رسالة جامعة في أصول الفقه
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله، نحمده على ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، وعلى أحكامه القدرية العامة لكل مكون وموجود، وأحكامه الشرعية الشاملة لكل مشروع، وأحكام الجزاء بالثواب للمحسنين، والعقاب للمجرمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في الأسماء والصفات، والعبادة والأحكام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي بيَّن الحكم والأحكام، ووضَّح الحلال والحرام، وأصّل الأصول وفصلها حتى استتم هذا الدين واستقام، فاللهم صلِّ وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه خصوصًا العلماء الأعلام.
أما بعد:
فإن علم أصول الفقه علم جليل القدر، غزير الفائدة، به يتوصل إلى استنباط الأحكام الشرعية على أسس سليمة، وقواعد صحيحة، لا يستغني عنه محدث، ولا مفسر، ولا فقيه، بل ولا تتم ثقافة الطالب المسلم إلا بهذا العلم؛ لأن هذا العلم -بعد توفيق الله تعالى- هو المعين على فهم نصوص الشرع، واستنباط أحكامه منها.
ولهذا نجد أن العلماء -رحمهم الله تعالى- وأعني بهم الأصوليين- فرغوا جهدهم واستفرغوا طاقتهم، وبذلوا أوقاتهم في تأصيل مسائل هذا العلم، وفي تفريع فروعه، حتى صار علمًا مستقلا.
وإن الملاحظ في كتب الأصول التي تشكل جناحًا مستقلا في المكتبة أقول: إن هذه الكتب يلاحظ فيها على اختلاف مناهجها، وتباين وجهات نظر مؤلفيها يلاحظ فيها ثلاثة أمور:
الأمر الأول: صعوبة العبارة في غالبها، مما يجعل معظم الطلاب يشكون من صعوبة أصول الفقه، وانغلاق عبارته .(1/1)
ثانيًا : أن معظم هذه المؤلفات أدخل فيها ما ليس منها، أدخل في أصول الفقه مباحث ليست من أصول الفقه، كبحثهم في مبدأ اللغات، وفي عصمة الأنبياء، وفي تكليف الكفار، وهل هم مطالبون بفروع الشريعة؟ أو بمعنى أدق: هل هم مطالبون بالأوامر والنواهي؟ وتكليف المعدوم، إلى غير ذلك من المباحث، وهذه المباحث ليست من أصول الفقه.
ولهذا قرر الشاطبي -رحمه الله تعالى- في كتابه الموافقات أن الأصول ما أضيف إلى الفقه إلا لأجل أن يكون خادمًا للفقه، ومعينًا على الفقه، وعليه -وهذا من معنى كلامه- فكل مسألة في أصول الفقه لا تخدم الفقه فليست من الأصول؛ ولعل السبب في هذا الأمر -أعني الثاني وما قبله- هو أن معظم من كتبوا في أصول الفقه هم من علماء الكلام وفرسان المنطق، فدخلت عباراتهم وعلومهم في أصول الفقه، كما نص على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والأمر الثالث الذي يلاحظ في كتب الأصول هو: عنايتها بالجانب النظري دون الجانب التطبيقي التمثيلي؛ لأن معظم قواعد أصول الفقه قررت بطريقة لم يكن فيها عرض أمثلة كافية من الكتاب والسنة؛ ولهذا فإن هذه الأمور الثلاثة تدعو الحاجة -في زماننا هذا- إلى تلافيها، وتذليل الصعوبات أمام دارسي الأصول؛ ولهذا نجد أن العلماء -رحمهم الله- ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، تبعه على هذا تلميذه ابن القيم، ومن قبلهم أيضًا ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله، ثم ما سلكه المتأخرون المعاصرون من التأليف في أصول الفقه، وعرضه بأسلوب جديد فيه محافظة على قواعد المتقدمين، وما أصلوه ، ولكن من جانب آخر اتجهت العناية إلى أمرين:
الأمر الأول : إبعاد المباحث التي ليس لا علاقة بالأصول من الأصول.(1/2)
والمبحث الثاني: العناية بضرب المثال، وتوضيح القاعدة، ولعل من هذه الكتب ،أو بمعنى أدق من هذه الرسائل التي كتبت في هذا الموضوع: هذه الرسالة التي سيكون التعليق عليها -إن شاء الله تعالى- خلال هذه الدروس الستة التي أولها درس الليلة، وهذه الرسالة -كما تعلمون- كتبها الشيخ علامة القصيم عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-.
ما امتازت به هذه الرسالة
يقول -رحمه الله- في المقدمة بعد الخطبة التي قرأتها عليكم في أول الكلام، وإنما قرأتها توفيرًا للوقت، يقول: أما بعد فهذه رسالة لطيفة في أصول الفقه، سهلة الألفاظ، واضحة المعاني، معينة على تعلم الأحكام لكل متأمل معان، نسأل الله أن ينفع بها جامعها وقارئها، إنه جواد كريم.
أولًا: قوله: "فهذه رسالة لطيفة" اللطيف من الكلام هو رقيقة وسهلة، ذكر هذا في المعجم الوسيط: يقال: هذا كلام لطيف، أو هذا شرح لطيف يعني رقيق واضح العبارة، سهل الأسلوب.
ثانيًا: هذه الرسالة للشيخ -رحمه الله- امتازت بثلاث مزايا:
المزية الأولى: أن هذه الرسالة واضحة العبارة، سهلة الأسلوب، وهذه طريقة الشيخ -رحمه الله- في أسلوبه.
الأمر الثاني أو المزية الثانية وهي المهمة: أن الشيخ -رحمه الله- اتجه فيها إلى العناية بالضوابط والتقعيد، وهذه طريقة يميل إليها الشيخ -رحمه الله- يعنى بقضيه التقعيد والضوابط، ولا ريب أن هذا فيه نفع عظيم للطالب ولا سيما الطالب المبتدئ.
المزية الثالثة: أن هذه الرسالة مختصرة، ومع اختصارها فلا يستغني عنها الطالب المبتدئ ولا الطالب المنتهي: يعني الطالب المبتدي بحاجة إليها، والطالب المنتهي -أيضًا- يستفيد منها. نظرًا لما أودعه الشيخ -رحمه الله- فيها من الدرر والفوائد، وقد قسمت هذه الرسالة إلى ستة دروس، ولا أدري هل نستطيع إكمالها، أو لا، ولكنني حريص على إكمالها؛ لأجل أن يصدق على الطالب أنه درس في أسبوع واحد متنًا من متون الأصول مع شرحه.
درسنا اليوم في ثلاث نقاط:(1/3)
النقطة الأولى: في تعريف أصول الفقه. النقطة الثانية: في الأحكام الشرعية. النقطة الثالثة: في شرح قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد.
فصل أصول الفقه
تعريف أصول الفقه
يقول الشيخ -رحمه الله- في الجزئية الأولى أو النقطة الأولى:
أصول الفقه هي العلم بأدلة الفقه الكلية.
هذا التعريف منه -رحمه الله- تعريف مختصر، يفي بالمراد ، الأصول له تعريفان: تعريف باعتبار مفرديه، وهذا لن نتعرض له، وتعريف باعتباره علمًا على هذا الفن المعروف، وهو كما قال الشيخ "العلم بأدلة الفقه الكلية"، والمراد بأدلة الفقه الكلية: القواعد العامة التي يحتاج إليها الفقيه لاستنباط الأحكام الشرعية. فأصول الفقه وظيفته دراسة القواعد الكلية، فقولهم: الأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة، النهي للتحريم ما لم تصرفه قرينة ، العام شامل لجميع أفراده ما لم يدخله التخصيص ، المطلق يحمل على المقيد: هذه تسمى أدلة كلية؛ وإنما سميت أدلة كلية؛ لأن قولنا الأمر يقتضي الوجوب ينطبق على كل واجب من أول الفقه إلى آخره، وهكذا النهي.
فلهذا سميت قواعد الأصول قواعد كلية، وهذا يدل على أن الأصولي ما يشتغل بالجزئيات، ولا يشتغل بالتفاريع، هذه مهمة الفقيه. الأصولي مهمته: تجهيز القواعد، وإعطاؤها للفقيه؛ لأجل أن الفقيه يطبقها على الأحكام، أو يستنبط الأحكام بواسطتها، هذا هو معنى أصول الفقه.
والشيخ -رحمه الله- ترك قيدين من القيود جرت عادة الأصوليين بذكرهما، ما هما ؟ ما هما القيدان اللذان ترك المصنف وقد جرت عادة الأصوليين بذكرهما ؟ أتفضل أنت. أحسنت. كيفية الاستدلال بها -يعني بهذه الأدلة- وحال المستفيد، ويبدو لي أن الشيخ -رحمه الله- ترك هذا لأمرين:
الأمر الأول: أنه قصد الاختصار.(1/4)
والأمر الثاني: كأن الشيخ رأى أن العلم بأدلة الفقه الإجمالية ما يتم إلا بمعرفة كيفية الاستدلال، وكيفية الاستدلال لا تتم إلا من المجتهد. إذ كأنه -رحمه الله- رأى أن التنصيص على أن الأصول هو العلم بأدلة الفقه الكلية يكفي عن ذكر كيفيته الاستفادة، وعن ذكر حال المستفيد.
تعريف الفقه
يقول بعد هذا -موضحًا السبب في كون الأصول هو العلم بأدلة الفقه الكلية- يقول:
وذلك أن الفقه: إما مسائل يطلب الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة، وإما دلائل يستدل بها على هذه المسائل. فالفقه هو معرفة المسائل والدلائل.
يقصد بهذا أن الفقه لا يكون فقهًا بالمعنى الاصطلاحي إلا إذا توفر فيه أمران:
الأمر الأول : معرفة المسألة.
والأمر الثاني: معرفة الدليل. فمثلًا: إذا أخذنا قول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ } (1) إلى قوله -مثلًا-: { وَأُمَّهَاتُ ِNن3ح!$|،خS } (2) فأنا الآن عندي مسألة، ما هي ؟ ما حكم نكاح أم الزوجة؟ هذه مسألة.. التي قال عنها المصنف: مسائل. هذه المسألة تحتاج إلى حكم من الأحكام الخمسة: إما التحريم -مثلًا-، أوالكراهة .
هذا معنى قول الشيخ هنا؛ وذلك أن الفقه إما مسائل يطلب الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة: فأنا معي مسألة فقهية أريد أن أحكم عليها بحكم من الأحكام الخمسة، فبما أن الآية صدرت بقوله -سبحانه-: { حُرِّمَتْ } (3) إذن صار الحكم هو التحريم، إذن ثبت التحريم. فلو قيل لإنسان: ما حكم نكاح أم الزوجة ؟ يقول. الحكم التحريم.
__________
(1) - سورة النساء آية : 23.
(2) - سورة النساء آية : 23.
(3) - سورة النساء آية : 23.(1/5)
يبقى الأمر الثاني: وهو الدليل، سيقول: إن الدليل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } (1) إلى قوله: { وَأُمَّهَاتُ ِNن3ح!$|،خS } (2) هذه -الآن- مسألة فقهية، ولكن كيف تم للفقيه أن يتوصل إليها؟ لعلكم يا إخوان، تلاحظون أن كثيرًا من مسائل الأوامر والنواهي أمرها واضح، لكن فيه مسائل فقهية تحتاج إلى تعامل بيِّن مع القواعد الأصولية، مثل: المسائل التي قد تكون في أبواب العام والخاص، أو في باب المطلق والمقيد، أو في باب المنطوق والمفهوم، أو في القياس، وكلها المسألة -هذه- قد يقول قائل: أمرها واضح -هذه- لكن -كقاعدة عامة- الفقه لا بد فيه من هذين الأمرين : الأمر الأول: مسائل، والأمر الثاني: أمر الدلائل.
أدلة أصول الفقه
الشيخ -رحمه الله- يناقش موضوع الدلائل الذي يراد بها الأدلة، فيذكر أن الأدلة نوعان، فيقول:
وهذه الدلائل نوعان: كلية تشمل كل حكم من جنس واحد من أول الفقه إلى آخره، كقولنا: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، ونحوهما، وهذه هي أصول الفقه، وأدلة جزئية تفصيلية تفتقر إلى أن تبنى على الأدلة الكلية. فإذا تمت حُكِم على الأحكام بها.
وكان الأولى أن يقول: وهذه هي الفقه.
إذن عرفنا الفقه وأصول الفقه: أصول الفقه أدلته كلية، والفقه أدلته جزئية. لماذا كانت أدلة أصول الفقه كلية؟ لماذا؟ الجواب: لأن أدلة أصول الفقه لا تعني مسألة معينة، إذا قلنا: الأمر للوجوب. خذ -مثلًا- متن الزاد من أوله إلى آخره، وطلَّع النص ..المسائل الفقهية التي ينطبق عليها أن الأمر للوجوب . إذن قاعدة أن الأمر للوجوب ، أو دليل أن الأمر للوجوب دليل جزئي أو كلي ؟ دليل كلي. لماذا كلي؟ لأنه ينطبق على جميع أوامر الشريعة الواجبة، النهي للتحريم: دليل من أدلة الأصول ينطبق على كل مسألة النهي فيها للتحريم، بدون تخصيص مسألة معينة.
__________
(1) - سورة النساء آية : 23.
(2) - سورة النساء آية : 23.(1/6)
هذا هو أصول الفقه. إذن أصول الفقه أدلة إجمالية، وإن شئت قل: أدلة كلية لا يعنى بالتفاصيل، ولا بعرض الجزئيات، اللهم إلا إن كان المقصود التمثيل فقط.
أما النوع الثاني من الأدلة:- هذا- يسمى أدلة جزئية، والمراد بالأدلة الجزئية: أدلة كل مسألة في الفقه: ولماذا سميت أدلة جزئية؟ لأن كل مسألة لها دليل ليس للمسألة الأخرى: هل الأوامر دليلها واحد؟ هل النواهي هي دليلها واحد؟ { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (1) دليل جزئي خاص بإقامة الصلاة، { وَآَتُوا الزَّكَاةَ } (2) دليل جزئي، هذا غير هذا، { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } (3) دليل جزئي { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ } (4) دليل جزئي، هذا غير هذا؛ ولهذا سميت أدلة جزئية؛ لأنها تتعلق بكل جزء من مسائل الفقه.
إذن كل مسألة من مسائل الفقه عليها دليل إما من كتاب أو من سنة.. إلى آخر الأدلة.
لكن لما كانت هذه الأدلة مربوطة بمسائلها أطلق عليها العلماء الأدلة الجزئية، وخلاصة القول وقصاراه إن الدليل الكلي وظيفة الأصولي، والدليل الجزئي وظيفة الفقيه، والشرح سيكون -يعني فيه نوع من الاختصار خصوصًا في بعض المواضع حتى نمشي في الكتاب.
لا يقبل الحكم الشرعي إلا بدليل
قال الشيخ -رحمه الله-: فالأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية.
العبارة معناها: أن من أراد أن يعطينا حكمًا شرعيًا لا بد أن يقيم الدليل، لا يقبل من أي إنسان حكم شرعي إلا بدليل، هذا معنى قوله: "فالأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية"
الأدلة التفصيلية تحتاج إلى أدلة كلية
والأدلة التفصيلية مضطرة إلى أدلتها الكلية.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 72.
(2) - سورة البقرة آية : 43.
(3) - سورة الإسراء آية : 32.
(4) - سورة الإسراء آية : 34.(1/7)
يعني إيه؟ يعني أن الفقيه ما يمكن يستنبط الحكم من الدليل إلا بواسطة أصول الفقه الذي يبحث في الأدلة الكلية؛ ولهذا صح أن يسمى أصول الفقه، ومعنى أصول الفقه: يعني أن الفقه مبني عليه، يعني: أصل الجدار، أصل الشجرة -يعني بالنسبة للمعنى اللغوي- الشجرة مبنية على جذعه، والجدار مبني على أساسه.
إذن الفقه مبني على الأصول، ولعله بهذا اتضح لكم معنى أصول الفقه، ومعنى أن الفقه مبني على الأصول معناه (إيه)؟ مثلما قال الشيخ -رحمه الله-: "الأحكام الشرعية تحتاج أدلة تفصيلية والأدلة التفصيلية تحتاج إلى الأدلة الكلية" إذن هما أمران متلازمان. ولهذا يقول:
أهمية معرفة أصول الفقه
وبهذا نعرف الضرورة والحاجة إلى معرفة أصول الفقه وأنها معينة عليه وهي أساس النظر والاجتهاد في الأحكام.
الشيخ -رحمه الله- يشير إلى فائدة واحدة من فوائد الأصول، وهي أهم الفوائد على الإطلاق -كما قلت لكم في بداية الكلمة- وهي: استنباط الأحكام الشرعية على أسس سليمة وقواعد صحيحة؛ ولهذا نص شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على هذه الفائدة حيث قال:" إن المقصود من أصول الفقه أن يفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنة"، وبهذا نكون أنهينا الجزئية الأولى.
الأحكام الشرعية التي يدور الفقه عليها
بيان الأحكام الشرعية
ننتقل الآن إلى الجزئية الثانية وهي: الأحكام الشرعية يقول -رحمه الله-:
الأحكام التي يدور الفقه عليها خمسة: الواجب الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، والحرام ضده، والمسنون الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، والمكروه ضده، والمباح مستوي الطرفين.
الأحكام الشرعية خمسة:
الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح، ووجه الحصر في هذه الأقسام الخمسة أن نصوص الشريعة إما طلب -يعني موجه إلى المكلفين- إما طلب، وإما تخيير، وإما وضع، والوضع- هذا- يسمى الأحكام الوضعية، والشيخ -رحمه الله- ما تعرض لها.
الطلب نوعان:(1/8)
إما طلب فعل وهذه الأوامر: وإما طلب ترك وهذه النواهي.
الأوامر نوعان:
إما أوامر طلبت على سبيل الإلزام، هذا واجب، أو أوامر طلبت لا على سبيل الإلزام هذا المندوب. النواهي -كذلك-: إلزام أو بدون إلزام، والخامس المباح.
إذن هذه الأحكام الخمسة مفرعة من الطلب بنوعيه، ومن المباح. هذه الأقسام الخمسة العلماء في تعريفها يسلكون طريقتين: إما التعريف بالحد والتصور، وإما التعريف بالحكم والنتيجة والثمرة. فالشيخ -رحمه الله- جرى على الثاني: فعرف الواجب بأنه ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهذا يسمى تعريف الثمرة والنتيجة، أما تعريف الواجب بالحد فهو ما أمر به الشرع على وجه الإلزام.
وكثير من الأصوليين يرجح أن التعريف ينبغي أن يكون بالحد والضابط، لا بالحكم ولا بالثمرة؛ لأنهم يقولون: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، حتى إن ابن عقيل الحنبلي في كتابه الواضح في الأصول قال: "إن الحد ببيان الثمرة يأباه المحققون" -يعني- وصفهم بالمحققين.
المندوب: مقابل للواجب، فهو ما أمر به الشرع، لا على وجه الإلزام، حكمه يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، المحرم: ما نهى عنه الشرع على وجه الإلزام، والمكروه: لا على وجه الإلزام، والمباح: ما استوى طرفاه -يعني- لم يتعلق به لا أمر ولا نهي.
هذه أمور واضحة ومعلومة للجميع، ولا نريد أن نزيد فيها على ما قاله المؤلف؛ لأن أمامنا ما هو أهم منها، ولكني قبل أن أنتهي من ذكر الأحكام الخمسة أود أن أضع النقاط على الحروف في نقطتين:
النقطة الأولى : ذكر الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات "أن المندوب خادم للواجب" ويعني بهذا -رحمه الله- أن المحافظة على المندوبات سياج منيعة تؤدي للمحافظة على الواجبات؛ لأن الغالب أن من يحافظ على نوافل الصلاة -مثلًا- فإنه لن يقصر في واجبها، وهكذا بقية أحكام الشريعة.(1/9)
فالذي يحافظ -مثلًا- على نوافل الصلاة تجد هذا صلاته أحيطت بسياج منيعة، أحاطها بفعله للمندوبات: إذا كان -مثلًا- يتقدم للمسجد قبل الصلاة بعد الأذان ويتأخر، فهذا تجد أن فريضته سلمت من أي نقص يدخل عليها، انظر إلى حال الناس لا تهمهم النوافل القبلية ولا البعدية، ولا تهمهم الأذكار، ماذا تلاحظون؟ تلاحظ أن الخلل ما اقتصر على التقصير في المندوبات فقط، بل تعدى إلى الواجبات؛ ولهذا نجد الذي يفوته جزء من الصلاة، أو تفوته الجماعة إنما أُتي من قبل إخلاله بالمندوبات، لكن الذي سلمت له فريضته، وأدركها من أولها من أين جاءه هذا ؟ من كونه حافظ على المندوب.
فهذه الكلمة من الشاطبي -رحمه الله- هي درس تربوي يجب أن يعيه كل مسلم، وهو أن المندوبات تعتبر خادمًا للواجبات، وهذا -يا إخوان- بالنسبة لدار الدنيا، أما بالنسبة للدار الآخرة: إذ كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي -وهو حديث صحيح- أن الفرائض يوم القيامة تكمَّل نواقصها من النوافل، وأنه أول ما يُبدأ بالصلاة، وكما ورد في الحديث قال: " ثم تكون سائر فرائضه على ذلك " -يعني- نواقص الصيام من نفل الصيام، ونواقص الصلاة كذلك، ونواقص الحج كذلك. فلعله اتضح لنا -بهذا- معنى قول الشاطبي: "إن المندوب خادم للواجب".
المسألة الثانية: أن المكروه الذي أمر به الشرع لا على وجه الإلزام، وتركه خير من فعله. هذا اصطلاح للمتأخرين الأصوليين، وإلا فإن معظم المتقدين، ولا سيما الإمام أحمد -رحمه الله- ، الشافعي -رحمه الله- كما ذكر ابن القيم رحمه الله في أوائل الجزء الأول من إعلام الموقعين -أنهم لا يعرفون المكروه بمعنى كراهة التنزيه ، إنما إذا أطلقوه المكروه أرادوا به المحرم .(1/10)
المكروه يعني ما نهى عنه لا على وجه الإلزام -طيب- فابن القيم يقول: "إن متأخري هؤلاء الأئمة غلطوا على أئمتهم، فراحوا يفسرون الكراهة في كلام أئمتهم بالاصطلاح الأصولي المتأخر". ولا ريب أن الدافع لمثل الإمام أحمد -رحمه الله- على أن يعبر عن المحرم بالمكروه بأكره -هو الورع، امتثالًا لقول الله تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) } (1)
ولهذا ينبغي التوقي؛ لأن العلماء القدامى إذا عبروا بالمكروه أنه لا يفسر في كلامهم -بالمعنى الاصطلاحي- عند الأصوليين إلا إذا وجد أدلة تدل على ذلك؛ ولهذا الإمام أحمد ورد عنه أنه قال: "أكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة" ولا ريب أن الكراهة -هذه- كراهة تحريم؛ لأن الدليل واضح في هذا، في النهي، على الخلاف عند العلماء في موضوع استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب وغيرهما، أو أنه مقصور على الأكل والشرب، هذه المسألة مسألة أخرى.
أقسام الواجب
بعد هذا الشيخ -رحمه الله- انتقل إلى تقسيم واحد من تقسيمات الواجب، وهو تقسيم الواجب باعتبار الفاعل، الواجب باعتبار الفاعل قسمان: فرض عين، وفرض كفاية.
فرض العين: ما طلب من كل مكلف بعينه.
بحيث إن غيره لا يقوم مقامه؛ ولهذا سمي فرض عين؛ لأنه متعلق بعين المكلف نفسه وذاته، هذا واضح مثل: الطهارة والصلاة الصيام، وغير ذلك من فروض الأعيان.
الثاني هو: فرض الكفاية، فرض الكفاية لا يعني أن يكون الفاعل زيدًا أو عمرًا، إنما الذي يعني -في نظر الشرع- هو حصول الفعل من أي شخص كان، المهم الفعل لا بد أن يحصل؛ ولهذا سمي فرض كفاية؛ لأن قيام البعض به يكفي ، يكفي في إيه؟ يكفي في حصول الفعل من جانب وسقوط الإثم عن الباقين من جانب آخر.
__________
(1) - سورة النحل آية : 116.(1/11)
لكن من المثاب؟ المثاب هو الفاعل. فالذي يقوم بفروض الكفايات هو الذي يثاب، أما البقية فغاية ما يتعلق بهم أنه يسقط عنهم الإثم.
وفروض الكفايات كثيرة، مثل لها الشيخ بعض الأمثلة: كتعلم العلوم والصناعات النافعة، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء، تغسيل الموتى، تكفينهم، والفتوى، كل هذه من فروض الكفايات إذا قام به من يتأدى به الفرض كفى: إذا وجد أناس يغسلون الموتى ما يلزم أن البقية يطالبون، إذا وجد من يقوم بالفتوى كذلك، إذا وجد من يتولى القضاء كذلك.
لكن ينبغي أن نعلم مسألة وهي: أن فرض الكفاية قد يكون فرض عين، ومتى؟ إذا تعين المطلوب في حق شخص معين. إذا لم يوجد في البلد إلا قاضٍ واحد صار القضاء بالنسبة له فرض عين، لو -مثلًا- غرق إنسان في ماء، وفيه عشرة أشخاص موجودون، ولكن لا يحسن السباحة إلا واحد يكون إنقاذ الغريق في حقه فرض عين؛ ما يقول: لا، كل واحد منكم، هذا فرض كفاية. تقول: لا، صار الآن فرض عين.
مثلًا: مريض ذهبنا به إلى المستشفى، إلى الإسعاف ،إذا كان في قسم الإسعاف ثلاثة أطباء : حكم إسعاف المريض فرض كفاية، إذا أسعفه واحد انتهى أمر الباقين. لكن لو فرض أن الطبيب المناوب... ما فيه إلا طبيب واحد مناوب، ماذا يكون حكم الإسعاف في حقه؟ يكون فرض عين. إذن فروض الكفايات قد تكون فرض عين إذا تعين المطلوب على شخص معين.
تفاوت درجات الواجب
وهذه الأحكام الخمسة تتفاوت تفاوتًا كثيرًا بحسب حالها ومراتبها وآثارها.
هذه نقطة مهمة جدًا، وكما قلت لكم في أول الكلام، وسترون في النهاية -إن شاء الله- أن من ميزات هذه الرسالة: عناية الشيخ بإيه؟ بالضوابط هه والتقعيد: القاعدة أن الواجبات تتفاوت مراتبها وآثارها.
فالواجبات ليست على درجة واحدة: الصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم باقي الواجبات من الصدق، بر الوالدين، صلة الأرحام، فعل المعروف، إلى غير ذلك، فالواجبات درجاتها مختلفة.(1/12)
لكن ما الذي يعنينا من هذا ؟ الذي يعنينا من هذا أمران، نبه عليهما شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم:
الأمر الأول:
أن تفاوت الواجبات، يعني تفاوتها في الثواب والعقاب، يعني تفاوتها في الثواب والأجر؛ لأن من الواجبات ما يكون ثوابه وأجره على حسب مصلحته ومنفعته.
الأمر الثاني:
أنه إذا كانت الواجبات تتفاوت فإن الذي ينبغي على المكلف -كما يقول ابن القيم في مدارج السالكين- أن يعنى المكلف بأفضل الواجبات، وأكملها وأتمها. يعني يكون دائمًا مسارعًا إلى الأكمل والأفضل.
لكن -وهذه لعلكم تجعلونها نقطة ثالثة-: تفاوت هذه الواجبات يختلف بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات، من أمثلة ذلك: النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني- بيَّن لنا أن الأعمال الصالحة فاضلة في عشر ذي الحجة، كما في الحديث الصحيح " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام " -يعني أيام العشر- ولا ريب أن الأعمال الصالحة في أيام العشر منها واجبات، ففضلت الأيام على الجهاد في سبيل الله لشرف الزمان.
عندك -مثلًا- الأذكار التي بعد الصلاة، لو إنسان بعد أن انصرف من الصلاة، أخذ المصحف، وبدأ يقرأ. لا ريب أن كلام الله أفضل الكلام، ولكن عمله هذا فاضل أم مفضول ؟ مفضول؛ ترك الفاضل. فالذكر في وقته أفضل من تلاوة القرآن.
طيب، لو فرضنا أن إنسانًا نزل به ضيف، وهو جالس يقرأ ورده. العلماء يقولون: قيامه وإكرامه للضيف أفضل من كونه يكمل ورده. إذن صارت الأعمال تتفاضل على حسب الأحوال والأشخاص والأوقات.
أقسام المأمورات والمنهيات
ثم أعطانا الشيخ -رحمه الله- أصلًا يجمع المأمورات والمنهيات، وهذا الأصل فرعه إلى أربعة فروع، فقال:
فما كانت مصلحته خالصة، أو راجحة أمر به الشارع أمر إيجاب أو استحباب، وما كانت مفسدته خالصة أو راجحة نهى عنه الشارع نهي تحريم أو كراهة. فهذا الأصل يحيط بجميع المأمورات والمنهيات.
المأمورات قسمان:
القسم الأول : مصلحته خالصة.(1/13)
القسم الثاني: مصلحته راجحة.
المنهيات قسمان: مضرته خالصة.
الثاني: مضرته راجحة.
هذا الأصل الذي ذكره الشيخ هنا يقول: يحيط بجميع المأمورات والمنهيات.
الذي مصلحته خالصة مثل: التوحيد- توحيد الله تعالى- والعدل، والبر والإحسان، بر الوالدين، صلة الأرحام، هذه مصلحته خالصة بمعنى: أنه ليس فيه مفسدة بوجه من الوجوه. الجهاد في سبيل الله مصلحته راجحة؛ وإن كان فيه مفسدة، ولكن هذه المفسدة من إتلاف المال، وإتلاف النفس ليست بشيء بجانب الفوائد المترتبة على المصلحة، فالشرع أمر بالجهاد مع أن فيه تعريض النفس للخطر؛ لكن نظرا للمصلحة الراجحة.
القسم الثالث: ما كانت مفسدته خالصة: كالشرك، والكذب، والميتة، والخنزير، وغير ذلك مما مفسدته متأصلة ليس فيه أي مصلحة بوجه من الوجوه، هذا قسم من المنهيات.
القسم الثاني: ما مفسدته راجحة، مثل: الربا ، الخمر، الميسر، فيها مصالح ؟ فيها مصالح، ولكن مفاسدها تربو على مصالحها؛ والدليل أن الشرع نهى عنها.
إذن خذها قاعدة: الشرع لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، وبهذا نكون قد أخذنا قاعدة المأمورات والمنهيات.
المباح وأقسامه
الشيخ ذكر بعد هذا: المباح، قال:
وأما المباحات، فإن الشارع أباحها، وأذن فيها، وقد يتوصل بها إلى الخير فتلحق بالمأمورات، وإلى الشر فتحلق بالمنهيات.
نعم المباح مر علينا أنه: ما استوى طرفاه، وإن شئت قل: هو الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي. لكن نعلم -يا إخوان- أن المباح قسمان:
القسم الأول : سنسميه المباح الباقي على أصل الإباحة، وهذا هو الذي علمناه. ما يتعلق به لا أمر ولا نهي، مثل: الأكل ليلًا -مثلًا- في ليالي الصيام، والاغتسال للتبرد، هذه مباحات ما توجه إليها من الشرع أمر ولا ونهى، هذا يسمى المباح الباقي على أصل الإباحة.(1/14)
القسم الثاني: المباح الذي لم يبق على أصل الإباحة وهذا هو المباح الذي صار وسيلة إلى غيره، بمعنى أنه صار سُلّمًا يوصل كلا واحد من أمرين: إما إلى خير، وإما إلى شر. فهذا المباح، هل يقال: إنه ما يتوجه إليه أمر ولا نهي؟ لا. إن كان وسيلة إلى واجب يتعلق به أمر، أو مندوب -على حسب الأمر- وإن كان وسيلة إلى محرم، أو مكروه يتعلق به نهي؛ ولهذا التعريف الدقيق للمباح أن يقال: هو الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته.
ليش قلنا لذاته ؟ أجيبوا. أنت... من حيث هو. بمعنى آخر. نعم... يُخرج المباح الذي صار وسيلة إلى غيره. فالوسيلة إلى الخير خير، والوسيلة إلى الشر شر؛ ولهذا يثاب الإنسان على المباح على حسب نيته، فمثلًا: لو إنسان... الاغتسال للتبرد مباح، لكن لو أراد إنسان أن يغتسل للتبرد، ولكن نوى بهذا النشاط لأداء الصلاة، أو نوى بهذا -مثلًا- في رمضان، في شدة الحر، النشاط على تلاوة القرآن- يثاب على المباح . يثاب عليه لماذا ؟ لأنه صار وسيلة إلى مندوب فيثاب عليه.
لو أن إنسانًا -مثلًا- أراد أن يشرب الشاي ، شرب الشاي مباح، لكن لو دخل بيته والمؤذن يؤذن، وقال لأهله: اصنعوا لي الشاي. بحيث إن شربه للشاي سيؤدي إلى تفويته الصلاة مع الجماعة، سيكون هذا المباح منهيًا عنه، هل لذاته ؟ ليس لذاته، ولكنه صار وسيلة لمنهي عنه؛ ولهذا ينهى -مثلًا- عن البيع يوم الجمعة، مع أن البيع مباح، لكن ينهي عنه بعد النداء الثاني؛ لئلا يكون وسيلة إلى تفويت صلاة الجمعة . ينهى -مثلًا- إنسان أن يبيع العنب مع -أن البيع مباح- إذا كان وسيلة إلى عصره وتخميره.(1/15)
فالمقصود بهذا أن قاعدة المباح لذاته ما يتوجه إليها أمر ولا نهي، لكن إن صار المباح وسيلة فحكم المباح حكم ما صار وسيلة إليه، وقد ضاق الوقت وانتهى عن النقطة الثالثة وهي: الوسائل لأحكام المقاصد، وستأتي -إن شاء الله- في الدرس القادم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم.
أحسن الله إليكم يا شيخ.
س: ما الفرق بين الواجب والوجوب والإيجاب ؟
ج: هذه تعبيرات للأصوليين، بعضهم يحبذ أن يقال: إيجاب، وبعضهم يحبذ أن يقال: واجب. فإيجاب: هذا وصف للشرع؛ لأن الشرع هو الذي يصدر الإيجاب، يقال: أوجب الشرع علينا الصلاة إيجابًا، ولكن الصلاة نفسها توصف بأنها واجبة -يعني- المصدر... شوف اللغة كيف تنفع، يقال: وجبت الصلاة وجوبًا. إذن الوجوب وصف للفعل -نفس الصلاة-، والإيجاب وصف لحكم الشرع؛ ولهذا يرى بعض الأصوليين أنه بدل ما يقال الواجب يقال الوجوب؛ لأنه إيش يسمى الواجب؟ ما يسمى حكما شرعيا . فالحكم الشرعي إذا كان من الشرع يسمى إيجابًا، ولكن أقول: لعل هذا من باب الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا فهم المقصود. نعم.
س: وهذا سؤال آخر: فضيلة الشيخ، قلتم في الدرس -تعقيبا على المصنف -رحمه الله تعالى- في تعريفه للأدلة الجزئية: والأولى أن يقول: وهذه هي الفقه. نرجو التوضيح ؟
ج: نحن عرفنا الآن أنه إذا كانت الأدلة الكلية تبحث في أصول الفقه فأين تبحث الأدلة الجزئية؟ تبحث في الفقه وأنا قلت لكم: إن وظيفة الأصولي الاشتغال بالأدلة الكلية، ووظيفة الفقيه الاشتغال بالأدلة الجزئية، والظاهر أن هذا واضح. نعم.
س: أحسن الله إليكم. يا شيخ، وهذا سؤال ورد عبر الإنترنت، يقول: يزعم بعضهم أن الأمر في القرآن للوجوب، وفي السنة للاستحباب ، فما حكم ذلك ؟(1/16)
ج: أنا لا أعرف هذا، أنا لا أعرف أن الأمر في القرآن للوجوب والسنة للاستحباب ، بل السنة فيها أوامر للوجوب والقرآن فيه أوامر للاستحباب، وسيأتينا إن شاء الله. الشيخ سيشير إشارة عابرة إلى هذا الموضوع، ولكن الدليل واضح على أن السنة فيها أوامر للوجوب؛ بدليل قول الله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } (1) والمسألة تقتضي البسط والتفصيل بأطول من هذا، ولكن الوقت انتهى.
س: وهذا سؤال أخير، قال هل النهي يقتضي الفساد دائمًا؟ ومتى لا يقتضيه؟ نرجو من فضيلتكم التفصيل في هذا الأمر، وجزاكم الله خيرًا .
ج: هذه المسألة أشار الشيخ إليها إشارة عابرة، ولكني سأبسط -يعني- الكلام فيها -إن شاء الله- في درس قادم نظرًا لأهميتها، والسلام عليكم ورحمة الله.
الوسائل لها أحكام المقاصد
معناها وفروعها
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم النبيين وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، درسنا في هذه الليلة يتناول ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: شرح الأصل العظيم: الوسائل لها أحكام المقاصد.
النقطة الثانية: الأدلة الشرعية التي يستدل بها في الفقه.
النقطة الثالثة: ذكر شيء من دلالات الألفاظ، وطرق الاستنباط.
فنقول: النقطة الأولى: قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد. هذه القاعدة فيها ثلاث نقاط: الأولى: في معناها. الثانية: في فروعها. الثالثة: في الأدلة عليها.
يقول الشيخ -عليه رحمة الله- لما ذكر الأحكام الشرعية الخمسة وخامسها المباح، والمباح -كما مر- قد يكون وسيلة إلى مأمور به فيكون مأمورًا به، وقد يكون وسيلة إلى منهي عنه فيكون منهيًا عنه- يقول:
فهذا أصل كبير: أن الوسائل لها أحكام المقاصد.
__________
(1) - سورة النور آية : 63.(1/17)
الوسائل: جمع وسيلة، والمراد بالوسيلة -هنا- الطريق المؤدي إلى الغاية، وإن شئت قل: الطريق المؤدي إلى المقصود. إذ -لا ريب- أن أي مقصد من المقاصد يريد الإنسان أن يحققه فلا بد من وسيلة يسلكها لتحقيق هذا المقصد. فهذه الوسائل في نظر الإسلام لها أحكام المقاصد ثوابًا وعقابًا.
