كتاب روضة الناظر وجنة المناظر
القسم الثاني (1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم ( ربي زدني علما وفهما )
الحمد لله العلي الكبير العليم القدير الحكيم الخبير الذي جل عن الشبيه والنظير وتعالى عن الشريك والوزير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وصلى الله على رسوله البشير النذير السراج المنير المخصوص بالمقام المحمود والحوض المورود في اليوم العبوس القمطرير وعلى أصحابه الأطهار النجباء الأخيار وأهل بيته الأبرار الذين أذهب عنهم الرجس وخصهم بالتطهير وعلى التابعين لهم بإحسان والمقتدين بهم في كل زمان
أما بعد فهذا كتاب نذكر فيه أصول الفقه والاختلاف فيه ودليل كل قول على المختار ونبين من ذلك ما نرتضيه ونجيب من خالفنا فيه
بدأنا بمقدمة لطيفة في أوله ثم أتبعناها ثمانية أبواب
الأول في حقيقة الحكم وأقسامه (1/5)
الثاني في تفصيل الأصول وهي الكتاب والسنة والإجماع والاستصحاب
الثالث في بيان الأصول المختلف فيها
الرابع في تقاسيم الكلام والأسماء
الخامس في الأمر والنهي والعموم والاستثناء والشرط وما يقتبس من الألفاظ من إشارتها وإيمائها
السادس في القياس الذي هو فرع للأصول
السابع في حكم المجتهد الذي يستثمر الحكم من هذه الأدلة والمقلد
الثامن في ترجيحات الأدلة المتعارضات
ونسأل الله تعالى أن يعيننا فيما نبتغيه ويوفقنا في جميع الأحوال لما يرضيه ويجعل عملنا صالحا ويجعله لوجهه خالصا بمنه ورحمته (1/6)
تعريف الفقه وأصول الفقه
مقدمة
اعلم أنك لا تعلم معنى أصول الفقه قبل معرفة معنى الفقه والفقه في أصل الوضع الفهم قال تعالى أخبارا عن موسى عليه السلام واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
وفي عرف الفقهاء العلم بأحكام الأفعال الشرعية كالحل والحرمة والصحة والفساد ونحوها فلا يطلق اسم الفقيه على متكلم ولا محدث ولا مفسر ولا نحوي
وأصول الفقه أدلته الدالة عليه من حيث الجملة لا من حيث التفصيل ( فإن الخلاف في الفقه مشتمل على أدلة الأحكام لكن من حيث التفصيل ) كدلالة حديث خاص على مسألة النكاح بلا ولي (1/7)
والأصول لا يتعرض فيها لآحاد المسائل إلا على طريق ضرب المثال كقولنا الأمر يقتضي الوجوب ونحوه
فبهذا يخالف أصول الفقه فرعه ونظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية والمقصود اقتباس الأحكام من الأدلة (1/8)
مقدمة منطقية
اعلم أن مدارك العقول تنحصر في الحد والبرهان وذلك لأن إدراك العلوم على ضربين إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى العالم والحادث والقديم
والثاني إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض نفيا أو إثباتا فإنك تعلم أولا معنى العالم والحادث القديم مفردا ثم تنسب مفردا إلى مفرد فتنسب الحادث إلى العالم بالإثبات فتقول العالم حادث وتنسب للقديم إليه بالنفي فتقول العالم ليس بقديم والضرب الأول يستحيل التصديق والتكذيب فيه إذ لا يتطرق إلا إلى خبر وأقل ما يتركب منه الخبر مفردان والضرب الثاني متطرق إليه التصديق والتكذيب وقد سمي قوم الضرب الأول تصورا والثاني تصديقا وسمي آخرون الأول معرفة والثاني علما وسمي النحويون الأول مفردا والثاني جملة
وينبغي أن يعرف السيط قبل مركبه فإن من لا يعرف المفرد كيف يعرف المركب ومن لا يعرف معنى العالم والحادث كيف يعرف أن العالم حادث ومعرفة المفردات قسمان أولي وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب كالموجود والشيء ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل
الثاني قسمان أيضا أولي كالضروريات ومطلوب كالنظريات فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم لا يقتنص إلا بالبرهان فذلك قلنا مدارك العقول تنحصر فيهما (1/9)
أقسام الحد والحقيقي منه
فصل
والحد ينقسم ثلاثة أقسام حقيقي ورسمي ولفظي
فالحقيقي هو القول الدال على ماهية الشيء
والماهية ما يصلح جوابا لسؤال بصيغة ( ما هو ) فإن صيغ السؤال التي تتعلق بأمهات المطالب أربعة أحدها ( هل ) يطلب بها إما أصل الوجود وإما صفته والثاني ( لم ) سؤال عن العلة جوابه بالبرهان والثالث ( أي ) يطلب به تمييز ما عرف جملته الرابع ( ما ) وجوابه بالحد وسائر صيغ السؤال كمتى وأيان وأين يدخل في مطلب ( هل ) إذ المطلوب به صفة الوجود
والكيفية ما يصلح جوابا للسؤال بكيف والماهية تتركب من الصفات الذاتية
والذاتي كل وصف يدخل في حقيقة الشيء دخولا لا يتصور فهم معناه بدون فهمه كالجسمية للفرس واللونية للسواد إذ من فهم الفرس فهم جسما مخصوصا فالجسمية داخلة في ذات الفرسية دخولا به قوامها في الوجود والعقل لو قدر عدمها بطل وجود الفرس ولو خرجت عن الذهن بطل فهم الفرس والوصف اللازم ما لا يفارق الذات لكن فهم الحقيقة غير موقوف عليه كالظل للفرس عند طلوع الشمس فإنه لازم غير ذاتي إذ فهم حقيقة الفرس غير موقوف على فهمه وكون الفرس مخلوقة أو موجودة أو طويلة أو قصيرة كلها لازمة لها غير ذاتية فإنك تفهم حقيقة الشيء وإن لم تعلم وجوده والوصف العارض فما ليس من ضرورته أن يلازم بل تتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة (1/10)
الذهب والصبا والكهولة والشيخوخة أو صاف عرضية إذ لا يقف فهم الحقيقة على فهمها وتتصور مفارقتها
ثم الأوصاف الذاتية تنقسم إلى جنس وفصل فالجنس هو الذاتي المشترك بين شيئين فصاعدا مختلفين بالحقيقة ثم هو منقسم إلى عام لا أعم منه كالجوهر ينقسم إلى جسم وغير جسم والجسم ينقسم إلى نام وغيره والنامي ينقسم إلى حيوان وغيره والحيوان ينقسم إلى آدمي وغيره وإلى خاص لا أخص منه كالإنسان ولا أعم من الجوهر إلا الموجود وليس بذاتي ولا أخص من الإنسان إلا الأحوال العرضية من الطول والقصر والشيخوخة ونحوها
والفصل ما يفصله عن غيره ويميزه به كالإحساس للحيوان فإنه يشارك الأجسام في الجسمية والإحساس يفصله عن غيره فيشترط في الحد أن يذكر الجنس والفصل معه وينبغي أن يذكر الجنس القريب ليكون أدل على الماهية فإنك إن اقتصرت على ذكر البعيد بعدت وإن ذكرت القريب معه كررت
فلا تقل في حد الآدمي جسم ناطق بل حيوان ناطق وقل في حد الخمر شراب مسكر ولا تقل جسم مسكر ثم ينبغي أن يقدم ذكر الجنس على الفصل فلا تقل في حد الخمر مسكر شراب بل بالعكس وهذا لو ترك لشوش النظم ولم يخرج عن الحقيقة وإذا كان للمحدود ذاتيات متعددة فلا بد من ذكر جميعها ليصل بيان الماهية وينبغي أن يفصل بالذاتيات ليكون الحد حقيقيا فإن عسر ذلك عليك فاعدل إلى اللوازم لكي يصير رسميا وأكثر الحدود رسمية لعسر درك الذاتيات
واحترز من إضافة الفصل إلى الجنس فلا تقل في حد الخمر مسكر الشراب فيصير الحد لفظيا غير حقيقي وأبعد من هذا أن تجعل مكان (1/11)
الجنس شيئا كان وزال فتقول في الرماد خشب محترق فإن الرماد ليس بخشب
الحد الرسمي
وأما الحد الرسمي فهو اللفظ الشارح لشيء بتعديد أوصافه الذاتية واللازمة بحيث يطرد وينعكس كقوله في حد الخمر مائع يقذف بالزبد يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن فتجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج منه خمر ولا يدخل فيه غير الخمر واجتهد أن يكون من اللوازم الظاهرة المعروفة ولا تحد الشيء بأخفى منه ولا بمثله في الخفاء ولا تحد شيئا بنفي ضده فتقول في الزوج ما ليس بفرد وفي الفرد ما ليس بزوج فيدور الأمر ولا يحصل بيان واجتهد في الإيجاز ما استطعت فإن احتجت فاطلب منها ما هو أشد مناسبة للغرض
الحد اللفظي
وأما الحد اللفظي فهو شرح اللفظ بلفظ أشهر منه كقولك في العقار الخمر وفي الليث الأسد ويشترط أن يكون الثاني أظهر من الأول
واسم الحد شامل لهذه الأقسام الثلاثة لكن الحقيقي هو الأول فإن معنى الحد يقرب من معنى حد الدار وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد فتحديدها يذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة بها مشهورة وإذا سأل عن حد الشيء فكأنه يطلب المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة ذلك الشيء وتتميز به عما سواه فلذلك لم يسم اللفظي والرسمي حقيقيا وسمي الجميع باسم الحد لأنه جامع مانع إذ هو مشتق من المنع ولذلك سمي البواب حدادا لمنعه من الدخول والخروج فحد الحد إذا هو اللفظ الجامع المانع (1/12)
واختلف في حد الحد الحقيقي فقيل هو اللفظ المفسر لمعني المحدود على وجه يجمع ويمنع وقيل القول الدال على ماهية الشيءوحده قوم بأنه نفس الشيء وذاته وهذا لا معارضة بينه وبين ما ذكرناه لكون المحدود هنا غير المحدود ثم وإنما يقع التعارض بعد التوارد على شيء واحد بيانه أن الموجود له في الوجود أربع مراتب الأولى حقيقته في نفسه والثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو المعبر عنه بالعلم الثالثة اللفظ المعبر عما في النفس الرابعة الكناية عن اللفظ وهذه الآربعة متوازية متطابقة فإذا المحدود في أحد الجانبين غير المحدود في الآخر فلا معارضة بينهما والله أعلم
الحد غير مانع لتعذر البرهان على صحته
فصل
1
- وزعم أهل هذا العلم أن الحد لا يمنع لتعذر البرهان على صحته فإن الحد أقل ما يتركب من مفردين فيحتاج في البرهان عن كل مفرد إلى حد يشتمل على مفردين ثم يتسلسل ذلك إلى أن يصير إلى الأوليات المعلومة ضرورة لكن قلما يمكن إنهاؤه إليها والنظر وضع للتعاون على إظهار الحق فلا يوضع على وجهه لا يمكن إثباته أو يعسر بل طريق الاعتراض عليه بالنقض أو المعارضة بحد آخر فإن عجز المستدل عن نقض حد المعترض كان منقطعا وإن أبطله صح حده مثاله قولنا في حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير فربما قال الحنفي لا نسلم أن هذا هو حد الغصب قلنا هو مطرد منعكس فما الحد عندك فيقول إثبات اليد العادية المزيلة لليد المحقة قلنا يبطل بالغاصب من الغاصب فإنه غاصب يضمن للمالك ولم يزل اليد المحقة فإنها كانت زائلة (1/13)
البرهان
فصل
في البرهان وهو الذي يتوصل به إلى العلوم التصديقية المطلوبة بالنظر وهو عبارة عن أقاويل مخصوصة ألفت تأليفا مخصوصا بشرط يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر وتسمى هذه الأقاويل مقدمات ويتطرق الخلل إلى البرهان من جهة المقدمات تارة ومن جهة التركيب تارة ومنهما تارة على مثال البيت المبني تارة يختل لعوج الحيطان وانخفاض السقف إلى قرب من الأرض وتارة لشعث اللبنات أو رخاوة الجذوع وتارة لها جميعا فمن نظم البرهان يبتدىء أولا بالنظر في الأجزاء المفردة ثم في المقدمات التي فيها النظم والترتيب وأقل ما يحصل منه المقدمة مفردات وأقل ما يحصل منه البرهان مقدمتان ثم يجمع المقدمتين فيصوغ منهما برهانا وينظر كيفية الصياغة
انحصار دلالة الألفاظ في المطابقة والتضمن واللزوم
فصل
واعلم أن دلالة الألفاظ على المعنى تنحصر في المطابقة والتضمن واللزوم فالمطابقة كدلالة لفظ البيت على معنى البيت والتضمن كدلالته على السقف ودلالة لفظ الإنسان على الجسم واللزوم كدلالة لفظ السقف على الحائط إذ ليس جزءا من السقف ولكنه لا ينفك عنه فهو كالرفيق الملازم ولا يستعمل في نظر العقل ما يدل بطريق اللزوم لأن ذلك لا ينحصر في حد إذا السقف يلزم الحائط والحائط الأس والأس الأرض فلا ينحصر بل اقتصر على الأولين من المطابقة والتضمن (1/14)
الجزئي والكلي من الألفاظ
ثم اللفظ ينقسم إلى جزئي وهو ما يدل على معين كزيد وهذا الرجل وحده اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد وإلى ما يدل على واحد من أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد يسمى مطلقا كقولنا فرس ورجل فإن دخلت الألف واللام صار كليا يتناول جميع ما يقع عليه ذلك
فإن قيل فالسماء والأرض والإله والشمس والقمر مدلولها مفرد مع الألف واللام قلنا إمتناع الشركة لم يكن لوضع اللفظ بل لإستحالة وجود المشارك إذ الشمس في الوجود واحدة ولو فرضنا عوالم في كل واحد شمس كان قولنا الشمس شاملا للكل
أقسام الألفاظ الكلية
ثم تنقسم الألفاظ الكلية إلى مترادفة ومتباينة ومتواطئة ومشتركة
فالمترادفة أسماء مختلفة لمسمى واحد كالليث والأسد والعقار والخمر فإن كان أحدهما يدل على المسمى مع زيادة لم يكن من المترادفة كالسيف والمهند والصارم فإن المهند يدل على السيف مع زيادة نسبته إلى الهند والصارم يدل على عليه مع صفة الحدة فخالف إذا مفهومه مفهوم السيف
والمتباينة الأسماء المختلفة للمعاني المختلفة كالسماء والأرض وهي الأكثر (1/15)
والمتواطئة فهي الأسماء المنطلقة على أشياء متغايرة بالعدد متفقة في المعنى التي وضع الإسم عليها كالرجل ينطلق على زيد وعمرو والجسم ينطلق عليهما وعلى السماء والأرض لاتفاقهما في معنى الجسمية
والمشتركة فهي الأسماء التي يطلق أحدها على مسميات مختلفة بالحقيقة كالعين للعضو الناظر والذهب وقد يقع على المتضادين كالجلل للكبير والصغير والجون للأسود والأبيض والقرء للحيض والطهر والشفق للبياض والحمرة وقد يقرب المشترك من المتواطئ كالحي يقع على الحيوان والنبات يظن أنه من المتواطئ وهو من المشترك إذ المراد من حياة النبات الذي يحصل به نماؤه ومن الحيوان الذي يحس به ويتحرك بالإرادة فيسمى هذا مشتبها والمختار يطلق على القادر على الفعل وتركه فلذلك يصح تسمية المكره مختارا لأن فيه القدرة على الفعل والترك ويطلق على من تخلى في إستعمال قدرته ودواعي ذاته فلا تحرك دواعيه من خارج وهذا غير موجود في المكره فليفهم هذا وله نظائر في النظريات تاهت فيها عقول كثير من الضعفاء فليستدل بالقليل على الكثير
فصل في النظر في المعاني
سبب الإدراك يسمى قوة والمعاني المدركة ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة ففي حدقتك معنى تميزت به عن الجهة حتى صرت تبصر بها تسمى قوة باصرة وشرط البصر وجود المبصر فإذا أبصرت شيئا فهو محسوس بحاسة البصر فإذا إنعدم المبصر إنعدم الإبصار وبقيت صورته في دماغك كأنك تنظر إليها فيسمى ذلك تخيلا فغيبة الشئ تنفي الإبصار (1/16)
ولا تنفي التخيل ولما كنت تحس التخيل في دماغك فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة تهيئ للتخيل وبها تباين بقية الأعضاء كمباينة العين لها وهذه القوة يشارك فيها الإنسان البهيمة فمهما رأى الفرس الشعير تذكر صورته فيعرف أنه موافق له مستلذ لديه ولو لم تثبت الصورة في خياله لم يبادر إليه ما لم يجربه بالذوق مرة أخرى
ثم فيك قوة ثالثة تباين البهيمة بها تسمى عقلا محلها القلب تباين قوة التخيل أشد من مباينة قوة التخيل قوة الإبصار ثم فيك قوة رابعة تسمى المفكرة شأنها أن تقدر على تفصيل الصورة التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شىء آخر بل إذا خطر في الخيال صورة إنسان قدر أن يجعلها نصفين نصف إنسان ونصف فرس وربما صوره إنسانا يطير إذا ثبت في الخيال صورة الإنسان والطيران مفردين والفكرة تجمع بينهما كما تفرق بين نصفي الإنسان وليس لها أن تخترع صورة لا مثل لها
فصل في تأليف مفردات المعاني
والتأليف بين مفردين لا يخلو إما أن ينسب أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات كقولنا العالم حادث والعالم ليس بقديم يسمي النحويون الأول مبتدأ والثاني خبرا ويسميه الفقهاء حكما ومحكوما عليه ويسمى الجميع قضية والقضايا أربع قضية مخصوصه نحو زيد عالم وقضية جزئية نحو بعض الناس عالم وقضية كلية كقولنا كل جسم متحيز وقضية مهملة كقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر (1/17)
وربما وضع بعض المغالطين المهملة موضع العامة كقول الشافعية المطعوم ربوي دليله البر والشعير فيقال إن أردت كل مطعوم فما دليله والبر والشعير ليس كل المطعومات وإن أردت البعض لم تلزم النتيجة إذ يحتمل أن السفرجل من البعض الذي ليس بربوي
البرهان
فصل
وقد ذكر أن البرهان مقدمتان يتولد منهما نتيجة ولا يسمى برهانا إلا إذا كانت المقدمتان قطعيتين فإن كانتا مظنونتين سميت قياسا فقهيا وإن كانتا مسلمتين سميت قياسا جدليا وتسميتها قياسا مجاز إذ حاصله إدراج خصوص تحت عموم والقياس تقدير شئ بشئ آخر
والبرهان على خمسة أضرب
الأول قولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فيلزم منه أن كل نبيذ حرام ضرورة متى سلمت المقدمتان إذ كل عقل صدق بالمقدمتين صدق بالنتيجة متى أحضرهما في الذهن ووجه دلالته أنا جعلنا السكر صفة للنبيذ ثم حكمنا على الصفة بالتحريم فبالضرورة يدخل الموصوف فيه ولو بطل قولنا النبيذ حرام مع كونه مسكرا بطل قولنا كل مسكر حرام ثم اعلم أن كل واحدة من المقدمتين تشتمل على جزئين مبتدأ وخبر فتصير أجزاء البرهان أربعة أمور منها واحد مكرر في المقدمتين فيعود إلى ثلاثة إذ لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شىء واحد مثل قولنا النبيذ مسكر والمغصوب مضمون لم ترتبط إحداهما بالأخرى ويسمى المكرر علة فإنه لو قيل لك لم حرمت النبيذ قلت لأنه مسكر ويسمى ما جرى مجرى النبيذ محكوما عليه وما جرى مجرى الحرام حكما وما يشتمل على (1/18)
المحكوم عليه المقدمة الأولى وما يشتمل على الحكم المقدمة الثانية ولهذا الضرب شرطان
أحدهما أن تكون الأولى مثبتة ولو كانت نافية لم تنتج
والثاني أن تكون الثانية كلية ليدخل فيها المحكوم عليه بسبب عمومها فلو قلت النبيذ مسكر وبعض المسكر حرام لم يلزم تحريم النبيذ
الضرب الثاني أن تكون العلة حكما في المقدمتين كقولنا لا يقتل المسلم بالكافر لأن الكافر غير مكاف وكل من يقتل به مكلف فهنا ثلاث معان مكاف ويقتل به
والثالث الكافر والمكرر المكافي فهو العلة وهو الحكم في المقدمة الأولى وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا قضية نافية ولهذا الضرب شرطان
أحدهما أن تختلف المقدمتان في النفي والإثبات
والثاني أن تكون الثانية كلية
الضرب الثالث أن تكون العلة مبتدأ بها في المقدمتين وتسمية الفقهاء نقضا وينتج نتيجة جزئية كقولنا كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم فيه أن بعض العرض لون ومن الفقه كل بر مطعوم وكل بر ربوي فيلزم منه أن بعض المطعوم ربوي
الضرب الرابع التلازم ومثاله إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن الصلاة صحيحة فيلزم أن المصلي متطهر أو نقول إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فيلزم (1/19)
أن الصلاة غير صحيحة ووجه دلالة هذه الجملة أنه جعل الطهارة شرطا لصحة الصلاة فيلزم من وجود المشروط وجود الشرط ومن إنتفاء الشرط إنتفاء المشروط ولا يلزم العكس فلو قال إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر لم يصح إذ قد تفسد الصلاة بأمر آخر وكذلك لو قال ومعلوم أن الصلاة غير صحيحة لا يلزم منه شئ إذ لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط ولا من إنتفاء المشروط إنتفاء الشرط
وتحقيقه أنه متى جعل شىء لازما لشئ فيجب أن يكون اللازم أعم من الملزوم أو مساويا له إذ ثبوت الأخص يوجب ثبوت الأعم ضرورة وإنتفاء الأعم يوجب إنتفاء الأخص ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص ولا من إنتفاء الأخص إنتفاء الأعم ومثاله إذا قلنا كل حيوان جسم فيلزم من ثبوت الحيوان ثبوت الجسم ومن إنتفاء الجسم إنتفاء الحيوان ولم يلزم العكس فلذلك قلنا إنه يلزم من صحة الصلاة التطهير ومن إنتفاء التطهير إنتفاء الصلاة ولم يلزم من نفي صحة الصلاة إنتفاء التطهير ولا من وجود التطهير وجود الصحة لكون التطهير أعم من الصلاة أما إذا كان أحدهما مساويا للآخر فيلزم الوجود بالوجود والإنتفاء بالإنتفاء لإستحالة تفارقهما كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب ومعلوم أن الرجم واجب فيكون الزنا موجودا لكنه غير واجب فلا يكون الزنا موجودا لكن الزنا غير موجود فلا يكون الرجم واجبا وكذلك كل معلول له علة واحدة
الخامس السبر والتقسيم كقولنا العالم إما حادث وإما قديم لكنه حادث فليس بقديم أو لكنه قديم فليس بحادث أو لكنه ليس بحادث فهو قديم وفي الجملة كل نقيضين ينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفيه إثبات الآخر ولا يشترط إنحصار القضية في قسمين لكن من شرطه إستيفاء أقسامه أما إذا (1/20)
لم يحصر إحتمل أن الحق في قسم آخر فإن كانت ثلاثة كقولنا العدد مساو أو أقل أو أكثر فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين ونفي الآخرين ينتج إثبات الثالث وإبطال واحد ينتج إنحصار الحق في الآخرين
مخالفة نظم القياس وأسبابها
فصل
وجميع الأدلة في أقسام العلوم ترجع إلى ما ذكرناه وحيث تذكر لا على هذا النظم فهو إما لقصور وإما لإهمال إحدى المقدمتين ثم إهمالهما إما لوضوحهما وهو الغالب في الفقهيات كقول القائل هذا يجب رجمه لأنه زنى وهو محصن وترك المقدمة الأولى لإشتهارها وهي كل من زنى وهو محصن فعليه الرجم وأكثر أدلة القرآن على هذا قال الله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فترك أنهما لم تفسدا للعلم وكذلك قوله تعالى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ثم قد لا يكون الإهمال للمقدمة الأولى وقد يكون للثانية وقد تترك إحدى المقدمتين للتلبيس على الخصم وذلك بترك المقدمة التي يعسر امثالها أو ينازعه الخصم فيها إستغفالا للخصم وإستجهالا له خشية أن يصرح بها فيتنبه ذهن خصمه لمنازعته فيها وعادة الفقهاء إهمال المقدمتين فيقولون في تحريم النبيذ النبيذ مسكر فكان حراما كالخمر ولا تنقطع المطالبة عنه ما لم يرد إلى النظام الذي ذكرناه والله أعلم
فصل حد اليقين ومداركه
اليقين ما أذعنت النفس إلى التصديق به وقطعت بأن قطعها به صحيح بحيث لو حكى لها عن صادق خلافه لم تتوقف في تكذيب الناقل (1/21)
كقولنا الواحد أقل من الإثنين وشخص واحد لا يكون في مكانين ولا يتصور إجتماع ضدين ولنا حالة ثانية وهي أن تصدق بالشىء تصديقا جزميا لا تتمارى فيه ولا تشعر بنقيضه البتة ولو أشعرت بنقيضه عسر إذعانها للإصغاء لكن لو ثبت وأصغت وحكي لها نقيضة عن صادق أورث ذلك توقفا عندها وهذا إعتقاد أكثر الخلق وكافة الخلق يسمون هذا يقينا إلا آحادا من الناس فأما ما للنفس سكون إليه وتصديق به وهي تشعر بنقيضه أو لا تشعر لكن إن شعرت به لم ينفر طبعها عن قبوله فهو يسمى ظنا وله درجات في الميل إلى النقصان والزيادة لا تحصى فمن سمع من عدل شيئا سكنت نفسه إليه فإن إنضاف إليه ثان زاد السكون حتى يصير يقينا وبعض الناس يسمى هذا الظن يقينا أيضا
ومدارك النفس خمسة
الأول الأوليات وهي العقليات المحضة التي قضى العقل بمجرده بها من غير إستعانة بحس وتخيل كعلم الإنسان بوجود نفسه وأن القديم ليس بحادث وإستحالة إجتماع الضدين فهذه القضايا تصادف مرتسمة في النفس حتى يظن انه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد ولا يقف حصولها على أمر سوى مجرد العقل
الثاني المشاهدات الباطنة كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وسائر أحواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس فليست حسية ولا هي عقلية إذ تدركها البهيمة والصبي والأوليات لا تكون للبهائم
الثالث المحسوسات الظاهرة وهي المدركة بالحواس الخمس وهي البصر والسمع والذوق والشم واللمس فالمدرك بواحد منها يقيني كقولنا الثلج ابيض والقمر مستدير وهذا واضح لكن يتطرق الغلط إليها بعوارض كتطرق الغلط إلى الآبصار لبعد أو قرب مفرط أو ضعف في العين وخفاء في المرئي وكذلك ترى الظل ساكنا وهو متحرك وكذلك الشمس والقمر (1/22)
والنجوم والصبي والنبات وهو في النمو لا يتبين ذلك وأسباب الغلط في الابصار المستقيمة منها الإنعكاس كما في المرآة والانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج وغير ذلك
الرابع التجريبات ويعبر باطراد العادات ككون النار محرقة والخبز مشبع والماء مرو والخمر مسكر والحجر هاو وهي يقينية عند من جربها وليست هذه محسوسة فإن الحس شاهد حجرا يهوى بعينه أما إن كان كل حجرها هاويا فقضيته عامة ولم يشاهدها وليس للحس إلا قضية في عين
الخامس المتواترات كالعلم بوجود مكة وبغداد وليس هو بمحسوس إنما للحس أن يسمع أما صدق المخبر فذلك إلى العقل
فهذه الخمسة مدارك اليقين فأما ما يتوهم أنه منها وليس منها فالوهميات والمشهورات وهي آراء محمودة توجب التصديق بها أما شهادة الكل او الأكثر أو جماعة من الأفاضل كقولك الكذب قبيح وكفران المنعم وإيلام البرئ قبيح والانعام وشكر المنعم وإنقاذ الهلكى حسن
فصل في لزوم النتيجة من المقدمتين
إعلم انك إذا جمعت مفردين ونسبت أحدهما إلى الآخر كقولك النبيذ حرام فلم يصدق بينهما العقل فلا بد من واسطة بينهما تنسب إلى المحكوم عليه فتكون حكما له وتنسب إلى الحكم فتصير حكما له فيصدق العقل به فيلزم ضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه بيانه إذا قال النبيذ حرام فمنع وطلب واسطة وربما صدق العقل بوجودها في النبيذ وصدق بوصف الحرام لتلك الواسطة فيقول النبيذ مسكر فيقول نعم إذا كان قد علم ذلك بالتجربة فيقول وكل مسكر حرام فيقول نعم إذا كان قد حصل ذلك بالسماع فيلزم التصديق بأن النبيذ حرام
فإن قيل فهذه القضية ليست خارجة عن القضيتين قلنا هذا غلط (1/23)
فإن قولك النبيذ حرم غير قولك النبيذ مسكر وغير قولك المسكر حرام بل هذه ثلاث مقدمات لا تكرير فيها لكن قولك المسكر حرام شمل للنبيذ بعمومه فيدخل النبيذ فيه بالقوة لا بالفعل إذ قد يخطر العام في الذهن ولا يخطر الخاص فمن قال الجسم متحيز قد لا يخطر بباله ذكر القطب فضلا عن أن يخطر بباله مع ذلك انه متحيز فالنتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة القريبة لا تخرج إلى الفصل بمجرد العلم بالمقدمتين ما لم يحضر المقدمتين في الذهن ويخطر بباله وجه وجود النتيجة في المقدمتين بالقوة ولا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيظن انها حامل فيقال هل تعلم أن البغلة عاقر فيقول نعم فيقال هل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم فيقال فكيف توهمت حملها فتعجب من توهمه مع علمه بالمقدمتين
فإن قيل فالمطلوب بالنظر معلوم أم مجهول إن كان معلوما كيف تطلبه وأنت واجد وإن كان مجهولا فبم تعلم مطلوبك قلت هذا تقسيم غير حاصر بل ثم قسم آخر وهو أني أعرفه من وجه دون وجه فإني افهم المفردات وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة ولا أعلمها بالفعل فهو كطلب الآبق في البيت فإني أعرفه بصورته وأجهله بمكانة وكونه في البيت أفهمه مفردا فهو معلوم لي بالقوة وأطلب حصوله من جهة حاسة البصر فإذا رأيته في البيت صدقت بكونه فيه
الإستدلال بالعلة على المعلول وعكسه
فصل
وإذا إستدللت بالعلة على المعلول فهو برهان علة كالإستدلال بالغيم على المطر وإن إستدللت بالمعلول على العلة أو بأحد المعلولين على الآخر فهو برهان دلالة كالإستدلال بالمطر على الغيم والإستدلال بأحد المعلولين على الآخر كقولنا كل من صح طلاقه صح ظهاره والذي يصح طلاقه فيصح (1/24)
ظهاره فإن إحدى النتيجتين تدل على الأخرى بواسطة العلة فإنها تلازم علتها والأخرى تلازم علتها وملازم اللازم ملازم
الإستدلال بالإستقراء
فصل
فأما الإستدلال بالإستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على مثلها كقولنا في الوتر ليس بفرض لأنه يؤدي على الراحلة والفرض لا يؤدي عليها فيقال لم قلتم أن الفرض لا يؤدي عليها قلنا بالإستقراء إذ رأينا القضاء والنذر لا يؤدي عليها فهذا مختل يصلح للظنيات دون القطعيات فإن حكمه بأن كل فرض لا يؤدي على الراحلة يمنعه الخصم إذ الوتر عنده واجب يؤدى عليها فنقول هل إستقريت حكم الوتر في تصفحك وكيف وجدته فإن قال وجدته لا يؤدي على الراحلة فباطل إجماعا ثم هو مبطل المقدمة الأخرى على نفسه إذ هي الوتر يؤدى على الراحلة وإن قال لم أتصفحه فلم يبين إلا بعض الأجزاء فخرجت المقدمة عن أن تكون عامة فإذا لا يصح ذلك إلا في الفقهيات فلنشرع الآن في ذكر الأصول فنقول
حقيقة الحكم وأقسامه
أقسام احكام التكليف خمسة واجب ومندوب ومباح (1/25)
ومكروه ومحظور
وجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو الترك أو التخيير بينهما فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر فإن إقترن به إشعار بعدم العقاب على الترك فهو ندب وإلا فيكون إيجابا والذي يرد باقتضاء الترك نهي فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة وإلا فحظر وحد الواجب ما توعد بالعقاب على تركه وقيل ما يعاقب تاركه وقيل ما يذم تاركه شرعا والفرض هو الواجب على إحدى الروايتين لاستواء حدهما وهو قول الشافعي
والثانية الفرض آكد فقيل هو إسم لما يقطع بوجوبه كمذهب أبي حنيفة (1/26)
وقيل ما لا يسامح في تركه عمدا ولا سهوا نحو أركان الصلاة فإن الفرض في اللغة التأثير ومنه فرضه النهر والقوس والوجوب السقوط ومنه وجبت الشمس والحائط إذا سقطا ومنه قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فاقتضى تأكد الفرض على الواجب شرعا ليوافق مقتضاه لغة ولا خلاف في إنقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون ولا حجر في الإصطلاحات بعد فهم المعنى
إنقسام الواجب إلى معين ومبهم
فصل
والواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم في اقسام محصورة فيسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا لا معنى للوجوب مع التخيير (1/27)
ولنا أنه جائز عقلا وواقع شرعا أما العقل السيد لو قال لعبده أوجبت عليك خياطة هذا القميص أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم ايهما فعلته إكتفيت به وإن تركت الجميع عاقبتك ولا أوجبهما عليك معا بل أحدهما لا بعينه أيهما شئت كان كلاما معقولا ولا يمكن دعوى إيجاب الكل لأنه صرح بنقيضه ولا دعوى أنه ما أوجب شيئا أصلا لأنه عرضه للعقاب بترك الكل ولا أنه أوجب واحدا معينا لأنه صرح بالتخيير فلم يبق إلا أنه أوجب واحدا لا بعينه ولأنه لا يمتنع في العقل أن يتعلق الغرض بواحد غير معين لكون كل واحد منهما وافيا بالغرض حسب وفاء صاحبه فيطلب منه قدر ما يفي بغرضه والتعيين فضلة لا يتعلق بها الغرض فلا يطلبه منه
وأما وقوعه في الشرع فخصال الكفارة وإعتاق الرقبة بالإضافة إلى أعيان العبيد وتزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين وعقد الإمامة لأحد الرجلين الصالحين لها مخيرة ولا سبيل إلى إيجاب الجميع وأجمعت الأمة على أن جميع خصال الكفارة غير واجب
فإن قيل إن كانت الخصال متساوية عند الله تعالى بالنسبة إلى صلاح العبد (1/28)
فينبغي أن يوجب الجميع تسوية بين المتساويات وأن تميز بعضها بوصف ينبغي أن يكون هو الواجب عينا
قلنا ولم قلتم أن للأفعال صفات في ذاتها لأجلها يوجبها الله سبحانه بل الإيجاب إليه وله أن يخصص من المتساويات واحدا بالإيجاب وله أن يوجب واحدا غير معين ويجعل مناط التعيين إختيار المكلف ليسهل عليه الإمتثال
جواب ثان أن التساوي يمنع التعيين لكونه عبثا وحصول المصلحة بواحد يمنع من إيجاب الزائد لكونه إضرارا مجردا حيث حصلت المصلحة بدونه فيكون الواجب واحدا غير معين
فإن قيل فالله سبحانه يعلم ما يتعلق به الإيجاب ويعلم ما يتأدى به الواجب ويكون معينا في علم الله سبحانه
قلنا الله سبحانه إذا أوجب واحدا لا بعينه علمه على ما هو عليه من نعته ونعته أنه غير معين فيعلم كذلك ويعلم أنه يتعين بفعل المكلف ما لم يكن متعينا قبل فعله والله أعلم (1/29)
إنقسام الواجب بالإضافة إلى الوقت
فصل
والواجب ينقسم بالإضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع
وأنكر أكثر أصحاب أبي حنيفة التوسع وقالوا هو يناقض الوجوب
ولنا أن السيد لو قال لعبده ابن هذا الحائط في هذا اليوم إما في أوله وإما في وسطه وإما في آخره وكيف أردت فمهما فعلت إمتثلت إيجابي
وإن تركت عاقبتك كان كلاما معقولا ولا يمكن دعوى أنه ما أوجب شيئا ولا أنه أوجب مضيقا لأنه صرح بضد ذلك فلم يبق إلا أنه أوجب موسعا
وقد عهدنا من الشارع تسمية هذا القسم واجبا بدليل أن الصلاة تجب في أول الوقت
وكذلك إنعقد الإجماع على أنه يثاب ثواب الفرض وتلزمه نيته ولو كان نفلا لأجزأت نية النفل بل لإستحالت نية الفرض من العالم بكونه نفلا إذ النية قصد يتبع العلم
فإن قيل الواجب ما يعاقب على تركه والصلاة إن أضيفت إلى آخر الوقت فيعاقب على تركها فتكون واجبة حينئذ وإن أضيفت إلى أوله فيخير بين فعلها وتركها وتركها وفعلها خير من تركها وهذا حد الندب
وإنما أثيب ثواب الفرض ولزمته نية لأن مآله إلى الفرضيه فهو كمعجل الزكاة والجامع بين الصلاتين في وقت أولاهما
قلنا الأقسام ثلاثة فعل لا يعاقب على تركه مطلقا وهو المندوب (1/30)
وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب المضيق وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت ولا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث يفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الوجوب والندب وأولى عباراته الواجب الموسع
قالوا ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالإضافة إلى أول الوقت ندب وبالإضافة إلى آخره واجب بدليل أنه في أول الوقت يجوز تركه دون آخره
قلنا بل حد الندب ما يجوز تركه مطلقا وهذا لا يجوز إلا بشرط وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل وما جاز تركه بشرط فليس بندب كما أن كل واحد من خصال الكفارة يجوز تركه إلى بدل ومن أمر بالإعتاق فما من عبد إلا يجوز تركه بشرط عتق ما سماه ولا يكون ندبا بل واجبا مخيرا كذا هذا يسمى واجبا موسعا وما جاز تركه بشرط يفارق ما جاز تركه مطلقا وما لا يجوز مطلقا فهو قسم ثالث وإذا كان المعنى متفقا عليه وهو النقسام إلى الإنقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة في العبارة
وأما تعجيل الزكاة فإنه يجب بنية التعجيل وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت غير ما نواه في آخره ولم يفرقوا أصلا وهو مقطوع به (1/31)
فإن قيل قولكم إنما جاز تركه بشرط العزم أو الفعل بعده باطل فإنه لو ذهل أو غفل عن العزم ومات ولم يكن عاصيا ولأن الواجب المخير ما خير الشارع فيه بين شيئين وما خير بين العزم والفعل ولأن قوله صل في الوقت ليس فيه تعرض للعزم أصلا فإيجابه زيادة
قلنا إنما لم يكن عاصيا لأن الغافل لا يكلف فأما إذا لم يغفل فلا يترك العزم عن الفعل إلا عازما على الترك مطلقا وهو حرام وما لا خلاص عن الحرام إلا به يكون واجبا فهذا دليل وجوبه وإن لم تدل عليه الصيغة والله أعلم
من أخر الواجب الموسع فمات في أثنائه
فصل
إذا أخر الواجب الموسع فمات في أثناء وقته قبل ضيقه لم يمت عاصيا لأنه فعل ما أبيج له فعله وهو جواز التأخير
فإن قيل إنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة
قلنا هذا محال فإن العاقبة مستورة عنه ولو سألنا فقال علي صوم يوم فهل يحق لي تأخيره إلى غد فما جوابه إن قلنا نعم فلم أثم بالتأخير وإن قلنا لا فخلاف الإجماع في الواجب الموسع وإن قلنا إن كان في علم الله أنك تموت قبل غد لم يحل وإلا فهو يحل فيقول وما يدريني (1/32)
ما في علم الله فلا بد من الجزم بجواب وهو التحليل أو التحريم فإذا معنى الوجوب وتحقيقه أنه لا يجوز له التأخير إلا بشرط العزم ولا يؤخر إلا إلى الوقت يغلب على ظنه البقاء إليه والله أعلم
مالا يتم الواجب إلا به
مالا يتم الواجب إلا به ينقسم إلى ما ليس إلى اختيار المكلف كالقدرة واليد في الكتابة وحضور الإمام والعدد في الجمعة فلا يوصف بوجوب وإلى ما يتعلق باختيار العبد كالطهارة للصلاة والسعي إلى الجمعة وغسل جزء من الرأس مع الوجه وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم فهو واجب وهذا أولى من قولنا يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب إذ قولنا يجب ما ليس بواجب متناقض لكن الأصل وجب بالإيجاب قصدا والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود فهو واجب كيف ما كان وإن اختلفت علة إيجابهما
فإن قيل لو كان واجبا لأثيب على ما فعله وعوقب على ما تركه وتارك الوضوء والصوم لا يعاقب على ما ترك من غسل الرأس وصوم الليل
قلنا ومن أنبأكم أن ثواب القريب إلى البيت في الحج مثل ثواب (1/33)
البعيد وأن الثواب لا يزيد بزيادة العمل في الوسيلة فأما العقوبة فإنه يعاقب على ترك الوضوء والصوم ولا يتوزع على أجزاء الفعل فلا معنى لإضافته إلى التفصيل
إذا اشتبه المباح بالمحرم حرما
فصل
وإذا اختلطت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه وقال قوم المذكاة حلال لكن يجب الكف عنها وهذا متناقض إذ ليس الحل والحرمة وصفا ذاتيا لهما بل هو متعلق بالفعل فإذا حرم فعل الأكل فيها فأي معنى لقولنا هي حلال وإنما وقع هذا في الأوهام حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة بالوصف بالسواد والبياض والأوصاف الحسية وذلك وهم على ما ذكرناه والله أعلم
الواجب غير المحدود
فصل
الواجب الذي لا يتقيد بحد محدود كالطمأنينة في الركوع والسجود ومدة القيام والقعود إذا زاد على أقل الواجب فالزيادة ندب واختاره أبوالخطاب
وقال القاضي الجميع واجب لأن نسبة الكل إلى الأمر واحد والأمر (1/34)
في نفسه أمر واحد وهو أمر إيجاب ولا يتميز البعض عن البعض فالكل امتثال
ولنا أن الزيادة يجوز تركها مطلقا من غير شرط بدل وهذا هو الندب ولأن الأمر إنما اقتضى إيجاب ما تناوله الاسم فيكون هو الواجب والزيادة ندب إذا تميزت وإن كان لا يتميز بعضه عن البعض فيحتمل كون بعضه واجبا وبعضه ندبا كما لو أدى دينارا عن عشرين
القسم الثاني المندوب
والندب في اللغة الدعاء إلى الفعل كما قال الشاعر ... لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا ...
وحده في الشرع مأمور لا يلحق بتركه ذم من حيث تركه من غير حاجة إلى بدل
وقيل هو ما في فعله ثواب ولا عقاب في تركه
والمندوب مأمور (1/35)
وأنكر قوم كونه مأمورا لأن الله سبحانة وتعالى قال فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم والمندوب لا يحذر فيه ذل 4 ك ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وقد ندبهم إلى السواك فعلم أن الأمر لا يتناوالمندوب ولأن الأمر اقتضاء جازم لا تخيير معه وفي الندب تخيير ولم يسم تاركه عاصيا
ولنا أن الأمر استدعاء وطلب والمندوب مستدعى ومطلوب فيدخل في حقيقة الأمر قال الله تعال إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وقال تعالى وأمر بالمعروف ومن ذلك ما هو مندوب ولأنه شاع في ألسنة الفقهاء أن الأمر ينقسم إلى أمر أيجاب وأمر استحباب ولأن فعله طاعة وليس ذلك لكونه مرادا إذ الأمر يفارق الإرادة ولا لكونه موجودا فإنه غير موجود في غير الطاعات ولا لكونه مثابا فإن الممثل يكون مطيعا وإن لم يثب وإنما الثواب للترغيب في الطاعات وقولهم إن الأمر ليس فيه تخيير ممنوع وإن سلمنا فالمندوب كذلك لأن التخيير عبارة عن التسوية فإذا ترجح جهة الفعل ارتفعت التسوية والتخيير ولم يسم تاركه عاصيا لأنه اسم ذم وقد أسقط الله تعالى الذم عنه لكن يسمى مخالفا وغير ممتثل ويسمى فاعله موافقا ومطيعا
وقول النبي صلى الله عليه و سلم لأمرتهم بالسواك أي أمرتهم أمر جزم وإيجاب وقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب (1/36)
ونحن نقول به لكن يجوز صرفه إلى المندوب بدليل ولا يخرج بذلك عن كونه امرا لما ذكرناه في دليلنا والله أعلم
القسم الثالث المباح
وحده ما أذن الله في فعله وتركه غير مقترن بذم فاعله ولا مدحه وهو من الشرع
وأنكر بعض المعتزلة ذلك إذ معنى الإباحة نفي الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت قبل ورود السمع فمعنى إباحة الشيء تركه على ما كان قبل السمع
قلنا الأفعال ثلاثة أقسام قسم صرح فيه الشرع بالتخيير بين فعله وتركه فهذا خطاب ولا معنى للحكم إلا الخطاب وقسم لم يرد فيه خطاب بالتخيير لكن دل دليل السمع على نفي الحرج عن فعله وتركه فقد عرف بدليل السمع ولولا هو لعرف بدليل العقل نفي الحرج عنه فهذا اجتمع عليه دليل العقل والسمع وقسم لم يتعرض الشرع له بدليل من أدلة السمع فيحتمل أن يقال قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك فالمكلف فيه مخير وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من (1/37)
الأفعال فلا يبقى فعل لا مدلول عليه سمعا فيكون إباحته من الشرع ويحتمل أن يقال لا حكم له والله أعلم
الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع
فصل
واختلف في الأفعال وفي الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها فقال التميمي وأبو الخطاب والحنفية هي على الإباحة إذ علم انتفاعنا بها من غير ضرر علينا ولا على غيرنا فليكن مباحا ولأن الله سبحانه خلق هذه الأعيان لحكمة لا محالة ولا يجوز أن يكون ذلك لنفع يرجع إليه فثبت أنه لنفعنا (1/38)
وقال ابن حامد والقاضي وبعض المعتزلة هي على الحظر لأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح والله سبحانه هو المالك ولم يأذن ولأنه يحتمل أن في ذلك ضررا فالإقدام عليه خطر
وقال أبو الحسن الحزري وطائفة الواقفية لا حكم لها إذ معنى الحكم الخطاب ولا خطاب قبل ورود السمع والعقل لا يبيح شيئا ولا يحرمه وإنما هو معرف للترجيح والاستواء وقبح التصرف في ملك الغير إنما يعلم بتحريم الشارع ونهيه ولو حكمت فيه العادة إنما قبح في حق من يتضرر بالتصرف في ملكه بل يقبح المنع مما لا ضرر فيه كالظل وضوء النار
وهذا القول هو اللائق بالمذهب إذ العقل لا مدخل له في الحظر والإباحة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإنما تثبت الأحكام بالسمع وقد دل السمع على الإباحة على العموم بقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا وبقوله قل إنما حرم ربي الفواحش الآية وقوله تعالى تعالوا (1/39)
أتل ما حرم ربكم عليكم الآية وبقوله قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية ونحو ذلك وقول النبي صلى الله عليه و سلم وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه وقوله إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته وفائدة الخلاف أن من حرم شيئا أو أباحه كفاه فيه استصحاب حال الأصل
المباح غير مأمور به
فصل
المباح غير مأمور به لأن الأمر استدعاء وطلب والمباح مأذون فيه ومطلق له غير مستدعى ولا مطلوب وتسميته مأمورا تجوز
فإن قيل ترك الحرام مأمور به والسكوت المباح يترك به الكفر (1/40)
والكذب الحرام فيكون مأمورا به
قلنا فليكن المباح واجبا إذا وقد يترك الحرام إلى المندوب فليكن واجبا وقد يترك الحرام بحرام آخر فليكن الشيء حراما واجبا ولتكن الصلاة حراما إذا تحرم بها من عليه الزكاة وهذا باطل
فإن قيل فهل الإباحة تكليف قلنا من قال التكليف الأمر والنهي فليست الإباحة كذلك ومن قال التكليف ما كلف اعتقاد كونه من الشرع فهذا كذلك وهذا ضعيف إذ يلزم عليه جميع الأحكام
القسم الرابع المكروه
وهو ما تركه خير من فعله وقد يطلق ذلك على المحظور وقد يطلق على ما نهى عنه نهي تنزيه فلا يتعلق بفعله عقاب
الأمر المطلق لا يتناول المكروه
والأمر المطلق لا يتناول المكروه لأن الأمر استدعاء وطلب والمكروه غير مستدعى ولا مطلوب ولأن الأمر ضد النهي فيستحيل ان يكون الشيء مأمورا ومنهيا وإذا قلنا إن المباح ليس بمأمور فالمنهي عنه أولى
القسم الخامس الحرام
الحرام ضد الواجب فيستحيل أن يكون الشيء الواحد واجبا حراما طاعة ومعصية من وجه واحد إلا أن الواحد بالجنس ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعين أي بالعدد والواحد بالنوع يجوز أن ينقسم إلى واجب وحرام ويكون انقسامه بالإضافة لأن اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة والمغايرة تكون تارة بالنوع وتارة باختلاف الوصف كالسجود لله تعالى واجب والسجود للصنم حرام والسجود لله تعالى غير السجود للصنم قال الله تعالى لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن فالإجماع منعقد على أن الساجد للصنم عاص بنفس السجود والقصد (1/41)
جميعا والساجد لله مطيع بهما جميعا وأما الواحد بالعين كالصلاة في الدار المغصوبة من عمرو فحركته في الدار واحد بعينه واختلفت الرواية في صحتها
فروى أنها لا تصح إذ يؤدى إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حراما واجبا وهو متناقض فإن فعله في الدار وهو الكون في الدار وركوعه وسجوده وقيامه وقعوده أفعال اختيارية هو معاقب عليها منهي عنها فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه مطيعا بما هو عاص به
وروى أن الصلاة تصح لأن هذا الفعل الواحد له وجهان متغايران هو مطلوب من أحدهما مكروه من الآخر فليس ذلك محالا إنما المحال أن يكون مطلوبا من الوجه الذي يكره منه ففعله من حيث أنه صلاة مطلوب مكروه من حيث أنه غصب والصلاة معقولة بدون الغصب والغصب معقول بدون الصلاة وقد اجتمع الوجهان المتغايران فنظيره أن يقول السيد لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإن امتثلت اعتقتك وإن ارتكبت النهي عاقبتك فخاط الثوب في الدار حسن من السيد عتقه وعقوبته (1/42)
ولو رمى سهما إلى كافر فمرق منه إلى مسلم لاستحق سلب الكافر ولزمته دية المسلم لتضمن الفعل الواحد أمرين مختلفين
ومن اختار الرواية الأولى قال ارتكاب النهي متى أخل بشرط العبادة أفسدها بالإجماع كما لو نهى المحدث عن الصلاة فخالف وصلى ونية التقرب بالصلاة شرط والتقرب بالمعصية محال فكيف يمكن التقرب به وقيامه وقعوده في الدار فعل هو عاص به فكيف يكون متقربا بما هو عاص به وهذا محال
وقد غلط من زعم أن في هذه المسألة اجتماعا لأن السلف لم يكونوا يأمرون من تاب من الظلمة بقضاء الصلاة في أماكن الغصب إذ هذا جهل بحقيقة الإجماع فإن حقيقته الاتفاق من علماء أهل العصر وعدم النقل عنهم ليس بنقل الاتفاق ولو نقل عنهم أنهم سكتوا فيحتاج إلى أنه اشتهر فيما بينهم كلهم القول بنفي وجوب القضاء فلم ينكروه فيكون حينئذ فيه اختلاف هل هو إجماع أم لا على ما سنذكره في موضعه
أقسام النهي عند مصححي الصلاة في المكان المغصوب
فصل
مصححو الصلاة في الدار المغصوبة قسموا النهي ثلاثة أقسام
الأول ما يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه كقوله تعالى لا تقربوا الزنا
وإلى ما لا يرجع إلى ذات المنهي عنه فلا يضاد وجوبه مثل قوله أقم الصلاة مع قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تلبسوا الحرير ولم يتعرض في النهي (1/43)
للصلاة فإذا صلى في ثوب حرير أتى بالمطلوب والمكروه جميعا
القسم الثالث أن يعود النهي إلى وصف المنهي عنه دون اصله كقوله تعالى أقيموا الصلاة مع قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل وقوله عليه السلام دعي الصلاة أيام أقرائك ونهيه عن الصلاة في المقبرة وقارعة الطريق والأماكن السبعة ونهيه عنها في الأوقات الخمسة فأبو حنيفة يسمى المأتي به على هذا الوجه فاسدا وغير باطل وعندنا أن هذا من القسم الأول وهو قول الشافعي (1/44)
فإن المكروه الموصوف وهي الصلاة في زمن الحيض لا الصفة وهي الوقوع في الحيض مع بقاء الصلاة مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الأيقاع ولذلك بطلت الصلاة في هذه المواضع كلها
الأمر بالشيء نهي عن ضده
فصل
الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى فأما الصيغة فلا فإن قوله قم غير قوله لا تقعد وإنما النظر في المعنى وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود
فقالت المعتزلة ليس بنهي عن ضده لا بمعنى أنه عينه ولا يتضمنه ولا يلازمه إذ يتصور أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن ضده فكيف يكون طالبا لما هو ذاهل عنه فإن لم يكن ذاهلا عنه فلا يكون طالبا له إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك ضده فيكون تركه ذريعة بحكم الضرورة لا بحكم ارتباط الطلب به حتى لو تصور مثلا الجمع بين الضدين ففعل كان ممتثلا فيكون من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب غير مأمور به
وقال قوم فعل الضد هو عين ترك ضده الآخر فالسكون عين (1/45)
ترك الحركة وشغل الجوهر حيزا عين تفريغه للحيز المتنقل عنه والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق وهو بالإضافة إلى المشرق قرب وإلى المغرب بعد فإذا طلب السكون بالإضافة إليه أمر وإلى الحركة نهي وفي الجملة أنا لا نعتبر في الأمر الإرادة بل المأمور ما اقتضى الأمر امتثاله والأمر يقتضي ترك الضد ضرورة أنه لا يتحقق الامتثال إلا به فيكون مأمورا به والله أعلم
فهذه أقسام أحكام التكليف ولنبين الآن التكليف ما هو شروطه
التكليف
فصل
التكليف في اللغة إلزام ما فيه كلفة أي مشقة قالت الخنساء في صخر (1/46)
يكلفه القوم ما نابهم ... وإن كان أصغرهم مولدا ...
