حركة تقنين الفقه الإسلامي
عامر بن عيسى اللهو
حركة تقنين الفقه الإسلامي
إن مسألة تقنين أحكام الفقه الإسلامي والإلزام به من المسائل التي أثارت جدلاً كبيراً بين علماء الأمة ما بين مؤيّد ومعارض، لأنها من النوازل الجديدة التي تحتاج إلى بحث واستفراغ وسع، ولأهمية هذه المسألة فإني سأتناولها بشيء من التفصيل مع بيان الأقوال وأدلتها ومناقشتها إن وجدت، ولذلك قمتُ بتقسيم هذا البحث إلى تمهيد وأربعة مطالب وهي كما يأتي :
تمهيد ، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف التقنين لغة واصطلاحاً.
المسألة الثانية: تاريخ نشأة فكرة التقنين.
- المطلب الأول: أصل مسألة التقنين عند المتقدمين.
المطلب الثاني: قول المجيزين للتقنين وأدلتهم.
المطلب الثالث: قول المانعين من التقنين وأدلتهم.
المطلب الرابع: بيان القول الراجح في مسألة التقنين.
والآن إلى الشروع في المقصود والله وحده المستعان .
التمهيد :
المسألة الأولى: تعريف التقنين لغة واصطلاحاً.
تعريف التقنين لغة: مصدر "قنّن" بمعنى "وضع القوانين" وهي كلمة رومية وقيل فارسية، والقانون "مقياس كل شيء، وطريقة".(1)
تعريف التقنين اصطلاحاً : يقصد بالتقنين بوجه عام جمع الأحكام والقواعد التشريعية المتعلقة بمجال من مجالات العلاقات الاجتماعية، وتبويبها وترتيبها وصياغتها بعبارات آمرة موجزة واضحة في بنود تسمى ( مواداً ) ذات أرقام متسلسلة، ثم إصدارها في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعجم الوسيط 2/ 763 .
صورة قانون أو نظام تفرضه الدولة، يلتزم القضاة بتطبيقه بين الناس. (1)
ونقصد بتقنين الفقه الإسلامي تطبيق طريقة التقنين الآنف الذكر على الأحكام الفقهية.
المسألة الثانية : تاريخ نشأة فكرة التقنين :
يرى بعض الباحثين أن مبدأ فكرة جمع الناس على رأي واحد في القضاء -وهو خلاصة (فكرة التقنين)- قد جاء من قبل عبد الله بن المقفع - الذي اتُّهم بالزندقة -(2)(1/1)
حيث حاول إقناع أبي جعفر المنصور بالتقنين في بدء العهد العباسي في رسالة سمّاها
( رسالة الصحابة )، واقترح على الخليفة جمع الأحكام الفقهية وإلزام القضاة بالحكم بها.(3)
كما أن فكرة إلزام الناس بالتقاضي على رأي واحد قد رويت في لقاء الإمام مالك بن أنس وأبي جعفر المنصور، والمهدي، ولكن الإمام رفض ذلك وقال لأبي جعفر : إن الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كلّ قوم بما سيق إليهم وعمِلوا به ودانوا من اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وإن ردّهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.
وقال للمهدي : أما هذا الصِّقع – وأشار إلى المغرب – فقد كُفيتَه، وأما الشام ففيهم من قد علمتَ – يعني الأوزاعي - ، وأما العراق، فهم أهل العراق. (4)
وقد ظهرت محاولات عديدة لتقنين الفقه الإسلامي في القرنين الماضيين، منها (الفتاوى الهندية) لجماعة من علماء الهند، لتقنين العبادات والعقوبات والمعاملات، ومجلة (الأحكام العدلية) التي تضمنت جملة من أحكام: البيوع، والدعاوى، والقضاء وصدرت هذه المجلة عام 1869م، واحتوت على 1851 مادة استمد أغلبها من الفقه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر : المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا 1/313 .
البداية والنهاية 13/384 بتحقيق الدكتور التركي .
انظر : القضاء في الإسلام لمحمد سلام مدكور ص 115 ، بواسطة كتاب التقنين بين التحليل والتحريم لعبدالرحمن الشثري ص 12 .