هذه القاعدة لا يتبين معناها إلا ببيان فروعها الأربعة التي أشار إليها الشيخ -رحمه الله- وهي: وسيلة الواجب واجبة، وسيلة المسنون مسنونة، وسيلة المحرم محرمة ، ووسيلة المكروه مكروهة. هذه الفروع الأربعة يمكن أن نرجعها إلى فرعين، ثم يمكن أن نرجعها إلى أصل واحد.
كيف نرجعها إلى فرعين ؟ وسيلة المأمور مأمور بها، وهذا يتناول الواجب والمندوب. الفرع الثاني: وسيلة المنهي عنه منهي عنها، وهذا يتناول المحرم والمكروه، ثم يرجع هذان الفرعان إلى أصل واحد: الوسائل لها أحكام المقاصد.
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
هذه الفروع الأربعة أولها -كما قال الشيخ -رحمه الله-:
وبه نعلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
هذا له أمثلة كثيرة في الفقه الإسلامي. فمثلًا: وسائل الصلاة التي لا تتم الصلاة إلا بها واجبة. فإذا كان الإسلام أمر بالصلاة فهو أمر بالصلاة، وبما لا تتم الصلاة إلا به: كالطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، ونحو ذلك، فهذه أمور يتوقف عليها أداء الواجب إذن تكون واجبة.
إذا جئنا لأمور أخرى ليس فيها أدلة... وسائلها... خذ -مثلًا- بر الوالدين، وصلة الأرحام. فكل ما أدى إلى بر الوالدين فهو مطلوب: إذا كان الإنسان لا يمكن أن يبر والديه إلا بأن يركب سيارته، ويقطع الطريق -يعني يقطع المسافة- فإن ركوب السيارة، وقطع المسافة مطلوب، هل عليه دليل ؟ ليس عليه دليل -في حد ذاته-، ولكن دليله دليل المقصد.(1/18)
الإسلام أمر ببر الوالدين، فالأمر ببر الوالدين يتناول شيئين: يتناول الأمر بالبر في حد ذاته، ويتناول ما لا يتم البر إلا به: كقطع المسافة -مثلًا-، والذهاب.
ولهذا تجد أن العلماء في باب التيمم -مثلًا- يقولون: إذا أمكن أن الإنسان يشتري ماء الوضوء بثمن المثل، أو بزيادة لا تضره فإنه يلزمه شراء الماء. لو قال قائل: أعطني دليلًا على أني أشتري ماء الوضوء . ما فيه دليل في -حد ذاته-، ولكن الأمر بالوضوء أمر بالوضوء -في حد ذاته-، وأمر بشراء ماء الوضوء.
وعلى هذا فهذه قاعدة عظيمة، يُفزع إليها في أحكام قد لا تكون أدلتها واضحة. لكن لا بد من التنبه إلى نقطة مهمة وهي: لا يظن أحد أن هناك أحكامًا شرعية تثبت بمجرد هذه القاعدة؛ لأن الأحكام الشرعية لا بد لها من دليل -كما سيأتي-. الأحكام الشرعية لا تثبت بمثل هذه القاعدة، وإنما تثبت بأدلة الأصل، وإن شئت قل: بأدلة المقصد.
لكن مع هذا بعض الوسائل توافر عليها دليلان: دليل خاص بالوسيلة، ودليل بواسطة هذه المقدمة، مثاله: السعي لصلاة يوم الجمعة. السعي وسيلة ؟ وسيلة، هذه الوسيلة توافر عليها دليلان: أولًا: دليل في حد ذاتها، كقول الله تعالى: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } (1)
الأمر الثاني: الأدلة التي توجب صلاة الجمعة توجب السعي إلى صلاة الجمعة، وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن الوسيلة قد يكون دليلها دليل المقصد، وقصدي بهذا أننا لا نثبت أي وسيلة إلا بدليل، أما نفس القاعدة -هذه- ما تثبت شيء. إنما القصد من هذه القاعدة تنزيل مقدمات الواجبات على ضوئها فقط.
لكن لا يقصد العلماء أنك تثبت حكما شرعيا بطريقة القاعدة هذه ،إنما أنت تبين بهذه القاعدة أن هذه الوسيلة دليلها دليل المقصد، وقد ضربت لكم بعض الأمثلة. لكن مع هذا بعض الوسائل قد يكون فيها دليل لحد ذاتها إضافة إلى دليل القاعدة
__________
(1) - سورة الجمعة آية : 9.(1/19)
هذا النوع الأول وهو: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وقبل أن أنتقل أشير إلى أن هذا النوع اشترطوا له شرطا وهو: أن تكون وسيلة الواجب مقدورًا عليها، فأما إن كانت وسيلة الواجب غير مقدور عليها فإنها لا تكون واجبة. فلا يطالب الإنسان بصلاة الجمعة إذا كان غير قادر على الذهاب إلى المسجد، ولا يطالب الإنسان بأداء فريضة الحج إذا كان غير قادر على الذهاب إلى مكة.
إذًا شرط هذه الوسيلة أن تكون في مقدور... أن يكون المكلف قادرًا عليها -بمعنى أنها تكون في مقدوره واستطاعته- أما ما لا يقدر عليه المكلف فأدلة الشريعة تدل على أنها ساقطة عنه، وسيأتينا -إن شاء الله- القاعدة: أنه لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة .
ما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون
الفرع الثاني: ما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون.
هذه الفرعية الثانية من الموضوع أمرها واضح، يعني أن مندوبات الشريعة مندوبات، ووسائلها مندوبة، مثلًا السواك: السواك سنة، فإذا ترتب على السواك أن يذهب الإنسان إلى السوق، ويشتري السواك فهو مأمور، ولكنه ليس أمر إيجاب، وإنما هو أمر استحباب .
النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على الطيب يوم الجمعة، فإذا كان الطيب يوم الجمعة لا يتم إلا بشرائك للطيب فإنك مأمور بشراء الطيب. ورد -مثلا- فضل حلق الذكر، ومجالس العلم، إذا كان هذا لا يتم إلا بنقل الأقدام إليها، والذهاب إليها فالإنسان مأمور بهذه الوسيلة.
ما يتوقف الحرام عليه فهو حرام
الفرع الثالث: قال:
ما يتوقف الحرام عليه فهو حرام.
يعني أن وسائل المحرم محرمة، ومعلوم أن الإنسان -والعياذ بالله- إذا أراد أن يرتكب معصية من المعاصي فلا بد أن يكون هناك وسيلة، ومن أوضح الوسائل الذهاب إلى المعصية، أو إلى مكان المعصية. فإذا كانت المعصية محرمة فوسيلتها محرمة، والإنسان إذا ركب سيارته ليذهب إلى مكان محرم فمن أول ما ركب سيارته وقع -الآن- في المحرم؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.(1/20)
وسيلة المكروه مكروهة
والفرع الرابع -وهو أقلها-:
وسيلة المكروه مكروهة.
يعني كل ما أدى إلى المكروه فهو مكروه، وقد مثل العلماء لذلك بأمثلة منها: مداومة النوم عن قيام الليل. فقيام الليل مستحب، وفيه فضل عظيم، وتركه يكون مكروهًا على القاعدة عند العلماء: أن ترك الأولى داخل في المكروه. فمن داوم على النوم ليلًا تكون مداومته في هذه الحالة مكروهة؛ بسبب مداومته ترك قيام الليل.
ومن الفروع على هذه القاعدة: أن مس الذكر باليمين حال البول مكروه -كما سيأتي إن شاء الله-. فلو أن إنسانًا أمسك بيده الشمال حاجة لا داعي لها، فاضطر إلى أن يمسك ذكره بيمينه يكون إمساك الحاجة بيده الشمال إيش ؟ مكروهًا؛ لأنه صار وسيلة إلى مكروه.
هذه فروع أربعة تتفرع عن هذه المسألة، وعن هذه القاعدة، وهي قاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد .
النقطة الثالثة والأخيرة: الأدلة على هذه القاعدة منها: قول الله -تعالى- في صفة المجاهدين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِن اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) } (1) +إلى آخر الآية التي بعدها.
فهذه الآية فيها دليل بيِّن على أن الوسائل لها أحكام المقاصد. ما وجه الدلالة من الآية ؟ أن الله -جل وعلا- ذكر ثواب المجاهدين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أنهم في أثناء الطريق، ما وصلوا إلى ميدان القتال. ذكر النفقة، وذكر أنهم لا يقطعون واديًا. فهذا دليل على أنهم يمشون، يسيرون، ومع هذا أثبت لهم الأجر. إذن هذا دليل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد، ودليل على أن الإنسان كما يثاب على المقصد يثاب -أيضًا- على الوسيلة .
__________
(1) - سورة التوبة آية : 120.(1/21)
الدليل الثاني: ما ورد في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة " فالحديث ما ذكر ثواب طلب العلم، إنما ذكر ثواب الطريق الموصل إلى طلب العلم. ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من طلب علمًا فهو في الجنة. قال: " من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة "
الدليل الثالث: ما ورد في الأحاديث الصحيحة من الثواب المرتب على الخُطا في الذهاب إلى الصلاة، والرجوع منها. كما في قصة الصحابي -كما أخرجه مسلم في صحيحه- حديث أبي بن كعب أنه قال: كان رجل بعيدًا من المسجد ..
كما أخرجه مسلم في صحيحه، حديث أبي بن كعب، أنه قال: " كان رجل بعيدا من المسجد، ولا تخطئه صلاة، فقيل له لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما أحب أن داري قريبة من المسجد، إني أحب أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- :إن الله قد كتب لك ذلك كله أو جمع لك ذلك كله " إذن هذا إنسان يبدأ رصيده من الحسنات من أول ما يخرج من البيت، طالت المسافة أو قربت، فهذا يؤيد أن الوسائل لها أحكام المقاصد.
ويمكن أن يضاف في الاستدلال أيضا، ما ورد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى المصلي إذا خرج أن يشبك بين أصابعه، ونهاه أيضا أن يسرع، وأمره أن يكون على سكينة ووقار، فقال-صلى الله عليه وسلم-: " فإن أحدكم في صلاة إذا كان يعمد إلى الصلاة " إذن دليل على أن من يخرج من بيته فهو في صلاة، فهذه الأدلة تبين لنا عظم هذا الأصل، ومدى الثواب العظيم المرتب عليه.
الأدلة التي يستمد منها الفقه
الأدلة التي يستند إليها في إثبات الأحكام
ثم انتقل المصنف إلى النقطة الثانية فقال:(1/22)
الأدلة التي يستمد منها الفقه أربعة، الكتاب والسنة ومعهما الأصل الذي خوطب به المكلفون، وانبنى دينهم عليه، والإجماع والقياس الصحيح، وهما مستندان إلى الكتاب والسنة.
هذا كلام واضح، وهو أن الأدلة التي يستند إليها في إثبات الأحكام أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقد وصف الشيخ -رحمه الله- القياس بقوله: القياس الصحيح إشارة إلى أن القياس منه ما هو صحيح، ومنه ما ليس بصحيح، والسبب في هذا، أن القياس له شروط فإن تحققت شروطه فهو صحيح، وإن تخلف شرط منها فليس بصحيح.
ولعله يكون هناك إشارة إلى هذه النقاط -ولو بإيجاز- عندما نتكلم على القياس؛ لأن المصنف -رحمه الله- ذكر القياس فيها، سيأتي -إن شاء الله-، ولكنه اقتصر على معلومات بسيطة جدا.
ثانيا الشيخ ذكر: أنه لا بد أن يكون القياس أو وصف القياس والإجماع بأنهما مستندان إلى الكتاب والسنة، وهذا حق، فإن الإجماع مع أنه من ضمن الأدلة، لا بد أن يستند إلى دليل من كتاب أو من سنة، إذ لا يجوز للمجتهدين في أي عصر من العصور أن يجمعوا بمحض رأيهم على حكم شرعي، هذا لا يجوز، فلنعلم أن أي مسألة مجمع عليها لا بد فيها من دليل، لكن قد نعلم الدليل، وقد لا نعلم الدليل.
وهنا قد ينقدح سؤال، وهو إذا كان الإجماع يستند إلى دليل ما فائدة الإجماع؟ يكون المعول على إيه؟ على الدليل ما فائدة الإجماع؟ والجواب على هذا أننا وإن اشترطنا أن الإجماع يستند إلى دليل، فالإجماع له فائدة، ويحضرني فائدتان.
الفائدة الأولى: أن الإجماع على مقتضى الدليل يدل على أن الدليل غير منسوخ، أي مسألة مجمع عليها وفيها دليل اجزم يقينا بأن الدليل هذا غير منسوخ؛ لأنه لو نسخ لبطل مقتضى الإجماع.(1/23)
الفائدة الثانية: أن الإجماع يقوي الدليل، مثاله قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " هذا خبر آحاد، لكن قام الإجماع على مقتضى هذا الدليل، فماذا استفاد الدليل؟ قوي بهذا الإجماع.
أحكام الفقه لا تخرج عن هذه الأصول الأربعة
قال: فالفقه من أوله إلى آخره لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة ، وأكثر الأحكام المهمة تجتمع عليها الأدلة الأربعة.
يعني كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج ومسائل أخرى، تجد أن العلماء يقولون: والدليل على وجوب كذا أو على تحريم كذا الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو بعضهم يقول: والمعنى.
فتجتمع الأدلة الشرعية في أحكام من الشريعة الإسلامية، ولا ريب أن الحكم الشرعي إذا اجتمعت عليه الأدلة الأربعة، يكون في أعلى درجات القوة، قد تدل عليه نصوص الكتاب والسنة ويجمع عليها العلماء، تدل عليها نصوص الكتاب والسنة، ويجمع عليها العلماء، ويدل عليها القياس والصحيح، لما فيها من المنافع والمصالح، إن كانت مأمورا بها، ومن المضار إن كانت منهيا عنها.
الشريعة يوجد بها أحكام تنازع عليها العلماء
والقليل من الأحكام يتنازع فيها العلماء، وأقربهم إلى الصواب فيها من أحسن ردها إلى هذه الأصول الأربعة.
يعني يوجد في الشريعة أحكام تنازع العلماء عليها، وهي التي ليس عليها دليل واضح وبين، أو عليها دليل، ولكن يختلف العلماء في كيفية استنباط الحكم من الدليل، وأوضح من ضرب بسهم وافر في توضيح هذه الجزئية ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".
فالمقصود بهذا أن يوجد أحكام شرعية، وهذا أكثر ما يكون في الفروع، فروع في الصلاة أو في الصيام أو في الزكاة، ليس عليها دليل واضح وبين، ولكن أسعد الناس بذلك، من استطاع بأي طريق من طرق الاستدلال، أن يرد هذه المسألة المختلف فيها إلى دليل من الأدلة الأربعة، التي مضى ذكرها.(1/24)
ثم شرع الشيخ -رحمه الله- في تفاصيل تتعلق بهذه الأدلة الأربعة، وأنا أقول تفاصيل يعني بحسب هذا المتن المختصر؛ لأني قلت لكم في الليلة الماضية: إن هذا متن مختصر؛ ولهذا الشيخ -رحمه الله- اعتمد فيه على أهم المسائل الأصولية من جهة، وحذف الدليل من جهة أخرى؛ ولهذا لم يذكر الشيخ -رحمه الله- ولا دليلا واحدا في هذه الرسالة، وكل ذلك طلبا للاختصار.
الدليل الأول القرآن الكريم
إعجاز القرآن وبلاغته
بدأ الآن بالدليل الأول قال:
أما الكتاب فهو هذا القرآن العظيم كلام رب العالمين.
دليل هذا واضح، يعني الدليل على أن القرآن هو كلام الله -سبحانه وتعالى- هو إعجازه الذي أخضع وأذل رقاب الفصحاء من العرب، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فلم يستطيعوا، فإعجاز القرآن وكونه خارجا عن طوق البشر، وعن قدرة البشر، دليل على أنه من كلام الله -سبحانه وتعالى-، مع أن القرآن ما أتى ولا بحرف واحد زائد عما تتكلم به العرب، الحروف هي الحروف.
ولهذا الله -جل وعلا- لما ذكر في أوائل بعض السور الأحرف المقطعة، جاء بعدها ذكر القرآن، أو ذكر الكتاب، وهذا -والله أعلم- فيه إشارة إلى التحدي والتعجيز، كأنه يقول: إن هذا القرآن الذي تقرءونه مؤلف من هذه الأحرف، حاء، ميم، قاف، صاد، ألف، لام، ميم، يأتي ذكر القرآن مباشرة، فهذا أعظم دليل على أن القرآن كلام الله -سبحانه وتعالى-.
وهذا إضافة إلى الإخبار بأنه كلام الله، هذه أدلة أخرى، لكن الدليل على أنه من كلام الله -سبحانه وتعالى- هو إعجازه وفصاحته وبلاغته التي هي خارجه عن طوق البشر.
أوصاف القرآن الكريم
نزل به الروح الأمين على قلب محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، للناس كافة في كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم.
ثم ذكر المصنف -رحمه الله- ثلاثة أوصاف من أوصاف القرآن، فقال: وهو المقروء بالألسنة.(1/25)
هذا الوصف الأول، ومعنى المقروء بالألسنة، يعني المتعبد بتلاوته، سواء كانت التلاوة في داخل الصلاة أو في خارجها.
المكتوب في المصاحف؛ لأن الله -جل وعلا- تكفل بحفظ هذا القرآن من اندراسه وضياعه، ومن وسائل حفظه أنه كتب في المصاحف.
الخصيصة الثالثة -وهي من أعظم خصائص القرآن-: "المحفوظ في الصدور" وهذه خصيصة لهذه الأمة ليست لغيرها من الأمم؛ ولهذا ورد في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن الله -جل وعلا- قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - " وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء " هذا جزء من حديث في صحيح مسلم، ومعنى لا يغسله الماء، يعني أن القرآن ليس محفوظا في أوراق فقط، بحيث أنه يأتي وقت من الأوقات على ها الأوراق دي يأتي عليها ماء ويغسل المكتوب ويزول، بل القرآن محفوظ في الصدور.
إذن هذا الحديث فيه إشارة على أن الله -جل وعلا- أكرم هذه الأمة بهذه الكرامة العظيمة، وهي حفظ هذا القرآن في صدورهم، تجد الإنسان قد حفظ القرآن في صدره من أوله إلى آخره لا يخرم منه حرفا، هذه من خصائص القرآن.
القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
الذي، { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } (1) .
فسر العلماء الباطل هنا بأنه الشيطان، سواء كان من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، فليس لأحد سلطان على القرآن، لا يأتيه الباطل من بين يديه يعني لا يستطيع أن يزيد عليه، ولا من خلفه يعني لا يستطيع أحد أن ينقص منه ولو حرفا.
__________
(1) - سورة فصلت آية : 42.(1/26)
ولهذا ما رام أحد القرآن إلا رجع خائبا وخاسرا على عقبيه؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه بخلاف الكتب المنزلة قبل القرآن، كالتوراة والإنجيل، فإنه قد دخلها التحريف؛ لأن الله -جل وعلا- ما شاء أن تكون كتبا سماوية دائمة، وإنما هي شرائع مرهونة بوقتها انتهت في زمانها؛ ولهذا جاء القرآن ناسخا لها ومهيمنا عليها، نعم، اعتبروها وصفا رابعا يعني أن من صفات القرآن أن الله -جل وعلا- حماه كما تكفل بحفطه كما تكفل بحمايته، وقد تكون حمايته نوعا من أنواع حفظه أو من أنواع التكفل بحفظه.
الدليل الثاني السنة
انتقل الشيخ إلى السنة فقال: وأما السنة فإنها أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته على الأقوال والأفعال.
السنة ثلاثة أنواع:
أقوال وهي أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - و أفعال، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع، والنوع الثالث التقريرات، والمراد بالتقريرات: ما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من الصحابة؛ إما على قول، وإما على فعل وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة ودليل شرعي.
لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على خطأ، ولا يؤخر البيان عن وقت الحاجة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الحبشة يلعبون في المسجد بحرابهم، ما دام أن القصد من ذلك التقوّي على الجهاد في سبيل الله، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - قيس بن عمرو على أداء راتبة الفجر بعد صلاة الفجر مباشرة، مع أن الوقت وقت نهي، حيث لو إنسان -مثلا- بعد صلاة الفجر مباشرة قام وأدى راتبة الفجر؛ لأنه لم يتمكن من أدائها قبل الصلاة فإن هذا يجوز، بدليل السنة التقريرية، فإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريع للأمة، والسنة باعتبار زيادتها على القرآن أو عدم زيادتها ثلاثة أنواع.(1/27)
النوع الأول : سنة مؤكدة للقرآن، وهذا في الأحكام التي وردت في القرآن والسنة، مثل وجوب الصلاة، فوجوب الصلاة في القرآن، وجاء في السنة أيضا، فتكون السنة في موضوع إيجاب الصلاة مؤكدة للقرآن.
النوع الثاني: سنة مفسرة للقرآن، وما أُجمل في القرآن، وهذا كما في الصلاة عندما بينت السنة صفة الصلاة، وكما في الزكاة، عندما بينت السنة مقادير الزكاة، وكما في الحج، عندما بينت السنة صفة الحج.
القسم الثالث: يسميه العلماء السنة الاستقلالية، وهو أن يثبت في السنة حكم لم يثبت في القرآن، يعني لم يأت في القرآن وهذا له نظائر، خذ مثلا، ثبوت الشفعة، ليس للشفعة ذكر في القرآن إنما مستندها السنة.
خذ مثلا توريث الجد هل ذكر الجد في آيات المواريث؟ ما ذكر في آيات المواريث، فالسنة جاءت بأحكام لم يرد لها ذكر في القرآن، وتسمى السنة الاستقلالية، والأدلة على حجية السنة والعمل بها أنه لا يكتفى بالقرآن، أدلة كثيرة.
ولكن من هذه الأدلة أن الله -جل وعلا- قرن طاعته مع طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (1) ولا ريب أن الجمع بين الطاعتين يدل على أن اتباع القرآن واجب، واتباع السنة واجب.
ثانيا: أن الله -جل وعلا- وصف السنة بأنها وحي، إذ كما أن القرآن وحي، فالسنة وحي، قال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) } (2)
الدليل الثالث: الأدلة كثيرة لكن باختصار، ما ورد في حديث المقدام بن معدي كرب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: ما أحله القرآن فأحلوه وما حرمه القرآن فحرموه " فهذا الحديث دليل على حجية السنة من وجهين.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 92.
(2) - سورة النجم آية : 3-4.(1/28)
الوجه الأول : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثبت مماثلة السنة للقرآن قال: " ألا أني أوتيت القرآن، ومثله معه " ولا مماثلة للقرآن إلا السنة.
وجه الدلالة الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذم من فرق بين القرآن والسنة بواسطة المثل الذي ضربه، "ألا يوشك رجل"، فهذا المثل يستفاد منه ذم التفريق بين القرآن والسنة.
ثم أيضا معلوم يقينا -لا شك فيه- أننا بحاجة إلى السنة، فمن أين عرفنا صفة الصلاة؟ ومن أين عرفنا صفة الحج؟ ومن أين أخذنا مقادير الزكاة؟ هذه ليس لها ذكر في القرآن، وبهذا يتبين أن من يرفضون الاستدلال بالسنة، أو أن من يقول: أوامر القرآن على الوجوب، وأوامر السنة على الاستحباب، أن هذا عن الصواب بمعزل.
أدلة الكتاب والسنة
النص والظاهر
ثم انتقل المؤلف إلى آخر نقطة في الموضوع، وهي من مباحث دلالات الألفاظ وطرق الاستنباط، قال:
فالأحكام الشرعية تارة تؤخذ من نص الكتاب والسنة، وهو اللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى، وتارة تؤخذ من ظاهرهما، وهو ما دل على ذلك على وجه العموم اللفظي أو المعنوي.
أدلة الكتاب والسنة أنواع، النوع الأول : النص، والنوع الثاني: الظاهر، هذا اللي ذكره المؤلف الآن، عرف النص، النص هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، يعني ليس له أكثر من معنى، قال: هو اللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى مثاله قول الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1)
فهذه الآية نص ما تحتمل أكثر من معنى، أن الربا حرام والبيع حلال، واللي يدلك على هذا المعنى، أن أصل سياق الآية جاء ردا على من قالوا: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } (2) ولا تكون الآية ردا عليهم إلا إذا كانت نصا قاطعا في إباحة البيع، وتحريم الربا.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 275.
(2) - سورة البقرة آية : 275.(1/29)
مثال آخر للنص قول الله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) فدلالة الآية على قطع يد السارق من دلالة النص، القطع معناه معروف، هل يمكن يقول: لا، الآية تحتمل معنى آخر وهو أن القطع معناه السجن؟ نقول: لا، هذا المعنى غير صحيح لماذا؟ لأن الألفاظ لها تحملات، ولّا عدم تحملات بعض الألفاظ تحمله معاني، يقبل المعاني اللفظ اللي له أكثر من معنى، وبعض الألفاظ ما له إلا معنى واحد، تحمله معنى آخر ما يقبل، وهذه هي صفة النص، إنه ليس له إلا معنى واحد كما قال.
الثاني: الظاهر وهو ما دل على ذلك، على وجه العموم اللفظي أو المعنوي، وإن شئت قل: الظاهر ما دل على معنيين أو أكثر، مع ترجح إحداهما، هذا الظاهر ما دل على معنيين أو أكثر، مع ترجح إحداهما، إيش نستفيد من هذا التعريف؟ نستفيد أن الظاهر له صفتان، لا بد الصفة الأولى لا بد أن يكون اللفظ له معنيين فأكثر، اللي ما له إلا معنى واحد، ما هو من قبيل الظاهر، لا بد أن يكون اللفظ له أكثر من معنى، وهذا -يا إخوان- هو قصد الشيخ، بقوله: العموم اللفظي والمعنوي.
الأمر الثاني: اللي يدل عليه التعريف، إنه لا بد أن يترجح واحد من المعنيين على الآخر لا بد، فلو كان المعنيان على حد سواء، ما كان من قبيل الظاهر، طيب نضرب أمثلة، لو قال لك إنسان: رأيت أسدا، كلمة أسد لها معنيان، معنى حقيقي الحيوان المفترس، ومعنى مجازي الرجل الشجاع، إذا قال لك: رأيت أسدا، هل يكون المعنيان عندك أيها السامع على حد سواء، أو يترجح الأول؟ يترجح الأول، إذن هذا يسمى كلمة أسد من أي الألفاظ؟ من قبيل الظاهر؛ لأنها دلت على معنيين أحدهما أرجح من الآخر، ولعلنا بحاجة -وإن كان الشيخ ما ذكرها- إلى بيان أسباب الظهور، يعني منين يجي الظهور في الكلام؟
__________
(1) - سورة المائدة آية : 38.(1/30)
الظهور في الكلام له أسباب، السبب الأول: ما سمعت، تقديم الحقيقة على المجاز وسيأتينا -إن شاء الله- في درس قادم، أن الأصل في الكلام الحقيقة، إذن إذا كان اللفظ له حقيقة وله مجاز، يكون من قبيل الظاهر؟ يكون من قبيل الظاهر، لكن يحمل على ماذا؟ يحمل على الحقيقة.
الأمر الثاني: اللي يدل على الظهور أن الأصل في الكلام عدم التقدير، هذه قاعدة معروفة مثال ذلك قول الله -سبحانه- : { وَجَاءَ رَبُّكَ } (1) فالآية دليل ظاهر على إثبات المجيء لله -سبحانه وتعالى- يوم القيامة لفصل القضاء، مجيئا يليق بجلاله، طيب الذين يقولون: { وَجَاءَ رَبُّكَ } (2) أي أمر ربك أخذوا بالظاهر ولا على خلاف الظاهر؟ على خلاف الظاهر ليه؟ لأنهم يقدرون مضافا محذوفا، وجاء أمر ربك، والأصل عدم التقدير.
من الأسباب أيضا في الظهور الإطلاق وعدم التقييد، إذن دائما اللفظ المطلق ظاهر في معناه، فأنت إذا سمعت قول الله تعالى في سورة المجادلة في آيات الظهار: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } (3) ما الظاهر المتبادر؟ تفضل: لا، العكس، الظاهر المتبادل أنه يجزئ أي رقبة؛ لأن هذا لفظ مطلق غير مقيد.
إذن من يقرأ الآية: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (4) منين يجيب الإيمان؟ ما يجيب الإيمان إلا بعد أن يدرس المطلق والمقيد، ويحمل المطلق على المقيد، يشوف اتفاق الحكم واتفاق السبب إلى آخره، لكن عندما يقرأ الآية في سورة النساء في آية القتل { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (5) هذا واضح لكن في آية المجادلة، المتبادر من اللفظ أنه يجزئ أي رقبة، وهكذا يقال في باب العموم.
المنطوق والمفهوم
النوع الثالث:
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.
(2) - سورة الفجر آية : 22.
(3) - سورة المجادلة آية : 3.
(4) - سورة النساء آية : 92.
(5) - سورة النساء آية : 92.(1/31)
وتارة تؤخذ من المنطوق وهو ما دل على الحكم في محل النطق، وتارة تؤخذ من المفهوم، وهو ما دل على الحكم بمفهوم موافقة، أو بمفهوم مخالفة.
طيب الشيخ هنا أشار إلى نوع من دلالات الألفاظ، وهو ما يسمى بالمنطوق والمفهوم، والمنطوق والمفهوم هذا من مباحث دلالات الألفاظ المهمة، إذ لا يستغني عنه دارس ولا مفسر ولا محدث ولا فقيه.
فالمنطوق ما دل عليه اللفظ، يعني ما أخذ من اللفظ، يعني ما أخذ من العبارات والأحرف اللي أمامك، هذا يسمى منطوق، فأنت مثلا إذا قرأت قول الله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } (1) اللي يؤخذ من أحرف الآية تحريم التأفيف في حق الوالدين، وهو التضجر أن التضايق بما يوحى من العبارات، هذا المنطوق يؤخذ من مفهوم اللفظ، إذا سمعت مثلا قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: " في سائمة الغنم الزكاة " السائمة كما تعلمون التي ترعى أكثر الحول، تأخذ من العبادات اللي أمامك أنه لا زكاة إلا في السائمة، فالطريقة هذه تسمى استنباط الحكم من المنطوق.
قال: وتارة تؤخذ من المفهوم، المفهوم ما دل على الحكم لا في محل النطق، يعني الأحرف اللي أمامك ما لك فيها علاقة، بل لا بد أن تغوص في الأعماق، وفي الجذور لتستنبط المفهوم، والمفهوم عند الأصوليين قسمان -كما ذكر الشيخ- مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.
مفهوم الموافقة: ما وافق المسكوتُ، اضبطوها بالشكل، ما وافق المسكوتُ عنه المنطوق في الحكم هذا مفهوم الموافقة، مفهوم المخالفة، بدل كلمة ما وافق ضع كلمة خالف، وباقي الكلام يمشي، يصير مفهوم المخالفة ما خالف المسكوت عنه المنطوق في الحكم.
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 23.(1/32)
إذن مفهوم الموافقة يصير المسكوت عنه، والمنطوق حكمها واحد، أما مفهوم المخالفة يكون المسكوت عنه يغاير المنطوق في الحكم، وأيهما أصعب الموافقة ولَّا المخالفة؟ المخالفة؛ ولهذا تجد كلام الأصوليين في مفهوم المخالفة أكثر من كلامهم في مفهوم الموافقة، طيب مفهوم الموافقة كما ذكر الشيخ نوعان.
الأول: أن يكون المسكوتُ عنه مساويا للمنطوق، والثاني: أن يكون المسكوت عنه أولى من المنطوق.
إذن كم نوع مفهوم الموافقة ؟ نوعان مساوٍ وأولوي، نرجع إلى آيتنا التي ذكرنا { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } (1) الآية دي لها مفهوم، وهو أن الآية لما ذكرت التأفيف يبقى موضوع الضرب أو الشتم، هذا ما يؤخذ من ظاهر الآية؛ لأن الآية تتعلق بالقول المقيد بالتأفيف، فيكون الضرب مأخوذ من المفهوم، ولكن مع هذا يعني مع أنه مفهوم، إلا أنه أولى بالتحريم من المنطوق.
فالذي يضرب والديه -والعياذ بالله- أقبح جرما وأعظم إثما ممن يقول: لهما أف، لكن مع هذا تلاحظون أن الحكم تغير، ولَّا ما تغير ؟ ما تغير اللي هو التحريم، إذن استفدنا منها الآية هذي تحريم التأفيف عن طريق المنطوق، وتحريم الضرب عن طريق المفهوم، طيب هل هما متساويان ؟ لا.
المفهوم أولى بالحكم، يعني أولى بالتحريم من المنطوق، طيب مثل قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) } (2) منطوق الآية ما يتعدى أكل مال اليتيم بأي طريق من طرق الأكل، سرقة، بغش، بتحايل أي طريق الطرق لاكتساب المال، الطرق الصحيحة كثيرة، والطرق الباطلة كثيرة.
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 23.
(2) - سورة النساء آية : 10.(1/33)
إذن الآية ركزت على الأكل، لكن يبقى هل إتلاف مال اليتيم مقصور على الأكل ؟ لا، قد يكون الإتلاف بالإحراق وقد يكون الإتلاف بالإغراق، أو غير ذلك من أنواع الإتلاف، فهل نقول الآن: إن حكم الإغراق أو الإحراق يختلف عن الأكل؟ الحكم واحد، وبهذا يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق في الحكم، صحيح أنه قد يدعي الفرق طبعا، وهذا مبحث آخر ما ندخل فيه .
قد يقول قائل: فيه فرق، نقول: نعم، فيه فرق، قد يكون الأكل فيه مصلحة للآكل والإغراق ما فيه مصلحة لآكل، لكن مع هذا نقول: هذا الفرق لا يعنينا؛ لأن المقصود أنه لا يجوز التعدي على مال اليتيم، سواء كان المتعدي استفاد بنفسه أو لم يستفد، طيب انتهينا من موضوع مفهوم الموافقة، ما حجيته ؟.
نقل شيخ الإسلام بن تيميه -رحمه الله- الإجمالي -كما في مجموع الفتاوى- على أن مفهوم الموافقة حجة، وقال: إن إنكاره من بدع الظاهرية، الظاهرية ما يأخذون به، الظاهرية بيقولون: خلاص يحرم أكل مال اليتيم، لكن إحراقه وإغراقه هذا ما يحرم؛ ولهذا قال الشيخ -رحمه الله- : إن إنكاره مفهوم الموافقة من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم إليها أحد من السلف، بقي مفهوم المخالفة يكون -إن شاء الله- في الليلة القادمة، -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد.
س: بسم الله الرحمن الرحيم هذه بعض الأسئلة، يقول: فضيلة الشيخ -سلمه الله- الرجاء منكم توجيهنا إلى كتاب، أو إلى أنفع كتاب في الأصول لمسائله، خال من علم الكلام، موافق للصواب، وجزاكم الله خيرا ؟
ج: هذا سؤال صعب، وأخشى أن يكون هذا السؤال من الأسئلة التي يرسب فيها، السائل شرط شروطا، لا مجال لتحققها إلا بالمختصرات، مثل هذا المختصر الذي بأيدينا، وإلا فإن معظم كتب الأصول كما قلت، لكن في الليلة الماضية لا تخلو مما أراد السائل الخلو منه، ولكن بين مقل ومكثر.(1/34)
وأحسن ما يتجه إليه الدارس، هو الكتب المختصرة، أما الكتب المطولة، فلا أظن يعني أن مثل هذا السائل يستطيع أن يستوعبها، وأن يستفيد منها، فيه من المختصرات طبعا غير الكتاب الذي معنا، وغير الورقات للجويني، وغير مثلا كتاب محمد العثيمين -رحمه الله- اللي يدرس في المعاهد العلمية الأصول من علم الأصول، نريد نرتفع قليلا، عندك مثلا مختصر الطوفي المطبوع بما ليس باسم له وهو البلبل، البلبل -بلامين- هذا اختصره الطوفي -رحمه الله- من روضة الناظر، مع أنه ما فيه اختصار واضح وبين، لكن مع هذا يعتبر من الكتب المختصرة .
فيه كتاب آخر، أنا سبق شرحته في المسجد في "بريدة" هناك، وهو الآن في المطبعة ولعله -إن شاء الله- يخرج إن سوعد بداية العام الدراسي القادم، شرح الكتاب اسمه قواعد الأصول ومعاقب الفصول، هذا الكتاب مختصر وجيد، وقد وصفه عبد القادر بدران في كتابه المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كتاب في أصول الفقه.
قال عن هذا الكتاب: إنه من أحسن المختصرات في أصول الفقه عند الحنابلة، فهو مختصر جيد، وما فيه يعني تجرد من موضوع علم الكلام هذا عزيز، لكن هذا الكتاب يعتبر من الكتب الجيدة، حسب ما ترددت فيه، فهذه بعض من الكتب التي تحضرني الآن إجابة على هذا السؤال.
س: فضيلة الشيخ، سائل يقول: هل هناك قاعدة تدل على أن هناك بعض المسنونات إذا تركت أصبح تركها مكروها، ومن السنن ما إذا ترك لم يكن ترمها مكروها ؟ وما ضابط ذلك ؟ مع التمثيل .
ج: العلماء عندما يتكلمون على المكروه، يقسمون المكروه إلى ثلاثة أقسام، نحن أخذنا المكروه، لكن ما عندنا من الوقت أن نفضل مكروه كراهة تنزيه، وهو المصطلح عليه عند الأصوليين باسم المكروه، ومكروه كراهية تحريم، وهذا كما قلت لكم في معظم عبارات المتقدمين.(1/35)
الصنف الثاني يسمونه ترك الأولى، ويقولون: المراد بترك الأولى ترك السنن المندوبة، وقد مثلوا بذلك بمن يواظب على ترك سنة الضحى، فيكون ترك سنة الضحى خلاف الأولى، ومثل له العلماء -فقهاء الحنابلة- بترك الآذان، يعني على القول: بأن الآذان أن سنة، فقالوا: إن ترك الآذان يكون من باب ترك الأولى، فهم يعتبرون ترك الأولى قسما مستقلا، ويضبطونه بأنه ترك السنن المندوبة.
وكما تعلمون السنن المندوبة لا يأثم تاركها، لكن العلماء يعتبرون هذا نقصا في الإنسان، لا لأنها واجبة، ولكن كما يقول الأصوليين: عن ترك المندوبات يدل على الزهد في الطاعة والرغبة عنها، ولا ريب أن من يزهد في الطاعات ويرغب عنها، ليس كمن يرغب فيها، نعم.
س: وهذا سؤال ورد عبر الإنترنت، يقول: ما معنى العموم اللفظي والعموم المعنوي؟.
