فإن اشتد الشقاق ، وادعى كل نشوز الأخر وظلمه لم يكن قطع المنازعة إلا بحكمين : حكم من أهله ، وحكم من أهلها يحكمان عليهما من النفقة وغيرها ما يريان من المصلحة ، وذلك لأن إقامة البينة على ما
$[2/363]
يجري في الزوجين ممتنعة ؛ فلا أحق من أن يجعل الأمر إلى أقرب الناس إليهما وأشفقهم عليهما .
يحرم الإِفساد بين الزوجين :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبداً على سيده » .
أقول : أحد أسباب فساد تدبير المنزل أن يخبب إنسان المرأة أو العبد وذلك سعي في تنغيص هذا النظم وفكه ومناقضة للمصلحة الواجب إقامتها .
العدل بين الزوجات :
واعلم أن من باب فساد تدبير المنزل خصالاً فاشية في الناس ، كثيراً المبتلون بها ، فلا بد أن يتعرض الشرع لها ، ويبحث عنها ، منها أن يجتمع عند رجل عدد من النسوة ، فيفضل إحداهن في القسم وغيره ، ويظلم الأخرى ويتركها كالمعلقة ، قال اللّه تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُواْ أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّساء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُواْ كُلَ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وإن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّه كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إذا كانت عند الرجل امرأتان ، فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط » . أقول : قد مر أن المجازاة إنما تظهر في صورة العمل فلا نعيده .
$[2/364]
يحرم على الأولياء عضل النساء :
ومنها أن يعضلهن الأولياء عما يرغبن فيه من الأكفاء اتباعاً لداعية نفسانية من حقد وغضب ونحوهما ، وفي ذلك من المفسدة ما لا يخفى فنزل قوله تعالى : { وَإذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاً تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } .
تزوج اليتامى ذوات المال طمعاً في مالهن :(2/182)
ومنها أن يتزوج اليتامى اللاتي في حجره إن كن ذوات مال وجمال ، ولا يفي بحقوقهن مثل ما يصنع بذوات الأباء ، ويتركهن إن كن على غير ذلك ، قال اللّه تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ منَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَاِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحدةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
فنهى الإِنسان إن خشي الجور أن ينكح اليتامى ، أو ينكح ذوات عدد من النساء .
من تزوج ثانية أقام عندها ثم قسم :
ومن السنّة إذا تزوج البكر على امرأة أقام عندها سبعاً ، ثم قسم ، وإذا تروج الثيب أقام عندها ثلاثاً ، ثم قسم .
أقول : السر في هذا أنه لا يجوز أن يضيق في هذا الباب كل التضييق ، فإنه لا يطيقه أكثر أفراد الإِنسان وهو قوله تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَو حَرَصْتُمْ } .
$[2/365]
نبه على أنه لما لم يمكن إقامة العدل الصراح وجب أن يدار الحكم على ترك الجور الصريح ، فإذا رغب رجل في امرأة ، وأعجبه حسنها ، وشغف قلبه جمالها ، وكان له رغبة وافرة إليها لم يكن أن يصد عن ذلك بالكلية ؛ لأنه كالتكليف بالممتنع ، فقدر له مقدار استئثاره لها ، لئلا يزيد ، فيقتحم في الجور .
وأيضاً فمن المصلحة المعتبرة تأليف قلب الجديدة وإكرامها ، ولا يحصل إلا بأن يستأثر ، وهو إيماء قوله صلى اللّه عليه وسلم لأم سلمة رضي اللّه عنها : « ليس لك على أهلك هوان إن شئت سبعت » ، الحديث وأما كسر قلب القديمة فقد عولج بجريان السنّة بالزيادة للجديدة ، فإنه إذا جرت السنّة بشيء ، ولم يكن مما قصد به إيذاء أحد أو مما خص به هان وقعه عليه ، وهو إيماء قوله تعالى : { ذلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْينُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتهنَّ كُلُّهُنَّ } .(2/183)
يعني نزول القرآن بالخيرة في حقهن سبب زوال السخطة بالنسبة إليه صلى اللّه عليه وسلم ، والبكر الرغبة فيها أتم ، والحاجة إلى تأليف قلبها أكثر ، فجعل قدرها السبع ، وقدر الثيب الثلاث .
كان الرسول يقرع إذا أراد سفراً :
وكان صلى اللّه عليه وسلم يقسم بهن ، وإذا أراد سفراً أقرع بين نسائه . أقول : وذلك دفعاً لوحر الصدر ، والظاهر أن ذلك منه صلى اللّه عليه وسلم كان تبرعاً وإحساناً من غير
$[2/366]
وجوب عليه لقوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ } .
وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد ، ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا القسم ، واختلفوا في القرعة . أقول : وفيه أن قوله : فلم يعدل مجمل لا يدري أي عدل أريد به ، وقوله تعالى : { فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } ، مبين أن المراد نفي الجور الفاحش وإهمال أمرها بالكلية وسوء العشرة معها .
الأمة إذا أعتقت خيرت في زواجها :
وأعتقت بريرة ، وكان زوجها عبداً ، فخيّرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . فاختارت نفسها .
أقول : السبب في ذلك أن كون الحرة فراشاً للعبد عار عليها ، فوجب دفع ذلك العار عنها إلا أن ترضى به ، وأيضاً فالأمة تحت يد مولاها ليس رضاها رضا حقيقة ، وإنما النكاح بالتراضي ، فلما أن كان أمرها بيدها وجب ملاحظة رضعاها ، وفي رواية إن قربك ، فلا خيار لك ، وذلك لأنه لابد من ضرب حد ينتهي إليه الخيار ، وإلا كان لها الخيار طول عمرها ، وفي ذلك قلب موضوع النكاح ، ولا يصلح اختيارها إياه بالكلام حداً ينتهي إليه ، لأنها ربما تشاور أهلها ، وتقلب الأمر في نفسها وكثيراً ما يجري عند ذلك صيغة الاختيار وإن لم تجزم به ، وفي إلجائها ألا تتكلم بمثلها حرج ،
$[2/367]
فلا أحق من القربان إذ هو فائدة الملك والشيء الذي يقصد منه والأمر الذي يتم به ، واللّه أعلم .
الطلاق
أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق :(2/184)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق » . اعلم أن في الإِكثار من الطلاق وجريان الرسم بعدم المبالاة به مفاسد كثيرة ، وذلك أن ناساً ينقادون لشهوة الفرج ، ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل ولا التعاون في الارتفاقات ولا تحصين الفرج ، وإنما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء وذوق لذة كل امرأة ، فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح ، ولا فرق بينهم وبين الزناة من جهة ما يرجع إلى نفوسهم ، وإن تميزوا عنهم بإقامة سنّة النكاح والموافقة لسياسة المدينة ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « لعن اللّه الذواقين والذواقات » .
وأيضاً ففي جريان الرسم بذلك إهمال لتوطين النفس على المعاونة الدائمة أو شبه الدائمة ، وعسى إن فتح هذا الباب أن يضيق صدره أو صدرها في شيء من محقرات الأمور ، فيندفعان إلى الفراق ، وأين ذلك من احتمال أعباء الصحبة ، والإِجماع على إدامة هذا النظم ؟
وأيضاً فإن اعتيادهن بذلك وعدم مبالاة الناس به وعدم حزنهم عليه يفتح باب الوقاحة ، وألا يجعل كل منهما ضرر الأخر ضرر نفسه ، وأن يخون كل واحد الأخر يمهد لنفسه إن وقع الافتراق ، وفي ذلك ما لا
$[2/368]
يخفى ، ومع ذلك لا يمكن سد هذا الباب والتضييق فيه ، فإنه قد يصير الزوجان متناشزين إما لسوء خلقهما أو لطموح عين أحدهما إلى حسن إنسان آخر أو لضيق معيشتهما أو لخرق واحد منهما ، ونحو ذلك من الأسباب ، فيكون إدامة هذا النظم مع ذلك بلاء عظيماً وحرجاً .
رفع القلم عن النائم والصبي والمعتوه :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يبلغ ، وعن المعتوه حتى يعقل » .(2/185)
أقول : السر في ذلك أن مبنى جواز الطلاق بل العقود كلها على المصالح المقتضية لها ، والنائم والصبي والمعتوه بمعزل عن معرفة تلك المصالح .
طلاق المكره :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق » ، معناه : في إكراه ، اعلم أن السبب في هدر طلاق المكره شيئان :
أحدهما : أنه لم يرض به ، ولم يرد فيه مصلحة منزلية ، وإنما هو لحادثة لم يجد منها بدًّا ، فصار بمنزلة النائم .
وثانيهما : أنه لو اعتبر طلاقه طلاقاً لكان ذلك فتحاً لباب الإِكراه ، فعسى أن يختطف الجبار الضعيف من حيث لا يعلم الناس ، ويخيفه بالسيف ، ويكرهه على الطلاق إذا رغب في امرأته ، فلو خيبنا رجاءه ، وقلبنا عليه مراده كان ذلك سبباً لترك تظالم الناس فيما بينهم بالإِكراه ، ونظيره ما ذكرنا في قوله صلى اللّه عليه وسلم : « القاتل لا يرث » .
$[2/369]
لا طلاق قبل النكاح :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا طلاق فيما لا يملك » ، وقال عليه السلام : « لا طلاق قبل النكاح » .
أقول : الظاهر أنه يعم الطلاق المنجز والمعلق بنكاح وغيره ، والسبب في ذلك أن الطلاق إنما يجوز للمصلحة ، والمصلحة لا تتمثل عنده قبل أن يملكها ، ويرى منها سيرتها ، فكان طلاقها قبل ذلك بمنزلة نيّة المسافر الإِقامة في المفازة أو الغازي في دار الحرب مما تكذبه دلائل الحال ، وكان أهل الجاهلية يطلقون ويراجعون إلى متى شاءوا وكان في ذلك من الأضرار ما لا يخفى ، فنزل قوله تعالى : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية .
معناه : أن الطلاق المعقب للرجعة مرتان ، فإن طلقها الثالثة ، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، وألحقت السنّة ذوق العسيلة بالنكاح .
السر في جعل الطلاق ثلاثاً :
والسر في جعل الطلاق ثلاثاً لا يزيد عليها أنها أول حد كرة ، ولأنه لابد من تروٍّ ، ومن الناس لا يتبين له المصلحة حتى يذوق فقداً ، وأصل التجربة واحدة ، ويكملها اثنتان .(2/186)
وأما اشتراط النكاح بعد الثالثة فلتحقيق معنى التحديد والإِنهاء ،
$[2/370]
وذلك أنه لو جاز رجوعها إليه من غير تخلل نكاح الأخر كان ذلك بمنزلة الرجعة ، فإن نكاح المطلقة إحدى الرجعتين ، وأن المرأة ما دامت في بيته وتحت يده وبين أظهر أقاربه يمكن أن يغلب على رأيها ، وتضطر إلى رضا ما يسولون لها فإذا فارقتهم ، وذاقت الحر والقر ، ثم رضيت بعد ذلك فهو حقيقة الرضا ، وأيضاً ففيه إذاقة الفقد ومعاقبة على اتباع داعية الضجر من غير تروٍّ مصلحة مهمة . وأيضاً : ففيه إعظام المطلقات الثلاث بين أعينهم وجعلها بحيث لا يبادر إليها إلا من وطن نفسه على ترك الطمع فيها إلا بعد ذل وإرغام أنف لا مزيد عليه .
لا رجوع لمطلقة ثلاثاً إلا بعد زواج آخر :
وقال صلى اللّه عليه وسلم لامرأة رفاعة حين طلقها ، فبت طلاقها ، فنكحت زوجاً غيره : « أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ قالت : نعم ، قال : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » .
أقول : إنما شرط تمام النكاح بذوق العسيلة ليتحقق معنى التحديد الذي ضرب عليهم فإنه لولا ذلك لاحتال رجل بأجراء صيغة النكاح على اللسان ، ثم يطلق في المجلس ، وهذا مناقضة لفائدة التحديد .
المحلل والمحلل له ملعونان :
ولعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المحلل والمحلل له . أقول : لما كان من الناس من ينكح لمجرد التحليل من غير أن يقصد منها تعاوناً في المعيشة ، ولا يتم بذلك المصلحة المقصودة ، وأيضاً ففيه وقاحة وإهمال غيرة وتسويغ ازدحام على الموطوءة من غير أن يدخل في تضاعيف المعاونة نهى عنه .
$[2/371]
وطلق عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه امرأته وهي حائض . وذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فتغيظ ، وقال : « ليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، فإن بداله أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها » .(2/187)
أقول : السر في ذلك أن الرجل قد يبغض المرأة بغضة طبيعية ، ولا طاعة لها مثل كونها حائضاً ، وفي هيئة رثة ، وقد يبغضها لمصلحة يحكم بإقامتها العقل السليم مع وجود الرغبة الطبيعية ، وهذه هي المتبعة وأكثر ما يكون الندم في الأول وفيه يقع التراجع ، وهذا داعية يتوقف تهذيب النفس على إهمالها وترك اتباعها ، وقد يشتبه الأمران على كثير من الناس ، فلا بد من ضرب حد يتحقق به الفرق ، فجعل الطهر مظنة للرغبة الطبيعية ، والحيض مظنة للبغضة الطبيعية ، والإِقدام على الطلاق على حين رغبة فيها مظنة للمصلحة العقلية ، والبقاء مدة طويلة على هذا الخاطر مع تحول الأحوال من حيض إلى طهر ، ومن رثاثة إلى زينة ، ومن انقباض إلى انبساط مظنة للعقل الصراح والتدبير الخالص ، فلذلك كره الطلاق في الحيض ، وأمر بالمراجعة وتخلل حيض جديد ، وأيضاً فإن طلقها في الحيض فإن عدت هذه الحيضة في العدة انتقصت مدة العدة ، وإن لم تعد تضررت المرأة بطول العدة سواء كان المراد بالقروء الإِطهار أو الحيض ، ففي كل ذلك مناقضة للحد الذي ضربه اللّه في محكم كتابه من ثلاثة قروء .
الحكمة في جعل الطلاق في الطهر :
وإنما أمر أن يكون الطلاق في الطهر قبل أن يمسها لمعنيين : أحدهما بقاء الرغبة الطبيعية فيها ، فإنه بالجماع تفتر سَوْرة الرغبة .
وثانيهما : أن يكون ذلك أبعد من اشتباه الأنساب .
$[2/372]
وإنما أمر اللّه تعالى بإشهاد شاهدين على الطلاق لمعنيين : أحدهما الاهتمام بأمر الفروج ؛ لئلا يكون نظم تدبير المنزل ، ولا فكه إلا على أعين الناس .
والثاني : ألا تشتبه الأنساب وألا يتواضع الزوجان من بعد ، فيهملا الطلاق ، واللّه أعلم .
يكره جمع الطلقات الثلاث في طهر واحد :(2/188)
وكره أيضاً جمع الطلقات الثلاث في طهر واحد ، وذلك لأنه إهمال للحكمة المرعية في شرع تفريقها ، فإنها شرعت ليتدارك المفرط ، ولأنه تضييق على نفسه وتعرض للندامة ، وأما الطلقات الثلاث في ثلاثة أطهار » ، فأيضاً تضييق ومظنة ندامة غير أنها أخف من الأول من جهة وجود التروي والمدة التي تتحول فيها الأحوال ، ورب إنسان تكون مصلحته في تحريم المغلظ .
الخُلع ، والظهار ، واللعان ، والإِيلاء
الخلع مشروع لكن فيه شناعة :
اعلم أن الخُلع فيه شناعة ما ؛ لأن الذي أعطاه من المال قد وقع في مقابلة المسيس وهو قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ ميثَاقاً غَلِيظاً } .
واعتبر النبي صلى اللّه عليه وسلم هذا المعنى في اللعان حيث قال : « إن صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها » ، ومع ذلك فربما تقع الحاجة إلى ذلك فذلك قوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } .
$[2/373]
الظهار :
وكان أهل الجاهلية يحرمون أزواجهم ، ويجعلونهن كظهر الأم ، فلا يقربونهن بعد ذلك أبداً ، وفي ذلك من المفسدة ما لا يخفى ، فلا هي حظية تتمتع منه كما تتمتع النساء من أزواجهن ، ولا هي أيم يكون أمرها بيدها ، فلما وقعت هذه الواقعة في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم ، واستفتي فيها أنزل اللّه عزّ وجلّ : { قَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } ، إلى قوله : { عَذَابٌ أَلِيم } .(2/189)
والسر فيه أن اللّه تعالى لم يجعل قولهم ذلك هدرا بالكلية ؛ لأنه أمر ألزمه على نفسه ، وأكد فيه الفول بمنزلة سائر الأيمان ، ولم يجعله مؤبداً كما كان في الجاهلية دفعاً للحرج الذي كان عندهم ، وجعله مؤقتاً إلى كفارة لأن الكفارة شرعت دافعة للآثام منهية لما يجده المكلف في صدره . أما كون هذا القول زوراً فلأن الزوجة ليست بأم حقيقة ولا بينهما مشابهة أو مجاورة تصحح إطلاق اسم إحداهما على الأخرى إن كان خبراً ، وهو عقد ضار غير موافق للمصلحة ، ولا مما أوحاه اللّه في شرائعه ، ولا مما استنبطه ذوو الرأي في أقطار الأرض إن كان إنشاء ، وأما كونه منكراً فلأنه
$[2/374]
ظلم وجور وتضييق على من أمر بالإِحسان إليه .
الحكمة في تشديد الكفارة :
وإنما جعلت الكفارة عتق رقبة أو إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين لأن مقاصد الكفارة أن يكون بين عيني المكلف ما يكبحه عن الاقتحام في الفعل خشية أن يلزمه ذلك ، ولا يمكن ذلك إلا بكونها طاعة شاقة تغلب على النفس إما من جهة كونها بذل مال يشح به ، أو من جهة مقاساة جوع وعطش مفرطين .
الإيلاء :
{ لِلَّذِينَ يُؤلُونَ مِن نسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } .
اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يحلفون ألا يطأوا أزواجهم أبداً أو مدة طويلة ، وفي ذلك جور وضرر ، فقضى اللّه تعالى بالتربص أربعة أشهر .
قال اللّه تعالى : { فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رحِيم } .
واختلف العلماء في الفيء ، فقيل : يوقف المولى بعد مضي أربعة أشهر ثم يجبر على التسريح بالإِحسان أو الإِمساك بالمعروف ، وقيل : يقع الطلاق ، ولا يوقف . أما السر في تعيين هذه المدة فإنها مدة تتوق النفس فيها للجماع لا محالة ، ويتضرر بتركه إلا أن يكون مؤوفاً ، ولأن هذه المدة ثلث السنة ، والثلث يضبط به أقل من النصف ، والنصف يعد مدة كثيرة .
$[2/375]
اللعان :(2/190)
قال اللّه تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لهُمْ شُهَدَاءُ } الآية .
واستفاض حديث عويمر العجلاني . وهلال بن أمية .
اعلم أن أهل الجاهلية كانوا إذا قذف الرجل امرأته ، وكان بينهما في ذلك مشاقة رجعوا إلى الكهان كما كان في قصة هند بنت عتبة فلما جاء الإِسلام امتنع أن يسوغ لهم الرجوع إلى الكهان ؛ لأن مبنى الملة الحنيفية على تركها وإخمالها ، ولأن في الرجوع إليهم من غير أن يعرف صدقهم من كذبهم ضرراً عظيماً ، وامتنع أن يكلف الزوج بأربعة شهداء وإلا ضرب الحد ؛ لأن الزنا إنما يكون في الخلوة ، ويعرف الزوج ما في بيته ويقوم عنده من المخايل ما لا يمكن أن يعرفه غيره ، وامتنِع أن يجعل الزوج بمنزلة سائر الناس يضربون الحد لأنه مأمور شرعاً وعقلاً بحفظ ما في حيزه من العار والشنار ، مجبول على غيرة أن يزدحم على ما في عصمته ، ولأن
$[2/376]
الزوج أقصى ما يقطع به الريبة ، ويطلب به تحصين فرجها ، فلو كان هو فيما يؤاخذها به بمنزلة سائر الناس ارتفع الأمان ، وانقلبت المصلحة مفسدة .
وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما وقعت الواقعة متردداً تارة لا يقضي بشيء لأجل هذه المعارضات ، وتارة يستنبط حكمه مما أنزل اللّه عليه من القواعد الكلية ، فيقول : « البينة أو حداً في ظهرك . . . » حتى قال المبتلي : « والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزل اللّه ما يبرئ ظهري من الحد ، ثم أنزل اللّه تعالى آية اللعان » .
والأصل فيه أنه أيمان مؤكدة تبرئ الزوج من حد القذف ، وتثبت اللوث عليها تحبس لأجله ، ويضيق عليها به ؛ فإن نكل ضرب الحد وأيمان مؤكدة منها تبرئها ، فإن نكلت ضربت الحد .(2/191)
وبالجملة فلا أحسن فيما ليس فيه بينة ، وليس مما يهدر ، ولا يسمع من الأيمان المؤكدة ، وجرت السنّة أن تذكره المرأة تحقيقاً للمقصود من الأيمان ، وجرت السنّة ألا تعود إليه أبداً فإنهما بعد ما حصل بينهما هذا التشاجر ، وانطوت صدورهما على أشد الوحر ، وأشاع عليها الفاحشة لا يتوافقان ، ولا يتوادان غالباً ، والنكاح إنما شرع لأجل المصالح المبنية على التواد والتوافق ، وأيضاً ففي هذه زجر عليهما من الإِقدام على مثل هذه المعاملة .
$[2/377]
العدة
الحكمة من العدة :
قال اللّه تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } إلى آخر الآيات .
اعلم أن العدة كانت من المشهورات المسلمة في الجاهلية ، وكانت مما لا يكادون يتركونه ، وكان فيها مصالح كثيرة :
منها معرفة براءة رحمها من مائه ، لئلا تختلط الأنساب ، فإن النسب أحد ما يتشاح به ، ويطلبه العقلاء ، وهو من خواص نوع الإِنسان ، ومما امتاز به من سائر الحيوان ، وهو المصلحة المرعية في باب الاستبراء .
ومنها التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لم يكن أمراً ينتظم إلا بجمع رجال ، ولا ينفك إلا بانتظار طويل ، ولولا ذلك لكان بمنزلة لعب الصبيان ينتظم ، ثم يفك في الساعة .
ومنها أن مصالح النكاح لا تتم حتى يوطنا أنفسهما على إدامة هذا العقد ظاهراً ، فإن حدث حادث يوجب فك النظام لم يكن بد من تحقيق صورة الإِدامة في الجملة بأن تتربص مدة تجد لتربصها بالاً ، وتقاسي لها عناءً .
عدة المطلقة :
وعدة المطلقة ثلاثة قروء ، فقيل : هي الأطهار ، وقيل : هي الحيض ، وعلى أنها طهر ، فالسر فيه أن الطهر محل رغبة كما ذكرنا ،
$[2/378]
فجعل تكرارها عدة لازمة ليتروى المتروي ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم في صفة الطلاق : « فتلك العدة التي أمر اللّه بالطلاق فيها » ، وعلى أنها حيض فالحيض هو الأصل في معرفة عدم الحمل .(2/192)
فإن لم تكن من ذوات الحيض لصغر أو كبر ، فتقوم ثلاثة أشهر مقام ثلاثة قروء لأنها مظنتها ولأن براءة الرحم ظاهرة ، وسائر المصالح تتحقق بهذه المدة .
عدة الحامل والمتوفى زوجها :
وفي الحامل انقضاء الحمل لأنه معرِّف براءة رحمها .
والمتوفى عنها زوجها تتربص أربعة أشهر وعشراً ، ويجب عليها الإحداد في هذه المدة ، وذلك لوجوه :
أحدها : أنها لما وجب عليها أن تتربص ، ولا تنكح ، ولا تخطب في هذه المدة حفظاً لنسب المتوفى عنها اقتضى ذلك في حكمة السياسة أن تؤمر بترك الزينة لأن الزينة تهيج الشهوة من الجانبين ، وهيجانها في مثل هذه الحالة مفسدة عظيمة .
وأيضاً فإن من حسن الوفاء أن تحزن على فقده ، وتصير تفلة شعثة ، وأن تحد عليه ، فذلك من حسن وفائها ، وتحقيق معنى قصر بصرها عليه ظاهراً .
ولم تؤمر المطلقة بذلك لأنها تحتاج إلى أن تتزين ، فيرغب زوجها فيها ، ويكون ذلك معونة في جمع ما افترق من شملها ، ولذلك اختلف
$[2/379]
العلماء في المطلقة ثلاثاً هل تتزين أم لا ؟ فمن ناظر إلى الحكمة ، ومن ناظر إلى عموم لفظ المطلقة .
الحكمة في جعل العدة أربعة أشهر وعشراً :
وإنما عيّن في عدتها أربعة أشهر وعشراً لأن أربعة أشهر هي ثلاث أربعينات ، وهي مدة تنفخ فيها الروح في الجنين ، ولا يتأخر عنها تحرك الجنين غالباً ، وزيد عشر لظهور تلك الحركة .
وأيضاً فإن هذه المدة نصف مدة الحمل المعتاد وفيه يظهر الحمل بادي الرأي بحيث يعرفه كل من يرى .
الحكمة في عدة القروء :(2/193)
وإنما شرع عدة المطلقة قروءاً ، وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً لأن هنالك صاحب الحق قائم بأمره ينظر إلى مصلحة النسب ، ويعرف بالمخايل والقرائن ، فجاز أن تؤمر بما تختص به ، وتؤمن عليه ، ولا يمكن للناس أن يعلموا منها إلا من جهة خبرها ، وهاهنا ليس صاحب الحق موجوداً وغيره لا يعرف باطن أمرها ، ولا يعرف مكايدها كما يعرف هو ، فوجب أن يجعل عدتها أمواً ظاهراً يتساوى في تحقيقه القريب والبعيد ، ويحقق الحيض لأنه لا يمتد إليه الطهر غالباً أو دائماً .
عدة الحامل وعدة الأمة :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة » ،
$[2/380]
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « كيف يستخدمه وهو لا يحل له ، أم كيف يورثه ، وهو لا يحل له » .
أقول : السر في الاستبراء معرفة براءة الرحم وألا تختلط الأنساب ، فإذا كانت حاملاً فقد دلت التجربة على أن الولد في هذه الصورة يأخذ شبهين : شبه من خلق من مائه . وشبه من جامع في أيام حمله ، بيّن ذلك أثر عمر رضي اللّه عنه وهو إيماء قوله صلى اللّه عليه وسلم : « لا يحل لامرئ يؤمن باللّه واليوم الأخر أن يسقي ماءه لزرع غيره » ، وقوله عليه السلام : « كيف يستخدمه » ، الخ معناه أن الولد الحاصل بعد جماع الحبلى فيه شبهان لكل شبه حكم يناقضِ حكم الشبه الأخر ، فشبه الأول يجعل الولد عبداً ، وشبه الثاني يجعله ابناً ، وحكم الأول الرق ووجوب الخدمة عليه لمولاه ، وحكم الثاني الحرية واستحقاق الميراث ، فلما كان الجماع سبب التباس أحكام الشرع في الولد نهى عنه ، واللّه أعلم .
تربية الأولاد والمماليك
المحافظة على النسب جبلة بشرية :
اعلم أن النسب أحد الأمور التي جبل على محافظتها البشر ، فلن
$[2/381](2/194)
ترى إنساناً في إقليم من الأقاليم الصالحة لنشء الناس إلا وهو يحب أن ينسب إلى أبيه وجده ، ويكره أن يقدح في نسبته إليهما ، اللّهم إلا لعارض من دناءة النسب أو غرض من دفع ضر أو جلب نفع ونحو ذلك ، ويجب أيضاً أن يكون له أولاد ينسبون إليه ، ويقومون بعده مقامه ، فربما اجتهدوا أشد الاجتهاد ، وبذلوا طاقتهم في طلب الولد ، فما اتفق طوائف الناس على هذه الخصلة إلا لمعنى من جبلتهم .
ومبنى شرائع اللّه على إبقاء هذه المقاصد التي تجري بجري الجبلة ، وتجري فيها المناقشة والمشاحة والاستيفاء لكل ذي حق حقه منها والنهي عن التظالم فيها ، فلذلك وجب أن يبحث الشارع عن النسب ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » .
فقيل : معناه الرجم ، وقيل : الخيبة .
ابتغاء الولد يكون بوجه مشروع :
أقول : كان أهل الجاهلية يبتغون الولد بوجوه كثيرة لا تصححها قوانين الشرع ، وقد بينت بعض ذلك عائشة رضي اللّه عنها ، فلما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم سد هذا الباب ، وخيب العاهر ، وذلك لأن من المصالح الضرورية التي لا يمكن بقاء بني نوع الإِنسان إلا بها اختصاص الرجل بامرأته حتى يسد باب الازدحام على الموطوءة رأساً ، ومن مقتضى ذلك أن يخيب من عصى هذه السنّة الرِاشدة ، وابتغى الولد من غير اختصاص ؛ إرغاماً لأنفه وازدراء بأمره وزجراً له أن يقصد مثل ذلك ، وإلى هذا الإِشارة
$[2/382]
في قوله عليه السلام : « للعاهر الحجر » ، إن أريد معنى الخيبة كما يقال : بيده التراب ، وبيده الحجر .(2/195)
وأيضاً فإذا تزاحمت الحقوق ، وادعى كل لنفسه وجب أن يرجح من يتمسك بالحجة الظاهرة المسموعة عند جماهير الناس والذي يتمسك بما يزيد اللائمة عليه ، ويفتِح باب ضرب الحد ، أو يعترف فيه بأنه عصى اللّه ، وكان مع ذلك أمراً خفياً لا يعلم إلا من جهة قوله : فمن حق ذلك أن يهجر ويخمل ، وقد اعتبر النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل هذا المعنى حيث قال في قصة اللعان : « إن كذبت عليه فهو أبعد لك » ، وإليه الإِشارة في قوله : « وللعاهر الحجر » ، إن أريد معنى الرجم بالحجارة .
الانتساب إلى غير الأب ظلم وعقوق :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام » .
أقول : من الناس من يقصد مقاصد دنية ، فيرغب عن أبيه ، وينتسب إلى غيره ، وهو ظلم وعقوق لأنه تخييب أبيه ، فإنه طلب بقاء نسله المنسوب إليه المتفرع عليه ، وترك شكر نعمته وإساءة معه ، وأيضاً فإن النصرة والمعاونة لابد منها في نظام الحي والمدينة ، ولو فتح باب الانتفاء من الأب لأهملت هذه المصلحة ، ولاختلطت أنساب القبائل ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من اللّه في شيء ولن يدخلها اللّه الجنة ، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه منه ، وفضحه على رؤوس الخلائق » .
$[2/383]
المرأة مؤتمنة في العدة ونحوها :(2/196)
أقول : لما كانت المرأة مؤتمنة في العدة ونحوها مأمورة ألا تلبس عليهم أنسابهم وجب أن ترهب في ذلك وإنما عوقبت على هذا لأنه سعي في إبطال مصلحة العالم ومناقضة لما في جبلة النوع ، وذلك جالب بغض الملأ الأعلى حيث أمروا بالدعاء لصلاح النوع ، وأيضاً ففي ذلك تخييب لولده وتضييق وحمل لنقل الولد على آخرين ، والرجل إذا أنكر ولده فقد عرضه للذل الدائم والعار الذي لا ينتهي حيث لا نسب له ، وأضاع نسمته حيث لا منفق عليه ، وهو يشبه قتل الأولاد من وجه ، وعرض والدته للذل الدائم والعار الباقي طول الدهر .
العقيقة
العقيقة سنّة :
واعلم أن العرب كانوا يعقون عن أولادهم ، وكانت العقيقة أمراً لازماً عندهم وسنّة مؤكدة ، وكان فيها مصالح كثيرة راجعة إلى المصلحة الملية والمدنية والنفسانية ، فأبقاها النبي صلى اللّه عليه وسلم وعمل بها ، ورغب الناس فيها .
فمن تلك المصالح التلطف بإشاعة نسب الولد ، إذ لابد من إشاعته لئلا يقال ما لا يحبه ، ولا يحسن أن يدور في السكك ، فينادي أنه ولد لي ولد فتعين التلطف بمثل ذلك .
ومنها اتباع داعية السخاوة وعصيان داعية الشح .
ومنها أن النصارى كان إذا ولد لهم ولد صبغوه بماء أصفر يسمونه المعمودية ، وكانوا يقولون : يصير الولد به نصرانياً ، وفي مشاكلة هذا الاسم
$[2/384]
نزل قوله تعالى : { صِبْغَةَ اللّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً } .
فاستحب أن يكون للحنيفيين فعل بإزاء فعلهم ذلك يشعر بكون الولد حنيفياً تابعاً لملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وأشهر الأفعال المختصة بهما المتوارثة في ذريتهما ما وقع له عليه السلام من الإِجماع على ذبح ولده ، ثم نعمة اللّه عليه أن فداه بذبح عظيم ، وأشهر شرائعهما الحج الذي فيه الحلق والذبح ، فيكون التشبه بهما في هذا تنويها بالملة الحنيفية ونداء أن الولد قد فعل به ما يكون من أعمال هذه الملة .(2/197)
ومنها أن هذا الفعل في بدء ولادته يخيل إليه أنه بذل ولده في سبيل اللّه كما فعل إبراهيم عليه السلام ، وفي ذلك تحريك سلسلة الإِحسان والانقياد كما ذكرنا في السعي بين الصفا والمروة .
العقيقة ذبح في اليوم السابع للولادة :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « الغلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق » . أقول : أما سبب الأمر بالعقيقة فقد ذكرنا ، وأما تخصيص اليوم السابع فلأنه لابد من فصل بين الولادة والعقيقة ، فإن أهله مشغولون بإصلاح الوالدة والولد في أول الأمر ، فلا يكلفون حينئذ بما يضاعف شغلهم ، وأيضاً فرب إنسان لا يجد شاة إلا بسعي ، فلو سن كونها في أول يوم لضاق الأمر عليهم ، والسبعة أيام مدة صالحة للفصل المعتد به غير
$[2/385]
الكثير ، وأما إماطة الأذى فللتشبه بالحاج ، وقد ذكرنا ، وأما التسمية فلأن الطفل قبل ذلك لا يحتاج أن يسمى .
عق الرسول عن الحسن بشاة :
وعقّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الحسن بشاة ، وقال : « يا فاطمة احلقي رأسه ، وتصدقي بزنة شعره فضة » . أقول : السبب في التصدق بالفضة أن الولد لما انتقل من الجنينية إلى الطفلية كان ذلك نعمة يجب شكرها ، وأحسن ما يقع به الشكر ما يؤذن أنه عوضه ، فلما كان شعر الجنين بقية النشأة الجنينية وإزالته أمارة للاستقلال بالنشأة الطفلية وجب أن يؤمر بوزن الشعر فضة ، وأما تخصيص الفضة فلأن الذهب أغلى ، ولا يجده إلا غني ، وسائر المتاع ليس له بال بزنة شعر المولود.
الأذان في أذن المولود :
وأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة .(2/198)
أقول : السر في ذلك ما ذكرنا في العقيقة من المصلحة الملية ، فإن الأذان من شعائر الإسلام، وإعلام الدين المحمدي ، ثم لابد من تخصيص المولود بذلك الأذان ، ولا يكون إلا بأن يصوت به في أذنه ، وأيضا فقد علمت أن من خاصية الأذان أن يفر منه الشيطان ، والشيطان يؤذي الولد في أول نشأته حتى ورد في الحديث : « إن استهلاله لذلك » .
يستحب ذبح شاتين للغلام وشاة للجارية :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة » .
$[2/386]
أقول : يستحب لمن وجد الشاتين أن ينسك بهما عن الغلام وذلك لما عندهم أن الذكران أنفع لهم من الإِناث ، فناسب زيادة الشكر وزيادة التنويه به .
أحب الأسماء إلى اللّه تعالى :
قال صلى اللّه عليه وسلم: « أحب الأسماء إلى اللّه عبد اللّه وعبد الرحمن » ، اعلم أن أعظم المقاصد الشرعية أن يدخل ذكر اللّه في تضاعيف ارتفاقاتهم الضرورية ليكون كل ذلك ألسنة تدعو إلى الحق ، وفي تسمية المولود بذلك إشعار بالتوحيد .
وأيضاً فكان العرب وغيرهم يسمون الأولاد بمن يعبدونه . ولما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم مقيماً لمراسم التوحيد وجب أن يسن في التسمية أيضاً مثل ذلك . وإنما كان هذان الاسمان أحب من سائر ما يضاف فيه العبد إلى اسم من أسماء اللّه تعالى لأنهما أشهر الأسماء ، ولا يطلقان على غيره تعالى بخلاف غيرهما ، وأنت تستطيع أن تعلم من هذا سر استحباب تسمية المولود بمحمد وأحمد ، فإن طوائف الناس أولعوا بتسمية أولادهم بأسماء أسلافهم المعظمين عندهم ، وكاد يكون ذلك تنويهاً بالدين وبمنزلة الإقرار بأنه من أهله .
أفحش الأسماء عند اللّه تعالى :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « أخنى الأسماء يوم القيامة عند اللّه رجل يسمى ملك الأملاك » .
$[2/387](2/199)
أقول : السبب فيه أن أصل أصول الدين هو تعظيم اللّه وألا يسوى به غيره وتعظيم الشيء مساوق لتعظيم اسمه ، ولذلك وجب ألا يسمى باسمه لا سيما هذا الاسم الدال على أعظم التعظيم .
تعاون الوالدين ضروري لحياة الولد :
قال اللّه تعالى . { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَ حَوْلين كَامِلين } الآية .
أقول : لما توجهت إرادة اللّه تعالى إلى إبقاء نوع الإِنسان بالتناسل ، وجرى بذلك قضاؤه ، وكان الولد لا يعيش في العادة إلا بتعاون من الوالد والوالدة في أسباب حياته ، وذلك أمر جبلّي خلق الناس عليه بحيث يكون عصيانه ومخالفته تغييراً لخلق اللّه وسعياً في نقض ما أوجبته الحكمة الإِلهية - وجب أن يبحث الشرع عن ذلك ، ويوزع عليهما ما يتيسر ، ويتأتى منهما .
الأم تحضن وترضع والأب ينفق :
والمتيسر من الوالدة أن ترضع ، وتحضن ، فيجب عليها ذلك ، والمتيسر من الوالد أن ينفق عليه من طوله ، وينفق عليها ، لأنه حبسها عن المكاسب ، وشغلها بحضانة ولده ، ومعاناة التعب فيها . فكان العدل أن تكون كفايتها عليه .
الرضاعة حولان كاملان :
ولما كان من الناس من يستعجل الفطام ، وربما يكون ذلك ضارًّا بالولد حد اللّه حداً تغلب السلامة عنده وهو حولان كاملان ، ورخص فيما دون ذلك بشرط تشاور منهما ، إذ كثيراً ما يكون الولد بحيث يقدر على التغذي قبلها ، ولكمْه يحتاج إلى اجتهاد وتحرٍّ وهما أرفق الناس به وأعلمهم
$[2/388]
بسريرته ، ثم حرم المضارة من الجانبين لأنه تضييق يفضي إلى نقصان التعاون فإن احتاجوا إلى الاسترضاع لضعف الوالدة أو مرضها ، أو تكون قد وقعت بينهما فرقة لا تلائمه ونحو ذلك من الأسباب فلا جناح فيه ، ويجب عند ذلك إيفاء الحق من الجانبين .
