رسالة
في بيان
وسطية أهل السنة
...
تأليف
وليد بن راشد السعيدان
{ وبه أستعين }
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:-
فهذه رسالة مختصرة تتضمن الكلام على قاعدة من القواعد المعتمدة المعتبرة عند أهل السنة والجماعة, وهي قاعدة الوسطية أبين فيها الأدلة والفروع بالعبارة اليسيرة المختصرة إن شاء الله تعالى, فإن هذه القاعدة هي التي ينبغي أن يسير عليها كل من رام النجاة والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة, ولأن الوقت ضيق فأكتب فيها ما حضرني وما وفقني له ربي جلَّ وعلا وقد ذكرت طرفاً كبيراً منها في كتابي( القواعد المذاعة) وكتابي( إتحاف أهل الألباب) ولكن أذكرها هنا بأوسع مما هنالك وأجمع شتات فروعها تحت أصل واحد والله المسئول أن يوفقني لإتمامه كما وفقني للبدء فيه, فإنه وحده المنعم المتفضل بالنعم العظيمة والآلآء الجسيمة وسميت هذه الوريقات بـ(رسالة في بيان وسطية أهل السنة في أبواب الاعتقاد) فالله أسأل أن ينفع به ويبارك فيه ويجعله عملاً صالحاً متقبلاً, وكعادتنا في الكتابة, فنكتب الأصل المراد شرحه أولاً ثم نشرحه إفراداً وإجمالاً ثم نستدل عليه بما نقدر عليه ويوفقنا الله له من الأدلة ثم نذيله بذكر الفروع المخرجة عليه, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل وإلى المقصود والله المستعان وعليه وحده التكلان.
أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الأمة
كوسطية الأمة بين الأمم
أقول:- اعلم- رحمك الله تعالى- ووفقنا وإياك لسلوك طريق العلم النافع المقرون بالعمل الصالح أن عندنا وسطيتين:-(1/1)
وسطية عامة ووسطية خاصة, والمراد بالوسطية العامة وسطية هذه الأمة الإسلامية- زادها الله شرفاً ورفعة- بين الأمم, أي بين الأمتين اليهود والنصارى فإنك إذا نظرت إلى عقائد وشرائع هذه الأمة المرحومة وجدتها متوسطة, فتجد أن إحدى الأمتين غلت في هذا الجانب, والأمة الأخرى فرطت في هذا الجانب, والأمة الإسلامية توسطت, وقد شهد الله تعالى في كتابه الكريم بأن هذه الأمة هي الأمة الوسط بين الأمم, فقال تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } فهذه الوسطية التي تتمتع بها هذه الأمة شيء جعله الله تعالى لها وهي صفة من صفاتها الراسخة الملازمة لها فلابد من المحافظة عليها, بل هي قوامها وشرفها وركنها الذي تقوم عليه وبه تميزت بين الأمم, وهذه الوسطية العامة هي التي من أجلها حسدتنا اليهود والنصارى فإنهم محرومون من هذه الوسطية ولا سبيل لهم إلى تحصيلها إلا بالإسلام فمهما فعلوا وقدَّروا وفكروا فإنهم لن يصلوا إلى هذه الوسطية لأن يد التحريف قد طالت كتبهم التي أنزلها الله لهم فاليهود قد حرفوا كثيراً من التوراة على ما يتوافق مع أهوائهم العفنة وأفهامهم المنتنة, وكذلك النصارى وأما هذه الأمة فإن حفظ كتابها لم يوكل إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل ولا إلى ولي صالح, بل الله تعالى هو تولى حفظه كما قال تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وهذه ميزة أخرى لهذه الأمة فسر هذه الوسطية هو توفيق الله تعالى ورحمته وهدايته لأحسن الشرائع وأقوم السبل وخير الرسل وخاتمهم وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء, وثمة ميزة أخرى وهو أن الله تعالى قد أكمل لهذه الأمة دينها كما قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } فوالله ثم والله لن يصلح حال البشرية إلا بالإسلام, وما حلت مصيبة ولا وقعت كارثة إلا بسبب البعد والتخلف عن ركائب الإسلام فنحن الأمة الوسط الخيار(1/2)
العدول الذين جعلنا الله تعالى شهداء على الأمم وجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - علينا شهيداً, فهذه الأمة آخر الأمم وأحبها وأكرمها على ربها جلَّ وعلا فكتابها خير كتاب ورسولها أفضل الأنبياء والرسل وشريعتها أخف الشرائع وأحسن الشرائع فلا آصار فيها ولا أغلال ولا إفراط ولا تفريط بل هو الوسط الذي لا لبس فيه ولا غموض, فالشريعة التي جاء بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه جلَّ وعلا قائمة على أصل العدل في الشرائع والعقائد, وهذا أصل يجب مراعاته, فإنه حق بين باطلين ووسط بين طرفين فلا جفاء ولا غلو ولا إفراط ولا تفريط وقد دلَّ على هذه الوسطية الأدلة المتواترة من الكتاب والسنة إما بالتنصيص عليها أو بالتحذير من أضدادها ونواقضها أو يمدح المتمسكين بها أو ببيان ثمراتها اليانعة المباركة كما ستراه بحول الله وقوته في سياق الأدلة على ذلك إن شاء الله تعالى, فهذا بالنسبة للوسطية العامة, وقد انبثقت من هذه الوسطية وسطية خاصة وهي وسطية أهل السنة والجماعة بين سائر الفرق المنتسبة لأمة الإسلام ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر في الحديث الذي يصح بمجموع طرقه أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ولو سيرت بالنظر الدقيق إلى غالب عقائد هذه الفرق لوجدتها قد انقسمت إلى ثلاث فرق, ففرقة أفرطت وتجاوزت الحد في هذا الاعتقاد, وفرقة فرطت وقصرت عن الواجب فيه, وفرقة واحدة فقط توسطت, وهذه الفرقة المتوسطة هم أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة وأهل الحديث والأثر والفرقة الناجية والسلف زماناً واعتقاداً هؤلاء هم الذين توسطوا في سائر أبواب الاعتقاد وسر هذه الوسطية هو توفيق الله تعالى لهم وهدايته وشرح صدورهم للحق بسبب تمسكهم بالكتاب والسنة وأخذهم بكل أطراف الأدلة واقتفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام حذو القذة بالقذة لايتقدمون عليهم بقول ولاعمل ولا يتأخرون عنهم(1/3)
باعتقادٍ فاسدٍ أوزلل فقد ساروا على ماسار عليه الأوائل وتمسكوا بما اقتضته جميع الدلائل فالمقدم عندهم هو النص لا الهوى, لأنهم علموا يقيناً أن من قدم الهوى فقد هوى, فلم يقدموا على النقل لاعقلاً ولا قياساً ولا رأياً ولا مذهباً ولا أي شيء, فلذلك فهم الوسط الخيار العدول, فوسطية أهل السنة وسطية خاصة وصغرى ووسطية الأمة وسيطة عامة وكبرى وكلا الوسطيتين يغذي بعضها بعضاً ويؤيد بعضها بعضاً ويساند بعضها بعضاً, لكن الوسطية العامة وسطية سابقة والوسطية الخاصة وسطية لاحقة وهما شرط في النجاة في الدنيا والآخرة فلا نجاة إلا لمن جاء بهما, فكما أن الأمة الإسلامية هي الوسط بين الأمم فكذلك أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الأمة, فالوسطية العامة هي الأصل والوسطية الخاصة هي الفرع, وكما أن أهل الوسطية العامة هم شهود على أعمال الأمم فكذلك أهل الوسطية الخاصة هم شهود على أعمال الفرق التي تنتسب للإسلام, بل وكل خصيصة ثبتت لأهل الوسطية العامة فإنها ثبتت من باب أولى لأهل الوسطية الخاصة, لأن الوسطية الخاصة لاتحصل إلا بتحصيل الوسطية العامة, لكن لايلزم أن من كان معدوداً من أهل الوسطية العامة يكون من أهل الوسطية الخاصة, وهذا واضح لمن تدبره حق تدبره, وليس هو بدعاً من القول, فإنك لونظرت في الإسلام والإيمان لوجدت أن كل مؤمن فهو مسلم وليس كل مسلم مؤمناً, فاجعل الإسلام هو الوسطية العامة واجعل الإيمان هو الوسطية الخاصة.(1/4)
وقارن بينهما, تجد مصداق ماذكرته لك, ذلك لأن الوسطية الخاصة تعتبر درجة أعلى من الوسطية العامة لأن العبد لايكون من أهل السنة إلا إذا كان مسلماً لكن ليس كل مسلم يلزم أن يكون من أهل السنة, وهذا لاأظن فيه مخالفاً, فمن كان كافراً فإنه يطالب بالوسطية العامة التي هي الإسلام, ومن كان مسلماً فإنه يطالب بالوسطية الخاصة التي هي الالتزام التام بمذاهب أهل السنة في سائر أبواب الاعتقاد, وكلما ازداد العبد ترقياً في تحقيق مراتب الدين من إسلام وإيمان وإحسان كلما ازداد حظه ونصيبه من الوسطية العامة وكلما ازداد العبد ترقياً في تعلم مذاهب أهل السنة علماً مقروناً بالعمل كلما ازداد حظه ونصيبه من الوسطية الخاصة فالإسلام ومذهب أهل السنة كأنهما دائرتان دائرة كبرى وبداخلها دائرة صغرى, فالدائرة الكبرى هي الإسلام وهو الوسطية العامة والدائرة الصغرىالتي بداخلها هو مذهب أهل السنة في أبواب الاعتقاد وهو الوسطية الصغرى, فصاحب الوسطية الصغرى جامع بين الوسطيتين- جعلنا الله وإياك من هؤلاء- وهم الأقلون في كل زمان ومكان, فإذا كانت الأمة فيمن سبقها من الأمم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود, فكيف بأهل السنة بالنسبة لفرق الأمة, لكن الجماعة ماوافق وإن كان وحدك { وقليل من عبادي الشكور } { وما آمن معه إلا قليل } والمقصود:- أن عندنا وسطيتين, عامة وخاصة والعامة نعني بها وسطية الأمة بين الأمم, والخاصة نعني بها وسطية أهل السنة بين فرق الأمة, وقد تقرر أن وسطية أهل السنة بين فرق هذه الأمة كوسطية الأمة بين الأمم.
فلابد من الإيمان بهاتين الوسطيتين والله أعلم.
فصل
أقول:- وقد دلَّ على هذه الوسطية الأدلة العامة والخاصة وهي كثيرة جداً ونذكر لك منها ما يحضرنا فأقول:-(1/5)
من الأدلة عليها:- قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } وقد شرحنا هذه الوسطية, فيما مضى, وبينا أنه دليل على الوسطية العامة من باب المطابقة وهو دليل على الوسطية الخاصة من باب التضمن, وقد دأب أهل السنة- رحمهم الله تعالى- على الاستدلال بهذه الآية على الوسطية الخاصة, إذا تكلموا عنها, فإذا كانت أمة الإجابة هي الأمة الوسط أي الخيار العدول في كل عقيدة وشريعة وأهل السنة هم خير أمة الإجابة وأفضلها على الإطلاق, فدخولهم في هذه الآية أولى من دخول غيرهم ممن عنده تغيير ونوع إلحاد في الأسماء أو الآيات, فهم أي أهل السنة يدخلون فيها دخولاً أولياً لأنهم المستمسكون بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - الاستمساك المطلق في العقائد والأعمال الباطنة والظاهرة, وهم المعتصمون بالكتاب والسنة, فهم أحق بهذه الوسطية من غيرهم, ولهم منها النصيب الأوفر والحظ الأسنى والمرتبة الرفيعة, فكيف لا تدل هذه الآية على وسطيتهم, وأنت خبير بأن السلف قد يستدلون أحياناً بالأكبر على الأصغر وبالعام على الخاص فقد روى ابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى في يد رجل خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وقد نزلت هذه الآية في الشرك الأكبر لكنه استدل بها هنا على مسألة من مسائل الشرك الأصغر, وكذلك مانحن بصدده الآية فإن هذه الآية يستدل بها في الأصل على الوسطية العامة لكنها تصلح أن تكون دليلاً أيضاً على الوسطية الخاصة.(1/6)
فأهل السنة قد سلكوا مسلك الوسطية في كل أبواب الدين فهم أسعد بهذه الوسطية من غيره ولهم منها النصيب الأكبر, وأما غيرهم من الفرق فإنما يمدح بما وافقهم فيه فقط, فأهل السنة- رحمهم الله تعالى- عندهم الوسطية المطلقة وأما غيرهم من الفرق فإن عندهم مطلق الوسطية فقط أي وسطية في بعض الأبواب فقط, وبعض الفرق ليس عندها من الوسطية الخاصة شيء أبداً, والمقصود:- أن هذه الآية من جملة دلائل القرآن على وسطية أهل السنة ومن أنكر ذلك فكأن عنده نوع قصور في الفهم عاملنا وإياه بعفوه ورحمته وحلمه ومغفرته والله أعلم.
ومن الأدلة أيضاً:- الاستقراء الشري الكامل التام لكل أبواب العقائد فإنه بعد الاستقراء تبين أن أهل السنة هم المتوسطون في كل أبواب العقيدة, بينما قد أخذ غيرهم بأحد المسلكين الضالين, إما الغلو وإما الجفاء وقد تقرر في الأصول أن الاستقراء الكامل دليل على صحة نتائجه, وقد نتج بعد هذا الاستقراء أن أهل السنة هم المتوسطون في كل الأبواب والآخذون بكل أطراف الأدلة والمتوافقون الموافقة الكاملة لما كان عليه سلفهم الصالح من الصحابة وتابعيهم, وسوف أذكر لك في قيد الفروع على هذه القاعدة إن شاء الله تعالى طرفاً كبيراً من هذا الاستقراء بحوله وقوته جلَّ وعلا حتى تقف على الأمر بنفسك ولاتظن أنه مجرد مبالغة أو قول بلا برهان والله المستعان.(1/7)
ومن الأدلة أيضاً:- حديث أنس - رضي الله عنه - قال:- جاء ثلاثة نفر إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته, فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها, فقالوا:- أين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد غفر الله له ماتقدم من ذنبه وماتأخر فقال أحدهم:- أنا أصلي الليل أبداً, وقال الآخر:- وأنا أصوم الدهر أبداً, وقال الآخر:- وأنا لاأتزوج النساء, فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم وقال(( أنتم الذين قلتم كذا وكذا, فوالله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له ولكن أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )) "متفق عليه" وهذا من الأحاديث العظيمة وهو قاعدة من قواعد هذه الشريعة المباركة- زادها الله شرفاً ورفعة- وهذه القاعدة تقول الشريعة مبناها على العدل في العقيدة والأحكام والعدل مظهر من مظاهر الوسطية العامة والخاصة, فهذه الشريعة مبنية على الوسط بل بعد أن قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المنهج قال(( فمن رغب عن سنتي فليس مني )) والمراد بالسنة هنا الطريقة فكأنه قال:- فمن أبى هذه الوسطية وانتقل عنها راغباً عنها إلى غيرها فليس هو منه أي ليس على منهجه وليس على صراطه المستقيم ومآله في النهاية إلى الانقطاع, وهذا مايفيده الحديث, فإذا كان هذا الكلام قد قيل في بيان الوسطية المتعلقة بمسائل العمل من صيام وصلاة, وفيما يخص الإنسان ومتعته مما يتعلق بمسألة الزواج فكيف بالله عليك يقال فيما يتعلق بمسائل العقائد التي تتعلق بالإيمان بالله تعالى فإذا كانت الوسطية مطلوبة في مثل ذلك فلأن تكون مطلوبة في مسائل الاعتقاد من باب أولى, وهذا أسلوب استدلال يسميه أهل الأصول الاستدلال بالأدنى على الأعلى, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين أهمية الوسطية في هذه المسائل المذكورة في الحديث, وحكم على المخالف فيها بأنه ليس منه, من باب التنبيه على أن ماكان أعلى منها فهو أحق بهذا القول ويدخل(1/8)
فيها من باب أولى, وهذه تربية منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته على وجوب سلوك الوسطية في كل الأشياء وأنها زمام أمان من كل شر, بل ماحصل انقطاع ولا غلو ولا جفاء إلا بمخالفة منهج الوسطية, وأنت خبير بأن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب, وأن المتقرر أن كل حكم ثبت في حق واحد من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص فكلامه هذا ليس مقصوراً على هؤلاء الشباب فقط, بل إن توجيهه - صلى الله عليه وسلم - العام وتصحيح ذلك المفهوم الخاطئ على المنبر دليل على إرادته أن يجعلها قضية عامة وتوجيهاً تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل وخلفاً بعد سلف.(1/9)
ومن الأدلة أيضاً:- حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال(( لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا:- عبد الله ورسوله))"متفق عليه" فهذا نهي عن الغلو في المديح ومجاوزة الحد فيه لأنه ذريعة إلى أن يفضي إلى الوقوع فيما وقع فيه النصارى فإن مبدأ وقوعهم إنما كان في الغلو ولذلك حذرنا الله تعالى من سلوك ذلك على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن المعلوم أن النهي عن الغلو والإطراء أمر بسلوك مسلك الوسطية, فلا إفراط ولا تفريط ولذلك قال(( فقولوا عبد الله ورسوله)) فقوله(عبدالله) يفيد أنه من جملة العبيد الذين لايملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً, وقوله(ورسوله) أمر بعدم الجفاء والتفريط, وهذا القول هو بعينه قول الأمة الوسط في جميع رسل الله تعالى فإننا نقول في كل واحد منهم(عبد الله ورسوله ) فلا إفراط ولا تفريط, وهذا أمر منه - صلى الله عليه وسلم - للأمة بأن تسلك في اعتقادها مسلك الوسطية, الذي هو طريق مستقيم بين هاويتين, وهدىً بين ضلالتين, وهو تربية منه - صلى الله عليه وسلم - للأمة جميعاً أن تأخذ بالوسطية في سائر شؤونها فإنها طريق النجاة وحزام الأمان الواقي من كل شر بإذن الله تعالى وقد ذكرت لك سابقاً أن كل دليل يدل على الوسطية العامة فإنه يصلح أن يكون دليلاً على الوسطية الخاصة.(1/10)
ومن الأدلة أيضاً:- مارواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجة والترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( غداة العقبة وهو على ناقته ألقط لي حصى )) فلقطت له سبع حصيات, هن حصى الخزف فجعل ينفضهن في كفه ويقول(( أمثال هذه فارموا وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )) "وسنده صحيح" وهذا النهي عام في جميع أنواع الغلو, في الاعتقادات والأعمال فإن(الغلو) اسم جنس دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية وقد تقرر في الأصول أن الألف واللام الاستغراقية إذا دخلت على المفرد أوالجمع أو اسم الجنس فإنها تفيده العموم, فيدخل في ذلك جميع أنواع الغلو, والتحذير من الغلو أبلغ من مجرد النهي عنه, والتحذير منه والنهي عنه والإخبار بأنه سبب من أسباب هلاك من قبلنا دليل على وجوب سلوك مسلك الاعتدال والوسطية, وأن من نحا منحىالغلو فإنه هالك كما هلك من قبله بهذا السبب, فالوسطية هي طريق النجاة في سائر أبواب الاعتقاد والتشريع, وهذا بعينه هو ماسار عليه أهل السنة- رحمهم الله تعالى- ولذلك فهم الناجون في عقائدهم من هذه البلية الخطيرة التي مادخلت على معتقد إلا أفسدته ولا عمل إلا قطعته ولا أمة إلا أهلكتها, فبالله عليك هل عُبدت القبور إلا بسبب الغلو, وهل طيف بها إلا بالغلو في أصحابها بل ما دُعيت من دون الله وقُربت لها القرابين والنذور إلا بسبب الغلو وما عُطلت صفات الله إلا بالغلو في جانب التنزيه وما وقعت الممثلة في التمثيل إلا بالغلو في جانب الإثبات, وما نفي القدر إلا بالغلو وما وقعت الخوارج ولا النواصب من الرافضة فيما وقعوا فيه إلا بالغلو, وآفاته كثيرة, فهو الآفة القديمة والمدخل الشيطاني الذي يفسد به الاعتقادات والأعمال فإن الشيطان يريد أحد أمرين ولا يبالي بأيهما ظفر, إما إفراط وتقصير وإما غلو ومجاوزة للحد وأما التوسط فإنه أغيظ شيء عليه وأبغض شيء له, وما تحسر على شيء(1/11)
كتحسره على توفيق الله لأحد من عباده وهدايته لهذا المسلك- أعني مسلك الوسطية- فدين الله تعالى بين الغالي والجافي, فالتحذيرمن أمر الغلو يتضمن الأمر بمسلك الوسطية,وبما أن التحذير من الغلو يدخل فيه كل غلو في أي باب من أبواب العقائد والشرائع, فكذلك أيضاً الأمر بالوسطية يدخل فيه كل وسطية في أي باب من أبواب العقائد والشرائع, والله أعلم.
