طَلَاقًا , وَهِيَ نَظِيرُ سَدِّ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ , فَهَذَا لَوْ صَحَّ تَعْلِيقُهُ لَمْ يُمْكِنْهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مَا عَاشَ , وَذَلِكَ لَوْ صَحَّ شَرْعُهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَةً أَبَدًا .(2/23)
وَصُورَةُ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يَقُولَ : كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ - أَوْ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي - فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا , قَالُوا : فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ ; إذْ لَوْ وَقَعَ لَزِمَ وُقُوعَ مَا عَلَّقَ بِهِ وَهُوَ الثَّلَاثُ , وَإِذَا وَقَعَتْ الثَّلَاثُ امْتَنَعَ وُقُوعُ هَذَا الْمُنَجَّزِ , فَوُقُوعُهُ يُفْضِي إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ , وَمَا أَفْضَى وُجُودُهُ إلَى عَدَمِ وُجُودِهِ لَمْ يُوجَدْ , هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ , وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَأَبَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إبْطَالِ هَذَا التَّعْلِيقِ ; فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : هَذَا التَّعْلِيقُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ مِنْ الْقَوْلِ ; فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمُحَالَ , وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ , وَهَذَا مُحَالٌ , فَمَا تَضَمَّنَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ الْقَوْلِ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي لَمْ يَقَعْ , وَإِذَا طَلَّقْتُكِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْكِ طَلَاقِي , وَنَحْوُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ , بَلْ قَوْلُهُ : " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " أَدَخَلُ فِي الْإِحَالَةِ وَالتَّنَاقُضِ ; فَإِنَّهُ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ جَعَلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ قِيَامِ الطَّلَاقِ , وَهُنَا جَعَلَ وُقُوعَهُ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ زِيَادَةِ مُحَالٍ عَقْلًا وَعَادَةً , فَالْمُتَكَلِّمُ بِهِ يَتَكَلَّمُ بِالْمُحَالِ قَاصِدًا لِلْمُحَالِ , فَوُجُودِ هَذَا التَّعْلِيقِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ ,(2/24)
فَإِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ طَلَاقُهَا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ , وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ الْمُحَالُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ الثَّلَاثِ عَلَى الْمُنَجَّزِ , وَهَذَا مُحَالٌ أَنْ يَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَيَقَعَ جَمِيعُ مَا عَلَّقَ بِهِ ; فَالصَّوَابُ أَنْ يَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَيَقَعَ جَمِيعُ مَا عَلَّقَ بِهِ أَوْ تَمَامُ الثَّلَاثِ مِنْ الْمُعَلَّقِ , وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَبِي بَكْر وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا وُقُوعَ الطَّلَاقِ جُمْلَةً قَالُوا : هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ , فَهَذَا تَلْخِيصُ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ . قَالَ الْمُصَحِّحُونَ لِلتَّعْلِيقِ : صَدَرَ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ طَلَاقَانِ مُنَجَّزٌ وَمُعَلَّقٌ , وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ , وَهُوَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ وَالتَّعْلِيقَ , وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْتَنِعٌ , وَلَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ , فَتَمَانَعَا وَتَسَاقَطَا , وَبَقِيَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا , وَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا لِهَذَا الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ .(2/25)
وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَزَوَّجَهَا عَبْدُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ وَمَهْرُهَا مِائَةٌ وَبَاقِي التَّرِكَةِ مِائَةٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ ; لِأَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ , وَسُقُوطُ الْمَهْرِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْخِيَارِ , وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يُمْكِنُ , وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ , لِأَنَّ طَرِيقَ ثُبُوتِهِمَا الشَّرْعُ , فَأَبْقَيْنَا النِّكَاحَ وَرَفَضْنَا الْخِيَارَ وَلَمْ يَسْقُطْ الْمَهْرُ , وَكُلُّ مَا أَفْضَى وُقُوعُهُ إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ فَهَذِهِ سَبِيلُهُ . وَمِثَالُهُ فِي الْحِسِّ إذَا تَشَاحَّ اثْنَانِ فِي دُخُولِ دَارٍ , وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقُوَّةِ , وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَزِيَّةٌ تُوجِبُ تَقْدِيمَهُ ; فَإِنَّهُمَا يَتَمَانَعَانِ فَلَا يَدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا , وَهَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ دَلِيلِ التَّمَانُعِ عَلَى التَّوْحِيدِ , وَهُوَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ فَاعِلَانِ مُسْتَقِلَّانِ بِالْفِعْلِ ; فَإِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَنْفِي اسْتِقْلَالَ الْآخَرِ , فَاسْتِقْلَالهمَا يَمْنَعُ اسْتِقْلَالَهُمَا , وَوَازَنَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ وُقُوعَهُمَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُمَا .
[(2/26)
مَسَائِلُ عَدِيدَةٍ مِنْ الدَّوْرِ الْحُكْمِيِّ ] قَالُوا : وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ اسْتِلْزَامُ هَذَا التَّعْلِيقِ لِدَوْرٍ حُكْمِيٍّ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ وَالْمُنَجَّزِ , وَنَحْنُ نُرِيكُمْ مِنْ مَسَائِلِ الدَّوْرِ الَّتِي يُفْضِي وُقُوعُهَا إلَى عَدَمِ وُقُوعِهَا كَثِيرًا , مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ , وَمِنْهَا مَا لَوْ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا رِيحٌ وَشَكَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلْ هِيَ مِنْهُ أَوْ مِنْ صَاحِبِهِ , لَمْ يَجُزْ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ; لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُ بِهِ يُبْطِلُ اقْتِدَاءَهُ , وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُمَا إنَاءَانِ أَحَدُهُمَا نَجِسٌ فَأَدَّى اجْتِهَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى إنَاءٍ لَمْ تَجُزْ الْقُدْوَةُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى إبْطَالِ الْقُدْوَةِ , وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَهَدَا فِي الثَّوْبَيْنِ وَالْمَكَانَيْنِ , وَمِنْهَا لَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ حُرَّةً وَضَمِنَ السَّيِّدُ مَهْرَهَا ثُمَّ بَاعَهُ لِزَوْجِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ صِحَّتَهُ تُؤَدِّي إلَى فَسَادِهِ , إذْ لَوْ صَحَّ لَبَطَلَ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهَا إذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا , وَإِذَا بَطَلَ سَقَطَ مَهْرُهَا ; لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا , وَإِذَا سَقَطَ مَهْرُهَا وَهُوَ الثَّمَنُ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ أَلْبَتَّةَ , بَلْ إمَّا أَنْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَلَا يَقَعَ الْعِتْقُ إذْ لَوْ وَقَعَ الْعِتْقُ لَبَطَلَ الْبَيْعُ , وَإِذَا بَطَلَ بَطَلَ الْعِتْقُ ; فَوُقُوعُهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ .(2/27)
وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَقَعَ الْعِتْقُ قَبْلَهُ , وَوُقُوعُ الْعِتْقِ قَبْلَهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ , فَصِحَّةُ الْبَيْعِ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ , وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ : " إذَا رَهَنْتُك فَأَنْتِ حُرٌّ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ " وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ وَقَدْ أَفْلَسَ : " إنْ حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيَّ فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ قَبْلَ الْحَجْرِ بِيَوْمٍ " لَمْ يَصِحَّ الْحَجْرُ ; لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ , وَمِثَالُهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : " مَتَى صَالَحْتُ عَلَيْكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ الصُّلْحِ " وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : " إنْ صَالَحْت فُلَانًا وَأَنْتِ امْرَأَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ " لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ ; لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : " مَتَى ضَمِنْتُ عَنْكَ صَدَاقَ امْرَأَتِكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ إنْ كُنْتَ فِي حَالِ الضَّمَانِ مَمْلُوكِي " ثُمَّ ضَمِنَ عَنْهُ الصَّدَاقَ لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَعَتَقَ قَبْلَهُ , وَإِذَا عَتَقَ قَبْلَهُ لَمْ يُصَادِفْ الضَّمَانُ شَرْطَهُ , وَهُوَ كَوْنُهُ مَمْلُوكَهُ وَقْتَ الضَّمَانِ , وَكَذَلِكَ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ ; لِأَنَّ وُقُوعَهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَصِحَّ الضَّمَانُ عَنْهُ , وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ , فَكُلٌّ مِنْ الضَّمَانِ وَالْعِتْقِ تُؤَدِّي صِحَّتُهُ إلَى بُطْلَانِهِ ; فَلَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا , وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَالَ : " إنْ شَارَكَنِي فِي هَذَا الْعَبْدِ شَرِيكٌ فَهُوَ حُرٌّ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ " لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا لَوْ(2/28)
صَحَّتْ لَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَطَلَتْ الشَّرِكَةُ , فَصِحَّتُهَا تُفْضِي إلَى بُطْلَانِهَا , وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ : " إنْ وَكَّلْتُ إنْسَانًا بِبَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ أَوْ رَهْنِهِ أَوْ هِبَتِهِ وَكَالَةً صَحِيحَةً فَهُوَ قَبْلَهَا بِسَاعَةٍ حُرٌّ " لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ ; لِأَنَّ صِحَّتَهَا تُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِهَا .(2/29)
وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : " إنْ وَكَّلْتُ وَكِيلًا فِي طَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ ثَلَاثًا " لَمْ يَصِحَّ تَوْكِيلُهُ فِي طَلَاقِهَا ; إذْ لَوْ صَحَّتْ الْوَكَالَةُ لَطَلُقَتْ فِي حَالِ الْوَكَالَةِ أَوْ قَبْلَهَا , فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ , فَصِحَّتُهَا تُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِهَا , وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَفَ الْمَيِّتُ ابْنًا , فَأَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ لِلْمَيِّتِ , فَقَالَ الْمُقِرُّ بِهِ : " أَنَا ابْنُهُ , وَأَمَّا أَنْتَ فَلَسْتَ بِابْنِهِ " لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُ الْمُقِرِّ بِهِ ; لِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ يُبْطِلُ قَوْلَهُ , وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَقَرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَرِثْ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَخَرَجَ الْمُقِرُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِوَارِثٍ آخَرَ , فَتَوْرِيثُ الِابْنِ يُفْضِي إلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهِ , وَنَازَعَهُ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ , وَقَالُوا : إذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّسَبِ , وَمِنْهَا الْمِيرَاثُ , وَلَا يُفْضِي تَوْرِيثُهُ إلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهِ ; لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمِيرَاثُ وَالْأَخُ كَانَ وَارِثًا فِي الظَّاهِرِ , فَحِينَ أَقَرَّ كَانَ هُوَ كُلُّ الْوَرَثَةِ , وَإِنَّمَا خَرَجَ عَنْ الْمِيرَاثِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ ; فَلَمْ يَكُنْ تَوْرِيثُ الِابْنِ مُبْطِلًا لِكَوْنِ الْمُقِرِّ وَارِثًا حِينَ الْإِقْرَارِ , وَإِنْ بَطَلَ كَوْنُهُ وَارِثًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَثُبُوتُ النَّسَبِ , وَأَيْضًا فَالْمِيرَاثُ تَابِعٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ , وَالتَّابِعُ أَضْعَفُ مِنْ(2/30)
الْمَتْبُوعِ , فَإِذَا ثَبَتَ الْمَتْبُوعُ الْأَقْوَى فَالتَّابِعُ أَوْلَى . أَلَا تَرَى أَنَّ النِّسَاءَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الْوِلَادَةِ ثُمَّ فِي النَّسَبِ , وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُفْضِي ثُبُوتُهَا إلَى إبْطَالِهَا لَوْ أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ فِي مَرَضِهَا عَبْدًا فَتَزَوَّجَهَا وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَا مِيرَاثَ لَهُ ; إذْ لَوْ وَرِثَهَا لَبَطَلَ تَبَرُّعُهَا لَهُ بِالْعِتْقِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ تَبَرُّعًا لِوَارِثٍ , وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ , وَإِذَا بَطَلَ بَطَلَ الْمِيرَاثُ , وَكَانَ تَوْرِيثُهُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ تَوْرِيثِهِ , وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ , وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَلَا يَبْطُلُ مِيرَاثُهُ وَلَا عِتْقُهُ وَلَا نِكَاحُهُ ; لِأَنَّهُ حِينَ الْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا , فَالتَّبَرُّعُ نَزَلَ فِي غَيْرِ وَارِثٍ , وَالْعِتْقُ الْمُنَجَّزُ يَتَنَجَّزُ مِنْ حِينِهِ , ثُمَّ صَارَ وَارِثًا بَعْدَ ثُبُوتِ عِتْقِهِ , وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا . وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِابْنِهِ , فَمَاتَ قَبْلَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ , وَخَلَفَ إخْوَةً لِأَبِيهِ , فَقَبِلُوا الْوَصِيَّةَ , عَتَقَ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ مِيرَاثُهُ مِنْهُ ; إذْ لَوْ وَرِثَ لَأَسْقَطَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ , وَإِذَا سَقَطَ مِيرَاثُهُمْ بَطَلَ قَبُولُهُمْ لِلْوَصِيَّةِ , فَيَبْطُلُ عِتْقُهُ , لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْقَبُولِ , وَكَانَ تَوْرِيثُهُ مُفْضِيًا إلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهِ .(2/31)
وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَرِثُ , وَلَا دَوْرَ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ حَالَ الْقَبُولِ وَهُمْ وَرَثَةٌ , ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَى الْعِتْقِ تَابِعَهُ وَهُوَ الْمِيرَاثُ , وَذَلِكَ بَعْدَ الْقَبُولِ , فَلَمْ يَكُنْ الْمِيرَاثُ مَعَ الْقَبُولِ لِيَلْزَمَ الدَّوْرُ , وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْقَبُولِ الْعِتْقُ وَعَلَى الْعِتْقِ الْمِيرَاثُ ; فَهُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ بِدَرَجَتَيْنِ وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُفْضِي ثُبُوتُهَا إلَى بُطْلَانِهَا لَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ امْرَأَةً وَجَعَلَ رَقَبَتَهُ صَدَاقَهَا لَمْ يَصِحَّ ; إذْ لَوْ صَحَّ لَمَلَكَتْهُ وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ . وَمِنْهَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ : " مَتَى أَكْرَهْتُكِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ حَالَ النِّكَاحِ أَوْ قَبْلَهُ " فَأَكْرَههَا عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ ; إذْ لَوْ صَحَّ النِّكَاحُ عَتَقَتْ , وَلَوْ عَتَقَتْ بَطَلَ إكْرَاهُهَا , فَيَبْطُلُ نِكَاحُهَا . وَمِنْهَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ : " مَتَى اسْتَقَرَّ مَهْرُكِ عَلَيَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " ثُمَّ وَطِئَهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا بِالْوَطْءِ ; لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقَرَّ لَبَطَلَ النِّكَاحُ قَبْلَهُ , وَلَوْ بَطَلَ النِّكَاحُ قَبْلَهُ لَكَانَ الْمُسْتَقِرُّ نِصْفَ الْمَهْرِ لَا جَمِيعَهُ ; فَاسْتِقْرَارُهُ يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ اسْتِقْرَارِهِ , هَذَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ , وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ , وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ; لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى صِفَةٍ تَقْتَضِي حُكْمًا مُسْتَحِيلًا .(2/32)
فَصْلٌ : وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُؤَدِّي ثُبُوتُهَا إلَى نَفْيِهَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : " إنْ لَمْ أُطَلِّقَكِ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ " وَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا لَمْ تَطْلُقْ ; إذْ لَوْ طَلُقَتْ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ لَكَانَ طَلَاقُهَا مُسْتَنِدًا إلَى وُجُودِ الصِّفَةِ وَهِيَ عَدَمُ طَلَاقِهَا الْيَوْمَ , وَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِالْيَوْمِ . وَمِنْهَا ; لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا : " إنْ مَاتَ مَوْلَاكِ وَوَرِثْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ " أَوْ قَالَ : " إنْ مَلَكْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ وَرِثَهَا أَوْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ إرْثٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ; إذْ لَوْ وَقَعَ لَمْ تَكُنْ الزَّوْجَةُ فِي حَالِ وُقُوعِهِ مِلْكًا لَهُ ; لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي مِلْكِهِ , فَكَانَ وُقُوعُهُ مُفْضِيًا إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ . وَمِنْهَا : لَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ مُوسِرَيْنِ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ : " مَتَى أَعْتَقْتَ نَصِيبَك فَنَصِيبِي حُرٌّ قَبْلَ ذَلِكَ " فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ لَوَجَبَ عِتْقُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ قَبْلَهُ , وَذَلِكَ يُوجِبُ السِّرَايَةَ إلَى نَصِيبِهِ , فَلَا يُصَادِفُ إعْتَاقُهُ مَحَلًّا , فَنُفُوذُ عِتْقِهِ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ نُفُوذِهِ . وَالصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بُطْلَانُ هَذَا التَّعْلِيقِ لِتَضَمُّنِهِ الْمُحَالَ , وَأَيُّهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ صَحَّ وَسَرَى إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ .(2/33)
وَمِنْهَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : " إنْ دَبَّرْتُك فَأَنْتِ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ دَبَّرَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ ; لِأَنَّ وُقُوعَهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّدْبِيرِ , وَعَدَمَ صِحَّتِهِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِتْقِ , وَكَانَتْ صِحَّتُهُ تُفْضِي إلَى بُطْلَانِهِ , هَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ , وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا يَصِحُّ التَّدْبِيرُ ; لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَقَعَ الْعِتْقُ قَبْلَهُ , وَذَلِكَ يَمْنَعُ التَّدْبِيرَ , وَكَانَ وُقُوعُهُ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ . وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ لِمُدَبَّرِهِ : " مَتَى أَبْطَلْتُ تَدْبِيرَكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ أَبْطَلَهُ بَطَلَ وَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ ; إذْ لَوْ وَقَعَ لَمْ يُصَادِفْ إبْطَالَ التَّدْبِيرِ مَحَلًّا , وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا يَصِحُّ إبْطَالُ التَّدْبِيرِ ; لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ إبْطَالُهُ لَوَقَعَ الْعِتْقُ , وَلَوْ وَقَعَ الْعِتْقُ لَمْ يَصِحَّ إبْطَالُ التَّدْبِيرِ وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِمُدَبَّرِهِ : " إنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : " إنْ كَاتَبْتُكَ غَدًا فَأَنْتَ الْيَوْمَ حُرٌّ " ثُمَّ كَاتَبَهُ مِنْ الْغَدِ . وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِمُكَاتَبِهِ : " إنْ عَجَزْتَ عَنْ كِتَابَتِكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ : " مَتَى زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ وَجَبَ عَلَيْك حَدٌّ وَأَنْتِ مَمْلُوكٌ فَأَنْتِ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ وُجِدَ الْوَصْفُ وَجَبَ الْحَدُّ وَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ ; إذْ لَوْ وَقَعَ لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ , فَلَمْ يَصِحَّ , وَكَانَ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِ وُقُوعِهِ .(2/34)
وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : " مَتَى جَنَيْتَ جِنَايَةً وَأَنْتَ مَمْلُوكِي فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ جَنَى لَمْ يَعْتِقْ . وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : " مَتَى بِعْتُكَ وَتَمَّ الْبَيْعُ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ بَاعَهُ , فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ ; لِأَنَّ وُقُوعَهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ , وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ ; لِأَنَّهُ يَعْتِقُ قَبْلَهُ وَعِتْقُهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ . وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ : " إنْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ قَبْلَ ذَلِكَ " فَصَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ . فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ تَصِحُّ الصَّلَاةُ دُونَ الْعِتْقِ , وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ عَتَقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ , وَإِذَا عَتَقَتْ بَطَلَتْ صَلَاتُهَا , وَكَانَتْ صِحَّةُ صَلَاتِهَا مُسْتَلْزِمَةً لِبُطْلَانِهَا . وَمِنْهَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ بِحُرٍّ , وَادَّعَى عَلَيْهِ مَهْرَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ , وَادَّعَى الزَّوْجُ الْإِعْسَارَ , وَادَّعَى سَيِّدُ الْأَمَةِ يَسَارَهُ قَبْلَ نِكَاحِهِ الْأَمَةَ بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ , لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ ; إذْ لَوْ ثَبَتَتْ دَعْوَاهُ لَبَطَلَ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ , وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بَطَلَ دَعْوَى الْمَهْرِ .(2/35)
وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ بِأَمَةٍ فَادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ عِنِّينٌ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهَا ; إذْ لَوْ ثَبَتَتْ دَعْوَاهَا لَزَالَ خَوْفُ الْعَنَتِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ , وَذَلِكَ يُبْطِلُ النِّكَاحَ , وَبُطْلَانَهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الدَّعْوَى مِنْهَا , فَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ دَعْوَاهَا تُؤَدِّي إلَى إفْسَادِهَا أَفْسَدْنَاهَا . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا ادَّعَتْ عَلَى سَيِّدِ زَوْجِهَا أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهَا بِمَهْرِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهَا ; لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَسَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَبَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ . وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ فَحَكَمَ بِعِتْقِهِ , ثُمَّ ادَّعَى الْعَبْدُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّتِهِ عَلَى أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ ; لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ ; لِأَنَّ تَحْقِيقَهَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعِتْقِ , فَتَبْطُلُ دَعْوَى مِلْكِهِ لِلشَّاهِدِ . وَكَذَلِكَ لَوْ سُبِيَ مُرَاهِقٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُعْلَمْ بُلُوغُهُ , فَأَنْكَرَ الْبُلُوغَ , لَمْ يُسْتَحْلَفْ ; لِأَنَّ إحْلَافَهُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ اسْتِحْلَافِهِ , فَإِنَّا لَوْ حَلَّفْنَاهُ لَحَكَمْنَا بِصِغَرِهِ وَالْحُكْمُ بِالصِّغَرِ يَمْنَعُ الِاسْتِحْلَافَ .(2/36)
وَنَظِيرُهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى أُمِّ مُرَاهِقٍ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ أَوْ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ أَوْ مَالًا مِنْ مُبَايَعَةٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَادَّعَى أَنَّهُ بَالِغٌ , وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ فَأَنْكَرَ الْغُلَامُ ذَلِكَ , فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ , وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ; إذْ لَوْ حَلَّفْنَاهُ لَحَكَمْنَا بِصِغَرِهِ , وَالْحُكْمُ بِالصِّغَرِ يُسْقِطُ الْيَمِينَ عَنْهُ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا يَمِينٌ لَمْ يَكُنْ رَدُّ يَمِينٍ ; لِأَنَّ رَدَّ الْيَمِينِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ نُكُولِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا . وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ جَارِيَةً لَهُ قِيمَتُهَا مِائَةٌ , وَتَزَوَّجَ بِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ , وَمَهْرُهَا مِائَةٌ , وَتَرَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ , فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ , وَلَا مَهْرَ لَهَا , وَلَا مِيرَاثَ , أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلِأَنَّهَا لَوْ وَرِثَتْ لَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهَا ; لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ , وَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ بُطْلَانُ الْحُرِّيَّةِ , وَفِيهِ بُطْلَانُ الْمِيرَاثِ . وَأَمَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ فَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَرَكِبَ السَّيِّدُ دَيْنٌ , وَلَمْ تَخْرُجْ قِيمَتُهَا مِنْ الثُّلُثِ , فَيَبْطُلُ عِتْقُهَا كُلُّهَا , فَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْكِحَهَا وَبَعْضُهَا رَقِيقٌ , فَيَبْطُلُ الْمَهْرُ , فَكَانَ ثُبُوتُ الْمَهْرِ مُؤَدِّيًا إلَى بُطْلَانِهِ .(2/37)
فَالْحُكْمُ بِإِبْطَالِهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قوله تعالى : { وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } فَعَيَّرَ تَعَالَى مَنْ نَقَضَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَهُ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ إثْبَاتُهُ مُؤَدِّيًا إلَى نَفْيِهِ وَإِبْطَالِهِ كَانَ بَاطِلًا , فَهَذَا مَا احْتَجَّ بِهِ السُّرَيْجِيُّونَ .
[(2/38)
الرَّدُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ قَالَ الْآخَرُونَ لَقَدْ أَطَلْتُمْ الْخَطْبَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَلَمْ تَأْتُوا بِطَائِلٍ , وَقُلْتُمْ وَلَكِنْ تَرَكْتُمْ مَقَالًا لِقَائِلٍ , وَتَأْبَى قَوَاعِدُ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ تَصْحِيحًا , وَالْمِيزَانُ الْعَادِلُ لَهَا عِنْدَ الْوَزْنِ تَرْجِيحًا , وَهَيْهَاتَ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُشَابَهَةً لِشَرِيعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; إذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَتُسَدُّ دُونَهُ الْأَبْوَابِ . وَهَلْ هَذَا إلَّا تَغْيِيرٌ لِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرِيعَةِ . وَإِلْزَامٌ لَهَا بِالْأَقْوَالِ الشَّنِيعَةِ ؟ وَهَذَا أَشْنَعُ مِنْ سَدِّ بَابِ النِّكَاحِ بِتَصْحِيحِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ لِكُلِّ مَنْ تَزَوَّجَهَا فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ ; فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَظِيرَ سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ , لَكِنْ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ , وَأَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَمِمَّا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَعْصَارِ الْمُفَضَّلَةِ . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مُنَاقَضَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ , ثُمَّ نُجِيبُ عَنْ شُبَهِكُمْ شُبْهَةً شُبْهَةً .(2/39)
أَمَّا مُنَاقَضَتُهَا لِلشَّرْعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِلْأَزْوَاجِ - إذَا أَرَادُوا اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَالتَّخَلُّصَ مِنْ الْمَرْأَةِ - الطَّلَاقَ , وَجَعَلَهُ بِحِكْمَتِهِ ثَلَاثًا تَوْسِعَةً عَلَى الزَّوْجِ ; إذْ لَعَلَّهُ يَبْدُو لَهُ وَيَنْدَمُ فَيُرَاجِعُهَا , وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ , وَلَمْ يَجْعَلْ أَنْكِحَتَهُمْ كَأَنْكِحَةِ النَّصَارَى تَكُونُ الْمَرْأَةُ غُلًّا فِي عُنُقِ الرَّجُلِ إلَى الْمَوْتِ , وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الشَّرِيعَتَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ , وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُنَافِيَةٌ لِإِحْدَاهُمَا مُنَافَاةٌ ظَاهِرَةٌ , وَمُشْتَقَّةٌ مِنْ الْأُخْرَى اشْتِقَاقًا ظَاهِرًا , وَيَكْفِي هَذَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِهَا . وَأَمَّا مُنَاقَضَتُهَا لِلُّغَةِ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ كَلَامًا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا , وَمَضْمُونُهُ إذَا وُجِدَ الشَّيْءُ لَمْ يُوجَدْ , وَإِذَا وُجِدَ الشَّيْءُ الْيَوْمَ فَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْيَوْمِ , وَإِذَا فَعَلْتُ الشَّيْءَ الْيَوْمَ فَقَدْ وَقَعَ مِنِّي قَبْلَ الْيَوْمِ , وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ فِي نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ إلَى الْمُحَالِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَقَالِ .(2/40)
وَأَمَّا مُنَاقَضَتُهَا لِقَضَايَا الْعُقُولِ فَلِأَنَّ الشَّرْطَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَأَخَّرَ وُجُودُهُ عَنْ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ , وَيَتَقَدَّمَ الْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ فِي الْوُجُودِ , هَذَا مِمَّا لَا يَغْفُلُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ ; فَإِنَّ رُتْبَةَ الشَّرْطِ التَّقَدُّمُ أَوْ الْمُقَارَنَةُ , وَالْفُقَهَاءُ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مَعَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ ; فَلَوْ صَحَّ تَعْلِيقُ الْمَشْرُوطِ بِشَرْطٍ مُتَأَخِّرٍ بَعْدَهُ لَكَانَ ذَلِكَ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ كَوْنِهِ شَرْطًا أَوْ جُزْءَ شَرْطٍ أَوْ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا ; فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ شَرْطَهُ وَلَا سَبَبَهُ وَلَا عِلَّتَهُ ; إذْ فِي ذَلِكَ إخْرَاجُ الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ عَنْ حَقَائِقِهَا وَأَحْكَامِهَا , وَلَوْ جَازَ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى شَرْطِهِ لَجَازَ تَقْدِيمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى إيقَاعِهِ ; فَإِنَّ الْإِيقَاعَ سَبَبٌ , وَالْأَسْبَابُ تَتَقَدَّمُ مُسَبَّبَاتُهَا , كَمَا أَنَّ الشُّرُوطَ رُتْبَتُهَا التَّقَدُّمُ ; فَإِذَا جَازَ إخْرَاجُ هَذَا عَنْ رُتْبَتِهِ جَازَ إخْرَاجُ الْآخَرِ عَنْ رُتْبَتِهِ , فَجَوَّزُوا حِينَئِذٍ تَقَدُّمَ الطَّلَاقِ عَلَى التَّطْلِيقِ وَالْعِتْقِ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالْمِلْكِ عَلَى الْبَيْعِ , وَحَلِّ الْمَنْكُوحَةِ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ . وَهَلْ هَذَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ تَقَدُّمِ الِانْكِسَارِ عَلَى الْكَسْرِ وَالسَّيْلِ عَلَى الْمَطَرِ وَالشِّبَعِ عَلَى الْأَكْلِ وَالْوَلَدِ عَلَى الْوَطْءِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ؟ وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَجْعَلُ هَذِهِ الْعِلَلَ وَالْأَسْبَابَ عَلَامَاتٍ مَحْضَةٍ , وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا , بَلْ هِيَ مُعَرَّفَاتٌ , وَالْمُعَرَّفُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ الْمُعَرِّفِ .(2/41)
وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِكُمْ : إنَّ الشُّرُوطَ الشَّرْعِيَّةَ مَعْرُوفَاتٌ وَأَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ , وَالْعَلَامَةُ يَجُوزُ تَأَخُّرُهَا ; فَإِنَّ هَذَا وَهْمٌ وَإِيهَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الشَّرَائِطَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَجُوزُ تَأَخُّرُهَا عَنْ الْمَشْرُوطِ , وَلَوْ تَأَخَّرَتْ لَمْ تَكُنْ شُرُوطًا . [(2/42)
بَحْثٌ فِي الشُّرُوطِ وَأَنْوَاعِهَا وَحُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ] الثَّانِي : أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لُغَوِيٌّ كَقَوْلِهِ : " إنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " وَنَحْوِ ذَلِكَ : " وَإِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ " وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَالشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ وَعِلَلٌ مُقْتَضِيَةٌ لِأَحْكَامِهَا اقْتِضَاءَ الْمُسَبَّبَاتِ لِأَسْبَابِهَا , أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ : " إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ " سَبَبٌ وَمُسَبَّبٌ وَمُؤَثِّرٌ وَأَثَرٌ , وَلِهَذَا يَقَعُ جَوَابًا عَنْ الْعِلَّةِ , فَإِذَا قَالَ : " لَمْ أُطَلِّقْهَا ؟ " قَالَ : لِوُجُودِ الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقْت عَلَيْهِ الطَّلَاقَ , فَلَوْ لَا أَنَّ وُجُودَهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِيقَاعِ لَمَا صَحَّ هَذَا الْجَوَابُ , وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُخْرِجَهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَيَقُولُ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَدْخُلِينَ الدَّارَ ; فَيُجْعَلُ إلْزَامُهُ لِلطَّلَاقِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ مُسَبَّبًا عَنْ دُخُولِهَا الدَّارَ بِالْقَسَمِ وَالشَّرْطِ , وَقَدْ غَلِطَ فِي هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ حَيْثُ قَسَّمُوا الشَّرْطَ إلَى شَرْعِيٍّ وَلُغَوِيٍّ وَعَقْلِيٍّ , ثُمَّ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِحُكْمٍ شَامِلٍ فَقَالُوا : الشَّرْطُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَشْرُوطِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ , وَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ .(2/43)
ثُمَّ أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ ; فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاؤُهُ ; لِجَوَازِ وُقُوعِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ , وَلَمْ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ بِطَائِلٍ , وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ عَقْلِيَّةٌ , وَالسَّبَبُ إذَا تَمَّ لَزِمَ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ مُسَبَّبِهِ , وَإِذَا انْتَفَى لَمْ يَلْزَمْ نَفْيُ الْمُسَبَّبِ مُطْلَقًا ; لِجَوَازِ خَلْفِ سَبَبٍ آخَرَ , بَلْ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ عَنْ هَذَا الْمُسَبَّبِ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ صَدَرَ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ طَلَاقَانِ مُنَجَّزٌ وَمُعَلَّقٌ , وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُمَا " فَجَوَابُهُ بِالْمَنْعِ , فَإِنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِلْمُعَلَّقِ ; فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمُحَالَ , وَالْمَحَلُّ لَا يَقْبَلُ الْمُحَالَ , نَعَمْ هُوَ قَابِلٌ لِلْمُنَجَّزِ وَحْدَهُ , فَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ , وَكَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْمُعَلَّقِ , وَمُنَازِعُكُمْ إنَّمَا نَازَعَكُمْ فِيهِ , وَقَالَ : لَيْسَ الْمَحَلُّ بِقَابِلٍ لِلْمُعَلَّقِ , فَجَعَلْتُمْ نَفْسَ الدَّعْوَى مُقَدَّمَةً فِي الدَّلِيلِ .(2/44)
وَقَوْلُكُمْ : " إنَّ الزَّوْجَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ وَالتَّعْلِيقَ " جَوَابُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ الْمُمْكِنَ , فَأَمَّا التَّعْلِيقُ الْمُسْتَحِيلُ فَلَمْ يَمْلِكْهُ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَلَا عَادَةً , وَقَوْلُكُمْ : " لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ " بَاطِلٌ , بَلْ الْمَزِيَّةُ كُلُّ الْمَزِيَّةِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ; فَإِنَّ الْمُنَجَّزَ لَهُ مَزِيَّةُ الْإِمْكَانِ فِي نَفْسِهِ , وَالْمُعَلَّقَ لَهُ مَزِيَّةُ الِاسْتِحَالَةِ وَالِامْتِنَاعِ , فَلَمْ يَتَمَانَعَا وَلَمْ يَتَسَاقَطَا , فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ مَانِعٌ , وَقَوْلُكُمْ " إنَّهُ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ " جَوَابُهُ أَنَّهُ تَنْظِيرٌ بَاطِلٌ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْأُخْرَى , بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا , فَإِنَّ الْمُنَجَّزَ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ , وَذَلِكَ عَيْنُ الْمُحَالِ . وَقَوْلُكُمْ : " إنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِ الطَّلَاقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ " بَاطِلٌ , بَلْ لِلْمُنَجَّزِ مَزِيَّةٌ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا : قُوَّةُ التَّنْجِيزِ عَلَى التَّعْلِيقِ , الثَّانِي : أَنَّ التَّنْجِيزَ لَا خِلَافَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ , وَأَمَّا التَّعْلِيقُ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ .(2/45)
وَالْمُوَقِّعُونَ لَمْ يُقِيمُوا عَلَى الْمَانِعِينَ حُجَّةً تُوجِبُ الْمَصِيرَ إلَيْهَا مَعَ تَنَاقُضِهِمْ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ , فَمُنَازِعُوهُمْ يَقُولُونَ : الطَّلَاقُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُمْ فِي الْإِسْقَاطِ وَالْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ , وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بِفَرْقٍ صَحِيحٍ , وَلَيْسَ الْغَرَضُ ذِكْرَ تَنَاقُضِهِمْ , بَلْ الْغَرَضُ أَنَّ لِلْمُنَجَّزِ مَزِيَّةً عَلَى الْمُعَلَّقِ , الثَّالِثُ : أَنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ وَالشَّرْطُ تَابِعٌ وَوَسِيلَةٌ , الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُنَجَّزَ لَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ لِأَهْلِيَّةِ الْفَاعِلِ وَقَبُولِ الْمَحَلِّ , وَالتَّعْلِيقُ الْمُحَالُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ اقْتِضَاءِ السَّبَبِ الصَّحِيحِ أَثَرَهُ . الْخَامِسُ : أَنَّ صِحَّةَ التَّعْلِيقِ فَرْعٌ عَلَى مِلْكِ التَّنْجِيزِ , فَإِذَا انْتَفَى مِلْكُهُ لِلْمُنَجَّزِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ انْتَفَى صِحَّةُ التَّعْلِيقِ , فَصِحَّةُ التَّعْلِيقِ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ , وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ صَحِيحَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَتَأَمَّلْهَا . السَّادِسُ : أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ : " إذَا أَعْتَقْتَ سَالِمًا فَغَانِمٌ حُرٌّ ثُمَّ أَعْتَقَ سَالِمًا وَلَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ قُدِّمَ عِتْقُ الْمُنَجَّزِ عَلَى الْمُعَلَّقِ لِقُوَّتِهِ . يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : " اُدْخُلْ الدَّارَ فَإِذَا دَخَلْتَ أَخْرَجْتُكَ " وَهُوَ نَظِيرُهُ فِي الْقُوَّةِ ; فَإِذَا دَخَلَ لَمْ يُمْكِنْهُ إخْرَاجُهُ , وَهَذَا الْمِثَالُ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا , فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ هُوَ الْإِخْرَاجُ وَالْمُنَجَّزَ هُوَ الدُّخُولُ .(2/46)
الثَّامِنُ : أَنَّ الْمُنَجَّزَ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ وَالْمُعَلَّقُ قَدْ قَارَنَهُ مَا جَعَلَهُ مُسْتَحِيلًا . التَّاسِعُ : أَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِاللَّفْظِ , وَوُجُودُ الشَّرْطِ , مَا تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ أَقْرَبُ وُجُودًا مِمَّا تَوَقَّفَ عَلَى أَمْرَيْنِ . الْعَاشِرُ : أَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ مُوَافِقٌ لِتَصَرُّفِ الشَّارِعِ وَمِلْكِ الْمَالِكِ , وَوُقُوعُ الْمُعَلَّقِ بِخِلَافِهِ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُمَلِّكْهُ الشَّارِعُ ذَلِكَ , فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ تَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةِ الْمُنَجَّزِ وَتُبْطِلُ قَوْلَكُمْ إنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لَهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2/47)
فَصْلٌ : وَأَمَّا سَائِرُ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ صُوَرِ الدَّوْرِ الَّتِي يُفْضِي ثُبُوتُهَا إلَى إبْطَالِهَا فَمِنْهَا مَا هُوَ مَمْنُوعُ الْحُكْمِ لَا يُسَلِّمُهُ لَكُمْ مُنَازِعُكُمْ , وَإِنَّمَا هِيَ مَسَائِلُ مَذْهَبِيَّةٌ يَحْتَجُّ لَهَا وَلَا يَحْتَجُّ بِهَا , وَهُمْ يَفُكُّونَ الدَّوْرَ تَارَةً بِوُقُوعِ الْحُكْمَيْنِ مَعًا وَعَدَمِ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَيَجْعَلُونَهُمَا مَعْلُولَيْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا دَوْرَ , وَتَارَةً يَسْبِقُ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ لِلْآخَرِ سَبْقَ السَّبَبِ لِمُسَبَّبِهِ ثُمَّ يَتَرَتَّبُ الْآخَرُ عَلَيْهِ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسَلَّمُ الْحُكْمِ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ فِيهِ يَقْتَضِي إبْطَالَهُ . وَلَكِنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَهُمْ فِي إبْطَالِ هَذَا التَّعْلِيقِ ; فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَأَفْضَى ثُبُوتُهُ إلَى بُطْلَانِهِ , فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَزِمَ مِنْهُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ , وَسَبْقُهَا بِثَلَاثٍ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا , فَبَطَلَ التَّعْلِيقُ مِنْ أَصْلِهِ لِلُزُومِ الْمُحَالِ ; فَهَذِهِ الصُّوَرُ الَّتِي اسْتَشْهَدْتُمْ بِهَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِهِمْ عَلَيْكُمْ عَلَى بُطْلَانِ التَّعْلِيقِ . وَأَدِلَّتُكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَوْعَانِ : أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ وَهِيَ إنَّمَا تَقْتَضِي بُطْلَانَ التَّعْلِيقِ .(2/48)
وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي بُطْلَانَ الْمُنَجَّزِ فَلَيْسَ مِنْهَا دَلِيلٌ صَحِيحٌ ; فَإِنَّهُ طَلَاقٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ ; فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِوُقُوعِهِ ; أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْمُطَلِّقِ فَلِأَنَّهُ زَوْجٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ , وَأَمَّا مَحَلِّيَّةُ الْمُطَلَّقَةِ فَلِأَنَّهَا زَوْجَةٌ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فَيَدْخُلُ فِي قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَفِي سَائِرِ نُصُوصِ الطَّلَاقِ ; إذْ لَوْ لَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقٌ لَزِمَ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ , وَكُلُّهَا مُنْتَفِيَةٌ : إمَّا عَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْمُطَلِّقِ , وَإِمَّا عَدَمُ قَبُولِ الْمَحَلِّ , وَإِمَّا قِيَامُ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الطَّلَاقِ , وَالْمَانِعُ مَفْقُودٌ ; إذْ لَيْسَ مَعَ مُدَّعِي قِيَامَهُ إلَّا التَّعْلِيقُ الْمُحَالُ الْبَاطِلُ شَرْعًا وَعَقْلًا , وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا . يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ اقْتِضَاءِ السَّبَبِ لِمُسَبَّبِهِ إنَّمَا هُوَ وَصْفٌ ثَابِتٌ يُعَارِضُ سَبَبِيَّتَهُ فَيُوقِفُهَا عَنْ اقْتِضَائِهَا , فَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مُعَارِضًا لِلْوَصْفِ الثَّابِتِ , وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ , وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .(2/49)
فَصْلٌ : [ جَوَابُ مَنْ قَالَ بِالْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ ] قَالَ السُّرَيْجِيُّونَ : لَقَدْ ارْتَقَيْتُمْ مُرْتَقًى صَعْبًا , وَأَسَأْتُمْ الظَّنَّ بِمَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُمْ أَئِمَّةٌ عُلَمَاءُ لَا يُشَقُّ غُبَارُهُمْ , وَلَا تُغْمَزُ قَنَاتُهُمْ , كَيْفَ وَقَدْ أَخَذُوهَا مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى , وَبَنَوْهَا عَلَى أُصُولِهِ , وَنَظَّرُوا لَهَا النَّظَائِرَ , وَأَتَوْا لَهَا بِالشَّوَاهِدِ ؟ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " ثُمَّ مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيقِ ; وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ وَهَذَا إيقَاعُ طَلَاقٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَابِقٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ مَوْتُهُ , فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَهُ , وَإِيضَاحُ ذَلِكَ بِإِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّرْطِ , كَقَوْلِهِ : " إنْ مِتَّ - أَوْ إذَا مِتَّ - فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَنَحْنُ نُلْزِمُكُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ , فَإِنَّكُمْ مُوَافِقُونَ عَلَيْهِ , وَكَذَا قَوْلُهُ قَبْلَ دُخُولِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةً " فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهَا طَلْقَتَانِ , وَإِحْدَاهُمَا وَقَعَتْ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَابِقٍ عَلَى التَّطْلِيقِ , وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " إنَّ الْوُقُوعَ كَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْإِيقَاعَ فَلَا يَسْبِقُ الطَّلَاقُ التَّطْلِيقَ فَكَذَا لَا يَسْبِقُ شَرْطَهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ , وَيَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى شَرْطِهِ وَأَحَدِ سَبَبَيْهِ أَوْ أَسْبَابِهِ " فَإِنَّ الشَّرْطَ مُعَرَّفٌ , مَحْضٌ وَلَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ الْمُعَرَّفِ(2/50)
عَلَيْهِ , وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ فَكَتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ بَعْدَ الْيَمِينِ , وَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ , وَتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْجُرْحِ قَبْلَ الزُّهُوقِ , وَنَظَائِرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ الشَّرْطَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَشْرُوطِ " فَمَمْنُوعٌ بَلْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ تَوَقُّفُ الْمَشْرُوطِ عَلَى وُجُودِهِ , وَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ , وَلَيْسَ مُقْتَضَاهُ تَأَخُّرُ الْمَشْرُوطِ عَنْهُ , وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ , وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى نَصٍّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَلَا عَقْلِيٍّ , فَدَعْوَاهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ , وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَتَقَدَّمُ مَشْرُوطُهُ , وَلَكِنَّ دَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا , وَحَتَّى لَوْ جَاءَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ; لِأَنَّ الشُّرُوطَ فِي كَلَامِهِمْ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ : " إنْ زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ " " وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ جِئْتُكَ " فَيَقْتَضِي الشَّرْطُ ارْتِبَاطًا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي : فَلَا يَتَقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرُ وَلَا يَتَأَخَّرُ الْمُتَقَدِّمُ , وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَتَقْبَلُ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ وَالِانْتِقَالَ , كَمَا لَوْ قَالَ : " إذَا مِتَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا فِي الْحِسِّيَّاتِ كَانَ مُحَالًا , فَلَوْ قَالَ : " إذَا زُرْتنِي أَكْرَمْتُكَ(2/51)