الشروط المعتبرة في المكلف
فصل
وهو في الشريعة الخطاب بأمر أو نهي وله شروط بعضها يرجع إلى المكلف وبعضها يرجع إلى نفس المكلف به
أما ما يرجع إلى المكلف فهو أن يكون عاقلا يفهم الخطاب فأما الصبي والمجنون فغير مكلفين لأن مقتضى التكليف الطاعة والامتثال ولا تمكن إلا بقصد الامتثال وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم إذ من لا يفهم كيف يقال له افهم ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم وإن سمع ولم يفهم كالبهيمة فهو كمن لا يسمع ومن يفهم فهما ما كغير المميز فخطابه ممكن لكن اقتضاء الامتثال منه مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن ووجوب الزكاة والغرامات في مال الصبي والمجنون ليس تكليفا لهما إذ يستحيل تكليفهما بفعل وإنما معناه أن الإئتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمتهما بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعدالبلوغ وهذا ممكن إنما المحال أن يقال (1/47)
لمن لا يفهم افهم وإنما أهلية ثبوت ألأحكام في الذمة بالإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به يفهم التكليف في ثاني الحال والبهيمة ليس لها أهلية فهم الخطاب لا بالقوة ولا بالفعل فلم يتهيأ ثبوت الحكم في ذمتها والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكن الحصول على القرب فنقول هو موجود بالقوة كما أن شرط الملكية الإنسانية وشرط الإنسانية الحياة والنطفة يثبت لها الملك مع عدم الحياة التي هي شرط الإنسانية لوجودها بالقوة فكذا الصبي ومصيره إلى العقل فصلح لثبوت الحكم في ذمته ولم يصلح للتكليف في الحال فأما الصبي المميز فتكليفه ممكن لأنه يفهم ذلك إلا أن الشرع حط التكليف عنه تخفيفا ليظهر خفي التدريج إذ لا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشارع ويعلم الرسول والمرسل فنصب له علامة ظاهرة وقد روى أنه يكلف
النائم والناسي ومن زال عقله بالسكر غير مكلفين
فصل
والناسي والنائم غير مكلف لأنه لا يفهم فكيف يقال له افهم وكذا السكران الذي لا يعقل وثبوت أحكام أفعالهم من الغرامات ونفوذ طلاق السكران من قبيل ربط الأحكام بالأسباب وذلك مما لا ينكر فأما قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى فقد قيل هذا كان في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر والمراد منه المنع من إفراط الشرب قبل وقت الصلاة كيلا يأتي عليه وقت الصلاة وهو سكران كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان معناه لا تشبع فيثقل عليك التهجد وقال الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي الزموا الإسلام ولا تفارقوه (1/48)
حتى إذا جاءكم الموت أتاكم وأنتم مسلمون وقيل هو خطاب لمن وجد منه مبادىء النشاط والطرب ولم يزل عقله لأنه إذا ظهر بالبرهان استحالة توجه الخطاب وجب تأويل الآية
تكليف المكره
فصل
فأما المكره فيدخل تحت التكليف لأنه يفهم ويسمع ويقدر على تحقيق ما أمر به تركه
وقالت المعتزلة ذلك محال لأنه لا يصح منه فعل غير ما أكره عليه ولا يبقى له خيرة وهذا غير صحيح فإنه قادر على الفعل وتركه ولهذا يجب عليه ترك القتل إذا أكره على قتل مسلم ويأثم بفعله ويجوز أن يكلف ما هو على وفق الإكراه كإكراه الكافر على الإسلام وتارك الصلاة على فعلها فإذا فعلها قيل أدى ما كلف لكن إنما تكون منه طاعة إذا كان الانبعاث بباعث الأمر دون باعث الإكراه فإن كان إقدامه للخلاص من سيف المكره لم تكن طاعة ولا يكون مجيبا داعي الشرع وإن كان يفعلها ممتثلا لأمر (1/49)
الشارع بحيث كان يفعلها لولا الإكراه فلا يمتنع وقوعها طاعة وإن وجدت صورة التخويف
تكليف الكافر
فصل
واختلفت الرواية هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام فروى بأنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي إذ لا معنى لوجوبها مع استحالة فعلها في الكفر وانتفاء قضائها في الإسلام فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله
وهذا قول أكثر أصحاب الرأي 8
وروي أنهم مخاطبون بها وهو قول الشافعي لأنه جائز عقلا وقد قام دليله شرعا أما الجواز العقلي فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع بني الإسلام (1/50)
على خمس وأنتم مأمورون بجمعها وبتقديم الشهادتين من جملتها فتكون الشهادتان مأمورا بهما لنفسهما ولكونهما شرطا لغيرهما كالمحدث يؤمر بالصلاة فإن منع مانع الحكم في المحدث وقال إنما يؤمر بالوضوء فإذا توضأ أمر بالصلاة إذ لايتصور الأمر بالصلاة مع الحدث لعجزه عن الامتثال
قلنا فإذا لو ترك الصلاة طول عمره لا يعاقب على تركها وهو خلاف الإجماع وينبغي إلا يصح أمره بالصلاة بعد الوضوء بل بالتكبيرة الأولى لاشتراط تقديمها وأما الدليل الشرعي فعموم قوله تعالى ولله على الناس حج البيت واخبار الله سبحانه عن المشركين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ذكر هذا في معرض التصديق لهم تحذيرا من فعلهم ولو كان كذبا لم يحصل التحذير منه كيف وقد عطف عليه وكنا نكذب بيوم الدين كيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه وقال الله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية لأنه نص في مضاعفة العذاب في حق من جميع المحظورات وفائدة الوجوب أنه لو مات عوقب على تركه وإن أسلم سقط عنه لأن الإسلام يجب ما قبله ولا يبعد النسخ قبل التمكن من الامتثال فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام
الشروط المعتبرة للفعل المكلف به
فأما الشروط المعتبرة للفعل المكلف به فثلاثة أحدهما أن يكون (1/51)
به من جهة الله تعالى حتى يتصور فيه قصد الطاعة والامتثال وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة والتقرب
الثاني ان يكون معدوما أما الموجود فلا يمكن إيجاده فيستحيل الأمر به
الثالث أن يكون ممكنا فإن كان محالا كالجمع بين الضدين ونحوه لم يجز الأمر به
وقال قوم يجوز ذلك بدليل قوله تعالى لا تحملنا مالا طاقة لنا به والمحال لا يسأل دفعه ولأن الله تعالى علم أن أبا جهل لا يؤمن وقد أمره بالإيمان وكلفه إياه ولأن تكليف المحال لا يستحيل لصيغته إذ ليس يستحيل أن يقول كونوا قردة كونوا حجارة وإن أحيل طلب المستحيل للمفسدة ومناقضة الحكمة فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال إذ لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه الإصلاح ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد فالسفه من المخلوق ممكن ووجه استحالته قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا نكلف نفسا إلا وسعها ولأن الأمر استدعاء وطلب (1/52)
والطلب يستدعي مطلوبا وينبغي أن يكون مفهوما بالاتفاق ولو قال أبجد هوز لم يكن ذلك تكليفا لعدم عقل معناه ولو علم الأمر دون المأمور به لم يكن تكليفا إذ التكليف الخطاب بما فيه كلفة وما لا يفهمه المخاطب ليس بخطاب وإنما اشترط فهمه ليتصور منه الطاعة إذ كان الأمر استدعاء الطاعة فإن لم يكن استدعاء لم يكن أمرا والمحال لا يتصور الطاعة فيه فلا يتصور استدعاؤه كما يستحيل من العاقل طلب الخياطة من الشجر ولأن الأشياء لها وجود في الأذهان قبل وجودها في الأعيان وإنما يتوجه الأمر بعد حصوله في العقل والمستحيل لا وجود له في العقل فيمتنع طلبه ولأننا اشترطنا أن يكون في الأعيان ليتصور الطاعة فيه فلذلك يشترط أن يكون موجودا في الأذهان ليتصور إيجاده على وفقه ولأننا اشترطنا كونه معلوما ومعدوما معدوما وكون المكلف عاقلا فاهما لاستحالة الامتثال بدونها فكون الشيء ممكنا في نفسه أولى أن يكون شرطا
وقوله تعالى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به فقد قيل المراد به ما يثقل ويشق بحيث يكاد يقضي إلى إهلاكه كقوله اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم وكذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم في المماليك لا تكلفوهم ما لا يطيقون وقوله تعالى كونوا قردة تكون إظهارا للقدرة و كونوا حجارة تعجيز وليس شيء من ذلك أمرا وتكليف (1/53)
أبي جهل الإيمان غير محال فإن الأدلة منصوبة والعقل حاضر وآلته تامة ولكن علم الله تعالى منه أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا والعلم يتبع المعلوم ولا يغيره وكذلك نقول الله قادر على أن يقيم القيامة في وقتنا وإن أخبر أنه لا يقيمها الآن وخلاف خبره محال لكن استحالته لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه
المقتضى بالتكليف
فصل
والمقتضى بالتكليف فعل أو كف فالفعل كالصلاة والكف كالصوم وترك الزنا والشرب وقيل لا يقتضي الكف إلا أن يتناول التلبس بضد من أضداده فيثاب على ذلك لا على الترك لأن لا تفعل ليس بشيء ولا تتعلق به قدرة إذ لا تتعلق القدرة إلا بشيء والصحيح أن الأمر فيه منقسم فإن الكف في الصوم مقصود ولذلك (1/54)
تشترط النية فيه والزنا والشرب نهي عن فعلهما فيعاقب على الفعل ومن لم يصدر منه ذلك لا يثاب ولا يعاقب إلا إذا قصد كف الشهوة عنه مع التمكن فهو مثاب على فعله ولا يبعد أن لا يتلبس بالفواحش وإن لم يقصد أنه يتلبس بضدها
الضرب الثاني من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع والأخبار وهو أقسام أيضا
أحدهما ما يظهر به الحكم ثم أعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الشارع في كل حال أظهر خطابه لهم بأمور محسوسة جعلها مقتضية لأحكامها على مثال اقتضاء العلة المحسوسة معلولها وذلك شيئان أحدهما العلة
والثاني السبب ونصبهما مقتضيين لأحكامهما حكم من الشارع فلله تعالى في الزاني حكمان احدهما وجوب الحد عليه والثاني جعل الزنا موجبا له فإن الزنا لم يكن موجبا للحد لعينه بل يجعل الشرع له موجبا ولذلك يصح تعليله فيقال إنما نصب علة لكذا وكذا (1/55)
العلة
فأما العلة فهي في اللغة عبارة عما اقتضى تغييرا ومنه سميت علة علة المريض علة علة لأنها اقتضت تغيير الحال في حقه ومنه العلة العقلية وهي عبارة عما يوجب الحكم لذاته كالكسر مع الانكسار والتسويد مع السواد فاستعار الفقهاء لفظ العلة من هذا واستعملوه في ثلاثة أشياء
أحدها بإزاء ما يوجب الحكم لا محالة فعلى هذا لا فرق بين المقتضى والشرط والمحل والأهل بل العلة المجموع والأهل والمحل ركنان من أركانها أخذا من العلة العقلية
الثاني أطلقوه بإزاء المقتضى للحكم وإن تخلف الحكم لفوات شرط أو وجود مانع
والثالث أطلقوه بإزاء الحكمة كقولهم المسافر يترخص لعلة المشقة والأوسط أولى
الثاني السبب وهو في اللغة عبارة عما حصل الحكم عنده لا به ومنه سمي الحبل والطريق سببا فاستعار الفقهاء لفظة السبب من هذا الموضع واستعملوه في أربعة أشياء
أحدها بإزاء ما يقابل المباشرة كالحفر مع التردية والحافر يسمى صاحب سبب والمردي صاحب علة
الثاني بإزاء علة ( العلة ) كالرمي يسمى سببا
والثالث بإزاء العلة بدون شرطها كالنصاب بدون الحول (1/56)
والرابع بإزاء العلة نفسها وإنما سميت سببا وهي موجبة لأنها لم تكن موجبة لعينها بل يجعل الشرع لها موجبة فأشبهت ما يحصل الحكم عنده لا به
الشرط
فصل
ومما يعتبر للحكم الشرط وهو ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم كالإحصان مع الرجم والحول في الزكاة فالشرط ما لا يوجد المشروط مع عدمه ولا يلزم أن يوجد عند وجوده
العلة
والعلة يلزم من وجودها وجود المعلول ويلزم من عدمها عدمه في الشرعيات
الشرط
والشرط عقلي ولغوي وشرعي
فالعقلي كالحياة للعلم والعلم للإرادة
واللغوي كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق
والشرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم
وسمي شرطا لأنه علامة على المشروط يقال أشرط نفسه للأمر إذا جعل عليه علامة له ومنه قوله تعالى فقد جاء أشراطها أي علاماتها (1/57)
المانع
وعكس الشرط المانع وهو ما يلزم من وجوده عدم الحكم ونصب الشيء شرطا للحكم أو مانعا له حكم شرعي على ما قررناه في المقتضى للحكم والله أعلم
القسم الثاني الصحة والفساد
فالصحة هي اعتبار الشرع الشىء في حق حكمه ويطلق على العبادات مرة وعلى العقود اخرى فالصحيح من العبادات ما أجزأ وأسقط القضاء والمتكلمون يطلقونه بإزاء ما وافق الأمر وإن وجب القضاء كصلاة من ظن أنه متظهر وهذا يبطل بالحج الفاسد فإنه يؤمر بإتمامه وهو فاسد وأما العقود فكل ما كان سببا لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه فهو صحيح وإلا فهو باطل فالباطل هو الذي لم يثمر والصحيح الذي أثمر والفاسد مرداف الباطل فهما اسمان لمسمى واحد
وأبو حنيفة أثبت قسما بين الباطل والصحيح جعل الفاسد عبارة عنه وزعم أنه عبارة عما كان مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه ولو صح له هذا المعنى لم ينازع في العبارة لكنه لا يصح إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله
فصل في القضاء والإعادة والأداء
الإعادة فعل العبادة مرة أخرى في الوقت المقدر لها شرعا والأداء فعلها في وقتها والقضاء فعلها بعد خروج وقتها المعين شرعا فلو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه يموت قبل آخر الوقت لم يجز له (1/58)
التأخير فإن أخره وعاش لم يكن قضاء لوقوعه في الوقت والزكاة واجبة على الفور فلو اخرها ثم فعلها لم تكن قضاء لأنه لم يعين وقتها بتقدير وتعيين ومن لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر لم نقل إنه قضاء القضاء فإذا إسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعا ثم فات الوقت قبل الفعل ولا فرق بين فواته لغير عذر أو لعذر كالنوم والسهو والحيض في الصوم والمرض والسفر
وقال قوم الصيام من الحائض بعد رمضان ليس بقضاء لأنه ليس بواجب إذ فعله حرام ولا يجب فعل الحرام فكيف تؤمر بما تعصي به ولا خلاف في أنها لو ماتت لم تكن عاصية وقيل في المريض والمسافر لا يلزمهما الصوم أيضا فلا يكون ما يفعلانه بعد رمضان قضاء
وهذا فاسد لوجوه ثلاثة أحدها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة والآمر بالقضاء إنما هو النبي صلى الله عليه و سلم على ما نقرره فيما يأتي
الثاني لا خلاف بين أهل العلم في انهم ينوون القضاء
الثالث أن العبادة متى أمر بها في وقت مخصوص فلم يجب فعلها فيه (1/59)
لا يجب بعده ولا يمتنع وجوب العبادة في الذمة بناء على وجود ا لسبب مع تعذر فعلها كما في النائم والناسي وكما في المحدث تجب عليه الصلاة مع تعذر فعلها منه في الحال وديون الآدميين تجب على المعسر مع عجزه عن أدائها
فصل في العزيمة والرخصة
العزيمة في اللسان القصد المؤكد ومنه قوله تعالى ولم نجد له عزما فإذا عزمت فتوكل على الله والرخصة السهولة واليسر ومنه رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء فأما في عرف حملة الشرع فالعزيمة الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي وقيل ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى
والرخصة استباحة المحظور مع قيام الحاظر وقيل ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح ولا يسمى ما لم يخالف الدليل رخصة وإن كان فيه سعة كإسقاط صوم شوال وإباحة المباحات لكن ما حط عنا من الإصر الذي كان على غيرنا يجوز أن يسمى رخصة مجازاة لما وجب على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق ذلك فأما إباحة التيمم إن كان مع القدرة على استعمال الماء لمرض أو زيادة ثمن سمي رخصة وإن كان مع عدمه فهو معجوز عنه فلا يمكن تكليف استعمال الماء مع استحالته فكيف يقال السبب قائم
فإن قيل فكيف يسمى أكل الميتة رخصة مع وجوبه في حال الضرورة قلنا يسمى رخصة من حيث إن فيه سعة إذ لم يكلفه الله تعالى إهلاك (1/60)
أن يسمى من حيث وجوب العقاب بتركه فهو من قبيل الجهتين فأما الحكم الثابت على خلاف العموم فإن الحكم في بقية الصور لمعنى موجود في الصورة المخصوصة كبيع العرايا المخصوص من المزاينة المنهي عنها فهو حينئذ رخصة وإن كان لمعنى غير موجود في الصورة المخصوصة كإباحة الرجوع في الهبة للوالد المخصوص من قوله عليه السلام العائد في هبته كالعائد في قيئه فليس برخصة لأن المعنى الذي حرم لأجله الرجوع في الهبة غير موجود في الوالد باب في أدلة الأحكام
الأصول أربعة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم والإجماع ودليل العقل المبقي على النفي الأصلي واختلف في قول الصحابي وشرع من قبلنا وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
وأصل الأحكام كلها من الله سبحانه إذ قول الرسول صلى الله عليه و سلم إخبار عن الله بكذا والإجماع يدل على السنة فإذا نظرنا إلى ظهور الحكم عندنا فلا يظهر إلا بقول الرسول صلى الله عليه و سلم فإننا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل عليه السلام وإنما ظهر لنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم والإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله لكن إذا (1/61)
لم نحرر النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب فيها النظر منقسمة إلى ما ذكرنا
القرآن
فصل
وكتاب الله سبحانه هو كلامه وهو القرآن الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه و سلم
وقال قوم الكتاب غير القرآن وهو باطل قال الله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا إلى قوله إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا فأخبر الله تعالى أنهم استمعوا القرآن وسموه قرآنا وكتابا وقال تعالى حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا وقال تعالى وإنه في أم الكتاب لدينا وقال إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون وقال تعالى بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ سماه قرآنا وكتابا وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلا متواترا وقيدناه بالمصحف لأن الصحابة رضي الله عنهم بالغوا في نقله وتجريده عما سواه حتى كرهوا التعاشير والنقط كيلا يختلط بغيره فنعلم أن المكتوب في المصحف هو القرآن وما خرج عنه فليس منه (1/62)
إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفرالدواعي عل حفظ القرآن أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه
القراءة غير المتواترة
فصل
فأما ما نقل نقلا غير متواتر كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات فقد قال قوم ليس بحجة لأنه خطأ قطعا لأنه واجب على الرسول تبليغ القرآن طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وليس له مناجاة الواحد به وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون مذهبا له واحتمل أن يكون خبرا ومع التردد لا يعمل به
والصحيح أنه حجة لأنه يخبر أنه سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم فإن لم يكن قرآنا فهو خبر فإنه ربما سمع الشيء من النبي صلى الله عليه و سلم تفسيرا فظنه قرآنا وربما أبدل لفظه بمثلها ظنا منه أن ذلك جائز كما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجوز مثل ذلك وهذا يجوز في الحديث دون القرآن ففي الجملة لا يخرج عن كونه مسموعا من النبي صلى الله عليه و سلم ومرويا عنه فيكون حجة كيف ما كان
وقولهم يجوز أن يكون مذهبا له قلنا لا يجوز ظن مثل هذا (1/63)
بالصحابة رضي الله عنهم فإن هذا افتراء على الله وكذب عظيم إذ جعل رأيه ومذهبه الذي ليس هو عن الله تعالى ولا عن رسوله قرآنا والصحابة رضي الله عنهم لا يجوز نسبة الكذب إليهم في حديث النبي صلى الله عليه و سلم ولا في غيره فكيف يكذبون في جعل مذاهبهم قرآنا هذا باطل يقينا
الحقيقة والمجاز في القرآن
فصل
والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز وهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي على وجه يصح كقوله واخفض لهما جناح الذل واسأل القرية جدارا يريد أن ينقض أو جاء أحد منكم من الغائط وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن اعت عليكم فاعتدوا عليه إن الذين يؤذون الله أي أولياء الله وذلك كله مجاز لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه ومن منع فقد كابر ومن سلم وقال لا أسميه مجازا فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه والله اعلم
ألفاظ غير عربية
فصل
قال القاضي ليس في القرآن لفظ بغير العربية لأن الله تعالى قال ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ولو كان (1/64)
فيه لغة العجم لم يكن عربيا محضا وآيات كثيرة في هذا المعنى ولأن الله سبحانه تحداهم بالإتيان بسورة من مثله ولا يتحداهم بما ليس من لسانهم ولا يحسنونه وروى عن ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهما أنهما قالا فيه ألفاظ بغير العربية قالوا ناشئة الليل بالحبشية و مشكاة هندية و استبرق فارسية
وقال من نصر هذا اشتمال القرآن على كلمتين ونحوهما أعجمية لا يخرجه عن كونه عربيا وعن إطلاق هذا الاسم عليه ولا يتمهد للعرب حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا وإن كان فيه آحاد كلمات عربية ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون هذه الكلمات أصلها بغير العربية ثم عربتها العرب واستعملتها فصارت من لسانها بتعريبها واستعمالها لها وإن كان أصلها أعجميا (1/65)
أقوال العلماء في المحكم والمتشابه في القرآن
فصل
وفي كتاب الله سبحانه محكم ومتشابه كما قال تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات قال القاضي المحكم المفسر والمتشابه المجمل لأن الله سبحانه سمى المحكمات أم الكتاب وأم الشيء الأصل الذي لم يتقدمه غيره فيجب أن يكون المحكم غير محتاج إلى غيره بل هو أصل بنفسه وليس إلا ما ذكرنا
وقال ابن عقيل المتشابه هو الذي يغمض علمه على غير العلماء والمحققين كالآيات التي ظاهرها التعارض كقوله تعالى هذا يوم لا ينطقون وقال في أخرى قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ونحو ذلك
وقال آخرون المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور والمحكم ما عداه
وقال آخرون المحكم الوعد والوعيد والحرام والحلال والمتشابه القصص والأمثال
والصحيح أن المتشابه ما ورد في صفات الله سبحانه مما يجب الإيمان به ويحرم التعرض لتأويله كقوله تعالى الرحمن على العرش استوى بل يداه مبسوطتان (1/66)
لما خلقت بيدي ويبقى وجه ربك تجري بأعيننا ونحوه فهذا اتفق السلف رحمهم الله على الإقرار به وإمراره على وجهه وترك تأويله فإن الله سبحانه ذم المبتغين لتأويله وقرنهم في الذم بالذين يبتغون الفتنة وسماهم أهل زيغ وليس في طلب تأويل ما ذكروه من المجمل وغيره ما يذم به صاحبه بل يمدح عليه إذ هو طريق إلى معرفة الأحكام وتمييز الحلال من الحرام ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه منفرد بعلم تأويل المتشابه وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله لفظا ومعنى أما اللفظ فلأنه (1/67)
لو أراد عطف الراسخين لقال ويقولون آمنا به بالواو وأما المعنى فلأنه ذم مبتغي التأويل ولو كان ذلك للراسخين معلوما لكان مبتغيه ممدوحا لا مذموما ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا اتبعوه بقولهم كل من عند ربنا فذكرهم ربهم ها هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره وأنه صدر منه وجاء من عنده كما جاء من عنده المحكم ولأن لفظه أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ من وصفه إياهم لابتغاء المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرناه لأن ما ذكر من الوجوه لا يعلم تأويله كثير من الناس
فإن قيل فكيف يخاطب الله الخلق بما لا يعقلونه أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله
قلنا يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله ليختبر طاعتهم كما قال تعالى ولنبلونكم حتى تعلم المجاهدين منكم والصابرين وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم الآية وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة (1/68)
مع أنه لا يعلم معناها والله أعلم باب النسخ
النسخ في اللغة الرفع والإزالة ومنه نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الأثر وقد يطلق لإرادة ما يشبه النقل كقولهم نسخت الكتاب
فأما النسخ في الشرع فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير
وحده رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه ومعنى الرفع إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتا على مثال رفع حكم الإجارة بالفسخ فإن ذلك يفارق زوال حكمها بانقضاء مدتها وقيدنا الحد بالخطاب المتقدم لأن ابتداء العبادات في الشرع مزيل لحكم العقل من براءة الذمة وليس بنسخ وقيدناه بالخطاب الثاني لأن زوال الحكم بالموت والجنون ليس بنسخ وقولنا مع تراخيه عنه لأنه لو كان متصلا به كان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة ( أو ) شرط
وقال قوم النسخ كشف مدة العبادة بخطاب ثان وهذا يوجب أن يكون قوله ( صم بالنهار وكل بالليل نسخا ) وقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل نسخا وليس فيه معنى الرفع فإن قوله الأول إذا (1/69)
لم يتناول إلا النهار متباعدا عن الليل بنفسه فأي معنى لنسخه وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وما ذكروه تخصيص على أن نسخ العبادة 2 قبل وقتها والتمكن من امتثالها جائز وليس فيه بيان لمدتها لانقطاعها
النسخ عند المعتزلة
وحد المعتزلة النسخ بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا
ولا يصح لأن حقيقة النسخ الرفع وقد أخلوا الحد عنه فإن
قيل تحديد النسخ بالرفع لا يصح لخمسة أوجه
أحدها أنه لا يخلو إما أن يكون رفعا لثابت أو لما لا ثبات له فالثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه
الثاني أن خطاب الله تعالى قديم فلا يمكن رفعه
الثالث أن الله تعالى إنما أثبته لحسنه فالنهي يؤدي إلى أن ينقلب الحسن قبيحا
الرابع أن ما أمر به إن أراد وجوده كيف ينهي عنه حتى يصير غير مراد (1/70)
وندم عليه وهذا محال في حق الله تعالى
قلنا أما الأول ففاسد فإنا نقول بل هو رفع لحكم ثابت لولاه لبقي ثابتا كالكسر من المكسور والفسخ في العقود لو قال قائل إن الكسر إما أن يرد على معدوم أو موجود فالمعدوم لا حاجة إلى إعدامه والموجود لا ينكسر كان غير صحيح لأن معناه أن له من استحكام البنية ما يبقى لولا الكسر وندرك تفرقته بين كسره وبين انكساره بنفسه لتناهي الخلل فيه كما ندرك تفرقته بين فسخ الإجارة بين زوال حكمها لانقضاء مدتها وبهذا فارق التخصيص النسخ فإن التخصيص يدل على أنه أريد باللفظ البعض
وأما الثاني فإنه يراد بالنسخ رفع تعلق الخطاب بالمكلف كما يزول تعلقه به لطريان العجز والجنون ويعود بعودة القدرة والعقل والخطاب في نفسه لا يتغير
وأما الثالث فينبني على التحسين والتقبيح في العقل وهو باطل وقد قيل إن الشيء يكون حسنا في حالة وقبيحا في أخرى لكن لا يصح هذا العذر لجواز النسخ قبل دخول الوقت فيكون قد نهى عما أمر به في وقت واحد
والرابع ينبني على أن الأمر مشروط بالإرادة وهو غير صحيح
وأما الخامس ففاسد فإنهم إن أرادوا أن الله تعالى أباح ما حرم ونهى عما أمر به فهو جائز يمحو الله ما يشاء ويثبت ولا تناقض كما أباح الأكل ليلا وحرمه نهارا وإن أرادوا أنه انكشف له ما لم يكن عالما به فلا يلزم من النسخ فإن الله تعالى يعلم أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم يقطع فيه التكليف بالنسخ
فإن قيل ( فهل هم ) مأمورون به في علم الله تعالى إلى وقت النسخ (1/71)
أو أبدا إن قلتم إلى وقت النسخ فهو بيان مدة العبادة وإن قلتم أبدا فقد تغير علمه ومعلومه
قلنا بل هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع للحكم المطلق الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله البيع المطلق مفيدا لحكمه إلى أن ينقطع بالفسخ ولا يعلمه في نفسه قاصرا ويعلم أن الفسخ سيكون فينقطع الحكم به لا لقصوره في نفسه
فإن قيل فما الفرق بين النسخ والتخصيص
قلنا هما مشتركان من حيث إن كل واحد يوجب اختصاص بعض متناول اللفظ مفترقان من حيث إن التخصيص بيان أن المخصوص غير مراد باللفظ والنسخ يخرج ما أريد باللفظ الدلالة عليه كقوله صم أبدا يجوز أن ينسخ ما أريد باللفظ بعض الأزمنة بل الجميع وكذلك افترقا في وجوه ستة
أحدها أن النسخ يشترط تراخيه والتخصيص يجوز اقترانه
والثاني أن النسخ يدخل في الأمر بمأمور واحد بخلاف التخصيص
والثالث أن النسخ لا يكون إلا بخطاب والتخصيص يجوز بأدلة العقل والقرائن (1/72)
والخامس أن النسخ لا يبقى معه دلالة اللفظ على ما تحته والتخصيص لا ينتفي معه ذلك
والسادس أن النسخ في المقطوع به لا يجوز إلا بمثله والتخصيص فيه جائز بالقياس وخبر الواحد وسائر الأدلة
ثبوت النسخ بالأدلة العقلية والنقلية
وقد أنكر قوم النسخ وهو فاسد لأن النسخ جائز عقلا وقد قام دليله شرعا أما العقل فلا يمتنع أن يكون الشيء مصلحة في زمان دون زمان
ولا بعد في أن الله يعلم مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له فيثابوا ويمتنعوا بسبب العزم عليه عن معاص وشهوات ثم يخففه عنهم
فأما دليله شرعا فقال الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وإذا بدلنا آية مكان آية وقد أجمعت الأمة على أن شريعة محمد صلى الله عليه و سلم قد نسخت ما خالفها من شرائع الأنبياء قبله (1/73)
وقد كان يعقوب عليه السلام يجمع بين الأختين وآدم عليه السلام كان يزوج بناته من بنيه وهو محرم في شرائع من بعدهم من الأنبياء عليهم السلام
أنواع النسخ
فصل
يجوز نسخ الآية دون حكمها ونسخ حكمتها دون تلاوتها ونسخهما معا
وأحال قوم نسخ اللفظ فإن اللفظ إنما نزل ليتلى ويثاب عليه فكيف يرفع
ومنع آخرون نسخ الحكم دون التلاوة لأنها دليل عليه فكيف يرفع المدلول مع بقاء الدليل
قلنا هو متصور عقلا وواقع شرعا أما التصور فإن التلاوة وكتابتها في القرآن وانعقاد الصلاة بها من أحكامها وكل حكم فهو قابل للنسخ وأما تعلقها بالمكلف في الإيجاب وغيره فهو حكم أيضا فيقبل النسخ فأما الدليل على وقوعه فقد نسخ حكم قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية جعام مسكين وبقيت تلاوتها والوصية للوالدين والأقربين وقد تظاهرت (1/74)
الأخبار بنسخ آية الرجم وحكمها باق وقولهم كيف ترفع التلاوة قلنا لا يمتنع أن يكون المقصود الحكم دون التلاوة لكن أنزل بلفظ معين وقولهم كيف يرفع المدلول مع بقاء الدليل قلنا إنما يكون دليلا عند انفكاكه عما يرفع حكمه والناسخ مزيل لحكمه فلا يبقى دليلا والله أعلم
النسخ قبل التمكن
فصل
يجوز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال نحو أن تقول في رمضان حجوا في هذه السنة وتقول قبل يوم عرفة لا تحجوا وأنكرت المعتزلة ذلك لأنه يفضي إلى أن يكون الشيء الواحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مصلحة مفسدة ولأن الأمر والنهي كلام الله وهو عندكم قديم فكيف يأمر بالشيء وينهي عنه في وقت واحد
وقد ذكرنا وجه جوازه عقلا ودليله شرعا قصة إبراهيم عليه (1/75)
السلام فإن الله سبحانه نسخ ذبح الولد عند قبل فعله بقوله تعالى وفديناه بذبح عظيم وقد اعتاص هذا عل 2 ى القدرية حتى تعسفوا في تأويله من ستة أوجه
أحدها أنه كان مناما لا أصل له
الثاني أنه لم يؤمر بالذبح وإنما كلف العزم على الفعل ولامتحان سره في صبره عليه
الثالث أنه لم ينسخ لكن قلب الله عنقه نحاسا فانقطع التكليف عنه لتعذره
الرابع أن المأمور به الاضجاع ومقدمات الذبح بدليل قد صدقت الرؤيا
الخامس أنه ذبح امتثالا فالتأم الجرح واندمل بدليل الآية
السادس أنه إنما أخبر أنه يؤمر به في المستقبل فإن لفظه لفظ الاستقبال لا لفظ الماضي (1/76)
والجواب من وجهين أحدهما يعم جميع ما ذكروه والثاني أنا نفرد كل وجه مما ذكروه بجواب
أما الأول فلو صح شيء من ذلك لم يحتج إلى فداء ولم يكن بلاء مبينا في حقه
والجواب الثاني أما قولهم كان مناما لا أصل له قلنا منامات الأنبياء عليهم السلام وحي وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به ولو كان مناما لا أصل له لم يجز له قصد الذبح والتل للجبين ويدل على فساده قول ولده عليه السلام افعل ما تؤمر ولو لم يؤمر كان ذلك كذبا
والثاني فاسد لوجهين
أحدهما أنه سماه ذبحا بقوله إني أرى في المنام أني أذبحك والعزم لا يسمى ذبحا
والآخر أن العزم لا يجب ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه ولو لم يكن المعزوم عليه واجبا كان إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من القدرية
والثالث لا يصح عندهم لأنه إذا علم الله أنه يقلب عنقه حديدا يكون آمرا بما يعلم امتناعه
والرابع فاسد لكونه لا يسمى ذبحا
والخامس فاسد إذ لو صح كان من آياته الظاهرة فلا يترك نقله ولم ينقل وإنما هو اختراع من القدرية ومعنى قوله قد صدقت أي عملت عمل صدق والتصديق غير التحقيق وقولهم إنه أخبر أنه يؤمر به في المستقبل فاسد إذ لو أراد ذلك لوجد الأمر به في المستقبل كيلا يكون خلفا في الكلام وإنما عبر بالمستقبل عن الماضي كما قال إني أرى سبع (1/77)
بقرات سمان و إني أراني أعصر خمرا أي قد رأيت وقال الشاعر ...
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب ...
وقولهم إنه يفضي إلى أن يكون الشيء مأمورا منهيا قلنا لا يمتنع أن يكون مأمورا من وجه منهيا عنه من وجه آخر كما يؤمر بالصلاة مع الطهارة وينهى عنها مع الحدث كذا ها هنا يجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الأمر فيقال افعل ما آمرك به إن لم يزل حكم أمرنا عنك بالنهي
فإن قيل فإذا علم الله سبحانه أنه سينهي عنه فما معنى أمره بالشيء الذي يعلم انتفاءه قطعا
قلنا يصح إذا كانت عاقبة الأمر ملتبسة على المأمور لامتحانه بالعزم والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو والفساد وربما يكون فيه لطف واستصلاح لخلقه ولهذا جوزوا الوعد والوعيد بالشرط من العالم بعاقبة الأمور فقالوا يجوز أن يعد الله سبحانه على الطاعة ثوابا بشرط عدم ما يحبطها وعلى المعصية عقابا بشرط عدم ما يكفرها من التوبة والله سبحانه عالم بعاقبة أمره أنه يجوز أن يكون الشيء مأمورا منهيا في حالين (1/78)
إذ ليس المأمور حسنا في عينه أو لوصف هو عليه قبل الأمر به ولا المأمور مرادا ليتناقض ذلك
وقولهم إن الكلام قديم فيكون أمرا بالشيء ونهيا عنه في حال واحد قلنا يتصورالامتحان به إذا سمعه المكلف في وقتين ولذلك اشترطنا التراخي في النسخ ولو سمعهما في وقت واحد لم يجز فأما جبريل فيجوز أن يسمعهما في وقت واحد ويؤمر بتبليغ الأمة في وقتين فيأمرهم بمسالمة الكفار مطلقا وباستقبال بيت المقدس ثم ينهاهم عنه بعد ذلك والله أعلم
الزيادة على النص
فصل
والزيادة علىالنص ليس بنسخ وهو على ثلاث مراتب
أحدهما أن لا تتعلق الزيادة بالمزيد عليه كما إذا أوجب الصلاة ثم أوجب الصوم فلا نعلم فيه خلافا لأن النسخ رفع الحكم وتبديله ولم يتغير حكم بالمزيد عليه بل بقي وجوبه وأجزاؤه
الرتبة الثانية أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه تعلقا ما على وجه لا يكون شرطا فيه كزيادة التغريب على الجلد في الحد وعشرين سوطا على الثمانين في حد القذف فذهب أبو حنيفة إلى أنه نسخ لأن الجلد كان هو الحد كاملا يجوز الاقتصار عليه ويتعلق به التفسيق ورد الشهادة وقد ارتفعت هذه الأحكام بالزيادة (1/79)
ولنا أن النسخ هو رفع حكم الخطاب وحكم الخطاب بالحد وجوبه وأجزاؤه على نفسه وهو باق وإنما انضم إليه الأمر بشيء آخر فوجب الإتيان به فأشبه الأمر بالصيام بعد الصلاة فأما صفة الكمال فليس هو حكما مقصودا شرعيا بل المقصود الوجوب والأجزاء وهما باقيان ولهذا لو أوجب الشرع الصلاة فقط كانت كلية ما أوجه الله وكماله فإذا أوجب الصوم خرجت الصلاة عن كونها كل الواجب وليس بنسخ اتفاقا
وأما الاقتصار عليه فليس هو مستفادا من منطوق اللفظ لأن وجوب الحد لا ينفي وجوب غيره وإنما يستفاد من المفهوم ولا يقولون به ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ فيجوز بخبر الواحد ثم إنما يستقيم هذا أن لو ثبت حكم المفهوم واستقر ثم ورد التغريب بعده ولا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانات لإسقاط المفهوم متصلا به أو قريبا منه
وأما التفسيق ورد الشهادة فإنما يتعلق بالقذف لا بالحد ثم لو سلم بتعلقه بالحد فهو تابع غير مقصود فصار كحل النكاح بعد العدة ثم تصرف الشرع في العدة بردها من حول إلى أربعة أشهر وعشر ليس تصرفا في حل النكاح بل في نفس العدة
فإن قيل قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم يقتضي أن لا يحكم بأقل منهما والحكم بشاهد ويمين نسخ له
قلنا هذا إنما استفيد من مفهوم اللفظ وقد أجبنا عليه
الرتبة الثالثة أن تتعلق بالمزيد عليه تعلق الشرط بالمشروط بحيث يكون وجود المزيد عليه بدون الزيادة وعدمه واحدا كزيادة النية في الطهارة وركعة في الصلاة فذهب بعض من وافق في الرتبة الثانية إلى أن الزيادة ها هنا نسخ (1/80)
إذ كان حكم المزيد عليه الأجزاء والصحة وقد ارتفع وليس بصحيح لأن النسخ رفع حكم الخطاب بمجموعه والخطاب اقتضى الوجوب والأجزاء والوجوب باق بحاله وإنما ارتفع الأجزاء وهو بعض ما اقتضى اللفظ فهو كرفع المفهوم وتخصيص العموم ثم إنما يستقيم أن لو ثبت الأجزاء واستقر ثم وردت الزيادة بعده ولم يثبت بل ثبوت الزيادة بالقياس المقارن للفظ أو لخبر يحتمل أن يكون متصلا بيانا للشرط فلا معنى لدعوى استقراره بالتحكم ثم لا يصح هذا من اصحاب الشافعي فإنهم اشترطوا النية للطهارة والطهارة للطواف بالسنة وأصلها ثابت بالكتاب
فإن قيل فالطهارة المنوية غير الطهارة بلا نية وإنما هي نوع آخر فاشترط النية يوجب رفع الأولى بالكلية
قلنا هذا باطل فإنها لو كانت غيرها لوجب أن لا تصح الطهارة المنوية عند من لا يوجب النية لكونها غير مأمور بها
نسخ جزء العبادة المتصل بها أو شرطها
فصل
ونسخ جزء العبادة المتصل بها أو شرطها ليس بنسخ لجملتها
وقال المخالفون في المرتبة الثانية من الزيادة هو نسخ لأن الركعات الأربع غير الركعتين وزيادة بدليل ما لو أتى بصلاة الصبح أربعا فإنها لا تصح ولأن الركعتين كانت لا تجزي فصارت مجزية وهذا تغيير وتبديل
وليس بصحيح لأن الرفع والإزالة إنما يتناول الجزء والشرط خاصة وما سوى ذلك باق بحالة فهو كالصلاة كانت إلى بيت المقدس ثم نسخ ذلك إلى الكعبة فلم يكن نسخا للصلاة وقولهم هي غيرها قد سبق جوابه وإنما لا تصح الصبح إذا صلاها أربعا لإخلاله بالسلام والتشهد في موضعه وقولهم كانت غير مجزية معناه أن وجودها كعدمها وهذا حكم عقلي ليس من (1/81)
الشرع والنسخ رفع ما ثبت بالشرع وكذلك وجوب العبادة مزيل لحكم في براءة الذمة وليس بنسخ
نسخ
العبادة إلى غير بدل
فصل
يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل
وقيل لا يجوز لقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
ولنا أنه متصور عقلا وقد قام دليله شرعا أما العقل فإن حقيقة النسخ الرفع والإزالة ويمكن الرفع من غير بدل ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى المصلحة في رفع الحكم وردهم إلى ما كان من الحكم الأصلي وأما الشرع فإن الله سبحانه نسخ النهي عن ادخار لحوم الأضاحي وتقديم الصدقة أمام المناجاة إلى غير بدل فأما الآية فإنها وردت في التلاوة وليس للحكم فيه ذكر على أنه يجوزأن يكون رفعها خيرا منها في الوقت الثاني لكونها لو وجدت فيه كانت مفسدة
النسخ بالأخف والأثقل
فصل
يجوز النسخ بالأخف والأثقل
وأنكر بعض أهل الظاهر جواز النسخ بالأثقل لقوله تعالى (1/82)
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال الآن خفف الله عنكم وقال سبحانه يريد الله أن يخفف عنكم ولأن الله تعالى رؤوف فلا يليق به التثقيل والتشديد
ولنا أنه لا يمتنع لذاته ولا يمتنع أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الأخف إلى الأثقل كما في ابتداء التكليف وقد نسخ التخيير بين الفدية والصيام بتعيين الصيام وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف إلى وجوب الإتيان بها وحرم الخمر ونكاح المتعة والحمر الأهلية وأمر الصحابة بترك القتال والإعراض ثم نسخ بإيجاب الجهاد والآيات التي احتجوا بها وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف وليس فيه منع إرادة التثقيل وقولهم إن الله رؤوف لا يمنع من التكليف ابتداء وتسليط المرض والفقر وأنواع العذاب لمصالح يعلمها
حكم من لم يبلغه النسخ
فصل
إذا نزل الناسخ فهل يكون نسخا في حق من لم يبلغه
قال القاضي ظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه لا يكون نسخا لأن أهل قباء بلغهم نسخ الصلاة إلى بيت المقدس وهم في الصلاة فاعتدوا بما مضى من صلاتهم (1/83)
وقال أبو الخطاب يتخرج أن يكون نسخا بناء على قوله في الوكيل ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم لأن النسخ بنزول الناسخ لا بالعلم إذ العلم لا تأثير له إلا في نفس العذر ولا يمتنع وجوب القضاء على المعذور كالحائض والنائم والقبلة يسقط استقبالها في حق المعذور فلهذا لم يجب علىأهل قباء الإعادة
وقال من نصر الأول النسخ بالناسخ لكن العلم شرط لأن الناسخ خطاب ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه
اعتبار التجانس بين الناسخ والمنسوخ
فصل
يجوز نسخ القرآن بالقرآن والسنة المتواترة بمثلها والآحاد بالآحاد والسنة بالقرآن كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس وتحريم المباشرة في ليالي رمضان وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف بالقرآن وهو في السنة
فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة فقال احمد رحمه الله لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده قال القاضي ظاهره أنه منع منه عقلا وشرعا
وقال أبو الخطاب وبعض الشافعية يجوز ذلك لأن الكل من عند الله ولم يعتبر التجانس والعقل لا يحيله فإن الناسخ في الحقيقة هو الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم بوحي غير نظم القرآن وإن جوز ناله النسخ بالاجتهاد بالاجتهاد فالإذن في الاجتهاد من الله سبحانه وتعالى وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله لا وصية لوارث ونسخ إمساك الزانية في (1/84)
البيوت بقوله قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم
ولنا قول الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والسنة لا تساوي القرآن ولا تكون خيرا منه وقد روى الدارقطني في سننه عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال القرآن ينسخ حديثي وحديثي لا ينسخ القرآن ولأنه لا يجوز نسخ تلاوة القرآن وألفاظه بالسنة فكذلك حكمه وأما الوصية فإنها نسخت بآية المواريث قاله ابن عمر (1/85)
وابن عباس وقد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا بقوله إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وأما الآية الآخرى فإن الله سبحانه أمر بإمساكهن إلى غاية يجعل لهن سبيلا فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن الله جعل لهن السبيل وليس ذلك بنسخ والله أعلم
نسخ القرآن ومتواتر السنة بأخبار الآحاد
فصل
فأما نسخ القرآن والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد فهو جائز عقلا إذ لا يمتنع أن يقول الشارع تعبدناكم بالنسخ بالخبر الواحد وغير جائز شرعا
وقال قوم من أهل الظاهر يجوز
وقالت طائفة يجوز في زمن النبي صلى الله عليه و سلم ولا يجوز بعده لأن أهل قباء قبلوا خبر الواحد في نسخ القبلة وكان النبي صلى الله عليه و سلم يبعث آحاد الصحابة إلى أطراف دار الإسلام فينقلون الناسخ والمنسوخ ولأنه يجوز التخصيص به فجاز النسخ به كالمتواتر
ولنا إجماع الصحابة على أن القرآن والمتواتر لا يرفع بخبر الواحد فلا ذاهب إلى تجويزه حتى قال عمر لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا (1/86)
لقول امرأةلا ندري أصدقت أم كذبت
نسخ الإجماع والنسخ به
فصل
فأما الاجماع فلا ينسخ ولا ينسخ به لأنه لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص والنسخ لا يكون إلا بنص ولا ينسخ بالإجماع لأن النسخ إنما يكون لنص والإجماع لا ينعقد على خلافه لكونه معصوما عن الخطأ وهذا يفضي إلى إجماعهم على الخطأ
فإن قيل فيجوز أن يكونوا ظفروا بنص كان خفيا هو أقوى من النص الأول أو ناسخ له
قلنا فيضاف النسخ إلى النص الذي أجمعوا عليه لا إلى الإجماع
نسخ القياس والنسخ به
فصل
ما ثبت بالقياس إن كان منصوصا على علته فهو كالنص ينسخ وينسخ به وما لم يكن منصوصا على علته فلا ينسخ ولا ينسخ به على اختلاف مراتبه (1/87)
وشذت طائفة فقالت ما جاز التخصيص به جاز النسخ به
وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد والتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ فكيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع والبيان تقرير والرفع إبطال
نسخ التنبيه والنسخ به
فصل
والتنبيه ينسخ وينسخ به لأنه يفهم من اللفظ فهو كالمنطوق وأوضح منه
ومنع منه بعض الشافعية وقالوا هو قياس جلي وليس بصحيح وإنما هو مفهوم الخطاب ولأنه يجري مجرى النطق في الدلالة فلا يضر تسميته قياسا وإذا نسخ الحكم في المنطوق بطل الحكم في المفهوم وفيما يثبت بعلته أو بدليل خطابه
وأنكر ذلك بعض الحنفية لأنه نسخ بالقياس وليس بصحيح لأن هذه فروع تابعة لأصل فإذا سقط حكم الأصل سقط حكم الفرع
ما يعرف به النسخ
فصل
اعلم أن ذلك لا يعرف بدليل العقل ولا بقياس بل بمجرد النقل وذلك من طرق
أحدها أن يكون في اللفظ كقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور (1/88)
فزوروها كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا بها
الثاني أن يذكر الراوي تاريخ سماعه فيقول سمعت عام الفتح ويكون المنسوخ معلوما بقدمه
الثالث أن تجمع الأمة على أن هذا الحكم منسوخ وأن ناسخه متأخر
الرابع أن ينقل الراوي الناسخ والمنسوخ فيقول رخص لنا في المتعة فمكثنا ثلاثا ثم نهانا عنها
الخامس أن يكون راوي أحد الخبرين أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه و سلم والآخر لم يصحب النبي صلى الله عليه و سلم إلا في أول الإسلام كرواية طلق بن علي الحنفي وأبي هريرة في الوضوء من (1/89)
مس الفرج والله تعالى أعلم
الأصل الثاني من الأدلة سنة النبي صلى الله عليه و سلم
وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة لدلالة المعجزة على صدقه وأمر الله سبحانه بطاعته وتحذيره من مخالفة أمره وهو دليل قاطع على من سمعه منه شفاها فأما من بلغه بالإخبار عنه فينقسم في حقه قسمين تواترا وآحادا
وألفاظ الرواية في نقل الأخبار خمسة
فأقواها أن يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أخبرني أو حدثني أو شافهني فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في أمر الرواية قال صلى الله عليه و سلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث
الرتبة الثانية أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا فهذه ظاهرة النقل وليس نصا صريحا لاحتمال أن يكون قد سمعه من غيره عنه كما روى أبو هريرة أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له فلما استكشف قال حدثني الفضل بن عباس وروى ابن عباس قوله إنما الربا في النسيئة (1/90)
فلما روجع أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد فهذا حكمه حكم القسم الذي قبله لأن الظاهر أن الصحابي لا يقول ذلك إلا وقد سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم لأن قوله ذلك يوهم السماع فلا يقدم عليه إلا عن سماع بخلاف غير الصحابي ولهذا اتفق السلف على قبول الأخبار مع أن أكثرها هكذا ولو قدر أنه مرسل فمرسل الصحابة حجة على ما سيأتي
الرتبة الثالثة أن يقول الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا أو نهى عن كذا فيتطرق إليه احتمالان
احدهما في سماعه كما في قوله قال
والثاني في الأمر إذ قد يرى ما ليس بأمر أمرا لاختلاف الناس فيه حتى قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم أنه أمر وأما احتمال الغلط فلا يحمل عليه أمر الصحابة إذ يجب حمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة مهما أمكن ولهذا لو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو شرط شرطا أو وقت وقتا فيلزمنا اتباعه ثم هذا إنما يستقيم أن لو كان الخلاف في الأمر مبنيا على اختلاف الصحابة فيه ولم يثبت ذلك والظاهر انه لم يكن بينهم فيه اختلاف إذ لو كان لنقل كما نقل اختلافهم في الأحكام وأقوالهم في الحلال والحرام وليس من ضرورة الاختلاف في زماننا أن يكون مبنيا على اختلافهم كما أنهم اختلفوا في الأصول وفي كثير من الفروع مع عدم اختلاف الصحابة فيه (1/91)
فإذا قال الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أو نهى لا يكون إلا بعد سماعه ما هو أمر حقيقة
الرتبة الرابعة أن يقول أمرنا بكذا أو نهينا فيتطرق إليه من الاحتمالات ما مضى واحتمال آخر وهو أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه و سلم من الأئمة والعلماء
وذهبت طائفة إلى أنه لا يحتج به لهذا الاحتمال وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله وأمر رسوله لأنه يريد به إثبات الشرع وإقامة حجته فلا يحمل على قول من لا يحتج بقوله وفي معناه قوله من السنة كذا والسنة جارية بكذا فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته ولا فرق بين قول الصحابي ذلك في حياة النبي صلى الله عليه و سلم أو بعد موته وقول التابعي والصحابي في ذلك سواء إلا أن الاحتمال في قول التابعي أظهر
الرتبة الخامسة أن يقول كنا نفعل أو كانوا يفعلون فمتى أضيف إلى زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو دليل على جوازه لأن ذكره ذلك في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه النبي صلى الله عليه و سلم فسكت عنه ليكون دليلا مثل قول ابن عمر كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقول خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر (1/92)
ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا ينكره وقال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعده أربعين سنه حتى روى لنا رافع بن خديج الحديث وقالت عائشة كانوا لا يقطعون في الشيء التافه
فإن قال التابعي كانوا يفعلون فقال أبو الخطاب يكون نقلا للإجماع لتناول اللفظ إياه وقال بعض أصحاب الشافعي لا يدل ذلك على فعل الجميع ما لم يصرح بنقله عن أهل الإجماع قال أبو الخطاب وإذا قال الصحابي هذا الخبر منسوخ وجب قبوله ولو فسره بتفسير وجب الرجوع إلى تفسيره
أقسام الخبر
فصل
وحد الخبر هو الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب وهو قسمان تواتر وآحاد
فالمتواتر يفيد العلم ويجب تصديقه وإن لم يدل عليه دليل آخر وليس في الآخبار ما يعلم صدقه بمجرده إلا المتواتر وما عداه إنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر خلافا للسمنية فإنهم حصروا العلم (1/93)
في الحواس وهو باطل فإننا نعلم استحالة كون الألف أقل من الواحد واستحالة اجتماع الضدين بل حصرهم العلم في الحواس على زعمهم معلوم لهم وليس مدركا بالحواس ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى مكة ولا نشك في وجود الأنبياء بل في وجود الأئمة الأربعة ونحو ذلك
فإن قيل لو كان معلوما ضرورة لما خالفناكم
قلنا إنما يخالف في هذا معاند يخالف بلسانه مع معرفته فساد قوله أو من في عقله خبط ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل عنادهم ثم لو تركنا ما علمناه لمخالفتكم لزمنا ترك المحسوسات لمخالفة السوفسطائية
التواتر يفيد العلم الضروري
فصل
قال القاضي العلم الحاصل بالتواتر ضروري وهو صحيح فإننا نجد أنفسنا مضطرين إليه كالعلم بوجود مكة ولأن العلم النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال فيعلمه بعض الناس دون بعض ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من اهل النظر ولا من ترك النظر قصدا
وقال أبو الخطاب هو نظري لأنه لم يفد العلم بنفسه مالم ينتظم في النفس مقدمتان (1/94)
إحداهما أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وكثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ولا يتفقون عليه
الثاني أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة فينبني العلم بالصدق على المقدمتين ولا بد من إشعار النفس بهما وإن لم يتشكل فيها بلفظ منظوم فقد شعرت به حتى حصل التصديق ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الإنسان بتوسطها كقولنا الاثنان نصف الأربعة فإنا لا نعلم ذلك إلا بواسطة أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر والإثنان كذلك فقد حصل العلم بواسطة لكنها جلية في الذهن ولهذا لو قيل ستة وثلاثون نصف اثنين وسبعين افتقر فيه إلى تأمل ونظر والضروري عبارة عن الأولى الذي يحصل بغير واسطة كقولنا القديم ليس محدثا والمعدوم ليس موجودا لأننا نجد أنفسنا مضطرين إليه وهو يحصل دون تشكل واسطة في الذهن كالعلوم المحسوسة والعلم بالتجربة كقولنا الماء مرو والخمر مسكر والصحيح الأول فإن اللفظ يدل عليه لاشتقاقه منه والقول الآخر مجرد اختيار لا دليل عليه
وسائل العلم تفيده في كل واقعة
فصل
ذهب قوم إلى أن ما حصل العلم في واقعه يفيده في كل واقعة وما حصله لشخص يحصله لكل شخص يشاركه في السماع ولا يجوز أن يختلف وهذا أنما يصح إذا تجرد الخبر عن القرائن فإن اقترنت به قرائن جاز أن تختلف به الوقائع والأشخاص لأن القرائن قد تورث العلم وإن لم يكن فيه أخبار فلا يبعد أن تضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة القرائن وكيفية دلالتها فنقول لا شك أنا نعرف أمورا ليست محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبه (1/95)
لإنسان وبغضه إياه وخوفه منه وخجله وهذه أحوال في النفس لا يتعلق بها الحس قد يدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال لكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاني والثالث يؤكده ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال إلى أن يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر محتمل منفردا ويحصل القطع بالاجتماع فإنا نعرف محبة الشخص لصاحبه بأفعال المحبين من خدمته وبذل ماله له وحضوره مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس وكل واحد منها إذ انفرد يحتمل أن يكون لغرض أضمره لا لمحبته لكن تنتهي كثرة هذه للدلالات إلى حد يحصل لنا العلم القطعي بحبه وكذلك نشهد الصبي يرضع مرة بعد أخرى فيحصل لنا علم بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن لكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه وسكوته عن بكائه من كونه لم يتناول طعاما آخر وكون ثدي المرأة الشابة لا يخلو من لبن والصبي لا يخلو عن طبع باعث على الامتصاص ونحو ذلك من القرائن فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص مع قرائن تنضم إليه ولو تجرد عن القرائن لم يفد العلم والتجربة تدل على هذا وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة الملك وسياسة إظهاره والمخبرون من جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم فهذا يؤثر في النفوس تأثيرا لا ينكر
شروط التواتر
فصل
وللتواتر ثلاثة شروط
الأول أن يخبروا عن علم ضروري مستند إلى محسوس إذ لو أخبرنا (1/96)
الجم الغفير عن حدوث العالم وعن صدق الأنبياء لم يحصل لنا العلم بخبرهم
الثاني أن يستوي طرف الخبر ووسطه في هذه الصفة وفي كمال العدد لأن خبر كل عصر يستقل بنفسه فلا بد من وجود الشروط فيه ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى عليه السلام تكذيب كل ناسخ لشريعته
الشرط الثالث في العدد الذي يحصل به التواتر واختلف الناس فيه فمنهم من قال يحصل باثنين ومنهم من قال يحصل بأربعة وقال قوم بخمسة وقال قوم بعشرين وقال آخرون بسبعين وقيل غير ذلك والصحيح أنه ليس عددا محصورا فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الأنبياء عليهم السلام ولا سبيل إلى معرفته فإنه لو قتل رجل في السوق وانصرفت جماعة فأخبرونا بقتله فإن قول الأول يحرك الظن والثاني يؤكده ولا يزال يتزايد حتى يصير ضروريا ولا يمكننا تشكيك أنفسنا فيه فلو تصور الوقوف على اللحظة التي حصل فيها العلم ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لأمكن الوقوف عليه ولكن درك تلك اللحظة عسير فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج كتزايد عقل الصبي المخبر إلى أن يبلغ حد التكليف وتزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال فلذلك تعذر علىالقوة البشرية إدراكه
فأما ما ذهب إليه المخصصون بالأعداد فتحكم فاسد لا يناسب الغرض ولا يدل عليه وتعارض أقوالهم يدل على فسادها
فإن قيل فكيف تعلمون حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده (1/97)
قلنا كما نعلم أن الخبز مشبع والماء مرو وإن كنا لا نعلم أقل مقدار يحصل به ذلك فنستدل بحصول العلم الضروري على كمال العدد لا أننا نستدل بكمال العدد على حصول العلم
الإسلام والعدالة في صحة التواتر
فصل
ليس من شروط التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولا لأن إفضاءه إلى العلم من حيث إنهم مع كثرتهم لا يتصور اجتماعهم على الكذب وتواطؤهم عليه ويمكن ذلك في الكفار كإمكانه في المسلمين ولا يشترط أيضا ألا يحصرهم عدد ولا تحويهم بلد فإن الحجيج إذا أخبروا بواقعة صدتهم عن الحج وأهل الجمعة إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت من الصلاة علم صدقهم مع دخولهم تحت الحصر وقد حواهم مسجد فضلا عن البلد
كتمان أهل التواتر يحتاج إلى النقل
فصل
ولا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته
وأنكر ذلك الإمامية وليس بصحيح لأن كتمان ذلك يجري في القبح مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو به فلم يجز وقوع ذلك منهم وتواطؤهم عليه
فإن قيل قد ترك النصارى نقل كلام عيسى في المهد
قلنا لأن كلامه في المهد قبل ظهوره واتباعهم له (1/98)
القسم الثاني اخبار الآحاد وهي ما عدا المتواتر
اختلفت الرواية عن إمامنا رحمه الله في حصول العلم بخبر الواحد فروى أنه لا يحصل به وهو قول الأكثرين والمتأخرين من أصحابنا لأنا نعلم ضرورة أنا لا نصدق كل خبر نسمعه ولو كان مفيدا للعلم لما صح ورود خبرين متعارضين لاستحالة اجتماع الضدين ولجاز نسخ القرآن والأخبار المتواترة به لكونه بمنزلتها في إفادة العلم ولوجب الحكم بالشاهد الواحد ولاستوى في ذلك العدل والفاسق كما في المتواتر
وروى عن أحمد أنه قال في أخبار الرؤية يقطع على العلم بها وهذا يحتمل أن يكون في أخبار الرؤية وما أشبهها مما كثرت رواته وتلقته الآمة بالقبول ودلت القرائن على صدق ناقله فيكون إذن من المتواتر إذ ليس للمتواتر عدد محصور ويحتمل أن يكون خبر الواحد عنده مفيدا للعلم وهو قول جماعة من أصحاب الحديث وأهل الظاهر قال بعض العلماء إنما يقول أحمد بحصول العلم بخبر الواحد فيما نقله الأئمة الذين حصل الاتفاق على عدالتهم وثقتهم وإتقانهم ونقل من طرق متساوية وتلقته الأمة بالقبول ولم ينكره منهم منكر فإن الصديق والفاروق رضي الله عنهما لو رويا شيئا سمعاه أو رأياه لم يتطرق إلى سامعهما شك ولا ريب مع ما تقرر في نفسه لهما وثبت عنده من ثقتهما وأمانتهما ولذلك اتفق السلف في نقل أخبار الصفات وليس فيها عمل وإنما فائدتها وجوب تصديقها واعتقاد ما فيها لأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها والإجماع حجة قاطعة فأما التعارض فيما هذا سبيله فلا يسوغ في الأخبار المتواترة وآي الكتاب (1/99)
وقولهم إنا لا نصدق كل خبر نسمعه فلأننا جعلناه مفيدا للعلم لما اقترن به من قرائن زيادة الثقة وتلقي الأمة له بالقبول ولذلك اختلف خبر العدل والفاسق وأما الحكم بشاهد واحد فغير لازم فإن الحاكم لا يحكم بعلمه وإنما يحكم بالبينة التي هي مظنة الصدق والله أعلم
التعبد بخبر الواحد عقلا
فصل
وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلا لأنه يحتمل أن يكون كذبا والعمل به عمل بالشك وإقدام على الجهل فتقبح الحوالة على الجهل بل إذا أمرنا الشرع بأمر فليعرفناه لنكون على بصيرة إما ممتثلون وإما مخالفون
والجواب أن هذا إن صدر من مقر بالشرع فلا يتمكن منه لأنه تعبد بالحكم بالشهادة والعمل بالفتيا أو التوجه إلى الكعبة بالاجتهاد عند الاشتباه وإنما يفيد الظن كما يفيد بالعلم بالتواتر والتوجه إلى الكعبة عند عدم معاينتها فلم يستحل أن يلحق المظنون بالمعلوم وإن صدر من منكر للشرع فيقال له أي استحالة في أن يجعل الله تعالى الظن علامة للوجوب والظن مدرك بالحس فيكون الوجوب معلوما فيقال له إذا ظننت صدق الشاهد والرسول والحالف فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه بل بالعمل به عند ظن صدقه وأنت ممتثل مصيب صدق أم كذب كما يجوز أن يقال إذا طار طائر ظننتموه غرابا أوجبت عليكم كذا وجعلت ظنكم علامة كما جعل زوال الشمس علامة على وجوب الصلاة
قبول خبر الواحد عقلا
فصل
وقال أبو الخطاب العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد لأمور ثلاثة (1/100)
أحدها أنا لو فرضنا العمل على القطع تعطلت الأحكام لندرة القواطع وقلة مدارك اليقين
الثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم مبعوث إلى الكافة ولا يمكنه مشافهة جميعهم ولا إبلاغهم بالتواتر
الثالث أنا إذا ظننا صدق الراوي فيه ترجح وجود أمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام فالاحتياط العمل بالراجح
وقال الأكثرون لا يجب التعبد بخبر الواحد عقلا ولا يستحيل ذلك ولا يلزم من عدم التعبد به تعطيل الأحكام لإمكان البقاء على البراءة الأصلية والاستصحاب والنبي صلى الله عليه و سلم يكلف تبليغ من امكنه من أمته تبليغه دون من لا يمكنه كمن في الجزائر ونحوها
التعبد بخبر الواحد سمعا
فصل
فأما التعبد بخبر الواحد سمعا فهو قول الجمهور خلافا لأكثر القدرية وبعض أهل الظاهر ولنا دليلان قاطعان
أحدهما إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبوله فقد اشتهر ذلك عنهم في وقائع لا تنحصر إن لم يتواتر آحادها حصل العلم بمجموعها منها أن الصديق رضي الله عنه لما جاءته الجدة تطلب ميراثها نشد الناس (1/101)
من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فشهد له محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاها السدس فرجع إلى قولهما وعمل به عمر بعده وروى عن عمر في وقائع كثيرة منها قصة الجنين حين قال أذكر الله امرءا سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجنين فقام حمل بن مالك بن النابغة وقال كنت بين جاريتين لي فضربت أحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى النبي صلى الله عليه و سلم في الجنين بغرة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره وكان (1/102)
لا يورث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ورجع إلى حديث عبدالرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه و سلم في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وأخذ عثمان بخبر فريعة في (1/103)
السكنى بعد أن ارسل إليها وسألها وعلي كان يقول كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني (1/104)
عنه غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما من عبد يذنب فيتوضأ ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له ولما اختلف الأنصار في الغسل من المجامعة أرسلوا أبا موسى إلى عائشة فروت لهم عن النبي صلى الله عليه و سلم أذا مس الختان الختان وجب الغسل فرجعوا إلى قولها واشتهر رجوع أهل قباء إلى خبر الواحد في التحول إلى الكعبة وروى أنس (1/105)
قال كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ إذ أتانا آت فقال إن الخمرة قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها فكسرتها ورجع ابن عباس إلى حديث أبي سعيد (1/106)
في الصرف وابن عمر إلى حديث ورافع بن خديج في المخابرة وكان زيد بن ثابت يرى أن لا تصدر الحائض حتى تطوف فقال (1/107)
له ابن عباس سل فلانة الأنصارية هل أمرها النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فأخبرته فرجع زيد يضحك وقال لابن عباس ما أراك إلا قد صدقت والأخبار في هذا أكثر من أن تحصى واتفق التابعون عليه أيضا وإنما حدث الاختلاف بعذ ذلك فإن قيل لعلهم عملوا بأسباب قارنت هذه الأخبار لا بمجردها كما أنهم أخذوا بالعموم وعملوا بصيغة الأمر والنهي ولم يكن ذلك نصا صريحا فيها قلنا قد صرحوا بأن العمل بالأخبار لقول عمر لولا هذا لقضينا بغيره وتقدير قرينة وسببها هنا كتقدير قرائن مع نص الكتاب والأخبارالمتواترة وذلك يبطل جميع الأدلة وأما العموم وصيغة الأمر والنهي فإنها ثابتة يجب الأخذ بها ولها دلالات ظاهرة تعبدنا بالعمل بمقتضاها وعملهم بها دليل على صحة دلالاتها فهي كمسألتنا وإنما أنكرها من لا يعتد بخلافه وأعتذروا بأنه لم ينقل عنهم في صيغة الأمر والعموم تصريح
فإن قيل فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة فلم يقبل النبي صلى الله عليه و سلم خبر ذي اليدين ولم يقبل أبو بكر خبر المغيرة وحده في ميراث (1/108)
الجدة وعمر لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان ورد علي خبر معقل بن سنان الأشجعي في بروع وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه (1/109)
قلنا الجواب من وجهين
أحدهما أن هذا حجة عليهم فإنهم قد قبلوا الأخبار التي توقفوا عنها بموافقة غير الراوي له ولم يبلغ بذلك رتبة التواتر ولا خرج عن رتبةالآحاد إلى رتبة التواتر
والثاني ان توقفهم كان لمعان مخصصة بهم فتوقف النبي صلى الله عليه و سلم في خبر ذي اليدين ليعلمهم أن هذا الحكم لا يؤخذ فيه بقول الواحد وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يرد خبر المغيرة وإنما طلب الاستظهار بقول آخر وليس فيه ما يدل على أنه لا يقبل قوله لو انفرد وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان يفعل ذلك سياسة لي ليتثبت الناس في رواية الحديث وقد صرح به فقال إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعائشة لم ترد خبر ابن عمر وإنما تأولته
الدليل الثاني ما تواتر من انفاذ رسول الله صلى الله عليه و سلم أمراءه ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف لتبليغ الأحكام والقضاء وأخذ الصدقات وتبليغ الرسالة ومن المعلوم أنه كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول ليكون مفيدا والنبي صلى الله عليه و سلم مأمور بتبليغ الرسالة ولم يكن ليبلغها بمن لا يكتفي به
دليل ثالث أن الإجماع انعقد على وجوب قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنه فما يخبر به عن السماع الذي لا يشك فيه أولى فإن تطرق الغلط إلى المفتي كتطرق الغلط إلى الراوي لأن المجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا إذا لم يفرط وربما ظن أنه لم يفرط ويكون قد فرط وهذا عند من يجوز تقليد مقلد بعض الأئمة أولى فإنه إذا جاز أن يروي مذهب غيره (1/110)
فلم لا يجوز أن يروي قول غيره فإن قيل هذا قياس لا يفيد إلا الظن وخبر الواحد أصل لا يثبت بالظن ثم الفرق بينهما أن هذا حال ضرورة فإنا لو كلفنا كل أحد الاجتهاد تعذر قلنا لا نسلم أنه مظنون بل هو مقطوع بأنه في معناه فإنا إذا قطعنا بخبر الواحد في البيع قطعنا به في النكاح ولم يختلف باختلاف المروي فيه ولم يختلف ها هنا إلا المروي عنه فإن هذا يروي عن ظنه وهذا يروي عن غيره وقولهم إنه يفضي إلى تعذر ألأحكام ليس كذلك فإن العامي يرجع إلى البراءة الأصلية واستصحاب الحال كما قلتم في المجتهد إذا لم يجد قاطعا
رأي الجبائي في خبر الواحد
فصل
وذهب الجبائي إلى أن خبر الواحد إنما يقبل إذا رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم اثنان ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان إلى أن يصير في زماننا إلى حد يتعذر معه إثبات حديث أصلا وقاسه على الشهادة
وهذا باطل بما ذكرناه من الدليل على قبول خبر الواحد ولا يصح قياسه على الشهادة فإن الرواية تخالف الشهادة في أشياء كثيرة وكذلك لا تعتبر الرواية في الزنى أربعة كما تعتبر ذلك في الشهادة
مقبول الرواية
فصل
ويعتبر في الراوي المقبول روايته أربعة شروط الإسلام والتكليف والعدالة والضبط (1/111)
أما الإسلام فلا خلاف في اعتباره فإن الكافر متهم في الدين
فإن قيل هذا يتجه في كافر لا يؤمن بنبينا صلى الله عليه و سلم إذ لا يليق بالسياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه أما الكافر المتأول فإنه معظم للدين يمتنع من المعصية غير عالم أنه كافر فلم لا تقبل روايته
قلنا كل كافر متأول فاليهودي أيضا متأول فإن المعاند هو الذي يعرف الحق بقلبه ويجحده بلسانه وهذا يندر بل تورع هذا من الكذب كتورع اليهودي فلا يلتفت إلى هذا ولا يستفاد هذا المنصب بغير الإسلام وقال أبو الخطاب في الكافر والفاسق المتأولين إن كان داعية فلا يقبل خبره فإنه لا يؤمن أن يضع حديثا على موافقة هواه وإن لم يكن داعية فكلام أحمد رحمه الله يحتمل الأمرين من القبول وعدمه فإنه قد قال احتملوا الحديث من المرجئة وقال يكتب عن القدري إذا لم يكن داعية واستعظم الرواية عن سعد العوفي وقال هو جهمي امتحن فأجاب واختار أبو الخطاب قبول رواية الفاسق المتأول لما ذكرناه وأن توهم الكذب منه كتوهمه من العدل لتعظيمه المعصية وامتناعه منها وهو مذهب الشافعي ولذلك كان السلف يروي بعضهم عن بعض مع اختلافهم في المذاهب والأهواء
والثاني التكليف فلا يقبل خبر الصبي والمجنون لكونه لا يعرف الله تعالى ولا يخافه ولا يلحقه مأثم فالثقة به أدنى من الثقة بقول الفاسق لكونه يعرف (1/112)
الله تعالى ويخافه ويتعلق المأثم به ولأنه لا يقبل قوله فيما يخبر عن نفسه وهو الإقرار ففيما يخبر به عن غيره أولى أما ما سمعه صغيرا ورواه بعد البلوغ فهو مقبول لأنه لا خلل في سماعه ولا أدائه ولذلك اتفق السلف على قبول أخبار أصاغر الصحابة كابن عباس وعبدالله بن جعفر وعبدالله بن الزبير والحسن والحسين والنعمان بن بشير ونظرائهم وعلى ذلك درج السلف (1/113)
والخلف في إحضارهم الصبيان مجالس السماع وقبولهم لشهادتم فيما سمعوه قبل البلوغ
الثالث الضبط فمن لم يكن حاله السماع ممن يضبط ليؤدي في الآخرة على الوجه لم تحصل الثقة بقوله
الرابع العدالة فلا يقبل خبر الفاسق لأن الله تعالى قال يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وهذا زجر عن الاعتماد على قبول الفاسق ولأن من لا يخاف الله سبحانه خوفا يزعه عن الكذب لا تحصل الثقة بقوله
خبر مجهول الحال
فصل
ولا يقبل خبر مجهول الحال في هذه الشروط في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي والأخرى يقبل مجهول الحال في العدالة خاصة دون بقية الشروط وهو مذهب أبي حنيفة ووجهه أربعة أدلة
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم قبل شهادة الأعرابي برؤية الهلال ولم يعرف منه إلا الإسلام
الثاني أن الصحابة كانوا يقبلون رواية الأعراب والعبيد والنساء لأنهم لم يعرفوهم بفسق
الثالث أنه لو أسلم ثم روى أو شهد فإن قلتم لا نقبل فبعيد وإن قلتم (1/114)
نقبل فلا مستند لذلك إلا إسلامهم مع عدم ظهور الفسق منهم فإذا مضى لذلك زمان فلا يجوز أن يجعل ذلك مستندا لرد روايته
الرابع أنه لو أخبر بطهارة الماء أو نجاسته أو أنه على طهارة قبل ذلك حتى يصلح للائتمام به ولو أخبر بأن هذه الجارية المبيعة ملكه أو أنها خالية عن زوج قبل قولهم حتى ينبني على ذلك الوطء
ووجه الرواية الأولى خمسة أمور
أحدها أن مستند قبول خبر الواحد الإجماع والمجمع عليه قبول رواية العدل ورد خبر الفاسق والمجهول الحال ليس بعدل ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله
الثاني أن الفسق مانع كالصبا والكفر فالشك فيه كالشك في الصبا والكفر من غير فرق
الثالث أن شهادته لا تقبل فكذلك روايته وإن منعوا في المال سلموا في العقوبات وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحدة وإن اختلفا في بقية الشروط
الرابع أن المقلد إذا شك في بلوغ المفتي درجة الاجتهاد لم يجز تقليده بل قد سلموا أنه لو شك في عدالته وفسقه لم يجز تقليده وأي فرق بين حكايته عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره
الخامس أنه لا تقبل رواية الفرع ما لم يعين شاهد الأصل فلم يجب تعيينه إن كان قول المجهول مقبولا فإن قالوا يجب تعيينه لعل الحاكم يعرفه بفسق فيرد شهادته قلنا إذا كانت العدالة هي الإسلام من غير ظهور فسق فقد عرف ذلك فلم يجب التتبع وأما قبول النبي صلى الله عليه و سلم قول الأعرابي فإن كونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بخبر عنه أو تزكيته ممن عرف حاله وإما بوحي فمن سلم لكم أنه كان (1/115)
مجهولا وأما الصحابة فإنما قبلوا قول أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وقول من عرفوا حاله ممن هو مشهود العدالة عندهم وحيث جهلوا ردوا
جواب ثان أن الصحابة رضي الله عنهم لا تعتبر معرفة ذلك منهم لأنه مجمع على عدالتهم بتزكية النص لهم بخلاف غيرهم وأما الحديث العهد بالإسلام فلا يسلم قبول قوله لأنه قد يسلم الكاذب ويبقى على طبعه وإن سلمنا قبول روايته فذلك لطراوة إسلامه وقرب عهده بالإسلام وشتان بين من هو في طراوة البداية وبين من نشأ عليه بطول الألفة
فإن قيل إذا كانت العدالة لأمر باطن وأصله الخوف ولا يشاهد بل يستدل عليه بما يغلب على الظن فأصل ذلك الخوف دلالة ظاهرة فلنكتف به