ومن الأدلة أيضاً:- ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل فوجد فيه حبلاً مشدوداً بين ساريتين فقال ((ماهذا))؟ قالوا:- لأسماء, تصلي من الليل فإذا عجزت أو فترت أمسكت به فقال(( حلوه, ليصلِ أحدكم نشاطه فإذا عجز أو فتر رقد )) وهذه تربية على وجوب الأخذ بمنهج الوسطية, وأن هذا الفعل من أسماء رضي الله عنها وإن كان مبدؤه حب العبادة, لكنه خروج عن حد الاعتدال ولذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مافعل منكراً عليها هذا الفعل, معقباً ذلك بالأمر بإعطاء كل ذي حق حقه, فالعبادة لابد أن يعطيها العبد حقها فقال((ليصلِ أحدكم نشاطه)) ولكن النفس والبدن أيضاً له حق وهو إعطاؤه قسطاً من الراحة ليتجدد نشاطه وتجتمع قواه مرة ثانية فقال (( فإذا عجز أو فتر رقد )) فإذا كانت هذه التربية على الوسطية في شأن قيام الليل مع أنه نافلة فكيف بالله عليك يكون الشأن في أبواب الاعتقادات التي هي أعظم والمخالفة فيها أكبر, لاشك أن الوسطية فيها أشد مطالبة وأعظم اهتماماً, وهذا من باب القياس الأولوي وقد تقرر في الأصول أن القياس الأولوي حجة والله أعلم .(1/12)
ومن الأدلة أيضاً:- ماثبت في الصحيح من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها فلانة, تذكر من صلاتها فقال((من هذه؟)) فقلت:- فلانة تذكر من صلاتها, فقال(( مه ياعائشة, عليكم من الأعمال بما يطيقون فوالله لايمل الله حتى تملوا, وكان أحب الدين مادام عليه صاحبه)) فهو دليل على القاعدة المتقررة بالاتفاق أن الشريعة مبناها على العدل والوسطية, فلا إفراط ولا تفريط وأن المقصود عند الشارع ليس هو تكثير العمل المفضي بصاحبه إلى الملل والانقطاع وإنما المقصود هو دوام العمل وإن كان قليلاً كما قد صرح به في الحديث الآخر الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - (( أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلَّ)) ولذلك فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لايزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة "متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها" فالشريعة مبناها على العدل والوسطية في الأمور كلها عقائدها وشرائعها, فلا إفراط ولاتفريط, ولاغلو ولاجفاء وأهل السنة- رحمهم الله تعالى- امتثلوا منهج الوسطية والتزموه أكمل التزام وأتم امتثال فتحققت لهم النجاة في الدنيا والآخرة, والله أعلم.
ومن الأدلة أيضاً:- ما ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال(( ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله )) وهذه الطائفة المنصورة هم أهل السنة والجماعة, ونصرهم بالأمرين جميعاً:- بالحجة والبرهان وبالسيف والسنان وذلك لالتزامهم بمنهج الوسطية الذي من سار عليها فهو الموفق والمنصور والناجي والمهدي إلى صراط مستقيم لااعوجاج فيه ولازيغ ولا غلو ولا جفاء ولا لبس ولا غموض, وإنما هو الاعتدال والوسطية في الاعتقادات والأعمال والأقوال, نسأل الله بأسمه الأعظم أن يجعلنا وإياكم منهم والله أعلم.(1/13)
ومن الأدلة أيضاً:- قوله تعالى { ياأهل الكتاب لاتغلوا في دينكم } والغلو هو مجاوزة الحد في مدح الشيء أو ذمه وضابطه تعدي ماأمر الله به, وهو الطغيان, وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى فمن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط, وظاهاهم في ذلك فقد شابههم كالخوارج المارقين من الإسلام, وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة, وكل من غلا فإنه مشابه لأهل الكتاب في أخص خصائص صفاتهم وهي الغلو في الدين, وهذا يتضمن أمر هذه الأمة بمجانبة هذا الطريق والحذر منه, لكن ومع ذلك البيان فقد طمس الله تعالى بصائر خلقٍ كثير حتى تابعوهم في ذلك وسلكوا ما سلكه أهل الكتاب حذو القذة بالقذة, وأما أهل السنة فإنهم الثابتون على منهج العدل والوسطية لا يتزعزعون عنه ولا يميلون عنه, فكل عقائدهم في مصادرها ومواردها ومن أوائلها إلى أواخرها كل ذلك منبثق من ينبوع الوسطية الصافي والمورد العذب الشافي الكافي, الذي من تمسك به فقد فاز وهدي إلى صراط مستقيم.
ومن الأدلة أيضاً:- الإجماع, فإنه قد انعقد إجماع أهل العلم على أن العبد مأمور بالوسطية وباقتفاء أثر أهل السنة والجماعة في كل ماقرروه من عقائد وأنه لايجوز له أن يحيد عن هذا المنهج ولا يزيغ عنه طرفة عين وأن السلامة والنجاة مربوطة به, وهذا باتفاق العلماء من أهل السنة والجماعة ولا عبرة بخلاف أهل البدع وأرباب الخرافات.(1/14)
ولا مخالف في ذلك ولله الحمد والمنة, بل الكل متفقون على أن أهل السنة هم الوسط بين سائر الفرق كوسطية الأمة بين سائر الأمم فهذه القاعدة التي نحن بصدد شرحها ليس قاعدة خلافية خاضعة للأخذ والرد والقبول والرفض, بل هي مما اتفق عليها العلماء, بل إن شهرتها عند أهل العلم صارت مما يُعلم من الدين بالضرورة ولقد شهد بهذه الوسطية لأهل السنة حتى أعدائهم, فالواجب هو اعتقاد صحة مدلول هذه القاعدة فإن مخالفة الإجماع لأنه قد تقرر في الأصول أن الإجماع حجة يجب اعتمادها والمصير إليها وتحرم مخالفتها والله أعلم .(1/15)
ومن الأدلة أيضاً:- الاعتبار الصحيح, فإن الجميع متفقون على أن خير هذه الأمة بعد نبيها هم الصحابة والتابعون وذلك بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله(( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم... الحديث)) وهو في الصحيح, فيلزم من ذلك أن من وافق الصحابة والتابعين فيما كانوا يعتقدون فإن له من هذه الخيرية نصيباً بحسب هذه الموافقة, ونحن لا نعلم على مدار التاريخ من بعد القرون المفضلة إلى عصرنا هذا طائفة ولا فرقة تتوافق مع الصحابة في سائر مسائل الاعتقاد والعمل إلا أهل السنة والجماعة بل إن أهل السنة- رحمهم الله تعالى- من التزامهم بمنهج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة وتابعيهم, وقد قرروا أصلاً عظيماً جعلوه العمدة في فهم الكتاب والسنة وهو قولهم:- لانأخذ معتقداتنا إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة, فإذا كان الأمر كذلك فإنه يلزم منه أن أهل السنة هم خير الأمة وأفضلها وأسعدها بالحق والصواب الموافق للسنة والكتاب وأن الحق دائر معهم حيث داروا, لايتجاوزهم قيد أنملة, وبما أن سادات الوسطية العامة والخاصة هم الصحابة وتابعوهم, فكذلك سادات الوسطية العامة والخاصة بعدهم هم أهل السنة- رحمهم الله تعالى- وأن كل قدح في مذهب أهل السنة فإنه قدح في الصحابة والتابعين والقدح في هؤلاء قدح في النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا يفيد لزوم متابعتهم ووجوب التمسك بمذاهبهم لأنهم الوسط بين فرق هذه الأمة, ولأنهم خير الأمة وأفضلها وأزكاها وأعلمها في كل زمان وفي كل مكان والله أعلم .(1/16)
ومن الأدلة أيضاً:- الفطرة:- فإن الفطرة السليمة تقتضي قبول مذاهب أهل السنة, وذلك لموافقتها للفطر السليمة الموافقة التامة لأن هذه المذاهب مأخوذة من الكتاب والسنة, والذي أنزل النص هو الذي خلق هذه الفطرة وهو أعلم بما يناسبها ويتوافق معها من غيره جلَّ وعلا, وأما مذاهب سائر الفرق فإنها مستمدة من العقول العفنة والأهواء المنتنة والقواعد الكلامية الفلسفية المناقضة للمعقول والمخالفة للمنقول, أو مستمدة من الأباطيل والخرافات فيما يدعيه الدجالون من خوارق العادات والمكاشفات أو مستمدة من النقولات الكاذبة والمرويات الزائفة الزائغة التي لا خطام لها ولا زمام, وكل ذلك يتنافر مع الفطرة كل المنافرة, ولذلك فإنك تجد في قلبك نفوراً عظيماً إذا قرأت في عقائد هذه الفرق بل بعض كلامهم لا يتصور صدوره من مجنون أو بهيمة فضلاً عن العقلاء, وأما مذهب السلف فإنه مذهب مبني على الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة فلا غرائب فيه ولا ألغاز ولا غموض ولا خفاء, ولذلك فإنه ينزل على الفطرة عذباً سلسبيلاً, وذلك لأنه مبني على الوسطية الموافقة للفطرة التي خلقها الله تعالى, فالعبد مفطور على الوسطية, فمتى ماحصل غلو أو جفاء فإنه يتنافر مع الفطرة ولكن قد لايشعر به صاحب هذه الفطرة لأنها تلوثت بالمؤثرات الخارجية وما لجرح بميت إيلام, والله المستعان.
فهذه بعض الأدلة الدالة على وسطية أهل السنة, وقد رأيت أنه قد دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار الصحيح والفطرة السليمة, فهذا الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال, أسأله جلَّ وعلا أن يجعلنا ممن اقتفى آثارهم واتبع سبيلهم وممن يحشر في زمرتهم يوم القيامة إنه ولي ذلك والقادر عليه والله أعلم .
فصل
أقول:- وهذه الوسطية المباركة لها ثمراتها الجليلة وخصائصها الزكية النبيلة فمن ذلك:-(1/17)
1) أنها سبب للورود على الحوض يوم القيامة فإنه لايرد عليه إلا أهل الوسطية وأما من أحدث وغيّر وبدل بغلو أو جفاء أو إفراط أو تفريط فإنه من المحرومين من الورود وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة التي تبلغ حد التواتر وفي بعضها(( وليذادن أناس من أمتي عن الحوض كما يذاد البعير الضال, فأقول:- أصيحابي أصيحابي فيقال:- إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك)) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فالشرب من حوضه المبارك موقوف على الأمة الوسط وأما المحدثون المبدلون في الشريعة والمدخلون فيها ماليس منها فإنهم المذادون المبعدون المحرومون والجزاء من جنس العمل, فكما أنه ابتعد عن منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو الوسطية فيعاقب بالإبعاد عن حوضه يوم القيامة فاشدد يديك بمنهج الوسطية والزمه واعضض عليه بالنواجذ حتى يأتيك اليقين والله أعلم .
