رسالة الاكتفاء بالعمل بغلبة
الظن في مسائل الفقه
تأليف الفقير إلى عفو ربه
وليد بن راشد السعيدان
غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين
( وبه أستعين )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ثم أما بعد :(1/1)
فإن من المسائل المهمة لطالب الفقه أن يكون سيره الفقهي مبنياً على أصول راسخة وقواعد ثابتة لا تهزها العواصف ولا تجرف بها المتغيرات . فإن الفروع الفقهية إذا بنيت على أصولها والجزئيات إذا ردت على كلياتها فذلك أثبت لها في الذهن وأسرع في استذكارها واستحضارها عند الحاجة لها ، ولذلك فإن التميز في الفقه والرسوخ فيه لا يكون لأحد إلا لمن بنى فقهه وعلمه على الأصول والقواعد الراسخة المتينة ، ولأن طالب العلم بهذه الطريقة يصل إلى الدرجات العلى في الفقه بأيسر طريق وأقل كلفة ولأنه بذلك تكون عنده الملكة الفقهية التي بها يتعرف على أحكام الوقائع الجديدة ، ويتعرف بها على أسباب اختلاف أهل العلم في كثير من المسائل الفقهية ، وتكون فتواه متفقة منضبطة في مسائل الباب الواحد الذي يدخل تحت أصل واحد وهي حزام أمان من الحيرة في كثرة التفريع ، ويكون بها طالب العلم واسع الأفق ، عارفاً بدقائق العلم بصيراً بما يصدر منه من أحكام ويكون بعد رسوخه فيها قائداً لا مقوداً مجتهداً لا مقلداً مبدءاً لا ناقلاً ، فلا بد من طرح التقليد والإخلاد إليه ، فلا ينبغي تعويد الطلبة دائماً على نقل الفتاوى فقط من غير تمحيص لمآخذها ومعرفة لأدلتها وكيفية وجه استخراج الأحكام الشرعية منها .(1/2)
فنحن نريد أن نترقى بطلبة العلم في درجة التفريع إلى درجة التأصيل والتقعييد والضبط ؛ فمن ضبط الأصول سلمت له الفروع ورفعت راية الإذعان له ولم يستعص عليه منها فرع واحد ومن استكثر منها فالله أكثر ودين الله واسع والعلم بحر لا ساحل له ولا ينال براحة الجسد والكسل والدعة والخمول والتواني فالله الله يا طالب العلم بالجد والاجتهاد في التحصيل وكن في تحصيل العلم منهوماً لا يشبع منه أبداً وأوغل فيه برفق واركب المركب الثابت القوي ألا وهو القواعد والأصول ولا تستطيل الطريق ولا تستعسره فإنه يسير على من يسره الله عليه وكن محترماً لأهل العلم خادماً لهم مترحماً عليهم ذاباً عنهم عارفاً لهم فضلهم وحافظاً لهم مرتبتهم وإياك والتعالي والتعاظم ، فإن العلم النافع هو الذي يزداد صاحبه بالازدياد منه تواضعاً للخلق وللحق ، وهذا هو ما نوصيك به والله المستعان ، هذا وقد كنت في بعض البلاد القريبة قد شرحت قاعدة الاكتفاء بالعمل بغلبة الظن في مسائل الفقه ورأيت بركتها علي وعلى الطلاب الذين شرحتها لهم وأخبروني بعظيم نفعها وجميل عائدتها عليهم وأنها لينت لهم كثيراً مما كانوا يستصعبونه ، وأنهم فرقوا بها بين كثير من المسائل التي كانت مشكلة عليهم مما يعرفون أحكامه ولا يعرف الفرق بينه وقد كنت شرحتها في كتابي تحرير القواعد ومجمع الفرائد ولكن لم أطل النفس هناك وإنما هي إشارات فقط وكان قد اجتمع عندي فروع كثيرة جداً ولأني أحب لك ما أحب لنفسي وأود _ والله الشاهد _ أن تنهل من معين هذه القاعدة أحببت أن أقيدها لك بأدلتها وأستكثر من ضرب الأمثلة عليها إبراءً للذمة وإبلاغاً للعلم وجمعاً للمفترق تحريراً لمسألة هي من أهم المسائل الفقهية كما ستراه إنشاء الله تعالى بحول الله وقوته وأسميت هذه الوريقات بـ( رسالة الاكتفاء بالعمل بغلبة الظن في مسائل الفقه ) والله أسأل أن يمن على العبد الضعيف الفقير العاجز بإتمامها على أحسن الوجوه وأكمل(1/3)
الأحوال وأن يوفقني فيها للحق والصواب المتوافق مع كتابه وسنت نبيه صلى الله عليه وسلم وما عليه سلفنا الصالح وأعوذ به من الكبر والحسد والغرور والتعالي والتعالم ، وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن ينفع بها النفع الخاص والعام وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام ولا حول ولا قوة إلا به جل وعلا ، فإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون .
العمل بغلبة الظن كافٍ في التعبد وغيره
أقول : اعلم رحمك الله تعالى ووفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح أن مراتب الإدراك للأشياء لا تخلو من أربع مراتب : _(1/4)
الأولى : اليقين وهو إدراك الشيء إدراكاً جازماً لا يخالطه احتمال آخر وهو أشرف هذه المراتب وأعلاها وأكملها وهو مطلوب بالتأكيد في مسائل الاعتقاد التي تستحق أن تكون من مسائل الاعتقاد كالإيمان بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وكالإيمان بوجود الملائكة وما أخبر الله عنهم في كتابه أو أخبر عنهم نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته من وجود أسمائهم وأعمالهم وصفاتهم الخلقية والخُلُقية وكالإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام والإيمان بالكتب وباليوم الآخر وتفاصيله الواردة في الكتاب والسنة والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى وكالإيمان بتفاصيل معتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى كمعتقدهم في الأسماء والصفات ومعتقدهم في القدر ومعتقدهم في باب مرتكب الكبيرة ومعتقدهم في الصحابة وآل البيت ومعتقدهم في القرآن ومعتقدهم في الإيمان والشفاعة والتوسل ونحو ذلك . لابد فيه اليقين القاطع الراسخ الذي هو أرسخ من الجبال الرواسي في الأرض ولذلك قال تعالى " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " وقال تعالى " قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض " ونحو ذلك من الآيات ، وهذه المسائل وأمثالها لا تدخل معنا في هذه القاعدة ؛ لأنها أولاً : يطلب فيها اليقين .(1/5)
ولأنها ليست من المسائل الفقهية ولأنها مما انعقد عليه إجماع السلف ، وقد تقرر أن المسائل الإجماعية لا تخضع للمحاورة والمجادلة والنظر بل الإجماع حجة شرعية يجب قبولها والمصير إليها وتحرم مخالفته ، فاليقين هو إدراك الشيء من غير احتماليةٍ لشيءٍ آخر ، ونحن هنا لا نتكلم عن هذه المرتبة ، وإنما نتكلم عن المرتبة الثانية وهي غلبة الظن ، وهو احتمال أمرين أحدهما أرجح في النفس بحسب النظر في قرائن الأحوال وظواهر الأدلة ، وهو الغالب على مسائل الفقه وهو ما تعالجه هذه القاعدة ومعناها : - أن أي قول غلب على ظنك صحته فاعمل به – تقبل الله منا ومنك – ولا يطلب منك لتعمل به أن تصل إلى مرحلة اليقين ، فإن الوصول إلى هذه المرحلة قد يكون عسيراً في بعض مسائل الفقه ؛ بل في كثير منها ، وذلك لأن القين إنما هو في مسائل الفقه التي وقع عليها اتفاق أهل العلم رحمهم الله تعالى كالإجماع على وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وكالإجماع على أن الحائض لا تصوم ولا تصلي ونحو ذلك من المسائل التي قد وقع عليها الاتفاق ، فهذه المسائل هي التي يسلكها الإنسان ويعتمد عليها من غير احتمال يقوم في قلبه بمخالفتها ، ولكن المسائل الإجماعية قليلة بالنسبة للمسائل الخلافية والاجتهادية وهذه المسائل – أعني المسائل الخلافية والاجتهادية هي التي يكتفي في العمل بها بغلبة الظن فقط فحيث قلنا : - يعمل بغالب الظن ، فإنما نعني به العمل به في مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد ، وأما مسائل الإجماع فإنها تفيد القين ، وأعني بالإجماع المفيد لليقين الإجماع المنقول بالتواتر ، وأما الإجماع السكوتي فإنه إنما يفيد غلبة الظن فقط وهي كافية فيه لكن لا ينبغي ادعاء الإجماع إلا بعد العلم بعدم المخالف وإلا فإن هناك من دعاوى الإجماع ما لا يثبت مثلعا لوجود المخالف وإن كنت تريد مصداق ذلك الكلام فارجع إلى نقد مراتب الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والذي نقد(1/6)
به كتاب مراتب الإجماع لابن حزم على الجميع رحمة الله تعالى ومغفرته ورضوانه ، وحيث قلنا ( الظن ) فإنما نعني به الظن المبني على النظر في الأدلة والحجج والبراهين والقرائن واستقراء الأحوال ، وأما الظن المبني على الهوى والشهوة ومخالفة المنقولات ومكابرة المعقولات فإنه ظن مذموم لا يجوز اعتماده بل الوجوب إلغاؤه فكل آية فيها ذم الظن وذم اتباعه فإنما هو الظن الذي تخرص وزور وكذب وبهتان وإفك فانتبه لهذا ، وأما الظن الذي نتكلم عنه فإنه الظن المبني على المقدمات الصحيحة وعلى النظر في ظواهر الأدلة وقرائن الأحوال ، فالظن ظنان ، ظن مقبول صحيح ، وظن مردود قبيح ، وحيث قلنا ( كاف في العمل ) أي أن هذا هو الذي يطالب العبد به ، ولا يطلب منه زيادة على ذلك ، بل إن الشارع يكتفي منا بغلبة الظن في كثير من مسائل الفقه كما ستراه إنشاء الله تعالى في الفروع ، وهذه القاعدة مندرجة تحت الأصل المتفق عليه : - رفع الحرج فإنها من قواعد التيسير ، كما ستراه في الأدلة عليها إن شاء الله تعالى ، وخلاصة معناها أن يقال : - إن كثيراً من مسائل الفقه يكتفى فيها بما يغلب على الظن صحته ، فمتى ما غلب على ظنك صحة قول فإنك مطالب بالعمل به شرعاً ، ولا تقل : - سوف أؤخر العمل حتى أصل إلى مرحلة اليقين القاطع ، فإن هذا يفضي إلى تعطيل أحكام شرعية ٍ ليست باليسيرة ، بل على العبد أن يعمل مباشرة بما يغلب على ظنه صحته ولكن لا بد أن يكون هذا الناظر ممن يعتمد ظنه في مثل هذه المسألة المنظور فيها ، أي أن تكون عنده الآلآت لفهم الدليل من عمومه وخصوصه ومقيده ومطلقه ومجمله ومبينه ومحكمه ومتشابهه وظاهره ومؤوله وأمره ونهيه ، وغير ذلك من الآلآت المهمة لفهم النص ، فليست كل ظن يعتبر ، وإنما المعتبر هو الظن المبني على النظر الصحيح في الأدلة والقرائن ، وأما الظنون التي لم تبن على علم ولا على هذى ً فإن حقها الإلغاء والاطراح ، وعدم الاعتبار ، وغلبة الظن(1/7)
هي المرتبة الثانية من مراتب الإدراك وعليها سيكون مدار الكلام في هذه القاعدة إن شاء الله تعالى ، المرتبة الثالثة : - الشك وهو تجويز أمرين لا مزية لأحدهما عن الآخر بل هما متساويان عنده ، فلا يترجح طرف على طرف . المرتبة الثالثة : - الوهم : وهو اعتماد الطرف المرجوح وترك الطرف الراجح ، فإن بعض أهل العلم يختلفون أحياناً في بعض المسائل الفقهية ، ويكون أحد القولين راجحاً بالدليل والآخر مرجوحاً فمن اعتمد منهما الطرف المرجوح فهو آخذ بالوهم فالذي أجاز الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء إنما هو آخذ بالوهم لأن الراجح الانتقال مباشرة عند عدم الماء إلى التراب ، والذي منع استعمال فضل طهور المرأة المنع المطلق فهو آخذ بالوهم لأن الراجح الجواز لكن مع الكراهة التنزيهية عند عدم وجود غيره ، والذي أبطل الصلاة بالنحنحة ولإشارة المفهمة آخذ بالوهم لأن الراجح أن هذه الأشياء لا تبطل الصلاة لعدم الدليل ومبطلات الصلاة توقيفية ، بل ورد الدليل الصريح بعدم البطلان بها والذي أجاز للمرأة أن تزوج نفسها ولم يشترط الولي فهو آخذ بالوهم لأن الصحيح اشتراط الولي لصحة العقد وهكذا في مسائل كثيرة ن فالذي يختار الطرف المرجوح فهو آخذ بالوهم فالوهم هو الأخذ بالطرف المرجوح وترك الطرف الراجح فصارت المراتب عندنا أربع : - اليقين : - وهو إدراك الشيء لعلى ما هو عليه إدراكاً جازماً ، وظن وهو تجويز أمرين أحدهما راجح في النفس بحسب النظر الصحيح في الأدلة والقرائن ، وشك وهو تجويز أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، ووهم : وهو تجويز أمرين مع الأخذ بالطرف المرجوح . وكما قدمت لك مراراً أن الكلام في هذه القاعدة سيكون في المرتبة الثانية وهي غلبة الظن وقد تقرر بالأدلة أن غلبة الظن كافية في العمل ، والله أعلم .