قلنا المشاهدة والتجربة دلت على أن فساق المسلمين أكثر من عدولهم فلا نشكك أنفسنا فيما عرفناه يقينا ثم هلا اكتفى به في شهادة العقوبات وشاهد الأصل وحال المفتي وسائر ما سلموه وأما قول العاقد فهو مقبول رخصة مع ظهور فسقه لمسيس الحاجة إلى المعاملات وأما الخبر عن نجاسة الماء وقلته فلا نسلمه
أخبار النساء وغير المبصرين
فصل
ولا يشترط في الرواية الذكورية فإن الصحابة قبلوا قول عائشة وغيرها من النساء ولا البصر فإن الصحابة كانوا يروون عن عائشة رضي الله عنها عتمادا على صوتها وهم كالضرير في حقها ولا يشترط كون الراوي فقيها (1/116)
لقوله ( رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) وكانت الصحابة تقبل خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثا واحدا ولا يقدح في الرواية العداوة والقرابة لأن حكمها عام لا يختص بشخص فيؤثر فيه ذلك ولا يشترط معرفة نسب الراوي فإن حديثه يقبل ولو لم يكن له نسب فالجهل أولى ألا يقدح ولو ذكر اسم شخص متردد بين مجروح وعدل فلا يقبل حديث المتردد
الجرح والتعديل
فصل
في التزكية والجرح
اعلم أنه يسمع الجرح والتعديل من واحد في الرواية لأن العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية بخلاف الشهادة وكذلك تقبل تزكية العبد والمرأة كما تقبل روايتهما واختلفت الرواية في قبول الجرح إذا لم يتبين سببه فروى أنه يقبل لأن أسباب الجرح معلومة فالظاهر أنه لا يجرح إلا بما يعلمه وروى أنه لا يقبل لاختلاف الناس فيما يحصل به الجرح من فسق الاعتقاد والتدليس وغيره فيجب بيانه ليعلم وقيل هذا يختلف باختلاف المزكي فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه ومن عرفت عدالته دون بصيرته فنستفصله أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح فإنه اطلاع على زيادة خفيت على المعدل فإن زاد عدد المعدل على الجارح فقد قيل يقدم التعديل وهو ضعيف لأن سبب التقديم زيادة العلم فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد (1/117)
التعديل
فصل
والتعديل إما بقول وإما بالرواية عنه أو بالعمل بخبره أو بالحكم به وأعلاها صريح القول وتمامه أن يقول هو عدل رضى ويبين السبب
الثاني أن يروى عنه وهل ذلك تعديل له على روايتين والصحيح أنه إن عرف من عادته أو تصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا عن العدل كانت الرواية تعديلا له وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية عمن لو كلفوا الثناء عليه لسكتوا فليس فيه تصريح بالتعديل فإن قيل لو روى عن فاسق كان غاشا في الدين قلنا لم يوجب على غيره العمل به بل قال سمعت فلانا قال كذا وقد صدق فيه ثم لعله لم يعرفه بفسق ولا عدالة فروى عنه ووكل البحث إلى من أراد القبول
الثالث العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو العمل بدليل آخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل فسق ويكون حكم ذلك حكم التعديل بالقول من غير ذكر السبب
الرابع أن يحكم بشهادته وذلك أقوى من تزكيته بالقول أما تركه الحكم بشهادته فليس بجرح إذ قد يتوقف في شهادته لأسباب سوى الجرح
تعديل الصحابة
فصل
والذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف أن الصحابة رضي الله عنهم معلومة عدالتهم بتعديل الله وثنائه عليهم قال الله تعالى والسابقون الأولون وقال لقد رضي الله عن المؤمنين وقال محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار وقال النبي صلى الله عليه و سلم خير الناس قرني وقال إن الله (1/118)
اختارني واختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب وتعديل رسوله صلى الله عليه و سلم ولو لم يرد لكان فيما اشتهر وتواتر من حالتهم في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم وبذل المهج ما يكفي في القطع بعدالتهم وهذا يتناول من يقع عليه اسم الصحابي ويحصل ذلك بصحبته ساعة ورؤيته مع الأيمان به ويحصل لنا العلم بذلك بخبره عن نفسه أو عن غيره أنه صحب النبي صلى الله عليه و سلم فإن قيل إن قوله شهادة لنفسه فكيف يقبل قلنا إنما هو خبر عن نفسه بما يترتب عليه حكم شرعي يوجب العمل لا يلحق غيره مضرة ولا يوجب تهمة فهو كرواية الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم
خبر المحدود في قذف
فصل
المحدود في القذف إن كان بلفظ الشهادة فلا يرد خبره لأن نقصان العدد ليس من فعله ولهذا روى الناس عن أبي بكرة واتفقوا على ذلك وهو محدود في القذف وإن كان بغير لفظ الشهادة فلا تقبل روايته حتى يتوب (1/119)
كيفية الرواية
فصل
وهي على أربع مراتب
أعلاها قراءة الشيخ عليه في معرض الإخبار ليروى عنه وذلك يسلط الراوي أن يقول حدثني وأخبرني وقال فلان وسمعته يقول
الثانية أن يقرأ على الشيخ فيقول نعم أو يسكت فتجوز الرواية به خلافا لبعض أهل الظاهر ولنا أنه لو لم يكن صحيحا لم يسكت نعم لو كان ثم مخيلة إكراه أو غفلة لا يكتفى بسكوته وهذا يسلط الراوي على أن يقول أنبأنا أو حدثنا فلان قراءة عليه وهل يجوز أن يقول أخبرنا وحدثنا على روايتين إحداهما لا يجوز كما لا يجوز أن يقول سمعت من فلان والأخرى يجوز وهو قول أكثر الفقهاء لأنه إذا أقر به كقوله نعم والجواب بنعم كالخبر بدليل ثبوت أحكام الإقرار به ولذلك يقول أشهدني على نفسه وكذلك إذا قال الشيخ أخبرنا أو حدثنا هل يجوز للراوي عنه إبدال إحدى اللفظتين بالأخرى على روايتين وهل يجوز أن يقول سمعت فلانا فقد قيل لا يجوز لأنه يشعر بالنطق وذلك كذب إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة أنه يريد القراءة على الشيخ
الثالثة الإجازة وهي أن يقول أجزت لك ان تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي
الرابعة المناولة وهي أن يقول خذ هذا الكتاب فاروه عني فهو كالإجازة لأن مجرد المناولة دون اللفظ لا يغني واللفظ وحده يكفي وكلاهما تجوزالرواية به فيقول حدثني أو أخبرني إجازة فإن لم يقل إجازة لم يجز (1/120)
وجوزه قوم وهو فاسد لأنه يشعر بسماعه منه وهو كذب وحكى عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا تجوز الرواية بالمناولة والإجازة وليس بصحيح لأن المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق وقوله هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف كقراءته والقراءة عليه فأما إن قال سماعي ولم يقل اروه عني فلا يجوز الرواية عنه لأنه لم يأذن له فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه وكذا لو قال عندي شهادة لا يشهد بها ما لم يقل أذنت لك أن تشهد على شهادتي فالرواية شهادة والإنسان قد يتساهل في الكلام لكن عند الجزم بها يتوقف وكذلك لو وجد شيئا مكتوبا بخطه لا يرويه عنه لكن يجوز أن يقول وجدت بخط فلان أما إذا قال العدل هذه نسخة من صحيح البخاري ليس له أن يروي عنه وهل يلزم العمل به فقيل إن كان مقلدا فليس له العمل به لأن فرضه تقليد المجتهد وإن كان مجتهدا لزمه لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الناس يعتمدون عليها بشهادة حاملها بصحتها دون أن يسمعها كل واحد منه فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن وقيل لا يجوز العمل بما لم يسمعه والله أعلم (1/121)
جواز رواية السماع إذا كان بخط ثقة
فصل
إذا وجد سماعه بخط يوثق به جاز له أن يرويه وإن لم يذكر سماعه إذا غلب على ظنه أنه سمعه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز قياسا على الشهادة ولنا ما ذكرنا من اعتماد الصحابة على كتب النبي صلى الله عليه و سلم ولأن مبني الرواية على حسن الظن وغلبته بناء على دليل وقد وجد ذلك والشهادة لا نسلمها على إحدى الروايتين وعلى الأخرى الشهادة آكد لما علم بينهما من الفروق والله أعلم
الشك في السماع
فصل
إذا شك في سماع حديث من شيخه لم يجز أن يرويه عنه لأن روايته عنه شهادة عليه فلا يشهد بما لم يعلم وإن شك في حديث من سماعه والتبس عليه لم يجز أن يروي شيئا منها مع الشك لما ذكرنا فإن غلب على ظنه في حديث أنه مسموع فقال قوم يجوز اعتمادا على غلبة الظن وقيل لا يجوز لأنه يمكن اعتبار العلم بما يرويه فلا يجوز أن يرويه مع الشك فيه كالشهادة
الشك في الخبر
فصل
إذا أنكر الشيخ الحديث وقال لست أذكره لم يقدح ذلك في الخبر في قول إمامنا ومالك والشافعي وأكثر المتكلمين ومنه منه (1/122)
الكرخي قياسا على الشهادة وليس بصحيح لأن الراوي عدل جازم بالرواية فلا نكذبه بل قال لست أذكره فيمكن الجمع بين قوليهما بأن يكون نسيه فإن النسيان غالب على الإنسان وأي محدث يحفظ جميع حديثه فيجب العمل به جمعا بين قوليهما والشهادة تفارق الرواية في أمور كثيرة
منها أن لا تسمع شهادة الفرع مع القدرة على الأصل والرواية بخلافه فإن الصحابة كان بعضهم يروي عن بعض مع القدرة على مراجعة النبي صلى الله عليه و سلم ولهذا كان يلزمهم قبول قول رسله وسعاته من غير مراجعة وأهل قباء تحولوا إلى القبلة بقول واحد من غير مراجعة وأبو طلحة وأصحابه قبلوا خبر الواحد في تحريم الخمر من غير مراجعة والله أعلم وقد روى ربيعة بن عبدالرحمن عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم حدثني ربيعة عني أني حدثته فلا ينكره أحد من التابعين (1/123)
الزيادة من الثقة في الحديث
فصل
انفراد الثقة في الحديث بزيادة مقبول سواء كانت لفظا أو معنى لأنه لو انفرد بحديث لقبل فكذلك إذا انفرد بزيادة وغير ممتنع أن ينفرد بحفظ الزيادة إذ أن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم ذكر ذلك في مجلسين وذكر الزيادة في أحدهما ولم يحضرها الناقص ويحتمل أن راوي الناقص دخل أثناء المجلس أو عرض له في أثنائه ما يزعجه أو ما يدهشه عن الإصغاء أو ما يوجب له القيام قبل التمام أو سمع الكل ونسي الزيادة والراوي للتمام عدل جازم بالرواية فلا نكذبه مع إمكان تصديقه فإن علم أن السماع كان في مجلس واحد فقال أبو الخطاب يقدم قول الأكثرين وذوي الضبط فإن تساووا في الحفظ والضبط قدم قول المثبت وقال القاضي إذا تساووا فعلى روايتين
رواية الحديث بالمعنى
فصل
وتجوز رواية الحديث بالمعنى للعالم المفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر والعام والأعم عند الجمهور فيبدل لفظا مكان لفظ فيما لا يختلف الناس فيه كالألفاظ المترادفة مثل القعود والجلوس والصب والإراقة والحظر والتحريم والمعرفة والعلم وسائر ما لا يشك فيه ولا يتطرق إليه الاستنباط والفهم ولا يجوز إلا فيما فهمه قطعا دون ما فهمه بنوع استنباط واستدلال يختلف فيه
ولا يجوز أيضا للجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ
ومنع منه بعض أصحاب الحديث مطلقا لقول النبي صلى الله عليه و سلم (1/124)
نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ولنا الإجماع على جواز شرح الحديث للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال كلمة عربية بأعجمية ترادفها فبعربية أولى وكذلك كان سفراء النبي صلى الله عليه و سلم يبلغونهم أوامره بلغتهم وهذا لأنا نعلم أنه لا يعتد باللفظ وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق ويدل على ذلك ان الخطب المتحدة والوقائع رواها الصحابة بألفاظ مختلفة ولأن الشهادة آكد من الرواية ولو سمع الشاهد شاهدا يشهد بالعجمية جاز أن يشهد شهادته بالعربية ولأنه تجوز الرواية عن غير النبي صلى الله عليه و سلم بالمعنى فكذلك عنه فإن الكذب فيهما حرام والحديث حجة لنا لأنه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه والفهم ونحن لا نجوزه لغير من يفهم
جواب آخر أن من روى بالمعنى فقد روى كما سمع ولهذا لا يعد كذبا
قال أبو الخطاب لايجوز أن يبدل لفظا بأظهر منه لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم باللفظ الجلي تارة وبالخفي أخرى
مراسيل الصحابة
فصل
مراسيل اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم مقبولة عند الجمهور
وشذ قوم فقالوا لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي وإلا فلا لأنه قد يروي عمن لم تثبت لنا صحبته
وهذا ليس بصحيح فإن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من اصاغر الصحابة مع إكثارهم وأكثر روايتهم عن النبي صلى الله عليه و سلم (1/125)
مراسيل قال البراء بن عازب ما كل ما حدثنا به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعناه منه غير أننا لا نكذب وكثير منهم كان يرسل الحديث فإذا استكشف قال حدثني به فلان كأبي هريرة وابن عباس وغيرهما
والظاهر أنهم لا يروون إلا عن صحابي والصحابة معلومة عدالتهم فإن رووا عن غير صحابي فلا يروون إلا عمن علموا عدالته والرواية من غير عدل وهم بعيد لا يلتفت إليه ولا يعول عليه
مراسيل غير الصحابة
فصل
فأما مراسيل غير الصحابة وهو أن يقول قال النبي صلى الله عليه و سلم من لم يعاصره أو يقول قال أبو هريرة من لم يدركه ففيها روايتان إحداهما تقبل اختارها القاضي وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجماعة من المتكلمين والأخرى لا تقبل وهو قول الشافعي وبعض اهل الحديث وأهل الظاهر ولهم دليلان
أحدهما أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله فإذا لم يسمه فالجهل أتم إذ من لا يعرف عينه كيف نعرف عدالته
الثاني أن شهادة الفرع لا تقبل ما لم يعين شاهد الأصل فكذاالرواية وافتراق الشهادة والرواية في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما لا يوجب فرقا في قبول رواية المجروح المجهول (1/126)
ووجه الرواية الأولى أن الظاهر من العدل الثقة أنه لا يستجيز أن يخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم بقول ويجزم به إلا بعد أن يعلم ثقة ناقله وعدالته ولا يحل له إلزام الناس عبادة أو تحليل حرام أو تحريم مباح بأمر مشكوك فيه فيظهر أن عدالته مستقرة عنده فهو بمنزلة قوله أخبرني فلان وهو ثقة عدل ولو شك في الحديث ذكر من حدثه لتكون العهدة عليه دونه ولهذا قال إبراهيم النخعي إذا رويت عن عبدالله وأسندت فقد حدثني واحد وإذا أرسلت فقد حدثني جماعة عنه
وأما المجهول فإن الرواية عنه ليست بتعديل له في إحدى الروايتين وفي الأخرى تكون تعديلا على ما مضى ولا كذلك ههنا
والرواية تفارق الشهادة في أمور كثيرة منها اللفظ والمجلس والعدد والذكورية والحرية عندهم والعجز عن شهود الأصل وأنه لايجوز لشهود الفرع الشهادة حتى تحملهم إياها شهود الأصل فيقولوا اشهدوا على شهادتنا والرواية تخالف هذا فجاز اختلافهما في هذا الحكم
قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى
فصل
ويقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى كرفع اليدين في الصلاة ومس الذكر ونحوه في قول الجمهور وقال أكثر الحنفية لا يقبل لأن ما تعم به (1/127)
به البلوى كخروج النجاسة من السبيلين يوجد كثيرا وتنتقض به الطهارة ولا يحل للنبي صلى الله عليه و سلم أن لا يشيع حكمه إذ يؤدي إلى إخفاء الشريعة وإبطال صلاة الخلق فتجب الإشاعة فيه ثم تتوفر الدواعي على نقله فكيف يخفى حكمه وتقف روايته على الواحد ولنا أن الصحابة قبلوا خبر عائشة في الغسل من الجماع بدون الإنزال وخبر رافع بن خديج في المخابرة ولأن الراوي عدل جازم بالرواية وصدقه ممكن فلا يجوز تكذيبه مع إمكان تصديقه ولأن ما تعم به البلوى يثبت بالقياس والقياس مستنبط من الخبر وفرع له فلأن يثبت بالخبر الذي هو أصل أولى وما ذكروه يبطل بالوتر والقهقهة وخروج النجاسة من غير السبيل وتثنية الإقامة فإنه مما تعم به البلوى وقد أثبتوه بخبر الواحد ولم يكلف الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم إشاعة جميع الأحكام بل كلفه إشاعة البعض ورد الخلق في البعض إلى خبر الواحد كما ردهم إلى القياس في قاعدة الربا وكان يسهل عليه أن يقول لا تبيعوا المكيل بالمكيل والمطعوم بالمطعوم حتى يستغنى عن الاستنباط من الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما يقتضي مصلحة الخلق أن يرد فيه إلى خبر الواحد (1/128)
قبول خبر الواحد في الحدود
فصل
ويقبل خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات وحكى عن الكرخي أنه لا يقبل لأنه مظنون فيكون ذلك شبهة فلا يقبل لقوله عليه السلام ادرأوا الحدود بالشبهات وهذا غير صحيح فإن الحدود حكم شرعي يثبت بالشهادة فيقبل فيه خبر الواحد كسائر الأحكام ولأن ما يقبل فيه القياس المستنبط من خبر الواحد فهو بالثبوت بخبر الواحد أولى وما ذكروه يبطل الشهادة والقياس فإنهما مظنونان ويقبلان في الحدود
قبول خبر الواحد فيما يخالف القياس
فصل
ويقبل خبر الواحد فيما يخالف القياس وحكي عن مالك أن القياس يقدم عليه وقال أبو حنيفة إذا خالف الأصول أو معنى الأصول لم يحتج به وهو فاسد فإن معاذا قدم الكتاب والسنة على الاجتهاد فصوبه النبي صلى الله عليه و سلم (1/129)
وقد عرفنا من الصحابة رضي الله عنهم في مجاري اجتهاداتهم أنهم كانوا يعدلون إلى القياس عند عدم النص ولذلك قدم عمر حديث حمل بن مالك في غرة الجنين وكان يفاضل بين ديات الأصابع ويقسمها على قدر منافعها فلما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في كل أصبع عشر من الإبل رجع عنه إلى الخبر وكان بمحضر من الصحابة
ولأن قول النبي صلى الله عليه و سلم كلام المعصوم وقوله والقياس استنباط الراوي وكلام المعصوم أبلغ في إثارة غلبة الظن
ثم أصحاب أبي حنيفة قد أوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر وأبطلوا الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة دون خارجها وحكموا في القسامة بخلاف القياس وهو مخالف للأصول
الأصل الثالث الإجماع
فصل
ومعنى الإجماع في اللغة الاتفاق يقال أجمعت الجماعة على كذا إذا اتفقوا عليه ويطلق بإزاء تصميم العزم يقال أجمع فلان رايه على كذا إذا صمم عزمه قال الله تعالى فأجمعوا أمركم وشركاءكم
ومعنى الإجماع في الشرع اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم (1/130)
على أمر من أمور الدين
ووجوده متصور فإن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام وكيف يمنع تصوره والأمة كلها متعبدة بالنصوص والأدلة القواطع معرضون للعقاب بمخالفتها وكما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب لا يمتنع اتفاقهم على أمر من أمور الدين وإذا جاز اتفاق اليهود مع كثرتهم على باطل فلم لا يجوز اتفاق أهل الحق عليه
ويعرف الإجماع بالإخبار والمشافهة فإن الذين يعتبر قولهم في الإجماع هم العلماء المجتهدون وهم مشتهرون معروفون فيمكن تعرف أقوالهم من الآفاق والإجماع حجة قاطعة عند الجمهور
وقال النظام ليس بحجة وقال والإجماع كل قول قامت حجته ليدفع عن نفسه شناعة قوله وهذا خلاف اللغة والعرف
ولنا دليلان أحدهما قول الله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية وهذا يوجب اتباع سبيل المؤمنين ويحرم مخالفتهم
فإن قيل إنما توعد على مشاقة الرسول وترك اتباع سبيل المؤمنين معا أو على ترك أحدهما بشرط ترك الآخر فالتارك لأحدهما بمفرده لا يلحق به الوعيد
ومن وجه آخر وهو أنه إنما ألحق الوعيد لتارك سبيلهم إذا بان له الحق لقوله تعالى من بعد ما تبين له الهدى والحق في هذه المسألة من (1/131)
جملة الهدى فيدخل فيها ويحتمل أنه توعد على ترك سبيلهم فيما صاروا فيه مؤمنين ويحتمل أنه أراد بالمؤمنين جميع الأمة إلى قيام الساعة فلا يحصل الإجماع بقول أهل عصر ولأن المخالف من جملة المؤمنين فلا يكون تاركا لاتباع سبيلهم بأسرهم ولو قدر أنه لم يرد شيئا من ذلك غير أنه لا يقطع الاحتمال والإجماع أصل لا يثبت بالظن
قلنا التوعد على الشيئين يقتضي أن يكون الوعيد على كل واحد منهما منفردا أو بهما معا ولا يجوز أن يكون لاحقا بأحدهما معينا والآخر لا يلحق به وعيد كقول القائل من زنى وشرب ماء عوقب وهذا لا يدخل في القسم الثاني لأن مشاقة الرسول بمفردها تثبت العقوبة فثبت أنه من القسم الأول
وأما الثاني فلا يصح فإنه توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين مطلقا من غير شرط وإنما ذكر تبين الهدي عقيب قوله ومن يشاقق الرسول وليس بشرط لإلحاق الوعيد على مشاقة الرسول اتفاقا فلأن لا يكون شرطا لترك اتباع سبيل المؤمنين مع انه لم يذكر معه أولى
وأما الثالث فنوع تأويل وحمل اللفظ على صورة واحدة
الدليل الثاني من السنة قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على ضلالة وروى لا تجتمع على خطأ وفي لفظ لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على خطأ وقال ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن (1/132)
وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح وقال من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وقال من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية وقال عليكم بالسواد الأعظم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله والمناصحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين ونهي عن الشذوذ وقال من شذ شذ في النار وقال لاتزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وقال من أراد بحبوحة الجنة فليلزم (1/133)
الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهودة في الصحابة والتابعين لم يدفعها أحد من السلف والخلف وهي وإن لم تتواتر آحادها حصل لنا بمجموعها العلم الضروري أن النبي صلى الله عليه و سلم عظم شأن هذه الأمة وبين عصمتها عن الخطأ وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى تصديق شجاعة علي وسخاء حاتم وعلم عائشة وإن لم يكن آحاد الأخبار فيها متواترا بل يجوز على كل واحد منها الكذب لو جردنا النظر إليه ولا يجوز على المجموع ويشبه ذلك ما يحصل فيه العلم بمجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال وتحصل بمجموعها العلم الضروري
ومن وجه آخر أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع ولا يظهر فيه أحد خلافا إلى زمن النظام ويستحيل في مطرد العادة ومستقرها توافق الأمم في أعصار مطردة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته مع اختلاف الطباع وتباين المذاهب في الرد والقبول ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه
ومن وجه آخر وهو أن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلا مقطوعا (1/134)
به وهو الإجماع الذي يحكم على كتاب الله وسنة رسوله ويستحيل في العادة التسليم بخبر يرفعون به الكتاب المقطوع به إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به أما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستنده إلى خبر غير معلوم الصحة وكيف يذهل عنه جميع الأمة إلى زمن النظام فيختص بالتنبيه له هذا وجه الاستدلال
عدد من ينعقد بهم الإجماع
فصل
ولا يشترط في أهل الإجماع أن يبلغوا عدد التواتر لأن الحجة في قولهم لصيانة الأمة عن الخطأ بالأدلة المذكورة فإذا لم يكن على الأرض مسلم سواهم فهم على الحق يقينا صيانة لهم عن الاتفاق على الخطأ
من هو أهل للإجماع
فصل
ولا اختلاف في اعتبار علماء العصر من أهل الاجتهاد في الإجماع وأنه لا يعتد بقول الصبيان والمجانين فأما العوام فلا يعتبر قولهم عند الأكثرين
وقال قوم يعتبر قولهم لدخولهم في اسم المؤمنين ولفظ الأمة وهذا (1/135)
القول يرجع إلى إبطال الإجماع إذ لا يتصور قول الأمة كلهم في حادثة واحدة وإن تصور فمن الذي ينقل قول جميعهم مع كثرتهم وتفرقهم في البوادي والأمصار والقرى
ولأن العامي ليس له آلة هذا الشأن فهو كالصبي في نقصان الآلة ولا يفهم من عصمة الأمة عن الخطأ إلا عصمة من تتصور منه الإصابة لأهليته والعامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل وليس يدري ما يقول
ولهذا انعقد الإجماع على أنه يعصي بمخالفة العلماء ويحرم عليه ذلك ولذلك ذم النبي صلى الله عليه و سلم الرؤساء الجهال الذين أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء وتحريم الفتوى بالجهل والهوى
لا يقدح في الإجماع مخالفة أهل الكلام ومن في حكمهم
فصل
ومن يعرف من العلم ما لا أثر له في معرفة الحكم كأهل الكلام واللغة والنحو ودقائق الحساب فهو كالعامي لا يعتد بخلافه فإن كل أحد عامي بالنسبة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما سواه
فأما الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع والفقيه الحافظ لأحكام الفروع من غير معرفة بالأصول والنحوي إذا كان الكلام في مسألة تنبني على النحو فلا يعتد بقولهم أيضا (1/136)
وقال قوم لا ينعقد الإجماع بدونهم لأن الأصولي مثلا العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنطوق وصيغة الأمر والنهي والعموم يتمكن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع وآية ذلك أن العباس وطلحة والزبير ونظراءهم ممن لم ينصب نفسه للفتيا نصب العبادلة وزيد بن ثابت ومعاذا يعتد بخلافهم وكيف لا يعتد بهم وهم (1/137)
يصلحون للإمامة العظمى وقد سمى بعضهم في الشورى ولم يكونوا يحفظون الفروع بل لم تكن الفروع موضوعة بعد لكن عرفوا الكتاب والسنة وكانوا أهلا لفهمهما والحافظ للفروع قد لا يحفظ دقائق مسائل الحيض والوصايا
فأصل هذه الفروع لأصل هذه الدقائق
ولنا أن من لا يعرف الأحكام لا يعرف النظير فيقيس عليه ومن لا يعرف الاستنباط مع عدم معرفته ما يستنبط منه لا يمكنه الاستنباط وكذلك من يعرف النصوص ولا يدري كيف يتلقى الأحكام منها كيف يمكنه تعرف الأحكام
وأما الصحابة الذين ذكروهم فقد كانوا يعلمون أدلة الأحكام وكيفية الاستنباط وإنما استغنوا بغيرهم واكتفوا بمن سواهم
فإن قيل فهذه المسألة اجتهادية ام قطعية قلنا اجتهادية فمتى جوزنا أن يكون قول واحد من هؤلاء معتبرا فخالف لم يبق الاجماع حجة قاطعة
لا يعتد في الإجماع بقول كافر
فصل
ولا يعتد في الإجماع بقول كافر سواء بتأويل أو بغيره فأما الفاسق باعتقاد أو فعل فقال القاضي لا يعتد بهم وهو قول جماعة لقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس أي عدولا وهذا غير عدل فلا تقبل روايته ولا شهادته ولا قوله في الإجماع ولأنه لا يقبل قوله منفردا فكذلك مع غيره وقال أبو الخطاب يعتد بهم لدخولهم في قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله عليه السلام لا (1/138)
تجتمع أمتي على خطأ
الاعتداد بقول مجتهدي التابعين في عصر الصحابة
مسألة
وإذا بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة اعتد بخلافه في الإجماع عند الجمهور واختاره أبو الخطاب وقال القاضي وبعض الشافعية لا يعتد به وقد أومأ أحمد رضي الله عنه إلى القولين
وجه قول القاضي أن الصحابة شاهدوا التنزيل وهم أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد وقولهم حجة على من بعدهم فهم مع التابعين كالعلماء مع العامة ولذلك قدمنا تفسيرهم وأنكرت عائشة على أبي سلمة حين خالف ابن عباس قال إنما مثلك مثل الفروج سمع الديكة تصيح فصاح لصياحها (1/139)
ووجه الأول أنه إذا بلغ رتبة الاجتهاد فهو من الأمة فإجماع غيره لا يكون إجماع كل الأمة والحجة إجماع الكل نعم لو بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم فهو مسبوق بالإجماع فهو كمن أسلم بعد تمام الإجماع ولا خلاف أن الصحابة رضي الله عنهم سوغوا اجتهاد التابعين ولهذا ولى عمر رضي الله عنه شريحا القضاء وكتب إليه مالم تجد في السنة اجتهد رأيك وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبدالله كعلقمة والأسود وغيرهما وسعيد بن المسيب وفقهاء المدينة كانوا يفتون في عصر الصحابة (1/140)
رضي الله عنهم فكيف لا يعتد بخلافهم وقد روى الإمام أحمد في الزهد أن أنسا سئل عن مسألة فقال سلوا مولانا الحسن فإنه غاب وحضرنا وحفظ ونسينا وإنما يفضل الصحابي بفضيلة الصحبة أليس فيكم أبو الشعثاء يعني جابر بن زيد وروى نحوه عن جابر بن عبدالله وإنما فضل الصحابي بفضيلة الصحبة ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول متأخري الصحابة بقول متقدميهم وقول المتقدم منهم بقول العشرة وقول العشرة بقول الخلفاء وقولهم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإنكار عائشة على أبي سلمة مخالفة ابن عباس قد خالفها أبو هريرة فقال أنا مع ابن اخي هي قضية في عين يحتمل أنها أنكرت عليه ترك التأدب مع ابن عباس أو لم تره بلغ رتبة الاجتهاد أو غير ذلك من المحتملات والله أعلم (1/141)
انعقاد الإجماع بقول أكثر أهل العصر
فصل
ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من اهل العصر في قول الجمهور
وقال محمد بن جرير وأبو بكر الرازي ينعقد وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله ووجهه أن مخالفة الواحد شذوذ وقد نهى عن الشذوذ وقال عليه السلام عليكم بالسواد الآعظم وقال الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد
ولنا أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها وليس هذا إجماع الجميع بل هو مختلف فيه وقد قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله
فإن قيل قد يطلق اسم الكل على الأكثر قلنا هذا مجاز لأن الجمع العرفي حقيقة في الاستغراق ولهذا يصح أن يقال إنهم ليسوا كل المؤمنين ولا يجوز التخصيص بالتحكم وقد وردت نصوص تدل على قلة أهل الحق وذم الأكثرين كقوله تعالى ولكن أكثرهم لا يعقلون ونحوها وقليل ماهم (1/142)
وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وقليل من عبادي الشكور وقال صلى الله عليه و سلم بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ فطوبي للغرباء
دليل ثان إجماع الصحابة على تجويز المخالفة للآحاد فانفرد ابن مسعود بخمس مسائل في الفرائض وابن عباس بمثلها فإن قيل فقد أنكروا على ابن عباس القول بالمتعة وإنما الربا في النسيئة وأنكرت عائشة على زيد ابن أرقم مسألة العينة وأنكر ابن عباس على من خالفه في العول والجد قلنا إنما أنكروا عليهم لمخالفتهم السنة المشهورة والأدلة الظاهرة ثم هب أنهم أنكروا عليهم والمنفرد منكر عليهم إنكارهم فلم ينعقد الإجماع فلا حجة في إنكارهم والشذوذ يتحقق بالمخالفة بعد الوفاق ولعله أراد (1/143)
به الشاذ من الجماعة الخارج على الإمام على وجه يثير الفتنة كفعل الخوارج وهذا الجواب عن الحديث الآخر والله أعلم
إجماع أهل المدينة
فصل
وإجماع أهل المدينة ليس بحجة وقال مالك هو حجة لأنها معدن العلم ومنزل الوحي وبها أولاد الصحابة فيستحيل اتفاقهم على غير الحق وخروجه عنهم
ولنا أن العصمة تثبت للأمة بكليتها وليس أهل المدينة كل الأمة وقد خرج من هو أعلم من الباقين بها كعلي وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وأبي عبيدة وأبي موسى وغيرهم من الصحابة فلا ينعقد الإجماع بدونهم وقولهم يستحيل خروج الحق عنهم تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع رجل حديثا من النبي صلى الله عليه و سلم في سفر أو في المدينة ثم يخرج منها قبل نقله وفضل المدينة لا يوجب انعقاد الإجماع بأهلها فإن مكة أفضل منها ولا أثر لها في الإجماع ولأن أجماعهم لو كان حجة لوجب أن يكون حجة في جميع الأزمنة ولا خلاف في أن قولهم لا يعتد به في زماننا فضلا عن أن يكون إجماعا (1/144)
اتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع
فصل
واتفاق الآئمة الخلفاء الأربعة ليس بإجماع وقد نقل عن احمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يخرج من قولهم إلى قول غيرهم والصحيح أن ذلك ليس بإجماع لما ذكرناه وكلام أحمد في إحدى الروايتين عنه يدل على أن قولهم حجة ولا يلزم من كل ما هو حجة ان يكون إجماعا
هل انقراض أهل العصر شرط لصحة الإجماع
مسألة
ظاهر كلام أحمد رحمه الله أن انقراض أهل العصر شرط في صحة الإجماع وهو قول بعض الشافعية وقد أومأ إلى أن ذلك ليس بشرط بل لو اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة واحدة انعقد الإجماع وهو قول الجمهور واختاره أبو الخطاب وأدلة ذلك أربعة
أحدها أن دليل الإجماع الآية والخبر وذلك لا يوجب اعتبار العصر
الثاني أن حقيقة الإجماع الاتفاق وقد وجد ودوام ذلك استدامة له والحجة في اتفاقهم لا في موتهم
الثالث أن التابعين كانوا يحتجون بالإجماع في زمن أواخر الصحابة كأنس وغيره ولو اشترط انقراض العصر لم يجز ذلك
الرابع أن هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذا لم يتم الإجماع وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم فلتابعي التابعين مخالفتهم وهذا خبط
ووجه الأول أمران
أحدهما ذكره الإمام احمد وهو أن أم الولد كان حكمها حكم الأمة (1/145)
بإجماع ثم أعتقهن عمر وخالفه علي بعد موته وحد الخمر كان في زمن أبي بكر أربعين ثم جلد عمر ثمانين ثم جلد على أربعين ولو لم يشترط انقراض العصر لم يجز ذلك
الثاني أن الصحابة لو اختلفوا على قولين فهو اتفاق منهم على تسويغ الخلاف والأخذ بكل واحد من القولين فلو رجعوا إلى قول واحد صارت المسألة إجماعا ولو لم يشترط انقراض العصر لم يجز ذلك لأنه يفضي إلى خطأ أحد الإجماعين
فإن قيل لا نسلم تصور وقوع هذا لكونه يفضي إلى خطأ أحد الإجماعين ثم إن سلمنا تصوره فلا نسلم أن اختلافهم إجماع على تسويغ الخلاف بل كل طائفة تقول الحق معنا والأخرى مخطئة وإنما سوغت للعامي أن يستفتي كل أحد حتى لا يتحرج فإذا اتفقوا زال القول الآخر لعدم من يفتي به
الثالث لا نسلم أن إجماعهم بعد الاختلاف إجماع صحيح
قلنا هذا متصور عقلا إذ لا يمتنع أن يتغير اجتهاد المجتهد ولا نحجر عليه أن يوافق مخالفه فمن ذهب إلى تصحيح النكاح بغير ولي لم لا يجوز له أن يوافق من أبطله إذا ظهر له دليل بطلانه وإذا انفرد الواحد عن الصحابة كانفراد ابن عباس في مسألة العول لم لا يجوز أن يرجع إلى قولهم وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتال ما نعي الزكاة بعد الخلاف وعلى أن الأئمة من قريش وعلى إمامة أبي بكر رضي الله عنه بعد الخلاف ولا خلاف في تجويز ذلك في القطعيات فلم لا يجوز في الظنيات ومنع ذلك بناء على تعارض الإجماعين ينبني على أن الإجماع تم في بعض العصر وهو محل النزاع فكيف يجعل دليلا عليه (1/146)
والثاني باطل إذ لا خلاف أن فرض المجتهد في مسائل الاجتهاد ما يؤديه إليه اجتهاده وفرض المقلد تقليد أي المجتهدين شاء
والثالث دليله إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر بعد الاختلاف فدل على صحته
إجماع أهل كل عصر حجة
فصل
إجماع أهل كل عصر حجة كإجماع الصحابة خلافا لداود وقد أومأ احمد رحمه الله إلى نحو ذلك لأن الواجب اتباع سبيل المؤمنين جميعهم والصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا من المؤمنين ولا من الأمة ولذلك لو أجمع التابعون على أحد قولي الصحابة لم يصر إجماعا ولا ينعقد الإجماع دون الغائب فكذلك الميت ومقتضى هذا أن لا ينعقد الإجماع أيضا للصحابة لكن لو اعتبرنا ذلك لم ينتفع بالإجماع فاعتبرنا قول من دخل في الوجود دون من لم يوجد أو نقول الآية والخبر تناولا الموجودين الذين كان وجودهم حين نزول الآية إذ المعدوم لا يوصف بإيمان ولا أنه من الأمة ولأنه يحتمل أن يكون لبعض الصحابة في هذه الحادثة قول لم نعلمه يخالف ما أجمع عليه التابعون فلا ينعقد إجماعهم بخلافه
ولنا ما ذكرناه من الأدلة على قبول الإجماع من غير تفريق بين عصر (1/147)
وعصر والتابعون إذاأجمعوا فهو إجماع من الأمة ومن خالفهم سالك غير سبيل المؤمنين ويستحيل بحكم العادة شذوذ الحق عنهم مع كثرتهم كما سبق ولأنه إجماع أهل العصر فكان حجة كإجماع الصحابة وما ذكروه باطل إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد الإجماع بعد موت من مات من الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وبعده بعد نزول الآية كشهداء أحد واليمامة ولا خلاف في أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع وكما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين فالماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر وكلية الأمة حاصلة لكل الموجودين في كل وقت ويدخل في ذلك الغائب لأنه ذو مذهب تمكن مخالفته وموافقته بالقوة والميت لا يتصور في حقه وفاق ولا خلاف لا بالقوة ولا بالفعل بل الطفل والمجنون لا ينتظر لأنه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف فالميت أولى وما ذكر من احتمال مخالفة واحد من الصحابة يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة مخالفته وهذا هو التحقيق لأنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج إذ ما من حكم إلا يتصور تقدير نسخه ولم ينقل وإجماع الصحابة يحتمل أن يكون واحد منهم أضمر المخالفة وأظهر الموافقة لسبب أو رجع بعد أن وافق والخبر يحتمل ان يكون كذبا فلا يلتفت إلى هذه الاحتمالات
إجماع التابعين على احد قولي الصحابة
فصل
وإذا اختلف الصحابة على قولين فأجمع التابعون على أحدهما فقال أبو الخطاب والحنفية يكون إجماعا لقوله عليه السلام لا تزال طائفة من أمتي على الحق وغيره من النصوص ولأنه اتفاق من أهل عصر (1/148)
فهو كما لو اختلف الصحابة على قولين ثم اتفقوا على أحدهما
وقال القاضي وبعض الشافعية لا يكون إجماعا لأنه فتيا بعض الأمة لأن الذين ماتوا على القول الآخر من الأمة لا يبطل مذهبهم بموتهم ولذلك يقال خالف ا حمد او وافق بعد موته فأشبه ما إذا اختلفوا على قولين فانقرض القائل بأحدهما
فإن قيل إن ثبت نعت الكلية للتابعين فيكون خلاف قولهم حراما وإن لم يكونوا كل الأمة فلا يكون قولهم إجماعا أما أن يكونوا كل الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض
قلنا الكلية تثبت بالإضافة إلى مسألة حدثت في زمنهم أما ما أفتى به الصحابي فقوله لا يسقط بموته ولو مات القائل فأجمع الباقون على خلافه كان إجماعا
ومن وجه آخر أن اختلاف الصحابة على قولين اتفاق منهم على تسويغ الأخذ بكل منهما فلا يبطل إجماعهم بقول من سواهم
إجماع الصحابة على قولين يمنع احداث قول ثالث
فصل
إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث في قول الجمهور وقال بعض الحنفية وبعض أهل الظاهر يجوز لأمور ثلاثة
أحدها أن الصحابة خاضوا خوض مجتهدين ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث
الثاني أنه لو استدل الصحابة بدليل وعللوا بعلة جاز الاستدلال والتعليل بغيرهما لأنهم لم يصرحوا ببطلانه كذا هنا (1/149)
الثالث أنهم لو اختلفوا في مسألتين فذهب بعضهم إلى الجواز فيهما وذهب الآخرون إلى التحريم فيهما فذهب التابعي إلى التجويز في أحدهما والتحريم في الأخرى كان جائزا وهو قول ثالث
ولنا أن ذلك يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق والغفلة عنه فإنه لو كان الحق في القول الثالث كانت الأمة قد ضيعته وغفلت عنه وخلا العصر من قائم لله بحجته ولم يبق منهم عليه أحد وذلك محال
قولهم لم يصرحوا بتحريم قول ثالث قلنا ولو اتفقوا على قول واحد فهو كذلك ولو لم يجوزوا خلافه فأما إذا عللوا بعلة فيجوز بسواها لأنه ليس من فرض دينهم الاطلاع على جميع الأدلة بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد وليس على الإطلاع على علة أخرى نسبة إلى تضييع الحق بخلاف مسألتنا
وأما إذا اختلفوا في مسألتين فإنهم إن صرحوا بالتسوية بين المسألتين فهو كمسألتنا لا يجوز التفريق وإن لم يصرحوا به جاز التفريق لأن قوله في كل مسألة موافق لمذهب طائفة ودعوى المخالفة للإجماع ههنا جهل بمعنى المخالفة إذ المخالفة نفي ما أثبتوه أو إثبات ما نفوه ولم يتفق أهل العصر على إثبات أو نفي في حكم واحد ليكون القول بالنفي والإثبات مخالفا ولا يلتئم الحكم من المسألتين بل نقول لا يخلو الإنسان من خطأ ومعصية والخطأ موجود من جميع الأمة وليس محالا إنما المحال الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا تقوم به طائفة ولهذا يجوز أن تنقسم الأمة في مسألتين إلى فريقين فتخطىء فرقة في مسألة وتصيب فيها الأخرى وتخطىء في المسألة الأخرى وتصيب فيها المخطئة الأولى والله اعلم (1/150)
الإجماع السكوتي
فصل
إذا قال بعض الصحابة قولا فانتشر في بقية الصحابة فسكتوا فإن لم يكن قولا في تكليف فليس بإجماع وإن كان فعن أحمد رضي الله عنه ما يدل على أنه إجماع وبه قال أكثر الشافعية
وقال بعضهم يكون حجة ولا يكون إجماعا
وقال جماعة آخرون لا يكون حجة ولا إجماعا ولا ننسب إلى ساكت قولا إلا أن تدل قرائن الأحوال على أنهم سكتوا مضمرين للرضا وتجويز الأخذ به
وقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب
أحدها أن يكون لمانع في باطنه لا يطلع عليه
الثاني أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب
الثالث أن لا يرى الإنكار في المجتهدات ويرى ذلك القول سائغا لمن أداه اجتهاده إليه وإن لم يكن هو موافقا
الرابع أن لا يرى البدار في الإنكار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله فيموت قبل زواله أو يشتغل عنه
الخامس أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما حين سكت عن القول بالعول في زمن عمر رضي الله عنه كان رجلا مهيبا فهبته (1/151)
السادس أن يسكت لأنه متوقف في المسألة لكونه في مهلة النظر
السابع أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الأنكار وأغناه عن الإظهار لأنه فرض كفاية ويكون قد غلط فيه وأخطأ في وهمه
ولنا أن حال الساكت لا يخلو من سبعة أقسام
أحدها أن يكون لم ينظر في المسألة
الثاني أن ينظر فيها فلا يتبين له الحكم وكلاهما خلاف الظاهر لأن الدواعي متوفره والأدلة ظاهرة وترك النظر خلاف عادة العلماء عند النازلة ثم يفضي ذلك إلى خلو الأرض عن قائم لله بحجته
الثالث أن يسكت تقية فلا يظهر سببها ثم يظهر قوله عند ثقاته وخاصته فلا يلبث القول أن ينتشر
الرابع أن يكون سكوته لعارض لم يظهر وهو خلاف الظاهر ثم يفضي إلى خلو العصر عن قائم لله بحجته
الخامس أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب وليس ذلك قولا لأحد من الصحابة ولهذا عاب بعضهم على بعض وأنكر بعضهم على بعض مسائل انتحلوها
ثم العادة أن من ينتحل مذهبا يناظر عليه ويدعو إليه كما نشاهد في زمننا
السادس أن لا يرى الإنكار في المجتهدات وهو بعيد لما ذكرناه فثبت أن سكوته كان لموافقته
ومن وجه آخر أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة فنقل إليهم قول صحابي منتشر وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه فهو إجماع (1/152)
منهم على كونه حجة ومن وجه آخر أنه لو لم يكن هذا إجماعا لتعذر وجود الإجماع إذ لم ينقل إلينا في مسألة قول كل علماء العصر مصرحا به وقول من قال هو حجة وليس بإجماع غير صحيح فإنا إن قدرنا رضا الباقين كان إجماعا وإلا فيكون قول بعض أهل العصر والله أعلم
انعقاد الإجماع عن الاجتهاد والقياس
فصل
مسألة يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة
وقال قوم لايتصور ذلك إذ كيف يتصور اتفاق الأمة مع اختلاف طبائعها وتفاوت أفهامها على مظنون أم كيف تجتمع على قياس مع اختلافهم في القياس
وقال آخرون هو متصور وليس بحجة لأن القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد ولا يجب
ولنا أن هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال أما الظن الأغلب فيميل إليه كل واحد فأي بعد في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في التحريم لكونه في معناه في الإسكار وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات وظواهر وأخبار آحاد مع تطرق الاحتمال وإذا جاز اتفاق أكثر الأمم على باطل مع أنه ليس لهم دليل قطعي ولا ظني لم لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر وظن غالب وأما منع تصوره بناء على الخلاف في القياس فإنا نفرض ذلك في الصحابة وهم متفقون عليه والخلاف حدث بعدهم وإن فرض ذلك بعد حدوث الخلاف فيستند أهل القياس إليه والآخرون إلى اجتهاد في مظنون ليس بقياس وهو في الحقيقة قياس فإنه قد يظن غير القياس قياسا وكذلك العكس وإذا ثبت تصوره فيكون حجة لما سبق من الأدلة على الإجماع (1/153)
الإجماع قطعي وظني
فصل
الإجماع ينقسم إلى مقطوع ومظنون
فالمقطوع ما وجد فيه الاتفاق مع الشروط التي لا يختلف فيه مع وجودها ونقله أهل التواتر
والمظنون ما تخلف فيه أحد القيدين بأن يوجد مع الاختلاف فيه كالاتفاق في بعض العصر وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة أو يوجد القول من البعض والسكوت من الباقين أو توجد شروطه لكن ينقله آحاد
وذهب قوم إلى أن الإجماع لا يثبت بخبر الواحد لأن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة وخبر الواحد لا يقطع به فكيف يثبت به المقطوع وليس ذلك بصحيح فإن الظن متبع في الشرعيات والإجماع المنقول بطريق الآحاد يغلب على الظن فيكون ذلك دليلا كالنص المنقول بطريق الآحاد
وقولهم هو دليل قلنا قول النبي صلى الله عليه و سلم أيضا دليل قاطع في حق من شافهه أو بلغه بالتواتر وإذا نقله الآحاد كان مظنونا وهو حجة فالإجماع كذلك بل هو أولى فإنه أقوى من النص لتطرق النسخ إلى النص (1/154)
وسلامة الإجماع منه فإن النسخ إنما يكون بنص والإجماع لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص
الأخذ بأقل ما قيل ليس بإجماع
فصل
الأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع نحو اختلاف الناس في دية الكتابي فقيل
دية المسلم
وقيل النصف
وقيل الثلث
فالقائل أنها الثلث ليس هو متمسكا بالإجماع لأن وجوب الثلث متفق عليه وإنما الخلاف في سقوط الزيادة وهو مختلف فيه فكيف يكون إجماعا ولو كان إجماعا كان مخالفه خارقا للإجماع وهذا ظاهر الفساد والله أعلم
الأصل الرابع
استصحاب الحال ودليل العقل
اعلم أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل لكن دل العقل على براءة الذمة من الواجبات وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل
فالنظر في الأحكام إما في إثباتها وإما في نفيها فأما الإثبات فالعقل قاصر عنه وأما النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد دليل السمع الناقل عنه فينتهض دليلا على أحد الشطرين ومثاله لما دل السمع على خمس صلوات بقيت السادسة غير واجبة لا لتصريح السمع بنفيها فإن لفظه قاصر على إيجاب (1/155)
الخمس لكن كان وجوبها منتفيا ولا مثبت للوجوب فيبقى علىالنفي الأصلي وإذا أوجب عبادة على قادر بقي العاجز على ما كان عليه ولو أوجبها في وقت بقيت في غيره على البراءة الأصلية
فإن قيل إذا كان دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد وضع المشرع لا يعلم نفي السمع ومنتهاكم عدم العلم بوروده وعدم العلم ليس بحجة ولو جاز ذلك لجاز للعامي النفي مستندا إلى أنه لم يبلغه دليل
قلنا انتفاء الدليل قد يعلم وقد يظن فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال ولا صلاة سادسة إذ لو كان لنقل وانتشر ولم يخف على جميع الأمة وهذا علم بعدم الدليل لا عدم علم بالدليل فإن عدم العلم بالدليل ليس حجة والعلم بعدم الدليل حجة
وأما الظن فإن المجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة فلم يظهر له دليل مع أهليته واطلاعه على مدارك الأدلة وقدرته على الاستقصاء وشدة بحثه وعنايته غلب على ظنه انتفاء الدليل فنزل ذلك منزلة العلم في وجوب العمل لأنه ظن استند إلى بحث واجتهاد وهذا غاية الواجب على المجتهد وأما العامي فلا قدرة له فإن الذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع إذا فتش وبالغ أمكنه القطع بنفي المتاع والأعمى الذي لا يعرف البيت ولا يدري ما فيه لا يمكنه ادعاء نفي المتاع
فإن قيل ليس للاستقصاء غاية محدودة بل للمجتهد بداية ووسط ونهاية فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي والبيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن ومدارك الشرع غير محصورة فإن الأخبار كثيرة وربما غاب راوي الحديث قلنا مهما علم الإنسان أنه قد بلغ وسعه فلم يجد فله الرجوع إلى دليل العقل (1/156)
فإن الأخبار قد دونت والصحاح قد صنفت فما دخل فيها محصور وقد انتهى ذلك إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف
فإن قيل لم لا يكون واجبا لا دليل عليه أو له دليل لم يبلغنا
قلنا أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال لأنه تكليف ما لا يطاق ولذلك نفينا الأحكام قبل ورود الشرع والبحث يدلنا على عدم الدليل على ما ذكرناه
وأما استصحاب دليل الشرع فكاستصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد النسخ واستصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه كالملك الثابت وشغل الذمة بالإتلاف والالتزام وكذلك الحكم بتكرار اللزوم إذا تكررت الأسباب كتكرر شهر رمضان وأوقات الصلوات فالاستصحاب إذن عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعا إلى عدم الدليل بل إلى دليل ظني مع انتفاء الغير أو العلم به
استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف
فصل
فأما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف فليس بحجة في قول الأكثرين وقال بعض الفقهاء هو دليل واختاره أبو اسحاق بن شاقلا مثاله أن يقول في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فنحن نستصحب ذلك حتى يأتينا دليل يزيلنا عنه (1/157)
وهذا فاسد لأن الإجماع إنما دل على دوامها حال العدم فأما مع الوجود فهو مختلف فيه ولا إجماع مع الاختلاف واستصحاب الإجماع عند انتفاء الإجماع محال وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع وهذا لأن كل دليل يضاده نفس الخلاف لا يمكن استصحابه معه والإجماع يضاده نفس الخلاف والعموم والنص ودليل العقل لا يضاده نفس الاختلاف فلذلك صح استصحابه معه
النافي للحكم يلزمه الدليل
فصل
والنافي للحكم يلزمه الدليل وقال قوم في الشرعيات كقولنا وفي العقليات لا دليل عليه مطلقا لأمرين
أحدهما أن المدعي عليه الدين لا دليل عليه
والثاني أن الدليل على النفي متعذر فكيف يكلف ما لا يمكن كإقامة الدليل على براءة الذمة
ولنا قوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ومن المعنى يقال للنافي ما ادعيت نفيه علمته أم أنت شاك فيه فإن أقر بالشك فهو معترف بالجهل وإن ادعى العلم فإما أن يعلم بنظر أو تقليد فإن ادعى العلم بتقليد فهو أيضا (1/158)
معترف بعمي نفسه وإنما يدعي البصيرة لغيره وإن كان ينظر فيحتاج إلى بيانه ولأنه لو أسقط الدليل عن النافي لم يعجز المثبت عن التعبير عن مقصود إثباته بالنفي فيقول بدل قوله محدث ليس بقديم وبدل قوله قادر ليس بعاجز وقولهم إن المدعي عليه الدين لا دليل عليه عنه أجوبة
أحدها المنع فإن اليمين دليل لكنها قصرت عن الشهادة فشرعت عند عدمها واختصت بالمنكر لرجحان جانبه باليد التي هي دليل الملك واحتمال الكذب فيها لا يمنع كونها دليلا لاحتمال الكذب في الشهادة
الثاني إنما لم يحتج إلى دليل لوجود اليد التي هي دليل الملك إذ الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه
الثالث إنما لم يجب عليه الدليل لعجزه عنه إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه الشاهد من اول وجوده إلى وقت الدعوى فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبته للحظات وهو محال وشغل الذمة أيضا لا سبيل إلى معرفته فإن الشاهد لا يحصل إلا الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو غيره وذلك في الماضي أما في الحال فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء فاكتفى بالشهادة على سبب اللزوم واكتفى معها باليمين لقول النبي صلى الله عليه و سلم البينة على المدعي واليمين على من انكر أما في مسألتنا فيمكن إقامة الدليل إن كان النزاع في الشرعيات (1/159)
فقد يصادف الدليل عليها من الإجماع كنفي وجوب صلاة الضحى وصوم شوال أو النص كقوله لا زكاة في الحلى ولا زكاة في المعلوفة أو المفهوم أو القياس كقياس الخضروات على الرمان في نفي وجوب الزكاة وإن عدم الأدلة فيتمسك باستصحاب النفي الأصلي الثابت بدليل العقل وأما العقليات فيمكن نفيها فإن إثباتها يفضي إلى محال وما أفضى إلى المحال محال ويمكن الدليل عليه بدليل التلازم فإن انتفاء أحد المتلازمين دليل على انتفاء الآخر كقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فانتفاء الفساد دليل على انتفاء إله ثان
أصول مختلف فيها
وهي اربعة
الأصل الأول شرع من قبلنا إذا لم يصرح شرعنا بنسخه هل هو شرع (1/160)
لنا وهل كان النبي صلى الله عليه و سلم متعبدا بعد البعثة باتباع شريعة من قبله فيه روايتان
إحداهما أنه شرع لنا اختارها التميمي وهو قول الحنفية
والثانية ليس بشرع لنا وعن الشافعية كالمذهبين
وجه أنه ليس بشرع لنا سبعة أدلة
الأول قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فدل على أن كل نبي اختص بشريعة لم يشاركه فيها غيره
الثاني قوله عليه السلام بعثت إلى الأحمر والأسود وكل نبي بعث إلى قومه فدل على أن كل نبي يختص شرعه بقومه ومشاركتنا لهم تمنع الاختصاص
الثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى يوما بيد عمر قطعة من التوراة فغضب فقال ما هذا ألم آت بها بيضاء نقية لو أدركني موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي (1/161)
الرابع أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال بم تحكم فذكرالكتاب والسنة والاجتهاد ولم يذكر شرع من قبلنا وصوبه صلى الله عليه و سلم ولو كانت من مدارك الأحكام لم يجز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنها
فإن قيل اندرجت التوارة والإنجيل تحت الكتاب فإنه اسم جنس يعم كل كتاب
قلنا إطلاق اسم الكتاب لا يفهم منه المسلمون غير القرآن كيف ولم يعهد من معاذ تعلم شيء من هذه الكتب ولا الرجوع إليها
الخامس لو كان النبي صلى الله عليه و سلم متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها ولكان لا ينتظر الوحي ولا يتوقف في الظهار والمواريث ونحوها ولم يعهد منه ذلك إلا في آية الرجم ليبين أنه ليس بمخالف لدينهم
السادس أنه لو كان مدركا لكان تعلمها وحفظها ونقلها فرض كفاية ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الأحكام ولم يفعلوا
السابع إطباق الأمة على أن هذه الشريعة شريعة الرسول صلى الله عليه و سلم بجملتها ولو تعبد بشرع غيره كان مخبرا لا شارعا
ووجه الرواية الأخرى خمس آيات وثلاثة أحاديث
أما الآيات فقوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقوله إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسملوا وقوله ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم وقوله شرع لكم (1/162)
من الدين بما وصى به نوحا وقوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
فإن قيل أما الآيات الثلاث فالمراد بها التوحيد بدليل أنه أمره باتباع هدى جميعهم وما وصى به جملتهم وشرائعهم مختلفة وناسخة ومنسوخة فيدل على أنه أراد الهدى المشترك والملة عبارة عن أصل الدين بدليل قوله تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولا يجوز تسفيه الأنبياء الذين خالفوا شريعة إبراهيم عليه السلام والهدى والنور أصل الدين والتوحيد
قلنا الشريعة من جملة الهدى فتدخل في عموم قوله تعالى فبهداهم اقتده وهي من جملة ما أوصى الله به الآنبياء عليهم السلام
قولهم في شرائعهم الناسخ والمنسوخ قلنا إنما يتبع الناسخ دون المنسوخ كما في الشريعة الواحدة
وأما الأحاديث فمنها أنه قضى في السن بالقصاص وقال كتاب الله القصاص وليس في القرآن قصاص في السن إلا في قوله تعالى السن بالسن الثاني مراجعته التوراة في رجم الزانيين الثالث قوله من نام (1/163)
عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وأقم الصلاة لذكري وهذا خطاب لموسى عليه السلام وقد أجيب عن الأول بأنه دخل في عموم قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وعن الثاني بأنه راجع التوراة ليبين كذبهم وأنه ليس بمخالف لشريعتهم
ومن المعنى أن شرع الله تعالى الحكم في حق أمة يدل على اعتبار الشرع له فلا يجوز العدول عنه حتى يدل على نسخه دليل كما في الشريعة الواحدة وأما قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فإن المشاركة في بعض الشريعة لا تمنع نسبتها بكمالها إلى المبعوث نظرا إلى الأكثر وبقية الأدلة تندفع بكون الشريعة الأولى لم تثبت بطريق موثوق به بل قد أخبر الله بتحريف أهلها وتبديلهم فلذلك أنكر النبي صلى الله عليه و سلم على عمر (1/164)
كتاب التوراة وصوب معاذا في إعراضه عن كتبهم ولم يلزمه ولا الصحابة الرجوع إليها ولا البحث عنها وإنما الواجب الرجوع إلى ما ثبت منها بشرعنا كآية القصاص والرجم ونحوهما وهو ما تضمنه الكتاب والسنة فيكون منهما فلا يجوز العدول إلى الاجتهاد مع وجوده
الأصل الثاني
من المختلف فيه قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف
فروى أنه حجة يقدم على القياس ويخص به العموم وهو قول مالك والشافعي في القديم وبعض الحنفية وروى ما يدل على أنه ليس بحجة وبه قال عامة المتكلمين والشافعي في الجديد واختاره أبو الخطاب لأن الصحابي يجوز عليه الغلط والخطأ والسهو ولم تثبت عصمته وكيف تجوز عصمة من يجوز عليهم الاختلاف وقد جوز الصحابة مخالفتهم فلم ينكر أبو بكر وعمر علىمن خالفهما فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الخلاف بينهم وتجويزهم مخالفتهم ثلاثة أدلة
وقال قوم الحجة قول الخلفاء الراشدين لقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وذهب آخرون إلى أن الحجة قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لقوله عليه السلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ووجه الرواية الأولى قوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فإن قيل هذا خطاب لعوام عصره بدليل أن الصحابي غير داخل فيه (1/165)
قلنا اللفظ عام لكن خرج منه الصحابي بقرينة أنهم الذين أمر بتقليدهم وجعل الأمر لغيرهم
ومن وجه آخر وهو أن الصحابة أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ لأنهم حضروا التنزيل وسمعوا كلام الرسول منه فهم أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد فيكون قولهم أولى كالعلماء مع العامة وما ذكروه من عدم العصمة فلا يلزم فإن المجتهد غير معصوم ويلزم العامي تقليده وقول من خص الأئمة بالإحتجاج بقولهم لا يصح لما ذكرناه من عموم الدليل في غيرهم وتخصيصهم بالأمر بالاقتداء بهم في سيرتهم وعدلهم ويحتمل أنه ذكرهم لكونهم من جملة من يجب الاقتداء بهم
أذا اختلف الصحابة على قولين لا يؤخذ بأحدهما إلا بدليل
فصل
وإذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز للمجتهد الإخذ بقول بعضهم من غير دليل خلافا لبعض الحنفية وبعض المتكلمين أنه يجوز ذلك ما لم ينكر على القائل قوله لأن اختلافهم إجماع على تسويغ الخلاف والأخذ بكل واحد من القولين ولهذا رجع عمر إلى قول معاذ في ترك رجم المرأة وهذا فاسد فإن قول الصحابة لا يزيد على الكتاب والسنة ولو تعارض دليلان من كتاب أو سنة لم يجز الأخذ بواحد منهما بدون الترجيح ولأننا نعلم أن أحد القولين صواب والآخر خطأ ولا نعلم ذلك إلا بدليل وإنما (1/166)
يدل اختلافهم على تسويغ الاجتهاد في كلا القولين أما على الأخذ به فكلا وأما رجوع عمر إلى معاذ فلأنه بان له الحق بدليله فرجع إليه
الأصل الثالث
الاستحسان
ولا بد أولا من فهمه وله ثلاثة معان
أحدها أن المراد به العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنه قال القاضي يعقوب القول بالاستحسان مذهب أحمد رحمه الله وهو أن تترك حكما إلى حكم هو أولى منه وهذا مما لا ينكر وإن اختلف في تسميته فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى
الثاني انه يستحسنه المجتهد بعقله حكى عن أبي حنيفة أنه قال هو حجة تمسكا بقوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقوله اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ويقول النبي صلى الله عليه و سلم ما أراه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولأن المسلمين استحسنوا دخول الحمام من غير تقدير أجرة وكذلك نظائرها إذ التقدير في مثله قبيح فاستحسنوا تركه (1/167)
ولنا على فساده مسلكان
الأول أن هذا لا يعرف من ضرورة العقل ونظره ولم يرد من سمع متواتر ولا نقل آحاد ومهما انتفى الدليل وجب النفي
الثاني أنا نعلم بإجماع الأمة قبلهم على أن العالم ليس له حكم بمجرد هواه وشهوته من غير نظر في الأدلة والاستحسان من غير نظر حكم بالهوى المجرد فهو كاستحسان العامي وأي فرق بين العامي والعالم غير معرفة الأدلة الشرعية وتمييز صحيحها عن فاسدها ولعل مستند استحسانه وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يحصل منه طائل
وروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال من استحسن فقد شرع ولما بعث معاذ إلى اليمن لم يقل إني أستحسن بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط
وأما اتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا فواجب فليبينوا أن هذا أنزل إلينا فضلا عن أن يكون من أحسنه والخبر دليل على أن الإجماع حجة ولا خلاف فيه ثم يلزمهم استحسان العوام والصبيان فإن فرقوا بأنهم ليسوا أهلا للنظر قلنا إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة في أهلية النظر وما استشهدوا به من المسائل لعل مستند ذلك جريانه في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وتقريره عليه من معرفته به لأجل الشقة في تقدير الماء المصبوب في الحمام ومدة المقام والمشقة سبب ويحتمل أن يقال دخول الحمام مستباح بالقرينة والماء متلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي ثم ما يبذله له إن ارتضى الحمامي واكتفى به عوضا وإلا طالبه بالتسديد إن شاء فهذا أمر ينقاس والقياس حجة
الثالث قولهم إن المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على (1/168)
التعبير عنه وهذا هوس فإن ما لايعبر عنه لا يدري أهو وهم أو تحقيق فلا بد من إظهاره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه أو تزيفه
ألأصل الرابع
الاستصلاح أو المصلحة المرسلة
الرابع من الأصول المختلف فيها الاستصلاح وهو اتباع المصلحة المرسلة والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة وهي ثلاثة أقسام
قسم شهد الشرع باعتباره فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع
القسم الثاني ما شهد ببطلانه كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملك إذ العتق سهل عليه فلا ينزجر والكفارة وضعت للزجر فهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته النص وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع
الثالث ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين وهذا على ثلاثة ضروب
أحدها ما يقع في مرتبة الحاجات كتسليط المولى على تزويج الصغيرة فذلك لا ضرورة إليه لكنه محتاج إليه لتحصيل الكفء خيفة من الفوات واستقبالا للصلاح المنتظر في المآل
الضرب الثاني ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات كاعتبار الولي في النكاح صيانة للمراة عن مباشرة العقد لكونه مشعرا بتوقان نفسها إلى الرجال فلا يليق ذلك بالمروءة ففوض ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج ولو أمكن تعليل ذلك بقصور رأي المرأة في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظاهر لكان من الضرب (1/169)
الأول ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها فهذان الضربان لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل فإنه لو جاز ذلك كان وضعا للشرع بالرأي ولما احتجنا إلى بعثة الرسل ولكان العامي يساوي العالم في ذلك فإن كل أحد يعرف مصلحة نفسه
الضرب الثالث ما يقع في رتبة الضروريات وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها وهي خمسة أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسبهم ومالهم ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى البدع صيانة لدينهم وقضاؤه بالقصاص إذ به حفظ النفوس وإيجابه حد الشرب إذ به حفظ العقول وإيجابه حد الزنا حفظا للنسل والأنساب وإيجابه زجر السارق حفظا للأموال وتفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة لأنا قد علمنا أن ذلك من مقاصد الشرع وكون هذه المعاني مقصودة عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات فيسمى ذلك مصلحة مرسلة ولا نسميه قياسا لأن القياس يرجع إلى أصل معين والصحيح أن ذلك ليس بحجة لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ في الردع والزجر ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر فإذا أثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد كما حكي أن مالكا قال (1/170)
يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين ولا نعلم أن الشرع حافظ على مصلحتهم بهذا الطريق
الباب الرابع
تقاسيم الكلام والأسماء
اختلف في مبدأ اللغات فذهب قوم إلى أنها توقيفية لأن الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ولا يكون ذلك إلا عن لفظ معلوم قبل الاجتماع للاصطلاح
وقال آخرون هي اصطلاحية إذ لا يفهم التوقيف مالم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق
وقال القاضي يجوز أن تكون توقيفية ويجوز أن تكون اصطلاحية ويجوزأن يكون بعضها توقيفية وبعضها اصطلاحية وأن يكون بعضها ثبت قياسا فإن جميع ذلك متصور في العقل
أما التوقيف فإن الله سبحانه قادر على أن يخلق لخلقه العلم بأن هذه الأسماء قصدت للدلالة على المسميات
وأما الاصطلاح فبأن تجتمع دواعي العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعرف الأمورالغائبة فيبتدىء واحد ويتبعه آخر حتى يتم الاصطلاح
أما الواقع منها فلا مطمع في معرفته يقينا إذ لم يرد به نص ولا مجال للعقل والبرهان في معرفته ثم هذا أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى (1/171)
اعتقاده حاجة فالخوض فيه فضول فلا حاجة إلى التطويل والأشبه أنها توقيفية لقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها فإن قيل يحتمل أنه ألهمه وضع ذلك ثم نسبه إلى تعليمه لأنه الهادي إليه ويحتمل أنه كان موضوعا قبل آدم بوضع خلق آخرين فعلمه ما تواضع عليه غيره ويحتمل أنه أراد اسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها قلنا هذا نوع تأويل يحتاج إلى دليل
إثبات الأسماء بالقياس
فصل
قال القاضي يعقوب يجوز أن تثبت الأسماء قياسا كتسمية النبيذ خمرا لعلمنا أن مسكر العنب إنما سمي خمرا لأنه يخامر العقل أي يغطيه وقد وجد هذا المعنى في النبيذ فيسمى به حتى يدخل في عموم قوله عليه السلام حرمت الخمرة لعينها وبه قال بعض الشافعية
وقال أبو الخطاب وبعض الحنفية وبعض الشافعية ليس هذا بمرض فإنا عرفنا أن اهل اللغة خصوا مسكر عصير العنب باسم الخمر فوضعه لغيره اختراع من عندنا فلا يكون من لغتهم وإذا علمنا أنهم وضعوه لكل مسكر فاسم الخمر ثابت للنبيذ توقيفا من جهتهم لا قياسا وإن احتمل الأمرين فلم نتحكم عليهم ونقول لغتكم هذه وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعان ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده وكميتا لحمرته والقارورة من الزجاج لأنه يقر فيها المائعات ولا يتجاوزون بهذه الأسماء محلها وإن كان (1/172)
المعنى عاما في غيره فإذا ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم لا سبيل إلى إثباته ووضعه
قلنا متى تحققنا أنهم وضعوا الاسم لمعنى استدللنا على أنهم وضعوه بإزاء كل ما فيه المعنى كما أنه إذا نص على حكم في صورة لمعنى علمنا أنه قصد إثبات الحكم في كل ما وجد فيه المعنى فالقياس توسيع مجرى الحكم وإذا جاز قياس التصريف فسموا فاعل الضرب ضاربا ومفعوله مضروبا فلم لا يجوز فيما نحن فيه وفيما استشهدوا به من الأسماء وضع الاسم لشيئين الجنس والصفة ومتى كانت العلة ذات وصفين لم يثبت الحكم بدونهما
فصل
في تقاسيم الأسماء
وهي أربعة أقسام وضعية وعرفية وشرعية ومجاز مطلق
أما الوضعية فهي الحقيقة وهو اللفظ المستعمل في وضعه الأصلي
وأما العرفية فإن الاسم يصير عرفيا باعتبارين
أحدهما أن يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة الاسم ببعض مسمياته الوضعية كتخصيص الدابة بذوات الأربع مع أن الوضع لكل ما يدب
الاعتبار الثاني أن يصير الاسم شائعا في غير ما وضع له أولا بل هو مجاز فيه كالغائط والعذرة والراوية وحقيقة الغائط المطمئن من الأرض والعذرة فناءالدار والراوية الجمل الذي يستقي عليه فصار أصل الوضع منسيا والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم إلا أنه ثبت بعرف الاستعمال لا بالوضع الأول
وأما الشرعية فهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع كالصلاة والصيام (1/173)
والزكاة والحج وقال قوم لم ينقل شيء بل الاسم باق على ما هو عليه في اللغة لكن اشترط للصحة شروط
فالركوع أو السجود شرط للصلاة لا من نفس الصلاة بدليل أمرين
أحدهما أن القرآن عربي والنبي صلى الله عليه و سلم مبعوث بلسان قومه ولو قال أكرموا العلماء وأراد الفقراء لم يكن هذا بلسانهم وإن كان اللفظ المنقول إليه عربيا
والثاني أنه لو فعل ذلك للزمه تعريف الأمة ذلك بالتوقيف
وهذا ليس بصحيح فإن ما تصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها أسام معروفة لا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف إما النقل وإما التخصيص وإنكار أن الركوع والسجود والقيام والقعود الذي هو ركن الصلاة منها بعيد جدا وتسليم أن الشرع يتصرف في ألفاظ اللغة بالنقل تارة والتخصيص أخرى على مثال تصرف أهل العرف أسهل وأولى مما ذكروه إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب وقد سمى الله تعالى الصلاة إيمانا بقوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم وهذا لا يخرج هذه الأسامي عن أن تكون عربية كما قلنا في تصرف أهل اللغة ولا تسلب الاسم العربي عن القرآن كما لو اشتمل على مثلها من الكلمات الأعجمية على ما مضى وقوله كان يجب التوقيف على تصرفه فهذا إنما يجب إذا لم يعلم مقصوده بالقرائن والتكرير مرة بعد اخرى فإذا فهم حصل الغرض وعند إطلاق هذه الألفاظ في لسان الشرع وكلام الفقهاء يجب حمله على الحقيقة الشرعية دون اللغوية ولا يكون مجملا لأن غالب عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشرع لسائر الأحكام الشرعية (1/174)
وحكى عن القاضي أنه يكون مجملا وهو قول بعض الشافعية والأولى ما قلناه
وأما المجاز فهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه على وجه يصح ثم أنه إنما يصح بأمور
أحدها اشتراكهما في المعنى المشهور في محل الحقيقة كاستعارة لفظ الأسد في الرجل الشجاع لاشتهار الشجاعة في الأسد الحقيقي ولا تصح استعارة الأسد في الرجل الأبخر وإن كان البخر موجودا في محل الحقيقة لكونه غير مشهور به
والثاني لسبب المجاورة غالبا كتسمية المزادة راوية باسم الجمل الحامل لها لتجاوهما في الأعم الأغلب وتسمية المرأة ظعينة باسم الجمل الذي تظعن عليه للزومها إياه وكذلك تسمية الفضلة المستقذرة غائطا وعذرة
الثالث إطلاقهم اسم الشيء على ما يتصل به كقولهم الخمر محرمة والمحرم شربها والزوجة محللة والمحلل وطؤها وكإطلاقهم السبب على المسبب وبالعكس
الرابع حذفهم المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله تعالى واسأل القرية وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل وكل مجاز له حقيقة في شيء أخر إذ هو عبارة عن المستعمل في غير موضوعه فلا بد أن يكون له موضوع ولا يلزم أن يكون لكل حقيقة مجاز إذ كون الشيء له موضوع لا يلزم أن يستعمل فيما عداه (1/175)
اللفظ حقيقة أذا دار بين الحقيقة والمجاز
فصل
متى دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فهو للحقيقة ولا يكون مجازا إلا أن يدل دليل على أنه أريد به المجاز إذ لو جعلنا كل لفظ أمكن التجوز فيه مجملا لتعذرت الاستفادة في أكثر الألفاظ واختل مقصود الوضع وهو التفاهم ولأن واضع الاسم لمعنى إنما وضعه ليكتفي به فيه فكأنه قال إن سمعتم هذه اللفظة فافهموا ذلك المعنى فيجب حمله عليه إلا أن يغلب المجاز بالعرف كالأسماء العرفية فتصير حينئذ الحقيقة كالمتروكة فإنه لو قال رأيت غائطا أو راوية لم تفهم منه الحقيقة فيصير الحكم للعرف ولا يصرف إلى الحقيقة إلا بدليل
المعرف للحقيقة والمجاز
فصل
ويستدل على معرفة الحقيقة من المجاز بشيئين
أحدهما أن يكون أحد المعنيين يسبق إلى الفهم من غير قرينة والآخر لا يفهم إلا بقرينة فيكون حقيقة فيما يفهم منه مطلقا
أو يكون احد المعنيين يستعمل فيه اللفظ مطلقا والمعنى الآخر لا يقتصر فيه على مجرد لفظه فيكون حقيقة فيما يقتصر فيه على مجرد اللفظ
الثاني أن يصح الاشتقاق من احد اللفظين كالأمر في الكلام حقيقة لأنه يصح منه أمر يأمر أمرا وليس بحقيقة في الشأن نحو قوله تعالى وما أمر فرعون برشيد لأنه لا يقال عنه أمر يأمر أمرا (1/176)
حقيقة الكلام وأقسامه
فصل
الكلام هو الأصوات المسموعة والحروف المؤلفة وهو ينقسم إلى مفيد وغير مفيد وأهل العربية يخصون الكلام بما كان مفيدا وهو الجملة المركبة من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل أو حرف نداء واسم وما عداه إن كان لفظة واحدة فهي كلمة وقول وإن كثر فهو كلم وقول والعرف ما قلناه مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح
أقسام الكلام المفيد
والكلام المفيد بنقسم ثلاثة أقسام نص وظاهر ومجمل
القسم الأول النص وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال كقوله تعالى تلك عشرة كاملة وقيل هو الصريح في معناه وحكمه أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخ
وقد يطلق اسم النص على الظاهر ولا مانع منه فإن النص في اللغة بمعنى الظهور كقولهم نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته قال امرؤ القيس ... وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل ...