صفر { ومن ثمراتها:- أنها توصل صاحبها إلى موافقة السلف في الاعتقاد والعمل, لأن الوسطية هو المنهج الذي سار عليه الأوائل من الصحابة والتابعين, فمن كان من أهل هذه الوسطية فإنه سيكون موافقاً لهم, متبعاً لا مبتدعاً, مقتفياً لا مبتدياً ليس عنده شذوذ ولاغلو ولا شطط, وأنت خبير بأن الخير كل الخير إنما هو في اتباع من سلف وموافقتهم والشر كل الشر في ابتداع من خلف, فموافقة السلف منحة عظيمة ومرتبة جليلة لاينالها إلا الموفقون العظماء, وناهيك بهذه الثمرة, ومن وافق السلف هنا في هذه الحياة فكان يدور معهم حيث داروا ويقف معهم حيث وقفوا, فإنه يرجى له أن يحشر معهم يوم القيامة وهذا لايناله العبد إلا بالوسطية جعلني الله وإياك من أهلها.(1/18)
ربيع أول { ومن ثمراتها:- أنها أمان من الوقوع في البدعة, فإن أهل الوسطية لايقعون في البدع الردية أياً كان نوعها سواءً أكانت من بدع الاعتقاد أو كانت من بدع العمل ولذلك فإنك لو سيرت أحوال أهل البدع فرقاً وأفراداً لوجدت أنهم في بدايتهم قد خالفوا منهج الوسطية ووقعوا إما في غلو وإما في جفاء, ولابد من ذلك لأن منهج الوسط متوافق مع الكتاب والسنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد قليل, ومن اعتصم بالكتاب والسنة فإنه لايقتحم أبواب البدع, ولذلك فما وقع أهل التمثيل في تمثيل الله بخلقه إلا لما ابتدعوا قولهم:- الإتفاق في الأسماء يستلزم الإتفاق في الصفات, وكذلك أهل التعطيل لم يقعوا في التعطيل إلا لأنهم اعتقدوا أن إثبات الصفات يستلزم مماثلة المخلوقات, وهذا الاعتقاد بدعة والرافضة لم يقعوا فيما وقعوا فيه إلا بسبب الغلو في آل البيت وهو بدعة, وهكذا سائر الفرق, بل إنك تجد الأشاعرة مثلاً يقولون:- لو أثبتنا العلو لله تعالى لاستلزم وصفه بالجهة والجهة ممتنعة عليه فنفوا العلو الثابت بالأدلة القطعية المتواترة بسبب هذه البدعة, وتجد المعتزلة مثلاً يقولون:- لو أثبتنا لله الصفات لاستلزم تعدد القدماء ولاستلزم وصف الله بالجسمية وتعدد القدماء ممتنع والجسمية على الله ممتنعة, فنفوا الصفات الثابتة بالأدلة المتواترة من الكتاب والسنة بسبب هذه البدعة, وهكذا في سائر الفرق على مَرَّ التاريخ فإنك لاتجد أهل البدع إلا مخالفين لمنهج الوسطية وأما الثابتون عليه فإنهم من أبعد الناس عن الوقوع في البدع وهذا الفضل لم يكن ليحصل لهم بلا وسطية, فالبعد عن الوقوع في البدع, بل والأمان من الوقوع فيها ثمرة من ثمرات الوسطية .(1/19)
ربيع ثان { ومن ثمراتها أيضاً:- أنها من أعظم أسباب الثبات على الصراط المستقيم يوم القيامة, فإن من زلت قدمه عن الصراط المستقيم هنا زلت هناك, ومن ثبتت قدمه هنا ثبتت هناك, ومن أبطأت قدمه عن السير هنا أبطأت هناك, ومن أسرعت في السير هنا أسرعت هناك, والوسطية والاعتدال هي الصراط المستقيم هنا, فمن سار عليها وثبتت قدمه عليها فاليبشر بالخير العظيم هناك يوم تزل أقدام أهل النفاق وأهل البدع والمعصية عن الصراط وتخطفهم الكلاليب, ويثبت الله تعالى أهل الإيمان والوسطية والاعتدال وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم, لايمسهم السوء ولا هم يحزنون, { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله مايشاء } والثبات على الوسطية ثمرة من ثمرات الوسطية نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
جمادى أول { ومن ثمراتها المباركة أيضاً:- أن فيها مخالفة لما عليه المشركون من أهل الكتاب وغيرهم, فإن أهل الكتاب من أبرز صفاتهم الغلو إما بإفراط وإما بتفريط, وقد أمرنا الشارع بمخالفتهم في كل شيء, أعني فيما كان من عباداتهم أو عاداتهم في صغار الأمور قبل كبارها, فنحن مأمورون بحف الشوارب مخالفة لهم, ومأمورون بفرق الشعر مخالفة لهم ومأمورون بالصلاة في النعال مخالفة لهم, فإذا كانت المخالفة لهم مطلوبة في مثل هذه الأشياء اليسيرة فكيف بمخالفتهم فيما هو من أخص صفاتهم وهو الغلو في دينهم إما بإفراط أو تفريط, لاشك أن هذا مطلب شرعي عظيم ومقصد شرعي مهم من مقاصد الشريعة, ولا يحصل هذا إلا بالوسطية, فمخالفة أهل الكتاب ثمرة من ثمرات هذه الوسطية المباركة, فإن من كان من هذه الأمة فيه غلو أو جفاء فإنه مشابه لأهل الكتاب وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من تشبه بقومٍ فهو منهم )) .(1/20)
جمادى ثان { ومن ثمراتها المباركة أيضاً:- موافقة الكتاب والسنة الموافقة المطلقة, وذلك لأن أهل السنة يأخذون بأطراف الأدلة كلها بينما سائر الفرق لاتوافق الأدلة إلا من جانب واحد فقط وتخالفه من جوانب كثيرة, وذلك لمخالفتهم لمنهج الوسطية وأما أهل السنة فلأنهم سلكوا مسلك الوسطية, فإنهم لايدعون شيئاً من دلالة الأدلة أبداً, بل هم يأخذون بكل أطراف الأدلة وأضرب لك أمثلة حتى يتضح لك ما أريد:- فأهل التمثيل أخذوا بأدلة إثبات الأسماء والصفات ولكنهم تركوا الأدلة القاضية بعدم مماثلته جلَّ وعلا للمخلوقات, وأهل التعطيل عكسوا الأمر فأخذوا بالأدلة التي تنفي مماثلة الله للمخلوقات ولكنهم تركوا الأدلة التي تثبت الأسماء والصفات, فكل واحدٍ من الفريقين أخذ بطرفٍ من الأدلة وترك الطرف الآخر وأما أهل السنة فقد أخذوا بكل أطراف الأدلة في هذه المسألة وسيأتي إيضاح أكثر لهذه المسألة, وهكذا في كل مسألة من مسائل الاعتقاد, تجد أن أهل السنة أخذوا بكل أطراف الأدلة وذلك لأنهم المتوسطون المعتدلون أهل الدراية والرواية فصاحب الوسطية هو الآخذ بالأدلة كلها, والأخذ بالأدلة كلها هو الموافق للكتاب والسنة, فموافقة الكتاب والسنة ثمرة من ثمرات هذه الوسطية المباركة .(1/21)
رجب { ومن ثمراتها أيضاً:- أنها سبب من أسباب الحياة السعيدة فالسعداء في حياتهم هم أهل الوسطية, فهم سعداء باطناً وظاهراً, بل سعادتهم لاتوصف حتى يقول أحدهم:- لويعلم الملوك وأبناء الملوك مانحن فيه- أي من السعادة- لجادلونا عليها بالسيوف, ويقول الآخر:- ماذا يفعل أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري إن سجني خلوة, ونفيي من بلدي سياحة, وقتلي شهادة, ويقول الآخر:- إنها لتمرعلى القلب لحظات يرقص القلب طرباً حتى إني أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا الأنس, فهم في عيشٍ طيب, فلا سعادة إلا بهذه الوسطية, وأما المخالفون لمنهج الوسطية فهم الأشقياء التعساء البؤساء, قلوبهم في شكوك وحيرة ولا يزالون في ريبهم يترددون, قد استولت الحيرة عليهم وامتلأت قلوبهم بظلمات الشبهات والشهوات, حتى يقول أحدهم:- لم أعرف من طول بحثي إلا أن الممكن مفتقر إلى الواجب, والافتقار أمر عدمي أموت ولا أعرف شيئاً ويقول الآخر وقد بلغ قمة الحيرة والتشكيك:-
نهاية إقدام العقول عقال** وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا** وغاية دنيانا أذىً ووبال
وما استفدنا من بحثنا طول عمرنا** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ويقول الآخر:- أكثر الناس شكاً عند الموت هم أهل الكلام وصدق فيما قال, وكلام غيرهم في مثل ذلك كثير, وماذلك إلا لأنهم خالفوا منهج الوسطية وأوغلوا في المخالفة بإفراط فيها أو تفريط, وهذا نهايتهم وآخر سعيهم, وأما أهل الوسطية فهم السعداء الأنقياء الأتقياء, فالوسطية توجب سعة البال وانشراح الصدر وهدوء القلب وراحته وانبساط الروح, وسعادة النفس وقوة اليقين ولايحصل ذلك أبداً لأهل الغلو أو الجفاء, بل لايحصل لهم إلا أضدادها من ضيق البال وانقباض الصدر وضيقه وشقاء القلب وظلمته واستيلاء الحيرة والشكوك عليه, وضعف اليقين وناهيك بهذه الخسارة, فالله الله بالالتزام بمنهج الوسطية, الذي هو طريق بين هاويتين وهدىً بين ضلالتين, والله أعلم .(1/22)
شعبان { ومن ثمراتها المباركة أيضاً:- أنها سبب لحقن الدماء وهذا محسوس مشاهد, فإن حفظ الدماء من جملة مقاصد الشريعة وضروراتها, ويحققه أسباب كثيرة, ومنها الوسطية والاعتدال, وناهيك بالخوارج مثلاً يصدق ذلك فإن هذه الطائفة الضالة قد تسلطت على النفوس الطاهرة الزكية بالقتل والإتلاف فقتلوا بسيوفهم الآثمة كثيراً من الصحابة وأداروا معهم المعارك الطاحنة, وتجرؤا على سفك الدماء وقتل الأبرياء وترويع الآمنين وإتلاف الأموال وماذلك إلا بسبب تركهم لمنهج الوسطية وجنوحهم إلى جانب الغلو في الموآخذة والأحكام, وأما أهل الوسطية فإن الدماء عندهم معصومة إلا بالسبب والمسوغ الشرعي المرعي, فالدعوة إلى الوسطية هو في حقيقته دعوة إلى حقن الدماء, وكذلك الرافضة فإنهم استباحوا دماء المسلمين وخصوصاً أهل السنة وجعلوا دارهم دار حرب وفتحوا بسبب بدعتهم وهمجيتهم وغلوهم أبواب ديار الإسلام للأعداء وسلموا مفاتيحها لهم, ولا يزال هؤلاء الخبثاء الأشقياء يتحينون الفرصة لتسليم دار الإسلام إلى أعدائها اقتداء منهم بابن العلقمي الرافضي ذي الصفحة السوداء الملطخة بدماء أكثر من مليون مسلم قتلوا بسبب غدره ومكره بأهل الإسلام, وكذلك المعتزلة الذين جعلوا الخروج على الحكام أصلاً من أصولهم الخمسة وتستروا وراء اسم شرعي أطلقوه عليه مخادعة للأمة, فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم يعنون به الخروج على الحكام فبسبب هذه البدعة والغلو عندهم ذهبت أرواح كثيرة ولاحول ولا قوة إلا بالله, وكذلك مايفعله أهل الغلو في التكفير في زماننا من إتلاف الأموال وإزهاق الأرواح بلا حق ولا حجة وإنما هو الهوى الذي أعمى البصائر, والغلو الذي أطفأ نور الرحمة من القلوب, والأمثلة كثيرة, وأما أهل الوسطية فإنهم سلِموا من ذلك ولله الحمد والمنة, وهذه ثمرة من ثمرات هذه الوسطية المباركة, وبالمناسبة فإنني أدعو الدول الإسلامية والعربية ومن فيها من الطوائف والجماعات(1/23)
والأفراد على مختلف مستوياتهم للالتزام بمنهج الوسطية في الاعتقاد والعمل والعض عليه بالنواجذ وبالاعتصام بما عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان, وبجعل منهج الوسطية دستوراً من دساتير بلادهم وأصلاً من أصول التحاكم والتحكيم والحكم, والمقصود:- أن حقن الدماء من جملة ثمرات الوسطية جعلنا الله وإياك من أهلها .
رمضان { ومن الثمرات أيضاً:- المداومة والاستمرار على العمل ولذلك فإن عبدالله بن عمرو بن العاص لما قال ماقال دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له(( حدثت أنك تقول كذا وكذا وإنك لاتطيق ذلك... الحديث)) وفي الحديث السابق(( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ )) وفي الحديث الآخر(( وكان أحب الدين إليه ماداوم عليه صاحبه )) وهذا لايحصل إلا بالوسطية والاعتدال في العمل, فإن المغالي يوشك أن ينقطع ولو بعد حين, فالوسطية حزام أمان من الانقطاع والمعتمد شرعاً في الأعمال ليس طلب الكثرة وإنما هو الدوام والاستمرار وعدم الانقطاع, وهذا لايحصل إلا بالوسطية, ونحن نرى ونسمع أن أهل الوسطية والاعتدال في الاعتقاد والقول والعمل هم عماد الأمة في النوائب وهم الثابتون السالمون عند نزول المصائب, فلا تقم الليل كله ولكن صل بعضه ونم بعضه لتستمرعلى قيام الليل, ولاتصم الدهر كله ولكن صم بعضه وأفطر بعضه لتستمر على صيام النافلة, فأهل الوسطية هم أهل الأعمال الدائمة والعبادات المستمرة وأما أهل الغلو أو التقصير فإنهم وإن عملوا يسيراً أو كثيراً فإن مآلهم إلى الانقطاع وهذا محسوس مجرب .(1/24)
محرم شوال { ومن ثمراتها أيضاً:- أن العبد بالوسطية يكون من جملة الشهداء على الأمم يوم القيامة, كما في الآية السابقة أعني قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس } ولاتنال هذه المرتبة إلا بالوسطية, وأما المخالف لمنهج الوسطية بغلوٍ من إفراطٍ أو تفريط فإنه يحرم من هذه المرتبة السامية والمنزلة العالية, فيارب أسألك باسمك الأعظم أن تجعلني وجميع المسلمين من أهل الوسطية المطلقة والله أعلم .
محرم محرم { ومن ثمراتها أيضاً:- أن صاحب الوسطية سيحشر يوم القيامة مع أهل الوسطية من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه, وناهيك بهذه الثمرة, وبيان ذلك أن سالك الوسطية إنما سلكها لمحبة هذا المنهج ومحبة من سار عليه, والوسطية هي منهج الصحابة والتابعين وقد قال سيد أهل الوسطية - صلى الله عليه وسلم - (( أنت مع من أحببت يوم القيامة )) ولو لم يكن من ثمراتها إلا هذه لكفى بها مفخرة للنفوس لتحصيل هذا المنهج برمته, والله أعلم .(1/25)
محرم صفر { ومن ثمراتها أيضاً:- أن الوسطية سبب من أسباب الثبات على الحق ولذلك فإن أهل السنة ثابتون على الحق لايتقدمون عليه ولا يتأخرون عنه, فتراهم على اعتقادهم على مر الأزمنة والدهور والأعصار, وهم هم, لاتبديل ولا تغيير, بينما تجد أن أهل الإفراط أو التفريط في تغير دائم وتنقل مستمر, ولو سيرت عقائد الفرق المخالفة لأهل السنة لوجدت أن أصولها تتغير حسب الزمان والمكان والظروف, بل كل فرقة منهم تنحى منحىً آخر بزيادة أصلٍ أو حذفه, فالمعتزلة فرق كثيرة والرافضة فرق كثيرة والخوارج فرق كثيرة والجهمية فرق كثيرة والقدرية فرق كثيرة والصوفية فرق كثيرة ولكل فرقةٍ منها طرقها الخاصة ومراسمها التي تخالفها فيه الفرقة الأخرى, وهذا الاختلاف والتغيير والزيادة والنقص إنما سببه مخالفة منهج الوسطية, وأما أهل السنة, فهم على اعتقادهم ثابتين, لا تغيرهم الأحوال ولا تزعزعهم الفتن والقلاقل, وكل ذلك ببركة اعتمادهم على منهج الوسطية والله المستعان .
محرم ربيع أول { ومن ثمراتها أيضاً:- النجاة من العذاب يوم القيامة كما أخبر بذلك المعصوم عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي ذكرناه سابقاً(( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) فلما سألوه عنها قال(( من كان على مثل أنا عليه اليوم وأصحابي )) وفي رواية (( وهم الجماعة )) وفي لفظ (( وهي الناجية )) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - , وهذه النجاة إنما لأنهم سلكوا نفس ماسلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه, وكانوا على مثل ماكان السابقون عليه, من الوسطية والاعتدال .
محرم ربيع ثان { ومن ثمراتها أيضاً:- أن الوسطية يتحقق بها نصر الله لعباده كما في الحديث (( ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة...الحديث)) وهذا لأنهم أهل الوسطية فنصر الله تعالى له أسباب كثيرة ومن جملة أسبابه الوسطية والاعتدال في الاعتقادات والأقوال والأعمال والله أعلم .(1/26)
فهذه بعض ثمرات هذه الوسطية المباركة وليست هي من باب الحصر ولكنها من باب ذكر البعض للاستدلال به على الكل والله أعلم وأعلى .
فصل
إذا علمت هذا وتبين لك أهمية الوسطية فكأني بنفسك الآن قد تطلعت إلى معرفة جزئيات هذه الوسطية وتفاصيلها في كل باب من أبواب العقيدة وهذا هو ما سنختم به هذه الرسالة إن شاء الله تعالى, وهو طويل ولكن أحاول التسهيل والتيسير والاختصار ما استطعت إلى ذلك سبيلاً وسوف أسردها لك في مسائل ليكون ذلك أقرب لفهمك وأثبت في ذهنك وأسهل لاستذكارها ومراجعتها فإن ذلك مما أحبه لنفسي ولايؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه, فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق :-
المسألة الأولى :- في وسطية أهل السنة- رحمهم الله تعالى- في باب الأسماء والصفات, فإنه من المعلوم أن أهل القبلة في هذا الباب قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام إجمالاً, طرفين ووسط, فالطرف الأول:- الممثلة فقالوا:- نحن نثبت لله الأسماء والصفات ولكن على وجه يماثل صفات المخلوقات, فهذا المذهب فيه حق وباطل, فالحق عندهم هو الإثبات والباطل هو اعتقاد المماثلة, وهؤلاء نظروا إلى أدلة إثبات الأسماء والصفات ولكنهم غفلوا عن الأدلة التي تنفي مماثلة الله للمخلوقات فعندهم غلو في جانب الإثبات, فلم يقفوا عند الحد الشرعي في الإثبات ولكن تجاوزوه وغلوا فيه حتى وقعوا في التمثيل ويقود هذا الفريق رجل رافضي خبيث زنديق يقال له:- هشام بن الحكم الرافضي, فإنه من أوائل من قال:- إن صفات الله كصفاتنا.(1/27)
والطرف الثاني:- المعطلة وهؤلاء قالوا:- نحن ننزه الله عن مماثلة المخلوقات تنزيهاً ننفي معه الأسماء والصفات كلاً أو بعضاً, فهذا المذهب أيضاً فيه حق وباطل, فالحق هو تنزيه الله عن مماثلة المخلوقات والباطل هو نفي الأسماء والصفات, وهؤلاء نظروا إلى الأدلة التي تنفي مماثلة الله للمخلوقات ولكنهم غفلوا عن الأدلة المثبتة للأسماء والصفات, فعندهم غلو في جانب التنزيه فلم يقفوا عند الحد الشرعي في التنزيه بل تجاوزوه وغلوا فيه حتى وقعوا في التعطيل ويقود هذا الفريق الجعد بن درهم وبشر المريسي والجهم بن صفوان, وهو الذي اعتمدته الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم, فأنت ترى أن الأدلة التي اعتمدها أهل التمثيل هي التي تركها أهل التعطيل, وأن الأدلة التي اعتمدها أهل التعطيل هي التي تركها أهل التمثيل فكل فرقة قد أخذت بالأدلة التي تركتها الفرقة الأخرى فهؤلاء غلوا وتجاوزوا الحد في الأدلة المثبتة للأسماء والصفات, واعتقدوا فيها مالا يجوز اعتقاده فيها شرعاً, وهؤلاء قد غلوا وتجاوزوا الحد في الأدلة التي تنفي مماثلة الله للمخلوقات واعتقدوا فيها مالا يجوز اعتقاده شرعاً, ولزم من ذلك أن كلاً من الفرقتين قد حرَّفت الأدلة وأقحمت فيها معانٍ غريبة عليها وألحدت فيها وأخرجتها عن مدلولاتها الصحيحة وجانبت فيها مسلك الوسطية, فهما على طرفي نقيضي وأما أهل السنة فإنهم قد أخذوا بكل أطراف الأدلة ولم يدعوا منها شيئاً فقالوا:- نحن نثبت لله الأسماء والصفات الثابتة في الكتاب وصحيح السنة, وننزه الله تعالى عن مماثلة المخلوقات, فإثباتهم للأسماء والصفات ليس كإثبات أهل التمثيل لأن إثبات أهل التمثيل فيه تمثيل, ونحن نقول:- إثبات بلا تمثيل, وتنزيه أهل السنة ليس كتنزيه أهل التعطيل لأن تنزيه أهل التعطيل فيه تعطيل, ونحن نقول:- وننزهه عن مماثلة المخلوقات تنزيهاً بلا تعطيل, فإثباتنا لاتمثيل فيه, وتنزيهنا لاتعطيل فيه, وذلك مستمد(1/28)
من قوله تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فقوله { ليس كمثله شيء } رد على أهل التمثيل, وقوله { وهو السميع البصير } رد على أهل التعطيل, وهذا هو حقيقة الوسطية وقد فاز بها في هذا الباب أهل السنة والجماعة فقط وأما سائر الفرق فإنها خابت وفشلت وخسرت الخسران المبين, نعوذ بالله من الخذلان.
