خبر الآحاد وأثره في الأحكام
( د. بابكر الخضر يعقوب تبيدي (1)
مُقَدِّمّة:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصّمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصّلاة والسّلام على سيدنا وقرّة أعيننا محمّد، الفاتح لما أُغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحقّ بالحقّ، والهادي إلى الصّراط المستقيم، وعلى آله الطّيبين الطّاهرين، وصحابته الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، شهادةً تقوم ببعض ما يجب من سوابغ نِعَمِه، وكرائم فضله، وجلائل جوده ونعمائه. وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا وحبيبنا وقرة أعيننا محمداً رسول الله، شهادة يضيء الله بها قلبي، ويطلق بها لساني، في حياتي وعند مماتي. وبعد،،،
فإنَّ القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويّة هما ينبوع الشَّريعة الإسلاميّة والمصدران الأصليان للتّشريع الإسلاميّ، إليهما ترجع المصادر الأخرى، وفي ضوئهما يمارس الفقيه عمله الفقهيّ.
__________
(1) (() أستاذ مساعد بكلية البنات للتَّربيّة والعلوم الشَّرعيّة جامعة الأحقاف (اليمن).(1/1)
وقد اتخذ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كُتَّاباً من الصَّحابة يكتبون القرآن الكريم، فكان القرآن يُكْتَب كلّه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرِّقاع، والأضلاع، والحجارة، والسَّعف، وكانت الآية من القرآن تنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأمر كاتب الوحي بكتابتها في موضع كذا من سورة كذا ، واستمرّ الأمر على هذه الحال حتَّى وفاة النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ والقرآن محفوظ مكتوب لا ينقصه إلاَّ الجمع في مصحف واحد، بالأحرف السَّبعة التي نزل بها القرآن. وفي عهد أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - تم جمع ما تم نقله وتدوينه في رقاع ، وحفظت هذه الرّقاع مدة خلافة أبي بكر وخلافة عمر ـ رضي الله عنهما ـ. وفي عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حدث الاختلاف في قراءة القرآن والنّزاع فيما بين النّاس حتَّى جرى تكفير المسلمين لبعضهم بعضاً نتيجة هذا الخلاف، فقام عثمان - رضي الله عنه - بجمع المسلمين على مصحف واحد، واستنسخ منه عدة نسخ وضمنها ما كان متواتراً، وأرسلها إلى الآفاق، وأمر بتحريق جميع المصاحف التي تخالف مصحف عثمان، ولم يبق عثمان - رضي الله عنه - ـ وبإجماع الصحابة ـ إلاَّ المتواتر حصراً، وعُدَّ هذا العمل من فضائل عثمان - رضي الله عنه - ، ولم ينكر عليه منكر.
أمَّا السُّنَّة فلم يكن شأنها كذلك، حيث إنَّها لم تدوَّن جميعها تدويناً رسمياً في عهد النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما دُوّن القرآن، ولم يأمر النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك، فتأخَّر جمعها عن القرن الأوّل، وكان موكولاً في الأعم الأغلب إلى الحفظ في الصُّدور، مع التّقييد لبعض الحديث في صحف وكتب كانت معروفة عند بعض الصَّحابة.(1/2)
فتميّز القرآن الكريم عن السُّنَّة النَّبويّة بكوّنه منقولاً إلينا بالتَّواتر جملة وتفصيلاً، وأنَّه لا يخلو عصر من العصور من صدور جعلها الله تعالى أوعية له. بخلاف السُّنَّة؛ فقد اختلفت في طرق إثباتها، وتنوّع أسانيدها، وكان من الأحاديث ما رواه الجم الغفير، ومنها ما حفظه النَّذر اليسير، وكان من الرُّواة الموثوق به، ومنهم المطعون فيه. لهذا كانت السُّنَّة المتواترة مقبولة بالإجماع، وليس الأمر كذلك بالنّسبة لغير المتواتر منها، ولذلك اختلفت طرق الصَّحابة في الأخذ بغير المتواتر.
فكان أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ لا يقبلان من الأحاديث إلاَّ ما شهد به اثنان أنَّهما سمعاه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
روى الحافظ الذَّهبيّ في "تذكرة الحُفَّاظ" (1) قال: روى ابن شهاب عن قبيص بن ذؤيب أنَّ الجدّة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أنْ تورث، فقال لها: ما أجد لك في كتاب الله شيئاً، وما علمت أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر لك شيئاً، ثم سأل النَّاس، فقام المغيرة فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيها السُّدس، فقال: هل معك أحد؟ وشهد محمد بن سلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها).
__________
(1) الحافظ الذَّهبيّ: تذكرة الحفّاظ، 1/2.(1/3)
وروى البخاريّ في صحيحه عن بسر بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - يقول: (كنتُ جالساً في مجلس الأنصار إذ أبو موسى كأنَّه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعت، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له؛ فليرجع)، فقال: والله لتقيمنَّ عليه ببيّنة، أَمنْكمْ أحدٌ سمعه من النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أُبي بن كعب: "والله لا يقوم معك إلاَّ أصغر القوم"، فكنت أصغر القوم، فقمتُ معه، فأخبرت عمر أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك" (1) .
وكان عليّ بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ لا يقبل خبر الآحاد ولا يعمل به إلاَّ إذا استحلف الرَّاوي باليمين أنَّه سمع الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
روى الإمام أحمد عن أسماء بن الحكم الفزاريّ، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدّثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدّقته، وإنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - حدّثني وصَدَقَ أبو بكر أنَّه سمع النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثُمَّ ما من رجل يذنب ذنباً، فيتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عزّ وجلّ إلاَّ غُفِرَ له) (3) .
__________
(1) البخاري: صحيح البخاري، كتاب الآداب، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً، 5/2305، وانظر الحديث نفسه بلفظٍ آخر في صحيح مسلم، كتاب الآداب، باب الاستئذان، 3/1694.
(2) الباجي: إحكام الفصول في أحكام الأصول، 1/254.
(3) الإمام أحمد: المسند، 1/2.(1/4)
وكانت طريقة السّيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قبول الخبر ألا يعارضه ما هو أقوى منه، فإنْ عارضه ما هو أقوى منه لم تقبله ولم تعمل به. لذا ردّت خبر ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: (إنَّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) (1) ، وقالت: "يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أَمَا إنَّه لم يكذب، ولكنّه نَسِيَ أو أخطأ، إنَّما مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهوديّة يُبْكَى عليها، فقال: (إنَّهم ليبكون عليها، وإنَّها لتعذب في قبرها) (2) .
قال النّوويّ: "وهذه الرّوايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبدا لله ـ رضي الله عنهما ـ، وأنكرتها عائشة، ونسبتهما إلى النّسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أنْ يكون النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، واحتجت بقوله تعالى: [الأنعام: 164]، قالت: وإنَّما قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في يهوديّة: (إنَّها تعذب وهم يبكون عليها)، يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء) (3) .
ومن هذا يتبيَّن أنَّ خبر الآحاد يحتمل الخطأ، ويُرَدُّ إذا عارض ما هو ثابت مقطوع به.
وعلماء الإِسلام لا يختلفون في ضرورة الأخذ بالسُّنَّة النَّبويّة، واعتبارها مصدراً من مصادر الإِسلام، ولكنهم يختلفون في كيفيّات ومناهج هذا الأخذ، ويختلفون في تقدير السُّنَّة عندما ينظر إلى الاختلاف في طرق روايتها، وفي توثيق ما رُوِيَ منها، فعندئذ يقع الخلاف حولها.
ومما اختلفوا فيه: إفادة خبر الآحاد، هل يفيد العلم واليقين، أم يفيد الظن؟
مسألة كَثُرَ الخلاف والجدال فيها، وكان لها آثار خطيرة في الفِرَق والتَّكفير؛ وذلك لأنَّه إذا أوجب اليقين والعلم فإنكاره كفر.
__________
(1) البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، 1/439، حديث رقم 1241.
(2) مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/643، حديث رقم 932.
(3) النووي: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/228.(1/5)
ومعلوم أنَّ النُّصوص الشَّرعيّة لها جهتان: جهة الثُّبوت، وجهة الدّلالة، وكل منهما إمَّا قطعيّ أو ظنيّ، وموضوع البحث فيما يفيده خبر الآحاد إنَّما هو جهة الثُّبوت، أي: من جهة سنده، لا متنه.
خطة البحث:
قسمت البحث إلى أربعة مباحث على النّحو التّالي :
المبحث الأول: تعريف الخبر وأقسامه.
المبحث الثاني : حكم خبر الآحاد.
المبحث الثالث: فيما يفيده خبر الآحاد، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مَنْ يرى أنه يفيد العلم.
المطلب الثاني: مَنْ يرى أنه يفيد الظن.
المطلب الثالث: أدلة العلماء
المطلب الرابع: بيان الراجح.
المبحث الرابع: بيان أثر الخلاف في بعض المسائل.
المبحث الأول
تعريف الخبر وذكر أقسامه
قبل الحديث عما يفيده خبر الآحاد نمهّد بهذا المبحث لنعرّف بالخبر وأقسامه، وأهم المصطلحات التي سيدور رحى بحثنا عليها.
[1] الخبر:
الخبر في اللُّغة هو: النّبأ، وهو واحد، وجمعه "أخبار" وجمع الجمع "أخابير"، وهو ما أتاك من نبأ عمن تستخبره وخبره بكذا ، وأخبره : نبأه . و استخبره: سأله عن الخبر وطلب أن يخبره (1) .
قال تعالى: [الزَّلزلة: 4]، أي يوم تزلزل الأرض تخبر عما عمل عليها (2) .
وقد فرَّق الرَّاغب بين النَّبأ والخبر فقال: "النَّبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنّ، فلا يُقال للخبر نبأ؛ حتَّى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة) (3) .
وطريق الخبر القول وهو حقيقيّ فيه، وقد يُطلق الخبر لإرادة الإشارات الحاليّة والدَّلائل المعنويّة وهو في هذا الإطلاق مجازيّ.
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، 4/227ـ228، وإبراهيم أنيس "وآخرون": المعجم الوسيط، 1/215.
(2) ابن كثير: تفسير ابن كثير، 4/539، وجلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي: تفسير الجلالين، (سورة الزَّلزلة).
(3) الراغب: المفردات، ص141.(1/6)
وقال الآمديّ: "أمّا حقيقة الخبر فاعلم أولاً أنَّ اسم الخبر يُطلق على الإشارات الحاليّة، والدّلائل المعنويّة... إلى أنْ قال: وقد يُطلق على قول مخصوص، لكنّه مجاز في الأوّل حقيقة في الثّاني، بدليل تبادر الفهم من إطلاق لفظ الخبر، والغالب استعمال اللفظ في حقيقته دون مجازه) (1) .
وقال الشّوكانيّ: "هو نوع مخصوص من القول، وقسم من أقسام الكلام اللِّسانيّ، وقد يستعمل في غير القول، كقول الشّاعر:
تخبرك العينان ... ما القلب كاتم
وقول المعريّ:
نبي من الغربان ليس على شرع ... يخبرنا أنّ الشُّعوب إلى صدع
ولكنه استعمال مجازيّ لا حقيقيّ؛ لأنَّ وصف من وصف غيره بأنَّه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السَّامع إلاَّ القول" (2) .
ويتضح من هذا أنَّ الخبر نوع مخصوص من القول، وقسم من أقسام الكلام اللِّسانيّ، ويُطلق مجازاً على غير القول .
والذي يهمنا أنَّ الخبر نوع مخصوص من الكلام، وقسم من أقسام الكلام اللِّسانيّ؛ لأنَّ بحثنا في الكلام اللِّسانيّ.