( فصل )(1/8)
إذا علمت هذا فاعلم أنه قد دل على ذلك الأصل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والعقل ولاعتبار الصحيح ومقاصد الشريعة ، ودونك هذه الأدلة : - فمن الأدلة : - قوله تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " وقواته تعالى : - يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " وقوله تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها " وقوله تعالى " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " ونحو ذلك هذه الآيات ، فإنها تفيد صحة هذه القاعدة وبيان ذلك أن يقال : - لو كلفنا في كل مسألة من مسائل الفقه بالوصول بها إلى مرتبة اليقين لكان ذلك من تكليف مالا يطاق ولكان من التعسير لا التخفيف ولعدّ ذلك من الآصار والأغلال وكل ذلك موضوع عنا في هذه الشريعة المباركة زادها الله شرفاً ورفعة فدل ذلك على أننا مكلفون بما هو داخل تحت وسعنا وطاقتنا ، ولا يكون ذلك إلا بالقول بالاكتفاء بغلبة الظن إذا كان العبد الناظر في المسألة لا يستطيع إلا هذه المرتبة ، فلو ألزمنا عباد الله بالوصول إلى مرتبة اليقين في كل مسائل الفقه لكان ذلك من تكليف مالا يطاق وهو منتفٍ شرعاً ، ولكان ذلك من التعسير والله لا يريد بنا إلا التيسير ، ولكان ذلك من الآصار والأغلال والإثقال الذي لا يحتمل وهو موضوع عنا في شريعتنا ، فصار العمل بما يغلب على الظن محققاً للتخفيف وللتيسير لأنه لا يستطاع إلا هو في كثير من مسائل الفقه ، والله أعلم(1/9)
ومن الأدلة أيضاً ما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم " وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بنا وشفقته علينا ، ونحن مأمورون في الشريعة بكثير من الأوامر ، ولكن الأمر بها ليس أمراً مطلقاً وإنما هذا الأمر مقيد بالاستطاعة ، فدل ذلك على أن ما لا يدخل تحت استطاعتنا فإننا لسنا مطالبين به ومن المعلوم أن اليقين ليس مستطاعاً في كل مسألة من مسائل الفقه ، وحيث تعذر فإنه يصار إلى بدله الذي هو أخف منه وهو غلبة الظن لأنها هي المستطاعة في كثير من مسائل الفقه ، فدل ذلك على الإكتفاء بها ، فمن قال : : - لا يكتفى بها فإنه مخلف للمتقرر شرعاً : أن الأوامر مربوطة بالاستطاعة فالذي يستطيع الوصول إلى مرتبة اليقين فإنه مطالب به ولكن الذي لا يستطيع اليقين فإنه يسقط عنه وينتقل عنه إلى المقدور عليه وهو غلبة الظن ، وهذا هو الذي تفيده هذه القاعدة من أن العمل بغلبة الظن كافية في التعبد وغيره .(1/10)
ومن الأدلة أيضاً : - ما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : - صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى خمساً فلما سلم قيل : - أحدث في الصلاة شيء ؟ قال : - وما ذاك ؟ قالوا : - صليت خمساً ثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل على الناس فقال : - " أيها الناس إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما بشارً أنسى كما تنسون فإذا أسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد " ووجه الشاهد هو قوله " فليتحر الصواب " وهذا أمر بالعمل بغلبة الظن لأن تحري الصواب هو بعينه غلبة الظن ثم قال " فليتم عليه " وهذا دليل على اعتبار العمل بغلبة الظن شرعاً ، والذي اعتبرها هنا هو المشرع لنا صلى الله عليه وسلم ، فدل ذلك على أن غلبة الظن كافية في التعبد وغيره وهو المطلوب ولا ينبغي للعبد أن يلغي ما اعتبره الشارع كما أنه لا يجوز له أن يعتمد ما ألغاه الشارع ولم يعتبره شيئاً ، بل الواجب على العبد في دينه هو اعتماد ما اعتمده الشرع من الأحكام والعلل والقواعد والأصول وإلغاء ما ألغاه الشرع من ذلك ، لأننا متعبدون بالمتابعة وهو – أي الشارع – هنا قد اعتمد العمل بغلبة الظن فالواجب علينا اعتبارها كما اعتبرها ، واعتمادها كما اعتمدها ، والله أعلم .(1/11)
من الأدلة أيضاً : - ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها في صيغة غسله صلى الله عليه وسلم من الجنابة وفيه أنها قالت " ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء عليه ثلاثاً ثم غسل سائر جسده " والشاهد منه قولهها " حتى إذا ظن " وهذا فيه دليل على الاكتفاء بغلبة الظن بوصول الماء إلى بشرة الرأس ، ولا يطلب في ذلك اليقين القاطع أن وصل إلى أصل كل شعرة بعينها وإنما العبد يكتفي بغلبة الظن ، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه " إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر " فإنه حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجة وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وسيأتي في الفروع إن شاء الله تعالى زيادة تفصيل على ذلك بحول الله وقوته . والمهم هنا هو الاستدلال وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بغلبة الظن في وصول الماء بالتخليل إلى أصول الشعر والله ربنا أعلى وأعلم .(1/12)
ومن الأدلة أيضاً : - ما في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : - " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " وجه الاستشهاد به أن الواجب على الحاكم هو الاجتهاد ببذل الوسع والطاقة في درك الحق ، فإذا نتج عن اجتهاده أن الحكم كذا وكذا ، فليحكم به وهذا هو الواجب عليه ، فإن وافق حكمه واجتهاد الحق ، فله أجران ، أجر على الاجتهاد وأجر على الإصابة ، ولكن إذا كان الحكم خطأ فله أجر واحد على اجتهاده فقط ، فهو مأجور في الحالتين ، مع أن حكمه كان عن اجتهاد والاجتهاد إنما يوصل إلى غلبة الظن ، بل هو مأجور على اجتهاده حتى مع خطأه في الحكم فدل ذلك على أن باب الحكم إنما مداره على اجتهاده هذا سواءً أصاب أم أخطأ / وبناءً عليه فليس مطلوباً من الحاكم أن يصيب عين اليقين في كل مسألة من مسائل الحكم والقضاء والإفتاء ، بل المطلوب الاجتهاد وبذل وسعه وما آتاه الله من قوة الفهم والعلم لمعرفة الحق فإذا غلب على ظنه بعد النظر في القرائن أن الحكم كذا وكذا ، فهذا كافٍ وهو مأجور على ذلك مما يدل على أن العمل بغلبة الظن كافية في التعبد وغيره إذ لو يطلب منه الحكم باليقين القاطع لما استحق مع خطأه الأجر ، فلما استحقه مع الخطأ دل ذلك على أن عمله هذا معتبر شرعاً وهو إنما عمل بما يغلب على ظنه وحكم بالذي أداه إليه اجتهاده ، وذلك لأن حكم الحاكم مبني على سماع الشهادة والنظر في قرائن الأحوال المصاحبة للواقعة ، هذا كله إنما يفيد غلبة الظن في كثير من الوقائع والقضايا .(1/13)
ومن الأدلة أيضاً : - ما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من نار " وهذا يوضح الدليل قبله فإن بعض الناس يكون لبقاً في حجته وعنده فصاحة في ترتيب البينة وتصفيف الكلام والظهور بمظهر المظلوم ، والقاضي بين الناس لا يعلم الغيب ولا ما في السرائر وإنما له الظاهر فقط ، فإذا غلب على ظنه صحة دعوى أحد الخصمين بعد النظر والتروي فليحكم بذلك ولا يكلف شرعاً بأكثر من ذلك ، ولكن هذا الحكم الصادر من إنما هو عن غلبة ظن بصدق الدعوى ولا يقطع الحاكم قطعاً مؤكداً في كل أحكامه الصادرة منه أنه اليقين الموافق للحق بلا احتمالٍ آخر ، وهذا هو العمل بغلبة الظن ، بل ذلك يصدر حتى منه صلى الله عليه وسلم بنص هذا الحديث ، ولكن هذا الحكم لا يغير من الحق في الباطل شيئاً إن كان وقع مخالفاً لما هو الحق ، فبين هذا الحديث أن الأحكام التي تصدر من الحكام إنما هي عن غلبة الظن فل يفرح المحكوم له بحق أخيه بهذا الحكم الصادر فإنه لا ينفعه عند الله يوم القيامة ، وهذا دليل على أن الحاكم يكتفي في حكمه بما يغلب على ظنه بعد سماع الحجج والنظر في مقبولها ومردودها وصحيحها من سقيمها ، ولو لم نقل ذلك لنسد باب التحاكم والتقاضي لأن الوصول إلى اليقين في كل قضية حملٌ لا يطاق فاكتفى الشارع من الحاكم بغلبة الظن مما يدل على أن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم .(1/14)
ومن الأدلة أيضاً : - حديث عامر بن رضي الله عنه قال : - " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : " فأينما تولوا فثم وجه الله " رواه الترمذي بسندٍ حسن ، ووجه الاستشاهد به أن النبي صلى الله عليه وسلم صحح فعلهم هذا ولم يأمر أحداً منهم بالإعادة لأن كل واحد منهم صلى على الجهة التي يغلب على ظنه أنها الجهة الصحيحة ، لأننا نجزم جزماً أن استقبالهم هذا لم يكن عن يقين وإنما كان عن غلبة ظن ، فصلى كل واحدٍ منهم حياله فلما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم منهم أحداً بالإعادة علمنا أن غلبة الظن كافية في التعبد وغيره وهو المطلوب والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً : - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " رواه الترمذي وقواه البخاري ، وهذا أمر منه صلى الله عليه وسلم بالعمل بغلبة الظن ، فإن الشارع نزل استقبال الجهة منزلة العين ، وهذا في الآفاقي البعيد عن البيت ، فإنه يغلب على الظن في الآفاقي البعيد أنه إذا استقبل الجهة فإنه مستقبل للعين ، ولا يضر انصراف الوجه يميناً أو شمالاً ما دام داخل حدود الجهة لأن أمره باستقبال عين القبلة مع بعده بيقين أمر متعذر وفيه تكليف بما لا يطاق ، فلما تعذر الوصول ليقين الاستقبال في حق البعيد اكتفى منه الشارع بغلبة الظن وهو استقبال الجهة ، وهذا من باب التخفيف مما يدل على أن غلبة الظن كافية في التعبد وغيره والله أعلم .(1/15)
ومن الأدلة أيضاً : - حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فلما جاء وادي القرى إذ امرأة في حديقة لها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اخرصوا و خرص النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق ، فقال لها : - أحصي ما يخرج منها ... فلما أتى وادي القرى قال للمرأة : - كم جاء حديقتكم ؟ قالت : - عشرة أوسق خرص النبي صلى الله عليه وسلم " ومثله أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها قالت : - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل ، حين يطيب قبل أن يؤكل منه ، ثم يخير يهود ، يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص ، لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق " والخرص هو حرز ما على النخل من الطب تمراً وهو مبني على غلبة الظن وقد اكتفى الشارع بذلك لأن اليقين القاطع في مثل هذه الأشياء مما يتعذر فقامت غلبة الظن مقامه فالخرص أبداً لا يصل به الخارص إلى اليقين ، بل إنه يصل به إلى غلبة الظن ، فلما اكتفى الشارع بذلك علمنا أن غلبة الظن كافية في التعبد وفي غيره وهو المطلوب والله أعلم .(1/16)
فهذه تسعة أدلة تفيدك صحة هذه القاعدة وليست هي من باب الحصر وإنما هي من باب ذكر البعض للاستدلال به على الكل وسيأتي في قيد الفروع إن شاء الله تعالى أدلة كثيرة هي بمثابة أدلة وفروع ، فيستفاد منها في هذا وفي هذا ، وخلاصة الكلام أن يقال : - أن غلبة الظن كافية في التعبد وغيره من العمل ، ولا يطلب في كل مسألة بعينها أن يصل بها صاحبها إلى اليقين ، لأن ذلك متعذر ومتعسر في كثير من الفروع والله ربنا أعلم وأعلى . ومن الأدلة أيضاً العقل : - وبيانه أن يقال : - إن الأصل في التشريع وجوب العمل به وكل قول يفضي إلى مخالفة ذلك الأصل فإنه باطل ، والقول بالاكتفاء بغلبة الظن في التعبد وغيره وسيلة إلى عدم تعطيل العمل بأي شيء من الشرع ، وهذا هو المطلوب لأن اشتراط الوصول لليقين في كل مسألة مما يوجب تعطيل كثير من الشرائع ، وقد تقدم أن الأصل هو العمل بالتشريع لا تعطيله ، فاشتراط اليقين مفضي إلى التعطيل والقول بالعمل بغلبة الظن مفضي إلى الإعمال ، فصار القول به هو المتعين ، والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً : - الاعتبار الصحيح ومقاصد الشريعة وذلك أن الشريعة الإسلامية مبنية على التخفيف والتيسير ، والأصل والمتفق عليه شرعاً هو رفع الحرج عن المكلفين ولو اشترطنا الوصول لليقين في كل مسألة فقهية لكان ذلك من التعسير والأثقال والآصار والأغلال والحرج ، وقد قررنا أنه مرفوعٌ شرعاً فصار القول بالاكتفاء بغلبة الظن في التعبد وغيره هو الذي يتوافق مع هذه المقاصد الشرعية ، والمقاصد الشرعية حق وصدق ، وما وافق الحق فهو حق ، وما وافق الصدق فهو صدق والله أعلم .