ومنه سميت منصة العروس للكرسي الذي تجلس عليه لظهورها عليه إلا أن الأقرب تحديد النص بما ذكرناه أولا دفعا للترادف والاشتراك عن الألفاظ فإنه على خلاف الأصل
وقد يطلق النص على ما لا يتطرق إليه احتمال يعضده دليل فإن (1/177)
تطرق إليه احتمال لا دليل عليه فلا يخرجه عن كونه نصا
القسم الثاني الظاهر وهو ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره وإن شئت قلت ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر فحكمه أن يصار إلى معناه الظاهر ولا يجوز تركه إلا بتأويل والتأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح به لاعتضاده بدليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر إلا أن الاحتمال يقرب تارة ويبعد اخرى وقد يكون الاحتمال بعيدا جدا فيحتاج إلى دليل في غاية القوة وقد يكون قريبا فيكفيه أدنى دليل وقد يتوسط بين الدرجتين فيحتاج دليلا متوسطا
والدليل يكون قرينة أو ظاهرا آخر أو قياسا راجحا ومهما تساوى الاحتمالان وجب المصير إلى الترجيح
وكل متأول يحتاج إلى بيان احتمال اللفظ لما حمله عليه ثم إلى دليل صارف له وقد يكون في الظاهر قرائن تدفع الاحتمال بمجموعها وآحادها لا تدفعه مثال تأويل الحنفية قول النبي صلى الله عليه و سلم لغيلان بن سلمة حيث أسلم على عشر نسوة أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن بالانقطاع عنهن وترك نكاحهن وعضدوه بالقياس إلا أن في الحديث قرائن عضدت الظاهر وجعلته أقوى من الاحتمال (1/178)
أحدها أنه لم يسبق إلى أفهام الصحابة الاستدامة فإنهم لو فهموه لكان هو السابق إلى أفهامنا
والثاني أنه فوض الأمساك والمفارقة إلى اختياره وابتداء النكاح لا يصح إلا برضاء المرأة
الثالث أنه لو أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه لئلا يؤخر البيان عن وقت الحاجة وما أحوج حديث العهد بالإسلام إلى معرفة شرائط النكاح
الرابع أن ابتداء النكاح لا يختص بهن فكان ينبغي أن يقول انكح أربعا ممن شئت
ومثال التأويل في العموم القوي قول الحنفية في قول النبي صلى الله عليه و سلم ايما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل قالوا هذا محمول على الأمة فثناهم عن قولهم فلها المهر بما استحل من فرجها فإن مهر الأمة للسيد فعدلوا إلى المكاتبة وهذا تعسف ظاهر لأن العموم قوي والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى النساء وليس من كلام العرب إرادة الشاذالنادر باللفظ الذي ظهر منه قصد العموم إلا بقرينة تقترن باللفظ وليس قياس النكاح على المال والإناث على الذكور قرينة تقترن باللفظ وتصلح لتنزيله على صورة نادرة
ودليل ظهور قصد التعميم أمور
الأول أنه صدر بأي وهي من كلمات الشرط ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن خالف في صيغ العموم
الثاني أنه أكد بما وهي من مؤكدات العموم (1/179)
الثالث أنه رتب بطلان النكاح على الشرط في معرض الجزاء ولو اقترح على العربي الفصيح أن يأتي بصيغة دالة على العموم مع الفصاحة والجزالة لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة ونعلم أن الصحابة لم يفهموا من هذه الصيغة المكاتبة ولو سمعنا نحن هذه الصيغة لم نفهم منها المكاتبة ولو قال القائل أردت المكاتبة لنسب إلى الألغاز ولو أخرج المكاتبة وقال ما خطرت ببالي لم يستنكر فما لم يخطر على البال إلا بالإخطار كيف يجوز قصر العموم عليه
وقد قيل في تأويل قوله عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل يحمله على القضاء إنه من هذا القبيل لأن التطوع غير مراد فلا يبقى إلا الغرض الذي هو ركن الدين وهو صوم رمضان والقضاء والنذر يجب بأسباب عارضة فهو كالمكاتبة في مسألة النكاح والصحيح أنه ليس ندرة هذا كندرة المكاتبة وإن كان كالغرض أسبق إلى الفهم فيحتاج هذا التخصيص إلى دليل قوي وليس ظهر بطلانه كظهور التخصيص في المكاتبة وعند هذا يعلم أن إخراج النادر قليل والقصر على النادر ممتنع وبينهما درجات تتفاوت في البعد والقرب ولكل مسألة ذوق يجب أن تفرد بنظر خاص ويليق ذلك بالفروع
القسم الثالث المجمل وهو ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى وقيل ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر وذلك مثل الألفاظ (1/180)
المشتركة كلفظة العين المشتركة بين الذهب والعين الناظرة والقرء للحيض والطهر والشفق للبياض والحمرة
وقد يكون الإجمال في لفظ مركب كقوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح متردد بين الزوج والولي
وقد يكون بحسب التصريف كالمختار يصلح للفاعل والمفعول
وقد يكون لأجل حرف محتمل كالواو تصلح عاطفة ومبتدأة ومن تصلح للتبعيض وابتداء الغاية والجنس وأمثال ذلك
فحكم هذا التوقف فيه حتى يتبين المراد منه فاما قوله تعالى حرمت عليكم الميتة ونحوها فليس بمجمل لظهوره من جهة العرف في تحريم الأكل والعرف كالوضع ولذلك قسمنا الأسماء إلى عرفية ووضعية ومن أنس بتعارف أهل اللغة علم أنهم يريدون بقولهم حرمت عليك الطعام أي الأكل دون اللمس والنظر وحرمت عليك الجارية أي الوطء ويذهبون في تحريم كل عين إلى تحريم ما هي معدة له وهذا اختيار أبي الخطاب وبعض الشافعية
وحكي عن القاضي أنه مجمل لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم حقيقة وإنما يحرم فعل ما يتعلق بها فلا يدري ما ذلك الفعل في الميتة أكلها أم بيعها أم النظر إليها أو لمسها وهذا قول جماعة من المتكلمين وقد ذكرنا أن هذا ظاهر من جهة العرف في الأكل والصريح يكون بالوضع تارة وبالعرف أخرى وقوله تعالى وأحل الله البيع ليس بمجمل وإنما هو لفظ عام (1/181)
فيحمل على عمومه وقال القاضي هو مجمل
نفي الحكم لا يقتضي الإجمال
فصل
وقول النبي صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بطهور ليس بمجمل وقال الحنفية هو مجمل لأن المراد به نفي حكمه إذ لا يمكن حمل اللفظ على نفي صورة الفعل فيكون خلفا وليس حكم أولى من حكم
قلنا إذا حملناه على نفي الصلاة الشرعية لم يحتج إلى إضمار الحكم وإنما يصار إلى الإضمار إذا لم يمكن حمل اللفظ على ما أضيف إليه اللفظ
فإن قيل فالفاسدة تسمى صلاة قلنا ذلك مجاز لكونها على صورة الصلاة والكلام يحمل على حقيقته والصحيح أن يحمل ذلك على نفي الصحة
وجهه أنه قد اشتهر في العرف نفي الشيء لنفي فائدته كقولهم لاعلم إلا ما نفع ولا عمل إلا بنية ولا بلدة إلا بسلطان يراد به نفي الفائدة والجدوى ولو قضينا بالصحة لم تنتف الفائدة فيكون على خلاف العرف ولا يصح حمله على نفي الصلاة الشرعية فإنه إن أريد بالصلاة الشرعية الصورة لم يكن حمل اللفظ عليه لكونه خلفا وإن فسرت بالفعل مع الحكم لم يصح لأن الصلاة يؤمر بها وينهى عنها والأمر والنهي إنما يتعلق بالفعل الذي يمكن الإتيان به وتركه (1/182)
وقول النبي صلى الله عليه و سلم لا عمل إلا بنية يدل على نفي الأجزاء وعدمه لما ذكرنا من العرف فليس هذا من المجملات بل هو من المألوف في العرف وكل هذا نفي لما لا ينتفي وهو صدق لأن المراد نفي مقاصده لا نفي ذاته
رفع الخطأ عن الأمة رفع للحكم
فصل
وقوله عليه الصلاة و السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان المراد به رفع حكمه فإنا علمنا أنه لم يرد رفع صورته لأن كلامه يجل عن الخلف وقيل المراد رفع حكمه الذي هو المؤاخذة لا نفي الضمان ولزوم القضاء لأنه ليس بصيغة عموم فيجعل عاما في كل حكم كما لم يجعل قوله تعالى حرمت عليكم الميته عاما في كل حكم بل لا بد من إضمار فعل يضاف النفي إليه فها هنا لا بد من إضمار حكم يضاف الرفع إليه ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال قبل الشرع وقد كان يفهم من قولهم رفعت عنك الخطأ المؤاخذة به والعقاب والضمان لا يجب للعقاب خاصة بل قد يجب امتحانا ليثاب عليه ولهذا يجب على الصبي والمجنون وعلى العاقلة ويجب على المضطر مع وجوب الإتلاف ويجب عقوبة على قاتل الصيد وأكثر ما يقال أنه ينتفي الضمان الذي يجب عقوبة (1/183)
قال أبو الخطاب وهذا لايصح لأنه لو أراد نفي الإثم لم يكن لهذه الأمة فيه مزية فإن الناسي لا يكلف في كل شريعة ولأنه لما أضاف ارفع إلى مالا ترتفع ذاته اقتضى رفع ما يتعلق به ليكون وجوده وعدمه واحدا كما أنه لما أضاف النفي إلى ما لا تنتفي ذاته انتفى حكمه ليكون وجوده وعدمه واحدا
فصل في البيان
البيان والمبين في مقابلة المجمل
واختلف في البيان فقيل هو الدليل وهو ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى علم أو ظن
وقيل هو إخراج الشيء من الإشكال إلى الوضوح
وقيل هو ما دل على المراد بما يستقل بنفسه في الدلالة على المراد
وقد قيل هذان الحدان يختصان بالمجمل وقد يقال لمن دل على شيء بينه وهذا بيان حسن وإن لم يكن مجملا والنصوص المعربة عن الأحكام ابتداء بيان وليس ثم إشكال ولا يشترط أيضا حصول العلم للمخاطب فإنه يقال بين له غير أنه لم يتبين
ثم البيان يحصل بالبيان بالكلام وبالكتابة ككتابة النبي صلى الله عليه و سلم إلى عماله في الصدقات وبالإشارة كقوله الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه بالفعل كتبيينه الصلاة والحج بفعله فإن قيل إنما حصل البيان بقوله صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني (1/184)
مناسككم قلنا هذا اللفظ لا تعلم منه الصلاة والمناسك وإنما بان وعلم بفعله والبيان بالفعل أدل على الصفة وأوقع في الفهم من الصفة بالقول لما في المشاهدة من المزيد عن الأخبار وقد يبين جواز الفعل بالسكوت عنه فإن النبي صلى الله عليه و سلم لا يقر على الخطأ فكل مفيد من الشارع بيان ويجوز تبيين الشيء بأضعف منه كتبيين أي الكتاب بأخبار الآحاد
تأخير البيان عن وقت الحاجة
فصل
ولا خلاف في أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة واختلف في تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة قال ابن حامد والقاضي يجوز وبه قال أكثر الشافعية وبعض الحنفية
وقال أبو بكر عبدالعزيز وأبو الحسن التميمي لا يجوز ذلك وهو (1/185)
قول أهل الظاهر والمعتزلة ووجهه ثلاثة مأمور
أحدها أن الخطاب يراد لفائدته وما لا فائدة فيه وجوده كعدمه ولا يجوز أن يقال أبجد هوز يراد به وجوب الصلاة ثم يبينه فيما بعد
والثاني أنه لا يجوز مخاطبة العربي بالعجمية لأنه لا يفهم معناه ولا يسمع إلا لفظه
والثالث أنه لا خلاف أنه لو قال في خمس من الإبل شاة يريد به في خمس من البقر لم يجز لأنه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد وكذا قوله اقتلوا المشركين يوهم قتل كل مشرك فإذا لم يبين للتخصيص فهو تجهيل في الحال ولو أراد بالعشرة سبعة لم يجز إلا بقرينة الاستثناء كذلك العام لا يجوز أن يراد به الخصوص إلا بقرينة متصلة مبينة فإن لم يكن بقرينة فهو تغيير للوضع
وقال أخرون يجوز تأخير بيان المجمل ولا يجوز تأخير بيان التخصيص في العموم فإنه يوهم العموم فمتى أريد به الخصوص ولم يبين مراده أوهم ثبوت الحكم في صورة غير مرادة والمجمل بخلاف هذا فإنه لم يفهم منه شيئا
ولنا مسلكان الأول الاستدلال بوقوعه في الكتاب والسنة قال الله تعالى فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت و ثم للتراخي وقال إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ولم يفصل إلا بعد السؤال وفال في خمس الغنيمة ولذي القربى وأراد (1/186)
بني هاشم وبني المطلب ولم يبينهم فلما منع بني نوفل وبني عبد شمس سئل عن ذلك فقال إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام
وقال لنوح احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول فتوهم نوح عليه السلام أن ابنه من اهله حتى بين الله تعالى له وقال أقيموا الصلاة وبين المراد بصلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه و سلم في اليومين وبان المراد بقوله تعالى وآتوا الزكاة بقول النبي صلى الله عليه و سلم في أربعين شاة شاة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وبان المراد بقوله ولله على الناس حج البيت بفعله لقوله خذوا عني مناسككم والنكاح والإرث أصلهما في الكتاب وبينهما النبي صلى الله عليه و سلم متراخيا بالتدريج من يرث ومن لا يرث ومن يحل نكاحه ومن يحرم وقوله وجاهدوا عام ثم قال ليس على الضعفاء ولا على المرضى (1/187)
وكل عام أتى في الشرع ورد خصوصه بعده وهذا لا سبيل إلى إنكاره وإن تطرق الاحتمال إلى بعض هذه الاستشهادات فلا يتطرق إلى الجميع
المسلك الثاني أنه لا يجوز تأخير النسخ بل يجب والنسخ بيان للوقت فيجوز أن يرد بلفظ يدل على تكرار الفعل على الدوام ثم ينسخ بعد حصول اعتقاد اللزوم في الدوام
أما قولهم لا فائدة في الخطاب بمجمل فغير صحيح فإن قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده يعرف وجوب الإيتاء ووقته وأنه حق المال ويمكن العزم على الامتثال والاستعداد له ولو عزم على تركه عصى وقوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي فهو كالأمر إذا لم يتبين أنه للإيجاب أو للندب وأنه على الفور أم على التراخي فقد أفاد اعتقاد الأصل وإن خلا من كمال الفائدة وليس ذلك مستنكرا بل واقع في الشريعة والعادة بخلاف أبجد هوز فإنه لا فائدة فيه أصلا والتسوية بينه أيضا وبين الخطاب بالفارسية لمن لا يفهمها غير صحيحة (1/188)
لما ذكرنا ثم لا يمتنع أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه و سلم جميع أهل الآرض بالقرآن وينذر به من بلغه من الزنج وغيرهم ويشعرهم اشتماله على أوامر يعرف بها المترجم وكيف يبعد هذا ونحن نجوز كون المعدوم مأمورا على تقدير الوجود فأمر الأعجمي على تقدير البيان أقرب وها هنا يسمى خطابا لحصول أصل الفائدة
وأما المسلك الثالث فإنما يلزم لو كان العام نصا في الاستغراق ولا كذلك بل هو ظاهر وإرادة الخصوص به من كلام العرب فمن اعتقد العموم قطعا فذلك لجهله بل يعتقد أنه محتمل للخصوص وعليه الحكم بالعموم إن خلي والظاهر وينتظر أن ينبه على الخصوص
أما إرادة السبعة بالعشرة والبقرة بالإبل فليس من كلام العرب بخلاف ما ذكرناه
باب الأمر
الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء وقيل هو القول المقتضى طاعة المأمور بفعل المأمور به وهو فاسد إذ تتوقف معرفة المأمور على معرفة الأمر والحد ينبغي أن يعرف المحدود فيفضي إلى الدور وللأمر صيغة مبينة فتدل بمجردها على كونها أمرا إذا تعرت عن القرائن وهي افعل للحاضر وليفعل للغائب هذا قول الجمهور وزعمت فرقة من المبتدعة أنه لا صيغة للأمر بناء على خيالهم أن الكلام معنى قائم بالنفس فخالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف أما الكتاب فإن الله تعالى قال لزكريا آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا فلم يسم إشارته إليهم كلاما وقال لمريم فقولي (1/189)
إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فالحجة فيه مثل الحجة في الأول وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به وقال لمعاذ أمسك عليك لسانك قال وإنا لمؤاخذون بما نقول قال ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وقال إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين ولم يرد بذلك ما في النفس وأما أهل اللسان فإنهم اتفقوا عن آخرهم على أن الكلام اسم وفعل وحرف واتفق الفقهاء بأجمعهم على أن من حلف لا يتكلم فحدث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه لم يحنث ولو نطق حنث وأهل العرف كلهم يسمون الناطق متكلما ومن عداه ساكتا أو أخرس ومن خالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وإجماع الناس كلهم على اختلاف طبقاتهم فلا يعتد بخلافه
فأما الدليل على أن هذه صيغة الأمر فاتفاق أهل اللسان على تسمية هذه الصيغة أمرا ولو قال رجل لعبده اسقني ماء عد أمرا وعد العبد مطيعا بالامتثال عاصيا بالترك مستحقا للأدب والعقوبة فإن قيل هذه الصيغة مشتركة بين الإيجاب كقوله أقم الصلاة والندب كقوله فكاتبوهم والإباحة (1/190)
كقوله فاصطادوا والإكرام كقوله ادخلوها بسلام والإهانة كقوله ذق إنك أنت العزيز الكريم والتهديد كقوله اعملوا ما شئتم والتعجيز كقوله كونوا حجارة أو حديدا والتسخير كقوله كونوا قردة والتسوية كقوله أصبروا أو لا تصبروا والدعاء كقوله اللهم اغفر لي والخبر كقوله أسمع بهم وأبصر وقول النبي صلى الله عليه و سلم إذا لم تستح فاصنع ما شئت والتمني كقول الشاعر ... ألا أيها الليل الطويل ألآ انجلي ...
فالتعيين يكون تحكما قلنا هذا لا يصح لوجهين
أحدهما مخالفة أهل اللسان فإنهم جعلوا هذه الصيغة أمرا وفرقوا بين الأمر (1/191)
والنهي فقالوا باب الأمر افعل وباب النهي لا تفعل كما ميزوا بين الماضي والمستقبل وهذا أمر نعلمه بالضرورة من كل لسان من العربية والعجمية والتركية وسائر اللغات لا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد ونحوه في نوادر الأقوال الثاني أن هذا يفضي إلى سلب فائدة كبيرة من الكلام وإخلاء الوضع عن كثير من الفائدة وفي الجملة كالاشتراك على خلاف الأصل لأنه يخل بفائدة الوضع وهو الفهم
والصحيح أن هذه صيغة الأمر ثم تستعمل في غيره مجازا مع القرينة كاستعمال ألفاظ الحقيقة بأسرها في مجازها
اعتبار إرادة الآمر في الأمر
فصل
ولا يشترط في كون الأمر أمرا إرادة الآمر في قول الأكثرين
وقالت المعتزلة إنما يكون أمرا بالإرادة وحده بعضهم بأنه إرادة الفعل بالقول على وجه الاستعلاء
قالوا لأن الصيغة مترددة بين أشياء فلا ينفصل الأمر منها مما ليس بأمر إلا بالإرادة ولأن الصيغة إن كانت أمرا لذاتها فهو باطل بلفظ التهديد أو لتجردها عن القرائن فيبطل بكلام النائم والساهي فثبت أن المتكلم بهذه الصيغة على غير وجه السهو غرضه إيقاع المأمور به وهو نفس الإرادة
ولنا أن الله أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ولم يرده منه وأمر إبليس بالسجود ولم يرده منه إذ لو أراده لوقع فإن الله تعالى فعال لما يريد
دليل ثان أن الله تعالى أمر بأداء الأمانات بقوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ثم لو ثبت أنه لو قال والله لأؤدين أمانتك إليك (1/192)
غدا إن شاء الله فلم يفعل لم يحنث ولو كان مراد الله لوجب أن يحنث فإن الله تعالى قد شاء ما أمره به من أداء أمانته
دليل آخر أن دليل الأمر ما ذكرناه عن أهل اللسان وهم لا يشترطون الإرادة
ودليل آخر أنا نجد الأمر متميزا عن الإرادة فإن السلطان لو عاقب رجلا على ضرب عبده فمهد عذره بمخالفة أمره فقال له بين يدي الملك أسرج الدابة وهو لا يريد أن يسرج لما فيه من خطر الهلاك للسيد ولأنه قصد تمهيد عذره ولا يتمهد إلا بمخالفته وترك امتثال أمره وهو أمر لولاه لما تمهد العذر وكيف لا يكون أمرا وقد فهم العبد والمل والحاضرون منه الأمر
فأما الاشتراك في الصيغة فقد أجبنا عنه ولأننا قد حددنا الأمر بأنه استدعاء الفعل بالقول ومع التهديد لا يكون استدعاء وهذا الجواب عن الكلام الثاني فإنا نقول هي أمر لكونها استدعاء على وجه الاستعلاء ويخرج من هذا النائم والساهي فإنه لا يوجد على وجه الاستعلاء
موجب الأمر المجرد عن القرائن
مسألة
إذا ورد الأمر متجردا عن القرائن اقتضى الوجوب في قول الفقهاء وبعض المتكلمين وقال بعضهم يقتضي الإباحة لأنها أدنى الدرجات فهي مستيقنة فيجب حمله على اليقين
وقال بعض المعتزلة يقتضي الندب لأنه لا بد من تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب وهو طلب الفعل واقتضاؤه وأن فعله خير من تركه وهذا معلوم أما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم فيتوقف فيه (1/193)
ولأن الأمر طلب والطلب يدل على حسن المطلوب لا غير والمندوب حسن فيصح طلبه وما زاد على ذلك درجة لا يدل عليه مطلق الأمر ولا يلزم منه ولأن الشارع أمر بالمندوبات والواجبات معا فعند وروده يحتمل الأمرين معا فيحمل على اليقين
وقالت الواقفية هو على الوقف حتى يرد الدليل ببيانه لأن كونه موضوعا لأحد هذه الأقسام إما أن يعلم بنقل أو عقل ولم يوجد أحدهما فيجب التوقف فيه
ولنا ظواهر الكتاب والسنة والإجماع وقول أهل اللسان
أما الكتاب فقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم حذر الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر فلولا أنه مقتض للوجوب ما لحقه ذلك وأيضا قول الله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وقوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ذمهم على ترك امتثال الأمر والواجب ما يذم بتركه
ومن السنة ما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان فقالت من أغضبك أغضبه الله فقال وما لي لا أغضب (1/194)
وأنا آمر بالأمر فلا أتبع
فإن قيل هذا في أمر اقترن به ما دل على الوجوب قلنا النبي صلى الله عليه و سلم إنما علل غضبه بتركهم اتباع أمره ولولا أن أمره للوجوب لما غضب من تركه وقول النبي صلى الله عليه و سلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة والندب غير شاق فدل على أن أمره اقتضى الوجوب وقوله عليه السلام لبريرة لو راجعتيه فقالت أتأمرني يا رسول الله قال إنما أنا شافع فقالت لا حاجة لي فيه وإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم مندوب إليها فدلنا ذلك على أن امره للإيجاب
الثالث إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجمعوا على وجوب طاعة الله تعالى وامتثال أوامره من غير سؤال النبي صلى الله عليه و سلم عما عنى بأوامره وأوجبوا أخد الجزية من المجوس بقوله سنوا بهم سنة أهل (1/195)
الكتاب وغسل الإناء من الولوغ بقوله فليغسله سبعا والصلاة عند ذكرها بقوله فليصلها إذا ذكرها واستدل أبو بكر رضي الله عنه على إيجاب الزكاة بقوله تعالى وآتوا الزكاة ونظائر ذلك مما لا يخفى يدل على إجماعهم على اعتقاد الوجوب
الرابع أن أهل اللغة عقلوا من إطلاق الأمر الوجوب لأن السيد لو أمر عبده فخالفه حسن عندهم لومه وتوبيخه وحسن العذر في عقوبته بمخالفة الأمر والواجب ما يعاقب بتركه أو يذم بتركه
فإن قيل إنما لزمت العقوبه لأن الشريعة أوجبت ذلك
قلنا إنما أوجبت طاعته إذا أتى السيد بما يقتضي الإيجاب ولو أذن له في الفعل أو حرمه عليه لم يجب عليه ولأن مخالفته الأمر معصية قال الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم وقال أفعصيت أمري ويقال أمرتك فعصيتني وقال الشاعر ... أمرتك أمرا جازما فعصيتني ...
والمعصية موجبة للعقوبة قال الله تعالى ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا (1/196)
مبينا
وأما قول من قال نحمله على الإباحة لأ نه اليقين فهو باطل فإن الأمر استدعاء وطلب والإباحة ليست طلبا ولا استدعاء بل إذن له وإطلاق وقد أبعد من جعل قوله افعل مشتركا بين الإباحة والتهديد الذي هو المنع وبين الاقتضاء فإنا ندرك في وضع اللغات كلها تفرقة بين قولهم افعله ولا تفعل وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل حتى لو قدرنا انتفاء القرائن كلها يسبق إلى الأفهام اختلاف معاني هذه الصيغ ونعلم قطعا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد كما ندرك التفرقة بين قولهم قام ويقوم في أن هذا ماض وذاك مستقبل وهذا أمر يعلم ضرورة ولا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد وبالطريق الذي نعرف فإنه لم يوضع للتهديد فعلم أنه لم يوضع للتخيير
وقول من قال هو للندب لأنه اليقين لايصح لوجهين
أحدهما أنا قد بينا أن مقتضى الصيغة الوجوب بما ذكرنا من الأدلة
الثاني أن هذا إنما يصح أن لو كان الوجوب ندبا وزيادة ولا كذلك لأنه يدخل في حد الندب جواز الترك وليس بموجود في الوجوب
وأما أهل الوقف فغاية ما معهم المطالبة بالأدلة وقد ذكرناها ثم قد سلموا أن الأمر اقتضى ترجيح الفعل على الترك فيلزمهم أن يقولوا بالندب ويتوفقوا فيما زاد كقول أصحاب الندب
أما القول بأن الصيغة لا تفيد شيئا فتسفيه لواضع اللغة وإخلاء للوضع (1/197)
عن الفائدة بمجرده وإن توقفوا لمطلق الاحتمال لزمهم التوقف في الظواهر كلها وترك العمل بما لا يفيد القطع واطراح أكثر الشريعة فإن أكثرها إنما ثبت بالظنون
موجب الأمر بعد الحظر
فصل
إذا وردت صيغة الأمر بعد الحظر اقتضت الإباحة وهو ظاهر قول الشافعي وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين تفيد ما كانت تفيده لولا الحظر لعموم أدلة الوجوب ولأنها صيغة أمر مجردة عن قرينة أشبهت ما لم يتقدمه حظر
ولأن صيغة الأمر اقتضت نسخ الحظر وقد ينسخ بإيجاب وينسخ بإباحة وإذا احتمل الأمرين بقي الأمر على مقتضاه في الوجوب ولأن النهي بعد الأمر يقتضي ما كان مقتضيا له فكذلك الأمر بعد الحظر
وقال قوم إن ورد الأمر بعد الحظر بلفظة افعل كقولنا وإن ورد بغير هذه الصيغة كقولهم أنتم مأمورون بعد الإحرام بالإصطياد كقولهم لأنه في الأول انصرف بعرف الاستعمال إلى رفع الذم فقط حتى رجع حكمه إلى ما كان وفي الثاني لا عرف له في الاستعمال فيبقى على ما كان
ولنا أن عرف الاستعمال في الأمر بعد الحظر الإباحة بدليل أن أكثر أوامر الشرع بعد الحظر للإباحة كقوله تعالى إذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فإذا تطهرن فأتوهن وقول النبي صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأوعية كلها ولا تشربوا مسكرا وفي العرف أن السيد لو قال لعبده لا تأكل هذا الطعام ثم قال كله أو قال لأجنبي ادخل داري وكل من ثماري اقتضى ذلك رفع الحظر دون الإيجاب ولذلك لا يحسن اللوم والتوبيخ على تركه فإن قيل فقد قال الله تعالى فإذا (1/198)
انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين قلنا ما استفيد وجوب القتل بهذه الآية بل بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فقاتلوا أئمة الكفر وأما أدلة الوجوب فإنما تدل على اقتضائه مع عدم القرائن الصارفة له بدليل المندوبات وغيرها وتقدم الحظر قرينة صارفة لما ذكرناه وقولهم إن النسخ يكون بالإيجاب قلنا النسخ إنما يكون بالإباحة التي تضمنها الإيجاب فهو مقتض لإباحة الترك كقوله عليه السلام توضأوا من لحوم الإبل ولا تتوضأوا من لحوم الغنم وإن سلمنا فالنهي آكد
الأمر المطلق لا يقتضي التكرار
الأمر المطلق لا يقتضي التكرار في قول أكثر الفقهاء والمتكلمين هو اختيار أبي الخطاب (1/199)
وقال القاضي وبعض الشافعية يقتضي التكرار لأن قوله صم ينبغي أن يعم كل زمان كما أن قوله اقتلوا المشركين يعم كل مشرك لأن إضافة الأمر إلى جميع الزمان كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الأشخاص ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وموجب النهي ترك المنهي أبدا فليكن موجب الأمر فعل الصوم أبدا فإن قوله صم معناه لا تفطر وقوله لا تفطر يقتضي التكرار أبدا ولأن الأمر يقتضي العزم والفعل ثمراته تقتضي العزم على التكرار فكذلك الموجب الآخر
وقيل إن علق الأمر على شرط اقتضى التكرار وإلا فلا يقتضيه لأن تعليق الحكم بالشرط كتعلقه بالعلة ثم إن الحكم يتكرر بتكرر علته فكذلك يتكرر بتكرر شرطه ولأنه لا اختصاص له بالشرط الأول دون بقية الشروط ودليل اعتباره النهي المعلق على شرط
وقيل إن كرر لفظ الأمر كقول صل غدا ركعتين اقتضي التكرار طلبا لفائدة الأمر الثاني وحملا له على مقتضاه في الوجوب والندب كالأول وحكي هذا القول عن أبي حنيفة وأصحابه
ولنا أن الأمر خال عن التعرض لكمية المأمور به إذ ليس في نفس اللفظ تعرض للعدد ولا هو موضوع لآحاد الأعداد وضع اللفظ المشترك لكنه محتمل للإتمام ببيان الكمية فهو كقوله اقتل لا نقول هو مشترك بين زيد وعمرو ولا فيه تعرض لهما فتفسيره بهما أو بأحدهما زيادة على كلام ناقص فإتمامه بلفظ دل على تلك الزيادة لا بمعنى البيان فحصل من هذا أن ذمته تبرأ بالمرة الواحدة لأن وجوبها معلوم والزيادة لا دليل عليها ولم يتعرض اللفظ لها فصار الزائد كما قبل الأمر فإنا كنا نقطع بانتفاء الوجوب (1/200)
فقوله صم أزال القطع في مرة واحدة فصار كما كان ويعتضد هذا باليمين والنذر والوكالة والخبر
بيانه أنه لو قال والله لأصومن أو لله علي أن أصوم بر بصوم يوم ولو قال لوكيله طلق زوجتي لم يكن له أكثر من تطليقة ولو أمر عبده بدخول الدار أو بشراء متاع خرج عن العهدة بمرة واحدة ولم يحسن لومه ولا توبيخه ولو قال صمت أو سوف أصوم صدق بمرة واحدة
فإن قيل فلم حصل الاستفسار عنه قلنا هذا يلزمكم إن كان يقتضي التكرار فلم حسن الاستفسار ثم يبطل بما ذكرناه من الأمثلة بحسن الاستفسار مع انه لا يقتضي التكرار ثم أنه حسن الاستفسار لأنه محتمل له لما ذكرناه
وقولهم إن صم عام في الزمان ليس بصحيح إذ لا يتعرض للزمان بعموم ولا خصوص لكن الزمان من ضرورته كالمكان ولا يجب عموم الأماكن بالفعل كذا الزمان وليس هذا نظير قولنا اقتلوا المشركين بل نظيره قولهم صم الأيام ونظير مسألتنا قوله اقتل مطلقا فإنه لا يقتضي العموم في كل من يمكن قتله
والفرق بين الأمر والنهي أن الأمر يقتضي وجود المأمور مطلقا والنهي يقتضي ألا يوجد مطلقا والنفي المطلق يعم والوجود المطلق لا يعم فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقا وما انتفى مرة فما انتفى مطلقا ولذلك افترقا في اليمين والنذر والتوكيل والخبر ولأن الأمر يقتضي الإثبات والنهي يقتضي النفي والنفي في النكرة يعم والإثبات المطلق لا يعم
وتحقيقه أنه لو قال لا تفعل مرة واحدة اقتضى العموم ولو قال افعل مرة واحدة اقتضى التخصيص بلا خلاف وقولهم أن الأمر بالشيء نهي (1/201)
عن ضده قلنا إنما هو نهي عما يعقب الامتثال فكان النهي مقيدا بزمن امتثال الأمر وقولهم إن الأمر يقتضي الاعتقاد على الدوام قلنا يبطل بما لو قال افعل مرة واحدة والفرق بين الفعل والاعتقاد أن الاعتقاد ما وجب بهذا الأمر إنما وجب بأخباره أنه يجب اعتقاد أ وامره فمتى عرف الأمر ولم يعتقد وجوبا كان مكذبا وقولهم إن الحكم يتكرر بتكرار العلة فكذا الشرط قلنا العلة تقتضي حكمها فيوجد بوجودها والشرط لا يقتضي وإنما هو بيان لزمان الحكم فإذا وجد ثبت عنده ما كان يثبت بالأمر المطلق كاليمين والنذر وسائر ما استشهدنا به
وقولهم إن الواجب يتكرر بتكرر اللفظ لا يصح فإن اللفظ الثاني دل على ما دل عليه اللفظ الأول فلا يصح حمله على واجب سواه ولذلك لو كرر اليمين فقال والله لأصومن والله لأصومن بر بصوم واحد وقد نقل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال والله لأغزون قريشا ثلاثا ثم غزاهم غزوة الفتح ولو كرر لفظ النذر لكان الواجب به واحدا وفائدة اللفظ الثاني تحصيل التأكيد فإنه من سائغ كلام العرب
اقتضاء الأمر الفورية
مسألة
الأمر يقتضي فعل المأمور به على الفور في ظاهر المذهب وهو قول الحنفية
وقال أكثر الشافعية هو على التراخي لأن الأمر يقتضي فعل المأمور لا غير أما الزمان فهو لازم الفعل كالمكان والآلة ولأن الزمان في الأمر إنما حصل ضرورة والضرورة تندفع بأي زمان كان فالتعيين تحكم ويعتضد هذا بالوعد واليمين لو قال سوف أفعل فمتى فعل كان صادقا وكذا اليمين
وقالت الواقفية هو على الوقف في الفور والتراخي والتكرار وعدمه (1/202)
وهو بين البطلان فإن المبادر ممتثل بإجماع الأمة مبالغ في الطاعة مستوجب جميل الثناء ولو قيل لرجل قم فقام في الحال عد ممتثلا ولم يعد مخطئا باتفاق أهل اللغة وقد أثنى الله تعالى على المسارعين فقال أولئك يسارعون في الخيرات
ولنا أدلة أحدها قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم فاستبقوا الخيرات أمر بالمسارعة وأمره يقتضي الوجوب
الثاني أن مقتضاه عند أهل اللسان الفور فإن السيد لو قال لعبده اسقني فأخر حسن لومه وتوبيخه وذمه ولو اعتذر عن تأديبه على ذلك بأنه خالف أمري وعصاني لكان عذره مقبولا
الثالث أنه لا بد من زمان وأولى الأزمنة عقيب الأمر ولأنه يكون ممتثلا يقينا وسالما من الخطر قطعا ولأن الأمر سبب للزوم الفعل فيجب أن يتعقبه حكمه كالبيع والطلاق وسائر الإيقاعات ولذلك يعقبه العزم على الفعل والوجوب
الرابع أن جواز التأخير غير مؤقت ينافي الوجوب فإنه لا يخلو إما أن يؤخر إلى غاية أو إلى غير غاية فالأول باطل لأن الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة لأنه يكون تكليفا لما لا يدخل تحت الوسع وإن جعلت الغاية الوقت الذي يغلب على ظنه البقاء إليه فباطل أيضا فإن الموت يأتي بغتة كثيرا ثم لا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات لا سيما العبادات الشاقة كالحج لا سيما والإنسان طويل الأمل يهرم ويشب أمله وإن قيل يؤخر إلى غير غاية فباطل أيضا لأنه لا يخلو من قسمين (1/203)
إما أن يؤخر إلى غير بدل فيلتحق بالنوافل والمندوبات
أو إلى بدل فلا يخلو البدل إما أن يكون بالوصية به أو العزم عليه والوصية لا تصلح بدلا لأن كثيرا من العبادات لا تدخلها النيابة ولأنه لو جاز التأخير للموصي جاز للوصي أيضا فيفضي إلى سقوطه والعزم ليس ببدل لأن العزم يجب قبل دخول الوقت والبدل لا يجب قبل دخول وقت المبدل ولأن وجوب البدل يحذو وجوب المبدل والمبدل لا يجب على الفور فكذلك البدل ولأن البدل يقوم مقام المبدل ويجزىء عنه والعزم ليس بمسقط للفعل وكيف يجب الجمع بين البدل والمبدل ثم لا ينفعكم تسميته بدلا مع كون الفعل واجبا فما الذي يسقط وجوب الفعل ويقوم مقامه
فإن قيل هذا يبطل بما إذا قال افعل أي وقت شئت فقد أوجبته عليك فإنه لا يتناقض
قلنا بل يتناقض إذ حقيقة الواجب ما لا يجوز تركه مطلقا وهذا جائز الترك مطلقا وقولهم إن الأمر لا يتعرض للزمان فهي مطالبة بالدليل وقد ذكرناه والفرق بين الزمان والمكان والآلة أن عدم التعيين في الزمان يفضي إلى فواته بخلاف المكان ولأن المكانين سواء بالنسبة إلى الفعل والزمان الأول أولى لسلامته فيه من الحظر والخروج من العهدة يقينا فافترقا
الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته
فصل
الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته ولا يفتقر إلى أمر جديد وهو قول بعض الفقهاء
وقال الأكثرون لا يجب القضاء إلا بأمر جديد اختاره أبو الخطاب لأن تخصيص العبادة بوقت الزوال وشهر رمضان كتخصيص الحج بعرفات والزكاة بالمساكين والصلاة بالقبلة والقتل بالكفار ولا فرق بين الزمان والمكان (1/204)
والشخص إذ جميع ذلك تقييد له بصفة فالعاري عنها لا يتناوله اللفظ بل يبقى على ما كان قبل الأمر
ولنا أن الأمر اقتضى الوجوب في الذمة فلا تبرأ منه إلا بأداء أو إبراء كما في حقوق الآدميين وخروج الوقت ليس بواحد منهما ويصير هذا كما لو اشتغل الحيز بجو هو لا يزول الشغل إلا بمزيل والفرق بين الزمان والمكان أن الزمن الثاني تابع للأول فما ثبت فيه انسحب على جميع الأزمنة التي بعده بخلاف الأمكنة والأشخاص
اقتضاء الأمر الإجزاء بفعل المأمور به
فصل
ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضي الإجزاء بفعل المأمور به إذا امتثل المأمور بكمال وصفه وشرطه
وقال بعض المتكلمين لا يقتضي الإجزاء ولا يمتنع وجوب القضاء مع حصول الامتثال بدليل المضي في الحج الفاسد ويجب القضاء ومن ظن أنه متطهر فإنه مأمور بالصلاة إذا صلى فهو ممتثل مطيع ويجب القضاء ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد والأمر بالشيء لا يمنع إيجاب مثله يدل عليه أن الأمر إنما يدل على اقتضاء المأمور وطلبه لا غير والإجزاء أمر زائد لا يدل عليه الأمر ولا يقتضيه
ولنا ما روى أن امرأة سنان بن سلمة الجهني أمرت أن تسأل (1/205)
رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزىء عنها أن تحج عنها قال نعم ولو كان على أمها دين فقضته ألم يكن يجزىء عنها فلتحج عنها وهذا يدل على أن الإجزاء بالقضاء كان مقررا عندهم ولأن الأصل براءة الذمة وإنما اشتغلت بالمأمور به وطريق الخروج عن عهدته الإتيان به فإذا أتى به يجب أن تعود ذمته بريئة كما كانت كديون الآدميين وفي المحققات إذا اشتغل الحيز بجوهر فبرفعه يزول الشغل ولأنه لو لم يخرج عن العهدة للزمه الامتثال أبدا فإذا قال له صم يوما فصامه فالأمر يتوجه إليه بصوم يوم كما كان قبل منه ذلك أبدا وهو خلاف الإجماع
قولهم إن القضاء يجب بأمر جديد ممنوع وإن سلم فإن القضاء إنما سمي قضاء إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها وإن لم يكن كذلك استحال تسميته قضاء والحج الفاسد والصلاة بلا طهارة أمر بها مع الخلل ضرورة حاله ونسيانه فعقل الأمر بتدارك الخلل أما إذا أتى بها مع الكمال بلا خلل فلا يعقل إيجاب القضاء والمفسد لحجة لا يقضي الفاسد وإنما هو مأمور بحج خال عن الفساد وقد أفسده على نفسه فيبقى في عهدة الأمر ويؤمر بالمضي بالفاسد ضرورة الخروج عن الإحرام وقولهم لا يقتضي الأمر إلا الامتثال هو محل النزاع لا يقبل (1/206)
الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا به
فصل
الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا به ما لم يدل عليه دليل مثاله قوله صلى الله عليه و سلم مروهم بالصلاة لسبع ليس بخطاب من الشارع للصبي ولا إيجابا عليه مع ان الأمر واجب على الولي لكن إذا كان المأمور بالأمر النبي صلى الله عليه و سلم كان وجبا بأمر النبي صلى الله عليه و سلم لقيام الدليل على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه و سلم وتحريم مخالفته أما إذا كان المأمور بالأمر غيره فلا يبعد أن يجب عليه الأمر لحكمة فيه مختصة به ولهذا لا يمتنع أن يقال للولي الذي يعتقد أن لطفله على طفل آخر شيئا عليك المطالبة بحقه ويقال لولي الطفل الآخر إذا لم تعلم أن على طفلك شيئا بجب عليك الممانعة وليس لك التسليم
أمر الجماعة أمر للواحد منهم
فصل
الأمر لجماعة يقتضي وجوبه على كل واحد منهم ولا يسقط الواجب عنهم بفعل واحد منهم إلا أن يدل عليه دليل أو يرد الخطاب بلفظ لا يعم كقوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيكون فرض كفاية
فإن قيل ما حقيقة فرض الكفاية أهو واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض أم على واحد غير معين كالواجب المخير أم واجب على من حضر دون من غاب كحاضر الجنازة مثلا (1/207)
قلنا بل واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض بحيث لو فعله الجميع نال الكل ثواب الفرض ولو امتنعوا عم الإثم الجميع ويقاتلهم الإمام على تركه وسقوط الفرض بدون الأداء ممكن إما بالنسخ أو بسبب آخر
أما الإيجاب على واحد لا بعينه فمحال لأن المكلف ينبغي أن يعلم أنه مكلف وإذا أبهم الوجوب لم يعلم بخلاف إيجاب خصلة من خصلتين فإن التخيير فيهما لا يوجب تعذر الامتثال
أمر الله النبي صلى الله عليه و سلم أمر لأمته ما لم يقم دليل تخصيص
فصل
إذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بلفظ ليس فيه تخصيص كقوله تعالى يا أيها المزمل قم الليل أو أثبت في حقه حكما فإن أمته يشاركونه في ذلك الحكم ما لم يقم على اختصاصه به دليل وكذلك إذا توجه الحكم إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره ويدخل فيه النبي صلى الله عليه و سلم نحو قوله إن الله فرض عليكم صيامه هذا قول القاضي وبعض المالكية وبعض الشافعية وقال أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وبعض الشافعية يختص الحكم بمن توجه إليه الأمر لأن السيد من أهل اللغة لو أمر عبدا من عبيده بأمر لاختص به دون بقية عبيده ولو أمر الله تعالى بعبادة لم يتناول بمطلقه عبادة أخرى ولأن لفظ العموم لا يحمل على الخصوص بمطلقه فكذلك الخصوص لا يحمل على العموم
ولنا قول الله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم فعلل إباحته لنبيه عليه السلام بنفي الحرج عن أمته ولو اختص به الحكم لما كان علة لذلك
وأيضا قوله تعالى خالصة لك من دون المؤمنين ولو كان الأمر مختصا به (1/208)
لما احتيج إلى تخصيصه بلفظ التخصيص وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم سأله رجل فقال تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقى وروي عنه في القبلة للصائم مثل ذلك رواه مسلم فالحجة فيه من وجهين
أحدهما أنه أجابهم بفعله ولو اختص به الحكم لم يكن جوابا لهم
الثاني أنه أنكر عليهم مراجعتهم له باختصاصه بالحكم فدل على أن مثل هذا لا يجوز اعتقاده ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون إلى أفعال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يختلفون فيه من الأحكام كرجوعهم إلى فعله في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال وإيجاب الوضوء من الملامسة وصحة الصوم ممن أصبح جنبا وعدم ثبوت حكم الإحرام في حق من بعث هديه وأقام في أهله حتى عدوا ذلك ناسخا لما قبله معارضا لما خالفه من أمره ونهيه ولأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بقيام الليل ودخل فيه أمته حتى نسخه بقوله علم أن لن تحصوه فتاب عليكم (1/209)
ولما عاتبه في تحريم ما أحل الله له قال عقيبه قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وابتدأ الخطاب بمناداته وحده ثم تممه بلفظ الجمع بقوله يا أيها النبي إذا طلقتم وهذا يدل على أن حكم خطابه لا يختص به وقد أشار إليه عليه ا لسلام بقوله إنما أسهو لأسن فإذا ثبت أن امته يشاركونه في حكمه فلزم مشاركته لهم في حكمهم لوجود التلازم ظاهرا فإن ما ثبت في أحد المتلازمين ثبت في الآخر فإنه لو ثبت في حقهم حكم انفردوا به دونه لثبت نقيض ذلك الحكم في حقه دونهم وقد أقمنا الدليل (1/210)
على خلافه ولهذا قالت حفصة للنبي صلى الله عليه و سلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت هدبي فلا أحل حتى أنحر فلولا أنه داخل فيما ثبت لهم من الأحكام ما استدعوا منه موافقتهم ولا أقرهم على ذلك وبين لهم عذره والدلالة على أن الحكم إذا ثبت في حق واحد من الصحابة دخل فيه غيره قوله عليه السلام خطابي للواحد خطابي للجماعة ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانت ترجع في أحكامها إلى قضايا النبي صلى الله عليه و سلم في الأعيان كرجوعهم في حد الزاني إلى قصة ماعز وفي دية الجنين إلى حديث حمل بن مالك وفي المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق وفي السكنى والنفقة إلى (1/211)
حديث فاطمة بنت قيس وفريعة بنت مالك وإلى حديث صفية الآنصارية في سقوط طواف الوداع عن الحائض وغير ذلك ولأنه لو اختص به لما احتيج إلى التخصيص بقوله لأبي بردة في التضحية بالجذع من المعز تجزيك ولا تجزي عن أحد بعدك
دليل آخر أن قول الراوي نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أمر أو قضى يعم ولو اختص الحكم من شوفه به لم يكن عاما ولأن الخطاب (1/212)
بالكتاب والسنة إنما شوفه به أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ولا خلاف في ثبوت حكمه في حق أهل الأعصار
تعليق الأمر بالمعدوم
فصل
الأمر يتعلق بالمعدوم وأوامر الشرع قد تناولت المعدومين إلى قيام الساعة بشرط وجودهم على صفة من يصح تكليفه خلافا للمعتزلة وجماعة من الحنفية قالوا لا يتعلق الأمر به لأنه يستحيل خطابه فيستحيل تكليفه ولأنه لا يقع منه فعل ولا ترك فلم يصح أمره كالعاجز والمجنون ولأن المعدوم ليس بشيء فأمره هذيان وكما أن من شرط القدرة وجود المقدور يجب أن يكون من شرط الأمر وجود المأمور
ولنا اتفاق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين على الرجوع إلى الظواهر المتضمنة أوامر الله سبحانه وأوامر نبيه عليه السلام على من لم يوجد في عصرهم لا يمتنع من ذلك أحد ولأنه قد ثبت أن كلام الله تعالى قديم وصفة من صفاته لم يزل آمرا ناهيا وقال الله تعالى فاتبعوه وهذا أمر باتباع النبي صلى الله عليه و سلم ولا خلاف أنا مأمورون باتباعه ولم نكن موجودين
قولهم إن خطاب المعدومين محال قلنا إنما يستحيل خطابه بإيجاد الفعل حال عدمه أما أمره بشرط الوجود فغير مستحيل بأن يفعل عند وجوده ما أمر به متقدما كما يقول الوالد يوجب على أولاده ويلزمهم التصدق عنه إذا عقلوا وبلغوا فيكون الإلزام حاصلا بشرط الوجود ولو قال لعبده صم غدا فهو أمر في الحال بصوم الغد وأما العاجز فإنه يصح أمره بشرط القدرة كمسألتنا بغير فرق
فإن قيل هذا مخالف لقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة عن (1/213)
الصبي قلنا المراد به رفع المأثم والإيجاب المضر بدليل أنه قرن به النائم ولا نسلم أن شرط القدرة وجود المقدور فإن الله سبحانه وتعالى قادر قبل أن يوجد مقدور
التكليف بغير الممكن
فصل
ويجوز الأمر من الله سبحانه لما في معلومه أن المكلف لا يتمكن من فعله
وعند المعتزلة لا يجوز ذلك إلا أن يكون تعلقه بشرط تحققه مجهولا عند الآمر أما إذا كان معلوما أنه لا يتحقق الشرط فلا يصح الأمر به لأن الأمر طلب فكيف يطلب الحكيم ما يعلم امتناعه وكيف يقول السيد لعبده خط ثوبي إن صعدت السماء وبهذا يفارق أمر الجاهل لأن من لا يعرف عجز غيره عن القيام يتصور أن يطلبه منه أما إذا علم امتناعه فلا يكون طالبا وإذا لم يكن طالبا لم يكن آمرا
ولأن إثبات الأمر بشرط يفضي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطا بما يوجد بعده والشرط ينبغي أن يقارن أو يتقدم أما أن يتأخر عن المشروط فمحال
وهذه المسألة تنبني على النسخ قبل التمكن وأن فيه فائدة على ما مضى
ولنا الإجماع على أن الصبي إذا بلغ يجب عليه ان يعلم ويعتقد انه مأمور بشرائع الإسلام منهي عن الزنى والسرقة ويثاب على العزم على أمتثال المأمورات وترك المنهيات ويكون متقربا بذلك وإن لم يحضر وقت عبادة ولا يمكن من زنى ولا سرقة وعلمه بأن الله تعالى عالم بعاقبة الأمر لا ينفي عنه ذلك وإن احتمل أن لا يكون مأمورا منهيا لعدم مساعدة التمكن يجب (1/214)
أن يشك في كونه مأمورا منهيا وفي كونه متقربا إذلا خلاف في العزم على امتثال ما ليس بمأمور وترك ما ليس بقربه وهذا لا يتيقن أنه مأمور ولا متقرب وهذا خلاف الإجماع
ودليل ثان الإجماع على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية ولا تقبل نية الفرضية إلا بعد معرفة الفرضية والعبد ينوي في أول الوقت فرض الظهر وربما مات في أثنائها فتبين عندهم أنها لم تكن فرضا فليكن شاكا في الفرضية فتمتنع النية لأنها لا تتوجه إلا إلى المعلوم فإن قيل فإذا مات في أثنائها كيف يقال إن الأربع كانت فريضة على الميت
قلنا هو قاطع بأنها فرض عليه لكن بشرط البقاء والأمر بشرط أمر في الحال وليس بمعلق من عزم عليه يثاب ثواب العزم على الواجبات فإن قول السيد لعبده صم غدا أمر في الحال بصوم الغد لا أنه أمر في الغد ولو قال فرضت عليك بشرط بقائك فهو فارض في الحال لكن بشرط ولو قال لوكيله بع داري في راس الشهر كان وكيلا في الحال يصح أن يقال وكله ويصح عزله وإذا قال وكلني وعزلني كان صادقا فإن مات قبل رأس الشهر لم يتبين كذبه بخلاف ماإذا قال إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي فإنه لا يكون وكيلا في الحال
الثالث الإجماع على لزوم الشروع في صوم رمضان فإن كان الموت يتبين به عدم الأمر والموت يجوز فيصير مشكوكا فيه فكيف تلزمه العبادة بالشك
قالوا لأن الظاهر بقاؤه والحاصل يستصحب والاستصحاب أصل تنبني عليه الأمور كما أن من أقبل عليه سبع لم يقبح الهرب وإن كان من المحتمل موت السبع دونه ولو فتح هذا الباب لم يتصور امتثال الأمر
قلنا هذا يلزمكم ومذهبكم يفضي إليه وما أفضي إلى المحال محال
وأما الهرب فحزم وأخذ بالأسوأ من الأحوال ويكفي فيه الاحتمال (1/215)
البعيد والشك فإن من شك في سبع في العرين أو لص حسن منه الاحتراز عنه
وأما الوجوب فلا يثبت بالشك والاحتمال بل ينبغي أن من أعرض عن الصوم لم يكن عاصيا لأنه أخذ بالاحتمال الآخر
وقولهم الأمرطلب وطلب المستحيل من الحكيم محال
قلنا الأمر إنما هو قول الأعلى لمن دونه افعل مع تجردها عن القرائن وهذا متصور مع علمه بالاستحالةوعلى أنا لو سلمنا أن الأمر طلب فليس الطلب من الله تعالى كالطلب من الآدميين وإنما هو استدعاء فعل لمصلحة العبد وهذا يحصل مع الاستحالة لكي يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال أو الترك لطفا به في الاستعداد والانحراف عن الفساد وهذا متصور
ويتصور من السيد ايضا أن ليستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على فسخ الأمر قبل الامتثال امتحانا للعبد واستصلاحا له ولو وكل رجلا في عتق عبده غدا مع عزمه على عتق العبد صح ويتحقق فيها المقصود من استمالة الوكيل وامتحانه في إظهار الاستبشار بأوامره والكراهية له وكل ذلك معقول الفائدة فكذا ههنا
وقولهم يفضي إلى تقدم المشروط على الشرط
قلنا ليس هذا شرطا لذات الأمر بل الأمر موجود وجد الشرط أم لم يوجد وإنما هو شرط لوجوب التنفيذ فلا يفضي إلى ما ذكروه
باب النهي
فصل
اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي على العكس فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير (1/216)
من ذلك أن النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها
وقال قوم النهي عن الشيء لعينه يقتضي الفساد والنهي عنه لغيره لا يقتضيه لأن الشيء قد يكون له جهتان هو مقصود من إحداهما مكروه من الأخرى على ما مضى
وقال آخرون النهي عن العبادات يقتضي فسادها وفي المعاملات لا يقتضيه لأن العبادة طاعة والطاعة موافقة الأمر والأمروالنهي يتضادان فلا يكون النهي مأمورا فلا يكون طاعة ولا عبادة ولأن النهي يقتضي التحريم وكون الشيء قربة محرما محال
وحكي عن طائفة منهم أبو حنيفة ان النهي يقتضي الصحة لأن النهي يدل على التصور لكونه يراد للامتناع والممتنع في نفسه المستحيل في ذاته لا يمكن الامتناع منه فلا يتوجه إليه النهي كنهي الزمن عن القيام والأعمى عن النظر
وكما أن الأمر يستدعي مأمورا يمكن امتثاله فالنهي يستدعي منهيا يمكن ارتكابه إذا ثبت تصوره فلفظات الشرع تحمل على المشروع دون اللغوي
فإذا نهى عن صوم يوم النحر دل على تصوره شرعا
وقال بعض الفقهاء وعامة المتكلمين لا يقتضي فسادا ولا صحة لأن النهي من خطاب التكليف والصحة والفساد من خطاب الأخبار فلا يتنافى أن يقول نهيتك عن كذا فإذا فعلته رتبت عليك حكمه ولو صرح به فقال للأب لا تستولد جارية الابن فإن فعلته ملكت الجارية ولا تطلق المرأة وهي حائض فإن فعلت وقع الطلاق ولا تغسل الثوب بماء مغصوب فإن فعلت طهر الثوب لم يكن هذا مناقضا فإذا لا دليل عليه من حيث الشرع ولا عرف له في اللغة
ولنا أدلة أحدها ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم (1/217)
قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أي مردود وما كان مردودا على فاعله فكأنه لم يوجد
فإن قيل معناه ليس بمقبول قربة ولا طاعة
قلنا قوله مردود يقتضي رد ذاته فإن لم يكن اقتضى رد ما يتعلق به ليكون وجوده وعدمه واحدا
والثاني أن الصحابة رضي الله عنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها فاستدلوا على فساد عقود الربا بقوله عليه السلام لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل واحتج ابن عمر في فساد نكاح المشركات بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات وفي نكاح المحرم بالنهي وفي بيع الطعام قبل قبضه بالنهي وغير ذلك مما يطول
الثالث أن النهي عن الشيء يدل على تعلق المفسده به أو بما يلازمه لأن الشارع حكيم لا ينهي عن المصالح إنما ينهي عن المفاسد وفي القضاء بالفساد إعدام لها بأبلغ الطرق
الرابع أن النهي عنها مع ربط الحكم بها يفضي إلى التناقض في الحكمة لأن نصبها سببا تمكين من التوسل والنهي من التوسل ولأن حكمها مقصود الآدمي ومتعلق غرضه فتمكينه منه حث على تعاطيه والنهي منع من التعاطي ولا يليق ذلك بحكمة الشرع ثم لا فرق بين كون النهي عن الشيء لعينه أو لغيره لدلالة النهي على رجحان ما يتعلق به من المفسدة والمرجوح كالمستهلك المعدوم (1/218)
وقولهم إن النهي لا ينافي الصحة قد بينا تناقضهما وإن سلمنا أنه لا ينافيه لكن يدل على الفساد ظاهرا ويكفي ذلك وفي المواضع التي قضينا بالصحة خولف فيه الظاهر فلا يخرجه عن أن يكون الأصل ما ذكرناه كما لو خولف مقتضاه في التحريم
وقولهم إنه يدل على الصحة بعيد جدا فإنهم إذا لم يجعلوه دليلا عل الفساد مع قربه منه كيف يجعلونه دليلا على الصحة
قولهم إنه يدل على التصور
قلنا يدل على تصوره حسا وهو الأفعال
أما الصحة والفساد فحكمان شرعيان لا ينهي عنهما ولا يؤمر بهما
ودليله سائر مناهي الشرع كالمحاقلة والمزابنة والمنابذة والملامسة وقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وذروا ما بقي من الربا وقوله عليه السلام دعي الصلاة أيام إقرائك إلى نظائره
قولهم إن الأسامي الشرعية تحمل على موضوع الشرع عنه جوابان (1/219)
أحدهما أن الأصل تقرير الأوضاع اللغوية إلا ما صرف عنه الاستعمال الشرعي وفي الأوامر ألفنا من الشارع استعمال هذه الأسماء للموضوع الشرعي أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف
الثاني أنا نسلم استعماله في الموضوع الشرعي لكن الصلاة الشرعية هي الأفعال المنظومة والصحة غير داخلة في حد لما ذكرناه
باب العموم
اعلم أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة وقد يطلق في غيرها كقولهم عمهم القحط والمطر والعطاء ولكنه مجاز فإن عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو وليس في الوجود فعل هو عطاء نسبته إلى زيد وعمرو واحد وليس في الوجود معنى واحد مشترك بين اثنين وعلوم الناس وقدرهم وإن اشتركت في أنها علم وقدرة لا توصف بأنها عموم والرجل له وجود في الأعيان والأذهان واللسان فوجوده في الأعيان لا عموم له إذ ليس في الوجود رجل مطلق بل إما زيد وإما عمرو وأما وجوده في اللسان فلفظة الرجل قد وضعت للدلالة ونسبتها في الدلالة عليهما واحدة فسمي عاما لذلك وأما الذي في الأذهان من معنى الرجل فيسمى كليا فإن العقل يأخذ من مشاهدة زيد حقيقة الإنسان وحقيقة الرجل فإذا رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو الحادث كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا فإن سمي عاما بهذا المعنى فلا بأس وحينئذ العام هو اللفظ الواحد الدال على شيئين فصاعدا مطلقا واحترازنا بالواحد عن قولهم ضرب زيد عمرا فإنه يدل على شيئين لكن بلفظين وبقولنا مطلقا عن قولهم رجال فإنه يدل على شيئين فصاعدا لكن ليس بمطلق بل هو إلى إتمام العشرة وقيل العام كلام مستغرق لجميع ما يصلح له
ثم العام ينقسم إلى عام لا أعم منه ويسمى عاما مطلقا كالمعلوم يتناول (1/220)
الموجود والمعدوم وقيل الشيء وقيل ليس لنا عام مطلق لأن الشيء لا يتناول المعدوم والمعلوم لا يتناول المجهول
والخاص ينقسم إلى خاص لا أخص منه يسمى خاصا مطلقا كزيد وعمرو وهذا الرجل وما بينهما عام وخاص بالنسبة فكل ما ليس بعام ولا خاص مطلقا فهو عام بالنسبة إلى ما تحته خاص بالنسبة إلى ما فوقه
والموجود خاص بالنسبة إلى المعلوم عام بالنسبة إلى الجوهر
والجوهر خاص بالنسبة إلى الموجود عام بالنسبة إلى الجسم
والجسم خاص بالنسبة إلى الجوهر عام بالنسبة إلى النامي والنامي خاص بالنسبة إلى الجسم عام بالنسبة إلى الحيوان وأشباه ذلك يسمى عاما لشموله ما يشمله خاصا من حيث قصوره عما شمله غيره
ألفاظ العموم
فصل
وألفاظ العموم خمسة أقسام
الأول كل اسم عرف بالألف واللام لغير المعهود وهو ثلاثة أنواع
الأول ألفاظ الجموع كالمسلمين والمشركين والذين
والنوع الثاني أسماء الأجناس وهو ما لا واحد له من لفظه كالناس والحيوان والماء والتراب
والنوع الثالث لفظ الواحد كالسارق والسارقة والزاني والزانية و إن الإنسان لفي خسر
القسم الثاني من ألفاظ العموم ما أضيف من هذه الأنواع إلى معرفة كعبيد زيد ومال عمرو
القسم الثالث أدوات الشرط كمن فيمن يعقل وما فيما لا يعقل وأي في الجميع وأين وأيان في المكان ومتى في الزمان ونحوه كقوله تعالى ومن يتوكل (1/221)
على الله فهو حسبه ما عندكم ينفد وما عند الله باق أينما تكونوا يدرككم الموت وقوله عليه السلام أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها
القسم الرابع كل وجميع كقوله تعالى كل نفس ذائقة الموت ولكل أمة أجل والله خالق كل شيء
القسم الخامس النكرة في سياق النفي كقوله تعالى ولم تكن له صاحبة ولا يحيطون بشيء من علمه قال البستي الكامل (1/222)
في العموم هو الجمع لوجود صورته ومعناه وما عداه قاصر في العموم لأنه بصيغته إنما يتناول واحدا لكنه ينتظم جمعا من المسميات معنى فالعموم قائم بمعناها لا بصيغتها
واختلف الناس في هذه الأقسام الخمسة
فقالت الواقفية لا صيغة للعموم بل أقل الجمع داخل فيه بحكم الوضع وفيما زاد عليه بين الاستغراق وأقل الجمع مشترك كاشتراك لفظ النفر بين الثلاثة والخمسة وحكى مثل ذلك عن محمد بن شجاع الثلجي قالوا لأن أقل الجمع متعين وفيما زاد مشكوك يحتمل أن يكون مرادا وأن لا يكون مرادا فيحمل على اليقين ولأن وضع هذه الصيغ للعموم إما أن تعلم بعقل أو بنقل
فالعقل لا مدخل له في اللغات
والنقل إما تواتر وإما آحاد والآحاد لا يحتج بها
والتواتر لا تمكن دعواه ثم لو كان لأفاد علما ضروريا ولأنا لما رأيت العرب تستعمل الألفاظ المشتركة في جميع مسمياتها قضينا بأنها مشتركة
وأن من ادعى أنها حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر كان متحكما
وهذه الصيغ تستعمل في العموم والخصوص بل استعمالها في الخصوص أكثر في الكتاب والسنة وليس أحدهما أولى من الآخر فهما قولان متقابلان فيجب تدافعهما والقول والاعتراف بالاشتراك ولأنه يحسن الاستفهام (1/223)
فلو قال من دخل داري فأعطه درهما حسن أن يقول وإن كان كافرا فاسقا ولو عم اللفظ لما حسن أن يستفسر
ولنا مسلكان
أحدهما إجماع الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم من اهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل على تخصيصه دليل فإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم فعملوا بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم واستدلوا به على إرث فاطمة حتى نقل أبو بكر نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وأجروا السارق والسارقة الزانية والزاني ومن قتل مظلوما وذروا ما بقي من الربا ولاتقتلو أنفسكم ولا تقتلوا الصيد ولاتنكح المرأة على عمتها ومن أغلق بابه فهو آمن لا يرث القاتل وغير ذلك مما لا يحصى على العموم ولما نزل قوله تعالى لا يستوي (1/224)
القاعدون من المؤمنين قال ابن أم مكتوم إني ضرير البصر فنزل غير أولي الضرر فعقل الضرير وغيره من عموم اللفظ ولما نزل إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال ابن الزبعري لأخصمن محمدا فقال له قد عبدت الملائكة والمسيح أفيدخلون النار فنزل إن الذين سبقت لهم منا الحسنة اولئك عنها مبعدون فعقل العموم ولم ينكر عليه حتى يبين الله تعالى المراد من اللفظ ولما أراد أبو بكر قتال مانعي الزكاة قال له عمر كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث فلم ينكر أبو بكر احتجاجه بل قال أليس قد قال إلا بحقها والزكاة من حقها واختلف عثمان وعلي في الجمع بين الأختين فاحتج عثمان بقوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم واحتج علي بمعموم قوله تعالى وأن (1/225)
تجمعوا بين الأختين ولما سمع عثمان بن مظعون قول لبيد ... وكل نعيم لا محالة زائل ...