والخبر في الاصطلاح: هو قول يحتمل الصِّدق والكذب لذاته. وقوله في التّعريف "لذاته" مخرج لخبر الله وخبر الرَّسول، المقطوع بصدقهما، لكن لا لذات الخبر، وإنَّما لأمر عارض، وهو استحالة الكذب على الله، والعصمة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومخرج للخبر المقطوع بكذبه كخبر مسيلمة، ولكن لا لذات الخبر أيضاً، وإنَّما لقرينة خارجيّة، وهي أنَّه لا نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
[2] أقسام الخبر:
ينقسم الخبر باعتبار القرائن الخارجة عنه إلى ثلاثة أقسام:
__________
(1) الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، 2/243 .
(2) الشوكاني: إرشاد الفحول، ص37.(1/7)
القسم الأوّل: خبر علم صدقه، كخبر الله تعالى، لقيام الدَّليل القطعيّ على اتّصافه سبحانه بصفات الكمال ومنها الصِّدق، وتنزّهه عن صفات النَّقص ومنها الكذب، وخبر النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لقيام الدَّليل على عصمته عن الكبائر والصَّغائر ومنها الكذب.
القسم الثّاني: خبر علم كذبه. ومنه ما نُقِلَ عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد استقرار الأخبار وتدوينها، ثُمَّ بحث عنه فلم يوجد لا في بطون الكتب، ولا صدور الرُّواة.
القسم الثَّالث: خبر لم يعلم صدقه ولا كذبه، وله حالات:
الأولى: ما ترجح فيه جانب الصِّدق على جانب الكذب، وذلك كخبر العدل الثِّقة.
الثّانية: ما ترجح فيه جانب الكذب على جانب الصِّدق، وهو خبر معلوم الفسق.
الثّالثة: ما استوى فيه الجانبان: جانب الصِّدق وجانب الكذب، كخبر المجهول.
والمقصود في البحث هو خبر الواحد العدل الثِّقة. وهو الخبر الصَّحيح المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي توفّرت فيه الشُّروط التي تجعله موصوفاً بالصحة، باتفاق العلماء، وهذه الشُّروط خمسة، نوضحها فيما يلي:
[أ] عدالة الرَّاوي:
والعدالة ملكة تحمل صاحبها على التَّقوى، واجتناب الأدناس، وما يخل بالمروءة عند النَّاس.
[ب] ضبط الرَّواي:
والضَّبط معناه: استيعاب الحديث حفظاً عن ظهر قلب، أو تقييده في كتاب، إلى أنْ يؤديه كما سمعه.
[ج] اتصال السَّند:
وهو أنْ يكون كل واحد من الرُّواة قد سمعه ممن فوقه إلى آخر السَّند.
[د] نفيّ الشُّذوذ:
وذلك بسلامة الحديث من مخالفة الثِّقة لمن هو أقوى منه، سواء أكانت المخالفة في السَّند أم في المتن.
[هـ] نفيّ العلّة:
أي أنْ يكون سالماً من أوصاف خفية تقدح في صحته سنداً أو مَتْناً.
وهي شروط شاملة لاختبار الحديث سنداً ومتناً من جميع جوانب البحث مما يعرفنا سلامة الرواية، وأنَّ الحديث قد وصلنا كما صدر عن قائله عليه الصلاة والسَّلام.
[3] تقسيم الخبر من حيث عدد رواته:(1/8)
اختلف العلماء في تقسيم خبر النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من حيث عدد رواته:
فقد ذهب الجمهور من العلماء ـ غير الحنفية ـ إلى تقسيم السُّنَّة النَّبويّة باعتبار وصولها إلينا إلى قسمين: متواترة، وآحاد (1) .
ثُمَّ قسّم الجمهور الآحاد إلى:
[أ] مستفيضة:
وهي ما زاد رواتها عن ثلاثة ولم يصلوا حدّ التَّواتر.
[ب] غير مستفيضة :
وهي ما رواه ثلاثة فأقلّ.
وقد درج على هذا التَّقسيم من الحنفية: الجصاص، وأبو منصور البغداديّ، وابن فورك، وعيسى بن أبان.
وذهب باقي الحنفية إلى تقسيمه إلى ثلاثة أقسام : متواتر، ومشهور، وآحاد (2) .
الخبر المتواتر:
المتواتر لغة: مأخوذ من التَّواتر وهو التَّتابع بين أشياء بينها مهلة، ومنه قوله تعالى [المؤمنون: 44]، أي: رسولاً بعد رسول بفترة بينهما.
واصطلاحاً: "هو خبر بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة معه تواطؤهم على الكذب" (3) .
حكم الخبر المتواتر:
__________
(1) الباجي: إحكام الفصول في أحكام الأصول، 1/235، وابن قدامة: روضة الناظر مع نزهة الخاطر العاطر، 1/224، والشوكاني: إرشاد الفحول، ص41.
(2) صدر الشريعة: التلويح على التوضيح، 2/64–65.
(3) القرافي: تنقيح الفصول، ص 349-350.(1/9)
المتواتر يفيد العلم (1) الضروريّ اليقينيّ (2) عند جمهور العلماء، خلافاً للكعبيّ وأبي الحسين البصريّ المعتزليّ، والدّقاق من أصحاب الشَّافعيّ وغيرهم، حيث ذهبوا إلى أنَّه يفيد العلم النَّظريّ (3) .
والعلم الضروريّ ـ وهو ما لا يحتاج إلى نظر وفكر ـ مثل الحكم العقليّ، الذي لا يقبل رداً لكونه من المسلَّمات، مثل: الواحد نصف الاثنين، والكلّ أعظم من الجزء، وما ثبت بالأدلة القطعيّة اليقينيّة المسلّمة عند الكلّ مثل: نصّ القرآن الكريم، والحديث المتواتر.
وهذا النّوع يعلمه كل متعقل، ولو لم يكن من أهل الاختصاص العلميّ في المسألة، لفرط ظهور قطعيته، حتَّى صار من المسلَّمات المقطوع بها (4) .
وأمَّا النَّظري فهو ما يحتاج في حصوله إلى الفكر والنَّظر، فهو ليس ظاهراً لكلّ أحد، إنَّما هو يحصل للعالِم المتبحر في العلم، وهو علم يقينيّ، لكنَّه ليس ضروريّاً.
خبر الآحاد:
__________
(1) العلم: هو "الاعتقاد الجازم المطابق للواقع". انظر: الجرجاني: التعريفات، ص113.
(2) اليقين: هو "اعتقاد الشيء بأنّه كذا مع الاعتقاد بأنّه لا يمكن إلاَّ كذا مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال". انظر: الجرجاني، التعريفات، ص113.
(3) أبو الحسين البصري: المعتمد، 2/552، وإمام الحرمين: البرهان، 1/579، والغزالي: المستصفى من علم الأصول، 1/251، وابن الحاجب: المختصر، 1/644، والباجي: إحكام الفصول، 1/236، وعبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، 2/660، والتفتازاني: التلويح إلى كشف حقائق التنقيح، 2/6، وابن قدامة، 1/247.
(4) الغزالي: المستصفى، 1/254-255، والشيرازي: التبصرة، ص293.(1/10)
الآحاد لغة: جمع (أحد)، وهو بمعنى الواحد، والواحد أوّل العدد، تقول: أحد واثنان وأحد عشر، وإحدى عشرة. (وأحد) اسم من أسماء الله تعالى، و(الأحد) هو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر، وهو اسم بني لنفي ما يذكر معه من العدد ، تقول ما جاءني من أحد ، والهمزة في (أحد) بدل الواو وأصله وحد (1) . قال النَّابغة (2) :
كأنَّ رحلي وقد زَالَ النَّهارَ بنا ... يوم الجليلِ على مستأنس وحدي
وأمَّا تعريفه الاصطلاحيّ فقد اختلف العلماء في تقسيم خبر النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من حيث عدد رواته، ولذلك اختلفوا في تعريف خبر الآحاد على النَّحو الآتي:
[أ] فقد عرَّفه من الشَّافعيّة حُجَّة الإسلام الغزاليّ بأنَّه: "ما لا ينتهي من الأخبار إلى حدّ التَّواتر" (3) .
[ب] وعرَّفه من الحنفية فخر الإسلام البزدويّ فقال: "كلّ خبر يرويه الواحد أو الاثنان فصاعداً، لا عبرة للعدد فيه بعد أنْ يكون دون المشهور والمتواتر" (4) .
[ج] وجمهور العلماء يرى بأنَّه "الخبر الذي لم يبلغ رواته عن الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - حدّ التَّواتر قلّوا أو كثروا، فيشمل المشهور".
[د] ويرى جمهور الحنفية أنَّه ليس بالمتواتر ولا المشهور؛ لأنَّ المشهور عندهم "ما رواه صحابيّ أو صحابيان عن الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ نقله جمع غفير متواتر في عصر التَّابعين أو تابعيهم إلى عصر التَّدوين". أمَّا الآحاد فهو "ما رواه صحابي أو صحابيان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نقله واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ حدّ التَّواتر في عصر التَّابعين وتابعيهم إلى عصر التَّدوين" (5) .
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، 4/447-448، وإبراهيم أنيس "وآخرون": المعجم الوسيط، 1/8.
(2) الذبياني: ديوان النابغة الذبياني، ص31.
(3) الغزالي: المستصفى، 1/272.
(4) البزدوي: أصول البزدوي، 2/127 مع كشف الأسرار.
(5) عبد الرحمن الصابوني "وآخرون": المدخل الفقهي، ص 82.(1/11)
[هـ] أمَّا الجصاص، وأبو منصور البغدادي، وبن فورك، وعيسى بن أبان، الذين يرون أنَّ الخبر ينقسم إلى قسمين فإنَّهم قالوا: "إنَّ المشهور من المتواتر، فهو قسم منه وليس قسيماً له". وقالوا: "إنَّه يفيد علم اليقين نظراً، أي بطريق الاستدلال لا بطريق الضَّرورة" (1) .
المبحث الثاني
حكم خبر الآحاد
إنَّ حُجِّيَّة السُّنَّة مرتبطة بحُجِّيَّة خبر الآحاد، إذ أغلب السُّنَّة أخبار آحاد، فمن أنكر حُجِّيَّة خبر الآحاد يكاد ينكر حُجِّيَّة السُّنَّة كلّها. ولم يخالف في حُجِّيَّة خبر الآحاد أحد ممن مضى من أهل العلم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونقل ابن عبد البر إجماع أهل الحديث والأثر على قبول خبر الواحد وإيجاب العمل به إذا ثبت، ولم يشذ عن ذلك إلاَّ الخوارج وطائفة من أهل البدع أنكروا العمل بخبر الآحاد (2) .
الأدلة:
أولاً: أدلة الجمهور:
استدلَّ الجمهور على ما ذهبوا إليه بأدلة كثيرة، منها:
[1] الكتاب:
[أ] استدلوا بقوله تعالى: [التوبة: 122].
جهة الدّلالة منها:" أنَّ الله تعالى أوجب الأخذ بإخبار الطَّائفة، والطَّائفة تُطلق على عدد لا يصل إلى عدد التَّواتر، فدلَّ هذا على وجوب العمل بخبر الآحاد" (3) .
[ب] وبقوله تعالى: [الحجرات: 6].
جهة الدّلالة فيها: أنَّ الله تعالى علَّق التَّثبُّت على خبر الفاسق، فدلَّ ذلك على قبول خبر غير الفاسق.
[2] ومن السُّنَّة:
__________
(1) عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، 2/678.
(2) ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، 1/2.