( فصل )
إذا علمت هذا فهذا شرح القاعدة من باب الاستدلال والتنظير ، ولم يبق إلا شرحها من باب التفريع ، وفروعها كثيرة ولكن أقتصر منها على المشهور بين أهل العلم :(1/17)
الفرع الأول : - مسألة اشتباه الثبات الثياب الطاهرة بالنجسة فإن أهل العلم رحمهم الله تعالى قد اختلفوا في هذه المسألة ، والراجح في هذه المسألة هو ما تقتضيه هذه القاعدة ، وهو أن يتحرى ويجتهد في الطاهر والنجس في النظر في القرائن الفرقة بين الأمرين ، فإذا غلب على ظنه في أحدها أنه الثوب الطاهر ، فليصل فيه ولا يجب عليه إلا ذلك ، فإن تبين له بأجره أن الثوب الذي صلى فيه كان هو الثوب النجس ، فلا إعادة عليه ، لأنه قام بالواجب عليه شرعاً وهو التحري والاجتهاد ، ولم يأمرنا الله جل وعلا أن نصلي صلاة واحدة مرتين وقد تقرر في الأصول أن العمل بغلبة الظن كافٍ في التعبد وغيره ، وأما القول المشهور في مذهبنا فإنه قول مجانب للصواب و فيه احتياط زائد لا تأتي بمثله الشريعة ، فالراجح هو ما قدمته لك من أن الواجب عليه هو التحري والاجتهاد ويصلي في الثوب الذي يغلب على ظنه أنه الثوب الطاهر ولا شيء عليه إلا ذلك وهو أعمل بغالب الظن وغلبة الظن كافية في التعبد وغيره والله أعلم .(1/18)
الفرع الثاني : - باب تفسير الرؤى في الشريعة ؛ فإن الأصل فيه الجواز ، وقد دل على جوازه النص الشرعي ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : - هل رأى أحدكم رؤيا ، فيقص عليه ما شاء الله أن يقص .... الحديث " والأحاديث في جواز التأويل كثيرة وليس هذا موضع طرقها ، ولكن المقصود أن تفسير الرؤيا لابد فيه من الحذر من أمرين : الأول : ليحذر المفسر للرؤيا أن يجزم بوقوعها جزم اليقين من ذلك لأن ذلك من علم الغيب والجزم بشيء من أمور الغيب لابد فيه من نص شرعي صحيح صريح ، ولا يعتمد فيه مجرد الرؤى ، وقد قال الله تعالى " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله " وقال تعالى " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً " وقال تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ... الآية " فباب تفسير الرؤى لا مدخل لليقين فيه لأنه غيب ولا يعلم الغيب إلا الله ، ولذلك فإنه يعجبني كثيراً قول المفسر قبل التفسير أو بعده إن شاء الله ذلك ، أو إن قدر الله ذلك كوناً أو يقول : - " إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين " وهذا من باب الأدب مع الله جل وعلا ، وقد كان الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى إذا أجاب في بعض المسائل فربما قال بعدها : - " إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين " وقد ظهر في هذه الآونة الأخيرة من يجزم بوقوع الرؤيا باليوم والشهر ولربما تجرأ بعضهم أيضاً وحددها بالساعة ،, وقد سمعت طرفاً من أخبارهم, وقد فتح على الناس هذا الباب وأغلوا فيه كثيراً حتى خصصت له بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية وعقدت فيه المحاضرات, وكأننا لما فشلنا في تحقيق أهدافنا في عالم الشهادة فررنا إلى عالم المنامات , وقد ظهرت كتب في الساحة خاصة بتفسير الرؤى والأحلام , والمقصود:- أن الجزم اليقيني بتأويل الرؤيا لا يجوز لأنه من عالم الغيب ,فينبغي الحذر والتحذير من هذا الأمر.(1/19)
الثاني: التفسير بمجرد الشك والوهم والشهوة والهوى فهذا حرام ولا يجوز وهو من القول على الله بلا علم ٍ وقد ورد فيه ماهو معلوم , قال تعالى ((ولا تقفُ ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل ذلك كان عنه مسئولا)) وقال تعالى((وأن تقولوا على الله مالاتعلمون )) وفي الحديث [ فليعرضها على عالمٍ ناصح] فإذاً لايجوز التفسير بمجرد التخرص والظنون الكاذبة والهوى والشهوة,فإن هذه الأشياء لا مدخل لها في باب تفسير الرؤى .
ولم يبق لنا إلا ما نحن بصدد شرحه وهو التفسير عن غلبة الظن ,بعد النظر في القرائة المصاحبة للرؤيا ممن عنده فهم وعلم في تفسير الرؤى , فالتفسير عن غلبة الظن بعد الاجتهاد والنظر هو الذي يجوز شرعاً فإذا كان عند المفسر غلبة ظن بأن الرؤيا تأويل كذا وكذا فهذاكافٍ في جواز التفسير, ولعلك تفهم من قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام [ وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما]وهذا فيه أدب مع الله جل وعلا مع أنه نبي , ولكنه لم يجزم بوقوع النجاة لصاحب الرؤيا, ولذلك قال تعالى عنه(( للذي ظن أنه ناجٍ منهما)) فانظر بالله عليك إلى هذه اللفته التربوية الجليلة العظيمة , فأين اللذين يؤولون الرؤى جازمين ولا يرضون بأي نقاش يدور حول تأويلهم لها وكأنها وحي منزل , وهذا من باب الجهل وبناءً عليه فالخلاصة ما يلي :-
الأول: الجزم اليقيني بوقوع تأويل الرؤى لا يجوز.
الثاني : التخرف والتهوك والشكوك في تأويلها لا يجوز.
الثالث : أن يكون التأويل مبنياً على غلبة الظن بعد النظرفي القرائة من عالمِ ناصح فهذا هو التأويل المقبول الذي يسوغ في شريعتنا . فتبين بذلك أن تفسير الرؤى في الشريعة مبناه على غلبة الظن وذلك لأن غلبة الظن كافية في العمل .(1/20)
الفرع الثالث : باب إزالة النجاسة فإن هذا الباب أيضاً مبنى على غلبة الظن ولا يطلب فيه اليقين في كل مسائله فإن الأدلة قد خففت فيه تخفيفاً بيناً فمن ذلك : أنه يكتفي بغلبة الظن في إزالة أثر الخارج بالأحجار, ولذلك فمتى غلب الظن حصول الإنقاء فإن ذلك كافِ ولا يطالب المستجمر بأكثر من ذلك, ومن ذلك :- تطهير المني إذاكان على الثوب فإنه يكتفى فيه أيضاً بغلبة الظن وذلك بنضح الثوب بالماء كما في حديث سهل بن حنبف - رضي الله عنه - قال :- كنت ألقى من المني شدة وعنان وكنت أكثر منه الاغتسال فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال( إنما يجزيك من ذلك الوضوء فقلت يارسول الله :- كيف بما يصيب ثوبي منه؟قال :-((إنما يكفيك أن تأخذ كفاً من ماءِ فتنضح به ثوبك حتى ترى أنه قد أصاب منه)). حديث حسن,وذلك لأن هذه الغمرة بالماء يحصل بها غلبة الظن بزوال النجاسة , وغلبة الظن كافية في العمل .
ومن ذلك :- تطهير أسفل النعل فإنه يكفي فيه المسح بالأرض فقط,وإن من التنطع تقليبها بعد المسح ليرى هل زالت النجاسة منها ام لا؟ وهذا باب وسوسة ,فالمسح فيها كافٍ بدليل حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال((إذا جاء احدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيها فإن رأى خبثاً أو قذراً فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما)) حديث صحيح.(1/21)
وهذا المسح بالأرض لا يحصل به اليقين القاطع بزوال النجاسة ولكن يحصل منه غلبة الظن بذلك وغلبة الظن كافية في العمل ومثله حدبث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب ))رواه أبوداود وصححه ابن حبان . ومن ذلك:- أن الأرض إذا وقعت عليها النجاسة فإنها تكاثر بالماء أي تغمر بقعة النجاسة بالماء فقط.لحديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين قال" جاء أبي قبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قضى بوله فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوبٍ من ماء ٍ فأهريق عليه"ولم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بنقل التراب أو إراقة ذنوب ثانٍ أو بإضافة تراب ثانِ على التراب الأول كما هو فعل أصحاب الوساوس شفاهم الله وعافهم , وإنما اكتفى - صلى الله عليه وسلم - بإراقة ذنوب ِمن ماءٍ. وهذا يحقق غلبة الظن بزوال النجاسة وغلبة الظن كافية في العمل .ومن ذلك:- تطهير بول الذكر الرضيع الذي لم يأكل الطعام فإنه يكفي فيه النضح , فلا دلك ولا غسل لحديث أم قيس بنت محصن الأسدية رضي الله عنها أنها أتت بإبن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجرة فبال على ثوبه فدعا بماءٍ فنضحه عليه "وفي حديث عائشة فاتبعه بوله ولم يغسله " وهذا اكتفاء بغلبة الظن بها زوال هذه النجاسة وغلبة الظن كافية في العمل وفي حديث أبي السمح - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام" حديث صحيح .(1/22)
ومن ذلك :- تطهير ذيل المرأة فإن ذيل المرأة إذا أصابته نجاسة فإنه يطهره ما بعده أي يطهره مروره على الأرض الطاهرة فعن أم ولدِ إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة رضي الله عنها فقالت إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقالت أم سلمة:- قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "يطهره ما بعده" حديث حسن صحيح . ومن ذلك :- أن القول الراجح هو أن النجاسة إذا زال وصفها بالشمس أو الاستحالة أو الريح فإن ذلك كافٍ فلوأن النجاسة تركت حتى زالت أو وصفها بذلك فإن المحل يعود حكمة إلى الطهارة كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال :- كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبرفي المسجد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك "حديث صحيح.وغير ذلك من الفروع , ويتبين بذلك أن باب إزالة النجاسة في الفقه مبناه على غلبة الظن لأن غلبة الظن كافية في العمل .
الفرع الرابع:- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى هل يجب على المرأة نقض شعرها حال غسها من الحيض والجنابة أم لا ؟
على ثلاثة اقوال :- فقيل بالوجوب مطلقاً وقيل بالجواز مطلقا وقيل بالوجوب في غسل الحيض دون غسل الجنابة والصحيح الراجح إن شاء الله تعالى هو اختلاف الحكم باختلاف ما يغلب على الظن فإن كان يغلب على ظنها أن الماء يصل إلى شئون رأسها من غير نقض فإنه لا يجب عليها النقض, بل تفرغ الماء على رأسها ويكفيها ذلك لحديث أم سلمة أنها قالت يارسول الله إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة –وفي رواية:- والحيضة قال:- لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيض عليك الماء فتطهرين"رواه مسلم .(1/23)
وهذا بناءً على أن الماء يصل إلى أصول شعرها بلا نقض وأما إن كان يغلب على الظن عدم وصول الماء إلى شئون رأسها إلا بالنقض فإنه يجب حينئذ أن تنقضه , لأن وصول الماء إلى أصول الشعر واجب, وقد تقرر في الأصول أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب, فيكون النقض واجباً لأن وصول الماء لا يتم إلا به , وهذا هو قول الجمهور فاختلف الحكم باختلاف المظنه, وهذا يفيدك اهمية النظر في هذه القاعدة فإنها من القواعد الأساسية في سيرك الفقهي كما قدمنا والله أعلم .