سير أعلام النبلاء 8/78 .
الحنفي، وقد ظلت هذه المجلة مطَبّقة في أكثر البلاد العربية إلى أوساط القرن العشرين.(1/2)
إلى أن أصبحت المجلة بعد مدة غيرَ كافية للوفاء بالحاجات العصرية التي نشأت بسبب تولّد الأساليب الاقتصادية الحديثة في التجارة وفي العمل وسائر نواحي الإنتاج مما دعا إلى تدارك الحاجة بقوانين متتابعة عديدة كان كل منها ينسخ جانباً من المجلة، حتى أصبح الشعور بقصور المجلة عن الوفاء بالحاجة الزمنية يتزايد عند المسؤولين في العهد العثماني، فكان ذلك إرهاصاً لحلول القانون المدني الذي لا يخلو من آثار القوانين الوضعية.(1)
وفي الديار السعودية على عهد الملك عبدالعزيز أُلّفت مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأحمد بن عبد الله القاري المتوفى سنة 1309هـ رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة سابقا، وقد اقتصر فيها على المذهب الحنبلي من خلال كتبه المعتمدة، واحتوت المجلة على 2382 مادة وقد نسج القاري كتابه هذا على منوال مجلة الأحكام العدلية؛ لكن العلماء اجمعوا على ردّها. (2)
المطلب الأول : أصل مسألة التقنين عند المتقدمين :
تعود مسألة التقنين - وإن كانت غير معروفة بهذا المصطلح عند المتقدمين – إلى مسألة حكم إلزام القاضي بقول واحد يحكم به ولا يتجاوزه وإن خالف اجتهاده، وهي حقيقة التقنين كما تقدم، وهذه المسألة مما اختلف فيها الفقهاء المتقدمون على قولين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المدخل الفقهي العام 1/243 وما بعدها بتصرف ، مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملاحه لشويش المحاميد ص 468، التشريع والفقه في الإسلام للشيخ مناع القطان ص 404 .
افتتاحية جريدة أم القرى في عددها الصادر بتاريخ 28/2/1346هـ، بواسطة كتاب التقنين بين التحليل والتحريم ص 15 ، فقه النوازل للشيخ بكر أبو زيد ص25.(1/3)
القول الأول : لا يجوز للحاكم الاشتراط على القاضي بالحكم بمذهب معين، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة كما أنه قول القاضي أبي يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة، وقال ابن قدامة: ولم أعلم فيه خلافاً،(1) وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد حكى الاتفاق على ذلك .(2)
واستدلوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى ( فاحكم بين الناس بالحق ) (3) والحق لا يتعيّن بالمذهب، وقد يظهر الحق في غير ذلك المذهب. (4) ثم إنه ليس لمن ولي أمرا من أمور المسلمين منع الناس من التعامل بما يسوغ فيه الاجتهاد لما في ذلك من التخفيف على المسلمين، ولهذا كان عمر بن عبدالعزيز يقول : ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة . (5)
القول الثاني : يجوز للحاكم أن يلزم القاضي بالحكم بمذهب معيّن، وهذا قول أبي حنيفة وقد خالفه صاحباه كما تقدّم، وقد استدل لذلك بأن تولية القضاء تتخصص بالزمان والمكان والشخص، فلو ولاّه السلطان القضاء في زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو على جماعة مخصوصة تعين ذلك، لأنه نائب عنه، ولو نهاه عن سماع بعض المسائل لم ينفذ حكمه فيها.(6)
والراجح والله أعلم في هذه المسألة هو مذهب الجمهور لصحة الأدلة وسلامتها من المعارضة ، وأما استدلال الإمام أبي حنيفة فيُمكن أن يجاب عنه بأن القاضي إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر : مواهب الجليل للحطاب 8/78 ، المجموع شرح المهذب 20/128، المغني 14/91 بتحقيق التركي ، حاشية ابن عابدين 1/163
مجموع الفتاوى 35 / 357، 360، 372، 373.
سورة ص 26 .
المغني 14/91 ، المجموع 20/128 .
الفتاوى 30/79 .