(3) السرخسي: أصول السرخسي، 1/323.(1/12)
ما ورد أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بآحاد الصَّحابة إلى النَّواحي والبلاد النَّائية ليعلموهم الأحكام، فقد بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة، وعلياً ومعاذاً ـ رضي الله عنهما ـ إلى اليمن، وغير ذلك، ومن المعلوم أنَّ المبعوث إليه مكلَّف بالطَّاعة والامتثال والانقياد لقول المبعوث إليهم، ولو لم يكن خبر الواحد حُجَّة لما كان ذلك كذلك (1) .
[3] الإجماع:
استدلوا بإجماع الصَّحابة رضوان الله عليهم على قبول خبر الواحد، فقبل أبو بكر الصِّدِّيق خبر المغيرة بن شعبة في توريث الجدة، وعمل عمر بن الخطاب بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس وأخذ الجزية منهم، وعمل علي بن أبي طالب بخبر الضَمار في توريث المرأة من دية زوجها .
إلى غير ذلك من الحوادث الكثيرة التي عملوا فيها بأخبار الآحاد، ولم ينقل من أحد منهم إنكار على فاعله، مما يدلُّ ويؤكِّد على حصول الإجماع (2) .
ثانياً: أدلة المنكرين:
استدلَّ المنكرون لحُجِّيَّة خبر الآحاد بأدلة منها :
[أ] استدلوا من القرآن بقوله تعالى: [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: [البقرة: 169]، وقوله تعالى: [النَّجم: 28].
__________
(1) الإمام الشافعي: الرسالة، ص 414، وابن السمعاني: قواطع الأدلة، 2/270، والغزالي: المستصفى، 2/205، والرهوني: تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السّول، 2/353.
(2) الإمام الشافعي: الرسالة، ص422، وابن السمعاني: قواطع الأدلة، 2/273، ابن النجار: شرح الكوكب المنير، 2/369.(1/13)
جهة الدّلالة من الآيات: أفادت هذه الآيات أنَّ العمل بخبر الآحاد اقتفاء لما لا نعلم، وقول بما لا نعلم. كما أنَّه عمل بالظَّنّ ،ونحن منهون عن اتّباع الظَّنّ (1) .
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنَّ النَّهي في الآيات المذكورة عن اتّباع الظَّنّ إنَّما هو في الأمور العقدية وأصول الدِّين وقواعده العامّة، وهذه لا يعمل فيها بالظِّنّ، وإنَّما لا يد فيها من القطع.
أمَّا في فروع الدِّين وجزئياته فالعمل بالظِّنّ واجب، لذلك نجد الأفهام تختلف في نصوص القرآن، والمجتهدون يذهبون مذاهب متعددة، ولا يقطع أحدهم بصحة اجتهاده، ومع ذلك فالإجماع قائم على وجوب العمل بما أدَّى إليه اجتهاده ،واجتهاده ظن (2) .
[ب] واستدلوا بتوقُّف النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في خبر ذي اليدين الذي جاء فيه (أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من اثنتين. فقال له ذو اليدين: أقصرت الصَّلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أصدق ذو اليدين؟ فقال النَّاس: نعم. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى اثنتين أخريين، ثم سلَّم، ثم كبَّر فسجد مثل سجوده أو أطول) (3) .
__________
(1) أبو الحسين البصري: المعتمد، 2/124، وابن السمعاني: قواطع الأدلة، 2/290، والغزالي: المستصفى، 2/179، والآمدي: الإحكام، 2/68، والقرافي: شرح تنقيح الفصول، ص357، والرهوني: تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السّول، 2/350، وعبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، 2/680.
(2) المراجع السابقة.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الآذان، باب هل يأخذ الإمام إذا شكّ بقول النّاس، 1/252، حديث رقم 682.(1/14)
فلم يقبل خبره حتَّى أخبره أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ومَنْ كان في الصَّف بصدقه، فأتم وسجد للسّهو. فلو كان خبر الواحد حُجَّة لأتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته من غير توقُّف ولا سؤال (1) .
وأجاب الجمهور بأنَّ توقّفه - صلى الله عليه وسلم - في خبر ذي اليدين لتوهُّمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون مَنْ حضر من الجمع الكثير (2) .
ثُمَّ أيضاً: إنَّ عمل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخبر أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما مع ذي اليدين يُعَدُّ عملاً بخبر لم ينته إلى حدّ التَّواتر .
ولذلك نقرِّر: إنَّ خبر الواحد العدل الثِّقة يجب تصديقه، ويجب العمل بما جاء فيه، ويحرم ردّه وإنكاره؛ إلاَّ لعلةٍ قادحة يراها الرَّاوي أو الفقيه حسب شروطه.
المبحث الثالث
ما يفيده خبر الآحاد
اختلف العلماء في هذه المسألة خلافاً كبيراً ـ بعد اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الآحاد ـ هل يفيد العلم اليقينيّ أم أنَّه يفيد الظَّنَ؟
ولتوضيح هذا الخلاف لا بُدَّ من الإشارة إلى أمور لتسهيل فهم البحث على القارئ ووضوح الرُّؤية فيه، كي لا يُتوهَّم من البحث ما لا يقصد من سياق العبارات:
[1] خبر من اتصف بالمعجزة؛ لأنَّ المعجزة دليل صدقه.
[2] إذا أخبر صاحب المعجزة أنَّ المخبر لا يكذب فإنَّه يعلم صدقه.
[3] أنْ يقرّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المخبر على خبره، فهذا يعلم صدقه؛ لأنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يقرّ على الكذب (3) .
__________
(1) الغزالي: المستصفى، 2/179، والآمدي: الإحكام، 2/98، والقرافي: شرح تنقيح الفصول، ص357، والرهوني: تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السّول، 2/356.
(2) المراجع السابقة.
(3) الباجي: إحكام الفصول، ص330.(1/15)
[4] يجب التَّمييز بين خبر الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - لسامعه ممن آمن به واتّبع رسالته، وبين خبر آحاد المسلمين الذين نقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى من لم يشاهد الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، فخبر الرَّسول في حضرته يفيد القطع واليقين في حقّ السَّامع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
[5] أنَّ الخبر المشهور ـ "وهو ما كان آحاديّ الأصل من الصَّحابة ثمّ تواتر عنه" ـ يفيد العلم اليقينيّ عند كثير من العلماء (2) .
[6] يجب التَّمييز بين خبر الآحاد غير المحفوف بالقرائن (3) ، وبين المقرون بما يفيد العلم، فالخبر المحفوف بالقرائن يفيد العلم. وهو اختيار المحقّقين من الأصوليين: كإمام الحرمين، والغزاليّ، والآمديّ، والرَّازيّ، وابن الحاجب، ورواية عن الإمام أحمد (4) .
__________
(1) الشيرازي: اللمع، ص40، وابن قدامة: روضة الناظر وشرحها، 1/236-237.
(2) التفتازاني: التلويح إلى كشف حقائق التنقيح، 2/6، ومحمد محمود فرغلي: بحوث في السنة المطهرة، 2/93.
(3) القرائن: لغة جمع قرينة، والقرينة فعيلة بمعنى المفاعلة، مأخوذة من المقارنة وهي المصاحبة، يقال: فلان قرين لفلان، أي مصاحب له. وفي الاصطلاح: "أمر يشير إلى المطلوب". انظر: الجرجاني: التعريفات ص 223.
(4) الآمدي: الإحكام، 3/32، وابن الحاجب: مختصر ابن الحاجب وشرحه، 2/55، وابن السبكي: جمع الجوامع مع شرحه مع حاشية البناني، 2/130-131، وابن السمعاني: قواطع الأدلة في الأصول، 1/333، وابن عبد الشكور: مسلم الثبوت، 2/121، وابن أمير الحاج: تيسير التحرير، 3/76.(1/16)
والقرائن كثيرة، ويصعب ضبطها بحدٍّ حقيقيّ يميّزها عن غيرها؛ وذلك لدقتها في نفسها، فإنَّها قد تدرك ولا تفي العبارة بوصفها؛ إذ ليس كل ما يدركه الحس يستطيع الإنسان أنْ يعبِّر عنه. قال إمام الحرمين: "قلنا: الخوض فيما نؤثره يستدعي تقديم أمر، وهو أنَّ العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على قرائن الأحوال، وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها، ولا سبيل إلى جحدها إذا وقعت، وهذا كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل، ونشط الثّمل، وغضب الغضبان، ونحوها، فإذا ثبتت هذه القرائن ترتب عليها علوم بديهيّة لا يأباها إلاَّ جاحد، ولو رام واجد العلوم ضبط القرائن ووصفها بما تتميَّز به عن غيرها، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فكأنَّها تدق عن العبارات وتأبى على مَنْ يحاول ضبطها بها. وقد قال الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: مَنْ شاهد رضيعاً قد التقم ثدياً من مرضع، ورأى فيه آثار الامتصاص، وحركات الغلصمة، وجرجرة المتجرع، لم يسترب في وصول اللَّبن إلى جوف الصَّبي، وحلَّ له أنْ يشهد شهادةً باتةً بالرَّضاع) (1) .
من هذه القرائن:
أخبار الآحاد التي تلقتها الأُمَّة بالقبول:
فإنَّها تفيد العلم النَّظريّ، عن طريق الاستدلال لا من جهة الضَّرورة. ومثَّلوا لها بحديث: (لا وصية لوارث)، وحديث: (هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته)، وحديث: (الدِّية على العاقلة)، وحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - لما أرسله الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، ونحوها. وليس المراد من تلقي الأُمَّة له بالقبول الإجماع؛ وإنَّما صفته أنْ يعرف أكثر السَّلف ومعظمهم به، ويستعملونه من غير نكير على قائله، ومن خالفهم كان شاذّاً لا يلتفت إليه (2) .
__________
(1) إمام الحرمين: البرهان، 1/373.
(2) الجصاص: الفصول، ص403، وولي الدين العراقي: الغيث الهامع شرح جمع الجوامع، 2/492-493، وابن النجار: شرح الكوكب المنير، 2/348-351.(1/17)
قال ابن النَّجّار نقلاً عن أبي الخطاب: "الذي عليه الأصوليون من أصحاب أبي حنيفة والشَّافعي وأحمد أنَّ خبر الواحد الذي تلقته الأُمَّة بالقبول تصديقاً له، وعملاً به، يوجب العلم إلاَّ فرقة قليلة اتّبعوا طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك" (1) .
أخبار الآحاد التي أجمعت الأُمَّة على العمل بمقتضاها:
فإنَّها تفيد العلم؛ لأنَّ الإجماع قد صيّره من المعلوم صدقه، وإجماع الأُمَّة معصوم عن الخطأ؛ لأنَّها لا تجتمع على خطأ. ومثّلوا له بحديث: (لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) (2) .
ويُعَدُّ هذا من باب أثر الإجماع في سنده، فقد يكون السَّند الذي قام عليه الإجماع ظنيّاً، فيرفعه الإجماع من مرتبة الظَّنّ إلى مرتبة العلم (3) .
ومحل الخلاف في خبر الآحاد الذي لم تحتف به قرائن تقويه، وترتفع به عن غلبة الظَّنّ، أيفيد العلم؟
فمثل هذا الخبر جرى الخلاف فيه على مذهبين:
المذهب الأوّل: يرى أنَّه يفيد الظَّنّ فقط.
المذهب الثّاني: يرى أنَّه يفيد العلم.
المطلب الأوّل: مَنْ يرى أنَّ خبر الآحاد يفيد الظَّنّ
ذهب جماهير الفقهاء والأصوليين، وهو قول عامة المالكيّة، وبه قال أحمد، واختاره إمام الحرمين، والغزاليّ، وعزاه النّوويّ، إلى جماهير المسلمين أنَّ خبر الواحد العدل إنَّما يفيد الظَّنّ، لتعذُّر القطع بصدق ناقله.