قال له كذبت إن نعيم الجنة لا يزول وهذا وأمثاله مما لا ينحصر كثرة يدل على اتفاقهم على فهم العموم من صيغته والإجماع حجة ولو لم يكن إجماعهم حجة لكان حجة من حيث أنهم أهل اللغة وأعرف بصيغها وموضوعاتها
المسلك الثاني أن صيغ العموم يحتاج إليها في كل لغة ولا تختص بلغة العرب فيبعد جدا أن يغفل عنها جميع الخلق فلا يضعونها مع الحاجة إليها (1/226)
ويدل على وضعه توجه الاعتراض على من عصى الأمرالعام وسقوطه ممن اطاع ولزوم النقص والخلف على الخبر العام وبناء الاستحلال والأحكام على الألفاظ العامة فهذه أربعة أمور تدل على الغرض
وبيانها أن السيد إذا قال لعبده من دخل داري فأعطه رغيفا فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه ولو قال لم أعطيت هذا وهو قصير وإنما أردت الطوال فقال ما أمرتني بهذاوإنما أمرتني بإعطاء كل داخل فلو عرض هذا على العقلاء لرأوا اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها ولو أن العبد حرم واحدا وقال له السيد لم لم تعطه فقال لأن هذا أسود ولفظك ما اقتضى العموم فيحتمل أنك اردت البيض لاستوجب التأديب عند العقلاء وقيل له مالك وللنظر إلى اللون وقد أمرت بإعطاء كل داخل
وأما النقص فإنه لو قال ما رأيت احدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا ومنقوضا وكاذبا ولذلك قال الله تعالى قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وإنما أورد هذا نقضا على كلامهم فإن لم يكن هذا عاما فلم أورد النقض عليهم فلعلهم أرادوا غير موسى فلم لزم دخول موسى تحت اسم البشر
وأما إثبات الاستحلال والأحكام إذا قال أعتقت عبيدي وإمائي ومات عقيبه جاز لمن سمع أن يزوج عبيده ويتزوج من إمائه بغير رضا الورثة ولو قال العبيد الذين في يدي ملك فلان كان إقرارا محكوما في الكل ولو ادعى رجل دينا فقال مالك علي شيء كان إنكارا لدعواه ولو خلف على ذلك بريء في الحكم ولو كان له عليه دين فحلف هذه اليمين كان كاذبا آثما
وبناء أمثال هذه الأحكام على العموم لا ينحصر
فإن قيل إنما ثبت هذا الذي ذكرتموه بالقرائن لا بمجرد اللفظ قلنا (1/227)
هذا باطل فإنه لو قدر انتفاء القرائن لفهم العموم فإنه لو قدر أن سيدا أمر عبدا له لم يعرف له عادة ولا عاشره زمنا بأمر عام ولا يعلم له غرض في إثباته وانتفائه لتمهد عذره في العمل بعمومه وتوجه إليه اللوم بترك الامتثال ولو قال كل عبد لي حر ولم تعلم منه قرينة أصلا حكمنا بحرية الكل وتقدير قرينة ههنا كتقدير القرينة في سائر أنواع أدلة الكتاب والسنة وهذا يبطلها بأسرها ولأن اللفظ لو لم يكن للعموم لخلا عن الفائدة واختلت أوامر الشرع العامة كلها لأن كل واحد يمكنه أن يقول لم اعلم أنني مراد بهذا اللفظ دلالة على أنني مراد به ولا يلزمني الامتثال
وكذلك النواهي يقول لست مخاطبا بالنهي لعدم دلالته على العموم في حقي فتختل الشريعة وتبطل دلالة الكتاب والسنة فلا يصح من احد الاحتجاج بلفظ عام في صورة خاصة لعدم دلالتها عليها ولا يقدر احد أن يأمر جماعة ولا ينهاهم ولا يذكر لهم شيئا يعمهم بلفظ واحد وهذا باطل يقينا وفاسد قطعا فوجب اطراحه
وأما حجة الواقفية فحاصلها مطالبة بالدليل وليس بدليل ثم قد ذكرنا وجه الدليل على التهيم وأنها إنما تستعمل علىالخصوص مع قرينة وإنما حسن الاستفسار عن الفاسق لأنه يفهم من الإعطاء الإكرام ويفهم من عادة الناس انهم لا يكرمونه فلو توهم القرينة المخصصة حسن السؤال ولذلك لم يحسن في بقية الصفات ولأنه لو لم يراجع وأعطى الفاسق لكان عذره متمهدا ثم إنه إنما حسن الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص فلذلك كان للمستفهم الاحتياط في طلبه ولهذا دخل التوكيد في الكلام لرفع اللبس وإزالة الاتساع ولهذا يحسن الاستفهام في الخاص فإذا قال رأيت الخليفة قيل له أنت رأيته (1/228)
الخلاف في عموم بعض الألفاظ
فصل
وقد قال قوم بالعموم إلا فيما فيه الألف واللام وقال آخرون بالعموم إلا في اسم الواحد بالألف واللام وقال بعض النحويين والمتأخرين في النكرة في سياق النفي لا تعم إلا أن تكون فيه ( من ) مظهرة كقوله تعالى وما من إله إلا الله أو مقدرة كقوله لا إله إلا الله بدليل أنه يحسن أن يقال ما عندي رجل بل رجلان ومن أنكر أن الألف واللام للاستغراق قال يحتمل أن تكون للمعهود ويحتمل أن تكون للاستغراق ويحتمل انها تكون لجملة من الجنس فما دليل التعميم ثم وإن سلم في البعض فما قولكم في جمع القلة وهو ما ورد على وزن الآفعال كالأحمال والأفعل وكالأكلب والأكعب والأفعلة كالأرغفة والفعلة كالصبية وقد قال أهل اللغة إنه للتقليل وما هو ما دون العشرة وقال ناس بالتعميم إلا في لفظ المفرد المحلي بالألف واللام لأنه لفظ واحد والواحد ينقسم إلى واحد بالنوع وواحد بالذات فإذا دخله التخصيص علم أنه ما أراد الواحد بالنوع فانصرف إلى الواحد بالذات قلنا ما ذكرناه من الاستدلال جار فيما فيه الألف واللام وفي النكرة في سياق النفي فإنه إذا قا لعبده أعط الفقراء والمساكين واقتل المشركين واقطع السارق والسارقة وارجم الزانية والزاني ولا تؤذ مسلما ولا تجعل مع الله إلها واقتصر عليه وانتفت القرائن جرى حكم الطاعة والعصيان وتوجه الاعتراض وسقوطه ولو قال والله لا آكل رغيفا حنث إذا اأكل رغيفين وقد قال الله تعالى ولم يتخذ صاحبة ولم يكن له كف 6 وا أحد ولا يظلم ربك أحدا إن الله لا يظلم مثقال ذرة ومن لم يجعل الله (1/229)
له نورا فماله من نور ولا يحل أن يقال في مثل هذا ان اللفظ ما اقتضى التعميم
وقولهم إن الألف واللام للمعهود قلنا إنما ينصرف إلى المعهود عند وجوده وما لا معهود فيه يتعين حمله على الاستغراق وهذا لأن الألف واللام للتعريف فإذا كان ثم معهود فحمل عليه حصل التعريف وإن لم يكن ثم معهود فصرف إلى الاستغراق حصل التعريف أيضا وإن صرف إلى أقل الجمع أو إلى واحد لم يحصل التعريف وكان دخول اللام وخروجها واحدا ولأنهما إذا كانا للعهد استغرقا جميع العهود فإذا كانا للجنس يجب أن يستغرقاه
وأما جمع القلة فإن العموم إنما يتلقى من الآلف واللام ولهذا استفيد من لفظ الواحد في مثل السارق والسارقة والدينار أفضل من الدرهم وأهلك الناس الدينار والدرهم ولذلك صح توكيده بما يقتضي العموم وجاز الاستثناء منه كقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت الخطاب فقوله إنه يصح أن يقول ما عندي رجل أو رجلان قرينة لفظية تدل على أنه استعمل لفظ العموم في غير موضوعه ولا يمنع ذلك من حمله على موضوعه عند عدم القرينة كما أن لفظة الأسد إذا استعملت في الرجل الشجاع بقرينة لا يمنع من استعمالها في موضوعها وحملها عليه عند الإطلاق وأما لفظة من فهي من مؤكدات العموم وتمنع من استعماله في مجازه ولتأثيرها في التأكيد ومنعها من التوسع واستعمال اللفظ في غير العموم تطرق الوهم إلى القائل ينفي التعميم فيما خلت منه
أقل الجمع
فصل
أقل الجمع ثلاثة وحكي عن أصحاب مالك وابن داود وبعض النحويين وبعض الشافعية أن أقله اثنان لقوله تعالى فإن كان له إخوه فلأمه السدس ولاخلاف (1/230)
في حجبها باثنين وقد جاء ضمير الجمع للإثنين في هذان خصمان اختصموا وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب وكانوا اثنين وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا و إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وقال النبي صلى الله عليه و سلم الإثنان فما فوقهما جماعة ولأن الجمع مشتق من جمع الشيء إلى الشيء وضمه إليه وهذا يحصل في الإثنين
ولنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعثمان رضي الله عنه حجبت الأم بالإثنين من الإخوة وإنما قال الله تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس وليس الأخوان بإخوة في لسانك (1/231)
ولا في لسان قومك فقال له عثمان لا أنقض أمرا كان قبلى وتوارثه الناس ومضى في الأمصار على انه في لسان العرب ليس بحقيقة في الإثنين وإنما صار إليه للإجماع
دليل آخر أن أهل اللسان فرقوا بين الآحاد والتثنية والجمع وجعلوا لكل واحد من هذه المراتب لفظا وضميرا مختصا به فوجب أن يغاير الجمع التثنية كمغايرة التثنية الآحاد ولأن الإثنين لا ينعت بهما الرجال والجماعة في لغة أحد فلا تقول رأيت رجالا اثنين ولا جماعة رجلين ويصح أن يقال ما رأيت رجالا وإنما رأيت رجلين ولو كان حقيقة فيه لما صح نفيه وما احتجوا به فغايته أنه جاز التعبير بأحد اللفظين عن الآخر مجازا كما عبر عن الواحد بلفظ الجمع في قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم و إنا نحن نزلنا الذكر ثم إن الطائفة والخصم يقع على الواحد والجمع والقليل والكثير فرد الضمير إلى الجماعة الذين اشتمل عليهم لفظ الطائفة والخصم وأما قوله الإثنان جماعة فأراد في حكم الصلاة وحكم انعقاد الجماعة لأن كلام النبي صلى الله عليه و سلم يحمل على الأحكام لا على بيان الحقائق وقولهم إنه جمع شيء إلى شيء قلنا الأسماء في اللغة لا يلزم فيها حكم الاشتقاق على ما مضى (1/232)
العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب
فصل
إذا ورد لفظ العموم على سبب خاص لم يسقط عمومه كقوله عليه السلام حين سئل أنتوضأ بماء البحر في حال الحاجة قال هو الطهور ماؤه
وقال مالك وبعض الشافعية يسقط عمومه إذ لو لم يكن للسبب تأثير لجاز إخراج السبب بالتخصيص من العموم ولما نقله الراوي لعدم فائدته ولما أخر بيان الحكم إلى وقوع الواقعة ولأنه جواب والجواب يكون مطابقا للسؤال
ولنا أن الحجة في لفظ الشارع لا في السبب فيجب اعتباره بنفسه في خصوصه ولذلك لو كان أخص من السؤال لم يجز تعميمه لعموم السؤال ولو سألت امرأة زوجها الطلاق فقال كل نسائي طوالق طلقن كلهن لعموم لفظه وإن خص السؤال ولذلك يجوز أن يكون الجواب معدولا عن سنن السؤال فلو قال قائل أيحل أكل الخبز والصيد والصوم فيجوز أن يقول الأكل مندوب والصوم واجب والصيد حرام فيكون جوابا وفيه وجوب وندب وتحريم والسؤال وقع عن الإباحة وكيف ينكر هذا وأكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب كنزول آية الظهار في أوس بن الصامت (1/233)
وآية اللعان في هلال بن أمية ونحو هذا ولا يلزم من وجوب التعميم جواز تخصيص السبب فإنه لا خلاف في أنه بيان الواقعة وإنما الخلاف هل هو بيان لها خاصة ام لها ولغيرها فاللفظ يتناولها يقينا ويتناول غيرها ظنا إذ لا يسأل عن شيء فيعدل عن بيانه إلى بيان غيره إلا أن يجيب عن غيره مما ينبه على محل السؤال كما قال لعمر لما سأله عن القبلة للصائم أرأيت لو تمضمضت لهذا كان نقل الراوي للسبب مفيدا ليبين به تناول اللفظ له يقينا فيمتنع من تخصيصه وفيه فوائد أخر من معرفة أسباب النزول والسير والتوسع في الشريعة
وقولهم لم أخر بيان الحكم قلنا الله أعلم بفائدته في أي وقت يحصل لا يسأل عما يفعل ثم لعله آخره لوجوب البيان في تلك الحال أو للطف ومصلحة للعباد داعية إلى الانقياد لا تحصل بالتقديم ولا بالتأخير ثم يلزمه بهذه العلة اختصاص الرجم بماعز وغيره من الأحكام
وقولهم تجب المطابقة قلنا يجب أن يكون متناولا له أما أن يكون مطابقا له فكلا بل لا يمتنع أن يسأل عن شيء فيجيب عنه وعن غيره كما سئل عن الوضوء بماء البحر فبين لهم حل ميته (1/234)
خبر الصحابي بلفظ عام يفيد العموم
فصل
قول الصحابي نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المزابنة وقضى بالشفعة فيما لم يقسم يقتضي العموم
وقال قوم لا عموم له لأن الحجة في المحكي لا في لفظ الحاكي والصحابي يحتمل أنه سمع لفظا خاصا أو يكون عموما أو يكون فعلا لا عموم له وقضاؤه بالشفعة لعله حكم في عين أو بخطاب خاص مع شخص فكيف يتمسك بعمومه أم كيف يثبت العموم مع التعارض والشك
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه قد عرف منهم الرجوع إلى هذا اللفظ في عموم الصور كرجوع ابن عمر إلى حديث رافع نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المخابرة واحتجاجهم بهذا اللفظ نحو نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المزابنة والمحاقلة والمخابرة وبيع التمر حتى يبدو صلاحه والمنابذة وسائر المناهي وكذلك أوامره وأقضيته ورخصه مثل (1/235)
أرخص في السلم ووضع الجوائح وقد اشتهر عنهم في وقائع كثيرة مما يدل على اتفاقهم على الرجوع إلى هذه الألفاظ
واتفاق الصحابة على نقل هذه الألفاظ دليل على اتفاقهم على العمل بها إذ لو لم يكن كذلك لكان اللفظ مجملا
ثم لو كانت القضية في شخص واحد وجب التعميم لما ذكرنا في المسألة الأخرى
ورود الخطاب مضافا إلى الناس والمؤمنين يعم العبيد
فصل
وما ورد من خطاب مضافا إلى الناس والمؤمنين دخل فيه العبد لأن من جملة ما يتناوله اللفظ وخروجه عن بعض التكاليف لا يوجب رفع العموم فيه كالمريض والمسافر والحائض ويدخل النساء في الجمع المضاف إلى الناس وما لا يتبين فيه التذكير والتأنيث كأدوات الشرط ولا يدخلن فيما يختص بالذكور من الأسماء كالرجال والذكور
فأما الجمع بالواو والنون كالمسلمين وضمير المذكرين كقوله كلوا واشربوا فاختار القاضي أنهن يدخلن فيه وهو قول بعض الحنفية وابن داود واختار أبو الخطاب والأكثرون أنهن لا يدخلن فيه لأن الله تعالى ذكر المسلمات بلفظ متميز فيما يثبته ابتداء ويخصه بلفظ المسلمين لا يدخلن فيه إلا بدليل آخر من قياس أو كونه في معنى المنصوص وما يجري مجراه
ولنا أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب التذكير ولذلك لو قال لمن بحضرته من الرجال والنساء قوموا واقعدوا تناول جميعهم ولو قال قوموا وقمن واقعدوا واقعدن عد تطويلا ولكنة ويبينه قوله تعالى قلنا اهبطوا (1/236)
منها جميعا بعضكم لبعض عدو وكان ذلك خطابا لآدم وزوجته والشيطان وأكثر خطاب الله تعالى في القرآن بلفظ التذكير كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا و يا عبادي الذين أسرفوا و هدى للمتقين بشرى للمؤمنين و بشر المخبتين والنساء في جملته وذكره لهن بلفظ مفرد تبيينا وإيضاحا لا يمنع دخولهن في اللفظ العام الصالح لهن كقوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال (1/237)
وهما من الملائكة وقوله فيهما فاكهة ونخل ورمان وقد يعطف العام على الخاص كقوله تعالى وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم والمال عام في الكل
حجية العام فيما بقي بعد التخصيص
فصل
العام إذا دخله التخصيص يبقى حجة فيما لم يخص عند الجمهور
وقال أبو ثور وعيسى بن أبان لا يبقى حجة لأنه يصير مجازا فقد خرج الوضع من أيدينا ولا قرينة تفصل وتحصل فيبقى مجملا
ولنا تمسك الصحابة رضي الله عنهم بالعمومات وما من عموم إلا وقد تطرق إليه التخصيص إلا اليسير كقوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها و إن الله بكل شيء عليم فعلى قولهم لا يجوز (1/238)
التمسك بعمومات القرآن أصلا ولأن لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع فالمخصص صرف دلالته عن البعض فلا تسقط دلالته عن الباقي كالاستثناء وقولهم يصير مجازا ممنوع وإن سلم فالمجاز دليل إذا كان معروفا لأنه يعرف منه المراد فهو كالحقيقة وقولهم لا قرينة تفصل قلنا ليس كذلك وإنما يجعل اللفظ مجازا بدليل التخصيص فيختص الحكم به دون ما عداه
العام بعد التخصيص حقيقة
فصل
واختار القاضي أنه حقيقة بعد التخصيص وهو قول أصحاب الشافعي وقال يصير مجازا على كل حال لأنه وضع للعموم فإذا أريد به غير ما وضع له كان مجازا وإن لم يكن هذا هو المجاز فلا يبقى للمجاز معنى إذن ولا خلاف في إنه لو رد إلى ما دون أقل الجمع فقال لا تكلم الناس وأراد زيدا وحده كان مجازا وإن كان هو داخلا فيه
وقال آخرون إن خصص بدليل منفصل صار مجازا لما ذكرناه وإن خصص بلفظ متصل فليس بمجاز بل يصير الكلام بالزيادة كلاما آخر موضوعا لشيء آخر فإنا نقول مسلم فيدل على واحد ثم نزيده الواو والنون فيدل على أمر زائد ولا نجعله مجازا ثم نزيد الآلف والنون في رجل فيصير صيغة أخرى بالزيادة ولا فرق بين زيادة كلمة أو زيادة حرف فإذا قال السارق للنصاب يقطع أو يقطع السارق إلا سارق دون النصاب فلا مجاز فيه بل مجموع هذا الكلام موضوع للدلالة على ما دل عليه فقوله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما دل على تسعمائة وخمسين وضعا فكأن العرب وضعت لذلك عبارتين ويمكن أن يقال ما صار بالوضع عبارة عن هذا القدر بل بقي (1/239)
الألف للألف والخمسون للخمسين وإلا للرفع بعد الإثبات فإذا رفعنا من الألف خمسين بقي تسعمائة وخمسون
أما زيادة الواو والنون فلا معنى لها في نفسها بخلاف هذا
ووجه قول القاضي أن القرينة المنفصلة من الشرع كالقرينة المتصلة لأن كلام الشارع يجب بناء بعضه على بعض فهو كالاستثناء وقد تبين الكلام فيه
جواز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد
فصل
ويجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد
وقال الرازي والقفال والغزالي لا يجوز النقصان من أقل الجمع لأنه يخرج به عن الحقيقة
ولنا أن القرينة المتصلة كالقرينة المنفصلة وفي القرينة المتصلة يجوز ذلك فكذلك في المنفصلة (1/240)
الخطاب بالعام يدخل فيه المخاطب
فصل
والمخاطب يدخل تحت الخطاب بالعام
وقال قوم لا يدخل بدليل قوله تعالى الله خالق كل شيء ولو قال قائل لغلامه من دخل الدار فأعطه درهما لم يدخل في ذلك
وهذا فاسد لأن اللفظ عام والقرينة هي التي أخرجت المخاطب فيما ذكروه ويعارضه قوله تعالى وهو بكل شيء عليم ومجرد كونه مخاطبا ليس بقرينة قاضية بالخروج عن العموم والأصل اتباع العموم
واختار أبو الخطاب أن الآمر لا يدخل في الأمر لأن الأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه ولن يتصور كون الإنسان دون نفسه فلم توجد حقيقته ولأن مقصود الآمر الامتثال وهذا لا يكون إلا من الغير وقال القاضي يدخل النبي صلى الله عليه و سلم فيما أمر به ويمكن أن تنبني هذه المسألة على أن ما ثبت في حق الأمة من حكم شاركهم النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك الحكم ولذلك لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ثم لم يفعل سألوه عن ترك الفسخ فبين لهم عذره وقد عاب الله تعالى الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم وقال في حق شعيب وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه وفي الأثر إذا أمرت بمعروف فكن من آخذ الناس به وإذا نهيت عن منكر فكن من أترك الناس له وإلا هلكت (1/241)
العام يجب اعتقاد عمومه في الحال
فصل
اللفظ العام يجب اعتقاد عمومه في الحال في قول أبي بكر والقاضي
وقال أبو الخطاب لا يجب حتى يبحث فلا يجد ما يخصصه قال وقد أومأ إليه في رواية صالح وأبي الحارث
قال القاضي فيه روايتان وعن الحنفية كقول أبي بكر وعنهم أنه إن سمع من النبي صلى الله عليه و سلم على طريق تعليم الحكم فالواجب اعتقاد عمومه وإن سمعه من غيره فلا
وعن الشافعية كالمذهبين قالوا لأن لفظ العموم يفيد الاستغراق مشروطا بعدم المخصص ونحن لا نعلم عدمه إلا بعد أن نطلب فلا نجد ومتى لم يوجد الشرط لا يوجد المشروط ولذلك كل دليل أمكن أن يعارضه دليل فهو دليل بشرط سلامته عن المعارض ولا بد من معرفة الشرط
والجمع بين الأصل والفرع بعلة مشروط بعدم الفرق فلا بد من معرفة عدمه
ثم اختلفوا إلى متى يجب البحث فقال قوم يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالانتفاءعند الاستقصاء في البحث كالباحث عن المتاع في البيت إذا لم يجده (1/242)
غلب على ظنه انتفاؤه وقال آخرون لا بد من اعتقاد جازم وسكون نفس بأنه لا مخصص فيجوز الحكم حينئذ أما إذا كان تشعر نفسه بدليل شذ عنه وتخيل في صدره إمكانه فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حراما
ولنا أن اللفظ موضوع للعموم فوجب اعتقاد موضوعه كأسماء الحقائق والأمر والنهي ولأن اللفظ في الأعيان والأزمان ثم يجب اعتقاد عمومه في الزمان ما لم يرد نسخ كذلك في الأعيان وقولهم إن دلالته مشروطة بعدم القرينة
قلنا لا نسلم وإنما القرينة مانعة من حمل اللفظ على موضوعه فهو كالنسخ يمنع استمرار الحكم والتأويل يمنع حمل الكلام على حقيقته واحتمال وجوده لا يمنع من اعتقاد الحقيقة ولأن التوقف يفضي إلى ترك العمل بالدليل فإن الأصول غير محصورة ويجوز أن لا يجد اليوم ويجده بعد اليوم فيجب التوقف أبدا وذلك غير جائز والله أعلم
الأدلة التي يخص بها العموم
فصل
لا نعلم اختلافا في جواز تخصيص العموم وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قوله تعالى الله خالق كل شيء وتجبى إليه ثمرات كل شيء تدمر كل شيء وقد ذكرنا أن أكثر العمومات مخصصة
وأدلة التخصيص تسعة
الأول دليل الحس وبه خصص قوله تدمر كل شيء بأمر ربها خرج منه السماء والأرض وأمور كثيرة بالحس
الثاني دليل العقل وبه خصص قوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه (1/243)
سبيلا لدلالة العقل على استحالة تكليف من لا يفهم
فإن قيل العقل سابق على أدلة السمع والمخصص ينبغي أن يتأخر لأن التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن تناول اللفظ له
قلنا نحن نريد بالتخصيص الدليل المعرف إرادة المتكلم وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصا والعقل يدل على ذلك وإن كان متقدما فإن قلتم لا يسمى ذلك تخصيصا فهو نزاع في عبارة
وقولهم لا يتناوله اللفظ قلنا يتناوله من حيث اللسان لكن لما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة مع شمول اللفظ له وضعا
الثالث الإجماع فإن الإجماع قاطع والعام يتطرق إليه الاحتمال وإجماعهم على الحكم في بعض صور العام على خلاف موجب العموم لا يكون إلا عن دليل قاطع بلغهم في نسخ اللفظ إن كان أريد به العموم أو عدم دخوله تحت الإرادة عند ذكر العموم
الرابع النص الخاص يخصص اللفظ العام فقول النبي صلى الله عليه و سلم لا قطع إلا في ربع دينار خصص عموم قوله تعالى السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله عليه السلام لا زكاة فيما دون خمسة أوسق (1/244)
خصص عموم قوله فيما سقت السماء العشر ولا فرق بين أن يكون العام كتابا أو سنة أو متقدما أو متأخرا وبهذا قال أصحاب الشافعي وقد روي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن المتأخر يقدم خاصا كان أو عاما وهو قول الحنفية لقول ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من امر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأن العام يتناول الصور التي تحته كتناول اللفظ لها بالتنصيص عليها ولو نص على الصورة الخاصة لكان نسخا فكذلك إذا عم وهذا فيما إذا علم المتأخر فإن جهل فهذه الرواية تقتضي أن يتعارض الخاص وما قابله من العام ولا يقضي بأحدهما على الآخر وهو قول طائفة لأنه يحتمل أن يكون العام ناسخا لكونه متأخرا ويحتمل أن يكون مخصوصا فلا سبيل إلى التحكم وقال بعض الشافعية لا يخصص عموم السنة بالكتاب وخرجه ابن حامد رواية لنا لقوله تعالى لنبين للناس ما نزل إليهم ولأن المبين تابع للمبين فلو خصصنا السنة بالقرآن صار تابعا لها
وقالت طائفة من المتكلمين لا يخصص عموم الكتاب بخبر الواحد وقال عيسى بن أبان يخص العام المخصوص دون غيره وحكاه القاضي عن أبي حنيفة لأن الكتاب مقطوع به والخبر مظنون فلا يترك به المقطوع كالإجماع لا يخص بخبر الواحد
وقال بعض الواقفية بالتوقف لأن خبر الواحد مظنون الأصل مقطوع المعنى واللفظ العام من الكتاب مقطوع الأصل مظنون الشمول فهما متقابلان ولا دليل على الترجيح
ولنا في تقديم الخاص مسلكان
أحدهما أن الصحابة ذهبت إليه فخصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم برواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تنكح المرأة على (1/245)
عمتها ولا على خالتها وخصصوا آية الميراث بقوله لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ولا يرث القاتل وإنا معاشر الأنبياء لا نورث وخصصوا عموم الوصية بقوله لا وصية لوارث وعموم قوله حتى تنكح زوجا غيره بقوله حتى يذوق عسيلتها إلى نظائر كثيرة لا تحصى مما يدل على أن الصحابة والتابعين كانوا يتسارعون إلى الحكم بالخاص على العام من غير اشتغال بطلب تاريخ ولا نظر في تقديم ولا تأخير
الثاني أن إرادة الخاص بالعام غالبة معتادة بل هي الأكثر واحتمال النسخ كالنادر البعيد وكذلك احتمال تكذيب الراوي فإنه عدل جازم في الرواية وسكون النفس إلى العدل في الرواية فيما هو نص كسكوتهاإلى عدلين في الشهادات ولا يخفى أن احتمال صدق أبي بكر رضي الله عنه في روايته عن النبي صلى الله عليه و سلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث (1/246)
أرجح من احتمال أن تكون الآية سيقت لبيان حكم ميراث النبي صلى الله عليه و سلم فلذلك عمل به الصحابة والعمل بالراجح متعين
فأما قول من قال بالتعارض والوقف فهو مطالبة بالدليل لا غير وقد ذكرنا الدليل من وجهين وبينا أن احتمال إرادة الخصوص أرجح من احتمال النسخ فإن أكثر العمومات مخصصة وأكثر الأحكام مقررة غير منسوخة وكون النبي صلى الله عليه و سلم مبينا لا يمنع من حصول البيان بغيره فقد أخبر الله تعالى أنه أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء وقولهم المبين تابع غير صحيح فإن الكتاب يبين بعضه بعضا والسنة يخصص بعضها بعضا وليس المخصص تابعا للمخصوص وقد بينا فيما تقدم جواز التخصيص بدليل سابق وبالإجماع
ويجوز تخصيص الآحاد بالتواتر وليس فرعا له
وقولهم إن الكتاب مقطوع به
قلنا دخول المخصوص في العموم وكونه مرادا ليس بمقطوع بل هو مظنون ظنا ليس بالقوي بل ظن الصدق أقوى منه لما ذكرنا
ثم إن براءة الذمة قبل السمع مقطوع بها بشرط أن لا يرد سمع ويشتغل بخبر الواحد
جواب آخر إن وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به بالإجماع وإنما الاحتمال في صدق الراوي ولا تكليف علينا في اعتقاد صدقه فإن تحليل البضع وسفك الدم واجب بقول عدلين قطعا مع أنا لا نقطع بصدقها كذا الخبر
الخامس المفهوم بالفحوى ودليل الخطاب فإن الفحوى قاطع كالنص ودليل الخطاب حجة كالنص فيخص عموم قوله عليه السلام في أربعين شاة شاة بمفهوم قوله في سائمة الغنم الزكاة في إخراج المعلوفة
السادس فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كتخصيص عموم قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن (1/247)
بما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ولذلك ذهب بعض الناس إلى تخصيص قوله الزانية والزاني برجمه لماعز وتركه جلده
السابع تقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدا من أمته بخلاف موجب العموم وسكوته عليه فإن سكوت النبي صلى الله عليه و سلم عن الشيء يدل على جوازه فإنه لا يحل له الإقرار على الخطأ وهو معصوم وقد بينا أن إثبات الحكم في حق واحد يعم الجميع
الثامن قول الصحابي عند من يراه حجة مقدم على القياس يخص به العموم فإن القياس يخصص به فقول الصحابي المقدم عليه أولى
فإن قيل فالصحابي يترك مذهبه للعموم كترك ابن عمر مذهبه لحديث رافع بن خديج في المخابرة فغيره يجب أن يتركه
قلنا إنما تركه لنص عارضه لا للعموم (1/248)
التاسع قياس نص خاص إذا عارض عموم نص آخر فيه وجهان
أحدهما يخص به العموم وهو قول أبي بكر والقاضي وقول الشافعي وجماعة من الفقهاء والمتكلمين
والوجه الآخر لا يخص به العموم وهو قول ابي اسحق بن شاقلا وجماعة من الفقهاء لحديث معاذ ولأن الظنون المستفادة من النصوص أقوى من الظنون المستفادة من المعاني المستنبطة ولأن العموم أصل والقياس فرع فلا يقدم على الآصل ولأن القياس إنما يراد لطلب حكم ما ليس منطوقا به فما هو منطوق به لا يثبت بالقياس
وقال قوم يقدم جلي القياس على العموم دون خفية لأن الجلي أقوى من العموم والخفي ضعيف والعموم أيضا يضعف تارة بأن لا يظهر منه قصد التعميم ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة فإن دلالة قوله لاتبيعوا البر بالبر على تحريم بيع الأرز أظهر من دلالة قوله تعالى وأحل الله البيع على إباحة بيعه متفاضلا ودلالة تحريم الخمر على تحريم النبيذ بقياس الإسكار أغلب في الظن من دلالة قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه على إباحته فإذا تقابل الظنان وجب تقديم أقواهما كالعمل في العمومين والقياسين (1/249)
المتقابلين ثم القائلون بهذا اختلفوا في القياس الجلي ففسره قوم بأنه قياس العلة والخفي بقياس الشبه وقيل الجلي ما يظهر فيه المعنى كقوله عليه السلام لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان وتعليل ذلك بما يدهش الفكر حتى يجري ذلك في الجائع وقال عيسى بن أبان يجوز ذلك في العام المخصوص دون غيره لضعف العام بالتخصيص وحكاه القاضي عن أبي حنيفة
وجه الأول أن صيغة العموم محتملة للتخصيص معرضة له والقياس غير محتمل فيفضي به على المحتمل كالمجمل مع المفسر
فأما حديث معاذ فإن كون هذه الصورة مرادة باللفظ العام غير مقطوع به والقياس يدلنا على أنها غير مرادة ولهذا جاز ترك عموم الكتاب بخبر الواحد وبالخبر المتواتر اتفاقا
ورتبة السنة بعد رتبة الكتاب في الخبر
والسنة لا يترك بها الكتاب لكن تكون مبينة له والتبيين يكون تارة باللفظ وتارة بمعقول اللفظ وقولهم إن الظنون المستفادة من النصوص أقوى فلا نسلم ذلك على الإطلاق وقولهم لا يترك الأصل بالفرع
قلنا هذا القياس فرع نص آخر لا فرع النص المخصوص به والنص يخص تارة بنص آخر وتارة بمعقول النص ثم يلزم أن لا يخصص عموم القرآن بخبر الواحد وقولهم هو منطوق به
قلنا كونه منطوقا به أمر مظنون فإن العام إذا أريد به الخاص كان نطقا بذلك القدر وليس نطقا بما ليس بمراد ولهذا جاز التخصيص بدليل العقل (1/250)
القاطع مع أن دليل العقل لا يقابل النص الصريح من الشارع لأن الأدلة لا تتعارض
فصل في تعارض العمومين
إذا تعارض عمومان فأمكن الجمع بينهما بأن يكون أحدهما أخص من الآخر فيقدم الخاص أو يكون أحدهما يمكن حمله على تأويل الصحيح والآخر غير ممكن تأويله فيجب التأويل في المؤول ويكون الآخر دليلا على المراد منه جمعا بين الحديثين إذ هو أولى من إلغائهما وإن تعذر الجمع بينهما لتساويهما ولكونهما متناقضين كما لو قال من بدل دينه فاقتلوه من بدل دينه فلا تقتلوه فلا بد أن يكون أحدهما ناسخا للآخر فإن أشكل التاريخ طلب الحكم من دليل غيرهما
وكذلك لو تعارض عمومان كل واحد عام من وجه خاص من وجه مثل قوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنه يتناول الفائتة بخصوصها ووقت النهي بعمومه مع قوله لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس يتناول الفائتة بعمومه والوقت بخصوصه (1/251)
وقوله من بدل دينه فاقتلوه مع قوله نهيت عن قتل النساء فهما سواء لعدم ترجيح أحدهما على الآخر فيتعارضان ويعدل الى دليل غيرهما
وقال قوم لا يجوز تعارض عمومين خاليين عن دليل الترجيح لأنه يؤدي إلى وقوع الشبهة وهو منفر عن الطاعة
قلنا بل ذلك جائز ويكون مبينا للعصر الأول وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن واللأدلة ويكون ذلك محنة وتكليفا علينا لنطلب دليلاآخر ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا وأما التنفير فباطل فقد نفر طائفة من الكفار من النسخ ثم لم يدل ذلك على استحالته والله أعلم
فصل
في الاستثناء
صيغته إلا وغير وسوى وعدا وليس ولا يكون وحاشا وخلا وأمرالباب إلا
وحده أنه قول ذو صيغة متصل يدل على أن المذكور معه غير مراد بالقول الأول ويفارق الاستثناء التخصيص بشيئين
أحدهما في اتصاله
والثاني أنه يتطرق إلى النص كقوله عشرة إلا ثلاثة والتخصيص بخلافه ويفارق النسخ أيضا في ثلاثة أشياء
أحدها في اتصاله (1/252)
والثاني أن النسخ رافع لما دخل تحت اللفظ والاستثناء يمنع أن يدخل تحت اللفظ ما لولاه لدخل
والثالث أن النسخ يرفع جميع حكم النص والاستثناء إنما يجوز في البعض
شروط الاستثناء
فصل
ويشترط في الاستثناء ثلاثة شروط أحدها أن يتصل بالكلام بحيث لا يفصل بينهما كلام ولا سكوت يمكن الكلام فيه لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ فإنه لو قال أكرم من دخل داري ثم قال بعد شهر إلا زيدا لم يفهم كما لو قال زيد ثم قال بعد شهر قائم لم يعد خبرا وكذلك الشرط
وحكي عن ابن عباس أنه يجوز أن يكون منفصلا وعن عطاء والحسن جواز تأخيره ما دام في المجلس وأومأ إليه أحمد رحمه الله في الاستثناء في اليمين والأولى ما ذكرناه
الشرط الثاني أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه فأما الاستثناء من غير الجنس فمجاز لا يدخل في الإقرار ولو أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلا وهذا قول بعض الشافعية
وقال بعضهم ومالك وأبو حنيفة وبعض المتكلمين يصح لأنه قد جاء في القرآن واللغة الفصيحة قال الله تعالى لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم و وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وقال الشاعر ... وما بالربع من أحد ... إلا أوارى ... ويلدة ليس (1/253)
بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس ...
ومثله كثير ولنا أن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله المستثنى منه بدليل أنه مشتق من قولهم ثنيت فلانا عن رأيه وثنيت العنان فيشعر بصرف الكلام عن صوبه الذي كان يقتضيه سياقه فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول لولا الاستثناء فما صرف الكلام ولا ثناه عن وجه استرساله فتكون تسميته استثناء تجوزا باللفظ عن موضعه وتكون إلا ههنا بمعنى لكن قال هذا ابن قتيبة وقال هو قول سيبويه وقاله غيرهما من اهل العربية وإذا (1/254)
كانت بمعنى لكن لم يكن لها في الإقرار معنى فلم يصح أن ترفع شيئا منه فتكون لاغية فإن لكن إنما تدخل للاستدراك بعد الجحد والإقرار ليس بجحد فلا يصح فيه ولذلك لم يأت الاستثناء المنقطع في إثبات بحال
الشرط الثالث أن يكون المستثنى أقل من النصف وفي استثناء النصف وجهان وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين يجوز استثناء الأكثر ولا نعلم خلافا في أنه لا يجوز الكل واحتج من جوزه أي جوز الأكثر بقوله فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وقال في أخرى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فاستثنى كل واحد منهما من الآخر وأيهما كان الأكثر حصل المقصود وقال الشاعر ... أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكما بالحق قواما ...
ولأنه إذا جاز استثناء الأقل جاز استثناء الأكثر
ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ فجاز في الأكثر كالتخصيص
ولنا أن الاستثناء لغة وأهل اللغة نفوا ذلك وأنكروه
قال أبو اسحق الزجاج لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير (1/255)
وقال ابن جني لو قال قائل مائة إلا تسعة وتسعين ما كان متكلما بالعربية وكان كلامه عيا من الكلام ولكنة
وقال القتيبي يقال صمت الشهر كله إلا يوما واحدا ولا يقال صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوما ويقول لقيت القوم جميعهم إلا واحدا أو اثنين ولا يجوز أن يقول لقيت القوم إلا أكثرهم إذ ثبت أنه ليس من اللغة فلا يقبل ولو جاز هذا لجاز في كل ما كرهوه وقبحوه وأما الآية التي احتجوا بها فقد أجيب عن احتجاجهم منها بأجوبة
منها أنه استثنى في إحدى الآيتين المخلصين من بني آدم وهم الأقل وفي الآخرى استثنى الغاوين ومن جميع العباد وهم الأقل فإن الملائكة من عباد الله قال تعالى بل عباد مكرمون وهم غير غاوين
ومنها أنه استثناء منقطع في قوله إلا من اتبعك من الغاوين بمعنى لكن بدليل أنه قال في آية أخرى وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
وأما البيت فليس فيه استثناء مع أنه قد قال ابن فضالة النحوي هذا بيت مصنوع ولم يثبت عن العرب
وأما القياس في اللغة فغير جائز ولو كان جائزا فهو جمع بغير علة ومثل هذا لو جاز استثناء البعض جاز استثناء الكل ويعارضه بأنه إذا لم يجز استثناء الكل فلا يجوز استثناء الأكثر والفرق بين القليل والكثير أن العرب استعملته في القليل دون الكثير فلا يقاس في لغتهم ما أنكروه على ما حسنوه وجوزوه
الجمل بعد الاستثناء
فصل
إذا تعقب الاستثناء جملا كقوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم (1/256)
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا وقول النبي صلى الله عليه و سلم لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه رجع الاستثناء إلى جميعها وهو قول أصحاب الشافعي
وقال الحنفية يرجع إلى أقرب المذكورين لأمور ثلاثة
أحدها أن العموم يثبت في كل صورة بيقين وعود الاستثناء إلى جميعها مشكوك فيه فلا يزول أي العموم المتيقن بالشك
الثانية أن الاستثناء إنما وجب رده إلى ما قبله ضرورة أنه لا يستقل بنفسه فإذا تعلق بما يليه فقد استقل وأفاد فلا حاجة إلى تعليقه بما قبل ذلك فلو تعلق به صار كالاستثناء من الاستثناء
والثالثة أن الجملة مفصول بينها وبين الأولى فأشبه مالو فصل بينهما بكلام آخر
وأدلتنا ثلاثة
أحدها أن الشرط إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها كقوله نسائي طوالق وعبيدي أحرار إن كلمت زيدا فكذلك الاستثناء فإن الشرط والاستثناء (1/257)
شيئان في تعلقهما بما قبلهما وبغيرهما له ولهذا يسمى التعليق بشرط مشيئة الله استثناء فما يثبت لأحدهما يثبت في الآخر فإن قيل الفرق بينهما أن الشرط رتبته التقديم بخلاف الاستثناء قلنا إذا تأخر الشرط فلا فرق بينهما ثم إن كان متقدما فلم لا يتعلق بالجملة الأولى دون ما بعدها فإذا تعلق بجميع الجمل تقدم أو تأخر فكذلك الاستثناء فإنه مساو للشرط في حال تأخره
الثاني اتفاق أهل اللغة على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة عي ولكنة ولو لم يعد الاستثناء إلى الجميع لم يقبح ذلك بل كان متعينا لازما فيما يريد فيه الاستثناء من جميع الجمل
الثالث أن العطف بالواو يوجب نوعا من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه فتصيرالجمل كالجملة الواحدة فيصير كأنه قال اضرب الجماعة الذين هم قتلة وسراق إلا من تاب
وقولهم إن التعميم مستيقن ممنوع فإن العموم والإطلاق لا يثبت قبل تمام الكلام وما تم حتى أردف باستثناء يرجع إليه ثم يبطل بالشرط والصفة وقد سلم أكثرهم ذلك ولما ذكر الله تعالى خصال كفارة اليمين الثلاثة ثم قال فمن لم يجد رجع ذلك إلى جميعها وقولهم إن الاستثناء إنما تعلق بما قبله ضرورة ممنوع بل إنما رجع إلى ما قبله لصلاحيته ثم يبطل أيضا بالشرط والصفة أما الاستثناء من الاستثناء فلم يكن عودة إلى الأولى لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فتعذر النفي من النفي وهكذا كل ما فيه قرينة تصرفه عن الرجوع لا يرجع إلى الأول كقوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا لا يعود إلى التحرير لأن صدقتهم إنما تكون بمالهم فالعتق ليس حقا لهم (1/258)
الشرط
فصل
الشرط ما لا يوجد المشروط مع عدمه ولا يلزم أن يوجد عند وجوده
والعلة ما يلزم من وجودها وجود المعلول ولا يلزم من عدمها عدمه في الشرعيات
والشرط عقلي وشرعي ولغوي
فالعقلي كالحياة للعلم والعلم للإرادة
والشرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم
واللغوي كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق وإن جئتني أكرمتك مقتضاه في اللغة اختصاص الإكرام بالمجيء فينزل منزلة التخصيص والاستثناء والاستثناء والشرط يغير الكلام عما كان يقتضيه لولاه حتى يجعله متكلما بالباقي لا أنه يخرج من الكلام ما دخل فيه فإنه لو دخل لما خرج فإذا قال أنت طالق إن دخلت الدار معناه أنك عند الدخول طالق وقوله على عشرة إلا ثلاثة معناه له على سبعة فإنه لو ثبت له عليه عشرة لما قدر على إسقاط ثلاثة ولو قدر على ذلك بالكلام المتصل لقدر عليه بالمنفصل فيصير موضوع الكلام ذلك فقوله تعالى ويل للمصلين لا حكم له قبل إتمام الكلام فإذا تم كان الكلام مقصورا على من وجد منه السهو والرياء لا أنه دخل فيه كل مصل ثم خرج البعض كذلك الاستثناء والشرط
المطلق والمقيد
فصل
المطلق هو التناول لواحد لا بعينه باعتباره حقيقة شاملة لجنسه وهي النكرة في سياق الأمر كقوله تعالى (1/259)
فتحرير رقبة وقد يكون في الخبر كقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي والمقيد هو المتناول لمعين أو لغير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه كقوله تعالى وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين قيد الرقبة بالإيمان والصيام بالتتابع وقد يكون اللفظ مطلقا مقيدا بالنسبة كقوله رقبة مؤمنة مقيدة بالإيمان مطلقة بالنسبة إلى السلامة وسائر الصفات ويسمى الفعل مطلقا نظرا إلى ما هو من ضرورته من الزمان والمكان والمصدر والمفعول به والآلة فيما يفتقر إلى الآلة والمحل للأفعال المتعدية وقد يتقيد بأحدها دون بقيتها والله أعلم
أقسام ورود المطلق والمقيد وحكم كل
فصل
إذا ورد لفظان مطلق ومقيد فهو على ثلاثة أقسام
القسم الأول أن يكونا في حكم واحد كقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي وقال لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فيجب حمل المطلق على المقيد وقال أبو حنيفة لا يحمل عليه لأنه نسخ فإن الزيادة على النص نسخ فلا سبيل إلى النسخ بالقياس وقد بينا فساد هذا فإن قوله فتحرير رقبة ليس بنص في إجزاء الكفارة بل هو مطلق يعتقد ظهور عمومه مع تجويز الدليل على خصوصه والتقييد صريح في الاشتراط فيجب تقديمه
القسم الثاني أن يتحد الحكم ويختلف السبب كالعتق في كفارة الظهار والقتل قيد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان وأطلقها في الظهار فقد روى عن احمد رحمه الله ما يدل على أن المطلق لا يحمل على المقيد وهو اختيار أبي اسحاق بن شاقلا وهو قول جل الحنفية وبعض الشافعية واختار القاضي حمل المطلق على المقيد وهو قول المالكية وبعض الشافعية لأن الله تعالى قال وأشهدوا ذوي عدل منكم وقال في المداينة (1/260)
واستشهدوا شهيدين من رجالكم ولم يذكر عدلا ولا يجوز إلا عدل فظاهر هذا حمل المطلق على المقيد ولأن العرب تطلق في موضع وتقيد في موضع آخر فيحمل أحدهما على صاحبه كما قال ... نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف ...
وقال آخر ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني ... أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ...