الفرع الخامس:- لقد تقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن القاضي لا يجوز أن يقضي حال كونه غاضباً , وهذا بالاتفاق لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يقضي أحدكم بين اثنين وهو غضبان" أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأنه يغلب على الظن أن هذا الغضب سيكون مانعاً من سلامة النظر في الحجج وسماع الدعاوى فهو – أي الغضب- يشوش على الذهن ويطمس الفكر ويوجب بعض التصرفات العدوانية الشيطانية ومن المعلوم أن تسلط الشيطان على الانسان حال الغضب وتمكنه من عقله وروحه وعقله أعظم منه في غير هذه الحالة. فلما غلب عن الظن تشويش الفكر حال الغضب منع الشارع الحاكم من الحكم في هذه الحاله. وهذا عمل منه بغلبة الظن ومن ثم قاس الفقهاءعلى هذه الحالة جميع ما يتفق معها في العله فمنعوا القضاء حال الحر الشديد أو البرد الشديد أو الجوع الشديد أو الحقن الشديدأو غير ذلك من الحالات التي توجب تشويش الذهن وكل ذلك إلماماً منهم لغلبة الظن وإلا فليس كل القضاءيؤثر فيهم ذلك أو يشوش عليهم فكرهم, ولكن لما كان ذلك مما يغلب على الظن منع القضاة من القضاء في هذه الأحوال لأن المتقرر شرعاً أن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم .(1/24)
الفرع السادس:- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم ركوب البحر على أقوال :- والراجح منها إن شاء الله تعالى أن ذلك يختلف باختلاف ما يغلب على الظن فإن كان الغالب على الظن السلامة بالنظر في القرائه الحالية فالأصل الجواز وكل حديث في النهي عن ركوبه فهو مما لا تقوم به الحجة الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة , والأصل في الأشياء الحل والإباحة حتى يرد دليل التحريم وأما إذا كان يغلب على الظن من ركوبه الهلاك فإنه لا يجوز ركوبه حينئذ ومن غلب على ظنه الهلاك وخاطر وركب فهلك فقد أعان على نفسه ولو تختلف عن الصلاة عليه أهل الدين والرياسة زجراً عن مقارنة مثل هذا الفعل وزجراً عن المخاطرة بالأرواح فإنه حسداً جداً,لأنه مرتكب للحرام عناداً ومخالف للمشروع افتئاتاً على الشارع .(1/25)
ولا نزال نسمع بين الفينة والأخرى خبر غريق بسبب إهماله النظر في هذه المسألة فتجد بعضهم يركب ما يسمى بالدبابات البحرية وهي صغيرة جداً ويسرع بها في البحر السرعة الجنونية وربما لف بها يميناً وشمالاً بسرعة هائلة وكم مات بسبب ذلك أشخاص ُكثر , وتجد بعضهم يخاطرسابحاً إلى الأماكن البعيدة عن الساحل ويتجاوز الخطوط والعلامات التي قد حدها خطر السواحل استهتاراً منه وإظهاراً لقوته وعدم مبالاة بنفسه وانه الأسد الشجاع والفهد الذي لا يشق له غبار فتضطرب عليه الأمواج فيغرق , وتجد بعضهم يرى العاصفة في أوج قوتها ومع ذلك يسبح ويبتعد والأمواج متلاطمة, ولا يأتينا إلا خبر موته , وتجد بعضهم يتقصد الأماكن البحرية التي فيها علامات التحذير عن السباحة فيها وانها أماكن غير صالحة للسباحة ويخالف هذا الأرعن ويسبح, فيصاب بالأذى وكل هؤلآء خالفوا غلبة الظن وما نظروا فيها بعين الشرع والعقل وإنما حكموا شهوتهم وتوكلوا على شجاعتهم ومعرفتهم بالسباحة فانقلب الأمر عليهم . وهم الذين أعانوا على أنفسهم فلا بد من وضع العقوبات ومنع هؤلاء الحمقى الذين يخاطرون بأرواحهم , فلا بد من الأخذ على يد السفية وأطره على الحق أطراً وتجنيبة ما من شأنه أن يكون سبباً في هلاكه أو تلف طرفِ من أطرافه والمقصود :- أن ركوب البحر يختلف حكمه باختلاف ما يغلب على الظن لأن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم .(1/26)
الفرع السابع :- لقد قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن تغيير المنكر واجب بالمقدور عليه من المراتب الثلاث كما في حديث" من رأى منكم منكرا ًفليغيرة بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - . لكن هذا الوجوب ليس وجوبا مطلقاً بل هو وجوب مقيد بتحقق المصلحة واندفاع المفسدة فإذا كان هذا التغيير ستزول به المفسدة وتتحقق به المصلحة فإنه حينئذ واجب وأما إذا كان هذا التغيير ستكون فيه مفاسد أعظم من المصلحة المرجوة بتغييره فالواجب ترك التغيير وهذا مرجعه غلبة الظن ,أي إذا غلب ظنك أنك إن أنكرك على صاحب المنكر أنه سيأتي بمنكر أعظم فاترك التغيير وهذه الغلبه مردها إلى النظر في المصالح والمفاسد والموازنة بينهما والنظر في القرائه المصاحبة لهذه الواقعة وليس مرده إلى العجز والكسل والهوى والشهوة والخوف , فانتبه لهذا ولذلك فإن أهل السنة يرون بقاء الفاسق حاكماً إذا كان إبعاده عن هذا المنصب يوجب مفاسداً أكبر من المصلحة المرجوه كإراقة الدماء وتسلط الأعداء وذهاب الأمن ونحو ذلك من المفاسد , وكم من دولة تمنت حاكمها الفاسق الفاجر وأنها لم تبعده لأنها وقعت بعد إبعاده في مفاسد لا طاقة لها بحملها , ومنع من أجل ذلك علماء الاسلام الخروج على الحكام وأوجبوا طاعتهم بل واوجبوا الحج والجهاد معهم والصلاة خلفهم إذا كان هو إمام المسلمين الذي لا تقام الجمع والجماعات إلا خلفه , وكل ذلك مراعاة للمصالح والمفاسد بل ومنعوا أيضاً من الإنكار العلني على الحكام لأنه يوغي صدور اللعابة ويسبب ذهاب هيبة الحاكم ومن ثمّ ذهاب الأمن, ومن المتقرر عند أهل العلم أن الخروج اللساني والسلاطة اللفظية على الحكام , بذرة من بذور الخروج الفعلي باليد والحسام وسد الذرائع مطلوب , ولا يزال العالم الإسلامي يعاني الأمرين من الآثار السيئة التي سببها الإنكار العلني على عثمان - رضي الله عنه - .(1/27)
وكذلك الإنكار العلني على عليّ - رضي الله عنه - ولا نزال نرى ونسمع أخبار هذه الطائفة الزائفة عن الطريق المستقيم والمنهج السليم بين اليوم والآخر من إتلاف الأموال والأنفس والزروع والحرث والنسل, وكل ذلك من باب الإنكار العلني على الحكام فهو مزلق خطير وطامة وخيمة لابد من الوقوف في وجهها وسد أبوابها وإحكام إقفالها فلن تعيش الأمة بأمان مادام فيها من يثير ذلك ويؤججه ويدعوا إليه, فإذا غلب على ظنك انك إن غيرت ذلك المنكر أعقبه منكر أو مفسدة أشد فالمشروع الترك والصبر إلى حين آخر وذلك لأن الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها, وهذه المسألة ينبغي وعيها ودراستها وتذكيرالناس بها فإنه ماحصلت هذه البلايا إلا بسبب الجهل بمثل هذه المسائل والله المستعان, وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يهدي ضال المسلمين وأن يثبت مطيعهم وهو أعلم وأعلى .(1/28)
الفرع الثامن:- من المعلوم أن الفقراء والمساكين من أهل الزكاة لقوله تعالى "إنما الصدقات للفقرائ والمساكين والعاملين ... الآية" وأنه يجب على العبد حال أداء زكاته أن يتحرى من ينطبق عليه ذلك الوصف فإذا وجده وغلب على ظنه أنه فقيراً أو مسكين بالنظر في قرائه الأحوال المصاحبة وبعد بذل الجهد في السؤال والتحري فدفعها إليه,ثم تبين بأخرة أنه كان غنياً, فإنه لا شيء عليه, وذمته بريئة من عهدة المطالبة بالإعادة,لأنه لما أعطاها ذلك الشخص كان ذلك عن غلبة ظن منه أنه مستحق لها وذلك لم يكن عن هوى وشهوة نفس بل كان بعد النظر في قرائة الأحوال المصاحبة التي أوصلت الحال عنده إلى غلبة الظن وهذا كافٍ شرعاً فلا يطلب من المزكي أن يتيقن القاطع فقره أو مسكنته فإن ذلك يتعسر جداَ, فاكتفى الشارع منا بغلبة الظن وقد يستدل عليه بحديث الغني الذي أراد أن يتصدق فوضع صدقته في يد غني ... وفي آخره "أما الغني فلعله أن يكون له في ذلك عبره"أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى كل حال فغلبةالظن كافية في العمل لكن ينبغي في مثل ذلك زيادة الاحتياط وزيادة السؤال والاجتهاد في النظر في القرائه المصاحبة وهذا يفيدك أن الحكم يختلف باختلاف غلبه الظن ممايدلك على أهمية هذه القاعدة والله أعلم .
الفرع التاسع:- من المعلوم أن رمي الجمار من جملة واجبات الحج,سواءً الرمي يوم النحرأو الأيام بعده والتي يسميها أهل العلم أيام التشريق والأدلة على ذلك معروفه وليس هذا محل ذكرها,ولكن هل يجب على الرامي أن يتيقن أن حصاته قد وقعت في المرمى أم يكفي غلبة الظن بذلك؟(1/29)
فيه خلاف والراجح, بل الحق فيه هو الاكتفاء بغلبة الظن, وهذه الغلبة مرجعها لأمرين:- أحدهما:- أن تكون الرمية مواجهة للمرمى , ثانيهما:- أن تكون قوة الرمية مناسبة لقرب المرمى أو بعده, فإذا تحقق هذان الأمرين فإنه يفيد ذلك غلبة الظن بأن الحصاة قد وقعت في المرمى وغلبة الظن كافية في التعبد وغيره, وهذا هو الواجب وخصوصاً في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأعداء وزاد الجهل عند كثير من المسلمين وأصبح المرمى وكأنه في حلبة مصارعة لا بقاء فيها إلا للأقوى وكم من الأرواح التي تلفت والأعراض التي كشفت والزفرات التي حصلت بسبب ذلك ,والحصيات التي ترمى من الحجاج كثيرة جدا ًوالبصر والحواس مشغولة بماهي فيه من الزحام , فلو كلفنا الحاج في مثل هذه الحال باليقين لكان ذلك من تكليف ما لا يطاق , ومن التعسير والاثقال والتنفير, بل يخشى بسبب هذه الفتوى أن يزداد تلف النفوس ويزداد الحرج والضيق بسبب مراعاة اليقين من كل رمية على حدة,
والشريعة لا تأتي أبداً بمثل ذلك, وبناءً علية فغلبة الظن أن الحصاة وقعت في المرمى كافٍ في مثل ذلك ولا يجب شيء أكثر من ذلك وذكرت لك أن غلبة الظن تكون بجعل الرمية مواجة للمرمى وتكون قوة الرمية مناسبة لقرب المرمى وبعده وهذا هو الذي ينبغي الإفتاء به, ولا سيما في هذا الزمان والله المستعان وعليه التكلان.
الفرع العاشر:- الأصل جواز القبلة للصائم فعن عائشة رضي الله عنها قالت :كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبل وهو صائم ويباشر وهوصائم وكان أملككم لإربه"متفق عليه. وعن حفصة رضي الله عنها قالت:كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهوصائم"رواه مسلم .(1/30)
وعن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيقبل وهوصائم ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سل هذه" لأم سلمة, فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك فقال يارسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وماتأخر فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له " رواه مسلم . فالأصل في ذلك الجواز بهذه الأدله, ولكن من غلب الظن أنه إن قبل أو باشر أنه يقع في المحظور من الجماع أو إنزال المني فإن القبلة حينئذٍ تنقلب من كونها حلالاًإلى كونها حراماً لأنها وسيلة إلى الحرام ومن المتقرر أن وسائل الحرام حرام, وأن ما أفضى إلى الممنوع فهو ممنوع وأن مالا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب, وأن سد الذرائع من أصول الشريعة التي يجب مراعاتها ولا يجوز إهمالها , فانظر كيف انقلبت القبلة من كونها حلالاً إلى حراماً بسبب غلبة الظن وذلك لأن غلبة الظن كافية في العمل فالله الله ياطالب العلم بفهم هذه القاعدة فهماً جيداً والبحث عن فروعها وبتعويد نفسك على التطبيق عليها وستجد بركة وأنك في سيرك الفقهي والتجربة خير برهان والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل وهو أعلى وأعلم.
الفرع الحادي عشر:- وهو فرع سمين يحتاج إلى وقوف وتمثيل وهو فيما إذا حصل شك في عبادة يطلب فيها العدد, فلك في التعامل مع ذلك حالتان:
الأولى: وهي الأصل وهي أن تبني على ما يتغلب على ظنك أي إن كان عندك غلبة ظن فاعمل بها ولا تقدم على ذلك شيئاً.(1/31)
الثانية:- وهي البدل, وهي أن تبني على الأقل دائماً فإذا لم يكن عندك غلبة ظن بصحة أو بترجيح أحد الاحتمالين فانتقل بعد ذلك إلى البناء على اليقين وهو الأخذ بالأقل دائماً وقد تقرر في القواعد أنه لا ينتقل إلى البدل إلا إذا تعذرأصله وعلى ذلك عدة صور :فمن ذلك: من شك في عدد غسلات الوضوء فإنه يبني أولاً على غلبة ظنه إذا كان عنده غلبة ظن فإن لم يكن عنده غلبة ظن فإنه يبني على الأقل, فإن شك أهي غسله أم غسلتان فليجعلها غسله وهكذا, فالبناءعلى غلبة الظن مقدمة على البناءعلى الأقل ومن ذلك : من شك في عدد غسلات ولوغ الكلب, فإنه ينظر أولاً إلى ما يغلب على ظنه فإن غلب على ظنه شيء فليعمل به ويبني عليه, وإن لم يكن عنده غلبة ظن فإنه يبني على الأقل دائماُ . فغلبة الظن مقدمة على البناء على الأقل, ومن ذلك : من شك في عدد ركعات الصلاة أهي كذا أم كذا؟ فلينظر أولاً إلىمايغلب على ظنه فإن غلب على ظنه شيء فليعمل به, وأما إذا لم يكن عنده غلبة ظن فإنه يبني على الأقل, فالبناء على غلبة الظن مقدمة على البناء على اليقين, لأن غلبة الظن كافية في التعبد وغيره ومن ذلك:-إذا شك في عدد الطواف فإنه أولاًينظر فيما يغلب على ظنه فإن غلب على ظنه شيء فإنه يعمل به ويتم عليه, وإن لم يغلب على ظنه شيء فإنه يبني على الأقل , ومن ذلك :- إذا شك في عدد السعي فإنه أولاً يبني على غالب ظنه إن كان عنده غلبة ظن فإن لم يكن عنده غلبة ظن فإنه يبني على الأقل دائماً.(1/32)
ومن ذلك :- إذا شك في عدد الرمي فإنه أولاً يبني على ما يغلب على ظنه فإن كان عنده غلبة ظن بنى عليها فإن لم يكن عنده غلبة ظن فإنه يبني على الأقل ففي هذه الأحوال كلها لا بد أولاً أن يعمل بما يغلب على ظنه لأن العمل بغلبة الظن كاف في الشريعة فإن لم يكن عنده غلبة ظن فإنه يعمل بالأقل دائماً , ولكن بناؤة على الأقل لا بد فيه من ثلاثة شروط الأول: أن يكون الشك صادراً من معتدل الشكوك وأما المريض الشكاك فإنه لا يلتفت إلى شكة مطلقاً.
الثاني: أن يكون الشك حصل أثناء العبادة.
وأما الشك الحاصل بعد الفراغ من العبادة فإنه ملغىً شرعاً لأن الأصل أن المسلم أوقع العبادة على الوجه المأمور به شرعاً. الثالث: أن لا يكون عنده غلبة ظن فإن كان عنده غلبة ظن فليعمل بها ولا يبني على الأقل وذلك لأن غلبة الظن كافية في التعبد وغيره والله أعلم.