هدية الرضاع :
قيل يا رسول اللّه ما يذهب عني مذمة الرضاع ؟ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « غرة عبد أو أمة » .(2/200)
اعلم أن المرضع أم بعد الأم الحقيقية ، وبرها واجب بعد بر الأم حتى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بسط رداءه لمرضعه إكراماً لها ، وربما لا ترضى بما يهديه إليها وإن كثر ، وربما يستكثر الذي رضع القليل الذي يمنحها ، ويكون في ذلك الاشتباه ، فسئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن حدّ يضربه ، فضرب الغرة حداً ، وذلك أن المرضع إنما أثبتت حقاً في ذمته لأجل إقامة بنيته وتصييرها إياه إنساناً كاملاً ولأجل حضانته ومقاساة التعب فيه ، فيكون الجزاء الوفاق أن يمنحها إنساناً يكون بمنزلة جوارحه فيما يريد من ارتفاقاته ، ويتحمل عنها مؤنة عملها ، وهو حد استحبابي لا ضروري .
أخذ النفقة من الزوج الشحيح :
وقالت هند : « إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني إلا أن آخذ من ماله بغير إذنه ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » ، أقول : لما
$[2/389]
كانت نفقة الولد والزوجة يعسر ضبطها فوضها النبي صلى اللّه عليه وسلم إليها ، وأكد اشتراط أخذها بالمعروف ، وأهمل الرجوع إلى القضاة مثلاً لأنه عسير عند ذلك .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « مروا أولادكم بالصلاة » ، الحديث . وقد مرّ أسراره فيما سبق .
الأم أحق بالحضانة :
واختلفت قضاياه صلى اللّه عليه وسلم في الأحق بالحضانة عند المشاجرة منهما ، لأنه إنما ينظر إلى الأرفق بالولد والديه ، ولا ينظر إلى من يريد المضارة ، ولا يلتفت إلى المصلحة ، فإن الحسد والضرار غير متبع ، فجاءته مرة امرأة ، وقالت : يا رسول اللّه إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء ، وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني ، وأراد أن ينزعه مني ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « أنت أحق به ما لم تنكحي » .
أقول : وذلك لأن الأم أهدى للحضانة وأرفق به ، فإذا نكحت كانت كالمملوكة تحته ، وإنما هو أجنبي لا يحسن إليه ، وخيّر غلاماً بين أبيه وأمه وذلك إذا كان مميزاً .
البر فيما بين المسلمين خمس :(2/201)
اعلم أن الإِنسان مدني بالطبع ولا يستقيم معاشه إلا بتعاون بينهم ، ولا تعاون إلا بالألفة والرحمة فيما بينهم ، ولا ألفة إلا بالمواساة ومراعاة الخواطر من الجانبين ، وليس التعاون على مرتبة واحدة ، بل له مراتب
$[2/390]
يختلف باختلافها البر والصلة ، فأدناها الارتباط الواقع بين المسلمين ، وحد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البر فيما بينهم بخمس ، فقال : « حقّ المسلم على المسلم خمس ؛ ردّ السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس » ، وفي رواية ستة السادسة : « إذا استنصحك فانصح له » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « أطعموا الجائع ، وفكوا العاني » ، يعني الأسير .
والسر في ذلك أن هذه الخمس أو الست خفيفة المؤنة مورثة للألفة ، ثم الارتباط الواقع بين أهل الحي والجيران والأرحام ، فتتأكد هذه الأشياء فيما بينهم ، وتتأكد التعزية والتهنئة والزيارة والمهاداة .
حقوق المماليك :
وأوجب النبي صلى اللّه عليه وسلم أموراً يتقيدون بها شاءوا ، أم أبوا ، كقوله صلى اللّه عليه وسلم : « من ملك ذا رحم محرم فهو حر » ، وكباب الديات .
ثم الارتباط الواقع بين أهل المنزل من الزوجة وما ملكت يمينه . أما الزوجة فقد ذكرنا البر معها ، وأما ما ملكت اليمين فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم بره على مرتبتين : إحداهما واجبة يلزمهم أشاءوا أم أبوا ، والثانية ندب إليها ، وحث عليها من غير إيجاب .
أما الأولى فقال صلى اللّه عليه وسلم : « للمملوك طعامه وكسوته ، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق » ، وذلك أنه مشغول بخدمته عن الاكتساب ، فوجب أن تكون كفايته عليه ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من قذف مملوكه ، وهو بريء مما قال جلد يوم القيامة » ، وقال عليه الصلاة والسلام : « من جدع عبده فالعبد حر عليه » .
$[2/391]
أقول : وذلك إن إفساد ملكه عليه مزجرة عن أن يفعل ما فعل .
لا يجلد فوق عشر إلا في حد :(2/202)
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود اللّه » ، أقول : وذلك سد لباب الظلم والإِمعان في التعزير . زيادة على الحد ، أو المراد النهي عن أن يعاقب في حق نفسه أكثر من عشر جلدات كترك ما أمر به ونحو ذلك ، والمراد بالحد الذنب المنهي عنه لحق الشرع ، وهو قول القائل أصبت حدًّا ، وأرى أن هذا الوجه أقرب ، فإن الخلفاء لم يزالوا يعزرون أكثر من عشر في حقوق الشرع .
إطعام الخادم مما صنع :
وأما الثانية فقوله صلى اللّه عليه وسلم : « إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ، ثم جاء به ، وقد ولى حره ودخانه ، فليقعده معه فليأكل ، فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين » ، وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « من ضرب غلاماً له حدًّا لم يأته أو لطمه ، فإن كفارته أن يعتقه » ، وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « إذا ضرب أحدكم خادمه ، فذكر اسم اللّه فليمسك » .
عتق الرقيق المسلم :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من أعتق رقبة مسلمة أعتق اللّه بكل عضو منها عضواً منه من النار » .
أقول : العتق فيه جمع شمل المسلمين ، وفك عانيهم ، فجوزي جزاءً وفاقاً .
$[2/392]
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من أعتق شقصاً في عبد أعتق كله إن كان له مال » ، أقول : سببه ما وقع التصريح به في نفس الحديث حيث قال عليه السلام : « ليس للّه شريك » ، يريد أن العتق جعله للّه ، وليس من الأدب أن يبقى معه ملك لأحد .
من ملك ذا رحم محرم فهو حر :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من ملك ذا رحم محرم فهو حر » ، أقول : السبب فيه صلة الرحم ، فأوجب اللّه تعالى نوعاً منها عليهم ، أشاءوا أم أبوا ، وإنما خص هذا لأن ملكه والتصرف فيه واستخدامه بمنزله العبيد جفاء عظيم .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا ولدت أمة الرجل منه فهي معتقة عن دبر منه » .
أقول : السر فيه الإِحسان إلى الولد لئلا يملك أمه غير أبيه ، فيكون عليه عار من هذه الجهة .(2/203)
الإِباق محرم :
وأوجب على العبد خدمة المولى وحرم عليه الإِباق ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « أيما عبد أبق فقد برئ من الذمة حتى يرجع » ، وحرم على المعتق أن يوالي غير مواليه .
$[2/393]
عقوق الوالدين من الكبائر :
وأعظم ذلك كله حرمة حق الوالدين ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « من أكبر الكبائر عقوق الوالدين » ، وبرهما يتم بأمور : الإِطعام والكسوة والخدمة إن احتاجا . وإذا دعاه الوالد أجاب . وإذا أمره أطاع ما لم يأمر بمعصية ، ويكثر زيارته ، ويتكلم معه بالكلام اللين ، ولا يقول أف ، ولا يدعوه باسمه ، ويمشي خلفه ، ويذب عنه من اغتابه أو آذاه ، ويوقره في مجلسه ، ويدعو له بالمغفرة ، واللّه أعلم .
$[2/394]
من أبواب سياسة المدن
لا تتم مصالح الأمة إلا بوجود خليفة :
اعلم أنه يجب أن يكون في جماعة المسلمين خليفة لمصالح لا تتم إلا بوجوده ، وهي كثيرة جداً يجمعها صنفان :
أحدهما : ما يرجع إلى سياسة المدينة من ذب الجنود التي تغزوهم وتقهرهم ، وكف الظالم عن المظلوم ، وفصل القضايا ، وغير ذلك ، وقد شرحنا هذه الحاجات من قبل .
وثانيهما : ما يرجع إلى الملة ، وذلك أن تنويه دين الإِسلام على سائر الأديان لا يتصور إلا بأن يكون في المسلمين خليفة ينكر على من خرج من الملة ، وارتكب ما نصت على تحريمه أو ترك ما نصت على افتراضه أشد الإِنكار ، ويذل أهل سائر الأديان ، ويأخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون ، وإلا كانوا متساوين في المرتبة لا يظهر فيهم رجحان إحدى الفرقتين على الأخرى ، ولم يكن كابح يكبحهم عن عدوانهم .
حاجات الخلافة أربع :
والنبي صلى اللّه عليه وسلم جمع تلك الحاجات في أبواب أربعة : باب المظالم . وباب الحدود . وباب القضاء . وباب الجهاد ، ثم وقعت الحاجة إلى ضبط
$[2/395]
كليات هذه الأبواب وترك الجزئيات إلى رأي الأئمة ووصيتهم بالجماعة خيراً ، وذلك لوجوه :
أولاً : رفع المظالم :(2/204)
منها أن متولي الخلافة كثيراً ما يكون جائراً ظالماً يتبع هواه ، ولا يتبع الحق ، فيفسدهم ، وتكون مفسدته عليهم أشد مما يرجى من مصلحتهم ، ويحتج فيما يفعل أنه تابع للحق ، وأنه رأى المصلحة في ذلك ، فلا بد من كليات ينكر على من خالفها ، ويؤاخذ بها ، ويرجع احتجاجهم عليه إليها .
ثانياً : إقامة الحدود :
ومنها أن الخليفة يجب أن يصحح على الناس ظلم الظالم ، وأن العقوبة ليست زائدة على قدر الحاجة ، ويصحح في فصل القضايا أنه قضى بالحق ، وإلا كان سبباً لاختلافهم عليه ، وأن يجد الذي كان الضرِر عليه وأولياؤه في أنفسهم وحراً راجعاً إلى غدر ، ويضمروا عليه حقداً يرون فيه أن الحق بأيديهم ، وذلك مفسدة شديدة .
ثالثاً : ضبط القضاء :
ومنها أن كثيراً من الناس لا يدركون ما هو الحق في سياسة المدينة ، فيجتهدون ، فيخطئون يميناً وشمالاً ، فمن صلب شديد يرى البالغ في المزجرة قليلاً ، ومن سهل لين يرى القليل كثيراً ، ومن أذن إمّعة يرى كلِ ما أنهى إليه المدعي حقاً ، ومن متمنع كؤود يظن بالناس ظنوناً
$[2/396]
فاسدة ، ولا يمكن الاستقصاء ، فإنه كالتكليف بالمحال ، فيجب أن تكون الأصول مضبوطة ، فإن اختلافهم في الفروع أخف من اختلافهم في الأصول .
رابعاً : تفويض الأمور إلى المستقيمين :
ومنها أن القوانين إذا كانت ناشئة من الشرع كانت بمنزلة الصلاة والصيام في كونها قربة إلى الحق ، والسنّة تذكر الحق عند القوم ، وبالجملة فلا يمكن أن يفوض الأمر بالكلية إلى أولي أنفس شهوية أو سبعية ، ولا يمكن معرفة العصمة والحفظ عن الجور في الخلفاء والمصالح التي ذكرناها في التشريع وضبط المقادير كلها متأتية هاهنا ، واللّه أعلم .
الخلافة
الشروط المطلوبة في الخليفة :(2/205)
اعلم أنه يشترط في الخليفة أن يكون عاقلاً بالغاً حرًّا ذكراً شجاعاً ذا رأي وسمع وبصر ونطق ، وممن سلم الناس شرفه وشرف قومه ، ولا يستنكفون عن طاعته ، قد عرف منه أنه يتبع الحق في سياسة المدينة ، هذا كله يدل عليه العقل ، واجتمعت أمم بني آدم على تباعد بلدانهم واختلاف أديانهم على اشتراطها ، لما رأوا أن هذه الأمور لا تتم المصلحة المقصودة من نصب الخليفة إلا بها ، وإذا وقع شيء من إهمال هذه رأوه خلاف ما ينبغي ، وكرهه قلوبهم ، وسكتوا على غيظ ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم في فارس لما ولوا عليه امرأة : « لن يفلح قوم ولوا عليهم امرأة » .
والملة المصطفوية اعتبرت في خلافة النبوة أموراً أخرى :
$[2/397]
من شروط الخلافة : الإِسلام والعلم والعدالة :
منها الإِسلام ، والعلم ، والعدالة ، وذلك لأن المصالح الملية لا تتم بدونها ضرورة أجمع المسلمون عليها ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } إلى قوله تعالى : { فَأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } .
الخلفاء من قريش :(2/206)
ومنها كونه من قريش ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « الأئمة من قريش » ، والسبب المقتضي لهذا أن الحق الذي أظهره اللّه على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم . إنما جاء بلسان قريش وفي عاداتهم ، وكانَ أكثر ما تعين من المقادير والحدود ما هو عندهم ، وكان المعد لكثير من الأحكام ما هو فيهم ، فهم أقوم به وأكثر الناس تمسكاً بذلك ، وأيضاً فإن قريشاً قوم النبي صلى اللّه عليه وسلم وحزبه ، ولا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وقد اجتمع فيهمِ حمية دينية وحمية نسبية ، فكانوا مظنة القيام بالشرائع والتمسك بها ، وأيضاً فإنه يجب أن يكون الخليفة ممن لا يستنكف الناس من طاعته لجلالة نسبه وحسبه ، فإن من لا نسب له يراه الناس حقيراً ذليلاً ، وأن يكون ممن عرف منهم الرياسات والشرف ، ومارس قومه جمع الرجال ونصب القتال ، وأن يكون قومه أقوياء يحمونه ، وينصرونه ، ويبذلون دونه الأنفس ، ولم تجتمع هذه الأمور إلا في قريش لاسيما بعد ما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم ونبه به أمر قريش .
$[2/398]
وقد أشار أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه إلى هذه فقال : ولن يعرف هذا الأمر إلا بقريش هم أوسط العرب داراً الخ .
وإنما لم يشترط كونه هاشمياً مثلاً لوجهين : أحدهما ألا يقع الناس في الشك ، فيقولوا إنما أراد ملك أهل بيته كسائر الملوك فيكون سبباً للارتداد ولهذه العلة لم يعطِ النبي صلى اللّه عليه وسلم المفتاح لعباس بن عبد المطلب رضي اللّه عنه .
رضا الناس بالخليفة واجتماعهم عليه :(2/207)
والثاني : أن المهم في الخلافة رضا الناس به واجتماعهم عليه وتوقيرهم إياه وأن يقيم الحدود ، ويناضل دون الملة ، وينفذ الأحكام ، واجتماع هذه الأمور لا يكون إلا في واحد بعد واحد ، وفي اشتراط أن يكون من قبيلة خاصة تضييق وحرج ، فربما لم يكن في هذه القبيلة من تجتمع فيه الشروط ، وكان في غيرها ، ولهذه العلة ذهب الفقهاء إلى المنع عن اشتراط كون المسلم فيه من قرية صغيرة وجوزوا كونه من قرية كبيرة .
انعقاد الخلافة بوجوه :
وتنعقد الخلافة بوجوه : بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وأمراء الأجناد ممن يكون له رأي ونصيحة للمسلمين ، كما انعقدت خلافة أبي بكر رضي اللّه عنه .
وبأن يوصي الخليفة الناس به ، كما انعقدت خلافة عمر رضي اللّه عنه .
$[2/399]
أو يجعل شورى بين قوم ، كما كان عند انعقاد خلافة عثمان ، بل علي أيضاً رضي اللّه عنهما .
أو استيلاء رجل جامع للشروط على الناس وتسلطه عليهم ، كسائر الخلفاء بعد خلافة النبوّة ، ثم إن استوى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة . لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات ، وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة ، وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنهم فقيل : أفلا ننابذهم ؟ قال : « لا ما أقاموا فيكم الصلاة » ، وقال : « إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من اللّه فيه برهان » .
إذا كفر الخليفة حل قتاله :
وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب وإلا لا ، وذلك لأنه حينئذٍ فاتت مصلحة نصبه ، بل يخاف مفسدته على القوم ، فصار قتاله من الجهاد في سبيل اللّه .
طاعة الإِمام ونائبه واجبة :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب ، وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » .(2/208)
أقول لما كان الإِمام منصوباً لنوعين من المصالح اللذين بهما انتظام الملة والمدن . وإنما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم لأجلهما والإِمام نائبه ومنفذ أمره ، كانت طاعته طاعة رسول اللّه ، ومعصيته معصية رسول اللّه إلا أن يأمر بالمعصية ، فحينئذٍ ظهر أن طاعته ليست بطاعة اللّه ، وأنه ليس نائب
$[2/400]
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولذلك قال عليه السلام : « ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني » .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إنما الإِمام جُنة يقاتل من ورائه ، ويتقى به ، فإن أمر بتقوى اللّه ، وهدى فإن له بذلك أجراً ، وإن قال بغيره فإن عليه منه » . أقول إنما جعله بمنزلة الجُنة لأنه سبب اجتماع كلمة المسلمين والذب عنهم .
كراهية الأمير ليست داعيه لرفضه :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية » .
أقول وذلك لأن الإِسلام إنما امتاز من الجاهلية بهذين النوعين من المصالح ، والخليفة نائب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهما ، فإذا فارق منفذهما ومقيمهما أشبه الجاهلية .
واجب الإِمام نحو رعيته :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « ما من عبد يسترعيه اللّه رعية ، فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة » .
أقول لما كان نصب الخليفة لمصالح وجب أن يؤمر الخليفة بإيفاء
$[2/401]
هذه المصالح ، كما أمر الناس أن ينقادوا له ، لتتم المصالح من الجانبين .
أجر الإِمام وعماله على بيت المال :(2/209)
ثم إن الإِمام لما كان لا يستطيع بنفسه أن يباشر جباية الصدقات وأخذ العشور وفصل القضاء في كل ناحية وجب بعث العمال والقضاة ، ولما كان أولئك مشغولين بأمر من مصالح العامة وجب أن تكون كفايتهم في بيت المال ، واليه الإِشارة في قول أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه لما استخلف : لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي وشغلت بأمر المسلمين ، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ، ويحترف للمسلمين فيه .
يؤمر العامل بالتيسير :
ثم وجب أن يؤمر العامل بالتيسير ، وينهى عن الغلول والرشوة ، وأن يؤمر القوم بالانقياد له لتتم المصلحة المقصودة ، وهذا قوله صلى اللّه عليه وسلم : إن رجالاً يتخوضون في مال اللّه بغير حق فلهم النار يوم القيامة . وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول » . ولعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الراشي والمرتشي ، والسر في ذلك أنه ينافي المصلحة المقصودة ويفتح باب المفاسد .
طالب الولاية لا يولى :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تستعمل من طلب العمل » .
$[2/402]
أقول وذلك لأنه قلما يخلو طلبه من داعية نفسانية ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا جاءكم العامل فليصدر وهو عنكم راض » .
ما يستحقه العمال من أجر :
ثم وجب أن يقدر القدر الذي يعطى العمال في عملهم لئلا يجاوزه الإِمام ، فيفرط ، أو يفرط ، ولا يعدوه العامل بنفسه ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة ، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً ، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً » .
فإذا بعث الإِمام العامل في صدقات سنة فليجعل له فيها ما يكفي مؤنته ، ويفضل فضل يقدر به على حاجة من هذه الحوائج ، فإن الزائد لا حد له ، والمؤنة بدون زيادة لا يتعانى لها العامل ، ولا يرغب فيها .
المظالم
دفع المظالم ضروري :(2/210)
اعلم أن من أعظم المقاصد التي قصدت ببعثة الأنبياء عليهم السلام دفع المظالم من بين الناس ، فإن تظالمهم يفسد حالهم ، ويضيق عليهم ، ولا حاجة إلى شرح ذلك .