وقال أبو الخطاب يبني عليه من جهة القياس لأن تقييد المطلق كتخصيص العموم وذلك جائز بالقياس الخاص على ما مر فإن كان ثم مقيدان بقيدين مختلفين ومطلق الحق بأشبههما به وأقربهما إليه ومن نصر الأول قال هذا تحكم محض يخالف محض وضع اللغة إذ لا يتعرض القتل للظهار فكيف يرفع الإطلاق الذي فيه والأسباب المختلفة تختلف في الأكثر شروط واجباتها ثم يلزم من هذا تناقض فإن الصوم مقيد بالتتابع في الظهار وبالتفريق في الحج حيث قال تعالى ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم (1/261)
ومطلق في اليمين فعلى أيهما يحمل وفي المواضع التي استشهدوا بها كان التقييد بأمر آخر والله أعلم
القسم الثالث أن يختلف الحكم فلا يحمل المطلق على المقيد سواء اختلف السبب أو اتفق كخصال الكفارة إذ قيد الصيام بالتتابع وأطلق الإطعام لأن القياس من شرطه اتحاد الحكم والحكم ههنا مختلف
باب في الفحوى والإشارة
فصل
فيما يقتبس من الألفاظ من فحواها وإشارتها لا من صيغها وهي خمسة أضرب
الأول يسمى اقتضاء وهو ما يكون من ضرورة اللفظ وليس بمنطوق به إما ألا يكون المتكلم صادقا إلابه كقوله لا عمل إلا بنية أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا بدونه كقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة أي فأفطر فعدة كقولهم اعتق عبدك عني وعلي ثمنه يتضمن الملك ويقتضيه ولو لم ينطق به أو من حيث يمتنع وجوده عقلا كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم يتضمن إضمار الوطء ويقتضيه ويجوز أن يلقب هذا بالإضمار ويقرب من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
الضرب الثاني فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب كقوله تعالى السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما يفهم منه كون السرقة علة (1/262)
وليس بمنطوق به ولكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام وكذا قوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم أي لبرهم وإن الفجار لفي جحيم أي لفجورهم وهذا قد يسمى إيماء وإشارة وفحوى الكلام ولحنه وإليك الخيرة في تسميته
الضرب الثالث التنبيه وهو فهم الحكم في المسكوت من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده ومعرفة وجود المعنى في المسكوت بطريق الأولى كفهم تحريم الشتم والضرب من قوله تعالى فلا تقل لهما أف ولا بد من معرفتنا المعنى في الأدنى ومعرفة وجوده في الأعلى فلولا معرفتنا أن الآية سيقت للتعظيم للوالدين لما فهمنا منع القتل إذ يقول السلطان إذا أمر بقتل ملك لمنازعته له في ملكه اقتله ولا تقل له أف ويسمى مفهوم الموافقة وفحوى اللفظ
واختلف أصحابنا في تسميته قياسا فقال أبو الحسن الخرزي وبعض الشافعية هو قياس لأنه إلحاق المسكوت بالمنطوق في الحكم لاجتماعهما في المقتضى وهذا هو القياس وإنما ظهر فيه المعنى فسبق إلى الفهم من غير تأمل فأشبه القياس فيما ظهرت العلة فيه بنص أو غيره مثل قياس الجوع المفرط على الغضب في المنع من الحكم لكونه يمنع كمال الفكر وقياس الزيت على السمن في حكم النجاسة إذا وقعت الفأرة فيه حال جموده أو كونه مائعا بغير الفأرة
وقال القاضي أبو يعلي والحنفية وبعض الشافعية ليس بقياس إذ هو (1/263)
مفهوم من اللفظ من غير تأمل ولا استنباط بل يسبق إلى الفهم حكم المسكوت مع المنطوق من غير تراخ إذ كان هو الأصل في القصد والباعث على النطق وهو أولى في الحكم ومن سماه قياسا سلم أنه قاطع فلا تضر تسميته قياسا
وقد يلتحق بهذا الفن ما يشبهه من وجه ولا يفيد القطع كقولهم إذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى لأن الكفر فسق وزيادة فهذا ليس بقاطع إذ لا يبعد أن يقال الفاسق متهم في دينه والكافر يحترز من الكذب لدينه
وأما الفاسد من هذا الضرب فنحو قولهم إذا جاز السلم في المؤجل في الحال أجوز ومن الغرر أبعد فإنه لا بد من اشتراكهما في المقتضى وليس المقتضى لصحة السلم المؤجل بعده من الغرر ليلتحق به الحال بل الغرر مانع احتمل في المؤجل والحكم لا يصح لعدم مانعه بل لوجود مقتضيه ولو كان بعده من الغرر علة الصحة فما وجدت في الأصل فكيف يصح الإلحاق
الضرب الرابع دليل الخطاب ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عن ما عداه ويسمى مفهوم المخالفة لأنه فهم مجرد لا يستند إلى منطوق وإلا فما دل عليه المنطوق أيضا مفهوم وأمثاله ومن قتله منكم متعمدا و في سائمة الغنم الزكاة يدل على انتفاء الحكم في المخطىء والمعلوفة وهذا حجة في قول إمامنا والشافعي ومالك وأكثر المتكلمين
وقالت طائفة منهم أبو حنيفة لا دلالة له لأمور خمسة
أحدها أنه يحسن الاستفهام فلو قال من ضربك عامدا فاضربه حسن أن تقول فإن ضربني خاطئا هل أضربه ولو دل على النفي لما حسن الاستفهام فيه كالمنطوق
الثاني أن العرب تعلق الحكم على الصفة مع مساواة المسكوت عنه كقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من (1/264)
مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فالمسكوت أيضا محتمل للمساواة وعدمها فلا سبيل إلى دعوى النفي بالتحكم
الثالث أن تعليقه الحكم على اللقب والاسم العلم لا يدل على التخصيص ومنع ذلك بهت واختراع على اللغات إذ يلزم منه أن يكون قوله زيد عالم كفرا لأنه نفى العلم عن الله وملائكته ويلزم من قوله محمد رسول الله نفى الرسالة عن غيره وذلك كفر
الرابع أنه كما أن للعرب طريقا إلى الخبر عن مخبر واحد أو اثنين مع السكوت عن الباقي فلها طرق في الخبر عن الموصوف بصفة فنقول رأيت الظريف وقام الطويل فلو قال بعد والقصير لم يكن مناقضة
الخامس أن التخصيص للمذكور بالذكر قد يكون لفائدة سوى تخصيص الحكم به فمنها توسعة مجاري الاجتهاد لينال المجتهد فضيلته ومنها الاحتياط عن المذكور بالذكر كيلا يفضي اجتهاد ببعض الناس إلى إخراجه عن عموم اللفظ بالتخصيص ومنها تأكيد الحكم في المسكوت لكون المعنى فيه أقوى كالتنبيه ومنها معان لا يطلع عليها فلا سبيل إلى دعوى عدم الفائدة بالتحكم فلا ينكر الفرق بين ال 2 منطوق والمسكوت لكن من حيث أن الأصل عدم الحكم في الكل فبالذكر يبين ثبوته في المذكور وبقي المسكوت عنه على ما كان عليه لم يوجد في اللفظ نفي له ولا إثبات له فإذا لا دليل في (1/265)
اللفظ على المسكوت بحال وعماد الفرق نفي وإثبات فمستند الإثبات الذكر الخاص ومستند النفي الأصل والذهن إنما ينبه على الفرق عند الذكر الخاص فيسبق إلى الأوهام العامية أن الاختاص والفرق من الذكر لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر والآخر كان حاصلا في الأصل وهذا دقيق لأجله غلط الآكثرون
ولنا دليلان أحدهما أن فصحاء أهل اللغة يفهمون من تعليق الحكم على شرط أو وصف انتفاء الحكم بدونه بدليل ما روى يعلى بن أمية قال قلت لعم بن الخطاب ألم يقل الله تعالى ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته رواه مسلم فقد فهما من تعليق إباحة القصر على حالة الخوف وجوب الإتمام حال الأمن وعجبا من ذلك فإن قيل الإتمام واجب بحكم الأصل فلما استثني حالة الخوف بقيت حالة الأمن على مقتضاه فلذلك عجبا حيث خولف الأصل
ثم الآية حجة لنا فإنه لم يثبت انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط فدل على انتفاء الدليل
قلنا ليس في القرآن آية تدل على وجوب التمام بل قد روى عن عمر (1/266)
وهو صاحب القصة وعائشة وابن عباس أن الصلاة إنما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر فدل على أن فهمهم وجوب الإتمام وتعجبهم إنما كان لمخالفة دليل الخطاب وإنما ترك دليل الخطاب لدليل آخر كما قد يخالف العموم ولما قال النبي صلى الله عليه و سلم يقطع الصلاة الكلب الأسود قال عبدالله بن الصامت لأبي ذر ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر فقال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سألتني فقال الكلب الأسود شيطان ففهما من تعليق الحكم على الموصوف بالسواد انتفاءه عما سواه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال لا يلبس القميص ولا السراويلات ولا البرانس فلولا أن تخصيصه المذكور بالذكر يدل على إباحة لبس ما سواه لم يكن جوابا للسائل عما يجوز للمحرم لبسه
الدليل الثاني أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة فإن استوت السائمة والمعلوفة فلم خص السائمة بالذكر من عموم الحكم والحاجة إلى (1/267)
البيان شاملة للقسمين بل لو قال في الغنم الزكاة لكان أخصر في اللفظ وأعم في بيان الحكم فالتطويل لغير فائدة يكون لكنة في الكلام وعيا فكيف إذا تضمن تقوية بعض المقصود فظهر أن القسم المسكوت عنه غير مساو للمذكور في الحكم
اعترضوا عليه من أربعة وجوه
أحدها أنكم جعلتم طلب الفائدة طريقا إلى معرفة الوضع وينبغي أن يعرف الوضع ثم تترتب عليه الفائدة أما أن يكون الوضع يتبع معرفة الفائدة فلا
الثاني لم قلتم إنه لا فائدة سوى اختصاص الحكم فلئن قلتم ما علمنا له فائدة قلنا فلعل ثم فائدة لم تعثروا عليها وعدم العلم بعدم الفائدة ليس علما بعدمها
الثالث يبطل بمفهوم اللقب فلم لم يقولوا إن تخصيص الأشياء الستة في الربا يوجب اختصاصها به وأن تخصيص سائمة الغنم يمنع وجوبها في بقية المواشي
الرابع أن في التخصيص فائدة سوى ما ذكرتم على ما قدمنا ويحتمل ان السؤال وقع عنها أو اتفقت المعاملة فيها أو غير ذلك من أسباب لا يطلع عليها
الجواب أما الأول فغير صحيح فإن الاستدلال على الشيء بآثاره وثمراته جائز غير ممتنع في طرفي النفي والإثبات فإننا استدللنا على عدم الاشتراك في الصور المتنازع فيها بإخلاله بمقصود الوضع وهو التفاهم واستدللنا على عدم إله ثان بعدم وقوع الفساد فإذ قد علمنا أن كلام الله تعالى لا يخلو من الفائدة وأنه لا فائدة للتخصيص سوى اختصاصه بالحكم فيلزم منه ذلك ضرورة (1/268)
وأما الثاني فإن قصر الحكم عليه فائدة متيقنة وما سواها امر موهوم يحتمل العدم والوجود فلا يترك المتيقن لأمر موهوم كيف والظاهر عدمها إذ لو كان ثمة فائدة لم تخف على الفطن العالم بدقائق الكلام مع بحثه وشدة عنايته فجرى هذا مجرى الاستدلال باستصحاب الحال المشروط بعدم الدليل الشرعي
وأما مفهوم اللقب فقد قيل إنه حجة ثم الفرق بينهما ظاهر وهو أن تخصيص اللقب يحتمل حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه وهذا يبعد فيما إذا ذكر أحد الوصفين المتضادين لأن ذكر الصفة يذكر ضدها وهو منتف بالكلية فيما إذا ذكر الوصف العام ثم وصفه بالخاص فظهر احتمال المفهوم
وأما الثالث فباطل فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعث للبيان والتعليم والتبيين للأحكام من المقاصد الأصلية التي بعث لها والاجتهاد ثبت ضرورة لعدم إمكان بناء كل الأحكام على النصوص فلا تظن أن النبي صلى الله عليه و سلم ترك ما بعث له لتوسعة مجاري الضرورات ثم يفضي إلى محذور هو نفي الحكم في الصورة التي هو ثابت فيها
وأما الفائد الثانية والثالثة فلا تحصل لأن الكلام فيما إذا كان المسكوت أدنى في المعنى من المنطوق في المقتضى او مماثلا له فالتخصيص إذا يكون بعيدا وأما إذا كان المسكوت أعلى في المعنى فهو التنبيه وقد سبق الكلام فيه
وقولهم يحسن الاستفهام عنه ممنوع وأما إذا قال من ضربك متعمدا فاضربه فلا يحسن أن يقال من ضربني خاطئا هل أضربه لكن يحسن أن يقال فالخاطىء ما حكمه أو ما أصنع به وهذا غير ما دل عليه الخطاب ولو سلمنا فيحسن الاستفهام ليستفيد التأكيد في معرفة الحكم كما يحسن (1/269)
الاستفهام في بعض صور العموم وقولهم إن العرب تعلق الحكم على ما ينبغي عند عدمه
قلنا لا ننكر هذا إذا ظهر للتخصيص فائدة سوى اختصاص الحكم به إما لكونه الأغلب أو غير ذلك والكلام فيما لم يظهر له فائدة والله أعلم
درجات أدلة الخطاب
فصل
أعلم أن ها هنا صورا أنكرها منكر والمفهوم بناء على أنها منه وليست منه وهي ثلاثة
الأولى قوله لا عالم إلا زيد فهذا أنكره غلاة منكري المفهوم وقالوا هو نطق بالمستثنى وسكوت عن المستثنى منه فما خرج بقوله إلا فمعناه أنه لم يدخل في الكلام فصار الكلام مقصورا على الباقي والمستثنى غير متعرض له بنفي ولا إثبات وهذا فاسد فإن هذا صريح في الإثبات والنفي فمن قال لا إله إلا الله مثبت للإلهية ناف لها عمن سواه
وقولهم لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي نفي وإثبات يقينا وذلك لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فهذا من صريح اللفظ لا من مفهومه
فأما قوله لا صلاة إلا بطهور و لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء فإن هذه صيغة الشرط ومقتضاها نفي الصلاة عند انتفاء الطهارة (1/270)
وأما وجودها عند وجودها فليس منطوقا بل هو على وفق قاعدة المفهوم فإن نفي شيء عند انتفاء شيء لا يدل على إثباته عند وجوده بل يبقى كما كان قبل النطق فالمنطوق به الانتفاء عند النفي فقط فإن قوله لا صلاة ليس فيه تعرض للطهارة بل للصلاة فقط وقوله إلا بطهور إثبات للطهور الذي لم يتعرض له الكلام فلم يفهم منه إلا الشرط
الصورة الثانية قوله انما الولاء لمن أعتق فهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة وبعض منكري المفهوم على إنكاره وقالوا هو إثبات فقط لا يدل على الحصر لأن إنما مركبة من إن وما وإن للتوكيد وما زائدة كافة فلا تدل على نفي كما لو قال إنما النبي محمد وهذا فاسد فإن لفظة إنما موضوعة للحصر والإثبات تثبت المذكور وتنفي ما عداه لأنها مركبة من حرفي نفي وإثبات أن للإثبات وما للنفي فتدل عليهما ولذلك لا تستعمل في موضع لا يحسن فيه النفي والاستثناء منه كقوله إنما الله إله واحد و إنما يخشى الله من عباده العلماء و إنما أنا منذر كما قال وما أنا إلا نذير وقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما الأعمال بالنيات مثل قوله لا عمل إلا بنية وقال الشاعر (1/271)
أنا الرجل الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ...
وقولهم إنما إثبات فقط غير صحيح وقولهم إنما النبي محمد فهذا اختراع على اللغة لم يسمع به بل لو قال إنما العالم زيد ساغ ذلك مجازا لتأكيد العلم في زيد كما قال لا فتى إلا علي يريد بذلك تأكيد الفتوة فيه وهذا مجاز لا نترك الحقيقة له إلا بدليل فالقول فيه كالقول في الاستثناء بإلا من النفي بلا فرق
الصورة الثالثة قوله عليه السلام الشفعة فيما لم يقسم وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وهذا يلتحق بالصورة التي قبله وإن كان دونه في القوة ووجهه أن الإسم المحلي بالألف واللام يقتضي الأستغراق وأن خبر المبتدأ يكون مساويا للمبتدأ كقولنا الإنسان بشر أو أعم منه كقولنا الإنسان حيوان
ولا يجوزأن يكون اخص منه كقولنا الحيوان إنسان فلو جعلنا التسليم أخص من تحليل الصلاة كان خلاف موضوع اللغة ولو جعلنا الشفعة فيما يقسم لم يكن كل الشفعة منحصرا فيما لم يقسم وهو خلاف الموضوع
فأما ما هو من دليل الخطاب فعلى درجات ست
أولها مد الحكم إلى غاية بصيغة إلى أو حتى كقوله تعالى حتى تنكح زوجا (1/272)
غيره ثم أتموا الصيام إلى الليل أنكره بعض منكري المفهوم لأن النطق إنما هو بما قبل الغاية وما بعدها مسكوت عنه وكل ما له ابتداء فغايته مقطع ابتدائه فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية وقبل البداية لم يكن فيه دليل على نفي ولا إثبات فليكن بعدها كذلك
ولنا مع ما سبق من الأدلة أن حتى تنكح ليس بمستقل ولا يصح حتى يتعلق بقوله فلا تحل له ولا بد فيه من إضمار وهو حتى تنكح زوجا غيره فتحل له ولهذا يقبح الاستفهام لو قال قائل فإن نكحت هل تحل له ولأن الغاية نهاية ونهاية الشيء مقطعه فإن لم يكن مقطعا فليس بنهاية ولا غاية
الدرجة الثانية التعليق على شرط كقوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن أنكره قوم لأنه يجوز تعليق الحكم بشرطين كما يجوز بعلتين فإن قوله أحكم بالمال إن شهد به شاهدان لا يمنح الحكم به بالإقرار وبالشاهد واليمين ولا يكون نسخا ولهذا جوزناه بخبر الواحد
ولنا ما سبق وتعليقه بشرطين لأن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر في ثبوت الحكم به لا يمنع من انتفاء الحكم عند انتفائهما كما لو صرح فقال لا تحكم إلا بشاهدين أو إقرار وجوزناه بخبر الواحدلأنه تخصيص وتخصيص العام بخبر الواحد جائز
الدرجة الثالثة أن يذكر الاسم ا لعام ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدلال والبيان كقوله في الغنم السائمة الزكاة أو في سائمة الغنم (1/273)
ومن باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع فهو حجة أيضا طلبا لفائدة التخصيص وفي معنى هذه الدرجة إذا قسم الاسم إلى قسمين فأثبت في قسم منهما حكما يدل على انتفائه في الآخر إذ لو عمها لم يكن للتقسيم فائدة ومثاله قوله عليه السلام الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن
الدرجة الرابعة أن يخص بعض الأوصاف التي تطرأ وتزول بالحكم كقوله الثيب أحق بنفسها من وليها فيدل على أن ما عداه بخلافه طلبا للفائدة في التخصيص وبه قال جل أصحاب الشافعي واختار التميمي أنه ليس بحجة وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين والفرق بين هذه الصورة وما قبلها أن ذكر الثيب يظهر معه أنه ذكر للبكر ويحتمل الغفلة عن الذكر فصار المفهوم ظاهرا وعند ذكر الوصف الخاص مع العام انقطع احتمال عدم الحضور فصار المفهوم ها هنا أظهر
الدرجة الخامسة أن يخص نوعا من العدد بحكم كقوله لا تحرم المصة ولا المصتان و ليس الوضوء من القطرة والقطرتين
فيدل على أن ما زاد على الإثنين بخلافهما وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية وخالف فيه أبو حنيفة وجل أصحاب الشافعي والكلام فيه قد تقدم (1/274)
الدرجة السادسة أن يخص اسما بحكم فيدل على أن ما عداه بخلافه والخلاف فيها كالخلاف في التي قبلها وأنكره الأكثرون وهو الصحيح لأنه يفضي إلى سد باب القياس وأن تنصيصه على الأعيان الستة في الربا يمنع جريانه في غيرها ولا فرق بين كون الاسم مشتقا كالطعام أو غير مشتق كأسماء الأعلام والله تعالى أعلم
باب القياس
فصل
القياس في اللغة التقدير ومنه قست الثوب بالراع إذا قدرته قال الشاعر يصف جراحة أو شجة ...
إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت ... غثيثها أو زاد وهيا هزومها ...
قاس الجراحة إذا جعل فيها الميل يقدرها به ليعرف غورها
وهو في الشرع حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما وقيل حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به في الأصل لاشتراكهما في العلة التي اقتضك ذلك في الأصل وقيل حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بجامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما أو نفيهما عنهما ومعاني هذه الحدود متقاربة وقيل هو الاجتهاد وهو خطأ فإن الاجتهاد قد يكون بالنظر في العمومات وسائر طرق الأدلة وليس بقياس ثم لا ينبى في (1/275)
العرف إلا عن بذل الجهد إذ من حمل خردلة لا يقال اجتهد وقد يكون القياس جليا لا يحتاج إلى استفراغ الجهد وبذل الوسع
ولا بد في كل قياس من أصل وفرع وعلة وحكم فأما إطلاق القياس على المقدمتين اللتين يحصل منهما نتيجة فليس بصحيح لأن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر ويقدر به فهو اسم إضافي بين شيئين على ما ذكرناه في اللغة
فصل في العلة
ونعني بالعلة مناط الحكم وسميت علة لأنها غيرت حال المحل أخذا من علة المريض لأنها اقتضت تغير حاله والاجتهاد في العلة على ثلاثة أضرب
تحقيق المناط للحكم وتنقيحه وتخريجه (1/276)
أما تحقيق المناط فنوعان
أولهما لا نعرف في جوازه خلافا ومعناه أن تكون القاعدة الكلية متفقا عليها أو منصوصا عليها ويجتهد في تحقيقها في الفرع ومثاله قولنا في حمار الوحش بقرة لقوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم فنقول المثل واجب والبقرة مثل فتكون هي الواجب فالأول معلوم بالنص والإجماع وهو وجوب المثلية أما تحقيق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من الاجتهاد ومنه الاجتهاد في القبلة فنقول وجوب التوجه إلى القبلة معلوم بالنص أما أن هذه جهة القبلة فيعلم بالاجتهاد وكذلك تعيين الأمام والعدل ومقدار الكفايات في النفقات ونحوه فليعبر عن هذا بتحقيق المناط إذ كان معلوما لكن تعذر معرفة وجوده في آحاد الصور فاستدل عليه بأمارات
الثاني ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم في الهر إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات جعل الطواف علة فبين المجتهد باجتهاده الطواف في الحشرات من الفأرة وغيرها ليلحقها بالهر في الطهارة فهذا قياس جلي قد أقر به جماعة ممن ينكر القياس
وأما النوع الأول عن تحقيق المناط فليس ذلك قياسا فإن هذا متفق عليه والقياس مختلف فيه وهذا من ضرورة كل شريعة لأن التنصيص على عدالة كل شخص وقدر كفاية الأشخاص لا يوجد
الضرب الثاني تنقيح المناط وهو أن يضيف الشارع الحكم إلى سببه (1/277)
فتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم ومثاله قوله للأعرابي الذي قال هلكت يا رسول الله قال ما صنعت قال وقعت على أهلي في نهار رمضان قال اعتق رقبة فنقول كونه أعرابيا لا أثر له فيلحق به التركي والعجمي لعلمنا أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع الأعرابي إذ التكاليف تعم الأشخاص على ما مضى ويلحق به من أفطر بوقاع في رمضان آخر لعلمنا أن المناط حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان وكون الموطوءة منكوحة لا أثر له فإن الزنا أشد في هتك هذه الحرمة فهذه إلحاقات معلومة تبنى على مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع في مصادره وموارده وأحكامه أنه لا مدخل له في التأثير وقد يكون بعض الأوصاف مظنونا فيقع الخلاف فيه كالوقاع إذ يمكن أن يقال مناط الكفارة كونه مفسدا للصوم المحترم والجماع آلة الإفساد كما أن السيف آلة للقتل الموجب للقصاص وليس هو من المناط كذا ههنا
ويمكن أن يقال الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان الشهوة بمجرد وازع الدين فيحتاج إلى كفارة وازعة بخلاف الأكل والمقصود أن هذا نظر في تنقيح المناط بعد معرفته بالنص لا بالاستنباط وقد أقربه أكثر منكري القياس وأجراه أبو حنيفة في الكفارات مع أنه لا قياس فيها عنده
الضرب الثالث تخريج المناط وهو أن ينص الشارع على حكم في محل ولا يتعرض لمناطه أصلا كتحريمه شرب الخمر والربا في البر فيستنبط المناط بالرأي والنظر فيقول حرم الخمر لكونه مسكرا فيقيس عليه النبيذ وحرم (1/278)
الربا في البر لكونه مكيل جنس فيقيس عليه الأرز وهذا هو الاجتهاد القياسي الذي وقع الخلاف فيه
فصل في إثبات القياس على منكريه
قال بعض أصحابنا يجوز التعبد بالقياس عقلا وشرعا وهو واقع شرعا لقول أحمد رحمه الله لا يستغني أحد عن القياس وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين وذهب الشيعة والنظام إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلا ولا شرعا فلا يقع وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله فقال يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين المجمل والقياس وتأوله القاضي على قياس يخالف به نصا
وقالت طائفة لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب لكنه في مظنة الجواز عقلا وهو محرم شرعا وهم الظاهرية وقال بعض الشافعية التعبد به شرعا واجب وهو قول طائفة من المتكلمين
وجه قول من قال بالوجوب عقلا وشرعا أن تعميم الحكم واجب ولو لم يستعمل القياس أفضى إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام لقلة النصوص وكون الصور لا نهاية لها فيجب ردها إلى الاجتهاد ضرورة
قيل يمكن التنصيص على المقدمات الكلية ويبقى الاجتهاد في المقدمات الجزئية فيكون من تحقيق المناط وليس ذلك بقياس وذلك مثل أن ينص (1/279)
على أن كل مطعوم ربوي وهذه المقدمة الكلية فيبقى الاجتهاد في أن هذا مطعوم أم لا وهذا لا خلاف في جوازه
قلنا إن تصور هذا فليس بواقع فإن أكثر الحوادث ليس بمنصوص على مقدماتها الكلية كميراث الجد وأشباهه فيقتضي العقل أن لا يخلو عن حكم
دليل ثان أن العقل يدل على العلل الشرعية ويدركها إذ مناسبة الحكم عقلية مصلحية يقتضي العقل تحصيلها وورود الشرع بها كالعلل العقلية ولأننا نستفيد بالقياس ظنا غالبا في إثبات الحكم والعمل بالظن الراجح متعين وشبهة المانعين منه عقلا ما مضى في رد خبر الواحد وقد مضى
فأما التعبد به شرعا فالدليل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الحكم بالرأي في الوقائع الخالية عن النص
فمن ذلك حكمهم بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالإجتهاد مع عدم النص إذ لو كان ثم نص لنقل وتمسك به المنصوص عليه وقيلسهم العهد على العقد إذ عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما ولم يرد فيه نص لكن قياسا لتعيين الإمام على تعيين الأمة
ومن ذلك موافقتهم أبا بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة بالاجتهاد وكتابة المصحف بعد طول التوقف فيه وجمع عثمان له على ترتيب واحد واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة الجد والأخوة على وجوه مختلفة مع قطعهم أنه لا نص فيها وقولهم في المشركة ومن ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه في الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه الكلالة ما عدا الوالد والولد ونحوه عن ابن مسعود في قضية بروع بنت واشق ومنه حكم الصديق رضي الله (1/280)
عنه في التسوية بين الناس في العطاء كقوله إنما أسلموا لله وأجورهم عليه وإنما الدنيا بلاغ ولما انتهت النوبة إلى عمر فضل بينهم وقال لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرها ومنه عهد عمر إلى أبي موسى اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك وقال علي رضي الله عنه اجتمع رأيى ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن وأنا الآن أرى بيعهن وقال عثمان لعمر أن نتبع رأيك فرأي (1/281)
رشيد وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان
ومنه قولهم في السكران إذا سكر هذى وإن هذى افترى فحدوه حد المفتري وهذا التفات منهم إلى أن مظنة الشيء تنزل منزلته
وقال معاذ للنبي صلى الله عليه و سلم اجتهد رأيي فصوبه فهذا وأمثاله مما لا يدخل تحت الحصر مشهور وإن لم تتواتر آحاده حصل بمجموعه العلم الضروري أنهم كانوا يقولون بالرأي وما من مفت إلا وقد قال بالرأي ومن لم يقل فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد وما أنكر على القائل به فكان إجماعا فإن قيل فقد نقل عنهم ذم الرأي وأهله فقال عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال علي رضي الله عنه لو كان (1/282)
الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقال ابن مسعود رضي الله عنه قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا فيقيسون مالم يكن بما كان وقوله إن حكمتم الرأي أحللتم كثيرا مما حرمه الله عليكم وحرمتم كثيرا مما أحله وقول ابن عباس إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم برأيه وقال لنبيه لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل بما رأيت وقوله إياكم والمقاييس فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس وقال (1/283)
ابن عمر ذروني من أرأيت وأرأيت
قلنا هذا منهم ذم لمن استعمل الرأي والقياس في غير موضعه أو بدون شرطه فذم عمر رضي الله عنه ينصرف إلى من قال بالرأي من غير معرفة للنص ألا تراه قال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وإنما يحكم بالرأي في حادثة لا نص فيها فالذم على ترك الترتيب لا على أصل القول بالرأي ولو قدم إنسان القول بالسنة على ما هو أقوى منها كان مذموما وكذلك قول علي رضي الله عنه وكل ذم يتوجه إلى أهل الرأي فلتركهم الحكم بالنص الذي هو أولى كما قال بعض العلماء
... أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا ... علم الحديث الذي ينجو به الرجل ... لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا ... عنها إلى غيرها لكنهم جهلوا ...
جواب ثان أنهم ذموا الرأي الصادر عن الجاهل الذي ليس أهلا للاجتهاد والرأي ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع بالرأي بدليل أن الذين نقل عنهم هذا هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد
والقائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من القياس كقياس أهل الظاهر إذ قالوا الأصول لا تثبت قياسا فكذلك الفروع فإذا إن بطل القياس فليبطل قياسهم
فإن قيل فلعلهم عولوا في اجتهادهم على العموم أو أثر أو استصحاب حال أو مفهوم أو استنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين أو خبرين أو يكون اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في استنباطه (1/284)
فقد علموا أنه لا بد من إمام وعرفوا بالاجتهاد من يصلح للتقديم وهكذا في بقية الصور
قلنا لم يكن اجتهاد الصحابة مقصورا على ما ذكروه بل قد حكموا بأحكام لا تصح إلا بالقياس كعهد أبي بكر إلى عمر قياسا للعهد على العقد بالبيعة وقياس الزكاة على الصلاة وقياس عمر الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة وإلحاق السكر بالقذف لأنه مظنته
وقد اشتهر اختلافهم في الجد قياسا فقال ابن عباس ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا فأنكر ترك قياس الأبوة على البنوة مع افتراقهما في الأحكام
وصرح من سوى بينهما بأن الأخ يدلي بالأب والجد يدلي به أيضا فالمدلي به واحد والإدلاء مختلف وصرحوا بالتشبيه بالغصنين والخليجين ومن فتش عن اختلافهم في الفرائض وغيرها عرف ضرورة سلوكهم التشبيه والمقايسة وأنهم لم يقتصروا على تحقيق المناط في إثبات الأحكام بل استعملوا ذلك في بقية طرق الاجتهاد
وقد استدل على إثبات القياس بقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وحقيقة الاعتبار مقايسة الشيء بغيره كما يقال اعتبر الدينار بالصنجة وهذا هو القياس
فإن قيل المراد به الاعتبار بحال من عصى أمر الله وخالف رسله لينزجر (1/285)
ولذلك لا يحسن أن يصرح بالقياس ها هنا فيقول يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فألحقوا الفروع بالأصول لتعرف الأحكام
قلنا اللفظ عام وإنما لم يحسن التصريح بالقياس ههنا لأنه يخرج عن عمومه المذكور في الآية إذ ليس حالنا فرعا لحالهم
دليل آخر قول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ بم تقضي قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص والحارث والرجال مجهولون قاله الترمذي
ثم إن هذا الحديث ليس بصريح في القياس إذ يحتمل أنه يجتهد في تحقيق المناط
قلنا قد رواه عبادة بن نسي عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ ثم هذا الحديث تلقته الآمة بالقبول فلا يضره كونه مرسلا
والثاني لا يصح لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة
خبر آخر قول النبي صلى الله عليه و سلم إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر رواه مسلم ويتجه عليه أنه يجتهد في تحقيق المناط دون تخريجه (1/286)
خبر آخر قول النبي صلى الله عليه و سلم للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى فهو تنبيه على قياس دين الله على دين الخلق وقوله عليه السلام لعمر حين سأله عن القبلة للصائم ثم قال أرأيت لو تمضمضت فهو قياس للقبلة على المضمضة بجامع أنها مقدمة الفطر ولا يفطر وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي وإذا كان يحكم بينهم باجتهاده فلغيره الحكم برأيه إذا غلب على ظنه
احتجوا بقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله تبيانا لكل شيء فما ليس في القرآن ليس بمشروع فيبقى على النفي الأصلي
الثانية قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله وهذا حكم بغير المنزل وهكذا قوله فردوه إلى الله والرسول وأنتم تردونه إلى الرأي
وأما شبههم المعنوية قالوا براءة الذمة بالأصل معلومة قطعا فكيف (1/287)
ترفع بالقياس المظنون
والثانية كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد والفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات إذ قال يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام ويجب الغسل من المني والحيض دون المذي والبول ونظائر ذلك كثيرة
الثالثة أن الرسول صلى الله عليه و سلم قد أوتي جوامع الكلم فكيف يليق به أن يترك الوجيز المفهم إلى الطويل الموهم فيعدل عن قوله حرمت الربا في الكيل إلى الأشياء الستة
الرابعة قالوا الحكم ثبت في الأصل بالنص لأنه مقطوع به والحكم مقطوع به فكيف يحال على العلة المظنونة
والحكم يثبت في الفرع بالعلة فكيف يثبت الحكم فيه بطريق سوى طريق الأصل
الخامسة قالوا غاية العلة أن يكون منصوصا عليها وذلك لا يوجب الإلحاق كما لو قال أعتقت من عبيدي سالما لأنه أسود لم يقتض عتق كل أسود ولا يجري ذلك مجرى قوله أعتقت كل أسود كذا قوله حرمت الربا في البر لأنه مطعوم لا يجري مجرى قوله حرمت الربا في كل مطعوم
الجواب أما قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء فإن القرآن دل على جميع الأحكام لكن إما بتمهيد طريق الاعتبار وإما بالدلالة على الإجماع والسنة وهما قد دلا على القياس فيكون الكتاب قد بينه وإلا فأين (1/288)
في الكتاب مسألة الجد والإخوة والعول والمبتوتة والمفوضة والتحريم وفيها حكم لله شرعي
ثم قد حرمتم القياس وليس في القرآن تحريمه وقوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله
قلنا القياس ثابت بالإجماع والسنة وقد دل عليه القرآن المنزل ومن حكم بمعنى استنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل وقوله تعالى فردوه إلى الله والرسول قلنا نحن لا نرده إلا إلى العلة المستنبطة من كتاب الله تعالى ونص رسوله فالقياس عبارة عن تفهم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم وحذف الحشو الذي لا أثر له في الحكم ثم أنتم رددتم القياس بلا نص ولا معنى نص
وقولهم كيف ترفعون القواطع بالظنون
قلنا كما ترفعونه بالظواهر والعموم وخبر الواحد وتحقيق المناط في آحاد الصور
ثم نقول لا نرفعه إلا بقاطع فإنا إذا تعبدنا باتباع العلة المظنونة فإنا نقطع بوجود الظن ونقطع بوجود الحكم عند الظن فيكون قاطعا
وقولهم مبني الحكم على التعبدات
قلنا نحن لا ننكر التعبدات في الشرع فلا جرم قلنا الأحكام ثلاثة أقسام
قسم لا يعلل وقسم يعلم كونه معللا كالحجر على الصبي لضعف عقله وقسم يتردد فيه (1/289)
ونحن لا نقيس مالم يقم دليل على كون الحكم معللا ودليل على عين العلة المستنبطة ودليل على وجود العلة في الفرع
وقولهم لم لم ينص على المكيل ويغني عن القياس على الأشياء الستة
قلنا هذا تحكم على الله تعالى وعلى رسوله وليس لنا التحكم عليه فيما صرح ونبه وطول وأوجز ولو جاز ذلك لجاز أن يقال فلم لم يصرح بمنع القياس على الأشياء الستة ولم لم يبين الأحكام كلها في القرآن وفي المتواتر ليحسم الاحتمال وهذا كله غير جائز
ثم نقول إن الله تعالى علم لطفا في تعبد العلماء بالاجتهاد وأمرهم بالتشمير في استنباط أسرار الشرع يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات
وقولهم كيف يثبت الحكم في الفرع بطريق غير طريق الأصل
قلنا ليس من ضرورة كون الفرع تابعا للأصل أن يساويه في طريق الحكم فإن الضروريات والمحسوسات أصل النظريات ولا يلزم تساويهما في الطريق وإن تساويا في الحكم وأما إذا قال أعتقت سالما لسواده فالفرق بينه وبين أحكام الشرع من حيث الإجمال والتفصيل
أما الإجمال فإنه لو قال مع هذا فقيسوا عليه كل أسود لم يتعد العتق سالما
ولو قال الشارع حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليه كل مشتد للزمت التسوية فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بالفرق (1/290)
وأما التفصيل فلأن الله تعالى علق الحكم في الأملاك حصولا وزوالا على اللفظ دون الإرادات المجردة
أما أحكام الشرع فتثبت بكل ما دل على رضا الشارع وإرادته ولذلك ثبتت بدليل الخطاب وبسكوت النبي صلى الله عليه و سلم عما جرى بين يديه من الحوادث
ولو أن إنسانا باع مال غيره بأضعاف قيمته وهو حاضر ولم ينكر ولم يأذن بل ظهرت عليه علامات الفرح لا يصح البيع بل قد ضيق الشرع تصرفات العباد حتى لم تحصل أحكامها بكل لفظ فلو قال الزوج فسخت النكاح ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي لم يقع الطلاق إلا أن ينويه وإذا أتى بلفط الطلاق وقع وإن لم ينوه وإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ بل ببعضها فكيف تحصل بمجرد الإرادة على أن القياس مفهوم في اللغة فإنه لو قال لا تأكل الإهليلج لأنه مسهل ولا تجالس فلانا فإنه مبتدع فهم منه التعدي بتعدي العلة وهذا مقتضى اللغة وهو مقتضاه في العتق لكن التعبد منع منه
وعلى أن هذا الذي ذكروه قياس لكلام الشارع على كلام المكلفين في امتناع قياس ما وجدت العلة التي علل بها فيه عليه فيكون رجوعا إلى القياس الذي أنكروه ثم إن قياس كلام الشارع على كلام غيره أبعد من قياس أحكام الشرع بعضها على بعض فإن قيل فلعل الشرع علل الحكم بخاصية (1/291)
المحل فتكون العلة في تحريم الخمر شدة الخمر وفي تحريم الربا بطعم البر لا بالشدة ولله أسرار في الأعيان فقد حرم الخنزير والدم والميتة لخواص لا يطلع عليها فلم يبعد ان يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ فبماذا يقع الأمر عن هذا
قلنا قد نعلم ضرورة سقوط اعتبار خاصية المحل كقوله أيما رجل أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذ يعلم أن المرأة في معناه وقوله من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فالأمة في معناه لأنا عرفنا بتصفح أحكام العتق والبيع وبمجموع أمارات وتكريرات وقرائن أنه لا مدخل للذكورية في العتق والبيع
وقد يظن ذلك ظنا يسكن إليه وقد عرفنا أن الصحابة عولوا على الظن فعلمنا أنهم فهموا من رسول الله صلى الله عليه و سلم قطعا إلحاق الظن بالقطع وقد اختلف الصحابة في مسائل ولو كانت قطعية لما اختلفوا (1/292)
فيها فعلمنا أن الظن كالعلم فإن انتفى العلم والظن فلا يجوز الإقدام على القياس
النص على العلة يقتضي الإلحاق
فصل
قال النظام العلة المنصوص عليها توجب الإلحاق بطريق اللفظ والعموم لا بطريق القياس إذ لا فرق في اللغة بين قوله حرمت الخمر لشدتها وبين حرمت كل مشتد وهذا خطأ إذ لا يتناول قوله حرمت الخمر لشدتها من حيث الوضع إلا تحريمها خاصة ولو لم يرد التعبد بالقياس لاقتصرنا عليه كما لو قال أعتقت غانما لسواده وكيف يصح هذا ولله تعالى أن ينصب شدة الخمر خاصة علة ويكون فائدة التعليل زوال التحريم عند زوال الشدة ويتجه عليه ما ذكره نفاة القياس والله أعلم
أوجه تطرق الخطأإلى القياس
فصل
ويتطرق الخطأ إلى القياس من خمسة أوجه
أحدها أن لا يكون الحكم معللا
والثاني أن لا يصيب علته عند الله تعالى
الثالث أن يقصر في بعض أوصاف العلة
الرابع أن يجمع إلى العلة وصفا ليس منها
الخامس أن يخطىء في وجودها في الفرع فيظنها موجودة ولا يكون كذلك
إلحاق المسكوت بالمنطوق
فصل
إلحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون فالمقطوع ضربان (1/293)
أحدهما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق وهو المفهوم ولا يكون مقطوعا حتى يوجد فيه المعنى الذي في المنطوق وزيادة كقولنا إذا قبل شهادة اثنين فثلاثة أولى فإن الثلاثة اثنان وزيادة وأذا نهى عن التضحية بالعوراء فالعمياء أولى فإن العمى عور مرتين
فأما قولهم إذا وجبت الكفارة في الخطأ ففي العمد أولى وإذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى فهذا يفيد الظن لبعض المجتهدين وليس من الأول لأن العمد نوع يخالف الخطأ فيجوز أن لا تقوى الكفارة على رفعه بخلاف الخطأ
والكافر يحترز من الكذب لدينه والفاسق متهم في الدين
الضرب الثاني أن يكون المسكوت مثل المنطوق كسراية العتق في العبد والأمة مثله وموت الحيوان في السمن والزيت مثله وهذا راجع إلى العلم بأن الفارق لا أثر له في الحكم وإنما يعرف ذلك باستقراء أحكام الشرع في موارده ومصادره وفي ذلك الجنس وضابط هذا الجنس ألا يحتاج فيه إلى التعرض للعلة الجامعة بل يكتفى بنفي الفارق المؤثر ويعلم أنه ليس ثم فارق مؤثر قطعا فإن تطرق إليه احتمال لم يكن مقطوعا به بل يكون مظنونا
وقد اختلف في تسمية هذا قياسا وما عدا هذا من الأقيسة فمظنون
وفي الجملة فالإلحاق له طريقان
أحدهما أنه لا فارق إلا كذا وهذه مقدمة
ولا مدخل لهذا الفارق في التأثير وهذه مقدمة أخرى
فيلزم منه نتيجة وهو أن لا فرق بينهما في الحكم (1/294)
وهذا أنما يحسن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل فلا يحتاج إلى التعرض للجامع لكثرة ما فيه من الاجتماع
الثاني أن يتعرض للجامع فيبينه ويبين وجوده في الفرع وهذا المتفق على تسميته قياسا
وهذا يحتاج إلى مقدمتين أيضا
أحداهما أن السكر مثلا علة التحريم في الخمر
والثانية أنه موجود في النبيذ فهذه المقدمة الثانية يجوز أن تثبت بالحس ودليل العقل والعرف وأدلة الشرع
وأما الأولى فلا تثبت إلا بدليل شرعي فإن كون الشدة علامة التحريم وضع شرعي كما أن نفس التحريم كذلك وطريقه طريقه فالشدة التي جعلت علامة التحريم يجوز أن يجعلها الشارع علامة الحل فليس إيجابها لذاتها وأدلة الشرع ترجع إلى نص أو إجماع أو استنباط فهذه ثلاثة أقسام
القسم الأول إثبات العلة بأدلة نقلية وهي ضربان
الأول الصريح وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل كقوله تعالى كيلا يكون دولة لكيلا تأسوا ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله من أجل ذلك كتبنا على بني أسرائيل لنعلم من يتبع الرسول ليذوق وبال أمره وقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل الاستئذان من أجل البصر وإنما نهيتكم من أجل الدافة وكذلك أن ذكر المفعول له فهو صريح في التعليل لأنه يذكر للعلة والعذر كقوله تعالى لأمسكتم خشية الإنفاق يجعلون أصابعهم (1/295)
في آذانهم من الصواعق حذر الموت وما جرى هذا المجرى من صيغ التعليل
فإن قام دليل على أنه لم يقصد التعليل نحو أن يضاف إلى مالا يصح علة فيكون مجازا كما لو قيل لم فعلت هذا قال لأني أردت فهذا استعمال اللفظ في غير محله فأما لفظة أن مثل قوله عليه السلام لما ألقى الروثة أنها رجس وقال في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم و لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم فإنه (1/296)
من الصريح أيضا فإن انضم إلى إن حرف الفاء فهو آكد نحو قوله عليه السلام ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث طيبا
قال أبو الخطاب هذا صريح في التعليل وقيل بل هذا من طريق التنبيه والإيماء إلى العلة لا من طريق الصريح والله أعلم
الضرب الثاني التنبيه والإيماء إلى العلة وهو أنواع ستة
أحدها أن يذكر الحكم عقيب وصف بالفاء فيدل على التعليل بالوصف كقوله تعالى قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقول النبي صلى الله عليه و سلم من بدل دينه فاقتلوه ومن أحيى أرضا ميتة فهي له فيدل ذلك على التعليل لأن الفاء في اللغة للتعقيب فيلزم من ذكر الحكم مع الوصف بالفاء ثبوته عقيبه فيلزم منه السببية إذ لا معنى للسبب إلا ما ثبت الحكم عقيبه ولهذا يفهم منه السببية وإن انتفت المناسبة نحو قوله من مس ذكره فليتوضأ ويلحق بهذا القسم ما رتبه الراوي بالفاء كقوله سها رسول الله صلى الله عليه و سلم (1/297)
فسجد وسجدنا ورضخ يهودي رأس جارية فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرض رأسه بين حجرين يفهم منه السببية فلا يحل نقله من غير فهم السببية لكونه تلبيسا في دين الله
والظاهر أن الصحابي يمتنع مما يحرم عليه في دينه لا سيما إذا علم عموم فساده فيظهر أنه فهم منه التعليل
والظاهر أنه مصيب في فهمه إذ هو عالم بمواقع الكلام ومجاري اللغة فلا يعتقد السببية إلا بما يدل عليها واللفظ مشعر به ولا يحتاج إلى فقه الراوي فإن هذا مما يقتبس من اللغة دون الفقه
الثاني ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء يدل على التعليل به كقوله تعالى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين ومن يتق الله يجعل له مخرجا أي لتقواه وقول النبي صلى الله عليه و سلم من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان (1/298)
وكذلك ما أشبهه فإن الجزاء يتعقب شرطه ويلازمه فلا معنى للسبب إلا ما يستعقب الحكم ويوجد بوجوده
النوع الثالث أن يذكر للنبي صلى الله عليه و سلم أمر حادث فيجب بحكم فيدل على أن المذكور في السؤال علة كما روى أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال هلكت وأهلكت قال ماذا صنعت قال واقعت أهلي في رمضان فقال عليه السلام اعتق رقبة فيدل ذلك على أن الوقاع سبب لأنه ذكره جوابا والسؤال كالمعاد في الجواب الجواب فكأنه قال واقعت أهلك فاعتق رقبة واحتمال أن يكون المذكور منه ليس بجواب ممتنع إذ يفضي ذلك إلى خلو محل السؤال من الجواب فيتأخر البيان عن وقت الحاجة وهو ممتنع بالاتفاق
النوع الرابع أن يذكر مع الحكم سبب لو لم يقدر التعليل به لكان لغوا غير مفيد فيجب تقدير الكلام على وجه مفيد صيانة لكلام النبي صلى الله عليه و سلم عن اللغو وهو قسمان
أحدهما أن يستنطق السائل عن الواقعة بأمر ظاهر الوجود ثم يذكر الحكم عقيبه كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال فلا إذن فلو لم يقدر التعليل به كان الاستكشاف عن نقصان الرطب غير مفيد لظهوره (1/299)
الثاني أن يعدل في الجواب إلى نظير محل السؤال كما روى أنه لما سألته الخثعمية عن الحج عن الوالد فقال عليه السلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء فيفهم منه التعليل بكونه دينا تقريرا لفائدة التعليل
النوع الخامس أن يذكر في سياق الكلام شيء لو لم يعلل به صار الكلام غير منتظم كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فإنه يعلم منه التعليل للنهي عن البيع بكونه مانعا من السعي إلى الجمعة إذ لو قدرنا النهي عن البيع مطلقا من غير رابطة الجمعة يكون خبطا في الكلام وكذا قوله عليه السلام لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان تنبيه على التعليل بالغضب إذ النهي عن القضاء مطلقا من غير هذه الرابطة لا يكون منتظما
النوع السادس ذكر الحكم مقرونا بوصف مناسب فيدل على التعليل به كقوله تعالى السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم أي لبرهم وفجورهم فإنه يسبق إلى الأفهام التعليل به كما لو قال أكرم العلماء وأهن الفساق يفهم منه أن إكرام العلماء لعلمهم وإهانة الفساق لفسقهم وكذلك في خطاب الشارع فإن الغالب منه اعتبار المناسبة بل قد نعلم أنه لا يرد الحكم إلا لمصلحة فمتى ورد (1/300)
الحكم مقرونا بمناسبة فهمنا التعليل به ففي هذه المواضع يدل على أن الوصف معتبر في الحكم لكنه يحتمل أن يكون اعتباره لكونه علة في نفسه ويحتمل أن اعتباره لتضمنه للعلة نحو نهيه عن القضاء مع الغضب ينبه على أن الغضب علة لا لذاته بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة استيفاء الفكر حتى يلتحق به الجائع والحاقن ويحتمل أن ترتيبه فساد الصوم عن الوقاع لتضمنه إفساد الصوم حتى يتعدى إلى الأكل والشرب والظاهر الإضافة إلى الأصل فصرفه عن ذلك إلى ما يتضمنه يحتاج إلى دليل
القسم الثاني ثبوت العلة بالإجماع كالإجماع على تأثير الصغر في الولاية وكالإجماع على أن علة منع القاضي من القضاء وهو غضبان اشتغال قلبه عن الفكر والنظر في الدليل والحكم وتغير طبعه عن السكون والتلبث للاجتهاد
وكتأثير تلف المال تحت اليد العادية في الضمان فإنه يؤثر في الغصب إجماعا فقيس السارق وإن قطع على الغاصب لاتفاقهما في العلة المؤثرة في محل الوفاق إجماعا فلا تصح المطالبة بتأثير العلة في الأصل للاتفاق عليها وإن طولب بتأثيرها في الفرع فجوابه أن يقال القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال فلا يفتح هذا الباب بل يكلف المعترض الفرق أو التنبيه على مثار خيال الفرق وكذلك لو قال الأخوة من الأبوين أثرت في التقديم في الميراث إجماعا فلتؤثر في التقديم في النكاح أو قال الصغر أثر في ثبوت الولاية على البكر فكذلك على الثيب
القسم الثالث ثبوت العلة بالاستنباط وهو ثلاثة أنواع
النوع الأول في إثبات العلة (1/301)
المناسبة
أحدها إثبات العلة بالمناسبة وهو أن يكون الوصف المقرون بالحكم مناسبا ومعناه أن يكون في إثبات الحكم عقيبه مصلحة ولا يعتبر أن يكون منشأ للحكمة كالسفر مع المشقة بل متى كان في إثبات الحكم عقيب الوصف مصلحة فيكون مناسبا كالحاجة مع البيع والشكر مع النعمة فيدل ذلك على التعليل به إذ قد علمنا أن الشارع لا يثبت حكما إلا لمصلحة فإذا رأينا الحكم مفضيا إلى مصلحة في محل غلب على ظننا أنه قد قصد بإثبات الحكم تحصيل تلك المصلحة فيعلل بالوصف المشتمل عليها
إذا ثبت هذا فالمناسب ثلاثة أنواع (1/302)
مؤثر وملائم وغريب
فالمؤثر ما ظهر تأثيره في الحكم بنص أو إجماع وهو شيئان
أحدهما ما يظهر تأثير عينه في عين الحكم كقياس الأمة على الحرة في سقوط الصلاة بالحيض لما فيه من مشقة التكرار إذ قد ظهر تأثير عينه في عين الحكم بالإجماع لكن في محل مخصوص فعديناه إلى محل آخر وهذا لا خلاف في اعتباره عند القائلين بالقياس
ومن خاصيته أنه لا يحتاج إلى نفي ما عداه في الأصل ولو ظهر في الأصل مؤثر آخر لم يضر بل يعلل بهما فإن الحيض والعدة والردة قد تجتمع في امرأة ويعلل تحريم الوطء بالجميع
وهو قسمان
أحدهما أن يظهر عينه في عين ذلك الحكم وهو الذي يقال إنه في معنى الأصل وربما يقربه منكرو القياس إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل كقولنا إذا ثبت أن الكيل علة في تحريم الربا في البر فالزبيب ملحق به ويكون هذا كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الأعرابي فالتركي والهندي في معناه
الرتبة الثانية أن يظهر أثر عينه في جنس ذلك الحكم كظهور أثر الأخوة من الأبوين في التقديم في الميراث فيقاس عليه ولاية النكاح فإن الولاية في النكاح ليست هي عين الميراث لكن بينهما مجانسة (1/303)
النوع الثاني الملائم وهو ما ظهر تأثير جنسه في عين الحكم كظهور أثر المشقة في إسقاط الصلاة عن الحائض فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة كتأثير مشقة السفر في إسقاط الركعتين الساقطتين بالقصر
النوع الثالث الغريب وهو ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم كتأثير جنس المصالح في جنس الأحكام ثم للجنسية مراتب بعضها أعم من بعض فإن أعم الأوصاف كونه حكما ثم ينقسم إلى إيجاب وندب وتحريم وإباحة وكراهية ثم الواجب ينقسم إلى عبادة وغير عبادة
والعبادة تنقسم إلى صلاة وغيرها فما ظهر تأثيره في الصلاة الواجبة أخص مما ظهر في العبادة
وما ظهر في العبادة أخص مما ظهر في الواجب وما ظهر في الواجب أخص مما ظهر في الأحكام وفي المعاني أعم أوصافه أنه وصف يناط الحكم بجنسه حتى يدخل فيه الاشتباه وأخص منه أن يكون مصلحة خاصة كالردع أو سد الحاجة فلأجل تفاوت درجات الجنسية في القرب والبعد تتفاوت درجات الظن والأعلى مقدم على ما دونه
وقيل بل الملائم ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم كتأثير المشقة في التخفيف والغريب الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع كقولنا الخمر إنما حرم لكونه مسكرا وفي معناه كل مسكر ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر لكنه مناسب اقترن الحكم به
وقولنا المبتوتة في مرض الموت ترث لأن الزوج قصد الفرار من الميراث فعورض بنقيض قصده قياسا على القاتل لما استعجل الميراث عورض بنقيض قصده فإنا لم نر الشارع التفت إلى مثل هذا في موضع آخر فتبقى مناسبة مجردة غريبة (1/304)
وقد قصر قوم القياس على المؤثر لأن الجزم بإثبات الشارع الحكم رعاية لهذا المناسب تحكم إذ يحتمل أن يكون الحكم ثبت تعبدا كتحريم الميتة والخنزير والدم والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع مع إباحة الضب والضبع
ويحتمل أن يكون لمعنى آخر مناسب لنا ويحتمل أن يكون للإسكار فهذه ثلاث احتمالات فالتعيين تحكم بغير دليل ووهم مجرد مستنده أنه لم يظهر إلا هذا وهذا غلظ فإن عدم العلم ليس علما بعدم سبب آخر وبمثل هذا القول بطل القول بالمفهوم وهذا لا ينقلب في المؤثر فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصا أو إجماعا
قلنا لا يصح ما ذكروه لوجهين
أحدهما أنا قد علمنا من أقيسة الصحابة رضي الله عنهم في اجتهاداتهم أنهم لم يشترطوا في كل قياس كون العلة معلومة بنص أو إجماع
والثاني أن المطلوب غلبة الظن وقد حصل فإن إثبات الشرع الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له وهذا الاحتمال راجح على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس كما في المؤثر فإن العلة إذا أضيف إليها الحكم في محل احتمل اختصاصها به وبه اعتصم نفاة القياس لكن قيل لهم علم من الصحابة اتباع العلل واطراح التعبد مهما أمكن فكذا ههنا ولا فرق
وقولهم يحتمل أن ثم مناسبا آخر فهو وهم محض وغلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم ويعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطل الظن ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس فإن المؤثر إنما يغلب على الظن لعدم ظهور الفرق ولعدم ظهور معارض وصيغ العموم والظواهر إنما تغلب على الظن بشرط انتفاء قرينة مخصصة لو ظهرت لزاد الظن وإذا لم تظهر جاز التعويل عليه ولم يظهر لنا من الصحابة إلا اتباع الرأي الأغلب ولم يضبطوا أجناسه ولم يميزوا جنسا عن جنس فمهما سلمتم غلبة الظن وجب اتباعه (1/305)
وقولهم هذا وهم لا يصح فإن الوهم ميل النفس من غير سبب والظن ميلها بسبب وهذا الفرق بينهما
ومن بنى أمره في المعاملات على الظن كان معذورا ومن بناه على الوهم سفه ولو تصرف في مال اليتيم بالظن لم يضمن ولو تصرف بالوهم ضمن
وقد بينا الظن ههنا فيجب البناء عليه والله أعلم
النوع الثاني في إثبات العلة
السبر
النوع الثاني في إثبات العلة السبر قال أبو الخطاب ولا يصح إلا أن تجمع الأمة على تعليل أصل ثم يختلفون في علته فيبطل جميع ما قالوه إلا واحدة فيعلم صحتها كيلا يخرج الحق عن اقاويل الأمة فنقول الحكم معلل ولا علة إلا كذا أو كذا وقد بطل أحدهما فيتعين الآخر مثاله الربا يحرم في البر بعلة والعلة الكيل أو القوت أو الطعم وقد بطل التعلل بالقوت والطعم فثبت أن العلة الكيل فيحتاج إلى ثلاثة أمور
أحدها أنه لابد من علة ودليله الإجماع على أن الحكم معلل فإن لم يكن مجمعا عليه لم يلزم من إفساد جميع العلل إلا واحدة صحتها لجواز أن يكون الحكم ثابتا تعبدا إذ لم يوجد من الدليل على صحتها إلا خلو المحل عما سواها الوجود المجرد لا يكفي في التعليل
وقول المستدل بحثت في المحل فلم أعثر على ما يصلح للتعليل ليس (1/306)
بأولى من قول خصمه بحثت في الوصف الذي ذكرته فلم أعثر فيه على مناسبة أو ما يصلح به للتعليل فيتعارض الكلامان
الأمر الثاني أن يكون سبره حاصرا لجميع ما يعلل به إما بموافقة خصمه وإما بأن يسبر حتى يعجز عن إبراز غيره فإن كان مناظرا كفاه أن يقول هذا منتهى قدرتي في السبر فإن شاركتني في الجهل بغيره لزمك ما لزمني وإن اطلعت على علة أخرى فيلزمك إبرازها لننظر في صحتها فإن كتمانها حينئذ عناد وهو محرم وصاحبها إما كاذب وإما كاتم لدليل مست الحاجة إلى إظهاره وكلاهما محرم
الثالث إبطال أحد القسمين وله في ذلك طريقان
أحدهما أن يبين بقاء الحكم بدون ما يحذفه فيبين أنه ليس من العلة إذ لو كان منها لم يثبت الحكم بدونه
الثاني أن يبين أن ما حذفه من جنس ما عهدنا من الشارع عدم الالتفات إليه في اثبات الأحكام كالطول والقصر والسواد والبياض أو عهد منه الإعراض عنه في جنس الأحكام المختلف فيها كالذكورية والأنوثية في سراية العتق ولا يكفيه في إفساد علة خصمه النقض لاحتمال أن يكون جزءا من العلة أو شرطا فيها فلا يستقل بالحكم ولا يلزم من عدم استقلاله صحة علة المستدل بدونه ولا يكفيه أيضا أن يقول بحثت في الوصف الفلاني فما عثرت فيه على مناسبة فيجب إلغاؤه فإن الخصم يعارضه بمثل كلامه فيفسد فإن بين مع ذلك صلاحية ما يدعيه علة أو سلم له ذلك بموافقة خصمه فذلك يكفيه ابتداء بدون السبر فالسبر إذا تطويل طريق غير مفيد فلنصطلح على رده
وقال بعض أصحاب الشافعي يكفيه ذلك
وقال بعض المتكلمين إذا اتفق خصمان على فساد تعليل من سواهما ثم أفسد أحدهما علة صاحبه كان ذلك دليلا على صحة علته وليس بصحيح (1/307)
فإن اتفاقهما ليس بدليل على فساد قول من خالفهما والذي فسدت علته منهما يعتقد فساد علة خصمه الحاضر كاعتقاد فساد علة الغائب فيتساوى عنده الأمر فيهما فلا يتعين عنده صحة إحداهما ما لم يكن الحكم مجمعا على تعليله ويبطل جميع ما قيل إنه علة والله أعلم
