دورة القواعد الفقهية
( الدرس الأول )
إعداد:
الشيخ د.عبد السلام بن إبراهيم الحصين حفظه الله
بدأ فضيلة الشيخ هذا الشرح يوم الأحد بتاريخ:
2/4 /1427هـ, الموافق: 30/ 4 /2006 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الخلق لعبادته، وأنزل عليهم كتبا فيها شرائع، وأرسل إليهم رسلا يبينون لهم ما أنزل الله تبارك وتعالى لهم, والصلاة والسلام على من بعثه الله هاديًا وبشيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وصراطًا مستقيمًا، وبعد:
فإن أعظم الكتب التي أُنزلت هذا القرآن، الذي جعله الله تبارك وتعالى حاكما على الكتب ومهيمنا عليها ومصدقا لما بين يديه من الكتب, ومقصود إنزال هذا الكتاب هو (عبادة) الله تبارك وتعالى وحده, وأن نعبده على المنهاج والطريقة التي يريدها الله تبارك وتعالى, وإذا كان الأمر كذلك فإن المقصود إذًا هو معرفة الحكم الشرعي والعمل به, وقد أنعم الله على هذه الأمة بأن حفظ الله لها دينها, ومن أنواع هذا الحفظ تعدد الطرق والوسائل التي يعرف بها الحكم الشرعي ويضبط، ولذلك تنوعت العلوم الشرعية وتعددت, ولكن هدفها واحد؛ وهو الوصول إلى الحكم الذي يريده الله تبارك وتعالى منا.
فمن وسائل معرفة الحكم الفقه وهو: (معرفة) الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية, وفيه تنثر الفروع الفقهية بأدلتها التفصيلة.
ومن وسائل معرفة الحكم الشرعي وضبطه أصول الفقه الذي يراد به معرفة الطرق الإجمالية التي يتوصل بها إلى معرفة الحكم الشرعي.
ومن وسائل ضبط الحكم الشرعي والتعرف عليه أيضا: القواعد الفقهية, فالقاعدة الفقهية جزء لا يتجزأ من منظومة الأحكام الشرعية.
وفي هذه الدورس سنتعرف على القواعد الكلية الخمس الكبرى، ولكن سنبدأ أولا بمقدمة تشتمل على أربعة عناصر:
العنصر الأول: تعربف القاعدة الفقهية.
العنصر الثاني: أهمية القواعد الفقهية.
العنصر الثالث: دليلية القواعد الفقهية.(1/1)
العنصر الرابع: نذكر تطبيقا على القاعدة الفقهية لنعرف كيفية الاستفادة منها.
ثم سنشرع في شرح القواعد الفقهية الخمس الكبرى وما يتفرع عنها من القواعد.
أولا: تعريف القاعدة الفقهية.
أما القاعدة الفقهية من حيث اللغة فهي: أساس الشيء؛ ولذلك سميت قواعد البيت بذلك لأنها أساسه، وعليها يبنى البيت.
وهذه القاعدة منسوبة للفقه أي أنها يبنى عليها حكم فقهي، أو هي حكم فقهي كلي.
وأما في الاصطلاح: فإن القاعدة عند أهل العلوم كلها هي القضية الكلية، أو الأمر الكلي الذي ينطبق على جزئيات.
وما من علم إلا وفيه قواعد هي كالأساس له وتبنى على هذه القواعد الفروع المتشعبة من هذا العلم.
وبناء على ذلك إذا أردنا أن نعرف القاعدة الفقهية نستطيع أن نقول:
هي حكم كلي فقهي.
أو: قضية كلية فقهية.
أو: حكم عام.
فقولنا: حكم, الحكم هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.
وأما في الاصطلاح: فهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو وضعا.
ووصف القاعدة بأنها حكم معناه أن فيها إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، فما من قاعدة إلا فيها إثبات شيء لشيء أو نفيه عنه.
وقولنا: كلي يخرج الجزئي, و الكلي هو ما يشمل أنوعا كثيرة، وأما الجزئي فهو الذي لا يتناول إلا شخصا معينا أو نوعا معينا.
وأما قولنا: فقهي، فهو وصف لهذا الحكم؛ لأنه متعلق بعلم الفقه.
ومن خلال هذا التعريف نفهم أن القاعدة الفقهية يراد بها وضع تصور كلي لمسألة معينة, وهذا كافٍ في معرفة القاعدة الفقهية؛ لأن من يستمع لهذا التعريف يستطيع أن يتعرف على القاعدة الفقهية، ويعرف مرادنا بها.
ثانيًا: أهمية القواعد الفقهية.
لعلي أشير باختصار إلى ثلاث فوائد هي كالأمور الكلية لأهمية القواعد الفقهية:(1/2)
1- ضبط المسائل الفقهية واستحضارها في الذهن؛ وذلك أن القاعدة تعطي تصورًا مجملا كليا للفروع المندرجة تحتها فإذا فهمت القاعدة وأتقنتها حصل لك تصور كلي للفروع التي يمكن أن تندرج تحتها, وضبط الفروع الفقهية متعذر لكن ضبط هذه القواعد ممكن؛ لأنها ألفاظ مختصرة وتشمل معاني كلية، ولكن هذا لا يعني أننا إذا عرفنا هذه القاعدة استغنينا بذلك عن دراسة الفروع الفقهية, فبعض الناس يظن أنه إذا أتقن القواعد الفقهية فليس بحاجة إلى دراسة الفقه، وهذا ليس بصحيح؛ لأن القاعدة تحتاج لكي تثبت في الذهن و تتسع دائرة معرفتك بها أن يكون عندك عدد من الفروع الفقهية, وكلما استكثرت من الفروع الفقهية كلما ازداد فقهك بالقاعدة ومعرفتك بصور تطبيقها فأنت كلما تصورت النظائر والفروع قويت معرفتك بالقاعدة الفقهية التي تندرج تحتها هذه الفروع, وتتفرع (عن) هذه الفائدة فائدة أخرى وهي أن الفروع الفقهية المتناثرة تجتمع عندك بطريقة أخرى, فنحن نعرف أن الفقه مقسم على أبواب؛ كالطهارة ثم الصلاة ثم الصيام إلخ, فحينما تضبط القواعد الفقهية تعود مرة أخرى لتنظّم ترتيب الفروع الفقهية بناء على هذه القاعدة؛ فأنت إذا عرفت قاعدة العادة محكّمة؛ فإن هذه القاعدة تكون في ذهنك مثل الباب المتعلق بالعوائد -يعني بالعادات- فيندرج تحتها فروع في الطهارة وفروع في الصلاة وفروع في الصيام وفروع في المعاملات المالية وفروع في القضاء, فالفروع الفقهية المتناثرة بين أبواب فقهية متعددة تتبلور في ذهنك وتجتمع في صورة قاعدة كلية، وهذا لا شك يعين على ضبط الفروع الفقهية، ويعين على الفائدة الثانية وهي:(1/3)
2- التعرف على مقاصد الشريعة وعلل الأحكام ومآخذها, فالقاعدة في الغالب تشتمل على معنى كلي، وتشتمل على علة، وتشتمل على مقصد من مقاصد الشريعة، هذا في الغالب ولا يلزم من ذلك أن تكون القاعدة كذلك, ومن أمثلة ذلك: المشقة تجلب التيسر, وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة سد الذرائع، أو قاعدة الوسائل أحكام المقاصد, وإذا فهم الإنسان مقاصد الشارع وحِكَمه ومآخذه حصلت له ملكة فقهية جيدة.
3- القدرة على استنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة مآخذ الفقهاء في إصدارهم للأحكام، وهذا لا يتيسر إلا بفهم القاعدة فهمًا صحيحًا، ومعرفة حدودها وضوابطها وشروطها، ثم بعد ذلك تنزيلها على الواقع الذي تريد أن تحكم فيه, وسأعود مرة أخرى في الفقرة الرابعة لأضرب مثالًا على هذه القضية.
ثالثًا: دليلية القواعد الفقهية.
معنى قولنا دليلية القواعد الفقهية: أي أن القاعدة الفقهية هل تصلح أن تكون دليلا نستند إليها في إصدار الأحكام ؟
مما يذكره بعض المؤلفين في القواعد الفقهية أنها لا تصلح أن تكون دليلا للفروع الفقهية, فلا بد أن نبين أن هذه الكلمة ليست صوابا بإطلاق، كما أن قولهم القاعدة الفقهية دليل شرعي أيضا ليست صوابا بإطلاق، وهذا يتبين بما يلي:
أولا: القاعدة الفقهية تنقسم من حيث الاتفاق والاختلاف إلى قسمين :
القسم الأول قواعد متفق عليها, فهذه حجة وتستند في حجيتها إلى الإجماع.
القسم الثاني قواعد مختلف فيها, فهذه ينظر إليها من حيث دليلها الذي ثبتت به .
ثانيا: القاعدة الفقهية تنقسم من حيث صياغتها إلى قسمين:
القسم الأول: ما تكون صياغتها نصا شرعيا؛ أي أنها مصوغة بنص شرعي، وذلك مثل:
لا ضرر ولا ضرار, الخراج بالضمان، وغيرهما من القواعد، فهذه حجة؛ لأنها هي لفظ الشارع نفسه، ولفظ الشارع حجة.(1/4)
القسم الثاني: ما كانت مصوغة بألفاظ الفقهاء، مثل المشقة تجلب التيسير، ومثل العادة محكمة، ومثل من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه, والوسائل لها أحكام المقاصد, وأغلب القواعد الفقهية من هذا النوع, فهذا النوع ننظر إلى مستنده ما هو, فإذا كان مستنده نصًا صحيحًا كانت القاعدة الفقهية دليلا ومستندا يستند إليه في إصدار الأحكام, وأما إذا كانت هذه القاعدة مذهبية يراد بها فقط ضبط فروع المذهب؛ فإنها لا تصلح أن تكون دليلا ومستندا يعتمد عليه، ولكنها تصلح لأهل المذهب ولمن يريد أن يعرف أحكام هذا المذهب فتنضبط عنده الفروع الفقهية لهذا المذهب, وأما إذا أراد أن يستدل بها فلا بد أن يتحقق من مستندها، ولذلك نحن قلنا في تعريف القاعدة: بأنها حكم كلي، والحكم يحتاج إلى دليل لكي يثبت, وأضرب مثالا على ذلك بقاعدة:
[ما قارب الشيء أخذ حكمه] هذه قاعدة فقهية, هي محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن الشيء إذا قارب شيئا ما يأخذ حكمه، ومنهم من لا يرى ذلك, مثال ذلك: إذا لبس المصلي ثوبا يستر عورته وهو واقف، ولكنه إذا ركع ظهرت العورة، فهل تنعقد الصلاة بهذا الثوب؟ ثم إذا ركع بطلت أو لا تنعقد من الأصل؟
فإذا قلنا: ما قارب الشيء أخذ حكمه، قلنا: لا تنعقد الصلاة؛ لأن الركوع مقارب للوقوف، ومن حين ركوعه ستبطل صلاته.
وإذا قلنا: أن ما قارب الشيء لا يأخذ حكمه، وإنما يكون له حكم نفسه، فإن صلاته واقفًا تكون صحيحة، فإذا ركع بطلت صلاته.
فهذه القاعدة لا تصلح أن تكون مستندا لاستنباط الأحكام إلا إذا صحت عندك وثبتت.
ولكن إذا قلنا أنها لا تصلح أن تكون مستندا لاستنباط الأحكام فلا يعني أنها تلتغي فائدتها، بل تكون فيها فائدة من جهة ضبط الفروع ومعرفة مآخذ الفقهاء.(1/5)
ومن ذلك مثلا قاعدة [درء المفاسد أولى من جلب المصالح] فإن هذه القاعدة محل نزاع بين أهل العلم, ومن يرى صحتها يبني عليها عددا من الفروع, ومن لا يرى صحتها ويرى تقديم المصلحة على المفسدة يبني أيضا على ذلك عددًا من الفروع.
والشاهد من ذلك: أنك إذا أردت أن تستدل بها فلا بد أن تكون ثابتة بدليل صحيح.
ولهذا نجد من أهل العلم من يرد بعض القواعد ويناقشها ويبطلها مع أنها قاعدة من قواعد مذهب من المذاهب.
وفائدة هذا: أن لا يكون همك هو الاستكثار من معرفة القواعد، بقدر ما يكون همك أيضا معرفة دليل هذه القاعدة, ولا شك أن معرفة هذه القواعد سواء أصحت من حيث الدليل أم لم تصح مفيد، لكن ينبغي أن نقسم عملنا ونرتبه, فنضبط أولا القواعد التي صح دليلها حتى تكون سندا لنا في إصدار الأحكام, ثم بعد ذلك يكون هناك مرتبة أخرى في معرفة القواعد الأخرى التي هي محل نزاع بين أهل العلم، وقد يصح فيها الدليل وقد لا يصح؛ لكي تضبط لنا الفروع الفقهية ونعرف مآخذ الفقهاء فيما يذهبون إليه من الأقوال.
رابعًا: التطبيق على القاعدة الفقهية .
كيف نطبق على القاعدة الفقهية؟
نحن قلنا في فوائد القواعد الفقهية: استخراج أحكام لوقائع حادثة, كيف يمكن أن أتعرف على حكم الواقعة الحادثة بناء على القواعد الفقهية التي استقرت في ذهني؟
تحتاج إلى ثلاث خطوات مهمة:
الخطوة الأولى: فهم القاعدة الفقهية فهمًا صحيحًا بشروطها وضوابطها, وهذا لا يتيسر إلا بالاستكثار من الفروع الفقهية، يعني تكون دائم القراءة في كتب الفقهاء، ودائم التطبيق للقواعد؛ لكي تعرف كيف يطبقون القاعدة، وكيف يلاحظون شروطها، وما هي الاستثناءات، وما هي أسباب هذه الاستثناءات، حتى لا تخطئ في إدخال الفرع الفقهي تحت هذه القاعدة.