فإن قلت:- وكيف هذه الوسطية؟ فأقول:- تبرز وسطيتهم في هذا الباب في الإثبات وفي التنزيه وفي الأخذ بأطراف الأدلة, فإثباتهم معتدل لاإفراط فيه ولا تفريط, وتنزيههم أيضاً معتدل لاإفراط فيه ولا تفريط, والذي أوجب لهم هو الأخذ بكل أطراف الأدلة, فأهل السنة أخذوا بكل الأدلة فأخذوا بالأدلة المثبتة للأسماء والصفات وأخذوا بالأدلة التي تنفي مماثلة الله تعالى للمخلوقات, فقالوا:- إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل, فقولهم } إثبات بلاتمثيل { رد على الممثلة الذين أثبتوا ولكن بتمثيل, وقولهم } وتنزيه بلاتعطيل { رد على المعطلة الذين نزهوا ولكن بتعطيل, ونحن نشهد الله تعالى أننا نعتقد في هذا الباب مااعتقده أهل السنة والجماعة- رحمهم الله تعالى- ونستغفر الله تعالى من التقصير والزلل وهو أعلم وأعلى .(1/29)
المسألة الثانية :- وسطية أهل السنة والجماعة- رحمهم الله تعالى- في باب القدر, وذلك أن أهل القبلة قد انقسموا في باب القدر إلى ثلاث فرق, طرفين ووسط, فالقرقة الأولى يقال لهم الجبرية ويقولون:- إن كل شيء واقع بقضاء الله وقدره, ولكن العبد ليس له قدرة ولا اختيار بل هو مجبور على فعله, فالعبد لايملك شيئاً من القدرة ولاشيئاً من الاختيار أبداً بل هو كالريشة في مهب الريح وكالمغسول بين يدي غاسله فليس للعبد مطلق القدرة ولامطلق الاختيار, فأنت ترى أن مذهبهم هذا فيه حق وباطل فالحق هو إثبات القدر وأن كل شيء فهو واقع بقدر الله تعالى, والباطل هو سلبهم العبد قدرته واختياره السلب المطلق, فهؤلاء عندهم غلو في إثبات القدر, أي أنهم غلوا في إثباته حتى سلبوا العبد مطلق قدرته واختياره, وهؤلاء أخذوا بالأدلة التي فيها إثبات القدر السابق والكتابة السابقة ولكن تركوا الأدلة التي فيها نسبة الفعل إلى العبد والفرقة الثانية يقال لهم القدرية ويقولون:- إن العبد له قدرة ومشيئة واختيار, وهو الذي يُوجِد فعله بنفسه ولا تعلق للقدر السابق به, بل هو الذي يخلق فعله بنفسه فللعبد القدرة المطلقة والاختيارالمطلق والمشيئة المطلقة ولارابطة أبداً بين مشيئة العبد ومشيئة الله تعالى ومنهم من يقول:- أن لا قدر سابق ولا كتابة سابقة ولاعلم سابق ولا مشيئة سابقة بل الأمر أنف وأن الله تعالى لايعلم الأفعال الصادرة من العبد قبل وقوعها وصدورها منه, وهؤلاء هم الذين كفرهم الصحابة كابن عمر وغيره من صغار الصحابة, وهم القدرية الغلاة, وأما المتأخرون منهم فإنهم أثبتوا العلم السابق ولكن جعلوا العبد هو الذي يخلق فعله, وأن له فيه القدرة والاختيار المطلق, والقدرية الغلاة وغير الغلاة عندهم غلو في إثبات قدرة العبد واختياره وعندهم تفريط في إثبات القدر, وهؤلاء أخذوا بالأدلة التي تنسب الفعل للعبد ولكن تركوا الأدلة التي تثبت القدر السابق, فالجبرية أفرطوا في(1/30)
إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره, والقدرية فرطوا في إثبات القدر حتى جعلوا العبد هو الذي يخلق فعله وأن له المشيئة والاختيار والقدرة المطلقة فكل من الفرقتين عندها تطرف, أي أن كل واحدة من هاتين الفرقتين أخذت بطرفٍ من الأدلة فقط وتركت الطرف الآخر, بل أقول:- إنها فرقتان متناقضتان لأن كل واحدةٍ منهما أخذت بالأدلة التي تركتها الفرقة الأخرى, فالأدلة التي أخذتها الجبرية هي التي تركتها القدرية, والأدلة التي أخذتها القدرية هي الأدلة التي تركتها الجبرية ولذلك فهم جانبوا منهج الوسطية وخالفهم فهم السلف للأدلة التي أخذوا بها, وأما أهل السنة والجماعة- رحمهم الله تعالى- فإنهم أخذوا بكل أطراف الأدلة, ولم يدعوا منها شيئاً وأخذوا الحق الذي مع كلا الطائفتين وتركوا الباطل, فالحق الذي مع الجبرية هو إثبات القدر والحق الذي مع القدرية هو أن العبد له قدرة واختيار, فصار مذهبنا في القدر كما يلي:- أن كل شيء إنما يكون بقدر الله تعالى فلا يكون في الكون من حركة ولاسكون ولاإيجاد ولا إعلام ولاحياة ولا موت ولا نصر ولا هزيمة ولا غنىً ولا فقر ولاطاعة ولا معصية ولا أي شيء إلا بقدره جلَّ وعلا وأنه يعلم ماكان وما يكون ومالم يكن أن لو كان كيف يكون, وأن ماأصابك لم يكن ليخطئك وأن ماأخطأك لم يكن ليصيبك وأن كل شيء كان أويكون أو سيكون في هذا الكون فإنه مكتوب ومحسوب ومقدر, جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة, وأن الله تعالى له القدرة المطلقة والمشيئة المطلقة, وأما العبد فله مطلق القدرة ومطلق المشيئة, وأن العبد لايشاء إلا مايشاؤه ربه جلَّ وعلا, وأنه خالق كل شيء, ولا خالق إلا هو, ففعل العبد خلق لله تعالى ولكنه كسب للعبد, وأن العباد لهم قدرة ومشيئة بها يعرفون الحق من الباطل والطيب من الخبيث والنافع من الضار وأن الأمر كما قال تعالى { إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر } وكما قال تعالى { وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً } وكما قال(1/31)
جلَّ في علاه وتقدس اسمه { وماتشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين } وكما قال تعالى { ألم تعلم أن الله يعلم مافي السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } فلا يتحقق الإيمان بالقدر إلا إذا آمن العبد بأربعة أمور:- بالعلم الشامل والكتابة الشاملة والمشيئة الشاملة والخلق الشامل, هكذا قال أهل السنة- رحمهم الله تعالى- وقد ذكرنا أدلة ذلك في كتابنا(إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة في سؤال وجواب) والمقصود:- أن أهل السنة- رحمهم الله تعالى- آمنوا بالأمرين جميعاً, فآمنوا بالقدر السابق, وآمنوا بأن العبد له قدرة ومشيئة واختيار, فأما الجبرية فإنهم آمنوا فقط بالقدرالسابق وغلوا في إثباته حتى سلبوا العبد القدرة والاختيار وأما القدرية فإنهم آمنوا بقدرة العبد فقط وغلوا في إثباته حتى أعطوا العبد القدرة المطلقة والاختيار المطلق ولزم من قولهم هذا:- أن العبد هو الخالق لفعله, وأما أهل السنة فلا إفراط عندهم ولا تفريط, فلا إفراط عندهم في إثبات القدر ولاتفريط عندهم في إثباته ولاإفراط عندهم في إثبات قدرة العبد إرادته ومشيئته ولاتفريط عندهم في إثبات ذلك, وهذا هو حقيقة الوسطية فالجبرية غلوا في إثبات القدر وأهل السنة توسطوا والقدرية غلوا في إثبات قدرة العبد وأهل السنة توسطوا, وماذلك إلا لأن أهل السنة هم الوسط بين فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط بين الأمم والله أعلم.(1/32)
المسألة الثالثة:- وسطية أهل السنة- رحمهم الله تعالى- في مسألة تسيير العبد وتخييره، فإن أهل القبلة قد انقسموا في ذلك إلى ثلاث فرق, وقبل أن أبين ذلك أقول:- إعلم رحمنا الله وإياك أن خلافهم في هذه المسألة فرع عن اختلافهم في المسألة قبلها, أي أن خلافهم هنا هو بعينه ثمرة اختلافهم في مسألة القدر وبيان ذلك أن يقال:- لقد سبق أن الجبرية يقولون:- وليس للعبد قدرة ولااختيار أي أنهم سلبوا العبد مطلق القدر ومطلق الاختيار وبناءً عليه فإنهم قالوا:- العبد إذاً مسيَّر مطلقاً وسبق لنا أن القدرية قد أعطوا العبد القدرة المطلقة والاختيار المطلق وبناءً عليه فإنهم قالوا:- العبد إذاً مخير مطلقاً, فهذان قولان متطرفان متناقضان والسبب هو اضطرابهم وتناقضهم أصلاً في أصل المسألة, وأما أهل السنة فإنهم توسطوا كعادتهم رضي الله عنهم وأرضاهم, فقالوا:- لانقول هو مسيَّر مطلقاً ولانقول هو مخير مطلقاً, بل نقول:- العبد مسيَّر باعتبار ومخير باعتبار, فهو مسيَّر باعتبار القدر السابق والكتابة السابقة والعلم السابق والمشيئة السابقة, ولكنه مخير باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره, فإذا نظرنا إلى سبق الكتابة والفراغ منها قلنا:- مسيَّر, وإذا نظرنا إلى دخول الفعل تحت القدرة والاختيار قلنا:- مخير, فالعبد فيه تسيير وتخيير, وأضرب لك مثالين ليتضح لك الأمر في هذه المسألة:- الأول:- لوخيرت في الزواج بين امرأتين, فإن الزواج بأحدهما فعل داخل تحت قدرتك واختيارك ولكن اعلم أنك لن تتزوج إلا بمن كتب الله لك الزواج بها في سابق علمه جلَّ وعلا, فزواجك بإحداهما فيه تسيير وفيه تخيير,الثاني:- لوعرضت عليك وظيفتان, فإن التوظف في إحداهما أمر داخل تحت اختيارك فأنت بهذا الاعتبار مخيَّر, ولكن اعلم أنك لن تتوظف إلا فيما كُتب وقُدر لك وسبق به علم الله تعالى ومشيئة الله جلَّ وعلا, فأنت بهذا الاعتبار مسيَّر, فالعبد إذاً مسيَّر باعتبار سبق العلم(1/33)
والكتابة والمشيئة ولكنه مخيَّر باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره, ولكن يجب عليك أن تعلم أنك مأمور بالنظر فيما أمرت به فافعله وفيما نهيت عنه فاتركه ولست مأموراً بالنظر فيما سبقت فيه الكتابة لأن هذا من علم الغيب الذي لايعلمه إلا الله تعالى فلا يجوز لك أن تعارض الشرع بالقدر فإن هذه المعارضة خارمة في أصل الإيمان وموجبة لكبير الخسران, والمقصود أن تعلم أن الجبرية إنما نظروا إلى أدلة التيسير فقط فقالوا:- هو مسيَّر مطلقاً وأن القدرية إنما نظروا إلى أدلة التخيير فقط فقالوا:- هو مخيَّر مطلقاً, وأما أهل السنة- رحمهم الله تعالى- فإنهم نظروا إلى الأمرين جميعاً وأخذوا بأطراف الأدلة كلها وجمعوا بينها ولم يدعوا منها شيئاً أبداً فقالوا:- هو مسيَّر باعتبار سبق الكتابة ومخيَّر باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره, وهذا هو عين الوسطية ونحن نشهد الله تعالى أننا نقول بما قاله أهل السنة في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل والله أعلى وأعلم .(1/34)
المسألة الرابعة:- وسطية أهل السنة في باب مرتكب الكبيرة في الدنيا, فإن أهل القبلة قد انقسموا في ذلك إلى ثلاثة أقسام, إلى طرفين ووسط, فالطرف الأول:- فرقة يقال لهم المرجئة وهؤلاء يزعمون أن فعل الذنب لاتأثير له في نقص الإيمان مالم يكن ذلك الذنب شركاً فالإيمان عندهم لايضر معه ذنب, فمهما فعل المؤمن من الذنوب فإيمانه كامل لاينقص منه شيء أبداً بل تجرأ بعضهم وقال:- إن إيمان أفسق الناس كإيمان أبي بكر وعمر, فالإيمان عندهم جزء واحد لايتجزأ ولا يذهبه إلا الكفر أو الشرك وأما ما عداها من الذنوب فإنها لاتؤثر فيه, وهؤلاء عندهم تفريط في هذه المسألة وذلك لأنهم لم ينظروا إلا لأدلة الوعد فقط, فهم قد غلوا في جانب التفريط والتساهل, والطرف الثاني:- فرقة يقال لهم الوعيدية وياويلك من الوعيدية, فإنهم قالوا:- إن العبد إذا اقترف كبيرة من الكبائر فإنه يخرج بذلك الذنب عن مسمى الإيمان بالكلية فلا يطلق عليه اسم الإيمان لامن قريب ولامن بعيد, فلا إيمان مع الكبائر والعجب من هذا القول ماأشده وما أغلظه وماأبعده عن الحق والهدى والصراط المستقيم, والوعيدية هم الخوارج والمعتزلة, وقد اتفقوا على أن العبد إذا فعل الكبيرة فإنه يخرج من مسمى الإيمان لكن هل يوصف بالكفر؟ الجواب:- أما عند الخوارج فإنه يوصف بالكفر, فقد صرحوا بأنه كافر مرتد عن الإسلام بهذه الكبيرة, وأما المعتزلة فإنهم استحيوا قليلاً وهذبوا العبارة فقالوا:- لانقول هو مؤمن ولا بكافر بل هو في منزلةٍ بين المنزلتين, أي أنه خرج من الإيمان بالكلية ولكنه لم يصل إلى درجة الكفر, وهذه سخافة ومخادعة وزخرفة للقول فقط, وإلا ففي الحقيقة أن قول المعتزلة هو بعينه قول الخوارج وبيان ذلك من وجهين:-(1/35)
أحدهما:- أن تقابل الإيمان والكفر الأكبر تقابل نقيض, فإذا ارتفع أحدهما فلا بد لزاماً أن يثبت الآخر, فالعبد إما مؤمن وإما كافر فإذا سلبوا عنه وصف الإيمان فإنه يثبت له وصف الكفر ولا, وإن سمَّوه بأي تسمية فإن الأسماء وإن اختلفت فإنها لاتغير من الأمر شيئاً إذا كانت الحقائق متفقة ومن المعلوم في المنطق أن النقيضين لايرتفعان ولا يجتمعان جميعاً في وقتٍ واحد, فإذا سلبوا عنه الإيمان فهو كافر وإن سمَّوه ماسمَّوه .(1/36)