__________
(1) ابن النجار: شرح الكوكب المنير، 2/349-350.
(2) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 5/1965، حديث رقم 4819، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/1028، حديث رقم 1408.
(3) الشيرازي: اللمع، ص40، والخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه، ص188، الشوكاني: إرشاد الفحول، ص43.(1/18)
قال الغزاليّ: "خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضَّرورة، فإنَّا لا نصدِّق بكلّ ما نسمع، ولو صدّقنا وقدّرنا تعارض خبرين، فكيف نصدّق بالضِّدَّين؟ وما حُكِيَ عن المحدّثين من أنَّ ذلك يوجب العلم، فلعلَّهم أرادوا أنَّه يفيد العلم بوجوب العمل، أو سّمُّوا الظَّنّ علماً، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظَّاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظَّنّ" (1) .
وقال صفي الدِّين الهنديّ: "خبر الواحد العدل المتجرد عن القرائن لا يفيد العلم عند جماهير العلماء خلافاً لبعض أصحاب الحديث" (2) .
وقال الآمديّ: "اختلفوا في الواحد العدل إذا أخبر بخبر؛ هل يفيد خبره العلم؟ فذهب قوم إلى أنَّه يفيد العلم، ثُمَّ اختلف هؤلاء فمنهم من قال: إنَّه يفيد العلم بمعنى الظَّنّ لا بمعنى اليقين، فإنْ العلم قد يُطلق ويراد به الظَّنّ كما في قوله تعالى: [الممتحنة: 10]، أي ظننتموهن، ومنهم مَنْ قال: إنَّه يفيد العلم اليقينيّ قرينة، لكن من هؤلاء مَنْ قال ذلك مطرّد في خبر كلّ واحد، كبعض أهل الظَّاهر، وهو مذهب أحمد بن حنبل في إحدى الرِّوايتين عنه، ومنهم مَنْ قال: إنَّما يوجد ذلك في بعض أخبار الآحاد لا في الكُلّ، وإليه ذهب بعض أصحاب الحديث، ومنهم مَنْ قال: إنَّه يفيد العلم إذا اقترنت به قرينة، كالنّظام ومَنْ تابعه في مقالته، وذهب الباقون إلى أنَّه لا يفيد العلم اليقينيّ مطلقاً، لا بقرينة ولا بغير قرينة، والمختار: حصول العلم بخبره إذا احتفت به القرائن، ويمتنع ذلك عادة" (3) .
وقال الشّيرازيّ: "واعلم أنَّ خبر الواحد: ما انحطّ عن حدّ التَّواتر، وهو ضربان: مسند ومرسل، فأمَّا المرسل فله باب يجيء إن شاء الله تعالى، وأمَّا المسند فضربان:
__________
(1) الغزالي: المستصفى، 1/272.
(2) صفي الدين الهندي: نهاية الوصول إلى دراية الأصول، 7/2801.
(3) الآمدي: الإحكام، 2/48.(1/19)
أحدهما: يوجب العلم، وهو على أوجه، منها: خبر الله عزَّ وجلَّ، وخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومنها أنْ يحكي الرُّجل بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، ويدّعي علمه، فلا يُنْكَر عليه، فيقطع به على صدقه، ومنها أنْ يحكي الرُّجل شيئاً بحضرة جماعة كثيرة، ويدّعي علمهم فلا ينكرونه، فيعلم بذلك صدقه، ومنها خبر الواحد الذي تلقته الأُمَّة بالقبول، فيقطع بصدقه، سواء عمل الكُلّ به، أو عمل البعض، وتأوّله البعض.
فهذه الأخبار توجب العمل، ويقع العلم بها استدلالاً.
والثّاني: يوجب العمل ولا يوجب العلم، وذلك مثل الأخبار المروية في السُّنن والصِّحاح وما أشبهها" (1) .
وقال السَّرخسيّ: "قال فقهاء الأمصار ـ رحمهم الله تعالى ـ: "خبر الواحد العدل حُجَّة للعمل به في أمر الدِّين، ولا يثبت به علم اليقين" (2) .
وقال البزدويّ: "وهذا يوجب العمل، ولا يوجب العلم يقيناً عندنا" (3) .
وقال القفّال الشَّاشيّ: "وهو يوجب العمل به في الأحكام الشَّرعيّة، بشرط: إسلام الرَّاوي، وعدالته، وضبطه، وعقله، واتصل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الشَّرط" (4) .
المطلب الثاني: مَنْ يرى أنَّه يفيد العلم
ذهب داود الظَّاهريّ وابن حزم، وجماعة من أهل الحديث، وبعض الحنابلة، ورواية عن الإمام أحمد، وابن خويزمنداد من المالكيّة ونسبه إلى الإمام مالك؛ أنَّ
خبر الواحد العدل إذا صَحَّ أفاد يقين العلم (5) .
__________
(1) الشيرازي: اللمع في أصول الفقه، ص40.
(2) السرخسي: أصول السرخسي، 1/321.
(3) البزدوي: أصول البزدوي مع الكشف، 2/678.
(4) الشاشي: أصول الشاشي، 1/272.
(5) ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، 1/8، الغزالي: المنخول من تعليقات الأصول، ص252.(1/20)
قال ابن حزم: "هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم؟"، قال أبو محمد: قال أبو سليمان والحسين عن أبي علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم: "إنَّ خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معاً، وبهذا نقول، وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد عن مالك بن أنس" (1) .
وقال في موضع آخر من كتابه: "القسم الثَّاني من الأخبار: ما نقله الواحد عن الواحد، فهذا إذا اتصلَّ برواية العدول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب العمل به، ووجب العلم بصحته" (2) .
وجاء في "المسودة": "قال القاضي: وقال في رواية الإمام أحمد بن حنبل في أحاديث الرُّؤية: نؤمن بها ونعلم أنَّها حقّ نقطع على العلم بها، قال: وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من أصحابنا، وقالوا: خبر الواحد إنْ كان شرعيّاً أوجب العلم" (3) .
وقال الشُّوكانيّ: "القسم الثَّاني: الآحاد، وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم، سواء كان لا يفيده أصلاً، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد، وهذا قول الجمهور. وقال أحمد بن حنبل: إنَّ خبر الواحد يفيد بنفسه العلم، وحكاه ابن حزم في كتاب "الإحكام" عن داود الظَّاهريّ، والحسين بن علي الكرابيسيّ، والحارث المحاسبيّ، قال: وبه نقول، وحكاه ابن خواز منداد عن مالك بن أنس، واختاره وأطال في تقريره" (4) .
المطلب الثالث: أدلة العلماء
[أ] استدلَّ مَنْ يرى أنَّ خبر الآحاد يفيد الظِّنّ بما يأتي:
[1] لو كانت أخبار الآحاد توجب العلم؛ لما اعتُبِر فيها صفات المخبر من: العدالة، والإسلام، والبلوغ، وغير ذلك، كما لم يعتبر ذلك في أخبار التَّواتر.
__________
(1) ابن حزم: الإحكام، 1/112.
(2) ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، 1/103.
(3) ابن تيمية: المسودة، 1/219.
(4) الشوكاني: إرشاد الفحول، ص43.(1/21)
[2] لو حصل العلم بخبر الآحاد لكان عاديّاً؛ ولو كان عاديّاً لاطّرد كخبر التَّواتر، واللازم منتف، إذ كثيراً ما يسمع خبر العدل ولا يحصل العلم القطعيّ.
[3] لو كانت أخبار الآحاد توجب العلم؛ لوجب أنْ يحصل للحاكم العلم بشهادة الواحد، وما احتاج لشهادة آخر؛ بل كان الشَّاهد الواحد إذا أخبر الحاكم بشيء وقع للحاكم علم ذلك ومعرفته (1) .
[4] لو كانت أخبار الآحاد توجب العلم؛ لوجب ألا تنكر عليه - صلى الله عليه وسلم - قريش حين أخبرهم أنَّ الله تعالى قد أسرى به إلى بيت المقدس في ليلة واحدة؛ لأنَّ العلم قد وقع لهم بما أخبرهم، فلما أنكروا عليه وردوا عليه.
[5] أنَّه لو كانت توجب العلم؛ لوجب إذا عارضه خبر متواتر أنْ يتعارضا، ولأدَّى إلى تناقض معلوميْن، ولما ثبت أنْ يقدّم عليه التَّواتر (2) . وهذا يؤدي إلى إبطال ما هو معمول به عند جميع الفقهاء في باب الترجيح بين الأدلة في الفقه الإسلاميّ؛ لاستواء جميع الأخبار، واستحالة ردّها.
[6] لو كانت توجب العلم؛ لوجب تخطئة المخالف للخبر بالاجتهاد؛ لأنَّه اجتهاد خلاف القاطع، فيكون خطأ.
ولم يقل أحد أنَّ المخالف للخبر بالاجتهاد مخطئ. فدلَّ ذلك على أنَّها توجب الظَّنّ (3) .
__________
(1) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، 2/32-35.
(2) الرهوني: تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول، 2/334، وابن عبد الشكور: مسلم الثبوت، 2/153.
(3) الرهوني: تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول، 2/334، وابن عبد الشكور: مسلم الثبوت، 2/154.(1/22)
[7] لو كانت توجب العلم لأصبحت كل الأحاديث درجة واحدة، ولا معنى جعل الفقهاء تصنيف الحديث من حيث القوّة والعلو في السَّند إلى: ما كان متفقاً عليه عند البخاريّ ومسلم، وخرّجاه في الصَّحيحين، ويأتي دونه في المرتبة: ما تفرّد به البخاريّ دون مسلم وخرّجه، ودونه ما كان على شرطيْ البخاريّ ومسلم ولم يخرّجاه، ثُمَّ دونه ما كان على شرط البخاريّ ولم يخرّجه، ثُمَّ دونه ما كان على شرط مسلم ولم يخرّجه، ثُمَّ ما كان صحيحاً عند غيرهما وليس على شرطيهما. وهذا يدلُّ دلالة واضحة على أنَّ خبر الآحاد لا يوجب العلم (1) .
[ب] واستدلَّ مَنْ يرى أنَّه يفيد العلم بما يأتي:
[1] أنَّ كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلّه في الدِّين وحي من عند الله تعالى، وأنَّ الله تعالى تكفَّل بحفظ وحيه، [الحجر: 9]، وكلّ ما تكفَّل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه شيء، وأن لا يحرَّف منه شيء، إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذباً، وهذا محال. فدلَّ ذلك على أنَّ كل خبر رواه الثِّقة مسنداً إلى الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - صدق، ويوجب العلم ويقطع بصحته.
[2] لو لم يكن خبر الآحاد يوجب العلم؛ لِمَا وجب على الأُمَّة العمل به؛ بل حرم عليها العمل به؛ لأنَّ الله تعالى حرَّم القول في دينه بالظَّنّ وبما لا نعلم، قال تعالى: [الإسراء: 36]، وقال تعالى: [الأعراف: 33]، وقال تعالى: [النَّجم: 28]، وغيرها من الآيات. فدلَّ حُرمة اتّباع الظَّنّ، وصحَّ أنَّ خبر الآحاد مقطوع به (2) .
__________
(1) عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، 2/682.
(2) ابن عبد الشكور: مسلم الثبوت، 2/154.(1/23)
[3] لو لا أنَّ أخبار الآحاد توجب العلم؛ لِمَا استُدلَّ بها في أمور الغيب، قد استدلَّ بها أمور الغيب، مثل: الأخبار المروية في عذاب القبر ونحوها، وقبلها السلف، وهذا مما يؤيِّد إفادة أخبار الآحاد العلم (1) .