فإذا حصل لك الفهم الكلي الصحيح والتصور المنضبط بشروط القاعدة، تأتي إلى الواقعة -وهذه هي الخطوة الثانية- وتتعرف عليها تعرفا يزيل عنك الجهل بحقيقتها.(1/6)
ثم بعد ذلك تكون الخطوة الثالثة، وهو أن تنزل الفرع على القاعدة، وتبين انطباق القاعدة على الواقعة.
مثال ذلك: قاعدة [يدخل تبعا ما لا يدخل استقلالا] أو [يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا]
أولا: تتصور القاعدة تصورًا صحيحًا؛ بأن تعرف ما هو الشيء التابع الذي يمكن أن يدخل ويتحول من الحرمة إلى الحل؟ وما شروط ذلك؟ وما هي الفروع التي حكم الفقهاء عليها بأحكام شرعية بناء على هذه القاعدة؟ وهذا ما نسميه بالتصور الكلي للقاعدة.
ثم بعد ذلك نأتي إلى فرع حادث نريد أن نعرف هل يمكن أن نصدر عليه حكم القاعدة أو لا, وهو المساهمة في شركات مختلطة.
إذا تأملنا في فتاوى المعاصرين نجد أنهم انقسموا فريقين :
الفريق الأول: من يرى جواز المساهمة في هذه الشركات التي يوجد فيها معاملات محرمة، لكن أصل تعاملها هو الحل، ويستندون في ذلك إلى هذه القاعدة، ماذا يقولون؟
يقولون: المساهم إنما يشتري نصيبا في شركة تتعامل بالحلال, والحرام الموجود فيها هو تابع وجد للحاجة، ولا يمكن بالنسبة للمساهم أن يفصله عن الحلال؛ لأنه لو استطاع أن يفصله لَحرُم، ولكنه دخل تبعًا، وهو غير مقصود بأصل المعاملة.
ومن يرى التحريم يقول: المعاملات المحرمة في هذه الشركات هي في الحقيقة منفصلة وقائمة بذاتها، تجريها الشركة بعقود مستقلة، فمثلا: هذه الشركة تودع في بنوك ربوية، وتتقاضى على ذلك فوائد, وهذا ربا مستقل ليس داخلا تبعا, كما أنها تجري الصفقات على منافع محرمة استقلالا وتجني من ذلك أرباحا، والمساهم حينما يدخل في هذه الشركة فهو مقر بجميع معاملاتها؛ لأنه إذا اشترى السهم فقد وافق على شروط الشركة ووافق ضمنيا على عقودها, فكأنه يعقد هذا العقد المحرم, فلا يمكن أن يكون السهم في الشركة المختلطة يدخل تحت قاعدة: يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا؛ لأنه ليس تابعًا، بل هو منفصل.(1/7)
وإذا تأملت حجة الفريقين ستجد أن الأول وهو من يرى الحل ينظر إلى السهم وكأنه قطعة واحدة مشتمل على حلال كثير وحرام قليل لا يمكن فصله، والمساهم لا يستطيع أن يفصل السهم ويجزئه, ولا أن يتدخل في معاملات الشركة بهذا السهم الوحيد, وبناء على ذلك حكموا بالحل .
فالأسهم المختلطة عنده تدخل تحت هذه القاعدة من جهة أن السهم الواحد لا يمكن فصل التعامل بين حلاله وحرامه، والمعاملات المحرمة فيه هي تابعة وليست مستقلة, فهو لاحظ أن الأصل في تعامل الشركة هو الحل، وأن المعاملات المحرمة تابعة ليست أصلية، وبنى على ذلك جواز المساهمة.
والذي يرى التحريم يلاحظ أن هذه المعاملات هي في ذاتها منفصلة، ويرى أن قاعدة يدخل تبعا ما لا يدخل استقلالا إنما تكون في عقد واحد يدخل به شيء محرم، لكنه يسير تابع وليس هو المقصود بالعقد, بينما الذي تجريه هذه الشركات هو في الحقيقة منفصل، فهي تودع بربا، وهذه معاملة منفصلة, وتقترض بربا، وهذه معاملة منفصلة، وقد تقوم بإيجار مواقع لأناس لا يراعون الحلال أبدا، وهذه معاملات منفصلة, فليس هناك شيء تابع، إنما هي عقود مستقلة، والمساهم في الحقيقة يدخل وهو موافق على هذه العقود.
ويقولون: نحن لا ننكر أن السهم مختلط، وأن فيه حلالا حرامًا, لكن ننكر إدخال هذه المعاملة تحت هذه القاعدة، وإنما ندخلها تحت قاعدة [إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام] لأنك الآن تدخل في معاملات محرمة مستقلة, صحيح أنها قد تكون قليلة لكنها حرام وقلتها لا تعني حلها.
هذا فقط مجرد ضرب مثال على كيفية إدخال الفروع أو الوقائع تحت القواعد.
وإذا أردنا مثالا آخر، وإن كان قد وقع فيه إشكال أيضا، ولكن تتابع فقهاء العصر عليه، وهو الطواف بين الصفا والمروة في الدور الثاني, فإننا نعلم أن الأصل هو أن يطوف الإنسان على الأرض، ويصعد على الصفا ويصعد على المروة، لكن في الدور الثاني فإنه سيكون أعلى من الصفا والمروة, فهل يجوز أو لا يحوز ؟(1/8)
جمهور المعاصرين يرون الجواز، وبنوا على ذلك جواز وضع الدور الثاني والثالث كذلك, بناء على [قاعدة المشقة تجلب التيسير]، وأن فضاء الشيء تابع له، فهذا الفضاء الذي فوق الصفا والمروة تابع للصفا والمروة.(1/9)
القاعدة الكلية الكبرى: لا ضرر ولا ضرار.
وسنتناول هذه القاعدة من خلال العناصر التالية:
أولا: ألفاظ القاعدة.
ثانيا: معنى القاعدة.
ثالثا:شرط القاعدة.
رابعا: أنواع الضرر.
خامسا: أهمية هذه القاعدة .
سادسا: أدلة القاعدة.
سابعا: بعض الأبواب الفقهية المبنية على هذه القاعدة .
ثامنا: بعض الفروع الفقهية المبنية على هذه القاعدة
ثم بعد ذلك سندرس مجموعة من القواعد التي تندرج تحت هذه القاعدة.
أولا: ألفاظ القاعدة.
هذه القاعدة هي كلمتان وحرفان, أما الحرفان فهما لا، وقد كرر مرتين، وأما الكلمتان فهما الضرر، وضرار.
أما لا فهي نافية للجنس، وهي تعمل عمل إن واسمها ضرر، وأما خبرها فمحذوف تقديره موجود أو مفعول، والمعنى لا ضرر موجود.
وأما الضرر؛ فهو ضد النفع، وهو وجود الأذى أو المفسدة.
ونلاحظ أن القاعدة نفت أمرين نفت الضرر وهو المصدر ونفت الضرار، وضرار على وزن فعال كقتال, ومعناه مقابلة الضرر بالضرر بحيث يلحق مفسدة بالغير على وجه المقابلة, وفائدة نفي الضرار ونفي الضرر: إعطاء معنى أوسع للقاعدة، بحيث يكون النهي شاملا للضرر ابتداء، وللضرر على وجه المقابلة في بعض صوره، كما سيأتي في معنى القاعدة وشروطها.
وربما يعبر الفقهاء عن هذه القاعدة بقولهم: الضرر يزال, لكن التعبير بقولنا لا ضرر ولا ضرار أولى؛ لأن هذا لفظ الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.(1/1)
وهذا الاختيار ينبهنا إلى قضية، وهي أن بعض الفقهاء يختارون التعبير في بعض الأحيان بلفظ آخر يختلف عن اللفظ النبوي، كما في قاعدة [الأعمال بالنيات] عبروا عنها بقولهم [الأمور بمقاصدها]، وسنبين إن شاء الله في درس الأعمال بالنيات لماذا عدلوا عن لفظ الحديث إلى قولهم الأمور بمقاصدها, أما هنا فلم أجد مَنَّ نص على سبب العدول عن هذا اللفظ إلى قولهم الضرر يزال، وقد يكون السبب هو أن لفظ الحديث يشعر بعدم وجود الضرر أصلا، وهو موجود، فكأنهم عدلوا عن ذلك لكي يكون التعبير بلفظ أدل على المراد، والله أعلم.
ثانيًا: معنى القاعدة.
بناء على هذا الشرح لألفاظ القاعدة يتبين لنا أن القاعدة تفيد:
منع إلحاق الضرر بالآخرين, سواء أن كان ذلك ابتداء وهو ما تفيده كلمة لا ضرر، أو على جهة المقابلة وهو ما تفيده كلمة ولا ضرار, وعلى هذا جاءت الشريعة بمراعاة مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، فلا تكلفهم ما فيه ضرر عليهم, وحرمت عليهم أن يضروا أنفسهم بقول أو فعل أو سبب بغير حق.
والمتأمل في لفظ القاعدة يرى أنها صيغت بالنفي، ومعلوم أن الضرر موجود, فهل هذا النفي يراد به حقيقته؟ أو يراد به معنى آخر؟
هذا النفي يراد به النهي؛ مثل قول الله سبحانه وتعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، فهو نفي يراد به النهي.
وفائدة التعبير بالنفي وإرادة النهي المبالغة في دفع الضرر، وإعدامه.
ثالثًا: شرط القاعدة.
ظاهر القاعدة يقتضي نفي الضرر مطلقا، وهذا صحيح، لكن لا بد أن نعرف شرط القاعدة، وهو أن الضرر المنفي والمحرم هو ما كان بغير حق, أما إذا كان ضررًا بحق فإنه لا يكون محرمًا, وذلك كالعقوبات الشرعية ونحو ذلك.
رابعًا: أنواع الضرر.
هذه الفقرة ذكرتها تفصيلا لما سبق, وهو أن شرط القاعدة أن يكون الضرر بغير حق، إذًا نفهم من ذلك أن هناك ضررًا بحق, فكأن سائلا يقول ما هي أنواع الضرر؟
فنقول: إن الضرر الواقع على الآخرين يتنوع إلى ثلاثة أنواع:(1/2)
النوع الأول: أن يقع الضرر بلا غرض صحيح ولا فائدة، بل يكون المقصود منه الإضرار المحض، دون أن يكون هناك نفع على من أوقع هذا الضرر, أو أن يكون له غرض فاسد لا يجوز فعله، وهذا النوع محرم مطلقًا، ولا يجوز في حال من الأحوال, ومن أمثلته: مضارة الزوج لزوجته، بحيث يمسكها بلا رغبة فيها، بل بقصد الإضرار بها، فيجعلها معلقة لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة.
ومن أمثلته: أن يقصد الموصي بوصيته الإضرار بالورثة، وإنقاص نصيبهم من الإرث.
النوع الثاني: أن يكون للفاعل غرض صحيح من فعله، لكن يترتب عليه وقوع ضرر على الآخرين, مثال ذلك: من أراد أن يحدث في بيته بنيانا، أو أن يفتح نافذة، أو أن يفتح بابًا على الطريق، إلا أنه يترتب على فعله هذا ضرر بمن حوله, فالأصل في هذه الحالة أيضا المنع؛ منع الضرر قبل إيقاعه، ورفعه بعد وقوعه، لكن في بعض الحالات يكون في المنع إحداث ضرر أكبر، فتتعارض المصالح والمفاسد، أو تتعارض المفاسد مع بعضها، فنحتاج إلى الموازنة بينها، ولهذا قاعدة خاصة سيرِد الحديث عنها إن شاء الله في حينه.(1/3)
النوع الثالث: هو ما يكون إيقاعه بقصد العقوبة لمن فعل شيئًا مما يجب فيه حد أو تعزير, كمن ضرب شخصًا فآذاه، فإنه يحق للمضروب أن ينتصر لنفسه، أو من أوقع جناية على أخيه فأذهب نفسه، أو أذهب طرفًا، أو جرح جرحًا، فإنه يُشرع لولي الدم القصاص، وللمجني عليه في طرف أو جرح أن يقتص لنفسه, فيوقِعُ ضررًا على من جنى عليه، لكن هذا الضرر في مقابلة ضرر أوقعه عليه ابتداء الجاني، وكذلك من سرق شيئًا أقيم عليه حد القطع، ومن زنا وهو محصن أقيم عليه حد الرجم, وهذه الأمور تسمى عقوبات وحدودًا، وفيها انتصار للمظلوم، وردع للجاني عن فعله, كما قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} المائدة 38، وكما قال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} الشورى 41, وقال تعالى: {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها} الشورى 40, وليس المقصود بهذا النوع الإضرار ابتداء، وإنما وقع فيه الإضرار مقابلة، فسمي إضرارًا إما حقيقة؛ لأن من يقام عليه الحد سيتضرر، وإما مجازًا؛ مقابلة له بفعله الذي فعله، كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها...} الشورى 40.
وفي هذا من الحكمة شيء عظيم للجاني نفسه، وللمجني عليه، وللمجتمع, أما الجاني فإن إقامة الحد في حقه رحمة به، وتطهير له مما وقع فيه، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت.
وأما المجني عليه فإنه يَشفِي نفسه مما حصل له، ومعلوم أن النفس إذا لم تستشف فإنها قد تفعل أعظم مما فعل بها.
وأما المجتمع فإن في إقامة الحدود حفظًا لهم من ظهور أسباب الفساد فيه, ولهذا ختم الله تبارك وتعالى آية السرقة بقوله: {..والله عزيز حكيم} فذكر اسمين عظيمين، وهما العزيز الذي لا يغلبه أحد, والحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها.