الفرع الثاني عشر: ما ذكره ابو الخطاب من أصحابنا من أن أخبره غيره بلصوص أو قطاع طرق في طريقة هذا وغلب على ظنه صدقة فإنه لا يجوز له سلوك هذا الطريق,لأن العمل بغلبة الظن كافٍ, فلو خالف وسلكها فإنه يكون قد أعان على نفسه فانتبه لهذا فإذا ثارت فتن وكثر قطاع الطرق واللصوص وخف الأمن وأخبرك حرس الطرق وأمنته أن في هذه الطريق لصوصاً وغلب على ظنك صدقهم فإنه يحرم عليك شرعاً أن تسلك هذا الطريق بل يجب عليه وجوب عين أن ترجع ولا تواصل السير فيه لأنك مطالب جزماً بحفظ نفسك ومالك وعرضك وأي سبب يقضي إلى تلف شيء من ذلك فإنه ممنوع وسلوك هذا الطريق مفضي إلى ذلك عن غلبة ظن فالأصل أم سلوك هذاالطريق جائز لكن غلبة الظن بصدق المخبر بأن عليها لصوصاً قُلب الحكم من الجواز إلى التحريم فهذا دليل على أن غلبة الظن كافية في قلب الحكم من الجواز إلى التحريم ويوضح ذلك أكثر الفرع الذي بعده:(1/33)
الفرع الثالث عشر:- الأصل المتقرر عند أهل العلم أن، فروض الكفايات إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقي فوجوبها يراعى فيه عين الفاعل وإنما يراعى فيه تحقق الفعل فإذا قام من يكفي بهذا الفعل وتحقق وحصلت بهم الكفاية زال الإثم عن سائر المكلفين,لكن إن غلب على ظن المكلف القادر أنه لا يقوم بهذا الفعل إلا هو فإنه ينقلب الحكم في حقه من كونه فرض كفاية إلى فرض عين, فغلبة الظن نقلت الحكم من كونه فرض كفاية إلى فرض عين في حق هذا الشخص لأن غلبة الظن كافية في التعبد وغيره, فانظر كيف انتقلب الحكم بالنظر إلى غلبة الظن فالجهاد فرض كفاية لكنه يكون فرض عين في حق من تعين عليه إما لحضورة الصف وإما لأنه لا يندفع العدو عن المسلمين إلا بحضوره, وأما لأن الإمام عينه وخصه بالخروج وقال :جاهد يافلان معنا,أوغير ذلك فمتى ما غلب على الظن أن فرض الكفاية لا يقوم به إلا أنت فإنه يتعين عليك وكذلك فقول:الأصل أن تغسيل الميت وتكفينه وحمله والصلاة عليه ودفنه كل ذلك فرض كفايه لكن متى ما غلب على ظنك أنه لا يقوم به إلا أنت فإنه يتعين عليك ويكون في حقك فرض عين وتعليم العلم وتعلمه أيضاً فرض كفاية في حق عموم الأمه لكن في ما غلب على ظنك أنه لا يقوم به إلا أنت فإنه يكون فرض عين عليك ,وكذلك نقول:- إن تغيير المنكر بشرطه فرض كفاية في حق عموم الأمة لكن متى ما غلب على ظنك أنه لا يقوم به إلا انت فإنه يكون فرض عين عليك, والدعوة إلى الله أيضاً فرض كفاية في حق عموم الأمة لكن متى ما غلب على ظنك أنه لا يقوم به أولاً تحصل الكفاية إلا بك فإنه يكون فرض عين عليك أنت بخصوصك وكذلك تعلم الصناعات التي تحتاجها الأمة فإنه فرض كفاية بالنظر إلى عموم الأمة لكن متى ما غلب على ظنك انه لا يقوم به أولاً تحصل الكفاية إلا بك فإنه يكون فرض عين عليك, وكذلك ولاية القضاء فإنها فرض كفاية في حق عموم الأمة لكن متى ما غلب على ظنك أنه لا يقوم به أولاً تحصل(1/34)
الكفاية إلا بقيامك به أنت وتوفرت لك أسباب توليها فإنه يتعين عليك القيام به ويكون في حقك أنت فرض عين , وكذلك الولاية العامة أي الإمامة الكبرى فإنها فرض كفاية في حق عموم الأمة ولكن متى ماغلب ظنك أنه لا يقوم به إلاأنت وتوفرت لك الأسباب لتوليها فإنه يكون فرض عين عليك أنت بخصوصك بحيث تأثم لوتخلفت أو اعتذرت, والصور كثيرة, ويجمعها قولنا :-إن فرض الكفاية يكون فرض عين في حق من غلب على ظنه أنه لا يقوم به أولاً تحصل الكفاية إلا به , وذلك لأن غلبة الظن كافية في العمل وفي التعبد وغيره والله أعلم.(1/35)
الفرع الرابع عشر : اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم الاشتراط في الإحرام هل هو سائغ لكل محرم أو لا؟ على أقوال والراجح منها إن شاء الله تعالى هو أن الاشتراط في الإحرام إنما يسوغ في حق من غلب على ظنه وجود مانع يمنعه من إتمام نسكه إما من مرض عليه علامات وإما من عدو يقطع طريقة أو نحو ذلك من الموانع فمن غلب على ظنه وجود قاطع أو مانع جاز له الاشتراط وأما من غلب على ظنه السلامةمن ذلك فإنه لا يسوغ في حقه الاشتراط واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ودليل ذلك ما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:- دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير فقال لها "لعلك تريدين الحج"قالت والله لا أجدني إلا وجعة فقال لها:"حجي واشترطي قولي: اللهم محلي حيث حبستني" ولمسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن ضباءة بنت الزبير بن عبدالمطلب رضي الله عنهما أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت:إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فما تأمرني ؟ قال :"أهلي بالحج واشترطي أن محلي حيث حبستني "فهذا يفيد جواز الاشتراط إلاأن هذا الاشتراط ليس حكماً عاماً في حق كل احد. فإننا لا نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوحى به أحداً إلا هذه المرأة فقط وليس ذلك ابتداء منه وإنما قاله لها لما اشتكت له أنها ثقيلة ووجعه فأمرها بالاشتراط وقد حج معه - صلى الله عليه وسلم - الجمع الغفير ولم ينقل أنه أمر احداً أو نبهه أن يشترط مما يدل على أن الاشتراط إنما هو في حق من خاف مانعاً فمن غلب على ظنه وجود المانع القاطع من مرضٍ أو عدو فله الاشتراط ومن غلب على ظنه السلامة فلا يشترط فالاشتراط جوازاً وعدماً إنما مرجعه إلى غلبة الظن لأن غلبة الظن كافية في العمل وغلبة الظن منزلة منزلة اليقين والله أعلم .(1/36)
الفرع الخامس عشر :- لقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض"
وفي صحيح مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إصنعوا كل شيء إلا النكاح "فالأدلة وردت بجواز مباشرة الحائض إن بجواز الضم والتقبيل ونحو ذلك لكن هذا حكمه في الأصل لكن من غلب على ظنه أنه إن فعل شيئاً من ذلك وقع في المحظور وهو الوطء فإن المباشرة تكون في حقه حراماً, فإن سألت:- ومالذي جعلها حراماً؟ فأقول :-غلبة الظن وسد للذريعة,ولأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركة قتركه واجب, ولأن ما أفضى إلى الممنوع فهو ممنوع , ولأن غلبة الظن كافية في العمل فالمظنه تقلب الحكم من كونه جائزاً إلى كونه حراماً يأثم فاعله , فإن سألك أحداً وقال لك:-ماحكم مباشرة الرجل لزوجته الحائض؟
فقل:- الأصل فيها الجواز إلا إن غلب ظنه أنه بمباشرتها يقع في الحرام بل الأمر أوسع من ذلك فإنه إن علم أنه بالنوم معها إلى فراش نومها ولو بلا مباشرة وإنما نوم فقط ,إن غلب على ظنه بالنوم بجوارها أنه يقع في الحرام فإنه يجب عليه اعتزالها ويبيت في مكان آخر ولكن عليه أن يوضح لها سبب ذلك ويشرح لها أن بيته بعيداً عنها ليس رغبة عنها وإنما هو من باب قطع أبواب الشر وسد ذرائع الفساد.
الفرع السادس عشر:- ما الجواب لوسألك رجل وقال لك:أنا في سنة كذا وكذا مرضت وتخلفت عن أداء الصلوات ومع الاشتغال وكثرة الصوراف نسيت قضاءها ولكن نسيت مع ذلك عدد هذه الصلوات الفائته لبعد العهد بها فماذا ستقول له؟
كأني بك ستقول :هي لا تزال واجبة في ذمتك فالواجب عليك أن تتوضأ وتصلي بنية هذه الصلوات الفائته لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - من نام عن صلاة أونسيها فليصليها إذا ذكرها لاكفارة لها إلا ذلك"متفق عليه.(1/37)
فإن قال:- وكم أصلي؟ فقل: - صلى الله عليه وسلم - الصلوات التي بصلاتك لها يغلب على ظنك أنك أديت الواجب الفائت, فإن كان يغلب على ظنك أنها صلوات يوم فصل خمس فرائض وإن كان يغلب على ظنك أنها صلوات يومين فصل صلاة يومين وهكذا, فالواجب عليك أن تعمل بما غلبة الظن أنها هي التي فاتتك فقد قمت بما أوجب الله عليك وغلبة الظن كافية في التعبد وغيرة وغلبة الظن منزلته منزلة اليقين والله أعلم, ومثل ذلك الفرع الذي بعده:
الفرع السابع عشر :- رجل فاتته ايام من رمضان ولايدري كم عددها؟فيقال له:يجب عليك أن تصوم من الأيام ما يحصل بصيامه غلبة الظن بأداء ماعليك في ذمتك فإن كان يغلب على ظنك أنها خمسة أيام فصم عشرة أيام وهكذا فالمعتبرهو صيام ما يحصل به غلبة الظن بأداء الواجب الفائت فإذا صمت أياماً وحصل عندك غلبة ظن بأنها هي التي فاتت فقد قمت بالواجب عليك شرعاً وبرئت ذمتك ولا تكلف إلا بهذا فلله درهذه القاعدة ماأعظمها وماأشد أثرها في إزالة كثير من الاشكالات التي ترد على المكلفين وهذا يوجب على طالب العلم أن يجعلها أصلاً من أصوله وقاعدة من معتمد قواعده والله أعلم .
الفرع الثامن عشر:- قررالأصحاب رحمهم الله تعالى أن الإجارة الطويلة تختلف غلبة الظن في بقاء العين المؤجرة إلى المدة المضروبة.
فقالوا:- وتصح الاجارة الطويلة في عين إذا غلب على الظن بقاؤها إلى هذه المدة وبناءً عليه. فإذا غلب على الظن أن هذه العين المؤجرة لا تبقى إلى هذه المدة فإنه لا يصح فيها الإجارة الطويلة فالدار الجديدة التي يغلب على الظن بقاؤها مائه سنة مثلاً فإنه يجوز تأجيرها هذه المدة وأما الدار القديمة التي يغلب على الظن عدم بقائها إلى مدة قصيرة فإنها لا تؤجر إلا إلى هذه المدة فقط فلا تصح فيها الإجارة الطويلة فاختلف الحكم في الإجارة الطويلة بين الجوازوالمنع باختلاف غلبة الظن مما يقيدك أن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم .(1/38)
الفرع التاسع عشر:- لقد قدمت لك أن القبلة باعتبار المستقبل ثلاثة أقسام: قبلة القريب المعاين للشاخص فهي إصابة عين الشاخص بيقين لأن اليقين في حقة غير متعذر لأنه يشاهدها الآن,وقبلة البعيد فهي إصابة الجهه لحديث" مابين المشرق والمغرب قبلة"وذلك اكتفاء من الشارع بغلبة الظن وقبلة من اشتبهت علية الجهات فهي الجهة التي يؤديه إليها اجتهاده بالنظر في دلائل القبلة المعلومة من الشمس والقمر والقطب ونحوها: فإذا أداه اجتهاده إلى جهة معينه حتى غلب على ظنه أنها الجهه الصحيحة فهذا كافً لأن غلبة الظن كافية في التعبد وغيرة فقبلة البعيد وقبلة من اشتبهت عليه الجهات يكتفي بها بغلبة الظن لأن اليقين هنا متعذر وإذا تعذر الأصل يصار إلى البدل وغلبة الظن كافية في العمل وأيضاً غلبة الظن منزلة اليقين.
الفرع العشرون:- القول الصحيح والمذهب الراجح المليح هو وجوب الصيام بشهادة مسلم عدل واحد ذكر كان أو أنثى فإذا شهد مسلم عدل بأنه رأى الهلال فإن ذلك كافٍ في وجوب الصوم لحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال:تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه "حديث صحيح مع أن هذا الإخبار يعترية ما يعترية من جوانب الضعف والاتهام لكنه يفيد غلبة الظن وهي كافية في التعبد وغيره فصيامنا بخبره إنما عن غلبة ظن بصدقة وليس الأمر يقيناً لكن غلبة الظن هنا كافية وهي تنزل منزلة اليقين أي تحل محل عند تعذره والله أعلم.