المطلب الرابع: بيان الرَّاجح
الرَّاجح في هذه المسألة هو قول الجمهور القائل بأنَّ خبر الآحاد إذا لم تحتف به قرائن تقويه فإنَّه يفيد الظَّنّ، وذلك لقوّة ما استدلوا به، وأنَّ ما ذكره المخالف من أدلة يمكن الجواب عنها بما يلي:
أولاً: إنَّ كلمة (الذِّكر)، في قوله تعالى: ، تعني القرآن فقط، ولا تعني السُّنَّة النَّبويّة. فالله تعالى تكفَّل بحفظ القرآن وجمعه، قال تعالى: [القيامة: 17].
وفيما يتعلَّق بالسُّنَّة؛ فالرَّسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَنْ كذب عليَّ متعمّداً؛ فليتبوء مقعده من النَّار) (2) .
فالحديث يشير إلى عدم استحالة الكذب والوضع في السُّنَّة. فلولا خوفه من وقوع الكذب لِمَا توعَّد عليه.
فالسُّنَّة خارجة عن ذلك بإشارة النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث بإمكانية الكذب والوضع على لسان الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثانياً: وأجابوا عن قولهم: "لو لم يكن خبر الآحاد يوجب العلم؛ لِمَا وجب على الأُمَّة العمل به؛ بل حرم عليها العمل به". أنَّ التَّعبُّد بخبر الآحاد لا يقتضي جواز القول على الله بما لا نعلم، لأننا لو ظننا صدق الرَّاوي؛ فإنَّا نعلم بدليل قاطع وجوب العمل به، وإذا قلنا: إنَّنا تعبّدنا لله بذلك العمل؛ فقد قلنا على الله بما نعلم.
__________
(1) الآمدي: الإحكام، 2/35-37، وابن الحاجب: شرح المختصر، 2/57، والبناني: حاشية البناني على شرح جمع الجوامع، 2/130، والتفتازاني: التلويح إلى كشف حقائق التنقيح، 2/9.
(2) أخرجه الشَّيخان: البخاريّ في كتاب العلم برقم 107، ومسلم في المقدمة برقم 4، واللَّفظ لمسلم.(1/24)
ثالثاً: وأجابوا عن قولهم:"إنَّ أخبار الآحاد قد استدلَّ بها في أمور الغيب وقبلها السَّلف": أنَّ الأخبار المروية في أمور الآخرة منها ما اشتهر فيوجب العلم، ومنها ما تواتر معنويّاً واعتضد بالكتاب فيفيد القطع (1) .
رابعاً: وأجابوا عما نسبه ابن خويزمنداد إلى الإمام مالك، ونقل عن الإمام أحمد: أنَّ خبر الآحاد يفيد العلم بما يأتي:
ما نسبه ابن خويزمنداد إلى الإمام مالك فيه إشكال؛ لأنَّ أئمة المالكيّة وجمهورهم يخالفون ما نقله عن مالك، فقد درجوا على أنَّ خبر الآحاد يوجب العمل، وأنَّ ما تضمّنته أخبار الآحاد أمر مظنون غير مقطوع به.
وقد نازع أبو عبد الله المازريّ ابن خويز منداد فيما نسبه لمالك، وتعقّبه بقوله: "ولم يُعْثَر لمالك على نصّ فيه. ولعلَّه رأى مقالة تشير إليه، ولكنها متأوّلة" (2) .
وكتب أصول الفقه المالكيّ واضحة في اتجاه المازريّ، قال ابن عبد البر: "والذي عليه أكثر أهل العلم من أصحابنا أنَّه يوجب العمل دون العلم. وهو قول الشَّافعيّ وجمهور أهل الفقه والنَّظر، ولا يوجب العلم عندهم إلاَّ ما شهد به على الله، وقطع العذر بمجيئه قطعاً، ولا خلاف فيه" (3) .
وابن خويز منداد عنده شواذ عن الإمام مالك، وتأويلات لم يُعرِّج عليها حذاق المذهب، ولعلَّ هذا من جملة الأقوال التي انفرد في نسبتها إلى الإمام مالك (4) .
وكذلك ما نقل عن الإمام أحمد من القول بإفادة خبر الآحاد العلم ليس على إطلاقه، فالإمام أحمد لا يقول بأنَّ كل خبر آحاد يفيد العلم؛ بل يفيد من انضمام القرائن إليه.
__________
(1) التفتازاني: التلويح إلى كشف حقائق التنقيح، 2/9.
(2) الزركشي: البحر المحيط، 4/263.
(3) ابن عبد البر: التمهيد، 1/7.
(4) ابن حجر: لسان الميزان، 5/291.(1/25)
وقد أورد أئمة المذهب الحنبليّ عن الإمام أحمد رواية أخرى عنه تقول: إنَّ خبر الآحاد لا يفيد العلم، قال ابن قدامة: "اختلفت الرِّواية عن إمامنا أحمد في حصول العلم بخبر الواحد، فرُوِيَ عنه أنَّه لا يحصل به علم، وهو قول الأكثرين والمتأخرين من أصحابنا" (1) . فعلى هذا يكون الإمام أحمد مع الجمهور في كون خبر الآحاد المتجرّد عن القرائن لا يفيد العلم.
على أننا يمكننا أنْ نعتبر رواية أنَّ خبر الآحاد يفيد العلم؛ بأنَّهم أرادوا أنَّه يفيد العلم بوجوب العمل، دون ما يتضمَّنه، وهو أمر في غاية الدِّقة (2) .
أو أنَّهم يقصدون أنَّه يفيد العلم بمعنى الظَّنّ، لا بمعنى اليقين؛ فإنَّ العلم قد يطلق ويراد به الظَّنّ، كما في قوله تعالى: ، أي ظننتموهنّ.
ويمكن أنْ يقال أيضاً: إنَّهم أرادوا به العلم النَّظريّ، أي المتوقف على النَّظر والاستدلال، وهو لزوم إفادة مجموع الخبر والقرائن العلم النَّظريّ، لاسيما وأنَّ غلبة الظَّنّ فيها نوع من العلم دون اليقين، فيكون داخلاً في مذهب الجمهور، وليس مرادهم العلم الضَّروريّ القطعيّ الذي يفيده الخبر المتواتر. فهناك فروقاً بينهما ذكرها علماء الأصول، منها: إنَّ مَنْ أنكر قضية ثابتة بدليل يفيد العلم النَّظريّ يأثم، ولا يكفر اتفاقاً.
ومن هنا نفهم المراد من إطلاق عبارات بعض الأصوليين حين قالوا: خبر الآحاد لا يفيد العلم، فإنَّ مرادهم أنَّه لا يفيد العلم اليقينيّ الذي يفيده نص القرآن والخبر المتواتر القطعيّ، إنَّما يفيد مع القرائن العلم النَّظريّ. وهذا مما لا يفطن إليه بعض الباحثين في الموضوع.
__________
(1) ابن قدامة: روضة الناظر وجنة المناظر، 1/260. وراجع: ابن بدران: نزهة الخاطر العاطر، 1/247-248.
(2) الزركشي: 4/262-264.(1/26)
قال الغزاليّ: "النَّظريّ هو الذي يجوز أنْ يعرض فيه الشَّكّ، وتختلف فيه الأحوال، فيعلمه بعض النَّاس دون بعض، ولا يعلمه النِّساء والصِّبيان، ومَنْ ليس من أهل النَّظر، ولا يعلمه مَنْ ترك النَّظر قصداً. وكل علم نظريّ فالعالِم به قد يجد نفسه فيه شاكّاً، ثُمَّ طالباً" (1) .
وجاء في "روضة النَّاظر": "قال القاضي: العلم الحاصل بالتَّواتر ضروريّ، وهو صحيح؛ فإننا نجد أنفسنا مضطرين إليه، كالعلم بوجود مكة، ولأنَّ العلم النَّظريّ هو الذي يجوز أنْ يعرض فيه الشَّكّ، وتختلف فيه الأحوال، فيعلمه بعض النَّاس دون بعض، ولا يعلمه النِّساء والصِّبيان، ومَنْ ليس من أهل النَّظر، ولا مَنْ ترك النَّظر قصداً، وقال أبو الخطاب: هو نظريّ؛ لأنَّه لم يفد العلم بنفسه" (2) .
وحُكِيَ عن بعضهم أنَّه يورث العلم الظَّاهر دون الباطن. والعلم ليس فيه ظاهر ولا باطن، وإنَّما هو الظَّنّ.
قال الغزاليّ: "خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضَّرورة، فإنّا لا نصدّق بكل ما نسمع، ولو صدّقنا وقدّرنا تعارض خبرين، فكيف نصدّق بالضِّدّين؟ وما حُكِيَ عن المحدثين من أنَّ ذلك يوجب العلم، فلعلَّهم أرادوا أنَّه يفيد العلم، بوجوب العمل، أو سَمُّوا الظَّنّ علماً، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظَّاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنَّما هو الظَّنّ" (3) .
__________
(1) الغزالي: المستصفى، 1/252.
(2) ابن قدامة: روضة الناظر، 1/248.
(3) الغزالي: المستصفى 1/272.(1/27)
خامساً: أمَّا ما ذهب إليه ابن حزم؛ فقد نهج فيه اتّجاه المحدثين في إفادة أخبار الآحاد العلم، واشترط نفس الشُّروط التي تنتمي لصناعة الحديث، وهي: العدالة، والإسناد، والثِّقة (1) . يقول ابن حزم: "ما نقله الواحد، فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب العمل به، ووجب العلم بصحته أيضاً" (2) .
والجواب عليه: إنَّ الشُّروط التي اشترطها المحدثون، لا ترقى بالخبر إلى إفادة العلم القطعيّ؛ لأنَّها شروط اجتهاديّة وليست توقيفيّة، قصدوا منها أنْ تكون شروطاً في صحة الأخبار، ولم يقصدوا بها إفادة العلم. فتصحيح الأئمة للخبر جرى مجرى الحكم الظَّاهر، فإذا استجمع خبر من ظاهره عدالة الرَّاوي وثبوت الثِّقة به، وغيرهما من الشُّروط؛ فإنَّه يكون صحيحاً وحُجَّة. أمَّا إفادة العلم فيحتاج إلى أمور أخرى؛ لأنَّ قبولهم للخبر واحتجاجهم به لا يقوى كدليل على أنَّه يفيد العلم، فالحُجَّة أو القبول أو الصِّحة لا تعني العلم (3) .
المبحث الرابع
بيان أثر الخلاف في بعض المسائل
المسألة الأولى: نسخ الخبر المتواتر بالآحاد:
لا خلاف بين أكثر القائلين بالنَّسخ في جواز نسخ القرآن بالقرآن، والسُّنَّة المتواترة بمثلها، والآحاد بالآحاد، والسُّنَّة بالقرآن؛ لأنَّ ذلك متماثل، فجاز أنْ ينسخ بعضه بعضاً (4) .
__________
(1) الشيرازي: اللمع في أصول الفقه، ص72، وابن النجار: شرح الكواكب المنير، 2/351.
(2) ابن حزم: الإحكام، 1/109.
(3) إمام الحرمين: البرهان، 1/585.
(4) صفي الدين الهندي: نهاية الوصول، 6/2325، والباجي: إحكام الفصول في أحكام الأصول، 1/356-357، وابن قدامة: روضة الناظر، 1/223 مع شرحها نزهة الخاطر العاطر.(1/28)
واختلفوا في نسخ المتواتر بالآحاد (1) : فذهب جمهور العلماء إلى أنَّه لم يقع نسخ الخبر المتواتر بالآحاد. وذهب داود الظَّاهريّ إلى وقوع نسخ للخبر المتواتر بالآحاد.