النقطة الخامسة: أهمية القاعدة.(1/4)
هذه القاعدة [الضرر يزال] أو [لا ضرر ولا ضرار] إحدى القواعد الكلية الكبرى التي عليها مدار الفقه، وتشتمل على فروع فقهية لا حصر لها، حتى قال بعض أهل العلم إنها تتضمن نصف الفقه؛ وسبب ذلك أن الأحكام شرعت لجلب المنافع ودفع المضار, وهذه القاعدة يدخل فيها دفع المفاسد عن الضروريات الخمس التي هي: الدين, النسب, النفس، المال، العقل؛ ولذلك كانت تتضمن نصف الفقه، ومن أهميتها بني عليها أبواب فقهية كاملة، واندرج تحتها قواعد كلية عظيمة، كما سيأتي في القواعد المندرجة تحت هذه القاعدة إن شاء الله, ولأجل هذه الأهمية اعتبرها الفقهاء إحدى القواعد الكلية الخمس التي عليها مدار الفقه.
النقطة السادسة: أدلة القاعدة.
هذه القاعدة لفظ حديث نبوي شريف رواه عدد من الصحابة, منهم أبو سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت، وعائشة، وأبو هريرة، وثعلبة بن أبي مالك، وغيرهم, وقد أخرجه أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه، والدار قطني في سننه، وابن جرير في تهذيب الآثار، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك، وغيرهم, لكن جميع طرقه لا تخلو من مقال، ومع أن أهل العلم اتفقوا على صحة معناه إلا أنهم اختلفوا في صحة إسناده, فضعفه ابن عبد البر وابن حزم مع تصريحهم بصحة معناه, وصححه الحاكم والذهبي وحسنه النووي في أربعينه وابن رجب في جامع العلوم والحكم، وممن صححه من المعاصرين أحمد شاكر في تحقيقه للمسند، والألباني في إرواء الغليل والسلسلة الصحيحة.
ويشهد لصحة هذا الحديث دلائل كثيرة من الكتاب والسنة والقياس الصحيح, فمن ذلك:(1/5)
1- قول الله تبارك وتعالى {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه... } البقرة 231, وسبب نزول هذه الآية هو أن بعض الأزواج كان يطلق امرأته حتى إذا قاربت عدتها على الانتهاء راجعها، لا رغبة فيها، ولكن ليطول عليها العدة ويمنعها من الزواج, فيذرها معلقة لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة؛ فنهى الله تبارك وتعالى الرجال عن مراجعة نسائهم بقصد الإضرار، وأن هذا الفعل استهزاء بآيات الله تبارك و تعالى.
2- قول الله جل وعلا: {...لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده..} البقرة 233, فهذه الآية تنص على منع الضرر بالوالدة -وهي الأم- بسبب ولدها, وصور الضرر بها كثيرة؛ إما بمنعها منه -يعني من ولدها-، أو بمنع أجرة الرضاع عنها بقصد التضييق عليها، كما أن في الآية أيضا منعًا من الإضرار بالمولود له -وهو الأب- بسبب ولده, كأن تمتنع أمه عن رضاع الولد بقصد إحراج الأب وإضراره، فالآية تشتمل على منع الضرر من الطرفين.
3- قول الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر قسمة الميراث: {.. من بعد وصية يوصَى بها أو دين غير مضار.. } النساء 12, فنهى الله تبارك وتعالى عباده الذين حضرهم الموت أن يكون قصدهم بالوصية إضرار الورثة وإدخال النقص عليهم، وأن الواجب أن يقصدوا بالوصية وجه الله تبارك وتعالى.(1/6)
4- عن سمُرة بن جندُب أو جندَب أو جندِب؛ -لأن الدال مثلثة- أنه كان له عَضُدٌ من نخل -العضد: القطعة من النخل، نخلتان أو ثلاث أو أربع تكون في سطر واحد- في حائط رجل من الأنصار -أي في بستان رجل من الأنصار-، وكان الأنصاري معه أهله في حائطه, فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الأنصاري ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه نخله فأبى سمرة, وطلب إليه أن يناقله فأبى, فأتى الأنصاري النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له؛ فطلب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سمرة أن يبيعه فأبى، وطلب إليه أن يناقله فأبى, فقال له: ((هَبْهُ له ولك كذا وكذا)) أمرًا رغبه فيه، فأبى أيضا, فقال عليه الصلاة والسلام: ((أنت مضار))، ثم قال للأنصاري: ((اذهب فاقلع نخله)). رواه أبو داوود وسكت عنه، وحسن إسناده ابن كثير، والحديث فيه مقال.
قال الخطابي رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه أنه أمر بإزالة الضرر وإن لحق المضار فيه نقص.
5- توافرت النصوص وتكاثرت في الدلالة على بناء الشريعة على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها, وهذه الدلائل من الكثرة بحيث يضيق الوقت عن ذكرها, لكن المتأمل في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته سيجد ذلك واضحا جليا, ولا شك أن في نفي الضرر ومنع إحداثه ورفعه بعد وقوعه تحقيقًا لمصالح الخلق، ودفعًا للمفاسد عنهم.
سابعًا: من الأبواب الفقهية المبنية على قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
ذكرنا في أهمية هذه القاعدة أن بعض الأبواب بنيت عليها, ونذكر هنا بعض الأبواب التي تبنى مسائلها على قاعدة [لا ضرر ولا ضرار] فمن ذلك:
أبواب الخيار, الخيار في المعاملات المالية، كخيار العيب، وخيار اختلاف الوصف المشروط، وخيار التغرير، والإفلاس، ونحو ذلك من أنواع الخيار, كلها مبنية على قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
ومن الأبواب أيضا: باب الحجر, فهو إنما شرع للمحافظة على مال الشخص الذي لا يقدر على التصرف السليم فيه؛ لمنع الضرر عن ماله.(1/7)
ومن الأبواب: باب الشُّفعة, والشفعة هي أن يأخذ الشريك نصيب شريكه بالثمن الذي باعه به، وإنما شرعت لدفع ضرر القسمة عن الشريك الآخر، ودفع ضرر جار السوء.
ومن الأبواب المبنية على هذه القاعدة أيضا: أبواب القصاص، سواء ما كان منها في النفس, أو ما كان في الطرف، أو ما كان في الشجاج وكسر العظام؛ فإن ذلك إنما شرع لدفع لضرر عن أولياء القتيل، ولدفع الضرر عن المجني عليه، ولحفظ المجتمع من الفساد الأخلاقي، و من انتشار القتل والجراحات فيه, فإن الجاني إذا علم أنه إذا قطع يد شخص لم تقطع يده تجرأ على هذا الفعل, ولكن إذا علم أن جزاء قطع اليد أن تقطع يده انتهى, ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {ولكم في القصاص حياة...} البقرة 179, وكانت العرب تقول: القتل أنفى للقتل, فجاء القرآن بعبارة أقصر وأبلغ.
ومن الأبواب أيضا: أبواب الحدود, فإنها -أي الحدود- إنما شرعت لدفع الضرر عن المجتمع وحفظهم من الفساد الأخلاقي والديني والمالي.
ومن الأبواب التي بنيت على هذه القاعدة أيضا: أبواب الطلاق, فسخ النكاح بالعيوب؛ لأن المقصود بذلك إزالة الضرر عن الزوجين, فإن الحياة قد تتوقف بين الزوجين فلا سبيل لهما إلا أن ينفصلا إما بطلاق أو خلع أو فسخ.
هذه بعض الأبواب ذكرناها لنبين أن هذه القاعدة ليس يتفرع عنها فروع فقهية فقط بل إن أبوابًا كاملة في الفقه تبنى عليها.
ثامنًا: بعض الأمثلة على هذه القاعدة
من الأمثلة على هذه القاعدة:(1/8)
1- إذا استأجر رجل أرضا ليزرع فيها قمحا, فانتهت مدة الإجارة قبل أن يستحصد زرعه, وأبى المؤجر أن يجدد العقد، وطلب إخراج المستأجر، فإننا لا نمكن المؤجر من إخراج المستأجر من الأرض, ونحكم ببقاء المستأجر بأجرة المثل إلى أن ينتهي من الحصاد؛ لأن في قلع الزرع وإخراج المستأجر من الأرض ضررًا عظيمًا على المستأجر بلا منفعة موازية أو راجحة تعود على المؤجر, فإن المؤجر حُفِظ حقه بالأجرة، والمستأجر حفظنا حقه بتمديد مدة الإجارة إلى أن يستحصد زرعه، ثم بعد ذلك يخرج.
2- لا يجوز شراء سلعة يحتاجها الناس لحبسها ورفع سعرها، ويُلزم من فعل ذلك بأن يبيع بثمن المثل؛ لما يترتب على حبس السلعة التي يحتاجها الناس من الضرر بهم, وهذا للأسف يحدث كثيرا من التجار, وإذا تأملنا ما يحدث في سوق الأسهم فإننا سنجد عبثا بأموال الناس وحقوقهم, وضعفًا ممن لهم الولاية في ضبط الأسواق المالية, والواجب عليهم أن يتدخلوا لمنع وقوع الضرر، وأن يتدخلوا لرفع الضرر بعد وقوعه.
3- الرجل إذا طلق امرأته ثم أراد أن يراجعها لا بقصد المعاشرة بالمعروف بل لكي يضُرها, فللحاكم أو القاضي أن يمنعه من المراجعة؛ لأن الله تبارك وتعالى علق جواز المراجعة على قصد الإصلاح وعدم إرادة الإضرار.
4- عدم جواز جعلِ أشياءَ مضرةٍ في طريق المسلمين أو في أسواقهم, كأن يبني الإنسان في مكان ثم يسد على الناس طريقهم بكومة رمل أو بأخشاب أو بحديد أو نحو ذلك.
5- إذا اشترك اثنان في حيوان كبقرة أو غيرها وامتنع أحدهما عن تربيتها فإنه يجبر إما على البيع أو على الاشتراك في الإنفاق؛ لأن في امتناعه عن الانفاق ضررًا يلحق بالشريك الآخر.(1/9)
6- المجتمع إذا احتاج إلى صناعة قوم أو فلاحتهم أو خياطتهم أو بنايتهم, فإن هذا العمل يكون واجبًا على هؤلاء، ويجبر ولي الأمر هؤلاء الصناع على العمل, ويعملون بأجرة المثل، ويبذل الناس لهم ما يستحقونه من الأجرة؛ لأن في ذلك دفع الضرر عن الناس بسد حاجتهم من هذه الصناعات, ودفع الضرر عن العمال بتقدير أجرة مثلها, وهذا يقع كثيرًا عندما يزداد الطلب على شيء معين ويمتنع بعض العمال عن العمل لكي يرتفع السعر.
سؤال: ما المقصود بالخيار في المعاملات المالية والشفعة؟
الخيار معناه: أن البائع أو المشتري له الحق في إرجاع السلعة، أو استرجاعها وأخذ الثمن، إما لعيب موجود فيها، أو بسبب اشتراط أحدهما شرطًا من الشروط, كما لو أن شخصًا اشترى سيارة وظاهرها السلامة, اشتراها بعشرة آلاف فلما ذهب بها وجد بها عيبًا يُنقصها ثلاثة آلاف, فله الحق بأن يعود إلى البائع، ويطلب استرجاع ماله، ويسمى هذا خيار العيب, وهذا الحق مبني على قاعدة لا ضرر ولا ضرار, أو ما يعبر عنه الفقهاء بقولهم الضرر يزال.
و أما الشفعة فقد بينا أنها أن يأخذ الشريك حق شريكه إذا باعه لغيره مثال ذلك:
اثنان مشتركان في أرض، فباع أحدهما نصيبه لشخص بمئة ألف, يحق للشريك الآخر أن يأخذ نصيب الشريك الذي باع بالقيمة نفسها أو بالثمن نفسه الذي باعه به, ونسمي هذا شفعة؛ وإنما سميت شفعة لأن الشريك كان عنده جزء واحد فضم نصيب الشريك الآخر إليه فصار شَفعة, ولها كتاب في الفقه يسمى كتاب الشفعة يمكنكم مراجعة مسائله فيه.
القواعد المتفرعة عن قاعدة: لا ضرر ولا ضرار.
سنشرح إن شاء الله خمس قواعد متفرعة عن قاعدة لا ضرر ولا ضرار، وهي:
1- الضرر لا يزال بمثله.
2- الضرر يدفع بقدر الإمكان.
3- إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما.
4- إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدّم أرجحهما.
5- القديم يترك على قدمه ما لم يكن ضررًا فاحشًا.
القاعدة الأولى: الضرر لا يزال بمثله.(1/10)
وسنتناولها في نقطتين:
النقطة الأولى: معنى القاعدة.
النقطة الثانية: أمثلة على القاعدة.
أولا: معنى القاعدة.
معنى قاعدة الضرر لا يزال بمثله هو: أن الأصل منع الضرر قبل وقوعه، ورفعه بعد وقوعه، بدون إحداث ضرر على الآخرين, فهذه القاعدة تفيد أن إزالة الضرر يجب أن يكون بدون إحداث ضرر مماثل, فمنطوق القاعدة رفع الضرر بدون ضرر مثله, لكن لها مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة, أما مفهوم الموافقة فهو منع إزالة الضرر بضرر أعظم؛ لأنه إذا لم يجز إزالة الضرر بضرر مماثل فلا شك أنه لا يحوز إزالة الضرر بضرر مثله من باب أولى.
وأما مفهوم المخالفة من القاعدة فهو جواز إزالة الضرر بضرر أخف, وهذا ما ستوضحه لنا قاعدة [إذا تعارضت مفسدتان رُوعِي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما], وعلى هذا فقاعدة [الضرر لا يزال بمثله] تعتبر قيدًا للقاعدة الكلية [لا ضرر ولا ضرار]؛ من جهة أن الضرر يشترط لإزالته أن لا يترتب عليه ضرر مماثل.
وربما عبروا عن هذه القاعدة بقولهم [ الضرر لا يزال بالضرر], لكن هذه القاعدة أولى؛ لأنها أوضح في الدلالة على المراد.