قَبْلَ أَنَّ تَزُورَنِي بِشَهْرٍ " كَانَ مُحَالًا , إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنًى صَحِيحٍ , وَهُوَ إذَا أَرَدْتَ أَوْ عَزَمْتَ عَلَى زِيَارَتِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَهَا . وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نَقْلَ الْحَقَائِقِ عَنْ مَوَاضِعِهَا مُمْتَنِعٌ , وَالْأَحْكَامُ قَابِلَةٌ لِلنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ , وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : " أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي " فَفَعَلَ ; وَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْقَائِلِ , وَجُعِلَ الْمِلْكُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِتْقِ حُكْمًا , وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً . وَقَوْلُكُمْ : " يَلْزَمُنَا تَجْوِيزُ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ عَلَى التَّطْلِيقِ " فَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ ; فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ بِإِيقَاعِهِ ; فَلَا يَسْبِقُ إيقَاعَهُ , بِخِلَافِ الشَّرْطِ , فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ , وَإِنَّمَا يَرْتَبِطُ بِهِ , وَالِارْتِبَاطُ أَعَمُّ مِنْ السَّابِقِ وَالْمُقَارِنِ وَالْمُتَأَخِّرِ , وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ . وَنُكْتَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مُوجِبٌ لِلْوُقُوعِ ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَهُ أَثَرُهُ وَمُوجِبُهُ , وَالشَّرْطُ عَلَامَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ ; فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ , فَوِزَانُ الشَّرْطِ وِزَانُ الدَّلِيلِ , وَوِزَانُ الْإِيقَاعِ وِزَانُ الْعِلَّةِ , فَافْتَرَقَا .(2/52)
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ يَتَضَمَّنُ الْمُحَالَ إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ تَضَمَّنَ شَرْطًا وَمَشْرُوطًا , وَقَدْ تُعْقَدُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ فِي ذَلِكَ لِلْوُقُوعِ , وَقَدْ تُعْقَدُ لِلْإِبْطَالِ ; فَلَا يُوجَدُ فِيهَا الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ , بَلْ تَعْلِيقٌ مُمْتَنِعٌ بِمُمْتَنِعٍ , فَتَصْدُقُ الشَّرْطِيَّةُ وَإِنْ انْتَفَى كُلٌّ مِنْ جُزْأَيْهَا , كَمَا تَقُولُ : " لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ لَفَسَدَ الْعَالَمُ " وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ وَلَمْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ , وَهَكَذَا قَوْلُهُ : " إنْ وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " فَقَضِيَّةٌ عُقِدَتْ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ طَرَفَيْهَا , وَهُمَا الْمُنَجَّزُ وَالْمُعَلَّقُ . ثُمَّ نَذْكُرُ فِي ذَلِكَ قِيَاسًا [ آخَرَ ] حَرَّرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ رحمه الله تعالى , فَقَالَ : طَلَاقَانِ مُتَعَارِضَانِ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ; فَوَجَبَ أَنْ يَنْفِيَ السَّابِقُ مِنْهُمَا الْمُتَأَخِّرَ . نَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا , وَإِنْ قَدِمَ عَمْرٌو فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً , فَقَدِمَ زَيْدٌ بُكْرَةً , وَعَمْرٌو عَشِيَّةً وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّا لَوْ أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ الْمُبَاشِرَ لَزِمَنَا أَنْ نُوقِعَ قَبْلَهُ ثَلَاثًا , وَلَوْ أَوْقَعْنَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا لَامْتَنَعَ وُقُوعُهُ فِي نَفْسِهِ ; فَقَدْ أَدَّى الْحُكْمُ بِوُقُوعِهِ إلَى الْحُكْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ , فَلَا يَقَعُ .(2/53)
وَقَوْلُكُمْ : " إنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ تُفْضِي إلَى سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ , وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَرْعِ اللَّهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ مَلَّكَ الزَّوْجَ الطَّلَاقَ رَحْمَةً بِهِ - إلَى آخِرِهِ " جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ , وَإِنَّمَا هُوَ إتْيَانٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي ضَيَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ , وَهُوَ هَذِهِ الْيَمِينُ , وَهَذَا لَيْسَ تَغْيِيرًا لِلشَّرْعِ .(2/54)
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَسَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الطَّلَاقِ فَجَعَلَهُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِئَلَّا يَنْدَمَ , فَإِذَا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْقَعَهَا بِفَمٍ وَاحِدٍ حَصَرَ نَفْسَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَمَنَعَهَا مَا كَانَ حَلَالًا لَهَا , وَرُبَّمَا لَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى عَوْدِهَا إلَيْهِ , وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ إلَى الرِّجَالِ , وَلَمْ يَجْعَلْ لِلنِّسَاءِ فِيهِ حَظًّا ; لِنُقْصَانِ عُقُولِهِنَّ وَأَدْيَانِهِنَّ , فَلَوْ جَعَلَهُ إلَيْهِنَّ لَكَانَ فِيهِ فَسَادٌ كَبِيرٌ تَأْبَاهُ حِكْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَرَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ , فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَشَاءُ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِالزَّوْجِ إلَّا اسْتَبْدَلَتْ بِهِ , بِخِلَافِ الرِّجَالِ ; فَإِنَّهُمْ أَكْمَلُ عُقُولًا وَأَثْبَتُ , فَلَا يَسْتَبْدِلُ بِالزَّوْجَةِ إلَّا إذَا عِيلَ صَبْرُهُ , ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَجْعَلُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا , بِأَنْ يُمَلِّكَهَا ذَلِكَ أَوْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَفْعَلَ كَذَا , فَتَخْتَارَ طَلَاقَهُ مَتَى شَاءَتْ , وَيَبْقَى الطَّلَاقُ بِيَدِهَا , وَلَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ هَذَا الْحَرَجَ بِيَمِينِهِ وَتَمْلِيكِهِ , وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : أَنَّهُ لَوْ قَالَ : " كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ " لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ امْرَأَةً , حَتَّى قِيلَ : إنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ أَطْبَقُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ , وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرِيعَةِ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ , وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ(2/55)
قَالَ : " كُلُّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ أَمْلِكُهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ " لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ بَعْدَ هَذَا إلَى مِلْكِ رَقِيقٍ أَصْلًا , وَلَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ , بَلْ هُوَ الْمُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ , وَالضِّيقُ وَالْحَرَجُ الَّذِي يُدْخِلُهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ شَرَّعَهُ لَهُ , وَإِنْ أَلْزَمَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ , أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَأَوْلَدَهَا ثُمَّ سَاءَتْ الْعِشْرَةُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْقَ لَهُ طَرِيقٌ إلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهَا , وَعَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي إعْتَاقِهَا أَوْ تَزْوِيجِهَا أَوْ إمْسَاكِهَا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهَا .(2/56)
ثُمَّ نَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ مَا ذَكَرْتُمْ : بَلْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَغَرَضٌ صَحِيحٌ , بِأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِزَوْجَتِهِ شَدِيدَ الْإِلْفِ بِهَا , وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ أَنْ يَنْزِغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا فَيَقَعَ مِنْهُ طَلَاقُهَا مِنْ غَضْبَةٍ أَوْ مَوْجِدَةٍ , أَوْ يَحْلِفُ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ أَوْ يُبْلَى بِمَنْ يَسْتَحْلِفُهُ بِالطَّلَاقِ وَيُضْطَرُّ إلَى الْحِنْثِ , أَوْ يُبْلَى بِظَالِمٍ يُكْرِهُهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَيَرْفَعُهُ إلَى حَاكِمٍ يُنَفِّذُهُ , أَوْ يُبْلَى بِشَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ , وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِهِ , وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ , وَلَا طَرِيقَ أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ ; فَلَا يُنْكَرُ مِنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِ ذَلِكَ , وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ , لَكِنَّ رَأْيَ احْتِمَالِهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْفِرَاقِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْبَقَاءِ , وَمَا يُنْكَرُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ دَفْعِ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا ؟ .(2/57)
فَصْلٌ : [ الْجَوَابُ عَلَى شُبَهِ أَصْحَابِ الْحِيلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ ] قَالَ الْمُوَقِّعُونَ : لَقَدْ دَعَوْتُمْ الشُّبَهَ الْجَفَلَى إلَى وَلِيمَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , فَلَمْ تَدَعُوا مِنْهَا دَاعِيًا وَلَا مُجِيبًا , وَاجْتَهَدْتُمْ فِي تَقْرِيرِهَا ظَانِّينَ إصَابَةَ الِاجْتِهَادِ , وَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا . وَنَثَرْتُمْ عَلَيْهَا مَا لَا يَصْلُحُ مِثْلُهُ لِلنِّثَارِ , وَزَيَّنْتُمُوهَا بِأَنْوَاعِ الْحُلِيِّ , وَلَكِنَّهُ حُلِيٌّ مُسْتَعَارٌ ; فَإِذَا اسْتَرَدَّتْ الْعَارَةَ زَالَ الِالْتِبَاسُ وَالِاشْتِبَاهُ , وَهُنَاكَ تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ . فَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّا ارْتَقَيْنَا مُرْتَقًى صَعْبًا , وَأَسَأْنَا الظَّنَّ بِمَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ تَأْثِيمًا أَوْ تَبْدِيعًا فَمَعَاذَ اللَّهِ , بَلْ أَنْتُمْ أَسَأْتُمْ بِنَا الظَّنَّ , وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِإِسَاءَةِ الظَّنِّ أَنَّا لَمْ نُصَوِّبُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَرَأَيْنَا الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِمْ فِيهَا ; فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ , بَلْ سَائِرُ الْمُتَنَازِعِينَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ , وَقَدْ صَرَّحَ الْأَرْبَعَةُ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ , وَلَيْسَتْ كُلُّهَا صَوَابًا .(2/58)
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ " فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً لَهُ فَقَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُحْتَجُّ لَهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ , وَقَدْ نَازَعَهُ الْجُمْهُورُ فِيهَا , وَالْحُجَّةُ تَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ . الثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله تعالى عنه لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُهَا . وَغَايَةُ مَا ذَكَرْتُمْ نَصُّهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " فَإِذَا مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ هَذَا التَّعْلِيقِ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ . وَهَذَا قَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ مَنْ يُبْطِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ , وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا هُوَ نَظِيرُهَا . وَلَيْسَ فِيهِ سَبْقُ الطَّلَاقِ لِشَرْطِهِ , وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْمُحَالِ ; إذْ حَقِيقَتُهُ إذَا بَقِيَ مِنْ حَيَاتِي شَهْرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ .(2/59)
وَهَذَا الْكَلَامُ مَعْقُولٌ غَيْرُ مُتَنَاقِضٍ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمُ الطَّلَاقِ عَلَى زَمَنِ التَّطْلِيقِ وَلَا عَلَى شَرْطِ وُقُوعِهِ , وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا أَنْ يَقُولَ : " إذَا مِتَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَهَذَا الْمُحَالُ بِعَيْنِهِ , وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " أَوْ يَقُولَ : " أَنْتِ طَالِقٌ عَامَ الْأَوَّلِ " فَمَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ وَمَسْأَلَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ شَيْءٌ , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ إذَا مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ ; فَلَوْ مَاتَ عَقِيبَ الْيَمِينِ لَمْ تَطْلُقْ , وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي " وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَكِ " فَإِنَّ كِلَا الْوَقْتَيْنِ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِلطَّلَاقِ ; لِأَنَّهَا فِي أَحَدِهِمَا لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا , وَفِي الثَّانِي لَمْ تَكُنْ فِيهِ طَالِقًا قَطْعًا , فَقَوْلُهُ : " أَنْتِ طَالِقٌ فِي وَقْتٍ قَدْ مَضَى " وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ طَالِقًا إمَّا إخْبَارٌ كَاذِبٌ أَوْ إنْشَاءٌ بَاطِلٌ , وَقَدْ قِيلَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَيَلْغُو قَوْلُهُ : " أَمْسِ " لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ الطَّلَاقِ ثُمَّ وَصَلَ بِهِ مَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ أَوْ يَرْفَعُهُ فَلَا يَصْلُحُ وَيَقَعُ لَغْوًا , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةً " لَيْسَ فِيهِ إيقَاعُ الطَّلْقَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْقَبْلِيَّةِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَلَا تَقَدُّمُهَا عَلَى الْإِيقَاعِ , وَإِنَّمَا فِيهِ إيقَاعُ طَلْقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى(2/60)
; فَمِنْ ضَرُورَةِ قَوْلِهِ : قَبْلَهَا طَلْقَةً " إيقَاعُ هَذِهِ السَّابِقَةِ أَوَّلًا ثُمَّ إيقَاعُ الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا ; فَالطَّلْقَتَانِ إنَّمَا وَقَعَتَا بِقَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ تَتَقَدَّمْ إحْدَاهُمَا عَلَى زَمَنِ الْإِيقَاعِ , وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْأُخْرَى تَقْدِيرًا , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ التَّعْلِيقِ الْمُسْتَحِيلِ ؟ فَإِنْ أَبَيْتُمْ وَقُلْتُمْ : قَدْ وَصَلَ الطَّلْقَةَ الْمُنَجَّزَةَ بِتَقَدُّمِ مِثْلِهَا عَلَيْهَا , وَالسَّبَبُ هُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ; فَقَدْ تَقَدَّمَ وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْقَبْلِيَّةِ عَلَى الْمُنَجَّزَةِ , وَلَمَّا كَانَ هَذَا نِكَاحًا صَحَّ , وَهَكَذَا قَوْلُهُ : " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " أَكْثَرُ مَا فِيهِ تَقَدُّمُ الطَّلَاقِ السَّابِقِ عَلَى الْمُنَجَّزِ , وَلَكِنَّ الْمَحَلَّ لَا يَحْتَمِلُهُمَا ; فَتَدَافَعَا وَبَقِيَتْ الزَّوْجَةُ بِحَالِهَا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ وَاحِدَةً " صَحَّ لِاحْتِمَالِ الْمَحَلِّ لَهُمَا .(2/61)
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَوْقَعَ طَلْقَتَيْنِ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ , وَلَمْ تَسْبِقْ إحْدَاهُمَا إيقَاعَهُ , وَلَمْ يَتَقَدَّمْ شَرْطُ الْإِيقَاعِ ; فَلَا مَحْذُورَ , وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ : " بَعْدَهَا طَلْقَةٌ , أَوْ مَعَهَا طَلْقَةٌ " وَكَأَنَّهُ قَالَ : " أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ مَعًا , أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ " وَيَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِ وَاحِدٍ عَنْ الْأُخْرَى سَبْقُ إحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى , فَلَا إحَالَةَ , أَمَّا وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ فَهُوَ مُحَالٌ وَقَصْدُهُ بَاطِلٌ , وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ إنْ كَانَ خَبَرًا فَهُوَ كَذِبٌ , وَإِنْ كَانَ إنْشَاءً فَهُوَ مُنْكَرٌ ; فَالتَّكَلُّمُ بِهِ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فِي إخْبَارِهِ , مُنْكَرٌ فِي إنْشَائِهِ . وَأَمَّا كَوْنُ الْمُعَلَّقِ تَمَامُ الثَّلَاثِ فَهَاهُنَا لِمُنَازِعِيكُمْ قَوْلَانِ تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُمَا , وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ . أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ هَذَا التَّعَلُّقُ وَيَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَالْمُعَلَّقُ , وَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وِزَانِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ : " إذَا مَاتَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ " فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ , فَهَكَذَا إذَا قَالَ : " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ وَاحِدَةً " ثُمَّ مَضَى زَمَنٌ تُمْكِنُ فِيهِ الْقَبْلِيَّةُ ثُمَّ طَلَّقَهَا تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ , وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْإِيقَاعِ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : " أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْوَقْتِ السَّابِقِ عَلَى تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ أَوْ وُقُوعِهِ مُعَلَّقًا " فَهُوَ تَطْلِيقٌ فِي زَمَنٍ مُتَأَخِّرٍ .(2/62)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا مُحَالٌ أَيْضًا , وَلَا يَقَعُ الْمُعَلَّقُ ; إذْ حَقِيقَتُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ عَلَى تَطْلِيقِكِ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا فَيَعُودُ إلَى سَبْقِ الطَّلَاقِ لِلتَّطْلِيقِ , وَسَبْقِ الْوُقُوعِ لِلْإِيقَاعِ , وَهُوَ حُكْمٌ بِتَقْدِيمِ الْمَعْلُولِ عَلَى عِلَّتِهِ . يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ " إمَّا أَنْ يُرِيدَ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِهَذَا الْإِيقَاعِ أَوْ بِإِيقَاعٍ مُتَقَدِّمٍ . وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ شَيْءٌ . وَالثَّانِي كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ : " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُطَلِّقَكِ " وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ . فَهَذَا كَشْفُ حِجَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّ مَأْخَذِهَا , وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ لَوْنٌ وَهَذِهِ لَوْنٌ آخَرُ .(2/63)
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ الْحُكْمَ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى عِلَّتِهِ , وَيَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى شَرْطِهِ كَمَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ - إلَى آخَرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ الشَّرْطَ إمَّا أَنْ يُوجَدَ جُزْءًا مِنْ الْمُقْتَضَى أَوْ يُوجَدَ خَارِجًا عَنْهُ , وَهُمَا قَوْلَانِ لِلنُّظَّارِ , وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ ; فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُقْتَضَى التَّامُّ فَالشَّرْطُ جُزْءٌ مِنْهُ , وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُقْتَضَى الَّذِي يَتَوَقَّفُ اقْتِضَاؤُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَعَدَمِ مَانِعِهِ فَالشَّرْطُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْهُ , وَلَكِنْ اقْتِضَاؤُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ , وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ , وَالْأُولَى طَرِيقَةُ الْمَانِعِينَ مِنْ التَّخْصِيصِ , وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَمْتَنِعُ تَأَخُّرُ الشَّرْطِ عَنْ وُقُوعِ الْمَشْرُوطِ ; لَأَنْ يَسْتَلْزِمَ وُقُوعَ الْحُكْمِ بِدُونِ سَبَبِهِ التَّامِّ ; فَإِنَّ الشَّرْطَ إنْ كَانَ جُزْءًا مِنْ الْمُقْتَضَى فَظَاهِرٌ , وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِاقْتِضَائِهِ فَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ لَا يُوجَدُ عِنْدَ عَدَمِهِ , وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ يُوجَدُ بِدُونِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا , فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ قَبْلَهُ لَثَبَتَ بِدُونِ سَبَبِهِ التَّامِّ , فَإِنَّ سَبَبَهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالشَّرْطِ , فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى سَبْقِ الْأَثَرِ لَمُؤَثِّرِهِ وَالْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ , وَهَذَا مُحَالٌ , وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَكُمْ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ وَعَلِمْتُمْ لُزُومَهُ فَرَرْتُمْ إلَى مَا لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئًا .(2/64)
وَهُوَ جَعْلُ الشَّرْطِ مُجَرَّدَ عَلَامَةٍ وَدَلِيلٍ وَمُعَرِّفٍ , وَهَذَا إخْرَاجٌ لِلشَّرْطِ عَنْ كَوْنِهِ شَرْطًا وَإِبْطَالٌ لِحَقِيقَتِهِ ; فَإِنَّ الْعَلَامَةَ وَالدَّلِيلَ [ وَ ] الْمُعَرِّفَ لَيْسَتْ شُرُوطًا فِي الْمَدْلُولِ الْمُعَرَّفِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهَا نَفْيُهُ , فَإِنَّ الشَّيْءَ يَثْبُتُ بِدُونِ عَلَامَةٍ وَمُعَرِّفٍ لَهُ , وَالْمَشْرُوطُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لِوُجُودِهِ . وَكُلُّ الْعُقَلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْأَمَارَةِ الْمَحْضَةِ وَأَنَّ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا وَحُكْمَهُ دُونَ حَقِيقَةِ الْآخَرِ وَحُكْمِهِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ : إنَّ الْعَلَامَةَ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ بِالْمُعَلَّمِ وَالدَّلِيلُ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ , فَذَاكَ أَمْرٌ وَرَاءَ الشَّرْطِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ , فَهَذَا شَيْءٌ وَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ , وَهَذَا حَقٌّ , وَلِهَذَا يَنْتَفِي الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ عِنْدَ انْتِفَاءِ دَلِيلِهِ , وَلَكِنْ هَلْ يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّ الْمَدْلُولَ يَنْتَفِي وَانْتِفَاءَ دَلِيلِهِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : نَعَمْ , قَدْ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ , وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ . قِيلَ : نَعَمْ فَإِنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ دَلِيلِهِ , فَدَلِيلُهُ مُوجِبٌ لِثُبُوتِهِ , فَإِذَا انْتَفَى الْمُوجِبُ انْتَفَى الْمُوجَبَ , وَلِهَذَا يُقَالُ : لَا مُوجِبَ فَلَا مُوجَبَ , أَمَّا شَرْطُ اقْتِضَاءِ السَّبَبِ لِحِكْمَةٍ فَلَا يَجُوزُ اقْتِضَاؤُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ , وَلَوْ تَأَخَّرَ الشَّرْطُ عَنْهُ لَكَانَ مُقْتَضِيًا بِدُونِ شَرْطِهِ , وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إخْرَاجَ الشَّرْطِ عَنْ حَقِيقَتِهِ , وَهُوَ مُحَالٌ .(2/65)
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ , أَوْ تَقْدِيمُهُ عَلَى شَرْطٍ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى ; فَالتَّنْظِيرُ بِهِ مَغْلَطَةٌ ; فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَى سَبَبِهِ وَلَا شَرْطِهِ , وَهَذَا مُحَالٌ . وَإِنْ وَقَعَ تَسَامُحٌ فِي عِبَارَةِ الْفُقَهَاءِ , فَإِنَّ الْقَضَاءَ الْحَوْلُ مَثَلًا وَالْحِنْثُ وَالْمَوْتُ بَعْدَ الْجُرْحِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ , وَنَحْنُ لَمْ نُقَدِّمْ الْوُجُوبَ عَلَى شَرْطٍ وَلَا سَبَبِهِ , وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا فِعْلَ الْوَاجِبِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْحُكْمِ بِالْوُجُوبِ , وَبَيْنَ تَقَدُّمِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ , فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا وَهْمٌ أَوْ إيهَامٌ , وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ تَقْدِيمَ شَرْطِ عِلَّةِ الْحُكْمِ وَمُوجِبِهِ عَلَى الْحُكْمِ أَمْرٌ ثَابِتٌ عَقْلًا وَشَرْعًا , وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ ذَلِكَ عَنْ نَصِّ أَهْلِ اللُّغَةِ حَتَّى تُطَالِبُونَا بِنَقْلِهِ , بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ لِذَاتِ الشَّرْطِ وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهِ . وَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ اللُّغَةِ , بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَخْتَلِفُ بِتَقَدُّمِ لَفْظٍ وَلَا تَأَخُّرِهِ , حَتَّى لَوْ قَالَ : " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ " أَوْ قَالَ : " يَبْعَثُكِ اللَّهُ إذَا مِتَّ " أَوْ : " تَجِبُ عَلَيْكِ الصَّلَاةُ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا " وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالشَّرْطُ مُتَقَدِّمٌ عَقْلًا وَطَبْعًا وَشَرْعًا وَإِنْ تَأَخَّرَ لَفْظًا .(2/66)
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ الْأَحْكَامَ تَقْبَلُ النَّقْلَ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَتُتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ " فَتَطْوِيلٌ بِلَا تَحْصِيلٍ , وَتَهْوِيلٌ بِلَا تَفْضِيلٍ , فَهَلْ تَقْبَلُ النَّقْلَ عَنْ تَرْتِيبِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا وَمُوجِبَاتِهَا بِحَيْثُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِ سَبَبِهِ وَمُقْتَضِيهِ ؟ نَعَمْ قَدْ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ وَيَنْتَقِلُ لِقِيَامِ سَبَبٍ آخَرَ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَيَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبِهِ الثَّانِي بَعْدَ انْتِقَالِهِ كَمَا كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ , وَفِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى سَبَبِهِ هَذَا فِي حُكْمِهِ وَذَاكَ فِي مَحَلِّهِ , وَأَمَّا تَنْظِيرُكُمْ بِنَقْلِ الْأَحْكَامِ وَتَقَدُّمِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا بِقَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَقَوْلِكُمْ : " إنَّ نَظِيرَهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ أَنْ تَقُولَ : إنْ زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَ زِيَارَتِكَ بِشَهْرٍ " فَوَهْمٌ أَيْضًا أَوْ إيهَامٌ , فَإِنَّ قَوْلَهُ : " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " إنَّمَا تَطْلُقُ إذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ إيقَاعِهِ فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ لَمْ تَطْلُقْ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ عَامَ الْأَوَّلِ ; لَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : " إنْ زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ " فَإِنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ , وَالْإِكْرَامُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يَكُونُ إكْرَامًا بِالتَّقْدِيرِ , وَإِنَّمَا يَكُونُ إكْرَامًا بِالْوُقُوعِ , وَأَمَّا اسْتِشْهَادُكُمْ بِقَوْلِهِ : " أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي " فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ ;(2/67)
فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ الْمِلْكِ التَّقْدِيرِيِّ عَلَى الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَثَرُهُ وَمُوجَبُهُ , وَالْمِلْكُ شَرْطُهُ , وَلَوْ جَازَ تَأَخُّرُ الشَّرْطِ لَقُدِّرَ الْمِلْكُ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ , وَهَذَا مُحَالٌ ; فَعُلِمَ أَنَّ الْأَسْبَابَ وَالشُّرُوطَ يَجِبُ تَقَدُّمُهَا , سَوَاءٌ كَانَتْ مُحَقَّقَةً أَوْ مُقَدَّرَةً .(2/68)
وَقَوْلُكُمْ : " إنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ يَتَضَمَّنُ شَرْطًا وَمَشْرُوطًا , وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْوُقُوعِ وَقَدْ تُعْقَدُ لِنَفْيِ الشَّرْطِ وَالْجُزْءِ - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا مِنْ الْوَهْمِ أَوْ الْإِيهَامِ ; فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَصِحُّ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ جُزْأَيْهَا , سَوَاءٌ كَانَا مُمَكِّنَيْنِ أَوْ مُمْتَنِعَيْنِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِهَا شَرْطِيَّةً صِدْقُ جُزْأَيْهَا جُمْلَتَيْنِ ; فَالِاعْتِبَارُ إنَّمَا هُوَ بِصِدْقِهَا فِي نَفْسِهَا ; وَلِهَذَا كَانَ قوله تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } مِنْ أَصْدَقِ الْكَلَامِ وَجُزْءُ الشَّرْطِيَّةِ مُمْتَنِعَانِ , لَكِنَّ أَحَدَهُمَا مَلْزُومٌ لِلْآخَرِ , فَقَامَتْ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ مِنْ التَّلَازُمِ الَّذِي بَيْنَهُمَا ; فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِفَسَادِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ , فَوُجُودُ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ مَلْزُومٌ لِفَسَادِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ , وَالْفَسَادُ لَازِمٌ , فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى مَلْزُومُهُ , فَصَدَقَتْ الشَّرْطِيَّةُ دُونَ مُفْرَدَيْهَا , وَأَمَّا الشَّرْطِيَّةُ فِي مَسْأَلَتِنَا فَهِيَ كَاذِبَةٌ فِي نَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا عُقِدَتْ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُنَجَّزِ وَسَبْقِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَيْهِ , وَهَذَا كَذِبٌ فِي الْإِخْبَارِ بَاطِلٌ فِي الْإِنْشَاءِ ; فَالشَّرْطِيَّةُ نَفْسُهَا بَاطِلَةٌ لَا تَصِحُّ بِوَجْهٍ ; فَظَهَرَ أَنَّ تَنْظِيرَهَا بِالشَّرْطِيَّةِ الصَّادِقَةِ الْمُمْتَنِعَةِ الْجُزْأَيْنِ وَهْمٌ أَوْ إيهَامٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ .(2/69)
وَأَمَّا قِيَاسُكُمْ الْمُحَرَّرُ , وَهُوَ قَوْلُكُمْ : " طَلَاقَانِ مُتَعَارِضَانِ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ , فَوَجَبَ أَنْ يَنْفِيَ السَّابِقُ مِنْهُمَا الْمُتَأَخِّرَ . كَقَوْلِهِ : إنْ قَدِمَ زَيْدٌ - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ زَيْدٌ طَلُقَتْ ثَلَاثًا , فَقَدِمَ عَمْرٌو بَعْدَهُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ , فَلَمْ يُصَادِفْ الطَّلَاقُ الثَّانِيَ مَحَلًّا , فَهَذَا مَعْقُولٌ شَرْعًا وَلُغَةً وَعُرْفًا , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَعَلُّقٍ مُسْتَحِيلٍ شَرْعًا وَعُرْفًا ؟ وَلَقَدْ وَهَنَتْ كُلَّ الْوَهْنِ مَسْأَلَةٌ إلَى مِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ اسْتِنَادُهَا , وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُهَا . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّا لَوْ أَوْقَعْنَا الْمُنَجَّزَ لَزِمَنَا أَنْ نُوقِعَ قَبْلَهُ ثَلَاثًا - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ : هَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ , فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إيقَاعِ الْمُنَجَّزِ إيقَاعُ الثَّلَاثِ قَبْلَهُ , لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا , فَإِنْ قُلْتُمْ : لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْمُعَلَّقِ قَبْلَهُ , فَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُ الْمُعَلَّقِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ . ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النُّكْتَةَ قَلْبًا أَصَحَّ مِنْهَا شَرْعًا وَعَقْلًا وَلُغَةً , فَنَقُولُ : إذَا أَوْقَعْنَا الْمُنَجَّزَ لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نُوقِعَ قَبْلَهُ ثَلَاثًا قَطْعًا , وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وَهُوَ الْإِيقَاعُ , فَيَسْتَلْزِمُ مُوجَبَهُ وَهُوَ الْوُقُوعُ , وَإِذَا وَقَعَ مُوجَبُهُ اسْتَحَالَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ ; فَهَذِهِ النُّكْتَةُ أَصَحُّ وَأَقْرَبُ إلَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .(2/70)
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ الْمُكَلَّفَ أَتَى بِالسَّبَبِ الَّذِي ضَيَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَأَلْزَمْنَاهُ حُكْمَهُ - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ شَرْعًا , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مَقْدُورًا وَمَشْرُوعًا , وَهَذَا السَّبَبُ الَّذِي أَتَى بِهِ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَلَا مَشْرُوعٍ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُمَلِّكْهُ طَلَاقًا يُنْجِزُهُ تَسْبِقُهُ ثَلَاثٌ قَبْلَهُ , وَلَا ذَلِكَ مَقْدُورٌ لَهُ ; فَالسَّبَبُ لَا مَقْدُورٌ وَلَا مَأْمُورٌ , بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فَاسِدٌ ; فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ , وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا نَظَرْتُمْ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ : أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى - وَهِيَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا جُمْلَةً - فَهَذِهِ مِمَّا يُحْتَجُّ لَهَا , وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا , وَلِلنَّاسِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ , أَحَدُهَا : الْإِلْزَامُ بِهَا , وَالثَّانِي : إلْغَاؤُهَا جُمْلَةً وَإِنْ كَانَ هَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ الْفُقَهَاءِ الشِّيعَةِ , وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا وَاحِدَةٌ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ فِي زَمَانِهِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَغَيْرُهُ , وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ حَكَاهُ التِّلْمِسَانِيُّ فِي شَرْحِ تَفْرِيعِ ابْنِ الْجَلَّابِ , وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ اخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ .(2/71)
وَالرَّابِعُ : أَنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي حَقِّ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا , وَثَلَاثٌ فِي حَقِّ الْمَدْخُولِ بِهَا , وَهَذَا مَذْهَبُ إمَامِ أَهْلِ خُرَاسَانَ فِي وَقْتِهِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ نَظِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ , وَفِيهَا مَذْهَبٌ خَامِسٌ , وَهُوَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُنَجَّزَةً وَقَعَتْ , وَإِنْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً لَمْ تَقَعْ , وَهُوَ مَذْهَبُ حَافِظِ الْغَرْبِ وَإِمَامِ أَهْلِ الظَّاهِرِ فِي وَقْتِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ , وَلَوْ طُولِبْتُمْ بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَتَصْحِيحِ قَوْلِكُمْ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَرْكَنُ إلَيْهِ الْعَالِمُ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ , وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ تَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ , وَاَلَّذِينَ يُسَلِّمُونَ لَكُمْ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَرِيقَانِ : فَرِيقٌ يَقُولُ بِجَوَازِ إيقَاعِ الثَّلَاثِ فَقَدْ أَتَى الْمُكَلَّفُ عِنْدَهُ بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ الْمَقْدُورِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ سَبَبُهُ , وَفَرِيقٌ يَقُولُ : تَقَعُ وَإِنْ كَانَ إيقَاعُهَا مُحَرَّمًا كَمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ , وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ , بِخِلَافِ وُقُوعِ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ فَإِنَّهُ مُحَالٌ , فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ ؟ فَصْلٌ وَأَمَّا نَقْضُكُمْ الثَّانِي بِتَمْلِيكِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ الطَّلَاقَ وَتَضْيِيقِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِهِ بِيَدِهِ , فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدِهَا : أَنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ لَمْ يَخْرُجْ الطَّلَاقُ عَنْ يَدِهِ , بَلْ هُوَ فِي يَدِهِ كَمَا هُوَ , هَذَا إنْ قِيلَ إنَّهُ(2/72)
تَمْلِيكٌ , وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ تَوْكِيلٌ فَلَهُ عَزْلُهَا مَتَى شَاءَ . الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ; فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ وَلَا تَوْكِيلُهَا فِيهِ , وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا مِمَّنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ , وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ; فَالنَّقْضُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ يَسْتَلْزِمُ إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا , وَالْأَوَّلُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا . وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ : إنَّهُ إذَا عَلَّقَ الْيَمِينَ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ لَمْ تَطْلُقْ إذَا حَنِثَ . قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَلَّكَ الزَّوْجَ الطَّلَاقَ , وَجَعَلَهُ بِيَدِهِ رَحْمَةً مِنْهُ , وَلَمْ يَجْعَلْهُ إلَى الْمَرْأَةِ ; فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِفِعْلِهَا لَكَانَ إلَيْهَا إنْ شَاءَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ , وَهَذَا خِلَافُ شَرْعِ اللَّهِ , وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ , وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مُوجِبٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُقُوعِ الصِّفَةِ , سَوَاءٌ كَانَ يَمِينًا أَوْ تَعْلِيقًا مَحْضًا , وَهَذَا الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ لَزِمَ , وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَالِالْتِزَامِ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ , وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ .(2/73)
وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ وَقَعَ , وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَالِالْتِزَامِ لَمْ يَقَعْ وَإِنْ نَوَاهُ , وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ فِي فَتَاوِيهِ . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ مَقْصُودَيْنِ وَقَعَ , وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مَقْصُودَيْنِ - وَإِنَّمَا حَلَّ بِهِ قَاصِدًا مَنْعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ - لَمْ يَقَعْ , وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ , وَهَذَا اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ . وَالسَّابِعُ : كَذَلِكَ , إلَّا أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ , وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ , وَاَلَّذِي قَبْلَهُ اخْتِيَارُ أَخِيهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ قَوْلِ مَنْ حَكَى إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إذَا حَنِثَ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ , وَحَكَيْنَا لَفْظَهُ . وَالْمَقْصُودُ الْجَوَابُ عَنْ النَّقْضِ بِتَمْلِيكِ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ أَوْ تَوْكِيلِهَا فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ فِي النَّقْضِ الثَّالِثِ : " إنَّ فُقَهَاءَ الْكُوفَةِ صَحَّحُوا تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ , وَهُوَ يَسُدُّ بَابَ النِّكَاحِ " فَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ , وَقَالُوا : هُوَ سَدٌّ لِبَابِ النِّكَاحِ , حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ نَفْسُهُ : أُنْكِرُهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ .(2/74)
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ : لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا , وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ الْمُنَجَّزَ فَلَا يَمْلِكُ الْمُعَلَّقَ ; إذْ كِلَاهُمَا مُسْتَدْعٍ لِقِيَامِ مَحَلِّهِ , وَلَا مَحَلَّ , فَهَلَّا قَبِلْتُمْ مِنْهُمْ احْتِجَاجَهُمْ عَلَيْكُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ , وَهِيَ أَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ قَابِلٍ لِطَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ , وَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ لَغْوًا وَبَاطِلًا فَلَا يَنْعَقِدُ , كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُمْ فِي تَعْلِيقِ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ : إنَّهُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ فَلَا يَنْعَقِدُ فَصْلٌ [ إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ عَلَى مِلْكِهِ ] وَأَمَّا النَّقْضُ الرَّابِعُ بِقَوْلِهِ : " كُلُّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ " فَهَذَا لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ , وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ .(2/75)
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَصِحُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ قَدْ شُرِعَ طَرِيقًا إلَى زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ , إمَّا بِنَفْسِ الْمِلْكِ كَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ , وَإِمَّا بِاخْتِيَارِ الْإِعْتَاقِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا لِيَعْتِقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَوْ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ , وَلَمْ يُشَرِّعْ اللَّهُ النِّكَاحَ طَرِيقًا إلَى زَوَالِ مِلْكِ الْبُضْعِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ , بَلْ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضِدُّ مَقْصُودِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَعُرْفًا , وَالْعِتْقُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الشِّرَاءِ تَرْتِيبٌ لِمَقْصُودِهِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَعُرْفًا , فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ ؟ وَكَوْنُهُ قَدْ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مِلْكِ الرَّقِيقِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا مَقْصُودًا أَوْ تَعْلِيقًا قَسَمِيًّا ; فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا فَهُوَ قَدْ قَصَدَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِذَلِكَ , فَهُوَ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ صَوْمَ الدَّهْرِ وَسَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الْفِطْرِ . وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا قَسَمِيًّا فَلَهُ سَعَةٌ بِمَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم وَقَدْ تَقَدَّمَ . فَصْلٌ وَأَمَّا النَّقْضُ الْخَامِسُ بِمَنْ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَأَوْلَدَهَا , فَهَذَا أَيْضًا نَقْضٌ فَاسِدٌ ; فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَنْفَقَهَا فِي شَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِّهِ , وَقَعَدَ مَلُومًا مَحْسُورًا , أَوْ تَزَوَّجَ بِهَا امْرَأَةً وَقَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ .(2/76)
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ وَبَقَاءِ الْمَرْأَةِ كَالْغُلِّ فِي عُنُقِهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا ؟ فَصْلٌ [ لَمْ تُبْنَ الشَّرَائِعُ عَلَى الصُّوَرِ النَّادِرَةِ ] . وَقَوْلُكُمْ : " قَدْ يَكُونُ لَهُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ مَصْلَحَةٌ وَغَرَضٌ صَحِيحٌ , بِأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِزَوْجَتِهِ وَيَخْشَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْحَلِفِ أَوْ غَيْرِهِ فَيُسَرِّحُهَا " جَوَابُهُ أَنَّ الشَّرَائِعَ الْعَامَّةَ لَمْ تُبْنَ عَلَى الصُّوَرِ النَّادِرَةِ , وَلَوْ كَانَ لِعُمُومِ الْمُطَلِّقِينَ فِي هَذَا مَصْلَحَةٌ لَكَانَتْ حِكْمَةُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ تَمْنَعُ الرِّجَالَ مِنْ الطَّلَاقِ بِالْكُلِّيَّةِ , وَتَجْعَلُ الزَّوْجَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ فِرَاقِ زَوْجِهَا . وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى أَوْلَى وَأَلْيَقُ مِنْ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي فِي مُرَاعَاتِهَا تَعْطِيلُ مَصْلَحَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَهَمَّ , وَقَاعِدَةُ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ تَحْصِيلُ أَعْلَى الْمَصْلَحَتَيْنِ وَإِنْ فَاتَ أَدْنَاهُمَا , وَدَفْعُ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ أَدْنَاهُمَا , وَهَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ سَوَاءٌ ; فَإِنَّ مَصْلَحَةَ تَمْلِيكِ الرِّجَالِ الطَّلَاقَ أَعْلَى وَأَكْبَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ سَدِّهِ عَلَيْهِمْ , وَمَفْسَدَةُ سَدِّهِ عَلَيْهِمْ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ فَتْحِهِ لَهُمْ الْمُفْضِيَةُ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ . وَشَرَائِعُ الرَّبِّ تَعَالَى كُلُّهَا حِكَمٌ وَمَصَالِحُ وَعَدْلٌ وَرَحْمَةٌ , وَإِنَّمَا الْعَبَثُ وَالْجَوْرُ وَالشِّدَّةُ فِي خِلَافِهَا , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .(2/77)
وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْحِيَلِ وَقَوَاعِدِهَا , وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ بُطْلَانِ الْحِيَلِ ; فَإِنَّهَا لَا تَتَمَشَّى عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَلَا أُصُولِ الْأَئِمَّةِ , وَكَثِيرٌ مِنْهَا - بَلْ أَكْثَرُهَا - مِنْ تَوْلِيدَاتِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَّا الْأَئِمَّةَ وَتَفْرِيعَهُمْ , الْأَئِمَّةُ بَرَاءٌ مِنْهَا .(2/78)
فَصْلٌ : [ بُطْلَانُ الْحِيلَةِ بِالْخُلْعِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْحِيلَةُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْحِنْثِ بِالْخُلْعِ , ثُمَّ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ , ثُمَّ يَعُودُ إلَى النِّكَاحِ , وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ شَرْعًا , وَبَاطِلَةٌ عَلَى أُصُولِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ : أَمَّا بُطْلَانُهَا شَرْعًا فَإِنَّ هَذَا خُلْعٌ لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ , وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يُمَكِّنْ الزَّوْجَ مِنْ فَسْخِ النِّكَاحِ مَتَى شَاءَ ; فَإِنَّهُ لَازِمٌ , وَإِنَّمَا مَكَّنَهُ مِنْ الطَّلَاقِ , وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَسْخُهُ إلَّا عِنْدَ التَّشَاجُرِ وَالتَّبَاغُضِ إذَا خَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ , فَشَرَعَ لَهُمَا التَّخَلُّصَ بِالِافْتِدَاءِ ; وَبِذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ , وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا زَمَنِ أَصْحَابِهِ قَطُّ خُلْعُ حِيلَةٍ , وَلَا فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ , وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجَعَلَهُ طَرِيقًا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الْحِنْثِ , وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِهِمْ رضي الله عنهم فَإِنَّ الْخُلْعَ إنَّمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُقْتَضِيًا لِلْبَيْنُونَةِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْمَرْأَةِ مِنْ الِافْتِدَاءِ مِنْ زَوْجِهَا , وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْصُودَهَا إذَا قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ , فَإِذَا حَصَلَ هَذَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَقَعَ وَلَيْسَتْ زَوْجَتَهُ فَلَا يَحْنَثُ , وَهَذَا إنَّمَا حَصَلَ تَبَعًا لِلْبَيْنُونَةِ التَّابِعَةِ لِقَصْدِهِمَا , فَإِذَا خَالَعَهَا لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ(2/79)
يَكُنْ قَصْدُهُمَا الْبَيْنُونَةَ , بَلْ حَلَّ الْيَمِينُ , وَحَلُّ الْيَمِينِ إنَّمَا يَحْصُلُ تَبَعًا لِلْبَيْنُونَةِ لَا أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْخُلْعِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَأَمَّا خُلْعُ الْحِيلَةِ فَجَاءَتْ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ لِأَجْلِ [ حَلِّ ] الْيَمِينِ , وَحَلُّ الْيَمِينِ جَاءَ لِأَجْلِ الْبَيْنُونَةِ ; فَلَيْسَ عَقْدُ الْخُلْعِ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ لِلرَّجُلِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُشَرِّعُ عَقْدًا لَا يَقْصِدُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقِيقَتَهُ , وَإِنَّمَا يَقْصِدَانِ بِهِ ضِدَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ ; فَإِنَّهُ شُرِعَ لِتَخْلُصَ الْمَرْأَةُ مِنْ الزَّوْجِ , وَالْمُتَحَيِّلُ يَفْعَلُهُ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ ; فَالشَّارِعُ شَرَعَهُ لِقَطْعِ النِّكَاحِ , وَالْمُتَحَيِّلُ يَفْعَلُهُ لِدَوَامِ النِّكَاحِ .