ج: العموم اللفظي يعني من الأمثلة التي يمثل بها للظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " توضئوا من لحوم الإبل " إذ كلمة توضئوا لها معنيان، المعنى الأول المعني اللغوي عرف الوضوء في اللغة معناه النظافة، لو إنسان مثلا أخذ الصابونة وغسل يديه بعد الطعام، يصح من المعنى اللغوي أن يقول: أيش ؟ أن يقال: توضأ، لكننا نحن لا نستعمل مثل هذا اللفظ؛ لأننا تعودنا أن كلمة توضأ ينصرف إلى المعنى الثاني، الذي هو المعنى الشرعي.
فنحن إذا سمعنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " توضئوا من لحوم الإبل " هل الرسول يتكلم بلسان علماء اللغة، ولاَّ يبين حقائق الشرع ؟ يبين حقائق الشرع، إذن يصير المعنى المتبادر من هذا الحديث هو الوضوء الشرعي، وليس الوضوء اللغوي، طيب أيش السبب؟ السبب أن هذا حقيقة شرعية، والنظافة حقيقة لغوية.(1/36)
بقي كلام الشيخ، لعلك تدرك أن العموم اللفظي والعموم المعنوي أمران متلازمان، بل إنه قد يقال: إن الشيخ ليه يقول: العموم اللفظي، لكني أنا ما أدرت أن أتكلم عند النقطة، لكن لما السائل سأل، رأينا أن نجيب، يعني هم يعتبرون إن كلمة عام، إن هذا للفظ للمعنى، وليس وصلا للفظ.
فإذا قلت إن هذا معنى عام يكفي عن قولك: هذا اللفظ عام، فالمقصود بهذا أن العموم اللفظي والعموم المعنوي أمران متلازمان؛ لأنه إذا كان اللفظ عام سيترتب عليه أن المعنى عام، إلا إذا دخله التخصيص، يصير اللفظ عاما، ولكن أخرج منه بعض الأفراد، فما بقي على عمومه، نعم.
س: أحسن الله إليكم، هذا يقول: بناء على قولنا: بأن الإجماع لا بد أن يستند إلى دليل، فعليه يمكننا أن نقول: بأن الإجماع ليس دليلا مستقلّا، بل هو دليل مساند؟
ج: الخلاف لفظي في هذا، الخلاف هنا لفظي، لكن الإجماع إن علم دليله، يصير دليلا مساندا، أما إذا ما علم دليله، يعني ما علم مستند الإجماع يكون أيش؟ يكون الإجماع دليلا مستقلّا، فأتاه إذا كانت المسألة دي ما عندي فيها إلا الإجماع، صار الآن الإجماع دليلا مستقلا، لكن مثلا المسألة اللي مثلت لكم، ما حكم الجمع بين المرأة وعمتها ؟ محرم.
الدليل عندنا الدليل من السنة، وعندنا الدليل من الإجماع، إذن يصير الإجماع في هذه الحالة دليلا مساندا، فالأصوليين يذكرونه إن كان دليلا مساندا، يكون مقويا للأدلة مثل السنة، كما مر علينا أن من أنواع السنة، أن تكون السنة مؤكدة للقرآن، فكذلك الإجماع، وإن لم نعلم الدليل، يكون الإجماع دليلا مستقلا -والله أعلم-.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفهوم المخالفة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
درسنا في هذه الليلة سيكون -بعون الله تعالى- في ثلاث نقاط:(1/37)
النقطة الأولى: وهي المتبقية من درس الليلة الماضية مفهوم المخالفة.
والنقطة الثانية: ثلاثة أصول يحتاج إليها الفقيه.
والنقطة الثالثة: بعض من دلالات الألفاظ وطرق الاستنباط .
يقول المصنف -رحمه الله تعالى- في بيان مأخذ الأحكام الشرعية من الأدلة يقول: وتارة تؤخذ من المفهوم، وهو ما دل على الحكم بمفهوم موافقة إن كان مساويا للمنطوق، أو أولى منه أو بمفهوم المخالفة، إذا خالف المنطوق في حكمه
قلنا في الليلة الماضية: إن مفهوم المخالفة ما خالف المسكوت عنه المنطوق في الحكم، ولا بد أن نفهم أولا، أن كون المسكوت عنه موافقا لمنطوق في الحكم، هذا لا يحتاج إلى شيء زائد على اللفظ، أما في مفهوم المخالفة الذي يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم، فهذا لا بد أن يكون له سبب.
وقد اقتصر المصنف -رحمه الله- على نوعين الأول الصفة والثاني الشرط، يعني أن المنطوق إذا جاء معه صفة دل على أن الصفة إن لم توجد يختلف الحكم، أو أن المنطوق إذا قيد بشرط، فإنه إذا تخلف الشرط سيختلف الحكم؛ ولهذا يقول معللا لسبب المخالفة قال: أو بمفهوم إذا خالف المنطوق في حكمه، المنطوق مفعول به منصوب، وين فاعل خالف ؟ فاعل خالف، المسكوت عنه إذا خالف المسكوتُ عنه المنطوق في حكمه، لكون المنطوق هذا التعليل وصف يوصف أو شرط فيه شرط، إذا تخلف ذلك الوصف أو الشرط، تخلف الحكم.(1/38)
والشيخ -رحمه الله- اختصر على هذين النوعين؛ لأنهما من أهم مفاهيم المخالفة، وهما مفهوم الصفة ومفهوم الشرط، فمثلا إذا نظرنا إلى قول الله تعالى في سورة الطلاق: { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (1) منطوق الآية وجوب النفقة على المطلقات إذا كانت حاملا أخذا من قول: { وَإِنْ كُنَّ } (2) وإن أداة شرط، إذن هذا المنطوق قيد بشرط، أرأيت لو تخلف الشرط سيتخلف الحكم، وهذا هو معنى المفهوم.
إذن منطوق الآية وجوب النفقة على المطلقة إذا كانت حاملا، مفهوم الآية عدم وجوب النفقة على المطلقة إذا لم تكن حاملا، هذا الاستدلال بالمنطوق والمفهوم.
مثال آخر قول الله تعالى في سورة النساء: { وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) } (3) منطوق الآية أن ما طاب به نفس الزوجة من المهر فهو حلال للزوج، أخذا من الشرط، وهو قوله: { فَإِنْ طِبْنَ } (4) مفهوم الآية أن المرأة إذا لم تطب نفسها بشيء من المهر، فليس للزوج أن يأخذ منه شيئا.
هذا الشرط الصفة في مثل قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: " في سائمة الغنم الزكاة " وأحب أن تفهموا إلى أن الأصوليين لا يريدون بالصفة الصفة المصطلح عليها عند النحويين التي تسمى النعت؛ لأن اللفظ الذي معنا في سائمة الغنم، ما عندنا نعت هنا باصطلاح النحويين، عندي مضاف ومضاف إليه في سائمة الغنم، لكن من جهة المعنى بم وصفت الغنم ؟ وصفت بالسوم، يعني بأنها سائمة.
__________
(1) - سورة الطلاق آية : 6.
(2) - سورة الطلاق آية : 6.
(3) - سورة النساء آية : 4.
(4) - سورة النساء آية : 4.(1/39)
إذن يصح أن يقال: إن هذا المنطوق وصف بوصف، إذا تخلف هذا الوصف تخلف الحكم، فإن كانت الغنم ليست بسائمة، معلوم السائمة عند الفقهاء، هي التي ترعى أكثر الحول في البر، لكن لو إنسان عنده غنم في حظيرة، أو في حوش ينفق عليها طوال السنة، فهذه ليس فيها زكاة سائمة؛ لأنها ليست بسائمة، لكن إن كان أعدها للتجارة، فإذا باعها، الزكاة في قيمتها كسائر عروض التجارة.
وعلى هذا فمفهوم المخالفة سمي بمفهوم المخالفة؛ لأن المسكوت عنه يخالف المنطوق في الحكم، ومفهوم المخالفة حجة عند جماهير أهل العلم، والأدلة على حجية مفهوم المخالفة كثيرة، ولعلي أكتفي منها بدليلين -مراعاة للوقت-
الدليل الأول: أن فصحاء اللغة وفرسان البلاغة يدركون أن التقييد بوصف، أو شرط يدل على تخلف الحكم عند فقد الوصف أو الشرط، فقد ورد في الحديث الصحيح، أن يعلى بن أمية حاء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال: يا عمر الله -جل وعلا- يقول: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (1) وقد أمن الناس إذن هو الآن يعلى بفصاحته يريد أن قولنا: إيه، إن الآية لها منطوق ولها إيه، مفهوم، منطوق الآية أن القصر مربوط بالخوف، وما دام أن هذا القيد -وهو الخوف- قد زال وأمن الناس، إذن ينبغي أن موضوع القصر ينتهي.
هذا فهمه هو، إذن هذا يدلنا على أن أصحاب اللغة الفصحاء يدركون مفهوم المخالفة ويعملون به، فقال عمر - رضي الله عنه - عجبتُ مما عجبتَ منه، يعني الفهم الذي فهمته أنت أنا فهمتُه، وقد سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: " صدقة تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته " طيب هل في لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا سؤال لكم أنتم هل في لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا دليل على حجية مفهوم المخالفة؟.
__________
(1) - سورة النساء آية : 101.(1/40)
تفضل يا أخي أنت، وجه الدلالة، ما وصلني صوتك، أحسنت، إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أنكر على عمر سؤاله، بل أقره عليه فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بجوابه، كأنه يقول: نعم، إن مفهوم المخالفة معمول به، لكن في هذه الآية بالذات لا يعمل به؛ لأن كونكم تقصرون في حال الخوف والأمن، هذه صدقة من الله -جل وعلا- هذا دليل.
الدليل الثاني: أن التقييد بالوصف أو الشرط، لا بد أن يكون له فائدة، ولا سيما في نصوص الشرع، وإلا لماذا يقول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: في سائمة الغنم الزكاة ؟
لو لم تكن كلمة سائمة لها فائدة، لما كان لذكرها معنى، بل إن العرب أو ما هم العرب، البلاغيون يرون أن الزيادة التي ما لها فائدة تعتبر حشوا وتطويلا، يعني مثلا قول الشاعر:
ذكرت أخي فعاودني
داع الرأس والوصب
ڑ
يقولون: ليش، يقول: كلمة الرأس دي؟ الصداع وين يكون؟ معروف أن الصداع في الرأس، إذا يعتبرون كلمة الرأس دي حشو ما لها قيمة، أرأيت لو أن الغنم فيها زكاة سائمة وغير سائمة، هل يكون لقوله: سائمة في الحديث لها معنى ؟ لا، يكون تطويل بدون فائدة، فهذان دليلان على أن مفهوم المخالفة يكون حجة.
أنواع الدلالة
دلالة المطابقة
ثم انتقل المصنف إلى نقطة أخرى، وكان الأولى أننا نضع له عنوانا مستقلّا، بحيث تكون النقاط أربعة، فتكون النقطة الثانية في درس اليوم أنواع الدلالة، وهذا البحث -يا إخوان- من المباحث المهمة، أن طالب العلم ينبغي أن يعي أنواع الدلالة؛ لأجل أن يستعملها عند الاحتياج إليها؛ ولهذا الشيخ -رحمه الله- مع أن رسالته مختصرة، إلا أنه ذكر أنواع الدلالة فقال:
الدلالة من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام، دلالة مطابقة إذا طبقنا اللفظ على جميع معناه.
هذه دلالة المطابقة.(1/41)
دلالة اللفظ على تمام ما وضع له، اللي هو معنى كلام الشيخ، إذا طبقنا اللفظ على جميع معناه فإطلاق مثلا كلمة رجل على الذكر، دلالة مطابقة لماذا؟ لأن اللفظ -اللي هو كلمة رجل- دل على تمام معناه الذي هو الذكر، ودلالة كلمة امرأة على الأنثى، لكن الذي يعنينا، وهذا هو الذي ينبغي-كما قلت لكم لدارس الأصول- أن تكون أمثلته من نصوص الكتاب والسنة فيفهم الأصول.
مثال دلالة المطابقة، دلالة لفظ الصلاة على ركوعها وسجودها وشروطها وواجباتها، كل ما يتعلق بالصلاة، دلالة لفظ الصلاة عليه دلالة مطابقة؛ لأن اللفظ يدل على جميع معناه، أن على تمام معناه، فإذا قلنا: الصلاة لا بد لها من شروط قبله وأركان وواجبات، دلالة كلمة صلاة على الشرط والأركان والواجبات، يسمى دلالة مطابقة؛ لأن اللفظ دل على تمام معناه.
دلالة تضمن
الثاني قال: دلالة تضمن، إذا استدللنا باللفظ على بعض معناه.
وإن شئت قل دلالة اللفظ على بعض ما وضع له، دلالة الصلاة على الركوع من أي أنواع الدلالة؟ ولماذا ؟ أنتم، نعم، لماذا؟ نعم، الآن الركوع جزء من أجزاء الصلاة، إذ دلالة لفظ الصلاة على الركوع أو على السجود يسمى دلالة تضمن؛ يعني لأن الصلاة تتضمن الركوع وتتضمن السجود.
دلالة التزام
النوع الثالث: دلالة التزام ودلالة الالتزام دلالة اللفظ على الخارج اللازم، لو أراد إنسان أن يقول: إن قول الله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (1) يدل على وجوب ستر العورة، هذه تدل على وجوب ستر العورة استدلال صحيح ؟ صحيح لماذا؟ لأنه استدل بالآية على ستر العورة، من باب دلالة الالتزام؛ لأن من لوازم الصلاة، ومن شروط الصلاة ستر العورة.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 43.(1/42)
وهذا معنى قولنا: دلالة اللفظ على الخارج اللازم، يعني ستر العورة، هل هو داخل في ماهية الصلاة ؟ لا، ليس من أركانها ولا من واجباتها إنما هو إيه ؟ من الشروط، وكما تعلمون الشروط هي ما يسبق العبادة، إذن الاستدلال بالآية على ستر العورة، أو على استقبال القبلة، أو على الطهارة من أي أنواع الدلالة؟ من باب دلالة الالتزام.
ولهذا يقول الشيخ : ودلالة الالتزام إذا استدللنا بلفظ الكتاب لاحظوا يقول: لفظ يعني يقصدوا أيش بلفظ ؟ إنك تستدل بالآية مثل الآية اللي استدللنا بها { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (1) إذا استدللنا بلفظ، ضعوا فوقها خطا، كلمة لفظ تنتبهون لها، إذا استدللنا بلفظ الكتاب والسنة ومعناهما على توابع ذلك ومتمماته وشروطه، وما لا يتم ذلك المحكوم فيه، أو المخبر عنه إلا به.
إذن صارت الشروط واللازم الاستدلال عليها من أي أنواع الدلالة ؟ من باب دلالة الالتزام، طيب مثال آخر قول الله تعالى: { * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } (2) نريد نستدل بالآية دي ثلاث مرات، مرة يكون استدلالنا من باب دلالة المطابقة، وذلك إذا استدللنا بالآية على وجوب أداء الأمانة كاملة غير منقوصة .
إنسان مثلا عطيته ألف ريال، قلت: هذه أمانة عندك، وضعته له في ظرف وشمعت عليه، وقلت: هذه أمانة عندك، بعد شهر تعطيني إياه، فجيته أنت وأعطاك الأمانة الظرف بما فيه، إذن أدى إليك الأمانة كاملة غير منقوصة، فدلالة الآية على هذا دلالة مطابقة.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 43.
(2) - سورة النساء آية : 58.(1/43)
طيب لو استدللنا بالآية على وجوب الأخذ من الأمانة، إنك ما تأخذ من الألف ولا ريال، مع أن الآية ما فيها هذا، فيها أداء الأمانة، لكن أليس عدم الأخذ من الأمانة بعضا من أداء الأمانة ؟ أداء الأمانة يقتضي مثلا حفظه، عدم التعدي عليها، عدم الإطلاع عليها -إذا كانت مظرفة- عدم الأخذ منها، يعني فيه عدة جزئيات، إذا استدللنا بالآية على بعض الجزئيات مثل الصلاة، يصير الاستدلال من باب دلالة التضمن.
طيب إذا استدللنا بالآية على وجوب حفظ الأمانة، الآن كيف يتم أداء الأمانة بأيش ؟ بحفظها، إذن الحفظ من لوازم أداء الأمانة من شرط أداء الأمانة.
مثل ما مر علينا الطهارة من لوازم الصلاة، من شروط الصلاة هذه مثلها، إذن إن استدللنا بالآية على الأداء دلالة مطابقة، استدللنا بالآية مثلا على تغيير مكان الأمانة، عدم تغيير مكانها أو عدم كشفها دلالة تضمن، إن استدللنا بالآية على حفظ الأمانة دلالة التزام.
ثلاثة أصول يحتاج إليها الفقيه
الأصل في أوامر الكتاب والسنة أنها للوجوب
انتقل المصنف -رحمه الله- إلى النقطة الثالثة، وهي ثلاثة أصول يحتاج إليها الفقيه، الأصل الأول قال:
الأصل في أوامر الكتاب والسنة أنها للوجوب، إلا إذا دل الدليل على الاستحباب أو الإباحة.
هذه -يا إخوان- قاعدة عظيمة من قواعد أصول الفقه، وهي أن الأصل في الأمر أنه للوجوب، إلا إذا وجد دليل صارف من الأمثلة قول الله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) } (1)
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 204.(1/44)
هذه الآية دليل على وجوب الاستماع والإنصات عند سماع القرآن، وهذا الأمر أعنى الوجوب له لا يعرف في نصوص الشريعة، ما يصرف هذا الأمر عن الوجوب، وبهذه الآية استدل العلماء على وجوب الإنصات لقراءة الإمام والاستماع، حتى إن فريقا من أهل العلم استدلوا بهذه الآية على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة؛ لأنه مشغول بالاستماع لقراءة إمامه.
أما الذين يقولون: إن قراءة المأموم للفاتحة لا بد منها، فيقولون: إن الآية هذه خصصت بالأحاديث الدالة على أنه لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصير المعنى أن المأموم يقرأ الفاتحة، وبعد هذا ينصت لقراءة الإمام، وعلى أي حالة الآية فيها دليل على أن الأمر يقتضي الوجوب.
والأدلة على أن الأمر يقتضي الوجوب كثيرة، منها قول الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1) فهذا دليل على أن أوامر الشريعة ليس فيها خيار للمكلف، إلا إن جاء الخيار من طريق الشرع، والخيار اللي ييجي من طريق الشرع، هو اللي يصرف الأمر، إما للاستحباب أو للإباحة مثلا.
ومن الأدلة أيضا قول الله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } (2) وجه الدلالة من الآية مكون من ثلاث جزئيات، مرتب بعضها على بعض، أن الآية دلت على من خالفه الأمر متوعد بهذا الوعيد العظيم، أن تصيبهم فتنة وهي الزيغ والانحراف -والعياذ بالله- أو العذاب الأليم .
__________
(1) - سورة الأحزاب آية : 36.
(2) - سورة النور آية : 63.(1/45)
الجزئية الثانية: لا يتوعد بهذا الوعيد العظيم، إلا على ترك واجب، الجزئية الثالثة: النتيجة فدل على أن أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، حتى يرد ما يصرفها، الشيخ -رحمه الله- اختصر على نوعين ما يخرج فيه الأمر عن الوجوب، الأول الاستحباب، ومن أمثلته ما ورد في الحديث الصحيح، أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: " صلوا قبل المغرب " - يعني قبل صلاة المغرب- " صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب لمن شاء "
فلولا قوله: "لمن شاء" لكان قوله: صلوا المكرر ثلاث مرات يفيد ماذا ؟ يفيد الوجوب، ولكن صرف الوجوب بهذه القرينة، ثم لا بد أن نعلم أن القرينة قد تكون قرينة ظاهرة، وقد تكون قرينة خفية، بسبب أن القرينة قد تكون في نفس النص، مثل المثال اللي مثلته لكم، القرينة اللي صرفت الأمر عن الوجوب، دليل آخر ولا بنفس الدليل، بنفس الدليل لكن قد تكون القرينة شيئا يستفاد من أدلة الشريعة وعموماتها، مثاله ما ورد في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين "
ما ورد في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين " بالأمر ، طبعا تعرفون الحديث، فلا يجلس. لكن هذا ما يصلح لدرسنا اليوم ما يصلح فلا يجلس ، نهي. ولا ..لأ، فنحن نرى حرف النهي الآن. إذن سُقت الحديث لكم برواية الأمر: فليركع ركعتين.
تحية المسجد عند جمهور العلماء -وإن كان فيه من يقول بالوجوب- لكن تحية المسجد عند جمهور العلماء سنة.(1/46)
هذه صيغة أمر، والحديث الذي معنا ليس فيه صارف، ولكن الصارف ما استفاده العلماء من أدلة أخرى؛ أنه لا واجب من الصلوات إلا الصلوات الخمس، وأما ما عداها فليس بواجب - يعني- قصدي أن ما فيه مجمع عليه إلا الصلوات الخمس، -يعني- صلاة العيدين منهم من قال: إنهما فرض عين، لكن على أي حال الجمهور استدلوا على أن الأمر مصروف عن ظاهره، بما استقر من أنه لا يجب في الشريعة -وجوبا مجمعا عليه- إلا الصلوات الخمس.
وعلى هذا فموضوع صرف الأمر من الوجوب إلى غيره: كالاستحباب- يحتاج إلى استقراء، وتتبع لنصوص الشريعة.
الإباحة، نعم، قد يرد الأمر للإباحة، لا يراد به الوجوب، والأصوليون عندهم قاعدة: أن الأمر بعد الحظر، أو ما يتوهم فيه الحظر، أنه للإباحة، الأمر بعد الحظر في مثل قول الله -تعالى-: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } (1) لا أحد يقول: إن الإنسان إذا حل إحرامه يجب عليه أنه يخرج، ويدور ويصيد وجوبا. أبدا. إذن الصيد مباح، لماذا؟ لأنه كان في حال الإحرام محرَّما.
إذن القاعدة عندهم: أن الأمر بعد الحظر يكون للإباحة، أو في مقام يتوهم فيه الحظر، مثاله: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يُسْأل يوم النحر في حجة الوداع، يقول: " نحرت قبل أن أحلق، لم أشعر، نحرت قبل أن أحلق، قال: إفعل ولا حرج "
وكل الأسئلة التي ترد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: أيش؟ إفعل ، إفعل صيغة أمر، هل هذا الأمر يراد به الوجوب؟ لا يراد به الوجوب، لماذا؟ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر الصيغة في مقام يتوهم الحظر.
يعني الذي قال : نحرت قبل أن أحلق . يظن أن النحر قبل الحلق أنه محظور، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا قال له: إفعل ولا حرج، يصير معنى هذا أن الذي تتصور أنه محظور ، ليس بمحظور، وإنما هو مباح
__________
(1) - سورة المائدة آية : 2.(1/47)
لكن قول الأصوليين : إن الأمر بعد الحظر للإباحة. فيه نظر، والصواب ما عليه المحققون من أهل الأصول، وغيرهم- أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى الأمر قبل الحظر: إذا كان واجبا، ثم جاء حظر -تعرفون حظر يعني منع- ثم جاء أمر يرجع الأمر إلى حالته الأولى، إذا كان مستحبا، وجاء حظر، ثم أمر يرجع إلى الاستحباب، إن كان مباحا، وجاء حظر، ثم أمر يرجع لإيش؟ إلى الإباحة
انظر-مثلا- إلى قول الله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } (1) قتل المشركين قبل أن تحل الأشهر الحرم واجب، في الأشهر الحرم ما فيه قتال، فإذا انقضت الأشهر الحرم يصير قتالهم مباحا؟ لا، يرجع إلى الوجوب.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة " إذن هي قبل الحيضة -وجوبا- تصلي ، إذا حاضت فيه حظر الآن؟ فيه حظر. فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ، يرجع الأمر إلى إيش؟ إلى الوجوب .
طيب، " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " زيارة القبور -بإجماع أهل العلم- مستحبة، فبعد النهي عنها أمر بها، فيكون الأمر بها لإيش؟ يعود على الأصل الذي هو الاستحباب.
وهذا القول كما ذكر الحافظ بن كثير -رحمه الله- في تفسيره قال: إن هذا القول تصطنع به الأدلة، ولا يشذ منها شيء: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان إليه قبل الحظر.
الأصل في النواهي أنها للتحريم
الأصل الثاني : الأصل في النواهي أنها للتحريم إلا إذا دل الدليل على الكراهة.
هذه قاعدة عظيمة، نص عليها الشافعي -رحمه الله- في كتابه الأم، قال: إن الأصل في النهي -إذا ورد عن الله ورسوله- أنه يُحمل على التحريم إلا إذا ورد دليل يصرفه عن التحريم.
مثاله : ما ورد في حديث أبي مَرْثد الغنوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها "
__________
(1) - سورة التوبة آية : 5.(1/48)
هذا نهي محمول على التحريم، ولا يعرف في نصوص الشريعة صرفه عن التحريم؛ ومن هنا قرر أهل العلم أن الصلاة إلى القبور -بمعنى أن القبر يكون قبلة للمصلي- أن هذا محرم شرعا؛ لأن الصلاة إلى القبور، أو الصلاة في القبور من أعظم وسائل الشرك ، والتشبه بالمشركين ، وهكذا موضوع الجلوس على القبور، هذا محرم شرعا؛ لأن الجلوس على القبر فيه امتهان لصاحب القبر.
لكن هل كل النواهي على التحريم؟ قد يصرف النهي إلى الكراهة -يعني- تكون رتبته أقل، ولكن لا بد من القاعدة: أنه لا يصرف النهي عن التحريم إلا لدليل.
ومن أمثلة ذلك: ما ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه -حديث أبي قتادة- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول " فمس بالذكر باليمين منهي عنه، وكان الأصل أن يكون هذا النهي للتحريم، ولكن أهل العلم وجدوا صارفا صرفه عن التحريم، مخففا بالنسبة للمكلف، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الوضوء من مس الذكر، كما في حديث طلق بن علي، وهو حديث صحيح، أخرجه أصحاب السنن، قال: هل هو إلا بَضْعَة منك؟
معنى بَضْعة: قطعة، كإصبعك مثلا؛ لأنه عضو من أعضائك، فقالوا: هذا صرف النهي للتحريم صرفه إلى الكراهة. وهذا قول الجمهور من أهل العلم، كما نص عليه الحافظ بن حجر في فتح الباري عند شرحه للحديث المذكور أولا.
النقطة الأخيرة في موضوع النهي: ما الدليل على أن الأصل في النهي التحريم؟
الدليل قول الله -تعالى- : { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) وجه الدلالة من الآية: أن الله -جل وعلا- أوجب الانتهاء -يعني- وجه الدلالة مكون من ثلاث جزئيات - أسهل لكم في فهم المعلومات- وجه الدلالة مكون من ثلاث جزئيات:
الجزئية الأولى: أن الله -تعالى- أمر بالانتهاء عما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - سورة الحشر آية : 7.(1/49)
والأمر عند الإطلاق ، يقتضي الوجوب ، هذه الجزئية الثانية.
الجزئية الثالثة: فيكون الأمر بالانتهاء عما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون واجبا. فإذا كان واجبا صار النهي للتحريم؛ لأنه لا يكون الانتهاء واجبا عليك -أنك تنتهي- إلا إذا كان النهي لإيه؟ للتحريم.
الأصل في الكلام الحقيقة
الأصل الثالث الذي يحتاج إليه الفقيه: ما يتعلق بالحقيقة والمجاز: يقول -رحمه الله- :
والأصل في الكلام الحقيقة، فلا يعدل به- يعني بالكلام- إلى المجاز -إن قلنا به- إلا إذا تعذرت الحقيقة .
الأصوليون يذكرون الحقيقة والمجاز، ومن المعلوم أن البحث في الحقيقة والمجاز محله كتب البلاغة، وهو ما يسمى بعلم البيان. يعني علوم البلاغة ثلاثة: علم البيان، وعلم المعاني، وعلم البديع، فالذي يبحث في الحقيقة والمجاز هو علم البيان .
ولكن الأصوليين- قاطبة- يذكرون مباحث من الحقيقة والمجاز في كتب الأصول، لماذا ؟ الجواب كما قلت لكم : إن من أهم مباحث الأصول البحث في دلالات الألفاظ ، ومعلوم أن اللفظ قد تكون دلالته حقيقية، وقد تكون دلالته مجازية ، فرأوا أن البحث في الحقيقة والمجاز يعتبر من مباحث دلالات الألفاظ، مثل: البحث في العام والخاص، والمطلق والمقيد.. إلى آخره .
الحقيقة : اللفظ المستعمل فيما وضع له .
والمجاز : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي
فإذا قلت : رأيت أسدا. فهذه حقيقة؛ لأن اللفظ استعمل فيما وضع له، والظاهر أن العرب -وإن كان يُنَازَعُ في هذا الكلام، ولكن نحن نتكلم على ما يقرره البلاغيون- أن العرب أول ما وضعت كلمة أسد وضعتها على الحيوان المفترس، لكن لو قال لك إنسان: رأيت أسدا على فرس. هنا كلمة أسد ما استعملت في معناها الحقيقي، لإيش؟ لأنه فيه قرينه تمنع من إرادة المعنى الأصلي .(1/50)
ولهذا: القاعدة عند البلاغيين أنك: ما تَسْتَعْمِل اللفظ بمعناه المجازي إلا تعطي السامع قرينة، وإلا السامع وين يروح ذهنه؟ يروح للمعنى الحقيقي، فأنت -الآن- إذا قلت: رأيت أسدا على فرس. كلمة أسد هنا يراد بها الرجل الشجاع لأمرين:
الأمر الأول : أنه وجد قرينة : كلمة على فرس، والأمر الثاني : أن فيه علاقة بين الحيوان المفترس -اللي هو المعنى الحقيقي-، والمعنى المجازي -اللي هو الرجل الشجاع-، العلاقة بينهما الشجاعة.
هذا معنى الحقيقة و المجاز، لكن الذي يهم الأصوليين ما يهم الفقهاء، وهذا الذي نص عليه الشيخ -رحمه الله- عندما قال : "الأصل في الكلام الحقيقة، فلا يعدل به إلى المجاز -إن قلنا به- إلا إذا تعذرت الحقيقة" ، الفقهاء -ومنهم ابن قدامة في المغني- يقولون : إذا قال إنسان: هذا وقف على ولدي. فإنه لا يدخل ولد الولد ؛ لأن الولد الحقيقي ولد الصلب، وولد الولد "ولدٌ"، ولكنه عن طريق المجاز، فلا ينقل الوقف إلى ولد الولد ما أمكن صرفه إلى الولد .
إذن هذه مسألة فقهية تذكر في باب الوقف، ما المستند إلى الحكم فيها؟ القاعدة هذه: أن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يصرف إلى المجاز إلا إن تعذرت الحقيقة.
طيب، لو قال إنسان: والله لآكلن من هذه الشجرة . المعنى الحقيقي للشجرة: جزعها ، وغصونها، والمعنى المجازي: الثمرة . إذن هنا ما ينصرف اللفظ إلى المعنى الحقيقي؛ لأنه متعذر، إنما ينصرف إلى المعنى المجازي.
طيب، نرجع للمثال السابق: لو إنسان ما له أولاد من صلبه، كل من عنده أولاد أولاده، ثم قال: هذا وقف على ولدي. إلى من ينصرف؟ ينصرف إلى أولاد الأولاد؛ لأنه تعذر صرفه إلى الحقيقة -الذي هو ولد الصلب-، وعلى أي حال البحث في الدلالة الحقيقية أو المجازية هذا له فائدة، من الفوائد ما ذكر الشيخ -رحمه الله- من أن الحقيقة ثلاثة أنواع :
حقيقة لغوية ، وحقيقة شرعية ، وحقيقة عرفية.
أنواع الدلالة الحقيقية(1/51)
قال: والحقائق ثلاث: شرعية، ولغوية، وعرفية.
ما هي الحقيقة الشرعية ؟قبلا.. من يعرف لي الحقيقة؟ أنا أريد -يعني- أسهل لكم المعلومات قدر ما أستطيع. أنت يا سامي… زين هذا تعريف الحقيقة: اللفظ المستعمل فيما وضع له. عندنا الآن ثلاث كلمات فقط؛ إن أردت اللغوية زد كلمة في اللغة، وإن أردت الشرعية زد كلمة في الشرع، وإن أردت العرفية زد كلمة في العرف، واضح هذا .
طيب. الحقيقة اللغوية مثل: الصيام، الصيام مستعمل في كلام العرب، لكن بالمعنى اللغوي، أنت إذا سمعت الشاعر يقول :
خيل صيام و خيل غير صائمة
حت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ڑ
نفهم من قوله: صيام، غير صائمة. أنها ممسكة: إما عن الجري -مثلا- ، أو عن أي معنى من المعاني يدور على معنى الإمساك .
لكن قد يكون قوله: خيل صيام. يريد الممسكة عن الجري، الدليل أنه قال : وخيل غير صائمة تحت العجاج. واللي تحت العجاج -يعني في ميدان القتال- معناه أنها تجري.
إذن تفسير الصيام بأنه الإمساك عن الجري من أي أنواع الحقيقة؟ حقيقة لغوية ؛ لأن هذا هو اللفظ المستعمل فيما وضع له عند أهل اللغة.
طيب. اللفظ اللي مثلت به أمس للظاهر ما هو؟ أنا مثلت بحديث أمس للتمثيل بالظاهر؟ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " توضئوا من لحوم الإبل " هذا الحديث -اللي هو الوضوء- له معنى لغوي؟ له معنى لغوي.
لو فرضنا أن أحد الشعراء ذكر الوضوء فأراد المعنى اللغوي، لكن من الذي ذكر الوضوء؟ صاحب التشريع -صلوات الله وسلامه عليه-. إذن يصير الوضوء في الحديث حقيقة شرعية، ما اللفظ المستعمل للوضوء في لسان الشرع؟ غسل الأعضاء الأربع: الوجه ، واليدين ، والرجلين ، والرأس، والتعبير عن الرأس بالغسل من باب التسامح في التعبير .(1/52)
حقيقة عرفية : الحقيقة العرفية نوعان : عرفية عامة -ما تخص طائفة معينة-مثل: لفظ الدابة ، الدابة في اللغة: اسم لكل ما يدب على الأرض، حتى أنت دابة بالمعنى اللغوي ، لكن خصه العرف بذوات الأربع، ما يقولون جاء دابة إلا إذا جاء فرس -مثلا- ،أو حمار، أو إبل ، لكن لو جاء الإنسان ما يقولون: جاء دابة ؛ لأن العرف خص الدابة بذوات الأربع ، من اللي خص الدابة بذوات الأربع؟ ما ندري، حقيقة عرفية عامة.
طيب. لكن أنت إذا سمعت في كتب النحو الرفع، والجر، والجزم، إيش تفهم؟
تفهم الرفع: اللي هو شيء مرفوع فوق شيء؟ ، والجزم أنه بمعنى اليقين؟ لا الرفع يريدون به: الحركة المعروفة الضمة، والجر : الكسرة، والجزم: السكون. هذه تسمى حقيقة عرفية أيش؟ خاصة؛ لأنها عند طائفة معينة.
فائدة معرفة أنواع الحقيقة
هذه أنواع الحقيقة، لكن يا إخوان، المهم ما هو فقط أننا نعرف أنواع الحقيقة، المهم ما فائدة معرفة أنواع الحقيقة ؟ وهذا قال عنه الشيخ:
فما حكم به الشارع وحَدَّه وجب الرجوع فيه إلى الحد الشرعي، وما حكم به، ولم يحده اكتفاء بظهور معناه اللغوي- وجب الرجوع فيه إلى اللغة، وما لم يكن له حد في الشرع، ولا في اللغة رجع فيه إلى عادة الناس وعرفهم
كلام بمنتهى الوضوح والدقة، يقصد الشيخ: أن الفائدة من تقسيم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام- أنه إن جاءت على لسان أهل اللغة تفسر بالمعنى اللغوي عندهم ، وإن جاءت على لسان أهل الشرع تفسر بالمعنى الشرعي، وإن جاءت على لسان أهل العرف -يعني ما لها معنى لغوي ولا شرعي- تفسر بما يدل عليه العرف.
طيب. مثلنا إنك إذا سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " توضئوا من لحوم الإبل " ما تفسر الوضوء لا بالمعنى اللغوي، ولا بالمعنى العرفي، فسِّرْه بالمعنى الشرعي؛ لأن اللفظ جاء على لسان الشرع، والشرع فسر الوضوء، وهذا معنى قول الشيخ : " فما حكم فيه الشارع وحَدَّه وجب الرجوع فيه إلى الحد الشرعي".(1/53)
طيب . "وما حكم به ولم يحده ،اكتفاء بظهور معناه اللغوي، وجب الرجوع فيه إلى اللغة" الشرع قال : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل والقرآن يبين لنا ضابط السرقة؟ ما بَيَّنَ ضابط السرقة، العلماء رجعوا إلى تعريف السرقة إلى المعنى اللغوي؛ ولهذا أنت لو رجعت إلى القاموس، وغيره من معاجم اللغة، ستجد أنهم يفسرون السرقة بأنها أخذ المال خفية، وكلمة خفية ما لها وجود في نصوص الشرع.
إذن الشرع حكم بالسرقة، وأنه تقطع يد السارق ، لكن هل حَدَّ السرقة وضبطها بضابط معين؟ ما ضبطها بضابط معين، إذن يرجع للمعنى اللغوي . فيه أشياء وردت في الشرع ما لها معنى لغوي ، ولا لها معنى شرعي، ما حدها الشرع، ما الحكم؟ يرجع إلى العرف من ذلكم:
السفر: السفر ذكر في نصوص الكتاب والسنة، لكن لم يعرف الشرع السفر تعريفا شرعيا، بل تركه وأطلقه؛ لأجل أن ما عده الناس سفرا -على حسب أعرافهم وأزمانهم- يكون سفرا
ولهذا -بالمناسبة- الشاطبي ذكر نقطة هنا، لابد ننتبه لها، وهي: أن الأعراف قد تختلف من مكان إلى مكان آخر؛ فأي ناس في مكان معين، أو مدينة معينة؛ أو بلد معين، لهم عرف يحكم بعرفهم، ولو كان مخالفا للعرف في بلد آخر، مثاله:
النفقة: ذكر الإنفاق في نصوص الكتاب والسنة على الزوجة، لكن الشرع ما حَدَّ نفقة معينة، وهذا من حكمة التشريع، فالمرجع فيها إلى العرف.