وأدلة هذه القاعدة هي أدلة القاعدة الكلية؛ فعلى هذا لا حاجة لنا للاستدلال عليها وإنما ننتقل إلى أمثلة القاعدة.
ثانيًا: أمثلة على القاعدة.
من الأمثلة:
1- لو أن رجلا أكره آخر على قتل مسلم معصوم, فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين؛ لأن دفع ضرر القتل عن المكرَه لا يكون بإيقاع الضرر على أخيه المسلم, ولهذا حَكَم جمهور الفقهاء بأن القصاص على المُكرِه والمكرَه؛ أما المكرِه فلأنه تسبب إلى القتل بما يقتل غالبا، وأما المكرَه فلأنه باشر بالقتل.(1/11)
2- إذا باع أحد الشريكين نصيبه وشفع الشريك الآخر, فإنه يأخذ نصيب شريكه بالثمن الذي باعه به على الصيغة التي بيع بها, ولا يجوز للشريك أن ينقص شريكه الآخر من حقه؛ لأن دفع ضرر الشراكة عنه بالشفعة لا يكون بإيقاع الضرر على الشريك الآخر, فلو أن زيدًا ومحمدًا اشتركا في أرض, فباع زيد نصيبه على شخص آخر اسمه خالد بمئة ألف مؤجلة إلى سنة, فإنه يحق لشريك زيد وهو محمد أن يشفع فيأخذ من خالد المشتري نصيب شريكه بمئة ألف مؤجلة, فلا يأخذ بأقل من الثمن؛ لأن فيه ضررًا على الشريك، ولا يأخذ بأكثر من ذلك؛ لأن فيه ضررًا على الشريك الآخر.
و مثله لو أن اثنين اشتركا في سيارة, فباع أحدهما نصيبه لشخص آخر, فإنه على الصحيح من أقوال أهل العلم يجوز للشريك أن يشفع ويضم نصيب شريكه إليه، وأما المشتري الذي اشترى فإنه يخرج ويُدفع إليه ثمن ما اشتراه.
3- لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر.
4- لو أن شخصًا أوقع عليه شرطي المرور مخالفة بغير حق، فلما أراد أن يرفعها عن نفسه لم يتيسر له ذلك إلا بإيقاعها على غيره؛ لأنها قد سجلت مثلا في الحاسب ولا يمكن رفعها, فإنه لا يجوز له أن يرفع الظلم عن نفسه بإيقاعه على غيره.
وللأسف أن هذا يحدث كثيرًا، فإن بعض الناس إذا رفع الضرر عن نفسه لا يهمه وقع على غيره أم لا, والقاعدة تفيد أن الضرر لا يجوز رفعه بمثله, فإذا أردت أن ترفع عن نفسك الضرر فارفعه بدون أن يقع على الآخرين هذا الضرر.
القاعدة الثانية: [الضرر يدفع بقدر الإمكان].
وسنتناولها في النقاط التالية:
النقطة الأولى: معنى القاعدة.
النقطة الثانية: أدلة القاعدة.
النقطة الثالثة: أمثلة القاعدة.
أولا: معنى القاعدة.(1/12)
تفيد هذه القاعدة أن الواجب أن ندفع الضرر بكل الوسائل المتاحة, وأن يبذل المسلم ما يستطيع لذلك مستخدمًا المراتب الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة، مع معرفة الواقع الذي هو فيه, فإن عجز عن رفع الضرر فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وهذه القاعدة يُخاطب بها الأفراد والحكومات؛ فإن على كل واحد منهم أن يدفع من الضرر بقدر الإمكان بحسب استطاعته, ولا شك أن الاستطاعة تتفاوت, فليست استطاعة الشخص الذي ليس له سلطان كاستطاعة الشخص الذي له سلطان, وهذه القاعدة تفيد أن الضرر يجب أن يدفعه من يستطيع دفعه بقدر الإمكان.
ثانيًا: أدلة القاعدة.
يدل على هذه القاعدة ما يلي:
1- قول الله تبارك وتعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم.. } الأنفال60, ووجه الاستدلال من الآية أن الله أمر ببذل المستطاع من إعداد القوة البدنية والعسكرية لدفع ضرر الأعداء, بحيث يحصل لهم الخوف من مهاجمة المسلمين أو التسلط عليهم.
2- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان))، وجه الاستدلال من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى مراتب استعمال القدرة المتاحة في دفع ضرر المنكر, وأنها تترتب إلى هذه المراتب الثلاث.
ثالثًا: أمثلة على القاعدة.
من الأمثلة على هذه القاعدة:
1- يحق للقاضي أن يمنع المدين من السفر إذا طلب الدائن ذلك؛ لأن في منعه من السفر دفعًا للضرر عن الدائن بضياع ماله.
2- يجب على ولي الأمر أن يمنع من أسباب الشر التي يكون فيها فساد على الناس؛ كحمل السلاح والسرعة الزائدة وإظهار المنكرات, وأن يضع من الأنظمة ما يحقق المصلحة في ذلك.(1/13)
3- يجب فصل الرجال عن النساء في أماكن العمل والدراسة, مع أمر الرجال بغض البصر وأمر النساء بالحشمة؛ دفعًا لضرر وقوع الفاحشة وانتشارها في المجتمع, وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن للنساء أن يخرجن للصلاة في المسجد, فإنه جعل لهن صفوفًا تفارق صفوف الرجال, وجعل لهن بابًا يخرجن منه ويدخلن معه، وأمر أن يخرجن غير متزينات، وأن يبادرن بالخروج بعد انقضاء الصلاة مباشرة، وأمر الرجال بالصبر وعدم الخروج حتى يخرجن.
سؤال:
إنكار المنكرات هل يدخل تحت قاعدة لا ضرر ولا ضرار؟
الجواب: لا شك أنه يدخل، ويمكن إدخاله تحت هذه القاعدة بالنظر إلى أن المنكر ضرر, فيجب أن ندفعه بقدر الإمكان.
سؤال: ماذا ترجحون في مسألة الأسهم المختلطة؛ الحل أم التحريم؟
الجواب: أنا متوقف فيها, وإن كان التحريم أقرب إلى الحل؛ لما يقع فيها من المضاربة والنجش، والتلاعب بالأسعار.
القاعدة الثالثة: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما.
سندرس هذه القاعدة من خلال النقاط الخمس التالية:
النقطة الأولى: ألفاظ القاعدة.
النقطة الثانية: معنى القاعدة.
النقطة الثالثة: أدلة القاعدة.
النقطة الرابعة: طرق معرفة مراتب المفاسد والمصالح.
النقطة الخامسة والأخيرة: أمثلة على القاعدة.
النقطة الأولى: ألفاظ القاعدة.
هذه القاعدة من القواعد العظيمة في الشريعة الإسلامية, وقد وردت بألفاظ مختلفة, منها:
يختار أهون الشرين.
ومنها: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
ومنها: إذا اجتمع ضرران أسقط الأكبر للأصغر.
ومن ألفاظها أيضا -وإن كان فيه خصوص-: يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
فهذه الألفاظ تدل على معنى واحد.
التعارض معناه: التقابل والتمانع بين شيئين، بحيث أن كل واحد منهما يقف في مقابل الآخر ويمنعه من النفوذ.
والمفاسد: جمع مفسدة، وهو ما لا مصلحة فيه، ويدخل في ذلك المحرمات.
النقطة الثانية: معنى القاعدة.(1/14)
هذه القاعدة تفيد أنه إذا اجتمع ضرران أو مفسدتان أو اجتمع محرمان وتعذر دفع الضررين أو المفسدتين أو تعذر ترك المحرمين معًا, بل إما أن يترك أحدهما ويفعل الآخر، وإما أن تدفع المفسدة، لكن بجلب المفسدة الأخرى, فإننا في هذه الحالة ننظر إلى أشد الضررين والمفسدتين والمحرمين فندفعه, وإن ترتب عليه فعل الضرر الأخف، ولا يجوز أن ندفع الضرر الخفيف بفعل الضرر الشديد.
ثم قد يكون اجتماع الضرر أو الفساد أو المحرمات في حق شخص واحد, كمن أُكره على شرب الخمر أو السرقة بحيث لا يُتْرك من فعلهما, بل إما أن يفعل أحدهما وإما أن يقتل مثلا.
وقد يكون اجتماع الضرر أو اجتماع المحرمين في حق شخصين تلازم الفعلان فيهما، فلا يمكن دفع الضرر عن أحدهما إلا بإيقاع الضرر على الآخر.
وبناء على هذه القاعدة فإن الضرر الذي نفعله لأجل دفع ما هو أعظم منه لا يكون محرمًا في هذه الحالة, ولا يكون ضررًا حقيقيًا, بل ربما كان مصلحة في مقابل الضرر العظيم الذي دفعناه.(1/15)
ولا بد من معرفة مراتب الأضرار ومراتب المحرمات؛ لتفاوتها في القوة والضعف، حتى نستطيع الترجيح بينها, وقد يظهر تفاوت المراتب بين الفعلين, كما إذا كان أحد الفعلين محرمًا والآخر مكروها, فلا شك أن مفسدة المحرم أعظم من مفسدة المكروه, وقد يلتبس معرفة التفاوت بين المحرمين أو بين الضررين, ولا يمكن معرفة مراتب الأضرار والمحرمات وتفاوتها في القوة والضعف إلا بمعرفة الكتاب والسنة، مع معرفة الواقع في الخلق, ولا ينفصل معرفة ما ورد في الكتاب والسنة عن معرفة الواقع في الخلق؛ لأن من عرف الواجب في الشرع وعرف الكتاب والسنة، لكنه لم يعرف واقع الناس, فإنه سيطبق الأحكام على واقع لا تصلح له, وستأتي أمثلة لذلك بعد قليل إن شاء الله, وكذلك من عرف الواقع في الخلق فعرف مداخل الناس ومخارجهم ومصالحهم ومفاسدهم, لكنه لم يعرف ما هو الواجب في الشرع, فلم يعرف كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه سلم ولا كيفية الاستدلال بهما فإنه سيقدم المفسدة العظيمة على المفسدة اليسيرة, وربما فعل المحرمات الكبار ليدفع محرمات أصغر منها؛ لأنه جاهل بما يجب فيها بالشرع, أما من جمع معرفة الكتاب والسنة مع معرفة واقع الناس, فإنه هو الذي يستطيع أن يطبق هذه القاعدة تطبيقًا صحيحًا.
النقطة الثالثة: أدلة القاعدة.
هذه القاعدة لها دلائل كثيرة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وأعني بالدلائل هنا ما ورد في كتاب الله من تقديم بعض المفاسد على بعض ودفع بعض المفاسد بارتكاب مفاسد أقل منها, فمن ذلك:(1/16)
1- ... قول الله جل وعلا: {.. وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.. } [البقرة :191], وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ .. } [البقرة: 217], فالله جل وعلا ذكر أن الفتنة أشد من القتل, وفي الآية الأخرى ذكر أن الفتنة أكبر من القتل, وأن الكفر في المسجد الحرام أعظم منه إخراج أهله منه, ووجه الاستدلال بهاتين الآيتين من وجهين:
الأول: أن ما يفعله المشركون من صد الناس عن دين الله جل وعلا وإخراجهم من ديارهم لأجل إيمانهم هو أشد وأكبر من القتال في الشهر الحرام.
الوجه الثاني: أن الفتنة في الدين أعظم فسادًا من القتل, فإذا حصل لبعض الناس فتنة في دين الله وصد عن سبيله جاز قتلهم؛ لأن ضرر الكفر والافتتان في الدين أعظم من ضرر القتل, فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.(1/17)
فنستدل من هاتين الآيتين السابقتين أن فعل المشركين بالمسلمين من صدهم عن دين الله وإخراجهم من ديارهم هو أشد وأكبر من القتال في الشهر الحرام؛ لأن سبب الآية أن المشركين شنوا على المسلمين حملة لأنهم هتكوا حرمة الشهر الحرام, فأخبر الله جل وعلا أن ما وقع من القتال في الشهر الحرام مفسدة, لكن ما تفعلونه أنتم أيها المشركون من إخراج الناس من ديارهم وكفركم بالله جل وعلا هو أعظم من القتال في الشهر الحرام، وقد نصت الآية على المفاضلة, حيث قال جل وعلا: إن الفتنة أشد وأكبر من القتل, أي افتتان الناس في دينهم وخروجهم من الإيمان إلى الكفر أعظم من قتلهم؛ لأن الإنسان إذا خرج من الإيمان إلى الكفر فسد عليه دينه ودنياه, وصار من أهل النار, أما إذا خرج من الحياة إلى الموت فإنه تفسد عليه دنياه فقط, لكن تسلم له آخرته, ولهذا أنطق الله جلا وعلا تلك المرأة التي وقفت على شفير الأخدود في قصة الغلام التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، أنطق الله صبيها لتقتحم النار, فإنها لما وقفت ورأت النار ومعها صبيها، أشفقت على نفسها، وأشفقت على صبيها فتراجعت, وعلم الله جل وعلا أن في تراجعها فتنة لها، وافتتانًا في دينها, وربما عاشت سنين معدودة لكنها تنتقل بعد ذلك إلى نار لا تنطفئ أبدًا, فأنطق الله صبيها فقال: ((يا أمه! اصبري؛ فإنك على الحق)). فتقدمت فوقعت, فهذا يدل على أن قتل النفس مفسدة, لكن أعظم منه أن يفتن الإنسان في دينه، ويُصرف عن دين الله جل وعلا إلى دين غيره فتضيع عليه أخراه، ولا تنفعه حينئذ دنياه.(1/18)
2- قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ .. } [الحجرات:9,] ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الله أمر بالإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين؛ لدفع ضرر الفتن, وهذه هي المرحلة الأولى، وهي دفع الضرر بقدر الإمكان بدون ضرر, لكن إن أبت إحداهما الإصلاح وأرادت البغي والإفساد، فإن الله يأمرنا بقتالها؛ لأن قتالها وإن كان فيه ضرر لكننا ندفع به ضررًا أعظم، وهو وقوع البغي والعدوان وانتشار القتل بين المسلمين, وعلى هذه الآية يبني الفقهاء كتاب أحكام البغاة.(1/19)
3- قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25,24], ففي هذه الآية العظيمة يخبر الله جل وعلا أنه كف أيدي المؤمنين -وذلك في صلح الحديبية- عن قتال الكفار مع استحقاقهم لذلك -أي استحقاقهم للقتال-؛ لأنهم كفروا بالله وكفروا برسوله, وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أن يدخلوا المسجد الحرام، ومنعوا الهدي أن يصل إلى بيت الله جل وعلا، فهم مع استحقاقهم للقتال كف الله أيدي المؤمنين عنهم بسبب وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين في مكة, لم يكونوا متميزين, فربما أصابهم من الأذى والقتل ما لا يستحقون.