النوع الثالث في إثبات العلة
الدوران
النوع الثالث في إثبات العلة أن يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها كوجود التحريم بوجود الشدة في الخمر وعدمه لعدمها فإنه دليل على صحة العلة العقلية وهي موجبة فأولى أن يكون دليلا على الشرعية وهي أمارة ولأنه يغلب على الظن ثبوت الحكم مستندا إلى ذلك الوصف فإننا لو رأينا رجلا جالسا فدخل رجل فقام عند دخوله ثم جلس عند خروجه وتكرر منه غلب على ظننا أن العلة في قيامه دخوله
فإن قيل الوجود عند الوجود طرد محض وزيادة العكس لا تؤثر إذ ليس بشرط في العلل الشرعية ولأن الوصف يحتمل أن يكون ملازما للعلة أو جزءا من أجزائها فيوجد الحكم عند وجوده لكون العلة ملازمة وينتفي بانتفائه ويحتمل ما ذكرتم ومع التعارض لا معنى للتحكم ثم لو كان ذلك دليل علة لأمكن كل واحد من المختلفين في علة الربا أن يثبت الحكم بثبوتها وينفيه بنفيها ثم يبطل هذا المعنى برائحة الخمر المخصوصة به مقرونة بالشدة يزول التحريم بزوالها ويوجد بوجودها وليس بعلة
قلنا قد بينا أن الطرد والعكس يؤثران في غلبة الظن وكون كل واحد من (1/308)
الطرد والعكس لا يؤثر منفردا لا يمنع من تأثيرهما مجتمعين فإن العلة إذا كانت ذات وصفين لا يحصل الأثر من أحدهما واحتمال شيء آخر لا ينفي الظن ولا يمنع من التمسك بما ظنناه علة ما لم يظهر الأمر الآخر فيكون معارضا والنقض برائحة الخمر غير لازم فإن صلاحية الشيء للتعليل لا يلزم أن يعلل به إذ قد يمتنع ذلك لمعارضة ما هو أولى منه
وقال قوم إنما يصح التعليل به مع السبر فيقول علة الحكم أمر حادث ولا حادث إلا كذا وكذا ويبطل ما سواه والسبر إذا تم بشروطه استغنى عما سواه مع أنه لا يلزم أن تكون علة الحكم أمرا حادثا إذ يجوز أن تكون العلة سابقة ويقف ثبوت الحكم على شرط حادث كالحول في الزكاة أو يكون الحادث جزءا تمت العلة به أو يكون الحكم غير معلل والله أعلم
ومما يشبه هذا شهادة الأصول كقولهم في الخيل ما لا تجب الزكاة في ذكوره منفردة لم تجب في الذكور والإناث ويستدل على صحتها بالاطراد والانعكاس في سائر ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب وقولهم من صح ظهاره صح طلاقه كالمسلم ذهب القاضي وبعض الشافعية إلى صحته لشبهه بما ذكرنا وتغليبه على الظن ومنع منه بعضهم والله أعلم
اطراد العلة ليس دليلا على صحتها
فصل
فأما الدلالة على صحة العلة باطرادها ففاسد إذ لا معنى له إلا سلامتها عن مفسد واحد هو النقض وانتفاء المفسد ليس بدليل على الصحة فربما لم تسلم من مفسد آخر ولو سلمت من كل مفسد لم يكن دليلا على صحتها كما لو سلمت شهادة المجهول من جارح لم تكن حجة ما لم تقم بينة معدلة (1/309)
مزكية فكذلك لا يكفي للصحة انتفاءالمفسد بل لا بد من قيام دليل على الصحة وفي الجملة فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل كوضع الحكم ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا مفسد له وكذلك العلة ويعارضه أنه لا دليل على الصحة واقتران الحكم بها ليس بدليل على أنها علة فقد يلازم الخمر لون وطعم ورائحه يقترن به التحريم ويطرد وينعكس والعلة الشدة واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الأحكام بطلوع كوكب أو هبوب ريح ثم للمعترض في إفساد المعارضة بوصف مطرد يختص بالأصل فلا يجد إلى التخلص عنه طريقا
ومثال ذلك قولهم في الخل مائع لا يصاد من جنسه السمك ولا تبنى عليه القناطر فلا تزال به النجاسة كالمرق وكذلك لو استدل على صحتها بسلامتها عن علة تفسدها لم يصح لما ذكرناه
فإن قيل دليل صحتها انتفاء المفسد قلنا بل دليل الفساد انتفاء المصحح ولا فرق بين الكلامين
انتفاء مناسبة الوصف إذا لزم منه مفسدة مساوية أو راجحة
فصل
متى لزم من ترتيب الحكم على الوصف المتضمن للمصلحة مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها فقيل إن المناسبة تنتفي فإن تحصيل المصلحة على وجه يتضمن فوات مثلها أو أكبر منها ليس من شأن العقلاء لعدم الفائدة على تقدير التساوي وكثرة الضرر على تقدير الرجحان فلا يكون مناسبا (1/310)
إذ المناسب إذا عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول فيعلم أن الشارع لم يرد بالحكم تحصيلا للمصلحة في ضمن الوصف المعين وهذا غير صحيح فإن المناسب المتضمن للمصلحة والمصلحة أمر حقيقي لا ينعدم بمعارض إذ ينتظم من العاقل أن يقول لي مصلحة في كذا يصدني عنه ما فيه من ا لضرر من وجه آخر وقد أخبر الله تعالى أن في الخمر والميسر منافع وأن إثمهما أكبر من نفعهما فلم ينف منافعهما مع رجحان إثمهما والمصلحة جلب المنفعة أو رفع المضرة ولو أفردنا النظر إليها غلب على الظن ثبوت الحكم من أجلها
وإنما يختل ذلك الظن مع النظر إلى المفسدة اللازمة من اعتبار الوصف الآخر فيكون هذا معارضا إذ هذا حال كل دليل له معارض ثم ثبوت الحكم مع وجود المعارض لا يعد بعيدا
ونظيره مالو ظفر الملك بجاسوس لعدوه فإنه يتعارض في النظر اقتضاءان
أحدهما قتله دفعا لضرره
والثاني الإحسان إليه استمالة له لتكشيف حال عدوه فسلوكه إحدى الطريقين لا يعد عبثا بل يعد جريا على موجب العقل ولذلك ورد الشرع بالأحكام المختلفة في الفعل الواحد نظرا إلى الجهات المختلفة كالصلاة في الدار المغصوبة فإنها سبب للثواب من حيث أنها صلاة وللعقاب من حيث أنها غصب نظرا إلى المصلحة والمفسدة مع انه لا يخلو إما أن يتساويا أو يرجح أحدهما فعلى تقدير التساوي لا تبقى المصلحة مصلحه ولا المفسدة مفسدة فيلزم لنتفاء الصحة والحرمة وعلى تقدير رجحان المصلحة يلزم انتفاء الحرمة وعلى تقدير رجحان المفسدة يلزم انتفاء الصحة فلا يجتمع الحكمان معا ومع ذلك اجتمعا فدل على بطلان ما ذكروه ثم لو قدرنا توقف المناسبة على (1/311)
رجحان المصلحة فدليل الرجحان أنا لم نجد في محل الوفاق مناسبا سوى ما ذكره فلو قدرنا الرجحان يكون الحكم ثابتا معقولا وعلى تقدير عدمه يكون تعبدا واحتمال التعبد أبعد وأندر فيكون احتمال الرجحان أظهر
ومثال ذلك تعليلنا وجوب القصاص على المشتركين في القتل بحكمة الردع والزجر كيلا يفضي إسقاطه إلى فتح باب الدماء فيعارض الخصم بضرر إيجاب القتل الكامل على من لم يصدر منه ذلك فيكون جوابه ما ذكرناه والله أعلم
فصل في قياس الشبه
واختلف في تفسيره ثم في أنه حجة فأما تفسيره فقال القاضي يعقوب هو أن يتردد الفرع بين أصليين حاظر ومبيح مثلا ويكون شبهه بأحدهما أكثر نحو أن يشبه المبيح في ثلاثة أوصاف ويشبه الحاظر في أربعة فلنلحقه بأشبههما به
ومثاله تردد العبد بين الحر وبين البهيمة في أنه يملك فمن لم يملكه قال حيوان يجوز بيعه ورهنه وهبته وإجارته وإرثه أشبه بالدابة (1/312)
ومن يملكه قال يثاب ويعاقب وينكح ويطلق ويكلف أشبه الحر فيلحق بما هو أكثرهما شبها
وقيل الشبه الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم من جلب المصلحة أو دفع المفسدة وذلك أن الأوصاف تنقسم إلى ثلاثة أقسام
قسم يعلم اشتماله على المناسبة لوقوفنا عليها بنور البصيرة كمناسبة الشدة للتحريم
وقسم لا يتوهم ثم مناسبة أصلا لعدم الوقوف عليها بعد البحث التام مع إلفنا من الشارع أنه لا يلتفت إليه في حكم ما كالطول والقصر والسواد والبياض وكون المائع لا تبنى عليه القناطر
وقسم ثالث بين القسمين الأولين وهو ما يتوهم اشتماله على مصلحة الحكم ويظن أنه مظنتها وقالبها من غير اطلاع على عين المصلحة مع عهدنا اعتبار الشارع له في بعض الأحكام كالجمع بين مسح الرأس ومسح الخف في نفي التكرار بوصف كونه مسحا والجمع بينه وبين الأعضاء المغسولة في التكرار بكونه أصلا في الطهارة فهذا قياس الشبه
فالقسم الأول قياس العلة وهو صحيح
والقسم الثاني باطل
والثالث الشبه وهو مختلف فيه وكل قياس فهو يشتمل على شبه واطراد لكن قياس العلة عرف بأشبه صفاته وأقواها وقياس الشبه كان أشرف صفاته المشابهة فعرف به
وكذلك القياس الطردي عرف بخاصيته وهو الاطراد إذ لم يكن له ما يعرف به سواه وكل وصف ظهر كونه مناطا للحكم فاتباعه من قبيل قياس العلة لا من قبيل قياس الشبه (1/313)
واختلفت الرواية عن احمد رحمه الله في قياس الشبه فروي أنه صحيح والأخرى أنه غير صحيح اختارها القاضي
وللشافعي قولان كالروايتين ووجه كونه حجة هو أنه يثير ظنا غالبا يبنى عليه الاجتهاد فيجب أن يكون متبعا كالمناسب فلا يخلو إما أن يكون الحكم لغير مصلحة أو لمصلحة في الوصف الشبهي أو لمصلحة في ضمن الأوصاف الأخرى لا يجوز أن يكون لغير مصلحة فإن حكم الشارع لا يخلو عن الحكمة واحتمال كونه لمصلحة وعلة ظاهرة أرجح من احتمال التعبد واحتمال اشتمال الوصف الشبهي عل المصلحة أغلب وأظهر من اشتمال الأوصاف الباقية عليها فيغلب على الظن ثبوت الحكم به فتعدى الحكم بتعديته
قياس الدلالة
فصل
في قياس الدلالة وهو أن يجمع بين الفرع والأصل بدليل العلة ليدل اشتراكهما فيه على اشتراكهما في العلة فيلزم اشتراكها في الحكم ظاهرا
ومثاله قولنا في جواز إجبار البكر جاز تزويجها وهي ساكتة فجاز وهي ساخطة كالصغيرة فإن إباحة تزويجها مع السكوت يدل على عدم اعتبار رضاها إذ لو اعتبر لاعتبر دليله وهو النطق أما السكوت فمحتمل متردد وإذا لم يعتبر رضاها أبيح تزويجها حال السخط وكذا قولنا في منع إجبار العبد على النكاح لا يجبر على إبقائه فلا يجبر على ابتدائه كالحر فإن عدم الإجبار على الإبقاء يدل على خلوص حقه في النكاح وذل يقتضي المنع من الإجبار في الابتداء (1/314)
باب أركان القياس
وهي أربعة أصل وفرع وعلة وحكم
فالركن الأول له شرطان
أحدهما أن يكون ثابتا بنص أو اتفاق من الخصمين فإن كان مختلفا فيه أو لا نص فيه لم يصح التمسك به لأنه ليس بناء أحدهما على الآخر بأولى من العكس فلو أراد إثبات حكم الأصل بالقياس على محل آخر لم يجز فإن العلة التي جمع بها بين الأصل الثاني والأول إن كانت موجودة في الفرع فليقسه على هذا الأصل الثاني ويكفيه فذكر الأول تطويل غير مفيد فليصطلح على رده وإن كان الجامع بين الأصلين غير موجود في الفرع لم يصح قياسه على الأصل الأول لأنه قد تبين ثبوت حكمه بعلة غير موجودة في الفرع ومن شرط القياس التساوي في العلة ولا يمكن تعليل الحكم في الأصل الأول بغير ما علله به قياسه إياه على الأصل الثاني فإنه إنما يعرف كون الجامع علة بشهادة الأصل له واعتبار الشرع له بإثبات الحكم على وقفه ولا يعرف اعتبار الشرع للوصف إلا أن يقترن الحكم به عريا عما يصلح أن يكون علة أو جزءا من أجزائها فإنه متى اقترن بوصفين يصلح التعليل بهما مجتمعين أو بكل واحد منهما منفردا احتمل أن يكون ثبوت الحكم بهما جميعا أو بأحدهما غير معين فالتعيين تحكم ولذلك كانت المعارضة في الأصل سؤالا صحيحا
وقال بعض أصحابنا يجوز القياس على ما ثبت بالقياس لأنه لما ثبت صار أصلا في نفسه فجاز القياس عليه كالمنصوص ولعله أراد ما ثبت بالقياس واتفق عليه الخصمان فإنه لا يعتبر كون الأصل متفقا عليه بين الأمة وقيل (1/315)
لا يكفي اتفاق الخصمين بل لا بد من اجتماع الأمة فإنه إذا لم يكن مجمعا عليه فللخصم أن يعلل الحكم في الأصل بمعنى مختص به لا يتعدى إلى الفرع فإن ساعده المستدل على التعليل به انقطع القياس لعدم المعنى في الفرع وإن لم يساعده منع الحكم في الأصل فبطل القياس وسموه القياس المركب ومثاله قياسنا العبد على المكاتب فنقول العبد منقوص بالرق فلا يقتل به الحر كالمكاتب فيقول المخالف العلة في المكاتب أنه لا يعلم هل المستحق لدمه الوارث أم السيد فإن سلمتم ذلك امتنع قياس العبد عليه لأن مستحقه معلوم وإن منعتم منعنا الحكم في المكاتب فذهب الأصل فبطل القياس
وهذا لا يصح لوجهين
أحدهما أن كل واحد من المتناظرين مقلد فليس له منع حكم ثبت مذهبا لإمامه لعجزه عن تقريره فإنه لا يتيقن مأخذ إمامه في الحكم ولو عرف ذلك فلا يلزم من عجزه عن تقرير فساده إذ من المحتمل أن يكون لقصوره فإن إمامه أكمل منه وقد اعتقد صحته ويحتمل أن إمامه لم يثبت الحكم في الفرع لوجود مانع عنده أو لفوات شرط فلا يجوز له منع حكم ثبت يقينا بناء على فساد مأخذه احتمالا
وحاصل هذا أنه لا يخلو إما أن يمنع على مذهب إمامه أو على خلافه فالأول باطل لعلمنا أنه على خلافه والثاني باطل فإنه تصدى لتقرير مذهبه فتجب مؤاخذته به ثم لو ضح هذا لما تمكن أحد الخصمين من إلزام خصمه حكما على مذهبه غير مجمع عليه لأنه لا يعجز عن منعه
الثاني أنا لو حصرنا القياس في أصل مجمع عليه بين الأمة أفضى إلى (1/316)
خلو كثير من الوقائع عن الأحكام لقلة القواطع وندرة مثل هذا القياس فإن كان الحكم منصوصا عليه جاز الإسناد إليه في القياس وإن كان مختلفا فيه بين الخصمين بشرط ان يكون النص غير متناول للفرع فإنه إذا كان متناولا كان منصوصا عليه فلا يستروح إلى القياس على وجه لا يجد بدا من الاسترواح إلى النص فيكون تطويل طريق بغير فائدة فليصطلح على رده
وقال قوم لا يجوز القياس على المختلف فيه بحال لأنه يفضي إلى نقل الكلام من مسألة إلى مسألة وبناء الخلاف على الخلاف وليس أحدهما أولى من الآخر
ولنا أن حكم الأصل أحد أركان الدليل فيجب أن يتمكن من إثباته بالدليل كبقية أركانه فإنه ليس من شرط ما يفتقر إليه في إثبات الحكم أن يكون متفقا عليه بل يكفي أن يكون ثابتا بدليل يغلب على الظن فيجب أن يكتفي بذلك في الأصل إذ للفرق تحكم وإنما منعنا من إثباته بالقياس لما ذكرناه ابتداء فأما إذا أمكن إثبات ذلك بنص أو بإجماع منقول عن أهل العصر الأول فيكون كافيا
الشرط الثاني أن يكون الحكم معقول المعنى إذ القياس إنما هو تعدية الحكم من محل إلى محل بواسطة تعدي المقتضى وما لا يعقل معناه كأوقات الصلوات وعدد الركعات لا يوقف فيه على المعنى المقتضى ولا يعلم تعديه فلا يمكن تعدية الحكم فيه
الركن الثاني الحكم وله شرطان
أحدهما أن يكون حكم الفرع مساويا لحكم الأصل كقياس البيع على النكاح في الصحة والزنا على الشرب في التحريم والصلاة على الصوم (1/317)
في الوجوب فإن حقائق هذه الأحكام لا تختلف باختلاف متعلقها والسبب يقتضي الحكم لإفضائه إلى حكمته فإذا كان الحكم الفرع مثل حكم الأصل تأدى به من الحكمة مثل ما تأدى بحكم الأصل فيجب أن يثبت أما إذا كان مخالفا له فلا يصح قياسه عليه لأن ما يتأدى به من الحكمة مخالف لما يتأدى بحكم الأصل إما بزيادة وإما بنقصان فإذا كانت أنقص فإثبات الحكم في الأصل يدل على اعتبارها بصفة الكمال فلا يلزم اعتبارها بصفة النقصان وإن كانت الحكمة في الفرع أكثر فعدول الشرع عنه إلى حكم الأصل يدل على أن في تعيينه مزيد فائدة أوجبت تعيينه أو على وجود مانع منع ثبوت حكم الفرع فكيف يصح قياسه عليه ولأن القياس تعدية الحكم يتعدي علته فإذا أثبت في الفرع غير حكم الأصل لم يكن ذلك تعدية بل ابتداء حكم وقولهم في السلم بلغ بأحد عوضيه أقصى مراتب الأعيان فليبلغ بالآخر أقصى مراتب الديون قياسا لأحدهما على الآخر ليس بقياس إذ القياس تعدية الحكم وتوسعة مجراه فكيف يختلف بالتعدية وهذا إثبات ضده وكذلك لو أثبت في الأصل حكما ولم يمكنه إثباته في الفرع إلا بزيادة أو نقصان فهو باطل لأنه ليس على صورة التعدية مثاله قولهم في صلاة الكسوف يشرع فيها ركوع زائد لأنها صلاة شرعت لها الجماعة فتختص بزيادة كصلاة الجمعة تختص بالخطبة وصلاة العيد تختص بالتكبيرات وهذا فاسد لأنه لم يتمكن من تعدية الحكم على وجهه وتفصيله
الشرط الثاني أن يكون الحكم شرعيا فإن كان عقليا أو من المسائل الأصولية لم يثبت بالقياس لأنها قطعية لا تثبت بأمور ظنية وكذلك لو أراد أثبات أصل القياس وأصل خبر الواحد بالقياس لم يجز لما ذكرناه فإن كان لغويا ففي إثباته بالقياس اختلاف ذكرناه فيما مضى
الركن الثالث الفرع ويشترط فيه أن تكون علة الأصل موجودة فيه (1/318)
فإن تعدية الحكم فرع تعدي العلة واشترط قوم تقدم الأصل على الفرع في الثبوت لأن الحكم يحدث بحدوث العلة فكيف تتأخر عنه والصحيح أن ذلك يشترط لقياس العلة ولا يشترط لقياس الدلالة بل يجوز قياس الوضوء على التيمم مع تأخره عنه فإن الدليل يجوز تأخره عن المدلول فإن حدوث العالم دليل على الصانع القديم وإن الدخان دليل على النار والأثر دليل على المؤثر ولا يشترط أيضا أن يكون وجود العلة مقطوعا به في الفرع بل يكفي فيه غلبة الظن فإن الظن كالقطع في الشرعيات
الركن الرابع العلة ومعنى العلة الشرعية العلامة ويجوز أن تكون حكما شرعيا كقولنا يحرم بيع الخمر فلا يصح بيعه كالميتة وتكون وصفا عارضا كالشدة في الخمر ولازما كالصغر والنقدية أو من أفعال المكلفين كالقتل والسرقة ووصفا مجردا أو مركبا من أوصاف كثيرة ولا ينحصر ذلك في خمسة أوصاف وتكون نفيا وإثباتا وتكون مناسبا وغير مناسب ويجوز أن لا تكون العلة موجودة في محل الحكم كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد وتفارق العلة الشرعية العقلية في هذه الأوصاف
تعدية العلة
فصل
قال أصحابنا من شرط صحة العلة أن تكون متعدية فإن كانت (1/319)
قاصرة على محلها كتعليل الربا في الأثمان بالثمنية لم يصح وهو قول الحنفية لثلاثة أوجه
أحدها أن علل الشرع أمارات والقاصرة ليست أمارة على شيء
الثاني أن الأصل أن لا يعمل بالظن لأنه جهل ورجم بالظن وإنما جوز في العلة المتعدية ضرورة العمل بها والعلة القاصرة لا عمل بها فتبقى على الأصل
الثالث أن القاصرة لا فائدة فيها وما لا فائدة فيه لا يرد الشرع به
دليل المقدمة الآولى أن فائدة العلة تعدية الحكم والقاصرة لا تتعدى ودليل أن فائدتها التعدي أن الحكم ثابت في محل النص بالنص لكونه مقطوعا به والقياس مظنون ولا يثبت المقطوع بالمظنون وهو العلة إذا ثبت هذا تعين اعتبارها في غير محل النص والقاصرة لا يمكن فيها ذلك الحكم
فإن قيل فلو لم يكن الحكم مضافا إلى العلة في محل النص لما تعدى الحكم بتعديها ولا تنحصر الفائدة في التعدي بل في التعليل فائدتان سواه
أحداهما معرفة حكمة الحكم لاستمالة القلب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق
والثانية قصر الحكم على محلها إذ معرفة خلو المحل عن لالحكم يفيد ثبوت ضده وذلك فائدة
قلنا قولكم الحكم يتعدى مجاز يتعارفه الفقهاء فإن الحكم لو تعدى لخلا عنه المحل الأول والتحقيق فيه أنه لا يتعدى وإنما معناه أنه متى وجد في محل آخر مثل تلك العلة ثبت مثل ذلك الحكم وظننا أن باعث الشرع (1/320)
على الحكم كذا لا يوجب إضافة الحكم في الثبوت إليه إذ لو كان مضافا إليه فكان على وفقه في القطع والظن إذ لا يثبت بالظن شيء مقطوع به وامتناع إضافة الحكم إلى العلة في محل النص لا لقصورها بل لأن ثم دليلا أقوى منها ففي غير محل النص يضاف إليها لصلاحيتها وخلوها من المعارض
وقولكم فائدة التعليل الاطلاع على حكمة الحكم ومصلحته
قلنا نحن لا نسد هذا الباب لكن ليس كل معنى استنبط من النص علة إنما العلة معنى تعلق الحكم به في موضع والقاصرة ليست كذلك
وقولهم فائدته قصر الحكم على محلها قلنا هذا يحصل بدون هذه العلة إذا لم يكن الحكم معللا قصرناه على محله
وقال أصحاب الشافعي يصح التعليل بها وهو قول بعض المتكلمين واختاره أبو الخطاب لثلاثة أوجه
أحدها أن التعدية فرع صحة العلة فلا يجوز أن تكون شرطا فإنه يفضي إلى اشتراط تقدم ما يشترط تأخره وذلك أن الناظر ينظر في استنباط العلة وإقامة الدليل على صحتها بالإيماء والمناسبة أو تضمن المصلحة المبهمة ثم ينظر فيها فإن كانت أعم من النص عداها وإلا اقتصر فالتعدية فرع الصحة فكيف يجوز أن تكون من جملة المصحح
الثاني أن التعدية ليست شرطا في العلة المنصوص عليها ولا في العقلية وهما آكد فكذلك القاصرة المستنبطة
الثالث أن الشارع لو نص على جميع القاتلين ظلما بوجوب القصاص لا يمنعنا أن نظن أن الباعث حكمة الردع والزجر وإن لم يتعد إلى غير قاتل (1/321)
فإن الحكمة لا تختلف باستيعاب النص لجميع الحوادث أو اقتصاره على البعض
قولهم لا فائدة في التعليل بالعلة القاصرة عنه جوابان أحدهما المنع فإن فيها فائدتين ذكرناهما إحداهما قصر الحكم على محلها
قولهم إن قصر الحكم مستفاد من عدم التعليل قلنا بل يحصل هذا بالعلة القاصرة فإن كل علة غير المؤثرة إنما تثبت بشهادة الحكم وتتم بالسبر وشرطه الاتحاد فإذا ظهرت علة أخرى انقطع الحكم فإذا أمكن التعليل بعلة متعدية تعدي الحكم فإذا ظهرت علة قاصرة عارضت التعدية ورفعتها وبقي الحكم مقصورا على محلها ولولاها لتعدى الحكم
والثانية معرفة باعث الشرع وحكمته ليكون أسرع في التصديق وأدعى إلى القبول فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ والتذكير وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص على قدرة تزيده حسنا وتأكيدا
الثاني أننا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم وثوبته بالنص لا يمنعنا أن نظن أن الباعث عليه حكمته التي في ضمنه كما ان تنصيصه على رخص السفر لا يمنعنا أن نظن أن حكمتها دفع مشقته وكذلك المسح على الخفين معلل بدفع المشقة اللاحقة بنزع الخف وإن لم يقس عليه غيره ولا يسقط هذا الظن باستيعاب مجاري الحكم ولما نص على أن كل مسكر حرام لم يمنعنا أن نظن أن باعث الشرع على التحريم السكر ولا حجر علينا في ان نصدق فنقول إنما ظننا كذا مهما ظننا كذا ولا مانع من هذا الظن وأكثر المواعظ ظنية (1/322)
وطباع الآدميين خلقت مطية للظنون واكثر بواعث الناس على أعمالهم وعقائدهم الظنون
قولهم لا نسمي هذا علة قلنا متى سلمتم أن الباعث هذه الحكمة وهي غير متعدية وجب أن يقتصر الحكم على محلها وهو فائدة الخلاف ولا يضرنا أن لا تسموه علة فإن النزاع في العبارات بعد الإتفاق على المعنى لا يفيد وتلخيص ما ذكرناه أنه لا نزاع في أن القاصرة لا يتعدى بها الحكم ولا ينبغي أن ينازع في أن يظن أن حكمه الحكم المصلحة المنطوية في ضمن محل النص وإن لم يتجاوز محلها ولا ينبغي أن ينازع في تسميته علة أيضا لأنه بحث لفظي لا يرجع إلى المعنى فيرجع حاصل النزاع إلى أن الحكم المنصوص عليه إذا إشتمل على حكمتين قاصرة ومتعدية هل يجوز تعديته فالصحيح أنه لا يتعدى لأنه لا يمتنع أن يثبت الشارع الحكم في محل النص رعاية للمصلحة المختصة به أو رعاية للمصلحتين جميعا فلا سبيل إلى إلغاء هذين الاحتمالين بالتحكم ومع بقائهما تمتنع التعدية والله أعلم
فصل في إطراد العلة
وهو إستمرار حكمها في جميع محالها حكى أبو حفص البرمكي في كون ذلك شرطا لصحتها وجهين
أحدهما هو شرط فمتى تخلف الحكم عنها مع وجودها استدللنا على (1/323)
أنها ليست بعلة إن كانت مستنبطة أو على انها بعض العلة إن كانت منصوصا عليها ونصره القاضي أبو يعلى وبه قال بعض الشافعية
والوجه الآخر تبقى حجة فيما عدا المحل المخصوص كالعموم إذا خص إختاره أبو الخطاب وبه قال مالك والحنفية وبعض الشافعية لوجهين
أحدهما ان علل الشرع أمارات والأمارة لا توجب وجود حكمها معها أبدا بل يكفي كونه معها في الأغلب الأكثر كالغيم الرطب في الشتاء أمارة على المطر وكون مركوب القاضي على باب الأمير أمارة على أنه عنده وقد يجوز أن لا يكون عنده فلو لم يكن عنده في مرة لم يمنع ذلك من رأى تلك الأمارة أن يظن وجود ما هو أمارة عليه
الثاني أن ثبوت الحكم على وفق المعنى المناسب في موضع دليل على انه العلة بدليل أنه يكتفي بذلك وإن لم يظهر أمر سواه وتخلف الحكم يحتمل أن يكون لمعارض من فوات شرط أو وجود مانع ويحتمل أن يكون لعدم العلة فلا يترك الدليل المغلب على الظن لأمر محتمل متردد
فإن قيل نفي الحكم لمعارض نفي للحكم مع وجود سببه وهو خلاف الأصل ونفيه لعدم العلة موافق للأصل إذ هو نفي الحكم لإنتفاء دليله فيكون أولى
قلنا هو مخالف للأصل من جهة أخرى وهو أن فيه نفي العلة مع قيام دليلها والأصل توفير المقتضى على المقتضي فيتساويان ودليل العلة ظاهر والظاهر لا يعارض بالمحتمل المتردد
وفرق قوم بين العلة المنصوص عليها وبين المستنبطة وجعلوا نقض المستنبطة مبطلا لها وإن كانت ثابتة بنص أو إجماع فلا يقدح ذلك فيها (1/324)
لأن كونها علة عرف بدليل متأكد قوي وتخلف الحكم يحتمل أن يكون لفوات شرط أو وجود مانع فلا يترك الدليل القوي لمطلق الاحتمال ولأن ظن ثبوت العلة من النص وظن إنتفاء العلة من إنتفاء الحكم مستفاد بالنظر والظنون الحاصلة بالنصوص أقوى من الظنون الحاصلة بالاستنباط وإن كان ثبوت العلة بالاستنباط بطلت بالنقض لأن ثبوت الحكم على وفق المعنى إن دل على إعتبار الشارع له في موضع فتخلف الحكم عنه يدل على ان الشرع الغاه
وقول القائل إنني أعتبره إلا في موضع أعرض الشرع عنه ليس بأولى ممن قال أعرض عنه إلا في موضع اعتبره الشرع بالتنصيص على الحكم ثم إن جوز وجود العلة مع إنتفاء الحكم من غير مانع وتخلف شرط فليجز ذلك في محل النزاع
قولهم ثبوت الحكم على وفق المعنى في موضع دليل على انه علة
قلنا وتخلف الحكم مع وجوده دليل على انه ليس بعلة فإن إنتفاء الحكم لإنتفاء دليله موافق للأصل وإنتفاؤه لمعارض على خلاف الأصل
قولهم إنه مخالف للأصل إذ فيه نفي العلة مع قيام دليلها فيتساوى الاحتمالان
قلنا متى سلمتم أن احتمال انتفاء الحكم لانتفاء السبب كاحتمال انتفائه لوجود المعارض على السواء لم يبق ظن صحة العلة إذ يلزم من الشك في دليل الفساد الشك في الفساد لا محالة إذ ظن صحة العلة مع الشك فيما يفسدها محال فهو كما لو قال أشك في الغيم وأظن الصحو أو أشك في موت زيد وأظن حياته
قولهم دليل العلة ظاهر قلنا والمعارض ظاهر أيضا فيتساويان فلا يبقى الظن مع وجود المعارض (1/325)
قولهم العلة امارة والأمارة لا توجب وجود حكمها أبدا
قلنا إنما يثبت كونها أمارة إذا ثبت أنها علة والخلاف ههنا هل هذا الوصف علة وأمارة أم لا وليس الاستدلال على أنه علة بثبوت الحكم مقرونا به أولى من الاستدلال على أنه ليس بعلة بتخلف الحكم عنه إذ الظاهر أن الحكم لا يتخلف عن علته أو احتمال انتفاء الحكم في محل النقض لمعارض كاحتمال ثبوت الحكم في الأصل بغير هذا الوصف أو به وبغيره وكما أن وجود مناسب آخر في الأصل على خلاف الأصل كذلك وجود المعارض في محل النقض على خلاف الأصل فيتساويان وبهذا يتبين الفرق بين العلة المنصوص عليها والمستنبطة فإن المنصوص عليها يثبت كونها أمارة بغير اقتران الحكم بها فلا يقدح فيها تخلفه عنها كما لا يقدح في كون الغيم أمارة على المطر تخلفه عنه في بعض الأحوال والمستنبطة إنما يثبت كونها أمارة باقتران الحكم بها فتخلفه عنها ينفي ظن أنها أمارة والله أعلم
فإذا طريق الخروج عن عهدة النقض أربعة أمور
أحدها منع العلة في صورة النقض
والثاني منع تخلف الحكم
والثالث أن يبين أنه مستثنى عن القاعدة بكونه على خلاف الأصلين
وإن أمكن المعترض إبراز قياس ما ينقض مسألة النقض كانت علته المطردة أولى من المنقوضة ولم يقبل دعوى المعلل أنه خارج عن القياس
والرابع بيان ما يصلح معارضا في محل النقض أو تخلف ما يصلح شرطا ليظن أن انتفاء الحكم كان لأجله فيبقى الظن المستفاد من مناسبة الوصف وثبوت الحكم على وفقه كما كان فإن الغالب من ذات الشرع اعتبار المصالح والمفاسد فيظن أن عدم الحكم للمعارض فلا تكون العلة منتقضة (1/326)
أضرب تخلف الحكم عن العلة
فصل
تخلف الحكم عن العلة على ثلاثة أضرب
أحدها ما يعلم أنه مستثنى عن قاعدة القياس كإيجاب الدية على العاقلة دون الجاني مع أن جناية الشخص علة وجوب الضمان عليه وإيجاب صاع تمر في لبن المصراة مع أن علة إيجاب المثل في المثليات تماثل الأجزاء فهذه العلة معلومة قطعا ولا تنقض بهذه الصورة ولا يكلف المستدل الاحتراز عنه وكذلك لو كانت العلة مظنونة كإباحة بيع العرايا نقضا لعلة من يعلل الربا بالكيل أو الطعم فإنه مستثنى أيضا بدليل وروده على علة كل معلل فلا يوجب نقضا على القياس ولا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء الاستثناء فيكون علة في غير محل الاستثناء ولا يقبل قول المناظر أنه مستثنى إلا أن يبين اضطرار الخصم إلى الاعتراف بكونه على خلاف قياسه أيضا أو بدليل يصلح لذلك
والثاني انتفاء الحكم لمعارضة علة أخرى
فإن قيل فلم لا ينعطف قيد على العلة يكون وصفا من أوصافها يندفع به النقض فنقول في مسألة المصراة العلة في وجوب المثل تماثل الأجزاء مع قيد الإضافة إلى غير المصراة ويكون التماثل المطلق بعض العلة وعلى هذا يكون تخلف الحكم في المصراة لعدم العلة فلا يكون نقضا فليجب على المعلل ذلك
قلنا بل العلة مطلق التماثل أما أن تكون سميت علة استعارة من البواعث فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل فمن أعطى فقيرا شيئا لفقرة وعلل (1/327)
بأنه فقير ثم منع فقيرا آخر وقال لأنه عدوي ومنع آخر وقال هو معتزلي فإن الباقي على الاستقامة التي يقتضيها أصل الفطرة لا يستبعد ذلك ولا نعده متناقضا ويجوز أن يقول أعطيته لفقره إذ الباعث هو الفقر وقد لا يحضره عند الإعطاء العداوة والاعتزال وانتفاؤهما ولو كانا جزءين من الباعث لم ينبعث إلا عند حضورهما في ذهنه وقد انبعث ولم يخطر بباله إلا مجرد الفقر كذلك مجرد التماثل علة لأنه الذي يبتعثنا على إيجاب المثل في ضمانه ولا تحضرنا مسألة المصراة أصلا في تلك الحالة ويقبح في مثل هذا أن يكلف الاحتراز عنه فيقول تماثل في غير المصراة
وأما أن يسمى العلة استعارة من علة المريض لأنها اقتضت تغيير حاله كذلك العلة الشرعية اقتضت تغيير الحكم فيجوز أن يسمى الوصف المقتضى علة بدون تخلف الشرط ووجود المانع فإن البرودة مثلا علة المرض في المريض لأنه يظهر عقيبها وإن كانت لا تحصل بمجرد البرودة بل ربما ينضاف إليها في المزاج الأصلي أمور كالبياض مثلا لكن يضاف المرض إلى البرودة الحادثة فيجوز أيضا أن يسمى التماثل المطلق علة وإن كان ينضاف إليها آخر إما شرطا وإما انتفاء المانع والله أعلم
ومن سماها علة أخذا من العلة العقلية وهو عبارة عما يوجب الحكم لذاته لم يسم التماثل المطلق علة ولم يفرق بين المحل والعلة والشرط بل العلة المجموع والأهل والمحل وصف من أوصاف العلة ولا فرق بين الجميع لأن العلة العلامة وإنما العلامة جملة الأوصاف والأول أولى لأن علل الشرع لا توجب الحكم لذاتها بل هي أمارة معرفة للحكم فاستعارتها مما ذكرنا أولى والله أعلم
الضرب الثاني تخلف الحكم لمعارضة علة أخرى كقوله علة رق الولد رق الأم ثم المغرور بحرية جارية ولده حر لعلة الغرر ولولا أن الرق في حكم (1/328)
الحاصل المندفع لما وجب قيمة الولد فهذا لا يرد نقضا أيضا ولا يفسد العلة لأن الحكم ههنا كالحاصل تقديرا
الضرب الثالث أن يتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو فوات شرطها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجدت في النباش فيقطع فيقال يبطل بسرقة ما دون ا لنصاب وبسرقة الصبي أو بسرقة من غير الحرز
وكقولنا البيع علة الملك وقد جرى فليثبت الملك في زمن الخيار فيقال يبطل ببيع الموقوف والمرهون فهذا لا يفسد العلة لكن هل يكلف المناظر جمع هذه الشروط في دليله كيلا يرد ذلك نقضا فهذا اختلف فيه الجدليون والخطب فيه يسير فإن الجدل موضوع فكيف اصطلح عليه فإليهم ذلك والأليق تكليفه ذلك لأن الخطب فيه يسير وفيه ضم نشر الكلام وجمعه فأما تخلف الحكم لغير أحد هذه الأضرب الثلاثة فهو الذي تنقض العلة به وفيه من الاختلاف ما قد مضى
المستثنى من قاعدة القياس
فصل
والمستثنى عن قاعدة القياس منقسم إلى ما عقل معناه وإلى مالا يعقل
فالأول يصح أن يقاس عليه ما وجدت فيه العلة من ذلك استثناء العرايا للحاجة لا يبعد أن نقيس العنب على الرطب إذا تبين أنه في معناه وكذا إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة مستثنى من قاعدة الضمان بالمثل نقيس عليه ما لورد المصراة بعيب آخر وهو نوع إلحاق ومنه إباحة أكل (1/329)
الميتة عند الضرورة صيانة للنفس واستبقاء للمهجة يقاس عليه بقية المحرمات إذا اضطر إليها ويقاس عليه المكره لأنه في معناه
وأما ما لا يعقل فكتخصيصه بعض الأشخاص بحكم كتخصيصه أبا بردة بجذعة من المعز وتخصيصه خزيمة بقبول بشهادته وحده وكتفريقه في بول الصبيان بين الذكر والأنثى ( فإنه لما ) لم ينقدح فيه معنى لم يقس عليه الفرق في البهائم بين ذكورها وإناثها وفي الجملة أن معرفة المعنى من شرط صحة القياس في المستثنى وغيره والله أعلم
جواز التعليل بنفي صفة أو اسم أو حكم
فصل
قال أبو الخطاب يجوز أن تكون العلة نفي ( صفة ) أو اسم أو حكم (1/330)
على قول أصحابنا كقولهم ليس بمكيل ولا موزون ليس بتراب لا يجوز بيعه فلا يجوز رهنه
وقال بعض الشافعية لا يجوز أن يكون العدم سببا لإثبات حكم لأن السبب لا بد أن يكون مشتملا على معنى يثبت الحكم رعاية له والمعنى إما تحصيل مصلحة أو نفي مفسدة والعدم لا يحصل به شيء من ذلك فلئن قلتم إنه تحصل به الحكمة فإن ما كان نافعا فعدمه مضر وما كان مضرا فعدمه يلزم منه منفعة ويكفي في مظنة الحكم أن يلزم منها الحكمة ولا يشترط أن يكون منشأ لها
قلنا لا ننكر ذلك لكن لا يناسب حكما في حق كل أحد بل إعدام النافع يناسب عقوبة في حق من وجد منه الإعدام زجرا له وإعدام المضر يناسب حكما نافعا في حق من وجد منه إعدامه حثا له على تعاطي مثله فالمناسبة في الوضعين انتسبت إلى الإعدام وهو أمر وجودي لا إلى العدم فلئن قلتم إن عدم الأمر النافع للشخص يناسب ثبوت حكم نافع له جبرا لحاله قلنا عنه جوابان
أحدهما منع المناسبة فإنه لا يخلو إما أن تثبت المناسبة بالنسبة إلى الله عز و جل أو إلى غيره وفي الجملة شرع الجائز إنما يكون معقولا على من وجد منه الضرر وأما شرعه في حق غيره فإنه عدول عن مذاق القياس ومقتضى الحكمة كإيجاب ضمان فرس زيد على عمرو إذا تلف بآفة سماوية
فإن قيل يناسب الثواب بالنسبة إلى الله عز و جل فهو عود الى الوجود ثم أن وجوبه على واحد من الخلق يلزم منه الضرر في حق من وجب عليه (1/331)
بقدر ما يحصل من المصلحة لمن وجب له فلا يكون مناسبا فإن نفع زيد بضرر عمرو لا يكون مناسبا لكونهما في نظر الشرع على السواء
الثاني أنه لا يمكن اعتباره لقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وإثبات الحكم له لمنفعته من غير سعيه مخالف للعموم
قلنا بل يجوز التعليل بالعدم فان علل الشرع أمارات على الحكم ولا يشترط فيها أن تكون منشأ للحكمة ولا مظنة لها وعند ذلك لا يمتنع أن ينصب الشارع العدم أمارة إذا كان ظاهرا معلوما ولو قال الشارع اعلموا أن ما لا ينتفع به لا يجوز بيعه وأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه فما المانع من هذا وأشباهه وقد تقرر بين الفقهاء أن انتفاء الشرط علامة على عدم المشروط فإنه ينتفي بانتفائه وإذا جاز ذلك في النفي ففي الاثبات مثله فإنه لو قال الشارع ما لا مضرة فيه من الحيوان فمباح لكم أكله وما لم يذكر اسم الله عليه فحرام عليكم أكله لم يمتنع ذلك وقد قال تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وهذا تعليل لتحريم الأكل على عدم ذكر اسم الله ولأن النفي يصلح أن يكون علة للنفي فيلزم منه أن يصلح التعليل به للإثبات لأن كل حكم له ضد فالحل ضده الحرمة والوجوب ضده براءة الذمة والصحة ضدها الفساد وكل ما نفي شيئا أثبت ضده فما كان لانتفاء الحرمة فهو علة الاباحة وما ذكروه من النفي لا يناسب اثبات الحكم في حق الآدمي لأنه يلزم منه ضرر في حق الآدمي الآخر
قلنا عنه جوابان
أحدهما أن جهات إثبات العلة لا تنحصر في المناسبة بل طرقها كثيرة على ما علم فلا يلزم من انتفاء طريق واحد انتفاؤها (1/332)
الثاني أن المناسبة متحققة فيه فإن ما كان وجوده نافعا لزم من عدمه الضرر وما كان مضرا لزم من عدمه النفع فلله تعالى فرائض وواجبات كما أن له محظورات محرمات فكما ان فعل المحرمات يناسب شرع عقوبات في حق من فعلها زجرا عنها فعدم الفرائض يناسب ترتيب العقوبات على تاركها حثا عليها ولا بعد في قول من قال إن ترك الصلاة يناسب شرع القتل أو الضرب والحبس وكذلك أشباهها من الواجبات
وقولهم إن هذا إعدام غير صحيح بل هو مجرد عدم إذ الإعدام إخراج الموجود إلى العدم ولم يكن للصلاة من تاركها وجود فيعدمها ولا يلزم من ثبوت الحكم أن يكون في حق آدمي آخر
ثم لو لزم منه ضرر فلا تنتفي المناسبة بوجود الضرر على ما علم في موضع آخر ومثل هذا يوجد في الإثبات فلا فرق إذا وقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى يتناول ما له دون ما عليه فليست عامة فلا يصح الاستدلال بها على عموم التعليل بالنفي على ان الآية إنما أريد بها الثواب في الآخرة دون احكام الدنيا بدليل أن فقر القريب صلح علة لإيجاب النفقة له وعدم المال في حق المسكين جعله مصرفا للزكاة وأمثال هذا يكثر والله أعلم
تعليل الحكم بعلتين
فصل
يجوز تعليل الحكم بعلتين لأن العلة الشرعية أمارة ولا يمتنع نصب علامتين على شئ واحد ولذلك من لمس وبال في وقت واحد انتقض وضوؤه بهما ومن أرضعتها اختك وزوجة اخيك فجمع لبنهما وانتهى إلى حلقها دفعة واحدة حرمت عليك لأنك خالها وعمها ولا يحال على أحدهما (1/333)
دون الآخر ولا يمكن أن يقال تحريمان وحكمان لأن التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة ويستحيل اجتماع مثلين
فإن قيل فإذا ذكر المعترض علة أخرى في الأصل فلم يعارض علة المستدل لم يقبل هذا الاعتراض إذا أمكن الجمع بين علتين
قلنا إن كانت علة المستدل مؤثرة لم تبطل بذلك كما ذكرناه من الأمثلة وكاجتماع العدة والردة إذ دل الشرع على أن كل واحدة علة على حيالها وإن كانت ثابتة بالاستنباط فسدت بهذه المعارضة لأن ظن كونها علة إنما يتم بالسبر وهو أنه لا بد لهذا الحكم من علة ولا يصلح علة إلا هذا فإذا ظهرت علة اخرى بطلت إحدى المقدمتين وهو أنه لا يصلح علة إلا كذا مثاله من اعطى إنسانا شيئا فوجدناه فقيرا ظننا أنه أعطاه لفقره وعللنا به فإن وجدناه قريبا عللناه بالقرابة فإن وجدناه فقيرا قريبا أمكن أن يكون الإعطاء لهما أو لأحدهما فلا يبقى الظن أنه أعطاه لواحد بعينه
فإن قيل فلم يلزم العكس وهو وجود الحكم بدون العلة فإن العلل الشرعية أمارات ودلالات فإذا جاز اجتماع دلالات لم يكن من ضرورة انتفاء البعض انتفاء الحكم
قلنا هذا صحيح وانما يلزم العكس إذا لم يكن للحكم الا واحدة فإن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت وانتفت فلو بقى الحكم لكان ثابتا بغير سبب وأما إذا تعدت العلة فلا ينتفي عند انتفاء بعضها بل عند انتفاء جميعها (1/334)
القياس في الأسباب
فصل
قال قوم يجوز إجراء القياس في الأسباب فنقول إنما نصب الزنى سببا لوجوب الرجم لعلة كذا وهو موجود في اللواط فيجعل سببا وإن كان لا يسمى زنى ومنع منه آخرون قالوا الحكم يتبع السبب دون حكمته فإن الحكمة ثمرة وليست علة فلا يجوز أن يوجب القصاص بمجرد الحاجة الى الزجر بدون القتل وإن علمنا أنه حكمه وجوب القصاص في القتل ولأن القياس في الأسباب يعتبر فيه التساوي في الحكمة وهذ أمر إستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه
ولنا أن نصب الأسباب حكم شرعي فيمكن ان تعقل علته ويتعدى إلى سبب آخر فان اعترفوا بهذا ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم كمن يقول يجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع دون النكاح وإن ادعوا الاحالة فمن أين عرفوا ذلك أبضرورة أو نظر كيف ونحن نبين إمكانه بالأمثلة
فإن قالوا هو ممكن في العقل لكنه غير واقع لأنه لا يلغي للأسباب علة مستقيمة تتعدى
قلنا قد ارتفع النزاع الأصولي إذ لا ذاهب الى تجويز القياس حيث لا تعقل العلة ولا تتعدى وهم قد ساعدوا على جواز القياس حيث أمكنت التعدية فارتفع الخلاف (1/335)
ثم إننا نذكر إمكان القياس في الأسباب من منهجين
المنهج الأول تنقيح المناط فنقول قياس اللائط على الزاني كقياس الأكل على الجماع في إيجاب الكفارة فإنا تعرفنا أن وصف كونه زنى لا يؤثر بل المؤثر كونه إيلاج فرج في فرج محرم قطعا مشتهى طبعا
فإن قالوا ليس هذا بقياس فإن القياس ان يقال علق الحكم بالزنى لعلة كذا وهي موجودة في اللواط فيلحق به كما يقال ثبت التحريم في الخمر لعلة الشدة وهي موجودة في النبيذ فيضم النبيذ إلى الخمر في التحريم ولم نغير من الخمر شيئا ونحن لم نبين أن الحكم ثبت للجماع ولم نعلق به وإنما علقنا الحكم بإفساد الصوم فنتعرف الحكم الوارد شرعا أين ورد وكيف ورد وكذا انتم لم تعلقوا الحكم بالزنى وبهذا يظهر الفرق للمنصف بعد تعليل الحكم وتعليل السببية فإن تعليل الحكم تعدية له عن محله مع تقريره في محله وفي السببية إذا قلنا علق الشرع الرجم بالزنى لعلة كذا فألحقنا به غير الزنى تناقض آخر الكلام وأوله لأن الزنى إن كان مناطا من حيث أنه زنى فألحقنا به ما ليس بزنى أخرجنا الزنى عن كونه علة ومناطا فإنا نتبين بالآخرة أن الزنى لم يكن هو السبب بل معنى أعم منه وهو إيلاج فرج في فرج محرم فكيف يعلل كونه مناطا بما يخرج به عن كونه مناطا والتعليل تقرير لا تغيير وإنما يكون تعليلا أن لو بقي الزنى سببا وانضم اليه سبب آخر كما بقي الخمر محلا للتحريم وانضم محل آخر وذلك غير جار في الأسباب (1/336)
قلنا هذا الطريق جار لنا في اللائط والنباش وهو نوع الحاق لغير المنصوص بالمنصوص بفهم العلة التي هي مناط الحكم فيرفع النزاع إلى الاسم ولا فائدة فيه أن يقول هذا بعينه جار في الأحكام فإن الخمر لما حرم لعلة الشدة تبينا أن وصف كونه خمرا لا أثر له والمؤثر إنما هو كونه مشتدا مزيلا للعقل كما تبينا أن المؤثر في الحد إيلاج فرج في فرج محرم وكما جعلتم الموجب للكفارة في الجماع كونه مفسدا للصوم فالقياس في كل موضع توسعة محل الحكم بحذف الأوصاف غير المؤثرة
وقولهم إنا نتبين بهذا ان الزنى لم يكن سببا
قلنا بل هو سبب لإشتماله على المعنى المؤثر
المنهج الثاني أن تعليل الحكم بالحكمة وتعدي الحكم بتعديها كما في قوله عليه السلام لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان إنما جعل الغضب سببا لأنه يدهش العقل ويمنع من استيفاء الفكر وهو موجود في الجوع والعطش المفرطين فنقيسهما عليه وكقولنا الصبي يولي عليه لحكمة وهي عجزه عن النظر لنفسه فينصب الجنون سببا قياسا على الصغر لهذه الحكمة وبذلك اتفق عمر وعلي على قتل الجماعة بالواحد قياسا على الواحد بالواحد للإشتراك في الحاجة إلى الردع والزجر
وقولهم الزجر ثمرة إنما تحصل بعد الحكم فكيف تكون علة
قلنا الحاجة إلى الزجر هي العلة لكون القتل سببا دون نفس الزجر كما يقال خرج الأمير للقاء زيد ولقاء زيد بعد خروجه لكن الحاجة إلى (1/337)
اللقاء علة باعثة على الخروج سابقة عليه وإنما المتأخر نفس اللقاء كذلك ههنا الحاجة إلى العصمة هي الباعثة وهي متقدمة
القياس في الكفارات والحدود
فصل
ويجري القياس في الكفارات والحدود وهو قول الشافعية وأنكره الحنفية لأن الكفارات والحدود وضعت لتكفير المآثم والزجر والردع عن المعاصي والقدر الذي يحصل ذلك به من غير زيادة أمر استأثر الله بعلمه وكذلك الحكم بمقدار معلوم في الصلاة والزكاة والمياه لا يعلمه إلا الله سبحانه فلم يجز الإقدام عليه بالقياس ولأن الحد يدرأ بالشبهة والقياس لا يخلو من الشبهة
ولنا ما تقدم في المسألة التي قبلها من أنه يجري فيه قياس التنقيح ولأنه حكم من أحكام الشرع عقلت علته فجرى فيه القياس كبقية الأحكام وما ذكروه يبطل بسائر الأحكام فإنها شرعت لمصالح العباد والقياس يجري فيها ولو ساغ ما ذكروه لساغ لنفاة القياس في الجملة ولأننا إنما نقيس إذا علمنا الأصل ويثبت ذلك عندنا بالقياس فيصير كالتوقيف فأما مالا نعلمه كأعداد الركعات ونحوه فلا يجري القياس عليه
وقولهم إن في القياس شبهة قلنا يبطل بخبر الواحد والشهادة ( والظاهر فإنه ) يثبت به الحد مع وجود الاحتمال فيه
النفي الطارىء والأصلي
فصل
والنفي على ضربين طارىء كبراءة الذمة من الدين فهو حكم شرعي يجري فيه قياس العلة وقياس الدلالة كالإثبات (1/338)
ونفي أصلي وهو البقاء على ما كان قبل ورود الشرع كانتفاء صلاة سادسة فهو منفي باستصحاب موجب العقل فلا يجري فيه قياس العلة لأنه لا موجب له قبل ورود السمع فليس بحكم شرعي حتى تطلب له علة شرعية بل هو نفي حكم الشرع ولا علة له إنما العلة لما يتجدد لكن يجري فيه قياس الدلالة وهو أن يستدل بانتفاء حكم شيء على انتفائه عن مثله ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل هو استصحاب الحال والله أعلم
القوادح في القياس
فصل
قال بعض أهل العلم يتوجه على القياس اثنا عشر سؤالا
( 1 ) الاستفسار ( 2 ) وفساد الاعتبار ( 3 ) وفساد الوضع ( 4 ) والمنع ( 5 ) والتقسيم ( 6 ) والمطالبة ( 7 ) والنقض ( 8 ) والقول بالموجب ( 9 ) والقلب ( 10 ) وعدم التأثير والفرق ( 11 ) والمعارضة ( 12 ) والتركيب
أما الاستفسار فيتوجه على المجمل وعلى المعترض إثبات الإجمال ويكفيه في إثباته بيان احتمالين في اللفظ ولا يلزمه بيان المساواة بينهما لأنه ليس في وسعه ذلك وجوابه بمنع تعدد الاحتمال أو بترجيح أحدهما
السؤال الثاني فساد الاعتبار وهو أن يقول هذا القياس يخالف نصا فيكون باطلا فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يصيرون إلى قياس مع ظفرهم بالخبر فإنهم كانوا يجتمعون لطلب الإخبار ثم بعد حصول اليأس كانوا يعدلون إلى القياس وقد أخر معاذ رضي الله عنه العمل به عن السنة فصوبه النبي صلى الله عليه و سلم
والجواب من وجهين أحدهما أن يبين عدم المعارضة
والثاني بيان أن القياس الذي استند إليه من قبيل ما يجب تقديمه على المعارض المذكور (1/339)
السؤال الثالث فساد الوضع وهو أن يبين أن الحكم المعلق على العلة تقتضي العلة نقيضة مثاله ما لو قال في النكاح بلفظ الهبة ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح كالاجارة فيقال له هذا تعليق على العلة ضد ما تقتضيه فإن إنعقاد غير النكاح به يقتضي انعقاد النكاح به لا عدم الانعقاد
وجوابه من وجهين
أحدهما أن يدفع قول الخصم أنه يقتضي نقيض ذلك
الثاني أن يسلم ذلك ويبين انه يقتضي ما ذكره من وجه آخر والحكم على وفقه فيجب تقديمه لأن الأخذ بما ظهره اعتباره اولى من الأخذ بغيره فإن ذكر الخصم لما ذكره أصلا يشهد له بالاعتبار فهو انتقال الى سؤال المعارضة
السؤال الرابع المنع ومواقعه أربعة
منع حكم الأصل ومنع وجود ما يدعيه علة الأصل ومنع كونه علة ومنع وجوده في الفرع
وقد اختلف في انقطاع المستدل عند توجه منع الحكم في الأصل والصحيح انه لا ينقطع على التفصيل الذي ذكرناه
الثاني منع وجود ما يدعيه علة في الأصل فعند ذلك يحتاج المستدل إلى إثباته إن كان عقليا بالاسترواح إلى أدلة العقل وإن كان محسوسا بالاستناد إلى شهادة الحس وإن كان شرعيا فبدليل شرعي وقد يقدر على ذلك بإثبات أثر وأمر يلازمه
الثالث منع كونه علة فيحتاج إلى إثباتها بأحد الطرق التي ذكرناها
الرابع منع وجود ما ادعاه علة في الفرع ولا بد من بيان ذلك بطريقة (1/340)
السؤال الخامس التقسيم وحقه أن يقدم على المطالبة إذ فيه منع والمطالبة تسليم محض والمنع بعد التسليم غير مقبول إذ هو رجوع عن ما إعترف به
والتسليم بعد المنع يقبل لأنه إعتراف بما أنكر فيقبل لأنه علته والإنكار بعد الإعتراف له فلا يقبل ويشترط لصحته شرطان
أحدهما أن يكون ما ذكره المستدل منقسما إلى ما يمنع ويسلم فلو أورد ذلك بذكر زيادة في الدليل على ما ذكره المستدل فلا يصح لأنه يمهد لنفسه شيئا ثم يوجه الاعتراض فحينئذ يكون مناظرا مع نفسه لا مع خصمه
الثاني أن يكون حاصرا لجميع الأقسام فإنه إذا لم يكن حاصرا فللمستدل أن يبين أن مورده غير ما عينه المعترض بالذكر فعند ذلك يندفع وطريق المعترض في صيانة تقسيمه عن هذا الدفع أن يقول عند التقسيم إن عنيت به هذا المحتمل فمسلم والمطالبة متوجهة وإن عنيت به ما عداه فممنوع
وذكر قوم ان من شرط صحته أن يكون الاحتمال في الأقسام على السواء لكن يكفيه بيان الاحتمالات ولا يلزمه بيان المساواة لكونه غير مقدور عليه وأنه إذا بين المستدل ظهور اللفظ في مجمل إما بحكم الوضع وإما بحكم العرف وإما بقرينه وجدت فسد التقسيم
قالوا ولو لم يكن اللفظ مشهورا في احدهما فللمستدل ان يبين ظهوره بأن يقول للمعترض سلمت أن اللفظ غير ظاهر في غير هذا المحتمل ولا بد للمعترض من تسليم ذلك ضرورة صحة تقسيمه فإن شرطه تساوي الاحتمالات وأنه أسلم ذلك أيضا فيلزم ان يكون ظاهرا في الاحتمال الذي عينه ضرورة نفي الاشتراك فإنه على خلاف الأصل (1/341)
ويمكن أن يمنع ان تساوي الاحتمالات شرط إذ لا حجر على المستدل أن يفسر كلامه بما يحتمله وإن كان الظاهر خلافه فكذلك لا حجر على المقسم في تقسيمه إلى ما يمكن المستدل أن يفسر كلامه به
وجواب التقسيم من حيث الجدل بدفع انقسام الكلام أو بيان ظهور أحد الاحتمالين أو بيان أن الكلام غير منحصر في الأقسام المذكورة وإن إختار الجواب الفقهي فأمكنه الدلالة على المنع واختيار القسم المسلم فالأحسن اختيار القسم لأنه يستغني عن الدلالة على المنع وإن إختار القسم الآخر جاز فإن فيه تكثيرا للفقه وإن لم يقدر إلا على سلوك أحد الطريقين فليختره
القسم السادس في السؤال المطالبة وهي طلب المستدل بذكر ما يدل على أن ما جعله جامعا هو العلة وهو المنع الثالث في المعنى وفيه تسليم وجود العلة في الفرع وفي الأصل وتسليم الحكم
وجواب ذلك كونه علة بأحد الطرق التي ذكرناها
القسم السابع في السؤال النقض ومعناه إبداء العلة بدون الحكم أي أن لا تكون العلة مطابقة للحكم وقد ذكرنا الخلاف في كونه مفسدا للعلة فيما مضى ورجحنا قول من قال بصحة النقض واختلف في وجوب الاحتراز في الدليل على صورة النقض والأليق وجوب الإحتراز فإنه اقرب إلى الضبط وأجمع لنشر الكلام وهو هين
ثم للمستدل في دفع النقض طرق أربعة
منها منع وجود العلة أو الحكم في صورة النقض وليس للمعترض أن يدل عليه إذ فيه نقل الكلام إلى مسألة أخرى وتصدي المعترض لمنصب الاستدلال وكل واحد منها على خلاف ما يقتضيه جمع الكلام
فإن قال المستدل لا أعرف الرواية فيها كفى ذلك في دفع النقض لأن (1/342)
كون هذه المسألة من مذهبه مشكوك فيه فلا يترك ما قام الدليل على صحته لأمر مشكوك فيه
الثالث أن يبين في الموضع الذي تخلف فيه الحكم فيه ما يصلح مستندا لذلك من فوات شرط أو وجود مانع ليظن استناد تخلف الحكم إليه فيبقى الظن المستفاد من الدليل بحاله ويكفيه أن يبين في صورة النقض معنى يناسب انتفاء الحكم أو فوات أمر يناسب الاشتراط فإن الغالب اعتبار المصالح والمفاسد ولا يعتبر قول من قال لا بد أن يبين وجود المانع أو فوات الشرط في صورة النقض ولا يثبت ذلك ما لم يوجد المقتضى ولا يثبت كونه مقتضيا ما لم يثبت المانع فيفضي الى الدور لأنا نقول كونه مناسبا معتبرا يدل على كونه مقتضيا وإنما ترك لمعارضة تخلف الحكم فإذا ظهر ما يصلح مستندا له وجب إحالة الحكم عليه وبقي الظن الأول بحاله ولو أبدى النقض على اصل المستدل فيلزمه الاعتذار عنه ويكفيه في ذلك امر يوافق أصله وإن أبداه على اصل نفسه وقال هذا الوصف لم يطرد على اصلي فكيف يلزمني اتباعه ولم يصح فإن المستدل إذا ثبت ان ما ذكره مقتضى للحكم نظرا إلى الدليل لزم خصمه الانقياد إليه والعمل بمقتضاه في جميع الصور وكان حجة عليه في صورة النقض كما هو حجة في المسألة التي هما فيها فإن ما ذكره في الدليل على كونه علة مغلب للظن إنما يترك لمعارض ولا تقبل معارضة الخصم بأصل نفسه
الرابع في دفع النقض أن يبين كونه مستثنى عن القاعدة بكونه على خلاف الأصلين على ما مر ولو قال المعترض ما ذكرته من الدليل على كونه علة موجود في صورة النقض فهذا نقض لدليل العلة لا لنفس العلة فيكون انتقالا من سؤال الى سؤال ويكفي المستدل في ذلك أدنى دليل يليق بأصله
وأما الكسر وهو إبداء الحكمة بدون الحكم فغير لازم لأن الحكم مما لا ينضبط بالرأي والاجتهاد فيتعين النظر إلى مرد الشارع في ضبط مقدارها (1/343)
وإذا احترز عن النقض بذكر وصف في العلة لا أثر له في الحكم لو عدم في الأصل لم يعدم الحكم بعدمه لم يندفع النقض به نحو قولهم في الاستجمار حكم يتعلق بالأحجار يستوي فيه الثيب والأبكار فاشترط فيه العدد كرمي الجمار
وقال قوم يندفع به النقض لأن العلة يشترط فيها الطرد فإذا لم يكن الوصف المؤثر مطردا ضممنا إليه وصفا غير مؤثر لتكون العلة مؤثرة مطردة
ولنا أن الوصف الطردي بمفرده لا يصلح للتعليل به في موضع فلا يجوز التعليل به مع غيره كما لو كان خاليا عن الطرد والتأثير وهذا صحيح فإن ما ليس له اثر إذا كان مفردا لا يؤثر بغيره كالفاسق في الشهادة وإن احترز عن النقض بشرط ذكره في الحكم مثل أن يقول حران مكلفان محقونا الدم فوجب أن يثبت بينهما القصاص في العمد كالمسلمين فقيل هذا اعتراف بالنقض لأن علته الأوصاف المذكورة أولا فيجب أن يثبت حكمها حيث وجدت
فإذا قال في العمد اعترف بتخلف حكمها في الخطأ فتكون العلة قاصرة ويجب أن يذكر العمد إن كان وصفا من العلة مع الأوصاف المتقدمة
وقال آخرون هو صحيح لأن الوصف المذكور آخرا وهو العمد متقدم في المعنى وهذا جائز كتقديم المفعول على الفاعل وإن كان متأخرا في اللفظ فإن للعمد أثرا في القصاص فيجب أن يكون من جملة العلة واختاره أبو الخطاب
الوجه الثامن في الاعتراض القلب ومعناه أن يذكر لدليل المستدل حكما ينافي حكم المستدل مع تبقية الأصل والوصف بحالها وهو قسمان
أحدهما أن يبين أنه يدل على مذهبه مثاله أن يعلل حنفي في (1/344)
الاعتكاف بغير صوم بأنه لبث محض فلا يكون قربة بمفرده كالوقوف بعرفة فيقول المعترض لبث محض فلا يعتبر الصوم في كونه كالوقوف بعرفة
القسم الثاني أن يتعرض لبطلان مذهب خصمه كما لو قال حنفي في مسح الرأس ممسوح في الطهارة فلا يجب استيعابه كالخف أو فيقول خصمه ممسوح في الطهارة فلا يتقدر بالربع كالخف يقول في بيع الغائب عقد معاوضة فينعقد مع جهل العوض كالنكاح فيقول خصمه فلا يعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح فيلزم من الوفاءبموجب ذلك امتناع التصحيح فإنه لازم لذلك في مذهب الخصم ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم لا محالة
والقلب نوع من المعارضة لكنه يزيد على مطلق المعارضة بكونه يعارضه بعين المذكور فيستغنى عن مؤن كثيرة يحتاج إليها في المعارضة من الأصل وبيان الجامع
ويجبي عن هذا السؤال بما يجيب به عن المعارضة إلا أنه يسقط منه منع وجود الوصف
الوجه التاسع في السؤال المعارضة وهو قسمان
معارضة في الأصل ومعارضة في الفرع وأحسنها المعارضة في الأصل لأنه لا يحتاج إلى ذكر غير صلاحية ما يذكره ولا يحتاج إلى أصل وفي المعارضة في الفرع يحتاج إلى ذكر صلاحية ما يذكره للتعليل وأصل يشهد له ثم ينقلب مستدلا والمستدل معترضا عليه
ومعنى المعارضة في الأصل أن يبين في الأصل الذي قاس عليه المستدل معنى يقتضي الحكم فقد قال قوم إنه لا يحتاج المستدل إلى حذفه لأنه لو انفرد ما ذكره صح التعليل به وإنما صح لصلاحيته لا لعدم غيره إذ العدم ليس من جملة العلة وصلاحيته لا تختلف ولأن معنى العلة أنه إذا وجدت (1/345)
ثبت الحكم عقبها فعند ذلك لا تتحقق المعارضة بين الوصفين إذا أمكن بأن قال إذا وجد كل واحد منهما ثبت الحكم فإن بين المعترض أن الوصف الذي ذكره يناسب إثبات الحكم عند وجود ما ذكره المستدل فيكون من قبيل المانع في الفرع
والصحيح أن المستدل يلزمه حذف ما ذكره المعترض إذ المناسب العرى عن شهادة الأصل غير المعمول به فإذا استند إلى أصل ثبت الحكم على وفقه فالناظر المجتهد ليس له العمل به مالم يبحث بحيث يستفيد ظنا غالبا انه ليس ثم مناسب آخر
وأما المناظر فيكفيه مجرد تقرير المناسبة وإثبات الحكم على وفقه دفعا لشغب الخصم إلى أن يبين المعترض في الأصل مناسبا آخر فعند ذلك يتعارض احتمالات ثلاثة
أحدها أن يثبت الحكم رعاية لما ذكره المستدل واحتمال ثبوت رعايته لهما جميعا ولعل هذا الاحتمال أظهر فإنه لو قدر ثبوت الحكم لأحدهما بعينه كان إعراضا عن اعتبار الآخر وهو خلاف دأب الشارع فإنه لا يزال يسعى في اعتبار المصالح ويمتنع التعليل بكل واحد من المناسبين استقلالا
فإن معنى تعليل الحكم بالمناسب ثبوته لمصلحته لا غير أي هي كافية فعند ذلك يمتنع مثل هذا القول بالنسبة إلى الآخر لما بينهما من التضاد فإنا إذا قلنا لهذا لا غير فقد نفينا ما عداه فإذا قلنا ثبت لهذا الثاني لا غير كان هذا القول على نقيض الأول ولا يمكن تعليل الحكم بواحد بعينه بدون ضميمة قولنا لا غير فإن هذا موجود بالنسبة إلى كل واحد من أجزاء العلة والعلة المجموع لا كل جزء بمفرده وإن فسرت العلة بأنها أمارة فمتى عرف ثبوت الحكم بشيء استحال معرفة ثبوته بغيره إذ المعلوم لا يعلم ثانيا
وبيان أن الاحتمال الثالث أظهر أنه لو رأينا إنسانا أعطى فقيرا ذا قرابة (1/346)
له غلب على الظن أنه أعطاه لهما جميعا ثم لا حاجة للمعترض إلى ترجيح احتمال بل يكفيه تعارض الاحتمالات فيحتاج المستدل إلى دليل ترجيح ما يذكره فإنه لا أقل من الدليل المظنون في إثبات الغرض
ثم غرض المعترض يحصل بأحد الاحتمالين
احتمال ثبوت الحكم بمجرد ما ذكره واحتمال ثبوته بالمناسبين جميعا وغرض المستدل لا يحصل إلا من احتمال ثبوت الحكم بمجرد ما ذكره ووجود أحد الاحتمالين لا بعينه أقرب من احتمال واحد متعين في نفسه إذا تساوت الاحتمالات
وللمستدل في الجواب طرق أربعة
أحدها أن يبين أن مثل ذلك الحكم ثابت بدون ما ذكره المعترض فيدل على استقلال ما ذكره المستدل بالحكم