حاشية ابن عابدين 1/163 .(1/4)
ظهر له الحق في المسألة وعرف حكم الله ورسوله وجب عليه اتباعه لأن الحكم لله ورسوله، وهذا هو العدل المقصود في قول الله تعالى ( .. وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )(1). (2)
المطلب الثاني : قول المجيزين للتقنين وأدلتهم .
ممن يرى جواز تقنين الفقه جماعة من المعاصرين من هيئة كبار العلماء وهم الشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبدالمجيد بن حسن، والشيخ عبدالله بن منيع، والشيخ عبدالله خياط، والشيخ راشد بن خنين.(3) وكذلك ممن يرى الجواز في المسألة الشيخ مصطفى الزرقا (4) والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ علي الخفيف، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ وهبة الزحيلي، وغيرهم. (5)
واستدل المجيزون بما يلي :
قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .. ) الآية (6) قالوا فإن ولي الأمر إذا أمر بما ليس فيه معصية، ولا يتعارض مع أحكام الشريعة وجبت طاعته لهذه الآية، والإلزام بالتقنين ليس فيه معصية؛ لأن تنفيذ القضاة لما في التقنين الذي ألزموا به التزام بطاعة ولي الأمر التي أمرت بها الآية الكريمة. (7)
أن الإلزام بقول معين كان موضع الاعتبار والتنفيذ من الصدر الأول في الإسلام . ففي عهد عثمان رضي الله عنه جمع القرآن على حرف واحد ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة النساء 58 .
مجموع الفتاوى 35/361 .
انظر : أبحاث هيئة كبار العلماء 3/260 وما بعدها .
المدخل الفقهي 1/230، 231 .
مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر ص 438 .
سورة النساء 59 .
مسيرة الفقه الإسلامي ص 440 .
ومنع القراءة بالحروف الأخرى، وأحرق المصاحف المخالفة؛ وذلك تحقيقا لمصلحة المسلمين، وحفاظا على وحدة القرآن أن يكون موضع اختلاف، وكان الخير فيما فعل. (1)(1/5)
لئن كان للإلزام بالحكم بقول معين بعض المآخذ التي قد يكون من أهمها : تبلد الفكر ، والجمود بالبحث ، فإن في ذلك من المصالح العامة التي تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفاظ ما يدعو إلى التغاضي عن هذه المآخذ تطبيقا لقاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما، فالدواعي إلى الأخذ بذلك كثيرة ، نذكر منها ما يلي:
ما عليه غالب القضاة من مستوى علمي ضعيف لا يستطيعون به الاجتهاد لأنفسهم ، ولا إدراك الراجح من مذهب من هم منتسبون إليه من بين الأقوال المبثوثة في كتب المذهب ، لا سيما وفي الكتب المؤلفة في المذهب أقوال مختلفة يذكر كل مؤلف في الغالب : أن ما ذكره في هذه المسألة مثلا هو المذهب ، كما هو الأمر بالنسبة لـ[المنتهى] و[الإنصاف] وغيرهما من كتب الحنابلة .
ما نتج عن إطلاق الأمر للقاضي في تعيينه الراجح من المذهب أو إطلاق الأمر إليه في الاجتهاد في الحكم بما يراه من الاختلاف في الأحكام الصادرة من المحاكم ، ومن الاختلاف في اتجاهاتها.
كثرة الشكاوى من فئات مختلفة داخل البلاد وخارجها من أن القضاء في البلاد غير واضح المعالم حتى لطلبة العلم أنفسهم ، إذ أن أحدهم يمكن أن يكون طرفا في خصومة عند أحد القضاة ، وقد يكون مستواه العلمي أعلى من مستوى القاضي نفسه ، ومع ذلك لا يدري بما يحكم القاضي به.(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر : أبحاث هيئة كبار العلماء 3/269 .
المصدر السابق 3/ 266 .