هذه أدلة القاعدة من القرآن الكريم, أما من السنة فمن ذلك:
4- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا, فقلت: والله! يا رسول الله! لغير هؤلاء كان أحق به منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني، فلست بباخل)). رواه مسلم.
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسمًا -يعني أعطى أناسا مالا-, وعمر رضي الله عنه ينظر, فرأى أن هؤلاء لا يستحقون هذا القسم, فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إن غير هؤلاء أحق من هؤلاء, فبأي شيء أجابه النبي صلى الله عليه وسلم؟(1/20)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هؤلاء الناس يسألونني مسألة لا تصح, فإن منعتهم قالوا بخيل, فأدفع عن نفسي مفسدة الوصف بالبخل، وإن كنت أعطيهم مالا يستحقون.
فهؤلاء أوقعوا النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين مكروهين:
الأمر الأول: أن يعطيهم وهم لا يستحقون, وهناك من هو أحق منهم.
الأمر الثاني: أن يصفوه بالبخل.
ولا شك أن وصفه بالبخل أشد, فيدفع عنه ضرر الوصف بالبخل بضرر إعطائهم.
5- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أعرابيًا قام إلى ناحية المسجد فبال فيها, فصاح الناس به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دَعُوهُ وَلاَ تُزْرِمُوهُ))، فلما فرغ من بوله, أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصُبَّ على بوله. متفق عليه.
ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك الأعرابي يكمل بوله في المسجد، مع أن البول مفسدة ونجاسة, لكن في منعه من إتمام البول مفسدتان, الأولى: انتشار النجاسة في المسجد, والثانية: ما يصيبه من الأذى حينما يُمنع من إكمال البول, فدَفَع هذا الفساد العظيم بالتزام فساد أيسر منه, وهو بوله في نفس المكان مع رفع المفسدة بصب الماء عليها.
6- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين, باب يدخل الناس منه وباب يخرجون)). متفق عليه.
ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لأن قريشًا كانوا حديثي عهد بالجاهلية, وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم.(1/21)
7- كان النبي صلى الله عليه وسلم يقر المنافقين على ما أظهروه من الإسلام, مع أنهم يراءون في ذلك, فكان يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله جل وعلا, ويعفو عن كثير مما يقع منهم، ولم يكن يعاقبهم على ما في بواطنهم ولا ينهاهم عن الظاهر الذي هم عليه, فلا يقول لهم أخرجوا كفركم, ولا ينهاهم عن الإيمان في الظاهر, لماذا؟ لأن الفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهار ذلك رياء, فالفساد في ترك إظهار المشروع كالشهادتين والصلاة أعظم من فساد إظهار ذلك رياء, ثم إن في معاقبتهم على باطلهم إفسادًا لقلوب كثير من المسلمين الذين لا يعلمون حقيقة الأمر, فلربما انتصروا لهم وهم لا يشعرون, وهذا ترونه في واقعنا الآن, فإن الذي يظهر شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قد يقع منه أشياء يخرج بها من الإيمان إلى النفاق...
وهكذا يجب أن نتعامل مع المنافقين, فالمنافقون قد يكون ضررهم أعظم من ضرر الكفار؛ لأن المنافق مخادع، وأنت تستطيع أن تتعامل مع من يظهر لك العداوة أفضل ممن تتعامل مع من يبطن لك العداوة, ولهذا لما أراد بعض الناس أن يقاتلوا بعض الحكام بدعوى أنهم كفار وقع لبس وفساد عظيم, ودافع عن هؤلاء الحكام أناس مسلمون بل وصلحاء, وهذا ما كان يخشاه النبي صلى الله عليه وسلم لو أنه عاقب المنافقين وقتلهم, فسينتصر لهم أناس مسلمون, والواجب حينئذ هو أن نبين حقيقة أمرهم, ونفضحهم كما فضحهم الله جل وعلا, فإن كانت السلطة بأيدينا رفعنا أمرهم إلى ولي الأمر لكي يتولى نهيهم عن ما هم فيه من الفساد.
النقطة الرابعة -وهي نقطة مهمة جدا-: طرق معرفة مراتب المفاسد والمصالح.
يمكن معرفة مراتب المفاسد والمصالح بطريقين:
الطريق الأول: الكتاب والسنة، وما استنبط منهما.
الطريق الثاني: الواقع في الخلق في أنفسهم وأحوالهم.
وسنبدأ بالطريق الأول، وهو الكتاب والسنة وما استنبط منهما, فنقول:(1/22)
إن النصوص الشرعية قد بينت مراتب المفاسد وتفاوت المحرمات, وأن منها كبائر ومنها صغائر, لكن الدلالة من هذا المصدر من جهتين:
الجهة الأولى: النص, يعني النص الصريح على أن هذه المفسدة أعظم من هذه المفسدة مثلا.
والجهة الثانية: جهة الاستنباط.
أما الجهة الأولى: فإننا نجد نصوصًا كثيرة بينت لنا تفاوت المحرمات, وأن المحرمات بعضها أرفع من بعض, فمن ذلك:
1- قول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33], فهذه الآية الكريمة ذكرت أربع محرمات كبار, هي:
الفواحش, الإثم والبغي بغير الحق, الشرك بالله جل وعلا, القول على الله بغير علم.
ونلاحظ أن هذه المحرمات الكبار لم يُذكر فيها استثناء، مما يدل على أنها لا تباح في حال من الأحوال, لكن الإكراه على بعضها قد يخفف من إثمها، أو يبيحها في الظاهر دون الباطن, كما أباح الله جل وعلا التكلم بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان.(1/23)
2- قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}، [الفرقان:69,68], ففي هذه الآية نص الله جل وعلا على هذه المحرمات الثلاث؛ لأنها أكبر الكبائر, ففي الشرك فساد الأديان, وفي القتل فساد الأبدان, وفي الزنى فساد الأعراض والأنساب, ويدل على هذا التفسير قول ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك)) قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزني بحليلة جارك)).
3- قوله-جل وعلا-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145], وقال-جل وعلا-:{..وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ..} [الأنعام:119], ففي هذه الآية أباح الله جل وعلا للمضطر أن يتناول من هذه المحرمات بشرط أن لا يكون باغيًا ولا عاديًا, فدل على أنها أخف مما حرمت مطلقًا؛ لأن الله أباح هذه المحرمات عند الاضطرار ولم يبح تلك المحرمات عند الاضطرار إليها, فالزنى لا يباح في حال من الأحوال, والقتل لا يباح في حال من الأحوال، إلا حينما يدافع الإنسان عن نفسه, أو إذا كان المقتول مستحقًا للقتل, وكذلك الشرك لا يباح بحال من الأحوال, والتكلم على الله جل وعلا بغير علم لا يباح بحال من الأحوال.(1/24)
4- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله, وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات))، متفق عليه من حديث أبي هريرة، ووجه الاستدلال من الحديث ظاهر، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المحرمات موبقات، وأنها من الكبائر، مما يدل على أنها أعظم تحريمًا وإثمًا ومفسدة من غيرها.
وهكذا إذا تتبعنا نصوص الكتاب والسنة سنجد آيات وأحاديث تدل على وصف بعض الأفعال بأنها محرمات كبيرة, ووصف بعض الأشياء بأنها محرمات، لكن لا تصل إلى درجة تحريم المرتبة الأولى, وهنا نستحضر الأدلة التي ذكرناها للقاعدة؛ لأن فيها ذكرًا لتفاوت المفاسد بعضها مع بعض.
ومثل ذلك في المصالح أيضًا، فقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على تفاوت رتب المصالح.
فمن ذلك:
1- قوله تعالى {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} [سورة التوبة 9/19]. ففي هذه الآية إثبات تفضيل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد على سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام.
2- قوله ‘ ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).
3- عن أبي هريرة _ قال: سئل النبي ‘ أي الأعمال أفضل؟ قال ((إيمان بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال ((جهاد في سبيل الله)) قيل: ثم ماذا؟ قال ((حج مبرور)).
ففي هذين الحديثين تفضيل لبعض الأعمال الصالحة على بعض.
هذا ما يتعلق بالجهة الأولى من دلالة الكتاب والسنة.(1/25)
أما الجهة الثانية: فهي جهة الاستنباط, وهذه الجهة أوسع من الجهة الأولى؛ لأنه يدخل فيها تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه والتابعين لهم بإحسان, ولا نعني أن تصرفات التابعين حجة بذاتها, لكن قد يكون مجموع تصرفاتهم يدل على معنى اتفقوا عليه، فيكون الدليل هنا هو الإجماع, وليس مجرد فعل التابعي, وهذه الجهة تحتاج إلى تتبع وتفتيش في كتب الأحاديث والسير؛ لجمع النظائر مع بعضها، واستخلاص النتائج منها, وأنا أرجو منكم في هذه الفقرة أن تعيروني سمعكم؛ لأن كثيرًا من الناس يستدل بهذه الجهة لكن مع جهل, فيستدل بما لا يدل, ويقع بسبب ذلك تلبيس على الناس, وهو قد لا يقصد التلبيس، لكن جهله أوقعه في ذلك, وأنا هنا أذكر نماذج يسيرة فقط ويقاس عليها ما هو مثلها, فمن ذلك:
1- البدعة أعظم مفسدة من المعصية, هذه القاعدة استفدناها من مجموع تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم, ونذكر على ذلك مثالين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم في بدعة الخوارج قال كلامًا شديدًا, فقال عليه الصلاة والسلام: ((هم شر قتلى تحت أديم السماء, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)).
هل تعرفون كيف يمرق السهم من الرمية؟!
الرمية: هي الشيء المرمي, يعني الغرض الذي يضعه الرامي ليرميه، صيدًا كان أو شيئًا يضعه ليرميه, ولنفترض أنه حمامة مثلا, فإذا رماها بالسهم، قد يكون من شدة رميه لها يدخل السهم من مقدمها فيخرج من مؤخرها ولا يتلوث بدمها ولا روثها من سرعة دخوله فيها, فشبه النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج في دخولهم الإسلام وخروجهم منه بذلك, فلم يجاوز حناجرهم ولم يستفيدوا منه شيئًا كالسهم الذي دخل في هذه الرمية, فخرج منها لم يتلوث ولم يصب منها بشيء؛ من شدة مروقه منها, فكذلك هم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية, حفظ الله لنا ديننا وعافانا مما ابتلاهم به.(1/26)
هذا ما قاله عن الخوارج, أما في المعصية -كمثل شارب الخمر- فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن بعض أصحابه شاربَ الخمر المعين, قال: ((لا تلعنوه، لا تعينوا عليه الشيطان))، وفي لفظ أنه قال: ((لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)).
وهذا التفضيل بين البدعة والمعصية من حيث الجنس، أي أن جنس البدعة أعظم مفسدة من جنس المعصية, ولا يعني ذلك أن كل بدعة أعظم مفسدة من كل معصية, فقد يكون من البدع ما هو أخف فسادًا من المعاصي, وتفصيل هذه الجملة قد يطول, لكن يكفي أن ننبه إلى هذا، وهو أن التفضيل بين البدعة والمعصية إنما هو تفضيل بالنظر إلى الجنس لا بالنظر إلى الآحاد, مثل أن نقول مثلا: بيع النقد أفضل من بيع النسيئة, يعني أن جنس بيع النقد الحاضر أحسن من أن تبيع بيعًا مؤجلا, لكن قد يكون من بيع النسيئة ما هو أحسن وأربح من بيع النقد.
2- الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام, وهذا قد استفدناه من تشريع العقوبات الزاجرة عن فعل المحرمات, فإن في بعض هذه العقوبات ضررًا بالغا على الجاني, مثل رجم الزاني المحصن, وقطع يد السارق، مع أن السارق قد يسرق شيئًا يسيرًا, لكن لما كان إهمال ذلك يترتب عليه فساد عظيم في أموال الناس, احتمل الضرر اليسير في جنب دفع المفسدة العظيمة.
3- مصلحة تأليف القلوب ودعوة الناس إليه أعظم من مفسدة بذل المال لمن لا يستحق, وهذا أخذناه من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم في الغنائم، وفي دفع مال الزكاة للكافر, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي بعض الناس عطاء عظيمًا وكبيرًا, حتى إن الأنصار وجدوا في أنفسهم في معركة حنين, حتى كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: ((أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟!!)).(1/27)
فأخبر عليه الصلاة والسلام أن ما يصلهم من الخير والبركة ومعرفة الدين ببقاء النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أعظم من مصلحة هذا المال, ولهذا نجد أن الله تبارك وتعالى قد يصرف عن خيار عباده الدنيا, فلا يصل إليهم من نعيمها وزخرفها شيء يذكر, ويكونون في شدة من الحال، وشظف من المعيشة؛ لأن الله تبارك وتعالى صرف عنهم من الشر وأوصل إليهم من الخير بالإيمان به والرضا أعظم مما دفع عنهم من هذه الدنيا.