الفرع الحادي والعشرون:- عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال :- دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي فقال احدهما :-يارسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله, وقال الآخر مثل ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "انا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه" متفق عليه. والمتقرر شرعاً عدم سؤال الامارة لحديث"ياعبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الامارة"(1/39)
وحديث"إنكم ستحرصون على الامارة وستكون ندامة.. الحديث" فالمتعمد عندنا في الشريعة أن من سأل الامارة فإنه لا يعطاها لأنه لما سألها وحرص عليها أنه يريد بها الاستشراف فقط,لأن الأمر ثقيل وحمالة عظيمة تعجز عن حملها الجبال فيغلب على الظن أن هذا السائل لها لن يقوم بأعبائها وإنما يريد الاستئثار بها للفخر والخيلاء والاستكبار بها فقط ولذلك فإن سؤالها تهمة تجعل ولي الأمر يرفض هذا الطلب, فأمر الولاية لا يعطاه من سأله فرفضنا هذا الطلب ولم نستجب له, لأنه يغلب على الظن أنه متهم بهذا السؤال, إلا إذا كان ذلك الطالب أفضل أهل زمانه ولا كفؤلهذا المنصب إلا هو فقط فلا بأس كما سألها نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام والمقصود:-أن غلبة الظن بعدم الكفاءة الذي سببه هذا السؤال وهذا الحرص جعلنا نرفض طلبه ونرد عليه سؤاله ولذلك فإنه ما فسدت كثير من امور الحكم والولاية في كثير من البلاد إلا بسبب إعطاء الولاية لمن سألها فانبرى لها غير الكفاء وترأس من لا يستحق أن يكون رئيساً على زريبة بهائم , ولا تصلح أوضاع الحكم إلا إذا كانت مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة نبية - صلى الله عليه وسلم - على هدي سلف هذه الأمة واما أنظمة الكفار فإنها لا تزيد أمور الحكم إلافساداً وتعقيداً ولا تزال هذه البلاد- ولله الحمد والمنه- تستمد أساسيات حكمها ودساتيرها من الكتاب والسنه ولا ندعي الكمال فإن الكمال المطلق من تعالى والمقصود:- أن من سأل الولاية فإنه لا يعطاها لأنه يغلب على الظن أنه بسؤاله هذا لن يقوم باعبائها ولن يعان عليها بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث "وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها" وغلبة الظن كافية في العمل والله اعلم.(1/40)
الفرع الثاني والعشرون: في باب نواقض الوضوء قد قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن هناك ثلاثة نواقض من نواقض الوضوء مبناها على غلبة الظن وهي النوم المستغرق فإنه مظنه الحدث فعمل بهذه المظنه واعتمدت وجعل عليها علامة ظاهرة وهي النوم المستغرق فمن نام نوماً مستغرقاً فقد انتقض وضوءه لحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "العين وكاد السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاد" رواه أحمد والطبراني, وعن صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال :كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم" حديث صحيح , ومن ذلك أيضاً:- انتقاض الوضوء بمس الذكر بشهوة وبلا حائل فإن مبناه على المظنه فاعتمدت هذه المظنه لأن غلبة الظن كافية في العمل لأنه يغلب على الظن أنه بهذا المس يخرج منه شيء ولكن لماكانت هذه الحكمة خفية ربط الحكم بوصف ظاهر وهو مس الذكر بشهوة وبلا حائل لحديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنهما قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من مس ذكره فليتوضأ" حديث صحيح ولحديث أبي هريره - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أفضى بيدة إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء"حديث حسن صحيح.
وذهب بعض الفقهاء على قول مرجوح إلى أن مس المرأه بشهوة من جملة نواقض الوضوء وهذا أيضاً بنوه على غلبة الظن لكن هذا قول مرجوح لعدم الدليل, بل ورد الدليل بخلافة وليس هذا موضع ذكره التفصيل في هذه المسأله لأننا قد ذكرناه في موضوع آخر, والمقصود أن هذه النواقض إنما كانت ناقضة لأنه يغلب على الظن خروج الخارج بها من حيث لا يشعر به العبد وغلبة الظن كافية في العمل والله أعلم.(1/41)
الفرع الثالث والعشرون:- لما كان معرفة الواجب في الثماروالحبوب التي تجب فيها الزكاة على وجه اليقين القطعي متعذراً وشاقاً اكتفى الشارع في إخراج الواجب منها بطريقة الخرص وهو أن يأتي العارف بذلك ويلقي نظرة على النخيل وثمارها وعلى الأرض وسعتها وزرعها ثم يقدر الواجب فيها تقديراً يسمى بالخرص ويقول لصاحب النخيل :الواجب عليك في نخلك كذا وكذا ويقول لصاحب الزرع الواجب عليك في زرعك كذا وكذا, وهو قد بنى على غلبة ظنه, واكتفت الشريعة بذلك لأن اليقين في مثل ذلك متعذر وشاق فانتقلنا إلى بدله لأنه إذا تعذر الأصل يصادر إلى البدل وغلبة الظن كافية في التعبد وغيره والله أعلم.(1/42)
الفرع الرابع والعشرون:- أقول:القول الصحيح المؤيد بالدليل هو جواز تأخير الصلاة عن أول وقتها وتأخير قضاء الصوم عن اول وقته إلا أن المبادرة بذلك هي الأفضل لكن القول بجواز التأخير مشروط بغلبة الظن فمن غلب على ظنه وجد المانع من الأداء أو القضاء فإنه يتعين علية الفعل الآن, ولا يجوز في حقه التأخير كالمرأة التي تعلم أن حيضها سينزل عليها في وسط وقت الصلاة فإنها يجب عليها أن تؤدي الصلاة في أول الوقت لأن غلبة الظن كافية في العمل, وكالمريض الذي ستجرى له عملية في أثناء الوقت فإنه يجب علية أن يؤدي الصلاة في أول الوقت لأن غلبة الظن كافية في العمل,وكمريض الكلى الذي ستجري له عملية تنظيف الكلى وهي عملية تستغرق وقتاَ طويلاً فإذا دخل علية الوقت قبل إجرائها فيجب علية وجوب عين أن يؤدي الصلاة في أول وقتها لأن غلبة الظن كافية في العمل, وكالطبيب الذي سيجري عملية تستغرق علية الوقت إلا قليلاً من أوله فإنه يجب عليه المبادرة بأداء الصلاة في أول وقتها لأنه يغلب على الظن حال العملية انه لا يستطيع أداءالصلاة في وقتها فتجب عليه المبادرة لأدائها حال دخول وقتها لأن غلبة الظن كافية في العمل وكمن استفاق من إغماء في اول الوقت ويغلب على ظنه معاودة الاغماء له في أثنائه فإنه يجب عليه أداء الصلاة في أول وقتها أي حال ما يفيق من الأغماء لأن غلبة الظن كافية في العمل , وكمن أراد عملاً من الأعمال في أثناء وقت الصلاة ويغلب على ظنه أنه ان ابتدأ فيه أنه سينشغل به عن الصلاة فإنه لا يجوز له والحالة هذه أن يترخص بجواز التأخير بل تجب عليه المبادرةالآن بأداء الصلاة لأن غلبة الظن كافية في العمل .(1/43)
وكمن يغلب على ظنه بعد دخول وقت الصلاة أنه إن نام أنه لا يستيقظ إلا بعد خروج الوقت فإنه تجب علية المبادرة الآن لأداء الصلاة ولا يجوز له أن يقول:- يجوز لي التأخير لأن جواز التأخيرمشروط بغلبة ظن الأداء في الوقت, وهذا يغلب على ظنه عدم الأداء فيجب في حقه أداء الصلاة الآن في اول وقتها لأن غلبة الظن كافية في العمل, وعلى ذلك فقس والله اعلم .
الفرع الخامس والعشرون:- لقد تقرران تعليم العلم واجب وان كتمة محرم ففي الحديث "من كتم علماً الجمة الله بلجام من نار"وقال تعالى( وإذأخذالله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه ... الآيه.لكن من غلب على ظنه في شيء من العلم أن في إظهاره الآن مفسدة أعلى من المصلحة المرجوة في تعليمة فإن الحكمة السكوت عنه وتأخير إبلاغة إلى وقت آخر فليس كل ما يعلم يقال فليس تعليم العلم فتل عضلات ولا صراخ,بل هو تحقيق للمصالح ودرء للمفاسد فمتى غلب على الظن أن في تعليمه شيئاً من المفاسد التي تربوا على مصلحة تعليمية فاسكت عنه إلى حين آخر وليس هذا السكوت من الكتم المنهي عنه بل هو مأمور به لأن الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ,ودليل ذلك ما في الصحيحين من حديث معاذ - رضي الله عنه - قال"كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال يامعاذ أتدري ما حق الله على العباد وماحق العباد على الله؟قلت الله ورسوله أعلم .(1/44)
قال :فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لايعذب من لا يشرك به شيئاً"قلت يارسول الله أفلا أبشر الناس, قال "لاتبشرهم فيتكلوا" وهذا واضح في دلالته فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى معاذاً أن ينقل للناس ذلك النوع من العلم لأنه غلب على ظنه ان الناس إن سمعوا ذلك فإنهم سيتواكلون عليه ويدعون العمل ولأنه لن يفوت بالسكوت عنه شيء لأن هذه الفضيله ثابته من حق من قام بشرطها حق القيام سواءاً علمها أولم يعلمها ولذلك أخذنا من هذا قاعدة مفيدة ونصها يقول:-(لكل مقام مقال وليس كل ما يعلم يقال) ويدل عليه ايضاً حديث أنس في المتفق علية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذاً رديفة على الرحل قال :يامعاذ بن جبل ,قال لبيك يارسول الله وسعديك- ثلاثاً- ثم قال "مامن أحد يشهدان لاإله إلاالله وأن محمد رسول الله إلا حرمه على النار" قلت يارسول الله أفلا أخبر به الناس فيبشروا؟ قال:إذاً يتكلوا,فأخبربها معاذ عند موته تأثماً,أي خروج من إثم الكتم,وفي صجيج البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :-حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائين من العلم ’أما أحدهما فبثثته منكم وانا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم أي مجرى الطعام فهذا هو عين الحكمة والمصلحة وياليتنا نفقه هذا الأدب .(1/45)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا أبا هريره- وأعطاني نعليه – إذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لاإله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة"فكان أول من لقيت عمر,فقال :-ماهاتان النعلان ياأبا هريرة قلت:هاتان نعلا رسول الله بعثني بعثهن من لقيت يشهد أن لاإله إلا الله بشرته بالجنة ,قال :-فضرب عمر بين ثديي ضربة خررت لإستي فقال:-ارجع ياأبا هريره فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهشت بكاءً فقال:-" مالك ياأباهريره "فأخبرته بالخبر,فركبني عمر فإذا هو على أثري فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ياعمر ماحملك على مافعلت فقال : بأبي أنت وأمي يارسول الله أبعثت أباهريره بنعليك من لقي يشهدأن لاإله إلا الله مستيقناًبها قلبه بشره بالجنة؟ قال :"أجل"قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فخلهم " وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريره مرفوعاً" كفى بالمرء كذباًأن يحدث بكل مايسمع" وقال ابن مسعود"ماأنت بمحدثٍ قوماً حديثا ًلا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنه" وقال مالك" اعلم أنه ليس يسلم أحد يحدث بكل ما سمع ولا يكون إماماً أبداً وهو يحدث بكل ماسمع" والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسكت عن بعض ما يعلمه لتسقيم أمور العامة ويسعون فيما يعود عليهم بالنفع فثبت عنه أنه قال "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى "وبالجملة فأدلة هذه المسأله كثيرة لكن يجب أن أنبهك على أمر وهو أن مراعاة المصالح والمفاسد لا ينظر فيها إلى ما يغلب على ظن الجبناء الكسالى والمتهوكين وأهل الدعه والخمول والذين لا يريدون العمل للدين أصلاً فإنه لو فتح الباب لهؤلاء لماتحرك أحد للدين وما أكثرهم في هذا الزمان لاكثرهم الله تعالى فإنه ما إن يفتح أحد درساً(1/46)
أو يمشي في طريق دعوة من توزيع كتاب أو شريط نافع أو يكتب مقالاً نافعاً في أحد زوايا المجلات والجرائد إلا طفقوا يطرقون بابه ناصحين ومحذرين من مغبة ذلك وأنه من العجلة وأن الأسلم الترك وأن المصلحة تقتضي التوقف فإياك ثم إياك أن تجعل مناط هذه القاعدة راجعاً لفهم هؤلآء,بل لا بد فيها من الاجتهاد وتحقيق النظر في الوقائع والأحوال وهذا إنما يفهمه أهل الرسوخ في العلم .وهم قليل ولكن الله تعالى يبارك في كلمتهم وتوجيههم حتى إن الواحد منهم ليوجه أمة كاملة من الناس وأماالغوغائيون وأهل الإرجاف في المدينة فدعك منهم عصم الله الأمة من فهمهم الفاسد ولاحو لولاقوة إلا بالله ,