أنت الآن لو أدرت فكرك في أنحاء العالم ستجد أن النفقة على حسب القدرة المالية تختلف من بلد إلى بلد آخر، بل نحن هنا -مثلا- في المملكة النفقة عندنا -الآن- على الزوجة ومطاليب الزوجة -في زمننا هذا- ما هي النفقة على الزوجة منذ ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، أو أكثر، تختلف. إذن من حكمة التشريع أنه أعاد، أو أرجع النفقة إلى العرف، لو أن الشرع حدد نفقة معينة لوقع الناس في الحرج.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 38.(1/54)
الحيض: ما حدد الشرع للحيض ضابطا معينا، جعل الحيض راجعا إلى عادة المرأة ؛ لأن النساء يختلفن ، ولهذا بعض النساء ترتكب خطأ: تظن أن الحيض ستة أيام، إذا كملت ستة أيام اغتسلت، مع أن أمارات الطهر ما رأتها، الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيش قال؟ قال: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي، وصلي.
ربط الأمر بإيش؟ بكل امرأة، كأنه يقول لكل امرأة: إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت حيضتك فاغتسلي، وصلي. امرأة قد تُدْبِر حيضتها لستة أيام، امرأة قد تدبر حيضتها لسبعة أيام، وجد من النساء من لا تدبر حيضتها إلا بعد خمسة عشر يوما.
العرف
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له رسالة عظيمة في هذا الموضوع الذي نحن بصدده، وهي موجودة في مجموع الفتاوى، في الجزء التاسع عشر، قال الشيخ -رحمه الله-:
وقد يصرح الشارع بإرجاع هذه الأمور إلى العرف: كالأمر بالمعروف، والمعاشرة بالمعروف، ونحوهما.
يعني أن الشرع قد يذكر كلمة المعروف كما في قول الله -تعالى- : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (1) وكما في قول الله -تعالى- في موضوع مال اليتيم: { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } (2)
ما هو المعروف ؟ المعروف: ما تعارف عليه الناس، وأقروه، حسب أزمنتهم وأمكنتهم. لكن للعرف شرط أساسي وهو: ألا يكون مخالفا للشرع ، لكن لو تعارف الناس على الربا، أوعلى شرب الخمر، أو على منكرات الأفراح، أو غير ذلك- لا يُقَرُّون على ذلك؛ لأن الشرط في العرف ألا يناقض الشرع؛ ولهذا يعرف العرف بأنه :ما تعارف عليه الناس، وأقره الشرع.
قال: فاحفظ هذه الأصول التي يضطر إليها الفقيه في كل تصرفاته الفقهية.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى أهله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) - سورة النساء آية : 19.
(2) - سورة النساء آية : 6.(1/55)
جزى الله فضيلة الشيخ خير الجزاء ، وهذه أسئلة كثيرة وردت في الموضوع، وفي غيره، فهذا سؤال يقول :
س: فضيلة الشيخ، السلام عليكم، قلتم: إن الأصوليين عندما يذكرون الصفة لا يقصدون بها الصفة المصطلح عليها عند الأصوليين. نرجو من فضيلتكم توضيح هذه المسألة.
ج: عند الأصوليين، ولَّا عند النحويين؟
س: قال: عند الأصوليين.
ج: لا أنا قلت لكم: عند الأصوليين، ولَّا قلت عند النحويين؟ طيب. يعني تعرفون أن الصفة عند النحويين لها ضابط معين، نص عليه ابن مالك عندما قال :
فانعت بمشتق كصعب وذَرِبْ
شبهه كذا وذي والمنتسب
ڑ
إذن عند الأصوليين لا بد أن تكون الصفة مشتقة: اسم الفاعل ، اسم المفعول إلى آخره ، ثم أن الصفة لا بد أن تسبق بموصوف.
تقول -مثلا- : جاء رجلٌ كريمٌ. كريم صفة لرجل ، لكن لو قلت: جاء كريم القوم. الوصفية موجودة ولَّا لا ؟ موجودة الوصفية، لكن ما يقولون: إن كريم القوم إنه صفة اصطلاحا فأيش يقولون؟ يقولون: من إضافة الصفة إلى الموصوف.
إذن لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " في الغنم السائمة الزكاة " فيصير صفة نحوية الآن؟ أراكم أنتم بالنحو… هه.. في الغنم السائمة الزكاة. صارت الآن صفة هه ، لكن الحديث قال: " في سائمة الغنم " إذن الوصفية موجودة، لكن هل هي الصفة على اصطلاح النحويين؟ ما هي صفة، والذي أريد أن تفهموه أن الصفة عند الأصوليين أعم من الصفة عند النحويين. نعم
س: أحسن الله إليكم لِلَّهِ وهذا سؤال عبر الإنترنت ، يقول : أرجو التكرم بإعادة عناوين الأصول التي شرحتموها هذه الليلة، والله يرعاكم .
ج: الشيخ الأصول يقصد؟ الأصول أربعة -اللي هي الأخيرة- :
-الأصل في الأمر الوجوب.
-الأصل في النهي التحريم.
- الأصل في الكلام الحقيقة.
- ثم الأصل في الرابع اللي فرع عن الثالث: أنواع الحقيقة، وبيان فائدة معرفة أنواع الحقيقة
النقاط :(1/56)
النقطة الأولى: تعريف مفهوم المخالفة ، وذِكْر نوعين من أنواعه وهما: الصفة، والشرط، مع الأمثلة، والدليل على حجية مفهوم المخالفة .
النقطة الثانية : أنواع الدلالة الشرعية، وهي : دلالة التضمن ، والمطابقة والالتزام هذه النقطة الثانية .
النقطة الثالثة : أربعة أصول، أو ثلاثة أصول، يحتاج إليها الفقيه، وهي التي ذكرتها في أول الجواب . نعم .
س: وهذا سائل يقول : هل هناك فرق بين دلالة الألفاظ عند علماء الأصول، والبلاغة، والتفسير ، وأهل اللغة ؟
ج: أما بالنسبة للدلالة عند المفسرين ، فلا فرق، بل إن المفسرين عالة على الأصوليين؛ ولهذا يرى بعض المعاصرين أنه لا داعي إلى إيراد المباحث الأصولية مع علوم القرآن -يعني- مثل: مبحث العام والخاص، والمطلق والمقيد ، والمنطوق والمفهوم،يقولون: لا داعي أن تدرس، أو تدون مع علوم القرآن؛ لأن الأصوليين بها أقعد. فالمفروض أن المرجع فيها إلى الأصوليين؛ ولهذا قلت لكم في أول كلمة قلتها: إن أصول الفقه لا يستغني عنه لا محدث، ولا فقيه، ولا مفسر. فليس هناك فرق .
أما بالنسبة للغويين: فمن حيث الأصل ما في فرق بينهم، لكن من حيث تنزيل الدلالات على نصوص الشريعة يكون فيه فرق بينهم؛ لأن الأصولي: يشتغل بالنصوص ، أما اللغوي فيفرع على كلام العرب. نعم .
س:وهذا سائل يقول : هل النهي يتضمن أمرا مثل قوله -تعالى- : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } (1) ؟
وهل ترك هذا النهي يدخل في قوله -تعالى- : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } (2) الآية ؟
ج: القاعدة عند الأصوليين -ستأتي إن شاء الله فيما أظن-: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عن الشيء أمر بضده . ولعل الجواب يأتي في حينه لأَجْل ما يضيع علينا الوقت مرتين .
انتهت؟
__________
(1) - سورة النور آية : 30.
(2) - سورة النور آية : 63.(1/57)
هناك أسئلة: هناك سؤال مهم، وإن كان خارجا عن الموضوع، لكنه مهم إيراده.
خير.
س: قال : هذه امرأة أرسلت السؤال من أمريكا: امرأة أمريكية أسلمت، وكانت متزوجة من زوج نصراني، ولا تزال معه في نفس البيت؛ لقلة الحيلة ، المال ، وهي في قرية نائية ، فما الحل ؟
ج: والله أقول : الحل ليس الآن، أعطني الورقة أشوف، طيب. خلي الحل بعدين. نعم .
س: وهذا سؤال آخر من أمريكا -أيضا- يقول: إجماع أهل العلم على بعض الأحكام الواردة في حديث عمرو بن حزم -مع ضعف سنده، واستغنائهم لشهرته، نرجو التوضيح؟
ج: حديث عمرو بن حزم -هذا- تكلم العلماء في إسناده، لكن العلماء- رحمهم الله- تعالى- استدلوا به على مسائل منها : قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " ألا يمس القرآن إلا طاهر " فاستدلالهم بهذا الحديث لسببين :
السبب الأول : أن كثيرا من الأحكام الواردة في حديث عمرو بن حزم ورد لها شواهد في أحاديث أخرى .
والأمر الثاني : أن العلماء -رحمهم الله- تلقوا هذا بالقبول، حتى إن بعض العلماء -وأظنه الإمام أحمد رحمه الله- قال : لا شك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتبه لعمرو بن حزم. ولعل السائل، وغير السائل يرجع إلى رسالة مطبوعة متخصصة في دراسة هذا الحديث ، لكن هذا الجواب الذي ذكرت هو باختصار .
س: وهذا سائل يقول : أرجو من فضيلتكم إعادة شرح مفهوم الموافقة والمخالفة، مع ذكر الأمثلة؟
ج: ما يصلح الإعادة ، إذا كان من الحضور يأخذه من زملائهم اللي يمكن بعضهم يكتبون ولاَّ يأخذون الشريط، أما شرح مفهوم الموافقة أو المخالفة؟
س: كلاهما؟
ج: كلاهما؟ هذا لن أشرحه في هذه الليلة، وقد شرحت مفهوم الموافقة في ليلة، ومفهوم المخالفة في ليلة أخرى ، فأرجو من السائل أن يرجع إلى أحد زملائه، أو إلى الأشرطة -إن كان فيه أشرطة للدرس- والله أعلم.
س: وهذا سؤال من الإمارات، يقول : هل يَرِدُ مفهوم المخالفة في كل نص؟(1/58)
ج: مفهوم المخالفة له أسباب، إن وجدت أسبابه وجد مفهوم المخالفة: كالصفة، والشرط ، والعدد ، مثلا، فإذا وجد سبب وجد مفهوم المخالفة؛ ولهذا قلت لكم أنا في بداية الدرس : إن مفهوم الموافقة ما فيه شيء زائد عن اللفظ ، لكن مفهوم المخالفة لابد أن يكون فيه شيء زائد على دلالة اللفظ ، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين . والسلام عليكم ورحمة الله.
نصوص الكتاب والسنة
العام والخاص
تعريف العام والخاص
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد: درسنا في هذه الليلة يتناول النقاط التالية:
أولا: بعض دلالات الألفاظ ، وقد ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- منها أربعة.
والنقطة الثانية: تعريف النسخ، وموطنه، وشروطه.
والنقطة الثالثة: تعريف التعارض، وطرق الخروج من التعارض، وهناك نقاط أخرى ، وأرجو أن يتسع لها الوقت .
النقطة الأولى: المصنف -رحمه الله تعالى- ذكر أربعة أنواع من مباحث الدلالة:
العام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والمجمل والمبيَّن ، والمحكم والمتشابه .
يقول: ونصوص الكتاب والسنة منها عام: وهو اللفظ الشامل لأجناس، أو أنواع، أو أفراد كثيرة، وذلك أكثر النصوص، ومنها خاص: يدل على بعض الأجناس، أو الأنواع، أو الأفراد.
العام : في اصطلاح الأصوليين هو اللفظ المستغرِق لجميع أفراده بلا حصر كأن تقول: أكرموا الطلاب. فلفظ الطلاب صيغة عموم يستغرق جميع الأفراد، ولا يقف عند حد معين ، هذه صفة العام: أن العام يشمل، ويستغرق جميع أفراد اللفظ ، ولا يقف عند حد معين .
أما الخاص : فهو اللفظ الدال على محصور: إما بشخص مثل محمد ، أو بإشارة مثل هذا طالب، أو بعدد نحو عندي عشرون كتابا ، هذا تعريف الخاص والعام .(1/59)
المصنف -رحمه الله- قال: " العام هو اللفظ الشامل لأجناس.." يعني مثل: لفظ الحيوان؛ لأن لفظ حيوان اسم جنس يشمل البهائم، ويشمل بني آدم -يعني الإنسان-،".. أو أنواع.." مثل: الإنسان، فالإنسان نوع من أنواع الجنس "..أو أفرا كثيرةزز": كالطلاب يدل على أفراد، والمسلمين ، والمشركين، ونحو ذلك.
قال : "ومنها خاص يدل على بعض الأجناس" كأن تقول: هذا إنسان، فهذا يدل على بعض الأجناس كما تقدم ، "أو الأنواع " كأن تقول: هذا رجل -نوع-، أو تقول: هذا أسد -نوع-" أو الأفراد" -كما مثلت لكم- كأن تقول: جاء محمد
النقطة اللي ركز عليها الشيخ في موضوع العام هي: ما علاقة العام بالخاص؟ الخاص: إما أن يكون حكمه حكم العام ، وإما أن يكون له حكم غير حكم العام فإن كان حكم العام والخاص سواء عمل بالعام على عمومه، وعمل بالخاص على خصوصه. بمعنى أنه لا يخصص العام بالخاص، وهذا يسمى -عند الأصوليين- موافِقُ العام، وبعبارة أخرى يسمونه الخاص الذي ورد بحكم العام.
فالسؤال: ما حكم الخاص إذا ورد بالحكم العام ؟ هل يخصِّصُ العامَّ أو لا يخصصه؟ الجواب : لا يخصصه ، مثاله : لو قلت لإنسان: أكرم الطلاب، ثم قلت: أكرم زيدا. هل معنى هذا أن الخاص -كلمة (زيد)- ألغى العام، وصار الإكرام خاصا بزيد، أم أن العام باق على عمومه، ويكون ذكرك للخاص لغرض من الأغراض: كالتنويه بقيمة زيد، ومكانة زيد ؟
فالجواب على هذا أن نقول : إن ذكر الخاص بحكم العام لا يقتضي التخصيص. ما هو حكم العام ؟ -اللي عارف يرفع يده- ما هو حكم العام ؟
الإكرام ، ما هو حكم الخاص ؟ نعم الإكرام . إذن لا يخصص الخاصُ العامَ، بل يبقى العام على عمومه، والخاص على خصوصه .(1/60)
مثال : من النصوص الشرعية قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر بن عبد الله المتفق عليه " وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا " الأرض لفظ عام يشمل: الأرض الرملية، والترابية، والحجرية، والتي نزل عليها المطر ، كل هذا بمقتضي الفظ الذي معنا تصلح للتيمم ؛ لأن كلمة الأرض لفظ عام .
ما هو حكم العام الذي نأخذه من قوله : " وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا " ؟
حكم العام: أنه يتيمم بجميع أجزاء الأرض ، ورد في صحيح مسلم حديث حذيفة -رضي الله- عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وجعلت لنا تربتها مسجدا وطهورا إذا لم نجد الماء "
هذا الحديث فيه فرد من أفراد العام -الذي هو التراب- الحكم ما هو ؟ هه.. نعم الحكم هو التيمم، إذن الآن الخاص حكمه هو حكم العام ولَّا مختلف؟ هو حكم العام.
إذن نأخذ قاعدة في الأصول: إذا جاء الخاص بحكم العام امتنع التخصيص ، فيعمل بالعام على عمومه: ويعمل بالخاص على خصوصه؛ ومن هنا الراجح في هذه المسألة: أن أي جزء من أجزاء الأرض يصلح للتيمم.
لكن لو أخذنا القاعدة: من أن نخصص العام بالخاص، معني هذا أن أي نوع من أنواع الأرض يتيمم به؟ التراب فقط ، يعني الذي له غبار، نصير لا نتيمم بالرمل، ولا نتيم بالأرض الحجرية، ولا نتيمم بالأرض الذي نزل عليها قش من مطر لا نتيمم به.
لو عملنا بالتخصيص، لكن لن نعمل بالتخصيص؛ ولهذا الراجح من قول أهل العلم أن أي جزء من أجزاء الأرض يتيمم به . لعله اتضح الآن ، وهذا معنى قول الشيخ -رحمه الله-: فحيث لا تعارض بين العام والخاص ، عمل بكل منها.
متى ما يتعارض العام والخاص ؟ أنت يا أخي، نعم.. إيه؟ أحسنت. إذا جاء الخاص بحكم العام ، وقد نسب الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول ) ما سمعتموه إلى جمهور العلماء ، أن جمهور العلماء يقولون: إذا ورد الخاص بحكم العام ما فيه تخصيص، يعمل بالعام ، ويعمل بالخاص.(1/61)
ما تعرفون معنى يعمل بالعام ، ويعمل بالخاص بالحديث اللي أعطيتكم؟ معني يعمل بالعام أنه أي جزء من أجزاء الأرض يصلح للتيمم: لو جاء واحد وتيمم بالتراب يصلح التيمم، نصيرعملنا بالعام، وعلمنا بالخاص.
تعارض العام والخاص
طيب، ثم قال: وحيث ظن تعارضهما خُصَّ العام بالخاص
هذه مسألة التعارض، فمثلا: إذا قرأت قول الله -تعالى-: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) تجد هنا أن الآية ما حددت مقدارا تُقطع به يد السارق؛ ولهذا الظاهرية -اللي ما عندهم قضية اسمها تخصيص- يقولون: تقطع يد السارق في القليل والكثير.
أما الجمهور من أهل العلم فقد وجدوا لهذا العام ما يخصصه، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا "
إذن فيه تعارض الآن بين الآية والحديث، الآية تقول: يقطع بالكثير والقليل، والحديث يقول أيش؟ ربع دينار فما فوق فيه قطع، أقل من ربع دينار -بمقتضى الحديث- ما فيه قطع-المفهوم اللي مر علينا أمس مفهوم المخالفة-: ربع دينار فما فوق فيه قطع، أقل من ربع دينار ما فيه قطع.
فكيف نخرج من هذا التعارض؟ نخصص العام -اللي هو الآية- بالخاص. الآية أيش تعني من المقادير؟ ثلاثة - قسمة عقلية-: ربع دينار، أقل من ربع دينار، أكثر من ربع دينار،هذه كلهن داخلات بالآية.
أيش عمل الحديث؟ الحديث طلع فردين من الأفراد: طلع ربع دينار فيه قطع، إذن موافق للآية الآن، فوق ربع دينار فيه قطع، موافق للآية. يصير الحديث طلع من الآية: أقل من ربع دينار، كذلك الآية تقول: فيه قطع، والحديث يقول: ما فيه قطع هذا. هو معنى التخصيص.
ما معنى التخصيص؟ التخصيص: إخراج بعض أفراد العام. كم بالآية من فرد يا إخوان؟ ثلاثة أفراد، ربع دينار، أكثر، أقل، جاء الحديث وطلع أقل من ربع دينار أنه ما فيه قطع، وهذا معنى التعارض بين العام والخاص.
المطلق والمقيد
__________
(1) - سورة المائدة آية : 38.(1/62)
اختصر المؤلف، قال: ومنها مطلق عن القيود.
انتقل -الآن- إلى النوع الثاني من أنواع الدلالة وهو: المطلق والمقيد.
المطلق عند الأصوليين : ما دل على الحقيقة بلا قيد، يقصدون بالحقيقة: الماهية، والماهية يعني: ماهية الشيء، وأصل الشيء، وحقيقة الشيء، فمثلا: عندك كلمة رجل حقيقة لهذا الإنسان، كلمة رقبة حقيقة لهذا الجزء من بدن الإنسان، هذا المطلق: يدل على ماهية الشيء بدون أي قيد من القيود.
أما المقيد: فهو ما دل على الحقيقة، ولكن بقيد. إذا قيل: جاء رجل. هذا مطلق ،لكن لو قيل: جاء رجل كريم. هذا مقيد ، إذا قيل: رقبة. مطلق ؛ لأنها كلمة ما تدل إلا على حقيقة الرقبة فقط، لكن: اعتق رقبة مؤمنة. مقيد.
بعض الطلاب يشكل عليها الفرق بين العام والمطلق؛ والسبب في الإشكال أن كلا منهما فيه عموم ، إذا قيل: أكرم الطلاب. هذه صيغة عموم -مثل ما مر-؛ لأن الاسم دخلت عليه "أل" الاستغراقية.. صيغة عموم.
إذا قيل: أكرم طالبا. هذا مطلق؛ من مواضع الإطلاق النكرة في سياق الإثبات، فأكرم طالبا هذا مطلق، طيب. الآن كما تلاحظون في اللفظين أن فيهما عموما.
أما أكرم الطلاب : أنا لو جاء مثلا ضيف، وقلت: أكرم الطلاب، اللي -إن شاء الله- موجودون في هذا المسجد. لازم يكرم جميع الأفراد، ما يترك ولا طالبا واحدا، لو كان العدد الموجود -مثلا- مائة، وأكرم تسعة وتسعين ما حصل المقصود؛ لأنه باق فرد الآن، هذا لفظ العموم الذي يفيد الاستغراق والحصر.
لكن اللفظ المطلق (أكرم طالبا) فيه عموم من جهة أنه لم يعيَّن طالب معين، كل الموجودين يصلح واحد منهم فقط للإكرام، فإذا قال الضيف: اتفضل يا أخي، أنت تعالى، خذ جائزة لك، أريد أن أكرمك. ينتهي الموضوع ولَّا ما ينتهي؟ ينتهي الموضوع، لأيش؟ لأن النكرة ما تتناول إلا فرادا فقط فردا واحدا غير معين.
لكن لما كان الفرد غير معين صار فيه أيش؟ عموم؛ ولهذا يقولون: عموم العام شمولي، وعموم المطلق بدلي.(1/63)
إيش معنى: عموم العام شمولي؟ يعني أن اللفظ العام يستغرق جميع الأفراد، إيش معنى: عموم المطلق بدلي؟ يعني أنه فيه عموم، ولكن إذا أخرج فرد من أفراد العموم انتهى الأمر، إذا أخرج فرد وحُدِّدَ فرد من أفراد العموم -بالنسبة للفظ المطلق- انتهى الأمر.
فلعله بهذا اتضح لنا الفرق بين العام، وبين المطلق. طيب، ممكن واحد يعطينا الفرق؟ الإخوان في الجهة هذه؟ اتفضل أخي.. نعم أنت.. إيه؟ ..عمومه؟ أحسنت.. بدلي. وفهمتم يا إخوان في المثال: أكرم الطلاب، هذا عام، ولا يحصل المقصود إلا بإكرام الجميع، (أكرم طالبا) فيه عموم، ولكن يحصل المقصود بإكرام طالب واحد. طيب
ما حكم المطلق والمقيد ؟
المطلق والمقيد ثلاثة أنواع:
النوع الأول : مطلق عن القيود، هذا يعمل به على إطلاقه، كما في قول الله -تعالى- في كفارة الظهار: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } (1) الذين لا يشترطون الإيمان في كفارة الظهار، ما وجه استدلالهم؟ يقولون: إن لفظ رقبة جاء مطلقا، غير مقيد، فيعمل به على إطلاقه.
ويمكن -أيضا- أن يمثل بقول الله -تعالى- في سياق المحرمات من النساء : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } (2) إلى أن قال : { وَأُمَّهَاتُ ِNن3ح!$|،خS } (3) لكن لما جاء ذكر الربائب قال -تعالى- : { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } (4)
فلهذا قال العلماء: إن أم الزوجة تحرم بمجرد العقد على البنت ؛ لأن الآية ما ذكرت قيد الدخول، تحريم أم الزوجة، إنما جاءت الآية مطلقة؛ ولهذا ذكر القرطبي في تفسيره، ونسبه إلى جمهور السلف، على أن أم الزوجة تحرم بمجرد العقد على بنتها أخذا من إطلاق الآية.
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 3.
(2) - سورة النساء آية : 23.
(3) - سورة النساء آية : 23.
(4) - سورة النساء آية : 23.(1/64)
النوع الثاني من النصوص : نصوص مقيدة : ما حكمها ؟ يعمل بها على تقييدها. ففي كفارة الظهار قال الله -تعالى- بعد ذكر الرقبة: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } (1)
عندنا قيدان إذ لابد أن يكون الصيام: القيد الأول: متتابعا، القيد الثاني: من قبل أن يتماسا. إذن يعمل به على تقييده.
ومثله أيضا قول الله -تعالى- في كفارة اليمين: { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ÷rr&?َOكgè?uqَ،د.?÷rr&?مچƒجچّtrB رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ } (2) الصيام مطلق ولَّا مقيد؟ مقيد، بماذا؟ بعدم القدرة على الإطعام، وعلى الكسوة، وعلى أيش؟ وعلى الإعتاق ، هذا معنى أنه مقيد .
النوع الثالث من النصوص : نصوص جاءت مطلقة في موضع ، ومقيدة في موضع آخر.
فالقاعدة العامة في الباب: أن يحمل المطلق على المقيد -ولَّا المسألة فيها تفاصيل عن الأصوليين- لكن القاعدة العامة: أن يحمل المطلق على المقيد.
فأنت -مثلا- إذا قرأت قول الله -تعالى- : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } (3) تجد أن لفظ الدم مطلق، ما قيد بأي قيد من القيود ، لكن لما قال الله -تعالى- في سورة الأنعام : { إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } (4) إذن قُيِّد الدم بأنه المسفوح: أي المصبوب، فلا بد يقيد اللفظ الأول، ولا يحرم من أنواع الدم إلا ما كان مسفوحا، أما ما يبقى بالعروق، أو ما يبقى في اللحم، أو الكبد، أو الطحال، فإن هذه لا تحرم استنادا لهذا القيد.
وقد نقل الإجماعَ القرطبيُ في تفسيره: على أن الدم الذي أطلق في بعض النصوص مقيد بالمسفوح الذي ورد ذكره في آية الأنعام، وفيه أمثلة أخرى، لكن نكتفي بهذا.
المجمل والمفصل
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 4.
(2) - سورة المائدة آية : 89.
(3) - سورة المائدة آية : 3.
(4) - سورة الأنعام آية : 145.(1/65)
النوع الثالث من أنواع الدلالات: المجمل، المبين.
فما أجمله الشارع في موضع، وبينه، ووضحه في موضع آخر وجب الرجوع فيه إلى بيان الشارع، وقد أُجْمِل في القرآن كثير من الأحكام، وبينتها السنة، ووجب الرجوع إلى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه المبين عن الله.
المجمل عند الأصوليين : هو ما احتمل معنيين فأكثر من غير تَرَجُّحِ أحدهما على الآخر .
إذن المجمل: أن اللفظ يدل على أكثر من معنى، ولا فيه مرجح؛ ولهذا لا بد لإزالة الإجمال من أمور خارجية من الموجودة في نفس اللفظ .
من أين ينشأ الإجمال ؟ أيش سببه؟ الإجمال له ثلاثة أسباب : إما عدم تَعَيُّن المراد، وإما جهل الصفة، وإما جهل المقدار .
عدم تَعَيُّنِ المراد: كما في قوله -تعالى- : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (1) القرء: يطلق على الطهر، ويطلق على الحيض ،تعيين واحد منهما يحتاج إلى بيان، ومن هنا نشأ الإجمال .
عدم معرفة الصفة: كما لو قرأت في قول الله -تعالى- : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (2) هذا مجمل؛ لأن الآية ما بينت صفة الصلاة، وكما في قول الله -تعالى- : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } (3) ما بينت الآية صفة الحج ، إذن الآية فيها إجمال
وقد يكون سبب الإجمال: عدم معرفة المقدار، كما في قول الله تعالى : { وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (4) أيش مقدار الحق اللي يُخْرَجُ من الحبوب ؟ ما بينت الآية.
النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الشريعة: إما بالقول، أو بالفعل، أو بغير ذلك من أنواع البيان. فبُيِّنَتِ الصلاة، وبُيِّنَتِ الزكاة، وبُيِّنً الصيام ، وبُيِّنَ الحج ، إلى غير ذلك من المجملات في القرآن .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 228.
(2) - سورة البقرة آية : 43.
(3) - سورة آل عمران آية : 97.
(4) - سورة الأنعام آية : 141.(1/66)
لكن لا نفهم أن البيان خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن القرآن ساهم في البيان، وهذا ما يسمى عند العلماء: تفسير القرآن بالقرآن. فإذا قرأت قول الله -تعالى- : { الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) } (1) هذا كلام مجمل، جاء بيانه بقوله بَعْدُ: { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) } (2) إلى آخر السورة.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ، والقرآن -أيضا- بَيَّنَ، وما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد بَيَّنَ الشريعة كلها، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - " لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " .
المحكم والمتشابه
النوع الرابع والأخير من دلالات الألفاظ: المحكم والمتشابه.
المحكم والمتشابه المراد به هنا: الإحكام الخاص، والتشابه الخاص.
أما الإحكام العام، والتشابه العام، هذا ما فيه بحث؛ لأنه ما فيه إشكال. فالقرآن كله محكم، وكله متشابه: كله محكم في جزالة لفظه، ووضوح معانيه، ودقة أحكامه، وصدق أخباره ، هذا معنى أنه قرآن محكم؛ ولهذا جاء وصف القرآن بأنه محكم، كما في أول سورة هود: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ } (3)
القرآن من أوله إلى آخره متشابه، يشبه بعضه بعضا في المعاني التي ذكرنا، لكن المقصود بالموضوع الذي معنا هو: أن أكثر آيات القرآن محكم، وفيه آيات متشابهة.
__________
(1) - سورة القارعة آية : 1-3.
(2) - سورة القارعة آية : 4.
(3) - سورة هود آية : 1.(1/67)
والدليل على هذا قول الله -تعالى- في سورة آل عمران: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } (1)
فما هو المحكم بهذا المعنى؟ وما هو المتشابه؟
المحكم بهذا المعنى هو: ما اتضح المراد منه، والمتشابه بهذا المعنى: ما لم يتضح المراد منه.
الآية التي قرأتها عليكم نستفيد منها فائدتين:
الفائدة الأولى: أن الله -جل وعلا- ذكر أن المحكم أكثر من المتشابه؛ لأنه سمى المحكم أم الكتاب -يعني معظم الكتاب، وغالب الكتاب-، ومعنى هذا أن الغالب على آيات القرآن الوضوح والبيان، والمتشابه قليل؛ لأن الله -جل وعلا- قال: { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (2)
الفائدة الثانية وهي التي تعنينا في موضوعنا: أن الله -جل وعلا- ذكر أن الناس أمام المتشابه صنفان: صنف زائغ يتبع المتشابه، ويحرص عليه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله؛ ولهذا قال -تعالى-: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } (3) ينقبون عن المتشابهات ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة آل عمران آية : 7.(1/68)
الصنف الثاني: سماهم الله الراسخين في العلم، هؤلاء ماذا يقولون؟ ماذا يعملون؟ يردون المتشابه للمحكم، فإذا رُدَّ المتشابه للمحكم اتضح المتشابه ، يزول التشابه، وأيضا يعرفون أن خطابهم بالمتشابه اختبار وابتلاء: هل يؤمنون بما لا يعرفون، أو لا يؤمنون؟ والحقيقة أنهم يؤمنون؛ لأنهم ماذا يقولون؟ { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } (1) طيب.
من الأمثلة قول الله -تعالى- : { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (2) قد يقرأ هذه الآية إنسان في قلبه مرض -والعياذ بالله- ، فيظن أن هداية الله -تعالى- وإضلاله جزاف؛ لأنه قال: { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (3) ولا ذكرت الآية أسباب الهداية، ولا أسباب الإضلال.
لكن الراسخين في العلم ردوا هذه الآية -التي قد يظن فيها التشابه- إلى المحكم من القرآن ، فالله -جل وعلا- قال : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } (4) إذن الآية ذكرت أن هداية الله تعالى للعبد لسبب صادر من العبد، وهو قوله : { اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } (5) وفي مجال الغواية والإضلال جاءت الآية الثانية : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } (6) إذن صارت الهداية لها أسباب والإضلال له أسباب.
إذن ما المنهج للخروج من التشابه؟ رد المتشابه إلى المحكم. لكن تبقى نقطة هي: أن التشابه نوعان:
تشابه نسبي ، التشابه نسبي: هو الذي يخفى على أحد دون أحد.
النوع الثاني: تشابه مطلق: وهو الذي يخفى على كل احد.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة النحل آية : 93.
(3) - سورة النحل آية : 93.
(4) - سورة المائدة آية : 16.
(5) - سورة المائدة آية : 16.
(6) - سورة الأعراف آية : 30.(1/69)
وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- من أنواع التشابه: آيات الصفات، لكن الأصوليين في ذكر آيات الصفات من المتشابه انقسموا إلى فريقين:
فريقٌ أطلق ولم يصب، فقال: آيات الصفات من المتشابه.
وفريق آخر من المحققين -وعلى رأس القائمة شيخ الإسلام ابن تيمية- قالوا: آيات الصفات من جهة المعاني ما هي من المتشابه؛ لأن معانيها معروفة، وأما كيفية الصفة فهذا من المتشابه.
إذن هل يصح إطلاق المتشابه على آيات الصفات ؟الجواب : لا يصح؛ لأنها محكمة باعتبار معانيها ، ومتشابهة باعتبار كيفيتها، ويدلنا على هذا: الإجابة المالكية، وهي: أن الإمام مالك -رحمه الله- لما سئل عن الاستواء ، قال : "الاستواء معلوم "، يعني في قواميس اللغة ، إذا عُدِّيَ الاستواء بـ(على) -استوى على- صار معناه: العلو والارتفاع. إذن معنى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) يعني أيش؟ علا على العرش، ارتفع فوق العرش.
"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" إذ لا سبيل إلى التكييف.
من المقيد من المتشابه المطلق حقائق ما في الدار الآخرة: مما في الجنة من النعيم -جعلنا الله تعالى من أهل النعيم-، أو ما في النار من العذاب -أعاذنا الله تعالى من العذاب-.
حقائق الآخرة لا تعلم: الجنة فيها لبن ،فيها خمر، فيها ماء، فيها طيور ، لكن ما نعلم حقيقتها، والدليل: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } (2)
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة السجدة آية : 17.(1/70)
ولهذا ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء " يعني اللي عندنا في الدنيا، وهو موجود في الجنة فقط الأسماء، لكن الحقائق تختلف، وهذا الأثر أخرجه ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والنحل" وقال: هذا أصح إسناد يكون، أو نحو هذه العبارة، وأورده المنذري في الترغيب، وعزاه للبيهقي، وقال: إسناده جيد.
الناسخ والمنسوخ
ثم انتقل المصنف -رحمه الله- إلى النقطة الثالثة في درس اليوم وهي: موضوع النسخ.
النسخ: رفع حكم شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب أو السنة. وهذا أحسن تعريف للنسخ وأخصر تعريف، يقول:
ومنها -يعني نصوص الكتاب والسنة- ناسخ ومنسوخ، والمنسوخ في الكتاب والسنة قليل.
ولهذا تجد أن معظم الأمثلة التي ادُّعِي فيها النسخ- النسخ عنها مدفوع. فمتى أمكن الجمع بين النصين، وحَمْلُ كلٍ منهما على حالٍ وجب ذلك، ولا يعدل إلى النسخ إلا بنص من الشارع، أو تعارض النصين.
المصنف هنا يركز على نقطة وهي : أن موطن النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين .
نركز على نقطة ، و هي أن مواطن النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين ، فإذا لم يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين نلجأ إلى النسخ لأجل أن نخرج من التعارض ، وعلى هذا أيهما أولى الجمع أو النسخ ؟ . الجمع ، لماذا ؟ … أحسنت ، لأن الجمع إعمال لكلا الدليلين ، والنسخ عمل بالناسخ وإلغاء للمنسوخ .
طيب... وعلى هذا النسخ له شرطان:
الشرط الأول: أن لا يمكن الجمع بين الدليلين ، فمتى أمكن الجمع لا يعدل إلى النسخ ، والشرط الثاني -وهو الأساسي في باب النسخ-: معرفة المتقدم من المتأخر من الدليلين ؛ لأن القاعدة أن الناسخ هو المتأخر والمنسوخ هو المتقدم ، فلا بد أن نعلم المتقدم من المتأخر .
ومعرفة المتقدم من المتأخر ما هي مسألة اجتهادية ؛ ولهذا أحيانا أنه يُطعَن في النسخ يقال : والنسخ لا بد فيه من تأخر الناسخ ، وهذا غير معلوم .(1/71)
التأخر إما أن يُعلم عن طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإما أن يُعلم عن طريق الصحابي؛ لأن الصحابي حجة في هذا.
فأنت إذا سمعت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " أين المنسوخ ؟ النهي عن الزيارة . والناسخ فزوروها .
إذن في هذا الحديث اجتمع الناسخ والمنسوخ ، ونُص أيضا على الناسخ ، يعني قوله : "فزوروها" دليل على أنه هو الناسخ .
وقد يُعلم عن طريق الصحابي ؛ لأن الصحابي شاهد التنزيل .
ومنه قول الله تعالى في آية الصيام : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } (1) … إلى أن قال: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } (2)
هذه الآية تدل على أنه أول ما شُرع الصيام الإنسان بين أمرين -مخير- إما أنه يصوم ، أو ما يصوم ويطعم ، والصيام أحسن، لكن هل بقيت الآية ؟ نُسخت ، قال الله تعالى في الآية التي بعدها: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (3)
طيب أيش الدليل على أن الآية الثانية متأخرة ؟ قول سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - لما تلى الآية الأولى قال: فنسختها الآية التي بعدها .
إذن أفادنا سلمة - رضي الله عنه - أن الآية الثانية هي المتأخرة وهذا الحديث ثابت في الصحيحين .
"ولا يعدل إلى النسخ إلا بنص من الشارع -هذا شرط- أو تعارض النصين الصحيحين اللذين لا يمكن حمل كل منهما على معنى مناسب" .
يعني تعذر الجمع ، إذا تعذر الجمع يُلجأ إلى النسخ فيكون المتأخر ناسخا للمتقدم ، فإن تعذر معرفة المتقدم والمتأخر رجعنا إلى الترجيحات الأُخَر .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 183-184.
(2) - سورة البقرة آية : 184.
(3) - سورة البقرة آية : 185.(1/72)
الشيخ -رحمه الله- ضمن موضوع النسخ أدمج موضوع التعارض بين الأدلة ، وذكرنا الآن ثلاث طرق للخروج من التعارض ، وقد يكون بعض الطلاب ما فهم … ما استوعب هذه الطرق ، ولا عرف أن المؤلف ذكرها .