.(2/80)
فَصْلٌ : [ الْمُتَأَخِّرُونَ هُمْ الَّذِينَ أَحْدَثُوا الْحِيَلَ وَنَسَبُوهَا إلَى الْأَئِمَّةِ ] وَالْمُتَأَخِّرُونَ أَحْدَثُوا حِيَلًا لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ , وَنَسَبُوهَا إلَى الْأَئِمَّةِ , وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي نِسْبَتِهَا إلَيْهِمْ , وَلَهُمْ مَعَ الْأَئِمَّةِ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ . وَمَنْ عَرَفَ سِيرَةَ الشَّافِعِيِّ وَفَضْلَهُ وَمَكَانَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِفِعْلِ الْحِيَلِ , وَلَا بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا , وَلَا كَانَ يُشِيرُ عَلَى مُسْلِمٍ بِهَا . وَأَكْثَرُ الْحِيَلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ , تَلَقَّوْهَا عَنْ الْمَشْرِقِيِّينَ , وَأَدْخَلُوهَا فِي مَذْهَبِهِ , وَإِنْ كَانَ رحمه الله تعالى يُجْرِي الْعُقُودَ عَلَى ظَاهِرِهَا , وَلَا يَنْظُرُ إلَى قَصْدِ الْعَاقِدِ وَنِيَّتِهِ , كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ كَلَامِهِ , فَحَاشَاهُ ثُمَّ حَاشَاهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ , بَلْ مَا يَتَيَقَّنُ أَنَّ بَاطِنَهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ , وَلَا يُظَنُّ بِمَنْ دُونَ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنَّهُ يَأْمُرُ أَوْ يُبِيحُ ذَلِكَ ; فَالْفَرْقُ [ ظَاهِرٌ ] بَيْنَ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ الْقَصْدَ فِي الْعَقْدِ وَيُجْرِيَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَوِّغَ عَقْدًا قَدْ عُلِمَ بِنَاؤُهُ عَلَى الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَاطِنَهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ .(2/81)
فَوَاَللَّهِ مَا سَوَّغَ الشَّافِعِيُّ وَلَا إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ هَذَا الْعَقْدَ قَطُّ , وَمَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إلَيْهِ فَهُمْ خُصَمَاؤُهُ عِنْدَ اللَّهِ ; فَاَلَّذِي سَوَّغَهُ الْأَئِمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ يُجْرِي الْأَحْكَامَ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ شُهُودَ زُورٍ , وَاَلَّذِي سَوَّغَهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ شُهُودُ زُورٍ كَذَبَةٌ وَأَنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ثُمَّ يَحْكُمُ بِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمْ . وَهَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَيْنَةِ : إنَّمَا جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ مِمَّنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ جَرْيًا عَلَى ظَاهِرِ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَامَتِهَا مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ , وَلَوْ قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ : " إنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْ تَوَاطَآ عَلَى أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ , وَتَرَاوَضَا عَلَى ذَلِكَ , وَجَعَلَا السِّلْعَةَ مُحَلَّلًا لِلرِّبَا " لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ , وَلَأَنْكَرَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ .(2/82)
وَلَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُحْكَى عَنْهُ الْإِفْتَاءُ بِالْحِيَلِ , قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ : سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ الْآجُرِّيَّ وَأَنَا وَهُوَ بِمَنْزِلِهِ بِمَكَّةَ عَنْ هَذَا الْخُلْعِ الَّذِي يُفْتِي بِهِ النَّاسَ , وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ رَجُلٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا , وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ , فَيُقَالُ لَهُ : اخْلَعْ زَوْجَتَكَ وَافْعَلْ مَا حَلَفْتَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَاجِعْهَا , وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا , وَقُلْتُ لَهُ : إنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي يُحِلُّ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ وَيَحْنَثُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ , وَيَذْكُرُونَ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ شَيْئًا , فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَعْجَبُ مِنْ سُؤَالِي عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ , ثُمَّ قَالَ لِي : مُنْذُ كَتَبْتُ الْعِلْمَ وَجَلَسْتُ لِلْكَلَامِ فِيهِ وَلِلْفَتْوَى مَا أَفْتَيْتُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَرْفٍ , وَلَقَدْ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا سَأَلْتَنِي عَنْ التَّعَجُّبِ مِمَّنْ يُقْدِمُ عَلَى الْفَتْوَى فِيهِمَا , فَأَجَابَنِي فِيهِمَا بِجَوَابٍ كَتَبْتُهُ عَنْهُ , ثُمَّ قَامَ فَأَخْرَجَ لِي كِتَابَ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ وَالنُّشُوزِ مِنْ كِتَابِ الشَّافِعِيِّ , وَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَى ظَهْرِهِ بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ , فَقُلْتُ لَهُ : الرَّجُلُ يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا , ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ , وَقُلْتُ لَهُ : إنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ يُفْتُونَ فِيهَا بِالْخُلْعِ ,(2/83)
يُخَالِعُ ثُمَّ يَفْعَلُ , فَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ : مَا أَعْرِفُ هَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ , وَلَا بَلَغَنِي أَنَّ لَهُ فِي هَذَا قَوْلًا مَعْرُوفًا , وَلَا أَرَى مَنْ يَذْكُرُ هَذَا عَنْهُ إلَّا مُحِيلًا . وَالزُّبَيْرِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ وَتَنْزِيهَهُ لِلشَّافِعِيِّ عَنْ خُلْعِ الْيَمِينِ فَكَيْفَ بِحِيَلِ الرِّبَا الصَّرِيحِ وَحِيَلِ التَّحْلِيلِ وَحِيَلِ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَالْحُقُوقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ ؟ فَصْلٌ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الْآخَرِ , وَهُوَ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ , وَتَنْزِيهِهِ عَنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُنَاقِضَةِ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ , الَّتِي هِيَ خِلَافُ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ , وَبَيَانُ نَفْيِهَا عَنْ الدِّينِ وَإِخْرَاجِهَا مِنْهُ , وَإِنْ أَدْخَلَهَا فِيهِ مَنْ أَدْخَلَهَا بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ . [(2/84)
مِنْ فَضْلِ الْأَئِمَّةِ ] وَالثَّانِي : مَعْرِفَةُ فَضْلِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَقَادِيرِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ , وَأَنَّ فَضْلَهُمْ وَعِلْمَهُمْ وَنُصْحَهُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُوجِبُ قَبُولَ كُلِّ مَا قَالُوهُ , وَمَا وَقَعَ فِي فَتَاوِيهِمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَقَالُوا بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَالْحَقُّ فِي خِلَافِهَا لَا يُوجِبُ إطْرَاحَ أَقْوَالِهِمْ جُمْلَةً وَتَنَقُّصَهُمْ وَالْوَقِيعَةَ فِيهِمْ ; فَهَذَانِ طَرَفَانِ جَائِرَانِ عَنْ الْقَصْدِ , وَقَصْدُ السَّبِيلِ بَيْنَهُمَا , فَلَا نُؤَثِّمُ وَلَا نَعْصِمُ , وَلَا نَسْلُكُ بِهِمْ مَسْلَكَ الرَّافِضَةِ فِي عَلِيٍّ وَلَا مَسْلَكَهُمْ فِي الشَّيْخَيْنِ , بَلْ نَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَإِنَّهُمْ لَا يُؤَثِّمُونَهُمْ وَلَا يَعْصِمُونَهُمْ , وَلَا يَقْبَلُونَ كُلَّ أَقْوَالِهِمْ وَلَا يُهْدِرُونَهَا .(2/85)
فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا فِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَسْلَكًا يَسْلُكُونَهُ هُمْ فِي الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ ؟ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا يَتَنَافَيَانِ عِنْدَ أَحَدِ رَجُلَيْنِ : جَاهِلٍ بِمِقْدَارِ الْأَئِمَّةِ وَفَضْلِهِمْ , أَوْ جَاهِلٍ بِحَقِيقَةِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ , وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ وَالْوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانٍ قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ بَلْ وَمَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ فِيهَا , وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَرَ مَكَانَتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : كُنْتُ بِالْكُوفَةِ فَنَاظَرُونِي فِي النَّبِيذِ الْمُخْتَلِفِ فِيهِ , فَقُلْتُ لَهُمْ : تَعَالَوْا فَلْيَحْتَجَّ الْمُحْتَجُّ مِنْكُمْ عَمَّنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالرُّخْصَةِ , فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الرَّدَّ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِسَنَدٍ صَحَّتْ عَنْهُ , فَاحْتَجُّوا فَمَا جَاءُوا عَنْ أَحَدٍ بِرُخْصَةٍ إلَّا جِئْنَاهُمْ بِسَنَدٍ , فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ , وَلَيْسَ احْتِجَاجُهُمْ عَنْهُ فِي شِدَّةِ النَّبِيذِ بِشَيْءٍ يَصِحُّ عَنْهُ , إنَّمَا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَبِذْ لَهُ فِي الْجَرِّ الْأَخْضَرِ .(2/86)
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : فَقُلْتُ لِلْمُحْتَجِّ عَنْهُ فِي الرُّخْصَةِ : يَا أَحْمَقُ , عُدْ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَوْ كَانَ هَاهُنَا جَالِسًا فَقَالَ : هُوَ لَكَ حَلَالٌ , وَمَا وَصَفْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي الشِّدَّةِ كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَحْذَرَ وَتَخْشَى . فَقَالَ قَائِلٌ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ - وَسَمَّى عِدَّةً مَعَهُمَا - كَانُوا يَشْرَبُونَ الْحَرَامَ ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ : دَعُوا عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ تَسْمِيَةَ الرِّجَالِ , فَرُبَّ رَجُلٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَاقِبُهُ كَذَا وَكَذَا , وَعَسَى أَنْ تَكُونَ مِنْهُ زَلَّةٌ , أَفَيَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا ؟ فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ ؟ قَالُوا : كَانُوا خِيَارًا , قُلْتُ : فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ ؟ قَالُوا : حَرَامٌ , فَقُلْتُ : إنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا , أَفَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ ؟ فَبُهِتُوا وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ .(2/87)
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : رَآنِي أَبِي وَأَنَا أَنْشُدُ الشِّعْرَ , فَقَالَ : يَا بُنَيَّ لَا تَنْشُدُ الشِّعْرَ , فَقُلْتُ : يَا أَبَتِ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ , وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُنْشِدُ , فَقَالَ : أَيْ بُنَيَّ إنْ أَخَذْتُ بِشَرِّ مَا فِي الْحَسَنِ وَبِشَرِّ مَا فِي ابْنِ سِيرِينَ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ , قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ , فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأَئِمَّةِ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا وَلَهُ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا السُّنَّةُ . قُلْتُ : وَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَوَّلِ اسْتِذْكَارِهِ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحْصَى , مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ , وَلَا يُسَوِّغُ اتِّبَاعَهُمْ فِيهَا , قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : إنْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ , قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا إجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ .(2/88)
فَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ , قَالُوا : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إنِّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ , وَمِنْ حُكْمِ الْجَائِرِ , وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } . وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حُدَيْرٍ : قَالَ عُمَرُ : ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ : زَلَّةُ عَالِمٍ , وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ , وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : إنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ وَجِدَالَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ , وَالْقُرْآنُ حَقٌّ , وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَأَعْلَامِ الطَّرِيقِ .(2/89)
وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ , قَلَّمَا يُخْطِئُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ , اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ , هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ , إنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ , وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ , حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ , فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ : قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتْبَعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ , فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتَدَعَ , فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ , وَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ , فَتَلَقَّوْا الْحَقَّ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ , فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا , قَالُوا : كَيْفَ زَيْغَةُ الْحَكِيمِ ؟ قَالَ : هِيَ كَلِمَةٌ تَرُوعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا وَتَقُولُونَ مَا هَذِهِ , فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ , وَلَا تَصُدَّنَّكُمْ عَنْهُ , فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَيُرَاجِعَ الْحَقَّ , وَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , فَمَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا .(2/90)
وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ : زَلَّةِ عَالِمٍ , وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ , وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ ؟ فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ وَتَقُولُونَ نَصْنَعُ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ , وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَا تَقْطَعُوا إيَاسَكُمْ مِنْهُ فَتُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ وَأَمَّا مُجَادَلَةُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ , فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَخُذُوا وَمَا لَمْ تَعْرِفُوا فَكِلُوهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَأَمَّا دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ , وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ , قِيلَ : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ , ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ هَذِهِ الْآثَارَ كُلَّهَا وَغَيْرَهُ .(2/91)
فَإِنْ كُنَّا قَدْ حَذَّرْنَا زَلَّةَ الْعَالِمِ وَقِيلَ لَنَا : إنَّهَا مِنْ أَخْوَفِ مَا يُخَافُ عَلَيْنَا , وَأُمِرْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا نَرْجِعَ عَنْهُ , فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَتْهُ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يَحْكِيَهَا لِمَنْ يَتَقَلَّدُهَا , بَلْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِهَا إنْ تَيَقَّنَ صِحَّتَهَا , وَإِلَّا تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهَا ; فَكَثِيرًا مَا يُحْكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يُخَرِّجُهَا بَعْضُ الْأَتْبَاعِ عَلَى قَاعِدَةٍ مَتْبُوعِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنَّهَا تُفْضِي إلَى ذَلِكَ لَمَا الْتَزَمَهَا , وَأَيْضًا فَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ , وَإِنْ كَانَ لَازِمُ النَّصِّ حَقًّا ; لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّنَاقُضُ , فَلَازِمُ قَوْلِهِ حَقٌّ , وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ الشَّيْءَ وَيَخْفَى عَلَيْهِ لَازِمُهُ , وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَازِمُهُ لَمَا قَالَهُ ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هَذَا مَذْهَبُهُ , وَيَقُولُ مَا لَمْ يَقُلْهُ , وَكُلُّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرِيعَةِ وَقَدْرِهَا وَبِفَضْلِ الْأَئِمَّةِ وَمَقَادِيرِهِمْ وَعِلْمِهِمْ وَوَرَعِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ لِلدِّينِ تَيَقَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ شَاهَدُوا أَمْرَ هَذِهِ الْحِيَلِ وَمَا - أَفَضْتَ إلَيْهِ مِنْ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ لَقَطَعُوا بِتَحْرِيمِهَا .(2/92)
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا مِنْ الْعُلَمَاءِ بِبَعْضِ مَسَائِلِ الْحِيَلِ وَأَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ قَوَاعِدِهِمْ لَوْ بَلَغَهُمْ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لَرَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ يَقِينًا , فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْإِنْصَافِ , وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْجِعُ عَنْ رَأْيِهِ بِدُونِ ذَلِكَ , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ , وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لِسَانُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لِسَانُ الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ , وَمِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ أَنَّ أَقْوَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُنْتَشِرَةِ لَا تُتْرَكُ إلَّا بِمِثْلِهَا .(2/93)
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ الْحِيَلِ قَطْعِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَسَالِكِ الِاجْتِهَادِ ; إذْ لَوْ كَانَ مِنْ مَسَالِكِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَتَكَلَّمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالْأَئِمَّةُ فِي أَرْبَابِ الْحِيَلِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الْغَلِيظِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْهُ الْيَسِيرَ مِنْ الْكَثِيرِ , وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ ; فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ يُفْتِي بِهَا , وَيَجِبُ نَقْضُ حُكْمِهِ , وَلَا يَجُوزُ الدَّلَالَةُ لِلْمُقَلِّدِ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِهَا , وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ , وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ , كَمَا أَنَّ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّبِيذِ , وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ بَعْضِ الْمَدَنِيِّينَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُشُوشِ وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ بَلْ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلِفَ فِيهِ حُدَّ , وَهَذَا فَوْقَ الْإِنْكَارِ بِاللِّسَانِ , بَلْ عِنْدَ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُفَسَّقُ , وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ , وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا , وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ , وَلَا يُعْلَمُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ ذَلِكَ , وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ الزِّنَا يُقْتَلُ , وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ لَا يَرَوْنَ خِلَاف أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ أُمَّهُ وَابْنَتَهُ أَنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ دَرَاءَةٍ لِلْحَدِّ , بَلْ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه يُقْتَلُ ,(2/94)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا فِي هَذَا , مَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ مَعَهُمْ سُنَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةً , وَأَرْبَابُ الْحِيَلِ لَيْسَ مَعَهُمْ سُنَّةٌ , وَلَا أَثَرٌ عَنْ صَاحِبٍ , وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ . [ خَطَأُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ ] وَقَوْلُهُمْ : " إنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ لَا إنْكَارَ فِيهَا " لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; فَإِنَّ الْإِنْكَارَ إمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقَوْلِ وَالْفَتْوَى أَوْ الْعَمَلِ , أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا شَائِعًا وَجَبَ إنْكَارُهُ اتِّفَاقًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّ بَيَانَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ إنْكَارُ مِثْلِهِ , وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إنْكَارُهُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ , وَكَيْفَ يَقُولُ فَقِيهٌ لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَالْفُقَهَاءُ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ قَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً وَإِنْ كَانَ قَدْ وَافَقَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ؟ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ لَمْ تُنْكَرْ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا . وَإِنَّمَا دَخَلَ هَذَا اللَّبْسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ هِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ , كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ تَحْقِيقٌ فِي الْعِلْمِ .(2/95)
وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا مِثْلَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَيُسَوَّغُ فِيهَا - إذَا عُدِمَ فِيهَا الدَّلِيلُ الظَّاهِرُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ - الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا , وَلَيْسَ فِي قَوْلِ الْعَالِمِ : " إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ أَوْ يَقِينِيَّةٌ , وَلَا يُسَوَّغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ " طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا , وَلَا نِسْبَةٌ لَهُ إلَى تَعَمُّدِ خِلَافِ الصَّوَابِ وَالْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْخَلْفُ وَقَدْ تَيَقَّنَّا صِحَّةَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيهَا كَثِيرٌ مِثْلَ كَوْنِ الْحَامِلِ تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ , وَأَنَّ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي شَرْطٌ فِي حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ , وَأَنَّ الْغُسْلَ يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ , وَأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ حَرَامٌ , وَأَنَّ الْمُتْعَةَ حَرَامٌ , وَأَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ , وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِكَافِرٍ , وَأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ حَضَرًا وَسَفَرًا , وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي الرُّكُوعِ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ دُونَ التَّطْبِيقِ , وَأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ سُنَّةٌ , وَأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ وَأَنَّ الْوَقْتَ صَحِيحٌ لَازِمٌ , وَأَنَّ دِيَةَ الْأَصَابِعِ سَوَاءٌ , وَأَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ , وَأَنَّ الْخَاتَمَ مِنْ حَدِيدٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا , وَأَنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ بِضَرْبَةٍ(2/96)
وَاحِدَةٍ جَائِزٌ , وَأَنَّ صِيَامَ الْوَلِيِّ عَنْ الْمَيِّتِ يُجْزِئُ عَنْهُ , وَأَنَّ الْحَاجَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ , وَأَنَّ الْمُحْرِمَ لَهُ اسْتِدَامَةُ الطِّيبِ دُونَ ابْتِدَائِهِ , وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ فِي الصَّلَاةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . وَأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ , وَأَنَّ الْمُصَرَّاةَ يُرَدُّ مَعَهَا عِوَضُ اللَّبَنِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ , وَأَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ بِرُكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ , وَأَنَّ الْقَضَاءَ جَائِزٌ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ , إلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ , وَلِهَذَا صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِنَقْضِ حُكْمِ مَنْ حَكَمَ بِخِلَافِ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ , مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ قَالَ بِهَا .(2/97)
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا عُذْرَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ بَلَغَهُ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا إذَا نَبَذَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ , وَقَلَّدَ مَنْ نَهَاهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ , وَقَالَ لَهُ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ بِقَوْلِي إذَا خَالَفَ السُّنَّةَ , وَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا تَعْبَأْ بِقَوْلِي , وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وُجُوبًا لَا فُسْحَةَ لَهُ فِيهِ , وَحَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا اتِّبَاعَ الْحُجَّةِ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ هَذِهِ الْحِيَلَ , وَلَا يَدُلُّهُمْ عَلَيْهَا , وَلَوْ بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُفْتِي بِهَا وَلَا يَعْلَمُهَا , وَذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى اطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ الْقَوْمِ وَسِيرَتِهِمْ وَفَتَاوِيهمْ , هَذَا الْقَدْرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ .(2/98)
فَصْلٌ فَلْنَرْجِعْ إلَى الْمَقْصُودِ , وَهُوَ بَيَانُ بُطْلَانِ هَذِهِ الْحِيَلِ عَلَى التَّفْصِيلِ , وَأَنَّهَا لَا تَتَمَشَّى لَا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمَصَالِحِهِ وَحُكْمِهِ وَلَا عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَصْحِيحِ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ] قَالَ شَيْخُنَا : وَمِنْ الْحِيَلِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي لَا أَعْلَمُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ خِلَافًا فِي تَحْرِيمِهَا أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَاتٍ مُتَّصِلَةٍ , فَيَقُولُ لَهُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : أَقِرَّ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي بِيَدِكَ وَقْفٌ عَلَيْك مِنْ غَيْرِك , وَيُعَلِّمُونَهُ الشُّرُوطَ الَّتِي يُرِيدُ إنْشَاءَهَا , فَيَجْعَلُهَا إقْرَارًا ; فَيُعَلِّمُونَهُ الْكَذِبَ فِي الْإِقْرَارِ , وَيَشْهَدُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ , وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ , وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي أَنَّ هَذَا حَرَامٌ ; فَإِنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةٌ مِنْ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ , فَكَيْفَ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِصِحَّتِهَا ؟ ثُمَّ إنْ كَانَ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا فِي دِينِ اللَّهِ فَقَدْ عَلَّمْتُمُوهُ حَقِيقَةَ الْبَاطِلِ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا قَبْلَ الْإِقْرَارِ , وَلَا صَارَ وَقْفًا بِالْإِقْرَارِ الْكَاذِبِ , فَيَصِيرُ الْمَالُ حَرَامًا عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَإِنْ كَانَ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحًا فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تَكَلُّفِ الْكَذِبِ .(2/99)
قُلْتُ : وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ يُسَوَّغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَإِذَا وَقَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ لِصِحَّتِهِ مَسَاغٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ لَسَاغَ , وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَقْفِهِ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءٍ مُتَقَدِّمٍ فَكَذِبٌ بَحْتٌ , وَلَا يَجْعَلُهُ ذَلِكَ وَقْفًا اتِّفَاقًا , إذْ أُخِذَ الْإِقْرَارُ عَلَى حَقِيقَتِهِ , وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ تَقْلِيدَ الْإِنْسَانِ لِمَنْ يُفْتِي بِهَذَا الْقَوْلِ وَيَذْهَبُ إلَيْهِ أَقْرَبُ إلَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ تَوَصُّلِهِ إلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْإِقْرَارِ الْبَاطِلِ ; فَتَقْلِيدُ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ تَلْقِينِ الْكَذِبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ .(2/100)
فَصْلٌ وَلَهُمْ حِيلَةٌ أُخْرَى - وَهِيَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْوَقْفَ يُمَلِّكُهُ لِبَعْضِ مَنْ يَثِقُ بِهِ ثُمَّ يَقِفُهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِ - وَهَذَا لَا شَكَّ فِي قُبْحِهِ وَبُطْلَانِهِ ; فَإِنَّ التَّمْلِيكَ الْمَشْرُوعَ الْمَعْقُولَ أَنْ يَرْضَى الْمُمَلِّكِ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ , وَهُنَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْعَبْدِ وَمَنْ يُشَاهِدُهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذَا الْمُمَلِّكِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى هَذَا , وَلَا خَطَرَ لَهُ عَلَى بَالٍ , وَلَوْ سَأَلَهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَلَعَلَّهُ كَانَ لَمْ يَسْمَحْ بِهِ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ إلَّا بِوَقْفِهِ عَلَى الْمُمَلَّكِ خَاصَّةً , بَلْ قَدْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَقْفًا إمَّا بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ وَإِمَّا بِشَرْطٍ مَعْهُودٍ مُتَوَاطَأٍ عَلَيْهِ , وَهَذَا تَمْلِيكٌ فَاسِدٌ قَطْعًا , وَلَيْسَ بِهِبَةٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا هَدِيَّةٍ وَلَا وَصِيَّةٍ وَلَا إبَاحَةٍ , وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْعَوْدُ إلَى الْمُعَمِّرِ , فَإِنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ , وَشَرَطَ الْعَوْدَ , وَهُنَا لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا , وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعْنَاهُ , وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ , بَلْ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ , وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الطَّرِيقَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُغْنِيَةَ عَنْ(2/101)
هَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ .
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةً لِتَأْجِيرِ الْوَقْفِ مُدَّةً طَوِيلَةً ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ : تَحَيُّلُهُمْ عَلَى إيجَارِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا , وَقَدْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَلَّا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ; فَيُؤَجِّرُهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ قَطْعًا , فَإِنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى طُولِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ , فَإِنَّهَا مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَكَمْ قَدْ مُلِكَ مِنْ الْوُقُوفِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ وَخَرَجَ عَنْ الْوَقْفِيَّةِ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا عَلَى الْوَقْفِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ وَوَرَثَتُهُ سِنِينَ بَعْدَ سِنِينَ ؟ وَكَمْ فَاتَ الْبُطُونَ اللَّوَاحِقَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ بِالْإِيجَارِ الطَّوِيلِ ؟ وَكَمْ أُوجِرَ الْوَقْفُ بِدُونِ إجَارَةِ مِثْلِهِ لِطُولِ الْمُدَّةِ وَقَبْضِ الْأُجْرَةِ ؟ وَكَمْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْأَرْضِ أَوْ الْعَقَارُ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا ؟ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَفَاسِدُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ تُفَوِّتُ الْعَدَّ , وَالْوَاقِفُ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَهَا , وَخَشِيَ مِنْهَا بِالْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ , فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي شَرَطَهَا , فَإِيجَارُهُ أَكْثَرَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي عَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ مُخَالِفَةٌ صَرِيحَةٌ لِشَرْطِهِ , مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ بَلْ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ .(2/102)
وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبَ , هَلْ تَزُولُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ بِتَعَدُّدِ الْعُقُودِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ وَأَيُّ غَرَضٍ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَمْنَعَ الْإِجَارَةَ لِأَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يُجَوِّزُهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ , فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ ؟ وَإِذَا أَجَّرَهُ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ , أَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : وَفَّى بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ ؟ هَذَا مَنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ وَأَقْبَحِ الْحِيَلِ , وَهُوَ مُخَالِفٌ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ , وَتَعْرِيضٌ لِإِبْطَالِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ , وَأَنْ لَا يَسْتَمِرَّ نَفْعُهَا , وَأَلَّا يَصِلَ إلَى مَنْ بَعْدَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى وَمَا قَارَبَهَا , فَلَا يَحِلُّ لِمُفْتٍ أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ , وَلَا لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ , وَمَتَى حَكَمَ بِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ , اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْوَقْفِ , بِأَنْ يَخْرَبَ وَيَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ فَتَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى إيجَارِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً يَعْمُرُ فِيهَا بِتِلْكَ الْأُجْرَةِ , فَهُنَا يَتَعَيَّنُ مُخَالَفَةُ شَرْطِ الْوَاقِفِ تَصْحِيحًا لِوَقْفِهِ وَاسْتِمْرَارًا لِصَدَقَتِهِ , وَقَدْ يَكُونُ هَذَا خَيْرًا مِنْ بَيْعِهِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ , وَقَدْ يَكُونُ الْبَيْعُ أَوْ الِاسْتِبْدَالُ خَيْرًا مِنْ الْأُجْرَةِ , وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ .(2/103)
وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ التَّحَيُّلُ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَقَصْدِهِ الَّذِي يَقْطَعُ بِأَنَّهُ قَصْدُهُ مَعَ ظُهُورِ الْمَفْسَدَةِ , وَالْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ شَرْطِهِ وَلَفْظِهِ الْمُخَالِفِ لِقَصْدِهِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ , بِحَيْثُ يَكُونُ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَصْلَحَةِ الْوَاقِفِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَحُصُولِ الرِّفْقِ بِهِ مَعَ كَوْنِ الْعَمَلِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , لَا يُغَيِّرُ شَرْطَ الْوَاقِفِ , وَيَجْرِي مَعَ ظَاهِرِ لَفْظِهِ , وَإِنْ ظَهَرَ قَصْدُهُ بِخِلَافِهِ .(2/104)
وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ قِلَّةِ الْفِقْهِ ؟ بَلْ مِنْ عَدَمِهِ , فَإِذَا تَحَيَّلْتُمْ عَلَى إبْطَالِ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ فَهَلَّا تَحَيَّلْتُمْ عَلَى مَقْصُودِهِ وَمَقْصُودِ الشَّارِعِ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ الرَّاجِحَةَ بِتَخْصِيصِ لَفْظِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ أَوْ تَقْدِيمِ شَرْطِ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ فَإِنَّ شَرْطَ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ , بَلْ يَقُولُونَ هَا هُنَا : نُصُوصُ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ , وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَبْطَلْ الْكَلَامِ , وَلَيْسَ لِنُصُوصِ الشَّارِعِ نَظِيرٌ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ أَبَدًا , بَلْ نُصُوصُ الْوَاقِفِ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ , وَيَجِبُ إبْطَالُهَا إذَا خَالَفَتْ نُصُوصَ الشَّارِعِ وَإِلْغَاؤُهَا , وَلَا حُرْمَةَ لَهَا حِينَئِذٍ أَلْبَتَّةَ , وَيَجُوزُ - بَلْ يَتَرَجَّحُ - مُخَالَفَتُهَا إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهَا وَأَنْفَعُ لِلْوَاقِفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ , وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهَا وَالْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ تَسَاوِي الْأَمْرَيْنِ , وَلَا يَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ مَعَهَا , وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِيمَا بَعْدُ , وَنُبَيِّنُ مَا يَحِلُّ الْإِفْتَاءُ بِهِ وَمَا لَا يَحِلُّ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ ; إذْ الْقَصْدُ بَيَانُ بُطْلَانِ هَذِهِ الْحِيلَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَلُغَةً .(2/105)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْرَارِ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ عَادَةً ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا , وَمِثْلُهُ لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ أَصْلًا , كَمَا لَوْ حَلَفَ السُّلْطَانُ أَنْ لَا يَبِيعَ كَذَا , وَلَا يَحْرُثَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَلَا يَزْرَعُهَا , وَلَا يَخْرُجُ هَذَا مِنْ بَلَدِهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ , وَيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ , إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ بِنَفْسِهِ , وَهَذَا مِنْ أَبْرَدِ الْحِيَلِ وَأَسْمَجِهَا وَأَقْبَحِهَا , وَفِعْلُ ذَلِكَ هُوَ الْحِنْثُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ , وَلَا يُشَكُّ فِي أَنَّهُ حَانِثٌ , وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ , وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَفَظَةُ - بَلْ وَالْحَالِفُ نَفْسُهُ - أَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْأَمْرِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ ذَلِكَ , لَا عَلَى مُبَاشَرَتِهِ , وَالْحِيَلُ إذَا أَفَضْت إلَى مِثْلِ هَذَا سَمُجَتْ غَايَةَ السَّمَاجَةِ , وَيَلْزَمُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَكْتُبَ لِفُلَانٍ تَوْقِيعًا وَلَا عَهْدًا ثُمَّ أَمَرَ كُتَّابَهُ أَنْ يَكْتُبُوهُ لَهُ , فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ , سَوَاءٌ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ كَاتِبًا , وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَحْفِرَ هَذَا الْبِئْرَ , وَلَا يُكْرِيَ هَذَا النَّهَرَ , فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِحَفْرِهِ وَإِكْرَائِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ .(2/106)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ , أَوْ لَا يَسْكُنُ فِي الدَّارِ هَذِهِ السَّنَةَ , أَوْ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ , قَالُوا : يَأْكُلُ الرَّغِيفَ وَيَدَعُ مِنْهُ لُقْمَةً وَاحِدَةً , وَيَسْكُنُ السَّنَةَ كُلَّهَا إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا , وَيَأْكُلُ الطَّعَامَ كُلَّهُ إلَّا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهُ وَلَوْ أَنَّهُ لُقْمَةٌ . وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ بَارِدَةٌ , وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْحِنْثِ , وَفَعَلَ نَفْسَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ , وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : يَحْنَثُ بِفِعْلِ [ بَعْضِ ] الْمَحْلُوفِ [ عَلَيْهِ ] وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يَحْنَثُ , لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ قَطْعًا , وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا أَكَلَ لُقْمَةً مَثَلًا مِنْ الطَّعَامِ الذِّمِّيِّ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُهُ أَوْ حَبَّةً مِنْ الْقِطْفِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ , وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْقِطْفَ إلَّا حَبَّةً وَاحِدَةً مِنْهُ , وَعَالِمٌ لَا يَقُولُ هَذَا .(2/107)
ثُمَّ يَلْزَمُ هَذَا الْمُتَحَيِّلُ أَنْ يُجَوِّزَ لِلْمُكَلَّفِ فِعْلَ كُلِّ مَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ جُمْلَتِهِ فَيَفْعَلُهُ إلَّا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهُ , فَإِنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ نَظِيرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ , وَلِذَلِكَ لَا يَبَرُّ إلَّا بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ جَمِيعِهِ , لَا بِفِعْلِ بَعْضِهِ , كَمَا لَا يَكُونُ مُطِيعًا إلَّا بِفِعْلِهِ جَمِيعِهِ , وَيَحْنَثُ بِفِعْلِ بَعْضِهِ كَمَا يَعْصِي بِفِعْلِ بَعْضِهِ , فَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلُ أَنْ يُجَوِّزَ لِلْمُحْرِمِ فِي الْإِحْرَامِ حَلْقَ تِسْعَةِ أَعْشَارِ رَأْسِهِ , بَلْ وَتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعُشْرِ الْبَاقِي ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ حَلْقِ رَأْسِهِ كُلِّهِ , لَا عَنْ بَعْضِهِ , كَمَا يُفْتِي لِمَنْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَنْ يَحْلِقَهُ إلَّا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهُ . وَتَأَمَّلْ لَوْ فَعَلَ الْمَرِيضُ هَذَا فِيمَا نَهَاهُ الطَّبِيبُ عَنْ تَنَاوُلِهِ , هَلْ يُعَدُّ قَابِلًا مِنْهُ ؟ أَوْ لَوْ فَعَلَ مَمْلُوكُ الرَّجُلِ أَوْ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ ذَلِكَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ , هَلْ يَكُونُونَ مُطِيعِينَ لَهُ أَمْ مُخَالِفِينَ ؟ وَإِذَا تَحَيَّلَ أَحَدُهُمْ عَلَى نَقْضِ غَرَضِ الْآمِرِ وَإِبْطَالِهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ , هَلْ كَانَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَحْمَدُهُ عَلَيْهِ أَوْ يَعْذِرُهُ ؟ وَهَلْ يَعْذِرُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يُعَامِلُهُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ ؟ فَكَيْفَ يُعَامِلُ هُوَ بِهَذَا مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ؟(2/108)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَا لَوْ أَرَادَ الْأَبُ إسْقَاطَ حَضَانَةِ الْأُمِّ أَنْ يُسَافِرَ إلَى غَيْرِ بَلَدِهَا , فَيَتْبَعُهُ الْوَلَدُ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مُنَاقِضَةٌ لِمَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ ; فَإِنَّهُ جَعَلَ الْأُمَّ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ مِنْ الْأَبِ مَعَ قُرْبِ الدَّارِ وَإِمْكَانِ اللِّقَاءِ كُلَّ وَقْتٍ لَوْ قَضَى بِهِ لِلْأَبِ , وَقَضَى أَنْ لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا , وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَمَنَعَ أَنْ تُبَاعَ الْأُمُّ دُونَ وَلَدِهَا وَالْوَلَدُ دُونَهَا , وَإِنْ كَانَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ , فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا التَّحَيُّلِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا تَفْرِيقًا تَعِزُّ مَعَهُ رُؤْيَتُهُ وَلِقَاؤُهُ وَيَعِزُّ عَلَيْهَا الصَّبْرُ عَنْهُ وَفَقْدُهُ ؟ وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ , بَلْ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَقُّ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْأُمِّ : سَافَرَ الْأَبُ أَوْ أَقَامَ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْأُمِّ : { أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي } فَكَيْفَ يُقَالُ : أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ يُسَافِرْ الْأَبُ ؟ وَأَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ فَتَاوَى أَصْحَابِهِ أَوْ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ ؟ فَلَا نَصَّ وَلَا قِيَاسَ وَلَا مَصْلَحَةَ .(2/109)
فَصْلٌ : ( إبْطَالُ حِيلَةً لِجَعْلِ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ نَافِذَةً ) : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا أَرَادَ حِرْمَانَ امْرَأَتِهِ [ مِنْ ] الْمِيرَاثِ , أَوْ كَانَتْ تَرِكَتُهُ كُلُّهَا عَبِيدًا وَإِمَاءً فَأَرَادَ جَعْلَ تَدْبِيرِهِمْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ , أَنْ يَقُولَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى : إذَا مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَرَضِي بِسَاعَةٍ ثَلَاثًا , وَيَقُولُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ : إذَا مِتُّ فِي مَرَضِي هَذَا فَأَنْتُمْ عُتَقَاءُ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ , وَحِينَئِذٍ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ . وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ ; فَإِنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ فِي حَالِ مَرَضِ مَوْتِهِ , وَلَمْ يُقَارِنْهُ أَثَرُهُ , وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ لَكَانَ الْعِتْقُ مِنْ الثُّلُثِ وَالطَّلَاقُ غَيْرُ مَانِعٍ لِلْمِيرَاثِ , مَعَ مُقَارَنَةِ أَثَرِهِ لَهُ , وَقُوَّةِ الْمُنَجَّزِ وَضَعْفِ الْمُعَلَّقِ , وَأَيْضًا فَالشَّرْطُ هُوَ مَوْتُهُ فِي مَرَضِهِ , وَالْجَزَاءُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ هُوَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ , وَالْجَزَاءُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْبِقَ شَرْطَهُ ; إذْ فِي ذَلِكَ إخْرَاجُ الشَّرْطِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَحُكْمِهِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْحِيلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ .(2/110)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَأْخِيرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا دِينَارٌ رَدِيءٌ وَمَعَ الْآخَرِ نِصْفُ دِينَارٍ جَيِّدٍ , فَأَرَادَ بَيْعَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ , قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : الْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهُ دِينَارًا بِدِينَارٍ فِي الذِّمَّةِ , ثُمَّ يَأْخُذَ الْبَائِعُ الدِّينَارَ الَّذِي يُرِيدُ شِرَاءَهُ بِالنِّصْفِ , فَيُرِيدُ الْآخَرُ دِينَارًا عِوَضَهُ , فَيَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الدِّينَارِ وَفَاءً , ثُمَّ يَسْتَقْرِضُهُ مِنْهُ , فَيَبْقَى لَهُ فِي ذِمَّتِهِ نِصْفُ دِينَارٍ , ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَفَاءً عَنْ قَرْضِهِ , فَيَبْرَأُ مِنْهُ , وَيَفُوزُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا كَانَ مَعَ الْآخَرِ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِيلَةِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ دِينَارًا يُوَفِّيهِ إيَّاهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ , بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ نِصْفُ دِينَارٍ وَيُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ إلَيْهِ دِينَارًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يُسْلِمَ إلَيْهِ دِينَارًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ , ثُمَّ يُوَفِّيهِ نِصْفَ الدِّينَارِ , ثُمَّ يَعُودُ فَيَسْتَقْرِضُهُ مِنْهُ , ثُمَّ يُوَفِّيهِ إيَّاهُ عَمَّا لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ , فَيَتَفَرَّقَانِ وَقَدْ بَقِيَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ نِصْفُ دِينَارٍ .(2/111)
وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مِنْ أَقْبَحِ الْحِيَلِ ; فَإِنَّهُمَا لَا يَخْرُجَانِ بِهَا عَنْ بَيْعِ دِينَارٍ بِنِصْفِ دِينَارٍ , وَلَا عَنْ تَأْخِيرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ , وَلَكِنْ تَوَصَّلَا إلَى ذَلِكَ بِالْقَرْضِ الَّذِي جَعَلَا صُورَتَهُ مُبِيحَةً لِصَرِيحِ الرِّبَا , وَلِتَأْخِيرِ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ , وَهَذَا غَيْرُ الْقَرْضِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ , وَهُوَ قَرْضٌ لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ , وَإِنَّمَا اتَّخَذَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ تَلَاعُبًا بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ , وَاِتِّخَاذًا لِآيَاتِهِ هُزُوًا , وَإِذَا كَانَ الْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ النَّفْعَ رِبًا عِنْدَ صَاحِبِ الشَّرْعِ , فَكَيْفَ بِالْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ صَرِيحَ الرِّبَا وَتَأْخِيرُ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ ؟ .(2/112)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى إسْقَاطِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ حَقًّا لِلشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ , وَالتَّحَيُّلُ لِإِبْطَالِهَا مُنَاقِضٌ لِهَذَا الْغَرَضِ , وَإِبْطَالٌ لِهَذَا الْحُكْمِ بِطَرِيقِ التَّحَيُّلِ . وَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا مِنْ الْحِيَلِ . مِنْهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مِقْدَارِ الثَّمَنِ , ثُمَّ عِنْدَ الْعَقْدِ يَصْبِرُهُ صُبْرَةً غَيْرَ مَوْزُونَةٍ , فَلَا يَعْرِفُ الشَّفِيعُ مَا يَدْفَعُ , فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ الثَّمَنِ , فَإِنْ نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ , وَإِنْ حَلَفَ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ بِقِيمَتِهِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَهَبَ الشِّقْصَ لِلْمُشْتَرِي , ثُمَّ يَهَبَهُ الْمُشْتَرِي مَا يُرْضِيهِ , وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ , وَهَذَا بَيْعٌ وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظَا بِهِ , فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِنَظِيرِ الْمَوْهُوبِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ الشِّقْصَ , وَيَضُمَّ إلَيْهِ سِكِّينًا أَوْ مَنْدِيلًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ , فَيَصِيرُ حِصَّةُ الشِّقْصِ مِنْ الثَّمَنِ مَجْهُولَةً . وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ , بَلْ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِقِيمَتِهِ كَمَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الْآخَرِ , فَإِنَّهُ يَأْخُذُ [ هـ ] بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْأَجْزَاءِ , وَإِلَّا فَبِقِيمَتِهِ .(2/113)
وَهَذَا الشِّقْصُ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا ; فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الشَّفِيعَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ , فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهُ بِالْحِيلَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ الشِّقْصَ بِأَلْفِ دِينَارٍ , ثُمَّ يُصَارِفَهُ عَنْ كُلِّ دِينَارٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَإِذَا أَرَادَ أَخْذَهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تُسْقِطُ الشُّفْعَةَ , وَإِذَا أَرَادَ أَخْذَهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَتَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ , وَلَا عِبْرَةَ بِمَا أَظْهَرَاهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ ; وَلِهَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِأَلْفِ دِينَارٍ , وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ; فَاَلَّذِي يَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ عِنْدَ الْأَخْذِ . هَذَا مَحْضُ الْعَدْلِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَلَا تَحْتَمِلُ الشَّرِيعَةُ سِوَاهُ . وَمِنْهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ بَائِعُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِهِ , ثُمَّ يَبِيعُهُ الشِّقْصَ بِالْأَلْفِ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تُبْطِلُ الشُّفْعَةَ , وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ , وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدِ .(2/114)
وَمِنْهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ الشِّقْصَ بِأَلْفٍ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً , ثُمَّ يُبْرِئُهُ الْبَائِعُ مِنْ تِسْعِ مِائَةٍ . وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ , وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ , وَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ . وَمِنْهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ , ثُمَّ يَهَبَ لَهُ بَقِيَّةَ الشِّقْصِ . وَهَذَا لَا يُسْقِطُهَا , وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِالثَّمَنِ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا , وَالْمَوْهُوبُ هُوَ الْمَبِيعُ بِعَيْنِهِ , وَلَا تُغَيَّرُ حَقَائِقُ الْعُقُودِ وَأَحْكَامُهَا الَّتِي شُرِعَتْ فِيهَا بِتَغَيُّرِ الْعِبَارَةِ . وَلَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يُغَيِّرَ حُكْمَ الْعَقْدِ بِتَغْيِيرِ عِبَارَتِهِ فَقَطْ مَعَ قِيَامِ حَقِيقَتِهِ , وَهَذَا لَوْ أَرَادَ مِنْ الْبَائِعِ أَنْ يَهَبَهُ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ الشِّقْصِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ , فَكَيْفَ يَهَبُهُ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفٍ بِلَا عِوَضٍ ؟ وَكَيْفَ يَشْتَرِي مِنْهُ . الْآخَرُ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا سَفَهٌ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ , وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْحِيلَةِ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ , فَقَالَ : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي ذَلِكَ , وَلَا فِي إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي هَذِهِ الْحِيَلِ وَأَشْبَاهِهَا : مَنْ يَخْدَعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ , وَالْحِيلَةُ خَدِيعَةٌ .(2/115)
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَحِلُّ الْخَدِيعَةُ لِمُسْلِمٍ } وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْمُخَادِعِينَ , وَالْمُتَحَيِّلُ مُخَادِعٌ ; لِأَنَّ الشُّفْعَةَ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ , فَلَوْ شُرِعَ التَّحَيُّلُ لِإِبْطَالِهَا لَكَانَ عَوْدًا عَلَى مَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ بِالْإِبْطَالِ , وَلَلَحِقَ الضَّرَرُ الَّذِي قَصَدَ إبْطَالَهُ .(2/116)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَفْوِيتِ حَقِّ الْقِسْمَةِ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِ الْقِسْمَةِ فِي الْأَرْضِ الْقَابِلَةِ لَهَا , بِأَنْ يَقِفَ الشَّرِيكُ مِنْهَا سَهْمًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ سَهْمٍ مَثَلًا عَلَى مَنْ يُرِيدُ , فَيَصِيرُ الشَّرِيكُ شَرِيكًا فِي الْوَقْفِ , وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ ; فَتَبْطُلُ . وَهَذِهِ حِيلَةٌ فَاسِدَةٌ بَارِدَةٌ لَا تُبْطِلُ حَقَّ الشَّرِيكِ مِنْ الْقِسْمَةِ , وَتَجُوزُ الْقِسْمَةُ وَلَوْ وَقَفَ حِصَّتَهُ كُلَّهَا ; فَإِنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقٍّ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مُعَاوَضَةً , وَهِيَ غَيْرُ الْبَيْعِ حَقِيقَةً وَاسْمًا وَحُكْمًا وَعُرْفًا , وَلَا يُسَمَّى الْقَاسِمُ بَائِعًا لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا , وَلَا يُقَالُ لِلشَّرِيكَيْنِ إذَا تَقَاسَمَا تَبَايَعَا , وَلَا يُقَالُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّهُ قَدْ بَاعَ مِلْكَهُ , وَلَا يَدْخُلُ الْمُتَقَاسِمَانِ تَحْتَ نَصِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّصُوصِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِلْبَيْعِ , وَلَا يُقَالُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ إذَا أَفْرَزَ الْوَقْفَ وَقَسَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ إنَّهُ قَدْ بَاعَ الْوَقْفَ , وَلِلْآخَرِ إنَّهُ قَدْ اشْتَرَى الْوَقْفَ , وَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْقِسْمَةِ وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَوَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؟ وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا أُجْبِرَ الشَّرِيكُ عَلَيْهَا إذَا طَلَبَهَا شَرِيكُهُ ; فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ , وَيَلْزَمُ إخْرَاجُ الْقُرْعَةِ , بِخِلَافِ الْبَيْعِ , وَيَتَقَدَّرُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ فِيهَا بِقَدْرِ النَّصِيبِ الْآخَرِ إذَا تَسَاوَيَا , وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْبَيْعِ بِاسْمِهَا وَحَقِيقَتِهَا وَحُكْمِهَا .(2/117)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَصْحِيحِ الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْقَوْلِ بِفَسَادِهَا ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى تَصْحِيحِ الْمُزَارَعَةِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا , بِأَنْ يَدْفَعَ الْأَرْضَ إلَى الْمُزَارِعِ وَيُؤَجِّرَهُ نِصْفَهَا مَشَاعًا مُدَّةً مَعْلُومَةً يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لِلْمُؤَجِّرِ النِّصْفَ الْآخَرَ بِبَذْرِهِ تِلْكَ الْمُدَّةِ , وَيَحْفَظَهُ وَيَسْقِيَهُ وَيَحْصُدَهُ وَيُذَرِّيَهُ , فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ أُخْرِجَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا نِصْفَيْنِ نِصْفًا مِنْ الْمَالِكِ وَنِصْفًا مِنْ الْمُزَارِعِ , ثُمَّ خَلَطَاهُ , فَتَكُونُ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ , فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ ثُلُثَا الْغَلَّةِ آجَرَهُ ثُلُثَ الْأَرْضِ مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لَهُ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ ثُلُثَيْ الْأَرْضِ وَيُخْرِجَانِ الْبَذْرَ مِنْهُمَا أَثْلَاثًا وَيَخْلِطَانِهِ , وَإِنْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثُلُثَا الْبَذْرِ اسْتَأْجَرَ ثُلُثَيْ الْأَرْضِ بِزَرْعِ الثُّلُثِ الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ .(2/118)
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْحِيلَةَ الطَّوِيلَةَ الْبَارِدَةَ الْمُتْعِبَةَ , وَتَرْكَ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَأَنَّهَا رَأْيُ عَيْنٍ , وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ , وَصَحَّ فِعْلُهَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ صِحَّةً لَا يُشَكُّ فِيهَا , كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ , فَمَا مِثْلُ هَذَا الْعُدُولِ عَنْ طَرِيقَةِ الْقَوْمِ إلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ الطَّوِيلَةِ السَّمِجَةِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ , فَقِيلَ لَهُ : هَذِهِ الطَّرِيقُ مَسْدُودَةٌ , وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَحُجَّ فَاذْهَبْ إلَى الشَّامِ ثُمَّ مِنْهَا إلَى الْعِرَاقِ , ثُمَّ حُجَّ عَلَى دَرْبِ الْعِرَاقِ وَقَدْ وَصَلْتَ . فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبَ , كَيْفَ تُسَدُّ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْقَرِيبَةُ السَّهْلَةُ الْقَلِيلَةُ الْخَطَرِ الَّتِي سَلَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَيَدُلُّ عَلَى الطُّرُقِ الطَّوِيلَةِ الصَّعْبَةِ الْمَشَقَّةِ الْخَطِرَةِ الَّتِي لَمْ يَسْلُكْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ؟ فَلِلَّهِ الْعَظِيمِ عَظِيمُ حَمْدٍ كَمَا أَهْدَى لَنَا نِعَمًا غِزَارَا وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْحِيَلِ إذْ كَانَتْ صَحِيحَةً جَائِزَةً , وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَاطِلَةً مُحَرَّمَةً فَتِلْكَ لَهَا شَأْنٌ آخَرُ , وَهِيَ طَرِيقٌ إلَى مَقْصِدٍ آخَرَ غَيْرَ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .(2/119)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْأَبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تُسْقِطُ الْحَقَّ إذَا أَرَادَ الِابْنُ مَنْعَ الْأَبِ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَهُ إيَّاهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِغَيْرِهِ , ثُمَّ يَسْتَقِيلَهُ إيَّاهُ , وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أَرَادَتْ مَنْعَ الزَّوْجِ مِنْ الرُّجُوعِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ بَاعَتْهُ ثُمَّ اسْتَقَالَتْهُ . وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فَإِنَّ الْمَحْذُورَ إبْطَالُ حَقٍّ لِغَيْرٍ مِنْ الْعَيْنِ , وَهَذَا لَا يُبْطِلُ لِلْغَيْرِ حَقًّا , وَالزَّائِلُ الْعَائِدُ كَاَلَّذِي لَمْ يَزُلْ , وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ زَوَالُهُ إنَّمَا جُعِلَ ذَرِيعَةً وَصُورَةً إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ ; فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ . يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَقَّ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ تَعَلُّقًا قَدَّمَ الشَّارِعُ مُسْتَحِقَّهُ عَلَى الْمَالِكِ لِقُوَّتِهِ , وَلَا يَكُونُ صُورَةُ إخْرَاجِهِ عَنْ يَدِ الْمَالِكِ إخْرَاجًا لَا حَقِيقَةً لَهُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي أَثْبَتَ الشَّارِعُ بِهِ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ , بَلْ لَوْ كَانَ الْإِخْرَاجُ حَقِيقَةً ثُمَّ عَادَ لَعَادَ حَقُّ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَخْذِ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَزَوَالِ مَانِعِهِ , وَالْحُكْمُ إذَا كَانَ لَهُ مُقْتَضٍ فَمَنَعَ مَانِعٌ مِنْ إعْمَالِهِ ثُمَّ زَالَ الْمَانِعُ اقْتَضَى الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ .(2/120)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِبَعْضِ الْمِيرَاثِ , وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ , وَأَنَّ عَطِيَّتَهُ فِي مَرَضِهِ وَصِيَّةٌ ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ : كُنْتُ وَهَبْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا فِي صِحَّتِي , أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ , فَيَتَقَدَّمُ بِهِ . وَهَذَا بَاطِلٌ , وَالْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لَا يَصِحُّ لِلتُّهْمَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , بَلْ مَالِكٌ يَرُدُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ إذَا ظَهَرَتْ التُّهْمَةُ , وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ , وَأَمَّا إقْرَارُهُ أَنَّهُ كَانَ وَهَبَهُ إيَّاهُ فِي صِحَّتِهِ فَلَا يُقْبَلُ أَيْضًا كَمَا لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ لَهُ بِالدَّيْنِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إقْرَارِهِ لَهُ بِالدَّيْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ , وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَرِيضُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ عَقْدِ التَّبَرُّعِ الْمَذْكُورِ ; فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ , لِاتِّحَادِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِبُطْلَانِ الْإِنْشَاءِ , فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي الْإِقْرَارِ , وَبِهَذَا يَزُولُ النَّقْضُ بِالصُّوَرِ الَّتِي يَمْلِكُ فِيهَا الْإِقْرَاءَ دُونَ الْإِنْشَاءِ , فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنْ الْإِنْشَاءِ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ فِي الْإِقْرَارِ , فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ .(2/121)
فَصْلٌ وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحَابِيَ وَارِثَهُ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَبِيعَ أَجْنَبِيًّا شَفِيعُهُ وَارِثُهُ شِقْصًا بِدُونِ ثَمَنِهِ , لِيَأْخُذَهُ وَارِثُهُ بِالشُّفْعَةِ . فَمَتَى قَصَدَ ذَلِكَ حُرِّمَتْ الْمُحَابَاةُ الْمَذْكُورَةُ , وَكَانَ لِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهَا إذَا كَانَتْ حِيلَةً عَلَى مُحَابَاةِ الْوَارِثِ , وَهَذَا كَمَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ لَهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّخَذُ حِيلَةً لِتَخْصِيصِهِ . وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ , وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ , إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ حِيلَةً , فَأَمَّا إذَا كَانَ حِيلَةً فَأُصُولُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ , وَمَنْ اعْتَبَرَ سَدَّ الذَّرَائِعِ فَأَصْلُهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْأَخْذِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْحِيلَةَ , فَإِنْ قَصَدَ التَّحَيُّلَ امْتَنَعَ الْأَخْذُ لِذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ امْتَنَعَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ .(2/122)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ أَرْشِ الْجِنَايَاتِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا أَوْضَحَ رَأْسَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ مِنْ الْإِبِلِ , فَإِذَا أَرَادَ جَعَلَهَا خَمْسَةً فَلْيُوضِحْهُ ثَالِثَةً تَخْرِقُ مَا بَيْنَهُمَا . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَعَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فَإِنَّهُمَا لَا تُسْقِطُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ , فَإِنَّ الْعَشْرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِالِانْدِمَالِ , فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ فَهِيَ مُوضِحَةٌ ثَالِثَةٌ , وَعَلَيْهِ دِيَتُهَا , فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ أَرْشُ الْمُوضِحَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ حَتَّى صَارَ الْكُلُّ وَاحِدَةً مِنْ جَانٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَرَتْ الْجِنَايَةُ حَتَّى خَرَقَتْ مَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَاحِدَةً . وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا بَعْدَ أُصْبُعٍ مِنْ امْرَأَةٍ حَتَّى قَطَعَ أَرْبَعًا ; فَإِنَّهُ يَجِبُ عِشْرُونَ , وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثِ وَجَبَ ثَلَاثُونَ , وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَ الرَّابِعَةَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهَا عَشْرَةٌ , كَمَا لَوْ تَعَدَّدَ الْجَانِي فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَرْشُ جِنَايَتِهِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَبَعْدَهُ , وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ أَطْرَافَ رَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَاتٌ , فَإِنْ انْدَمَلَتْ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ مَعَ تِلْكَ الدِّيَاتِ دِيَةُ النَّفْسِ , وَلَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ , كَمَا لَوْ قَطَعَهُ عُضْوًا عُضْوًا حَتَّى مَاتَ .(2/123)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيَلٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْحِيَلُ الَّتِي فُتِحَتْ لِلسُّرَّاقِ وَاللُّصُوصِ الَّتِي لَوْ صَحَّتْ لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ أَبَدًا , وَلَعَمَّ الْفَسَادُ , وَتَتَابَعَ السُّرَّاقُ فِي السَّرِقَةِ . فَمِنْهَا : أَنْ يَنْقُبَ أَحَدُهُمَا السَّطْحَ وَلَا يَدْخُلَ , ثُمَّ يُدْخِلَ عَبْدَهُ أَوْ شَرِيكَهُ فَيُخْرِجَ الْمَتَاعَ مِنْ السَّطْحِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَنْزِلَ أَحَدُهُمَا مِنْ السَّطْحِ , فَيَفْتَحَ الْبَابَ مِنْ دَاخِلٍ , وَيَدْخُلُ الْآخَرُ فَيُخْرِجُ الْمَتَاعَ . وَمِنْهَا : أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مِلْكُهُ , وَأَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ عَبْدُهُ , فَبِمُجَرَّدِ مَا يَدَّعِي ذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ , وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ , وَالنَّاسُ تَعْرِفُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ , وَأَبْلُغُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْعَبْدُ السَّارِقُ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لِسَيِّدِهِ وَكَذَّبَهُ السَّيِّدُ , قَالُوا : فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ , بَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى . وَمِنْهَا : أَنْ يَبْلَعَ الْجَوْهَرَةَ أَوْ الدَّنَانِيرَ وَيَخْرُجَ بِهَا . وَمِنْهَا : أَنْ يُغَيِّرَ هَيْئَةَ الْمَسْرُوقِ بِالْحِرْزِ ثُمَّ يَخْرُجَ بِهِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَدْخَلَهُ دَارِهِ , وَفَتَحَ لَهُ بَابَ دَارِهِ , فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ وَإِنْ كَذَّبَهُ , إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَقِيقَتُهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقٍ أَلْبَتَّةَ .(2/124)
وَكُلُّ هَذِهِ حِيَلٌ بَاطِلَةٌ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ , وَلَا تُثِيرُ أَدْنَى شُبْهَةٍ , وَمُحَالٌ أَنْ تَأْتِيَ شَرِيعَةٌ بِإِسْقَاطِ عُقُوبَةِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ بِهَا , بَلْ وَلَا سِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ ; فَإِنَّ الشَّرَائِعَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ , وَفِي هَذِهِ الْحِيَلِ أَعْظَمُ الْفَسَادِ , وَلَوْ أَنَّ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ وَضَعَ عُقُوبَةً عَلَى جَرِيمَةٍ مِنْ الْجَرَائِمِ لِمَصْلَحَةِ رَعِيَّتِهِ , ثُمَّ أَسْقَطَهَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ عُدَّ مُتَلَاعِبًا .(2/125)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْحِيلَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَدِّ الزِّنَا بِالْكُلِّيَّةِ , وَتُرْفَعُ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْأَرْضِ , بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ الْمَرْأَةَ لِتَطْوِيَ لَهُ ثِيَابَهُ , أَوْ تُحَوِّلَ لَهُ مَتَاعًا مِنْ جَانِبِ الدَّارِ إلَى جَانِبٍ آخَرَ , أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا لِنَفْسِ الزِّنَا , ثُمَّ يَزْنِي بِهَا ; فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ . وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَزْنِيَ بِأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ ابْنَته أَوْ خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَلْيَعْقِدْ عَلَيْهَا عَقْدَ النِّكَاحِ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ , ثُمَّ يَطَؤُهَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُحْصَنَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَزْنِيَ وَلَا يُحَدَّ فَلْيَرْتَدَّ ثُمَّ يُسْلِمْ فَإِنَّهُ إذَا زَنَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَبَدًا حَتَّى يَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا أَوْ وَطْئًا جَدِيدًا . وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ إذَا زَنَى بِأُمِّهِ وَخَافَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَلْيَقْتُلْهَا , فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ , وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَا وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْقَدْحُ فِيهِمْ فَلْيُصَدِّقْهُمْ . فَإِذَا صَدَقَهُمْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ . وَلَا يَخْفَى أَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ وَنِسْبَتُهَا إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ , وَهَلْ هِيَ نِسْبَةٌ مُوَافِقَةٌ أَوْ هِيَ نِسْبَةٌ مُنَاقِضَةٌ ؟ .(2/126)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْرَارِ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا ثُمَّ غَيَّرَهُ عَنْ حَالِهِ الْأَوَّلِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْقَمْحِ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَطْحَنَهُ وَيَعْجِنَهُ وَيَأْكُلَهُ خُبْزًا , وَطَرْدُ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الشَّاةَ فَلْيَذْبَحْهَا وَلْيَطْبُخْهَا ثُمَّ يَأْكُلْهَا , وَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ النَّخْلَةَ فَلْيَجِذَّ ثَمَرَهَا ثُمَّ يَأْكُلْهَا , فَإِنْ طَرَدُوا ذَلِكَ فَمِنْ الْفَضَائِحِ الشَّنِيعَةِ , وَإِنْ فَرَّقُوا تَنَاقَضُوا , فَإِنْ قَالُوا : " الْحِنْطَةُ يُمْكِنُ أَكْلُهَا صِحَاحًا بِخِلَافِ الشَّاةِ وَالنَّخْلَةِ , فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهَا ذَلِكَ " قِيلَ : وَالْعَادَةُ أَنَّ الْحِنْطَةَ لَا يَأْكُلُهَا صِحَاحًا إلَّا الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ , وَإِنَّمَا تُؤْكَلُ خُبْزًا , فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَ الْحَالِفِ وَكُلِّ عَاقِلٍ .(2/127)
فَصْلٌ : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ الْمُضَاهِيَةِ لِلْحِيلَةِ الْيَهُودِيَّةِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ هَذَا الشَّحْمَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُذِيبَهُ ثُمَّ يَأْكُلَ . وَهَذَا كُلُّهُ تَصْدِيقٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ , قَالُوا : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟ } وَتَصْدِيقُ قَوْلِهِ : { لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَا أَخَذَ الْأُمَمُ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ , حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى عَلَانِيَةً لَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُهُ } . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ فِي الشُّحُومِ هِيَ حِيلَةُ الْيَهُودِ بِعَيْنِهَا , بَلْ أَبْلَغُ مِنْهَا , فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَأْكُلُوا الشَّحْمَ بَعْدَ إذَابَتِهِ وَإِنَّمَا أَكَلُوا ثَمَنَهُ .
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ الطَّوْلِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ أَنْ يُمَلِّكَ مَالَهُ لِوَلَدِهِ ثُمَّ يَعْقِدَ عَلَى الْأَمَةِ ثُمَّ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ مِنْهُ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تَرْفَعُ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي حُرِّمَ لِأَجْلِهَا نِكَاحُ الْأَمَةِ , وَلَا تُخَفِّفُهَا , وَلَا تَجْعَلُهُ عَادِمًا لِلطَّوْلِ ; فَلَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } وَهَذِهِ الْحِيلَةُ حِيلَةٌ عَلَى اسْتِبَاحَةِ نَفْسِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى .(2/128)
فَصْلٌ : وَمِنْهَا لَوْ عَلَى كَافِرٌ بِنَاءَهُ عَلَى مُسْلِمٍ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ , فَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنْ يُعَلِّيَهَا مُسْلِمٌ مَا شَاءَ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا الْكَافِرُ مِنْهُ فَيَسْكُنُهَا . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ وَإِنْ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْأَصْحَابِ فَهِيَ مِمَّا أُدْخِلَتْ فِي الْمَذْهَبِ غَلَطًا مَحْضًا , وَلَا تُوَافِقُ أُصُولَهُ وَلَا فُرُوعَهُ ; فَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَدَمُ تَمْكِينِهِ مِنْ سُكْنَاهَا ; فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِ الْبِنَاءِ , وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي تَرَفُّعِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ .
فَصْلٌ : [ إسْقَاطُ حِيلَةٍ لِإِبْرَاءِ الْغَاصِبِ مِنْ الضَّمَانِ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ إذَا غَصَبَهُ طَعَامًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ وَلَا يُعْلِمَهُ بِهِ , فَلْيَدْعُهُ إلَى دَارِهِ , ثُمَّ يُقَدِّمُ لَهُ ذَلِكَ الطَّعَامَ , فَإِذَا أَكَلَهُ بَرِئَ الْغَاصِبُ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ , فَإِنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ إيَّاهُ , وَلَا مَكَّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ , فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ رَادًّا لِعَيْنِ مَالِهِ إلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ لَوْ أَهْدَاهُ إلَيْهِ فَقَبِلَهُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالُهُ ؟ قِيلَ : إنْ خَافَ مِنْ إعْلَامِهِ بِهِ ضَرَرًا يَلْحَقُهُ مِنْهُ بَرِئَ بِذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ , وَلَا سِيَّمَا إنْ كَافَأَهُ عَلَى الْهَدِيَّةِ فَقَبِلَ , فَهَذَا لَا يَبْرَأُ قَطْعًا .(2/129)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيَلٍ فِي الْأَيْمَانِ ] مِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ بِلَا شَكٍّ الْحِيَلُ الَّتِي يُفْتِي بِهَا مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ ثُمَّ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّهُ , فَيَتَحَيَّلُ لَهُ حَتَّى يَفْعَلَهُ بِلَا حِنْثٍ , وَذَكَرُوا لَهَا صُوَرًا : أَحَدَهَا : أَنْ يَحْلِفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ , ثُمَّ يَحْلِفُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَيَأْكُلَنَّهُ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْكُلَهُ إلَّا لُقْمَةً مِنْهُ , فَلَا يَحْنَثُ . وَمِنْهَا : لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الْجُبْنَ , ثُمَّ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّهُ , قَالُوا : فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْكُلَهُ بِالْخُبْزِ , وَيَبَرَّ وَلَا يَحْنَثَ . وَمِنْهَا : لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ , ثُمَّ حَلَفَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَيَلْبَسَنَّهُ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقْطَعَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا ثُمَّ يَلْبَسُهُ , فَلَا يَحْنَثُ . وَطَرْدُ قَوْلِهِمْ أَنْ يُنْسِلَ مِنْهُ خَيْطًا ثُمَّ يَلْبَسَهُ . وَلَا يَخْفَى أَمْرُ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَبُطْلَانُهَا , وَأَنَّهَا مِنْ أَقْبَحِ الْخِدَاعِ وَأَسْمَجِهِ , وَلَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَلَا فُرُوعِهِ وَلَا أُصُولِ الْأَئِمَّةِ ; فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بِتَرْكِ الْبَعْضِ لَا يُعَدُّ آكِلًا وَلَا لَابِسًا فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالْحَلِفِ لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ إنْ عُدَّ فَاعِلًا وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ , وَإِنْ لَمْ يُعَدَّ فَاعِلًا وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ , فَأَمَّا أَنْ يُعَدَّ فَاعِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الثُّبُوتِ وَغَيْرِ فَاعِلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّفْيِ فَتَلَاعُبٌ .(2/130)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيَلٍ فِي الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوِهِمَا ] وَمِنْهَا الْحِيَلُ الَّتِي تُبْطِلُ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ وَالطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ بِالْكُلِّيَّةِ , وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْحِيلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ , كَقَوْلِهِ : إنْ تَظَاهَرْتُ مِنْكِ أَوْ آلَيْتُ مِنْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا , فَلَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظِهَارٌ وَلَا إيلَاءٌ , وَكَذَلِكَ يَقُولُ : إنْ أَعْتَقْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ , وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ الْبَيْعِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُ هَذِهِ الْحِيَلِ كُلِّهَا .(2/131)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِحُسْبَانِ الدَّيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ , وَقَدْ أَفْلَسَ غَرِيمُهُ وَأَيِسَ مِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ , وَأَرَادَ أَنْ يَحْسِبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ , فَيَصِيرُ مَالِكًا لِلْوَفَاءِ , فَيُطَالِبُهُ حِينَئِذٍ بِالْوَفَاءِ , فَإِذَا أَوْفَاهُ بَرِئَ وَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْ الدَّافِعِ . وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ , سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ أَوْ مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ بِنِيَّةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ دَيْنِهِ , فَكُلُّ هَذَا لَا يُسْقِطُ عَنْهُ الزَّكَاةَ , وَلَا يُعَدُّ مَخْرَجًا لَهَا لَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا كَمَا لَوْ أَسْقَطَ دَيْنَهُ وَحَسَبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ .(2/132)
قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِرَهْنٍ , وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ , وَلِهَذَا الرَّجُلِ زَكَاةُ مَالٍ , قَالَ : يُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ , فَيَدْفَعُ إلَيْهِ رَهْنَهُ , وَيَقُولُ لَهُ : الدَّيْنُ الَّذِي لِي عَلَيْكَ هُوَ لَكَ , وَيَحْسِبُهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ , قَالَ : لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : فَيَدْفَعُ إلَيْهِ زَكَاتَهُ فَإِنْ رَدَّهُ إلَيْهِ قَضَى مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ مَالِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ; وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - وَقِيلَ لَهُ : فَإِنْ أَعْطَاهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ ؟ - قَالَ : إذَا كَانَ بِحِيلَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي , قِيلَ لَهُ : فَإِنْ اسْتَقْرَضَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ إيَّاهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ وَحَسِبَهَا مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : إذَا أَرَادَ بِهَذَا إحْيَاءَ مَالِهِ فَلَا يَجُوزُ , وَمُطْلَقُ كَلَامِهِ يَنْصَرِفُ إلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ ; فَيَحْصُلُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الْغَرِيمِ جَائِزٌ , سَوَاءٌ دَفَعَهَا ابْتِدَاءً أَوْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ثُمَّ دَفَعَ مَا اسْتَوْفَاهُ إلَيْهِ , إلَّا أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ بِالدَّفْعِ إحْيَاءَ مَالِهِ وَاسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِلْمُسْتَحِقِّ , فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الدَّافِعِ , يَفُوزُ بِنَفْعِهَا الْعَاجِلِ .(2/133)
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَهُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْ الْمُسْتَحِقِّ بِعِوَضِهَا , فَقَالَ : " لَا تَشْتَرِهَا وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ " فَجَعَلَهُ بِشِرَائِهَا مِنْهُ بِثَمَنِهَا عَائِدًا فِيهَا , فَكَيْفَ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِ بِنِيَّةِ أَخْذِهَا مِنْهُ ؟ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : إذَا جَاءَ الْمُصَدَّقُ فَادْفَعْ إلَيْهِ صَدَقَتَكَ , وَلَا تَشْتَرِهَا , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : " ابْتَعْهَا " فَأَقُولُ : إنَّمَا هِيَ لِلَّهِ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا تَشْتَرِ طَهُورَ مَالِكِ . وَلِلْمَنْعِ مِنْ شِرَائِهِ عِلَّتَانِ ; إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ يُتَّخَذُ ذَرِيعَةً وَحِيلَةً إلَى اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا ; لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحِي مِنْهُ فَلَا يُمَاكِسُهُ فِي ثَمَنِهَا , وَرُبَّمَا أَرْخَصَهَا لِيَطْمَعَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةً أُخْرَى , وَرُبَّمَا عَلِمَ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَبِعْهُ إيَّاهَا اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ فَيَقُولُ : ظَفَرِي بِهَذَا الثَّمَنِ خَيْرٌ مِنْ الْحِرْمَانِ .(2/134)
الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : قَطْعُ طَمَعِ نَفْسِهِ عَنْ الْعَوْدِ فِي شَيْءٍ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ , فَإِنَّ النَّفْسَ مَتَى طَمِعَتْ فِي عَوْدِهِ بِوَجْهٍ مَا فَآمَالُهَا بَعْدُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ , فَلَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا لِلَّهِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ , فَقَطَعَ عَلَيْهَا طَمَعَهَا فِي الْعَوْدِ , وَلَوْ بِالثَّمَنِ , لِيَتَمَحَّصَ الْإِخْرَاجُ لِلَّهِ , وَهَذَا شَأْنُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ ذَوَاتِ الْأَقْدَارِ وَالْهِمَمِ , أَنَّهَا إذَا أَعْطَتْ عَطَاءً لَمْ تَسْمَحْ بِالْعَوْدِ فِيهِ بِوَجْهٍ لَا بِشِرَاءٍ وَلَا بِغَيْرِهِ , وَتُعَدُّ ذَلِكَ دَنَاءَةً , وَلِهَذَا مَثَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ بِالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لِخَسَّتِهِ وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ وَشُحِّهِ بِمَا قَاءَهُ أَنْ يَفُوتَهُ . فَمِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ مَنْعُ الْمُتَصَدِّقِ مِنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ , وَلِهَذَا مُنِعَ مِنْ سُكْنَى بِلَادِهِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا لِلَّهِ وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ دَارَ إسْلَامٍ , كَمَا { مَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ دِيَارِهِمْ لِلَّهِ ; فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعُودُوا فِي شَيْءٍ تَرَكُوهُ لِلَّهِ } , وَإِنْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي تَرَكُوهَا لِأَجْلِهِ .(2/135)
فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ تُجَوِّزُونَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَ الْمَدِينِ , إذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ غَيْرَهُ , فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ؟ وَيَحْصُلُ لِلْغَرِيمِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَرَاحَةٌ مِنْ ثِقَلِ الدَّيْنِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ حَمْلِهِ فِي الْآخِرَةِ ؟ فَمَنْفَعَتُهُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ ؟ فَقَدْ انْتَفَعَ هُوَ بِخَلَاصِهِ مِنْ رِقِّ الدَّيْنِ , وَانْتَفَعَ رَبُّ الْمَالِ بِتَوَصُّلِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ , وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ أَقْرَضَهُ مَالًا لِيَعْمَلَ فِيهِ وَيُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِهِ .(2/136)
قِيلَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله ; إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ زَكَاتِهِ , بَلْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الزَّكَاةَ وَيُؤَدِّيَهَا هُوَ عَنْ نَفْسِهِ , وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ الزَّكَاةِ قَالَ أَبُو الْحَارِثِ : قُلْتُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ : رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفٌ , وَكَانَ عَلَى رَجُلٍ زَكَاةُ مَالِهِ أَلْفٌ , فَأَدَّاهَا عَنْ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ , يَجُوزُ هَذَا مِنْ زَكَاتِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ , مَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا , وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الدَّافِعَ لَمْ يَنْتَفِعْ هَاهُنَا بِمَا دَفَعَهُ إلَى الْغَرِيمِ , وَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ , بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ مِنْهُ ; فَإِنَّهُ قَدْ أَحْيَا مَالَهُ بِمَالِهِ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ أَنَّهُ قَدْ يُتَّخَذُ ذَرِيعَةً إلَى انْتِفَاعِهِ بِالْقَضَاءِ , مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ لِوَلَدِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِمَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَيَسْتَغْنِيَ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ; فَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ حَتَّى يَقْضِيَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ , قِيلَ : هُوَ مُحْتَاجٌ يَخَافُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ فَيَأْكُلَهُ وَلَا يَقْضِي دَيْنَهُ قَالَ : فَقُلْ لَهُ يُوَكِّلُهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ , وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ بِمَا دَفَعَهُ ; فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُعْسِرِ , وَقَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ , فَإِذَا تَوَصَّلَ إلَى وُجُوبِهَا بِمَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ فَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا(2/137)
ثُمَّ أَخَذَهُ , فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ , فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْآخِذُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَأْخُوذِ وَسَدَّ خَلَّتَهُ مِنْهُ لَمَا مَكَّنَهُ , فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ , فَأَمَّا لَوْ أَعْطَاهُ عَطَاءً قَطَعَ طَمَعَهُ مِنْ عَوْدِهِ إلَيْهِ وَمَلَّكَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ الْآخِذُ دَيْنَهُ مِنْ الزَّكَاةِ فَهَذَا جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ دَفَعَهَا إلَيْهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2/138)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى نَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَالْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ , بِأَنْ يَبِيعَهُ وَلَا يَذْكُرَ تَبْقِيَتَهُ ثُمَّ يُخَلِّيَهُ إلَى وَقْتِ كَمَالِهِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَأْخُذُهُ وَقْتَ إدْرَاكِهِ , وَهَذَا هُوَ نَفْسُ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ إنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ , وَوَجْهُ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ الْقَطْعُ , فَيَصِحُّ وَيَنْصَرِفُ إلَى مُوجِبِهِ , كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ , ثُمَّ الْقَطْعُ حَقٌّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا , فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ جَازَ , وَوَجْهُ بُطْلَانِ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنِهِ لِلْمَفْسَدَةِ الَّتِي يُفْضِي إلَيْهَا مِنْ التَّشَاجُرِ وَالتَّشَاحُنِ , فَإِنَّ الثِّمَارَ تُصِيبُهَا الْعَاهَاتُ كَثِيرًا , فَيُفْضِي بَيْعُهَا قَبْلَ كَمَالِهَا إلَى أَكْلِ مَالِ الْمُشْتَرِي بِالْبَاطِلِ , كَمَا عَلَّلَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَرْفَعُ الْمَفْسَدَةَ , وَلَا تُزِيلُ بَعْضَهَا , وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَالنَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى الثِّمَارَ وَهِيَ شِيصٌ لَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا , فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِيهَا لِلْقَطْعِ , وَلَوْ اشْتَرَاهَا لِهَذَا الْغَرَضِ لَكَانَ سَفَهًا وَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ , وَكَذَلِكَ الْجَوْزُ وَالْخَوْخُ وَالْإِجَّاصُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الثِّمَارِ الَّتِي لَا يَنْتَفِعُ بِهَا قَبْلَ(2/139)
إدْرَاكِهَا , لَا يَشْتَرِيهَا أَحَدٌ إلَّا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ , وَإِنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الشَّرْطِ بِلِسَانِهِ فَهُوَ قَائِمٌ بِقَلْبِهِ وَقَلْبِ الْبَائِعِ , وَفِي هَذَا تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ وَلِلْحِكْمَةِ الَّتِي نَهَى الشَّارِعُ لِأَجْلِهَا ; أَمَّا تَعْطِيلُ الْحِكْمَةِ فَظَاهِرٌ , وَأَمَّا تَعْطِيلُ النَّصِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى مَا إذَا بَاعَهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ لَفْظًا , فَلَوْ سَكَتَ عَنْ التَّلَفُّظِ بِذَلِكَ وَهُوَ مُرَادُهُ وَمُرَادُ الْبَائِعِ جَازَ , وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَإِسْقَاطٌ لِحِكْمَتِهِ .(2/140)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ شَيْءٍ حَلَفَ أَلَّا يَبِيعَهُ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُهُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ , ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ فَلْيَبِعْهُ مِنْهَا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ سَهْمًا , ثُمَّ يَهَبْهُ السَّهْمَ الْبَاقِيَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ , وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُهُ وَلَا يَهَبُهُ إيَّاهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ . وَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ فِي جَارِيَةٍ قَدْ وَطِئَهَا الْحَالِفُ الْيَوْمَ فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَطَأَهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ فَلَهُ حِيلَتَانِ عَلَى إسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ ; إحْدَاهُمَا : أَنْ يَعْتِقَهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا , وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُمَلِّكَهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ يُزَوِّجَهُ إيَّاهَا , فَإِذَا قَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا ثُمَّ أَرَادَ بَيْعَهَا أَوْ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلْيَشْتَرِهَا مِنْ الْمُمَلَّكِ فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهُ , فَإِنْ شَاءَ بَاعَهَا وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى وَطْئِهَا . , وَتَقَدَّمَ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْحِيلَةِ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَ هَذَا الثَّوْبَ فَلْيُنْسِلْ مِنْهُ خَيْطًا ثُمَّ يَلْبَسْهُ , أَوْ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَلِيُخْرِجْ مِنْهُ لُبَابَةً ثُمَّ يَأْكُلْهُ .(2/141)
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : لَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَكَانَ أَخَفَّ وَأَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْخِدَاعِ , وَلَوْ قَابَلَ الْعَبْدُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ بِهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ لَعُدَّ عَاصِيًا مُخَادِعًا , بَلْ لَوْ قَابَلَ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ أَمْرَ الْمَلِكِ وَنَهْيَهُ أَوْ الْعَبْدُ أَمْرَ سَيِّدِهِ وَنَهْيَهُ أَوْ الْمَرِيضُ أَمْرَ الطَّبِيبِ وَنَهْيَهُ بِهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ لَمَا عَذَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ , وَلَعَدَّهُ كُلُّ أَحَدٍ عَاصِيًا , وَإِذَا تَدَبَّرَ الْعَالِمُ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْرَ هَذِهِ الْحِيَلِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ نِسْبَتُهَا إلَيْهَا وَمَحَلُّهَا مِنْهَا , وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .(2/142)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ فِي الْأَيْمَانِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ : لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا ; فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِيهَا بِذَلِكَ فَلْيَبِعْهَا بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دِينَارًا , أَوْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ دِينَارٍ , أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ , أَوْ يَبِعْهَا بِدَرَاهِمَ تُسَاوِي ذَلِكَ , أَوْ يَبِعْهَا بِتِسْعِينَ دِينَارًا وَمِنْدِيلًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . وَكُلُّ هَذِهِ حِيَلٌ بَاطِلَةٌ , فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَفْسَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا نَوَاهُ وَقَصَدَهُ وَعَقَدَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ , وَإِذَا كَانَتْ يَمِينُ الْحَالِفِ عَلَى مَا يُصَدِّقُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ , - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم - فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ كَائِنًا مَا . كَانَ ; فَلْيَقُلْ مَا شَاءَ , وَلْيَتَحَيَّلْ مَا شَاءَ , فَلَيْسَتْ يَمِينُهُ إلَّا عَلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَيْمَانِ قَصْدُ الْقَلْبِ وَكَسْبُهُ , لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهُ ; عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فِي اللَّغْوِ , فَكَيْفَ إذَا كَانَ قَاصِدًا لِصَدِّ مَا يَتَحَيَّلُ عَلَيْهِ ؟(2/143)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ عَلَى أَنْ يَطَأَ أَمَتَهُ وَإِذَا حَبِلَتْ مِنْهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ , فَلَهُ بَيْعُهَا : أَنْ يُمَلِّكَهَا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ , ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا وَيَطَأَهَا , فَإِذَا وَلَدَتْ مِنْهُ عَتَقَ الْأَوْلَادُ عَلَى الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهُ , وَمَنْ مَلَكَ أَخَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ . قَالُوا : فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا تَتَمَشَّى هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ ابْنِهِ - وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - فَالْحِيلَةُ أَنْ يُمَلِّكَهَا لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ , ثُمَّ يُزَوِّجَهُ إيَّاهَا , فَإِذَا وَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ عَلَى مِلْكِ ذِي الرَّحِمِ ; فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ الْجَارِيَةِ فَلْيَهَبْهَا لَهُ , فَيَنْفَسِخْ النِّكَاحُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلْيُمَلِّكْهَا أَجْنَبِيًّا , ثُمَّ يُزَوِّجْهَا بِهِ , فَإِنْ خَافَ مِنْ رِقِّ الْوَلَدِ فَلْيُعَلِّقْ الْأَجْنَبِيُّ عِتْقَهُمْ بِشَرْطِ الْوِلَادَةِ , فَيَقُولُ : كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ , فَيَكُونُ الْأَوْلَادُ كُلُّهُمْ أَحْرَارًا ; فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَّهِبْهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ يَبِعْهَا . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ ; فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّمْلِيكِ لَمْ تُوجَدْ , إذْ حَقِيقَتُهُ نَقْلُ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا أَحَبَّ .(2/144)
هَذَا هُوَ الْمِلْكُ الْمَشْرُوعُ الْمَعْقُولُ الْمُتَعَارَفُ , فَأَمَّا تَمْلِيكٌ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْمُمَلَّكُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِالتَّزْوِيجِ وَحْدَهُ ; فَهُوَ تَلْبِيسٌ لَا تَمْلِيكٌ ; فَإِنَّ الْمُمَلَّكَ لَوْ أَرَادَ وَطْأَهَا أَوْ الْخَلْوَةَ بِهَا أَوْ النَّظَرَ إلَيْهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ التَّصَرُّفَ فِيهَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمَالِكُ فِي مَمْلُوكِهِ لَمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا تَمْلِيكُ تَلْبِيسٍ وَخِدَاعٍ وَمَكْرٍ , لَا تَمْلِيكُ حَقِيقَةٍ , بَلْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَالْمُمَلِّكُ وَالْمُمَلَّكُ أَنَّ الْجَارِيَةَ لِسَيِّدِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , وَأَنَّهُ لَمْ يَطِبْ قَلْبُهُ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , وَهَذَا التَّمْلِيكُ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِ الْأَجْنَبِيِّ مَالَهُ كُلَّهُ لِيُسْقِطَ عَنْهُ زَكَاتَهُ ثُمَّ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ , وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذَا التَّمْلِيكِ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا , وَلَا يُعَدُّ الْمُمَلَّكُ لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَنِيًّا بِهِ , وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الْحَجُّ وَالزَّكَاةُ وَالنَّفَقَةُ وَأَدَاءُ الدُّيُونِ , وَلَا يَكُونُ بِهِ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ مَعْدُودًا فِي جُمْلَةِ الْأَغْنِيَاءِ ; فَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ , لَا التَّمْلِيكُ الْبَاطِلُ الَّذِي هُوَ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَتَلْبِيسٌ .(2/145)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ رَجْعَةِ الْبَائِنِ بِغَيْرِ عِلْمِهَا ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى رَدِّ امْرَأَتِهِ بَعْدَ أَنْ بَانَتْ مِنْهُ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ , وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ وُجُوهًا كُلُّهَا بَاطِلَةٌ ; فَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ لَهَا : حَلَفْتُ يَمِينًا وَاسْتَفْتَيْتُ فَقِيلَ لِي جَدِّدْ نِكَاحَكَ ; فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ وَإِلَّا لَمْ يَضُرّكَ , فَإِذَا أَجَابَتْهُ قَالَ : اجْعَلِي الْأَمْرَ إلَيَّ فِي تَزْوِيجِكِ , ثُمَّ يَحْضُرُ الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ وَيَتَزَوَّجُهَا , فَتَصِيرُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ ; فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى وَجْهٍ ثَانٍ , وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ يُرِيدُ سَفَرًا وَيَقُولُ : لَا آمَنُ الْمَوْتَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ وَأَجْعَلَ لَكَ هَذَا الْمَتَاعَ صَدَاقًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ وَأُرِيدُ أَنْ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ , فَاجْعَلِي أَمْرَكِ إلَيَّ حَتَّى أَجْعَلَهُ صَدَاقًا ; فَإِذَا فَعَلَتْ عَقَدَ نِكَاحَهَا عَلَى ذَلِكَ وَتَمَّ الْأَمْرُ ; فَإِنْ لَمْ يُرِدْ السَّفَرَ فَلْيُظْهِرْ أَنَّهُ مَرِيضٌ , ثُمَّ يَقُولُ لَهَا : أُرِيدُ أَنْ أَجْعَلَ لَكِ ذَلِكَ , وَأَخَافُ أَنْ أَقِرَّ لَكِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ ; فَاجْعَلِي أَمْرَكِ إلَيَّ أَجْعَلْهُ صَدَاقًا , فَإِذَا فَعَلَتْ أَحْضَرَ وَلِيَّهَا وَتَزَوَّجَهَا ; فَإِنْ حَذِرَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ , وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِهَا , أَوْ يَقُولَ : قَدْ حَلَفْت بِطَلَاقِكِ أَنِّي أَتَزَوَّجُ عَلَيْكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوْ(2/146)
هَذَا الْأُسْبُوعِ , أَوْ أُسَافِرُ بِكِ , وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَمَسَّكَ بِكِ وَلَا أُدْخِلَ عَلَيْك ضَرَّةً وَلَا تُسَافِرِينَ , فَاجْعَلِي أَمْرَكِ إلَيَّ حَتَّى أُخَالِعَكِ وَأَرُدَّكِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ وَتَتَخَلَّصِي مِنْ الضَّرَّةِ وَالسَّفَرِ , فَإِذَا فَعَلَتْ أَحْضَرَ الشُّهُودَ وَالْوَلِيَّ ثُمَّ يَرُدُّهَا . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَانَتْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ ; فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إلَّا بِإِذْنِهَا وَرِضَاهَا , وَهِيَ لَمْ تَأْذَنْ فِي هَذَا النِّكَاحِ الثَّانِي , وَلَا رَضِيَتْ بِهِ , وَلَوْ عَلِمَتْ أَنَّهَا قَدْ مَلَّكَتْ نَفْسَهَا وَبَانَتْ مِنْهُ فَلَعَلَّهَا لَا تَرْغَبُ فِي نِكَاحِهِ , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْدَعَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَيَجْعَلَهَا لَهُ زَوْجَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَ جِدَّ النِّكَاحِ كَهَزْلِهِ , وَغَايَةُ هَذَا أَنَّهُ هَازِلٌ .(2/147)
قِيلَ : هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ , وَلَيْسَ هَذَا كَالْهَازِلِ ; فَإِنَّ الْهَازِلَ لَمْ يُظْهِرْ أَمْرًا يُرِيدُ خِلَافَهُ , بَلْ تَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ قَاصِدًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مُوجَبُهُ , وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ , بَلْ إلَى الشَّارِعِ , وَأَمَّا هَذَا فَمَاكِرٌ مُخَادِعٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى نَفْسِهَا , مُظْهِرٌ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مَحْضَةٌ ; فَهُوَ يَمْكُرُ بِهَا وَيُخَادِعُهَا بِإِظْهَارِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ أَجْنَبِيَّةٌ ; فَهُوَ كَمَنْ يَمْكُرُ بِرَجُلٍ يُخَادِعُهُ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ بِإِظْهَارِ أَنَّهُ يَحْفَظُهُ لَهُ وَيَصُونُهُ مِمَّنْ يُذْهَبُ بِهِ , بَلْ هَذَا أَفْحَشُ ; لِأَنَّ حُرْمَةَ الْبُضْعِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَالِ , وَالْمُخَادَعَةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُخَادَعَةِ عَلَى الْمَالِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2/148)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِوَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْحِيلَةُ عَلَى وَطْءِ مُكَاتَبَتِهِ بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ , قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَهَبَهَا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ , ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ عَلَى مِلْكِ ابْنِهِ ثُمَّ يُكَاتِبَهَا لِابْنِهِ , ثُمَّ يَطَأَهَا بِحُكْمِ النِّكَاحِ , فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ كَانُوا أَحْرَارًا ; إذْ وَلَدُهُ قَدْ مَلَكَهُمْ , فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ الْكِتَابَةِ عَادَتْ قِنًّا لِوَلَدِهِ وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ , وَهِيَ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا لِوَلَدِهِ تَمْلِيكًا حَقِيقِيًّا , وَلَا كَاتَبَهَا لَهُ حَقِيقَةً , بَلْ خِدَاعًا وَمَكْرًا , وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَمُكَاتَبَتُهُ فِي الْبَاطِنِ , وَحَقِيقَةِ الْأَمْرِ , وَإِنَّمَا أَظْهَرَ خِلَافَ ذَلِكَ تَوَصُّلًا إلَى وَطْءِ الْفَرْجِ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ . فَأَظْهَرَ تَمْلِيكًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ , وَكِتَابَةً عَنْ غَيْرِهِ , وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ عَنْ نَفْسِهِ , وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ .(2/149)