الثاني:- أن المعتزلة تقول:- إن مرتكب الكبيرة في الآخرة خالد مخلد في النار أبداً كما سيأتي, وكيف يكون خالداً مخلداً في النار أبداً وهو لامؤمن ولابكافر؟ أرأيت كيف المخادعة, ففي الحقيقة أن المعتزلة يقولون بتكفيره في الدنيا ولكنهم أرادوا أن يحسنوا العبارة مخادعة وملاطفة لمخالفهم من الفرق, والمقصود:- أن الوعيدية إنما نظروا إلى أدلة الوعيد فقط, فعندهم إفراط ولا شك, فالمرجئة أعطوا مرتكب الكبيرة الإيمان المطلق, والوعيدية سلبوا منه مطلق الإيمان وهذا تفريط وإفراط, فهاتان الفرقتان متناقضتان لأن كل واحدة منهما قد أخذت بالأدلة التي تركتها الفرقة الأخرى فالمرجئة أخذوا بأدلة الوعد فقط وتركوا أدلة الوعيد, والخوارج والمعتزلة أخذوا بأدلة الوعيد فقط وتركوا أدلة الوعد, فنتج من ذلك غلو الوعيدية في التكفير وتفريط المرجئة في التساهل وفتح الباب على مصراعيه, فجاء أهل السنة رحمهم الله تعالى وعفا عنهم وغفر لهم ورفع نزلهم في الفردوس الأعلى وجزاهم الله تعالى خير ماجزى عالماً عن أمته, فتوسطوا بين الفريقين, ووفقوا للصراط المستقيم والمسلك القويم السليم في هذه المسألة وأخذوا بأطراف الأدلة كلها ولم يدعوا منها شيئاً فقالوا:- إن مرتكب الكبيرة لانعطيه الإيمان المطلق ولا نسلبه مطلق الإيمان, بل هو مؤمن بما بقي معه من الإيمان وفاسق بما معه من الظلم والعصيان أي مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وهذا هو والله الذي لاإله إلاهو الحق والصواب في هذه المسألة والذي لايجوز القول بغيره, وما عداه فضلال مبين { فماذا بعد الحق إلا الضلال } وهذا القول هو الوسطية بعينها, فإن قول أهل السنة هذا فيه الأخذ بكل الأدلة, التي مع هؤلاء والتي مع هؤلاء فقولهم: } لانعطيه الإيمان المطلق { رد على المرجئة الذين أعطوه الإيمان المطلق وقولهم } ولانسلبه مطلق الإيمان { رد على الوعيدية الذين سلبوه مطلق الإيمان, فأخذوا بالأدلة الدالة على أن مرتكب شيء من(1/37)
الكبائر يوصف بالإيمان, وأخذوا بالأدلة الدالة على أن ارتكاب الكبيرة موجب للعقوبة ومنقص للإيمان ودمجوا بينهما فنتج ذلك القول الذي هو بعينه ماتفيده أدلة الكتاب والسنة والآخذ بغيره مخالف للكتاب والسنة إما بإفراط وإما بتفريط, بل إن المرجئة والوعيدية أصلاً قد أخطئوا في فهم الأدلة التي أخذوا بها فإن أدلة الوعد التي أخذت بها المرجئة لاتفيد أبداً مايريده هؤلاء وأدلة الوعيد التي أخذت بها الوعيدية لاتفيد أبداً مايريده هؤلاء فجمعوا بين التقصير في الأخذ بالدليل وبين الخطأ في الفهم فجاؤوا بهذه الأقوال العفنة التي أنتجتها أفهامهم النتنة, فلا عقل ولا نقل وأما أهل السنة- رحمهم الله تعالى- فإنهم أخذوا بالأدلة كلها وفهموها حق فهمها على مافهمه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وهذا هو التوفيق والهداية إلى الصراط المستقيم, فالحمد لله تعالى على هذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة الكبيرة التي تعجز الألسنة عن شكرها ووالله لو أن في كل بقعة من أجسادنا شعرة, ولكل شعرة ألف ألف لسان وحمدت الله وشكرته آخر ماعليها ماقامت ولا بعشر معشار شكره وحمده جلَّ وعلا, ولكن أسأله جلَّ وعلا باسمه الأعظم أن يتقبل منا اليسير ويضاعفه لنا إنه ولي ذلك والقادر عليه ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم, والخلاصة:- أن أهل السنة توسطوا في هذا الباب بين المرجئة والوعيدية لأن أهل السنة وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم والله ربنا أعلى وأعلم .(1/38)
المسألة الخامسة:- وسطية أهل السنة- رحمهم الله تعالى- في مرتكب الكبيرة في الآخرة, فإن أهل القبلة قد انقسموا في هذه المسألة إلى ثلاث فرق, طرفين ووسط, وخير الأمور الوسط, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم, وقبل الدخول في تفاصيلها أقول:- اعلم - رحمك الله تعالى- أن هذه المسألة تعتبر فرعاً ونتيجة للمسألة السابقة وهي ثمرة من ثمرات الأقوال السابقة, فليست بمسألة جديدة تماماً بل هي كالثمرة لما سبق, إذا علمت هذا فاعلم أن المرجئة قالت:- مهما فعل المؤمن من الذنوب فإنه لايؤثر ذلك في نقص إيمانه, فهو مؤمن كامل الإيمان, ولو سألتك وقلت:- مامصير من معه الإيمان الكامل المطلق التام يوم القيامة؟ لاشك أنك ستقول:- مآله الجنة مباشرة, فأقول:- نعم هو كذا فالمرجئة يقولون:- إن مرتكب الكبيرة إلى الجنة مباشرة لأنه كامل الإيمان, وارتكاب الكبيرة لايضره أبداً, وأما الوعيدية فقد سبق لنا أنهم يقولون:- إن مرتكب الكبيرة خارج من دائرة الإيمان, فليس معه مطلق الإيمان ولو سألتك وقلت:- بالله عليك مامصير من ليس معه مطلق الإيمان يوم القيامة؟ لاشك أنك ستقول:- إلى النار وبئس القرار, فأقول:- نعم هو كذا, فالوعيدية يقولون:- إن مرتكب الكبيرة إن مات مُصِراً عليها فهو في النار خالداً مخلداً فيها أبداً فالمرجئة فرطوا في هذه المسألة لأنهم فرطوا في سابقتها, والوعيدية أفرطوا فيها لأنهم أفرطوا في المسألة قبلها, وأما أهل السنة فقد توسطوا كعادتهم رضي الله عنهم وأرضاهم فقالوا:- إن مرتكب الكبيرة إن مات وهو مُصِر عليها فلا نقول:- إنه يدخل الجنة مباشرة ولانقول يدخل النار مباشرة بل هو تحت المشيئة لأن معه موجب الثواب وهو مابقي معه من الإيمان, ومعه موجب العقاب وهو مامعه من الذنب والعصيان, فهو تحت المشيئة إن شاء الله تعالى غفرله وأدخله الجنة ابتداءً وإن شاء عذبه في النار بقدر ذنوبه ثم يخرجه منهاإلى الجنة انتقالاً, فالمرجئة أخذوا بطرفٍ من الأطراف(1/39)
الأدلة فقط والوعيدية أخذوا بطرفٍ من أطراف الأدلة, وأهل السنة توسطوا وأخذوا بكل أطراف الأدلة ولم يدعوا منها شيئاً, وهذا من توفيق الله لهم وهدايته لهم صراطه المستقيم فلاإفراط ولاتفريط, فالمرجئة غلوا في جانب التفريط, والوعيدية غلوا في جانب الإفراط وأهل السنة توسطوا فلا غلو عندهم لا في إفراط ولا تفريط وهذا هو عين العدل والوسطية وذلك لأن أهل السنة وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم والله ربنا أعلى وأعلم .(1/40)
المسألة السادسة:- وسطية أهل السنة في باب الاعتقاد في آل البيت, وذلك أن أهل القبلة انقسموا في هذا الباب إلى ثلاث فرق طرفين ووسط, فالطرف الأول الرافضة, ويعتقدون في آل البيت الاعتقادات الفاسدة وينتحلون فيهم النحل الكاسدة, فقد غلوا فيهم حتى أضفوا عليهم العصمة المطلقة ووصفوهم بأوصاف الرب جلَّ وعلا, من علم الغيب وإجراء السحاب وإنزال المطر وإجراء الرياح والنصر أو الهزيمة في الحروب وأن الجنة لايدخلها إلا من شاء آل البيت والنار لايدخلها إلا من شاء آل البيت, وغير ذلك من الأقوال التي يشيب منها الرأس, فقد بلغوا في الغلو غايته, وهم أخس الطوائف وأفجر الطوائف وأبعدهم عن الحق والهدى ولو أخرجناهم من جملة فرق الأمة لما أبعدنا لأنهم جاؤوا بالكفر الصراح وتفوهوا بالشرك البواح وقد حكم عليهم كثير من أهل العلم بالكفر فهذه الطائفة الخسيسة الخبيثة غلوا الغلو المطلق في آل البيت حتى أخرجوهم عن دائرة البشرية إلى دائرة الملكية بل أضفوا عليهم كثيراً من صفات الألوهية, والطرف الثاني الخوارج وهم على النقيض تماماً فإنهم قد ناصبوا العداء لآل البيت بل ولسائر الصحابة, واستباحوا دمائهم, فالأول غلوا في المحبة حتى رفعوهم إلى مرتبة الألوهية والآخرون غلوا في العداوة حتى جعلوهم كفاراً واستباحوا دمائهم وأما أهل السنة فإنهم توسطوا في آل البيت فقالوا:- نحبهم ولا نفرط في حب أحدٍ منهم ونبغض في الله من أبغضهم ونحبهم لإيمانهم وقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحفظ فيهم وصية حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - يوم قال(( أذكركم الله في أهل بيتي )) ونعتقد أنهم غير معصومين بل هم من جملة البشر يصيبون ويخطئون ولا يملكون شيئاً من خصائص الربوبية, وأن حبهم حق وإيمان وإحسان وبغضهم فسق ونفاق وعصيان هذا هو قول أهل السنة في آل البيت, وهو قول وسط بين طرفين, فقولهم } نحبهم { رد على الخوارج وقولهم } ولانفرط في حب أحدٍ منهم { رد على(1/41)
الرافضة فهو هدىً بن ضلالتين, ونور بين عمايتين وصراط مستقيم بين هاويتين, والحمد لله الموفق والهادي إلى سواء السبيل, ونحن نشهد الله تعالى أننا سائرون على ماسار عليه أهل السنة في هذا الباب بل وفي سائر الأبواب العقدية ونسأله جلَّ وعلا أن يثبتنا على اعتقادهم حتى نلقاه, إنه ولي ذلك والقادر عليه والله ربنا أعلى وأعلم .(1/42)
المسألة السابعة:- وسطية أهل السنة- رحمهم الله تعالى- في باب الشفاعة, فإن الناس في هذا الباب قد انقسموا إلى ثلاث فرق, إلى مشركية, ومعطلة, وأهل السنة, أي إلى طرفين ووسط, فالطرف الأول المشركون، وهم الذي يعتقدون شفاعة من يعظمونهم من الأولياء والصالحين ومايعبدونه من القبور والأشجار والأحجار والأصنام ونحوها, فهؤلاء عندهم غلو في إثبات الشفاعة, حتى عدوها إلى من وردت الأدلة النقلية ببطلان شفاعته وأنها وهم توهموه وظن وتخرص ظنوه وتخرصوه, وأنه لاينفعهم شيئاً ولا يضرهم وأنهم لايملكون لهم شفاعة ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً وأنهم لايملكون مثقال ذرةٍ في السماوات والأرض ومالهم فيهما من شركٍ وماله منهم من ظهير وأنها أي الشفاعة لاتنفع عنده إلا لمن أذن له بل حتى الملائكة لايشفعون عند الله تعالى إلا لمن ارتضى فكم من ملكٍ في السماوات لاتغني شفاعتهم شيئاً عند الله أبداً إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولاً, فهؤلاء يزعمون أن معبوداتهم التي يعبدونها تقربهم إلى الله زلفى وهذا غلو وإفراط في إثبات الشفاعة, والطرف الثاني معطلة الشفاعة وهم الذين ينفون الشفاعات يوم القيامة وهم المعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة فإنهم يزعمون أن الشفاعة غير نافعة يوم القيامة, لعموم قوله تعالى { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } فأبطلوا الشفاعات وخصوصاً الشفاعة في أهل الكبائر بنوعيها, وهؤلاء سماهم أهل السنة المعطلة لأنهم يعطلون الصفات ويعطلون الشفاعة فانظر كيف تقابل الفريقان وتعارض القولان فالمشركية عندهم غلو في إثبات الشفاعة أي أفرطوا في إثباتها, والمعطلة عندهم غلو في نفي الشفاعة أي أفرطوا في جانب النفي, فالأول أثبتوا من الشفاعات مالا دليل عليه والآخرون نفوا من الشفاعات ماقام الدليل الصحيح على إثباته فالأولون أفرطوا, والآخرون فرطوا, وأما أهل السنة فتوسطوا في باب الشفاعات كتوسطهم في غيره من أبواب الاعتقاد, فقالوا:- يجب الإيمان(1/43)
بالشفاعات التي ثبت بها النص الصحيح الصريح وهذا المذهب وسط بين المذهبين, فإثبات أهل السنة للشفاعات ليس باباً مفتوحاً بل هو وقف على الدليل، فلا إفراطٍ في الإثبات ولا إفراط في النفي، فلم يثبتوها مطلقاً، بل إثباتهم لها مقيد بورود الدليل فما أثبته النص من الشفاعات أثبتناه وما نفاه النص نفيناه، وذلك لأن باب الشفاعات من الأبواب الغيبيه والأبواب الغيبيه لامدخل للعقول فيها، فهي ـ أي الشفاعةـ من جملة قضايا اليوم الآخر وإثبات شيء من قضايا اليوم الآخر يفتقر إلى دليل شرعي صحيح صريح وهذه هي حقيقة الوسطية، فأثبتوا الشفاعة العظمى والشفاعة في أهل الجنة ليدخلوا الجنة والشفاعة في أبي طالب وهي شفاعة تخفيف لا إخراج، وهذه الشفاعات الثلاث من الشفاعات الخاصة به - صلى الله عليه وسلم - ، وأثبتوا أيضاً الشفاعة في أهل الكبائر المستحقين لدخول النار أن لايدخلوها والشفاعة فيمن دخلها ليخرج منها، والشفاعة في أهل الأعراف والشفاعة لرفعة الدرجات يوم القيامة، وهذه الشفاعات الأخيرة من الشفاعة العامة للأنبياء والملائكة والصديقين والشهداء والصالحين وغيرهم من أصناف المؤمنين, وهذه الشفاعات لاتكون إلا بشرطين:- أن يأذن الله تعالى ويرضى كما ثبت ذلك في النصوص من الكتاب والسنة, فهذا بيان وسطية أهل السنة في باب الشفاعات, فلم يثبتوها مطلقاً كما فعلت المشركية ولم ينفوها مطلقاً كما فعلت المعطلة بل أثبتوا منها ماورد النص الصحيح الصريح بإثباته, ونفوا مالم يرد فيه نص فضلاً عن نفيهم لما ورد النص أصلاً بإبطاله كإبطاله شفاعة الآلهة التي يزعم المشركون أنها ستشفع لهم يوم القيامة وأنها تقربهم إلى الله زلفى .