أقسام المظالم :
والمظالم على ثلاثة أقسام : تعد على النفس ، وتعد على أعضاء الناس ، وتعد على أموال الناس ، فاقتضت حكمة اللّه أن يزجر عن كل نوع من هذه الأنواع بزواجر قوية تردع الناس عن أن يفعلوا ذلك مرة أخرى ، ولا ينبغي أن تجعل هذه الزواجر على مرتبة واحدة فإن القتل ليس كقطع
$[2/403]
الطرف ، ولا قطع الطرف كاستهلاك المال .
أعظم المظالم القتل :
وإن الدواعي التي تنبعث منها هذه المظالم لها مراتب ؛ فمن البديهي أن تعمد القتل ليس كالتساهل المنجر إلى الخطأ . فأعظم المظالم القتل ، وهو أكبر الكبائر ، أجمع عليه أهل الملل قاطبتهم ، وذلك لأنه طاعة النفس في داعية لغضب ، وهو أعظم وجوه الفْساد فيما بين الناس ، وهو تغيير خلق اللّه وهدم بنيان اللّه ومناقضة ما أراد الحق في عباده من انتشار نوع الإِنسان .
القتل على ثلاثة أقسام :
والقتل على ثلاثة أقسام : عمد ، وخطأ ، وشبه عمد ، فالعمد هو القتل الذي يقصد فيه إزهاق روحه بما يقتل غالباً جارحاً أو مثقلاً . والخطأ ما لا يقصد فيه إصابته ، فيصيبه فيقتله كما إذا وقع على إنسان فمات أو رمى شجرة ، فأصابه ، فمات .
وشبه العمد أن يقصد الشخص بما لا يقتل غالباً ، فيقتله كما إذا ضرب بسوط أو عصا فمات .
وإنما جعل على ثلاثة أقسام لما أشرنا من قبل أن الزاجر ينبغي أن يكون بحيث يقاوم الداعية والمفسدة ، ولهما مراتب ، فلما كان العمد أكثر فساداً وأشد داعية وجب أن يغلظ فيه بما يحصل زيادة الزجر ، ولما كان الخطأ أقل فساداً وأخف داعية وجب أن يخفف في جزائه ، واستنبط النبي صلى اللّه عليه وسلم بين العمد والخطأ نوعاً آخر لمناسبة منهما وكونه برزخاً بينهما ، فلا ينبغي أن يدخل في أحدهما .
$[2/404]
القتل العمد :(2/211)
فالعمد فيه قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمِّداً فَجَزَاؤهُ جَهَنَمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .
ظاهره أنه لا يغفر له ، واليه ذهب ابن عباس رضي اللّه عنهما ، لكن الجمهور وظاهر السنّة على أنه بمنزلة سائر الذنوب ، وأن هذه التشديدات للزجر وأنها تشبيه لطول مكثه بالخلود واختلفوا في الكفارة فإن اللّه تعالى لم ينص عليها في مسألة العمد قال اللّه تعالى : { يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى } .
نزلت في حيين من أحياء العرب : أحدهما أشرف من الآخر ، فقتل الأوضع من الأشرف قتلى فقال الأشرف لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، ولنضاعفن الجراح .
ومعنى الآية ، واللّه أعلم ، أن خصوص الصفات لا يعتبر في القتلى كالعقل ، والجمال ، والصغر ، والكبر وكونه شريفاً أو ذا مال ونحو ذلك ، وإنما تعتبر الأسامي والمظان الكلية ، فكل امرأة مكافئة لكل امرأة ، ولذلك كانت ديّات النساء واحدة وإن تفاوتت الأوصاف ، وكذلك الحر يكافئ الحر ، والعبد يكافئ العبد .
التكافؤ في القصاص :
فمعنى القصاص التكافؤ وأن يجعل اثنان في درجة واحدة من الحكم لا يفضل أحدهما على الآخر لا القتل مكانه البتة ، ثم أثبتت السنّة أن
$[2/405]
المسلم لا يقتل بالكافر . وأن الحر لا يقتل بالعبد . والذكر يقتل بالأنثى لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل اليهودي بجارية .
وفي كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أقيال همدان : « ويقتل الذكر بالأنثى » .(2/212)
وسره أن القياس فيه مختلف ، .ففضل الذكور على الإِناث ، وكونهم قوامين عليهن يقتضي ألا يقاد بها وأن الجنس واحد ، وإنما الفرق بمنزلة فرق الصغير والكبير وعظيم الجثة وحقيرها ، ورعاية مثل ذلك عسيرة جداً ، ورب امرأة هي أتم من الرجال في محاسن الخصال تقتضي أن يقاد ، فوجب أن يعمل على القياسين .
وصورة العمل بهما أنه اعتبر المقاصة في القود وعدم المقاصة في الدية ، وإنما فعل ذلك لأن صاحب العمد قصدها وقصد التعدي عليها ، والمتعمد المتعدي ينبغي أن يذب عنها أتم ذب ، فإنها ليست بذات شوكة ، وقتلها ليس فيه حرج بخلاف قتل الرجال فإن الرجلِ يقاتل الرجل ، فكانت هذه الصورة أحق بإيجاب القود ، ليكون ردعاً وزجراً عن مثله .
لا يقتل مسلم بكافر :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يقتل مسلم بكافر » . أقول : والسر في ذلك أن المقصود الأعظم في الشرع تنويه الملة الحنيفية ، ولا يحصل إلا بأن يفضل المسلم على الكافر ، ولا يسوّى بينهما .
$[2/406]
لا يقتل الوالد بولده :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يقاد الوالد بالولد » ، أقول : السبب في ذلك أن الوالد شفقته وافرة ، وحدبه عظيم ، فإقدامه على القتل مظنة أنه لم يتعمده . وإن ظهرت مخايل العمد أو كان لمعنى أباح قتله ، وليست دلالة هذه أقل من دلالة استعمال ما لا يقتل غالباً على أنه لم يقصد إزهاق الروح .
القتل شبه العمد :
وأما القتل شبه العمد ، فقال فيه صلى اللّه عليه وسلم : « من قتل في عِمِّيّة في رمي يكون فيهم بالحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ » .
أقول : معناه أنه يشبه الخطأ وأنه ليس من العمد وإن عقله مثل عقله في الأصل ، وإنما تمايزا في الصفة ، أو أنه لا فرق بينه وبينه في الذهب والفضة .
الدّية المغلظة :(2/213)
واختلفت الرواية في الدّيَة المغلظة . فقول ابن مسعود رضي اللّه عنه : إنها تكون أرباعاً خمساً وعشرين جذعة . وخمساً وعشرين حقة ، وخمساً وعشرين بنت لبون ، وخمساً وعشرين بنت مخاض .
وعنه صلى اللّه عليه وسلم : « ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط ، أو العصا ، مائة من الإِبل منها أربعون خلفة ، في بطولها أولادها » ، وفي رواية « ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، وما صولحوا عليه فهو لهم » .
$[2/407]
القتل الخطأ :
وأما القتل خطأ ففيه الدّية المخففة المخمسة عشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وفي هذين القسمين إنما تجب الدّية على العاقلة في ثلاث سنين .
مراتب التخفيف والتغليظ :
ولما كانت هذه الأنواع مختلفة المراتب روعي في ذلك التخفيف والتغليظ من وجوه :
منها أن سفك دم القاتل لم يحكم به إلا في العمد . ولم يجعل في الباقيين إلا الدّية ، وكان في شريعة اليهود القصاص لا غير : فخفف اللّه على هذه الأمة ، فجعل جزاء القتل العمد عليها أحد الأمرين القتل . والمال ، فلربما كان المال أنفع للأولياء من الثأر ، وفيه إبقاء نسمة مسلمة .
ومنها أن كانت الدّية في العمد واجبة على نفس القاتل وفي غيره تؤخذ من عاقلته ؛ لتكون مزجرة شديدة وابتلاءً عظيماً للقاتل ينهك ماله أشد إنهاك ، وإنما تؤخذ في غير العمد من العاقلة لأن هدر الدم مفسدة عظيمة ، وجبر قلوب المصابين مقصود ، والتساهل من القاتل في مثل هذا الأمر العظيم ذنب يستحق التضييق عليه ، ثم لما كانت الصلة واجبة على ذوي
$[2/408]
الأرحام اقتضت الحكمة الإِلهية أن يوجب شيء من ذلك عليهم أشاءوا أم أبوا .
الحكمة في جعل الدّية على أهل القاتل غير العمد :
وإنما تعين هذا لمعنيين :(2/214)
أحدهما : أن الخطأ وإن كان مأخوذاً به لمعنى التساهل فلا ينبغي أن يبلغ به أقصى المبالغ ، فكان أحق ما يوجب عليهم عن ذي رحمهم ما يكون الواجب فيه التخفيف عليه .
والثاني : أن العرب كانوا يقومون بنصرة صاحبهمِ بالنفسِ والمال عندما يضيق عليه الحال ، ويرون ذلك صلة واجبة وحقاً مؤكداً ، ويرون تركه عقوقاً وقطع رحم ، فاستوجبت عاداتهم تلك أن يعين لهم ذلك .
دية العمد معجلة وغيره مؤجلة :
ومنها أن جعل دية العمد معجلة في سنة واحدة ، ودية غيره مؤجلة في ثلاث سنين لما ذكرنا من معنى التخفيف .
الحكمة في شدة الدّية :
والأصل في الدّية أنها يجب أن تكون مالاً عظيماً يغلبهم ، وينقص من مالهم ، ويجدون له بالاً عندهم ويكون بحيث يؤدونه بعد مقاساة الضيق ؛ ليحصل الزجر ، وهذا القدر يختلف باختلاف الأشخاص .
وكان أهل الجاهلية قدروها بعشرة من الإِبل ، فلما رأى عبد المطلب انهم لا ينزجرون بها بلغها إلى مائة ، وأبقاها النبي صلى اللّه عليه وسلم على ذلك لأن الهرب يومئذٍ كانوا أهل إبل ، غير أن النبي صلى اللّه عليه وسلم عرف أن شرعه لازم للعرب والعجم وسائر الناس وليسوا كلهم أهل إبل ، فقدر من الذهب ألف دينار ، ومن الفضة اثني عشر ألف درهم ، ومن البقر مائتي بقرة ، ومن الشاء ألفي شاة .
$[2/409]
إذا توزعت الدّية خف وقعها :
والسبب في هذا أن مائة رجل إذا وزع عليهم ألف دينار في ثلاث سنين أصاب كل واحد منهم في سنة ثلاثة دنانير وشيء ، ومن الدراهم ثلاثون درهماً وشيء ، وهذا شيء لا يجدون لأقل منه بالاً ، والقبائل تتفاوت فيه بينها ، يكون منها الكبيرة ، ومنها الصغيرة ، وضبط الصغيرة بخمسين ، فإنهم أدنى ما تتقرى بهمِ القرية ، ولذلك جعل القسامة خمسين يميناً متوزعة على خمسين رجلاً ، والكبيرة ضعف الخمسين فجعلت الدّية مائة ليصيب كل واحد بعير أو بعيران أو بعير وشيء في أكثر القبائل عند استواء حالهم .(2/215)
والأحاديث التي تدل على أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا رخصت الإِبل خفض من الدّية ، وإذا غلت رفع منها ، فمعناها عندي أنه كان يقضي بذلك على أهل الإِبل خاصة ، وأنت إن فتشت عامة البلاد وجدتهم ينقسمون إلى أهل تجارات وأموال وهم أهل الحضر ، وأهل رعي ، وهم أهل البدو لا يجاوزهم حال الأكثرين .
الكفارة في القتل الخطأ :
قال اللّه تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } الآية .
أقول : إنما وجب في الكفارة تحرير رقبة مؤمنة أو إطعام ستين مسكيناً ليكون طاعة مكفرة له فيما بينه وبين اللّه فإن لديه مزجرة تورث فيه الندم بحسب تضييق الناس عليه ، والكفارة فيما بينه وبين اللّه تعالى .
$[2/410]
يُقتل المسلم في ثلاث حالات :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث ، النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والمفارق لدينه التارك للجماعة » .
أقول : الأصل المجمع عليه في جميع الأديان أنه إنما يجوز القتل لمصلحة كلية لا تتأتى بدونه ، ويكون تركها أشد إفساداً منه ، وهو قوله تعالى : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } .
وعندما تصدى النبي صلى اللّه عليه وسلم للتشريع وضرب الحدود وجب أن يضبط المصلحة الكلية المسوغة للقتل ولوٍ لم يضبط ، وترك سدى لقتل منهم قاتل من ليس قتله من المصلحة الكلية ظنّا أنه منها فضبط بثلاث :
القصاص فإنه مزجرة ، وفيه مصالح كثيرة قد أشار اللّه تعالى إليها بقوله : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولي الألْبَابِ } .(2/216)
والثيب الزاني لأن الزنا من أكبر الكبائر في جميع الأديان ، وهو من أصل ما تقتضيه الجبلة الإِنسانية ، فإن الإِنسان عند سلامة مزاجه يخلق على الغيرة أن يزاحمه أحد على موطوء ته كسائر البهائم ، إلا أن الإِنسان استوجب أن يعلم ما به إصلاح النظام فيما بينهم ، فوجب عليهم ذلك . والمرتد اجترأ على اللّه ودينه ، وناقض المصلحة المرعية في نصب الدين وبعث الرسل .
$[2/411]
وأما ما سوى هؤلاء الثلاث مما ذهبت إليه الأمة مثل الصائل ، ومثل المحارب من غير أن يقتل أحداً عند من يقول بالتخيير بين أجزية المحارب فيمكن إرجاعه إلى أحد هذه الأصول .
القسامة :
واعلم أنه كان أهل الجاهلية يحكمون بالقسامة ، وكان أول من قضى بها أبو طالب كما بيّن ذلك ابن عباس رضي اللّه عنهما وكان فيها مصلحة عظيمة ، فإن القتل ربما يكون في المواضع الخفية والليالي المظلمة حيث لا تكون البينة فلو جعل مثل هذا القتل هدراً لاجترأ الناس عليه ولعمَّ الفساد ، ولو أخذ بدعوى أولياء المقتول بلا حجة لادعى ناس على كل من يعادونه ، فوجب أن يؤخذ بأيمان جماعة عظيم تتقرى بها قرية ، وهم خمسون رجلاً ، فقضى بها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأثبتها .
واختلف الفقهاء في العلة التي تدار عليها ، فقيل : وجود قتيل به أثر جراحة من ضرب أو خنق في موضع هو في حفظ قوم كمحلة ، ومسجد ، ودار ، وهذا مأخوذ من قصة عبد اللّه بن سهل وجد قتيلاً بخيبر يتشخب في دمه .
وقيل : وجود قتيل وقيام لوث على أحد أنه القاتل بإخبار المقتول أو شهادة دون النصاب ونحوه ، وهذا مأخوذ من قصة القسامة التي قضى بها أبو طالب .
دية الكافر نصف دية المسلم :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « ديّة الكافر نصف دية المسلم » ، أقول : السبب في ذلك ما ذكرنا قبل أنه يجب أن ينوه بالملة الإِسلامية ، وأن يفضل المسلم على
$[2/412](2/217)
الكافر ، ولأن قتل الكافر أقل إفساداً بين المسلمين ؛ وأقل معصية ؛ فإنه كافر مباح الأصل يندفع بقتله شعبة من الكفر ، وهو مع ذلك ذنب وخطيئة وإفساد في الأرض ، فناسب أن تخفف ديته .
دية الجنين :
وقضى صلى اللّه عليه وسلم في الإِملاص بغرة عبد أو أمة .
اعلم أن الجنين فيه وجهان : كونه نفسا من النفوس البشرية ، ومقتضاه أن يقع في عوضه النفس ، وكونه طرفاً وعضواً من أمه لا يستقل بدونها ومقتضاه أن يجعل بمنزلة سائر الجروح في الحكم بالمال ، فروعي الوجهان فجعل ديته مالاً هو آدمي وذلك غاية العدل .
التعدي على الأطراف :
وأما التعدي على أطراف الإِنسان فحكمه مبني على أصول : أحدها أن ما كان منها عمداً ففيه القصاص إلا أن يكون القصاص فيه مفضياً إلى الهلاك فذلك مانع من القصاص ، وفيه قوله تعالى : { النَفْسَ بِالنَفْس وَالْعَيْنَ بالْعَيْنِ وَاْلأنْفَ بالأنفِ والأذنَ بالأذنِ وَالمِّنَّ بِالسَنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاص } .
فالعين بمرآة محماة والسن بالمبرد ولا تقلع لأن في القلع خوف زيادة الأذى . وفي الجروح إذا كان كالموضحة القصاص يقبض على
$[2/413]
السكين بقدر عمق الموضحة فإن كان كسر العظم فلا قصاص لأنه يخاف منه الهلاك .
وجاء عن بعض التابعين لطمة بلطمة . وقرصة بقرصة .
الحكم في إزالة القوة النافعة :(2/218)
والثاني : أن ما كان إزالة لقوة نافعة في الإِنسان كالبطش ، والمشيٍ ، والبصر ، والسمع ، والعقل ، والباءة ، ويكون بحيث يصير الإِنسان به كَلاّ على الناس ، ولا يقدر على الاستقلال بأمر معيشته ، ويلحق به عار فيما بين الناس ، ويكون مثلة يتغير بها خلق اللّه ، ويبقى أثرها في بدنه طول الدهر فإنه يجب فيها الدّية كاملة ، وذلك لأنه ظلم عظيم وتغيير لخلقه ومثلة به وإلحاق عار به وكان الناس لا يقومون بنصرة المظلوم بأمثال ذلك كما يقومون في باب القتل ، ويحقر أمره الظالم والحاكم . وعصبة الظالم وعصبة المظلوم فاستوجب ذلك أن يؤكد الأمر فيه ويبلغ مزجرته أقصى المبالغ .
والأصل في قوله صلى اللّه عليه وسلم في كتابه إلى أهل اليمن : « في الأنف إذا أوعب جدعه الدّية ، وفي الأسنان الدّية ، وفي الشفتين الدّية ، وفي البيضتين الدّية ، وفي الذكر الدّية ، وفي الصلب الدّية ، وفي العينين الدّية » ، وقال عليه السلام : « في العقل الدّية » .
الحكم في إتلاف نصف القوة النافعة :
ثم ما كان إتلافاً لنصف هذه المنفعة ففيه نصف الدّية ، في الرجلِ الواحدة نصف الدّية ، وفي اليد الواحدة نصف الدية ، وما كان إتلافاَ
$[2/414]
لعشرها كإصبع من أصابع اليدين والرجلين ففيه عشر الدية ، وفي كل سن نصف عشر الدّية ، وذلك لأن الأسنان تكون ثمانية وعشرين ، وستة وعشرين ، والكسر الذي يكون بازاء نسبة الواحد إلى ذلك العدد خفي محتاج إلى التعمق في الحساب ، فأخذنا العشرين ، وأوجبنا نصف عشر الدّية .
الحكم في الجروح التي تبرأ :
والثالث : أن الجروح التي لا تكون إبطالاً لقوة مستقلة ولا لنصفها ، ولا تكون مثلة ، وإنما هي تبرأ ، وتندمل لا ينبغي أن تجعل بمنزلة النفس ولا بمنزلة اليد والرِّجل ، فيحكم بنصف الدّية ، ولا ينبغي أن يهدر ولا يجعل بإزائه شيء .(2/219)
فأقلها الموضحة إذ ما كان دونها يقال له خدش وخمش لا جرح ، والموضحة ما يوضح العظم ففيه نصف العشر لأن نصف العشر أقل حصة يعرف من غير إمعان في الحساب ، وإنما يبنى الأمر في الشرائع على السهام المعلوم مقدارها عند الحاسب وغيره .
والمنقلة فيها خمسة عشر بعيراً لأنها إيضاح وكسر ونقل فصار بمنزلة ثلاثة إيضاحات .