فَصْلٌ : [ بَيَانُ حِيلَةِ الْعَقَارِبِ وَإِبْطَالِهَا ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَاطِلَةِ الْحِيَلُ الَّتِي تُسَمَّى حِيلَةَ الْعَقَارِبِ , وَلَهَا صُوَرٌ ; مِنْهَا : أَنْ يُوقِفَ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ وَيَشْهَدَ عَلَى وَقْفِهَا وَيَكْتُمَهُ ثُمَّ يَبِيعَهَا , فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ سَكَنَهَا أَوْ اسْتَغَلَّهَا بِمِقْدَارِ ثَمَنِهَا أَظْهَرَ كِتَابَ الْوَقْفِ وَادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِأُجْرَةِ الْمَنْفَعَةِ , فَإِذَا قَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي : أَنَا وَزَنْت الثَّمَنَ , قَالَ : وَانْتَفَعْتُ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ فَلَا تَذْهَبُ الْمَنْفَعَةُ مَجَّانًا , وَمِنْهَا : أَنْ يُمَلِّكَهَا لِوَلَدِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ , وَيَكْتُمَ ذَلِكَ , ثُمَّ يَبِيعَهَا , ثُمَّ يَدَّعِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ مَلَّكَهَا عَلَى الْمُشْتَرِي , وَيُعَامِلُهُ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ وَضَمَّنَهُ الْمَنَافِعَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ . وَمِنْهَا : أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِوَلَدِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ , وَيَكْتُمَ ذَلِكَ , ثُمَّ يُؤَجِّرَهَا مِنْ شَخْصٍ آخَرَ , فَإِنْ ارْتَفَعَ الْكَرْيُ أَخْرَجَ الْإِجَارَةَ الْأُولَى , وَفَسَخَ إجَارَةَ الثَّانِي , وَإِنْ نَقَصَ الْكَرْيُ أَوْ اسْتَمَرَّ أَبْقَاهَا ; وَمِنْهَا : أَنْ يَرْهَنَ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ , ثُمَّ يَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ فَيَنْتَفِعَ بِهِ مُدَّةً , فَمَتَى أَرَادَ فَسْخَ الْبَيْعِ وَاسْتِرْجَاعَ الْمَبِيعِ أَظْهَرَ كِتَابَ الرَّهْنِ .(2/150)
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعَقَارِبِ الَّتِي يَأْكُلُ بِهَا أَشْبَاهُ الْعَقَارِبِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ , وَيُمْشِيهَا لَهُمْ مَنْ رَقَّ عِلْمُهُ وَدِينُهُ وَلَمْ يُرَاقِبْ اللَّهَ وَلَمْ يَخَفْ مَقَامَهُ تَقْلِيدًا لِمَنْ قَلَّدَ قَوْلَهُ فِي تَضْمِينِ الْمَقْبُوضِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ ; فَيَجْعَلُ قَوْلَهُ إعَانَةً لِهَذَا الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , وَلَا يَجْعَلُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ إعَانَةً لِلْمَظْلُومِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى , وَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِشِقِّ الْحَدِيثِ وَهُوَ : { اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا } . وَاكْتَفَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ دُونَ مَا بَعْدَهَا , وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ تَجْوِيزِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , وَنَصْرِ الظَّالِمِ , وَإِضَاعَةِ حَقِّ الْمَظْلُومِ جِهَارًا .(2/151)
وَذَلِكَ الْإِمَامُ وَإِنْ قَالَ : " إنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَضْمَنُ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ " فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْمَقْبُوضَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - الَّذِي هُوَ حِيلَةٌ وَمَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَظُلْمٌ مَحْضٌ لِلْمُشْتَرِي وَغُرُورٌ لَهُ - يُوجِبُ تَضْمِينَهُ وَضَيَاعَ حَقِّهِ وَأَخْذَ مَالِهِ كُلِّهِ وَإِيدَاعَهُ فِي الْحَبْسِ عَلَى مَا بَقِيَ وَإِخْرَاجَ الْمِلْكِ مِنْ يَدِهِ , فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَشْتَرِي الْأَرْضَ أَوْ الْعَقَارَ وَتَبْقَى فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً تَزِيدُ أُجْرَتُهَا عَلَى ثَمَنِهَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً , فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعَقَارُ , وَيُحْسَبُ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ , وَيُبْقِي الْبَاقِيَ بِقَدْرِ الثَّمَنِ مِرَارًا , فَرُبَّمَا أَخَذَ مَا فَوْقَهُ وَمَا تَحْتَهُ وَفَضَلَتْ عَلَيْهِ فَضْلَةٌ , فَيَجْتَاحُ الظَّالِمُ الْمَاكِرُ مَالَهُ وَيَدَعُهُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَالِيَةِ , فَحَاشَا إمَامًا وَاحِدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا لِهَذَا الْعَقْرَبِ الْخَبِيثِ عَلَى هَذَا الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ , وَالْوَاجِبُ عُقُوبَةُ مِثْلِ هَذَا الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ عَنْ لَدْغِ النَّاسِ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى اسْتِهْلَالِ أَمْوَالِ النَّاسِ , وَأَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ طَلَبِ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ .(2/152)
أَمَّا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يُضَمِّنُ مَنَافِعَ الْغَصْبِ - وَهُمْ الْجُمْهُورُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ أَصَحُّهُمَا دَلِيلًا - فَظَاهِرٌ , وَأَمَّا مَنْ يُضَمِّنُ الْغَاصِبَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَتَأَتَّى تَضْمِينُ هَذَا عَلَى قَاعِدَتِهِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِغَاصِبٍ , وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ , فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْبَائِعَ غَرَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ , فَإِنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِلَا عِوَضٍ , وَأَنْ يَضْمَنَ الْمَبِيعَ بِثَمَنِهِ لَا بِقِيمَتِهِ ; فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِهِ بِثَمَنِهِ , فَإِذَا انْتَفَعَ بِهِ انْتَفَعَ بِلَا عِوَضٍ ; لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ , وَلَوْ قُدِّرَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فَإِنَّ الْغَارَّ هُوَ الَّذِي يَضْمَنُ ; لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ بِغُرُورِهِ , وَكُلُّ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ سَبَبٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَلَا بُدَّ . وَلَا يُقَالُ : الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْإِتْلَافَ , وَقَدْ وُجِدَ مُتَسَبِّبٌ وَمُبَاشِرٌ , فَيُحَالُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُبَاشِرِ ; فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ هَاهُنَا ; فَإِنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ مَالُ الْمُشْتَرِي الَّذِي تَلِفَ عَلَيْهِ بِالتَّضْمِينِ , وَإِنَّمَا تَلِفَ بِتَسَبُّبِ الْغَارِّ , وَلَيْسَ هَاهُنَا مُبَاشِرٌ يُحَالُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا إذَا ضَمَّنَّا الْمَغْرُورَ فَهُوَ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ , وَلَا يَدُلُّ عَلَى تَضْمِينِ الْغَارِّ ابْتِدَاءً .(2/153)
قِيلَ : هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ , وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَلِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُ ذَلِكَ , ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَصَ , وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُهُ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ نَقْصَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ , وَهَذَا أَفْقَهُ النَّصَّيْنِ وَأَقْرَبُهُمَا إلَى الْعَدْلِ ; فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ غَرَسَ وَبَنَى غِرَاسًا وَبِنَاءً مَأْذُونًا فِيهِ , وَلَيْسَ ظَالِمًا بِهِ , فَالْعِرْقُ لَيْسَ بِظَالِمٍ , فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُهُ حَتَّى يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَهُ , وَالْبَائِعُ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ الْمُسْتَحِقَّ بِبَيْعِهِ مَالَهُ وَغَرَّ الْمُشْتَرِيَ بِبِنَائِهِ وَغِرَاسِهِ ; فَإِذَا أَرَادَ الْمُسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ ضَمِنَ لِلْمَغْرُورِ مَا نَقَصَ بِقَلْعِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الظَّالِمِ , وَكَانَ تَضْمِينُهُ لَهُ أَوْلَى مِنْ تَضْمِينِ الْمَغْرُورِ ثُمَّ تَمْكِينُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ .(2/154)
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ مَغْصُوبًا مِنْ غَاصِبٍ بِبَيْعٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ اتِّهَابٍ أَوْ إجَارَةٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَالِكٌ لِذَلِكَ أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ ; أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ , وَهَذَا الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي وَكَانَ عَالِمًا بِالْغَصْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْغَاصِبِ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَم نَظَرْتَ فِيمَا ضَمِنَ فَإِنْ الْتَزَمَ ضَمَانَهُ بِالْعَقْدِ كَبَدَلِ الْعَيْنِ وَمَا نَقَصَ مِنْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ; لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَمْ يَغُرَّهُ , بَلْ دَخَلَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ . وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُوجِبُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ إذَا ضَمِنَهُ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ ضَمَانَهُ بِالثَّمَنِ لَا بِالْقِيمَةِ , فَإِذَا ضَمَّنَهُ إيَّاهُ بِقِيمَتِهِ رَجَعَ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ . قَالُوا : وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ نَظَرْتُ ; فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةٌ كَقِيمَةِ الْوَلَدِ وَنُقْصَانِ الْجَارِيَةِ بِالْوِلَادَةِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَدَخَلَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ , وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ بِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةٌ كَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ ; أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِهِ ; لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ .(2/155)
وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ ; لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةٌ , وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا يُوجِبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ اللَّذَيْنِ ضَمِنَهُمَا ; فَإِنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى الضَّمَانِ بِالْمُسَمَّى , لَا بِعِوَضِ الْمِثْلِ , وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ إنَّمَا هِيَ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْمُسَمَّى , وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ نَحْوُ ذَلِكَ . وَعَقْدُ الْبَابِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَرْجِعُ إذَا غَرَّهُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ خَاصَّةً , فَإِذَا غَرِمَ وَهُوَ مُودَعٌ أَوْ مُتَّهَبٌ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ رَجَعَ بِهِمَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانًا , وَإِنْ ضَمِنَ وَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ رَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ وَالْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا بَذَلَهُ مِنْ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ . وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ مِنْ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِهِ , فَيُقَالُ لَهُمْ ; نَعَمْ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِهِ بِالْمُسَمَّى لَا بِعِوَضِ الْمِثْلِ , وَإِنْ كَانَ مُشْتَرِيًا , وَضَمِنَ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ ؟ فَقَالُوا : يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ قِيمَةِ الْعَيْنِ ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ضَمَانَ الْعَيْنِ وَدَخَلَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ .(2/156)
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا زَادَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ , وَإِنْ كَانَ مُسْتَعِيرًا وَضَمِنَ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ رَجَعَ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ ضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى اسْتِيفَائِهَا مَجَّانًا , وَلَمْ يَرْجِعْ بِمَا ضَمِنَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِهَا بِقِيمَتِهَا . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةٌ تُقَابِلُ مَا غَرِمَ كَالْمَهْرِ وَالْأُجْرَةِ فِي الْمَبِيعِ وَفِي الْهِبَةِ وَفِي الْعَارِيَّةِ , وَكَقِيمَةِ الطَّعَامِ إذَا قُدِّمَ لَهُ أَوْ وُهِبَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ ; لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ , فَإِذَا غَرِمَ عِوَضَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ , وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى اسْتِيفَائِهِ بِعِوَضٍ , وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ بِعِوَضِهِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ , وَلَوْ عَلِمَ الضَّيْفُ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرَهُ يُغَرِّمُهُ الطَّعَامَ لَمْ يَأْكُلْهُ , وَلَوْ ضَمِنَ الْمَالِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْغَاصِبِ جَازَ , وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْقَابِضِ إلَّا بِمَا يَرْجِعُ لَهُ عَلَيْهِ , فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُسْتَأْجِرًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ .(2/157)
وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ خَاصَّةً , وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُشْتَرِيًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ , وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا بَذَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ , وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُسْتَعِيرًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ ; إذْ لَا مُسَمًّى هُنَاكَ , وَإِذَا كَانَ مُتَّهَبًا أَوْ مُودَعًا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ , فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ مِنْ الْغَاصِبِ هُوَ الْمَالِكُ فَلَا شَيْءَ لَهُ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا , وَمَا سِوَاهُ فَعَلَى الْغَاصِبِ ; لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْءٌ , وَأَمَّا مَا لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا بَلْ يَكُونُ قَرَارُهُ عَلَى الْغَاصِبِ فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا هَاهُنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الْمَغْرُورِ ابْتِدَاءً , كَمَا لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ قَرَارًا , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ , وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَهَا - يَعْنِي الْوَدِيعَةَ - عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَتَلِفَتْ فَإِنَّهُ لَا يُضَمِّنُ الثَّانِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ .(2/158)
وَطَرْدُ هَذَا النَّصِّ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ الْمَغْرُورَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ , وَهُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّهُ مَغْرُورٌ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَنَّهُ مُطَالَبٌ , فَلَا هُوَ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ وَلَا الشَّارِعُ أَلْزَمَهُ بِهَا , وَكَيْفَ يُطَالِبُ الْمَظْلُومَ الْمَغْرُورَ وَيَتْرُكُ الظَّالِمَ الْغَارَّ ؟ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مُحْسِنًا بِأَخْذِهِ الْوَدِيعَةَ , وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهَذَا شَأْنُ الْغَارِّ الظَّالِمِ . وَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَغْرُورَ بِالْأَمَةِ إذَا وَطِئَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً , وَأَخَذَ مِنْهُ سَيِّدُهَا الْمَهْرَ , رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ . وَقَضَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ . وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ الصَّحَابَةِ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَمَالِكٌ أَخَذَ بِقَوْلِ عُمَرَ , وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ . وَقَوْلُ عُمَرَ أَفْقَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِالْمَهْرِ , وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالثَّمَنِ وَقَدْ بَذَلَهُ , وَأَيْضًا فَالْبَائِعُ ضَمِنَ لَهُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ سَلَامَةَ الْوَطْءِ كَمَا ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ . فَكَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ .(2/159)
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِي أُجْرَةِ الِاسْتِخْدَامِ إذَا ضَمَّنَهُ إيَّاهَا الْمُسْتَحِقُّ , هَلْ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَارِّ ؟ . قُلْنَا : نَعَمْ يَرْجِعُ بِهَا , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ , وَقَدْ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَجَدَ امْرَأَتَهُ بَرْصَاءَ أَوْ عَمْيَاءَ أَوْ مَجْنُونَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلَهَا الصَّدَاقُ , وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ . وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا لَمْ يُعْلِمْهُ وَأَتْلَفَ عَلَيْهِ الْمَهْرَ لَزِمَهُ غُرْمُهُ . فَإِنْ قِيلَ : هُوَ الَّذِي أَتْلَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالدُّخُولِ . قِيلَ : لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا كَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا , وَإِنَّمَا دَخَلَ بِهَا بِنَاءً عَلَى السَّلَامَةِ الَّتِي غَرَّهُ بِهَا الْوَلِيُّ , وَلِهَذَا لَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ وَرَضِيَ بِهِ وَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَسْخٌ وَلَا رُجُوعٌ , وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ سَقَطَ مَهْرُهَا . وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَغْرُورَ إمَّا مُحْسِنٌ , وَإِمَّا مَعْذُورٌ , وَكِلَاهُمَا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ , بَلْ مَا يَلْزَمُ الْمَغْرُورَ بِاسْتِلْزَامِهِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَهْرُ قَدْ الْتَزَمَهُ , فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِهِ ؟ قِيلَ : إنَّمَا الْتَزَمَهُ فِي مَحَلٍّ سَلِيمٍ , وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فِي مَعِيبَةٍ وَلَا أَمَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ بِهِ .(2/160)
فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْكُمْ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْزَمَهُ فِيهِ بِالصَّدَاقِ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا , وَهُوَ لَمْ يَلْتَزِمْهُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ . قِيلَ : لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ غَرَّهُ , بَلْ كَانَ هُوَ الْغَارُّ لِنَفْسِهِ , فَلَا يَذْهَبُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ مَجَّانًا , وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ , بَلْ لَوْ فَسَدَ النِّكَاحُ بِغُرُورِ الْمَرْأَةِ سَقَطَ مَهْرُهَا , أَوْ بِغُرُورِ الْوَلِيِّ رَجَعَ عَلَيْهِ .(2/161)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيَلٍ لِتَجْوِيزِ الْعِينَةِ ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى جَوَازِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ , مَعَ أَنَّهَا حِيلَةٌ فِي نَفْسِهَا عَلَى الرِّبَا , وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ لِاسْتِبَاحَتِهَا عِدَّةَ حِيَلٍ , مِنْهَا : أَنْ يُحْدِثَ الْمُشْتَرِي فِي السِّلْعَةِ حَدَثًا مَا تَنْقُصُ بِهِ أَوْ تَتَعَيَّبُ ; فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِبَائِعِهَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا , وَمِنْهَا : أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ قَابِلَةً لِلتَّجَزُّؤِ فَيَمْسِكُ مِنْهَا جُزْءًا مَا وَيَبِيعُهُ بَقِيَّتَهَا , وَمِنْهَا : أَنْ يَضُمَّ الْبَائِعُ إلَى السِّلْعَةِ سِكِّينًا أَوْ مِنْدِيلًا أَوْ حَلْقَةً حَدِيدًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ , فَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي وَيَبِيعُهُ السِّلْعَةَ بِمَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ , وَمِنْهَا : أَنْ يَهَبَهَا الْمُشْتَرِي لِوَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ مَنْ يَثِقُ بِهِ , فَيَبِيعُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ بَائِعِهَا , فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ أَعْطَاهُ لِلْوَاهِبِ , وَمِنْهَا : أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ وَلَا هِبَةٍ لِغَيْرِهِ , لَكِنْ يَضُمُّ إلَى ثَمَنِهَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ أَوْ مِنْدِيلًا أَوْ سِكِّينًا وَنَحْوَ ذَلِكَ .(2/162)
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِينَةَ عَلَى وَجْهِهَا أَسْهَلُ مِنْ هَذَا التَّكَلُّفِ , وَأَقَلُّ مَفْسَدَةً , وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ حَرَّمَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ لِمَفْسَدَةٍ فِيهَا فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ , بَلْ هِيَ بِحَالِهَا , وَانْضَمَّ إلَيْهَا مَفْسَدَةٌ أُخْرَى أَعْظَمُ مِنْهَا , وَهِيَ مَفْسَدَةُ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَاِتِّخَاذِ أَحْكَامِ اللَّهِ هُزُوًا وَهِيَ أَعْظَمُ الْمَفْسَدَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحِيَلِ , لَا تُزِيلُ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي حُرِّمَ لِأَجْلِهَا , وَإِنَّمَا يَضُمُّ إلَيْهَا مَفْسَدَةَ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ , وَإِنْ كَانَتْ الْعِينَةُ لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاحْتِيَالِ عَلَيْهَا . ثُمَّ إنَّ الْعِينَةَ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ إلَى الرِّبَا , فَإِذَا تَحَيَّلَ عَلَيْهَا الْمُحْتَالُ صَارَتْ حِيَلًا مُتَضَاعِفَةً , وَمَفَاسِدَ مُتَنَوِّعَةً , وَالْحَقِيقَةُ وَالْقَصْدُ مَعْلُومَانِ لِلَّهِ وَلِلْمَلَائِكَةِ وَلِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلِمَنْ حَضَرَهُمَا مِنْ النَّاسِ , فَلْيَضَعْ أَرْبَابُ الْحِيَلِ مَا شَاءُوا , وَلْيَسْلُكُوا أَيَّةَ طَرِيقٍ سَلَكُوا ; فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ بَيْعِ مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى سَنَةٍ , فَلْيُدْخِلُوا مُحَلِّلَ الرِّبَا أَوْ يُخْرِجُوهُ فَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ , وَالْمَقْصُودُ مَعْلُومٌ , وَاَللَّهُ لَا يُخَادَعُ وَلَا تَرُوجُ عَلَيْهِ الْحِيَلُ وَلَا تَلْبَسُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ .(2/163)
فَصْلٌ : وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَاطِلَةِ - إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ , وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي , وَيَقُولُ : لَمْ يُعَيِّنْ لِي عَيْبَ كَذَا وَكَذَا ; أَنْ يُوَكِّلَ رَجُلًا غَرِيبًا لَا يَعْرِفُ فِي بَيْعِهَا , وَيَضْمَنَ لِلْمُشْتَرِي دَرْكَ الْمَبِيعِ , فَإِذَا بَاعَهَا قَبَضَ مِنْهُ رَبُّ السِّلْعَةِ الثَّمَنَ , فَلَا يَجِدُ الْمُشْتَرِي مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ السِّلْعَةَ . وَهَذَا غِشٌّ حَرَامٌ , وَحِيلَةٌ لَا تُسْقِطُ الْمَأْتَمَ , فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِصُورَةِ الْحَالِ فَلَهُ الرَّدُّ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ , حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْ الدَّرَكَ الْمَعْرُوفَ [ الَّذِي ] يَتَمَكَّنُ مِنْ مُخَاصَمَتِهِ , فَالتَّفْرِيطُ مِنْ هَذَا وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ مِنْ ذَلِكَ .(2/164)
فَصْلٌ : [ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَاطِلَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً وَيُرِيدَ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ فَلَهُ عِدَّةُ حِيَلٍ , مِنْهَا : أَنْ يُزَوِّجَهُ إيَّاهَا الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ , فَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ , ثُمَّ يَبِيعُهُ إيَّاهَا فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ , وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ ; لِأَنَّهُ مِلْكُ زَوْجَتِهِ , وَقَدْ كَانَ وَطْؤُهَا حَلَالًا لَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ; فَصَارَ حَلَالًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَمِنْهَا : أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ , ثُمَّ يَبِيعَهَا مِنْ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ شِرَاءَهَا , فَيَمْلِكُهَا مُزَوَّجَةً وَفَرْجُهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ ; فَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِطَلَاقِهَا , فَإِذَا فَعَلَ حَلَّتْ لِلْمُشْتَرِي . وَمِنْهَا : أَنْ مُشْتَرِيَهَا لَا يَقْبِضُهَا حَتَّى يُزَوِّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ غَيْرِهِ , ثُمَّ يَقْبِضَهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ , فَإِذَا قَبَضَهَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ , فَيَطَؤُهَا سَيِّدُهُ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ . قَالُوا : فَإِنْ خَافَ الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ اسْتَوْثَقَ بِأَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجُ أَمْرَهَا بِيَدِ السَّيِّدِ , فَإِذَا فَعَلَ طَلَّقَهَا هُوَ ثُمَّ وَطِئَهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ . وَلَا يَخْفَى نِسْبَةُ هَذِهِ الْحِيَلِ إلَى الشَّرْعِ , وَمَحَلُّهَا مِنْهُ , وَتَضَمُّنُهَا أَنَّ بَائِعَهَا يَطَؤُهَا بُكْرَةً وَيَطَؤُهَا الْمُشْتَرِي عَشِيَّةً , وَأَنَّ هَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ , وَمُبْطِلٌ لِفَائِدَةِ الِاسْتِبْرَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ .(2/165)
ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ كَمَا هِيَ مُحَرَّمَةٌ فَهِيَ بَاطِلَةٌ قَطْعًا ; فَإِنَّ السَّيِّدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مَوْطُوءَتَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا , وَإِلَّا فَكَيْفَ يُزَوِّجُهَا لِمَنْ يَطَؤُهَا وَرَحِمُهَا مَشْغُولٌ بِمَائِهِ ؟ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بَيْعَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ , صِيَانَةً لِمَائِهِ , وَلَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي لَهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ , فَهَاهُنَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ قَطْعًا , فَإِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا حِيلَةً عَلَى إسْقَاطِ حُكْمِ اللَّهِ وَتَعْطِيلِ أَمْرِهِ كَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا لِإِسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ , وَإِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَاِتِّخَاذٌ لِآيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا لَمْ يَحِلَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَطَأَهَا بِدُونِ الِاسْتِبْرَاءِ ; فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ الْمُتَجَدِّدِ , وَالنِّكَاحُ الْعَارِضُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا , فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ عَمِلَ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ , وَزَوَالُ الْمَانِعِ لَا يُزِيلُ اقْتِضَاءَ الْمُقْتَضِي مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الِاقْتِضَاءِ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْوَصْفِ عَنْ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ قِيَامِ مَانِعٍ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي مَنَعَ الشَّارِعُ الْمُشْتَرِيَ لِأَجْلِهَا مِنْ الْوَطْءِ بِدُونِ الِاسْتِبْرَاءِ لَمْ تَزُلْ بِالتَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ , بَلْ انْضَمَّ إلَيْهَا مَفَاسِدُ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّحَيُّلِ .(2/166)
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبَ مِنْ شَيْءٍ حُرِّمَ لِمَفْسَدَةٍ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى هِيَ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ بِكَثِيرٍ صَارَ حَلَالًا , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ إذَا ذُبِحَ كَانَ حَرَامًا , فَإِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ خُنِقَ حَتَّى يَمُوتَ صَارَ حَلَالًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُذْبَحْ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : هُوَ حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ , وَهَكَذَا هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا اُحْتِيلَ عَلَيْهَا صَارَتْ حَرَامًا مِنْ وَجْهَيْنِ وَتَأَكَّدَ تَحْرِيمُهَا . وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ سُقُوطِ الِاسْتِبْرَاءِ بِهَذِهِ الْحِيَلِ وَبَيْنَ وُجُوبِ اسْتِبْرَاءِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ وَلَا يُوطَأُ مِثْلُهَا , وَبَيْنَ اسْتِبْرَاءِ الْبِكْرِ الَّتِي لَمْ يَقْرَعْهَا . فَحْلٌ , وَاسْتِبْرَاءِ الْعَجُوزِ الْهَرِمَةِ الَّتِي قَدْ أَيِسَتْ مِنْ الْحَبَلِ وَالْوِلَادَةِ , وَاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ الَّتِي يُقْطَعُ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا , ثُمَّ يُسْقِطُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ رَحِمَهَا مَشْغُولٌ , فَأَوْجَبْتُمُوهُ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّارِعُ , وَأَسْقَطْتُمُوهُ حَيْثُ أَوْجَبَهُ . قَالُوا : وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ مِنْ تَنَاقُضِكُمْ , بَلْ وَأَعْجَبُ مِنْهُ إنْكَارُ كَوْنِ الْقُرْعَةِ طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ مَعَ وُرُودِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ بِهَا , وَإِثْبَاتُ حَلِّ الْوَطْءِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ يَعْلَمُ الزَّوْجُ الْوَاطِئُ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالزُّورِ عَلَى طَلَاقِهَا حَتَّى يَجُوزَ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيَثْبُتُ الْحِلُّ بِشَهَادَتِهِمَا .(2/167)
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَمَةٌ هِيَ سُرِّيَّةٌ يَطَؤُهَا كُلَّ وَقْتٍ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ , وَلَوْ وَلَدَتْ [ وَلَدًا ] لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ , وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ قَالَ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ وَالشُّهُودِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ " هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا " وَكَانَتْ بِأَقْصَى الْمَشْرِقِ وَهُوَ بِأَقْصَى الْمَغْرِبِ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْعَقْدِ ; فَلَوْ أَتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَهُ نَسَبُهُ . وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكُمْ : لَوْ مَنَعَ الذِّمِّيُّ دِينَارًا وَاحِدًا وَلِّ . " لَا أُؤَدِّيهِ " انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ , وَلَوْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكِتَابَهُ عَلَى رُءُوسِنَا أَقْبَحَ سَبٍّ وَحَرَقَ أَفْضَلَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَاسْتَهَانَ بِالْمُصْحَفِ بَيْنَ أَيْدِينَا أَعْظَمَ اسْتِهَانَةٍ وَبَذَلَ ذَلِكَ الدِّينَارَ فَعَهْدُهُ بَاقٍ وَدَمُهُ مَعْصُومٌ . وَمِنْ الْعَجِيبِ تَجْوِيزُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ , وَمَنْعُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى وَمِنْ الْعَجَبِ إخْرَاجُ الْأَعْمَالِ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ , وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ , وَتَكْفِيرُ مَنْ يَقُولُ مُسَيْجِدٌ أَوْ فَقِيهٌ , أَوْ يُصَلِّي بِلَا وُضُوءٍ , أَوْ يَلْتَذُّ بِآلَاتِ الْمَلَاهِي , وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمِنْ الْعَجَبِ إسْقَاطُ الْحَدِّ عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِلزِّنَا أَوْ لِكَنْسِ بَيْتِهِ فَزَنَى بِهَا , وَإِيجَابُهُ عَلَى مَنْ وَجَدَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً عَلَى فِرَاشِهِ فِي الظُّلْمَةِ فَجَامَعَهَا يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ .(2/168)
وَمِنْ الْعَجَبِ التَّشْدِيدُ فِي الْمِيَاهِ حَتَّى تَنَجَّسَ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنْهَا بِقَطْرَةِ بَوْلٍ أَوْ قَطْرَةِ دَمٍ , وَتَجْوِيزُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ رُبُعُهُ مُضَمَّخٌ بِالنَّجَاسَةِ , فَإِنْ كَانَتْ مُغَلَّظَةً فَبِقَدْرِ رَاحَةِ الْكَفِّ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا فَكَذَّبَ الشُّهُودَ حُدَّ , وَإِنْ صَدَّقَهُمْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ دَارٍ لِتُتَّخَذَ مَسْجِدًا يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ , وَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُهَا [ كَيْ ] تُجْعَلَ كَنِيسَةً يُعْبَدُ فِيهَا الصَّلِيبُ أَوْ بَيْتَ نَارٍ تُعْبَدُ فِيهَا النَّارُ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ ضَحِكَ فِي صَلَاةٍ فَقَهْقَهَ بَطَلَ وُضُوءُهُ , وَلَوْ غَنَّى فِي صَلَاتِهِ أَوْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ أَوْ شَهِدَ الزُّورَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَوُضُوءُهُ بِحَالِهِ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نَزَحَ مِنْهَا أَدْلَاءً مَعْدُودَةً , فَإِذَا حَصَلَ الدَّلْوُ فِي الْبِئْرِ تَنَجَّسَ وَغَرَفَ الْمَاءَ نَجَسًا , وَمَا أَصَابَ حِيطَانَ الْبِئْرِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ نَجَّسَهَا , وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مِنْ الدِّلَاءِ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ النَّوْبَةُ إلَى الدَّلْوِ الْأَخِيرِ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ نَجَسًا ثُمَّ يَصْعَدُ طَاهِرًا فَيُقَشْقِشُ النَّجَاسَةَ كُلَّهَا مِنْ قَعْرِ الْبِئْرِ إلَى رَأْسِهِ . قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ : مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا الدَّلْوِ وَلَا أَعْقَلَ .(2/169)
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً حَنِثَ بِأَكْلِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ , وَلَوْ كَانَ يَابِسًا قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ , وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ . وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيلُ هَذَا بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مِنْ خِيَارِ الْفَاكِهَةِ وَأَعْلَى أَنْوَاعِهَا , فَلَا تَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْمُطْلَقِ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْ النِّيلِ أَوْ الْفُرَاتِ أَوْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ بِكَفِّهِ أَوْ بِكُوزٍ أَوْ دَلْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ لَمْ يَحْنَثْ , فَإِذَا شَرِبَ بِفِيهِ مِثْلَ الْبَهَائِمِ حَنِثَ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُغْلِقَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابُ وَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إلَى الْخَلَاءِ فَطَاقُ الْقِبْلَةِ وَمِحْرَابُ الْمَسْجِدِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ مُؤَخِّرِ الْمَسْجِدِ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي لَا يَزْدَادُ بِهَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إلَّا فَسَادًا مُضَاعَفًا , كَيْفَ تُبَاحُ مَعَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ الزَّائِدَةِ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَتُحَرَّمُ بِدُونِهَا ؟ وَكَيْفَ تَنْقَلِبُ مَفَاسِدُهَا بِالْحِيَلِ صَلَاحًا , وَتَصِيرُ خَمْرَتُهَا خَلًّا , وَخُبْثُهَا طِيبًا ؟ قَالُوا : فَهَذَا فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إلَى بَيَانِ فَسَادِ هَذِهِ الْحِيَلِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ , كَمَا تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إلَى فَسَادِهَا وَتَحْرِيمِهَا عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ , وَلَوْ تَتَبَّعْنَاهَا حِيلَةً حِيلَةً لَطَالَ الْكِتَابُ , وَلَكِنْ هَذِهِ أَمْثِلَةٌ يُحْتَذَى عَلَيْهَا , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ(2/170)
فَصْلٌ قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } وَالْحِيَلُ مَخَارِجٌ مِنْ الْمَضَائِقِ . وَالْجَوَابُ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ قَاعِدَةٍ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ وَمَرَاتِبِهَا , فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ هِيَ أَقْسَامٌ . [ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْحِيَلِ طُرُقٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَا هُوَ حَرَامٌ ] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : الطُّرُقُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا إلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ , بِحَيْثُ لَا يَحِلُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ بِحَالٍ , فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ فَهِيَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَذَلِكَ كَالْحِيَلِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَإِبْطَالِ حُقُوقِهِمْ وَإِفْسَادِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ , وَهِيَ مِنْ جِنْسِ حِيَلِ الشَّيَاطِينِ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ بِكُلِّ طَرِيقٍ , وَهُمْ يَتَحَيَّلُونَ عَلَيْهِمْ لِيُوقِعُوهُمْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ سِتَّةٍ وَلَا بُدَّ ; فَيَتَحَيَّلُونَ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ أَنْ يُوقِعُوهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ , فَإِذَا عَمِلَتْ حِيَلُهُمْ فِي ذَلِكَ قَرَّتْ عُيُونُهُمْ , فَإِنْ عَجَزَتْ حِيَلُهُمْ عَنْ مَنْ صَحَّتْ فِطْرَتُهُ وَتَلَاهَا شَاهِدُ الْإِيمَانِ مِنْ رَبِّهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ أَعْمَلُوا الْحِيلَةَ فِي إلْقَائِهِ فِي الْبِدْعَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَقَبُولِ الْقَلْبِ لَهَا وَتَهْيِئَتِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ .(2/171)
فَإِنْ تَمَّتْ حِيَلُهُمْ كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَعْصِيَةِ , وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً , ثُمَّ يَنْظُرُونَ فِي حَالِ مَنْ اسْتَجَابَ لَهُمْ إلَى الْبِدْعَةِ ; فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا مَتْبُوعًا فِي النَّاسِ أَمَرُوهُ بِالزُّهْدِ وَالتَّعَبُّدِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ , ثُمَّ أَطَارُوا لَهُ الثَّنَاءَ بَيْنَ النَّاسِ لِيَصْطَادُوا عَلَيْهِ الْجُهَّالَ وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالسُّنَّةِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَعَلُوا بِدْعَتَهُ عَوْنًا لَهُ عَلَى ظُلْمِهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَذَاهُمْ وَالنِّيلِ مِنْهُمْ , وَزَيَّنُوا لَهُ أَنَّ هَذَا انْتِصَارٌ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ , فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ وَمَنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بِتَحْكِيمِ السُّنَّةِ وَمَعْرِفَتِهَا وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبِدْعَةِ أَلْقَوْهُ فِي الْكَبَائِرِ , وَزَيَّنُوا لَهُ فِعْلَهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ , وَقَالُوا لَهُ : أَنْتَ عَلَى السُّنَّةِ , وَفُسَّاقُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ , وَعُبَّادُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَعْدَاءُ اللَّهِ , وَقُبُورُ فُسَّاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ , وَقُبُورُ عُبَّادِ أَهْلِ الْبِدَعِ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ , وَالتَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ , كَمَا أَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ , وَأَهْلُ السُّنَّةِ إنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ قَامَتْ بِهِمْ عَقَائِدُهُمْ , وَأَهْلُ الْبِدَعِ إذَا قَامَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ قَعَدَتْ بِهِمْ عَقَائِدُهُمْ , وَأَهْلُ السُّنَّةِ هُمْ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِرَبِّهِمْ إذْ وَصَفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَوَصَفُوهُ بِكُلِّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ(2/172)
وَنَزَّهُوهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ , وَاَللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ , وَأَهْلُ الْبِدَعِ هُمْ الَّذِينَ يَظُنُّونَ بِرَبِّهِمْ ظَنَّ السُّوءِ ; إذْ يُعَطِّلُونَهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْهَا , وَإِذَا عَطَّلُوهُ عَنْهَا لَزِمَ اتِّصَافُهُ بِأَضْدَادِهَا ضَرُورَةً ; وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ أَنْكَرَ صِفَةً وَاحِدَةً مِنْ صِفَاتِهِ وَهِيَ صِفَةُ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ الظَّانِّينَ بِاَللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أَنَّ عَلَيْهِمْ دَائِرَةَ السَّوْءِ , وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ , وَلَعَنَهُمْ , وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّم وَسَاءَتْ مَصِيرًا , فَلَمْ يَتَوَعَّدْ بِالْعِقَابِ أَحَدًا أَعْظَمَ مِمَّنْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السُّوءَ , وَأَنْتَ لَا تَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السُّوءِ , فَمَا لَك وَلِلْعِقَابِ ؟ وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ وَصْلَةً لَهُمْ , وَحِيلَةً إلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالْكَبَائِرِ , وَأَخْذِهِ الْأَمْنَ لِنَفْسِهِ . وَهَذِهِ حِيلَةٌ لَا يَنْجُو مِنْهَا إلَّا الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ , الْعَارِفُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ , فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ بِاَللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ لَهُ أَشَدَّ خَشْيَةً , وَكُلَّمَا كَانَ بِهِ أَجْهَلَ كَانَ أَشَدَّ غُرُورًا بِهِ وَأَقَلَّ خَشْيَةً .(2/173)
فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ وَعَظُمَ وَقَارُ اللَّهِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ هَوَّنُوا عَلَيْهِ الصَّغَائِرَ , وَقَالُوا لَهُ : إنَّهَا تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ , وَرُبَّمَا مَنَّوْهُ أَنَّهُ إذَا تَابَ مِنْهَا - كَبَائِرَ كَانَتْ أَوْ صَغَائِرَ - كُتِبَ لَهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ , فَيَقُولُونَ لَهُ : كَثِّرْ مِنْهَا مَا اسْتَطَعْت , ثُمَّ ارْبَحْ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً بِالتَّوْبَةِ , وَلَوْ قَبْلَ الْمَوْتِ بِسَاعَةٍ ; فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ وَخَلَّصَ اللَّهُ عَبْدَهُ مِنْهَا نَقَلُوهُ إلَى الْفُضُولِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَاحَاتِ وَالتَّوَسُّعِ فِيهَا , وَقَالُوا لَهُ : قَدْ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ إلَّا وَاحِدَةً ثُمَّ أَرَادَ تَكْمِيلَهَا بِالْمِائَةِ , وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ ابْنِهِ مِائَةُ امْرَأَةٍ , وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ , وَكَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ الدُّنْيَا وَسَعَةِ الْمَالِ مَا لَا يُجْهَلُ , وَيُنْسُوهُ مَا كَانَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ الْفَضْلِ , وَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقَطِعُوا عَنْ اللَّهِ بِدُنْيَاهُمْ , بَلْ سَارُوا بِهَا إلَيْهِ , فَكَانَتْ طَرِيقًا لَهُمْ إلَى اللَّهِ .(2/174)
فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ - بِأَنْ تَفْتَحَ بَصِيرَةَ قَلْبِ الْعَبْدِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُ بِهَا الْآخِرَةَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ , فَأَخَذَ حَذَرَهُ , وَتَأَهَّبَ لِلِّقَاءِ رَبِّهِ , وَاسْتَقْصَرَ مُدَّةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْحَيَاةَ الْبَاقِيَةَ الدَّائِمَةَ - نَقَلُوهُ إلَى الطَّاعَاتِ الْمَفْضُولَةِ الصَّغِيرَةِ الثَّوَابِ لِيَشْغَلُوهُ بِهَا عَنْ الطَّاعَاتِ الْفَاضِلَةِ الْكَثِيرَةِ الثَّوَابِ , فَيُعْمِلُ حِيلَتَهُ فِي تَرْكِهِ كُلَّ طَاعَةٍ كَبِيرَةٍ إلَى مَا هُوَ دُونَهَا , فَيُعْمِلُ حِيلَتَهُ فِي تَفْوِيتِ الْفَضِيلَةِ عَلَيْهِ ; فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ - وَهَيْهَاتَ - لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إلَّا حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ , وَهِيَ تَسْلِيطُ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْبِدَعِ وَالظَّلَمَةِ عَلَيْهِ يُؤْذُونَهُ , وَيُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنْهُ , وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ ; لِيُفَوِّتُوا عَلَيْهِ مَصْلَحَةَ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِمْ مَصْلَحَةَ الْإِجَابَةِ . فَهَذِهِ مَجَامِعُ أَنْوَاعِ حِيَلِ الشَّيْطَانِ , وَلَا يُحْصِي أَفْرَادَهَا إلَّا اللَّهُ , وَمَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ الْعَقْلِ يَعْرِفُ الْحِيلَةَ الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ , فَإِنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا , وَإِلَّا فَيَسْأَلُ مَنْ تَمَّتْ عَلَيْهِ , وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . [(2/175)
مِنْ حِيَلِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ ] وَهَذِهِ الْحِيَلُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ نَظِيرُ حِيَلِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ الْمُجَادِلِينَ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَيَتَوَصَّلُوا بِهِ إلَى أَغْرَاضِهِمْ الْفَاسِدَةِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَذَلِكَ كَحِيَلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى إفْسَادِ الشَّرَائِعِ , وَحِيَلِ الرُّهْبَانِ عَلَى أَشْبَاهِ الْحَمِيرِ مِنْ عَابِدِ الصَّلِيبِ بِمَا يُمَوِّهُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَخَارِيقِ وَالْحِيَلِ كَالنُّورِ الْمَصْنُوعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ , وَكَحِيَلِ أَرْبَابِ الْإِشَارَاتِ مِنْ الْإِذْنَ وَالتَّسْيِيرِ وَالتَّغْيِيرِ وَإِمْسَاكِ الْحَيَّاتِ وَدُخُولِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ , وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ حِيَلِ أَشْبَاهِ النَّصَارَى الَّتِي تَرُوجُ عَلَى أَشْبَاهِ الْأَنْعَامِ , وَكَحِيَلِ أَرْبَابِ الدَّكِّ وَخِفَّةِ الْيَدِ الَّتِي تَخْفَى عَلَى النَّاظِرِينَ أَسْبَابُهَا وَلَا يَتَفَطَّنُونَ لَهَا , وَكَحِيَلِ السَّحَرَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ ; فَإِنَّ سِحْرَ الْبَيَانِ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَيُّلِ : إمَّا لِكَوْنِهِ بَلَغَ مِنْ اللُّطْفِ وَالْحُسْنِ إلَى حَدِّ اسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ فَأَشْبَهَ السِّحْرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَإِمَّا لِكَوْنِ الْقَادِرِ عَلَى الْبَيَانِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَحْسِينِ الْقَبِيحِ وَتَقْبِيحِ الْحَسَنِ فَهُوَ أَيْضًا يُشْبِهُ السِّحْرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا .(2/176)
وَكَذَلِكَ سِحْرُ الْوَهْمِ أَيْضًا هُوَ حِيلَةٌ وَهْمِيَّةٌ , وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِتَأْثِيرِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَشَبَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْمَشْيِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ الْمَشْيُ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ عَلَى مَهْوَاةٍ بَعِيدَةِ الْقَعْرِ ؟ وَالْأَطِبَّاءُ تَنْهَى صَاحِبَ الرُّعَافِ عَنْ النَّظَرِ إلَى الشَّيْءِ الْأَحْمَرِ , وَتَنْهَى الْمَصْرُوعَ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ اللَّمَعَانِ أَوْ الدَّوْرَانِ , فَإِنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مَطِيَّةَ الْأَوْهَامِ , وَالطَّبِيعَةُ فَعَّالَةٌ , وَالْأَحْوَالُ الْجُسْمَانِيَّةُ تَابِعَةٌ لِلْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ .(2/177)
وَكَذَلِكَ السِّحْرُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا بِالْإِشْرَاكِ بِهَا وَالِاتِّصَافِ بِهَيْئَاتِهَا الْخَبِيثَةِ ; وَلِهَذَا لَا يَعْمَلُ السِّحْرُ إلَّا مَعَ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ , وَكُلَّمَا كَانَتْ النَّفْسُ أَخْبَثَ كَانَ سِحْرُهَا أَقْوَى , وَكَذَلِكَ سِحْرُ التَّمْزِيجَاتِ - وَهُوَ أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ - أَنْ يُمْزَجَ بَيْنَ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الْخَبِيثَةِ الْفَعَّالَةِ وَالْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ الْمُنْفَعِلَةِ , وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا السَّاحِرُ غَرَضَهُ , وَحِيَلُ السَّاحِرِ مِنْ أَضْعَفِ الْحِيَلِ وَأَقْوَاهَا , وَلَكِنْ لَا تُؤَثِّرُ تَأْثِيرًا مُسْتَقِرًّا إلَّا فِي الْأَنْفُسِ الْبَاطِلَةِ الْمُنْفَعِلَةِ لِلشَّهَوَاتِ الضَّعِيفَةِ تَعَلُّقِهَا بِفَاطِرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ ; فَهَذِهِ النُّفُوسُ مَحَلُّ تَأْثِيرِ السِّحْرِ , وَكَحِيَلِ أَرْبَابِ الْمَلَاهِي وَالطَّرِبِ عَلَى اسْتِمَالَةِ النُّفُوسِ إلَى مَحَبَّةِ الصُّوَرِ وَالْوُصُولِ إلَى الِالْتِذَاذِ بِهَا ; فَحِيلَةُ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ عَلَيْهِ , حَتَّى قِيلَ : أَوَّلُ مَا وَقَعَ الزِّنَا فِي الْعَالَمِ فَإِنَّمَا كَانَ بِحِيلَةِ الْيَرَاعِ وَالْغِنَاءِ , لَمَّا أَرَادَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ حِيلَةً أَدْنَى مِنْ الْمَلَاهِي .(2/178)
وَكَحِيَلِ اللُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ , وَهُمْ أَنْوَاعٌ لَا تُحْصَى ; فَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِأَيْدِيهِمْ , وَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِأَقْلَامِهِمْ , وَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِأَمَانَتِهِمْ , وَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الدِّينِ وَالْفَقْرِ وَالصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ , وَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِمَكْرِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ وَغِشِّهِمْ , وَبِالْجُمْلَةِ فَحِيَلُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَكْثَرِ الْحِيَلِ , وَتَلِيهَا حِيَلُ عُشَّاقِ الصُّوَرِ عَلَى الْوُصُولِ إلَى أَغْرَاضِهِمْ فَإِنَّهَا تَقَعُ فِي الْغَالِبِ خَفِيَّةً , وَإِنَّمَا تَتِمُّ غَالِبًا عَلَى النُّفُوسِ الْقَابِلَةِ الْمُنْفَعِلَةِ الشَّهْوَانِيَّةِ , وَكَحِيَلِ التَّتَارِ الَّتِي مَلَكُوا بِهَا الْبِلَادَ وَقَهَرُوا بِهَا الْعِبَادَ وَسَفَكُوا بِهَا الدِّمَاءَ وَاسْتَبَاحُوا بِهَا الْأَمْوَالَ , وَكَحِيَلِ الْيَهُودِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنْ الرَّافِضَةِ فَإِنَّهُمْ بَيْتُ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ , وَلِهَذَا ضُرِبَتْ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الذِّلَّةُ , وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كُلِّ مُخَادِعٍ مُحْتَالٍ بِالْبَاطِلِ .