استدلَّ الجمهور على عدم الوقوع بما يأتي:
[1] أنَّ الخبر المتواتر قطعيّ، والآحاد ظنيّ، والقطعيّ لا ينسخ بالظَّنيّ؛ لأنَّ الظَّنّ أضعف، وحيث انعدمت المساواة فلا نسخ.
[2] أنَّه لا يوجد في الأدلة الشَّرعيّة بالاستقراء خبر متواتر نسخ بخبر الآحاد، وهذا دليل على عدم الوقوع (2) .
واستدلَّ داود الظَّاهريّ على الوقوع بما يأتي:
[1] تواتر أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل الآحاد إلى البلدان والأطراف، وكانوا يبلغون النَّاسخ والمنسوخ.
[2] وأجاب الجمهور عنه: أنَّه كان يرسلهم فيما يقبل فيه خبر الآحاد، مثل: الفتوى، وتبليغ الأحكام.
[3] التَّوجُّه إلى بيت المقدس في الصَّلاة كان ثابتاً بالتَّواتر، ثُمَّ حدث أنْ كان أهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس، فنادى منادي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - : (ألا إنَّ القبلة قد حُوِّلت)، فما أنْ سمع أهل قباء ذلك حتَّى توجّهوا إلى الكعبة، ولم ينكر عليهم الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك (3) .
وأجاب الجمهور عنه: بأنَّ النَّاسخ للتَّوجُّه إلى بيت المقدس الثَّابت بالسُّنَّة هو قوله تعالى: [البقرة: 144].
وقد عمل المسلمون بخبر المنادي؛ لأنَّ نداءه كان بحضرة النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ملأ الأشهاد، فهذه قرينة قاطعة بصدقه، لذلك وجب عليهم المصير إليه (4) .
المسألة الثَّانية: تخصيص العام بخبر الآحاد:
__________
(1) ابن قدامة: روضة الناظر، 1/227 مع شرحها نزهة الخاطر العاطر.
(2) صفي الدين: نهاية الوصول، 6/2330، والإسنوي: نهاية السول، 2/184، وابن السبكي: الإبهاج شرح المنهاج، 2/251.
(3) صفي الدين: نهاية الوصول، 6/2333.
(4) صفي الدين: نهاية الوصول، 6/2335.(1/29)
لم يعلم خلاف بين عامّة الأصوليين في جواز تخصيص العام من الكتاب أو السُّنَّة المتواترة بالمستقلّ المقارن القطعيّ الثُّبوت، بأنْ كان كتاباً أو سُنَّة متواترة، واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب أو السُّنَّة المتواترة بأخبار الآحاد (1) :
فقد وقع خلاف بين الأصوليين في جواز تخصيص الكتاب أو السُّنَّة المتواترة بأخبار الآحاد، بعد اتّفاقهم على جواز تخصيص العام من الكتاب أو السُّنَّة المتواترة بالمستقلّ المقارن القطعيّ الثُّبوت، بأنْ كان كتاباً أو سُنَّة متواترة:
فذهب جمهور الحنفيّة إلى أنَّه لا يجوز تخصيص الكتاب أو السُّنَّة المتواترة بأخبار الآحاد، واختاره عيسى بن أبان.
وذهب الجمهور من الأصوليين إلى تخصيص الكتاب أو السُّنَّة المتواترة بأخبار الآحاد، واختاره إمام الحرمين.
ومنهم مَنْ يرى الوقف، وهو مذهب القاضي الباقلانيّ.
ومتعلّق مَنْ يرى المنع هو: أنَّ الكتاب أصله قطعيّ، وخبر الآحاد ظنيّ.
ومتعلّق مَنْ يرى الجواز هو: أنَّ الخبر قطعيّ الحُجِّيَّة، ومقتضى ذلك أنَّه يجب العمل بموجبه ما لم يمنع منه مانع. وقد اتّفق الصَّحابة على العمل بخبر الآحاد في تفسير مجمل الكتاب، وتخصيص ظواهره.
ومتعلّق القاضي الباقلاني هو: أنَّ أصل الخبر يتطرَّق إليه الظُّنون، والعموم في مظنة الظُّنون، فضاهى معنى الكتاب أصل الخبر، ولذلك وجب التَّوقُّف (2) .
والخلاف مبنيٌّ على أساس أنَّ العام قطعيّ وخبر الآحاد ظنيّ، فكيف يترك القطعيّ من أجله؟ هذا على رأي معظم الحنفيّة (3) .
__________
(1) إمام الحرمين: البرهان، 1/285-286، والسبكي: رفع الحاجب عن مختصر بن الحاجب، 3/313 ومابعدها.
(2) إمام الحرمين: البرهان، 1/286.
(3) عبد العلي الأنصاري: فواتح الرحموت، 1/266، وبن السبكي: رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، 3/323.(1/30)
أمَّا عند الجمهور أنَّ العام قطعيّ في متنه دون دلالته، والتَّخصيص لم يقع في المتن؛ بل في الدّلالة، وهي ظنيّة، فتعادلا من هذه الجهة، فيُصار إلى الجمع بينهما، فيجعل العام دليلاً في غير مورد الخاص (1) .
إذا تقرَّر ذلك فمما يتعلَّق به عند التَّطبيق:
[1] ذبيحة المسلم التَّارك للتسمية عمداً:
اختلف العلماء في ذبيحة المسلم التَّارك للتسمية عمداً عند الذَّبح:
فذهب الشَّافعيّة (2) إلى أنَّ الذَّبيحة المتروكة التَّسمية عمداً تؤكل، اعتماداً على قول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : (ذبيحة المسلم حلالٌ؛ ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر). وهو خبر آحاد ظنيّ قد خصَّص العموم الوارد في قوله تعالى: [الأنعام: 121].
وذهب الحنفيّة (3) أنَّ متروك التَّسمية عمداً لا يؤكل؛ لأنَّ ما جاء في الآية عام لم يثبت خصوصه؛ لأنَّ خبر الآحاد ظنيّ، والدَّليل الظَّنيّ لا يخصص القطعيّ.
[2] قتل المسلم بالذِّميّ:
اختلف العلماء في قتل المسلم بالذِّميّ إذا قتله عمداً، هل يُقْتَل به؟
فذهب الجمهور من الشَّافعيّة والمالكيّة إلى أنَّه لا يُقْتَل المسلم بالكافر (4) .
واستدلوا بقول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : (لا يُقْتَل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده) (5) . وجعلوه مخصصاً للعموم الوارد في القرآن الكريم في قوله تعالى: [البقرة: 178].
__________
(1) ابن السبكي: رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، 3/323.
(2) الشيرازي: المهذب، 1/252، والنووي: المجموع، 8/305.
(3) ابن عابدين: حاشية رد المحتار، 6/299، والميرغناني: الهداية شرح البداية، 4/63.
(4) الشافعي: الأم، 7/324.
(5) أخرجه أبو داود كتاب الديات، باب إيقاد المسلم بالكافر، 4/180، حديث رقم 4530، وابن ماجة، كتاب الديات، باب لا يقتل مسلم بكافر، 2/888، حديث رقم 2669.(1/31)
وذهب الحنفيّة إلى أنَّه يُقْتَل به، ولم يخصصوا عموماتها بخبر الآحاد المذكور؛ بل عمدوا إلى تأويلها بأنَّ المراد بالكافر الحربيّ فقط (1) . واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يُقْتَل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده).
والاستدلال منه: أنَّ قوله (ذو عهدٍ في عهده) معطوف على قوله (مؤمن)، ففيه إضمار، تقديره: (ولا ذو عهد في عهده بكافر)، كما في المعطوف عليه، ويكون (الكافر) الذي لا يُقْتَل به المؤمن هو الكافر الحربيّ خاصّة؛ لأنه لم يبق من الكفار إلاَّ الحربيّ، فيكون التَّقدير: لا يُقْتَل مؤمنٌ بكافرٍ حربيّ، ولا ذو عهدٍ في عهده بكافر حربيّ (2) .
المسألة الثَّالثة: جاحد خبر الآحاد:
اختلف العلماء في تكفير مَنْ يجحد ما يثبت بخبر الآحاد على رأيين:
الرَّأْي الأوَّل: أنَّ مَنْ أنكر وجحد ما ثبت بخبر الآحاد لا يكفر، وإليه ذهب أكثر العلماء (3) .
والرَّأْي الثَّاني: يكفر منكره. وهما وجهان حكاهما ابن حامد عن أصحابه الحنابلة، ونقل تكفيره عن إسحاق ابن راهويه (4) ، وقريب من ذلك جاء في "العدة" لأبي يعلى.
والخلاف مبنيٌّ على أساس أنَّ الأخبار النَّبويّة هل يجري عليها ما يجري على غيرها، ويدخلها الصِّدق والكذب، أم أنَّها تتميَّز بأمور يقينيّة تنفي عنها هذه الاحتمالات، وتفيد العلم الضَّروريّ؟
فمَنْ يرى أنَّها تفيد العلم الضَّروريّ، قال بوجوب التَّصديق بها، ويكفر من أنكرها (5) .
ومَنْ يرى أنَّها لا تفيد علماً ضروريّاً، إنَّما تفيد الظَّنّ، فلا يكفر من أنكرها.
__________
(1) السرخسي: المبسوط، 26/135، وابن جزي: القوانين الفقهية، 1/227.
(2) المرجعان السابقان نفسهما والصفحة.
(3) ابن تيمية: المسودة، ص244-245، وابن النجار: شرح الكوكب المنير، 2/352.
(4) أبو يعلى: العدة، 3/857-861، وابن النجار: شرح الكوكب المنير، 2/352.
(5) ابن النجار: شرح الكوكب المنير، 2/352-353، والزركشي: البحر المحيط، 4/266.(1/32)
المسألة الرَّابعة: ثبوت العقيدة (1) بخبر الآحاد:
الذي لا خلاف فيه بين العلماء أنَّ الخبر المتواتر تثبت به العقيدة، وإنَّما وقع الخلاف في خبر الآحاد هل تثبت به العقيدة أم لا؟ اختلف العلماء على ثلاثة آراء:
الرَّأْي الأوَّل: أنَّ العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد، وإليه ذهب عامَّة المتكلمين، من: أشاعرة وماتريدية، وجمهور أصوليين: حنفيّة، ومالكيّة، وشافعيّة، وجماعة من الحنابلة، منهم: أبو الخطاب، وابن عقيل، وغيرهما (2) .
الرَّأْي الثَّاني: أنَّه يعمل بخبر الآحاد في العقائد، وأنَّها تفيد العلم، وإليه ذهب الظَّاهريّة، وعلى رأسهم داود الظَّاهريّ، وابن حزم، ونقل عن الإمام أحمد، وبه قال ابن تيمية (3) .
__________
(1) العقيدة: هي "التصديق الجازم المطابق للواقع عن دليل". انظر: الجرجاني: التعريفات، ص113.
(2) أبو الحسين البصري: المعتمد، 2/577، والقرافي: شرح تنقيح الفصول، ص372، وابن النجار: شرح الكوكب المنير، 2/352، والحافظ البيهقي: الأسماء والصفات، ص357، والحافظ البغدادي: الكفاية في علم الرواية، ص432.
(3) ابن تيمية: المسودة، ص245، وابن النجار: شرح الكوكب المنير، 2/352.(1/33)
الرَّأْي الثَّالث: يحتجّ بأخبار الآحاد في العقائد، وأنَّها تفيد الظَّنّ لا العلم، وإليه ذهب السَّرخسيّ (1) ، وحكى ابن عبد البرّ أنَّه قول أكثر أهل الفقه والأثر، حيث قال فيما يحكيه عنهم: "وقال قوم كثير من أهل الأثر، وبعض أهل النَّظر، أنَّه يوجب العلم الظَّاهر والعمل جميعاً، منهم الحسين الكرابيسيّ وغيره، وذكر ابن خويز منداد أنَّ هذا القول يخرج على مذهب مالك، قال أبو عمر: الذي نقول به أنَّه يوجب العمل دون العلم، كشهادة الشَّاهدين والأربعة سواء، وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر، وكلّهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السُّنَّة" (2) .