والجائفة والآمة أعظما الجراحات فمن حقهما أن يجعل في كل
$[2/415]
واحدة منهما ثلث الدّية لأن الثلث يقدر به ما دون النصف .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « هذه وهذه سواء » ، يعني الخنصر والإِبهام ، وقال : « الثنية والضرس سواء » .
أقول : والسبب أن المنافع الخاصة بكل عضو لما صعب ضبطها وجب أن يدار الحكم على الأسامي والنوع .
القتل والجرح المهدور :
واعلم أن من القتل والجرح ما يكون هدراً وذلك وأحد وجهين :
إما أن يكون دفعاً لشر يلحق به ، والأصل فيه قوله صلى اللّه عليه وسلم في جواب من قال : « يا رسول اللّه أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله ، قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد ، قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : هو في النار » .
وعضّ إنسان إنساناً ، فانتزع المعضوض يده من فمه ، فأندر ثنيته ، فأهدرها صلى اللّه عليه وسلم .
فالحاصل أن الصائل على نفس الإِنسان أو طرفه أو ماله يجوز ذبّه بما أمكن ، فإن انجر الأمر إلى القتل لا إثم فيه ، فإن الأنفس السبعية كثيراً ما يتغلبون في الأرض ، فلو لم يدفعوا لضاق الحال ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لو اطلع في بيتك أحد ، ولم تأذن له ، فحذفته بحصاة ، ففقأت عينه ما كان عليك من جناح » .
$[2/416]
الإِصابات التي لا تعدٍّ فيها من أحد :
وأما أن يكون بسبب ليس فيه تعدٍّ وأحد ، وإنما هو بمنزلة الآفات السماوية ، والأصل فيه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « العجماء جبار ، والمعدن جبار ، والبئر جبار » .(2/220)
أقول : وذلك لأن البهائم تسرح للمرعى ، فإذا أصابت أحداً لم يكن ذلك من صنع مالكها ، وكذلك إذا وقع في البئر أو انطبق عليه المعدن ، ثم إن النبي صلى اللّه عليه وسلم سجل عليهم أن يحتاطوا لئلا يصاب أحد منهم بخطأ ، فإن من القرف التلف .
التحرز من إضرار الغير والنفس :
ومنه نهيه صلى اللّه عليه وسلم . عن الحذف قال : « إنه لا يصاد به صيد ، ولا ينكأ به عدو ، ولكنه قد يكسر السن ، ويفقأ العين » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها أن تصيب أحداً من المسلمين منها شيء » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع من يده ، فيقع في حفرة من النار » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من حمل علينا السلاح فليس منا » .
$[2/417]
ونهى عليه السلام أن يتعاطى السيف مسلولاً ، ونهى أن يقد السير بين أصبعين .
التعدي على أموال الناس :
وأما التعدي على أموال الناس فأقسام : غصب ، وإتلاف ، وسرقة ، ونهب .
السرقة :
أما السرقة ، والنهب فستعرفهما ، وأما الغصب فإنما هو تسلط على مال الغير معتمداً على شبهة واهية لا يثبتها الشرع ، أو اعتماداً على ألا يظهر على الحكام جلية الحال ، ونحو ذلك ، فكان حريّا أن يعد من المعاملات ، ولا يبتنى عليه الحدود ، ولذلك كان غصب ألف درهم لا يوجب القطع ، وسرقة ثلاثة دراهم توجبه .
إتلاف مال الغير :
وأما الإِتلاف فيكون عمداً ، وشبه عمد ، وخطأ ، لكن الأموال لما كانت دون الأنفس لم يجعل لكل واحد منها حكماً وكفى الضمان عن جميعها زاجراً .
أخذ مال الغير :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه يوم القيامة من سبع أرضين » .
أقول : قد علمت مراراً أن الفعل الذي ينقض المصلحة المدنية ، ويحصل به الإِيذاء والتعدي يستوجب لعن الملأ الأعلى ، ويتصور المذاب بصورة العمل أو مجاوره .(2/221)
$[2/418]
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « على اليد ما أخذت » .
أقول : هذا هو الأصل في باب الغصب والعارية يجب رد عينه ، فإن تعذر فرد مثله .
ودفع عليه السلام صحفة في موضع صحفة كسرت ، وأمسك المكسورة .
أقول : هذا هو الأصل في باب الإِتلاف ، والظاهر من السنة أنه يجوز أن يغرم في المتقومات بما يحكم به العامة والخاصة أنه مثلها كالصحفة مكان الصحفة ، وقضى عثمان رضي اللّه عنه بمحضر من الصحابة رضي اللّه عنهم على المغرور أن يفدي بمثل أولاده .
من وجد ماله فهو أحق به :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ، ويتبع البيع من باعه » .
أقول : السبب المقتضي لهذا الحكم أنه إذا وقعت هذه الصورة فيحتمل أن يكون في كل جانب الضرر والجور ، فإذا وجد متاعه عند رجل ، فإن كانت السنة أن يهمله حتى يجد بائعه ففيه ضرر عظيم لصاحب المتاع ، فإن الغاصب أو السارق إذ عثر على خيانته ربما يحتج بأنه اشترى من إنسان يذب بذلك عن نفسه ، وربما يكون السارق والغاصب وكل بعض الناس بالبيع لئلا يؤاخذ هو ولا البائع ، وفي ذلك فتح باب ضياع حقوق الناس ، وربما لا يجد البائعِ لا عند غيبة هذا المشتري فيؤاخذه فلا يجد
$[2/419]
عنده شيئاً فيسكت على خيبة ، وإن كانت السنة أن يقبضه في الحال ففيه ضرر للمشتري لأنه ربما يبتاع من السوق لا يدري من البائع وأين محله ثم يستحق ماله ولا يجد البائع فيسكت على خيبة وربما يكون له حاجة إلى المتاع ويكون في قبض المستحق إياه حوالته على البائع فوت حاجته فلما دار الأمر بين ضررين ولم يكن بد من وجود أحدهما وجب أن يرجع إلى الأمر الظاهر الذي تقبله أفهام الناس من غير ريبة ، وهو هنا أن الحق تعلق بهذه العين والعين تحبس في العين المتعلق به إذا قامت البينة وارتفع الإِشكال ، وعلى هذا القياس ينبغي أن تعتبر القضايا .
حفظ الحوائط نهاراً واجب على أربابها :(2/222)
وقضى صلى اللّه عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وإن ما أفسدت المواشي فهو ضامن على أهلها .
أقول : السبب المقتضي لهذا القضاء أنه إذا أفسدت المواشي حوائط الناس كان الجور والعذر مع كل واحد .
فصاحب الماشية يحتج بأنه لابد أن يسرح ماشيته في المرعى وإلا هلكت جوعاً ، واتباع كل بهيمة وحفظها يفسد عليهم الارتفاقات المقصودة ، وأنه ليس له اختيار فيما أتلفته بهيمته ، وأن صاحب الحائط هو الذي قصر في حفظ ماله وتركه بمضيعة .
وصاحب الحائط يحتج بأن الحائط لا تكون إلا خارج البلاد فحفظها والذب عنها والإِقامة عليها يفسد حاله ، وأن صاحب الماشية هو الذي سرحها في الحائط أو قصر في حفظها ، فلما دار الأمر بينهما ، وكان لكل
$[2/420]
واحد جور وعذر ، وجب أن يرجع إلى العادة المألوفة الفاشية بينهم فيبنى ، الجور على مجاوزتها .
والعادة أن يكون في كل حائط في النهار من يعمل فيه ، ويصلح أمره ، ويحفظه . وأما في الليل فيتركونه ، ويبيتون في القرى والبلاد ، وأن أهل الماشية يجمعون ماشيتهم بالليل في بيوتهم ، لم يسرحونها في النهار للرعي ، فاعتبر الجور أن يجاوز العادة الفاشية بينهم .
ذو الحاجة يسامح فيما أكل من ثمر :
وسئل صلى اللّه عليه وسلم عن الثمر المعلق ، فقال : « من أصابه بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه » .
اعلم أن دفع التظالم بين الناس إنما هو أن يقبض على يد من يضر بالناس ، ويتعدى ، عليهم ، لا أن يتبع شحهم وغمر ، نفوسهم ، ففي صورة الأكل من الثمر المعلق غير المحرز الكثير الذي لا يشح منه بشبع إنسان محتاج إذا لم يكن هناك مجاوزة حد العرف . ولا اتخاذ خبنة ولا رمي الأشجار بالحجارة ، فإن العرف يوجب المسامحة في مثله ، فمن ادعى في مثل ذلك فإنه اتبع الشح ، وقصد الضرار . فلا يتبع ، وأما ما كان من ثمر مشفوه أو اتخاذ خبنة أو رمي الأشجار أو مجاوزة الحد في الإِتلاف بوجه من الوجوه ففيه التعزير والغرامة .(2/223)
حكم لبن الماشية :
وأما لبن الماشية فالأقيسة فيه متعارضة ، وقد بيّنها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقاسها
$[2/421]
تارة على المتاع المخزون في البيوت ، فنهى عن حلبه . وتارة على الثمر المعلق والأشياء غير المحرزة ، فأباح منه بقدر الحاجة لمن لم يجد صاحب المال ليستأذنه ، والأصل فيما اختلف فيه الأحاديث وأظهرت العلل أن يجمع باعتبار تلك العلل ، فحينما جرت العادة ببذل مثله وليس هناك شح وتضييق وكانت حاجة جاز وإلا فلا ، وعلى مثل ذلك ينبغي أن يعتبر تصرف الزوجة في مال الزوج والعبد في مال سيده .
الحدود
من المعاصي ما شرع اللّه فيه الحد :
اعلم أن من المعاصي ما شرع اللّه فيه الحد ، وذلك كلِ معصية جمعت وجوهاً من المفسدة ، بأن كانت فساداً في الأرض واقتضاباً على طمأنينة المسلمين ، وكانت لها داعية في نفوس بني آدم لا تزال تهيج فيها ، ولها ضراوة لا يستطيعون الإِقلاع منها بعد أن أُشربت قلوبهم بها ، وكان فيه ضرر لا يستطيع المظلوم دفعه عن نفسه في كثير من الأحيان ، وكان كثير الوقوع فيما بين الناس ، فمثل هذه المعاصي لا يكفي فيها الترهيب بعذاب الآخرة ، بل لابد من إقامة ملامة شديدة عليها وإيلام ، ليكون بين أعينهم ذلك ، فيردعهم عما يريدونه .
الزنا معصية تستوجب الحد :
كالزنا فإنها تهيج من الشبق والرغبة في جمال النساء ، ولها شرة وفيها عار شديد على أهلها ، وفي مزاحمة الناس على موطوءة تغيير الجبلة
$[2/422]
الإِنسانية ، وهي مظنة المقاتلات والمحاربات فيما بينهم ، ولا يكون غالباً إلا برضا الزانية والزاني ، وفي الخلوات حيث لا يطلع عليها إلا البعض ، فلو لم يشرع فيها حد وجيع لم يحصل الردع .
السرقة تستوجب الحد :(2/224)
وكالسرقة فإن الإِنسان كثيراً ما لا يجد كسباً صالحاً ، فينحدر إلى السرقة ولها ضراوة في نفوسهم ، ولا يكون الاختفاء بحيث لا يراه الناس بخلاف الغصب ، فإنه يكون باحتجاج وشبهة لا يثبتها الشرع ، وفي تضاعيف معاملات بينهما وعلى أعين الناس فصار معاملة من المعاملات .
قطع الطريق يستوجب الحد :
وكقطع الطريق فإنه لا يستطيع المظلوم ذبه عن نفسه وماله ، ولا يكون في بلاد المسلمين وتحت شوكتهم فيدفعوا ، فلا بدَّ لمثله أن يزاد في الجزاء والعقوبة ، وكشرب الخمر فإن لها شرهاً وفيها فساداً في الأرض وزوالاً لمسكة عقولهم التي بها صلاح معادهم ومعاشهم .
القذف لابد له من زاجر :
وكالقذف فإن المقذوف يتأذى أذى شديداً ، ولا يقدر على دفعه بالقتل ونحوه لأنه إن قَتل قتل به ، وإن ضَرب ضُرب به ، فوجب في مثله زاجر عظيم .
أنواع الحد : قتل وقطع وضرب وغيرها :
ثم الحد إما قتل وهو زجر لا زجر فوقه ، وإما قطع وهو إيلام شديد وتفويت قوة لا يتم الاستقلال بالمعيشة دونها طول عمره ومثلة وعار ظاهر
$[2/423]
أثره بمرأى الناس لا ينقضي ، فإن النفس إنما تتأثر من وجهين ؛ النفس الواغلة في البهيمية يمنعها الإِيلام كالبقر والجمل ، والتي فيها حب الجاه يردعه العار اللازم له أشد من الإِيلام ، فوجب جمع هذين الوجهين في الحدود ودون ذلك إيلام بضرب يضم معه ما فيه عار ، وظهر أثره كالتغريب وعدم قبول الشهادة والتبكيت .
الحدود في الشرائع السابقة وفي الإِسلام :
واعلم أنه كان من شريعة من قبلنا القصاص في القتل ، والرجم في الزنا والقطع …في السرقة ، فهذه الثلاث كانت متوارثة في الشرائع السماوية وأطبق عليها جماهير الأنبياء والأمم ، ومثل هذا أن يؤخذ عليه بالنواجذ ، ولا يترك ، ولكن الشريعة المصطفوية تصرفت فيها بنحو آخر ، فجعلت مزجرة كل واحد على طبقتين :
إحداهما الشديدة البالغة أقصى المبالغ ، ومن حقها أن تجعل في المعصية الشديدة .(2/225)
والثانية دونها ، ومن حقها أن تجعل فيما كانت المعصية دونها .
في القتل العمد القود والدّية :
ففي القتل القود والدّية والأصل فيه قوله تعالى : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكمْ } .
$[2/424]
قال : ابن عباس رضي اللّه عنهما : كان فيهم القصاص ولم يكن الدية .
وفي الزنا الجلد ، وكان اليهود لما ذهبت شوكتهم ، ولم يقدروا على الرجم ابتدعوا التجبيه والتسحيم فصار ذلك تحريفاً لشريعتهم ، فجمعت لنا بين شريعتي من قبلنا السماوية والابتداعية ، وذلك غاية رحمة اللّه بالنسبة إلينا .
في السرقة العقوبة والغرامة :
وفي السرقة العقوبة وغرامة مثليه على ما جاء في الحديث .
الجلد في القذف والخمر :
وإن حملت أنواعاً من الظلم عليها كالقذف والخمر فجعلت لها حداً فإن هذه أيضاً بمنزلة تلك المعاصي وإن زادت في عقوبة قطع الطريق .
الناس في العقاب على طبقتين :
واعلم أن الناس على طبقتين - ولسياسة كل طبقة وجه خاص - .
1 - طبقة هم مستقلون ، أمرهم بأيديهم ، وسياسة هؤلاء أن يؤخذوا على أعين الناس ، ويوجعوا ، ويلزم عليهم عار شديد ، ويهانوا ، ويحقروا .
2 - وطبقة هم بأيدي ناس آخرين أسراء عندهم ، وسياسة هؤلاء أن يؤمر سادتهم أن يحفظوهم عن الشر ، فإنه يظهر لهم وجه فيه حبسهم عن
$[2/425]
فعلهم ذلك ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إذا زنت أمة أحدكم فليضرب » الحديث ، وقوله عليه السلام : « إذا سرق عبد أحدكم فبيعوه ولو بنش » ، فضبطت الطبقتان بوصف ظاهر ، فالأولى الأحرار ، والثانية الأرقاء .
ثم كان من السادة من يتعدى على عبيده ، ويحتج بأنه زنى ، أو سرق ، ونحو ذلك ، فكان الواجب في مثله أن يشرع على الأرقاء دون ما على الأحرار ليقطع هذا النوع ، وألا يخيروا في القتل والقطع ، وأن يخيروا فيما دون ذلك .
الحد كفارة للذنب :(2/226)
والحد يكون كفارة لأحد وجهين ، لأن العاصي إما أن يكون منقاداً لأمر اللّه وحكمه ، مسلماً وجهه للّه فالكفارة في حقه توبة عظيمة ، ودليله حديث : « لقد تاب توبة لو قسمت على أمة محمد لوسعتهم » .
وإما أن يكون إيلاماً له وقسراً عليه ، وسر ذلك أن العمل يقتضي في حكمة اللّه أن يجازى في نفسه أو ماله ، فصار مقيم الحد خليفة اللّه في المجازاة فتدبر .
حكم الزاني الرجم والجلد :
قال اللّه تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وقال عمر رضي اللّه عنه : إن اللّه بعث محمداً صلى اللّه عليه وسلم بالحق ، وأنزل
$[2/426]
عليه الكتاب ، فكان مما أنزل اللّه آية الرجم ، رجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورجمنا بعده ، والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء .
حد المحصن الرجم :
أقول : إنما جعل حد المحض الرجم ، وحد غير المحصن الجلد ؛ لأنه كما يتم التكليف ببلوغ خمس عشرة سنة أو نحوه ، ولا يتم دون ذلك لعدم تمام العقل وتمام الجثة وكونه من الرجال فلذلك ينبغي أن تتفاوت العقوبة المترتبة على التكليف بأتمية العقل وصيرورته رجلاً كاملاً مستقلاً بأمره مستبداً برأيه ، ولأن المحصن كامل وغير المحصن ناقص ، فصار واسطة بين الأحرار الكاملين وبين العبيد ، ولم يعتبر ذلك إلا في الرجم خاصة لأنه أشد عقوبة شرعت في حق اللّه .
وأما القصاص فحق الناس وهم محتاجون ، فلا يضيع حقوقهم .
حد غير المحصن الجلد :
وأما حد السرقة وغيرها فليس بمنزلة الرجم ولأن المعصية ممن أنعم اللّه عليه وفضله على كثير من خلقه أقبح وأشنع لأنها أشد الكفران ، فكان من حقها أن يزاد في العقوبة لها ، وإنما جعل حد البكر مائة جلدة لأنها عدد كثير مضبوط يحصل به الزجر والإِيلام ، وإنما عوقب بالتغريب لأن العقوبة المؤثرة تكون على وجهين :(2/227)
إيلام في البدن وإلحاق حياء وخجالة وعار وفقد مألوف في النفس ، والأول عقوبة جسمانية .
والثانية عقوبة نفسانية ، ولا تتم العقوبة إلا بأن تجمع الوجهين : قال اللّه تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } .
$[2/427]
السر في تنصيف العقوبة على الأرقاء :
أقول السر في تنصيف العقوبة على الأرقاء أنهم يفوض أمرهم إلى مواليهم ، فلو شرع فيهم مزجرة بالغة أقصى المبالغ لفتح ذلك باب العدوان بأن يقتل المولى عبده ، ويحتج بأنه زانٍ ، ولا يكون سبيل المؤاخذة عليه ، فنقص من حدهم ، وجعل ما لا يفضي إلى الهلاك ، والذي ذكرناه في الفرق بين المحصن وغيره يتأتى هنا .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل اللّه لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام ، والثيب بالثيب ، جلد مائة ، والرجم » ، وعمل به علي رضي اللّه عنه .
أقول : اشتبه هذا على الناس ، وظنوه مناقضاً مع رجمه الثيب وعدم جلده ، وعندي أنه ليس مناقضاً له ، وأن الآية عامة لكن يسن للإمام الاقتصار على الرجم عند وجوبهما ، وإنما مثله مثل القصر في السفر ، فإنه لو أتم جاز ، لكن يسن له القصر ، وإنما شرع ذلك لأن الرجم عقوبة عظيمة ، فتضمنت ما دونها ، وبهذا يجمع بين قوله صلى اللّه عليه وسلم وعمل علي رضي اللّه عنه ، وبين عمله صلى اللّه عليه وسلم ، وأكثر خلفائه في الاقتصار على الرجم ، وحديث جابر أمر بالجلد ، ثم أخبر أنه محصن ، فأمر به ، فرجم يدل عليه ، فإنه ما أقدم على الجلد إلا لجواز مثله مع كل زانٍ .