4- مفسدة عدم فهم العلم وحمله على غير محمله أعظم من مفسدة كتمان بعض العلم، وقد استفدنا ذلك من مجموع تصرفات بعض الصحابة والتابعين, فأبو هريرة مثلا رضي الله عنه لم يحدث بكل ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وكتم بعض ما فيه حديث عن الفتن التي ستقع في عصره, وتسمية بعض من تقع منهم, وهذا ثابت عنه في الصحيح؛ لأن مفسدة إظهار هذا العلم أعظم من مفسدة كتمانه.
ومن الأمثلة أيضا أن الحسن البصري رضي الله عنه كره تحديث أنس بن مالك بحديث العُرنيين عند الحجاج.
هل تعرفون حديث العرنيين؟
هؤلاء بطن من عُرنة جاءوا إلى المدينة مسلمين, فاجتووا المدينة, يعني أن جو المدينة ما ناسبهم فآلمتهم بطونهم, فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يخرجوا إلى البر، إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها, فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا وزادت صحتهم, فما كان منهم إلا أن قتلوا الراعي واستاقوا النَّعم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فبعث في آثارهم فما ارتفع النهار حتى جاؤا بهم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف, يعني قطعت اليد اليمنى والرجل اليسرى، وسُمِلت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ....
فأنس حدث بهذا الحديث عند الحجاج, والحجاج مسرف في قتل الأنفس، فهو قد يستغل هذا الحديث في زيادة الإسراف في القتل, فلذلك كره الحسن تحديثه به.(1/28)
وأيضا كره مالك رضي الله عنه التحديث بأحاديث الصفات مخافة أن يفهمها الناس على غير ما جاءت به فيشبهوا الله بخلقه.
وكره أحمد رضي الله عنه ورحمه التحديث بالأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان في فتنة خلق القرآن, وكره أيضا التحديث بحديث ((ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي))؛ لما يفهم من ظاهره أن آية الكرسي مخلوقة.
فمجموع هذه التصرفات تدل على أن مفسدة عدم فهم العلم وحمله على غير محمله أعظم من مفسدة كتمان بعض العلم, فنكتم بعض العلم عن بعض الناس أو في بعض الأحوال؛ لأجل مصلحة عدم فهمه على غير فهمه الصحيح.
الطريق الثاني، وهو: معرفة الواقع في الخلق.
إننا نستطيع أن نتعرف على مراتب المفاسد والمصالح بالنظر إلى واقع الناس, فقد يكون بعض الناس هذه المفسدة بالنسبة إليه أعظم من تلك، وآخر بالعكس, وقد يكون في بلد هذه المفسدة بالنظر إليه أعظم من هذه المفسدة, وبلد آخر بالعكس, فمعرفة أحوال الناس إما بالنظر إلى أعيانهم أو بالنظر إلى بلدانهم وأحوالها ومعرفة أثر المفاسد والمصالح عليهم له أثر في الموازنة بين المفاسد.
نمثل بمثالين، ثم ننقل كلام بن تيمية في هذا الموضوع:
الأول: من المعلوم أن مفسدة الزنى أعظم من مفسدة العشق, لكن لو أن شخصًا زنى مرة واحدة ثم تاب؛ فإنه أهون من تعلق قلبه بالعشق وانشغاله به عن الطاعات, ووقوعه في كثرة التفكير وملاحظة المعشوق وتتبع ما يرضيه؛ فإن في هذا من فساد القلب ما الله به عليم.(1/29)
الثاني: ما وقع من علماء الدولة العثمانية لما تسلط عليهم كمال أتاترك, وذلك أنهم أفتوا بأن لبس القبعة حرام, ولم يكتفوا بذلك بل عده بعضهم ردة, حتى إن العالِم يوقَف فيمتحن في مسألة القبعة فإن قال إنها حرام شُنق وعلق في الشارع يراه الناس, وإنما كان ذلك بسبب أن كمال أتاترك أراد تغيير الدين واستبداله بدين الكفار, وكان من أظهر علامات ذلك لبس القبعة؛ لأنها كانت مسنمة من الأمام، فلابسها لا يستطيع أن يصلي إلا أن يخلعها, وكان فيها تشبه بالكفار, فقد يقول قائل: إنهم شددوا في هذا الموضوع, لكن إذا عرفت واقعهم وسبب فتواهم في ذلك عذرتهم في هذا.
وكذلك مما يتصل بهذا الموضوع أن بعض الناس يعيش في دولة أوروبية, أو يعيش في دولة يتسلط فيها الكفار، والحكم فيها لغير المسلمين، فتقع عندهم مشكلة, فيتصل بعالم من العلماء بعيد عن الواقع الذي هو فيه فيصف له المسألة، لكنه لا يعطيه الواقع كما هو, ولا ملابسات الموضوع كما هي, فيفتي هذا العالم بما يظهر له، ثم تكون فتواه فتنة لهذا البلد, والواجب أن السائل ينقل الصورة كما هي بجميع تفاصيلها، وينقل له الواقع أيضا كما هو؛ فإن البلد الذي تطبق فيه أحكام الشريعة ويأمن الناس فيه على دينهم ويستطيعون أن يصلوا الصلوات الخمس في أوقاتها وشعائر الإسلام ظاهرة, ليس كالبلد الذي لا يكون فيه شيء من ذلك, ولهذا يقول بن تيمية رحمه الله: "المؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة,كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة؛ ليقدم ما هو أكثر خيرًا وأقل شرًا على ما هو دونه, ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما, ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما, فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده".(1/30)
فتأمل قوله: "من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده", وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
النقطة الخامسة والأخيرة في هذه القاعدة: أمثلة على القاعدة.
1- ... إذا كان مجموعة من الناس على ظهر سفينة, والسفينة مليئة بالأمتعة, وهاج البحر فيهم واضطرب, فإن تركوا الأمتعة غرقوا جميعًا, فيجوز لهم في هذه الحالة أن يلقوا الأمتعة كلها, و إن كانت عظيمة الثمن؛ لأن مفسدة ذهاب الأموال أهون من مفسدة ذهاب الأرواح, أما لو أنهم ألقوا أمتعتهم ثم ما زال الأمر لم يستقر، والسفينة لا تسعهم, ودار الأمر بين أن يغرقوا جميعًا، أو يغرَق بعضهم دون بعض, ففي هذه الحالة لا يجوز إلقاء أحد منهم؛ لأنهم متساوون في العصمة، وليس أحدهم أولى بالنجاة من بعض.
فإن قيل: هل يقترعون؛ ليقع من تظهر عليه القرعة؟
فنقول: لا, إلا أن يتبرع بعضهم بأن يلقي نفسه لإنجاء الآخرين؛ لأنهم مشتركون في العصمة معًا, فلا يكون أحدهم أولى بالإلقاء من الآخر.
فإن قيل: نبينا يونس عليه الصلاة والسلام عمل بالقرعة لإنقاذ السفينة، وإلقاء أحدهم؟
فنقول: قصة يونس عليه السلام ليس فيها تعارض مصلحة إلقاء بعضهم دون بعض, وإنما فيها أن شخصًا يستحق الإلقاء، فلا بد أن يلقي نفسه، ولكنهم لا يعرفونه, فالاستدلال بها في هذا الموطن ليس بصحيح.
قال القرطبي في تفسيره [جزء 15 / صفحة:109]:(1/31)
"الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز، وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدِّمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه؛ فإنه لا يجوز لمن كان عاصيًا أن يُقتل ولا يرمى به في النار أو البحر، وإنما تجري عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته، وقد ظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تُضربُ عليهم فيطرح بعضهم تخفيفًا، وهذا فاسد؛ فإنها لا تخف برمي بعض الرجال، وإنما ذلك في الأموال، ولكنهم يصبرون على قضاء الله عز وجل".
فإن قيل: هل يجوز لأحدهم أن يهلك نفسه؟
فنقول: الإهلاك هنا غير متحقق؛ لأنه إذا ألقى نفسه في الماء قد يحيا ويعيش ولا يموت, فلا يكون ذلك من الانتحار, وقد يقال: إنه حتى لو تحقق أنه ربما يموت, فإن الإيثار هنا محمود، كقوم جياع وجدوا ما لا يكفيهم جميعًا، وإنما يكفي بعضهم، فيشرع لهم الإيثار، مع أنهم يوقنون أنهم لو لم يأكلوا لماتوا، فهنا لا يكون الشخص منتحرًا؛ لأنه ميت أصلا، لكنه يستطيع أن ينقذ غيره قبل أن يموت.
2- إذا تعارض بالنسبة للمرأة بين أن تُكره على الفاحشة وبين أن تنتحر؟
فالذي يظهر والله أعلم أنه لا يجوز الانتحار, لكن يجب عليها أن تدافع عن نفسها بما تستطيع, ولو ترتب على هذه المدافعة أن تقتل؛ لأن مفسدة قتل النفس أعظم من مفسدة الزنا, بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود لما سأله أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)), قال: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك)), قال ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)).
فالإنسان يدافع بقدر ما يستطيع, ولا شك أن حفظ عرضه أولى من حفظ نفسه, فهو حينما يدافع يدافع عن عرضه، ولو ترتب على ذلك فوات النفس, لكنه لا يبادر هو بقتل نفسه.(1/32)
وقد عُرضت على الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- مسألة قريبة من هذه المسألة, وهي أنه ورد له استفتاء -أظن من الجزائر لما كان تحت الاستعمار الفرنسي- أن المجاهد إذا أُسر يعذبه العدو عذابًا شديدًا؛ حتى يضطر لإعطائهم بعض المعلومات عن مواقع المجاهدين, فهل يجوز له أن يقتل نفسه ولا يفشي السر أم لا؟
فتوقف الشيخ -رحمه الله- في هذه المسألة, واستشهد لها بقصة الغلام الذي دل على طريقة قتل نفسه حينما حاول الملك أن يقتله فلم يستطع, لكنه بيّن الفرق بين قصة الغلام والواقعة التي سُئل عنها, وهي أن الغلام لم يقتل نفسه بنفسه, وإنما دل على الطريقة التي يُقتل بها, وهذا فرق مؤثر.
ومن هذا أيضًا العمليات الاستشهادية, والتي يسميها بعضهم الانتحارية, حينما يفجّر المقاتل نفسه لكي يثخن في العدو, وأهل العلم فيها على قولين, وإن كان كثير منهم يرون جواز فعلها لما يترتب عليها من المصلحة.
3- لو جاع إنسان فوجد ميتة, فهل يأكل من الميتة أم يسأل الناس؟
فهنا تعارض عند الشخص مفسدتان, المفسدة الأولى: الأكل من الميتة, والمفسدة الثانية: سؤال الناس, وسؤال الناس محرم في الأصل, إنما يباح للمحتاج, وكذلك الميتة محرمة, وإنما تباح للحاجة, فأيهما أعظم مفسدة, أن يأكل من الميتة أو يسأل الناس؟
من أهل العلم من يرى أن الأكل من الميتة أقل مفسدة من سؤال الناس, فيأكل ولا يسأل؛ لأن السؤال فيه ذل, وتعريض النفس للمهانة, والمسلم ينبغي له أن ينأى عن ذلك, ولهذا جاءت أحاديث بالوعيد الشديد على من يسأل الناس تكثّرًا, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)), بينما في أكل الميتة سيحفظ كرامته, وإن كان ربما أضرّ ببدنه شيئًا يسيرًا, لكن هذا الضرر محتمل؛ لأنه لن يداوم على الأكل، وإنما سيأكل حتى يجد غير هذه الميتة.(1/33)
ومن أهل العلم من يقول: يسأل ويدع الميتة؛ لأن في أكل الميتة مفسدة التغذية, والخبث فيها قد يضر, بينما السؤال ليس فيه فساد التغذية الموجود في الميتة.
وهذا من الأمثلة التي يضطرب فيها النظر إلى المفاسد أيها أعظم.
4- لو جاع إنسان فهل يسرق ليأكل؟
لا، لا يسرق ليأكل؛ لأن السرقة محرمة في جميع الأحوال, لا تباح بحال أبدًا؛ لأن فيها استخفاءً وهتكًا لحرمات الناس, وهذا لا يجوز في حال من الأحوال.
5- إذا كان المصلي تنكشف عورته إذا صلّى قائمًا, فهل يجوز له أن يصلي قاعدا؟
نعم يصلي قاعدًا, ولا يصلي واقفًا؛ لأن مفسدة انكشاف العورة أعظم من مفسدة ترك القيام في الصلاة, ولهذا إذا وجد أناس عراة، فإنهم يصلّون على هذه الطريقة, يصلّون جلوسًا, لا يصلّون قيامًا.
6- نقل الأعضاء من المتوفى دماغيًّا إلى من هو محتاج إليها, وهذه المسألة منتشرة جدًا في زمننا هذا, لكن انقسم أهل العلم فيها إلى فريقين:
الفريق الأول يقولون:
الذي تعطل دماغه ليس بميت؛ لأن روحه موجودة, فحينئذ هو والحي سواء, فلا يجوز أن تُراعى مصلحة المريض الذي يحتاج لكبد مثلا أو كلية، وتترك مصلحة هذا الذي توقف عقله دماغيا؛ لأنه إلى الآن حي.
الفريق الثاني: وهم جمهور أهل العلم وجمهور الأطباء، يرون أن الدماغ إذا مات فإن الإنسان في حكم الميت, ولا يمكن أن تعود إليه الحياة مرة أخرى, وعلى هذا فمراعاة مصلحة الحي أولى من مراعاة مصلحة الميت.
وقد يقال دفع المفسدة عن الحي أولى من دفع المفسدة عن الميت, فالحي الذي يحتاج إلى كلية أو إلى كبد, إذا لم نزرع له فإنه سيموت يقينًا, وهذا ميت يقينًا, فدفع المفسدة عن الحي أولى من دفع المفسدة عن هذا الميت.