والمقصود:-أن غلبة الظن بوجود مفاسد في إبلاغ شيءمن العلم تجعل العاقل يقف عن إبلاغه إلى حين آخر لأن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم .(1/47)
الفرع السادس والعشرون:- في الصححين من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - :- نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدوصلاحها,نهى البائع والمبتاع "وفي رواية لمسلم"نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة"وعن أبي أنس - رضي الله عنه - قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تزهي,قيل وما تزهي؟ قال "حتى تحمر" متفق عليه. فهذا فيه دليل على أنه لا يجوز بيع التمر ولا الحب إلا بعد بدو صلاحه جاز بيعه ولكن لما كان معرفة بدو الصلاح في كل ثمرة أو سنبلة بعينها مما يتعذر تيقنه" اكتفى الشارع ببدو صلاح بعض الشجرلأنه يغلب على الظن أنه إن بدا صلاح بعض الشجر ذهبت العاهه عن كل جنس ذلك الشجر ولأن صلاح الشجر يتعاقب والفرق مدته يسيرة,فلذلك:- فالقول الراجح أن صلاح بعض النخل صلاح لكل النخل الذي في البستان وصلاح بعض السنبل صلاح لكل السنبل الذي في المزرعه ذلك لأنه لما تعذر تيقن صلاح كل شجرة بعينها وكل سنبلة بعينها انتقلنا إلى البدل وهو غلبة الظن ذلك لأن غلبة الظن كافية في العمل, وشيخ الاسلام ذهب إلى أبعد من هذا وذلك أنه يختار أن صلاح شجر بعض البستان صلاح لكل البستان سواء أكان من جنس الذي بدا صلاحه أولا وكل ذلك مبني على غلبة الظن لأن غلبة الظن كافية هنا,فالأصل يقين الصلاح لكن لما تعذر انتقلنا إلى بدله وهوغلبة الظن لأنه إذا تعذر يصار إلى البدل وغلبة الظن منزلته منزلة اليقين وهي كافية في العمل والله أعلم .(1/48)
الفرع السابع والعشرون:- قال تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى" وقال عليه الصلاة والسلام "وكونوا عباد الله إخوانا " وقال علية الصلاة والسلام " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخية"فهذه الأدلة تفيدك استحباب قبول الوديعة فإذا احتاج أخوك أن يودعك شيئاً فيستحب لك أن تقبلها من باب الإعانه له إلا أن هذا القبول مشروط بغلبة الظن أنك ستقوم بحفظها له حتى يطلبها منك لكن متى ما غلب على ظنك أنك لن تقوم بالحقوق الواجبة عليك في حفظها وغلب على ظنك من نفسك عدم القدرة على ذلك فلا تقبلها ولا تكون بذلك الترك تاركاً للأدلة لأن القبول مشروط بغلبة ظنك أنك تحفظها فكم من وديعة فرط المودع بحفظها فعاد حب النفع عليه هماً وغماً وعاد يلوم نفسه على قبولها وكم من قضية في المحاكم بسبب ذلك فلا بد من مراعاة هذه القاعدة حال عرض الوديعة عليك فإن غلب على ظنك حفظها فأهلاً وسهلاً وإن غلب على ظنك خلاف ذلك فالترك أسلم والسلامة لا يعد لها شيء فلأن تترك الأمر المستحب خوفاً من الوقوع في الحرام خير لك من ان تقتحم الحرام مراعاة لتحقيق أمر مستحب كمن يزاحم عند الحجر يريد تقبيله فيضرب هذا ويلكم هذا ويشاتم هذا ويؤذي هذا ويفتل قواه وعضلاته على إخوانه من أجل أمر مستحب فأي فقه هذا؟بل أي عقل هذا ؟وهذا كله مبني على غلبة الظن وبناءً علية فقبول الوديعة مستحب في حق من غلب على ظنه مراعاتها والقيام بالحقوق الواجبة فيها وأما من غلب على ظنه خلافة فالمستحب الترك,وغلبة الظن كافية هنا لأن غلبة الظن منزلة منزله اليقين ,وغلبة الظن كافية في التعبد وغيره والله أعلم.(1/49)
الفرع الثامن والعشرون:- قال بعض الفقهاء:- من افطر شاكاً في غروب الشمس فعلية القضاء, ومن أفطر ظاناً غروب الشمس فلا قضاء علية, قلت:-وهو الراجح وذلك لحديث أسماء عند البخاري قالت أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم طلعت الشمس"ولم تذكر القضاء ففطرهم هذا كان عن غلبة ظن بغروب الشمس ولأن العمل بغلبة الظن كافً, لكن يلزمة الإمساك حتى تغرب الشمس يقيناً, ولا شيء علية فلا قضاء ولا كفارة وأما من تردعنده الأمر ولم يترجح عنده شيء فالأمر لا يزال عنده في دائرة الشك فأفطر بذلك فعلية القضاء لأنه عمل بالشك والعمل بالشك لاغِ , بل كان الواجب علية أن يعمل بالأصل وهو بقاء النهارلأن الأصل بقاء ماكان على ماكان, فبينهما فرق ولا شك فالأولون عملوا بغلبة الظن والعمل بغلبة الظن كافٍ, وغلبة الظن منزله منزلة اليقين والآخرون عملوا بالشك والأصل عدم العمل بالشك وهذا الفرع يصلح أن يكون داخلاً تحت قاعدة المتفق والمفترق في مسائل الفقه وهي مسائل فقهيه يظهر منها الاتفاق لتقارب صورها ولكن أحكامها الشرعية تختلف , وهذه المسأله منها, ومرجعها في ذلك كتاب الفروق للقرافي فما أعظمة من كتاب لمن فهمه وعرف كيف التعامل معه وفي الذهن أن أكتب فيه ولكن الصوارف كثيرة, وللشيخ السعدي مشاركة فيه لطيفة محررة , فجزى الله أهل العلم خير الجزاء ورفع نزلهم في الجنة وجمعنا بهم وحشرنا في زمرتهم والله أعلم.(1/50)
الفرع التاسع والعشرون:- أقول:- لقد قرر أهل الفقه رحمهم الله تعالى أن المريض مرضاً مخوفاً لا يقع طلاقة ولا عتاقه وذلك لأنه يغلب على الظن بأنه بهذا الطلاق يريد حرمان زوجته من الميراث فعومل بنقيض قصده, فلم يقع طلاقه في هذه الحال ولو طلق ألف طلقه, وكذلك عتقه لأحد من عبيده فإنه لا يقع لأنه يغلب على الظن في تعرفه هذا أنه يريد حرمان ورثته من هذا المال, فمنع الفقهاء من نفوذ هذا الطلاق والعتاق مبني على غلبة الظن وغلبة الظن كافية في العمل ونحن لانجزم جزماً يعلم ويقيد أنه يريد ذلك لكن يغلب على ظننا أنه لما أخر الطلاق والعتاق إلى حدوث هذا المرض المخوف أنه يريد بذلك المضاره فحفاظاً على حق المرأة في الميراث وحفاظاً على حق الورثة في المال حتى لا يضيع عليهم منع الفقهاء رحمهم الله تعالى من نفوذ هذا التصرف, والمانع منه هو غلبة الظن والأصل أن تصرف الإنسان في ماله صحيح والأصل أن طلاقه واقع لكن في هذه الحال بخصوصها نمنع منه ونعده لغواً ولا ينفذ منه شيء إعمالاً لغلبة الظن لأن غلبة الظن كافية في التعبد وغيره والله أعلم.
الفرع الثلاثون:- لقد تقرر بالدليل أن الميته يحرم أكلها كما قال تعالى( حرمت عليكم الميته) وقال تعالى"إلا أن يكون ميته" وهذا بالاتفاق ولكن يجوز للمظطرالذي بلغ به الجوع حد الهلاك أن يأكل منها ماتندفع به ضرورته فإذا أكل منها ما تندفع به الضرورة عاد حكمها كما كان وهو التحريم, ولكن هل يجوزله أن يحمل منها شيئا؟ً(1/51)
الجواب:أن ذلك يختلف بغلبة الظن فإن غلب على ظنه أنه لا يجدشيئاً من المأكول الحلال في طريقة وأنه سيعود له وصف الضرورة مرة أخرى فإنه يجوزله في هذه الحالة أن يحمل منها القدرالذي يغلب على ظنه اندفاع ضرورته الجديدة به ويبقى ذلك القدرمعه , ولا يأكل منه شيئاً حتى يتصف بوصف المضطر, وذلك داخل في عموم قوله تعالى [ إلاما اضطررتم إليه] فلا نقول : يأكل قدراً زائداً على ضرورته لأنه بذلك يرتكب مفسدة متحققه من أجل مفسدة متوهمه, ولانقول: يدع الأكل ولا يحمل معه شيئاً لأنه بذلك قد يعود له وصف الضرورة ولا يجد شيئاً في طريقة من المأكول الحلال فتتلف نفسه ولكن نقول:- إن غلب على ظنه عدم وجود شيء في طريقة من المأكول الحلال فيجوزله أن يحمل من الميته بالقدر الذي يغلب على ظنه اندفاع ضرورته به فإن وجد الحلال أكله وألقى مامعه من الميته وإن عاد له وصف الضرورة فإن مامعه من الميته يكون في حقه حلالاً فيأكل منه القدر الذي تندفع به ضرورته وهكذا , حتى يجد بديلاً حلالاً وكل ذلك عملاً بغلبة الظن ومراعاة لحفظ النفس فإن حفظها من المقاصد الضرورية في هذه الشريعة وغلبة الظن كافية في العمل والله أعلم .(1/52)
الفرع الحادي والثلاثون:- قال صاحب زاد المستنقع في باب اللقطة :-وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك وإلا فهو كغاصب( وهذا الصريح منه رحمه الله تعالى أن الالتقاط يختلف حكمة في حق اللاقط باختلاف مايغلب على ظنه في نفسه فإن غلب على ظنه أنه يقوم بما أوجب الله عليه في هذه اللقطه من تعريفها والقيام بشؤونها حتى يجد ربها فيستحب له حينئذ أن يلتقطها وام إن غلب على ظنه أنه لن يقوم بما أوجب عليه الشارع فيها فالمستحب تركها فإن خالف والتقطها مع ظنه أنه لن يقوم بذلك وانه لا يأمن نفسه على ذلك فإنه منزل منزلة الغاصب, أي هو ضامن مطلقاً وهوآثم في هذا الأخذ فأنظر كيف اختلف بالاستحباب وعدمه بالنظر في غلبة الظن فالأصل أن التقاط المال الضائع وحفظه لصاحبه مستحب لكن لمن أمن نفسه من كتمانها وغلب على ظنه القيام بحقوقها الشرعية من التعريف وغيره وهذا الآن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم .
الفرع الثاني والثلاثون:- لا شك أن الزواج بثانية مشروط بالقدرة على العدل في الظاهرأي في النفقة والمسكن والكسوة ونحوها من أمور الظاهر لقوله تعالى:{ فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} وهذا الخوف ليس من شروطه العلم اليقين وإنما يكفي فيه غلبة الظن فمنغلب على ظنه أنه إن عدّد فإنه لن يعدل فإن الزواج الآخر في حقه محرم. لأن الزواج الآخر مشروط بالعدل وهذا يغلب على ظنه أنه لن يعدل وغلبة الظن كافية في العمل, والله أعلم.(1/53)
الفرع الثالث والثلاثون:- إذا غلب على ظن المرأة أنها لن تقوم بحقوق زوجها بسبب كراهتها له إما لخلقة أو لوصفه ونحو ذلك فإنها يجوزلها والحالة هذه أن تختلع منه, مع أن الأصل أن المراة لا يجوزلها طلب الفرقة’ لكن بقاؤها معه والحالة هذه فيها ضررعليها وعليه وعلى البيت بأكمله فيجوزلها طلب الاختلاع منه برد ما دفعه أو بمايقضي به الحاكم, وعليه حديث أبن عباس - رضي الله عنه - أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت:- يارسول الله ثابت بن قيس ماأعقب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أتردين عليه حديقته؟ قالت :نعم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري, لكن إن غلب على ظنها القيام بالواجب عليها تجاهه فلا يجوز لها ذلك فمدار الجواز على غلبة الظن لأن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم.
الفرع الرابع والثلاثون:- القول الصحيح والرأي الراجح المليح أن من حلف على شيء وهو يغلب على ظنه صدق نفسه فيه ثم باب بخلافه ,أنه لا شيء عليه ,أي لا أثم ولا كفارة لأنه إنما حلف على غلبة ظن يصدق نفسه وإختاره الشيخ تقي الدين وهو الحق في هذه المسألة لأن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم.
الفرع الخامس والثلاثون:- المتقرر بالدليل هو جواز النظر إلى المخطوبة سواءً علمت أولم تعلم ,إلا أن جواز النظرلها مبني على ظنه أنه يجاب لطلبه فله حق النظر وأما من علم من حاله أنه لن يجاب إلى ماطلب فلا يجوز له حينئذ النظرفإن بنات الناس ليست لعبة في يد البطالين ولصوص الفضيلة فليتق العبد ربه في أعراض المسلمين فإن له عرضاً كما أن للناس أعراضاً واختاره الشيخ تقي الدين. والله أعلم.(1/54)
الفرع السادس والثلاثون:- لقد ثبتت الأدلة أن إذن البكر الصمت بعدالعرض عليها فهذا الصمت منزلة القبول لحديث"وإذنها صمتها"وفي لفظ "أن تسكت" فإنه يغلب على الظن أن سكوتها هذا سببه الموافقة ولكنها لم تصرح به لحيائها ولأنها لم تعتد ذلك , فالبكر حياؤها من هذه المسائل شديد,فلو طلب من البكر أن تصرح بالموافقة لفظاً لشق ذلك ولتعطل كثير من مصالح الأبكار في النكاح, لكن يكتفي منها بما يغلب على الظن معه أنها قبلت وهو الصمت بعد العرض عليها لأن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم.
الفرع السابع والثلاثون:- القول الصحيح هو أن النكاح يجب إذا توافر شرطان: القدرة المالية وأن يغلب على ظنه خوف الوقوع في العنت,فمن غلب على ظنه مع القدرة المالية أنه إن ترك النكاح أنه يقع في الزنا فإن النكاح يكون واجباً عليه حينئذ وإلا فهو سنة في حق القادر الذي لا يخاف على نفسه العنت وذلك لأن غلبة الظن كافِ في العمل والله أعلم.
الفرع الثامن والثلاثون:- الأصل حرمة تمني الموت لحديث"لايتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ... الحديث. لكن إذا حصلت الفتنه وخاف العبد فيها أن يفتن في دينه وغلب على ظنه أنه يفتن فيها فيجوز له ذلك لحديث"وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" وعليه قوله تعالى عن مريم - رضي الله عنه - ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً والله أعلم.