ويبدو أنَّ الإمام النَّوويّ من هذا الفريق؛ لأننا إذا رجعنا إلى شرحه لأخبار الآحاد التي وردت في العقيدة في صحيح مسلم، نجده يميل إلى هذا الرَّأْي، فمن عباراته في معرض كلامه عن حديث ضمام بن ثعلبة (3) ، وقد تضمَّن عقائد: "وفي هذا الحديث العمل بخبر الواحد" (4) ، ويقول في موضع آخر: "هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد" (5) .
ومبنى الخلاف أساسه اختلافهم فيما يفيده خبر الآحاد:
فمَنْ يرى أنَّ أخبار الآحاد تفيد العلم، فإنَّه يعمل بها في العقائد؛ لأنَّها أفادت القطع واليقين عنده.
ومَنْ يرى أنَّها لا تفيد العلم، قال: إنَّ العقيدة لا تثبت بأخبار الآحاد؛ لأنَّه لا بُدَّ فيها من العلم، وأخبار الآحاد إنَّما تفيد الظَّنَّ ولا تفيد العلم.
__________
(1) السرخسي: أصول السرخسي، 1/329.
(2) ابن عبد البر: التمهيد، 1/8.
(3) النووي: شرح صحيح مسلم، 1/171.
(4) المرجع السابق، 1/171.
(5) المرجع السابق، 1/227.(1/34)
ومن دقَّق وحقَّق في هذه المسألة، يصل إلى أنَّ الخلاف فيها ليس خلافاً حقيقياً؛ بل هو خلاف لفظيّ؛ لأنَّ قول الجمهور: "إنَّ خبر الآحاد لا يعمل به في العقائد" ليس معناه أنَّهم يردون خبر الآحاد، أو ينكرون العمل به، وينفون الإيمان بمضمونه؛ فقد ذكرنا اتّفاقهم على وجوب العمل بأخبار الآحاد، وإنَّما ذلك لاصطلاح خاص بهم في العقائد، فإنَّهم يرون أنَّ العقيدة التي تميِّز بين الكفر والإيمان لا تثبت إلاَّ بنص قطعيّ، وهذا لا يتوفر في أخبار الآحاد، وما كان كذلك لا يُسمَّى عقيدة؛ لأنَّها لا تكون إلاَّ عن علم، وهذا لا يتوفر إلاَّ في القطعيّ.
ومن هنا نفهم المراد من إطلاق عبارات بعض الأصوليين حين قالوا: "خبر الآحاد لا تثبت به العقيدة". فإنَّ مرادهم بذلك: العقيدة التي تميِّز بين الكفر والإيمان، وهي قضايا الاعتقاد الأصليّة، وهذه ثبتت بنصوص القرآن المحكمة، القاطعة الدّلالة، التي لا تحتمل اجتهاداً ولا تأويلاً، فالقرآن قد حوى العقائد الأصليّة الأساسيّة، التي يجب التَّسليم بها، ولا تقبل أي نقاش أو الاجتهاد فيها، وهي ملزمة بحسبانها من أركان الدِّين، ومن أنكرها يُحْكَم عليه بالكفر، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. وما جاء عنها من أخبار فهي تقرير وتأكيد لِمَا جاء في القرآن.
فهناك آيات عديدة في كتاب الله تعالى نعلم منها أصول العقائد، وهي ستة، منها: قوله تعالى: [النساء: 136].
ففي هذه الآية الكريمة خمسة أصول، هي: الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرُّسل، واليوم الآخر.
أمَّا الإيمان بالقدر، وهو الأصل السَّادس، فنعلمه من قوله تعالى: [القمر: 49]، وقوله تعالى: [الأحزاب: 38]، وقوله تعالى: [الفرقان: 2]، وقوله تعالى: [الحديد: 22].(1/35)
وجاءت الأخبار النَّبويّة مؤكِّدة ومقررة لهذه الأصول، منها ما رواه البخاريّ ومسلم، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، إجابة عن سؤال جبريل: (فأخبرني عن الإيمان؟)، قال: (أنْ تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت...) (1) .
فلو خالفَنا أحدٌ من المسلمين في الإيمان بالله، أو في الإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أو في أي مسألة أخرى من أركان العقيدة مما تثبت بالدَّليل القطعيّ اليقينيّ، فإنَّه قد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه، ويُحْكَم بكفره بلا تردُّد.
أمَّا ما ورد من أخبار الآحاد في شأن المغيبات، الملحقة بالأركان الأصليّة للعقائد، مثل:
الصِّراط (2) :
الذي جاء فيه عند البخاريّ: (ويضرب الصِّراط بين ظَهْري جهنم، فأكون أنا وأُمَّتي أوَّل مَنْ يجيزها، ولا يتكلَّم يومئذ إلاَّ الرُّسل، ودعوى الرُّسل يومئذ: اللهم سلِّم سلِّم) (3) .
__________
(1) البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له، 1/27، حديث رقم 50، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، 1/37، حديث رقم 8، واللفظ له.
(2) الصِّراط في اللُّغة: الطريق الواضح، وشرعاً: "جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، حتى الكفار ما عدا من يلقى منهم في النار بدون مرور على الصراط". انظر: الباجوري: شرح الجوهرة، ص184، وحسن السيد متولي: مذكرة التوحيد، ص37.
(3) البخاري: صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: ]، 6/2704، حديث رقم700.(1/36)
فذهب أهل السُّنَّة إلى وجوده حقيقة، وذهب المعتزلة إلى تأويله، وقالوا: المراد به الأدلة الواضحة؛ لأنَّ وجوده بما وصف به عبث، فإنَّه لا يمكن لأحد العبور عليه (1) .
والحوض (2) :
الذي جاء فيه عند مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثُمَّ إنَّ حوضي أبعد من آيلة من عدن، لهو أشدّ بياضاً من الثَّلج، وأحلى من العسل باللّبن، ولآنيته أكثر من عدد النُّجوم، وإني لأصدّ النَّاس عنه كما يصدّ الرَّجل إبل النَّاس عن حوضه)، قالوا: يا رسول الله، أتعرفنا يومئذ؟ قال: (نعم، لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تردون عليَّ غُرّاً محجلين من أثر الوضوء) (3) .
وإلى وجوده ذهب أهل السُّنَّة، وأنكرت المعتزلة وجود حوض بهذا المعنى، وقالوا: "هو عبارة عن نوع من الرِّضوان يتفضَّل الله تعالى به على من يشاء من عباده" (4) .
__________
(1) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة، ص 154-185، 498، وصفي الدين: الرسالة التسعينية في الأصول الدينية، ص 106، 216، والتفتازاني: شرح المقاصد، 3/134، 368، الباجوري: شرح الجوهرة، ص184، وحسن السيد متولي: مذكرة التوحيد، ص37.
(2) وهو "جسم مخصوص كبير متسع الجوانب، يكون على الأرض المبدلة، يشرب منه من وفى بعده، ولم يشرك ولم يرتد، ولم يبدل، ولم يحدث في الدين ما لا يرضاه الله، ويطرد من الشرب منه الكفار والعصاة". انظر: الباجوري: شرح الجوهرة، ص184، وحسن السيد متولي: مذكرة التوحيد، ص37.
(3) مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، 1/217.
(4) صفي الدين، الرسالة التسعينية في الأصول الدينية، ص106، 216، والتفتازاني، شرح المقاصد، 3/134، 368، الباجوري: شرح الجوهرة، ص184، وحسن السيد متولي: مذكرة التوحيد، ص37.(1/37)
وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي شحنت بها كتب العقيدة عند الأشاعرة وغيرهم من أهل السُّنَّة، فيجب الإيمان بها؛ لأنَّها أخبار آحاد يجب العمل بمقتضاها، إلاَّ أنَّهم لم يحكموا بكفر جاحدها أو مؤولها من المعتزلة وغيرهم (1) ؛ لأنَّهم لم ينكروا شيئاً من العقيدة المحكمة القاطعة، وهذا غير متوفر في أخبار الآحاد؛ لأنَّها لا تفيد إلاَّ الظَّنّ، وما كان كذلك لا يُسمَّى عقيدة، ومن ثمّ لا يكفّرون جاحدها. فإنَّ العقيدة التي يكفَّر جاحدها لا تكون إلاَّ عن علم عندهم.
ومن ذلك أيضاً اختلاف أهل السُّنَّة من أشاعرة وسلفية، في مسائل، منها: الجهة بالنّسبة لله تعالى، فذهب ابن تيمية وأتباعه إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى في السَّماء، واستدلوا بما جاء في مسلم من أنَّ رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن جارية له، قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَلَ أُحُد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعظم ذلك عليّ، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها، قال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السَّماء، قال: مَنْ أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنَّها مؤمنة) (2) .
__________
(1) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة، ص 154-185، 498، وصفي الدين: الرسالة التسعينية في الأصول الدينية، ص106، 216، والتفتازاني: شرح المقاصد، 3/134، 368، الباجوري: شرح الجوهرة، ص184.
(2) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، 1/381، حديث رقم 537.(1/38)
وذهب الأشاعرة إلى أنَّ الله لا يكون في جهة، فليس له فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا وأمام ولا خلف؛ لأنَّ الجهات السَّتّ من عوارض الجسم، فـ "فوق" من عوارض عضو الرأس، و"تحت" من عوارض عضو الرجل، و"يمين وشمال" من عوارض الجنب الأيمن والأيسر، و"أمام وخلف" من عوارض عضو البطن والظَّهر (1) .
وقالوا: إنَّ خبر الجارية لا يحمل على ظاهره؛ لمعارضته المتواتر، وهو قول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : (أُمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّي رسولُ الله) (2) ، فإنَّ ظاهر خبر الجارية: أنَّ الكافر إذا قال: الله في السَّماء يُحْكَم له بالإيمان.
ومن أصول الشَّريعة أنَّ الشَّخص لا يُحْكَم له بقول: "الله في السَّماء" بالإيمان؛ لأنَّ هذا القول مشتَرك بين اليهود والنَّصارى وغيرهم، وإنَّما الأصل المعروف في شريعة الله تعالى ما جاء في الخبر المتواتر المذكور.
ومن ذلك أيضاً مسألة والدي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، هل هما في الجنَّة، أو في النَّار؟ فذهب جماعة من أهل السُّنَّة إلى أنَّهما في النَّار، واستدلوا بما ورد عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما يدلُّ على أنَّ أبويه في النَّار.
روى مسلم عن أَنسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رجلا قال: يا رسولَ اللَّه، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دعاه، فقال: (إِنَّ أَبي وَأَبَاكَ فِي النَّار) (3) .
وذهب جمهور الأشاعرة إلى أنَّ أبويه - صلى الله عليه وسلم - ناجيان، واستدلوا بقوله تعالى:
[الإسراء: 15].
__________
(1) الباجوري: تحفة المريد، ص229.
(2) البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : (أنا أعلمكم بالله)، 1/17، حديث رقم25.