الشيخ ما ذكر أن من شرط النسخ تعذر الجمع ، إذن يكون الطريق الأول للخروج من التعارض: الجمع بين الدليلين ما أمكن الجمع، نلجأ إلى الجمع ما أمكن الجمع ولا ننسخ.
أيش كلمة الشيخ الأخيرة ؟ نرجع إلى أيش؟ الترجيحات والترجيحات لا بد أن تكون بواسطة أمور خارجية.
فنحن الآن يا إخوان نريد أن نعرف ما معنى التعارض ؟ التعارض: تقابل الدليلين ، بحيث يخالف أحدهما الآخر ، يعني هذا يُجيز وهذا يمنع مثلا ، يخالف أحدهما الآخر .
كيف الخروج من التعارض ؟ الخروج من التعارض له ثلاثة مخارج :
أولها: الجمع ، متى أمكن الجمع بين الدليلين تعين، أيش مثال الجمع ؟ ورد في حديث جابر -رضى الله عنه- في صحيح مسلم : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الظهر يوم النحر -يعني في حجة الوداع- صلاها في مكة "
وحديث ابن عمر أيضا في مسلم : " أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الظهر يوم النحر بمنى " الرسول ما حج إلا مرة ، ويوم النحر يوم واحد ، وصلاة الظهر واحدة ، هذا يقول: صلاها بمكة ، وهذا يقول : صلاها بمنى .
إذن هناك تعارض الآن ، لكن ذكر العلماء -ومنهم النووى -رحمه الله- في شرحه على مسلم- أنه يمكن الخروج من هذا التعارض بطريقة الجمع بين الدليلين، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلا صلى الظهر في أول وقتها بمكة ؛ لأنه يريد أن يصلى ويطلع لمنى؛ لأنه يوم النحر ستبدأ أيام منى. صلى الظهر في مكة ، الصحابة -رضى الله عنهم -في منى ينتظرونه، يعني كل وقت يقولون: جاء الرسول ، جاء الرسول انتظروا، فجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في منى وهم لم يصلوا فصلى بهم الظهر، فهذا حكى ما رآه، وهذا حكى ما رآه، وبهذا يزول التعارض.(1/73)
الطريق الثانى: ما هو؟ النسخ، مثاله:
الطريق الثالث : لترجيح بين الدليلين، الترجيح يا إخواني أمر صعب؛ لأنه ينبني على جمع مرجحات خارجية تؤيد كفة، ترجح كفة واحد من الدليلين؛ ولهذا نجد أن العلماء -رحمهم الله- اهتموا بموضوع المرجحات وعددوها إلى أنواع كثيرة تصل إلى خمسين أو أكثر، كل هذا يدلك على أن المرجحات الخارجية أمرها ليس بالأمر السهل.
مثال لهذا يوضح: ورد في حديث بسرة بنت صفوان الذي أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مس ذكره فليتوضأ " عارضه حديث طلْق بن علي عن أبيه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - -وهذا ذكرته لكم أنا الليلة الماضية- سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ قال: هل هو إلا بضعة منك " ؟
يعني مثل ما إذا مسست إصبعك ما عليك وضوء، وهذا أيضا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، فيه تعارض الآن؟ فيه تعارض . هذا دليل يوجب الوضوء، وهذا دليل يقول: ما في وضوء.
طبعا هذه المسألة، موضوع الحديث فيه كلام للعلماء طويل، لكن يعنينا كلام من سلكوا مسلك الترجيح، فهم رجحوا حديث بسرة بنت صفوان، وقرروا أنه يجب الوضوء من مس الذكر، وأيدوا ترجيحهم على عدة موجودات، ما هي موجودة بالدليل الثاني.
الأول : قالوا: إن العمل بحديث بسرة أحوط وأبر للذمة ، الذي توضأ عليه مدخل؟ ما عليه مدخل.
لكن الذي لم يتوضأ عليه مدخل من أين؟ من الذي يقول له: لا بد أن تتوضأ، إذن الوضوء أحوط وأبرأ للذمة.
الأمر الثاني: أن حديث بسرة ناقليه أكثر ؛ لأنه ورد عن عدد من الصحابة أيضا غير بسرة بنت صفوان، ومصححيه من العلماء أكثر.(1/74)
الأمر الثالث: وهذا من المرجحات التي يذكرها العلماء في باب المرجحات، يضعون قاعدة يقولون: الدليل الناقل عن البراءة الأصلية يُقدم على الدليل المبقي على البراءة الأصلية، ويقصدون بالبراءة الأصلية حالة النسخ قبل ورود الشرع، النسخ قبل أن يجيء الإسلام، أو قبل أن يوجب الوضوء، يتوضئون من مس الذكر أم لا يتوضئون؟ ما يتوضئون، يشرّعون هم... يتوضئون، ما قال لهم: توضئوا.
أي الدليلين الذي على البراءة، وأي الدليلين الذي نقل عن البراءة ؟ حديث بسرة ناقل وحديث طلْق بن علي مبقٍ على البراءة؛ لأنه لم يأت بشىء جديد.
طيب ليه نرجح الناقل؟ ليه ما نجعل الناس على ما هم عليه؟ قال لك: لا، الناقل معه زيادة علم من الموجود عن المتبقي.
وكما قلت لكم يا إخواني: المسألة مبنية على موضوع الترجيح، وأن وبعض العلماء قال بالنسخ، وبعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية قال بالجمع، يحمل حديث بسرة بنت صفوان على الاستحباب.
فيرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الوضوء من مس الذكر ليس بواجب، إنما هو مستحب ، لكن المسألة مفروضة على رأى من يقول بالترجيح.
نقطة أخيرة في التعارض، اعلم علم اليقين أن نصوص الشريعة في حد ذاتها لا تتعارض، إنما التعارض بحسب نظر المجتهد الواحد من سببين: إما لقلة علمه أو لخلل في فهمه، من هنا يأتي التعارض، وإلا -أصلا- نصوص الشريعة ما فيها تعارض.
ولهذا ابن خزيمة -رحمه الله- يتحدى يقول: اللي يقول لي: إن فيه دليلين متعارضين يجيب لي الدليلين أُألف بينهما أنا.
يقصد بهذا أن أولا : الشريعة ما فيها تعارض.
الشيء الثاني : أنه الغالب ، أنه ما فيه تعارض إلا وفيه خروج من التعارض بالطرق التي سمعتم.
تعارض أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله
طيب الآن أخذنا النقاط الثلاث التي سردتها لكم بقي عندنا ثلاث نقاط، -يعني- مقرر أن تشرح في درس اليوم، ولكن لو أشرح نقطة واحدة منها يكفيني، وهي نقطة مهمة، في الواقع موضوع.(1/75)
النقطة الرابعة عنوانها: تعارض أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، هذا الموضوع شغل بال العلماء، وبحثوه في كتب الأصول بحثا مستفيضا؛ لأنه يا إخوان -كما تعلمون- ورد عن الرسول أقوال، وورد عنه أفعال تعارض في ظاهرها الأقوال ، حتى إن الموضوع ذا أفردت فيه مصنفات مستقلة.
ومنها كتاب العلائي "في رفع الإجمال عن تعارض الأقوال والأفعال" وهذا الكتاب مطبوع موجود في المكتبات وأثنى عليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري؛ لأن العلائي من شيوخ الحافظ ابن حجر ؛ ولهذا قال: ولشيخنا في موضوع تعارض الأقوال والأفعال مصنف جليل، ثم ذكر خلاصة عن الموضوع.
طيب.. الشيخ إيش يقول عن التعارض؟ يقول:
ولهذا إذا تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله قدم قوله ؛ لأنه أمر أو نهي للأمة ، وحُمل فعله على الخصوصية له.
الشيخ كما تلاحظون يرى أن الطريق للخروج من تعارض القول والفعل أنه أيش؟ يحمل الفعل على الخصوصية ويسير المعول على القول؛ لأن القول أقوى من الفعل ، ليش أقوى من الفعل؟ لأن القول خطاب للأمة ؛ ولأن القول ما يطرقه احتمالات ، لكن الفعل خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه صادر منه ، ويطرقه أيضا احتمالات فيصير الفعل محمولا على الخصوصية .
لكن كلام الشيخ -رحمه الله- فيه نظر ، فحمْل الفعل على الخصوصية قد يؤدي إلى تعطيل قسم من أقسام السنة وهي السنة الفعلية ؛ لأن القاعدة عند الأصوليين: أن الأصل التأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله إلا إن قام دليل يدل على الخصوصية ، أما إذا ما وجد دليل فالرسول مشرع لنا . الأصل أننا نفعل مثل ما فعل .
فكوننا نقول: إن الأفعال المعارضة محمولة على الخصوصية ، ينبني على هذا أمران :
الأمر الأول : ما عندنا دليل على أن كل هذه الأفعال نحملها على الخصوصية .(1/76)
والأمر الثاني: أننا إذا حملناها على الخصوصية عطلنا أو فاتنا نوع من أنواع السنة ، وهو السنة العملية ؛ ولهذا الشيخ محمد بن العثيمين -رحمه الله- لما جال بعض التعارض بين الأقوال والأفعال قال : وهنا أصّل بعض العلماء أصلا ليس بأصيل ، وهو أن الفعل المعارض للقول يحمل على الخصوصية .
وممن انتصر لهذا الشوكاني في " نيل الأوطار " في بعض المواضع .
فعلى هذا… أنا الآن أريد أن أعرض أمامكم … أنا كان بذهني ثلاثة أمثلة ما أدري هل الوقت يساعد عليها أو لا؟ . إن أردتم أن أقولها كلها أشرط عليكم أن ما فيه أسئلة اليوم ؛ لأن وقتي محدد إلى العاشرة والنصف ، وبعدها ما أستطيع ، وإن شئتم نكتفي بمثال واحد ونفتح مجال الأسئلة.
ما في أسئلة …. نواصل؟ بس بيجينا نهي عن الوصال . طيب… الآن نريد أن نقول القاعدة لنستأنس بها : إن تعارض القول والفعل ووجد دليل على الخصوصية حمل الفعل على الخصوصية ، ومن الأمثلة ما ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله فقال : إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
فقوله : " إني لست كهيئتكم " يشعر بأن الوصال من خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم نحن أيضا من جانب آخر عندنا أدلة كثيرة تحثنا على المبادرة بالإفطار، والمبادرة بالإفطار تنافي الوصال ، إذن هنا تعارض : نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ، وفعله أنه واصل .
لكن على قول الجمهور من أهل العلم : إن الوصال خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يزول التعارض ، على الخلاف طبعا ؛ لأن المسألة فيها خلاف .
طيب.. إذا لم يوجد دليل على الخصوصية فإليكم ثلاثة أمثلة:
المثال الأول : ثبت في حديث أنس في صحيح مسلم " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر عن الشرب قائما " وفي لفظ : " نهى الرجل عن الشرب قائما " فنقول فيه: النهي عن الشرب وأنت قائم .(1/77)
البخاري في صحيحة بوب في كتاب الأشربة وقال : باب الشرب قائما ، وساق بسنده عن النزال بن صبرة قال : " أوتي علي - رضي الله عنه - بماء في الرحبة أو وهو على باب الرحبة ، فشرب وهو قائم وقال : إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب قائما ، وإنني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع كالذي صنعت "
إذن معنى هذا أنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب وهو قائم .
إذن هذا تعارض بين القول والفعل ، هل نقول : إن الفعل هنا محمول على الخصوصية ؟ لو كان محمولا على الخصوصية ما شرب على وهو قائم . عليّ أفهم منا للخصوصية .
إذن كونه شرب وهو قائم دليل على أنه ليس بخاص ، إزيدك علما أنه ورد عن عمر وعثمان أن كل واحد منهما ورد عنه أنه شرب وهو قائم ، فعلى هذا كيف الخروج من هذا التعارض؟
الخروج : ما عليه جمع من أهل العلم ، كالنووى والخطابي وابن بطال وابن حجر عندما قالوا: النهي محمول على التنزيه ، والفعل محمول على الجواز ، يعني لبيان الجواز يعني الأولى والأفضل أن الإنسان ما يشرب وهو قائم ، لكن يجوز أن يشرب وهو قائم .
وقد قال الحافظ ابن حجر عن هذا المسلك : إنه من أحسن لمسالك ؛ لأنه يسلم من أي اعتراض ، وإن فيه مسلك آخر وهو النسخ ، وهو أن النهي صار منسوخا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
إذن هذا مثال دلنا على أن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تحمل أحيانا على بيان الجواز .
مثال آخر : ورد في الصحيحين حديث أبي أيوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال خطابا لأهل المدينة : " لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ، لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أو غربوا "(1/78)
إذن هذا نص صحيح متفق عليه ، صريح في النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها حال قضاء الحاجة . بالمقابل ورد حديث ابن عمر في الصحيحين ، قال: " رقيت على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام " وفي لفظ " مستقبلا بيت المقدس "
هذا الدليل عارض العموم الموجود بالدليل الأول ، من أهل العلم من قال بالخصوصية ، قالوا: هذا خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أما نحن لا يجوز لنا أن نستقبل القبلة ولا أن نستدبرها، لكن نرجع للقاعدة : أين الدليل على الخصوصية ؟ ما في دليل ؛ ولهذا ذهب فريق ثان من أهل العلم إلى أن الفعل مخصص لا القول مخصص.
مخصص للقول يعني أيش ؟ الآن القول -يا إخوان- يتناول الاستقبال والاستدبار ، بل الفضاء والبنيان .
طيب جاء الحديث وطلع صورة الاستدبار في البنيان . الحديث إذا حملناه على أنه تخصيص ، انتبهوا ما هو خصوصية ، فيه فرق بين الخصوصية والتخصيص، التخصيص لنا أيضا نحن . فصار الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعله كأنه يقول لنا : إن الاستدبار في البنيان يجوز ، هذا معنى التخصيص ، وهذا طبعا لا غبار عليه إلى حد ما.
ولهذا الأصوليون عندما يسردون المخصصات التي تخصص العام يذكرون من ضمن المخصصات فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الفعل يخصص القول .
لكن فيه فريق ثالث : يقولون : لماذا نذهب بعيدا ، النصوص القولية نصوص صحيحة ، ورواها عدد من الصحابة ، رواها أبو أيوب في الصحيحين ، وسلمان الفارسي ، وأبو هريرة عند مسلم ، فيه نصوص صحيحة صريحة رواها عدد من الصحابة خطاب للأمة ، وحديث ابن عمر يطرقه عدة احتمالات ، يمكن أنه خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين يقولون بالخصوصية يمكن أنه … + النهي ، يمكن أن ابن عمر ما تأكد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته إنما يستنجي مثلا .(1/79)
إذن يقولون: مع هذه الاحتمالات ما يصلح أن الحديث يقف أمام القول العام الموجه لعموم الأمة .
وأصحاب المسلك الثالث هم الذين يقولون: لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها مطلقا لا في الفضاء ولا في البنيان ، لكن يا إخوان، التمثيل بهذا المثال ينفعنا متى ؟ على المسلك الثاني إن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخصص للعموم.
مما يؤيد المسلك الثالث -طوّلنا في هذه المسألة ، لكن هكذا ينبغي أن الأصول تخلط بالفقه - مما يؤيد المسلك الثالث: إن الحكمة من النهي عن الاستقبال والاستدبار -والله أعلم- احترام القبلة وتعظيم القبلة .
وهذا … قد يقول القائل: إنه ما في فرق بين الفضاء وبين البنيان ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقاس عليه غيره من الأمة ، إن ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته فالمقصود أن المسألة الآن الفقهية التي هي موضوع الاستقبال والاستدبار ، انقسم العلماء فيها إلى الأقوال الثلاثة التي قلتها لكم : إما أن الحديث خاص أو أنه مخصص أو أن المعول على أحاديث العموم .
المثال الثالث والأخير : ورد في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " توضئوا مما مست النار " يعني اللي تطبخه وتأكله توضأ …
ثبت في صحيح مسلم أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل كتفا ثم قام وصلى ولم يتوضأ ، إذن فيه تعارض بين القول والفعل في الأكل مما مست النار .
ورد أيضا عند أصحاب السنن حديث جابر أنه قال : " كان آخر الأمرين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار "
وهذا الحديث في سنده مقال ، لكن يؤيده ما في صحيح البخاري أن جابرا سُئل هل فيه وضوء مما مست النار ؟ قال : لا .
إذن الخلاصة أنه صار فيه تعارض الآن ، فهل نقول: إن ترك الوضوء مما مست النار خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا.. فيه دليل يدل على أنه ما هو خاص ، وهو أن قول جابر: آخر الأمرين يدل على أن إيجاب الوضوء صار منسوخا .(1/80)
إن إيجاب الوضوء مما مست النار صار منسوخا ، واستقر الأمر على أنه لا وضوء مما مست النار ؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الخلفاء الأربعة لا يرون الوضوء مما مست النار ، وأيضا الأئمة لا يرون الوضوء مما مست النار .
ولكن انتبهوا يا إخوان، لا يدخل معنا موضوع الوضوء من لحم الإبل ، هذا موضوع آخر ؛ لأن بعض العلماء يستدل على أنه ما في وضوء من لحم الإبل بالأحاديث هذه ، وهذا الاستدلال ليس بمسلم ؛ لأنه هل الوضوء من لحم الإبل لكونها مما مست النار أو لكونه لحم إبل ؟ لكونه لحم إبل ؛ ولهذا لو إنسان أكل لحم الإبل وهو نيء ما طبخ وجب عليه الوضوء .
إذن دل على أن الوضوء من لحم الإبل ما هو مربوط بموضوع مس النار ، إنما هو مربوط بكونه لحم إبل -والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله .
أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد...
درْسنا في هذه الليلة سيكون في النقاط التالية:
أولا: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتقريراته.
الثاني: الإجماع.
الثالث: القياس.
المبحث الرابع: سياق بعض القواعد الفقهية وعددها عشر قواعد.(1/81)
يقول المصنف -رحمنا الله وإياه- لما ذكر موضوع التعارض بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله استطرد في موضوع الأفعال، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - نوع من أنواع السنة؛ لأن السنة كما مر علينا هي أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته؛ ولهذا عني العلماء المتقدمون والمتأخرون بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وافردوا فيها مصنفات مستقلة ، ومن أجمع ما أُلف في هذا الباب كتاب "أفعال النبي" - صلى الله عليه وسلم - للأشجر، ويقع الكتاب في مجلدين ، وفيه كتاب أيضا "أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام" للعروسي، هذا يقع في مجلد واحد.
أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع اقتصر المصنف -رحمه الله- منها على نوعين، فقال:
وكذلك إذا فعل شيئا على وجه العبادة، ولم يَأمر به فالصحيح أنه للاستحباب.
هذا نوع من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو فعله على وجه الطاعة والقربة كأنْ يخص زمانا بعبادة أو يخص مكانا بعبادة ، يعني كأن يصلي تطوعا أو يتصدق.
هذا النوع من الأفعال التي يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحض التعبد والتقرب لله تعالى موضع خلاف بين أهل العلم، ولكن المصنف -رحمه الله- جرى على القول الراجح، وهو أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعبد والقربة أنه مستحب لنا، يعني يستحب لنا أن نفعل مثل ما فعل - صلى الله عليه وسلم - .
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إذا خص النبي - صلى الله عليه وسلم - زمانا أو مكانا بعبادة كان تخصيص ذلك سنة، لو فرضنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلا صلى ركعتين في وقت من الأوقات تطوعا ، وليس فيها قول من الأقوال، فإنه يستحب لنا أن نتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.(1/82)
ومن الأمثلة: ما ورد في صحيح مسلم أن عائشة -رضي الله عنها- سئلت بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك، فالسواك عند دخول البيت ليس فيه إلا الفعل المجرد.
المراد -يا إخوان- بالفعل المجرد: الذي لم يرد فيه قول، فالعلماء يقولون: السواك عند دخول البيت مستحب؛ لأن الظاهر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله على وجه القربة والطاعة.
النوع الثاني من الأفعال النبوية التي ذكرها المصنف قال: وإن فعله على وجه العادة دل على الإباحة.
ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه العادة، والأصوليون يسمونها الأفعال الجِبلّيّة التي مرجعها إلى الجبلة وهي الخلقة ، كالقيام والقعود والأكل والشرب والدخول والخروج والركوب والنزول، هذه الأفعال حكمها الإباحة يعني لا يتعلق بها أمر ولا يتعلق بها نهي إلا في حالة واحدة: وهي أن يكون الفعل له صفة، فهنا يأتي التأسي.
كأن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - له صفة في أكله أو صفة في شربه أو صفة في نومه، أو صفة في ركوبه، يأتي التأسي هنا.
أما الأفعال هذه في حد ذاتها فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها بمقتضى التشريع ؛ لأن كل ذي روح لا يخلوا عنها ، من الأكل والشرب والنوم وغير ذلك .
هذه الأفعال التي يفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجه العادة ، وهناك أنواع من الأفعال النبوية .
وثالثها : مر علينا في الليلة الماضية ، وهو ما يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مختصا به ، فهذا ليس لأحد من الأئمة أن يتأسى به فيه .
ولكن القاعدة كما علمتم : أنه لا يحكم على الفعل بالخصوصية إلا بالدليل ؛ لأن الله -جل وعلا- يقول : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (1) قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: هذه الآية أصل في التأسي بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله .
__________
(1) - سورة الأحزاب آية : 21.(1/83)
فيه أنواع من الأفعال ، لكن بما أن المصنف لم يتعرض لها نتركها .
تقريرات الرسول - صلى الله عليه وسلم -
النقطة الأخيرة في الجزئية الأولى موضوع الإقرار، قال المؤلف:
وما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال حكم عليه بالإباحة أو غيرها على الوجه الذي أقره.
مر علينا الكلام في التقرير ، ولكن يبقى عندنا أن التقرير لا يكون حجة إلا إذا كان قد علم به النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن يُفعل في حضرته أو فُعل في زمنه بحيث يُجزم بأنه اشتهر ؛ ولهذا استدل العلماء على جواز أكل لحم الفرس بقول أسماء: ذبحنا فرسا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه ؛ لأن الظاهر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيطّلع على هذا الفرس الذي ذبحه آل أبي بكر .
بل قد ورد في بعض الروايات أن بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أُطعِم من هذا الفرس.
المقصود أن شرط حجة التقرير أن يَعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يُفْعل في حضرته ، أو يفعل في زمانه ولكن تدل القرائن على أنه قد علم به يعني اشتهر .
أما إذا فُعل الشىء ولم يَعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد يكون حجة لإقرار الله تعالى عليه لا لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه .
الإجماع
النقطة الثانية في الموضوع: الإجماع، يقول المصنف:
وأما الإجماع: فهو اتفاق العلماء المجتهدون على حكم حادثة، فمتى قطعنا بإجماعهم وجب الرجوع إلى إجماعهم، ولم تحل مخالفتهم، ولا بد أن يكون هذا الإجماع مستندا إلى دلالة الكتاب والسنة.
الإجماع كما مر علينا تذكرون أن المؤلف -رحمه الله- ذكر الأدلة الأربعة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس في جميع ما تقدم ، فمن الكلام في الدروس الماضية يتعلق بالكتاب والسنة. الآن ننتقل إلى الأصل الثالث وهو الإجماع.(1/84)
المؤلف عرف الإجماع: بأنه اتفاق المجتهدين بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على حادثة وهذا تعريف سهل وبسيط، وإن كان قد خلا من بعض القيود، ولكن القيود التي خلا منها ليست بلازمة؛ لأن الحقيقة يا إخوان قضية الانشغال بالتعاريف والردود والإكثار من التعاريف والنقد والإفساد هذا قد يؤثر على الدراسة المقصودة من أصول الفقه، فأي تعريف يصور المقصود ويوضح المراد يكفي لأنه ليس المقصود التعريف.
الإجماع نوعان: إجماع قطعي وإجماع ظني. الإجماع القطعي هو الذي يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة، يعني الذي نجزم بأن الأمة أجمعت عليه ، هذا يسمى إجماع قطعي ، مثل الإجماع على وجوب الصلوات الخمس، والإجماع على وجوب الصيام والزكاة والحج، وتحريم الزنا وتحريم الربا.
المحرمات أو الواجبات ، منها ما هو مجمع عليه إجماع قطعي يعلم من دين الإسلام بالضرورة، هذا النوع من الإجماع القطعي له أوصاف:
الأول: أننا نجزم بوقوعه، ولا نتردد.
الأمر الثاني: أنه تحرم مخالفته، بل قال العلماء: إن من أنكر الإجماع القطعي فهو كافر. من قال: إن الأمة ما أجمعت على وجوب الصلوات الخمس أو ما أجمعت على تحريم الزنا فهو كافر بشرط أن لا يكون له عذر، أما إذا كان له عذر كالجهل، هذا يُعلَّم.
النوع الثاني: من الإجماع يسمى الإجماع الظني، والإجماع الظني: هو الذي لا يجزم بوقوعه ولكنه يُعلم بالتتبع والاستقراء، مثل الإجماعات التي ينقل ابن عبد البر وابن المنذر وابن قدامة وابن تيمية وغيرهم، هذا يسمى إجماع ظني مبني على إيش؟ على التتبع و الاستقراء، يصير عنده مسألة يتتبع أقوال العلماء، فإذا لم يجد أحدا خالف، نقل الإجماع.
فهذا إجماع ظني، لا يجزم بوجود المخالف، قد يوجد مخالف ولهذا -كما تعلمون- وُجد من الإجماعات التي نقلت مسائل ما تم فيها الإجماع بسبب وجود مخالف.(1/85)
فالإجماع الظني صفاته عكس صفات الإجماع القطعي ، أولا: أنه ما يجزم بوقوعه ، الأمر الثاني: أن مخالفه لا يُكفر ما دام أنه ظني .
طيب .. هل يمكن وقوع الإجماع ؟ هذا السؤال تولى الإجابة عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد ذكر في آخر الرسالة المسماة العقيدة الواسطية : أن الإجماع الذي يجزم بوقوعه هو ما كان في عهد السلف الصالح -يعني في عهد الصحابة- أما بعدهم فقد انتشرت الأمة وتفرقت فيصعب وجود الإجماع .
وإذا كان الإجماع متعذرا في عهد السلف بعد عصر الصحابة فَلَأن يتعذر في العصور المتأخرة من باب أولى ؛ ولهذا لا ينبغي التكلف في دراسة الإجماع ، يكفي أن يُعلم أنواع الإجماع وما هو الإجماع الذي يمكن وقوعه ، يعني في أي عصر يمكن وقوع الإجماع .
وإذا كان الإجماع لا يقع في العصور المتأخرة فقد تكون كثير من مباحث الإجماع -كما يقول بعض الباحثين- أشبه ما تكون بمباحث صورية لا يمكن تطبيقها على الواقع .
ثم أيضا إن المسائل المجمع عليها الإجماع القطعي أمره واضح ، والإجماع الظني دونت الكتب وذُكر فيها الإجماع.
يبقى نقطة أشار إليها المؤلف ، وأنا ذكرتها في درس مضى، وهي أن الإجماع لا بد أن يستند على دليل من كتاب أو من سنة ؛ لأنه لا يجوز للمجتمعين أن يجتمعوا بمحض اجتهادهم ورأيهم .
وقد ذكرت لكم فائدتين من فوائد الإجماع ، مع اشتراط مسند للإجماع -كما قلت لكم ذلك- طيب.. من يذكرنا إذا كان الإجماع لا بد أن يستند إلى دليل ، ما فائدة الإجماع ؟ . نعم .أنت ….. أحْسَنْتَ . أنه يُؤمَن النسخ . نعم…. تقويته ، نعم… الدليل الذي يستند إليه الإجماع ، نعم .(1/86)
لهذا يصح أن يقال : إن الإجماع ليس دليلا مستقلا ، لماذا ؟ لأنه ما دام أنه دليل مستند إلى كتاب أو سنة فليس دليلا مستقلا بنفسه ، إنما يصح أن يقال: إن الإجماع تابع للكتاب والسنة ، لكن السنة دليل مستقل ؛ لأنه قد يوجد أحكام في السنة ليست موجودة في القرآن ، لكن ما دام أن الإجماع لا بد أن يستند فيكون من الأدلة التابعة للقرآن والسنة.
القياس
المبحث الثالث -قبل الأخير-: القياس قال:
وأما القياس الصحيح فهو إلحاق فرع بأصل لعلة تجمع بينهما.
هذا تعريف القياس، ووصف المصنف القياس "بالصحيح" احترازا من القياس الفاسد، وأول صورة لصور القياس الفاسد أن يكون القياس في مقابلة دليل، يعني في مقابلة نص، إذا كان القياس يعارض دليلا فلا عبرة به، لا يعول على القياس.
إذن نستفيد من هذا أن شرط القياس أن لا يعارض دليلا، يعني أن لا يصادم نصا.
طيب.. فمتى نص الشارع …. يمكن أن تضع لهذا الكلام عنوانا وهو ما كيفية القياس؟ يعني كيف يتم إجراء القياس؟
الشيخ في كلامه يقول -وهو كلام دقيق رصين-:
فمتى نص الشارع على مسألة ووصفها بوصف أو استنبط العلماء أنه شرعها لذلك الوصف، ثم وُجد ذلك الوصف في مسألة أخرى لم ينص الشارع على عينها من غير فرق بينها وبين المنصوص وجب إلحاقها بها في حكمها؛ لأن الشارع حكيم لا يفرق بين المتماثلات في أوصافها، كما لا يجمع بين المتخالفات.
هذه الطريقة في القياس، يقول: "فمتى نص الشارع على مسألة ووصفها بوصف".
قوله: "ووصفها بوصف" يشير بهذا إلى العلة المنصوصة، العلة -يا إخوان- في باب القياس نوعان: علة منصوصة، وعلة مستنبطة، والعلل المستنبطة أكثر من العلل المنصوصة.
طيب… نريد الآن مثالين: مثالا للعلة المنصوصة ومثالا للعلة المستنبطة.
العلة المنصوصة كما ورد في حديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الهرة: " إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات "(1/87)
قوله "إنها" علة، يعني الشرع حكم بطهارة الهرة، يعني البسة التي تسمى في اللغة العامية البسة بالكسر، ولا هي بعامية صاحب القاموس قال: البَسة بالفتح والعامية تكسر الباء، شوف العامة اللي على وقت صاحب القاموس، إذن نحن يكفينا أن نصير مثلهم، يقولون: البِسة بالكسر، ليتنا نصير مثل العوام الذين على وقت صاحب القاموس!.
طيب... الهرة حكم الشرع بأنها ليست بنجس، فلو شربت من الماء أو قعدت على فراش ما يحكم بالنجاسة، ما يحكم بالنجاسة ليه؟ لأن الاحتراز من الهرة صعب، تغلق الباب تأتي من على الجدار، إذن هي تعم بها البلوى بسبب أنها يكثر تطوافها علينا، دائما بالبيت، إذن هي من الطوافين عليكم والطوافات.
فمن حكمة الإسلام إن اللي يشق الاحتراز منه مثل الهرة ما يحكم بنجاسته.
إذن الآن عندي علة منصوصة، لو أردت أن أستعمل القياس الشيخ يقول: ثم وجد ذلك الوصف في مسألة أخرى، والشرع ما نص على حكم المسألة الأخرى مثل: الحمار، الحمار في الزمن القديم قبل وجود السيارات يُربط بوسط الدار، يمكن ينطلق، يشرب من الإناء + إذن الحمار من الطوافين.
الصبيان الصغار من الطوافين، مع أنه لا يؤمن نجاسة فم الطفل، يمكن يأكل نجاسة، ما يدري، ما تؤمن ثياب الطفل، لكن يصح أن نركب قياسا.
طيب.. فنقول: الحمار كالهرة في الطهارة، بجامع التطواف في كل.
نجيء الآن لأركان القياس، القياس لا بد له من أربعة أركان: فرع، أصل، حكم، علة.
المقيس: هو الفرع اللي نريد أن نبين حكمه. الأصل هو المقيس عليه اللي الشرع حكم به، الحكم ما يراد تعديته إلى الفرع، العلة: الوصف الجامع بين الأصل والفرع، وهي الأساس، العلة لو ما في جامع بين الأصل والفرع ما يصح القياس.(1/88)
طيب.. هذه علة منصوصة، الشيخ قال: "أو استنبط العلماء أنه شرعها لذلك الوصف" العلة المستنبطة مثل ما ورد في الحديث الصحيح: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أصناف الربا: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر " … إلى آخر الحديث.
الأصناف الربوية الستة، الشرع بين لنا أن هذه الأصناف يجري الربا بينها، لكن ما بين لنا العلة ؛ ولهذا تجد أن العلماء انقسموا إلى فريقين: فريق بحث العلة وقال: خلاص ما فيه ربا إلا بالأصناف الستة، وهم الظاهرية. القسم الثاني وهم الجمهور: بحثوا في العلة لأجل أن يقيسوا على هذه الأصناف ما شاركها في العلة.
اختلفوا في العلة، ونحن هنا لا يعنينا الاختلاف، لكن من ضمن العلل التي استنبطها العلماء وبالنسبة للمطعومات الأربعة، اللي هي: التمر والبر والشعير والملح أن العلة هي الكيل، إذن معنى هذا أي شيء مكيل يجري فيه الربا، أي شيء مكيل، أي شيء يباع كيلا يجري فيه الربا.
بعضهم يقول مثلا: لا، العلة هي الكيل والطعم، لازم يصير مطعوما ومكيلا، لو مثلا جئنا للأرز، الآن هو القوت عندنا، الأرز ما فيه نص أنه يجري فيه الربا، لكن الأرز مكيل وأيضا مطعوم، إذن يصح نركب قياسا.
نقول: الأرز كالبر في جريان الربا بجامع الكيل والطُعم، فماذا عملنا نحن الآن؟ جئنا إلى مسألة ليس فيها حكم شرعي فأثبتنا فيها الحكم الشرعي، ولكن بأي طريق؟ بطريق القياس. وعلى هذا نقول: القياس مسلك اجتهادي في حدود نصوص الكتاب والسنة.
ما هو القياس؟ لا بد له من أصل، والأصل لا بد له من حكم، والحكم لا بد له من دليل، إذن القياس يرجع للكتاب والسنة ؛ ولهذا يقول العلماء -انتبهوا للنقطة هذه- يقول العلماء: إن الحكم الذي أُعطي الفرع بعد عملية القياس كان موجودا في الأصل، غاية ما هنالك أن المجتهد كشف عنه وأبرزه وأظهره ؛ ولهذا تجدهم يعرفون القياس بأنه: إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة.(1/89)
وبعضهم يقول: القياس: تسوية فرع بأصل في حكم العلة، والخطب في هذا سهل، إنما الذي يعنينا أن الحكم في الفرع كان موجودا في الأصل ومعروفا ومستقرا ولكن وظيفة المجتهد أنه أبرزه وأظهره عن طريق القياس.
طيب قال: ثم وجد هذا الوصف في مسألة أخرى لم ينص الشارع على عينها من غير فرق بينها وبين المنصوص.
هذا -يا إخوان- شرط أساسي في باب القياس، وهو أن القياس لا يتم إلا إذا اتفق الفرع والأصل، أما إذا كان بينهما فرق فإنه لا يصح القياس.
فلو جاء إنسان قال: يجري الربا في التفاح قياسا على البر بجامع الكيل، نقول: القياس هذا غير صحيح. لماذا؟ لأنه فيه فرق بين الأصل والفرع. الفرع الذي هو التفاح ليس مكيلا إنما هو معدود، يعني عند الفقهاء يعتبر في ميزان المعدودات، فلا يصح القياس
والحالة هذه.
إذن شرط القياس... طبعا القياس له شروط لكن شروط القياس التي نص عليها المصنف: ألا يوجد فرق بين الأصل والفرع لماذا؟ قال: لأن الشارع حكيم لا يفرق بين المتماثلات في أوصافها، كما لا يجمع بين المختلفات، إذن يمكن الجمع بين التفاح والبر بجريان الربا. لا. يمكن التفريق بين الحمار والهرة في الطهارة وعدم النجاسة أم لا يمكن؟ ما يمكن.
طيب.. ثم قال:
وهذا القياس الصحيح هو الميزان الذي أنزله الله، وهو متضمن للعدل وما يعرف به العدل.
العبارة هذه مقتبسة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. هو الذي وصف القياس بأنه الميزان، أخذا من قول الله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } (1) ولا شك أن القياس ميزان يوزن به، أو يوازن به بين الفرع والأصل، ويقارن بينهما، إن اتفقا ألحق أحدهما بالآخر الذي هو الفرع، وإذا لم يتفقا لم يتم الإلحاق.
__________
(1) - سورة الشورى آية : 17.(1/90)
إذن ما اسم القياس؟ الميزان ؛ ولهذا يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: إن المفروض أن القياس يسمى الميزان، ويقول: لأن القياس ما ورد له ذكر بالقرآن لا بمدح ولا بذم، فالأولى أنه يسمى بدل ما يقال: باب القياس يقال: باب الميزان.
طيب... والقياس... هذا الكلام عنوانه: ما شرط استعمال القياس؟ وإن شئت قل متى يستعمل القياس؟
قال:
والقياس إنما يُعدل إليه وحده إذا فقد النص.
إذا فقد النص، لماذا؟ لأن الحكم الشرعي إما أن يُعرف بطريق النص، وإما أن يكون حملا على النص، هذه طريقة استنباط الأحكام الشرعية، إما أن يُعرف بطريق النص من آية من قرآن أو سنة، وإما أن يكون بواسطة الحمل على النص، والحمل على النص هو القياس.
ولهذا قال:
فهو أصل يرجع إليه إذا تعذر غيره، وهو مؤيد للنص، فجميع ما نص الشارع على حكمه فهو موافق للقياس لا مخالف له.
وعلى هذا.. الناس في القياس ثلاث فرق: طرفان ووسط. الوسط من وصفهم الشيخ: الذين يفزعون إلى القياس، إذا لم يجدوا نصا.
الطرفان: قسم أفرط في رد القياس، وهم الظاهرية، وعلى رأس هذه القائمة ابن حزم، فقد شنع في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" شنع على القائلين بالقياس ووصفهم بأوصاف سيئة، كما ذكرناها.
الطرف الثاني: المسرفون في القياس الذين استعملوا القياس حتى مع وجود النص، فأسعد الناس بالقياس من استعمله عند فقد النص.
قواعد وضوابط فقهية أخذها الأصوليون من الكتاب والسنة
الفرق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية
ننتقل الآن إلى النقطة الرابعة والأخيرة في درس اليوم ، و هي نبذة من القواعد الفقهية .