فأهل السنة- رحمهم الله تعالى- توسطوا في باب الشفاعات لأنهم الوسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم والله أعلم .(1/44)
المسألة الثامنة:- وسطية أهل السنة في باب الاستثناء في الإيمان وذلك أن أهل القبلة انقسموا في هذا الباب إلى ثلاث فرق, طرفين ووسط, وخير الأمور الوسط, فمنهم من قال بوجوب الاستثناء في الإيمان, فيجب على العبد إذا قال:(أنا مؤمن) أن يقرن مع هذا القول قوله:(إن شاء الله) وذلك لأن الله تعالى نهانا عن تزكية أنفسنا كما في قوله { فلا تزكوا أنفسكم } وفي قوله { ألم تر ا إلى الذين يزكون أنفسهم } وبناءً على ذلك فيجب وجوباً أن يقول:(إن شاء الله) حتى لايقع في المحرم الذي هو تزكية نفسه لأن الإيمان في القلب من الأشياء الغيبية وقد تقرر أن الأشياء الغيبية لاينبغي الجزم بها بل لابد أن تعلق بالمشيئة لأن كمال الإيمان شيء لايرى لأنه غيب, ومنهم من قال:- بل يحرم تعليق الإيمان بالمشيئة, لأن حقيقة المشيئة أنها تفيد الشك وكيف يشك العبد في أصل إيمانه فإن الشك في أصل وجود الإيمان كفر, وبناءً عليه فلا يجوز تعليق الإيمان, بل يجب عليه أن يجزم ويقول(أنا مؤمن) ولا يقول بعدها (إن شاء الله) وأنت ترى هنا أنهما قولان متناقضان, فقول بالوجوب, وقول بالحرمة, وذلك لأن من قال بالوجوب إنما نظر إلى حالةٍ واحدة فقط وهي حالة الشهادة بكمال الإيمان والذي قال بالحرمة إنما نظر إلى حالةٍ واحدة فقط وهي حالة الشهادة بأصل وجود الإيمان, وهذه النظرة ضيقة ولذلك فأهل السنة نظروا إلى أطراف المسألة كلها ولم يدعوا منها شيئاً, فقالوا:- إن كان المستثنى في إيمانه شاكاً في أصل وجوده فهذا يحرم عليه الاستثناء لأن الشك في أصل وجود الإيمان لايجوز وما أدى إلى الحرام فهو حرام, وكيف يشك العبد في وجود أصل الإيمان في قلبه؟ ولكن لو كان هذا قصده في قوله(إن شاء الله) فإنه يحرم عليه هذا القول وهو آثم عليه, وأما إن كان المستثنى في إيمانه يدافع عن نفسه التزكية ويجانب بها الرياء فهذا واجب, أي يجب عليه إن علم من نفسه أنه إن لم يستثن وقع في الرياء والعجب أن(1/45)
يقول:(إن شاء الله) لأن مدافعة الرياء والعجب والغرور واجب ومالم يتم الواجب إلا به فهو واجب, فأنت ترى أن الحكم اختلف باختلاف مايقوم في قلبه من المقاصد, وأما إن لم يقم في قلبه شيء فيجوز الأمران أي إن ترك الاستثناء فلا شيء عليه وإن قاله فلا شيء عليه, وهذا قول أهل السنة وإن كان يُنسب زوراً إلى غيرهم من بعض الطوائف حسداً لأهل السنة على هذا التوفيق العظيم, وهذا القول هو القول الوسط بين الأقوال جميعاً, فالذين قالوا بالوجوب فقط عندهم غلو في الإلزام والذين قالوا بالمنع فقط عندهم غلو في التحريم ولكن الذين قالوا:- يختلف الحكم باختلاف المقاصد هم الذين هدوا إلى الطيب من القول وهم الذين هدوا إلى صراط الحميد وهم أهل السنة والجماعة, فإن كنت شاكاً في أصل الإيمان فيحرم الاستثناء, وإن كنت ستقع في الرياء والعجب إن لم تستثن فيجب حينئذٍ وإن كان لاهذا ولا هذا فلا وجوب ولا تحريم بل هو الجواز, فلم يمنعوا مطلقاً ولم يوجبوا مطلقاً, بل جعلوا الحكم يختلف باختلاف المقاصد وما يقوم في القلب حال هذا القول فلا غلو في الإيجاب ولا غلو في المنع بل هو العدل والوسطية المستمدة من قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } ولأن المتقرر أن أهل السنة وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم والله أعلم .(1/46)
المسألة التاسعة:- وسطية أهل السنة في مسألة التكفير, ولا أقصد التكفير العام, وإنما أعني تكفير المعين, فإن أهل القبلة قد انقسموا في هذه المسألة إلى ثلاثة أقسام, طرفين ووسط, فمنهم من فتح باب التكفير على مصراعيه وهم الخوارج وجماعة التكفير والهجرة ومن نحى نحوهم من الفرق, فإن هؤلاء يكفرون المعين بضوابط وضعوها ليس عليها أثارة من علم وإنما هي الظنون الكاذبة والمذاهب العاطلة, والتدخل في النيات والتسرع في إصدار الأحكام على عباد الله بلا برهان وإنما بالتعصب والهوى, فإنك إن لم توافقهم على ماقرره هواهم فأنت كافر خارج من الدين, أي إن لم تكن معنا فأنت ضدنا, وما أكثرهم في هذا الزمان لاكثرهم الله تعالى فإنهم الطغمة الفاسدة والنحلة الكاسدة, قد تعشقوا تكفير الدهماء وتغذوا بإتلاف الأموال وسفك الدماء, وقد ظهرت قرونهم في زماننا, فأسأل الله تعالى أن يكفي الأمة شرهم وأن يرد كيدهم في نحورهم, فهؤلاء فتحوا باب تكفير المعين على مصراعيه وأنت خبير بالأدلة الدالة على عظم الأمر وفداحة الخطب والله المستعان.(1/47)
وقابلهم فريق آخر أغلقوا باب تكفير المعين على وجه الإطلاق, فلا يجوز عندهم أن يوصف المعين بالكفر أبداً, إلا من كفره النص فقط وأما ماعداهم فأمرهم إلى الله, وإنما التكفير ينصب على الأقوال والأعمال على وجه العموم وأما تكفير المعين فلا يجوز, فهذا الفريق أغلقوا الباب وسدوه سداً كاملاً, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم, فلا الأولون أصابوا الحق ولا الآخرون أصابوا الحق, لأن الأولين عندهم غلو وإفراط في مسألة التكفير حتى أدى بهم الأمر إلى قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان والآخرون فرطوا وتساهلوا حتى أدى بهم الأمر إلى عدم التكفير مطلقاً, وأما أهل السنة فإنهم الملهمون الموفقون المهديون إلى الصرط المستقيم والمنهج القويم السليم, فقالوا:- لانفتح باب تكفير المعين مطلقاً ولا نغلقه مطلقاً, بل المعتمد عندنا في تكفير المعين قاعدة مهمة في هذا الباب من لم يفهمها فإنه على خطرٍ عظيم في هذا الباب ونصها يقول:- التكفير العام لايستلزم تكفير المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع, وهذا ضبط عجيب, وهو توفيق من الله تعالى لأهل السنة, وبيانه أن يقال:- إن المعين إذا فعل أو قال ما يوجب الكفر فلنا فيه نظران:- نظر للقول أو الفعل بذاته بغض النظر عن فاعله, ونظر باعتبار القائل أو الفاعل فأما الفعل أو القول فإنه يحكم عليه بما يقتضيه الدليل فإن كان كفراً فهو كفر, وأما المعين فإنه لا يتعرض له بشيء إلا بعد ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه فإذا ثبتت هذه الشروط وانتفت الموانع حكمنا عليه بما يقتضيه الحال حسب الدلالة الشرعية المستقاة من النصوص النقلية, وهذه الشروط هي العقل والعلم والاختيار, والقصد, والبلوغ, وعدم التأويل فإذا ثبتت هذه الشروط في قائل الكفر أو فاعله فإننا نحكم عليه به, وأما الموانع فهي أضداد ذلك وهي الجنون والجهل والإكراه وعدم القصد والصغر ووجود التأويل السائغ, فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع فإنه يحكم على(1/48)
الشخص بمقتضى قوله أو فعله وهذا القول خلاف القولين السابقين, فإن القول الأول لم يراع أصحابه هذه الشروط ولا نظروا في هذه الموانع وأصحاب القول الثاني منعوا تكفير المعين مطلقاً من غير نظر في ثبوت هذه الشروط وأما أهل السنة فهم المتوسطون في هذه المسألة كغيرها من مسائل الاعتقاد فإذا قيل لك:- ما مذهب أهل السنة في مسألة تكفير المعين؟ فلا تقل:- الفتح المطلق, ولا تقل:- الغلق المطلق بل قل:- مذهبهم في ذلك أن المعين لايطلق عليه الكفر إلا إذا ثبتت الشروط وانتفت الموانع, فهذا هو القول الوسط المستمد من قاعدة الوسطية التي نحن بصدد شرحها وهي أن أهل السنة- رحمهم الله تعالى- وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم والله أعلم .(1/49)
المسألة العاشرة:- وسطية أهل السنة في باب الأسباب وارتباطها بآثارها, وذلك أن الناس انقسموا في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:- طرفين ووسط, ففرقة قالت الأسباب مؤثرة بذاتها وهم مشركية الأسباب, وشركهم في باب الربوبية- والعياذ بالله- فإنهم اعتقدوا أن ثمة متصرفاً في هذا الكون مع الله تعالى, وهذا شرك في الربوبية كالذين يعتقدون أن الهامة تضر بذاتها وأن الطيرة يضر بذاتها وأن التمائم تجلب الخير وتدفع الضر بذاتها وكالذين يعتقدون أن الرقى تنفع بذاتها, ونحو ذلك كل ذلك من باب الشرك في الربوبية, فهذه الفرقة عندها غلو في باب إثبات الأسباب حتى أدى بها ذلك الغلو إلى اعتقاد تأثير السبب التأثير الذاتي فالسبب عندهم مؤثر ولكنه بذاته, فعندهم حق وباطل فالحق هو اعتقادهم أن للسبب تأثيراً والباطل هو اعتقادهم أنه تأثير ذاتي أي بدون تقدير الله تعالى وقد تقرر عند أهل السنة- رحمهم الله تعالى- أن من اعتقد في شيء من الأسباب أنه يؤثر بذاته فإنه قد وقع في الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية, ولذلك فهذه الفرقة قد سماها أهل السنة مشركة الأسباب, وقابلهم الفرقة الثانية وهم معطلة الأسباب, وهؤلاء يعتقدون أن السبب لاتأثير له البتة, وإنما الأثر يوجد عند السبب لا بالسبب, وهؤلاء طوائف من الجهمية, فلو رميت بحجرٍ زجاجاً فانكسر فعندهم أن الرمية لا تأثير لها في الانكسار أبداً وإنما الانكسار وجد عند الرمية لا بها بحيث أن الزجاجة أصلاً ستنكسر ولو لم توجد الرمية بالحجر, وهذا القول خبل في العقل وهوس وتخليط وحق صاحبه أن يوضع في المستشفيات العقلية, ولا أدري لو أنك صفعت أحدهم صفعة فتألم منها فقال لك:- آلمتني, فقلت له:- إن الألم وجد عند الصفعة لا بها, فلا أدري ماذا سيقول؟ وعلى مذهب هؤلاء الحمقى لو أن أحداً رمى شخصاً عدواً له برصاصةٍ فَقَتََلَتهُ, فقبض عليه وقال:- إن الموت وجد عند الإصابة ولكن ليس للرصاصة أي دخل في الموت فالرصاصة(1/50)
بريئة على مذهب هؤلاء والمتهم بريء حتى تثبت إدانته فانظر إلى هذه السخافة التي صارت مضحكة للعقلاء ولو أن أحدهم قرأ كلامي هذا وتغيظ مما كتبته فأنا أقول له إن الغيظ وجد عند القراءة لا بها, وياعجبي من هؤلاء المعطلة الذين يزعمون- كذباً وزوراً- أنهم أهل العقول الكاملة والأفهام العالية, وهم والله لانقل ولا عقل, فلو كان لهم ولو عشر معشار عقل لما قالوا هذا الكلام الذي مفاده القدح في الشرع فإن أهل العلم يقولون:- الاعتماد على السبب بالكلية شرك في الشرع, وتعطيل الأسباب بالكلية قدح في الشرع, والأخذ بالأسباب مع كمال الاعتماد والتوكل على الله تعالى هو حقيقة الشرع والمقصود:- أن الفرقة الأولى غلت في إثبات الأسباب حتى جعلتها مؤثرة بذاتها فوقعت في الشرك, والفرقة الثانية:- غلت في نفي الأسباب حتى عطلت تأثيرها بالكلية فوقعت في التعطيل, فالأولون جعلوا للسبب التأثير المطلق والآخرون نفوا عن السبب مطلق التأثير وأما أهل السنة- رحمهم الله تعالى- فهم الموفقون المتوسطون العباقرة الأذكياء الهداة المهديون جزاهم الله خيراً ورفع نزلهم في الجنة ومذهبهم في الأسباب أنها مؤثرة لابذاتها بل بجعل الله لها مؤثرة, فقولهم{مؤثرة} رد على أهل التعطيل, وقولهم{ لابذاتها} رد على مشركة الأسباب, وهذا هو حقيقة التوسط, والاعتدال فلم ينفوا تأثير السبب كما فعله المعطلة, ولم يجعلوا له التأثير الذاتي كما فعله المشركون بل جعلوا تأثيرها مقيداً وخاضعاً لتقدير الله تعالى ومشيئته لأن الله تعالى هو خالق الأسباب وآثارها وهو الذي يربط بين السبب وأثره, فإذا شاء الله تعالى رتب الأثر عند حصول سببه وإذا شاء جلَّ وعلا فصل بين السبب وأثره, كما فصل بين النار والإحراق لما ألقي إبراهيم - عليه السلام - فيها, فقال { يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } فأهل السنة في هذه المسألة توسطوا بين هاتين الفرقتين الضالتين لأنهم الوسط بين فرق الأمة كوسطية(1/51)
الأمة بين الأمم والله ربنا أعلى وأعلم .
المسألة الحادية عشر:- وسطية أهل السنة- رحمهم الله تعالى- في باب ترادف أسماء الله أو تباينها, وذلك أن الناس في هذه المسألة قد اختلفوا إلى ثلاث فرق ففرقة قالت إن أسماء الله مترادفة, أي كلها شيء واحد, وفرقة قالت:- أسماء الله متباينها أي هي مختلفة وليست شيئاً واحداً, وكلا الفريقين أخطأ وقصر وحكم بالألفاظ المجملة من غير تبيين ولا تمحيص, وقال بما لايعلم, وهذى بما لا يدري, وكلا القولين فيه غلو وتطرف ومجانبة للوسطية وكالعادة فإن أهل السنة في هذا الباب هم المتوسطون الموفقون المهديون إلى الصراط المستقيم, فقالوا:- إن الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل, لايجوز قبولها مطلقاً لأن فيها باطلاً والباطل لايقبل ولا يجوز ردها مطلقاً لأن فيها حقاً والحق لايرد, ولكن الواجب فيها الاستفصال, حتى يتميز حقها من باطلها, فيقبل الحق ويرد الباطل وبناءً عليه فإن مسألة الترادف والتباين فيها إجمال لابد فيه من الاستفصال والبيان, فلا نقول هي مترادفة مطلقاً ولا نقول هي متباينة مطلقاً, بل نقول أسماء الله تعالى مترادفة باعتبار الذات ومتباينة باعتبار دلالتها على الصفات, وهذا هو الحق الذي يجوز القول بغيره في هذه المسألة وهو عين الوسطية, وقد شرحنا قاعدة الترادف والتباين في موضع آخر والمقصود بيان وسطية أهل السنة في هذه المسألة, فقالوا:- هي مترادفة باعتبار دلالتها على ذاتٍ واحدة وهي ذات الباري جلَّ وعلا, ولكنها متباينة- أي مختلفة- باعتبار دلالتها على صفاتها لأن كل اسم منها يدل على صفةٍ غير الصفة التي يدل عليها الاسم الآخر, فالذين قالوا مترادفة:- إن كانوا يقصدون بذلك باعتبار الذات فهو صحيح وإن كانوا يقصدون باعتبار الصفات فهو خطأ, والذين قالوا إنها متباينة إن كانوا يقصدون باعتبار الذات فهو خطأ محض وكفر صراح وإن كانوا يقصدون باعتبار صفاتها فهو صحيح, والخلل الذي وقع فيه(1/52)
الفريقان هو قبول الألفاظ المجملة من غير تمحيص ولا استفصال وهو الذي هدى الله تعالى له أهل السنة- رحمهم الله تعالى- فقالوا:- مترادفة باعتبار الذات ومتباينة باعتبار الصفات, كأسماء القرآن فإنها مترادفة باعتبار دلالتها على شيء واحد وهو القرآن ومتباينة باعتبار دلالتها على صفات متعددة, وكأسماء يوم القيامة فإنها مترادفة باعتبار دلالتها على شيء واحد ومتباينة باعتبار دلالتها على صفات متعددة, وكأسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها مترادفة باعتبار دلالتها على ذات النبي عليه الصلاة والسلام ومتباينة باعتبار دلالتها على صفات متعددة, وكأسماء السيف وأسماء الأسد فإنها مترادفة باعتبار دلالتها على ذات السيف والأسد ولكنها متباينة باعتبار دلالتها على صفات متعددة, فأسماء الله تعالى مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الباري جلَّ وعلا وهي ذات واحدة, ومتباينة باعتبار دلالتها على صفاتها, فاسم العزيز والحكيم شيء واحد باعتبار دلالتهما على ذات الله - سبحانه وتعالى - ولكنهما مختلفان باعتبار دلالتهما على صفتين مختلفتين فالعزيز صفته العزة والحكيم صفته الحكمة والعزة ليست هي الحكمة وهكذا في سائر أسمائه جلَّ وعلا فلا نقول:- بالترادف المطلق ولا نقول بالتباين المطلق, بل نقول:- بالترادف من حيث الذات وبالتباين من حيث الصفات وهذا مستمد من قولنا أهل السنة وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم والله أعلم وأعلى .(1/53)
المسألة الثانية عشر:- وسطية أهل السنة- رحمهم الله تعالى- في باب معاني الصفات وكيفياتها, وذلك أن من أهل القبلة من يقول:- إن معاني آيات الصفات وأحاديثها غير معلومة, فلا نعلم معنى الصفة التي وردت في النص, وهؤلاء هم المفوضة وهم أهل التجهيل, وسموا بالمفوضة لأنهم يزعمون تفويض المعاني إلى الله تعالى وسموا بأهل التجهيل لأنهم يزعمون الجهل بمعاني الصفات ويزعم هؤلاء أن نصوص الصفات بمنزلة اللغات الأجنبية التي تقرأ ألفاظها ولا يعرف معناها, وهذا غلو في التفريط, وقد وصف أبو العباس هذا القول بأنه شر أقوال أهل البدع, فإذا كانوا يجهلون المعاني فكيف بالكيفيات؟ لاشك أنهم يجهلونها من باب أولى فهؤلاء القوم يقولون:- آيات الصفات لايعلم معانيها ولا كيفياتها, وقابلهم على الطرف الآخر فريق أهل التمثيل الذين يزعمون معرفة الكيفيات وذلك بقولهم:- صفات الله كصفاتنا فهم لايتورعون عن الكلام في الكيفية, وهؤلاء عندهم غلو بالإفراط والتجاوز, وإذا كان هؤلاء يعلمون الكيفيات على حد زعمهم فكيف بالمعاني؟ لاشك أنهم يعلمونها من باب أولى, وكلا الفريقين ضال ومخطئ وبعيد عن الحق والصواب, ومجانب للوسطية وللصراط المستقيم, فأهل التجهيل غلوا في النفي حتى نفوا المعاني, وأهل التمثيل غلوا في الإثبات حتى خاضوا في الكيفيات وتوسط أهل السنة- رحمهم الله تعالى- كعادتهم, فلا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, فقالوا:- نحن نعلم المعاني ونجهل الكيفيات, وهذا هو الحق والوسط والعدل الذي لايجوز القول بغيره, فعلمهم بالمعاني مبني على أن الله تعالى خاطبنا في القرآن باللسان العربي المبين فوجب علينا حمل هذه الألفاظ على المعاني المتقررة عندنا في هذا اللسان, ولأن الله تعالى أمرنا بتدبر القرآن وتدبر الشيء لابد من فهمه وغالب آيات القرآن أسماء وصفات لله تعالى, فكيف يكون غالب القرآن لا يعلم معناه؟ هذا لايقوله عاقل فضلاً عن عالم, فآيات الصفات مما أمرنا(1/54)
بتدبره لأنها داخلة في عموم الأمر بالتدبر فلما أمرنا بتدبرها علمنا أنها مما يفهم معناها لأن تدبر الشيء الذي لايعلم معناه من تكليف مالا يطاق وهو منتفٍ شرعاً, إذاً آيات الصفات يعلم معناها وهذا هو المطلوب, وأما قول الإمام أحمد- رحمه الله تعالى- ( نؤمن بآيات الصفات لاكيف ولا معنى) فإن المعنى المنفي في كلامه هنا إنما هو المعنى الباطل الذي ابتكرته الجهمية نفاة الأسماء والصفات, والذي اخترعته عقولهم العفنة وأفهامهم المنتنة ومذاهبهم الخبيثة وأما المعاني الصحيحة المتوافقة مع ظاهر دلالة اللغة والتي يفهمها أهل السنة فإن الإمام أحمد- رحمه الله تعالى- لا ينفيها, والمقصود أن أهل السنة- رحمهم الله تعالى- يعلمون من صفات الله تعالى معانيها فقط وأما كيفياتها فإنهم يفوضون علم الكيفية إلى الله تعالى ويقولون:- لا يعلم كيف الله إلا الله تعالى, ولأن كيفية الشيء لا تعلم إلا برؤيته أو رؤية نظيره أو بإخبار الصادق عن الكيفية وكلها منتفية في حق صفات الله تعالى, وليس قول أهل السنة{ بلا كيف} نفي لأصل الكيفية, لا, وإنما المقصود نفي علمهم بهذه الكيفية, فصفات الله تعالى لها كيفية ولكن لايعلم هذه الكيفية ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح فضلاً عن غيرهم, والخلاصة أن الأقوال في هذه المسألة ثلاثة طرفان ووسط, ففرقة قالوا:- لانعلم المعاني ولا الكيفيات وهم أهل التجهيل, وفرقة قالت بل نعلم المعاني والكيفيات وهم أهل التمثيل, وفرقة توسطت وقالت:- نعلم المعاني لا الكيفيات وهم أهل الحق وأهل السنة والجماعة وأهل الحديث والأثر والسلف الصالح والطائفة المنصورة والفرقة الناجية, وإن قلمي وبناني وعقلي ويدي وجناني لتتشرف كل الشرف أن تقيد ميراثهم وأن تجري هذه المعلومات عليها, وإني لفي شرف عظيم أن أكون خويدماً صغيراً لهم في تقييد شيء يسير من ميراثهم رفع الله نزلهم وأجزل الأجر والمثوبة وجزاهم الله تعالى خير ماجزاء عالماً عن أمته(1/55)
وغفر لأمواتهم وثبت أحياءهم وزادهم شرفاً وتوفيقاً ورفعة إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو أعلى وأعلم .