7- إذا صعب على المرأة أن تغطي وجهها في الإحرام فهل تنتقب وتفدي؟ أو تكشف وجهها؟
هذه المسألة تعارض فيها محرمان:
المحرم الأول: كشف الوجه، على القول بوجوب تغطيته.(1/34)
المحرم الثاني: لبس النقاب؛ لأنه من محظورات الإحرام بالنسبة للمرأة.
فأقول هذه المسألة ينظر إليها من جهتين:
الجهة الأولى: من جهة قوة الحكم فيهما, فإذا نظرنا إلى انتقاب المرأة في الإحرام فإنه متفق على تحريمه بإجماع, أما كشف الوجه فهو محل نزاع خارج الإحرام, من حيث وجوب تغطيته والاستحباب, ومحل نزاع من حيث وجوب الكشف في الإحرام وعدم وجوبه, وهنا نتحدث عن حال الإحرام, فمن أهل العلم من يرى وجوب كشف الوجه للمرأة, ومنهم من يرى عدم الوجوب.
أما لبس النقاب فهو متفق على تحريمه.
وهنا نلاحظ أن المتفق على تحريمه يقدم على ما اختلف فيه, فنستطيع بناء على هذا الوجه أن نقول: إنها تكشف وجهها ولا تنتقب؛ نظرًا لأن النقاب محرم بإجماع، وكشف الوجه فيه نزاع.
الجهة الثانية: أيهما فيه فتنة؟ فهل في الكشف فتنة أو أن الانتقاب أعظم فتنة؟
وهذا يختلف بحسب حال كل امرأة, فقد يقال: إذا كان في الكشف فتنة، ولا تستطيع أن تغطي وجهها، بل إما أن تنتقب، أو تكشف وجهها، فيحصل لمن رآها افتتان بها، يجوز أن تنتقب دفعًا للفتنة.
لكن النظر في الجهة الأول أقوى من النظر الثاني من حيث قوة الحكم فيه، وانطباقه على جميع الصور, ولا يختلف باختلاف الأشخاص.
س: هل يجوز رفع الجهاز الذي يتنفس به الميت الدماغي ليموت نهائيا إن كان هناك مريض في المستشفى حتى يأخذ مكانه منه في حالة طارئة؟
ج: نعم, هذا مبني على هذه القاعدة, ويكون النظر فيها على قولين, من يرى أن الميت دماغيًا هو في حكم الميت أصلا فنرفع عن الميت دماغيا ليستفيد مكانه من هو في حالة طارئة؛ لأن دفع المفسدة عن الحي أولى من دفعها عن الميت.
لكن الذي يرى أن الميت دماغيًا لم يمت إلى الآن, فهو في الحقيقة عنده المفسدتان متساويتان.
س: هل من الممكن أن تختلف مراتب المفاسد من عصر لآخر؟(1/35)
ج: نعم, ولأجل هذا قلنا إن من طرق معرفة المراتب واقع الخلق؛ لأنه بالنظر إلى واقع الخلق يظهر التفاوت, فقد تختلف مراتب المصالح و المفاسد من عصر إلى آخر بالنظر إلى واقعهم.
القاعدة الرابعة من القواعد التي تندرج تحت قاعدة لا ضرر ولا ضرار:
إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدّم أرجحهما.
وفيها النقاط التالية:
النقطة الأولى: معنى القاعدة.
النقطة الثانية: علاقة هذه القاعدة بقاعدة لا ضرر ولا ضرار؟
النقطة الثالثة: حالات تعارض المصلحة المفسدة.
النقطة الرابعة: أدلة القاعدة.
النقطة الخامسة: أمثلة على القاعدة.
أولا: معنى القاعدة.
تشير هذه القاعدة إلى أن المصالح والمفاسد, أو الحسنات والسيئات, أو المحرمات والواجبات إذا تعارضت أو تزاحمت, بحيث لا نستطيع أن نفعل الواجب إلا ويقارنه محرم آخر, أو لا نستطيع أن نترك المحرم إلا بترك واجب آخر, فالعمل في هذه الحالة أن نرجح بين المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات والمحرمات والواجبات, ونقدم الأرجح منها.
يقول ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى:
"إن كثيرا من الناس يستشعر سوء الفعل, ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له، التي يحصل منها من ثواب الحسنة ما يربى على ذلك, بحيث يصير المحظور مندرجًا في المحبوب, أو يصير مباحًا إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة, كما أن من الأمور المباحة بل والمأمور بها إيجابًا أو استحبابًا ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة, كالصيام للمريض, وكالطهارة بالماء لمن يُخاف عليه من الموت"
ثانيًا: علاقة هذه القاعدة بقاعدة لا ضرر ولا ضرار؟
تلاحظون أن هذه القاعدة تتحدث عن تعارض المصلحة والمفسدة, والقاعدة التي قبلها كان حديثنا فيها عن تعارض المفاسد, والمفاسد أضرار, فدخول القاعدة السابقة تحت قاعدة لا ضرر ولا ضرار متصوّر, لكن هذه القاعدة الآن في تعارض المصالح والمفاسد, فما علاقتها بالقاعدة الكبرى الكلية قاعدة لا ضرر ولا ضرار؟(1/36)
نقول إن العلاقة جاءت من وجهين:
الوجه الأول: أن المصلحة يُنظر إليها من جهتين, الجهة الأولى: جهة الإيجاد, فهي مصلحة من هذا الوجه.
والجهة الثانية: جهة العدم, فهي مفسدة, فعدم المصلحة مفسدة مضرة.
مثال ذلك: الشخص الذي يحتاج إلى زراعة كبد, إذا نظرت إليه من جهة الزراعة, نقول هذه مصلحة, زراعة الكبد له مصلحة, فهذا نظر من جهة الوجود, وإذا نظرت من جهة العدم فقلت: لا تزرع له, نقول عدم الزراعة مفسدة.
فالمصلحة ينظر إليها من جهتين, من جهة وجودها فهي مصلحة, ومن جهة عدمها مفسدة, فمن هذا الوجه تدخل قاعدة تعارض المصلحة والمفسدة تحت قاعدة لا ضرر ولا ضرار؛ إذ إن المصلحة يُنظر إليها من جهة عدمها, فهي مفسدة من جهة العدم.
الوجه الآخر: أن تعارض المصالح والمفاسد فيه ضرر ومشقة على المكلّف, ويوقعه في الحرج, فلا بد أن نبين الطريق الذي يدفع به هذه المفسدة, وهي مفسدة التعارض؛ فلذلك ناسب أن نتحدث عن هذه القاعدة تحت قاعدة لا ضرر ولا ضرار؛ لنبين أن الشريعة تدفع عن المكلّف مفسدة التعارض بين المصالح والمفاسد.
ثالثًا: حالات تعارض المصلحة المفسدة.
نقول لا يخلو التعارض بين المصلحة والمفسدة من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تكون المصلحة أعظم من المفسدة, فنقدم فعل المصلحة, وإن ترتب عليها فعل المفسدة.
الحالة الثانية: أن تكون المفسدة أعظم من المصلحة, فنقدم دفع المفسدة على جلب المصلحة, وعن هذه الحالة يُعبّر كثير من أهل العلم بقولهم: درء المفاسد أولى من جلب المصالح, يريدون إذا كانت المفسدة أعظم، فيقولون: درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
الحالة الثالثة: أن تتساوى المصلحة والمفسدة, ولا يظهر للمجتهد أو طالب العلم أو من وقع له التعارض ترجيح بينهما, فهذه الحالة هي أشكل الحالات, وقد وقع فيها خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال:(1/37)
القول الأول: دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة, ويُنسب هذا القول إلى جمهور أهل العلم, ويُعبِّر بعضهم أيضا عن هذه الحالة بالقاعدة السابقة, فيقولون: درء المفاسد أولى من جلب المصالح, ويجعلون هذه القاعدة في حالتين, إذا كانت المفسدة أعظم, أو كانت المفسدة مساوية, فيقولون: درء المفاسد أولى من جلب المصالح إذا كانت المفسدة أعظم أو كانت المفسدة مساوية للمصلحة.
القول الثاني: إن جلب المصلحة أولى من دفع المفسدة, وهذا القول يبدو لي -والله أعلم- أن ابن تيمية اختاره, وتلميذه ابن القيم نصّ عليه, وانتصر له في كتابه مفتاح دار السعادة, وأيضا ذكره الزركشي -رحمه الله- واختاره في كتابه المنثور في القواعد, وقد نص -رحمه الله- على أن المفسدة إذا تساوت مع المصلحة فإن جلب المصلحة أولى من دفع المفسدة, ويعبر ابن تيمية عن هذا بقوله: جنس فعل المصالح أولى من جنس درء المفاسد.
القول الثالث في المسألة: عدم إطلاق القول بتقديم أحدهما على الآخر, بل قد يُقال بالتوقف في بعض الحالات, أو بالتخيُّر في حالات أخرى, فننظر إلى كل حالة بحسبها وما يلابسها, وهذا القول هو اختيار العز بن عبدالسلام -رحمه الله-.
رابعًا: أدلة القاعدة.
يدل على هذه القاعدة الكتاب والسنة، فمن ذلك:(1/38)
1- قول الله -جل وعلا-: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }[البقرة:219], فالله- جل وعلا- بيّن لنا أن الخمر والميسر فيهما منافع, وذلك كاللّذة والمتعة التي تحصل بهما, والأموال التي يتحصل عليها بطريقهما, لكن ذَكر الله تبارك وتعالى أيضًا أن فيهما من الإثم ما هو أعظم من ذلك, من إفساد العقول وإيقاع العداوة والبغضاء, والصدّ عن ذكر الله- جل وعلا- وعن الصلاة, ولذلك حرمهما الله جل وعلا.
2- قصة أصحاب الأخدود –التي رواها مسلم في صحيحه-، وفيها أن الغلام دلّ الملك على طريق قتله؛ لأجل مصلحة ظهور الدين, مع أن قتل النفس محرم, لكن مصلحة ظهور الدين أعظم من مفسدة قتل النفس, ولهذا ندب النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى المبادرة إلى العدو, وجعل جزاء الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى جزاءًا عظيمًا, حتى إن الشهيد يُغفر له كل شيء إلا الدَّيْن, ونرى نماذج كثيرة في السنة وفي سيرة سلفنا الصالح في اقتحام المجاهدين على العدو, وهذا يختلف عن عملية الانتحار, أو عن العمليات الاستشهادية الموجودة في زماننا هذا, وأنا هنا لا أقرر حكم هذه العمليات, لكن أقول فرق بين أن يُقدِم الإنسان على العدو ويقتحم ليثخن فيه, فيُقتَل بسلاح العدو، وبين أن يقتل نفسه بنفسه, وهذا الفرق له أثر في الحكم, ولهذا توقف بعض أهل العلم في هذه المسألة, ولم ير جوازها, والحديث عنها يحتاج منا إلى أن نتطرق إلى أمور أخرى, تتعلق بما يترتب على هذه العمليات, ومن تستفيد منها؛ حتى ننظر بعد ذلك في مفسدة الانتحار, هل تقاومها مصلحة تحصيل هزيمة العدو ودحره أو لا تقاومها.(1/39)
لكن في قصة أصحاب الأخدود نلاحظ أن الغلام دل الملك على طريقة قتله لأجل ظهور الدين, فهذا يدل على أن مصلحة ظهور الدين أعظم من مفسدة ذهاب بعض الأنفس, ولهذا شُرع الجهاد في سبيل الله, مع أنه يقتل بسببه المسلم, لكن ما يحصل فيه من تحصيل ظهور الدين ورفع راية المسلمين أعظم من مفسدة القتل.
3- روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين فسلم عليهم. وجه الاستدلال من هذا الحديث: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- رجّح مصلحة السلام على المسلمين, وإن تضمن مفسدة السلام على المشركين؛ لأن مصلحة السلام أعظم.
خامسًا: أمثلة على القاعدة.
1- إذا وُجد موتى مسلمين وكفار ولم يمكن التمييز بينهم, وجب غسل الجميع والصلاة عليهم ودفنهم, مع أن غسل الكافر والصلاة عليه محرم, لكن مصلحة الصلاة على المسلم أعظم من مفسدة الصلاة على الكافر.
2- إذا وجدنا جماعة من الناس, جمعوا بين معروف ومنكر, أي يقع منهم فعل الواجبات، وارتكاب بعض المحرمات, لكنهم لا يفرقون بينهما, بل إما أن يفعلوا المنكر والمعروف جميعًا, أو يتركوا المعروف والمنكر جميعا, فما الحكم في هذه الحالة؟(1/40)
نقول: ننظر, لا بد أن نوازن, فإن كانت مصلحة فعل المعروف الذي يفعلونه أعظم من مفسدة المنكر الواقع منهم فالواجب في هذه الحالة أن لا ننهاهم عن المنكر, ونحثهم على فعل المعروف؛ لأننا إن نهيناهم عن هذا المنكر ترتب عليه ترك المعروف الذي هو أعظم من هذا المنكر, أما لو كان المنكر أعظم من المعروف الذي يفعلونه وجب علينا أن ننهاهم عن المنكر، وإن ترتب عليه ترك المعروف الذي يفعلونه، فإذا كانت هناك طائفة من الناس تدعو إلى الله-جل وعلا- لكن بالشرك, يخرجون الإنسان من المعصية ويدخلونه في الطاعة، فيصلي ويصوم, لكنهم يوقعونه في الشرك؛ بأن يستغيث بغير الله جلا وعلا, ويدعو غير الله جلا وعلا, ويطوف بالقبور, فنقول في هذه الحالة: يجب أن ننهاهم عن المنكر في هذه الحالة, وإن ترتب عليه ترك المعروف الذي يفعلونه من هداية بعض الناس إلى الصلاة؛ لأن مفسدة الشرك أعظم من مصلحة هذه الصلاة.