وهنا يجدر التنبيه إلى أن القائلين بجواز الإلزام بالتقنين من أعضاء هيئة كبار العلماء إنما قصدوا بالإلزام إذا كان القاضي مقلّدا ولا يتصف بأي شروط من شروط الاجتهاد وأما إن توفرت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها العلماء في كتبهم فإنه لا يجوز إلزامه بالحكم بمذهب معين. (1)
هذا وللمانعين من الإلزام مناقشات لما أورده المجيزون من استدلالات هي على النحو التالي :(1/6)
أولاً : الاستدلال بالآية فإنه لا يتوجه لأن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحذف الفعل في طاعة أولي الأمر لأن طاعتهم إنما تكون في طاعة اله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكما أن مرد التنازع في الأمر هو إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما في آخر هذه الآية، فكذلك الطاعة، فلو أمر الإمام وأوجب على القضاة الحكم بأحد القولين في أحكام مناطها الاجتهاد، وذلك المأمور المتأهل يعتقد ديناً وشرعاً متحرياً الصواب أن الصحيح مقابل ما أُلزم به، فهل يجوز فيمن سبيله كذلك الحكم بما أُلزم به وترك ما يعتقده ؟ قال الشافعي رحمه الله ( أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس له أن يدعها لقول غيره ) .
ثانياً : أما أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة وأحرق ما سواها، فلا بد أولاً من تصحيح الدليل ثم يكون الدفع، فمن المعلوم أن القرآن كان مكتوباً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنه كان مفرّقاُ، ثم إن أبا بكر رضي الله عنه جمعه في صحف، هذا أمر مشهورة أخباره ثم جاء عثمان فجمع الناس على حرف واحد لا على قراءة واحدة، والإجماع منعقد على جواز الأخذ بالقراءة بكل قراءة سبعية كما هو معلوم، فيكون عمل عثمان رضي الله عنه من جنس خصال الكفارة من ان الإنسان مخيّر في واحدة منها فاقتصر على قراءة بحرف واحد كمن اقتصر فيمن لزمته الكفارة على خصلة واحدة منها . (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبحاث هيئة كبار العلماء 3/264 .
فقه النوازل للشيخ بكر أبو زيد من ص 33 إلى ص 37 . بتصرف، تقنين الشريعة ص 19، 20(1/7)
ثالثاً : فيما يتعلق باختلاف مستوى القضاة ومدى استيعابهم الأقوال في المسألة، وقدرتهم على الترجيح في ما يذهبون إليه، والجواب على ذلك أن الأصل في القضاة الارتفاع إلى مستوى الاجتهاد، فإن يكن ثمة من قصور فيهم وجب تداركه بالرفع من طاقتهم العلمية بدلاً من الهبوط بقدرة التشريع الإسلامي إلى حصره في اختيار بعض الأشخاص . (1)
المطلب الثالث : قول المانعين من التقنين وأدلتهم .
قال بالمنع من التقنين والإلزام به طائفة من العلماء المعاصرين وهم هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ما عدا من قال بالجواز ممن تقدّم، والشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد،(2)والشيخ صالح بن فوزان الفوزان،(3) والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام،(4)
والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، عبدالرحمن بن عبدالله العجلان، والشيخ عبدالله ابن محمد الغُنيمان، والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي، وغيرهم (5)
واستدل القائلون بهذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، ومنها ما يلي :
أولاً : أن الله سبحانه وتعالى أمر عند التحاكم أن يحكم بالقسط فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ( .. وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحب المقسطين ) (6)
والقسط : العدل فإذا كان القول الملزَم به قد ظهر للقاضي من وجوه الأدلة الشرعية أن الصحيح مقابل ذلك القول الملزم به صار القسط والعدل في أن يحكم وفق معتقده لا بما أُلزم به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علماء ومفكرون عرفتهم لمحمد المجذوب 2/213 في لقاء مع الشيخ عطية سالم رحمه الله .
فقه النوازل 1/ 9-100 .
انظر : مقال الشيخ حفظه الله الذي نشر في جريدة الجزيرة عدد 11913 في 3/4/1426 هـ .
انظر : كتاب تقنين الشريعة أضراره ومفاسده للشيخ البسام .
انظر : تقنين الشريعة بين التحليل والتحريم ص 31، 32 .