المسألة الثالثة عشر:- وسطيتهم رضي الله عنهم وأرضاهم في مسألة عذاب القبر, هل هو على الروح فقط أم على البدن فقط؟ أم عليهما جميعاً؟ فيها خلاف بين أهل القبلة, فمنهم من قال على الروح فقط ومنهم من قال على البدن فقط, وهذا القولان فيهما قصور ظاهر لأن الأدلة قد دلت على غير هذا وكأني بك قد عرفت مذهب أهل السنة في هذه المسألة, فإن الحق عليه نور وهو متوافق مع الفطرة كل الموافقة, فكما أن الإثم ماحاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس فكذلك الحق والبر فإنه ماتوافق مع الفِطَر السليمة والأفهام المستقيمة, فأهل الحق في هذه المسالة يقولون:- العذاب في القبر منصب على البدن والروح جميعاً, فالروح تأخذ نصيبها من العذاب كما أن البدن يأخذ حظه من العذاب على الصفة والكيفية التي يريدها الله تعالى, لا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا, بل نقول بما قال به النص ونسكت عما سكت عنه النص, فالنص هو السيد المطاع والعقل هو العبد التابع, والنص هو الميزان والعقل هو الموزون ولاخير في عقلٍ بلا نقل, وأعقلنا أكثرنا طاعة لله جلَّ وعلا, والمقصود أن أهل السنة- رحمهم الله تعالى- قالوا:- العذاب عليهما جميعاً لكنه على الروح أصلاً وعلى البدن تبعاً, ولذلك فإن الدور ثلاثة:- فأما الدنيا فعذابها على البدن أصلاً وتدخل معه الروح تبعاً, وأما في البرزخ فعذابه على الروح أصلاً ويدخل معها البدن تبعاً, وأما في الآخرة فعلى الروح والبدن معاً سواءً بسواء هكذا قاله أهل السنة وهو ما تقرر بالأدلة وقد سقناها في كتابنا( إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة في سؤال وجواب) فإننا بحمد الله وتوفيقه وفضله وعظيم منته تتبعنا فيه أكثر من سبعين وثلاثمائة سؤال وأجبنا عنها بأجوبة سهلة مفهومه مقرونة(1/56)
بالتدليل والتعليل, والفضل في هذا كله أوله وآخره وسره وعلانيته لله جلَّ وعلا وحده لاشريك له, وأسأله باسمه الأعظم المزيد من فضله وتوفيقه وهدايته, وهو أعلى وأعلم.
المسألة الرابعة عشر:- وسطية أهل السنة في باب التعامل مع الولاة، وذلك أن من الناس من قد ارتمى في أحضانهم وصار عبداً تابعاً ومقوداً تافهاً وسلعة يبيعها الولاة ويشترونها حيث شاؤوا بأرخص الأثمان وأبخسها وأخسها, ويطيعهم في كل مايأمرون به من غير تمحيص بين أمر بمعروف أو أمر بمنكر, ولا تراه إلا متلهفاً على دنياهم وواطئاً لبساط الذل والإهانات ليحصل من دريهماتهم شيئاً, أو متزلفاً عندهم بأنواع القصائد وزخرف الكلام وأنواع الفكاهات التافهة الكاذبة ليدخل السرور عليهم عسى أن ينصبوه منصباً أو يعطوه شيئاً من الولايات فهو عبد ذليل قد أسره هواه وشرهه وحرصه وأمله الكاذب, وطمعه في تحصيل ملذات الدنيا وبهرجها, فباطل الولاة عنده حق, وكذبهم عنده صدق وسخافاتهم عنده من معالي الأمور وبديهة العظمة لم يبايعهم حباً لجمع الكلمة أو لصلاحهم, وإنما أعطاهم صفقة يمينه وثمرة فؤاده طلباً لدنياهم, فإن أعطوه منها رضي وإن منعوه منها سخط فأخزاه الله وأبعده ولا كثر في الأمة أمثاله, فهذا فريق من الناس عنده غلو في الطاعة بل إن البعض تجرأ وفرض لهم الطاعة المطلقة, بينما نجد طوائف وفرقاً قد تدينوا بالخروج على الولاة وتعبدوا لله بمعضلتهم المعصية المطلقة, ولم يقيموا لسلطان الله في الأرض وزناً, ومتى ماسنحت الفرصة لقتلهم فإنهم لا يتأخرون, وبعضهم جعل الخروج على الحكام وعدم السمع لهم والطاعة منهجاً من الأصول المعتمدة في مذهبه, فلا سمع للولاة ولا طاعة وإنما هو السيف والاغتيالات وسفك الدماء وهؤلاء والسابقون على طرفي نقيض, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم, فلا الأولون أصابوا ولا الآخرون أصابوا, فالأولون عندهم غلو في الطاعة حتى جعلوا لهم الطاعة المطلقة والآخرون عندهم تفريط في(1/57)
الطاعة حتى سلبوا عنهم مطلق الطاعة وهذان القولان خطأ لأنهما مبنيان على الإفراط أو التفريط, وأما أهل السنة- رحمهم الله تعالى- فإنهم المهديون الملهمون الموفقون في هذا الباب فإنهم جاؤوا بالعدل والوسطية المستمدة من كتاب الله جلَّ وعلا وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على فهم سلف الأمة فقالوا:- الولاية يطاعون في المعروف فقط وأما إذا أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة, فطاعة الولاة ليست طاعة مطلقة بل هي طاعة مقيدة أي يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله, وهذا هو السر في عدم تكرار الفعل { أطيعوا } لما ذكر طاعة الولاة في قوله { ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم } فالله تعالى له الطاعة المطلقة والنبي - صلى الله عليه وسلم - له الطاعة المطلقة وأما الولاة فإنه جلَّ وعلا ذكر طاعتهم بلا تكرارٍ للفعل { أطيعوا } بل ذكرها معطوفة على طاعة الله ورسوله فلهم مطلق الطاعة لا الطاعة المطلقة, يوضح ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إنما الطاعة في المعروف )) وقال عن القوم الذين أراد أميرهم أن يدخلوا في النار(( لو دخلوها لما أخرجوا منها )) لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ويعتقدون أيضاً أنه لايجوز الخروج على الولاة لا الخروج القولي ولا الفعلي والأول وسيلة للثاني وسد الذرائع من مطالب الشريعة ومقاصدها, فلا يجوز الخروج إلا إذا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان وغلب على الظن الغلبة عليهم واستبدالهم بمن هو خير منهم بلا إراقة دماء, ويرون الحج والجهاد وإقامة الجُمع والجماعات خلف الأئمة أبراراً كانوا أو فجاراً, وإن من تخلف عن الصلاة خلف أحدٍ منهم وصلى مفرداً إنه داعٍ إلى بدعة وخارج عن دائرة السنة في هذه المسألة, وأنه لايجوز ذكر مثالبهم أو الإنكار عليهم أمام العامة إلا إذا كان في حال حضورهم وحسن نية المنكر وغلب على ظنه أنه لايعقبه منكر أشد, ويدينون عنه بالدعاء لهم بالصلاح والهداية إلى(1/58)
الصراط المستقيم, وهذا هو المذهب الوسط والعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط ولا اعوجاج فيه ولا غلط وهو مبني على مراعاة المصالح تقريراً وتكميلاً, وعلى إزالة المفسدة كلاً أو تخفيفاً, ولا تصلح أحوال الناس إلا بذلك بل ماظهرت الفتن وأُزهقت النفوس واستخدم الحديد والنار إلا بسبب مخالفة أهل السنة في هذه المسألة, وما هذه الأحداث التي تجري في زماننا إلا شاهد صدق على ما أقوله, فإنهم لما وقعوا في الولاة وحاشيتهم وشعوب المسلمين تكفيراً وتدخلوا في مقاصدهم وحكموا على نياتهم رأوا أن البقاء تحت حكمهم من الكفر البواح وأنه إقرار لما هم عليه من الكفر والفسق فسوغوا لأنفسهم نقض البيعة وخلعوا أيديهم من الطاعة وخرجوا على ولاة الأمور وعلى عامة المجتمع بحجة رضاه بهذه الكفريات على حد زعمهم، وهذه الفواقر والدواهي والقوارع التي تعانيها الأمة في هذه الأزمنة إنما سببها مخالفة منهج أهل السنة في مسألة التعامل مع الولاة وكيفية تصحيح مايصدر منهم من أخطاء وتجاوزات فوقعوا في شرٍ أعظم مما أرادوا إصلاحه وتغييره وخرجوا على أهل الإسلام, واتهمت نيات كثير من أهل العلم وأسقطت هيبتهم من القلوب وساعد على ذلك ما يمليه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى على أبنائهم وفلذة أكبادهم من أهل العلمنة والحداثة والزندقة من السعي في تأجيج النار وتوسعة الفوهة بين الشعب وولاته وعلمائه, وكل ذلك سببه الجهل ومخالفة مناهج أهل السنة, وتحكيم الأهواء, وهامشية العلم واستعجال الفرج, وعدم تقدير المصالح والمفاسد وفتح القلوب والآذان للقدح في العلماء والأمراء, وأنت خبير بأن القدح في العلماء مُذْهِبٌ لهيبة العلم والقدح في الأمراء مُذْهِبٌ لهيبة الأمن وإذا ذهبت هيبة العلم والأمن ذهب المجتمع, فلا مخرج من هذه الفتنة الشوهاء إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة وبإعطاء كل ذي حق حقه, فيعطى الولاة حقوقهم المشروعة ويعطى العلماء حقوقهم المشروعة(1/59)
وبالالتفاف حول ولاة الأمر, من علماء وأمراء وبالرفق ومسايسة الأمور, وكف اللسان والبنان عن مايثير هذه الفتنة ويزيد من فتيل لهيبها وبكثرة الاستعاذة من الفتن ماظهر منها وما بطن, وبالسعي الجاد والحثيث في تحصيل العلم الشرعي المؤصل على الكتاب والسنة, فإن مثل هذه الفتن لا يقع فيها إلا أهل الغفلة والجهالة, وبالاستشارة الصادقة للموثوق في علمهم وأمانتهم وخبرتهم قبل فعل مامن شأنه أن يكون ضرره أكبر من نفعه, وبالمناصحة الصادقة والنقد الهادف البناء والحوار المبني على الضوابط الشرعية والقواعد المرعية, وأن لا يكون الفصل في قضايا الأمة المصيرية مرده إلى فرد أو فردين وإنما يكون مرده إلى جميع أهل العقد والحل, وأن يعرف كل فردٍ من أفراد المجتمع حدوده وقدراته العلمية والمعرفية فلا ينبغي أن ينصب الإنسان نفسه فيكون عالم زمانه ورسول أوانه الذي يجب الأخذ بكل أقواله كما هو حاصل من البعض هداه الله, فإن الأمة لو اجتمعت على رد قوله لضرب بها عرض الحائط واعتمد قوله, وليس عنده الاستعداد أن يراجع نفسه أو يجعل قوله محتملاً للخطأ وياويل من تسول له نفسه أن يخالفه فإنه سيكون محطاً لركاب سبابه وشتائمه وشماتته وقدحه واتهاماته التي لاتنتهي, وهذا سبب من أسباب الاختلاف المذموم الذي يجب أن نسعى جميعاً جاهدين لإزالته, فإذا راعينا ذلك فإننا سنكون في أمن من الفتن, ولكن قدر الله وما شاء فعل والمقصود أن أهل السنة في هذه المسألة توسطوا كعادتهم رضي الله عنهم وأرضاهم لأنهم المتوسطون بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم والله أعلم .(1/60)
المسألة الخامسة عشر:- وسطيتهم رضي الله عنهم وأرضاهم في مسألة الرجاء والخوف، وذلك أن الناس قد انقسموا في هذه المسألة إلى ثلاث فرق، طرفين ووسط، فمن الناس من عبد الله تعالى بالرجاء فقط تغليباً منه لأدلة الوعد وهم المرجئة فإنهم غلبوا جانب الرجاء ولم ينظروا إلا إلى أدلة الوعد فقط وغفلوا أو نقول:- تغافلوا على الأدلة الأخرى، وأوصلهم ذلك الأمر إلى الوقوع في الذنوب والمعاصي وموبقات الآثام بلا خوفٍ ولا حياء، ذلك لأن فعل الذنوب عندهم لا دخل فيه في نقص الإيمان، فأمنوا مكر الله تعالى وقد قال تعالى { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } والفرقة الثانية:- عبدت الله تعالى بالخوف فقط، وذلك تغليباً منهم لأدلة الوعيد فقط فما نظروا إلى أدلة الوعد،وإنما قصروا نظرهم على أدلة الوعيد فقط، فأوصلهم ذلك إلى الوقوع في اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله وهؤلاء هم الوعيدية وغيرهم, وكلا القولين خطأ وقصور, فالأولون فرطوا وتساهلوا والآخرون أفرطوا وشددوا وتجاوزوا الحد المشروع وكل واحدة من الفرقتين أخذت بطرفٍ من الأدلة فقط وتركت الطرف الآخر وهذا مجانب لمسلك الوسطية الذي سار عليه أهل السنة الذين عبدوا بالخوف والرجاء, فجعلوا العبادة قائمة عليهما, تحقيقاً لقوله تعالى { ويدعوننا رغباً ورهباً } وقوله تعالى { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لايحب المعتدين } وقوله تعالى { أمَّنْ هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } هذا هو منهج القرآن فإنه يقرن الترغيب بالترهيب, وذلك في آياتٍ كثيرة, فأهل السنة يجمعون في تعبدهم الرغب والرهب, وهذا ينتج الخشية, فالخشية مزيج من الخوف والرجاء, فإن من عبد الله بالرجاء فقط أمن من مكر الله, ومن عبد الله بالخوف فقط أيس من روح الله ورحمته ومن عبد الله بهما فهو الموحد الصادق, فالخوف والرجاء بالنسبة للعبادة هما كجناحي الطائر, ومن المعلوم أن الطائر(1/61)
لا يستقيم طيرانه إلا بالجناحين كليهما, فالأصل عند أهل السنة استواء الخوف والرجاء, فالخوف مانع من الوقوع فيما نهى الله أو ترك ماأمر الله به والرجاء يدفع العبد لاستطلاع ثواب الله تعالى ورحمته ومغفرته وقبول عمله, ومن المعلوم في الفطر السليمة أن الأمن من مكر الله واليأس من روح الله أمران خطيران يوصلان العبد إلى الهلكة والنجاة هو خلطهما وعبادة الله تعالى بهما, ولكن وإن كان الأصل استواءهما في قلب العبد إلا أنه يغلب أحدهما إذا توفرت مقتضياته فعند الموت وحلول سكراته يغلب جانب الرجاء حتى يوصله ذلك إلى إحسان الظن بربه جلَّ وعلا, وكذلك عند توبته من الذنوب والمعاصي يغلب جانب الرجاء أيضاً حتى لا يقنط من توبة الله عليه, وأما عند الصحة والغنى وخوف الوقوع في المعصية فإنه يغلب جانب الخوف, فإذا ورد لأحدهما سبب أو حالة تقتضي تغليب أحدهما فاليغلبه وإلا فالأصل استواءهما, وقول أهل السنة هذا هو القول الوسط لأنه أخذ بكل أطراف الأدلة وعمل بكل النصوص الواردة في هذا الشأن, وذلك لأن أهل السنة- رحمهم الله تعالى- وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم, فانظر كيف بركة هذه القاعدة والتي جمعت أبواباً شتى من أبواب الاعتقاد وهذا يفيدك أنه لابد من دراستها وتدريسها وإكثار الكتابة فيها وتنويع الطرح فيها حتى تتشربها القلوب ويترسخ مضمونها في النفوس والعقول وهذا مانقصده من هذه الكتابة فإنه ما حصلت بليّة إلا بسبب مخالفة منهج الوسطية إما إلى إفراطٍ وإما إلى تفريط والله ربنا أعلى وأعلم .(1/62)