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار، 1/191، حديث رقم 203.(1/39)
وأصل هذا الخلاف يبنى على حكم أهل الفترة، واشتراط بلوغ الدَّعوة إليهم، هل يكفي بلوغ دعوة أيّ نبي؛ لأنَّ التَّوحيد ليس أمراً خاصّاً بهذه الأُمَّة، أو لا بُدَّ من بلوغ دعوة الرَّسول الذي أرسل إليهم؟
فعلى طريقة الأشاعرة أنَّ أهل الفترة ناجون، وإنْ بدّلوا وغيّروا وعبدوا الأصنام. وأجابوا عن الأخبار الواردة بأنَّها أخبار آحاد معارضة لما هو أقوى (1) .
وعليه؛ فإنَّ أخبار الآحاد تثبت بها العقيدة، غاية الأمر هناك عقيدة يكفر مَنْ جحدها، ويُحْكَم بخروجه عن الملة الإسلاميّة، وهذه لا بُدَّ من ثبوتها عن طريق العلم اليقينيّ، وهناك جزئيات للعقيدة تثبت بأخبار الآحاد، لكن لا يُحْكَم على مَنْ جحدها بالكفر والخروج عن الإسلام (2) .
وهذه المسألة شبيهة لِمَا ذهب إليه الأصوليون من الحنفيّة حين فرَّقوا بين الفرض والواجب من الأحكام التَّكليفيّة، وعرَّفوا الفرض بأنَّه: "ما ثبت طلبه من الشَّارع طلباً جازماً بدليل قطعيّ" كالصَّلوات الخمس، وطلب الطَّهارة، والزَّكاة، والصِّيام، والحجّ، فكلّ هذه الأمور إنَّما ثبت طلبها من الشَّارع طلباً جازماً، بطريق قطعيّ لا شبهة فيه، كأنْ يكون ثابتاً بالقرآن، أو بخبر متواتر، وحكموا على جاحده بالكفر (3) .
__________
(1) اللقاني: شرح جوهرة التوحيد، ص29، والرهوني: تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول، 1/438.
(2) هيتو: الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، ص305.
(3) الملا علي القاري: مقدمة فتح العناية، 1/11، وهيتو: الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، ص305.(1/40)
وعرَّفوا الواجب بأنَّه: "ما ثبت طلبه من الشَّارع طلباً جازماً، بدليل ظنيّ"، سواء أكان الظَّنّ المتعلّق بالدّليل جاء عن طريق الثُّبوت أم الدّلالة، كأنْ يكون الخبر خبر آحاد، أو يكون اللَّفظ مشتركاً، وغير ذلك. ولم يكفروا جاحده، مع وجوب العمل بمقتضى الفرض والواجب، والمعصية بترك العمل بمقتضاهما (1) .
وكأنَّهم قالوا: هذا خبر آحاد لا يثبت به الفرض إلاَّ أنَّهم يوجبون العمل بمقتضاه، ويثبتون به الواجب.
على أنَّ مَنْ عمَّم، فجعل العقيدة هي كلّ ما يجب اعتقاده، سواء أكان ناتجاً عن علم أم ظنّ، فإنَّه لا يميِّز في هذه الحالة بين خبر الآحاد وغيره من الأخبار المفيدة للقطع، كالقرآن والخبر المتواتر. ولهذا اصطلاح خاص به أيضاً. إلاَّ أنَّه يميِّز بين ما يجب اعتقاده، فبعضه يكفر جاحده، وهو ما ثبت بدليل قطعيّ، وبعضه لا يكفر، وهو ما ثبت بدليل ظنيّ.
وهذا نظير لِمَا ذهب إليه جمهور علماء الأصول إلى عدم التَّمييز بين الفرض والواجب، وقالوا: هما مترادفان، وعرَّفوه بأنَّه: "هو الذي يُذَمُّ شرعاً تاركه قصداً مطلقاً" (2) .
__________
(1) هيتو: الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، ص305.
(2) الإسنوي: نهاية السول، 1/73.(1/41)
إلاَّ أنَّهم ميّزوا بين الواجب الذي ثبت بدليل قطعيّ؛ فحكموا بكفر جاحده، والواجب الذي ثبت بدليل ظنيّ؛ فقالوا: إذا جحده إنسان لم يكفر بذلك، ويلزم المكلَّف العمل به، وإذا تركه المكلَّف من غير تأويل ولا استخفاف به عُدَّ فاسقاً، لخروجه عن طاعة الله تعالى بترك ما أوجب عليه، ومن تركه عن تأويل لا يُعَدُّ فاسقاً؛ لأنَّه اجتهاد في ظنيّ، ولذلك قال ابن عابدين: "وتارك العمل به إنْ كان متأوّلاً لا يُفسَّق ولا يُضلَّل؛ لأنَّ التأويل في مظانه من سيرة السَّلف" (1) . وقال التَّفتازانيّ: "فالفرض لازمٌ علماً وعملاً حتَّى يكفر جاحده، والواجب لازمٌ عملاً لا علماً، فلا يكفر جاحده؛ بل يفسق إنْ استخفّ بأخبار الآحاد الغير مؤولة، وأمَّا مؤولة فلا، ويعاقب تاركهما" (2) .
فاختلف حكم "الواجب" عن حكم "الفرض" باتّفاق العلماء، سواء منهم الجمهور الذين أطلقوا عليهما اسماً واحداً، والحنفيّة الذين فرَّقوا بينهما بالتَّسمية (3) .
فما الفرق بين قول علماء الأصول هذا وبين ما ذهب عامَّة المتكلّمين من الأشاعرة وغيرهم بأنَّ خبر الآحاد لا تثبت به العقيدة؟
لا فرق عند مَنْ يدرك هذه الاصطلاحات عند أولئك الأئمة الأعلام. فرحم الله تعالى هذه الكوكبة التي أنارت لنا الطَّريق، وأبلت في الذَّود عنه البلاء الحسن، ورزقنا حُسْن الأدب معهم، ونفعنا بعلمهم.
خاتمة:
هذه خاتمة موجزه وضعت فيها أهم ما توصَّلتُ إليه من نتائج وتوصيات، وهي :
أولاً: النَّتائج:
[1] اتّفق أهل السُّنَّة على وجوب العمل بخبر الآحاد، وذهب جمهورهم ـ ومنهم الإمام أحمد ـ على التَّحقيق إلى أنَّه يفيد الظَّنّ دون العلم.
__________
(1) ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار، 1/70.
(2) التفتازاني: التلويح، 2/271-272.
(3) ابن السبكي: منع الموانع عن جمع الجوامع، ص121، والتفتازاني: التلويح، 2/272.(1/42)
[2] إذا ثبت الحكم بدليل قطعيّ لا شبهة فيه؛ لزم المكلَّف العمل به قطعاً دون إهمال، والاعتقاد بفرضيته اعتقاداً جازماً، لا يدخله الشَّك، فإذا أنكره كفر، وإذا ترك العمل به تساهلاً مع اعتقاد فرضيته، عُدَّ فاسقاً خارجاً بذلك عن طاعة الله تعالى.
[3] إذا ثبت الحكم بدليل ظنيّ الثُّبوت، فيلزم المكلَّف العمل به، ولا يلزمه الاعتقاد بحقِّيِّته، وإنَّما يكفيه الظَّنّ بها، فإذا جحده لم يكفر بذلك، وإنَّما يفسق فقط، ومَنْ تركه عن تأويل لا يُعَدُّ فاسقاً؛ لأنَّه اجتهاد في ظنيّ.
[4] إنَّ العمل بخبر الآحاد لازم للمكلَّف، عملاً لا علماً، وأنَّه معمول به في جميع الأبواب الفقهيّة، وفي العقائد، لكنَّه لا يكفر مَنْ جحد ذلك، وإنَّما يفسق فقط، ومَنْ تركه عن تأويل لا يُعَدُّ فاسقاً؛ لأنَّه ليس من اليقينيات التي لا تحتمل اجتهاداً ولا تأويلاً.
[5] إذا عارض خبر الآحاد الكتاب أو الخبر المتواتر أو الإجماع؛ وجب ترك ظاهره والعمل به، ويُقَدَّم عليه الكتاب والخبر المتواتر والإجماع، وقد ثبت ذلك عند جميع الفقهاء في باب التَّعادل والتَّرجيح بين الأدلة (1) .
[6] إذا كان المقصود بكلمة "العقيدة": أصولها وأركانها، من: الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ فإنَّه يحكم على منكرها بالكفر؛ لأنَّها ثابتة بنصوص القرآن الصَّريحة، المحكمة القاطعة، التي أجمعت الأُمَّة عليها، وصارت معلومة من الدِّين بالضَّرورة، وجاءت السُّنَّة مقرِّرة ومؤكِّدة لِمَا جاء في القرآن.
__________
(1) الرهوني: تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول، 2/334، وابن عبد الشكور: مسلم الثبوت بشرح مسلم الثبوت، 2/153، والنووي: شرح المهذب، 4/342، وابن حجر: فتح الباري، 13/231، 345.(1/43)
أمَّا إذا كان المقصود بكلمة "العقيدة": الفروع المتعلّقة بالعقيدة، من: سؤال منكر ونكير، والصِّراط، والحوض، ورؤية الله تعالى، وغير ذلك من الأمور، التي سكت عنها القرآن ونطقت بها أخبار الآحاد، أو جاء بها القرآن، ولكن بعبارة محتملة للتَّأويل؛ فإنَّه يجب الإيمان بها، ولا يحكم على منكرها بالكفر؛ لأنَّه لم ينكر شيئاً من العقائد الثَّابتة من القواطع.
[7] الحكم بالكفر لا يكون إلاَّ لِمَنْ خالف حكماً قطعيّاً مجمعاً عليه، من مبادئ الدِّين وقواعده وأحكامه المعلومة بالضَّرورة، مثل: وحدانية الله تعالى، ووجوب الصَّلاة، وحُرْمة الخمر والزِّنا، وغير ذلك. أمَّا المسائل الاجتهادية التي لم يجمع عليها العلماء، وليست معلومة من دين الله ضرورة؛ فلا يكفر من خالف فيها (1) .
ثانياً: التَّوصيات:
[1] السَّعي الجاد لمعالجة الخلل الطَّارئ على البحث العلميّ، الذي سببه الابتعاد عن مناهج المتقدمين، في التَّمحيص والتَّثبُّت، وتفهُّم حقيقة الآراء، وَفق منهج علميّ سليم، وفي تجرُّدٍ تام، وموضوعيّة خالية عن التَّعصُّب، ثُمَّ الإفصاح عن منشأ الخلاف وسببه، وعن ثمرته، والذي أدَّى بدوره إلى فقدان ملكة البحث العلميّ الجاد لدى بعض الباحثين المعاصرين.
[2] إنَّه من الضَّروريّ أنْ يكون علم أصول الفقه أكثر كليّة وشموليّة، فيُقام عليه ـ إضافة إلى فقه العمليات ـ فقه الاعتقادات والأخلاق، وبهذا نمهِّد الطَّريق في دمج علوم الدِّين في بوتقة واحدة؛ لإيجاد العالِم الكامل والفقيه الجامع، المحصِّل لعلوم الوسائل: "اللُّغة، والأصول، ومصطلح الحديث"، وعلوم المقاصد: "العقيدة، والفقه، والتَّزكية".
__________
(1) ابن السبكي: منع الموانع عن جمع الجوامع، ص121، والمطيعي: سلم الوصول على الإسنوي، 3/327.(1/44)
وهذا آخر ما قصدتُ من هذا البحث، فلعلَّه جاء مستوفياً واضحاً، وعسى أنْ يكون قد حقَّق الغرض المقصود منه. والكمال لله وحده، إنَّه حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قُوَّة إلا بالله العليّ العظيم.
وصَلِّ اللهم على الهادي إلى صراطك المستقيم سيدنا مُحَمَّد، وعلى آله الطَّيبين الطَّاهرين، وارْضَ اللهم عن صحابته الغُرِّ الميامين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، [البقرة: 286].(1/45)