فإن بين المعترض في الأصل الآخر مناسبا آخر لزم المستدل أيضا حذفه ولا يكفيه أن يقول كل واحد من المناسبين ملغي بالأصل الآخر لجواز أن يكون الحكم في كل أصل معللا بعلة مختصة به فإن العكس غير لازم في العلل الشرعية
الطريق الثاني أن يبين إلغاء ما ذكره المعترض في جنس الحكم المختلف فيه كظهور إلغاء صفة الذكورية في جنس أحكام العتق ولذلك ألحقنا الأمة بالعبد في السراية
الطريق الثالث أن يبين أن العلة ثابتة بنص أو تنبيه من الشارع على ما ذكرناه فيما تقدم
الطريق الرابع يختص ما يدعي المعترض فيه أن ما ذكره علة مستقلة (1/347)
بدون ضميمة إلى ما ذكره المستدل وهو أن يبين رجحان ما ذكره على ما أبرزه المعترض فإذا ظهر ذلك إما بدليل وإما بتسليم المعترض لزم أن يكون هو العلة إذا توافقنا على كون الحكم معللا بأحدهما كالكيل مع الطعم لامتناع اعتبار المرجوح وإلغاء الراجح فإن تحصيل المصلحة على وجه يفوت مصلحة أعظم منها ليس من شأن العقلاء فلا يمكن نسبته إلى الشارع إذا ثبت هذا فإذا كان ما ذكره المستدل مناسبا فلا يكفي المعترض أن يذكر وصفا شبيها لأن المناسب أقوى على ما لا يخفي
القسم الثاني في المعارضة المعارضة في الفروع وهو أن يذكر في الفرع ما يمتنع معه ثبوت الحكم وهو ضربان
أحدهما أن يعارضه بدليل آكد منه من نص أو إجماع وقد ذكرناه في فساد الاعتبار
الثاني أن يعارضه بإبداء وصف في الفرع وقد يذكر في معرض كونه مانعا للحكم في الفرع وقد يذكر في معرض كونه مانعا للسببية فإن ذكر مانعا للحكم احتاج في إثبات كونه مانعا إلى مثل طريق المستدل في إثبات حكمه من العلة والأصل ويفتقر إلى أن تكون علة المعترض في القوة كعلة المستدل إن كان طريق المستدل النص أو التنبيه فلا يكفي المعترض المعارضة بوصف مخيل وإن كان طريقه المناسبة فلا يكفي المعترض المعارضة بوصف شبهي وإن ادعى كونه مانعا للسببية مع عدم احتمال الحكمة فقد قيل لا يحتاج إلى أصل فإن الحكم ثبت للحكمة وقد علمنا انتفاءها وإن بقي احتمال الحكمة ولو على بعد لم يضر المستدل لما عرف من دأب الشارع الاكتفاء بعد المظنة باحتمال الحكمة وإن بعد فيحتاج إلى أصل يشهد له بالاعتبار ليبين به أن الشارع لا يكتفي بما وجه من احتمال الحكمة معه
وفي المعارضة في الفرع ينقلب المستدل معترضا فيعترض دليل المعترض (1/348)
بما أمكنه من الأسئلة التي ذكرناها وقد قال قوم لا تقبل المعارضة لأن حق المعترض هدم ما بناه المستدل وذكر المعارضة بناء فلا يليق بحاله
والصحيح أنها تقبل إذ فيه هدم ما بناه فإن دليل المستدل إذا صار معارضا لم تبق دلالته إذ المعارض له حكم العدم في إثبات الحكم
الوجه العاشر في السؤال عدم التأثير ومعناه أن يبدي المعترض في الدليل ما يستغنى عنه في إثبات الحكم في الأصل إما لأن الحكم يثبت بدونه وإما لكونه وصفا طرديا مثال الأول ما لو قال في بيع الغائب مبيع لم يره فلا يصح بيعه كالطير في الهواء فذكر عدم الرؤية ضائع فإن الحكم يثبت في الأصل بدونه فإنه لا يصح بيع الطير في الهواء ولو كان مرئيا فيعلم أن العلة فيه غير ما يذكره المستدل
ومثال الثاني قولهم في الصبح صلاة لا يجوز قصرها فلا يجوز تقديم أذانها على الوقت كالمغرب فإن هذا وصف طردي على ما لا يخفى وإن ذكر الوصف لدفع النقض لكونه يشير إلى خلو الفرع عن المانع أو إلى اشتماله على شرط للحكم فلا يكون من هذا القسم وهكذا لو كان الوصف المذكور يشير إلى اختصاص الدليل ببعض صور الخلاف فيكون مفيد الغرض في بعض الصور فيكون مقبولا إذا لم تكن الفتيا عامة
وإن عم الفتيا فليس له أن يخص الدليل ببعض الصور لأنه لا يفي بالدليل على ما أفتى به والله أعلم
الوجه الحادي عشر في السؤال التركيب وهو القياس المركب من اختلاف مذهب الخصم كما لو قيل في المرأة البالغة إنها أنثى فلا تزوج نفسها كابنة خمس عشرة فالخصم يعتقد أنها لا تزوج نفسها لصغرها فقد قيل هذا قياس فاسد لأنه فرار عن فقه المسألة برد الكلام إلى مقدار سن البلوغ (1/349)
وهي مسألة أخرى وليس ذلك بأولى من عكسه وقيل يصح التمسك به لأن حاصل السؤال راجع إلى المنازعة في الأصل وإبطال ما يدعي المعترض تعليل الحكم به ليسلم ما يدعيه من الجامع في الأصل ولا يلزم من ذلك فساد القياس كما في سائر المواضع
الوجه الثاني عشر في السؤال القول بالموجب وحقيقته تسليم ما جعله المستدل موجبا لدليله مع بقاء الخلاف وإذا توجه انقطع المستدل وهو آخر الأسئلة إذ بعد تسليم الحكم والعلة لا تجوز له المنازعة في واحد منها بل إما أن يصح فينقطع المستدل وإما أن يفسد فينقطع المعترض ومورد ذلك موضعان
أحدهما أن ينصب الدليل فيما يعتقده مأخذا للخصم كما لو قال في القتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه
فيقول المعترض أنا قائل بموجب الدليل والتفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القتل ولا يلزم القصاص فإنه لا يلزم من عدم المانع ثبوت الحكم وهذا النوع يتفق كثيرا
وطريق المستدل في دفعه أن يبين لزوم محل النزاع منه إن قدر عليه أو يبين أن الخلاف مقصور فيما يعرض له في الدليل كما في مسألة المدين لو ذكر في الدليل حكما أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة أو في مسألة وطء الثيب أن الوطء لا يمنع الرد ونحو ذلك مما اشتهرت المسألة به فإن اشتهار المسألة به يدل على وقوع الخلاف فيه أو يقول عن هذا الحكم سئلت وبه أفتيت وعن دليله سئلت فالقول بموجبه تسليم لما وقع التنازع بيننا فيه
واختلف في تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب فقيل يلزمه (1/350)
ذلك كيلا يأتي به نكرا وعنادا ومنهم من قال لا يلزمه ذلك فإنه إذا سلم ما ذكره المستدل وعرف أنه لا يلزم منه الحكم فقد وفي بما هو حقيقة القول بالموجب وبقي الخلاف بحاله فيتبين أن ما ذكروه ليس بدليل
المورد الثاني أن يتعرض المستدل لحكم يمكن المعترض تسليمه مع بقاء الخلاف مثاله لو قال في وجوب زكاة الخيل حيوان تجوز المسابقة عليه فتجب الزكاة فيه كالإبل فيقول المعترض أنا قائل بموجبه وعندي أنه تجب فيه زكاة التجارة والنزاع في زكاة العين وطريق المستدل في الدفع أن يقول النزاع في زكاة العين وقد عرفنا الزكاة بالألف واللام في سياق الكلام فينصرف إلى وضع الخلاف ومحل الفتيا
ولو أورد القول بالموجب على وجه يغير الكلام عن ظاهره فلا يتوجه فيكون منقطعا مثاله ما لو قال المستدل في إزالة النجاسة مائع لا يرفع الحديث فلا يزيل النجس كالمرق فيقول المعترض أقول به فإن الخل النجس عندي لا يزيل النجاسة ولا الحدث فلا يصح ذلك فإنه يعلم من حال المستدل أنه يعني بقوله مائع الخل الطاهر إذ هو محل النزاع واللفظ يتناوله والله سبحانه أعلم
وقد يعترض على القياس بغير ما ذكرناه كقول نفاة القياس هذا استعمال للقياس في الدين ولا نسلم أنه حجة وقول الحنفية هذا استعمال للقياس في الحدود والكفارات أو في الأسباب ونحو ذلك مما بينا مسائله فيما مضى وذكرنا حجة خصومنا والجواب عنها فلا حاجة إلى إعادته وقد اختلف في وجوب ترتيب الاسئلة ولا خلاف في أنه أحسن وأولى والله سبحانه وتعالى أعلم (1/351)
الاجتهاد
فصل
اعلم أن الاجتهاد في اللغة بذل الجهد واستفراغ الوسع في فعل ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد يقال اجتهد في حمل الرحى ولا يقال اجتهد في حمل خردلة
وهو في عرف الفقهاء مخصوص ببذل الجهد في العلم بأحكام الشرع
أنواع الاجتهاد
والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب إلى أن يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب
وشرط المجتهد إحاطته بمدارك الأحكام المثمرة لها وهي الأصول التي فصلناها
الكتاب والسنة والإجماع واستصحاب الحال والقياس التابع لها وما يعتبر في الحكم في الجملة وتقديم ما يجب تقديمه منها فأما العدالة فليست شرطا في كونه مجتهدا بل متى كان عالما بما ذكرناه فله أن يأخذ باجتهاد نفسه لكنها شرط لجواز الاعتماد على قوله فمن ليس عدلا لا تقبل فتياه
والواحب عليه في معرفة الكتاب معرفة ما يتعلق منه بالأحكام وهي قدر خمسمائة آية ولا يشترط حفظها بل علمه بمواقعها حتى يطلب الآية المحتاج إليها وقت حاجته
والمشترط في معرفة السنة معرفة أحاديث الأحكام وهي وإن كانت (1/352)
كثيرة فهي محصورة ولا بد من معرفته للناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة ويكفيه أن يعرف أن المستدل به في هذه الحادثة غير منسوخ
ويحتاج أن يعرف الحديث الذي يعتمد عليه فيها أنه صحيح غير ضعيف إما بمعرفة رواته وعدالتهم وإما بأخذه من الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها
وأما الإجماع فيحتاج إلى معرفة المواقع ويكفيه أن يعرف أن المسألة التي يفتي فيها هل هي من المجمع عليه أم من المختلف فيه أم هي حادثة ويعلم استصحاب الحال على ما ذكرناه في بابه
ويحتاج إلى معرفة نصب الأدلة وشروطها ومعرفة شيء من النحو واللغة يتيسر به فهم خطاب العرب وهو ما يميز به بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه ولا يلزمه من ذلك إلا القدر الذي يتعلق به الكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك دقائق المقاصد فيه
فأما تفاريع الفقه فلا حاجة إليها لأنها مما ولده المجتهدون بعد حيازة منصب الاجتهاد فكيف تكون شرطا لما تقدم وجوده عليها
وليس من شرط المجتهد في مسألة بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل بل متى علم أدلة المسألة الواحدة وطرق النظر فيها فهو مجتهد فيها وإن جهل حكم غيرها فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيها عارفا بالفرائض أصولها ومعانيها وإن جهل الأخبار والواردة في تحريم المسكرات والنكاح بلا ولي إذ لا استمداد لنظر هذه المسألة منها فلا تضر الغفلة عنها (1/353)
ولا يضره أيضا قصوره عن علم النحو الذي يعرف به قوله امسحوا برؤوسكم وقس عليه كل مسألة ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم والأئمة ممن بعدهم قد كانوا يتوقفون في مسائل
وسئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري ولم يكن توقفه في تلك المسائل مخرجا له عن درجة الاجتهاد والله أعلم
التعبد بالقياس والاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه و سلم
مسألة
ويجوز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه و سلم للغائب فأما الحاضر فيجوز له ذلك بإذن النبي صلى الله عليه و سلم
وأكثر الشافعيه يجوزون ذلك بغير اشتراط
وأنكر قوم التعبد بالقياس في زمن النبي صلى الله عليه و سلم لأنه يمكن الحكم بالوحي الصريح فكيف يردهم إلى الظن وقال آخرون يجوز للغائب ولا يجوز للحاضر
ولنا قصة معاذ حين قال أجتهد رأيي فصوبه وقال لعمرو بن العاص (1/354)
احكم في بعض القضايا فقال اجتهد وأنت حاضر فقال نعم إن اصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر
وقال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة اجتهدا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة
وفوض الحكم في بني قريظة إلى سعد بن معاذ فحكم (1/355)
وصوبه النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته ولا يفضي إلى محال ولا مفسدة ولا يبعد أن يعلم الله تعالى لطفا فيه يقتضي أن يناط به صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه أنه لو نص لهم على قاطع لعصوا كما ردهم في قاعدة الربا إلى الاستنباط من الأعيان الستة مع إمكان التنصيص على كل مكيل وموزون أو مطعوم وكان الصحابة يروي بعضهم عن بعض مع إمكان مراجعة النبي صلى الله عليه و سلم كيف ورسول الله صلى الله عليه و سلم قد تعبد بالقضاء بالشهود والحكم بالظاهر حتى قال إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي على نحو مما أسمع وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة وإمكان النص لا يجعل النص موجودا والله سبحانه وتعالى أعلم
تعبد النبي صلى الله عليه و سلم بالاجتهاد
فصل
ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه وأنكر ذلك قوم لأنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح ولأن قوله نص قاطع والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان
ولنا أنه ليس بمحال في ذاته ولا يفضي إلى محال ولا مفسدة ولأن الاجتهاد طريق لأمته وقد ذكرنا أنه يشاركهم فيما ثبت لهم من الأحكام
وقولهم هو قادر على الاستكشاف قلنا فإذا استكشف فقيل له حكمنا عليك أن تجتهد فهل له أن ينازع الله تعالى فيه (1/356)
وقولهم إن قوله نص قلنا إذا قيل له ظنك علامة الحكم فهو يستيقن الظن والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ
ومنع هذا القدرية وقالوا إن وافق الصلاح في البعض فيمتنع أن يوافق الجميع
وهو باطل لأنه لا يبعد أن يلقى الله تعالى في اجتهاد رسوله فيه صلاح عباده
وأما وقوع ذلك فاختلف أصحابنا فيه واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضا وأنكره أكثر المتكلمين لقول الله تعالى وما ينطق عن الهوى ولأنه لو كان مأمورا به لأجاب عن كل واقعة ولما انتظر الوحي ولنقل ذلك واستفاض ولأنه كان يختلف اجتهاده فيفهم بسبب تغير الرأي
ولنا قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وهو عام ولأنه عوتب في أسارى بدر ولو حكم بالنص لما عوتب ولما قال في مكة لا يختلي خلاها قال العباس إلا الإذخر فقال إلا الإذخر ولما سئل عن الحج (1/357)
ألعامنا هذا هو أم للأبد فقال للأبد ولو قلت لعامنا لوجب ولما نزل بدر للحرب قال له الحباب إن كان بوحي فسمعا وطاعة وإن كان باجتهاد فليس هذا هو الرأي قال بل باجتهاد ورحل ولما أراد صلح الأحزاب على شطر تمر نخل المدينة وكتب بعض الكتاب بذلك جاء سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا له مثل مقالة الحباب قال بل هو رأي رأيته لكم فقالا ليس ذلك برأي فرجع إلى قولهما ونقض رأيه (1/358)
ولأن داود وسليمان عليهما السلام حكما بالاجتهاد بدليل قوله تعالى ففهمناها سليمان ولو حكما بالنص لم يخص سليمان بالتفهيم
ولو لم يكن الحكم بالاجتهاد جائزا لما مدحهما الله تعالى بقوله وكلا آتينا حكما وعلما وأما انتظار الوحي فلعله حيث لم ينقدح له اجتهاد أو حكم لا يدخله الاجتهاد وأما الاستفاضة فلعله لم يطلع عليه الناس
وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليه فقد اتهم بسبب النسخ ولم يبطله وعورض بأنه لو لم يتعبد بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين
الحق واحد في الاجتهاد
فصل
الحق في قول واحد من المجتهدين ومن عداه مخطىء سواء كان في فروع الدين أو أصوله لكنه إن كان في فروع الدين مما ليس فيه دليل قاطع (1/359)
من نص أو إجماع فهو معذور غير آثم وله أجر على اجتهاده وبه قال بعض الحنفية والشافعية
وقال بعض المتكلمين كل مجتهد في الظنيات مصيب وليس على الحق دليل مطلوب
واختلف فيه عن ابي حنيفة والشافعي
وزعم بعض من يرى تصويب كل مجتهد أن دليل هذه المسألة قطعي وفرض الكلام في طرفين
أحدهما مسألة فيها نص فينظر فإن كان مقدورا عليه فقصر المجتهد في طلبه فهو مخطىء آثم لتقصيره وإن لم يكن مقدروا عليه لبعد المسافة وتأخير المبلغ فليس بحكم في حقه بدليل أن الله تعالى لما أمر جبريل أن يخبر محمدا صلى الله عليه و سلم بتحويل القبلة إلى الكعبة فلو صلى قبل إخبار جبريل إياه لم يكن مخطئا ولما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم وأهل قباء (1/360)
يصلون إلى بيت المقدس ولم يبلغهم لم يكونوا مخطئين ولما بلغ أهل قباء فاستمر أهل مكة على الصلاة إلى أن بلغهم لم يكونوا مخطئين وإذا ثبت هذا فيما فيه نص ففيما لا نص فيه أولى ولا يخلو إما أن تكون الإصابة ممكنة أو لا ولا تكليف بالمحال ومن أمر بممكن فتركه أثم وعصى إذ يستحيل أن يكون مأمورا ولم يعص ولم يأثم بالمخالفة لمناقضه ذلك للإيجاب وزعم الغزالي أن هذا التقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف
ثم قال ( ثانيهما ) الظنيات لا دليل فيها فإن الأمارات الظنية ليست أدلة لأعيانها بل تختلف بالإضافات من دليل يفيد الظن لزيد ولا يفيده عمرا مع إحاطته به بل ربما يفيد الظن لشخص واحد في حالة دون حالة بل قد يقوم في حق شخص واحد في حالة واحدة دليلان متعارضان ولا يتصور في القطعية تعارض ولذلك ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى التسوية في العطاء وعمر إلى التفضيل وكل واحد منهما كشف لصاحبه دليله وأطلعه عليه فغلب على ظن كل واحد منهما ما صار إليه وكان مغلبا على ظنه دون صاحبه لاختلاف احوالهما فمن خلق خلقتهما يميل ميلهما أو يصير إلى ما صارا إليه في الاختلاف
فإن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسة يوجب اختلاف الظنون فمن مارس الكلام ناسب طبعه أنواع من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه
ومن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى ما فيه الشراسة والانتقام ومن رق طبعه مال إلى الرفق والمساهلة بخلاف أدلة العقول فإنها لا تختلف (1/361)
وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الإثم غير محطوط في الفروع كالأصول بل فيها حق يتعين عليه دليل قاطع لأن العقل قاطع بالنفي الأصلي إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع وإنما استقام لهم هذا لإنكارهم القياس وخبر الواحد وربما أنكروا الحكم بالعموم والظاهر
وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحق فهم معذور غير آثم
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعا
وهذه كلها أقاويل باطلة
أما الذي ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا وكفر بالله تعالى ورد عليه وعلى رسوله صلى الله عليه و سلم فإنا نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه وذمهم على إصرارهم وقاتل جميعهم وقتل البالغ منهم ونعلم أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين وإن هم إلا يظنون ويحسبون أنهم على شيء ويحسبون أنهم مهت (1/362)
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه
وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه و سلم مما لا ينحصر في الكتاب والسنة
وقول العنبري كل مجتهد مصيب إن أراد أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه فهو كقول الجاحظ وإن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده فمحال إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه ووجود الشيء ونفيه وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد بل الاعتقاد يتبعها فهذا شر من مذهب الجاحظ بل شر من مذهب السوفسطائية فإنهم نفوا حقائق الأشياء وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات
وقد قيل قيل إنما أراد اختلاف المسلمين وهو باطل كيف ما كان إذ كيف يكون القرآن قديما مخلوقا والرؤية محالا ممكنا وهذا محال
والدليل على أن الحق في جهة واحدة الكتاب والسنة والإجماع والمعنى أما الكتاب فقول الله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فلو استويا في إصابة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى وهو يدل على فساد مذهب من قال الإثم غير محطوط عن المخطىء فإن الله تعالى مدح كلا منهما وأثنى عليه لقوله وكلا آتينا حكما (1/363)
وعلما فإن قيل فكيف يجوز أن ينسب الخطأ إلى داود وهو نبي ومن أين لكم أنه حكم باجتهاده وقد علمتم الاختلاف في جواز ذلك ثم لو كان مخطئا كيف يمدح المخطىء وهو يستحق الذم
ثم يحتمل أنهما كانا مصيبين فنزل الوحي بموافقة أحدهما
قلنا يجوز وقوع الخطأ منهم لكن لا يقرون عليه وقد ذكرنا ذلك فيما مضى
وإذا تصور وقوع الصغائر منهم فكيف يمتنع وجود خطأ لا مأثم فيه بل صاحبه مثاب مأجور ولولا ذلك ما عوتب نبينا عليه السلام على الحكم في أسارى بدر ولا في الإذن في التخلف عن غزوة تبوك فقال عفا الله عنك لم أذنت لهم وقال النبي صلى الله عليه و سلم إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فبين أنه قد يقضي للرجل بشيء من حق أخيه
قولهم من أين لكم أنه حكم بالاجتهاد
قلنا الآية دليل عليه فإنه لو حكم بنص لما اختص سليمان بالفهم دونه
وقولهم إن النص نزل بموافقة سليمان
قلنا لو كان ما حكم به داود عليه السلام صوابا وهو الحق فتغير الحكم (1/364)
بنزول النص لا يمنع أن يكون فهمهما وقت الحكم لا يوجب اختصاص سليمان بالإصابة كما لو تغير بالنسخ
وأما السنة فما تقدم من الخبر فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر بأنه يقضي للإنسان بحق أخيه ولو كان يأثم بذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه و سلم ولو كان ما قضى به هو الحكم عند الله تعالى لما قال قضيت له بشيء من حق أخيه ولا قال إنما أقطع له قطعة من النار ولأن الحكم عند الله تعالى لا يختلف باختلاف لحن المتخاصمين أو تساويهما
وروى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا بعث جيشا أوصاهم فقال إذا حاصرتم حصنا أو مدينة فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله فلا تنزلوهم على حكم الله فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم وروى ابن عمر وعمرو بن العاص وأبو هريرة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر هذا لفظ رواية عمرو أخرجه مسلم وهو حديث تلقته الأمة بالقبول وهو صريح في أنه يحكم باجتهاده فيخطىء ويؤجر دون أجر المصيب
فإن قيل المراد به أنه أخطأ مطلوبه دون ما كلفه كخطأ الحاكم رد المال إلى مستحقيه مع إصابته حكم الله عليه وهو اتباع موجب ظنه وخطأ المجتهد جهة القبلة مع أن فرضه جهة يظن أن مطلوبه فيها وهذا يتحقق في كل مسألة فيه نص أو اجتهاد يتعلق بتحقيق المناط كأروش الجنايات وقدر كفاية القريب (1/365)
فإن فيها حقيقة معينة عند الله وإن لم يكلف المجتهد إصابتها
قلنا فإذا سلم هذا ارتفع النزاع فإننا لا نقول أن المجتهد يكلف إصابة الحكم وإنما لكل مسألة حكم معين يعلمه الله كلف المجتهد طلبه فإن اجتهد فأصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر على اجتهاده وهو مخطىء وإثم الخطأ محطوط عنه كما في مسألة القبلة فإن المصيب بجهة الكعبة عند اختلاف المجتهدين واحد ومن عداه مخطىء يقينا يمكن أن يبين له خطأه فيلزمه إعادة الصلاة عند قوم ولا يلزمه عند آخرين لا لكونه مصيبا لها بل سقط عنه التوجه إليها لعجزه عنها وهكذا كون حق زيد عند عمرو إذا اختلف فيه مجتهدان فالمصيب أحدهما والآخر مخطىء إذ لا يمكن كون ذمة عمرو مشغولة بريئة وتخصيص ذلك بما فيه نص خلاف العموم وهو باطل أيضا فإن القياس معنى النص ونحن نتعرف بالبحث المعنى الذي قصده النبي صلى الله عليه و سلم فهو كالنص
وأما الإجماع فإن الصحابة رضي الله عنهم اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى إطلاق الخطأ على المجتهدين من ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه في الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان وعن ابن مسعود في قصة بروع مثل ذلك وقال عمر رضي الله عنه لكاتبه اكتب هذا ما رآه عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر وقال في قضية قضاها والله ما يدري عمر (1/366)
أصاب أم أخطأ ذكره الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه وقال لعمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها وقد استشار عثمان وعبدالرحمن فقالا لا شيء عليك إنما أنت مؤدب فقال علي إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطآ وإن يكونا ما اجتهدا فقد غشاك عليك الدية فرجع عمر إلى رأيه وقال علي في إحراق زنادقة الرافضة ... لقد عثرت عثرة لا تنجبر ... سوف أليس بعدها أو أستمر ... وأجمع الرأي الشتيت المنتشر ...
وقال ابن عباس ألايتقي الله زيد يجعل ابن الابن إبنا ولا يجعل أب الأب أبا (1/367)
وقال من شاء باهلته في ( العول ) وقالت عائشة أبلغي زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يتوب وهذا اتفاق منهم على ان المجتهد يخطىء فإن قيل لعلهم نسبوا الخطأ إليه لتقصيره في النظر أو لكونه من غير أهل الاجتهادأو يكون القائل لذلك يذهب مذهب من يرى التخطئة
قلنا أما الأول فجهل قبيح وخطأ صريح كيف يستحل مسلم أن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ومن سمينا معهم من البحر ابن عباس والأمين عبدالرحمن بن عوف وفقيه الصحابة وأفرضهم وقارئهم زيد بن ثابت ليسوا من أهل الاجتهاد وأذا لم يكونوا من أهل الاجتهاد فمن الذي يبلغ درجته ولا يكاد يتجاسر على هذا القول من له في الإسلام نصيب ونسبته لهم إلى أنهم قصروا في الاجتهاد إساءة ظن بهم مع تصريحهم بخلافه فإن عليا رضي الله عنه قال إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطآ
وتوقف ابن مسعود في قصة بروع شهرا وهذا في القبح قريب من الذي قبله لكونه نسب هؤلاءالأئمة إلى الحكم بالجهل والهوى وارتكاب (1/368)
ما لا يحل ليصحح به قوله الفاسد فلا ينبغي أن يلتفت إلى هذا
وقولهم ذهبوا مذهب من يرى التخطئة فكذلك هو لكن هو إجماع منهم فلا تحل مخالفته
وأما المعنى فوجوه
أحدها أن مذهب من يقول بالتصويب محال في نفسه لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين وهو أن يكون يسير النبيذ حراما حلالا والنكاح بلا ولي صحيحا فاسدا ودم المسلم إذا قتل الذمي مهدرا معصوما وذمة المحيل إذا امتنع المحتال من قبول الحوالة على المليء بريئه مشغولة إذ ليس في المسألة حكم معين وقول كل واحد من المجتهدين حق وصواب مع تنافيهما
قال بعض أهل العلم هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين ويختار من المذاهب أطيبها
قالوا لا يستحيل كون الشيء حلالا وحراما في حق شخصين والحكم ليس وصفا للعين فلا يتناقض أن يحل لزيد ما حرم على عمرو كالمنكوحة حلال لزوجها حرام على غيره وهذا ظاهر بل لا يمتنع في حق شخص واحد مع اختلاف الأحوال كالصلاة واجبة في حق المحدث إذا ظن أنه متطهر حرام إذا علم بحدثه وركوب البحر مباح لمن غلب على ظنه السلامة حرام على الجبان الذي يغلب على ظنه العطب
والجواب أنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين في حق شخص واحد فإن المجتهد لا يقصر الحكم على نفسه بل يحكم بأن يسير النبيذ حرام على كل واحد والآخر يقضي بإباحته في حق الكل فكيف يكون حراما على الكل مباحا لهم أم كيف تكون المنكوحة بلا ولي مباحة لزوجها حراما عليه ثم لو لم يكن (1/369)
محالا في نفسه لكنه يؤدي إلى المحال في بعض الصور فإنه إذا تعارض عند المجتهد دليلان فيتخير بين الشيء ونقيضه ولو نكح مجتهد امرأة بلا ولي ثم نكحها آخر يرى بطلان الأول فكيف تكون مباحة للزوجين
المسلك الثاني لو كان كل مجتهد مصيبا جاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة ونحوها أن يقتدي كل واحد منهما بصاحبه لأن كل واحد منهما مصيب وصلاته صحيحة فلم لا يقتدي بمن صلاته صحيحة في نفسها ثم يجب أن يطوى بساط المناظرات في الفروع لكون كل واحد منهم مصيبا لا فائدة في نقله عما هو عليه ولا تعريفه ما عليه خصمه
المسلك الثالث أن المجتهد يكلف الاجتهاد بلا خلاف والاجتهاد طلب يستدعي مطلوبا لا محالة فإن لم يكن للحادثة حكم فما الذي يطلب فمن يعلم يقينا أن زيدا ليس بجاهل ولا عالم هل يتصور أن يطلب الظن بعلمه ومن يعتقد أن النبيذ بحلال ولا حرام كيف يطلب أحدهما
فإن قالوا إن المجتهد لا يطلب حكم الله تعالى بل إنما يطلب غلبة الظن فيكون حكمه ما غلب على ظنه كمن يريد ركوب البحر فقيل له إن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب وإن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وقبل الظن لا حكم لله تعالى عليك سوى اجتهادك في تتبع ظنك فالحكم يتجدد بالظن ويوجد بعده ولو شهد عند قاض شاهدان فحكم الله تعالى عليه يترتب على ظنه إن غلب عليه الصدق وجب قبوله وإن غلب على ظنه الكذب لم يجب قبوله
قلنا قولهم إنما يطلب عليه الظن فالظن أيضا لا يكون إلا لشيء مظنون ومن يقطع بانتفاء الحكم كيف يتصور أن يظن وجوده فإن الظن لا يتصور (1/370)
إلا لموجود والموجود يتبع الظن فيؤدي إلى الدور وراكب البحر لا يطلب الحكم إنما يطلب تعرف الهلاك أو السلامة وهذا أمر يمكن تعرفه
والحاكم إنما يطلب الصدق أو الكذب وهذا غير الحكم الذي يلزمه بخلاف ما نحن فيه فإن المطلوب هو الحكم الذي يعلم أنه لا وجود له فكيف يتصور طلبه له ثم إذا علمنا أنه لا حكم لله تعالى في الحادثة فلم يجب الاجتهاد فإننا علمنا بالعقل قبل ورود الشرع انتفاء الواجبات وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات فيجب أن يطلق في الآشياء من غير اجتهاد والعامي الذي لا اجتهاد له لا يؤاخذ على فعل من الأفعال فإن الحكم إنما يحدث بالاجتهاد وهو لا اجتهاد له فلا حكم عليه إذا ولا خطاب في حقه وهذا فاحش
وقولهم إن النص إذا لم يقدر عليه المجتهد لا يكون حكما في حقه ممنوع بل الحكم بنزول النص إلى الخلق بلغهم أم لم يبلغهم فلو وقف الحكم على سماع الخطاب وبلوغ النص لم يكن على العامي حكم في أكثر المسائل لكونه لم يبلغه النص ولكان المجتهد إذا امتنع من الاجتهاد لا حكم عليه لتلك الحادثة ولا يجب عليه قضاء ما ترك من العبادات والواجبات ولا يكون مخطئا إلا بترك الاجتهاد لا غير أما النص إذا نزل به جبريل فقد قال أبو الخطاب يكون نسخا وإن لم يعلم به المنسوخ عنه وإنما اعتد أهل قباء بما مضى من صلاتهم لأن القبلة يعذر فيها بالعذر
جواب ثان أن هذا فرض في مسألة لا يتوهم أن لها دليلا يطلب وإنما الخطأ فيما نصب الله تعالى عليه دليلا وأوجب على المكلف طلبه ثم يحتاج إلى بيان تصور ذلك وإمكان خلو بعض المسائل من الدليل وهو باطل إذ لا خلاف في وجوب الاجتهاد بالحادثة وتعرف حكمها والشرع قد نصب عليها إما دليلا قاطعا أو ظنيا (1/371)
قولهم إن الأدلة الظنية ليست أدلة لأعيانها بدليل اختلاف الإضافات
قلنا هذا باطل فإنا قد بينا في كل مسألة دليلا وذكرنا وجه دلالته ولو لم يكن فيها أدلة لاستوى المجتهد والعامي ولجاز للعامي الحكم بظنه لمساواته المجتهد في عدم الدليل وهل الفرق بينهما إلا معرفة الأدلة ونظره في صحيحها وسقيمها ونبو بعض الطباع عن قبول الدليل لا يخرجه عن دلالته فإن كثيرا من العقليات يختلف فيه الناس مع اعتقادهم أنها قاطعة ولا ينكر أن منها ما تضعف دلالته ويخفى وجهه ويوجد معارض له فتشتبه على المجتهد وتختلف فيه الآراء ومنها ما يظهر ويتبين خطأ مخالفيه وكلها أدلة ولأن الظن إذا لم يكن دليلا فبم عرفتم أنه ليس بدليل ويلزم من انتفاء ذلك الدليل على أنه ليس بدليل
وقولهم إنه لا يخلو إما أن يكون مكلفا بممكن أو بغير ممكن قلنا لا يكلف إلا ما يمكن ولا نقول إنه يكلف الإصابة في محل التعذر بل يكلف طلب الصواب والحكم بالحق الذي هو حكم الله فإن أصابه فله أجر اجتهاده وأجر إصابته وإن أخطأه فله ثواب اجتهاده والخطأ محطوط عنه والله تعالى أعلم
تعارض الأدلة
فصل
إذا تعارض دليلان عند المجتهد ولم يترجح أحدهما وجب عليه التوقف ولم يكن له الحكم بأحدهما ولا التخيير فيهما وبه قال أكثر الحنفية وأكثر الشافعية
وقال بعضهم وبعض الحنفية يكون المجتهد مخيرا في الأخذ بأيهما (1/372)
شاء لأنه لا يخلو إما أن يعمل بالدليلين أو يسقطهما أو يتحكم بتعيين احدهما أو يتخير أو يتوقف لا سبيل إلى الجمع بينهما عملا وإسقاطا لأنه متناقض ولا إلى التوقف إلى غير غاية فإن فيه تعطيلا وربما لم يقبل الحكم التأخير ولا سبيل إلى التحكم فلم يبق إلا التخيير والتخيير بين الحكمين مما ورد به الشرع في العامي إذا أفتاه مجتهدان وفي خصال الكفارة والتوجه إلى أي جدران الكعبة شاء لمن دخلها والتخيير في زكاة مائتين من الإبل بين الحقاق وبنات اللبون وأمثال ذلك
فإن قلتم التخيير بين التحريم ونقيضه والأيجاب وعكسه يرفع التحريم والإيجاب
قلنا إنما يناقض الإيجاب جواز الترك مطلقا أما جوازه بشرط فلا بدليل الواجب الموسع يجوز تركه بشرط
والركعتان الأخيرتان في الرباعية من المسافر يجوز تركهما بشرط قصد القصر كذا ههنا يجوز ترك الواجب بشرط قصد الدليل المسقط له وإذا سمع قوله وأن تجمعوا بين الأختين حرم عليه الجمع وإنما يجوز له الجمع إذا قصد الدليل الثاني وهو قوله أو ما ملكت أيمانكم كما قال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية
ولنا أن التخيير جمع بين النقيضين واطراح لكلا الدليلين وكلاهما باطل (1/373)
أما بيان اطراح الدليلين فإذا تعارض الموجب والمحرم فيصير إلى التخيير المطلق وهو حكم ثالث غير حكم الدليلين معا فيكون اطراحا لهما وتركا لموجبهما
وأما الجمع بين النقيضين فإن المباح نقيض المحرم فإذا تعارض المبيح والمحرم فخيرناه بين كونه محرما يأثم بفعله وبين كونه مباحا لا إثم على فاعله كان جمعا بينهما وذلك محال ولأن في التخيير بين الموجب والمبيح رفعا للإيجاب فيصير عملا بالدليل المبيح عينا وهو تحكم قد سلموا ببطلانه
قولهم إنما جاز بشرط القصد
قلنا فقبل أن يقصد العمل بأحدهما ما حكمه إن قلتم حكمه الوجوب والإباحة معا والتحريم والحل معا فقد جمعتم بين النقيضين
وإن قلتم حكمه التخيير فقد نفيتم الوجوب قبل القصد واطرحتم دليله وأثبتم حكم الإباحة من غير شرط وإن قلتم لا حكم له قبل القصد وإنما يصير له بالقصد حكم فهذا إثبات حكم بمجرد الشهوة والاختيار من غير دليل فإن الدليلين وجدا فلم يثبت لهما حكم وثبت بمجرد شهوته وقصده بلا دليل وهذا باطل
قولهم إن التوقف لا سبيل إليه
قلنا يلزمكم إذا لم يجد المجتهد دليلا في المسألة والعامي إذا لم يجد مفتيا فماذا يصنع وهل ثم طريق إلا التوقف في المسألة
ثم لا نسلم تصور خلو المسألة عن دليل فإن الله تعالى كلفنا حكمه ولا سبيل إليه إلا بدليل فلو لم يجعل له دليلا كان تكليفا لما لا يطاق فعند ذلك إذا تعارض دليلان وتعذر الترجيح اسقطهما وعدل إلى غيرهما كالحاكم إذا تعارضت عنده بينتان (1/374)
أما العامي فقد قيل يجتهد في أعيان المفتين فيقلد أعلمهما وأدينهما وهو ظاهر قول الخرقي لأنه قال في الأعمى إذا كان مع مجتهدين في القبلة قلد أوثقهما في نفسه
وقيل يخير فيهما والفرق بينهما أن العامي ليس عليه دليل ولا هو متعبد باتباع موجب ظنه بخلاف المجتهد فإنه متعبد بذلك ومع التعارض لا ظن له فيجب عليه التوقف ولهذا لا يحتاج العامي إلى الترجيح بين المفتين على هذا الوجه ولا يلزمه العمل بالراجح بخلاف المجتهد
ولا ينكر التخيير في الشرع لكن التخيير بين النقيضين ليس له في الشرع مجال وهو في نفسه محال والله أعلم
تعدد آراء المجتهد في آن واحد
فصل
وليس للمجتهد أن يقول في المسألة قولين في حال واحدة في قول عامة الفقهاء
وقال ذلك الشافعي في مواضع
منها قال في المسترسل من اللحية قولين أحدهما يجب غسله والآخر لا يجب (1/375)
فقيل عنه لعله تكافأ عنده الدليلان فقال بهما على التخيير أو علم الحق في أحدهما لا بعينه فقال ذلك لينظر فيهما فاخترمه الموت أو نبه أصحابه على طريق الاجتهاد ولا يصح شيء من ذلك
فإن القولين لا يخلو إما أن يكونا صحيحين أو فاسدين أو أحدهما صحيح والآخر فاسد
فإن كانا فاسدين فالقول بهما حرام وإن كانا صحيحين وهما ضدان فكيف يجتمع ضدان وإن كان أحدهما فاسدا لم يخل إما أن يعلم فساد الفاسد أو لا يعلمه فإن علمه فكيف يقول قولا فاسدا أم كيف يلبس على ألأمة بقول يحرم القول به وإن اشتبه عليه الصحيح بالفاسد لم يكن عالما بحكم المسألة ولا قول له فيها أصلا فكيف يكون له قولان
قولهم تكافأ عنده دليلان قد أبطلناه ثم لو صح فحكمه التخيير وهو قول واحد
وقولهم إنه علم الحق في أحدهما لا بعينه قد بينا أن ما كان كذلك لم يكن له في المسألة قول أصلا ثم كان ينبغي أن ينبه على ذلك ويقول في المسألة نظر أو يقول الحق في أحد هذين القولين أما إطلاقه فلا وجه له وهذا هو الجواب عن الآخر
أما ما يحكى عن غيره من الأئمة من الروايتين فإنما يكون ذلك في حالتين لاختلاف الاجتهاد والرجوع عما رأى إلى غيره ثم إن علمنا المتأخر عملنا به وألغينا المتقدم وإن لم نعلم المتقدم فيكونان كالخبرين المتعارضين عن النبي صلى الله عليه و سلم (1/376)
المجتهد لا يقلد غيره
فصل
اتفقوا على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم لم يجز له تقليد غيره وعلى أن العامي له تقليد المجتهد
فأما المتمكن من الاجتهاد في بعض المسائل ولا يقدر على الاجتهاد في البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كالنحو في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال في مسألة خبرية فالأشبه أنه كالعامي فيما لم يحصل علمه فإنه كما يمكنه تحصيله فالعامي يمكنه ذلك مع المشقة التي تلحقه
إنما المجتهد الذي صارت العلوم عنده حاصلة بالقوة القريبة من الفعل من غير حاجة إلى تعب كثير بحيث لو بحث عن المسألة ونظر في الآدلة استقل بها ولم يفتقر إلى تعلم من غيره فهذا المجتهد هل يجوز له تقليد غيره
قال أصحابنا ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت ولا سعته لا فيما يخصه ولا فيما يفتي به لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره لأن تقليد من لا تثبت عصمته ولا تعلم إصابته حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس ولا نص ولا قياس إذ المنصوص عليه العامي مع المجتهد وليس ما اختلفنا فيه (1/377)
مثله فإن العامي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه والمجتهد قادر فلا يكون في معناه فإن قيل هو لا يقدر على غير الظن وظن غيره كظنه
قلنا مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره فكان ظنه أصلا وظن غيره بدلا فلا يجوز إثباته إلا بدليل ولأنه إذا لم يجز له العدول إليه مع وجود المبدل لم يجز مع القدرة عليه كسائر الإبدال والمبدلات
فإن قيل لا نسلم عدم النص في المسألة بل فيها نصوص كقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا لا يسلم هذه المسألة وقوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
قلنا المراد بالأولى أمر العامة بسؤال العلماء إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسئول فالعالم مسئول غير سائل ولا يخرج من العلماء بكون المسألة غير حاضرة في ذهنه إذا كان متمكنا من معرفتها من غير تعلم من غيره
الثاني يحتمل أن يكون معناه اسألوا لتعلموا أي سلوا عن الدليل ليحصل العلم كما يقال كل لتشبع واشرب لتروى والمراد بأولي الأمر الولاة لوجوب طاعتهم إذا لا يجب على المجتهد طاعة المجتهد وإن كان المراد به العلماء فالطاعة على العوام
ثم هو معارض بعمومات أقوى مما ذكروه يمكن التمسك بها في المسألة كقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقوله سبحانه أفلا يتدبرون القرآن وقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وهذا كله أمر بالتدبر (1/378)
والاستنباط والاعتبار والخطاب مع العلماء
ثم لا فرق بين المماثل والأعلم فإن الواجب أن ينظر فإن وافق اجتهاده الأعلم فذاك وإن خالفه فمن أين ينفع كونه أعلم وقد صار مزيفا عنده وظنه عنده أقوى من ظن غيره وله الأخذ بظن نفسه اتفاقا ولم يلزمه الأخذ بقول غيره وإن كان أعلم فينبغي أن لا يجوز تقليده
فإن قيل فلم ينقل عن طلحة والزبير ونظرائهما نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف فالأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم قلنا كانوا لا يفتون اكتفاء بغيرهم وأما علمهم لنفوسهم لم يكن إلا بما عرفوه فإن أشكل عليهم شاوروا غيرهم لتعرف الدليل لا للتقليد والله أعلم
إذا وجد ما علل به المجتهد في مسائل فالحكم فيها كمذهبه في المسألة المعللة
فصل
إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها توجد في مسائل سوى (1/379)
المنصوص عليه فمذهبه في تلك المسائل كمذهبه في المسألة المعللة لأنه يعتقد الحكم تابعا للعلة ما لم يمنع منها مانع فإن لم يبين العلة لم يجعل ذلك الحكم مذهبه في مسألة أخرى وإن أشبهتها شبها يجوز خفاء مثله على بعض المجتهدين فإنا لا ندري لعلها لو خطرت له لم يصرفها إلى ذلك الحكم
ولأن ذلك إثبات مذهب بالقياس ولذلك افترقا في منصوص الشارع فما نص على علته كان النص ينسخ وينسخ به وما لم ينص على علته لم ينسخ ولم ينسخ به
ولو نص المجتهد على مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين لم ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى ليكون له في المسألتين روايتان لأنا إذا لم نجعل مذهبه في المنصوص عليه مذهبا في المسكوت عنه فبالطريق الأولى أن لا نجعله مذهبا له فيما نص على خلافه ولأنه إنما يضاف إلى الإنسان مذهب في المسألة بنصه أو دلالة تجري مجرى نصه ولم يوجد أحدهما
وإن وجد منه نوع دلالة على الأخرى ولكن قد نص فيها على خلاف تلك الدلالة فالدلالة الضعيفة لا تقاوم النص الصريح
فإن نص في مسألة واحدة على حكمين مختلفين ولم يعلم تقدم أحدهما اجتهدنا في أشبههما بأصوله وأقواها في الدلالة فجعلناها له مذهبا وكنا شاكين في الأخرى وإن علمنا الآخرة فهي المذهب لأنه لا يجوز أن يجمع بين قولين مختلفين على ما بينا فيكون نصه الأخير رجوعا عن رأيه الأول فلا يبقى مذهبا له كما لو صرح بالرجوع
وقال بعض أصحابنا يكون الأول مذهبا له لأنه لا ينقض الاجتهاد (1/380)
بالاجتهاد ولا يصح فإنهم إن أرادوا أن لا يترك ما أداه إليه اجتهاده الأول باجتهاده الثاني فهو باطل يقينا فإنا نعلم ان المجتهد في القبلة إذا تغير اجتهاده ترك الجهة التي كان مستقبلا لها وتوجه إلى غيرها والمفتي إذا أفتى في مسألة بحكم ثم تغير اجتهاده لم يجز أن يفتي فيها بذلك الحكم وكذلك الحاكم
وإن أرادوا أن الحكم الذي حكم به على شخص لا ينقضه أو ما أداه من الصلوات لا يعيده فليس هذا نظيرا لمسألتنا إنما الخلاف فيما إذا تغير اجتهاده هل يبقى مذهبا له أم لا وقد بينا أنه لا يبقى
ثم يبطل ما ذكروه بما إذا صرح بالرجوع عن القول الأول فكيف يجعل مذهبا له مع قوله رجعت عنه واعتقدت بطلانه فلا بد من نقض الاجتهاد بالاجتهاد وعند ذلك ينبه على أن المجتهد لو تزوج امرأة خالعها ثلاثا وهو يرى أن الخلع فسخ ثم تغير اجتهاده واعتقد أن الخلع طلاق لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اعتقاده
فإن حكم بصحة ذلك النكاح حاكم ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين لمصلحة الحكم
فإنه لو نقض الحكم بالاجتهاد لنقض النقض وتسلسل واضطربت الأحكام ولم يوثق بها
أما إذا نكح المقلد بفتوى مجتهد ثم تغير اجتهاد المجتهد فهل يجب على المقلد تسريح زوجته الظاهر أنه لا يجب لأن عمله بفتياه جرى مجرى حكم الحاكم فلا ينقض ذلك كما لا ينقض ما حكم به الحاكم (1/381)
فصل في التقليد
التقليد في اللغة وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به ويسمى ذلك الشيء قلادة والجمع قلائد قال الله تعالى ولا الهدى ولا القلائد ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم ولا تقلدوها الأوتار قال الشاعر ... قلدوها تمائما ... خوف واش وحاسد ...
ثم يستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص استعارة كأنه ربط الأمر بعنقه كما قال لقيط الإيادي ... وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا ...
وهو في عرف الفقهاء قبول قول الغير من غير حجة أخذا من هذا المعنى فلا يسمى الأخذ بقول النبي صلى الله عليه و سلم والإجماع تقليدا لأن ذلك هو الحجة في نفسه
قال أبو الخطاب العلوم على ضربين
منها ما لا يسوغ التقليد فيه وهو معرفة الله ووحدانيته وصحة الرسالة (1/382)
ونحو ذلك لأن المقلد في ذلك إما أن يجوز الخطأ على من يقلده أو يحيله فإن أجازه فهو شاك في صحة مذهبه وإن أحاله فبم عرف استحالته ولا دليل عليها
وإن قلده في قوله عن نفسه أن أقواله حق فبم عرف صدقه
وإن قلده غيره في تصديق مقلده فبم عرف صدق الآخر
وإن عول على سكون النفس في صدقه فما الفرق بينه وبين سكون أنفس النصارى واليهود المقلدين
وما الفرق بين قول مقلده إنه صادق وبين قول مخالفه
وأما التقليد في الفروع فهو جائز إجماعا فكانت الحجة فيه الإجماع ولأن المجتهد في الفروع إما مصيب وإما مخطىء مثاب غير مأثوم بخلاف ما ذكرناه فلهذا جاز التقليد فيها بل وجب على العامي ذلك
وذهب بعض القدرية إلى أن العامة يلزمهم النظر في الدليل في الفروع أيضا وهو باطل بإجماع الصحابة فإنهم كانوا يفتون العامة ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد وذلك معلوم بالضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم
ولأن الإجماع منعقد على تكليف العامي الأحكام وتكليفه رتبة الاجتهاد يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل وتعطيل الحرف والصنائع فيؤدي إلى خراب الدنيا
ثم ماذا يصنع العامي إذا نزلت به حادثة إن لم يثبت لها حكم إلى أن يبلغ رتبة الاجتهاد فإلى متى يصير مجتهدا ولعله لا يبلغ ذلك أبدا فتضيع الأحكام فلم يبق إلا سؤال العلماء وقد أمر الله تعالى بسؤال العلماء في قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (1/383)
قال أبو الخطاب ولا يجوز التقليد في أركان الإسلام الخمسة ونحوها مما اشتهر ونقل نقلا متوترا لأن العامة شاركوا العلماء في ذلك فلا وجه للتقليد
من يستفتيه العامي
فصل
ولا يستفتي العامي إلا من غلب على ظنه انه من أهل الاجتهاد بما يراه من انتصابه للفتيا بمشهد من أعيان العلماء وأخذ الناس عنه وما يتلمحه من سمات الدين والستر أو يخبره عدل عنه فأما من عرفه بالجهل فلا يجوز أن يقلده اتفاقا
ومن جهل حاله فقد قيل يجوز تقليده لأن العادة أن من دخل بلدة يسأل عن مسألة لا يبحث عن عدالة من يستفتيه ولا عن علمه وإن قلتم بالسؤال عن علمه فلا يمكن السؤال عن عدالته وهو حجة لنا في الصورة الممنوعة ( وقيل لا يجوز )
قلنا لأن كل من وجب عليه قبول قول غيره وجب معرفة حاله فيجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزاته ولا يصدق كل مجهول يدعي أنه رسول الله ويجب على الحاكم معرفة الشاهد وعلى العالم بالخبر معرفة حال رواته وفي الجملة كيف يقلد من يجوز أن يكون أجهل من السائل (1/384)
أما العادة من العامة فليست دليلا وإن سلمنا ذلك مع الجهل بعدالته فلأن الظاهر من حال العالم العدالة لا سيما إذا اشتهر الفتيا ولا يمكن أن يقال ظاهر الخلق نيل درجة الاجتهاد لغلبة الجهل والناس كلهم عوام إلا الأفراد ولا يمكن أن يقال العلماء فسقة إلا الآحاد فافترقا
تعدد المجتهدين في البلد
فصل
وإذا كان في البلد مجتهدون فللمقلد مساءلة من شاء منهم ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما نقل في زمن الصحابة إذ سأل العامة الفاضل والمفضول من العلماء
وقيل بل يلزمه سؤال الأفضل
وقد أومأ الخرقي إليه فقال إذا اختلف اجتهاد رجلين اتبع الأعمى أوثقهما في نفسه
والأول أولى لما ذكرنا من الإجماع وقول الخرقي يحمل على ما إذا سألهما فاختلفا وأفتاه كل واحد بخلاف قول صاحبه فحينئذ يلزمه الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه
وفيه قول آخر أنه يتخير لما ذكرناه من الإجماع ولأن العامي لا يعلم الأفضل حقيقة بل يغتر بالظواهر وربما يقدم المفضول فإن لمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها شأن العوام ولو جاز ذلك جاز له النظر في المسألة ابتداء
ووجه القول الأول أن أحد القولين خطأ وقد تعارض عنده دليلان فيلزمه الأخذ بأرجحهما كالمجتهد يلزمه الأخذ بأرجح الدليلين المتعارضين ولأن من اعتقد أن الصواب في أحد القولين لا ينبغي له أن يأخذ بالتشهي (1/385)
وينتقي من المذاهب اطيبها ويتوسع ويعرف الأفضل بالأخبار وبإذعان المفضول له وتقديمه له وبأمارات تفيد غلبة الظن دون البحث عن نفس علمه والعامي أهل لذلك والإجماع محمول على ما إذا لم يسألهما إذ لم ينقل إلا ذلك أما إن استوى عنده المفتيان جاز له الأخذ بقول من شاء منهما لأنه ليس قول بعضهم أولى من البعض
وقد رجح قوم القول الأشد لأن الحق ثقيل
ورجح الآخرون الأخف لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث بالحنيفية السمحة وهما قولان متعارضان فيسقطان وقد روى عن أحمد رضي الله عنه ما يدل على جواز تقليد المفضول فإن الحسين بن بشار سأله عن مسألة في الطلاق فقال إن فعل حنث
فقال له يا أبا عبدالله إن أفتاني إنسان يعني لا يحنث فقال تعرف حلقة المدنيين حلقة بالرصافة
فقال إن أفتوني به حل قال نعم وهذا يدل على التخيير بعد الفتيا والله أعلم
باب في ترتيب الأدلة ومعرفة الترجيح
ويجب على المجتهد في كل مسألة أن ينظر أول شيء إلى الإجماع فإن وجده لم يحتج إلى النظر في سواه ولو خالفه كتاب او سنة علم أن ذلك منسوخ أو متأول لكون الإجماع دليلا قاطعا لا يقبل نسخا ولا تأويلا (1/386)
ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة لأن كل واحد منهما دليل قاطع
ولا يتصور التعارض في القواطع إلا أن يكون أحدهما منسوخا
ولا يتصور أن يتعارض علم وظن لأن ما علم كيف يظن خلافه وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم
ثم ينظر في أخبار الآحاد فإن عارض خبر خاص عموم كتاب أو سنة متواترة فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها
ثم ينظر بعد ذلك في قياس النصوص فإن تعارض قياسان أو خبران أو عمومان طلب الترجيح
واعلم أن التعارض هو التناقض ولا يجوز ذلك في خبرين لأن خبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم لا يكون كذبا
فإن وجد ذلك في حكمين فإما أن يكون أحدهما كذبا من الراوي أو يمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالين أو في زمانين
أو يكون أحدهما منسوخا فإن لم يمكن الجمع ولا معرفة النسخ رجحنا فأخذنا الأقوى في أنفسنا
ويحصل الترجيح في الأخبار من ثلاثة أوجه
الأول يتعلق بالسند وذلك أمور خمسة
أحدها كثرة الرواة فإن ما كان رواته أكثر كان أقوى في النفس وأبعد من الغلط أو السهو فإن خبر كل واحد يفيد ظنا على انفراده فإذا انضم أحدهما إلى الآخر كان أقوى وآكد منه لو كان منفردا ولهذا ينتهي إلى التواتر بحيث يصير ضروريا قاطعا لا يشك فيه وبهذا قال الشافعي (1/387)
وقال بعض الحنفية لا يرجح به لأنه خبر يتعلق به الحكم فلم يترجح بالكثرة كالشهادة والفتوى
قلنا الأصل ما ذكرناه بدليل أمور ثلاثة
أحدها ما ذكرناه من غلبة الظن وتقديم الراجح متعين لأنه أقرب إلى الصحة ولذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتباعه
الثاني أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجحون بكثرة العدد ولذلك قوى النبي صلى الله عليه و سلم خبر ذي اليدين بموافقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
وأبو بكر قوى خبر المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن مسلمة
وقوى عمر خبر المغيرة أيضا في دية الجنين بموافقة محمد بن مسلمة
وقوى خبر ابي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد
وقوى ابن عمر خبر أبي هريرة فيمن شهد جنازة بموافقة عائشة إلى غير ذلك مما يكثر فيكون إجماعا منهم
الثالث أن هذا عادة الناس في حراثتهم وتجاراتهم وسلوك الطريق فإنهم عند تعارض الأسباب المخوفة يميلون إلى الأقوى (1/388)
فأما الشهادة فلم يرجحوا فيها وسببها أن باب الشهادة مبني على التعبد ولهذا لو شهد بلفظ الإخبار دون الشهادة لم يقبل
ولا تقبل شهادة مائة امرأة على باقة بقل
الثاني أن يكون أحد الراويين معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط فالثقة بروايته أكثر
الثالث أن يكون أورع وأتقى فيكون أشد تحرزا من الكذب وأبعد من رواية ما يشك فيه
الرابع أن يكون راوي أحدهما صاحب الواقعة فقول ميمونة تزوجني النبي صلى الله عليه و سلم ونحن حلالان يقدم على رواية ابن عباس نكحها وهو محرم
الخامس أن يكون أحدهما باشر القصة كرواية أبي رافع تزوج النبي صلى الله عليه و سلم ميمونة وهي حلال وكنت السفير بينهما مع رواية ابن عباس التي ذكرناها فإن المباشرأحق بالمعرفة من الأجنبي ولذلك قدم الصحابة أخبار ازواج النبي صلى الله عليه و سلم في صحة صوم من أصبح (1/389)
جنبا وفي وجوب الغسل من التقاء الختانين بدون الإنزال على خبر من روى خلاف ذلك
الوجه الثاني الترجيح لأمر يعود إلى المتن بأمور
منها أن يشهد القرآن أو السنة أو الإجماع بوجوب العمل على وفق الخبر أو يعضده قياس أو يعمل به الخلفاء أو يوافقه قول صحابي كموافقة خبر التغليس قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
الثاني أن يختلف في وقف أحد الخبرين على الراوي والآخر يتفق على رفعه
الثالث أن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه خلافه فتتعارض روايتاه ويبقى الآخر سليما عن التعارض فيكون أولى
الرابع أن يكون أحدهما مرسلا والآخر متصلا فالمتصل أولى لأنه متفق على صحته وذلك مختلف فيه
والوجه الثالث الترجيح لأمر خارج فكترجيح أحد الخبرين بكونه ناقلا عن حكم الأصل مثل الموجب للعبادة أولى من النافي لها لأن النافي جاء على مقتضى العقل والآخر متأخر عنه فكان كالناسخ له
وكذلك رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي لأن المثبت معه زيادة علم خفيت على صاحبه (1/390)
قال القاضي وإذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر لأنه أحوط
وقيل لا يرجح بذل ولا يرجح المسقط للحد على الموجب له ولا الموجب للحرية على المقتضي للرق لأن ذلك لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب والإسقاط
وأما الترجيح لأمر خارج فبأمور
منها أن يشهد القرآن والسنة أو الإجماع بوجوب العمل على وفق الخبر أو يعضده قياس أو يعمل به الخلفاء أو يوافقه قول صحابي كموافقة خبر التغليس قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
الثاني أن يختلف في وقف أحد الخبرين على الراوي والآخر متفق على رفعه
الثالث أن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه خلافه فتتعارض روايتاه ويبقى الآخر سليما عن التعارض فيكون أولى
الرابع أن يكون احدهما مرسلا والآخر متصلا فالمتصل أولى لأنه متفق عليه وذلك مختلف فيه
ترجيح المعاني
فصل
قال أصحابنا ترجح العلة بما يرجح به الخبر من موافقتها لدليل آخر م نن كتاب أو سنة أو قول صحابي أو خبر مرسل أو بكون أحداهما ناقلة عن الأصل كما قلنا في الخبر
فأما إن كانت إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة أو كانت إحداهما مسقطة للحد أو موجبة للعتق في الترجيح بذلك اختلاف
فرجح به قوم احتياطا للحظر ونفي الحد ولأن الخطأ في نفي هذه الأحكام أسهل من الخطأ في إثبات (1/391)
ومنع آخرون الترجيح بذلك من حيث أنهما حكمان شرعيان فيستويان ولأن سائر العلل لا ترجح بأحكامها فكذا ههنا
ورجح قوم العلة بخفة حكمها لأن الشريعة خفيفة
وآخرون بالعكس لأن الحق ثقيل وهي ترجيحات ضعيفة
فإن كانت إحدى العلتين حكما والأخرى وصفا حسيا ككونه قوتا أو مسكرا فاختار القاضي ترجيح الحسية ومال أبو الخطاب إلى ترجيح الحكمية لأن الحسية كانت موجوده قبل الحكم فلا يلازمها حكمها والحكم أشد مطابقة للحكمية
ورجح القاضي بأن الحسية كالعلة العقلية والعقلية قطعية فهو أولى مما يوجب الظن ولأنها تفتقر إلى غيرها في الثبوت
وقيل هذا كله ترجيح ضعيف
وذكر أبو الخطاب ترجيح العلة إذا كانت أقل أوصافا لمشابهتها العلة العقلية ولأنها أجرى على الأصول وترجيحها بكثرة فروعها وعمومها ثم اختار التسوية وأن هذين لا يرجح بهما لأن العلتين سواء في إفادتهما حكمهما وسلامتهما من الفساد ومى صحت لم يلتفت إلى كثرة فروعها ولا كثرة أوصافها
ورجح العلة المنتزعة من الأصول على ما انتزع من أصل واحد لأن الأصول شواهد للصحة وما كثرت شواهده كان أقوى في إثارة غلبة الظن
ورجح العلة المطردة المنعكسة على مالا ينعكس لأن الطرد والعكس دليل على الصحة ابتداء لما فيه من غلبة الظن فلا أقل من أن يصلح للترجيح
ورجح العلة المتعدية على القاصرة لكثرة فائدتها
ومنع ذلك قوم لأن الفروع لا تنبني على قوة في ذات العلة بل القاصرة (1/392)
( س ) ومنه الحدفيث تحفة المؤمن الموت أي ما يصيب المؤمن في الدنيا من الذضى وما له عند الله من الخير الذي لا يصل إليه إلا بالموت , ومنه قول الشاعر
... قد قلت إذ مدضحوا الحياة فأسرفوا ... في الموت الف فضيلة لا تعرف ... منها أمان عذابة بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
ويشبهه الحديث الآخر الموت راحة المؤمن
تحا
( هـ ) فيه التحيات لله التحيات جمع تحية , قيل أراد بها السلام , يقال حياك الله أي سلم عليك وقيل التحية الملك وقيل البقاء وإنما جمع التحية لأن ملوك الأرض يحيون بتحيات مختلفة , فيقال لبعضهم أبيت اللعن , ولبعضهم أنعم صباحا , ولبعضهم أسلم كثيرا , ولبعضهم عش ألف سنة , فقيل للمسلمين قولوا التحيات لله , أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء هي لله تعالى والتحية تفعلة من الحياة , وإنما أدغمت لاجتماع المثل , والهاء لازمة لها والتاء زائدة , وإنما ذكرناها ها هنا على ظاهر لفظها { باب التاء مع الخاء }
تخذ
في حديث موسى والخضر عليهما السلام قال لو شئت لتخذت عليه أجرا يقال تخذ , بوزن سمع يسمع , مثل أخذ يأخذ وقرى لتخذت ولاتخذت وهو افتعل من تخذ فأدغم أحدى التاءين في الأخرى , وليس من أخذ (1/393)