المسألة السادسة عشر:- وسطية أهل السنة- رحمهم الله تعالى- في مسألة الألفاظ المجملة, فإن الناس قد انقسموا فيها إلى ثلاث طوائف فمن الطوائف من تقبل اللفظ المجمل على إجماله من غير تمحيص بين حقه وباطله, وتبني على معتقداتها ولربما في كثير من الأحيان ردت الألفاظ الصحيحة الثابتة بالنقول الصريحة الصحيحة بسبب لفظ من هذه الألفاظ المجملة, فهم يعتمدون هذا اللفظ المجمل ويجعلونه من أصولهم المعتمدة ويزنون به أدلة الكتاب والسنة فما وافقه أخذوا به وما خالفه ردوه وحرفوه وفتنوا أنفسهم بهذه الألفاظ وتربصوا وارتابوا بسببها, وأدخلت عليهم الشبه والتحريف والإلحاد والزندقة والفساد فلم يصف لهم مشرب ولا صح لهم أصل ولا ارتسم لهم طريق بل لايزالون في غيهم يعمهون وفي ريبهم يترددون وقابلهم طائفة أخرى على الطرف الآخر وهي التي ردت الألفاظ المجملة مطلقاً, من غير تمحيص بين حقها وباطلها ونصبت لها المجنانيق ووجهت عليها الأسلحة الفتاكة فما أن ترى لفظاً مجملاً إلا ورمت في صدره وعجزه من غير نظر في حقه من باطله وفاتهم بسبب ذلك حق كثير تتضمنه هذه الألفاظ المجملة وبات الحق في مثل هذه الألفاظ أسيراً في غياهب ردهم وعدم تمييزهم بين الطيب والخبيث ولا بين المقبول والمردود, وسبب ذلك أن هاتين الفرقتين لم يعطوا الفرقان الذي يستطيعون به أن يميزوا بين صحيح هذه الألفاظ ومردودها, فهما فرقتان مخطئتان والحق والصواب هو العدل والوسطية الذي سلكه أهل السنة - رحمهم الله تعالى- في هذه الألفاظ وخلاصة مذهبهم فيها أننا لانقبلها مطلقاً ولا نردها مطلقاً بل هي موقوفة على الاستفصال حتى يتميز حقها من باطلها فيقبل الحق ويرد الباطل فلم يردوها مطلقاً لأن فيها حقاً والحق لايرد ولم يقبلوها مطلقاً لأن فيها باطلاً والباطل لايقبل ولا يتميز ذلك إلا بطلب التفصيل ومعرفة مراد المتكلم بها فإن كان يريد الحق الذي فيها فأهلاً وسهلاً وإن كان يريد الباطل فلا(1/63)
أهلاً ولا سهلاً, وذلك لأن هذه الألفاظ المجملة تحتمل الحق والباطل فالمنهج السليم فيها هو الاستفصال وهو العدل والوسط الذي سلكه أهل السنة في مثل هذه الألفاظ, فالأولون غلوا في إثباتها حتى أثبتوا ما في هذه الألفاظ من الباطل, والآخرون غلوا في نفيها حتى نفوا ما فيها من الحق وكلا طرفي قصد الأمور ذميم, وأهل السنة لا غلو عندهم في الإثبات ولا غلو عندهم في النفي وهذا هو عين منهج الوسطية وهو من توفيق الله تعالى لأهل السنة- رحمهم الله تعالى- لأنهم الوسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم, وحتى يتضح مذهبهم في مثل هذه الألفاظ أضرب لك سبعة أمثلة وهي الحاضرة في الذهن حال هذه الكتابة فأقول:-
المثال الأول:- إن قيل هل ظاهر آيات الصفات مراد أو غير مراد؟ فلا تقل مراد مطلقاً ولا تقل غير مراد مطلقاً وذلك لأن لفظ الظاهر حسب استعمال الطوائف له صار من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً, فلا بد من الاستفصال, فإن كنت تريد بالظاهر ما يفهمه المبتدعة منها فهو غير مراد لأن المبتدعة لا يفهمون منها إلا المعاني الباطلة فالظاهر الذي فهموه من نصوص الصفات غير مراد ونحن نسايرهم على فهمهم هذا وإلا فما فهموه من ظاهر نصوص الصفات ليس هو الظاهر المراد بها وإنما هم حرفوه وألحدوا فيه وأخرجوه عن معانيه الصحيحة وأما إن كان المراد بالظاهر ما يفهمه أهل السنة منها والذي يتبادر لأول وهلة إلى أهل العقول السليمة والأفهام المستقيمة على ما تقتضيه دلالات اللغة فهو لاشك مراد, وهو الظاهر الصحيح المقبول فالظاهر الذي يفهمه المبتدعة منها غير مراد والظاهر الذي يفهمه أهل السنة منها مراد, وهذا لأن الألفاظ المجملة لا تقبل مطلقاً ولا ترد مطلقاً بل هي موقوفة على التفصيل والله أعلم .(1/64)
المثال الثاني:- إن قيل هل آيات الصفات من المحكم أم من المتشابة؟ فلا تقل من المحكم مطلقاً ولا تقل من المتشابه مطلقاً ذلك لأن هذه الألفاظ ألفاظ مجملة ومذهبنا فيها التفصيل, ولكن لابد أن تعلم أولاً أن الإحكام هو وضوح المعنى وفهم المراد, والتشابه هو خفاء المعنى وعدم فهم المراد إذا علمت ذلك فاعلم أنه إن أريد بقوله:- آيات الصفات من المحكم أي باعتبار معانيها ودلالاتها اللغوية فهي من المحكم, بل هي في أعلى درجات الإحكام وذلك لأن أهل السنة- رحمهم الله تعالى- يعلمون معاني آيات الصفات كما قدمنا لك قبل قليل, وإن أريد بقوله:- آيات الصفات من المحكم أي باعتبار كيفياتها وحقائقها التي هي عليه في الواقع, فلا, هذا لا نقبله بل هي من المتشابه في كيفياتها لأن كيفية الصفة غير معلومة لنا لأن مذهب أهل السنة هو الجهل بالكيفيات, فآيات الصفات محكمة باعتبار معانيها فقط ولكنها باعتبار كيفياتها متشابهة ولا نقول فيها باعتبار الكيفيات إلا كما قال ربنا جلَّ وعلا { آمنا به كلٌ من عند ربنا } فهذا بالنسبة لمن قال:- هي من المحكم, وأما من قال:- هي من المتشابه فإن كان يريد بالتشابه أي باعتبار معانيها فهذا باطل كل البطلان وهو مذهب المفوضة أهل التجهيل الذين هم شر طوائف أهل البدع وأخطرهم على أهل السنة لأنهم يتظاهرون بمظهر المعظمين لله تعالى, وإن كان يريد بالتشابه أي باعتبار كيفياتها فهذا حق وصدق نقبله لأنه المتوافق مع دلالة الكتاب والسنة ومذهب السلف, وبناءً عليه فاحفظ هذه القاعدة آيات الصفات محكمة باعتبار المعنى ومتشابهة باعتبار الكيف فهذه القاعدة مبنية على قاعدة الاستفصال في الألفاظ المجملة والله أعلم .(1/65)
المثال الثالث:- ما قولك فيمن قال:- لفظي بالقرآن مخلوق؟ والجواب:- إياك ثم إياك أن تصحح اللفظ مطلقاً أو تبطله مطلقاً لأنه لفظ مجمل يحتمل الحق ويحتمل الباطل, بل قل:- إن كان القائل يقصد بهذه الكلمة ملفوظة أي المقروء والمتلو فهو باطل كل البطلان لأنه حقيقة مذهب المعتزلة الذين يقولون:- إن القرآن مخلوق, وإن كان القائل يقصد لفظه هو من حركات لسانه ونبرات صوته وحركة لهاته وشفتيه, فهو حق وصدق لأن هذه الأشياء مخلوقة, والمعتزلة إنما يريدون بهذه الكلمة أن يتوصلوا إلى مقصودهم ومذهبهم الخبيث في كلام الله تعالى, فلا تنسق وراء هذا اللفظ البدعي ولا تقبله مطلقاً ولا ترده مطلقاً بل لابد فيه من الاستفصال كما سبق, والله أعلم .
المثال الرابع:- إن قيل:- مارأيك في كلمة( لفظي بالقرآن غير مخلوق)؟ فقل:- لاأقبلها مطلقاً ولا أردها مطلقاً بل هي عندي موقوفة على الاستفصال:- فإن كان المتكلم بها يقصد ملفوظه والمتلو والمقروء فهذا حق وصدق لاغبار, لأن ملفوظه ومتلوه ومقروءه كلام الله, وهو غير مخلوق, وإن كان المتكلم بها يقصد صوته هو من حركات لسانه ونبرات صوته وحركات لهاته وشفتيه فهو باطل كل البطلان لأن هذه الأشياء مخلوقة فكيف يقول:- ليست بمخلوقة, وبالجملة فالقراءة مخلوقة والمقروء غير مخلوق والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق فالصوت والألحان صوت القارئ لكنما المتلو قول الباري, وبناءً عليه فلا يجوز قبول هذا اللفظ مطلقاً ولا رده مطلقاً بل هو موقوف على الاستفصال فإن أريد به الحق قبلناه وإن أريد به الباطل رددناه والله أعلم .(1/66)
المثال الخامس:- إن قيل:- هل الله في جهة؟ فقل:- إن لفظ الجهة من الألفاظ المجملة التي لا أقبلها مطلقاً ولا أردها مطلقاً وإنما هو عندي موقوف على التفصيل فأما اللفظ فلا أثبته ولا أنفيه وأما المعنى فأستفصل فيه فإن أريد بها جهة سفل فهذا باطل لأن السفل نقص والله تعالى منزه عن النقص, وإن أريد جهة علو محيطة فهذا باطل أيضاً لأن الله تعالى لايحيط به شيء, وإن أراد جهة علو غير محيطة فهو حق وصدق ولكن لا أطلق عليه جهة وإنما أسميه بما سمَّته الأدلة به وهو أن نقول:- الله في العلو المطلق.
المثال السادس:- إن قيل هل الله في مكان؟ فقل:- أما لفظ المكان فلا أثبته ولا أنفيه لعدم وروده في الكتاب ولا السنة ولا على لسان السلف الأوائل, وأما معناه فإنه يحتمل حقاً وباطلاً فالمذهب فيه عندي الأستفصال فإن أراد به مكان سفل فهو باطل لأن السفل نقص والله منزه عن النقص، وإن أراد مكان علو محيط فهو باطل لأن الله تعالى لا يحيط به شيء وأن أريد به مكان علوٍ غير محيط فهو حق وصدق ثابت لله تعالى ولكن لا أطلق لفظ مكان وإنما أطلق استواءً فالله مستوٍ على عرشه استواءً يليق بعزه وعظمته وجلاله، لأنه هكذا في الأدلة.(1/67)
المثال السابع:- إن لفظ التأويل صار من الألفاظ المجملة التي تستعمله الطوائف وكل طائفة تقصد به شيئاً وهو مدخل من مداخل المبتدعة في تحريف صفات الله تعالى, فإن قيل هل التأويل مقبول أم مردود؟ فلا تقل:- هو مقبول ولا تقل هو مردود ولكن قل:- لابد من التفصيل لأنه من الألفاظ المجملة بحسب الاستعمال فإن أريد به مايؤول إليه الشيء وهو حقيقته المرادة منه فهو مقبول وهو المقصود القرآني من لفظ التأويل, وبناءً عليه فتأويل الأمر امتثاله وتأويل النهي اجتنابه وتأويل الخبر حقيقته بعد وقوعه وتأويل الرؤيا وقوعها مطابقة لما أولت به, وهكذا وإن أريد به التفسير فهو أيضاً مقبول وهو مشهور عند طائفة من السلف كابن جرير وغيره فإنه يقول:- تأويل قوله تعالى كذا وكذا, كذا وكذا, أي تفسيره ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - (( وعلمه التأويل)) أي تفسير القرآن وفهم ألفاظه ومقاصده فهذا المعنى مقبول أيضاً, ولكن أحدث المتأخرون من الأصوليين والفقهاء للتأويل معنى ثالثاً وهو صرف الكلام عن ظاهر الراجح إلى معناه المرجوح, وهذا لايعرفه السلف الأوائل ولكنه أيضاً لفظ مجمل فيه حق وباطل, فإن كان ذلك الانتقال بمقتضى دليل فأهلاً وسهلاً وأما إن كان الانتقال إنما هو بمقتضى الشهوة والتعصب والهوى والمذاهب الرديئة والقواعد الباطلة المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول فلا أهلاً ولا سهلاً ولا حيَّا الله أصحاب هذا التأويل, فكم جروا على الإسلام من بلية وفتحوا لأعداء الإسلام من باب, كفى الله الأمة شرهم, وحرر علوم الشريعة من تحريفاتهم الباطلة الفاسدة وتهوكاتهم المغلوطة الكاسدة والمقصود:- أن التأويل بمعنى حقيقة الشيء التي يؤول إليها مقبول, والتأويل بمعنى التفسير مقبول والتأويل بمعنى صرف اللفظ على معناه الراجح إلى معناه المرجوح, إن كان بمقتضى دليل صحيح صريح فمقبول أيضاً وإن كان بمقتضى الشهوة والهوى فغير مقبول وهو تحريف وليس تأويلاً, فانظر كيف بركة(1/68)
هذه القاعدة .
وهذا آخر ما أردت تقييده في هذه الرسالة وليس ما ذكرته من باب الحصر وإنما من باب التمثيل فقط وإلا ففروعها أكثر من ذلك فأوصيك ثم أوصيك ثم أوصيك أن تلتزم الالتزام المطلق بمنهج الوسطية وأن لا تزيغ عنه لا يميناً ولا شمالاً, وأوصيك ثم أوصيك ثم أوصيك أن تسير على ماسار عليه سلف هذه الأمة شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراع, وأوصيك ثم أوصيك ثم أوصيك بأن لا تأخذ معتقدك إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة وأن لا تؤصل أصلاً ولا تقعد قاعدة إلا بالنظر فيها هل هي متوافقة مع الكتاب والسنة أم لا, فإن كنت تريد النجاة في الدنيا والآخرة فالتزم بهدي الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة, فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً, وأوصيك ثم أوصيك ثم أوصيك, أن تحذر من أهل البدع فلا تجالسهم ولا تجادلهم إلا في حالات الضرورة بعد التسلح بسلاح العلم والاستعانة بالله تعالى, ولا تسع في الفتنة بقولٍ ولا عمل فنحن في آخر الزمان والفتن ستكثر فاستعذ بالله منها ولا نجاة لنا منها إلا بالله وتوفيقه وحسن فضله وامتنانه وأوصيك ثم أوصيك ثم أوصيك أن لا تأخذ من العلوم إلا ما أيده الدليل وسار على موافقة النصوص ولا تتعصب لأحدٍ إلا للدليل, فسر معه حيث سار وقف معه حيث وقف, والله أسأل أن ينفع بهذه الوريقات اليسيرة النفع العام والخاص وأن ينزل فيها البركة تلو البركة وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام ويجعلها نبراساً لمن أراد منهج الوسطية, وأستغفر الله وأتوب إليه ثم أستغفره وأتوب إليه ثم أستغفره وأتوب إليه على ما حصل فيها من الزلل والتقصير وأشهد الله تعالى أنها وقف له على جميع المسلمين لا أرجو بها مالآً ولا عزاً ولا جاهاً ومن أراد طباعتها وإخراجها فهو بالحل ولو بغير اسم مؤلفها, والمقصود عندي إن شاء الله تعالى هو وصول الحق للناس بغض النظر عن من يوصله, أنا أو(1/69)
غيري وأعوذ بالله من الكبر والغرور والحسد والرياء والسمعة وأسأله جلَّ وعلا أن يقبضني كفافاً عفافاً لا لي ولا عليَّ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وكان الفراغ منها في ليلة التاسع عشر قبيل الفجر من شهر جمادي الآخرة عام خمس وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - .(1/70)