القواعد الفقهية -يا إخوان- غير القواعد الأصولية ، القواعد الفقهية ، جمل موجزه يندرج تحتها مسائل عديدة ، أما القواعد الأصولية فقد مر علينا أنها قضايا كلية ، إذن اشتغال القواعد الفقهية بالجزئيات أكثر من اشتغال القواعد الأصولية بالجزئيات .(1/91)
القواعد الأصولية ما تُعنى بالجزئيات ، لكن القواعد الفقهية كما سيمر علينا الآن في القواعد ستجدون أننا نمثل للقواعد بأمثلة من الطهارة والصلاة والصيام والمعاملات … إلى آخره .
إذن الآن عرفنا المراد بالقواعد الفقهية: جمل موجزه يندرج تحتها مسائل كثيرة . والقواعد الفقهية مستنبطة من نصوص الكتاب والسنة ، ومعظمها اجتهادية .
وفي قواعد فقهية لفظها لفظ الدليل ، ولكنها قليلة جدا مثل قاعدة مثلا : لا ضرر ولا ضرار ، كما أنها قاعدة فقهية ، هذا هو لفظ الدليل ، لكن معظم القواعد الفقهية صاغها العلماء صياغة مختصرة وافيه استنباطا من الأدلة ؛ ولهذا كل قاعدة فقهية لها دليل ، لكن تارة يكون الدليل قريبا وواضحا وتارة يكون الدليل بعيدا ؛ لأنه قد يكون الدليل متصيدا من عموميات الكتاب والسنة .
ما الفرق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية ؟ فيه فروق، ولكنني أكتفي بفرقين مهمين :
الفارق الأول : القواعد الفقهية تُعنى بأفعال المكلفين كما ستلاحظون في الأمثلة تعنى بأفعال المكلفين ، أما القواعد الأصولية ما تبحث في أفعال المكلفين تبحث في الأدلة والأحكام.
أنت الآن إذا سمعت القاعدة الأصل في الأمر الوجوب إلا لصارف، القاعدة هذه تدور حول أيش ؟
تدور حول الأدلة التي فيها الأوامر ، أي الدليل نفسه تأخذ منه أن الأمر للوجوب ، لكن القواعد الفقهية بحثها في أيش ؟ في أفعال المكلفين ؛ ولهذا صارت فوائدها عظيمة .
الفارق الثاني: أن القواعد الفقهية غالبا قد يكون لها مستثنيات -أحيانا- وإن كانت قليلة .
أما القواعد الأصولية فهي كلية ليس لها استثناءات .
إذا قلنا: الأمر للوجوب إلا لدليل في شيء يستثنى من القاعدة دي ؟ ما في شيء يستثنى .
إذا قلنا النهي للتحريم إلا لدليل ، ما في شيء يستثنى إذا قيل: مثلا الإجماع حجة . ما في إجماع ما هو حجة ، الإجماع حجة.(1/92)
فالقواعد الأصولية ليس لها استثناءات، أما القواعد الفقهية لها استثناءات . الشيخ -رحمه الله- ذكر لنا عشرا من هذه القواعد، وكل قاعدة تحتاج إلى بيان ، يعني إلى شرح وإلى دليل ، وإلى تفريعات ومسائل تُدخَل تحت هذه القواعد .
القاعدة الأولى
اليقين لا يزول بالشك
يقول: وأخذ الأصوليون من الكتاب والسنة أصولا كثيرة.
هكذا الشيخ -رحمه الله- سماها أصولا وإلا المشهور أنها قواعد ولا مشاح في الاصطلاح، يعني هي أصول فقهية أو قواعد فقهية فالأمر في هذا سهل.
بنوا عليها أحكاما كثيرة جدا ونفعوا وانتفعوا بها فمنها : اليقين لا يزول بالشك.
أولا: معنى اليقين : الإدراك الجازم الذي لا تردد فيه ، هذا اليقين.. الشك : هو مطلق التردد إذا تردد الإنسان في شيء يصدق عليه أنه شك ، ما معنى : اليقين لا يزول بالشك ؟ يعني أن الإنسان إذا تحقق من وجود الشىء ثم طرأ عليه شك : هل هو موجود أم لا ؟ فالأصل أنه موجود ، هذا معنى القاعدة : "اليقين لا يزول بالشك"
يعني: أن الإنسان إذا تحقق من وجود الشىء ثم حصل له شك في زواله يعني: عدم وجوده ، فهل ينظر إلى الشك ويقول: زال ، أم يبني على اليقين؟ يطبق هذه القاعدة : اليقين لا يزول بالشك ، يعني: اليقين ما يُزال إلا بيقين .مثلا.. طيب هذا معناها.
الدليل على هذه القاعدة من أين أخذت؟ عليها أدلة كثيرة لكن نكتفي بأبرز الأدلة وهو ما ورد في الصحيحين : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شُكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشىء في الصلاة "
لأنه خرج منه ريح مثلا : حصل في مصارينه قرقرة ، فظن أن وضوءه انتقض ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ألغى موضوع الشك وقال : " لا ينفتل -وفي لفظ لا ينصرف- حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا "
والصوت انتقاض يقيني للطهارة ، والريح انتقاض يقيني للطهارة ، لكن مجرد أن الإنسان يخيل إليه الشىء فهذا لا يبنى عليه شيء ، مجرد أنه يخيل إليه الشىء لا يبنى عليه الشىء هذا معنى القاعدة .(1/93)
يقول : ادخلوا فيها من العبادات والمعاملات والحقوق شيئا كثيرا ، فمن حصل له الشك في شيء منها رجع إلى الأصل المتيقن .
هذه القاعدة .. نقل القرافي في كتابه "الفروق" أنها قاعدة مجمع عليها "أن اليقين لا يزول بالشك" لكن قد يحصل الخلاف في تنزيل بعض الجزئيات على القاعدة ، وقالوا: الشيخ يذكر قواعد مفرعة عن القاعدة أيضا. وقالوا: الأصل الطهارة في كل شيء هذه قاعدة المياه والثياب والأرض والأواني ، الأصل فيها الطهارة حتى تتيقن زوال الطهارة بمنجس تأتي الأرض تصلي عليها ؛ لأن الأصل الطهارة تدخل لك بيت مثلا تقول : والله أنا ما أدري هذا الفراش طاهر أم لا . لا .. الأصل الطهارة .
تأتي للإناء تقول: والله أنا ما أقدر أتوضأ من الإناء ، يمكن يكون نجسا ، نقول لك : لا .. الأصل الطهارة .
إذن الأصل في الأواني والفرش والثياب والأراضي الطهارة حتى يرد ما ينقل عن الأصل ، والأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحرميه .
الأطعمة ، مثلا الأصل فيها الإباحة والحِل إلا إذا وجد دليل يدل على أن هذا الطعام محرم ، أو أن هذا الطعام نجس ، والأصل براءة الذمم من الواجبات ومن حقوق الخلق حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك.
الأصل براءة الذمة ، وليس الأصل شغل الذمة ؛ ولهذا الذي يدعى شغل الذمة لا بد أن يأتي بدليل ، لو يأتي إنسان يقول : أنا أطلب الرّجّال هذا ألف ريال ، إذن يدعي شغل الذمة .
يدعي شغل الذمة الآن ، هذا على خلاف الأصل ، طلبت منه البينة ؛ لأنه يدعي ما يخالف الأصل ، طيب اللي يقول : إنه يطلب ألف ريال ، لو قال: أبدا ما عندي له شيء ، عندك بينة؟ قال: لا ، أيش قال له الآن المُدعى عليه ؟ يقال: تحلف ، افرض حلف وقال : والله ما عندي له شيء ، خلاص برئت الذمة الآن .(1/94)
طيب . أيهما أقوى البينة أم اليمين؟ أنا ما طلعت عن الموضوع ، انتبهوا يعني في نفس الموضوع ، لكن ما جاء المقصود. أيهما أقوى ، البينة أقوى ولا اليمين ؟ . عجيب كيف؟! البينة أقوى ، الحلف بالله تعالى . صحيح البينة أقوى ، لماذا؟ لأن البينة كلام من ليس بخصم، البينة ما هي كلام المدعي ولا المدعى عليه، كلام آخر ، لماذا كانت اليمين أضعف ؟ لأنها كلام أحد الخصمين .
طيب . لماذا… ؟ إذن اتضح لنا الآن أن البينة أقوى ، لماذا طُلب من المدعي الحجة الأقوى ، واكتُفي من المدعى عليه بالحجة الأضعف .. نعم صحيح ؛ لأن المدعي يدعي شغل الذمة وهذا على خلاف الأصل .
إذن لا بد أن يجيب بدليل قوى ، والمدعى عليه عندما يقول : أنا ما عندي له دراهم ماشٍ على الأصل، فاكتفي منه بالحجة الأضعف ، إذن صار الأصل في هذا أن الأصل براءة الذمم حتى يقوم الدليل الشاغل للذمة.
طيب .. قاعدة بعدها مرتبة عليها : شُغلت الذمة الآن، قال : الأصل بقاء ما اشتغلت به الذمم من حقوق الله وحقوق عباده ....
أن الأصل براءة الذمم، حتى يقوم الدليل الشاغل للذمة. طيب. قاعدة بعدها مرتبة عليها، شغلت الذمة الآن .
قال : والأصل بقاء ما اشتغلت به الذمم، من حقوق الله، وحقوق عباده؛ حتى يتيقن البراءة والأداء . نعم ، الذمة إذا شغلت، لا يزول ذلك إلا بيقين ، نرجع للقاعدة، لابد من اليقين .
مثل إنسان مثلا حصل عنده شك أنه: صلى الظهر، ولا ما صلى ، حصل عنده شك الآن أنه صلى الظهر، ولا ما صلى، إذن الآن الذمة الآن مشغولة بصلاة الظهر، قبل الأداء ، هو تيقن الآن البراءة، ولا ما تيقن؟(1/95)
إذن لابد من اليقين . إنسان مثلا يطلب من شخص مثلا دراهم، وعنده إثبات على أنه عنده له دراهم، لكن ما عنده إثبات على أنه أعطاه الدراهم، أيش يصير هاالأصل؟ يصير هاالأصل أنه لا زالت الدراهم باقية في الذمة؛ لأنه إذا ثبت شغل الذمة، فالأصل بقاء شغل الذمم، حتى يثبت، يعني: يثبت الأداء، وتثبت البراءة ، هذه القاعدة .
طيب ، الفروع كثيرة، لكن هذه القاعدة يا إخوان من أنفع الوسائل في علاج الوساوس -أعاذنا الله منها- ، الوساوس في الطهارة، والصلاة، بُلي بها فئام من الناس.
والوسواس داء عضال، ومرض خطير، لكن هذه القاعدة بحول الله تعالى من أنفع الوسائل ، أن الإنسان دائما يبني على اليقين؛ لأن أصلا الموسوس وساوسه مبنية على شكوك وأوهام.
فينبغي له ألا يلتفت إلى هذه الشكوك، ولا إلى هذه الأوهام، بل يبنى على اليقين، ولا نستطيع أن نفصل أكثر من هذا .
القاعدة الثانية
المشقة تجلب التيسير
القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير.
دليلها ، قول الله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (1) قال: وبنوا على هذا جميع رخص السفر، والتخفيف في العبادات والمعاملات وغيرها ، نعم. هذه قاعدة عظيمة.
أولا : ما المراد بالمشقة ؟ المشقة المرادة هنا هي المشقة غير المعتادة، التي تخرج عن معتاد الناس، ولا يستطيعون تحملها على الدوام ، هذه هو المراد بقوله هنا المشقة.
أما المشقة المعتادة التي تعود المكلف على تحملها، فهذه لا تضر، ولا يرتب عليها حكم .
معروف، الصلاة فيها مشقة، والصيام فيه مشقة، ومناسك الحج فيها مشقة، لكن هذه مشقة معتادة، أما المشقات التي تطرأ على المكلف، ويصعب عليه على الدوام، نعتبره قيدا هذا، يصعب عليه على الدوام أن يتحملها، فهذه المشقة يناسبها التيسير .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 185.(1/96)
هذا معنى المشقة تجلب التيسير. هذه لها نظائر أو لها فروع كثيرة، منها المريض إذا لم يستطع أن يصلي قائما صلى وهو قاعد ، إذا استطاع أن يصلي وهو واقف ويركع، ولكن ما يستطيع أن يسجد، يصلي قائما، ويركع ويومئ بالسجود ، المشقة تجلب التيسير.
ومنها أن الشريعة الإسلامية أجازت نضح بول الغلام، الذي لم يأكل الطعام ، من باب المشقة ، يكثر يعني حمل الأطفال، فلو قيل مثلا بوجوب الغسل، لوقع الناس بالحرج ، إن إذن نضح بول الغلام، الذي لم يطعم الطعام ، من باب قاعدة..
طبعا فيه دليله، لكن ينطبق عليه قاعدة: المشقة تجلب التيسير ، خذ الذي ما عليه دليل : قيء الغلام الرضيع، ما أكثر ما يقيء الغلام على أمه، وعلى ثيابها ، لا يحكم بهذه الحال بنجاسته ؛ لأن المشقة تجلب التيسير .
هذا بالنسبة للعبادات المعاملات، مثلا كون العاقلة تحمل الدية في قتل الخطأ ، كون العاقلة تحمل الدية في باب قتل الخطأ ، هذا من أي باب ؟ هذا من باب: المشقة تجلب اليسير؛ لأن القاتل الذي قتل خطأ، ما تعمد القتل، وقع في مشقة عظيمة، فجلبت له الشريعة السمحة التيسير، فصارت الدية على العاقلة .
القاعدة الثالثة
لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة
القاعدة الثالثة: لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة.
هذه القاعدة دليلها قول الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (1) وقول الله تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (2)
وهذه القاعدة -كما تلاحظون- مكونة من جزئيتين :
الجزئية الأولى : لا واجب مع العجز، يعني أن جميع الواجبات تسقط عند العجز عنها.
القاعدة الثانية : ولا محرم مع الضرورة.
فالشارع لم يوجب علينا ما لا نقدر عليه بالكلية، وما أوجبه من الواجبات، فعجز عنه العبد، سقط عنه، وإذا قدر على بعضه، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما يعجز عنه.
__________
(1) - سورة التغابن آية : 16.
(2) - سورة البقرة آية : 286.(1/97)
وأمثلتها كثيرة جدا ، وكذلك ما احتاج الخلق إليه، لم يحرمه عليهم والخبائث التي حرمها إذا اضطر العبد فلا إثم عليه فالضرورات تبيح المحظورات .
قاعدة: لا واجب مع العجز، من أمثلتها : صحة صلاة الفذ خلف الصف، إذا لم يستطع الدخول في الصف ، له أن يقف صفا، وتكون صلاته صحيحة ، لماذا ؟ لأنه لا واجب مع العجز.
وإذا كانت شروط الصلاة، وأركان الصلاة تسقط عند العجز، فلأن تسقط المصافة من باب أولى في الحالة هذه ؛ ولهذا أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، عن الحسن البصري : أن المصافة تسقط إذا لم يستطع الدخول في الصف .
وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه على هذا الرأي مؤلف هذه الرسالة رحم الله الجميع .
أما قوله: وإذا قدر على بعضه، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما يعجز عنه، فمن الأمثلة : لو أن إنسانا يستطيع أن يقوم مع الإمام الركعتين الأوليين، ولكنه في الركعتين الأخيرتين ما يستطيع القيام فما الحكم ؟
نقول: ما قدرت عليه افعله، وما سقط عنه، فلا تفعله يسقط عنك . طيب، إنسان يستطيع أن يصلي في بيته، وهو قائم، ولكنه إذا ذهب إلى المسجد، لا يستطيع أن يصلي إلا وهو قاعد .
نقول له : تذهب إلى المسجد؛ لأن الأصل أنك مخاطب بصلاة الجماعة ؛ لأن هل صلاة الجماعة النصوص استثنت الذي لا يقدر أن يصلي واقفا أو ما استثنته ؟ ما استثنته .
إذن هذا مخاطب يحضر إلى المسجد، فإن قدر على القيام قام، وإن لم يقدر على القيام صلى وهو جالس.
إذن القاعدة: لا واجب مع العجز، يقول الشاطبي -رحمه الله- عن القاعدة : المشقة تجلب التيسير وطرف من هذه لقاعدة، يقول: إن الأدلة الدالة على رفع الحرج عن الأمة بلغت مبلغ القطع
طيب. من تفاريع القاعدة : الضرورات تبيح المحظورات الراتبة، والمحظورات العارضة ، والضرورة تقدر بقدرها .
هاتان قاعدتان إحداهما مبنية على الأخرى.(1/98)
الأولى : الضرورات تبيح المحظورات، ودليل هذه القاعدة، قول الله تعالى بعد ذكر الميتة: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ } (1) فإذا اضطر المكلف إلى محرم، من طعام، أو شراب، أو لباس، يتحول مباحا المحرم؟
يتحول إلى مباح ؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، المحظورات مثلما ذكر الشيخ نوعان : محظورات راتبة، يعني دائما محظورة، مثل الميتة والخمر والخنزير، هذه محرمة دائما .
والنوع الثاني: قال: المحظورات العارضة ، مثل محظورات الإحرام ، حلق الرأس محظور، راتب ولاّ عارض ؟ عارض وقت الإحرام ، إنسان مثلا حصل له جرح برأسه وهو محرم ، معلوم أن الجرح ما يمكن الطبيب أنه يخيطه، وعليه شعر.
إذن لابد من الحلق، فيكون الحلق جائزا من باب : الضرورات تبيح المحظورات ، هذه الجزئية الأولى.
الجزئية هذه: هل الضرورات تبيح المحظورات على الإطلاق ؟ خلاص صار المحظور الآن مباحا، وانتهي الإشكال ؟ لا ، الضرورة تقدر بقدرها ، ما معنى الضرورة تقدر بقدرها ؟
يعني أنه يباح من المحرم، بقدر ما يزيل الضرورة، ولا يجوز الاسترسال ، الدليل، قول الله تعالى في سياق المحرمات: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) } (2)
طيب . فمن اضطر غير باغ، يعني: غير طالب للمحرم، مع قدرته على الحلال .
الذي يطلب المحرم وهو قادر على الحلال هذا باغ ، لو إنسان مثلا غص بالطعام، وهو -والعياذ بالله - مثلا عنده خمر، ولاّ ما عنده ، فدفع الغصة بالخمر ، هذا ما يجوز . بم يوصف ؟ يوصف بأنه باغ ، لماذا ؟ لأنه تناول المحرم، مع القدرة على الحلال.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.
(2) - سورة البقرة آية : 173.(1/99)
{ وَلَا عَادٍ } (1) هذا الذي يعنينا، العادي: هو المتجاوز لحد الضرورة، المتجاوز الحد الضرورة ، فإذا مثلا جاع، وأكل من الميتة، هو لا يأكل من الميتة إلا بقدر ما يسد الرمق، ويحول بينه وبين الموت .
ما يقول خلاص ما دام أني بدأت بالأكل أبقى أشبع، نقول: لا ما يجوز هذا ، إن فعل هذا فهو عاد ، هذا معنى { غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } (2) ومعنى الضرورة تقدر بقدرها.
طيب . نزلها على بعض المسائل الفرعية ، مثلا إنسان جاز له أن يقتني كلب الصيد؛ لأن الشرع كما هو معلوم أباح كلب الصيد، لا يجوز له أن يقتني زيادة على الكلب .
مثال آخر، وهذا يحدث كثيرا، الطبيب عندما يكشف على العورة، أو على المرأة، ليس للمرأة أن تظهر أو للرجل أيضا، إلا بقدر ما يحتاجه الطبيب .
إذا إنسان مثلا أراد أن يعالجه الطبيب في مكان عورته، ما يخلع ثيابه نهائيا، خلاص العورة الآن تساوت. نقول: لا، ليس لك أن تبدي من عورتك إلا بقدر ما يحتاجه الطبيب .
وموضوع المرأة أشد ، امرأة تريد أن تراجع طبيب الأسنان، ليس لها أن تكشف وجهها ، أيش حاجة الطبيب بعيونها ؟ تضع الغطرة هكذا على عيونها، وأنفها، وتظهر الفم الذي يشتغل به الطبيب .
وهكذا لو كان العلاج برجلها، تظهر من الرجل بقدر ما يحتاجه الطبيب ، لماذا ؟ لأن الضرورة أصلا.. ما يجوز له أن ينظر للعورة، لكن وجدت ضرورة .
إذن الضرورات تبيح المحظورات، فإذا أبيحت المحظورات تجي القاعدة التقيدية ، يعني هنا قيد، وهي أن الضرورة تقدر بقدرها ، يقول الشيخ : فهذه الضرورات تبيح المحظورات تخفيفا للشر ، والضرورات تبيح المحرمات من المآكل، والمشارب، والملابس، وغيرها .
بقي نقطة ذكرتها، لعلي أقولها هي : أن الضرورة تعفي من الإثم، ولا تعفي من الضمان، فلو أن إنسانا اضطر أن يأكل طعام غيره ، يأكله ولاّ ما يأكله ؟
__________
(1) - سورة البقرة آية : 173.
(2) - سورة البقرة آية : 173.(1/100)
يأكله غصب، عليه يأكله، يأخذه منه غصب، ويأكله إذا أشرف على الهلاك، لكن الضمان، الضرورات تعفي من الضمان ؟ ما تعفي من الضمان .
لابد أن يضمن الطعام لصاحبه ، إنما يسلم من الإثم والتعدي ، كونه تعدى عليه، وأخذ منه الطعام، وأكله ليس عليه إثم في هذا، لكن يبقى عليه موضوع الضمان .
القاعدة الرابعة
الأمور بمقاصدها
القاعدة الرابعة: الأمور بمقاصدها.
معنى الأمور بمقاصدها، يعني: أن الحكم الذي يترتب على فعل المكلف ينظر فيه إلى نيته، ثوابا، وعقابا، ملكا، تحريما، غصبا.
جميع الأحكام الشرعية تنزل على أفعال المكلفين، على وفق مقاصدهم ونياتهم ، "الأمور بمقاصدها" ، وهذه -يا إخوان- القاعدة من أعظم القواعد.
لأيش؟ لأنا مع أنها قاعدة مختصرة، إلا أنه يدخل فيها من الفروع الشيء الكثير؛ لأن كلمة الأمور ( أل ) في الأمور تسمى ( أل ) الاستغراقية، و(أل) الاستغراقية إذ أدخلت على اللفظ تفيد أيش؟ العموم والاستغراق .
إذن جميع الأمور بمقاصدها ، الدليل ، أدلة كثيرة ، من أبرزها حديث " إنما الأعمال بالنيات " ومن الأدلة قول الله تعالى في الرجعة: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } (1)
فالله -جل وعلا- جعل الرجعة للزوج، ولكنه مقيد بأن يكون نيته من الرجعة الإصلاح ، ما هي طلقة، ورجعة؛ لأجل أن يعذبها، ويطلقها.
لا هذا لا يجوز ، لابد أن يراجعها، وهو يقصد برجعتها إعادة الأمور، أو إعادة المياه إلى مجاريها . هذه من أدلة الأمور بمقاصدها .
يقول الشيخ: فيدخل في ذلك العبادات، والمعاملات . طيب ، أمثلة من العبادات : إنسان اغتسل للتبرد - هذا مر إني ذكرته لكم - ، ولكنه استحضر نية التقوي على العبادة من صلاة، أو تلاوة، أو نحو ذلك .
أيثاب على هذا الغُسل ؟ يثاب ، لماذا ؟ لأن الأمور بمقاصدها .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 228.(1/101)
إنسان أخذ آلة لهو، وطلع بها، أو جاء لشخص معه آلة لهو، وأخذها ومشي، إن كان أخذها لإتلافها، وإشهارها، هذا له حكم، وإن كان أخذها لتملكها، هذا له حكم آخر ، إذن الأمور بمقاصدها .
إنسان وجد لقطة في الشارع، أخذها ، جميع الناس اللي ناظرينه، ما يدرون لأيش أخذها ؟ يشوفون أنه أخذها، لكن قصده أمر باطني، لا يدرى عنه، فإن كان أخذها؛ لتملكها، فهو غاصب، وعليه الضمان لو تلفت، وإن كان أخذها لحفظها، وتعريفها، فهو مؤتمن، وليس عليه ضمان.
إذن أفعال المكلفين ، الصورة التي قدامنا واحدة ؟ واحدة، لكن تختلف باختلاف المقاصد . طيب. يقول: وتحريم الحيل المحرمة مأخوذة من هذا الأصل، لأيش ؟
تدخل الحيل هنا، لكن قال لك: لأن الحيلة أصلها ظاهرة لا غبار عليها ، عارفون الحيلة اللي هي من أصلها مفضوحة دي++ تسمى حيلة، الحيلة إذا كانت من الأصل مكشوفة ما تسمى حيلة، إنما الحيلة ظاهرها جيد ومستقيم، ولكن الخلل في باطنها .
مثاله : امرأة طلقها زوجها طلاقا بائنا، آخر تطليقة، فخطبها إنسان، وحضر العقد، وعقدنا له . فيه اعتراض الآن ؟ ما فيه شيء الآن، لكن هذا الرجل مبيت بنفسه أنه يحللها ، صاحب الزوجة الأول، صاحبُ معروفٍ عليه ، وأراد أنه يتزوجها، يحللها للزوج الأول .
إذن يوصف بأنه محلل، مع أن العاقد، وولي المرأة، والمرأة، ما علم أحد منهم بهذه النية ، إذن صارت الأمور بمقاصدها ، أيش يسمى النكاح ده ؟ يسمى نكاح تحليل، وهذا يكون ملعونا؛ لأنه قصد بهذا العقد، قصد به التحليل .
طيب ، إنسان مثلا باع النصاب الزكوي، كان بقي على طلوع الزكاة أسبوع ، باع اللي عنده ، الصورة واحدة الآن، لكن أيش قصده بالبيع؟
إن كان قصده الهروب من الزكاة، هذا أمر، وإن كان ما قصد، ولكنه يتعاطى التجارة، وهو ممن يعلم الله أنه كل سنة أحرص ما يكون على أداء الزكاة .(1/102)
ولكن بضاعة أو شيء مثلا رزق به ، وباعه يعني مثلا تخلص منه بأي طريق من طرق التخلص، ليس عليه زكاة في الحالة هذه .
إنسان مثلا أقر قال أشهد أن الرجل هذا عندي له مائة ألف،مائة ألف؟! وكل القروش اللي وراهم مائة ألف ، الصورة واحدة الآن، ربما أنه صادق فعلا ، ومطلوب مائة ألف.
وعلى هذا، الورثة يخلف الله عليهم، ما عندنا مال ، يرزقنا الله ، أو أنه قاصد بالإقرار حرمان الورثة من الميراث ، قد يحصل هذا، فهذه أمور الصورة واحدة اللي عندنا، ولكن الحكم الشرعى يترتب على إيه ؟ على المقصد ، النقطة الأخيرة قال : وانصراف ألفاظ الكنايات، والمحتملات إلى الصرائح من هذا الأصل، وصورها كثيرة جدا .
نعم. هذا أصل نافع في باب الألفاظ المحتملة ، والألفاظ المحتملة يا إخوان، هي اللي تسمى عند العلماء الكنايات، وأوضح شيء الطلاق .
اعلم أن الألفاظ نوعان :
ألفاظ صريحة لا تحتاج إلى نية ، ما تحتاج إلى نية ، إذا قال: بعت عليك الكتاب، بِيع ، إذا قال: وهبتك الكتاب هبة ، أوصيت لك بكذا وصية ، قال لزوجته مثلا هي طالق ، طلاق .
النوع الثاني: كنايات ، هذه الكنايات منزلة على حسب النية؛ ولهذا يقول العلماء : إن الكنايات لا يمكن أن تنفك عن النية ، إنسان مثلا قال لزوجته : اذهبي لأهلك يا لاّ روحي لهذا++، هذا اللفظ على حسب نيته، إن كان قصده الطلاق وقع الطلاق؛ لأن ها اللفظ مع النية، يصلح لإيقاع الطلاق، وإذا كان ما قصد الطلاق، ما يقع عليه طلاق؛ لأن الأمور بمقاصدها .
وهذا يستعمله كثير من الناس : يقول: يالاّ امشي، روحي؛ لأهلك، ما على باله شيء اسمه طلاق ، لو كان طلاق على طول، ما فيه مواراة عند الرجال كلها، الحريم عندها للراحة ..خلاص ؛ لأنه يكثر اللفظ هذا وما ماثله .(1/103)
إذن الأمور بمقاصدها، والظاهر أن الوقت انتهى، وما أخذنا إلا أربع قواعد ، البقية تحتاج إلى وقت وأنا ما بيني وبينكم إلا غدا الخميس على العصر؟ ما أدري العصر؛ لأن العصر قريب من الليل، ما أدري الجمعة ، يعني الضحى غدا أنتم ما تستطيعون ،العصر.
القاعدة الخامسة
يختار أعلى المصلحتين ويرتكب أخف المفسدتين عند التزاحم
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
لا زال الكلام موصولا ، فيما يتعلق بالقواعد الفقهية العشر، التي ذكرها المصنف -رحمه الله-، وقد مضى الكلام على أربع قواعد، وهي قوله :
اليقين لا يزول بالشك ، والمشقة تجلب التيسير ، لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة ، وقاعدة: الأمور بمقاصدها .
القاعدة الخامسة :قال: ومنها يختار أعلى المصلحتين، ويرتكب أخف المفسدتين عند التزاحم.
قوله: "عند التزاحم" هذا قيد للمسألتين معا، يعني إذا تزاحم مصلحتان قدم أعلاهما .
وإذا تزاحم مفسدتان قدم أو ارتكب أخفهما، وهاتان القاعدتان لهما أمثلة.
أما القاعدة الأولى وهي أنه يرتكب أعلى المصلحتين، فمن أمثلة.. بل ودليله، ما ثبت في الحديث الصحيح، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة -رضي الله عنها-: " لولا أن قومك حديثو عهد بكفر، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين "
إذن هنا مصلحتان : المصلحة الأولى بناء الكعبة، والمصلحة الثانية تأليف قلوب المشركين، أو تأليف قلوب الناس عموما.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - رجح تأليف القلوب، هذه مصلحة، على مصلحة بناء الكعبة ، ومن الأمثلة أنه لو اجتمع نفقة واجبة، ونفقة مستحبة، والنفقة المستحبة: يعني صدقة مثلا ، صدقة تطوع ، قدمت النفقة الواجبة؛ لأنها أعلى من النفقة المستحبة .(1/104)
الشق الثاني من القاعدة: يرتكب أخف المفسدتين عند التزاحم . لو أن إنسانا اضطر إلى طعام، فوجد ميتة وصيدا محرما، فإنه في هذه الحال، كلاهما مفسدة، ولكن مفسدة الصيد المحرم، أخف من مفسدة الميتة .
للمقارنة بينهما ، مثال آخر : لو اضطر إنسان إلى وطء إحدى زوجتيه ، إنسان لا مناص من أن يطأ، ويجامع، وعنده زوجتان، واحدة حائض، والثانية صائمة ، فإنه يطأ الصائمة؛ لأن وطء الصائمة، أخف من وطء الحائض؛ لأن الفطر يجوز لحق الغير، مثل فطر الحامل، نعم، والمرضع.
مثال أيضا لو أن رجلا لم يجد من السترة إلا ما يستر بعض العورة، فدار الأمر بين أن يرتكب مفسدة من مفسدتين: إما أن يصلي جالسا، ويستر باقي عورته بالجلوس، وإما أن يصلي قائما، وتظهر بقية العورة .
فصلاته وهو جالس، مع القدرة مفسدة، وصلاته وهو قائم بظهور بقية عورته، مفسدة. لكن نص الفقهاء، وهذا المثال ذكره فقهاء الشافعية ، على أنه يصلي قاعدا؛ لأن مفسدة ترك القيام، أهون من مفسدة ظهور العورة، وفيه أمثلة أخرى، لكن نكتفي بهذا .
قال: وعلى هذا الأصل الكبير ينبني مسائل كثيرة، يعني فروع، وعند التكافؤ، فدرء المفاسد، أولى من جلب المصالح .
يقصد الشيخ -رحمه الله- بالتكافؤ: تقابل مصلحة ومفسدة، وعلى هذا تكون الصور ثلاثا : تقابل مصلحتين ، تقابل مفسدتين ، تقابل مصلحة ومفسدة. ما الحكم إذا تقابل مصلحة ومفسدة ؟
يقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. يعني يقدم درء المفسدة، ويفضل على جلب المصلحة ، دليله قول الله تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1)
فلا ريب أن سب المشركين وآلهة المشركين مصلحة، لكن سيترتب على هذه المصلحة مفسدة، وهي أن المشركين سيقعون -والعياذ بالله - في سب الله تعالى، فماذا يستفاد من الآية ؟ أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 108.(1/105)
يعني يقال: وإن كان سب المشركين فيه مصلحة، وسب آلهتهم فيه مصلحة، إلا أن هذه المصلحة تترك لما يترتب عليها من المفسدة، وهي سب الله تعالى؛ ولهذا قال الله تعالى { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) وهذه الآية هي من أوضح الأدلة على قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
ومن الأمثلة الفرعية: أن الجار يمنع من التصرف في ملكه، يعني: في بيته، إذا أدى تصرفه إلى الإضرار بجاره، مثل لو إنسان يتعاطى بيع الأغنام، بيع الماشية، فوضع في بيته، وبجانب جدار جاره حظيرة أغنام، فهذه الحظيرة سببت الإزعاج لجاره، من جهة أصوات المواشي، ومن جهة روائحها، فإنه يمنع الجار .
يمنع الجار، ولا يقال: كيف تمنعونني ؟ وأنا أتصرف في ملكي، نقول: لأن فعلك هذا فيه مصلحة لك، ولكن فيه مفسدة لغيرك، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
مثال آخر أيضا: منع التجارة بالخمر والمخدرات وغيرها من المحرمات؛ لأن هذه التجارة فيها مصالح وأرباح لهؤلاء التجار، ولكن بالمقابل فيها مفاسد، فيمنع من بيعها، من باب درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، نكتفي بهذه الفروع.
القاعدة السادسة
لا تتم الأحكام إلا بوجود شروطها وانتفاء موانعها
القاعدة السادسة : ومن ذلك قولهم: لا تتم الأحكام إلا بوجود شروطها وانتفاء موانعها.
وهذا أصل كبير بني عليه من مسائل الأحكام وغيرها شيء كثير، فمتى فقد شرط العبادة أو المعاملة، أو ثبوت الحقوق، لم تصح ولم تثبت، وكذلك إذا وجد مانعها، لم تصح ولم تنفذ.
هذه القاعدة قاعدة واضحة، أنه لا تتم الأحكام إلا بوجود شرائطها، وانتفاء موانعها .
فالصلاة مثلا لا تصح إلا باجتماع الشروط، كالطهارة واستقبال القبلة، وستر العورة ، وغير ذلك، ولابد أن تنتفي الموانع، كما سنمثل.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 108.(1/106)
وهكذا بالنسبة للمعاملات، البيع لا يصح إلا إذا اجتمعت شروطه، كأن يكون مباحا مملوكا، ولابد أن تنتفي الموانع، كما سنبين.
الحقوق لا تثبت إلا بثبوت شروطها، وأهم شروط الحقوق أو إثبات الحقوق هو إحضار البينة، فلو إنسان صلى بدون طهارة، ما صحت صلاته؛ لأنه لم ينتفِ الشرط، هذا الشرط، ولو أن إنسانا صلى نفلا مطلقا في وقت نهي، لم تصح صلاته، مع أن الشروط كلها موجودة، لكن ما الذي أخل بالعبادة ؟ وجود المانع.
وهذا يسميه العلماء: مانع الحكم ، يعني: مانع ثبوت الحكم ، البيع، لو أن إنسانا باع يوم الجمعة بعد النداء الثاني، فإن البيع لا يصح على أحد القولين، مع أن شروط البيع موجودة عنده، لكن وجد مانع من الموانع .
وبالمناسبة، أنا لما ذكرت هذا المثال، وقلت على القولين، أحب أن أنبه إلى أن الأمثلة التي يمثل بها في الأصول، لا يلزم أن تكون أمثلة مجمعا عليها، لا. يمكن تصير المسألة فيها خلاف؛ ولهذا يقول العلماء: إن الأمثلة تذكر لتوضيح القاعدة، بغض النظر عما في المسألة من خلاف، كما قال ذلك الشنقيطي -رحمه الله- .
فإذا مثلنا بأمثلة في دروسنا، فلا ينفي هذا أن الأمثلة ما فيها خلاف .
أيضا، مسألة أخرى.. بالمناسبة قال لي بعض الإخوان، هم يظنون أن المتكلم إذا تكلم على مسألة فقهية وأوردها، أن هذا هو القول الراجح فيها، وهذا لا يعني.. إنما يعني أننا نمثل للمسائل الأصولية بأمثلة، فما كان واضحا، فهو القول الراجح، وما تجاذبته الأدلة، يحتاج إلى مرجحات أخرى، وشروط العبادات والمعاملات، كل ما تتوقف صحتها عليها، ويعرف ذلك بالتتبع والاستقراء.
وبأصل التتبع حصر الفقهاء فرائض العبادات وشروطها وواجباتها، وكذلك شروط المعاملات وموانعها، والحصر إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما عداه.(1/107)
فيستفاد . انتبه لكلمة فيستفاد؛ لأنها تفسير لقوله "والحصر"، انتبهوا، على أساس يتضح لكم..، يعني الآن المؤلف عرف الحصر بأنه: إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما عداه، فيستفاد من حصر الفقهاء شروط الأشياء وأمورها، أن ما عداها لا يثبت له الحكم المذكور .
ماذا يقصد الشيخ بهذه الجملة ؟
يقصد أن قضية الشروط والواجبات والموانع ما نص عليها الشرع، ما فيه دليل في الشريعة ذكر شروط الصلاة، ولا فيه دليل ذكر واجبات الصلاة، ولا فيه دليل ذكر شروط البيع.
إذن ما نراه في كتب الفقه، من شروط للصلاة، أوأركانها، أو واجباتها، أو البيع، أو غير ذلك، من أين جاء؟
هذا من عمل الفقهاء - رحمهم الله -، من أين حصلوا عليه ؟ كما قال الشيخ: بواسطة التتبع والاستقراء، جمعوا الأدلة، وأخذوا منها الشروط.