$[2/428]
وعندي أن التغريب يحتمل العفو ، وبه يجمع بين الآثار .
من أقر بالزنا لإِقامة الحد عليه فهو تائب :(2/228)
لما قال ماعز بن مالك زنيت فطهرني ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ؟ قال : لا يا رسول اللّه قال : أنكتها ؟ قال : نعم ، فعند ذلك أمر برجمه » .
أقول : الحد موضع الاحتياط ، وقد يطلق الزنا على ما دون الفرج كقوله صلى اللّه عليه وسلم : « فزنا اللسان كذا وزنا الرِّجل كذا » ، فوجب التثبت والتحقق في مثل ذلك .
واعلم أن المقر على نفسه بالزنا المسلم نفسه لإِقامة الحد تائب ، والتائب كمن لا ذنب له ، فمن حقه ألا يحد ، لكن هنا وجوه مقتضية لإِقامة الحد عليه :
منها أنه لو كان إظهار التوبة والإِقرار درءاً للحد لم يعجز كل زانٍ أن يحتال إذا استشعر بمؤاخذة الإِمام بأن يعترف ، فيندرئ عنه الحد ، وذلك مناقضة للمصلحة .
ومنها أن التوبة لا تتم إلا أن يعتضد بفعل شاق عظيم لا يتأتى إلا من مخلص ، ولذلك قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في ماعز لما أسلم نفسه للرجم : « لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة محمد لوسعتهم » ، وقال عليه السلام ، في الغامدية : « لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له » .
$[2/429]
الستر على الزاني أولى :
ومع ذلك فيستحب الستر عليه ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم لهزال « لو سترته بثوبك لكان خيراً لك » ، وأن يؤمر هو أن يتوب فيما بينه وبين اللّه ، وأن يحتال في درء الحد .
الأمة إذا زنت يجلدها سيدها :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إذا زنت أمة أحدكم ، فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت فليجلدها الحد ، ولا يثرب عليها » . أقول : السر في ذلك أن الإِنسان مأمور شرعاً أن يذب عن حريمه المعاصي ومجبول على ذلك خلقة ، ولو لم يشرع الحد إلا عند الإِمام لما استطاع السيد إقامته في كثير من الصور ، ولم يتحقق الذب عن الذمار ، ولو لم يُحد مقدار معين للحد لتجاوز المتجاوز إلى حد الإِهلاك أو الإِيلام الزائد على الحد ، فلذلك قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « لا يثرب » .(2/229)
إقالة العثرات جائز إلا في الحدود :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود » ، أقول : المراد بذوي الهيئات أهل المروءات ، أما أن يعلم من رجل صلاح في الدين ، وكانت العثرة أمراً فرط منه على خلاف عادته ، ثم ندم ، فمثل هذا ينبغي أن يتجاوز عنه ، أو يكونوا أهل نجدة وسياسة وكبر في الناس ، فلو أقيمت
$[2/430]
العقوبة عليهم في كل ذنب قليل أو كثير لكان في ذلك فتح باب التشاحن واختلاف على الإِمام وبغي عليه فإن النفوس كثيراً ما لا تحتمل ذلك .
وأما الحدود فلا ينبغي أن تهمل إلا إذا وجد لها سبب شرعي تندرئ به ، ولو أهملت لتناقضت المصلحة ، وبطلت فائدة الحدود .
إقامة الحدود على الضعفاء :
وقال صلى اللّه عليه وسلم في مخدج يزني : « خذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوا به » .
اعلم أن من لا يستطيع أن يقام عليه الحدود لضعف في جبلته ، فإن ترك سدى كان مناقضاً لتأكد الحدود فإنما اللائق بالشرائع اللازمة التي جعلها اللّه تعالى بمنزلة الأمور الجبلية أن يجعل كالمؤثر بالخاصية ، ويعض عليها بالنواجذ ، وأيضاً فإن فيه بعض الألم والميسور لا ضرورة في تركه .
حد اللواطة :
واختلف في حد اللواطة ، فقيل . هي من الزنا ، وقيل : يقتل لحديث : « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به » .
حد القذف :
قال اللّه تعالى : { وَالَّذِينِ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةَ وَلا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدا وأولئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلحُواْ فإِنَ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
$[2/431]
وفي حكم المحصنات المحصنون بالإِجماع ، والمحصن حر مكلف مسلم عفيف من وطء يحد به .(2/230)
واعلم أن هاهنا وجهين متعارضين ، وذلك أن الزنا معصية كبيرة يجب إخمالها وإقامة الحد عليها والمؤاخذة بها ، وكذلك القذف معصية كبيرة ، وفيه إلحاق عار عظيم يجب إقامة الحد عليها .
ويشتبه القذف بالشهادة على الزنا ، فلو أخذنا القاذف لنقيم عليه الحد يقول : أنا شاهد على الزنا ، وفيه بطلان لحد القذف والذي هو شاهد على الزنا يذبه عن نفسه المشهود عليه بأنه قاذف يستحق الحد ، فلما تعارض الحدان في هذه الجملة عند سياسة الأمة وجب أن يفرق بينهما بأمر ظاهر وذلك كثرة المخبرين ، فانهم إذا كثروا قوي ظن الشهادة والصدق ، وضعف ظن القذف ، فإن القذف يستدعي جمع صفتين : ضعف في الدين ، وغل بالنسبة إلى المقذوف ، ويبعد أن يجتمعا في جماعة من المسلمين ، وإنما لم يكتفيِ بعدالة الشاهدين لأن العدالة مأخوذة في جميع الحقوق ، فلا يظهر للتعارض أثر ، وضبطت الكثرة بضعف نصاب الشهادة .
حد القذف ثمانون جلدة :
وإنما جعل حد القذف ثمانين لأنه ينبغي أن يكون أقل من الزنا ، فإن إشاعة فاحشة ليست بمنزلة فعلها ، وضبط النقصان بمقدار ظاهر وهو عشرون ، فإنه خُمس المائة ، وإنما جعل من تمام حده عدم قبول
$[2/432]
الشهادة لما ذكرنا أن الإِيلام قسمان : جسماني . ونفساني . وقد اعتبر الشرع جمعهما في جميع الحدود لكن جمع مع حد الزنا التغريب لأن الزنا عند سياسة ولاة الأمور وغيرة الأولياء لا يتصور إلا بعد مخالطة وممازجة وطول صحبة وائتلاف ، فجزاؤه المناسب له أن يجلى عن محل الفتنة ، وجمع مع حد القذف عدم قبول الشهادة ؛ لأنه إخبار ، والشهادة إخبار ، فجوزي بعار من جنس المعصية فإن عدم قبول الشهادة من القاذف عقوبة ، وعدم قبولها من سائر العصاة لفوات العدالة والرضا ، وأيضاً فقد ذكرنا أن القاذف لا يعجز أن يقول : أنا شاهد فيكون سد هذا الباب أن يعاقب بمثل ما احتج به ، وجمع في حد الخمر التبكيت .
واختلفوا في قوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ } .(2/231)
هل الاستثناء راجع إلى عدم قبول الشهادة أم لا ؟ والظاهر مما مهدنا أن الفسق لما انتهى وجب أن ينتهي أثره وعقوبته ، وقد اعتبره الخلفاء لحد الزنا في تنصيف العقوبة على الأرقاء .
حد السرقة :
قال تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّه وَاللّه عَزِيز حَكِيمٌ } .
واعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث مبيناً لما أنزل إليه ، وهو قوله تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَاسِ } .
$[2/433]
أخذ مال الغير أقسام :
وكان أخذ مال الغير أقساماً : منه السرقة ، ومنه قطع الطريق ، ومنه الاختلاس ، ومنه الخيانة ، ومنه الالتقاط ، ومنه الغصب ، ومنه ما يقال له قلة المبالاة والورع ، فوجب أن يبين النبي صلى اللّه عليه وسلم حقيقة السرقة متميزة عن هذه الأمور .
وطريق التمييز أن ينظر إلى ذاتيات هذه الأسامي التي لا توجد في السرقة ، ويقع بها التفارق في عرف الناس ، ثم تضبط السرقة بأمور مضبوطة معلومة يحصل بها التمييز منها والاحتراز عنها .
فقطع الطريق ، والنهب ، والحرابة أسماء تنبئ عن اعتماد القوة بالنسبة إلى المظلومين ، واختيار مكان أو زمان لا يلحق فيه الغوث من جماعة المسلمين .
والاختلاس ينبئ عن اختطاف على أعين الناس ، وفي مرأى منهم ومسمع .
والخيانة تنبئ عن تقدم شركة أو مباسطة وإذن بالتصرف فيه ونحو ذلك .
والالتقاط ينبئ عن وجدان شيء في غير حرز .
0 والغصب ينبئ عن غلبة بالنسبة إلى المظلوم لا معتمداً على الحرب والهرب ولكن على الجدل وظن ألا يرفع قضيته إلى الولاة ولا ينكشف عليهم جلية الحال .
وقلة المبالاة ، والورع يقال في الشيء التافه الذي جرى العرف
$[2/434]
ببذله والمواساة به بين الناس كالماء . والحطب ، فضبط النبي صلى اللّه عليه وسلم الاحتراز عن ذاتيات هذه الأسامي .
نصاب القطع في السرقة :(2/232)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار » ، وروي القطع فيما بلغ ثمن المجن ، وروي أنه قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ، وقطع عثمان رضي اللّه في أترجة ثمنها ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما .
والحاصل أن هذه التقديرات الثلاث كانت منطبقة على شيء واحد في زمانه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم اختلفت بعده ، ولم يصلح المجن للاعتبار لعدم انضباطه ، فاختلف المسلمون في الحديثين الآخرين : فقيل : ربع دينار . وقيل : ثلاثة دراهم ، وقيل : بلوغِ المال إلى أحد القدرين وهو الأظهر عندي ، وهذا شرعه النبي صلى اللّه عليه وسلم فرقاً بين التافه وغيره لأنه لا يصلح للتقدير جنس دون جنس لاختلاف الأسعار في البلدان ، واختلاف الأجناس نفاسة وخساسة بحسب اختلاف البلاد ، فمباح قوم وتافههم مال عزيز عند آخرين ، فوجب أن يعتبر التقدير في الثمن ، وقيل : يعتبر فيهما ، وأن الحطب وإن كان قيمته عشرة دراهم لا يقطع فيه .
لا قطع في ثمر معلق :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح والجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن » ، وسئل عن الثمر المعلق ،
$[2/435]
فقال عليه السلام : « من سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع » .
أقول : أفهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن الحرز شرط القطع وسبب ذلك أن غير المحرز يقال فيه الالتقاط فيجب الاحتراز عنه .
لا قطع على خائن ومنتهب ومختلس :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع » .
أقول : أفهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه لابد في السرقة من أخذ المال مختفياً وإلا كان نهبة أو خطفة وألا يتقدمها شركة ولزوم حق ، وإلا كان خيانة أو استيفاء لحقه .
وفي الآثار في العبد يسرق مال سيده إنما هو مالك بعضه في بعض .
تحسم يد السارق بعد قطعها :(2/233)
وقال صلى اللّه عليه وسلم في سارق : « اقطعوه ثم احسموه » ، أقول : إنما أمر بالحسم لئلا يسري فيهلك ، فإن الحسم سبب عدم السراية ، وأمر عليه السلام باليد فعلقت في عنق السارق أقول . إنما فعل هذا للتشهير ، وليعلم الناس أنه سارق وفرقاً بين ما يقطع اليد ظلماً وبين ما يقطع حداً .
عقوبة من سرق دون النصاب :
وقال صلى اللّه عليه وسلم في سرقة ما دون النصاب : « عليه العقوبة وغرامة مثليه » .
أقول : إنما أمر بغرامة المثلين لأنه لابد له من ردع وعقوبة مالية وبدنية ، فإن الإِنسان ربما يرتدع بالمال أكثر من ألم الجسد . وربما يكون
$[2/436]
الأمر بالعكس فجمع بين ذلك ، ثم غرامة مثله يجعل كأن لم يكن سرق وليس فيه عقوبة ، ولذلك زيدت غرامة أخرى لتكون مناقضة لقصده في السرقة .
درء الحد ما أمكن ذلك :
وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع ، فقال : « ما إخالك سرقت ، قال : بلى ، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً ، فأمر به فقطع ، وجيء به فقال : قل أستغفر اللّه وأتوب إليه ، فقال : أستغفر اللّه وأتوب إليه ، قال : اللّهم تب عليه ثلاثاً » .
أقول : السبب في ذلك أن العاصي المعترف بذنبه النادم عليه يستحق أن يحتال في درء الحد عنه .
حد الحرابة :
وقد ذكرنا قول اللّه تعالى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ } .(2/234)
أقول : الحرابة لا تكون إلا معتمدة على القتال بالنسبة إلى الجماعة التي وقع العدوان عليها ، والسبب في مشروعية هذا الحد أشد من حد السرقة .أن الاجتماع الكثير من بني آدم لا يخلو من أنفس تغلب عليهم الخصلة السبعية لهم جراءة شديدة وقتال واجتماع فلا يبالون بالقتل والنهب ، وفي ذلك مفسدة أعظم من السرقة لأنه يتمكن أهل الأموال من حفظ أموالهم من السراق ، ولا يتمكن أهل الطريق من التمنع من قطاع الطريق ، ولا يتيسر لولاة الأمور وجماعة المسلمين نصرتهم في ذلك المكان والزمان ، ولأن داعية الفعل من قطاع الطريق أشد وأغلظ ، فإن
$[2/437]
القاطع لا يكون إلا جريء القلب قوي الجنان ، ويكون فيما هنالك اجتماع واتفاق بخلاف السراق ، فوجب أن تكون عقوبته أغلظ من عقوبته . والأكثرون على أن الجزاء على الترتيب وهو الموافق لقوله صلى اللّه عليه وسلم : « لا يقتل المؤمن إلا لإحدى ثلاث » الحديث ، وقيل : على التخيير وهو الموافق لكلمة « أو » ، وعندي أن قوله صلى اللّه عليه وسلم : « المفارق للجماعة » ، يحتمل أن يكون قد جمع العلتين ، والمراد أن كل علة تفيد الحكم كما جمع النبي صلى اللّه عليه وسلم بين العلتين ، فقال : « لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان » ، فكشف العورة سبب اللعن والتحديث في مثل تلك الحالة أيضاً سبب اللعن .
الخمر مفسدة للفرد وللمجتمع :
قال اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَاْلأزْلامُ رِجسُ منْ عَمَلِ الشَّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوةِ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر وَيصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصلاةِ فَهَلْ أَنتُم منتَهُونَ } .(2/235)
أقول : بيّن اللّه تعالى أن في الخمر مفسدتين : مفسدة في الناس ، فإن شاربها يلاحي القوم ويعدو عليهم ، ومفسدة فيما يرجع إلى تهذيب نفسه ، فإن شاربها يغوص في حالة بهيمية ، ويزول عقله الذي به قوام الإِحسان .
$[2/438]
ولما كان قليل الخمر يدعو إلى كثيره وجب عند سياسة الأمة أن يدار التحريم على كونها مسكرة ، لا على وجود السكر في الحال .
كل مسكر خمر :
ثم بيّن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن الخمر ما هي ، فقال : « كل مسكر خمر وكل مسكر حرام » .
وقال : « الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة » ، وتخصيصهما بالذكر لما كان حال تلك البلاد .
وسئل عليه السلام عن المِزْر والبتع ، فقال : « كل مسكر حرام » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « ما أسكر كثيره فقليله حرام » ، أقَول : هذه الأحاديث مستفيضة ، ولا أدري أي فرق بين العنبي وغيره لأن التحريم ما نزل إلا للمفاسد التي نص القرآن عليها وهي موجودة فيهما ، وفيما سواهما سواء .
من مات مدمناً الخمر لم يشربها في الآخرة :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة » .
أقول : وسبب ذلك أن الغائص في الحالة البهيمية المدبر عن الإِحسان ليس له في لذات الجنان نصيب ، فجعل شرب الخمر وإدمانها وعدم التوبة منها مظنة للغوص ، وأدير الحكم عليها ، وخص من لذات الجنان الخمر ، ليظهر تخالف اللذتين بادي الرأي .
$[2/439]
وأيضاً أن النفس إذا انهمكت في اللذة البهيمية في ضمن فعل تمثل هذا الفعل عندها شبحاً لتلك اللذة يتذكرها بتذكرها ، فلا يستحق أن تتمثل اللذة الإِحسانية بصورتها .
وأيضاً فأمر الجزاء على المناسبة ، فمن عصى بالإِقدام على شيء فجزاؤه أن يؤلم بفقد مثل تلك اللذة عند طلبه لها واستشرافه عليها .
من شرب المسكر سقاه اللّه من طينة الخبال :(2/236)
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن على اللّه عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال وطينة الخبال عصارة أهل النار » .
أقول : السر في ذلك أن القيح والدم أقبح الأشياء السيالة عندنا وأحقرها وأشدها نفرة بالنسبة للطبائع السليمة ، والخمر شيء سيال فناسب أن يتمثل مقروناً بصفة القبح في صورة طينة الخبال وذلك كما قالوا في المنكر والنكير : إنهما إنما كانا أزرقين لأن العرب يكرهون الزرقة ، وقد ذكرنا أن بعض الوقائع الخارجية بمنزلة المنام في ذلك .
من شرب الخمر لم تقبل له صلاة :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من شرب الخمر لم يقبل اللّه له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب اللّه عليه » .
أقول : السر في عدم قبول صلاته أن ظهور صفة البهيمية وغلبتها على الملكية بالإِقدام على المعصية اجتراء على اللّه وغوص نفسه في حالة رذيلة تنافي الإحسان وتضاده ، ويكون سبباً لفقد استحقاق أن تنفع الصلاة في نفسه نفع الإِحسان وأن تنقاد نفسه للحالة الإِحسانية .
$[2/440]
شارب الخمر يضرب ويبكت :
وكان الشارب يؤتى به إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فيأمر بضربه فيضرب بالنعال والأردية واليد حتى يبلغ أربعين ضربة ، ثم قال : « بكتوه » ، فأقبلوا عليه يقولون : ما اتقيت اللّه ، ما خشيت اللّه ، ما استحييت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم أخذ تراباً من الأرض فرمى به وجهه .
أقول : السبب في نقصان هذا الحد بالنسبة إلى سائر الحدود أن سائر الحدود لوجود مفسدة بالفعل أن يكون سرق متاعاً أو قطع الطريق أو زنى أو قذف ، وأما هذا فقد أتى بمظنة الفساد دون الفساد فلذلك نقص عن المائة وإنما كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يضرب أربعين لأنه مظنة القذف والمظنة ينبغي أن تكون أقل من نفس الشيء بمنزلة نصفه .
زاد الصحابة في حد شارب الخمر :(2/237)
ثم لما كثر الفساد جعل الصحابة رضي اللّه عنهم حده ثمانين إما لأنه أخف حد في كتاب اللّه فلا يجاوز غير المنصوص عن أقل الحدود ، وإما لأن الشارب يقذف غالباً إن لم يكن زنى أو قتل ، والغالب حكمه حكم المتقين . وأما سر التبكيت فقد ذكرنا من قبل .
لا شفاعة في حد :
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه ، وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وآيم اللّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من حالت شفاعته دون حد من حدود اللّه فقد ضاد اللّه » ،
$[2/441]
أقول : علم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن حفظ جاه الشرفاء والمسامحة معهم والذب عنهم والشفاعة في أمرهم أمر توارد عليه الأمم وانقاد لها طوائف الناس من الأولين والآخرين ، فأكد في ذلك وسجل ، فإن الشفاعة والمسامحة بالشرفاء مناقضة لشرع اللّه الحدود .
النهي عن لعن المحدود :
ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن لعن المحدود والوقوع فيه لئلا يكون سبباً لامتناع الناس من إقامة الحد ، ولأن الحد كفارة ، والشيء إذا تدورك بالكفارة صار كأن لم يكن ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « والذي نفسي بيده إنه لفي أنهار الجنة منغمس بها » .