[(2/179)
أَرْبَابُ الْحِيَلِ نَوْعَانِ ] ثُمَّ أَرْبَابُ هَذِهِ الْحِيَلِ نَوْعَانِ : نَوْعُ يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ مَقْصُودِهِ , وَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ حَلَالٌ , كَحِيَلِ اللُّصُوصِ وَعُشَّاقِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَحْوِهِمَا , وَنَوْعٌ يُظْهِرُ صَاحِبُهُ أَنَّ مَقْصُودَهُ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ وَيُبْطِنُ خِلَافَهُ . وَأَرْبَابُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنْ هَؤُلَاءِ ; فَإِنَّهُمْ أَتَوْا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَالْأَمْرَ مِنْ طَرِيقِهِ وَوَجْهِهِ , وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَلَبُوا مَوْضُوعَ الشَّرْعِ وَالدِّينِ , وَلَمَّا كَانَ أَرْبَابُ هَذَا النَّوْعِ إنَّمَا يُبَاشِرُونَ الْأَسْبَابَ الْجَائِزَةَ وَلَا يُظْهِرُونَ مَقَاصِدَهُمْ أَعْضَلَ أَمْرُهُمْ , وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِهِمْ , وَصَعُبَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُمْ , وَعَزَّ عَلَى الْعَالَمِ اسْتِنْقَاذُ قَتْلَاهُمْ , فَاسْتُبِيحَتْ بِحِيَلِهِمْ الْفُرُوجُ , وَأُخِذَتْ بِهَا الْأَمْوَالُ مِنْ أَرْبَابِهَا فَأُعْطِيَتْ لِغَيْرِ أَهْلِهَا , وَعُطِّلَتْ بِهَا الْوَاجِبَاتُ , وَضُيِّعَتْ بِهَا الْحُقُوقُ , وَعَجَّتْ الْفُرُوجُ وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ إلَى رَبِّهَا عَجِيجًا , وَضَجَّتْ مِمَّا حَلَّ بِهَا إلَيْهِ ضَجِيجًا , وَلَا يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ تَعْلِيمَ هَذِهِ الْحِيَلِ حَرَامٌ , وَالْإِفْتَاءُ بِهَا حَرَامٌ , وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَضْمُونِهَا حَرَامٌ , وَالْحُكْمُ بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهَا حَرَامٌ , وَاَلَّذِي جَوَّزُوا مِنْهَا مَا جَوَّزُوا مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ جَوَّزُوهُ عَلَى وَجْهِ الْحِيلَةِ إلَى الْمُحَرَّمِ , وَإِنَّمَا جَوَّزُوا صُورَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ .(2/180)
ثُمَّ إنَّ الْمُتَحَيِّلَ الْمُخَادِعَ الْمَكَّارَ أَخَذَ صُورَةَ مَا أَفْتَوْا بِهِ فَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى مَا مَنَعُوا مِنْهُ , وَرَكَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَفَتَاوَاهُمْ , وَهَذَا فِيهِ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الشَّارِعِ , مِثَالُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله تعالى يُجَوِّزُ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ ; فَيَتَّخِذُهُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ لِوَارِثِهِ وَسِيلَةً إلَى الْوَصِيَّةِ لَهُ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ . وَيَقُولُ : هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ , وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ ; فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهَا بِالْإِقْرَارِ ; فَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ لِلرَّجُلِ إذَا اشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِ سِلْعَةً بِثَمَنٍ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ السَّلَامَةِ . وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ حِيلَةً عَلَى بَيْعِ مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى سَنَةٍ ; فَاَلَّذِي يَسُدُّ الذَّرَائِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ : هُوَ يُتَّخَذُ حِيلَةً إلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , فَلَا يَقْبَلُ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ , وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعَ . وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ إقْرَارَ الْمَرْءِ شَهَادَةٌ عَلَى نَفْسِهِ , فَإِذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا التُّهْمَةُ بَطَلَتْ كَالشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ . وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : أَقْبَلُ إقْرَارَهُ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِالْمُقِرِّ , وَحَمْلًا لِإِقْرَارِهِ عَلَى السَّلَامَةِ , وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْخَاتِمَةِ .(2/181)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجِ بِمَا يُعْلِمُهُ إيَّاهَا أَرْبَابُ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ , بِأَنْ تُنْكِرَ أَنْ تَكُونَ أَذِنَتْ لِلْوَلِيِّ , أَوْ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ أَوْ الشُّهُودَ جَلَسُوا وَقْتُ الْعَقْدِ عَلَى فِرَاشِ حَرِيرٍ , أَوْ اسْتَنَدُوا إلَى وِسَادَةِ حَرِيرٍ . وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْحِيلَةَ إذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا , وَأَرَادَ تَخْلِيصَهُ مِنْ عَارِ التَّحْلِيلِ وَشَنَارِهِ أَرْشَدَهُ إلَى الْقَدْحِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ أَوْ الشُّهُودِ , فَلَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ . وَقَدْ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لَمَّا كَانَ مُقِيمًا مَعَهَا عِدَّةَ سِنِينَ , فَلَمَّا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فَسَدَ النِّكَاحُ . وَمِنْ هَذَا احْتِيَالُ الْبَائِعِ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا وَقْتَ الْعَقْدِ , أَوْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا , أَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ , أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مِلْكًا لَهُ وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي بَيْعِهِ(2/182)
فَهَذِهِ الْحِيَلُ وَأَمْثَالُهَا لَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي أَنَّهَا مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَأَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ , وَهِيَ مِنْ التَّلَاعُبِ بِدِينِ اللَّهِ , وَاِتِّخَاذِ آيَاتِهِ هُزُوًا , وَهِيَ حَرَامٌ مِنْ جِهَتِهَا فِي نَفْسِهَا لِكَوْنِهَا كَذِبًا وَزُورًا , وَحَرَامٌ مِنْ جِهَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا , وَهُوَ إبْطَالُ حَقٍّ وَإِثْبَاتُ بَاطِلٍ ; فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : [ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ ] أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُحَرَّمَةً وَيُقْصَدُ بِهَا الْمُحَرَّمُ . الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً فِي نَفْسِهَا وَيُقْصَدُ بِهَا الْمُحَرَّمُ ; فَيَصِيرُ حَرَامًا تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ . وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ تَكُونُ الْحِيلَةُ فِيهِمَا مَوْضُوعَةً لِلْمَقْصُودِ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ , وَمُفْضِيَةً إلَيْهِ , كَمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمَقْصُودِ الصَّحِيحِ الْجَائِزِ وَمُفْضِيَةٌ إلَيْهِ ; فَإِنَّ السَّفَرَ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِهَذَا وَهَذَا . الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ لَمْ تُوضَعْ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الْمُحَرَّمِ , وَإِنَّمَا وُضِعَتْ مُفْضِيَةً إلَى الْمَشْرُوعِ كَالْإِقْرَارِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَيَتَّخِذُهَا الْمُتَحَيِّلُ سُلَّمًا وَطَرِيقًا إلَى الْحَرَامِ , وَهَذَا مُعْتَرَكُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ , وَهُوَ الَّذِي قَصَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ . [(2/183)
نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ الْحِيَلِ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ يُقْصَدُ بِهَا أَخْذُ حَقٍّ ] الْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقْصَدَ بِالْحِيلَةِ أَخْذِ حَقٍّ أَوْ دَفْعُ بَاطِلٍ , وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ , وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ حَقًّا , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَيَجْحَدَهُ , وَلَا يُبَيِّنُهُ لَهُ , فَيُقِيمَ صَاحِبُهُ شَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ بِهِ , وَلَا يَعْلَمَانِ ثُبُوتَ ذَلِكَ الْحَقِّ , وَمِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا , وَيَجْحَدَ الطَّلَاقَ , وَلَا يُبَيِّنُهُ لَهَا , فَتُقِيمَ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا , وَلَمْ يَسْمَعَا الطَّلَاقَ مِنْهُ , وَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ , وَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ , فَيَجْحَدَ الْوَدِيعَةَ , فَيَجْحَدَ هُوَ الدَّيْنَ , أَوْ بِالْعَكْسِ , وَيَحْلِفَ مَا لَهُ عِنْدِي حَقٌّ , أَوْ مَا أَوْدَعَنِي شَيْئًا , وَإِنْ كَانَ يُجِيزُ هَذَا مَنْ يُجِيزُ مَسْأَلَةَ الظَّفَرِ .(2/184)
وَمِثْلُ أَنْ تَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ كِسْوَةً أَوْ نَفَقَةً مَاضِيَةً كَذِبًا وَبَاطِلًا , فَيُنْكِرَ أَنْ تَكُونَ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ , أَوْ يُقِيمَ شَاهِدَيْ زُورٍ أَنَّهَا كَانَتْ نَاشِزًا ; فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ , وَمِثْلُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلٌ وَلِيَّهُ فَيُقِيمَ شَاهِدَيْ زُورٍ وَلَمْ يَشْهَدَا الْقَتْلَ فَيَشْهَدَا أَنَّهُ قَتَلَهُ , وَمِثْلُ أَنْ يَمُوتَ مَوْرُوثُهُ فَيُقِيمَ شَاهِدَيْ زُورٍ أَنَّهُ مَاتَ وَأَنَّهُ وَارِثُهُ , وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ , وَنَظَائِرُهُ مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ لَا شَاهِدَ لَهُ بِهِ فَيُقِيمُ شَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ لَهُ بِهِ ; فَهَذَا يَأْثَمُ عَلَى الْوَسِيلَةِ دُونَ الْمَقْصُودِ , وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك , وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } .(2/185)
فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مَشْرُوعَةً , وَمَا يُفْضِي إلَيْهِ مَشْرُوعٌ , وَهَذِهِ هِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي نَصَبَهَا الشَّارِعُ مُفْضِيَةً إلَى مُسَبَّبَاتِهَا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارِعَةِ وَالْوَكَالَةِ , بَلْ الْأَسْبَابُ مَحَلُّ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَهِيَ فِي اقْتِضَائِهَا لِمُسَبَّبَاتِهَا شَرْعًا عَلَى وِزَانِ الْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ فِي اقْتِضَائِهَا لِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا ; فَهَذَا شَرْعُ الرَّبِّ تَعَالَى وَذَلِكَ قَدَرُهُ , وَهُمَا خَلْقُهُ وَأَمْرُهُ , وَاَللَّهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ , وَلَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ , وَلَا تَغْيِيرَ لِحُكْمِهِ , فَكَمَا لَا يُخَالِفُ سُبْحَانَهُ بِالْأَسْبَابِ الْقَدَرِيَّةِ أَحْكَامَهَا بَلْ يُجْرِيهَا عَلَى أَسْبَابِهَا وَمَا خُلِقَتْ لَهُ ; فَهَكَذَا الْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ سَبَبِهَا وَمَا شُرِعَتْ لَهُ , بَلْ هَذِهِ سُنَّتُهُ شَرْعًا وَأَمْرًا , وَتِلْكَ سُنَّتُهُ قَضَاءً وَقَدَرًا , وَسُنَّتُهُ الْأَمْرِيَّةُ قَدْ تُبَدَّلُ وَتَتَغَيَّرُ كَمَا يُعْصَى أَمْرُهُ وَيُخَالَفُ , وَأَمَّا سُنَّتُهُ الْقَدَرِيَّةُ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا , كَمَا لَا يُعْصَى أَمْرُهُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ التَّحَيُّلُ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَعَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ , وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِكُلِّ حَيَوَانٍ ; فَلِأَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ وَالْمَكْرِ مَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ بَنُو آدَمَ . وَلَيْسَ كَلَامُنَا وَلَا كَلَامُ السَّلَفِ فِي ذَمِّ الْحِيَلِ مُتَنَاوِلًا لِهَذَا الْقِسْمِ .(2/186)
بَلْ الْعَاجِزُ مَنْ عَجَزَ عَنْهُ , وَالْكَيِّسُ مَنْ كَانَ بِهِ أَفْطَنَ وَعَلَيْهِ أَقْدَرَ , وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرْبِ فَإِنَّهَا خَدْعَةٌ . وَالْعَجْزُ كُلُّ الْعَجْزِ تَرْكُ هَذِهِ الْحِيلَةِ . وَالْإِنْسَانُ مَنْدُوبٌ إلَى اسْتِعَاذَتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ; فَالْعَجْزُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحِيلَةِ النَّافِعَةِ . وَالْكَسَلُ عَدَمُ الْإِرَادَةِ لِفِعْلِهَا ; فَالْعَاجِزُ لَا يَسْتَطِيعُ الْحِيلَةَ , وَالْكَسْلَانُ لَا يُرِيدُهَا . وَمَنْ لَمْ يَحْتَلْ وَقَدْ أَمْكَنَتْهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ أَضَاعَ فُرْصَتَهُ وَفَرَّطَ فِي مَصَالِحِهِ , كَمَا قَالَ : إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَحْتَلْ وَقَدْ جَدَّ جِدُّهُ أَضَاعَ وَقَاسَى أَمْرَهُ وَهُوَ مُدْبِرُ . وَفِي هَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْأَمْرُ أَمْرَانِ : أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا يُعْجَزُ عَنْهُ , وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا يُجْزَعُ مِنْهُ .(2/187)
فَصْلٌ [ الِاحْتِيَالُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ بِطَرِيقٍ مُبَاحَةٍ لَكِنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ ] . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَحْتَالَ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى حَقٍّ أَوْ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ بِطَرِيقٍ مُبَاحَةٍ لَمْ تُوضَعْ مُوَصِّلَةً إلَى ذَلِكَ , بَلْ وُضِعَتْ لِغَيْرِهِ , فَيَتَّخِذُهَا هُوَ طَرِيقًا إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ الصَّحِيحِ , أَوْ قَدْ يَكُونُ قَدْ وُضِعَتْ لَهُ لَكِنْ تَكُونُ خَفِيَّةً وَلَا يَفْطِنُ لَهَا , وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ نُصِبَتْ مُفْضِيَةً إلَى مَقْصُودِهَا ظَاهِرًا , فَسَالِكُهَا سَالِكٌ لِلطَّرِيقِ الْمَعْهُودِ , وَالطَّرِيقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ نُصِبَتْ مُفْضِيَةً إلَى غَيْرِهِ فَيَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ ; فَهِيَ فِي الْفِعَالِ كَالتَّعْرِيضِ الْجَائِزِ فِي الْمَقَالِ , أَوْ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ لَكِنْ بِخَفَاءٍ , وَنَذْكُرُ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً يُنْتَفَعُ بِهَا فِي هَذَا الْبَابِ .(2/188)
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ دَارًا مُدَّةَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ , فَخَافَ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ الْمُكْرِي فِي آخِرِ الْمُدَّةِ وَيَتَسَبَّبَ إلَى فَسْخِ الْإِجَارَة بِأَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَارِ أَوْ أَنَّ الْمُؤَجَّرَ مِلْكٌ لِابْنِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ مُؤَجَّرًا قَبْلَ إيجَارِهِ , وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَقْبُوضَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْمُدَّةِ وَيَنْتَزِعُ الْمُؤَجَّرَ لَهُ مِنْهُ ; فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْمُسْتَأْجِرُ دَرَكَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ , فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ أَوْ ظَهَرَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْهُ , أَوْ يَأْخُذُ إقْرَارَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَيْنِ وَأَنَّ كُلَّ دَعْوَى يَدَّعِيهَا بِسَبَبِهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ , أَوْ يَسْتَأْجِرُهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلًا ثُمَّ يُصَارِفَهُ كُلَّ دِينَارٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ , فَإِذَا طَالَبَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ طَالَبَهُ هُوَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ , فَإِنَّهُ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ , وَلَكِنْ يَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ , فَلْيُقَسِّطْ [ مَبْلَغَ ] الْأُجْرَةِ عَلَى عَدَدِ السِّنِينَ , وَيَجْعَلْ مُعْظَمَهَا لِلسَّنَةِ الَّتِي يَخْشَى غَدْرَهُ فِيهَا . وَكَذَلِكَ إذَا خَافَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يَغْدِرَ الْمُسْتَأْجِرُ وَيَرْحَلَ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ , فَلْيَجْعَلْ مُعْظَمَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا مِنْ رَحِيلِهِ , وَالْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهَا لِآخِرِ الْمُدَّةِ(2/189)
الْمِثَالُ الثَّانِي : أَنْ يَخَافَ رَبُّ الدَّارِ غَيْبَةَ الْمُسْتَأْجِرِ , وَيَحْتَاجُ إلَى دَارِهِ فَلَا يُسَلِّمُهَا أَهْلُهُ إلَيْهِ , فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا رَبُّهَا مِنْ امْرَأَةِ الْمُسْتَأْجِرِ , وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ أَنْ تَرُدَّ إلَيْهِ الْمَرْأَةُ الدَّارَ وَتُفْرِغَهَا مَتَى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ , أَوْ تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ الزَّوْجُ ; فَمَتَى اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا وَضَمِنَ الْآخَرُ الرَّدَّ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدُهُمَا مِنْ الِامْتِنَاعِ , وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ فَجَحَدَ وَرَثَتُهُ الْإِجَارَةُ وَادَّعَوْا أَنَّ الدَّارَ لَهُمْ نَفَعَ رَبَّ الدَّارِ كَفَالَةُ الْوَرَثَةِ وَضَمَانُهُمْ رَدَّ الدَّارِ إلَى الْمُؤَجِّرِ , فَإِنْ خَافَ الْمُؤَجِّرُ إفْلَاسَ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِ الْأُجْرَةِ ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِأُجْرَةِ مَا سَكَنَ أَبَدًا , وَيُسَمِّيَ أُجْرَةَ كُلِّ شَهْرٍ لِلضَّمِينِ , وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ بِضَمَانِهِ(2/190)
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَ رَبُّ الدَّارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ يَعْلِفَ الدَّابَّةَ بِقَدْرِ حَاجَتِهَا , وَخَافَ أَنْ لَا يَحْتَسِبَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأُجْرَةِ ; فَالْحِيلَةُ فِي اعْتِدَادِهِ بِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الدَّابَّةُ أَوْ الدَّارُ , وَيُسَمِّي لَهُ قَدْرًا مَعْلُومًا , وَيَحْسِبَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ , وَيُشْهِدَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي صَرْفِ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِيمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الدَّارُ أَوْ الدَّابَّةُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تُجَوِّزُونَ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ بِهِ أَوْ الصَّدَقَةِ بِهِ أَوْ إبْرَاءِ نَفْسِهِ مِنْهُ أَوْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا , وَيَبْرَأَ الْمَدِينُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَفِي صُورَةِ الْمُضَارَبَةِ بِالدَّيْنِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قَبْضَ الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِبْرَائِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ دَيْنِ الْغَرِيمِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ مَتَى أَخْرَجَ الدَّيْنَ وَضَارَبَ بِهِ فَقَدْ صَارَ الْمَالُ أَمَانَةً وَبَرِئَ مِنْهُ ; وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ .(2/191)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ , وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ , وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ , وَلَا يَقْتَضِي تَجْوِيزُهُ مُخَالَفَةَ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ , وَلَا وُقُوعًا فِي مَحْظُورٍ مِنْ رِبًا وَلَا قِمَارٍ وَلَا بَيْعِ غَرَرٍ , وَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا ; فَلَا يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الْمَنْعُ مِنْهُ , وَتَجْوِيزُهُ مِنْ مَحَاسِنِهَا وَمُقْتَضَاهَا .(2/192)
وَقَوْلُهُمْ : " إنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْرَاءَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ " كَلَامٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُوهِمُ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ , وَبِالْفِعْلِ الَّذِي بِهِ يَبْرَأُ , وَهَذَا إيهَامٌ ; فَإِنَّهُ إنَّمَا بَرِئَ بِمَا أَذِنَ لَهُ رَبُّ الدَّيْنِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الَّذِي تَضَمَّنَ بَرَاءَتَهُ مِنْ الدَّيْنِ , فَأَيُّ مَحْذُورٍ فِي أَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا أَذِنَ لَهُ فِيهِ رَبُّ الدَّيْنِ , وَمُسْتَحِقُّهُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُ ؟ فَكَيْفَ يُنْكِرُ أَنْ يَقَعَ فِي الْأَحْكَامِ الضِّمْنِيَّةِ التَّبَعِيَّةِ مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْمَتْبُوعَاتِ , وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ ؟ حَتَّى لَوْ وَكَّلَهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ مِنْ الدَّيْنِ جَازَ وَمَلَكَ ذَلِكَ , كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَرْأَةَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ; فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت , أَوْ يَقُولَ لِغَرِيمِهِ : أَبْرِي نَفْسَك إنْ شِئْت , وَقَدْ قَالُوا : لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ , فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِعْتَاقِ مَلَكَهُ , فَلَوْ أَعْتَقَ نَفْسَهُ صَحَّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ لِمَانِعٍ آخَرَ , وَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ , وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ , نَعَمُ الْمَحْذُورُ أَنْ يَمْلِكَ إبْرَاءَ نَفْسِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ رِضَا رَبِّهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ ; فَهَذَا هُوَ الْمُخَالِفُ لِقَوَاعِد الشَّرْعِ .(2/193)
فَإِنْ قِيلَ : فَالدَّيْنُ لَا يَتَعَيَّنُ , بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ , فَإِذَا أَخْرَجَ مَالًا وَاشْتَرَى بِهِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الدَّيْنُ , وَرَبُّ الدَّيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ , فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ . قِيلَ : هُوَ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقٌ , وَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ طَابَقَهُ صَحَّ أَنْ يُعَيَّنَ عَنْهُ وَيُجْزِئَ , وَهَذَا كَإِيجَابِ الرَّبِّ تَعَالَى الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ , وَلَكِنْ أَيُّ رَقَبَةٍ عَيَّنَهَا الْمُكَلَّفُ وَكَانَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ تَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ . وَنَظِيرُهُ هَاهُنَا أَنَّ أَيَّ فَرْدٍ عَيَّنَهُ وَكَانَ مُطَابِقًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ تَعَيَّنَ وَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ . وَهَذَا كَمَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَى رَبِّهِ , وَكَمَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ التَّوْكِيلِ فِي قَبْضِهِ ; فَهَكَذَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ تَوْكِيلِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ يُعَيِّنَهُ ثُمَّ يُضَارِبَ بِهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ أَوْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا ; وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ وَمُوجَبُ الْقِيَاسِ , وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَعَيُّنِهِ إذَا وَكَّلَ الْغَيْرَ فِي قَبْضِهِ وَالشِّرَاءِ أَوْ التَّصَدُّقِ بِهِ وَبَيْنَ تَعْيِينِهِ إذَا وَكَّلَ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ يُعَيِّنَهُ وَيُضَارِبَ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ؟ فَهَلْ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ فِقْهٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا أَوْ حِكْمَةٌ لِلشَّارِعِ فَيَجِبُ مُرَاعَاتُهَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : تَجَوَّزُوا عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ لَهُ : اجْعَلْ الدَّيْنَ عَلَيْك رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي كَذَا وَكَذَا .(2/194)
قِيلَ : شَرْطُ صِحَّةِ النَّقْضِ أَمْرَانِ ; أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ الَّتِي تَنْقُضُ بِهَا مُسَاوِيَةً لِسَائِرِ الصُّوَرِ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ , الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا مَعْلُومًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ , وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا , فَلَا إجْمَاعَ مَعْلُومٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ حُكِيَ وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ; فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ جَوَازِهَا رَأَى أَنَّهَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ , بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ , وَالْمُجَوِّزُ لَهَا يَقُولُ : لَيْسَ عَنْ الشَّارِعِ نَصٌّ عَامٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ , وَغَايَةُ مَا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ وَفِيهِ مَا فِيهِ : { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } وَالْكَالِئُ : هُوَ الْمُؤَخَّرُ , وَهَذَا كَمَا إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ , فَهَذَا هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ شَغْلَ الذِّمَّتَيْنِ بِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لَهُمَا , وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ وَخَلَفَهُ دَيْنٌ آخَرُ وَاجِبٌ فَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ السَّاقِطِ بِالْوَاجِبِ , فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّاقِطِ بِالسَّاقِطِ فِي بَابِ الْمُقَاصَّةِ , فَإِنْ بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ أَنْفَقَ عَلَى الدَّابَّةِ , وَقَالَ : أَنْفَقْتُ كَذَا وَكَذَا , وَأَنْكَرَ الْمُؤَجِّرُ , فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي بَرَاءَةَ نَفْسِهِ مِنْ الْحَقِّ الثَّابِتِ عَلَيْهِ , وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .(2/195)
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَنْفَعُهُ إشْهَادُ رَبِّ الدَّارِ أَوْ الدَّابَّةِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِي إنْفَاقَهُ ؟ . قِيلَ : لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ , وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَنْفَقَ شَيْئًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَلَّا يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْإِنْفَاقِ , وَلَكِنْ يَنْتَفِعُ بَعْدَ الْإِنْفَاقِ بِإِشْهَادِ الْمُؤَجِّرِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَنْفَقَهُ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِنْفَاقِ مُدَّعٍ , فَإِذَا صَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ , وَقَبْلَ الْإِنْفَاقِ لَيْسَ مُدَّعِيًا , وَلَا يَنْفَعُهُ إشْهَادُ الْمُؤَجِّرِ بِتَصْدِيقِهِ فِيمَا سَوْفَ يَدَّعِيه فِي الْمُسْتَقْبَلِ ; فَهَذَا شَيْءٌ وَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْحِيلَةُ عَلَى أَنْ يُصَدِّقَ الْمُؤَجِّرُ الْمُسْتَأْجِرَ فِيمَا يَدَّعِيه مِنْ النَّفَقَةِ ؟ قِيلَ : الْحِيلَةُ أَنْ يُسْلِفَ الْمُسْتَأْجِرُ رَبَّ الدَّارِ أَوْ الْحَيَوَانِ مِنْ الْأُجْرَةِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ , وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ , ثُمَّ يَدْفَعَ رَبُّ الدَّارِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ , وَيُوَكِّلَهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى دَارِهِ أَوْ دَابَّتِهِ , فَيَصِيرَ أَمِينَهُ فَيُصَدِّقَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيه إذَا كَانَ ذَلِكَ نَفَقَةَ مِثْلِهِ عُرْفًا , فَإِنْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ لَمْ يُصَدَّقْ بِهِ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ لَا يَدْفَعُ بِهَا حَقًّا , وَلَا يَتَوَصَّلُ بِهَا لَمُحَرَّمٍ , وَلَا يُقِيمُ بِهَا بَاطِلًا .
[(2/196)
خَوْفُ رَبِّ الدَّارِ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ تَسْلِيمَهَا ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا خَافَ رَبُّ الدَّارِ أَوْ الدَّابَّةِ أَنْ يُعَوِّقَهَا عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ الْمُدَّةِ , فَالْحِيلَةُ فِي أَمْنِهِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : مَتَى حَبَسْتُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَأُجْرَتُهَا كُلَّ يَوْمٍ كَذَا وَكَذَا , فَإِنَّهُ يَخَافُ مِنْ حَبْسِهَا أَنْ يُلْزِمَهُ بِذَلِكَ .
[(2/197)
اسْتِئْجَارُ الشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ : لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ , لِذَهَابِ عَيْنِ الْمُسْتَأْجَرِ , وَالْحِيلَةُ فِي تَجْوِيزِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ الشَّمْعَةِ أَوَاقِيَّ مَعْلُومَةً , ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهَا , فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَشْعَلَ مِنْهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ , وَإِلَّا احْتَسَبَ لَهُ بِمَا أَذْهَبَهُ مِنْهَا , وَأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الشَّمْعَةِ كُلَّ أُوقِيَّةٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ , قَلَّ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا أَوْ كَثُرَ , وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا , وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ , وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى نَصِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ إجَارَةِ الدَّارِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ , وَقَدْ أَجَرَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ نَفْسَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ , وَلَا مَحْذُورَ فِي هَذَا أَصْلًا , وَلَا يُفْضِي إلَى تَنَازُعٍ وَلَا تَشَاحُنٍ , بَلْ عَمَلُ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ بِيَاعَاتِهِمْ عَلَيْهِ , وَلَا يَضُرُّهُ جَهَالَةُ كَمْيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْبَيْعِ ; لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمَانِعَةَ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ هِيَ الَّتِي تُؤَدِّي إلَى الْقِمَارِ وَالْغَرَرِ , وَلَا يَدْرِي الْعَاقِدُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَدْخُلُ , وَهَذِهِ لَا تُؤَدِّي إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , بَلْ إنْ أَرَادَ قَلِيلًا أَخَذَ وَالْبَائِعُ رَاضٍ , وَإِنْ أَرَادَ كَثِيرًا أَخَذَ وَالْبَائِعُ رَاضٍ , وَالشَّرِيعَةُ لَا تُحَرِّمُ مِثْلَ هَذَا وَلَا تَمْنَعُ مِنْهُ , بَلْ هِيَ أَسْمَحُ مِنْ ذَلِكَ وَأَحْكَمُ .(2/198)
فَإِنْ قِيلَ : لَكِنْ فِي الْعَقْدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْذُورَانِ ; أَحَدُهُمَا : تَضَمُّنُهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ , وَالثَّانِي : أَنَّ مَوْرِدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ يَذْهَبُ عَيْنُهُ أَوْ بَعْضُهُ بِالْإِشْعَالِ . قِيلَ : لَا مَحْذُورَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عَقْدَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزٌ بِمُفْرَدِهِ , كَمَا لَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً وَأَجَرَهُ دَارِهِ شَهْرًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ , وَأَمَّا مَذْهَبُ إجْزَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ بِالِانْتِفَاعِ فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَوَّضْ عَنْهُ الْمُؤَجِّرُ , وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يَقْتَضِي رَدَّ الْعَيْنِ بَعْدَ الِانْتِفَاعِ , وَأَمَّا هَذَا الْعَقْدُ فَهُوَ عَقْدُ بَيْعٍ يَقْتَضِي ضَمَانَ الْمُتْلَفِ بِثَمَنِهِ الَّذِي قُدِّرَ لَهُ وَأُجْرَةِ انْتِفَاعِهِ بِالْعَيْنِ قَبْلَ الْإِتْلَافِ , فَالْأُجْرَةُ فِي مُقَابَلَةِ انْتِفَاعِهِ بِهَا مُدَّةَ بَقَائِهَا , وَالثَّمَنُ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَذْهَبَ مِنْهَا , فَدَعَوْنَا مِنْ تَقْلِيدِ آرَاءِ الرِّجَالِ , مَا الَّذِي حَرَّمَ هَذَا ؟ وَأَيْنَ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ أَوْ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِلْأَصْلِ وَيَكُونُ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ ؟ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَذَاكَ وَمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
[(2/199)
اشْتِرَاطُ الزَّوْجَةِ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ ] الْمِثَالُ السَّادِسُ : أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا أَوْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا , وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ حَاكِمٌ يُصَحِّحُ هَذَا الشَّرْطَ , أَوْ تَخَافُ أَنْ يَرْفَعَهَا إلَى حَاكِمٍ يُبْطِلُهُ , فَالْحِيلَةُ فِي تَصْحِيحِهِ أَنْ تُلْزِمَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ بِأَنْ يَقُولَ : إنْ تَزَوَّجْت عَلَيْك امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ . وَهَذَا الشَّرْطُ يَصِحُّ وَإِنْ قُلْنَا : " لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ " نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَمَّا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ مَنْعِ التَّزْوِيجِ بِحَيْثُ لَوْ تَزَوَّجَ فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَمُفَارَقَتِهِ جَازَ اشْتِرَاطُ طَلَاقِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا , كَمَا جَازَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ نِكَاحِهَا , فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهَا هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلِتَأْخُذْ شَرْطَهُ أَنَّهُ إنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا , أَوْ أَمْرُ الضَّرَّةِ بِيَدِهَا , وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ ; لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى الصَّحِيحِ , وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ عَلَى الشَّرْطِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ , كَمَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ عَلَى الشَّرْطِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ .(2/200)
وَلَوْ قِيلَ : " لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ " لَصَحَّ تَعْلِيقُ هَذَا التَّوْكِيلِ الْخَاصِّ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْقَاطَ , فَهُوَ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ بِالشَّرْطِ , وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِالْبَرَاءَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ , وَقَدْ فَعَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَأُصُولُهُ تَقْتَضِي صِحَّتَهُ , وَلَيْسَ عَنْهُ نَصٌّ بِالْمَنْعِ , وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لَمْ يُمْنَعْ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ كَمَا تُعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ , وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ ; فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكُ مَالٍ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهَا هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلْيَتَزَوَّجْهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَهَا مِنْ دَارِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَهُوَ أَضْعَافُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى , وَيُقِرُّ الزَّوْجُ بِأَنَّهُ مَهْرُ مِثْلِهَا , وَهَذَا الشَّرْطُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِالْمُسَمَّى إلَّا بِنَاءً عَلَى إقْرَارِهَا فِي دَارِهَا , فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهَا ذَلِكَ وَقَدْ شَرَطَتْ فِي مُقَابَلَتِهِ زِيَادَةً جَازَ , وَتَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ مَا فَاتَهَا مِنْ الْغَرَضِ الَّذِي إنَّمَا أَرْخَصَتْ الْمَهْرَ لِيَسْلَمَ لَهَا , فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهَا انْتَقَلَتْ إلَى الْمَهْرِ الزَّائِدِ .(2/201)
وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِجَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ دَارِهَا وَلَا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا , وَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ , فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَرْضَ بِبَذْلِ بِضْعِهَا لِلزَّوْجِ إلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ , وَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ عَنْ تَرَاضٍ , وَكَانَ إلْزَامًا لَهَا بِمَا لَمْ تَلْتَزِمْهُ وَبِمَا لَمْ يُلْزِمْهَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ بِهِ , فَلَا نَصَّ وَلَا قِيَاسَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ(2/202)
تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ] الْمِثَالُ السَّابِعُ : إذَا خَاصَمَتْهُ امْرَأَتُهُ وَقَالَتْ : قُلْ " كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ , وَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ " فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَيَعْنِي بِالْجَارِيَةِ السَّفِينَةَ لِقَوْلِهِ : { إنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } وَيُمْسِكُ بِيَدِهِ حَصَاةً أَوْ خِرْقَةً وَيَقُولُ : " فَهِيَ طَالِقٌ " فَيَرُدُّ الْكِنَايَةَ إلَيْهَا , فَإِنْ تَفَقَّهَتْ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ وَقَالَتْ : قُلْ : " كُلُّ رَقِيقَةٍ أَوْ أَمَةٍ " فَلِيَقُلْ ذَلِكَ وَلْيَعْنِ فَهِيَ حُرَّةُ الْخِصَالِ غَيْرُ فَاجِرَةٍ , فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ تُعْتَقْ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : " غُلَامُك فَاجِرٌ زَانٍ " فَقَالَ : مَا أَعْرِفُهُ إلَّا حُرًّا عَفِيفًا , وَلَمْ يُرِدْ الْعِتْقَ , لَمْ يُعْتَقْ .(2/203)
وَإِنْ تَفَقَّهَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ : قُلْ : " فَهِيَ عَتِيقَةٌ " فَلِيَقُلْ ذَلِكَ وَلِيَنْوِ ضِدَّ الْجَدِيدَةِ , أَيْ عَتِيقَةٌ فِي الرِّقِّ , فَإِنْ تَفَقَّهَتْ وَقَالَتْ : قُلْ : " فَهِيَ مَعْتُوقَةٌ " وَ : " قَدْ أَعْتَقْتهَا إنْ مَلَكْتهَا " فَلْيَرُدَّ الْكِنَايَةَ إلَى حَصَاةٍ فِي يَدِهِ أَوْ خِرْقَةٍ , فَإِنْ لَمْ تَدَعْهُ أَنْ يَمْسِكَ شَيْئًا فَلْيَرُدَّهَا إلَى نَفْسِهِ , وَيَعْنِي أَنْ قَدْ أَعْتَقَهَا مِنْ النَّارِ بِالْإِسْلَامِ , أَوْ فَهِيَ حُرَّةٌ لَيْسَتْ رَقِيقَةً لِأَحَدٍ , وَيَجْعَلُ الْكَلَامَ جُمْلَتَيْنِ , فَإِنْ حَضَرَتْهُ وَقَالَتْ : قُلْ : " فَالْجَارِيَةُ الَّتِي أَشْتَرِيهَا مَعْتُوقَةٌ " فَلْيُقَيِّدْ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ , أَوْ مَكَان مُعَيَّنٍ فِي نِيَّتِهِ , وَلَا يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ , فَإِنْ حَضَرَتْهُ وَقَالَتْ : مِنْ غَيْرِ تَوْرِيَةٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَلَا نِيَّةٍ تُخَالِفُ قَوْلِي , وَهَذَا آخِرُ التَّشْدِيدِ , فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ التَّوْرِيَةِ وَالْكِنَايَةِ .(2/204)
وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ : " لَا أُوَرِّي وَلَا أُكَنِّي " وَالتَّوْرِيَةُ وَالْكِنَايَةُ فِي قَلْبِهِ , كَمَا لَوْ قَالَ : " لَا أَسْتَثْنِي " بِلِسَانِهِ وَمِنْ نِيَّتِهِ الِاسْتِثْنَاءُ , ثُمَّ اسْتَثْنَى فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ , حَتَّى لَوْ لَمْ يَنْوِ الِاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَيْهِ وَاسْتَثْنَى نَفَعَهُ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا بِوَجْهٍ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ , كَقَوْلِ الْمَلَكِ لِسُلَيْمَانَ : قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إلَّا الْإِذْخِرَ } بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُ بِهِ الْعَبَّاسُ , وَقَوْلِهِ : { إنْ شَاءَ اللَّهُ } بَعْدَ أَنْ قَالَ : { لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا , ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ وَسُكُوتِهِ : { إنْ شَاءَ اللَّهُ } . وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي نَفْعِ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا نَسِيَهُ وَلَمْ يَنْوِهِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ وَلَا أَثْنَاءَهُ فِي قوله تعالى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } , وَهَذَا إمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ إذَا نَسِيَهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ , أَوْ يَعُمَّهُ وَيَعُمَّ غَيْرَهُ وَهُوَ الصَّوَابُ ; فَأَمَّا أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءَ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ وَيَرُدَّ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ , وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ لَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهِ نِيَّةُ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْ جُمَلِهِ وَبَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِهِ ; فَالنَّصُّ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي نَفْعَ الِاسْتِثْنَاءِ , وَإِنْ خَطَر لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْكَلَامِ , وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ .
[(2/205)
إجَارَةُ الْأَرْضِ الْمَشْغُولَةِ بِالزَّرْعِ ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ : لَا تَصِحُّ إجَارَةُ الْأَرْضِ الْمَشْغُولَةِ بِالزَّرْعِ , فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَهُ حِيلَتَانِ جَائِزَتَانِ , إحْدَاهُمَا : أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ , فَتَكُونَ الْأَرْضُ مَشْغُولَةً بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ , فَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ , فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ لِكَوْنِ الزَّرْعِ لَمْ يَشْتَدَّ أَوْ كَانَ زَرْعًا لِلْغَيْرِ انْتَقَلَ إلَى الْحِيلَةِ الثَّانِيَةِ , وَهِيَ أَنْ يُؤْجِرَهُ إيَّاهَا لِمُدَّةٍ تَكُونُ بَعْدَ أَخْذِ الزَّرْعِ , وَيَصِحُّ هَذَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ .
[(2/206)
اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِخَرَاجِهَا مَعَ الْأُجْرَةِ ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ : لَا تَصِحُّ إجَارَةُ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَقُومَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخَرَاجِ مَعَ الْأُجْرَةِ , أَوْ يَكُونَ قِيَامُهُ بِهِ هُوَ أُجْرَتُهَا , ذَكَرَهُ الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةٌ تَلْزَمُ الْمَالِكَ بِسَبَبِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ ; فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ . وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُسَمِّيَ مِقْدَارَ الْخَرَاجِ , وَيُضِيفَهُ إلَى الْأُجْرَةِ - قُلْت : وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ إذَا كَانَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا لَا جَهَالَةَ فِيهِ - فَيَقُولَ : أَجَرْتُكَهَا بِخَرَاجِهَا تَقُومُ بِهِ عَنِّي , فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ , وَلَا جَهَالَةَ , وَلَا غَرَرَ , وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ آجَرْتُك كُلَّ سَنَةٍ بِمِائَةٍ أَوْ بِالْمِائَةِ الَّتِي عَلَيْهَا كُلَّ سَنَةٍ خَرَاجًا ؟ فَإِنْ قِيلَ : الْأُجْرَةُ تُدْفَعُ إلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْخَرَاجُ إلَى السُّلْطَانِ . قِيلَ : بَلْ تُدْفَعُ الْأُجْرَةُ إلَى الْمُؤَجِّرِ أَوْ إلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ , فَيَصِيرُ وَكِيلَهُ فِي الدَّفْعِ .
[(2/207)
اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ بِعَلَفِهَا ] الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الدَّابَّةَ بِعَلَفِهَا ; لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ . وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُسَمِّيَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعَلَفِ فَيَجْعَلَهُ أُجْرَةً ثُمَّ يُوَكِّلَهُ فِي إنْفَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهَا . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا عَلَى أَصْلِنَا ; فَإِنَّا نُجَوِّزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الظِّئْرَ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا وَالْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ , فَكَذَلِكَ إجَارَةُ الدَّابَّةِ بِعَلَفِهَا وَسَقْيِهَا . فَإِنْ قِيلَ : عَلَفُ الدَّابَّةِ عَلَى مَالِكِهَا , فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ شَرَطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ , فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى نَفْسِهَا . قِيلَ : هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ الْعَلَفَ قَدْ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ نَفْسُهُ أُجْرَةٌ مُغْتَفَرَةٌ جَهَالَتُهَا الْيَسِيرَةُ لِلْحَاجَةِ , بَلْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَةِ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ ; إذْ يُمْكِنُ الْأَجِيرَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ ذَلِكَ , فَأَمَّا الدَّابَّةُ فَإِنْ كُلِّفَ رَبُّهَا أَنْ يَصْحَبَهَا لِيَعْلِفَهَا شِقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى قِيَامِ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهَا , وَلَا يُظَنُّ بِهِ تَفْرِيطُهُ فِي عَلَفِهَا لِحَاجَتِهِ إلَى ظَهْرِهَا , فَهُوَ يَعْلِفُهَا لِحَاجَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا مُخَاصَمَتُهُ(2/208)
الْإِجَارَةُ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمُدَّةِ ] الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا , وَلَا يَدْرِي مُدَّةَ مُقَامِهِ , فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ سَنَةً فَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى التَّحَوُّلِ قَبْلَهَا . فَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا وَكَذَا , فَتَصِحَّ الْإِجَارَةُ وَتَلْزَمَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ , وَتَصِيرَ جَائِزَةً فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ الشُّهُورِ , فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخُ عَقِيبَ كُلِّ شَهْرٍ إلَى تَمَامِ يَوْمٍ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ , وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوُهُ , وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ; فَإِذَا خَافَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَتَحَوَّلَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ الثَّانِي فَيَلْزَمَهُ أُجْرَتُهُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا كُلَّ أُسْبُوعٍ بِكَذَا , فَإِنْ خَافَ التَّحَوُّلَ قَبْلَ الْأُسْبُوعِ اسْتَأْجَرَهَا كُلَّ يَوْمٍ بِكَذَا , وَيَصِحُّ وَيَكُونُ حُكْمُ الْيَوْمِ كَحُكْمِ الشَّهْرِ .