مثلا يعني نظروا إلى قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: " لا صلاة إلا بطهور " قالوا: الشرط الأول من شروط الصلاة الطهارة، ولا يقول قائل إن هذا شيء محدث، لم يكن موجودا على وقت التشريع، أو على وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يعبأ به.
نقول: لا، هذا فيه مصالح عظيمة، تحديد الشروط والأركان والواجبات، هذا فيه مصلحة ضبط المعلومات، وتقريبها للأفهام؛ ولهذا تجد الآن إذا ذكرت شروط الصلاة سهل استيعابها، لكن لو كان الإنسان سيقرأ الأدلة، ويأخذ منها شروط الصلاة، سيأخذ منه هذا كلفة ووقتا.
يأخذ منه هذا جهدا ووقتا، لكن جمع الشروط والأركان إلى آخره... هذا فيه مصالح عظيمة، وهو ما قام به الفقهاء -رحمهم الله -.
وكأن الشيخ بهذا، يعني يبدو لي أن الشيخ يقصد يقول يعني: أنا إذا قلت لكم إن العبادة أو المعاملة لا تتم إلا باجتماع شروطها، وانتفاء موانعها، فليس عليكم صعوبة في المسألة؛ لأن الشروط، والواجبات، والأركان، والموانع، كلها محددة ومحصورة ومدونة .
القاعدة السابعة
الحكم يدور مع علته ثبوتا وعدما(1/108)
القاعدة السابعة : ومن ذلك قولهم: الحكم يدور مع علته ثبوتا وعدما.
العلة هي التي يذكرها الأصوليون في باب القياس، العلة: هي الوصف الظاهر المنضبط الذي بني عليه الحكم الشرعي.
هذا معنى العلة في باب القياس : هي الوصف الظاهر المنضبط الذي بني عليه الحكم. طيب، هل العلة هي الحكمة؟ لا ، العلة غير الحكمة ، الحكمة هي المصلحة التي قصد الشارع تحقيقها من شرعية الحكم، يعني الشارع عندما شرع الأحكام قصد تحقيق مصالح كل واحدة من هذه المصالح، يطلق عليها الحكمة.
إذن صار هناك فرق بين الحكمة والعلة . ما الفرق ؟ ما الفرق بين الحكمة والعلة ؟ يعني الوصف الذي بني عليه الحكم، هذه حكمة، أقول: هذه حكمة.
طيب، عندنا الآن السفر، وتخفيف المشقة، وين الحكمة، ووين العلة ؟ السفر شيء وتخفيف المشقة أو رفع المشقة شيء، أيهما الحكمة، وأيهما العلة ؟.
السفر علة، وحكمة. طيب، نرجع لعبارة الشيخ: الحكم يدور مع علته ثبوتا وعدما فالعلل التامة ، العلل التامة، ما هي العلل التامة ؟.
التفسير بعدها. التي يعلم أن الشارع رتب عليها الأحكام .
هذه تسمى علة تامة، أيّ وصف يغلب على ظننا أن الشرع يرتب عليه حكما يسمى علة تامة.
مثلا الإسكار ، حُرم الخمر من أجل الإسكار، هذه علة، المحافظة على العقول إيش ؟ حكمة. طيب إذن الإسكار علة تامة ؟ نعم؛ لأنه يغلب على الظن أن الشرع ما حرم الخمر إلا لكونه مسكرا.
بل وقد لا نقول يغلب على الظن؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام " ومثل ما مر علينا الليلة التي مضت تعليل طهارة الهرة بكثرة تطوافها، هذه علة تامة، لكن فيه علل يغلب على الظن أن الشارع ما يرتب عليها أحكاما، مثل السواد، والبياض، والطول، والقصر، ما عرف أن الشرع يرتب عليها أحكاما.
ولهذا لا يصح أنه يقول: تقطع يد السارق؛ لأنه طويل القامة مثلا، ما يصلح؛ لأنه عرف أن الشرع باستقراء العلل، أن الشرع ما يلتفت لهذه الأوصاف .(1/109)
وعلى هذا كزيادة فائدة الوصف اللي ما يرتب الشارع عليه حكما، يسميه الأصوليون: الوصف الطردي .
الوصف الطردي، كالسواد والبياض، الوصف الطردي: هو الوصف الذي لا يعلم أن الشرع رتب عليه حكما، هذا يسمى وصفا طرديا .
أعيد ماذا ؟ الوصف الطردي؟ بالطاء، والراء، والدال، والياء، هو الوصف الذي لا يعرف أن الشرع رتب عليه حكما، أما الوصف الذي يرتب الشرع عليه الحكم يسمونه: الوصف المناسب .
طيب يقول: فالعلل التامة التي يعلم أن الشارع رتب عليها الأحكام، متى وجدت وجد الحكم، ومتى فقدت لم يثبت الحكم .
هذا معنى القاعدة: الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما. ما علة إيجاب الإحكام الشرعية؟ العلة هي التكليف، إذا وجد التكليف، وجبت الأحكام، تخلف التكليف؛ لصغر أو جنون، تخلف الحكم، إذا تخلفت العلة اللي هي التكليف، يتخلف الحكم.
مثلا الصغر، علة للولاية على المال بنص القرآن، هذه علة منصوصة { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } (1) … إلى آخر الآية، وفيها الولاية على أموالهم، والعلة هي الصغر، ما دام أنه صغير تثبت الولاية على المال، إذا بلغ وأرشد تزول الولاية.
إذن صارت الولاية تدور مع الصغر وجودا وعدما. لكن كلام الشيخ -رحمه الله- ليس على إطلاقه، قاعدة الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، هذه القاعدة يستثنى منها صورتان : الصورة الأولى: إذا وجد للحكم أكثر من علة، فإن الحكم يثبت لبعض العلل، ولو تخلفت بعض العلل.
مثاله نقض الوضوء، له عدة علل، البول ، خروج الريح ، أكل لحم الإبل ، النوم، فهل معنى هذا إذا ما وجد نوم تبقى الطهارة ؟ لا تنتقض الطهارة بناقض آخر؟ فلعل المصنف -رحمه الله- بقاعدته عبر حسب الأغلب؛ لأن معظم العلل اللي في الشريعة الإسلامية اللي في أحكام الشريعة تدور مع الحكم وجودا أو عدما.
لكن إذا وجد أحكام لأكثر من علة، فقد تنتفي علة ويثبت الحكم بعلة أخرى، هذا المستثنى الأول .
__________
(1) - سورة النساء آية : 6.(1/110)
المستثنى الثاني : الحكم الذي بقي، وقد زالت علته، وهو الرمَل في الطواف، معلوم أن الرمل أول ما شرع -كما ثبت في السنة- شرع لإغاظة الكفار الذين طعنوا في الصحابة، وقال بعضهم لبعض : إنه يقدم عليكم قوم، قد وهنتهم حمى يثرب.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الصحابة بالرمل، اللي هو مقاربة الخطى في المشي، من دون وثب إلا ما بين الركنين، يمشون؛ لأن المشركين ما يشوفونهم، لو لفوا من وراء الركن من هناك، وإذا طلعوا بدءوا يرملون، فقال المشركون بعضهم لبعض: إن هم إلا كالغزلان .
يعني تصورهم أصبح فاسدا هذا الرمل زالت علته ، زالت علته؛ لأنه كان مرهونا بشيء وقتي وانتهى، لكن مع هذا مع أن الرمل كان في عمرة القضاء، إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجة الوداع، في حجة الوداع، مع أنه في حجة الوداع ما في مكة مشرك.
فتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة، ومع هذا رمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
إذن هذا يقال إنه ثبت الحكم مع انتفاء العلة، إذن صارت علة الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، لها بعض المستثنيات، أقول: لها بعض المستثنيات.
القاعدة الثامنة
الأصل في العبادات الحظر إلا ما ورد عن الشارع تشريعه
والأصل في العادات الإباحة إلا ما ورد عن الشارع تحريمه
القاعدة الثامنة: من ذلك قولهم: الأصل في العبادات الحظر، إلا ما ورد عن الشارع تشريعه، والأصل في العادات الإباحة، إلا ما ورد عن الشارع تحريمه.
طيب، هاتان قاعدتان في قاعدة واحدة، الأصل في العبادات الحظر، إلا ما ورد عن الشارع تشريعه، يعني العبادة بابها مغلق، فلا عبادة إلا ما شرعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله -جل وعلا- قال: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (1)
__________
(1) - سورة الشورى آية : 21.(1/111)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولا ريب أن العبادة اللي ما عليها شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبادة مردودة على صاحبها، هذه الجزئية الأولى .
الجزئية الثانية، قال: الأصل في العادات الإباحة، إلا ما ورد عن الشارع تحريمه. المراد بالعادات: جمع عادة وهي ما استقر في النفوس السليمة والفطر، أو والطبائع المستقيمة من المعاملات، سواء كانت معاملة الإنسان مع نفسه، أو كانت معاملة الإنسان مع غيره.
فالأصل في العادات اللي تستقر في النفوس السليمة، والطبائع المستقيمة، أما الطبائع المنحرفة فلا عبرة بها، فما عليه الناس من عادات في أكلهم، وشربهم، ونومهم، ومجالسهم، واستقبالهم لضيوفهم، ومراكبهم، وما إلى ذلك، كل ما استقر عليه الناس من عادة، فالأصل في هذه العادات الإباحة.
وإذا قلنا الأصل الإباحة، ما يجي واحد يطالبنا بالدليل، ما يطالبنا بالدليل، إذا كانت عادة الناس مثلا في بلد ما أنهم يستقبلون الضيف على طريقة، ويقدمون له الطعام بطريقة ، وبلد آخر يستقبلونه بطريقة مثلا، ويقدمون له الطعام بطريقة ما، يقال: لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، أين الدليل على ما تعملون؟ لأيش؟
لأن الأصل في العادات الإباحة، طيب أيش الدليل ؟
الدليل ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موضوع تأبير النخل، لما قال لهم التلقيح هذا ما يلزم، أنه يوضع للنخلة الأنثى شيء من طلع الذكر، فبحكمة الله تعالى لا بد يوضع فيه شيّص النخل، صار كله شيصا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - " أنتم أعلم بأمور دنياكم "
إذن هذه القاعدة، تدل على أن ما عليه الناس في أمور دنياهم، أن الأصل فيه الإباحة ، نعم، كيف ؟(1/112)
ما يحتاج دليل؛ لأن الأصل الإباحة، لكن تأييد أيضا، لأن الشيء قد يكون أصله الإباحة، ويجي في الشرع إباحته أيضا، أو الدلالة على إباحته أيضا، فهذا المقصود .
يقول المؤلف : إلا ماورد عن الشارع تحريمه ، كشرب الدخان مثلا، أو اختلاط النسا بالرجال، وكل ما يتعوده الناس، ويعتادونه مما يخالف نصوص الشريعة، لا يحكم عليه بالإباحة.
فلو اعتاد مجتمع من المجتمعات أنه إذا حصل مناسبة يعني عزيمة، دعوة يختلط الرجال بالنساء، نقول: الأصل الإباحة ؟ لا ؛ لأنه ورد عن الشرع تحريم اختلاط النسا بالرجال.
لو مثلا وجد في مجتمع عادة أن الرجال يتشبهون بالنساء، يتشبهون بالنساء ، يحلقون لحاهم، يسبلون الثياب، هنا الرجال صاروا هم الذين يسبلون الثياب، والمرأة هي التي ترفع ثوبها، العكس، تشبهوا، فهذا لا عبرة به؛ لأنه معارض للشرع .
الشيخ هنا ذكر تعليلين انتبهوا لهما: التعليل الأول يروح للجزئية الأولى، والتعليل الثاني يروح للجزئية الثانية، وهذا يسمى عند البلاغيين: لف ونشر مرتب، لف ونشر مرتب، أن الأول للأول ، والثاني للثاني، لو قلت مثلا: جاءني زيد وعمرو، فأعطيتهما كتابا وقلما، الكتاب لمن ؟ لزيد، والقلم لعمرو، هذا معنى اللف والنشر المرتب.
أيش تعليل أن الأصل في العبادات الحظر؟
قال: لأن العبادة ما أمر به الشارع أمر إيجاب، أو استحباب، فما خرج عن ذلك، فليس بعبادة .
طيب، شوف الآن التعليل الثاني، أين يروح؟ ولأن الله خلق لنا جميع ما على الأرض؛ لننتفع به بجميع أنواع الانتفاعات، إلا ما حرمه الشارع علينا فهمتم هذا .
إذن التعليل الأول للأول، و التعليل الثاني للثاني، طيب .
قوله: فما خرج عن ذلك فليس بعبادة ، يعني بل هو بدعة، والبدعة في العبادة نوعان : النوع الأول : أن يتعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله.
كأن يصلي صلوات غير مشروعة أصلا ، أو يتعبد بعبادة جزئية، مثل بعض الناس يسجد سجدة منفردة بعد الصلاة، هذه لم يشرعها الله ولا رسوله .(1/113)
النوع الثاني : أن يغير في صفة العبادة عما كانت عليه، يعني يأتي من عنده بصفة ليس لها أصل في الشرع، ومن أمثلة ذلك الأذكار الجماعية، أو التكبير الجماعي، أو التلحين في الأذان، أو غير ذلك، مما هو الأصل أنه عبادة، ولكنه بتصرفه هذا أخرج أو أدخل على العبادة صفة ليست منها .
ولهذا نص العلماء الذين يؤلفون في كتب البدع أن التلحين في الأذان أنه بدعة؛ لأن المؤذن أدخل في صفة الأذان ما ليس منها .
القاعدة التاسعة
إذا وجدت أسباب العبادات والحقوق ثبتت ووجبت
إلا إذا قارنها المانع
القاعدة التاسعة : إذا وجدت أسباب العبادات والحقوق ثبتت، ووجبت إلا إذا قارنها المانع.
المانع هنا غير المانع اللي تقدم ، المانع الذي تقدم يسمى مانع الحكم، وهذا يسمى مانع السبب.
طيب. أذان الظهر زوال الشمس سبب لدخول وقت الظهر.
طيب، زالت الشمس على امرأة حائض، إذن وجد السبب الآن، لكن وجد مانع يحول دون تحقق حكم السبب.
ما هو حكم السبب؟ الصلاة، وجوب الصلاة، بما أنها حائض وقت الزوال، فليس عليها صلاة، السبب موجود، موجود السبب، لكن وجد ما يمنع من تحقق حكم هذا السبب، وهو وجوب الصلاة؛ ولهذا إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الظهر.
وجبت عليها صلاة الظهر إذا طهرت، لماذا ؟ لأن المانع ما وجد قبل السبب، وجد بعد السبب، إذن متى يؤثر المانع؟ إذا حال بين وقوع حكم السبب، إذا حال بين وقوع حكم السبب، تخلف الآن السبب، ويصير السبب وجوده وعدمه سواء. طيب.
ملك النصاب بالنسبة للزكاة سبب لوجوب الزكاة، من ملك نصابا زكويا وجبت عليه الزكاة، لكن إذا كان على الإنسان دين، فإن السبب لا يؤدي حكمته، ما هي الحكمة من إيجاب الزكاة؟ سد حاجة الفقير، يعني من الحكم، وإلا فيه حكمة للغني، وفيه حكمة للفقير.
لكن من الحكم سد حاجة الفقير، فإذا كان صاحب النصاب الزكوي مدينا، أيهما أولى بالمواساة؟ هل المدين ولا الفقير؟
المدين أولى، وهذا على القول بأن الدين مانع من وجوب الزكاة.(1/114)
فبهذا نقول: إن الأسباب لا تترتب عليها أحكامها، إذا وجد ما يمنع من تحقق حكمة السبب.
خذ مثلا القرابة سبب من أسباب الإرث، من أسباب الإرث، فإذا قتل الأخ أخاه منع من الميراث، لماذا؟ لأن القرابة تعني المناصرة، والمعاونة، والمعاضدة، والمحبة، فناسبها التوارث، لكن القتل يعني البغضاء والعداوة، فناسب أنه ما يرث.
إذن نفعه ها السبب ولا ما نفعه؟ ما نفعه ها السبب، قرابته ما نفعته؛ لأنه وجد مانع. هذا معنى قوله: إذا وجدت أسباب العبادات والحقوق، يعني كالإرث سببه القرابة، ثبتت ووجبت، إلا إذا قارنها المانع.
القاعدة العاشرة
الواجبات تلزم المكلفين
القاعدة العاشرة : الواجبات تلزم المكلفين، والتكليف يكون بالبلوغ، والعقل، والإتلافات تجب على المكلفين وغيرهم.
هذه القاعدة واضحة دل عليها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ "
فالواجبات إنما تجب على المكلفين، والتكليف ضابطه أمران: الأول البلوغ، والثاني العقل، والبلوغ يحصل بالاحتلام بالإجماع، كما نقله ابن بطال، وغيره، أن من احتلم من الرجال أو النساء فقد بلغ، وتزيد المرأة على الرجل بالحيض.
أما البلوغ، ببلوغ خمس عشرة سنة، فهذا..، أو بالإنبات، فهذان موضع خلاف بين أهل العلم ، من أهل العلم من يقول: لا بلوغ إلا بالاحتلام للرجل، أو الاحتلام أو الحيض بالنسبة للمرأة، وما عدا هذا، فليس فيه دليل يدل على أنه علامة على البلوغ، وهذا القول فيه وجاهة.
ويرى آخرون من أهل العلم أن البلوغ قد يكون بالسن، والخلاف بالسن طويل، يبدأ من خمس عشرة إلى تسع عشرة، وبعضهم يقول: البلوغ يكون بالإنبات، يعني بإنبات الشعر الخشن حول العانة، وعلى أي حال التفاصيل هذه لا تعنينا معشر الأصوليين، إنما الذي يعنينا أن التكليف لا بد فيه من البلوغ.(1/115)
غير البالغ الصغير ، الصغير إما أن يكون مميزا أو غير مميز، أما غير المميز فلا تكليف عليه بالإجماع، وأما المميز يعني مكلف، لكن ما هو مكلف تكليف إيجاب، إنما يأمر بالصلاة؛ ليعتادها وينشأ على حبها، ويبعد عن المعصية؛ ليكف عنها، وينشأ على بغضها.
ولهذا تجد بعض الأولياء -هداهم الله- الذين يقصرون في شأن أولادهم، الذين بلغوا سن التمييز، فلا يأمرونهم بالصلاة، أنهم ينشئون على عدم محبة الصلاة، وهذا في جانب الإناث أكثر بكثير.
من الأولياء يفرط في بناته، أن البنت التي دخلت المدرسة لا بد، وبدأت تقرأ الفاتحة وقصار السور، وعرفت صفة الوضوء، خلاص هذه ما دام أنها بلغت سبع سنوات، فإنها تؤمر بالصلاة؛ لأن العلماء ذكروا أن الأمر للبنات داخل في ضمن الحديث: " مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع "
أما بالنسبة إلى العقل، فضده الجنون، فالمجنون ليس مكلفا بالإجماع، بل ولو فعل المجنون العبادة، فإنها لا تصح منه؛ لعدم قصد الامتثال؛ لأنه لا بد في العبادة من الامتثال، فمتى كان الإنسان بالغا عاقلا وجبت عليه العبادات، التي وجوبها عام، ووجبت عليه العبادات الخاصة، إذا اتصف بصفات من وجبت عليهم بأسبابها.
العبادات اللي وجوبها عام مثل الصلاة، كل من كُلف وجبت عليه الصلاة، الصيام كل من كلف وجب عليه الصيام، أما العبادات الخاصة، مثل الزكاة، هذه عبادة خاصة؛ لأنها مربوطة بملك النصاب، الكفارة، مثلا أداء الكفارة يعتبر عبادة، عبادة مربوطة بوجود سبب الكفارة.
النفقة مثلا واجبة، لكن لا تجب النفقة إلا إذا وجد سبب الإنفاق، والناسي والجاهل غير مؤاخذين من جهة الإثم، لا من جهة الضمان في المتلفات.
طيب. إذن الآن بقيت نقطة أخيرة في الموضوع، وهي أن موضوع الأحكام، الأحكام نوعان: أحكام تكليفية، هذه لا تجب إلا على المكلفين البالغين العاقلين، أما الأحكام الوضعية مثل وجوب الضمان مثلا، فيما إذا أتلف الإنسان شيئا.(1/116)
فالضمان يجب مطلقا على أي متلف، سواء كان المتلف بالغا، أو غير بالغ، وسواء كان عاقلا أو غير عاقل، وسواء كان ناسيا، أو غير ناس، وسواء كان جاهلا أو غير جاهل.
موضوع ضمان المتلفات هذا يتساوى فيه جميع الناس، حتى البهيمة إذا أتلفت شيئا وجب على صاحبها الضمان. طيب، لماذا؟ لماذا يجب الضمان؟ ألا يناقض هذا قاعدة: أنه لا تكليف إلا على بالغ عاقل؟
والجواب على هذا أنه ما فيه مناقضة؛ لأن إيجاب الضمان في المتلفات، ليس من باب الأحكام التكليفية، إنما هو -كما قلت لكم- من باب الأحكام الوضعية، يعني من باب ربط الأحكام بأسبابها، فحيثما وجد السبب، وجد الحكم، وجد الإتلاف، وجب الضمان، لماذا ؟ رعاية لمصالح العباد، وتحقيقا للعدل بينهم.
أرأيتم لو أن الناسي ما يضمن، أو الجاهل ما يضمن، أو الصبي ما يضمن، ماذا يكون حال الناس ؟ يضطرب الأمر، كل واحد بينه وبين إنسان عداوة، يتلف ماله، ويقول: والله ما دريت أنه لك، أو يرسل صبيه؛ لأن الصبي خلاص ما عليه شيء، يقول اذهب إلى مال فلان وأتلفه.
لكن هذه الشريعة الحكيمة العادلة، موضوع الإتلافات يجب فيه الضمان مطلقا، ينظر إلى السبب، يا إخوان ينظر إلى السبب، ولا ينظر إلى المتلف.
يدلك على هذا، كما قلت حتى ولو كان المتلف بهيمة، وجب على صاحبها الضمان، فإذا كان يجب الضمان في إتلاف البهيمة، فلأن يجب في إتلاف الصبي الناسي والجاهل من باب أولى.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
س: هذا سائل يقول : هل هناك علة ناقصة مع التمثيل؟
ج: الشيخ -رحمه الله- يعني فسر العلة التامة، ونستفيد من تفسيره للعلة التامة، أن هي العلة التى عرف أن الشرع يرتب عليها الأحكام، إذا كانت العلة التامة بهذا المعنى -كما قلت لكم- يقابلها الوصف الطردي، لكن سؤال السائل: هل فيه علة ناقصة ؟(1/117)
الجواب: فيه علة ناقصة، ما هي ؟ العلل المركبة ، العلل المركبة في القصاص، إذا كان القتل عمدا، عدوانا، إذن الآن العلة مركبة من وصفين، عمد، عدوان.
لو قتل عمدا يلزمه القصاص، ما يلزم عمدا الحالة، لو جبنا واحدا، اللي بيقتل، وفيه ناس معروفون يضربون الأعناق، قلنا لواحد: تعال اقتل هذا الرجل اللي بيقتل. متعمدا بأنه يقتله مايصاب بأنه قتله عمدا، قتله عمدا.
إذن ما فيه قصاص، إذن تكفي علة عمدا ؟ إذن علة ناقصة لا بد يكون القصاص، يعني علة القصاص، علة القصاص علة مركبة عمدا ، عدوانا؛ ولهذا تجد أن الأصوليين يقولون: العلة إما أن تكون مفردة، يعني: وصف واحد، وإما أن تكون مركبة من عدة أوصاف. نعم .
س: وهذا سائل يقول : إذا قلنا: إن العلة من تحريم الخمر الإسكار، فيتبادر إلى الذهن أن ما قليله لا يسكر، فليس بحرام ؟
ج: قيل، لكن هذا الفهم قال عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ما أسكر كثيره فقليله حرام؛ لأن العلة هل هي كثرة الإسكار ولاّ وصف الإسكار؟ وصف الإسكار . نعم.
س: وهذا السائل يقول : فضيلة الشيخ، حفظكم الله ، القاعدة: الأمور بمقاصدها، قاعدة عظيمة، لكن يستدل بها أهل البدع، ويقول: مقاصدنا عبادة الله ، فماذا توجيهكم ؟ .
ج: توجيهنا نعطيهم القاعدة الثانية ، القاعدة الثانية، نعطيهم إياها، الأصل في العبادات الحظر، إلا ما شرعه الله ، أو إلا ما شرعه الله ورسوله.(1/118)
أنتم الآن مقاصدكم عبادة الله تعالى، لا يجوز أن يعبد الله -جل وعلا- إلا بما شرع، بل فيه قاعدة يا إخوان مهمة جدا، بالمناسبة ما هي قاعدة مجرد أن الإنسان يطلق لنفسه العنان في التعبد، قاعدة أضيق من هذا ، وهي أن متابعة السنة خير من كثرة العمل . يعني الآن ما يشرع بعد أذان الفجر إلا ركعتا الفجر ، لو الإنسان بعد ركعتي الفجر قام جاب له تسليمتين ثلاثة قبل أن يقيم الإمام ، هذا خير وعبادة ، ولكن لم يؤثر أن النبي يصلي بعد طلوع الفجر إلا ركعتين .
إذن هذا خالف السنة ؛ ولهذا ورد عن سعيد بن المسيب -رحمه الله- بإسناد صحيح أنه رأى رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين فنهاه فقال : يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة ؟! أنا أصلي هل يعذبني الله على الصلاة ؟ قال: لا ، ولكن يعذبك على ترك السنة ؛ لأنك تركت سنة الآن .
إذن متابعة السنة خير من كثرة العمل ، لو إنسان مثلا بعد أن طاف بالكعبة صلى ركعتين عند المقام ، وقال: والله هذه فرصة بعد باجيب لي ثلاث تسليمات ، نقول: لا ، هذا خلاف السنة ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما صلى عند المقام إلا ركعتي الطواف ، أترك المكان لغيرك يأتي ويصلي ، يأتي مثلا يقول بين الركنيين : ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار . هذا زائد على ما في السنة أيش نقول لهذا ؟ نقول: متابعة السنة خير من كثرة العمل يقول: طيب هذا دعاء نقول: صحيح أنه دعاء ، ولكن هل أنت أفضل من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟
إذن متابعة السنة خير من كثرة العمل ، ودليل القاعدة هذا معروف وهو قصة الثلاثة الذين أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألوا عن حياته وقال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - " أما أنا فأقوم وأنام وأتزوج النساء " وآكل اللحم و ..... إلى آخره " فمن رغب عن سنتي فليس مني " نعم .(1/119)
وهذا سؤال ورد عبر الإنترنت يقول: فضيلة الشيخ، ذكرتم في شرح الورقات: فإذا أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- فليس للتابعين أن يخالفوا هذا الإجماع، بل هو حجة عليهم وعلى من بعدهم في أي عصر من العصور. هل ينطبق هذا الكلام على إجماع الصحابة على حكم تارك الصلاة بالكلية بالكفر الأكبر المخرج من الملة؟
هي المسألة خلافية، يعني مسألة ما إذا أجمع أهل عصر من العصور، فهل يجوز لمن بعدهم أن يخالف؟ لكن لا ريب في هذا أن إجماع الصحابة حجة، بل إن بعض العلماء يقول: إنه أصلا ما فيه حجة إلا إجماع الصحابة، وغيره من الإجماعات لا يحتج به؛ ولهذا بعض العلماء يستدل بإجماع الصحابة، وأنهم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا ترك الصلاة. نعم.
وهذا سؤال أو سائل يقول: هل تكلم العلماء في إجماعات ابن عبد البر؟
ما أعرف أنا أحدا نص على هذا، أنا لا أذكر الآن أحدا نص على القدح في إجماعا ابن عبد البر، لكن الظاهر أن إجماعات ابن عبد البر كإجماعات غيره بل إن ابن عبد البر... أنا وقفت على ابن عبد البر في مكان نَقَلَ الإجماع في مسألة، وفي مكان آخر نقل الخلاف، فالظاهر أن إجماعات ابن عبد البر ومن معه يعتريها ما قلت لكم في الليلة الماضية من الإجماع الظني ، الذي شأنه التتبع والاستقراء.
وهذا سؤال يقول: ما هي أحسن كتب القواعد الفقهية ، وما هي أحسن كتب القواعد الفقهية في المذهب المالكي؟
أنا مو بمالكي أنا، هذا يسأل المالكية، المالكية ما أدري عنهم، أنا ما أعرف كتبهم، لكن كتاب الشيخ -رحمه الله- ابن سعدي "القواعد الجامعة" هذا الكتاب جيد، وكتاب "القواعد الفقهية" للزرقا جيد، وفيه كتاب رسالة -أظن- الماجستير للندوي "القواعد الفقهية" جيد، وعلى أي حال الكتب التي ألفت في القواعد الفقهية كتب كثيرة جدا ، وهذه الكتب الثلاثة يبدو لي أنها من الكتب الجيدة.(1/120)
أما أنه يسألني عن كتاب يتعلق بالمالكية! والله ما أعرف أنا شيئا من كتب المالكية. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قول الصحابي
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
درْسُنا في هذه الليلة -والذي هو آخر الدروس ، ختم الله لنا ولكم بخير- فيه نقطتان: النقطة الأولى في قول الصحابي، والنقطة الثانية في جملة من المسائل الأصولية التي تدخل تحت عدد من أبواب الأصول ، وعددها خمس عشرة مسألة ومعظمها مختصر.
يقول -رحمه الله-: قول الصحابي -وهو من اجتمع بالنبى - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا، ومات على الإيمان- إذا اشتهر ولم ينكر ، بل أقره الصحابة عليه فهو إجماع .
أولا: عرف الصحابي بأنه من اجتمع بالنبى - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به، ومات على الإيمان، وهذا من أحسن التعاريف التي عرف بها الصحابي، وأعني: أن المصنف -رحمه الله- قيد الصحابي بالاجتماع، بخلاف من يقول: الصحابي من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الاجتماع أعم من الرؤية، قد يجتمع به من يراه ومن لا يراه؛ فيكون هذا التعريف الذي اقتصر عليه المؤلف من التعريفات الجيدة.
"إذا اشتهر ولم ينكر، بل أقره الصحابة عليه فهو إجماع" بمعنى: أن قول الصحابي إذا اشتهر بين الصحابة، ولم يعرف له معارض، ولم يعرف له منكِر، فإن هذا يكون إجماعا ، ولكن ليس إجماعا نطقيا؛ لأن بقية الصحابة لم ينطقوا بموافقة هذا الصحابي ، ولكنه إجماع سكوتي إذا كان الصحابي قال قولا ، واشتهر قوله عند الصحابة، ولم يظهر له مخالف ، فهذا يعتبر من قبيل الإجماع السكوتي، هذا قول في المسألة.
والقول الثاني: -وهو الذي ارتضاه شيخ الإسلام ابن تيميه- أنه ليس بإجماع ، ولكنه حجة، وفرْقُ بين الإجماع وبين الحجة، فإن لم يعرف اشتهاره ولم يخالفه غيره فهو حجة على الصحيح.(1/121)
هذا هو المقصود بقول الصحابي، المقصود قول الذي لم يعرف أنه اشتهر ، ولم يعرف له مخالف، وكان في المسائل الاجتهادية، هذا محل النزاع بين العلماء في حجية قول الصحابي، المراد به قول الصحابي الذي لم يعرف اشتهاره ولم يخالفه غيره ، وكان في المسائل الاجتهادية.
هذا النوع موضع خلاف بين أهل العلم ، ولكن الشيخ -رحمه الله- اقتصر على واحد من الأقوال، وهو أنه يكون حجة؛ ولهذا قال: "فهو حجة على الصحيح"، والعلماء عندما يقررون أن قول الصحابي حجة ليس لهم أدلة هي نص في الموضوع، ولكن أدلتهم عمومات في الشريعة مفادها: أن الله تعالى أثنى على الصحابة، ونص على عادلتهم وحسن سيرتهم، ومن كانت هذه صفته يصح أن يكون قوله حجة.
وهذه المسألة -مسألة حجية قول الصحابي- مسألة فيها خلاف طويل بين أهل العلم، بل ونزاع قوي، والذي يظهر -والله أعلم- في هذه المسألة أن قول الصحابي ليس حجة ملزمة كدليل من الكتاب والسنة، وإنما هو قول يؤخذ به حيث لا دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو غيرهما؛ والتعليل لهذا أن اقتفاء أثر الصحابة -رضي الله عنهم- والأخذ بما أداه إليه اجتهادهم أولى بالأخذ من اجتهاد من كان بعدهم، فاجتهاد الصحابي أقرب إلى الهدى، وأحرى بالصواب ببركة الصحبة ومشاهدة التنزيل، هذا هو القول الذي يظهر في هذه المسألة.
وهذا القول هو الذي نص عليه الشافعي -رحمه الله- في كتابه "الرسالة" في مناظرة علمية بينه وبين شخص، في صفحة خمسمائة وسبع وتسعين من كتاب "الرسالة" للشافعي، مناظرة علمية جيدة، مفادها أن قول الصحابي دليل يستدل به، ولكن لا يعتبر حجة ملزمة.(1/122)
قال: "فإن خالفه غيره من الصحابة لم يكن حجة عند جميع العلماء"؛ لأننا لو أخذنا بقول أحدهما لكان ترجيحا بلا مرجح، فإن خالفه غيره فالمعول على ما يؤيده الدليل ، يعني يُبحث عن دليل يؤيد هذا القول أو هذا القول، والنتيجة النهائية ما هي؟ أن التعويل لا يكون على قول الصحابي، ما دام أنّا وجدنا الدليل المؤيد لأحد القولين سيكون العمل والتعويل على الدليل.
مثاله: ورد أن عمر وعليا -رضي الله عنهما- يريان قتل الجماعة بالواحد، ونقل ابن المنذر عن الزبير أنه لا يرى قتل الجماعة بالواحد.
إذن هذا قول صحابي، فعمر وعلي يريان قتل الجماعة إذا قتلوا شخصا واحدا، ونقل ابن المنذر عن الزبير أنه لا يرى قتل الجماعة بالواحد، إذن عندنا قول الصحابي خالفه غيره، يُبحث عن مرجحات. بحثنا فوجدنا أن قول عمر وعلي أرجح؛ لأنه مؤيد بقول الله تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } (1) وعلى هذا؛ فنحن إذا رجحنا أحد القولين بالدليل فمعنى هذا: أن المعول صار على الدليل ؛ ولهذا يقول بعض العلماء المعاصرين: إن اشتراط هذه الشروط في قول الصحابي -أن لا يُعلم اشتهاره، وأن لا يخالفه صحابي أخر، وهناك شرط ثالث سكت عنه المؤلف، وهو أن لا يخالف نصا، مع الشرط الذي ذكرت لكم، وهو أن يكون في المسائل الاجتهادية-.
يقول بعض المعاصرين: إذا اشترطنا هذه الشروط في قول الصحابي فإن الدائرة ستضيق أضيق ما يكون، يعني إذا اشترطت هذه الشروط فمعنى ذلك أن قول الصحابي الذي سيكون فيه خلاف سيكون في حدود دائرة ضيقة. ثم نعلم أن الأصوليين إذا قالوا: قول الصحابي يريدون الفعل أيضا، ما يريدون القول فقط.
أمثلة:
__________
(1) - سورة البقرة آية : 179.(1/123)
مثال قول الصحابي: ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: " الطواف بالبيت صلاة ، إلا أن الله قد أحل فيه النطق ، من نطق فلا ينطق إلا بخير " أخرجه الترمذي وغيره. هذا الحديث مروي مرفوعا ومروي موقوفا ، والاستدلال به إنما يتم على روايته موقوفا ، وللعلماء فيه كلام ، لكن المقصود التمثيل .
مثال الفعل: ما علقه البخاري في صحيحه في باب التيمم قال: " وأمّ ابن عباس وهو متيمم " هذا الأثر علقه البخاري، وأخرجه ابن أبى شيبة والبيهقي بإسناد صحيح، كما ذكر الحافظ في فتح الباري، فهذا الأثر يدل على أنه يجوز أن يكون الإمام متيمما وأن يكون الجماعة المأمومون متوضئين.
المسائل الأصولية
الأمر بالشيء نهي عن ضده
النقطة الثانية والأخيرة: المسائل الأصولية التي تدخل تحت عدد من الأبواب.
الأولى: الأمر بالشيء نهي عن ضده.
الضدان أمران وجوديان يستحيل اجتماعهما في محل واحد، مثل القيام والقعود، القيام والقعود ضدان؛ لأنه لا يمكن أن يجتمعا في محل واحد.
"الأمر بالشيء نهى عن ضده" يعني: إذا قيل لإنسان: اسكن ، هذا أمر ، كما أنه أمر بالسكون نهى عن الضد وهو التحرك ، وهذا عن أي طريق هذا عن طريق ما يسمى بدلالة الالتزام ؛ لأنه لا يتم السكون إلا بالتخلي عن الضد الذي هو الحركة ، ومنه قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } (1) فهذا أمر بالثبات ونهي عن الضد الذي هو الفرار ، والدليل على أن الأمر بالثبات نهي عن الفرار قول الله تعالى في الآية الأخرى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) } (2) .
ومن هنا قال العلماء: إنه يجب على المصلي في صلاة الفريضة أن يصلي قائما مع القدرة، فلو جلس وهو قادر ما صحت صلاته؛ لأن أمره بالقيام نهى له عن الجلوس.
__________
(1) - سورة الأنفال آية : 45.
(2) - سورة الأنفال آية : 15.(1/124)
النهي عن الشيء أمر بضده
الثانية: النهي عن الشيء أمر بضده.
يفهم هذا مما قبله فإذا قيل لإنسان: لا تتحرك فمعنى هذا دلالة الالتزام، أن نهيه عن التحرك يستلزم سكونه.
النهي يقتضي الفساد إلا إذا دل الدليل على الصحة
القاعدة الثالثة أو المسألة التالية: النهي يقتضي الفساد، إلا إذا دل الدليل على الصحة.
هذه قاعدة عظيمة، ومعظم الأصوليين ما يذكرون الاستثناء، يقولون: "النهي يقتضي الفساد" ولكن من دقة الشيخ -رحمه الله- قيده بقوله: "إلا إذا دل الدليل على الصحة".
أما كون النهي يقتضي الفساد فدليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وجه الدلالة ؟ نعم، تفضل .... . نعم ، صحيح. يعني: وجه الدلالة أن ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ما نهى عنه الشرع أحسنت ، فليس عليه ديننا ؛ لأن المراد بـ "أمرنا": ديننا وشرعنا ، ووجه الدلالة أن المنهي عنه ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو فاسد ، وما كان فاسدا فهو مردود، وجوده وعدمه سواء ، هذا وجه الدلالة.