من بدل دينه يقتل :
ويلحق بالحدود مزجرتان أخريان : إحداهما عقوبة هتك حرمة الملة ، والثانية الذب عن الإِمامة ، والأصل في الأولى قولهً صلى اللّه عليه وسلم : « من بدل دينه فاقتلوه » ، وذلك لأنه يجب أن يقام اللائمة الشديدة على الخروج من الملة وإلا لانفتح باب هتك حرمة الملة ، ومرضى اللّه تعالى أن تجعل الملة السماوية بمنزلة الأمر المجبول عليه الذي لا ينفك عنه ، وتثبت الردة بقول يدل على نفي الصانع أو الرسل أو تكذيب رسول أو فعل تعمد به استهزاءً صريحاً بالدين ، وكذا إنكار ضروريات الدين ، قال اللّه تعالى : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } .(2/238)
وكانت يهودية تشتم النبي صلى اللّه عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل النبي صلى اللّه عليه وسلم دمها ، وذلك لانقطاع ذمة الذمي بالطعن في دين المسلمين والشتم والإِيذاء الظاهر .
$[2/442]
النهي عن السكنى بين المشركين :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين ، لا يتراءى ناراهما » .
أقول : السبب في ذلك أن الاختلاط معهم وتكثير سوادهم إحدى النصرتين لهم ، ثم ضبط النبي صلى اللّه عليه وسلم البعد من أحياء الكفار بأن يكون منهم بحيث لو أوقدت نار على أرفع مكان في بلدهم أو حلتهم لم تظهر للآخرين .
مقاتلة من ينازع في الخلافة :
والأصل في الثانية قوله تعالى : { فَاِن بَغَتْ إحداهما عَلَى الأخرى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّه } .
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » .
أقول : السبب في ذلك أن الإِمامة مرغوب فيها طبعاً ، ولا يخلو اجتماع الناس في الأقاليم من رجل يجترئ لأجلها على القتال ، ويجتمع لنصرته الرجال ، فلوترك ، ولم يقتل لقتل الخليفة ، ثم قاتله آخر فقتله وهلم جراً ، وفيه فساد عظيم للمسلمين ، ولا ينسد باب هذه المفسدة إلا بأن تكون السنة بين المسلمين أن الخليفة إذا انعقدت خلافته ، ثم خرج آخر ينازعه حل قتله ووجب على المسلمين نصرة الخليفة عليه .
ثم الذي خرج بتأويل لمظلمة يريد دفعها عن نفسه وعشيرته أو لنقيصة يثبتها في الخليفة ويحتج عليها بدليل شرعي بعد ألا يكون مسلماً عند جمهور المسلمين ولا يكون أمراً من اللّه فيه عندهم برهان لا يستطيعون
$[2/443](2/239)
إنكاره فأمره دون الأمر الذي خرج يفسد في الأرض ويحكم السيف دون الشرع ، فلا ينبغي أن يجعلا بمنزلة واحدة ، فلذلك كان الأولى أن يبعث الإِمام إليهم فطناً ناصحاً عالماً يكشف شبهتهم أو يدفع عنهم مظلمتهم كما بعث أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه إلى الحرورية ، فإن رجعوا إلى جماعة المسلمين فبها وإلا قاتلهم ولا يقتل مدبرهم ولا أسيرهم ولا يجهز على جريحهم لأن المقصود إنما هو دفع شرهم وتفريق جماعتهم وقد حصل ، وأما الثاني فهو من المحاربين وحكمه حكم المحارب .
القضاء
القضاء ضرورة اجتماعية :
اعلم أن من الحاجات التي يكثر وقوعها وتشتد مفسدتها المناقشات في الناس ؛ فإنها تكون باعثة على العداوة والبغضاء وفساد ذات البين ، وتهيج الشح على غمط الحق وألا ينقاد للدليل فوجب أن يبعث في كل ناحية من يفصل قضاياهم بالحق ، ويقهرهم على العمل به أشاءوا أم أبوا ، ولذلك كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يعتني ببعث قضاة اعتناءً شديداً ، ثم لم يزل المسلمون على ذلك .
القضاء مسؤولية ثقيلة :
ثم لما كان القضاء بين الناس مظنة الجور والحيف وجب أن يرهب الناس عن الجور في القضاء وأن يضبط الكليات التي يرجع إليها الأحكام .
$[2/444]
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من جعل قاضياً بين الناس فقد ذُبح بغير سكين » .
أقول : هذا بيان أن القضاء حمل ثقيل وأن الإِقدام عليه مظنة للهلاك إلا أن يشاء اللّه .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من ابتغى القضاء وسأله وكلَ إلى نفسه ومن أُكْرِهَ عليه أنزل اللّه ملكاً يسدده » .
أقول : السر فيه أن الطالب لا يخلو غالباً من داعية نفسانية من مال أو جاه أو التمكن من انتقام عدو ونحو ذلك فلا يتحقق منه خلوص النية الذي هو سبب نزول البركات .
قاض في الجنة وقاضيان في النار :(2/240)
قال صلى اللّه عليه وسلم : « القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار » .
أقول : في هذا الحديث أنه لا يستوجب القضاء إلا من كان عدلاً بريئاً من الجور والميل قد عرف منه ذلك . وعالماً يعرف الحق لا سيما في مسائل القضاء ، والسر في ذلك واضح فإنه لا يتصور وجود المصلحة المقصودة إلا بها .
الغضبان لا يقضي :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يقضينَّ حكم بين اثنين وهو غضبان » .
أقول : السبب المقتضي لذلك أن الذي اشتغل قلبه بالغضب لا
$[2/445]
يتمكن من التأمل في الدلائل والقرائن ومعرفة الحق .
للقاضي المجتهد أجران وللمخطئ أجر :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد » ، اجتهد يعني بذل طاقته في اتباع الدليل ؛ وذلك لأن التكليف بقدر الوسع وإنما وسع الإِنسان أن يجتهد وليس في وسعه أن يصيب الحق البتة .
القضاء بعد سماع الخصمين :
وقال صلى اللّه عليه وسلم لعلي رضي اللّه عنه : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء » .
أقول : وذلك لأنه عند ملاحظة الحجتين يظهر الترجيح .
القضاء فيه مقامان :
واعلم أن القضاء فيه مقامان :
أحدهما : أن يعرف جلية الحال التي تشاجرا فيه .
والثاني : الحكم العدل في تلك الحالة ، والقاضي قد يحتاج إليهما ، وقد يحتاج إلى أحدهما فقط . فإذا ادعى كل واحد أن هذا الحيوان مثلاً ملكه قد ولد في يده ، وهذا الحجر التقطه من جبل ارتفع الإِشكال لمعرفة جلية الحال .
والقضية التي وقعت بين علي ، وزيد ، وجعفر رضي اللّه عنهم في حضانة بنت حمزة رضي اللّه عنه كانت جلية الحال معلومة وإنما كان المطلوب الحكم .
إذا ادعى واحد على آخر الغصب والمال متغير :(2/241)
وإذا ادعى واحد على الأخر الغصب والمال متغير صفته وأنكر الآخر
$[2/446]
وقعت الحاجة أولاً إلى معرفة جلية الحال هل كان هناك غصب أولاً ، وثانياً إلى الحكم هل يحكم برد عين المغصوب أو قيمته ، وقد ضبط النبي صلى اللّه عليه وسلم كلا المقامين بضوابط كلية .
أما المقام الأول فلا أحق فيه من الشهادات والأيمان فإنه لا يمكن معرفة الحال إلا بإخبار من حضرها أو بإخبار صاحب الحال مؤكداً بما يظن أنه لا يكذب معه .
القضاء يحتاج إلى بينة ويمين :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه » ، فالمدعي هو الذي يدعي خلاف الظاهر ويثبت الزيادة ، والمدعى عليه هو مستصحب الأصل والمتمسك بالظاهر ولا عدل ، ثم من أن يعتبر فيمن يدعي بينة وفيمن يتمسك بالظاهر ويدرأ عن نفسه اليمين إذا لم تقم حجة الأخر .
وقد أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى سبب مشروعية هذا الأصل حيث قال : « لو يعطى الناس » ، الخ يعني كان سبباً للتظالم فلابد من حجة .
الشاهد المقبول الشهادة :
ثم إنه يعتبر في الشاهد صفة كونه مرضياً عنه لقوله تعالى : { ممن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } .
وذلك بالعقل ، والبلوغ ، والضبط ، والنطق ، والإِسلام ، والعدالة ، والمروءة ، وعدم التهمة .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه وترد شهادة القانع لأهل البيت » ،
$[2/447]
وقال اللّه تعالى في القذفة : { وَلا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } الآية .(2/242)
وفي حكم القذف . والزنا سائر الكبائر ، وذلك لأن الخبر يحتمل في نفسه الصدق والكذب وإنما يترجح أحد المحتملين بالقرينة ، وهي إما في المخبر أو في المخبر عنه أو غيرهما ، وليس شيء من ذلك مضبوطاً يحق أن يدار عليه الحكم التشريعي إلا صفات المخبر غير ما ذكرنا من الظاهر والاستصحاب ، وقد اعتبر مرة حيث شرع للمدعي البينة والمدعي عليه اليمين ثم اعتبر عدد الشهود على أطوار وزعها على أنواع الحقوق .
عدد الشهود :
فالزنا لا يثبت إلا بأربعة شهداء . والأصل فيه قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ } الآية .
وقد ذكر سبب مشروعية هذا من قبل .
ولا يعتبر في القصاص والحدود إلا شهادة رجلين ، والأصل فيه قول الزهري رحمه اللّه تعالى : جرت السنة من عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . ألا تقبل شهادة النساء في الحدود ، ويعتبر في الحقوق المالية شهادة رجل وامرأتين ، والأصل فيه قوله تعالى : { فَإِن لمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } .
$[2/448]
وقد نبه اللّه تعالى على سبب مشروعية الكثرة في جانب النساء ، فقال : { أَن تَضِلَّ إحداهما فَتُذَكِّرَ إحداهما الأخرى } .
يعني هن ناقصات العقل ، فلا بد من جبر هذا النقصان بزيادة العدد .
وقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشاهد ويمين وذلك لأن الشاهد العدل إذا لحق معه اليمين تأكد الأمر ، وأمر الشهادات لابد فيَه من توسعة .
تزكية الشهود وتغليظ الأيْمان :
وجرت السنة أنه إذا كان ريب زكّى الشاهدان ، وذلك لأن شهادتهما إنما اعتبرت من جهة صفاتهما المرجحة للصدق على للكذب فلا بد من تبينها .(2/243)
وجرت السنة أنه إذا كان ريب غلظت الأيمان بالزمان والمكان واللفظ ، وذلك لأن الأيمان إنما صارت دليلاً على صدق الخبر من جهة اقتران قرينة تدل على أنه لا يقدم على الكذب معها فكان حقها إذا كان زيادة ريب طلب قوة القرائن ، فاللفظ زيادة الأسماء والصفات ، والأصل فيه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « احلف باللّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة » ، ونحو ذلك .
مكان الحلف وزمانه :
والزمان أن يحلف بعد العصر لقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعدِ الصَّلاَةِ } .
والمكان أن يقام بين الركن والمقام إن كان بمكة . وعند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن كان بالمدينة . وعند المنبر في سائر البلدان لورود فضل
$[2/449]
هذه الأمكنة وتغليظ الكذب عندها .
ثم وقعت الحاجة أن يرهب الناس أشد ترهيب من أن يجترئوا على خلاف ما شرع اللّه لهم لفصل القضايا ومعرفة جلية الحال .
السبب والحكمة في الترهيب في الحلف :
والأصل في تلك الترهيبات ثلاثة أشياء : أحدها أن الإِقدام على فعل نهى اللّه تعالى عنه وغلظ في النهي دليل قلة الورع والاجتراء على اللّه فأدير حكم الاجتراء على هذه الأشياء ، وأثبت لها أثره مثل وجوب دخول النار وتحريم الجنة ونحو ذلك .
والثاني : أن ذلك سعي في الظلم وبمنزلة السرقة وقطع الطريق ، أو بمنزلة دلاله السارق على المال ليسرق أو ردء القاطع فتوجهت لعنة اللّه والملائكة والناس على السعاة في الأرض بالفساد إلى هذا العاصي فاستحق النار .
والثالث : أنه مخالفة لما شرع اللّه لعباده وسعى في سد جريانه على ما أراد اللّه في شرائعه فإن اليمين إنما شرعت معرفة للحق ، والبينة إنما شرعت مبينة لجلية الحال فإن جرت السنة بزور الشهادة والأيمان انسد باب المصلحة المرعية .
كاتم الشهادة آثم القلب :
فمن ذلك كتمان الشهادة لقوله تعالى : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .(2/244)
ومنها شهادة الزور لعده عليه السلام من الكبائر شهادة الزور .
$[2/450]
اليمين الكاذبة والدعوى الكاذبة :
ومنها اليمين الكاذبة لقوله صلى اللّه عليه وسلم : « من حلف على يمين صبر وهو فيها فأجر ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقي اللّه تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان » .
ومنها الدعوى الكاذبة لقوله صلى اللّه عليه وسلم : « من ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار » .
القضاء لا يبيح حقاً للغير :
ومنها الأخذ لقضاء القاضي وليس له الحق لقوله صلى اللّه عليه وسلم : « إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون » ، الحديث .
ومنها الاعتياد بالمجادلة ورفع القضية فإن ذلك لا يخلو من إفساد ذات البين لقوله صلى اللّه عليه وسلم : « إن أبغض الرجال إلى اللّه الألد الخصم » .
ورغب لمن ترك المخاصمة في الحق والباطل جميعاً فإن ذلك مطاوعة لداعية السماحة ، وأيضاً كثيراً ما لا يكون الحق له ، ويظن أن الحق له فلا يخرج عن العهدة باليقين إلا إذا وطن نفسه على ترك الخصومة في الحق والباطل جميعاً .
إذا تساوى الخصمان في الحجة :
وفي الحديث : « إن رجلين تداعيا دابة فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها فقضى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للذي في يده » .
$[2/451]
أقول : والسر في ذلك أن الحجتين لما تعارضتا تساقطتا فبقي المتاع في يد صاحب القبض لعدم ما يقتضي رده ، أو نقول اعتضدت إحدى البينتين بالدليل الطاهر وهو القبض فرجحت .
كيفية الترجيح عند التساوي في الحجة :
وأما المقام الثاني فشرع النبي صلى اللّه عليه وسلم فيه أصولاً يرجع إليها .(2/245)
والجملة في ذلك أن جلية الحال إذا كانت معلومة فالنزاع يكون إما في طلب كل واحد شيئاً هو مباح في الأصل وحكمه أبداً الترجيح إما بزيادة صفة يكون فيها نفع للمسلمين ولذلك الشيء ، أو سبق أحدهما إليه أو بالقرعة مثاله قضية زيد ، وعلي ، وجعفر رضي اللّه عنهم في حضانة بنت حمزة رضي اللّه عنه فقضى بها لجعفر رضي اللّه عنه ، وقال : « الخالة أم » ، وقوله صلى اللّه عليه وسلم في الأذان : « لاستهموا » ، وكان صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه . وإما أن يكون هنالك سابقة من عقد أو غصب يدعي كل واحد أنه أحق ، ويكون لكَل واحد شبهة وحكمة اتباع العرف والعادة المسلمة عند جمهور الناس يفسر الأقارير وألفاظ العقود بما عند جمهورهم من المعنى ويعرف الأضرار وغيرها بما عندهم ، مثاله قضية البراء بني عازب دخلت ناقته حائطا فأفسدت فيه ، وادعى كل واحد أنه معذور فقضى بما هو
$[2/452]
المعروف من عادتهم من حفظ أهل الحوائط أموالهم بالنهار وحفظ أهل المواشي مواشيهم بالليل .
من قواعد الأحكام :
ومن القواعد المبنية عليها كثير من الأحكام : أن الغنم بالغرم ، وأصله ما قضى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن الخراج بالضمان وذلك لعسر ضبط المنافع .
وأن قسم الجاهلية ودماءها وما كان فيها لا يتعرض بها ، وأن الأمر مستأنف بعدها .
وأن اليد لا تنقص إلا بدليل آخر وهو أصل الاستصحاب .
وأنه إن أفسد باب التفتيش فالحكم أن يكون ما يريده صاحب المال أو يترادا ، والأصل فيه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « البيعان إذا اختلفا بينهما والسلعة قائمة » الحديث .
وأن الأصل في كل عقد أن يوفى لكل أحد وعلى كل أحد ما التزمه بعقده إلا أن يكون عقداً نهى الشرع عنه ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً » ، فهذه نبذ مما شرع النبي صلى اللّه عليه وسلم في المقام الثاني .
من قضايا النبي عليه السلام :(2/246)
ومن القضايا التي قضى فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضية بنت حمزة رضي اللّه عنه في الحضانة حيث قال علي رضي اللّه عنه : بنت عمي وأنا
$[2/453]
أخذتها ، وقال جعفر رضي اللّه عنه : بنت عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد رضي اللّه عنه : بنت أخي فقض .ى بها لجعفر رضي اللّه عنه ، وقال : « الخالة بمنزلة الأم » .
وقضية ابن وليدة زمعة في الدعوة حيث قال سعد : إن أخي قد عهد إليّ فيه ، وقال عبد بن زمعة : ابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : « هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر » .
وقضية زيد رضي اللّه عنه والأنصاري في شراج الحرة فأشار صلى اللّه عليه وسلم إلى أمر لهما فيه سعة : « اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري ، فاستوعى لزبير حقه قال : احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر » .
وقضية ناقة براء بن عازب رضي اللّه عنه دخلت حائطاً لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى صلى اللّه عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل .
وقضى صلى اللّه عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ، وقد ذكرنا فيما سبق وجوه هذه القضايا .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع » .
أقول : وذلك أن الناس إذا عمروا أرضعاً مباحة فقصروا بها واختلفوا في الطريق ، فأراد بعضهم أن يضيق الطريق ويبني فيها ، وأبى الآخرون ذلك ، وقالوا : لابد للناس من طريق واسعة قضى بأن يجعل عرضه سبعة أذرع وذلك لأنه لابد من مرور قطارين من الإِبل يمشي أحدهما إلى
$[2/454](2/247)
جانب ، وثانيهما إلى الأخر ، وإذا جاءت زاملة من هاهنا وزاملة من هنالك فلا بد من طريق تسعهما وإلا كان الحرج ومقدار ذلك سبعة أذرع . وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شي وله نفقته » ، أقول : جعله بمنزلة أجير عمل له عملاً نافعاً ، واللّه أعلم .
الجهاد
أتم الشرائع ما أمر بالجهاد :
اعلم أن أتم الشرائع وأكمل النواميس هو الشرع الذي يؤمر فيه بالجهاد ، وذلك لأن تكليف اللّه عباده بما أمر ونهى - مثله كمثل رجل مرض عبيده ، فأمر رجلاً من خاصته أن يسقيهم دواء ، فلو أنه قهرهم على شرب الدواء ، وأوجره في أفواههم لكان حقاً ، لكن الرحمة اقتضت أن يبين لهم فوائد الدواء ؛ ليشربوه على رغبة فيه ، وأن يخلط معه العسل ؛ ليتعاضد فيه الرغبة الطبيعية والعقلية .
الحجة والقوة ضروريان معاً :
ثم إن كثيراً من الناس يغلب عليهم الشهوات الدنية والأخلاق السبعية ووساوس الشيطان في حب الرياسات ، ويلصق بقلوبهم رسوم آبائهم ، فلا يسمعون تلك الفوائد ، ولا يذعنون لما يأمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يتأملون في حسنه ، فليست الرحمة في حق أولئك أن يقتصر على إثبات الحجة عليهم ، بل الرحمة في حقهم أن يقهروا ؛ ليدخل الإِيمان عليهم
$[2/455]
على رغم أنفهم بمنزلة إيجاد الدواء المر ، ولا قهر إلا بقتل من له منهم نكاية شديدة وتمنع قوي ، أو تفريق منعتهم وسلب أموالهم حتى يصيروا لا يقدرون على شيء ، فعند ذلك يدخل أتباعهم وذراريهم في الإِيمان برغبة وطوع ، ولذلك كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . إلى قيصر : « كان عليك إثم الأريسيين » .