سورة المائدة 42 .(1/8)
ثانياً : إن مبنى الشهادتين على تجريد الإخلاص لله تعالى، وتجريد المتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي التقنين الملزم توهين لتجريد توحيد الاتباع، إذ أن حكم القاضي على خلاف ما يعتقده تقديم لقول غير المعصوم على ما يعتقده عن المعصوم، والله تعالى يقول : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (1)
ثالثاً : قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) (2)
ففيه بيان الوعيد للقاضي إذا حكم على خلاف ما يعتقده حقاً لأنه عمل محرم، ولا خلاف في تحريمه عند أهل العلم .
رابعاً : إن إلزام القضاة أن يحكموا بما اختير لهم مما يسمى بالقول الراجح عند من اختاره مخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه الراشدين ، ومن بعدهم السلف الصالح ، ويسبب التحول عن سبيلهم ، ولقد سبق أن وجدت هذه الفكرة في خلافة بني العباس ، وعرضها أبو جعفر المنصور على الإمام مالك رضي الله عنه فردها وبين فسادها ، فهي فكرة مرفوضة لدى السلف.
خامساً : إن إيجاد كتاب يشتمل على قول واحد هو الراجح في نظر من اختاره يكون موحد الأرقام مسلسل المواد لا يمكن أن يقضي على الخلاف، ويوجِد الاتفاق في الأحكام في كل القضايا؛ لاختلاف القضاة في مداركهم وفي فهم المواد العلمية ، ومدى انطباقها على القضايا التي ترفع لهم ، ولاختلاف ظروف القضايا وما يحيط بها من أمارات، ويحف بها من أحوال، فقد اختلف الناس في مدلول بعض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة مع وضوحها وجلائها ، وعلم مصدرها الذي ليس علمه كعلم من يختار القول الراجح المراد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الحجرات 1 .
رواه أهل السنن والحاكم في المستدرك من حديث بريدة رضي الله عنه .(1/9)
سادساً : المحاكم المدنية في الدول التي تحكم بالقوانين الوضعية دونت قوانينها على هيئة مواد موحدة ، مسلسلة الأرقام ، ومع ذلك اختلفت أحكام قضاتها ، ووقع في بعضها التناقض والخطأ ، واستؤنفت بعض الأحكام ، فنقض في محاكم الاستئناف ، فلم يكن ذلك التنظيم والإلزام به مانعا من الخطأ والتناقض ، واتهام القضاة ، ونقض الأحكام.
سابعاً : الإلزام بالتقنين فيه تضييق على المسلمين بحملهم على قول واحد بصفة مستديمة .
ثامناً : إن الاختلاف في الأحكام قد وجد في عهد الخلفاء الراشدين والسلف الصالح ، حتى من القاضي الواحد في قضيتين متماثلتين ظهر له في الثانية ما لم يظهر له في الأولى ، فحكم به ، ولم ينقض حكمه السابق ، ولم يكن ذلك داعيا إلى التفكير في مثل التدوين المقترح ، ولا إلزام القضاة لحكم بقول واحد ، وهم كانوا أحرص منا على حفظ الدين ، وعلى سمعته وسمعة المسلمين ما وسعهم ، ولا يجوز أن يكون هذا الاختلاف مثار ريبة وتهمة للقاضي ، فالأصل فيمن يختار للقضاء : أن يكون عالما أمينا على مستوى المسئولية. (1)
تاسعاً : لو حولنا كتب الفقه إلى مواد وألزمنا القضاة بالحكم بها كنا بذلك عطلنا باب الاجتهاد المطلوب شرعاً وجمدنا على هذه المواد القابلة للخطأ والصواب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) (2)وحينئذ لا بد من تصحيح الحكم الخاطئ بالرجوع به إلى الصواب وترك الخطأ وقد قال العلماء: لا ينتقص من حكم الحاكم إلا ما خالف الدليل، والجمود على المواد المقننة يعطل هذا كله ويبقي على ما دون في المواد المقننة . (3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر في أدلة المانعين من التقنين : فقه النوازل للشيخ بكر ص 57 وما بعدها، أبحاث هيئة كبار العلماء 3/234 وما بعدها ، تقنين الشريعة بين التحليل والتحريم ص 19 وما بعدها .