والنهى يقتضي الفساد في حالتين:
الحالة الأولى: إذا عاد إلى الذات ، إذا عاد إلى ذات العبادة أو ذات المعاملة .
والحالة الثانية: إذا عاد إلى الشرط .
فيه حالة ثالثة ما تدخل معنا وهي: ما إذا عاد النهي إلى أمر خارج.
نمثل ببعض الأمثلة: ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن صوم العيدين عيد الفطر، وعيد الأضحى " هذا النهي ما نوعه؟ نهي عن ذات العبادة، يعني عبادة الصيام منهي عنها لذاتها، هل لأنه أختل شرط من الشروط؟ لا، الصيام ذاته في يوم العيد منهي عنه، فهذا يقتضي الفساد.(1/125)
طيب. لو إنسان صلى بلا ستر عورة، الصلاة هنا منهي عنها، وبالتالي فاسدة، لماذا؟ لأن النهي عاد إلى الشرط. طيب. أنا أريد يا إخواني، أن تميزوا بين النهي العائد للذات والنهي العائد إلى الشرط. فهمتم السؤال؟ أو التهيؤ؟
الفرق أن النهي العائد على الذات ما يمكن إصلاحه بحال من الأحول، هل يمكن بحال من الأحول أن الصيام يوم العيد يصير صحيحا؟ أبدا، أما النهي العائد على الشرط، إذا صُحح الشرط صحت العبادة، فالذي صلى مثلا بلا طهارة أو بلا ستر عورة إذا تطهر وستر العورة صحت الصلاة.
طيب. في البيوع ، يعني في المعاملات، مثل: النهي عن بيع مالا يملك. هذا عائد إلى الشرط؛ لأن من شروط البيع أن يكون مملوكا للعاقد يعني: للبائع، فالنهي العائد إلى الذات والعائد إلى الشرط يقتضي الفساد، أما النهي العائد لأمر خارجي فهذا لا يقتضي الفساد، خلاص.
أمر خارجي، مثاله: لو إنسان صلى وعليه غترة من الحرير، ولّا صلى وعليه عمامة حرير، ولّا صلى وعليه خاتم ذهب وهو رجل، الأشياء هذه كلها محرمة؛ لكن ما لها علاقة بالصلاة. طيب، لو ستر عورته بثوب حرير؟ هنا يصير النهي عاد على أيش؟ عاد على الشرط؛ فيؤثر، لكن الأمور التي ذكرنا خارجة عن الصلاة، لو عليه مثلا غترة حرير، وبعدين قبل ما يصلي أخذ الغترة ورماها في الأرض، صلاته صحيحة؛ لأنها ما لها علاقة بالصلاة هي، إذن صلاته صحيحة. لكن يبقى عليه إثم التلبس بالحرير. النهي عائد إلى أمر خارج هذه عبادة.
المعاملة: لو باع مع الغش، باع له + صندوق طماطم مغشوش + باعه وأخذه اللي اشترى وراح، البيع صحيح، لكن على البائع إثم الغش، والمشتري له الخيار، لكن البيع صحيح؛ ولهذا العلماء عندما يذكرون شروط البيع ما يذكرون من شروط البيع عدم الغش.(1/126)
إذن قاعدة النهي يا إخوان: أن النهي إذا عاد إلى الذات أو الشرط اقتضى الفساد، وإذا عاد لأمر خارج ما يقتضي الفساد؛ فيصح أن يقال: إن الأصل في النهي أنه يقتضي الفساد، لكن دائما؟ لا، إلا إذا دل الدليل على أن النهي لا يقتضي الفساد.
مثاله: ورد في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصروا الإبل ولا الغنم " التصرية معناها: ربط ثدي البعير أو الغنم يومين ثلاثة حتى يجتمع اللبن، فإذا اشتراه شخص قال: ما شاء الله، ظن أنه الصبح + النهار مليانة، وله ثلاثة أيام يجمع. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تصروا الإبل ولا الغنم فمن ابتاعها " يعني: بعد التصرية " فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر " .
فهذا الحديث فيه نهي عن التصرية ، لكن الأصل أن البيع مع التصرية فاسد ، لكن قوله " إن شاء أمسك " يعني: المشتري ، يدل على أن البيع صحيح؛ لأنه لو كان البيع فاسدا ما أقره الشرع؛ لأن الشرع لا يقر العقود الفاسدة؛ فلما أن الشرع جعل الخيار للمشترى، وأنه إن رغب يمسك يمسك ، هذا دليل يدل على أن النهي ليس للفساد.
الأمر بعد الحظر يرده إلى ما كان عليه قبل ذلك
القاعدة الرابعة: الأمر بعد الحظر يرده إلى ما كان عليه قبل ذلك.
أيش رأيكم في هذه القاعدة؟ ما أريد أن تقولوا لي جميلة! أريد اللي أخذناه، هذا اللي ينفعنا، إذن القاعدة مرت فلا حاجة لإعادتها.
الأمر والنهى يقتضيان الفور
الخامسة: الأمر والنهى يقتضيان الفور.
الفور معناه: الشروع بالامتثال عقب الأمر أو عقب النهي، من غير فصل هذا معنى الفورية، أن الأمر والنهي يقتضيان الفورية يعني: أن المكلف بمجرد ما يتعلق به أمر أو نهي يبادر إلى الامتثال. وموضوع النهي واضح أنه يقتضي الفورية، أنه بمجرد ما يسمع المكلف المنهي عنه يبادر إلى الانتهاء، إنما الخلاف بين العلماء في موضوع الأمر.(1/127)
ولكن الصحيح -والله أعلم- ما مشى عليه المصنف من أن الأمر يقتضي الفورية والمبادرة بالفعل لأمرين:
الأمر الأول: أن نصوص الشريعة أمرت بالمسارعة إلى الخير والاستباق إلى الخيرات، ولا ريب أن أوامر الشريعة من أولها إلى أخرها كلها خير، فهذا يدل على أنه ينبغي للمكلف المبادرة: { * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } (1) { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } (2) ، { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } (3) فهذه الأدلة مفادها أن الخيرات يُسارع إليها، وأوامر الشريعة من هذا النوع.
ثانيا: أن المبادرة أبرأ للذمة، وأدل على الطاعة والانقياد.
والتأخير له آفات، تتراكم الواجبات ويعجز المكلف عنها، لكن إذا أدى كل واجب في وقته سهل عليه الأمر؛ ولهذا تجد بعض الناس يسأل يقول: أنا عليّ عدة كفارات؟ سبحان الله! ليه عليك عدة كفارات؟! تراكمت الكفارات.
سألني سائل قال: أنا نذرت من ثلاثين سنة! له ثلاثين سنة نذر، وما وفّي بالنذر إلى الآن. السؤال يوحي بماذا؟ يوحي أنه متعطش إلى إبراء ذمته، ولا أنه متثاقل؟ متثاقل، فالتأخير له آفات، والمبادرة أبرأ للذمة، وأدل على الطاعة والانقياد، الإنسان ربما ينذر، أو يتعلق به التزامات وواجبات ولا يؤديها ثم يموت، والورثة قد يعلمون وقد لا يعلمون؛ فيبقى رهينا بديونه، لكن إذا بادر وسارع برئت الذمة، سواء كان في حقوق الله تعالى أو كان في حقوق العباد.
الأمر بالتكرار إذا عُلق على سبب فيجب أو يستحب عند وجود السبب
سادسا: ولا يقتضي الأمر التكرار إلا إذا عُلق على سبب؛ فيجب أو يستحب عند وجود السبب.
الأمر يا إخوان له ثلاث حالات:
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 133.
(2) - سورة البقرة آية : 148.
(3) - سورة المؤمنون آية : 61.(1/128)
إما أن يقيد بما يفيد الوحدة، هذا قطعا لا يفيد التكرار لأنه مقيد، وإما أن يقيد بما يفيد التكرار، وإما أن يطلق. الذي فيه الخلاف الأمر المطلق، أما الأمر الذي قيد بما يفيد الوحدة، فهذا يُحمل على القيد، ومثاله قول الله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } (1) " فقال الأقرع - رضي الله عنه - أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال: لا، ولو قلت: نعم؛ لوجبت " .
تصور أنت في زماننا هذا، يعني شوف حكمة التشريع لو أن الحج كل سنة مفروض، أنه كل سنة لازم تحج، يقع الناس في الحرج أو الهلاك، يقع الناس في الهلاك؛ فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن قوله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } (2) أن هذا الأمر لا يقتضي التكرار إنما هو مرة واحدة في العمر، فمن حج مرة واحدة في عمره برئت ذمته ، يعني: أدى ما عليه.
الثاني: أن يقيد الأمر بما يفيد التكرار ؛ فيحمل على التكرار ، وهذا هو الذي قال عنه المصنف: "إلا إذا علق على سبب فيجب أو يستحب عند وجود سببه" السبب قد يكون شرطا وقد يكون وصفا أو غير ذلك، كما يعلم بالتتبع والاستقراء، إذا قرأت قول الله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (3) معناه أن السارق تقطع يده، فإن سرق مرة أخرى قطع، تقطع يده. فالسرقة يتكرر القطع فيها بتكرار السبب، فلا يقال: إنه ما يقطع إلا المرة الأولى؛ لأن الأمر يقتضي التكرار، إذا سرق مرة ثانية خلاص ما في قطع، لا، يقطع ولا يقوم مقام القطع عقوبة أخرى.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 97.
(2) - سورة آل عمران آية : 97.
(3) - سورة المائدة آية : 38.(1/129)
طيب، إذا قرأت قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } (1) معنى الآية: أنك كل ما أردت القيام للصلاة توضأت؛ إذن هذا أمر يقتضي التكرار؛ لأنه أمر مربوط بشرط فيتكرر الأمر متى ما تكرر الشرط، إلا أن السُّنة دلت على أن الوضوء إذا أراد الإنسان القيام إلى الصلاة وهو على الطهارة، أنه لا يلزم الوضوء.
لكن هذا دليل غير الآية، الآية ظاهرها أن كل من أراد أن يقوم إلى الصلاة لا بد أن يتوضأ، لكن دلت السنة أن الإنسان ما يلزم أن يتوضأ إذا كان على طهارة ، إلا إذا أراد السنة يعني: تطبيق السنة، أراد المُستحب يعني: أراد تجديد الوضوء، يجدد الوضوء.
والسبب الذي نص عليه المؤلف كما في قول الله تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } (2) دلوك الشمس: يعني ميلانها جهة المغرب وهو الزوال، أي صلاة؟ صلاة الظهر، إذن صلاة الظهر تتكرر بتكرر السبب. إذن لماذا حملنا الأمر على التكرار؟ نعم، لوجود إما سبب أو شرط، الشرط يعني: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ } (3) والسبب { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } (4) والوصف { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } (5) الشيخ هنا يقول أيش؟ يقول: "فيجب أو يستحب عند وجود سببه".
المراد بالمستحب مثل: تحية المسجد، إذا دخل المسجد صلى تحية المسجد؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين " كما مر علينا ، إنسان -مثلا- دخل المسجد وصلى ركعتين ، وخرج من المسجد لغرض ما ورجع ، يصلي الركعتين ؛ لأنه تكرر السبب، ما هو السبب؟ الدخول، يعني + + الصلاة فحيثما وجد الدخول وجدت التحية.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 6.
(2) - سورة الإسراء آية : 78.
(3) - سورة المائدة آية : 6.
(4) - سورة الإسراء آية : 78.
(5) - سورة المائدة آية : 38.(1/130)
لكن مع هذا هذه المسألة خلافية بين العلماء، وهي مسألة تكرار دخول المسجد، هل من تكرار دخوله للمسجد يلزم أن يصلي كلما دخل؟ المسألة فيها خلاف، وأوسط الأقوال أن من خرج بنية الرجوع لا بنية الإعراض فهذا ما يلزمه أن يصلي تحية المسجد إذا رجع، مثل إنسان مثلا جاء يدرس بالمسجد، ولما صلى تحية المسجد وجلس تذكر أن فيه أوراق ولا كتاب ما هم معه، طلع لبيته القريب من المسجد وجاب الكتاب ورجع، هذا ما يلزم ؛ لأنه فيه مشقة.
أما من خرج من المسجد بنية عدم الرجوع، انتهى من المسجد، ولكن حصل أمر من الأمور ثم رجع، فهذا على الأظهر يصلي تحية المسجد؛ لأن الذي خرج بنية الرجوع كأنه ما خرج، لكن الذي خرج قاطعا الرجوع وعازما على عدم الرجوع هذا يصلي تحية المسجد.
الأشياء المخير فيها إن كان للسهولة على المكلف وإن كان لمصلحة ما ولي عليه
المسألة السابعة: الأشياء المخير فيها إن كان للسهولة على المكلف فهو تخيير رغبةٍ واختيار، وإن كان لمصلحة ما ولي عليه فهو تخيير يجب تعين ما ترجحت مصلحته.
مسألة جميلة جدًا، إن الأشياء المخير فيها قسمان: إما أن يكون القصد من التخيير التسهيل على المكلف والتيسر، فهنا يكون التخيير تخيير رغبة واختيار، يعني المكلف يختار ما يريد.
مثاله: خصال الكفارة وهي قول الله تعالى: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } (1) فهذا تخيير قصد به التيسير والتسهيل على المكلف، فأي صنف من الأصناف الثلاثة أخرجه المكلف برئ من العهدة. ومثله أيضا فدية الأذى المنصوص عليها في سورة البقرة، فدية الأذى يعني: في فدية حلق الرأس، فهذا النوع يكون التخيير فيه تخيير اختيار.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 89.(1/131)
النوع الثاني: الذي قال عنه الشيخ: "وإن كان لمصلحة ما وُليّ عليه". يعني أن يكون التخيير لمصلحة الغير، ما هي مصلحتك أنت، لمصلحة الغير، فهذا ما حكمه؟ تخيير؟ يجب تعين ما ترجحت مصلحته، يدخل في هذا تصرفات ولي اليتيم وناظر الوقف والقائم على الوصايا، هذا يشتغل لمصلحته هو، أو لمصلحة الواقف واليتيم والموصي؟ هو كذلك، فعليه أن يختار ما فيه المصلحة لهذا الوقف، أو ما فيها المصلحة لهذا اليتيم.
ومن الأمثلة أيضا التي ذكرها الفقهاء موضوع لقطة الحيوان. إنسان التقط حيوانا، فهو مخير بين ثلاثة أمور: ينظر للمصلحة، إما أن يبقي الحيوان عنده ، وينفق عليه بنية الرجوع على صاحبه، وإما أن يبيعه ويحفظ ثمنه ، وإما أن يأكله بعد أن يقدر قيمته ويحفظ ثمنه، على حسب المصلحة.
فلو فرضنا مثلا أن الحيوان قد يموت، فتصير المصلحة الآن في بيعه أو أكله وهو سليم ما به مرض، لكنه يخشى أن يموت لوجود سبب من الأسباب. لو فرضنا مثلا أنه التقطه من مكان يصعب عليه أن يعلفه ويقوم عليه، وإذا خلاه يموت ، فتصير المصلحة الآن أنه يذبحه ويأكله ويقدر قيمته، أما إذا كان إنسانا -مثلا ما شاء الله- عنده أغنام وعنده مزارع وعنده ألف رأس، زادت واحدة ما يهم هذا، خليه مع الغنم، ينفق عليه، وإذا جاء صاحبه يوما من الدهر أعطاه إياه، وأخذ منه قيمة ما أنفق عليه.
إذن النظر ما يرجع إليه، هو يرجع إلى مصلحة الملتقَط.
ألفاظ العموم في سياق النهي أو النفي أو الاستفهام أو الشرط
والمعرف بأل تقتضي العموم
المسألة الثامنة: ألفاظ العموم ككل وجميع والمفرد المضاف والنكرة في سياق النهي أو النفي أو الاستفهام أو الشرط والمعرف بأل الدالة على الجنس أو الاستغراق كلها تقتضي العموم.(1/132)
الشيخ -رحمه الله- يبدو أنه له منهج ، وإلا قد يقول قائل: نحن سبق لنا تعريف العام ومسائل العام، وهنا الشيخ يجعل الصيغ -صيغ العام- في مكان آخر إن كان بالنظرة السطحية نقول: إن الأولى أن المصنف يضم النظير إلى نظيره، لكن قد يكن المصنف بهذا التصرف له وجهة نظر لا نعلمها، على أية حال هذه نقطة سهلة.
العموم له صيغ أولها: "كل" ، يقول الأصوليون: إن "كل" من أقوى صيغ العموم؛ لأنها تدل على العموم بمادتها. وأمثلتها كثيرة، كما في قول الله تعالى: { وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) } (1) وقول الله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ èps)ح!#sŒ الْمَوْتِ } (2) .
"جميع" مثلها ، كما في قول الله تعالى : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) } (3) .
"المفرد المضاف"، المفرد المضاف يفيد العموم، كما في قول الله تعالى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } (4) أي نعمة، نعم؛ لأن هذه من صيغ العموم.
والشيخ اقتصر على المفرد المضاف، ومثلها "الجمع المضاف" كما في قول الله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } (5) هذا من صيغ العموم.
"النكرة في سياق النهي" كما في قول الله تعالى: { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) } (6) أين النكرة؟ "أحدا"، جاءت في سياق النهي؛ لأن كل من دعا مع الله غيره من أي صنف من الأصناف فهو مشرك بالله؛ لأن اللفظ جاء بصيغة العموم، أو النفي كما في قول الله تعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } (7) أين النكرة؟ "شيء"، نعم ، فهذه نكرة وردت في سياق النفي فتفيد العموم، ومنه أيضا كلمة الإخلاص، وهي "لا إله إلا الله".
__________
(1) - سورة مريم آية : 95.
(2) - سورة آل عمران آية : 185.
(3) - سورة يس آية : 32.
(4) - سورة إبراهيم آية : 34.
(5) - سورة النساء آية : 11.
(6) - سورة الجن آية : 18.
(7) - سورة البقرة آية : 255.(1/133)
"أو استفهام" ، المراد بالاستفهام: الاستفهام الإنكاري، وهو الذي يأتي في صيغ العموم، كما في قول الله تعالى : { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ } (1) هل يراد آلهة معينة في قوله " إله" ، لا يراد آلهة معينة، كأنه قال: لا يمكن أن يوجد إله غير الله يأتيكم بضياء.
"أو الشرط"، كذلك من صيغ العموم كما في قول الله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (2) يعني: أي أحد.
"والمعرف بأل الدالة على الجنس"، أل الدالة على الجنس هي أل الدالة على اسم الجنس، كما في قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } (3) فـ "أل" في "الناس" هي أل الجنسية؛ لأنها دخلت على اسم جنس؛ إذن "الناس" لفظ عام.
ومنه أيضا قول الله تعالى: { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ } (4) فالأطفال أيضا جمع لاسم الجنس، ومنه قول الله تعالى أيضا: { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } (5) يريدون بقرة معينة؟ لا، يريدون جميع البقر فـ "أل" هنا تفيد العموم أو الاستغراق، هذه أل الاستغراقية، وهي التي يكثر دخولها على الأسماء في صيغ العموم، و"أل" الاستغراقية لها علامة، أنه يصح وقوع كلمة "كل" موقعها ومثلها قول الله تعالى: { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) } (6) فلو قيل في معنى الآية: كل إنسان في خسر، لكان المعنى سليما.
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة التاسعة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 46.
(2) - سورة التوبة آية : 6.
(3) - سورة البقرة آية : 21.
(4) - سورة النور آية : 59.
(5) - سورة البقرة آية : 70.
(6) - سورة العصر آية : 2.(1/134)
هذه قاعدة مهمة، معناها: أنه إذا ورد العام على سبب خاص فإن العبرة بالعموم وليست العبرة بالخصوص. مرة ثانية معناها: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: إذا ورد اللفظ العام على سبب خاص فإن العمل على عموم اللفظ لا على خصوص السبب، لماذا؟ لأننا لو عملنا بخصوص السبب ما عدينا الدليل إلى قضايا أخرى، لكن إذا قلنا العبرة بعموم اللفظ ، أي شخص تحصل له قضية مثل هذه القضية يطبق عليه النص.
إذن يصير الآن العبرة بعموم اللفظ، وليس بالنظر إلى خصوص السبب؛ ومن هنا صار العلماء يستدلون على أحكام الظهار بالآيات في سورة المجادلة، ليش؟ لأن الآيات وردت بصيغة العموم، مع أن الظهار ما حصل إلا من شخص واحد هو أوس بن الصامت، ومع هذا قال الله تعالى: { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ Oخgح!$|،خpS } (1) وفي الآية التي بعدها { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } (2) فهذا -والله أعلم- يعني قصدي: أن الله -جل وعلا- لما ساق حكم القصة بأسلوب عام وليس بأسلوب خاص.
دل هذا على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والدليل هو أن الشريعة ليست خاصة لأحد من المكلفين، بل الشريعة عامة للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إذن هذا يناسب القاعدة هذه، أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
لكن يستثنى من هذا ما إذا وجد دليل يدل على أنه ليست العبرة بعموم اللفظ، إنما سينظر إلى السبب، هذا يستثنى، وإذا أردنا أن نجعلها قاعدة متكاملة نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا إن وجد الدليل الذي يدل على تخصيص العموم بمثل حالة السبب.
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 2.
(2) - سورة المجادلة آية : 3.(1/135)
المثال هو الذي يوضح ، ورد في الصحيحين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد أسفاره رأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل صائم قال: ليس من البر الصيام في السفر " انظر، "ليس من البر" صيغة عموم، يعني: ما يمكن أن الصيام في السفر يصير من البر. كان الأصل أننا ما ننظر للسبب، كده يا إخوان؟ ننظر للفظ العام، إن أي صيام في السفر ليس من البر.
لكن عندنا دليل على أننا ما نعمل بالعموم، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام في السفر، ولا يمكن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما ليس ببر، فالعلماء، وعلى رأس القائمة ابن دقيق العيد في شرحه على عمدة الأحكام، عند هذا الحديث ذكر أن هذا الحديث العام لا يؤخذ به على عمومه، إنما يطبق على أي حالة مثل حالة هذا الصحابي الذي تعب في السفر.
فلو -مثلا- سافرنا وبعضنا صائم وبعضنا ما صام، فيه واحد من الإخوان الصائمين تعب تعبا شديدا، والبقية -ما شاء الله- ما دروا أنهم صائمين، هل كلهم نقول لهم: " ليس من البر الصيام في السفر " ؟ لا، اللي تعب هو اللي نقول له: " ليس من البر الصيام في السفر " أما هؤلاء فإن صيامهم من البر.
إذن صارت قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قاعدة لها ما يستثناه.
الخاص يراد به العام
المسألة العاشرة: ويراد بالخاص العام.(1/136)
يقصد الشيخ أنه يأتي لفظ خاص ولكنه سيتحول إلى العموم. من الأمثلة: قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) فهذا دليل خاص، خطاب موجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - لكن هل الحكم خاص به؟ أم عام للأمة؟ عام للأمة، هذا معنى قول الشيخ هنا: "يراد بالخاص العموم"؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله- : "ولهذا كان جمهور علماء الأمة على أن الله تعالى إذا أمر نبيه بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له في ذلك، ما لم يقيم دليل على اختصاصه به".
من الأمثلة أيضا، وهذا من الأمثلة المهمة: قول الله تعالى في آيات الحجاب: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (2) الخطاب موجه لمن؟ لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وسلم، لكن الخطاب -وإن كان خاصا- لكن يراد به العام؛ ولهذا آيات الحجاب -وإن كان الخطاب في بعضها موجها لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه خطاب أيضا لعموم نساء الأمة.
يُطلق العام ويراد به الخاص
المسألة الحادية عشر: عكس التي قبلها يعني إيش؟ يعني: "يُطلق العام ويراد به الخاص".
هذه المسألة من أمثلتها: قول الله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } (3) فلفظ الناس كما نعلم عام، ولكن يراد به خصوص المكلفين؛ لأن الشرع والعقل دل على إخراج الصبيان والمجانين من هذا الحكم، إذن هذا عام ولكن أريد به الخاص.
__________
(1) - سورة الطلاق آية : 1.
(2) - سورة الأحزاب آية : 33.
(3) - سورة آل عمران آية : 97.(1/137)
ومثاله أيضا: قول الله تعالى: { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ } (1) هذا عام { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ } (2) هذا عام آخر { أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ } (3) هذا عام، ولكن مرادٌ به خصوص القادرين، أما غير القادرين مطالبون بما تدل عليه الآية؟ ليسوا مطالبين.
وعلى هذا العامّ ثلاثة أنواع:
عام محفوظ، وهو العام الذي بقي على عمومه ولم يدخله التخصيص، كما في قول الله تعالى: { * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } (4) يقول الشافعي -رحمه الله-: "هذا عام لا خاص فيه". يعني: فيه مخصص؟ هل هناك دابة في الأرض رزقها على غير الله؟ لا، إذن هذا إيش يسمى؟ العام المحفوظ، وهو العام الباقي على عمومه، الذي لم يدخله التخصيص.
الثاني: العام المخصوص، وهو الذي دخله التخصص، وهذا كثير في نصوص الكتاب والسنة.
النوع الثالث: الذي قلته لكم، اللي سمعتموه، الذي ذكره الشيخ "العام الذي يراد به الخاص" وقد مثلنا له. يقول الشيخ: "مع وجود القرائن الدالة على ذلك" يعني لأن الأصل أن العام يحمل على عمومه والخاص يحمل على خصوصه.
خطاب الشارع لواحد من الأمة يعم جميع المكلفين
إلا إن دل دليل على الخصوص
المسألة الثانية عشر: خطاب الشارع لواحد من الأمة أو كلامه في قضية جزئية يشمل جميع الأمة وجميع الجزيئات، إلا إذا دلّ الدليل على الخصوص.
يعني: أن الشرع قد يخاطب واحد من المكلفين بحكم شرعي، فهل يقال: إن الشرع ما دام أنه خاطبه فالحكم يخصه؟ لا، الأصل أن الحكم يعم، إلا إذا وجد دليل على الخصوصية.
من الأمثلة: قول علي - رضي الله عنه - " نهاني النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القراءة وأنا راكع، وعن لبس الذهب والعصفر " أخرجه مسلم.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 120.
(2) - سورة التوبة آية : 120.
(3) - سورة التوبة آية : 120.
(4) - سورة هود آية : 6.(1/138)
طيب، الدليل على أن خطاب الشارع لواحد يعم جميع المكلفين دليلان:
الدليل الأول: القياس، فإن قياس غير المخاطب على المخاطب بجامع الاستواء في الأحكام من القياس الجلي؛ لأنه ما فيه فرق في أحكام الله تعالى بين المخاطب وغير المخاطب، هذا دليل من القياس.
دليل النص على أن الخطاب للواحد يعم، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " يعني: أني إذا خاطبت مائة امرأة كخطابي لامرأة واحدة، يعني: لو بايعت امرأة واحدة، البيعة تشمل الجميع، لو قامت امرأة وقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بايعتك، بيعتها بيعة لجميع من ماثلها وشاكلها، وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره وقال: حسن صحيح.
أما إذا دل الدليل على الخصوصية فيختص، كما في قصة أبى بردة لما ضحّى بالعناق قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - " تجزئ عنك، ولا تجزئ عن أحد بعدك " إذن هذا فيه دليل على الخصوصية.
الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا قام الدليل
الثالثة عشرة: فعله - صلى الله عليه وسلم - الأصل فيه أن أمته أسوته في الأحكام، إلا إذا دل دليل على أنه خاص به.
هذا واضح؛ لأنه تقدم طرف منه، يعني: الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا قام الدليل، كما في قول الله تعالى: { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } (1) يدل على أن النكاح بلفظ الهبة من خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجيء المرأة تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهبت لك نفسي، خلاص يصيرا زوجين، دون ولي دون عقد دون شهود، لكن غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بد من الولي، لا بد من العاقد، لا بد من الشهود، فالأصل التأسي إلا إن قام الدليل على خلاف ذلك.
__________
(1) - سورة الأحزاب آية : 50.(1/139)
إذا نفى الشارع عبادة أو معاملة فهو لفسادها
الرابعة عشرة: وإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة فهو لفسادها، أو نفى بعض ما يلزم فيها فلا تُنفى؛ لنفي بعض مستحباتها.
لعلكم يا إخوان تلاحظون جيدا هذه العبارة، يعني هل ترون أن العبارة الآن منسبكة؟ "وإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة فهو لفسادها، أو نفى بعض ما يلزم فيها، ولا تنفى لنفي بعض مستحباتها" يعني هل قوله:" فلا تنفى لنفى بعض مستحباتها" يصلح تعليلا "لنفي بعض ما يلزم فيها؟
أنا يبدو لي أن العبارة فيها خلل، وأن الصواب فيها "وإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة فهو لفسادها، أو نفى بعض ما يلزم فيها" يعني فهو لفسادها "ولا تنفى لنفي بعض مستحباتها" يعني: إن إخلال المكلف بالمستحب ما يبطل العبادة، المستحب ما يبطل العبادة، لكن إذا أخل بما يلزم فيها، مثل الطهارة أو ستر العورة فما الحكم؟ تكون العبادة فاسدة. وعلى هذا فالذي يظهر أن العبارة "وإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة فهو لفسادها".
نفى عبادة مثل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه " لا صام من صام الأبد " "لا" هنا نافية أم ناهية ؟ نعم ، نافية ، وأيضا من الأمثلة " لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي " إذن الشرع نفى عبادة ماهى؟ صيام أيام التشريق، فالذي يصوم أيام التشريق صيامه فاسد.
طيب، إذا نفى الشارع عبادة أو معاملة مثل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " لا وصية لوارث " هذا منفي، إذن الوصية لوارث غير صحيحة؛ لأنه محكوم بفسادها، أو نفى بعض ما يلزم فيها، بعض ما يلزم فيها مثل: " لا صلاة إلا بطهور " بالنسبة للعبادات، وبالنسبة للمعاملات " لا نكاح إلا بولي " يعني هل نفى النكاح نهائيا، ولا لأنه اختل بعض ما يلزم؟ اختل بعض ما يلزم، الذي هو الولي.(1/140)
"ولا تنفى لنفي بعض مستحباتها" يعني: أن العمل إذا فعله المكلف كما أوجبه الله فإنه لا ينفى لانتفاء بعض المستحبات. لو أن المصلي مثلا ما رفع يديه، أو المصلي ما سبح إلا مرة واحدة مثلا، فهل نقول الآن: إن الصلاة منفية؟ نعم، لا نقول إن الصلاة منفية؛ لأن الإخلال بالمستحبات لا تنفى العبادة من أجله؛ ولهذا لما كان نفي أصل العبادة أو نفي بعض ما يلزم صادر من الشرع أضاف الكلام للشرع، ولما كان نفي المستحبات قد يكون من اجتهاد الفقهاء قال: ولا تنفى.
ما فهمتم التغاير في التعبير؟ أو مللتم اليوم ، أنتم من العصر -ما شاء الله- وأنتم تدرسون، زادكم الله علما، أنتم فهمتم كلامي الأخير هذا؟ ولا أي شيء؟ ... ما هو واضح؟
الآن المؤلف قال: "وإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة أو نفى بعض ما يلزم فيها" إذن أضاف نفي أصل العبادة أو نفي بعض ما يلزم فيها أضافه لمن؟ للشارع؛ لأنه ورد عن الشارع، مثل ما مثلت لكم: " لا صام من صام الأبد " صادر هذا النفى من الشارع: " لا وصية لوارث " من الشارع " لا صلاة إلا بطهور " من الشارع " لا نكاح إلا بولي " من الشارع.
لكن ما نذكر دليلا أن الشارع ذكر المستحبات، أو أنه قال: ما تنفى العبادة لنفي المستحبات، فالشيخ غاير في العبارة قال: "ولا تنفى" يعني: ما يجيء واحد من العلماء وينفي عبادة من أجل فوات بعض مستحباتها، هذا الذي يظهر لي من عبارة الشيخ.
نعم؟ .... الذي يبدو لي: فهو لفسادها، أو نفى بعض ما يلزم فيها، يعني الشارع، وحتى على كلامك المعنى صحيح؛ لأنه النتيجة واحدة، إما أن الشرع إذا نفى بعض ما يلزم فيها فسدت، أو يصير فهو لفسادها، ونفي بعض ما يلزم فيها، لكن الذي يظهر من عبارة الشيخ أن العبارة الأولى مستقلة برأسها، والعبارة الثانية مستقلة بنفسها، والعبارة الثالثة مستقلة.(1/141)
إذن تصير العبارات عندنا ثلاثة: نفى أصل العبادة أو أصل المعاملة، واللا نفى بعض ما يلزم، والصورة الثالثة: نفي العبادة من أجل انتفاء بعض المستحبات، وهذه ما تنفى.
تنعقد العقود وتنفسخ بكل ما دل على ذلك من قول أو فعل
القاعدة أو المسألة الخامسة عشرة والأخيرة: تنعقد العقود وتنفسخ بكل ما دل على ذلك من قول أو فعل.
يعني أن موضوع العقود عقدا وفسخا يرجع إلى ما تعارف عليه الناس من الأقوال والأفعال، وهذا يا إخوان هو المتعين، أن أمور العقود مرجعها إلى عبارات الناس واصطلاحاتهم، لماذا؟ لأمرين:
الأمر الأول: أن الشرع ذكر العقود وليس لها صيغة لا في اللغة ولا في الشرع، يرجع فيها إلى العرف.
الأمر الثاني: أن العقود ليست عبادات، وإن كانت عبادة هي، لكن قصدي ليست عبادات يتعبد الإنسان فيها بأقوال معينة، بل هي معاملات يرجع فيها إلى ما تعارف عليه الناس؛ ولهذا قال العلماء: إنها تنعقد عند كل قوم بما يفهمونه. الآن العالم فيه أعداد من اللغات، كل قوم تنعقد عقودهم وتنفسخ بما عليه لغتهم.
أنواع المسائل
ثم في الخاتمة استطرد المصنف -رحمه الله- إلى ذكر أنواع المسائل ، فقال:
المسائل قسمان: مجمع عليها ، فتحتاج إلى تصور وتصوير ، وإلى إقامة الدليل عليها ثم يحكم عليها بعد التصوير والاستدلال .
التصور: هو إدراك الشيء دون أن يحكم عليه بنفي ولا إثبات، هذا يسمى التصور فالإنسان إذا نزل به المسألة، أولا يتصورها في ذهنه، ثم يصورها في الواقع العملي، يعني: يذكر حدوده وقيوده.
يعني مثلا: النفقات من المسائل المجمع عليها ، النفقة على الزوجة، لكن نزل به حادثة، هو لا بد أن الحادثة هذه يتصورها أولا في ذهنه، ثم يصورها ، يذكر صفة الزوج وصفة الزوجة والقدرة -مثلا- المالية ، ثم بعد هذا يبحث عن الدليل ، فإذا وجد الدليل أصدر الحكم .
إذن المراحل ثلاث: تصور وتصوير، يعني: استحضار المسألة وتحديدها، الثاني: البحث عن الدليل، والأمر الثالث: الحكم.(1/142)
وقد يقول قائل: كيف يبحث عن الدليل وهي مسألة مجمع عليها؟! نقول: قد تكون مسألة مجمع عليها إجمالا، ولكن لها تفاريع تحتاج إلى دليل.
القسم الثاني القسم الذي فيه الخلاف: فهذا يحتاج إلى أربعة أمور: تصور وتصوير هذا واحد، وإقامة الدليل، وإجابة عن دليل المنازع، ثم الحكم، يعني: زاد أمر رابع؛ ولهذا تجدون المسألة الخلافية إذا جاء الواحد يرجح يبين وجه الترجيح، ويجيب عن أدلة الخصم ؛ لأنه ليش يجيب على أدلة الخصم؟ حتى يظهر قوة دليله فيستقم الترجيح.
وهذه وظيفة من؟ يقول: "هذا في حق المجتهد والمستدل، وأما المقلد فوظيفته السؤال لأهل العلم، والتقليد: قبولُ قول الغير من غير دليل" يعني أن التقليد معناه: أن العاميّ يأخذ بقول زيد وعمرو، ولو ما عرف الدليل يأتي لواحد من العلماء يقول: ما حكم كذا وكذا؟ يقول له: يجوز، يروح ويعمل، عرف الدليل ولا ما عرف الدليل؟ ما عرف الدليل، اللي يعرف الدليل هو المجتهد، واللي ما يعرف الدليل هو إيش؟ المقلد.
والشيخ -رحمه الله- خص التقليد بالقول قال إيش؟ قبول قول الغير ، وهو في هذا جرى على ما جرى عليه عدد من الأصوليين . لكن في تعريف أدق وهو أن يقال في التقليد: "اتباع من ليس قوله حجة" ، والاتباع يشمل الاتباع بالأقوال والاتباع بالأفعال. من هو اللي قوله ما هو حجة؟ ما عدا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو تقليد.
إذن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقليد ولّا اتباع للحجة؟ اتباع للحجة، فالقادر على الاستدلال عليه الاجتهاد والاستدلال، والعاجز عن ذلك عليه التقليد والسؤال، كما ذكر الله الأمرين. يقصد الشيخ بالأمرين أن القادر يجتهد وأن العاجز يسأل.
طيب أين هما في الآية؟ قال تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) } (1) "أهل الذكر" القادر على الاستدلال، "إن كنتم لا تعلمون" المقلد.
__________
(1) - سورة النحل آية : 43.(1/143)
يبقى نقطة نهائية: وهي موضوع ما حكم الانتساب لمذهب من المذاهب؟ الراجح من أقوال أهل العلم أنه لا بأس أن الإنسان يستند أو يتمذهب بمذهب معين، لكن هذا له ضوابط وشروط أشار إليها العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله-:
الأمر الأول: أن لا يكون المعول في كل شيء على المذهب، بل يجب على الإنسان أن يقبل الحق من أي شخص كان، وأن يدور مع الدليل حيثما دار، فإن كان حنبليا وترجح له قول في المذهب الشافعي أخذ به.
الثاني: ألا يقترن بالمذهبية التعصب للمذهب.
الثالث: ألا ينتصر لمذهبه بأحاديث ضعيفة ، وتكون الأدلة الصحيحة بالمذهب المقابل.
الأمر الرابع: أن لا يكون الإنسان قادرا على استنباط الحكم بنفسه. والله أعلم.(1/144)