[(2/209)
شِرَاءُ الْوَكِيلِ مَا وُكِّلَ فِيهِ لِنَفْسِهِ ] الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ : لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً , فَلَمَّا رَآهَا الْوَكِيلُ أَعْجَبَتْهُ وَأَرَادَ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَلَا غَدْرٍ بِالْمُوَكِّلِ جَازَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِنَفْسِهِ عَزْلٌ لِنَفْسِهِ وَإِخْرَاجٌ لَهَا مِنْ الْوَكَالَةِ , وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي حُضُورِ الْمُوَكِّلِ وَغَيْبَتِهِ , وَإِذَا عَزَلَ [ نَفْسَهُ ] وَاشْتَرَى الْجَارِيَةَ لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ مَلَكَهَا , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ بَيْعٌ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ شِرَاءٌ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ , إلَّا أَنْ يَكُونَ سَيِّدُهَا قَدْ رَكَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَعَزَمَ عَلَى إمْضَاءِ الْبَيْعِ لَهُ ; فَيَكُونَ شِرَاءُ الْوَكِيلِ لِنَفْسِهِ حِينَئِذٍ حَرَامًا ; لِأَنَّهُ شِرَاءٌ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ , وَلَا يُقَالُ : " الْعَقْدُ لَمْ يَتِمَّ وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَائِهِ هُوَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْبَائِعِ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَيَعْقِدَ مَعَهُ هُوَ " لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا حَمْلٌ لِلْحَدِيثِ عَلَى الصُّورَةِ النَّادِرَةِ , وَالْأَكْثَرُ خِلَافُهَا . الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ ذَلِكَ بِخِطْبَتِهِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ , وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ { نُهِيَ أَنْ يَسُومَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ } , وَذَلِكَ أَيْضًا قَبْلَ الْعَقْدِ .(2/210)
الرَّابِعُ : أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَرَّمَ الشَّارِعُ لِأَجْلِهِ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الْخِيَارِ , بَلْ هُوَ قَائِمٌ بَعْدَ الرُّكُونِ وَالتَّرَاضِي وَإِنْ لَمْ يَعْقِدَاهُ كَمَا هُوَ قَائِمٌ بَعْدَ الْعَقْدِ . الْخَامِسُ : أَنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ بِلَا مُوجِبٍ , فَيَكُونُ فَاسِدًا , فَإِنَّ شِرَاءَهُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ مُتَنَاوِلٌ لِحَالِ الشِّرَاءِ وَمَا بَعْدَهُ , وَاَلَّذِي غَرَّ مَنْ خَصَّهُ بِحَالَةِ الْخِيَارِ ظَنُّهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ اشْتَرَى بَعْدَ شِرَاءِ أَخِيهِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ اللَّفْظُ صَادِقٌ عَلَى الْقِسْمَيْنِ . السَّادِسُ : أَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ اللَّفْظُ بِمَا بَعْدَ الشِّرَاءِ لَوَجَبَ تَعْدِيَتُهُ بِتَعَدِّيَةِ عِلَّتِهِ إلَى حَالَةِ السَّوْمِ . أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ , فَلَوْ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ لَكَانَ عَزْلًا لِنَفْسِهِ فِي غَيْبَةِ مُوَكِّلِهِ , وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ .(2/211)
قَالُوا : فَالْحِيلَةُ فِي شِرَائِهَا لِنَفْسِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الَّذِي وُكِّلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ , وَحِينَئِذٍ فَيَمْلِكَهَا ; لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَاةٍ فَاشْتَرَى فَرَسًا ; فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ ; فَإِنْ أَرَادَ الْمُوَكِّلُ الِاحْتِرَازَ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَأَنْ لَا يُمَكِّنَ الْوَكِيلَ مِنْ شِرَائِهَا لِنَفْسِهِ فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَهِيَ حُرَّةٌ ; فَإِنْ وَكَّلَ الْوَكِيلُ مَنْ يَشْتَرِيهَا لَهُ انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَكِيلَ هَلْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا ; فَوَكَّلَ فِي فِعْلِهِ هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا ؟ وَفِي الْأَصْلَيْنِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ , فَإِنْ وَكَّلَهُ رَجُلٌ فِي بَيْعِ جَارِيَةٍ وَوَكَّلَهُ آخَرُ فِي شِرَائِهَا , وَأَرَادَ هُوَ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَالْحُكْمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ , غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا أَصْلًا آخَرَ , وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَيْعِ الشَّيْءِ هَلْ يَمْلِكُ بَيْعَهُ لِنَفْسِهِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ; إحْدَاهُمَا : لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقْصِي فِي الثَّمَنِ , وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ إذَا زَادَ عَلَى ثَمَنِهَا فِي النِّدَاءِ لِتَزُولَ التُّهْمَةُ ; فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى حِيلَةٍ , وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ فِعْلُ هَذَا , وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّحَيُّلُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ : لَهُ أَنْ يَتَحَيَّلَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَى غَيْرِهِ(2/212)
دَرَاهِمَ وَيَقُولَ لَهُ : اشْتَرِهَا لِنَفْسِك , ثُمَّ يَتَمَلَّكَهَا مِنْهُ , وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ تَحَيُّلٌ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ , وَلِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى عَدَمِ اسْتِقْصَائِهِ وَاحْتِيَاطِهِ فِي الْبَيْعِ , بَلْ يُسَامِحُ فِي ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّهَا تَصِيرُ إلَيْهِ , وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزِنُ الثَّمَنَ , وَلِأَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ , وَلِأَنَّ النَّاسَ يَرَوْنَ ذَلِكَ نَوْعَ غَدْرٍ وَمَكْرٍ ; فَمَحَاسِنُ الشَّرِيعَةِ تَأْبَى الْجَوَازَ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ وَكَّلَهُ أَحَدُهُمَا فِي بَيْعِهَا وَالْآخَرُ فِي شِرَائِهَا وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ ; فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ . قِيلَ : هَذَا يَنْبَنِي عَلَى شِرَاءِ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ ; فَإِنْ أَجَزْنَاهُ هُنَاكَ جَازَ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى , وَإِنْ مَنَعْنَاهُ هُنَاكَ , فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجُوزُ أَيْضًا هَاهُنَا ; لِتَضَادِّ الْغَرَضَيْنِ ; لِأَنَّ وَكِيلَ الْبَيْعِ يَسْتَقْصِي فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ , وَوَكِيلَ الشِّرَاءِ يَسْتَقْصِي فِي نُقْصَانِهِ ; فَيَتَضَادَّانِ , وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ ذَلِكَ , وَيَتَخَرَّجُ الْجَوَازُ - وَإِنْ مَنَعْنَا الْوَكِيلَ مِنْ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ - عَلَى جَوَازِ كَوْنِ الْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ وَكِيلًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ , وَكَوْنِهِ أَيْضًا وَلِيًّا مِنْ الطَّرَفَيْنِ , وَأَنَّهُ يَلِي بِذَلِكَ عَلَى إيجَابِ الْعَقْدِ وَقَبُولِهِ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ التُّهْمَةَ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ أَظْهَرُ مِنْ التُّهْمَةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي الشِّرَاءِ لِمُوَكِّلِهِ .(2/213)
وَالْحِيلَةُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَبِيعَهَا بَيْعًا بَتَاتًا ظَاهِرًا لِأَجْنَبِيٍّ يَثِقُ بِهِ , ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ شِرَاءً مُسْتَقِلًّا ; فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
حِيلَةٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ] الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَقُولِينَ لِي شَيْئًا إلَّا قُلْت لَك مِثْلَهُ " فَقَالَتْ لَهُ : أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا . فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : قُلْت لِي : أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا . قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : وَفِي هَذِهِ الْحِيلَةِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهَا مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ , وَإِنَّمَا حَكَى كَلَامَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ لَهَا نَظِيرَهُ . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ الْمَسْبُوبُ : " أَنْتِ قُلْت لِي كَذَا وَكَذَا " لَمْ يَكُنْ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ , لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا ; فَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : الْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : " أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا " - بِفَتْحِ التَّاءِ - فَلَا تَطْلُقُ , وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَتْ لَهُ سَوَاءٌ , وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ مِنْ الْأُولَى ; فَإِنَّ الْمَفْهُومَ الْمُتَعَارَفَ لُغَةً وَعَقْلًا وَعُرْفًا مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ يُخَاطِبَهَا خِطَابَ الْمُؤَنَّثِ , فَإِذَا خَاطَبَهَا خِطَابَ الْمُذَكَّرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَدًّا وَلَا جَوَابًا , وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ رَدٌّ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْمُوَاجَهَةِ وَإِنْ فَتَحَ التَّاءَ , كَأَنَّهُ قَالَ : أَيُّهَا الشَّخْصُ أَوْ الْإِنْسَانُ .(2/214)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ , أَوْ إنْ كَلَّمْت السُّلْطَانَ , أَوْ إنْ سَافَرْت , وَنَحْوَ ذَلِكَ ; فَيَكُونَ قَدْ قَالَ لَهَا نَظِيرَ مَا قَالَتْ , وَلَا يَضُرُّهُ زِيَادَةُ الشَّرْطِ , وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَقْرَبُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا , وَلَكِنْ فِي كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا رَادًّا أَوْ مُجِيبًا نَظَرٌ لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ الشَّرْطَ وَإِنْ تَضَمَّنَ زِيَادَةً فِي الْكَلَامِ لَكِنَّهُ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ نَظِيرًا لِكَلَامِهَا , وَمِثْلًا لَهُ , وَهُوَ إنَّمَا حَلَفَ أَنْ يَقُولَ لَهَا مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ , وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ لَيْسَتْ مِثْلَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ , بَلْ الشَّرْطُ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ التَّامِّ فَيُصَيِّرُهُ نَاقِصًا يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ , وَيَدْخُلُ عَلَى الْخَبَرِ فَيَقْلِبُهُ إنْشَاءً , وَيُغَيِّرُ صُورَةَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ وَمَعْنَاهَا , وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ : " لَعَنَك اللَّهُ " , فَقَالَ لَهُ : " لَعَنَك اللَّهُ إنْ بَدَّلْت دِينَك أَوْ ارْتَدَدْت عَنْ الْإِسْلَامِ " لَمْ يَكُنْ سَابًّا لَهُ . وَلَوْ قَالَ لَهُ : " يَا زَانٍ " فَقَالَ : " بَلْ أَنْتَ زَانٍ إنْ وَطِئْت فَرْجًا حَرَامًا " لَمْ يَكُنْ الثَّانِي قَاذِفًا لَهُ . وَلَوْ بَذَلَتْ لَهُ مَالًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا , فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت السُّلْطَانَ , لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَالَ , وَلَمْ يَكُنْ مُطَلِّقًا .(2/215)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : لَا حَاجَةَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَالْحَالِفُ لَمْ تَدْخُلْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ , وَإِنْ دَخَلَتْ فَهِيَ مِنْ الْمَخْصُوصِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالْعَقْلِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ هَذِهِ الصُّورَةَ قَطْعًا , وَلَا خَطَرَتْ بِبَالِهِ , وَلَا تَنَاوَلَهَا لَفْظُهُ ; فَإِنَّهُ إنَّمَا تَنَاوَلَ لَفْظُهُ الْقَوْلَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ , وَقَوْلُهَا : " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا " لَيْسَ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُوَاجَهَ بِهِ ; فَهُوَ لَغْوٌ مَحْضٌ وَبَاطِلٌ , وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا " أَنْتِ امْرَأَتِي " وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْأَمَةِ لِسَيِّدِهَا : " أَنْتِ أَمَتِي وَجَارِيَتِي " وَنَحْوِ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ اللَّغْوِ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ لَفْظِ الْحَالِفِ وَلَا إرَادَتِهِ , أَمَّا عَدَمُ دُخُولِهِ تَحْتَ إرَادَتِهِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ , وَأَمَّا عَدَمُ تَنَاوُلِ لَفْظِهِ لَهُ ; فَإِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إنَّمَا يَكُونُ عَامًّا فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ وَفِيمَا سِيقَ لِأَجْلِهِ . وَهَذَا أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ , وَغَايَتُهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ , وَهَذَا أَقْرَبُ لُغَةً وَعُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا مِنْ جَعْلِ مَا تَقَدَّمَ مُطَابِقًا وَمُمَاثِلًا لِكَلَامِهَا مِثْلَهُ , فَتَأَمَّلْهُ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
[(2/216)
الْإِحْرَامُ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ ] الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : إذَا خَافَ الرَّجُلُ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَيَفُوتَهُ فَيَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ وَدَمُ الْفَوَاتِ ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يُحْرِمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا وَلَا يُعَيِّنَهُ ; فَإِنْ اتَّسَعَ لَهُ الْوَقْتُ جَعَلَهُ حَجًّا أَوْ قِرَانًا أَوْ تَمَتُّعًا , وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ جَعَلَهُ عُمْرَةً , وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا .
[ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ] الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ : إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ وَدَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ لِلْمِيقَاتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ , فَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ أَنْ لَا يُحْرِمَ مِنْ مَوْضِعِهِ , بَلْ يَرْجِعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ مِنْهُ ; فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ , وَلَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ .
[ حِيلَةٌ لِلْبِرِّ فِي يَمِينٍ ] الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ : إذَا سُرِقَ لَهُ مَتَاعٌ , فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي مَنْ أَخَذَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا , وَالْمَرْأَةُ لَا تَعْلَمُ مَنْ أَخَذَهُ . فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ أَنْ تَذْكُرَ الْأَشْخَاصَ الَّتِي لَا يَخْرُجُ الْمَأْخُوذُ عَنْهُمْ , ثُمَّ تُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ , وَتَقُولَ : هُوَ أَخَذَهُ ; فَإِنَّهَا تَكُونُ مُخْبِرَةً عَنْ الْآخِذِ وَعَنْ غَيْرِهِ فَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ وَلَا تَطْلُقُ .
[(2/217)
ادِّعَاءُ الْمَرْأَةِ نَفَقَةً مَاضِيَةً ] الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ : إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ لِمُدَّةٍ مَاضِيَةٍ , فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِ دَعْوَاهَا , فَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقْبَلَانِ دَعْوَاهَا , ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مَأْخَذِ الرَّدِّ ; فَأَبُو حَنِيفَةَ يُسْقِطُهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ , كَمَا يَقُولُهُ مُنَازِعُوهُ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ , وَمَالِكٌ لَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى الَّتِي يُكَذِّبُهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ , وَلَا يُحْلَفُ عِنْدَهُ فِيهَا , وَلَا يَقْبَلُ فِيهَا بَيِّنَةً , كَمَا لَوْ كَانَ رَجُلٌ حَائِزًا دَارًا مُتَصَرِّفًا فِيهَا مُدَّةَ السِّنِينَ الطَّوِيلَةِ بِالْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعِمَارَةِ وَيَنْسُبُهَا إلَى نَفْسِهِ وَيُضِيفُهَا إلَى مِلْكِهِ وَإِنْسَانٌ حَاضِرٌ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُ أَفْعَالَهُ فِيهَا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ , وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا , وَلَا يَذْكُرُ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا , وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ خَوْفٍ أَوْ شَرِكَةٍ فِي مِيرَاثٍ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ , فَدَعْوَاهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ فَضْلًا عَنْ إقَامَةِ بَيِّنَتِهِ . قَالُوا : وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الزَّوْجِ مُدَّةَ سِنِينَ يُشَاهِدُهُ النَّاسُ وَالْجِيرَانُ دَاخِلًا بَيْتَهُ بِالطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ , ثُمَّ ادَّعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ; فَدَعْوَاهَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ , فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحْلَفَ لَهَا , أَوْ يُسْمَعَ لَهَا بَيِّنَةٌ .(2/218)
قَالُوا : وَكُلُّ دَعْوَى يَنْفِيهَا الْعُرْفُ وَتُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ فَإِنَّهَا مَرْفُوضَةٌ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ . وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ , وَلَا يَلِيقُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ سِوَاهُ , وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالشَّرِيعَةِ أَنْ تَسْمَعَ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي قَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَالنَّاسُ أَنَّهَا كَذِبٌ وَزُورٌ ؟ وَكَيْفَ تَدَّعِي الْمَرْأَةُ أَنَّهَا أَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فِيهَا يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا كَسَاهَا فِيهَا ثَوْبًا , وَيُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَيْهِ , وَيُلْزَمُ بِذَلِكَ كُلِّهِ ؟ وَيُقَالُ : الْأَصْلُ مَعَهَا وَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى أَصْلٍ يُكَذِّبُهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَالظَّاهِرُ الَّذِي بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ إلَى حَدِّ الْقَطْعِ ؟ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي يُقَدَّمُ فِيهَا الظَّاهِرُ الْقَوِيُّ عَلَى الْأَصْلِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى , وَمِثْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ فِي الْقُوَّةِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَهُوَ سُقُوطُهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ; فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ قَامَتْ بِدُونِهَا ; فَهِيَ كَحَقِّ الْمَبِيتِ وَالْوَطْءِ .(2/219)
وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَنَّهُمْ أَئِمَّةُ النَّاسِ فِي الْوَرَعِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْمَظَالِمِ - قَضَى لِامْرَأَةٍ بِنَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ , أَوْ اسْتَحَلَّ امْرَأَةً مِنْهَا , وَلَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ امْرَأَةً وَاحِدَةً مِنْهُنَّ , وَلَا قَالَ لَهَا : مَا مَضَى مِنْ النَّفَقَةِ حَقٌّ لَكَ عِنْدَ الزَّوْجِ ; فَإِنْ شِئْتِ فَطَالِبِيهِ , وَإِنْ شِئْتِ حَلَلْتِيهِ , وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَهْلِهِ أَيَّامًا حَتَّى سَأَلَتْهُ إيَّاهَا , وَلَمْ يَقُلْ لَهُنَّ : هِيَ بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِي حَتَّى يُوَسِّعَ اللَّهُ وَأَقْضِيَكُنَّ , وَلَمَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَقْضِ لِامْرَأَةٍ مِنْهُنَّ ذَلِكَ , وَلَا قَالَ لَهَا : هَذَا عِوَضٌ عَمَّا فَاتَك مِنْ الْإِنْفَاقِ , وَلَا سَمِعَ الصَّحَابَةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَبَرًا ; وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه لِلْغُيَّابِ : " إمَّا أَنْ تُطَلِّقُوا وَإِمَّا أَنْ تَبْعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى " فِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ , فَإِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : " ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ " فَإِنَّ فِي إسْنَادِهِ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ . وَلَوْ قُدِّرَ صِحَّتُهُ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ , وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا طَلَّقُوا لَمْ يُلْزِمْهُمْ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى . فَإِنْ قِيلَ : وَحُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فِي إلْزَامِهِ لَهُمْ بِهَا , وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ . قِيلَ : بَلْ نَقُولُ بِهِ , وَإِنَّ الْأَزْوَاجَ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ بِالِامْتِنَاعِ وَلَزِمَهُمْ ذَلِكَ .(2/220)
وَأَمَّا الْمَعْذُورُ الْعَاجِزُ فَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ أَبَدًا . وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى , وَيَسْمَعُهَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الدَّعَاوَى , وَأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ثَبَتَ وَمُسْتَحِقُّهُ يُنْكِرُ قَبْضَهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الدَّافِعِ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ; فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَحْتَاجُ الزَّوْجُ إلَى طَرِيقٍ تُخَلِّصُهُ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى , وَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَى النُّشُورِ , فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ , وَلَا يُخَلِّصُهُ دَعْوَى عَدَمِ التَّسْلِيمِ الْمُوجِبِ لِلْإِنْفَاقِ لِتَمَكُّنِ الْمَرْأَةِ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ; فَلَهُ حِيلَتَانِ ; إحْدَاهُمَا : أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ , وَلِلْبَيِّنَةِ أَنْ تَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمْته وَتَحَقَّقْته بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْقَطْعِ ; فَإِنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ بِمَا عَلِمَهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ عَلِمَهُ , وَلَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ الْبَيِّنَةَ عَنْ مُسْتَنَدِ التَّحَمُّلِ , وَلَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدَهُ فِي الشَّهَادَةِ وَالْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُنْكِرَ التَّمْكِينَ الْمُوجِبَ لِثُبُوتِ الْمُدَّعَى بِهِ فِي ذِمَّتِهِ , وَيَكُونَ صَادِقًا فِي هَذَا الْإِنْكَارِ ; فَإِنَّ التَّمْكِينَ الْمَاضِي لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ مَا ادَّعَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ قَدْ أَدَّاهُ إلَيْهَا .(2/221)
وَالتَّمْكِينُ الَّذِي يُوجِبُ مَا ادَّعَتْ بِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ; فَهُوَ صَادِقٌ فِي إنْكَارِهِ .
[ شِرَاءُ مَعِيبٍ ثُمَّ تَعَيُّبُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ] : الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ : إذَا اشْتَرَى رِبَوِيًّا بِمِثْلِهِ فَتَعَيَّبَ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا , فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهُ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ , وَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ الْأَرْشِ لِدُخُولِ التَّفَاضُلِ فَالْحِيلَةُ فِي اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْبَائِعِ رِبَوِيًّا مَعِيبًا بِنَظِيرِ الْعَيْبِ الَّذِي وَجَدَهُ بِالْمَبِيعِ ثُمَّ يَسْتَرْجِعَ مِنْهُ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ اسْتَرَدَّ مِنْهُ نَظِيرَهُ , وَهَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْحِيلَةُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَ الْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ , بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي تَجْوِيزِ مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ , وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَكَتَمَهُ لَمْ يَمْنَعْ الْعَيْبُ الْحَادِثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُ عَلَيْهِ , بَلْ لَوْ تَلِفَ جَمِيعُهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ عِنْدَهُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْبَائِعِ تَدْلِيسٌ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ وَمَعَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ , وَيَسْتَرِدُّ الْعِوَضَ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ , فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الْعَقْدَ ; فَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ زِيَادَةً فِي عِوَضٍ , فَلَا يَكُونُ رِبًا .
[(2/222)
إبْرَاءٌ الْغَرِيمِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ] الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ : إذَا أَبْرَأَ الْغَرِيمَ مِنْ دَيْنِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَدَيْنُهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ فَخَافَ الْمُبْرَأُ أَنْ تَقُولَ الْوَرَثَةُ : " لَمْ يُخَلِّفْ مَالًا سِوَى الدَّيْنِ " وَيُطَالِبُونَ بِثُلُثَيْهِ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يُخْرِجَ الْمَرِيضُ إلَى الْغَرِيمِ مَالًا بِقَدْرِ دَيْنِهِ فَيَهَبَهُ إيَّاهُ , ثُمَّ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْهُ مِنْ دَيْنِهِ , فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ [ وَلَمْ تَغِبْ عَنْهُ الْوَرَثَةُ ] فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ شَرِيكُهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ . فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ كَانَ قَبَضَهُ مِنْهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ , فَإِنْ خَافَ أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ إذَا تُوُفِّيَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَوْ أَيِّ وَقْتٍ ادَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مَتَى ادَّعَى عَلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا فَهُوَ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ , فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ , وَلَيْسَ لِوَارِثِهِ بَعْدَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِهِ , فَإِنَّهُ إنَّمَا صَدَّقَ الْمَوْرُوثَ إنْ ادَّعَى , وَلَمْ تَحْصُلْ دَعْوَاهُ , وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ مَا ادَّعَى بِهِ الْمَوْرُوثُ وَصَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ .
[(2/223)
حِيلَةٌ لِنَفَاذِ عِتْقِ عَبْدِهِ مَعَ خَوْفِهِ جَحْدَ الْوَرَثَةِ ] الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ : إذَا أَرَادَ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ وَخَافَ أَنْ يَجْحَدَ الْوَرَثَةُ الْمَالَ وَيُرِقُّوا ثُلُثَيْهِ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ , وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ مِنْهُ , ثُمَّ يَهَبَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي , وَيَسْأَلَهُ إعْتَاقَ الْعَبْدِ . وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ إقْرَارَ الْوَرَثَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ; لِأَنَّ الثُّلُثَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ , فَإِنْ لَمْ يُرِدْ تَنْجِيزَ عِتْقِهِ وَأَحَبَّ تَدْبِيرَهُ وَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُمَلِّكَهُ لِرَجُلٍ يَثِقُ بِهِ , وَيُعَلِّقُ الْمُشْتَرِي عِتْقَهُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ الْمُمَلِّكِ , فَلَا يَجِدُ الْوَرَثَةُ إلَيْهِ سَبِيلًا(2/224)
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : إذَا كَانَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ دَيْنٌ عَلَى الْمَوْرُوثِ وَأَحَبَّ أَنْ يُوفِيَهُ إيَّاهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ , فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ أَبْطَلْنَا إقْرَارَهُ , وَإِنْ أَعْطَاهُ عِوَضَهُ كَانَ تَبَرُّعًا فِي الظَّاهِرِ فَلِبَاقِي الْوَرَثَةِ رَدُّهُ , فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ مِنْ دَيْنِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْوَارِثُ مَالَهُ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ , ثُمَّ يَبِيعَهُ سِلْعَةً أَوْ دَارًا أَوْ عَبْدًا بِذَلِكَ الثَّمَنِ , فَيَسْتَرِدَّ مِنْهُ الْمَالَ , وَيَدْفَعَ إلَيْهِ تِلْكَ السِّلْعَةَ الَّتِي هِيَ بِقَدْرِ دَيْنِهِ . فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ حَاجَةٍ [ لَهُ ] إلَى ذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا لَهُ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ ؟ قِيلَ : بَلْ فِي ذَلِكَ خَلَاصٌ الْوَارِثِ مِنْ دَعْوَى بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَاتِّهَامِهِمْ لَهُ وَشَكْوَاهُمْ إيَّاهُ أَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ مَوْرُوثِنَا أَوْ صَارَ إلَيْهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ , فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَالُ الَّذِي عَايَنُوهُ عِنْدَ الْمَوْرُوثِ عَنْ التَّرِكَةِ سَلِمَ مِنْ تَطَرُّقِ التُّهْمَةِ وَالْأَذَى وَالشَّكْوَى
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : إذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ ابْنَته صَحَّ , فَإِنْ خَافَ مِنْ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِمَوْتِهِ حَيْثُ تَمْلِكُهُ أَوْ بَعْضَهُ , فَالْحِيلَةُ فِي إبْقَاءِ النِّكَاحِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ أَوْ يَهَبَهُ إيَّاهُ , فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ أَوْ الْأَجْنَبِيُّ لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ(2/225)
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا كَانَ مُوَلِّيهِ سَفِيهًا إنْ زَوَّجَهُ طَلَّقَ وَإِنْ سَرَّاهُ أَعْتَقَ وَإِنْ أَهْمَلَهُ فَسَقَ , فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَيُزَوِّجَهُ إيَّاهَا فَإِنْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا رَجَعَتْ إلَى سَيِّدِهَا فَلَا يُطَالِبُهُ بِمَهْرِهَا(2/226)
تَزْوِيجُ عَبْدِهِ جَارِيَةً بَعْدَ أَنْ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُهُ إيَّاهَا ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا طَلَبَ عَبْدُهُ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ جَارِيَتَهُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَّا يُزَوِّجَهُ إيَّاهَا , فَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا وَلَا يَحْنَثُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمَلِّكَهُمَا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ , ثُمَّ يُزَوِّجَهُمَا الْمُشْتَرِي , فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَرَدَّهُمَا وَلَا يَحْنَثُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُزَوِّجْ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ , وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ , وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أَصْلِنَا ; لِأَنَّ الصِّفَةَ قَدْ وُجِدَتْ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ , فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِنْثٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهُمَا ; لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ وَقَدْ تَقَضَّى , وَإِنَّمَا بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَتِهِ , قَالَ : وَيُفَارِقُ هَذَا إذَا حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَبَاعَهُ وَدَخَلَهَا ثُمَّ مَلَكَهُ وَدَخَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ; لِأَنَّ الدُّخُولَ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَوْنِ , وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ الْمِلْكِ كَمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ . قَالَ : وَقَدْ عَلَّقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ رَهَنْت كَذَا وَكَذَا " فَإِذَا هِيَ قَدْ رَهَنَتْهُ قَبْلَ الْيَمِينِ , فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَنِثَ , قَالَ : وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ : " إنْ كُنْت رَهَنْتِيهِ " فَيَحْنَثُ ; لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ .(2/227)
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْحَمْلِ مِنْ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ كَلَامِ السَّائِلِ وَكَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ; أَمَّا كَلَامُ السَّائِلِ فَظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ رَهْنًا تُنْشِئُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ فَإِنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ تُخَلِّصُ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ , فَهَذَا الْفِعْلُ مُسْتَقْبَلٌ بِوَضْعِ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ . وَأَمَّا كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ لَوْ فَهِمَ مِنْ السَّائِلِ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْقَاضِي لَجَزَمَ بِالْحِنْثِ , وَلَمْ يَقُلْ : " أَخَاف " فَهُوَ إنَّمَا يُطْلِقُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِيمَا عِنْدَهُ فِيهِ نَوْعُ تَوَقُّفٍ . وَاسْتِقْرَاءُ أَجْوِبَتِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَإِنَّمَا وَجْهُ هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ اسْتِدَامَةَ الرَّهْنِ رَهْنًا كَاسْتِدَامَةِ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَمَّا كَانَ لَهَا شَبَهٌ بِهَذَا وَشَبَهٌ بِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَالطِّيبِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْحِنْثِ , بَلْ قَالَ : أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَنِثَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
[(2/228)
الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ وَالْفُلُوسِ ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : هَلْ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ وَالْفُلُوسِ إنْ قُلْنَا هِيَ عُرُوضٌ وَالنُّقُودُ الْمَغْشُوشَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , فَإِنْ جَوَّزْنَا الشَّرِكَةَ بِهَا لَمْ يُحْتَجْ إلَى حِيلَةٍ , بَلْ يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ , وَإِنْ لَمْ تُجَوَّزْ الشَّرِكَةُ بِهَا فَالْحِيلَةُ عَلَى أَنْ يَصِيرَا شَرِيكَيْنِ فِيهَا أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِهِ مُشَاعًا , فَيَصِيرَ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرِيكًا لِصَاحِبِهِ فِي عَرْضِهِ , وَيَصِيرَ عَرْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ , ثُمَّ يَأْذَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ . هَذَا إذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَرْضَيْنِ سَوَاءً , فَإِذَا كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ - بِأَنْ يُسَاوِيَ أَحَدُهُمَا مِائَةً وَالْآخَرُ مِائَتَيْنِ - فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ الْعَرْضِ الْأَدْنَى ثُلُثَيْ عَرْضِهِ بِثُلُثِ عَرْضِ صَاحِبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ , فَيَكُونَ الْعَرْضَانِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا , وَالرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ أَحْمَدَ عَلَى مَا شَرَطَاهُ , وَلَا تَمْتَنِعُ هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّهَا لَا تُبْطِلُ حَقًّا , وَلَا تُثْبِتُ بَاطِلًا , وَلَا تُوقِعُ فِي مُحَرَّمٍ .
[(2/229)
الصُّلْحُ عَنْ الدَّيْنِ بِبَعْضِهِ ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى بَعْضِهَا فَلَهَا ثَمَانُ صُوَرٍ ; فَإِنَّهُ إمَّا يَكُونُ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا , وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً , ثُمَّ الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ أَوْ فِي الْمُصَالَحِ بِهِ , وَإِنَّمَا تَتَبَيَّنُ أَحْكَامُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِذِكْرِ صُوَرِهَا وَأُصُولِهَا .(2/230)
الصُّورَةُ الْأُولَى : أَنْ يُصَالِحَهُ عَنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ قَدْ أَقَرَّ بِهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ ; فَهَذَا صُلْحٌ عَلَى الْإِقْرَارِ , وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ ; فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُصَحِّحُ الصُّلْحَ إلَّا عَلَى الْإِقْرَارِ , وَالْخِرَقِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يُصَحِّحُهُ إلَّا عَلَى الْإِنْكَارِ , وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ يُصَحِّحُونَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ , وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ , وَهُوَ الصَّحِيحُ ; فَالْمُبْطِلُونَ لَهُ مَعَ الْإِقْرَارِ يَقُولُونَ : هُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ ; لِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ لَهُ فَقَدْ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ , فَإِذَا بَذَلَ لَهُ دُونَهُ فَقَدْ هَضَمَهُ حَقَّهُ , بِخِلَافِ الْمُنْكِرِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّمَا افْتَدَيْت يَمِينِي وَالدَّعْوَى عَلَيَّ بِمَا بَذَلْته , وَالْآخِذُ يَقُولُ : أَخَذْت بَعْضَ حَقِّي , وَالْمُصَحِّحُونَ لَهُ يَقُولُونَ : إنَّمَا يُمْكِنُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ لِثُبُوتِ الْحَقِّ بِهِ ; فَتُمْكِنُ الْمُصَالَحَةُ عَلَى بَعْضِهِ , وَأَمَّا مَعَ الْإِنْكَارِ فَأَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ حَتَّى يُصَالِحَ عَلَيْهِ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : " صَالَحَهُ عَنْ الدَّعْوَى وَالْيَمِينِ وَتَوَابِعِهِمَا , فَإِنَّ هَذَا لَا تَجُوزُ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهِ , وَلَا هُوَ مِمَّا يُقَابَلُ بِالْأَعْوَاضِ , فَهَذَا أَصْلٌ , وَالصَّوَابُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ لِلنَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَمُرَاعَاةِ الْعُهُودِ , وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } , وَأَخْبَرَ أَنَّ : { الصُّلْحَ بَيْنَ(2/231)
الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } , وَقَوْلُ مَنْ مَنَعَ الصُّلْحَ عَلَى الْإِقْرَارِ : " إنَّهُ هَضْمٌ لِلْحَقِّ " لَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا الْهَضْمُ أَنْ يَقُولَ : لَا أُقِرُّ لَك حَتَّى تَهَبَ لِي كَذَا وَتَضَعَ عَنِّي كَذَا وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ ثُمَّ صَالَحَهُ بِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ فَأَيُّ هَضْمٍ هُنَاكَ ؟ وَقَوْلُ مَنْ مَنَعَ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ : " إنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمُعَاوَضَةَ عَمَّا لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّهُ افْتِدَاءٌ لِنَفْسِهِ مِنْ الدَّعْوَى وَالْيَمِينِ وَتَكْلِيفِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا تَفْتَدِي الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِمَا تَبْذُلُهُ لَهُ , وَلَيْسَ هَذَا بِمُخَالِفٍ لِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ , بَلْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَأُصُولُهُ وَقَوَاعِدُهُ وَمَصَالِحُ الْمُكَلَّفِينَ تَقْتَضِي ذَلِكَ . فَهَاتَانِ صُورَتَانِ : صُلْحٌ عَنْ الدَّيْنِ الْحَالِّ بِبَعْضِهِ حَالًّا مَعَ الْإِقْرَارِ وَمَعَ الْإِنْكَارِ . الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِبَعْضِهِ مُؤَجَّلًا مَعَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ , فَهَاتَانِ صُورَتَانِ أَيْضًا , فَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِنْكَارِ ثَبَتَ التَّأْجِيلُ , وَلَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتُ لَهُ قَبْلَهُ دَيْنٌ حَالٌّ فَيُقَالُ : لَا يُقْبَلُ التَّأْجِيلُ , وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِقْرَارِ فَفِيهِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ , وَهِيَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , أَحَدُهَا : لَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ وَلَا التَّأْجِيلُ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِقْرَارِ وَعَلَى أَنَّ الْحَالَّ لَا يَتَأَجَّلُ .(2/232)
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ دُونَ التَّأْجِيلِ , بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الصُّلْحِ مَعَ الْإِقْرَارِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ وَالتَّأْجِيلُ , وَهُوَ الصَّوَابُ , بِنَاءً عَلَى تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَتَارَةً يُصَالِحُهُ عَلَى بَعْضِهِ مُؤَجَّلًا مَعَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ , فَحُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ . وَتَارَةً يُصَالِحُهُ بِبَعْضِهِ حَالًّا مَعَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ , فَهَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَيْضًا : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا , وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بَيْعَ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا , وَهُوَ عَيْنُ الرِّبَا , وَفِي الْإِنْكَارِ الْمُدَّعِي يَقُولُ : هَذِهِ الْمِائَةُ الْحَالَّةُ عِوَضٌ عَنْ مِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ , وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ , وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ .(2/233)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ , وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا ; لِأَنَّ هَذَا عَكْسُ الرِّبَا ; فَإِنَّ الرِّبَا يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَجَلِ , وَهَذَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ بَعْضِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ الْأَجَلِ , فَسَقَطَ بَعْضُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ بَعْضِ الْأَجَلِ , فَانْتَفَعَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَلَمْ يَكُنْ هُنَا رِبًا لَا حَقِيقَةً وَلَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا , فَإِنَّ الرِّبَا الزِّيَادَةُ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هَهُنَا , وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا ذَلِكَ إنَّمَا قَاسُوهُ عَلَى الرِّبَا , وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ الْوَاضِحُ بَيْنَ قَوْلِهِ : " إمَّا أَنْ تُرْبِيَ وَإِمَّا أَنْ تَقْضِيَ " وَبَيْنَ قَوْلِهِ : عَجِّلْ لِي وَأَهَبُ لَك مِائَةً , فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ ؟ فَلَا نَصَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَلَا إجْمَاعَ وَلَا قِيَاسَ صَحِيحٌ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : يَجُوزُ ذَلِكَ فِي دَيْنِ الْكِتَابَةِ , وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . قَالُوا : لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَعْجِيلَ الْعِتْقِ الْمَحْبُوبِ إلَى اللَّهِ , وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ , وَلَا رِبًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ ; فَالْمُكَاتَبُ وَكَسْبُهُ لِلسَّيِّدِ , فَكَأَنَّهُ أَخَذَ بَعْضَ كَسْبِهِ وَتَرَكَ لَهُ بَعْضَهُ , ثُمَّ تَنَاقَضُوا فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ; لِأَنَّهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ .(2/234)
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , مَا الَّذِي جَعَلَهُ مَعَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا وَجَعَلَهُ مَعَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْقِنِّ فِي الْبَابِ الْآخَرِ ؟ فَهَذِهِ صُورَةُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأُصُولُهَا وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا , وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوَابَ جَوَازُهَا كُلِّهَا ; فَالْحِيلَةُ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهَا حِيلَةٌ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ لَيْسَتْ عَلَى حَرَامٍ .
فَصْلٌ فَالْحِيلَةُ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُهُ أَنْ يَجِيءَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ فَيَقُولَ لِلْمُدَّعِي : أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَك , وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّك صَادِقٌ فِي دَعْوَاك , وَأَنَا وَكِيلُهُ , فَصَالِحْنِي عَلَى كَذَا , فَيَنْقَلِبَ حِينَئِذٍ صُلْحًا عَلَى الْإِنْكَارِ . ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ رَجَعَ بِمَا دَفَعَهُ أَيْ الْمُدَّعِي , وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ . وَإِنْ دَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَالَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ وَقَالَ : " صَالِحْ عَنِّي بِذَلِكَ " جَازَ أَيْضًا .
فَصْلٌ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُهُ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً وَيُحَابِيَهُ فِيهَا بِالْقَدْرِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَى إسْقَاطِهِ بِالصُّلْحِ .(2/235)
فَصْلٌ وَالْحِيلَةُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْحَالِ بِبَعْضِهِ مُؤَجَّلًا حَتَّى يَلْزَمَهُ التَّأْجِيلُ أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ الْحَالِّ , وَيُقِرَّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إلَّا الْمُؤَجَّلَ , وَالْحِيلَةُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا أَنْ يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ الْأَوَّلَ , ثُمَّ يَجْعَلَانِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَالِّ , فَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةً أَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ دَابَّةً أَوْ خَالَفَتْهُ عَلَى عِوَضٍ مُؤَجَّلٍ فَسَخَا الْعَقْدَ ثُمَّ جَعَلَا عِوَضَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْحَالَّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْفَسْخُ كَالدِّيَةِ وَغَيْرِهَا فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى الدَّيْنِ بِسِلْعَةٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ جِنْسِهِ , وَذَلِكَ جَائِزٌ ; لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ , فَإِنْ أَتْلَفَ لَهُ مِثْلِيًّا لَزِمَهُ مِثْلُهُ دَيْنًا عَلَيْهِ , فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ رِبًا , وَإِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مُتَقَوِّمًا لَزِمَهُ قِيمَتُهُ , فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا جَازَ ; إذْ هُوَ بَيْعٌ لِلْقِيمَةِ , وَهِيَ دَيْنٌ بِذَلِكَ الْعِوَضِ , وَهُوَ جَائِزٌ
[(2/236)
اخْتِلَافُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فِي ثَمَنِ مَا وَكَّلَهُ فِي شِرَائِهِ ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ جَارِيَةٍ بِأَلْفٍ , فَاشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ , وَقَالَ : أَذِنْت لِي فِي شِرَائِهَا بِأَلْفَيْنِ وَقَدْ فَعَلْت , فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ , وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفَانِ , وَلَا يَمْلِكُ الْجَارِيَةَ وَالْوَكِيلُ مُقِرٌّ أَنَّهَا لِلْمُوَكِّلِ ; فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا , وَالْأَلْفُ الزَّائِدَةُ دَيْنٌ عَلَيْهِ , وَلَا يُمْكِنُ الْوَكِيلَ بَيْعُهَا وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهَا ; لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُوَكِّلِ , وَأَنَّ الْأَلْفَ الْأُخْرَى فِي ذِمَّتِهِ وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ لَهَا , فَالْحِيلَةُ فِي مِلْكِ الْوَكِيلِ لَهَا أَنْ يَقُولَ لَهُ الْمُوَكِّلُ : إنْ كُنْت أَذِنْت لَك فِي شِرَائِهَا بِأَلْفَيْنِ فَقَدْ بِعْتُكهَا بِالْأَلْفَيْنِ . فَيَقُولَ : قَدْ اشْتَرَيْتهَا مِنْك , فَيَمْلِكَهَا حِينَئِذٍ , وَيَتَصَرَّفَ فِيهَا , وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَلَا يَضُرُّ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ بِصُورَةِ الشَّرْطِ ; فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ صِحَّتَهُ إلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ , فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ : " إنْ كَانَتْ مِلْكِي فَقَدْ بِعْتُكَهَا بِأَلْفَيْنِ " وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى نِصْفِ فَقِيهٍ يَقُولُ : هَذَا تَعْلِيقٌ لِلْبَيْعِ بِالشَّرْطِ فَيَبْطُلُ , كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ بِعْتُك كَذَا بِكَذَا , بَلْ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ : إنْ كُنْت جَائِزَ التَّصَرُّفِ فَقَدْ بِعْتُك كَذَا , وَإِنْ أَعْطَيْتنِي ثَمَنَ هَذَا الْمَبِيعِ فَقَدْ بِعْتُكَهُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ .
[(2/237)
الْحِيلَةٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ الْمُودِعِ ] : الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا فَتَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطِهِ لَمْ يَضْمَنْ , فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ قَبْضَ الْوَدِيعَةِ فَأَنْكَرَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ضَمِنَ , فَإِنْ ادَّعَى التَّلَفَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ لَهُ , وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى قَبْضِهِ مَالَهُ فَيَضْمَنُهُ , وَلَا يَنْفَعُهُ تَكْذِيبُ الْبَيِّنَةِ , فَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ أَنْ يَقُولَ : مَا لَك عِنْدِي شَيْءٌ , فَإِنْ حَلَّفَهُ حَلَفَ حَلِفًا صَادِقًا , فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ الْوَدِيعَةِ فَلْيُصَدِّقْ الْبَيِّنَةَ , وَيَقُولُ : صَدَقْت فِيمَا شَهِدْت بِهِ , وَيَدَّعِي التَّلَفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ; فَإِنْ كَذَّبَ الْبَيِّنَةَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ , وَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَى التَّلَفِ .
[ الْحِيلَةُ فِي تَضْمِينِ الرَّاهِنِ تَلَفَ الْمَرْهُونِ ] : الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا رَهَنَ عِنْدَهُ رَهْنًا , وَلَمْ يَثِقْ بِأَمَانَتِهِ , وَخَافَ أَنْ يَدَّعِيَ هَلَاكَهُ وَيَذْهَبَ بِهِ , فَالْحِيلَةُ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ أَنْ يُعِيرَهُ إيَّاهُ أَوَّلًا , فَإِذَا قَبَضَهُ رَهَنَهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ; فَإِذَا تَلِفَ كَانَ فِي ضَمَانِهِ ; لِأَنَّ طَرَيَان الرَّهْنِ عَلَى الْعَارِيَّةِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَهَا ; لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا قَبْلَهُ , وَلَوْ بَطَلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِفَاعُ .
[(2/238)
الْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ ] : الْمِثَالُ الثَّلَاثُونَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَارِيَّةِ : هَلْ تُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ الْمُسْتَعِيرُ ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : يُوجِبُ الضَّمَانَ مُطْلَقًا , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . الثَّانِي : لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ , وَيَدُ الْمُسْتَعِيرِ يَدُ أَمَانَةٍ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّلَفُ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ وَأَخْذِ السَّيْلِ وَمَوْتِ الْحَيَوَانِ وَخَرَابِ الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ , وَإِنْ كَانَ بِأَمْرٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كَدَعْوَى سَرِقَةِ الْجَوْهَرَةِ وَالْمِنْدِيلِ وَالسِّكِّينِ وَنَحْو ذَلِكَ ضَمِنَ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ إنْ شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهَا لَمْ يَضْمَنْ , وَإِنْ أَطْلَقَ ضَمِنَ , وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ قَوِيٌّ مُتَّجِهٌ , وَإِنْ كُنَّا لَا نَقْبَلُ قَوْلَهُ فِي دَعْوَى التَّلَفِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينِهِ , لَكِنْ إذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي التَّلَفِ بِأَمْرٍ لَا يُنْسَبُ فِيهِ إلَى تَفْرِيطٍ فَعَدَمُ التَّضْمِينِ أَقْوَى . فَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ أَنْ يَشْتَرِطَ نَفْيَهُ , فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَفِيَ لَهُ بِالشَّرْطِ فَلَهُ حِيلَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى ادَّعَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعَيْنِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فَدَعْوَاك بَاطِلَةٌ .(2/239)
فَإِنْ لَمْ تَصْعَدْ مَعَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ أَوْ خَافَ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَهُ الدَّعْوَى فَلَهُ حِيلَةٌ ثَالِثَةٌ , وَهِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْعَيْنَ مِنْهُ بِأَقَلِّ شَيْءٍ لِلْمُدَّةِ الَّتِي يُرِيدُ الِانْتِفَاعَ بِهَا , أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا مِنْهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبَضَ الْأُجْرَةَ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا , فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْهَا , وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ مِمَّا تُحَلِّلُ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمُ حَلَالًا(2/240)
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ إذَا أَجَّلَهَا ; فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَأَجَّلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالتَّأْجِيلِ , وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مَتَى شَاءَ , وَقَالَ مَالِكٌ : يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ , فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُؤَجِّلْ ضَرَبَ لَهُ أَجَلَ مِثْلِهِ , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ مِنْ مَوْضِعِهَا . [ الْحِيلَةٌ فِي لُزُومِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ ] : وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمُسْتَقْرِضُ وَالْمُسْتَعِيرُ آمِنٌ مِنْ غَدْرِ الْمُقْرِضِ غَنِيٌّ عَنْ الْحِيلَةِ لِلُّزُومِ الْأَجَلِ , وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْحِيلَةُ فِي لُزُومِ التَّأْجِيلِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا , وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَى مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا , فَإِنْ أَرَادَ حِيلَةً غَيْرَ هَذِهِ فَلْيَسْتَأْجِرْ مِنْهُ الْعَيْنَ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يُبْرِئْهُ مِنْ الْأُجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ , وَأَمَّا الْقَرْضُ فَالْحِيلَةُ فِي تَأْجِيلِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُقْرِضِ شَيْئًا مَا بِمَبْلَغِ الْقَرْضِ ثُمَّ يَكْتُبَهُ مُؤَجَّلًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ; فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ لَا يَبْطُلُ بِهَا حَقٌّ فَلَا تُكْرَهُ .
[(2/241)
حِيلَةٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : إذَا رَهَنَهُ رَهْنًا بِدَيْنٍ , وَقَالَ : " إنْ وَفَيْتُك الدَّيْنَ إلَى كَذَا وَكَذَا , وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك بِمَا عَلَيْهِ " صَحَّ ذَلِكَ , وَفَعَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَصِحُّ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : أَلَّا يُغْلَقَ الرَّهْنُ " وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; فَإِنَّ هَذَا كَانَ مُوجِبَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَتَمَلَّكُ الرَّهْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ إذَا لَمْ يُوفِهِ ; فَهَذَا هُوَ غَلْقُ الرَّهْنِ الَّذِي أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم , وَأَمَّا بَيْعُهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِمَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْحُلُولِ فَلَمْ يُبْطِلْهُ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَلَا مَفْسَدَةٌ ظَاهِرَةٌ , وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بَيْعٌ عُلِّقَ عَلَى شَرْطٍ , وَنَعَمْ فَكَانَ مَاذَا ؟ وَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ وَالْمَصْلَحَةُ إلَى هَذَا مِنْ الْمُرْتَهِنَيْنِ , وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا خَيْرٌ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ تَكْلِيفِهِ الرَّفْعَ إلَى الْحَاكِمِ , وَإِثْبَاتِهِ الرَّهْنَ , وَاسْتِئْذَانِهِ فِي بَيْعِهِ وَالتَّعَبِ الطَّوِيلِ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ سِوَى الْخَسَارَةِ وَالْمَشَقَّةِ , فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَهُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ الْحُلُولِ كَانَ أَصْلَحَ لَهُمَا وَأَنْفَعَ وَأَبْعَدَ مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْخَسَارَةِ , فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حَاكِمٍ أَوْ يُمَلِّكُهُ الْعَيْنَ(2/242)
الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَرْهَنَهَا مِنْهُ , ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِالْمَبْلَغِ الَّذِي يُرِيدُ اسْتِدَانَتَهُ , ثُمَّ يَقُولَ : إنْ وَفَيْتُك الثَّمَنَ إلَى كَذَا وَكَذَا وَإِلَّا فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا , فَإِنْ وَفَاهُ وَإِلَّا انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَعَادَتْ السِّلْعَةُ إلَى مِلْكِهِ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ حَسَنَةٌ مُخَلِّصَةٌ لِغَرَضِهِمَا مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ وَلَا تَضَمُّنَ لِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ , وَلَا لِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ .
[(2/243)
الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَادَّعَى بِهِ صَاحِبُهُ وَأَقَرَّ بِهِ فَالصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِلْزَامُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ إلْزَامٌ بِمَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ , وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ : يَكُونُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ مُدَّعِيًا لِتَأْجِيلِهِ , فَيُؤَاخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ , وَلَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْأَجَلَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ , وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ , فَإِنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِهِ إقْرَارًا مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْغِيَ التَّقْيِيدَ وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ الْمُطْلَقِ كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ , أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ نَقْدِ كَذَا وَكَذَا أَوْ مُعَامَلَةِ كَذَا وَكَذَا ; فَيَلْزَمُهُمْ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ أَنْ يُبْطِلُوا هَذِهِ التَّقْيِيدَاتِ كُلَّهَا وَيُلْزِمُوهُ بِأَلْفٍ كَامِلَةٍ مِنْ النَّقْدِ الْغَالِبِ , وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ : إنَّهَا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ , وَمِمَّا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ إقْرَارَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } .(2/244)
وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِهَا قَبْلَ الْأَجَلِ اتِّفَاقًا , فَهَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِهَا مُؤَجَّلَةً فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ مِنْ الْإِلْزَامِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ أَنْ يَقُولَ : لَا يَلْزَمُنِي تَوْفِيَةُ مَا تَدَّعِي عَلَيَّ أَدَاءَهُ إلَيْك إلَى مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا , وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا , فَإِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ وَقَالَ : " لِي عَلَيْك كَذَا أَمْ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ ؟ " وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجِيبَ بِأَحَدِ الْجَوَابَيْنِ , فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ أَنْ يَقُولَ : إنْ ادَّعَيْتهَا مُؤَجَّلَةً فَأَنَا مُقِرٌّ بِهَا , وَإِنْ ادَّعَيْتهَا حَالَّةً فَأَنَا مُنْكِرٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَدْ قَضَاهُ الدَّيْنَ وَخَافَ أَنْ يَقُولَ : كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْته , فَيَجْعَلَهُ الْحَاكِمُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ مُدَّعِيًا لِقَضَائِهِ ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ : لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ , وَلَا يَلْزَمُنِي أَدَاءُ مَا يَدَّعِيهِ , فَإِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ غَيْرُ هَذَا , عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ مُدَّعِيًا لِقَضَائِهِ , بَلْ مُنْكِرًا الْآنَ لِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَيْفَ يُلْزَمُ بِهِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : هُوَ أَقَرَّ بِثُبُوتٍ سَابِقٍ وَادَّعَى قَضَاءً طَارِئًا عَلَيْهِ .(2/245)
قِيلَ : لَمْ يُقِرَّ بِثُبُوتٍ مُطْلَقٍ بَلْ بِثُبُوتٍ مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ وَهُوَ الزَّمَنُ الْمَاضِي , وَلَمْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ الْآنَ فِي ذِمَّتِهِ ; فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِهِ الْآنَ اسْتِنَادًا إلَى إقْرَارِهِ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكِرٍ ثُبُوتَهُ فِي الْمَاضِي , وَإِنَّمَا هُوَ مُنْكِرٌ لِثُبُوتِهِ الْآنَ , فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُقِرًّا بِمَا هُوَ مُنْكِرٌ لَهُ ؟ وَقِيَاسُهُمْ هَذَا الْإِقْرَارَ عَلَى قَوْلِهِ : " لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي أَوْ لَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِي " قِيَاسٌ بَاطِلٌ , فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ لَا يُعْقَلُ , وَأَمَّا هَذَا فَكَلَامٌ مَعْقُولٌ , وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ , وَلَمْ يُقِرَّ بِشَغْلِ ذِمَّتِهِ الْآنَ بِالْمُدَّعَى بِهِ , فَلَا يَجُوزُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ بِهِ بِنَاءً عَلَى إقْرَارِهِ بِشَغْلِهَا فِي الْمَاضِي , وَمَا نَظِيرُ هَذَا إلَّا قَوْلُ الزَّوْجِ : " كُنْت طَلَّقْت امْرَأَتِي وَرَاجَعْتهَا " فَهَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُطَلِّقًا الْآنَ ؟ وَقَوْلُ الْقَائِلِ : كُنْت فِيمَا مَضَى كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمْت , فَهَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَافِرًا الْآنَ ؟ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : كُنْت عَبْدًا فَأَعْتَقَنِي مَوْلَايَ , هَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ رَقِيقًا ؟ فَإِنْ طَرَدُوا الْحُكْمَ فِي هَذَا كُلِّهِ وَطَلَّقُوا الزَّوْجَ وَكَفَّرُوا الْمُعْتَرِفَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَهَدَاهُ اللَّهُ وَأَمَرُوهُ أَنْ يُجَدِّدَ إسْلَامَهُ وَجَعَلُوا هَذَا قِنًّا .(2/246)
قِيلَ لَهُمْ : فَاطْرُدُوا ذَلِكَ فِيمَنْ قَالَ : كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ أَوْ هَذَا الْبُسْتَانُ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ لِفُلَانٍ ثُمَّ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ , فَأَخْرِجُوهَا مِنْ مِلْكِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ , وَقُولُوا : قَدْ أَقَرَّ بِهَا لِفُلَانٍ ثُمَّ ادَّعَى [ أَنَّهُ ] اشْتَرَاهَا فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فَمَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى لِسَانِهِ وَقَالَ الْوَاقِعَ فَأَخْرِجُوا مِلْكَهُ مِنْ يَدِهِ , وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ : كُنْت مُزَوَّجَةً بِفُلَانٍ ثُمَّ طَلَّقَنِي , اجْعَلُوهَا بِمُجَرَّدِ هَذَا الْكَلَامِ زَوْجَتَهُ , وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ بَعْضُهُ وَيُلْغَى بَعْضُهُ , وَيُقَالُ قَدْ لَزِمَك حُكْمُ ذَلِكَ الْبَعْضِ , وَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِك ; فَإِنَّ هَذَا يَرْفَعُ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدَاتِ جَمِيعَهَا , وَهَذَا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ .(2/247)
ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْجَوَابَ إلَّا عَلَى وَفْقِ الدَّعْوَى يَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ التَّخَلُّصِ مِنْ ظُلْمِ الْمُدَّعِي , وَيُلْجِئُهُ إلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ الْإِضْرَارُ بِهِ وَظُلْمُهُ , أَوْ إلَى أَنْ يُكَذِّبَ بَيَانَهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَدَانَ مِنْهُ وَوَفَّاهُ , فَإِنْ قَالَ : " لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ " لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْ عَلَى نَفْيِ الدَّعْوَى , وَإِنْ قَالَ : " كُنْت اسْتَدَنْت مِنْهُ وَوَفَّيْته " لَمْ تَسْمَعُوا مِنْهُ آخِرَ كَلَامِهِ وَسَمِعْتُمْ مِنْهُ أَوَّلَهُ , وَإِنْ قَالَ : " لَمْ أَسْتَدِنْ مِنْهُ " وَكَانَ كَاذِبًا فَقَدْ أَلْجَأْتُمُوهُ إلَى أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَكْذِبَ وَلَا بُدَّ ; فَالْحِيلَةُ لِمَنْ بُلِيَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ التَّوْرِيَةَ , وَيَحْلِفَ مَا اسْتَدَانَ مِنْهُ , وَيَنْوِيَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً , فَإِذَا قَالَ : " وَاَللَّهِ إنِّي مَا اسْتَدَنْت مِنْهُ " أَيْ إنِّي الَّذِي اسْتَدَنْت مِنْهُ , وَيَنْفَعُهُ تَأْوِيلُهُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا , كَمَا لَا يَنْفَعُهُ إذَا كَانَ ظَالِمًا بِالِاتِّفَاقِ(2/248)
حِيلَةٌ فِي تَأْجِيلِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَعْسَرَ بِهِ فَادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ , فَإِنْ أَنْكَرَهُ كَانَ كَاذِبًا , وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ , وَإِنْ جَحَدَهُ أَقَامَ بِهِ الْبَيِّنَةَ , فَإِنْ ادَّعَى الْإِعْسَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّعِي قَدْ ظَهَرَ لِلْحَاكِمِ كَذِبُهُ فِي جَحْدِهِ الْحَقَّ فَهَكَذَا هُوَ كَاذِبٌ فِي دَعْوَى الْإِعْسَارِ ; فَالْحِيلَةُ فِي تَخْلِيصِهِ أَنْ يَقُولَ : لَا يَلْزَمُنِي تَوْفِيَةُ مَا يَدَّعِيه عَلَيَّ وَلَا أَدَاؤُهُ , فَإِنْ طَالَبَهُ الْحَاكِمُ بِجَوَابٍ يُطَابِقُ السُّؤَالَ فَلَهُ أَنْ يُوَرِّيَ كَمَا تَقَدَّمَ , وَيَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ , فَإِنْ خَشِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَهُنَا تَعِزُّ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ , وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا تَحْلِيفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ عَجْزَهُ عَنْ الْوَفَاءِ أَوْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوَفَاءِ , فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَلَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِالْعَجْزِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حِيلَةٌ غَيْرُ الصَّبْرِ .
[(2/249)
حِيلَةٌ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا هِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْيَدِ , فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً حُكِمَ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ ; فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً ; فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَدْ تَعَارَضَتَا , وَسَلِمَتْ الْيَدُ عَنْ مُعَارِضٍ , وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ : بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوَّلُ ; لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى بَيِّنَةِ صَاحِبِ الْيَدِ فَإِنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى ظَاهِرِ الْيَدِ , وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ تَسْتَنِدُ أَيْضًا إلَى سَبَبٍ خَفِيٍّ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ فَتَكُونُ أَوْلَى , فَالْحِيلَةُ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ أَنْ يَدَّعِيَ الْخَارِجُ أَنَّهُ فِي يَدِ الدَّاخِلِ غَصْبًا أَوْ عَارِيَّةً أَوْ وَدِيعَةً أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ , ثُمَّ تَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَى وَفْقِ مَا ادَّعَاهُ , فَحِينَئِذٍ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ .
[(2/250)
حِيلَةٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ لَدْغِ الْمُخَادِعِ ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : الْحِيلَةُ الْمُخَلِّصَةُ مِنْ لَدْغِ الْعَقَارِبِ , وَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى الْمَاكِرُ الْمُخَادِعُ مِنْ رَجُلٍ دَارًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ سِلْعَةً , وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ , ثُمَّ مَضَى إلَى الْبَيْتِ أَوْ الْحَانُوتِ لِيَأْتِيَهُ بِالثَّمَنِ , فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ , فَلَا يَصِلُ الْبَائِعُ إلَى أَخْذِ الثَّمَنِ , فَالْحِيلَةُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ أَوْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْبَيْعِ مَعَهُ إلَيْهِ لِيَثْبُتَ لَهُ التَّبَايُعَ , ثُمَّ يَسْأَلَهُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي مَالِهِ , وَيَقِفَهُ حَتَّى يُسْلِمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ ; لِئَلَّا يَتْلَفَ مَالُهُ أَوْ يَتَبَرَّعَ بِهِ فَيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ . وَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ إجَابَتُهُ إذَا خَشِيَ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي ; لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى حَقِّهِ , فَإِنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحِيلَةُ وَلَدَغَتْهُ الْعَقْرَبُ وَادَّعَى الْإِعْسَارَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَأَلَ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ , فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ مَالِهِ .(2/251)
فَإِنْ كَانَتْ الْعَقْرَبُ دَاهِيَةً بِأَنْ غَيَّرَ الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ أَوْ مَلَّكَهَا لِوَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَرَى رُجُوعَ الْبَائِعِ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى إبْطَالِ الْعَقْدِ بِإِقْرَارٍ سَابِقٍ عَلَى الْمَبِيعِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ أَوْ يَرْهَنَهُ أَوْ يَبِيعَهُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ , وَيُقَدِّمُ تَارِيخَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعِ الْعَقْرَبِ , وَلَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَكْرًا وَخِدَاعًا ; فَإِنَّ الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ حَسَنٌ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } وَقَالَ : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } وَقَالَ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَادَ لِيُوسُفَ فِي مُقَابَلَةِ كَيَدِ إخْوَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
[(2/252)
حِيلَةٌ فِي عَدَمِ سُقُوطِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا تَحَيَّلَ الْمَكَّارُ الْمُخَادِعُ عَلَى سُقُوطِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ بِالْمُمَاطَلَةِ وَقَالَ : إنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلَا يَبْقَى دَيْنًا عَلَيَّ , فَتَرَكَهَا آمِنًا مِنْ إلْزَامِهِ بِهَا لِمَا مَضَى , فَالْحِيلَةُ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَفْرِضَهَا عَلَيْهِ , ثُمَّ يَسْتَأْذِنَهُ فِي الِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ بِقَدْرِهَا , فَإِذَا فَعَلَ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ بِقَضَاءِ مَا اسْتَدَانَهُ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ , فَإِنْ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي الِاسْتِدَانَةِ وَمَضَى الزَّمَانُ فَهَلْ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ صَرَّحُوا بِسُقُوطِهَا مُطْلَقًا فُرِضَتْ أَوْ لَمْ تُفْرَضْ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنْ فُرِضَتْ لَمْ تَسْقُطْ , فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إلَى الْحَاكِمِ فَلْيَقُلْ لَهُ : اشْفَعْ لِي إلَى فُلَانٍ لِيُنْفِقَ عَلَيَّ أَوْ يُعْطِيَنِي مَا أَحْتَاجُ إلَيْهِ , فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ لَزِمَ الشَّافِعَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ أَدَّاهُ إلَى الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ عَنْ الشَّفِيعِ بِإِذْنِهِ , فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْغَيْرُ بِغَيْرِ إذْنِهِ نَاوِيًا لِلرُّجُوعِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي أَصَحِّ الْمَذْهَبَيْنِ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .(2/253)
وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْمَنْصُوصِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ , فَإِنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِي رِوَايَةِ الْجُوزَجَانِيِّ عَلَى رُجُوعِ مَنْ عَمَرَ قَنَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَلَوْ أَنَّ الْقَرِيبَ اسْتَدَانَ وَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ أَحَالَ بِالدَّيْنِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ بِهِ ; لِأَنَّهُ أَحَالَ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ , وَلَا يُقَالُ : قَدْ سَقَطَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلَمْ تُصَادِفْ الْحَوَالَةُ مَحَلًّا ; لِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ قَدْ اسْتَدَانَ عَلَى الْمُنْفِقِ , بَلْ تَبَرَّعَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ تَكَلَّفَ أَوْ صَبَرَ , فَأَمَّا إذَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فَهُنَا لَا وَجْهَ لِسُقُوطِهَا , وَإِنْ كَانَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ قَدْ أَطْلَقُوا السُّقُوطَ فَتَعْلِيلُهُمْ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ , فَتَأَمَّلْهُ(2/254)
حِيلَةٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَاءِ ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا اسْتَنْبَطَ فِي مِلْكِهِ أَوْ أَرْضٍ اسْتَأْجَرَهَا عَيْنَ مَاءٍ مَلَكَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ لِمَنْ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ أَوْ يَسْقِي بِهِ بَهَائِمَهُ , بَلْ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ , وَمَا فَضَلَ مِنْهُ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِبَهَائِمِ غَيْرِهِ وَزَرْعِهِ , فَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَبِيعَهُ نِصْفَ الْعَيْنِ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ يُؤَجِّرَهُ ذَلِكَ ; فَيَكُونَ الْمَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ , وَيَدْخُلُ الْمَاءُ تَبَعًا لِمِلْكِ الْعَيْنِ أَوْ مَنْفَعَتِهَا , وَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ الْحِيلَةُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ , فَإِنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ , وَإِنَّمَا بَاعَ الْعَيْنَ , وَدَخَلَ الْمَاءُ تَبَعًا , وَالشَّيْءُ قَدْ يَسْتَتْبِعُ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ وَحْدَهُ
[(2/255)
حِيلَةٌ فِي عَدَمِ تَسْوِيغِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي إلَّا لِمَنْ بَاعَهُ ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَلَهُ غَرَضٌ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ بَائِعِهِ , فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ بَاعَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ , وَهَذَا يَجُوزُ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ , وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ , وَقَوْلُ الْمَانِعِينَ : " إنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ " فَنَعَمْ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ , وَجَمِيعُ الشُّرُوطِ اللَّازِمَةِ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ , وَلَا تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ , بَلْ هِيَ مُقْتَضَاهُ , فَإِنْ لَمْ تَسْعَدْ مَعَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلَهُ حِيلَةٌ أُخْرَى , وَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ : إمَّا أَنْ تَقُولَ : " مَتَى بِعْته فَهُوَ حُرٌّ " وَإِلَّا فَسَخْت الْبَيْعَ , فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَمَتَى بَاعَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ; فَإِنَّ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الْعِتْقَ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ وَهُوَ الْإِيجَابُ , وَذَلِكَ بَيْعٌ حَقِيقَةً , وَلِهَذَا يُقَالُ : " بِعْته الْعَبْدَ فَاشْتَرَاهُ " فَكَمَا أَنَّ الشِّرَاءَ هُوَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي , فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ هُوَ إيجَابُ الْبَائِعِ , وَلِهَذَا يُقَالُ : الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي , قَالَ الشَّاعِرُ : وَإِذَا تُبَاعُ كَرِيمَةٌ أَوْ تُشْتَرَى فَسِوَاكَ بَائِعُهَا وَأَنْتَ الْمُشْتَرِي هَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ , فَإِنْ لَمْ تَسْعَدْ مَعَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلْيَقُلْ لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ : " إمَّا أَنْ(2/256)
تَقُولَ مَتَى بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ , وَإِمَّا أَنْ أَفْسَخَ " فَمَتَى قَالَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ بَيْعُهُ أَلْبَتَّةَ .
[ حِيلَةٌ فِي تَجْوِيزِ شَهَادَةِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ ] الْمِثَالُ الْأَرْبَعُونَ : إذَا كَانَ لِلْمُوَكِّلِ عِنْدَ وَكِيلِهِ شَهَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ وَكِيلُهُ فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ , فَإِنْ أَرَادَ قَبُولَهَا فَلْيَعْزِلْهُ أَوْ لِيَعْزِلْ نَفْسَهُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ ثُمَّ يُقِيمُ الشَّهَادَةَ , فَإِذَا تَمَّتْ عَادَ تَوَكُّلُهُ بِهِ , وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ مَحْذُورٌ ; فَلَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً .
[ حِيلَةٌ فِي تَجْوِيزِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا تَوَضَّأَ وَلَبِسَ إحْدَى خُفَّيْهِ قَبْلَ غَسْلِ رِجْلِهِ الْأُخْرَى , ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْأُخْرَى وَأَدْخَلَهَا فِي الْخُفِّ , جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ , وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ الْأُولَى عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ ; فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّ الرِّجْلِ الْأُولَى ثُمَّ يَلْبَسَهُ , وَهَذَا نَوْعُ عَبَثٍ لَا غَرَضَ لِلشَّارِعِ فِيهِ , وَلَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِ ; فَالشَّرْعُ لَا يَأْمُرُهُ بِهِ .
[(2/257)
حِيلَةٌ فِي عَدَمِ حِنْثِ الْحَالِفِ ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ , فَأَحَبَّ أَنْ يَحْلِفَ وَلَا يَحْنَثَ ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِقَوْلِ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُسْمِعَهَا نَفْسَهُ ؟ فَقِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ , وَقَالَ شَيْخُنَا : هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ , بَلْ مَتَى حَرَّكَ لِسَانَهُ بِذَلِكَ كَانَ مُتَكَلِّمًا , وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ , وَهَكَذَا حُكْمُ الْأَقْوَالِ الْوَاجِبَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ , قُلْت : وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُطْبِقُ شَفَتَيْهِ وَيُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ذَاكِرًا , وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ ; فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لِلشَّفَتَيْنِ فِي حُرُوفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ , بَلْ كُلُّهَا حَلْقِيَّةٌ لِسَانِيَّةٌ ; فَيُمْكِنُ الذَّاكِرُ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِهَا وَلَا يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ النَّاسِ , وَلَا تَرَاهُ الْعَيْنُ يَتَكَلَّمُ , وَهَكَذَا التَّكَلُّمُ يَقُولُ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ " يُمْكِنُ مَعَ إطْبَاقِ الْفَمِ ; فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَرَاهُ , وَإِنْ أَطْبَقَ أَسْنَانَهُ وَفَتَحَ شَفَتَيْهِ أَدْنَى شَيْءٍ سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ بِجُمْلَتِهِ .
[(2/258)
حِيلَةٌ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ زَوْجَتَهُ الَّتِي لَاعَنَهَا أَوْ قَتَلَ وَلَدَهَا ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا , ثُمَّ قَتَلَ الْوَلَدَ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ , وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا فَلِوَلَدِهَا الْقِصَاصُ إذَا بَلَغَ ; فَإِنْ أَرَادَ إسْقَاطَ الْقِصَاصِ عَنْ نَفْسِهِ ; فَالْحِيلَةُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ , وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ ابْنُهُ ; فَيَسْقُطَ الْقِصَاصُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ , وَفِي جَوَازِ هَذِهِ الْحِيلَةِ نَظَرٌ .
[(2/259)
حِيلَةٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِدَيْنٍ كَانَ أَدَّاهُ ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَقَدْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ ثُمَّ عَادَ فَادَّعَاهُ ; فَإِنْ قَالَ : " قَدْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ " لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ : " كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْته " وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ مُقِرًّا بِهِ مُدَّعِيًا لِلْإِبْرَاءِ ; فَيُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ ; فَالْحِيلَةُ عَلَى التَّخَلُّصِ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَبْرَأْتَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى ; فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالْمُدَّعَى بِهِ ; فَإِذَا سَأَلَ إحْلَافَ خَصْمِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْ الدَّعْوَى مَلَكَ ذَلِكَ ; فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ صَرَفَهُمَا الْحَاكِمُ , وَإِنْ حَلَفَ طُولِبَ بِالْجَوَابِ , وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّعْوَى فَإِنْ قَالَ : " أَبْرَأْتنِي مِنْ الْحَقِّ " فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ , وَإِنْ قَالَ : " لَا شَيْءَ عِنْدِي " اكْتَفَى مِنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; فَإِنْ طَالَبَهُ الْحَاكِمُ بِالْجَوَابِ عَلَى وَفْقِ الدَّعْوَى فَالْحِيلَةُ أَنْ يُجِيبَ وَيُوَرِّيَ كَمَا تَقَدَّمَ .
[(2/260)
حِيلَةٌ فِي الْمُضَارَبَةِ ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا خَافَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ الْمَالَ فَقَالَ : " قَدْ رَبِحْت أَلْفًا " لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيكًا ; فَإِنْ قَالَ : " ذَلِكَ حِيلَةٌ , وَلَمْ يَرْبَحْ " فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : " كَذَبْت " لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ ; فَالْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِهِ أَنْ يَدَّعِيَ خَسَارَتهَا بَعْدِ ذَلِكَ أَوْ تَلَفَهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
[(2/261)
حِيلَةٌ فِي تَجْوِيزِ نَظَرِ الْوَاقِفِ عَلَى وَقْفِهِ ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا وَقَفَ وَقْفًا وَجَعَلَ النَّظَرَ فِيهِ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِغَيْرِهِ , صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَهُوَ اتِّفَاقٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ; فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَلِي صَدَقَتَهُ , وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ , { وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِوَقْفِ أَرْضِهِ لَمْ يَقُلْ لَهُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَتَّى تُخْرِجَهَا عَنْ يَدِك وَلَا تَلِي نَظَرَهَا } وَأَيُّ غَرَضٍ لِلشَّارِعِ فِي ذَلِكَ ؟ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ لِلْوَاقِفِ أَوْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؟ بَلْ الْمَصْلَحَةُ خِلَافُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِمَالِهِ , وَأَقْوَمُ بِعِمَارَتِهِ وَمَصَالِحِهِ وَحِفْظِهِ مِنْ الْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَتْ خِبْرَتُهُ وَشَفَقَتُهُ كَخِبْرَةِ صَاحِبِهِ وَشَفَقَتِهِ , وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ , وَثُبُوتُ نَظَرِهِ وَيَدِهِ عَلَيْهِ كَثُبُوتِ نَظَرِ الْأَجْنَبِيِّ وَيَدِهِ , وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا , فَأَيُّ مَصْلَحَةٍ فِي أَنْ يُقَالَ لَهُ : " لَا يَصِحُّ وَقْفُك حَتَّى تَجْعَلَهُ فِي يَدِ مَنْ لَسْت عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حِفْظِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ وَإِخْرَاجِ نَظَرِك عَنْهُ ؟ " فَإِنْ قِيلَ : إخْرَاجُهُ لِلَّهِ يَقْتَضِي رَفْعَ يَدِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَالْعِتْقِ . قِيلَ : بِالْعِتْقِ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا , وَصَارَ مُحَرَّرًا مَحْضًا , فَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدُ أَحَدٍ .(2/262)
وَأَمَّا الْوَقْفُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ لِحِفْظِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ , وَأَحَقُّ مَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدُ أَشْفَقِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَقْوَمُهُمْ بِمَصَالِحِهِ , وَثُبُوتُ يَدِهِ وَنَظَرِهِ لَا يُنَافِي وَقْفَهُ لِلَّهِ , فَإِنَّهُ وَقَفَهُ لِلَّهِ وَجَعَلَ نَظَرَهُ عَلَيْهِ وَيَدَهُ لِلَّهِ فَكِلَاهُمَا قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ , فَكَيْفَ يُحْرَمُ ثَوَابَ هَذِهِ الْقُرْبَةِ وَيُقَالُ لَهُ : لَا يَصِحُّ لَك قُرْبَةُ الْوَقْفِ إلَّا بِحِرْمَانِ قُرْبَةِ النَّظَرِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْوَقْفِ ؟ فَأَيُّ نَصٍّ وَأَيُّ قِيَاسٍ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ وَأَيُّ غَرَضٍ لِلشَّارِعِ أَوْجَبَ ذَلِكَ ؟ بَلْ أَيُّ صَاحِبٍ قَالَ ذَلِكَ ؟ فَإِنْ احْتَاجَ الْوَاقِفُ إلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُحْكَمُ فِيهِ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ يُبْطِلُ الْوَقْفَ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ يَدِهِ وَإِذَا شَرَطَ النَّظَرَ بِنَفْسِهِ , فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ إلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ وَيَجْعَلَ إلَيْهِ تَفْوِيضَ النَّظَرِ لِمَنْ شَاءَ , فَيَقْبَلَ النَّاظِرُ ذَلِكَ , وَيَصِحَّ الْوَقْفُ وَيَلْزَمَ , ثُمَّ يُفَوِّضَهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ , فَإِنَّهُ قَدْ صَارَ أَجْنَبِيًّا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ النَّاسِ , فَهَذِهِ حِيلَةٌ صَحِيحَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حَقٍّ , فَهِيَ جَائِزَةٌ , وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ النَّظَرَ فِيهِ لِلْحَاكِمِ ثُمَّ فَوَّضَهُ الْحَاكِمُ إلَيْهِ , فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يُفَوِّضَهُ الْحَاكِمُ إلَيْهِ فَلْيُمَلِّكْهُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ , وَيَقِفُهُ ذَلِكَ عَلَى مَا يُرِيدُ الْمُمَلِّكُ , وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لَهُ , وَأَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ .
[(2/263)
حِيلَةٌ لِتَجْوِيزِ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ صَحَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ , وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْحَنَفِيَّةِ , وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ , وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ , وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الثَّلَاثَةِ لَا يَصِحُّ . وَالْمَانِعُونَ مِنْ صِحَّتِهِ قَالُوا : يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْإِنْسَانِ مُعْطِيًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ; وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ وَلَا يَهَبَ نَفْسَهُ وَلَا يُؤَجِّرَ مَالَهُ مِنْ نَفْسِهِ , فَكَذَا لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ . قَالَ الْمُجَوِّزُونَ : الْوَقْفُ شَبِيهُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْتَنِعُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ , وَلِهَذَا لَا يُفْتَقَرُ إلَى قَبُولٍ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ اتِّفَاقًا , وَلَا إذَا كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , وَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ أُمُّ الْوَلَدِ . وَإِذَا كَانَ مِثْلَ التَّحْرِيرِ لَمْ يَكُنْ الْوَاقِفُ مُمَلِّكًا لِنَفْسِهِ , بَلْ يَكُونُ مُخْرِجًا لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَانِعًا لَهَا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ مَعَ انْتِفَاعِهِ بِالْعَيْنِ كَأُمِّ الْوَلَدِ . وَهَذَا إذَا قُلْنَا بِانْتِقَالِ رَقَبَةِ الْوَقْفِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ الْوَاقِفَ أَخْرَجَ رَقَبَةَ الْوَقْفِ لِلَّهِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْمَنْفَعَةِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى مِنْ الْبُطُونِ الْمُرَتَّبَةِ فَلَا يَكُونُ دُونَ بَعْضِهِمْ , فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ .(2/264)
وَإِنْ قُلْنَا : الْوَقْفُ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ الْوَاقِفِ فَالطَّبَقَةُ الْأُولَى أَحَدُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ أَوْ بَاعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جَازَ عَلَى الْمُخْتَارِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمِلْكَيْنِ , فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَنْقُلَ مِلْكَهُ الْمُخْتَصَّ إلَى طَبَقَاتٍ مَوْقُوفٍ عَلَيْهَا هُوَ أَحَدُهَا أَوْلَى ; لِأَنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ نَقَلَ مِلْكَهُ الْمُخْتَصَّ إلَى مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ , بَلْ فِي الشَّرِكَةِ الْمِلْكُ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ يَمْلِكُ بِهِ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ , وَفِي الْوَقْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ , كَمَا وَقَفَ عُثْمَانُ بِئْرَ رُومَةَ وَجَعَلَ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ , وَكَمَا يُصَلِّي الْمَرْءُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي وَقَفَهُ , وَيَشْرَبُ مِنْ السِّقَايَةِ الَّتِي وَقَفَهَا , وَيُدْفَنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الَّتِي سَبَّلَهَا , أَوْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيق الَّتِي فَتْحَهَا , وَيَنْتَفِعُ بِالْكِتَابِ الَّذِي وَقَفَهُ , وَيَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ اللَّذَيْنِ وَقَفَهُمَا , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ , فَإِذَا جَازَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فِي الْجِهَةِ الْعَامَّةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ , لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى , بَلْ الْجَوَازُ هُنَا أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِالتَّعْيِينِ , وَهُنَاكَ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ بِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ .(2/265)
وَتَقْلِيدُ هَذَا الْقَوْلِ خَيْرٌ مِنْ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ الَّتِي يُمَلِّكُ الرَّجُلُ فِيهَا مَالَهُ لِمَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ نَفْسُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ دِرْهَمًا ثُمَّ يَقِفَهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكُ عَلَى الْمُمَلِّكِ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ تَضَمَّنَتْ أَمْرَيْنِ , أَحَدُهُمَا : لَا حَقِيقَةَ لَهُ , وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ . وَالثَّانِي : اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , أَوْ إذْنُهُ لَهُ فِيهِ , وَهَذَا فِي الْمَعْنَى تَوْكِيلٌ [ لَهُ ] فِي الْوَقْفِ , كَمَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ الْوَقْفِ ; فَصَارَ وُجُودُ هَذَا التَّمْلِيكِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُمَلَّكُ وَلَا يُمْكِنُهُ وُجُودُ التَّصَرُّفِ فِيهِ , وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ وَقْفِهِ لَمْ يَحِلَّ لِوَرَثَتِهِ أَخْذُهُ , وَلَوْ أَنَّهُ أَخَذَهُ وَلَمْ يَقِفْهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ عُدَّ ظَالِمًا غَاصِبًا , وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْلِيكِ لَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذًا كَنُفُوذِهِ قَبْلَهُ , هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُمَا تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ إنَّمَا وَهَبَهُ إيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يَقِفَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ .(2/266)
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ عِنْدَكُمْ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ , أَنْ يَقِفَهُ عَلَى الْجِهَاتِ الَّتِي يُرِيدُ ; وَيَسْتَثْنِيَ غَلَّتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ مُدَّةً مَعْلُومَةً , وَهَذَا جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ , وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ مُدَّةً . وَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَقِفَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةٍ أَوْ إلَى حِينِ مَوْتِهِ . وَيَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ , وَبِحَدِيثِ عِتْقِ أُمِّ سَلَمَةَ سَفِينَةَ , وَبِحَدِيثِ عِتْقِ صَفِيَّةَ , وَبِآثَارٍ صِحَاحٍ كَثِيرَةٍ عَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِمْ مَنْ خَالَفَهَا , وَلِهَذَا الْقَوْلِ قُوَّةٌ فِي الْقِيَاسِ .(2/267)
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ عَدَلَ إلَى الْحِيلَةِ الْأُولَى فَمَا حُكْمُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؟ وَمَا حُكْمُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ بِالْحَالِ , هَلْ يَطِيبُ لَهُ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ أَمْ لَا ؟ قِيلَ : لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْوَقْفِ وَنُفُوذَهُ , وَيَطِيبُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ ; فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ وَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقُ إلَيْهِ غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ وَهَذَا كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوْ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ وَجَحَدَ ذَلِكَ فَأَقَامَ الْعَبْدُ أَوْ الْمَرْأَةُ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ فَشَهِدَا بِهِ وَسِعَ الْعَبْدَ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ وَالْمَرْأَةَ أَنْ تَتَزَوَّجَ , وَفِقْهُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ وَالتَّوْكِيلَ فِي الْوَقْفِ وَإِنْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ , كَمَا لَوْ فَسَدَتْ الشَّرِكَةُ أَوْ الْمُضَارَبَةُ لَمْ يَفْسُدْ تَصَرُّفُ الشَّرِيكِ وَالْعَامِلِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ مِنْ الْإِذْنِ , بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاتِّفَاقَ يَلْزَمُهُ قَبْلَ التَّمْلِيكِ إذْنٌ صَحِيحٌ وَوَكَالَةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهَا مَا يُنَافِيهَا , وَأَيْضًا فَإِنَّمَا بَطَلَ عَقْدُ الْهِبَةِ لِكَوْنِهِ شَرَطَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَى الْوَاهِبِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمِلْكِ بَلْ يَصِحُّ بِالْوَكَالَةِ وَبِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ الْمِلْكِ بُطْلَانُ الْإِذْنِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ ; لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَنَدٌ غَيْرُ الْمِلْكِ .(2/268)
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا بَطَلَ الْمِلْكُ يَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ التَّصَرُّفُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ . قِيلَ : لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْإِذْنِ وَالتَّوْكِيلِ .(2/269)
يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا يَجِبُ أَنْ تُسْلَبَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي أُعِيرَتَهَا وَتُعْطَى الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ , كَمَا سُلِبَ مِنْهَا مَا يُسَمَّى بَيْعًا وَنِكَاحًا وَهَدِيَّةً هَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَأُعْطِيَ اسْمَ الرِّبَا وَالسِّفَاحِ وَالرِّشْوَةِ ; فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِبَةُ تُسْلَبُ اسْمَ الْهِبَةِ وَتُسَمَّى إذْنًا وَتَوْكِيلًا , وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ مَخْصُوصٍ , بَلْ تَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْوَكَالَةِ ; فَهَذِهِ الْحِيلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَوْكِيلٌ لِلْغَيْرِ فِي أَنْ يَقِفَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ; فَمَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ اعْتَقَدَ جَوَازَ هَذَا الْوَقْفِ , وَمَنْ اعْتَقَدَ بُطْلَانَهُ وَبُطْلَانَ الْحِيَلِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يَكُونُ مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ , وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ , فَمَنْ أَبْطَلَهُ رَأَى أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ وَمَنْ بَعْدَهَا تَبَعٌ لِلْأُولَى , فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي الْمَتْبُوعِ فَفِي التَّابِعِ أَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ , وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ أَنْ تَصِيرَ الثَّانِيَةُ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ ; إذْ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ مِنْ رِضَا الْمُتَصَرِّفِ وَمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ ; فَعَلَى هَذَا هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ . فَإِذَا مَاتَ فَهَلْ يَصِحُّ الْوَقْفُ حِينَئِذٍ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ .(2/270)
وَيَكُونُ مَأْخَذُهُمَا ذَلِكَ , كَمَا لَوْ قَالَ : " هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي " فَيَصِحُّ , أَوْ أَنَّهُ وَقْفٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ , وَفِيهِ وَجْهَانِ : فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ كَانَ مِنْ الثُّلُثِ وَفِي الزَّائِدِ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ , وَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِهِ كَانَ مِيرَاثًا , وَمَنْ رَأَى صِحَّتَهُ قَالَ : قَدْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ بِأَنْ يُصَحِّحَ الْوَقْفَ وَيَصْرِفَهُ فِي الْحَالِ إلَى جِهَتِهِ الَّتِي يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا , وَتَلْغَى الْجِهَةُ الَّتِي لَا تَصِحُّ فَتُجْعَلُ كَالْمَعْدُومَةِ . وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : بَلْ تُصْرَفُ مَصْرِفَ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ , فَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ صُرِفَ مَصْرِفَ الْجِهَةِ الصَّحِيحَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ لَوْ سَلَكَ حِيلَةً غَيْرَ هَذَا كُلِّهِ , وَأَسْهَلَ مِنْهُ وَأَقْرَبَ ؟ وَهِيَ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْعَقَارِ وَقْفٌ عَلَيْهِ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ جَائِزِ الْمِلْكِ جَائِزِ الْوَقْفِ , ثُمَّ بَعْدَهُ عَلَى كَذَا وَكَذَا , فَمَا حُكْمُ هَذِهِ الْحِيلَةِ فِي الْبَاطِنِ , وَحُكْمُ مَنْ عَلِمَ بِهَا مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ ؟ .(2/271)
قِيلَ : هَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا إنْشَاءَ الْوَقْفِ , وَإِنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ قَصَدَ بِهَا الْإِخْبَارَ ; فَهِيَ إنْشَاءٌ فِي الْبَاطِنِ إخْبَارٌ فِي الظَّاهِرِ , فَهِيَ كَمَنْ أَقَرَّ بِبُطْلَانٍ أَوْ عَتَاقٍ يَنْوِي بِهِ الْإِنْشَاءَ , وَالْوَقْفُ يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ وَبِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَبِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ , وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " هَذَا وَقْفٌ عَلَيَّ " وَمَيَّزَهُ بِفِعْلِهِ عَنْ مِلْكِهِ صَارَ وَقْفًا ; فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ الْإِنْشَاءِ مَعَ النِّيَّةِ , فَإِذَا قَصَدَهُ بِهِ صَحَّ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْإِنْشَاءِ يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْإِخْبَارُ , وَإِذَا أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ دِينَ , فَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ صَالِحٌ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْآخَرِ , فَقَدْ يُقْصَدُ بِالْإِقْرَارِ الْإِخْبَارُ عَمَّا مَضَى , وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْإِنْشَاءُ , وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ .(2/272)