وكذلك لو أننا وجدنا شخصًا يشرب الدخان لكنه يصلي, فلو نهيناه عن الدخان وشددنا عليه فيه ترك الصلاة مطلقًا, ولم يأت معنا إلى المسجد, أو يحلق لحيته, فلو أثقلنا عليه في أمر اللحية وشددنا عليه فيها ترك الصلاة مطلقًا, ففي هذه الحالة لا يجوز أن ننهاه عن شرب الدخان؛ لأنه يترتب عليه مفسدة ترك الصلاة, ولا يعني ذلك أننا لا نبين الحكم, بل نبين, لكن لا نرتّب على الحكم الهجران, ولا نرتب على الحكم الشدة في طلب فعله, نحن نبين له أن الدخان حرام, لا نقول إن الدخان حلال, لكن لو قلنا له: إذا شربت فلن نقبلك؛ ترتب على ذلك تركه للصلاة, وهذه مفسدة عظيمة, لكن نقول له: الدخان حرام ونسأل الله لك الهداية، لكن تعال وصلّ.
وكذلك الحليق, نقول له: حلق اللحية حرام، لكن تعال وصلّ، وأنت أخونا.(1/41)
3- إذا كان في تولّي المسلم لعمل من الأعمال مصلحة عظيمة, من إقامة شعائر الدين وتعليم المسلمين, وجب عليه الدخول في هذا العمل, وإن تضمن بعض المفاسد, كأن يأخذ ما لا يحل له, أو أن يمدح من لا يستحق, أو أن يعطي من المال بعض من لا يستحق, فهنا ينبغي له أن يتولّى العمل, وإن ترتب على عمله هذا بعض المفاسد.
وهذا من الأمثلة الذي ربما تُشكل عليكم, لكن يحتاج إلى إيضاح بأن نبين صورة من الصور التي تقع:
نحن نعلم مثلا أن وزارة التربية في كثير من دول الخليج أو دول العالم الإسلامي فيها مفاسد كثيرة, بحيث أن الإنسان يضطر لمجاراة بعض الفسّاق أو بعض الفجّار, أو استقبال بعض من لا يستحق، أو مدح من لا يستحق, أو المبالغة في المدح في بعض الأحيان, لكن في دخوله فيها يستطيع أن يمنع كثيرًا من الأمور الفاسدة التي تدخل في باب التعليم, فيجب عليه أن يلاحظ, أيهما أعظم؟ أن يسد ثغرة فيمنع عن المسلمين بابًا من أبواب الفساد، وإن وقع في بعض المفاسد التي هي أقل حرمة من ذلك؟ أو يترك هذه المصلحة ليمتنع من فعل المحرمات الأخرى؟
4- من الوقائع التي تتعلق بتعارض المفاسد والمصالح ما ذكرته إحدى الأخوات من أنها تعارض عندها مصلحة طلب العلم في وقت محدد ومصلحة زيارة أمها التي لم ترها من زمن بعيد, وهي قد رجحت زيارة الأم, وفعلها في نظري صحيح؛ لأن طلب العلم له أوقات مختلفة, فإن فات هذا الوقت يمكن تداركه في وقت آخر, لكن ربما لا يمكنها أن تزور أمها في وقت آخر غير هذا الوقت.(1/42)
5- إذا تعارض مصلحة صلة رحم الأب ومفسدة تعرض الأم والابن لمخاطر من قبل الأب, فلا شك أن درء المفسدة هنا أولى؛ لأن المفسدة هنا أعظم من المصلحة, فالمفسدة قد تكون في ذهاب الروح أو في ذهاب الدين, وأما مصلحة الرحم فلا يترتب على قطعها فساد روح ولا فساد الدين كله, وإنما يترتب عليها فقط إخلال بواجب من الواجبات, وما دام أنه تعارض فعله مع مفسدة أخرى, فلا شك أن درء المفسدة هنا أولى من جلب المصلحة.
س: هل من الممكن أن يفتي الشيخ محمد بن إبراهيم فتوى في بالتحريم في عصره, ثم يفتي الشيخ بن باز في عصره في نفس الموضوع بالحل؟
ج: نعم ممكن هذا, مثلا السلام مع اليهود, في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- لا يفتي بالسلام مع اليهود؛ لأن الحرب كانت على أشدّها, ولم يكن هناك ظهور لقوتهم بهذا القدر, في عهد الشيخ بن باز -رحمه الله- أفتي بأنه يجوز لإمام المسلمين أن يعقد صلحًا مع اليهود, وعقد الصلح ليس معناه أننا نجعلهم إخوانًا لنا, بعض الناس يظن أننا إذا عقدنا صلحًا مع دولة من الدول فإننا نجعلهم إخوانًا لنا, لا! الصلح معناه أننا نضع الحرب بيننا وبينهم على أن نستعد ونتهيأ ونعد العدّة؛ حتى نعود أقوى مما كنا.
س: بيئة تكثر فيها الشركيات مع ترك الصلاة, هل يبدأ بتصحيح العقيدة أم بتعليم الصلاة ؟(1/43)
ج: لا شك أن تعليم العقيدة إذا تعارض مع تعليم الصلاة فإنه يبدأ بتعليم العقيدة, لكن بعض الناس يلتبس عليه معنى العقيدة, يظن أن كل مسائل العقيدة لا بد أن تعلم قبل مسائل الصلاة, وهذا خطأ، إنما مسائل العقيدة التي يُبدأ بها قبل الصلاة هي التي يكون في عدم صحتها وقوع الإنسان في الشرك المفسد لعباداته, ويدل على ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: ((إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ, فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ..)), فإذا كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم يقعوا في الشركيات الكبار, فتعليم الصلاة هنا أولى.
لكن قد لا يكونون مقرين بما تحمله إليهم من مسائل التوحيد، ويرون أنك لو بدأت بالتوحيد، سيقومون عليك ولن يتقبلوا أحكام الصلاة, فهنا من الممكن أن الإنسان يراعي الحال، وينظر فيما هم واقعين فيه, فإن الشركيات تختلف, فمنها شركيات مخرجة من الملة باتفاق أهل العلم, ومنها شركيات وقع في اعتبارها نزاع بين أهل العلم, ولا شك أن معرفة الواقع له أثر في معرفة أي شيء يُبدأ معهم.
س: عندما يُطلب من موظف صالح حلق لحيته أو تخفيفها, وإلا يُفصل من العمل, كيف نحقق قاعدة تعارض المصالح والمفاسد في هذه المسألة؟
وكذلك إذا اضطر لحضور حفل فيه موسيقى أو السلام الوطني، كيف نطبق القاعدة نفسها؟(1/44)
ج: أما بالنسبة لحلق اللحية لأجل العمل فينظر لكل حالة بما يخصها, فهناك فرق بين شخص يستطيع أن يجد عملًا لا يُضغط فيه عليه في حلق اللحية, وبين شخص يترتب على تركه للعمل أن يضطر لسؤال الناس أو قبول صدقاتهم, أو أن يضيِّع من يعول, فلا شك أن الإنفاق على من يعول واجب, وهو أوجب من إعفاء اللحية؛ لأن اللحية قد اختلف أهل العلم فيها, فمن قائل بالوجوب ومن قائل بالاستحباب, أما الإنفاق على النفس وعلى الزوجة وعلى الولد وعلى من تجب نفقته عليهم, فإن هذا واجب باتفاق أهل العلم.
ولا بد أن نفرق بين ما يكون فيه الأمر متعلقًا بنصرة الدين, وبين ما يكون فيه الأمر متعلقًا بطبائع وأخلاق وعادات بعض الناس, ولا بد أن يُفرّق بين الأشخاص؛ فمن الناس من يكون عنده قدرة على تحمّل مثل هذه المواقف والبحث عن عمل آخر أنفع له يسلم به دينه من الفتن, وعنده ثقة ويقين وإيمان, وبين شخص آخر لا يوجد فيه مثل هذه الصفات، وقد يكون في تركه للعمل من أجل اللحية مفسدة عظيمة، ووصول بعض الفاسدين إلى مثل هذه المناصب، وقد لا يكون شيء من ذلك.
وأقول: إنه يُنظر في كل حالة بما يخصها؛ لأنه قد يوجد فيها مؤثرات تتعلق بها لا توجد في غيرها, وقد يندرج هذا الفرع تحت قاعدة المشقة تجلب التيسير.
وأما حضور حفل فيه موسيقى أو السلام الوطني ونحوه, فإنه يمكن إدخاله تحت قاعدة المشقة تجلب التيسير, ويمكن إدخاله تحت قاعدة إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدّم أرجحهما, وهنا لا بد لمن وقع له مثل هذا أن يستشير في نوع الضرر الذي يقع عليه لأجل حضور مثل هذه الأشياء, وما هي المصلحة التي يمكن أن يحققها وتكون أرجح من مفسدة سماع الموسيقى أو إقرار السلام الوطني.
س: هل هذا الحكم يكون للنقاب في العمل أيضًا؟
ج: إذا أجبرت المرأة على أن تكشف وجهها ولا تتنقب, فهذا أيضا يُنظر فيه إلى السبب الداعي للكشف, وما يترتب على هذا الكشف من مفاسد.(1/45)
ومن الخطأ أن نقرر الجواز, أو أن نقرر المنع مطلقًا، بل يختلف بحسب المرأة، وبحسب العمل التي هي فيه, وبحسب حاجتها إلى العمل, كل هذه مؤثرات, ومن الخطأ أن نأخذ مثلًا حالة من الحالات ثم نعممها على جميع الحالات؛ فالمرأة لها أثر في الحكم, بالنظر إلى قوة إيمانها وتأثّرها وضعفها, وبالنظر إلى افتتان الناس بها وعدمه, والعمل كذلك له أثر, بالنظر إلى السبب الداعي إلى الكشف, وما يترتب على تركها للعمل بالنسبة للعمل نفسه, لا أعني بالنسبة إلى النفقة التي تحتاجها, يعني لو أنها تركت العمل سيترتب عليه وقوع خلل في العمل وفساد, وهي قائمة به خير قيام, وكذلك النظر إلى حاجتها هي إلى هذا العمل.
القاعدة الأخيرة من القواعد التابعة لقاعدة لا ضرر ولا ضرار:
القديم يترك على قدمه ما لم يكن ضررًا فاحشًا.
وسنتناولها في ضوء النقاط التالية:
النقطة الأولى: ألفاظ القاعدة.
النقطة الثانية: معنى القاعدة.
النقطة الثالثة: أدلة القاعدة.
النقطة الرابعة: أمثلة على القاعدة.
أولا: ألفاظ القاعدة.
القديم: نريد به الشيء الذي لا يوجد من يعرف أوله, أو لا يوجد وقت التنازع فيه مَنْ أدرك مبدأه.
ضرر فاحش: نريد به الضرر الذي لا يكون مستحَقًّا على الغير بوجه شرعي.
ثانيًا: معنى القاعدة.
هذه القاعدة "القديم يترك على قبله ما لم يكن ضررًا فاحشًا" مركبة من قاعدتين:
إحداهما: القديم يترك على قدمه.
والقاعدة الثانية: الضرر لا يكون قديمًا.
ولما كانت القاعدة الثانية قيدًا في الأولى؛ ناسب أن نجمعهما معًا ونصوغهما صياغة واحدة؛ فنقول: القديم يترك على قدمه ما لم يكن ضررًا فاحشًا.(1/46)
وهي تفيد أن الشيء المتنازع فيه إذا كان قديما تُراعى فيه حالته التي هو عليها من القدم, بلا زيادة ولا نقص, ولا تغيير ولا تحويل؛ لأنه لما كان من الزمن القديم على هذه الحالة المشاهدة فالأصل بقاؤه على ما كان عليه, ولغلبة الظن أيضا بأنه ما وُضع إلا على وجه شرعي؛ لحسن الظن بالمسلمين, لكن إذا كان في هذا القديم إضرارٌ بالآخرين بغير وجه شرعي فإنه لا يترك على قدمه؛ لأن الضرر يجب رفعه قديمًا كان أو حديثا.
ثالثًا: أدلة القاعدة.
نستدل لهذه القاعدة بقاعدتين من القواعد الكبرى:
القاعدة الأولى: الأصل بقاء ما كان على ما كان, فهذه القاعدة تشير إلى أن الشيء القديم يظهر من حاله أنه إنما وجد على وجه شرعي؛ فيُستصحب حكم بقائه حتى يثبت تغيره.
القاعدة الثانية: لا ضرر ولا ضرار, ووجه الاستدلال منها أنها تفيد وجوب رفع الضرر، ولهذا نقول لا عبرة بكون الضرر قديما أو حديثا بل يلزم رفعه.
رابعًا: أمثلة على القاعدة.
هذه القاعدة في الغالب تتعلق بالأمور التي يقع فيها نزاع بين الناس.
من الأمثلة على ذلك:
1- إذا كان لشخص حق من الحقوق في أرض من الأراضي, مثلا قد يكون له طريق يمر عليه الناس يتجهون به إلى المسجد أو إلى أي مكان آخر, وهذا الطريق يمر على أرض شخص من الناس, وهو قديم, فلا يحق لصاحب الأرض أن يمنع صاحب المصلحة أن يمر على هذا الطريق؛ لأن هذا الطريق قد وُجد قديمًا, والأصل أنه ما ثبت إلا بوجه شرعي, فيبقى على ما كان حتى تظهر بينة تدل على خلاف ذلك.
2- إذا كان أحد الجيران له نافذة مطلّة على بيوت الآخرين, وتكشف عوراتهم, فإنه يلزم إغلاقها, وإن كانت قديمة؛ لأن هذا ضرر لا يثبت بوجه شرعي, فلا عبرة بقدمه, ويلزم رفعه, إلا أن يكون الجيران هم الذين وضعوا بيوتهم تحت نافذة هذا الجار, فلا يلزمه حينئذ إغلاقها؛ لأنهم هم الذين أدخلوا على أنفسهم الضرر.(1/47)