الفرع التاسع والثلاثون :- ثبت في صحيح مسلم في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد (وهذا إنما يفيد غلبة الظن) واكتفى - صلى الله عليه وسلم - بذلك لأن غلب الظن كافية في العمل ولا دخل لنا في من خالف ذلك لأن الأصل أن أوال العلماء تابعه لدليل لا العكس والله أعلم .(1/55)
الفرع الأربعون:- من وقع في معصية أو بدعة لا توجب كثره, فإنه يناصح ويزجر عنها بما يردعه عن الاستمرار فيها ومن أنواع الزجر: الزجر بالهجركما قرره أهل العلم رحمهم الله تعالى لكن هذا الرادع لابد فيه من مراعاه غلبة الظن , فإن غلب على الظن أن هذا العاصي أو هذا المبتدع الذي لا يكفر ببدعته أنه يرتدع ويتوب منها بالهجر فإن الواجب هجره بالقدر الذي تحصل به المصلحة وتندفع به المضره ولكن إن غلب الظن أنه لا يرتدع بالهجر فالواجب الاستمرار في مناصحته والإنكار عليه بالطرق الشرعية ولايهجر لأن الأصل أن هجر المسلم فوق ثلاثة لا يجوز إلا إذا كان محققاً للمصلحة الشرعية وهنا يغلب على الظن أنه بالهجر له يرتدع بل قد يزداد في بعده ونفوره وبدعته أو معصيته فهذا لا يهجر لأن الهجر مشروط بما ذكرته لك, وهذا جارٍعلى غلبة الظن لأن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم.(1/56)
الفرع الحادي والأربعون:- لا شك أن الوقت من شروط صحة الصلاة فلا يجوز للعبد أن يدخل في الصلاة إلا بعد دخول وقت الصلاة لكن هل يجب عليه أن يتيقن دخول الوقت أم يكفي في ذلك غلبة الظن ؟ والجواب أن هذا الفرع جار على هذه القاعدة وهوغلبه الظن بدخول الوقت كافية فمن غلب على ظنه أن وقت الصلاة دخل فليصل تقبل الله منا ومنه ولا يلزم أن يصل بالمعرفة إلى حد اليقين لأن هذا مما يصعب وهذا هو المراد بقول صاحب الزاد (ولايصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها) وبناءً عليه, فلا يجوز له البدء في الصلاة بمجرد الشك في دخول الةقت ولا يلزمة يقين دخول الوقت وإنما يكفيه غلبة الظن فقط, فإن أحرم بالصلاةعن غلبة ظن بدخول وقتها كفاه ذلك فإن بان بعد ذلك بيقين أنه أحرم قبل الوقت فإن صلاته هذه صحيحه لكنها تكون نفلاً,ولذلك قال الفقهاء:(فإن أحرم باجتهاد فبان قبله فهي نفل)أي صلاته صحيحة ولكنها لا تكون في حقه فرض لأن الفرض من شروطه الوقت لكنها تنقلب نفلاً فيثاب عليها ثواب النفل فالدخول في الصلاة يكفي فيه غلبة الظن بدخول الوقت لأن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم.
الفرع الثاني والأربعون:- إذا حصل في الصلاة شك فكيف يكون سجودالسهو؟ والجواب أن سجود السهو يختلف مكانه باختلاف الحالة التي بنى عليها المصلي, فالواجب عليه أولاً أن ينظر فيما يغلب على ظنه فإن غلب على ظنه شيء فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد للسهو,وعليه حديث ابن مسعود وفيه" فإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد) متفق عليه.(1/57)
وأما إذا لم يكن عنده غلبة ظن فإنه يبني على الأقل ويسجد للسهو قبل السلام وعليه حديث أبي سعيد وفيه[[فليطرح الشك وليبين على مااستيقن ... الحديث" رواه مسلم,ولذلك فإن الفقهاء رحمهم الله تعالى ذكروا في ذلك ضابطاً مفيداً لابد من حفظه ونصه يقول :( سجود البناء على الظن الغالب بعد السلام وسجود البناء على الأقل قبل السلام) وقد شرحته بأدلته وفروعه في ضوابط سجود السهو, فغلبة الظن إذا تحققت فليعمل بها المصلي وسجودها بعد السلام لأن غلبة الظن كافية في العمل .
الفرع الثالث والأربعون:- اختار أبو العباس رحمه الله تعالى أن من اشترى جارية و كان بائعها الأول معلوم الأمانة ومشهور الثقه وصادق اللهجة ولم يعهد عليه كذب, وقال لم أطأها, فإن المشتري لايلزمه استبراء هذه الأمه بحيضه ليتأكد من خلو رحمها من حمل, وذلك من العمل بغلبة الظن ,لأن غلبة الظن كافية في العمل وخبر بائعها الذي يتصف بهذه الصفات يوجب عند مشتريها غلبة ظن أن رحمها لا شيء فيه من الولد فيكفيه ذلك فإن وطئها مباشرة وبعد شرائها ولم يستبرئها بحيضة بناءً منه على غلبة الظن بصدق خبر بائعها فلا شيء عليه والحالة هذه لأن غلبة الظن منزلة منزلة اليقين وهي كافية في العمل والله أعلم.(1/58)
الفرع الرابع والأربعون:- في حديث لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" حديث صحيح , فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالمبالغة في الاستنشاق ولكنه استثنى حالة واحدة وهي فيما إذا كان صائماً وذلك عملاً بغلبة الظن لأنه يغلب على الظن أن الصائم إذا بالغ في المضمضة وبالغ في الاستنشاق أنه يتسرب إلى جوفه شيء من الماء فيكون ذلك سبباً لفساد صومه, فسد الشارع هذه المظنه ونهاه عن المبالغة في حالة كونه صائماً عملاً منه بغلبة الظن لأن غلبة الظن كافية في العمل فغلبة الظن قلبت حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق من كونها مستحبة إلى كونها مكروهه في حق الصائم فقط لأن غلبة الظن منزلته منزلة اليقين وفيه دليل على أن كل ما يغلب على ظن الصائم باستخدامه أنه يفسد صومه فهو ممنوع منه والله أعلم.
الفرع الخامس والأربعون:- من نذر أن يصوم أياماً فنسي عددها فما الواجب عليه؟ أقول الواجب عليه أن يصوم من الأيام ما يغلب على ظنه بصيامه أنه أدى مانذره,فإذا صام ذلك المقدار وغلب على ظنه أنه وفىالنذر الذي في ذمته كفاه ذلك ولا يطلب منه أن يتيقن براءة الذمة لأن ذلك قد يعسر, فيكتفى منه بغلبة الظن فإذا كان يغلب على ظنه أنه نذر خمسة أيام أوستة أيام أو شهراً ونحو ذلك فليصم ما غلب على ظنه أنه هو الذي نذره ولا شيء عليه إلا ذلك لأن غلبة الظن منزلته منزلة اليقين وهي كافية في التعبد وغيره,والله أعلم.(1/59)
الفرع السادس والأربعون:- عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكرالله فإن أمسك عليك فأدركته حيا ًفأذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله وإذا رميت بسهمك فاذكر الله فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثرسهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل "متفق عليه. فهذا الحديث يفرع قاعدتنا من عدة أوجه:-
الأول: أن الكلاب لا يجوزصيدها إلا إذا كانت معلمة وتعليمها بأن تسترسل إذا أرسلت وتقف إذا زجرت وأن لاتأكل من الصيد وهذه العلامات وضعها الفقهاء لأنه يغلب على الظن مع وجودها أن الكلب معلم ,وبناءً عليه فماصاده بعد هذه الغلبة فإنه حلال يجوزأكله ,لأن غلبة الظن كافية في العمل.
الثاني:- أن الإنسان إذا أرسل كلبه المعلم فوجد معه كلاباً أخرى فإنه لا يجوز له الأكل من هذا الصيدلأن وجود هذه الكلاب بجوار الصيد يُغلب على الظن أنها شاركته في الصيد فالمصيد لم يمت إلا بمعاونة هذه الكلاب لكلب وهو إنما سمى على كلبه ولم يسم على الكلاب الأخرى وهذه الغلبة جعلت الصيد حراماً لأن غلبة كافية في العمل.
الثالث:- أن من علامات التعليم في الكلابأن لا تأكل من الصيد بعد صيده وإنما تدعه لصاحبه ولكن إذا أكل منه الكلب بعد صيده فإن ذلك الأكل يغلب على ظننا أنه ليس من الكلاب المعلمة فيكون الصيد حراماً لأن غلبة الظن بعدم تعليمه كاف في تحريم هذا الصيد الذي صاده.(1/60)
الرابع:- أن الإنسان إذا رمى صيداً ثم غاب عنه فوجده ميتاً وليس في الصيد إلاأثر رميته هو فهوحلال فليأكله إن شاء لأن وجود الصيد ميتاً ولا أثر فيه إلا هذه الرمية فقط يجعل ظننا يغلب أنه إنما مات بسبب هذه الرمية فهو حلال لأن غلبة الظن كافية في العمل ,ويفهم منه أنه إذا وجد فيه أثر آخر غير رمية بهمه فإنه لا يحل لأن مااجتمع فيه مبيح وحاضر فإنه يغلب فيه جانب الحاضر.
الخامس:- أن الإنسان إذا رمى صيداً فغاب عنه ثم وجده غريقاً في الماء فإنه لا يحل له أكله لأن الماء سبب قوي لموت الطائرويجعل الظن يغلب أن هذا الصيد إنما مات بسبب سقوطه في الماء وهذا كافٍ في التحريم لأن غلبة الظن كافية في العمل والله أعلم.
الفرع السابع والأربعون:- اشترط الفقهاء رحمهم الله تعالى في جوازإجراء العمليات الجراحية أن يغلب على الظن نجاحها وسلامة النفس وذلك لأن غلبة الظن كافية في العمل وبناءً على هذا الشرط فإنه إن كان الذي يغلب على ظن الطبيب عدم نجاح هذه العملية فإنه لا يجوز له الإقدام على إجرائها والحالة هذه ,لأن ذلك فيه التسبب بإتلاف النفس البشرية التي جاءت الشريعة بحفظها بل عن حفظها من مقاصد الشريعة الضرورية فلا يجوز للأطباء الجراحين أن يقدموا على إجراء أي عملية جراحية إلا إذا غلب على ظنهم نجاحها فإذا غلب على الظن نجاحها فأهلاً وسهلاً, وإذا غلب على الظن عدم نجاحها فالواجب الترك, لأن غلبة الظن كافية في العمل ( والله أعلم) .(1/61)
الفرع الثامن والأربعون:- مسألة القسامة في الفقه الاسلامي فإن مبناها على غلبة الظن سواءً في الاثبات بالأيمان المتعددة أو إصدار الحكم بناءً على هذه الأيمان لأن أولياء الدم لم يروا الواقعة, وإنما بنوا أيمانهم على وجود العداوة الظاهرة بين المقتول وبين من حلفوا عليه أنه هو القاتل ,والشريعة أجازت هذه الأيمان مع أنها مبنية على غلبة الظن وذلك دليل على أن غلبة الظن كافية في العمل, وأن غلبة الظن منزلة منزلة اليقين ,ومستندها حديث عبد الله بن سهل وحويصة ومحيصة وهو مخرج في الصحيح .وليس المقصود ذكره وإنماالمقصود أن هذه الأيمان إثباتاً من أولياء المقتول أو نقصنا من الآخرين إنما مبناها على غلبة الظن وغلبة الظن كافية في العمل والله أعلم .
الفرع التاسع والأربعون:- إذا غلب على الظن طهارة ثياب المشركين وآنيتهم فإنه يجوز الانتفاع بها ولو بلا غسل سابق, لأن غلبة الظن في العمل , واذا غلب على(1/62)
الظن نجاستها فإنه لايجوز الا نتفاع بها إلا بعد رحضها بالماء وإنقائها غسلاً لأن غلبة الظن منزلة منزلة اليقين وهي كافية في العمل ,وأما إذا شك في نجاحها فالأصل هو البقاء على الأصل في الآنية والمتقرر فيها أن الأصل في الآنية الحل والإباحة والطهارة لأنها شيء من الأشياء وقد تقرر في القواعد أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة والطهارة , وعلى هذا القول تتآلف الأدلة الواردة في هذا الباب فالأدلة الدالة على جواز الانتفاع بها محمولة على الآنية والثياب التي علمت طهارتها أوغلب على الظن طهارتها والأدلة الآمرة بغسلها محمولة على الآنية التي علمت نجاستها أو غلب على الظن نجاستها وقد ذكرنا تفصيل الأدلة بأوسع من ذلك في كتابنا الأسئلة والأجوبه الفقهيه فغلبة الظن معتبره هنا طهارة ونجاسه فما غلب على الظن نجاسته فالواجب الكف عن الانتفاع به حتى يغسل وما غلب على الظن طهارته فإنه يجوزالانتفاع به ولو لم يغسل وما شك فيه فالأصل بقاؤه على الأصل وهو الحل والإباحة والطهارة وذلك لأن غلبة كافية في العمل والله أعلم.(1/63)
الفرع الخمسون:- وهو الأخير لأنني أظن أنني أطلت ولعل القاعدة بهذه الفروع قد اتضحت إن شاء الله تعالى.فأقول :-إذاغلب على ظن القاضي عدالة الشاهد جاز بناء الحكم على شهادته , فالمعتبرفي العدالة غلبة الظن ولا يشترط أن تكون معلومة علم اليقين فإن هذا مما يعسرجداً وتكليف القضاة بذلك من باب التكليف بما لا يطاق وإنما المعتبر فيها غلبة الظن فقط. وهو عدالة الظاهر , واما أمور الباطن فإنها من الغيب الذي لا يعله إلا الله تعالى ولا يكلف القاضي أن يكشف بواطن الناس ويختبرهم في سرائرهم وبناءً عليه فإذا جاء الشهود لمجلس الحكم وغلب على ظن القاضي عدالتهم لما يراه من ظاهرهم أو بتزكية أهل الثقه لهم فإنه يعتمد ذلك ويكفيه ذلك لبناء الحكم على هذه الشهادة من الشاهد الذي يغلب على الظن عدالته, وقلنا ذلك لأن غلبة الظن كافية في العمل, وبهذا الفرع تتم هذه الرسالة المصغره والتي رجوت بها أيضاح أهمية هذه القاعده فأسألة جل وعلا أن يرفع نزل العُلماء وأن يجزيهم الأجر والمثوبة و أن يجزيهم خيرَ فأجزى عالماً عن أمته وأن يرحم أمواتهم ويثبت أحياءهم وأن لا يحرمنا بركة الانتفاع بعلمهم وهديهم , واسأله جل وعلا أن ينفع بهذه الوريقات اليسيرة النفع العام والخاص وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام ويجعلها مرجعاً لمن أراد التعرف على هذه القاعده كما أشهده جل وعلا وأشهد من حضرني من عباده أنها وقف له جل وعلا على عموم المسلمين وانه لا يحتفظ بحقوق طبعها بل هي من العلم المبذول مجاناً إذ لا فضل لي فيها وإنما الفضل كله أوله وآخره وسره وعلانيته لله جل وعلا أولاً وآخراً ثم لأهل العلم رحمهم الله تعالى وإنما مهمتي فيها الجمع والترتيب فقط فلا حول ولا قوة إلا بالله جل وعلا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/64)