رواه أهل السنن من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه .(1/10)
انظر : مقال الشيخ صالح الفوزان الذي نشر في جريدة الجزيرة عدد 11913 في 3/4/1426 هـ
المطلب الرابع : بيان القول الراجح في مسألة الإلزام بالتقنين .
بعدما سبق من عرض المسألة، وما فيها من أقوال وأدلة ومناقشات يظهر لي – والله أعلم – القول بالمنع من الإلزام بالتقنين لقوة أدلة القائلين بهذا القول وسلامتها من المعارضة، ولإمكان تحسين وضع القضاء والقضاء بعيداً عن التقنين لما فيه من مخاطر وإشكالات كما تقدم، وقد رأت هيئة كبار العلماء في آخر قرارها التماس طريق آخر لعلاج وضع القضاء، وحل المشكلة فمن ذلك :
إعداد القضاة ، والعناية بهم ، وتأهيلهم علميا ، وتدريبهم عمليا على أعمال القضاء ، ولو بدورات دراسية وتدريبية لمن يحتاج لذلك ممن على رأس العمل.
حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم ، ورجاحة في العقل، مع حلم وأناة ، وبعد نظر ، وصدق وأمانة ، وابتعاد عن مظان الريبة . . إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في القاضي
تأليف لجنة من العلماء ؛ لبحث المسائل القضائية الهامة التي ربما يشتبه الحكم فيها على بعض القضاة ، فتبين بالأدلة وجه الحكم فيها ، وتوضح تطبيقها بأمثلة ، خاصة القضايا التي حدثت في عصرنا ، وليس هذا لإلزام القضاة بما انتهى إليه البحث ، بل ليكون عونا لهم في القيام بمهمتهم ، ونموذجا لهم في دراسة القضايا وحل مشكلها ، والدقة في تطبيق الأحكام فيها ، فبذلك تضيق شقة الخلاف ، وتتحقق المصلحة المرجوة. (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبحاث هيئة كبار العلماء 3/240 .
مما تقدم يعلم أن العلاج للمشكلة في غير التدوين المذكور الذي لا تؤمن عاقبته ، ونتيجته غير مضمونة ، ويفضي إلى فصل الناس عن مصادر شريعتهم وثروة أسلافهم الفقهية ، كما سبق بيانه ، فتعين سلوك الطريق السليم العاقبة ، المأمون النتيجة ، الذي استقامت عليه حياة الأمة الإسلامية وأحوالها في قرونها السالفة.(1/11)
وفي الختام هذا ما تيسر لي جمعه وبحثه في هذه النازلة، فإن كان فيه من صواب فمن الله وحده لا شريك له وإن كان في من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله من ذلك والحمد لله أولاً ,آخراً وظاهراً وباطناً .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،،
قائمة أسماء المصادر والمراجع
أبحاث هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية .
البداية والنهاية للإمام ابن كثير بتحقيق د. التركي ط.1 دار هجر 1419
المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا ط. 1 .دار القلم 1418
تقنين الشريعة بين التحليل والتحريم لعبدالرحمن بن سعد الشثري ط.1 دار الفضيلة 1426 .
التشريع والفقه في الإسلام تاريخاً ومنهجاً للشيخ مناع القطان ط.5 مكتبة وهبة 1422 .
رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين . دار إحياء التراث العربي.
سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ط.8 مؤسسة الرسالة 1412
علماء ومفكرون عرفتهم لمحمد المجذوب ط.4 . دار الشواف 1992م
فقه النوازل للشيخ بكر أبو زيد ط.1 . مؤسسة الرسالة 1422 .
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جمع الشيخ عبدالرحمن بن قاسم .دار عالم الكتب 1412 .
مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه د. شويش المحاميد ط.1 جمعية عمال المطابع 1422 .
المجموع شرح المهذب للإمام النووي دار الفكر
المعجم الوسيط لإبراهيم أنيس وآخرين ط.2
المغني لابن قدامة المقدسي بتحقيق د.عبدالله التركي ود.عبدالفتاح الحلو
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لأبي عبدالله الحطاب ط.1 دار الكتب العلمية 1416 .
جريدة الجزيرة السعودية الصادرة من الرياض .(1/12)