وربما كان أسرهم وقهرهم يؤدي إلى إيمانهم ، وإلى هذا أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم . حيث قال : « عجب اللّه من قوم يدخلون الجنة في السلاسل » .
الرحمة الكاملة بكبح الظالم ثم الإِصلاح :(2/248)
وأيضاً فالرحمة التامة الكاملة بالنسبة إلى البشر أن يهديهم اللّه إلى الإِحسان ، وأن يكبح ظالمهم عن الظلم ، وأن يصلح ارتفاقاتهم وتدبير منزلهم وسياسة مدينتهم ، فالمدن الفاسدة التي يغلب عليها نفوس سبعية ، ويكون لهم تمنع شديد إنما هو بمنزلة الأكلة في بدن الإِنسان لا يصح الإِنسان إلا بقطعه ، والذي يتوجه إلى إصلاح مزاجه وإقامة طبيعته لابد له من القطع ، والشر القليل إذا كان مفضياً إلى الخير الكثير واجب فعله .
ولك عبرة بقريش ومن حولهم من العرب كانوا أبعد خلق اللّه عن الإِحسان وأظلمهم على الضعفاء ، وكانت بينهم مقاتلات شديدة ، وكان بعضهم يأسر بعضاً ، وما كان أكثرهم متأملين في الحجة ناظرين في الدليل ، فجاهدهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقتل أشدهم بطشاً وأحدهم نفساً حتى ظهر أمر اللّه ، وانقادوا له ، فصاروا بعد ذلك من أهل الإِحسان ، واستقامت
$[2/456]
أمه ضرهم ، فلو لم يكن في الشريعة جهاد أولئك لم يحصل اللطف في حقهم .
الإِصلاح قضاء من اللّه وتنفيذ من المؤمنين :
وأيضاً فإن اللّه تعالى غضب على العرب والعجم ، وقضى بزوال دولتهم وكبت ملكهم ، فنفث في روع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وبواسطته في قلوب أصحابه رضي اللّه عنهم أن يقاتلوا في سبيل اللّه ؛ ليحصل الأمر المطلوب ، فصاروا في ذلك بمنزلة الملائكة تسعى في إتمام ما أمر اللّه تعالى ، غير أن الملائكة تسعى من غير أن يعقد فيهم قاعدة كلية ، والمسلمون يقاتلون لأجل قاعدة كلية علمهم اللّه تعالى ، وكان عملهم ذلك أعظم الأعمال ، وصار القتل لا يسند إليهم إنما يسند إلى الأمر ، كما يسند قتل العاصي إلى الأمير دون السياف ، وهو قوله تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنّ اللّه قَتَلَهُمْ } .
وإلى هذا السر أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث قال : « مقت عربهم وعجمهم » الحديث ، وقال عليه السلام : « لا كسرى ولا قيصر » ، يعني المتدينين بدين الجاهلية .(2/249)
فضائل الجهاد :
وفضائل الجهاد راجعة إلى أصول : منها أنه موافقة تدبير الحق وإلهامه ، فكان السعي في إتمامه سبباً لشمول الرحمة ، والسعي في إبطاله سبباً لشمول اللعنة ، والتقاعد عنه في مثل هذا الزمان تفويتاً لخير كثير . ومنها : أن الجهاد عمل شاق يحتاج إلى تعب وبذل مال ومهجة
$[2/457]
وترك الأوطان والأوطار ، فلا يقدم عليه إلا من أخلص دينه للّه وآثر الآخرة على الدنيا ، وصح اعتماده على اللّه .
ومنها : أن نفث مثل هذه الداعية في القلب لا يكون إلا بتشبه الملائكة ، وأحظاهم بهذا الكمال أبعدهم عن شرور البهيمية وأطرفهم من رسوخ الدين في قلبه ، فيكون معرفاً لسلامة صدره .
هذا كله إن كان الجهاد على شرطه ، وهو ما سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية فأي ذلك في سبيل اللّه ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه » .
ومنها أن الجزاء يتحقق بصورة العمل يوم القيامة ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « لا يُكْلَم أحد في سبيل اللّه واللّه أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دماً ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك » .
ومنها أن الجهاد لما كان أمراً مرضياً عند اللّه تعالى وهو لا يتم في العادة إلا بأشياء من النفقات ورباط الخيل والرمي ونحوها وجب أن يتعدى الرضا إلى هذه الأشياء من جهة إفضائها إلى المطلوب .
ومنها أن بالجهاد تكميل الملة وتنويه أمرها وجعله في الناس كالأمر اللازم ، فإذا حفظت هذه الأصول انكشف لك حقيقة الأحاديث الواردة في فضائل الجهاد .
$[2/458]
درجة المجاهدين عند اللّه :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين » الحديث .(2/250)
أقول : سره أن ارتفاع المكان في دار الجزاء تمثال لارتفاع المكانة عند اللّه ، وذلك بأن تكسب النفس سعادتها من التطلع للجبروت وغير ذلك ، وبأن يكون سبباً لاشتهار شعائر اللّه ودينه وسائر ما يرضي اللّه باشتهاره ، ولذلك كانت الأعمال التي هي مظنة هاتين الخصلتين جزاؤها الدرجات في الجنة ، فورد في تالي القرآن أنه يقال له : « اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا » .
وورد في الجهاد أنه سبب رفع الدرجات فإن عمله يفيد ارتفاع الدين ، فيجازى بمثل ما تضمنه عمله ، ثم إن ارتفاع المكانة يتحقق بوجوه كثيرة ، فكل وجه يتمثل درجة في الجنة ، وإنما كان كل درجة كما بين السماء والأرض لأنه غاية ما تمكن في علوم البشر من البعد الفوقاني فيتمثل في دار الجزاء كما تمكن في علومهم .
المجاهد كالقانت الصائم :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « مثل المجاهد في سبيل اللّه كمثل القانت الصائم » .
أقول : سره أن الصائم القانت إنما فضل على غيره بأنه عمل عملاً شاقاً لمرضاة اللّه ، وأنه صار بمنزلة الملائكة ومتشبهاً بهم ، والمجاهد إذا كان جهاده على ما أمر الشرع به يشبهه في كل ذلك غير أن الاجتهاد في
$[2/459]
الطاعات يسلم فضله الناس ، وهذا لا يفهمه إلا الخاصة ، فشبهه به لينكشف الحال .
مقدمات الجهاد مثاب عليها أيضاً :
ثم مست الحاجة إلى الترغيب في مقدمات الجهاد التي لا يتأتى الجهاد في العادة إلا بها كالرباط والرعي وغيرهما لأن اللّه تعالى إذا أمر بشيء ورضي به وعلم أنه لا يتم إلا بتلك المقدمات كان من موجبه الأمر بها والرضا عنها .
منزلة الرباط عند اللّه تعالى :
ورد في الرباط أنه « خير من الدنيا وما فيها » ، وأنه « خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجري عليه عمله الذي كان عمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان » .
أقول : أما سر كونه خيراً من الدنيا وما فيها فلأن له ثمرة باقية في المعاد ، وكل نعيم من نعيم الدنيا لا محالة زائل .(2/251)
وأما كونه خيراً من صيام شهر وقيامه فلأنه عمل شاق يأتي على البهيمية للّه وفي سبيل اللّه كما يفعل ذلك الصيام والقيام .
وسر إجراء عمله أن الجهاد بعضه مبني على بعض بمنزلة البناء يقوم الجدار على الأساس ويقوم السقف على الجدار ، وذلك لأن الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا سبب دخول قريش ومن حولهم في الإِسلام ثم فتح اللّه على أيدي هؤلاء العراق والشام ، ثم فتح اللّه على أيدي هؤلاء الفرس والروم ، ثم فتح اللّه على أيدي هؤلاء الهند والترك والسودان ،
$[2/460]
فالنفع الذي يترتب على الجهاد يتزايد حيناً فحيناً وصار بمنزلة الأوقاف والرباطات والصدقات الجارية .
وأما الأمن من الفتان يعني المنكر والنكير فإن المهلكة منهما على من لم يطمئن قلبه بدين محمد صلى اللّه عليه وسلم ولم ينهض لنصرته ، أما المرابط على شرطه فهو جامع الهمة على تصديقه ناهض العزيمة على تمشية نور اللّه .
من جهز غازياً فقد غزا :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من جهز غازياً في سبيل اللّه فقد غزا ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « أفضل الصدقة ظل فسطاط في سبيل اللّه » ، ونحو ذلك .
أقول : السر في ذلك أنه عمل نافع للمسلمين يترتب عليه نصرتهم ، وهو المعنى في الغزو أو الصدقة .
الشهيد يوم القيامة :
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا يكلم أحد في سبيلِ اللّه واللّه أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك » .
أقول : العمل يلتصق بالنفس بهيئته وصورته ويجر ما فيه معنى التضاعف بالنسبة إلى العمل والمجازاة مبناها على تمثل النعمة والراحة بصورة أقرب ما هناك ، فإذا جاء الشهيد يوم القيامة ظهر عليه عمله وتنعم به بصورة ما في العمل .
$[2/461]
الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون :(2/252)
وقال عليه السلام في قوله تعالى : { وَلاً تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } الآية .
« أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل » .
أقول : الذي يقتل في سبيل اللّه يجتمع فيه خصلتان : إحداهما أنه تبقى نسمته وافرة كاملة لم تضمحل علومها التي كانت منغمسة فيها في حياتها الدنيا وإنما هو بمنزلة رجل مشغول بأمر معاشه ينام نومة بخلاف الميت الذي ابتلي بأمراض شديدة تغير مزاجه وتنسيه كثيراً مما كان فيه .
والثانية أنه شملته الرحمة الإِلهية المتوجهة إلى نظام العالم الممتلئ منها حظيرة القدس والملائكة المقربون ، فلما زهقت نفسه وهي ممتلئة من السعي في إقامة دين اللّه فتح بينه وبين حظيرة القدس فيح واسع ، ونزل من هناك الأنس والنعمة والراحة ، وتنفست إليه حظيرة القدس نفساً مثالياً ، فيتمثل الجزاء حسبما عنده ، فتركبت من اجتماع هاتين الخصلتين أمور عجيبة :
منها : أنه تتمثل نفسه معلقة بالعرش بنحو ما ، وذلك لدخوله في حملة العرش وطموح همته إلى ما هناك .
$[2/462]
ومنها : أنه تمثل له بدن طير أخضر ، فكونه طيراً لأنه من الملائكة بمنزلة الطير من دواب الأرض في ظهور أحكام الجنس إجمالاً وكونه أخضر لحسن منظره .
ومنها : أنه تتمثل نعمته وراحته بصورة الرزق كما كان يتمثل النعمة في الدنيا بالفواكه والشواء .
ثم مست الحاجة إلى تمييز ما يفيد تهذيب النفس مما لا يفيده وهو مشتبه به فإن الشرع أتى بأمرين : بانتظام الحي والمدينة والملة وبتكميل النفوس .
من هو المقاتل في سبيل اللّه :
قيل : الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذِّكْر . والرجل يقاتل ليُري مكانه ، فمن يقاتل في سبيل اللّه ؟ قال صلى اللّه عليه وسلم : « من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه » .(2/253)
أقول : وذلك لما ذكرنا من أن الأعمال أجساد ، وأن النيات أرواح لها ، وإنما الأعمال بالنيات ، ولا عبرة بالجسد إلا بالروح ، وربما تفيد النية فائدة العمل وإن لم يقترن بها إذا كان فوته لمانعٍ سماوي دون تفريط منه ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر » ، وإن كان من تفريط فإن النية لم تتم حتى يترتب عليها الأجر .
$[2/463]
البركة في نواصي الخيل :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « البركة في نواصي الخيل » ، وقال عليه السلام : « الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة » .
اعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث بالخلافة العامة ، وغلبة دينه على سائر الأديان لا يتحقق إلا بالجهاد وإعداد آلاته ، فإذا تركوا الجهاد ، واتبعوا أذناب البقر أحاط بهم الذل ؛ وغلب عليهم أهل سائر الأديان .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من احتبس فرساً في سبيل اللّه إيماناً باللّه وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة » .
أقول : ذلك لأنه يتعانى في علفه وشرابه وفي روثه وبوله ، فصار عمله ذلك متصوراً بصورة ما تعانى فيه ، فيظهر يوم القيامة كل ذلك بصورته وهيئته .
يدخل اللّه بالسهم ثلاثة نفر إلى الجنة :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة ، صانعه يحتسب في صنعه والرامي به ومنبِّله » .
وقال عليه السلام : « من رمى بسهم في سبيل اللّه فهو له عدل محرر » ،
$[2/464]
أقول : لما علم اللّه تعالى أن كبت الكفار لا يتم إلا بهذه الأشياء انتقل رضا الحق بإزالة الكفر والظلم إلى هذه .
المتخلفون عن الجهاد لسبب قاهر :
قال اللّه تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا على الْمَرِيضِ حَرَجٌ } .(2/254)
وقال اللّه تعالى : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاً عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يَنْفِقُونَ حَرَجٌ } .
وقال صلى اللّه عليه وسلم لرجل : « ألك والدان ؟ قال نعم ، قال ففيهما فجاهد » .
أقول : لما كان إقبالهم بأجمعهم على الجهاد يفسد ارتفاقاتهم وجب ألا يقوم به إلا البعض ، وإنما تعين غير المعلول بهذه العلل لأن على أصحابها حرجاً وليس فيهم غنية معتدٍّ بها للإسلام بل ربما يخاف الضرر منهم .
قال اللّه تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللّه عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعفاً } .
أقول : إعلاء كلمة اللّه لا يتحقق إلا بأن يوطنوا أنفسهم بالثبات والنجدة والصبر على مشاق القتال ولو جرت العادة بأن يفروا إذا عثروا على مشقة لم يتحقق المقصود بل ربما أفضى إلى الخذلان .
وأيضاً فالفرار جبن وضعف وهو أسوأ الأخلاق .
$[2/465]
الفرق بين الواجب وغيره في الجهاد :
ثم لابد من بيان حد يتحقق به الفرق بين الواجب وغيره ولا تتحقق النجدة والشجاعة إلاَّ إذا كانت أسباب الهزيمة أكثر من أسباب الغلبة فقدر أولاً بعشرة أمثال لأن الكفر يومئذٍ كان أكثر ولم يكن المسلمون إلا أقل شيء فلو رخص لهم الفرار لم يتحقق الجهاد أصلاً ، ثم خفف إلى مثلين لأنه لا تتحقق النجدة والثبات فيما دون ذلك .
سنن الرسول وصحبه في الجهاد :
ثم لما وجب الجهاد لإِعلاء كلمة اللّه وجب ما لا يكون الإِعلاء إلا به ، ولذلك كان سد الثغور وعرض المقاتلة ونصب الأمراء على كل ناحية وثغر واجباً على الإِمام وسنّة متوارثة ، وقد سن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلفاؤه رضي اللّه عنهم في هذا الباب سنناً ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . إذا أمّر أميراً على جيش أو على سرية أوصاه في خاصته بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيراً ، ثم قال : « اغزوا باسم اللّه في سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه اغزوا ولا تغلوا » ، الحديث .
النهي عن الغلول :(2/255)
وإنما نهى عن الغلول لما فيه من كسر قلوب المسلمين واختلاف كلمتهم واختيارهم النهبى على القتال ، وكثيراً ما يفضي ذلك إلى الهزيمة ، وعن الغدر لئلا يرتفع الأمان من عهدهم وذمتهم ولو ارتفع ذهب
$[2/466]
أعظم الفتوح وأقربها وهي الذمة ، وعن المثلة لأنه تغيير خلق اللّه ، وعن قتل الوليد لأنه تضييق على المسلمين وإضرار بهم فإنه لو بقي حياً لصار رقيقاً لهم واتبع السابي في الإِسلام .
وأيضاً فإنه لا ينكأ عدواً ولا ينصر فئة .
دعوة الكفار إلى ثلاث خصال :
والدعوة إلى ثلاث خصال مترتبة : الأولى الإِسلام مع الهجرة والجهاد وحينئذٍ له ما للمجاهدين من الحق في الفيء والمغانم .
الثانية : الإِسلام من غير هجرة ولا جهاد إلا في النفير العام وحينئذٍ
ليس له نصيب في المغانم والفيء ، وذلك لأن الفيء إنما يصرف إلى الأهم فالأهم ، والعادة قاضية بألا يسع بيت المال الصرف إلى المتوطنين في بلادهم غير المجاهدين فلا اختلاف بين هذا وبين قول عمر رضي اللّه عنه : فلئن عشت فليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه يعني إذا فتح كنوز الملوك وجيء من الخراج شيء كثير فيبقى بعد حظ المقاتلة وغيرهم .
الثالثة : أن يكونوا من أهل الذمة ، ويؤدوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون .
فبالأولى : تحصل المصلحتان من نظام العالم ورفع التظالم من بينهم ومن تهذيب نفوسهم بأن يحصل نجاتهم من النار ويكونوا ساعين في تمشية أمر اللّه .
$[2/467]
وبالثانية : النجاة من النار من غير أن ينالوا درجات المجاهدين .
وبالثالثة : زوال شوكة الكفار وظهور شوكة المسلمين ، وقد بعث
النبي صلى اللّه عليه وسلم لهذه المصالح .
على الإِمام أن يعمل لإِظهار شوكة المسلمين :(2/256)
ويجب على الإِمام أن ينظر في أسباب ظهور شوكة المسلمين وقطع أيدي الكفار عنهما ، ويجتهد ، ويتأمل في ذلك فيفعل ما أدى إليه اجتهاده مما عرف هو أو نظيره عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وخلفائه رضي اللّه عنهم ؛ لأن الإِمام إنما جعل لمصالح ، ولا تتم إلا بذلك ، والأصل في هذا الباب سير النبي صلى اللّه عليه وسلم .
ما يجب على الإِمام فعله في أمر الجهاد :
ونحن نذكر حاصل أحاديث الباب :
فنقول : يجب أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ، ويؤمر عليهم رجلاً شجاعاً ذا رأي ناصحاً للمسلمين وإن احتاج إلى حفر خندق أو بناء حصن فعله كما فعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الخندق .
وإذا بعث سرية أمّر عليهمِ أفضلهم أو أنفعهم للمسلمين ، وأوصاه في نفسه وبجماعة المسلمين خيراَكما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . يفعل .
العناية بالجيش :
وإذا أراد الخروج للغزو عرض جيشه ، ويتعاهد الخيل والرجال فلا يقبل من دون خمس عشرة سنة كما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعل ذلك ، ولا مخذلاً وهو الذي يقعد الناس عن الغزو ، ولا مرجفاً وهو الذي يحدث بقوة الكفار ، والأصل فيه قوله تعالى : { كَرهَ اللّه انْبعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ، لَوْ خَرَجُواْ فِيكُمْ ما زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } .
$[2/468]
ولا مشركاً لقوله صلى اللّه عليه وسلم : « إنا لا نستعين بمشرك إلا عند ضرورة ووثوق به » ، ولا امرأة شابة يخاف عليها ، ويأذن للطاعنة في السن لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى ، ويعبي الجيش ميمنة وميسرة .
تنظيم الجيش :
ويجعل لكل قوم راية ، ولكل طائفة أميراً وعريفاً كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . يوم الفتح لأنه أكثر إرهاباً وأقرب ضبطاً .(2/257)
ويعيّن لهم شعاراً يتكلمونه في البيات لئلا يقتل بعضهم بعضاً كما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . يفعل ، ويخرج يوم الخميس أو الاثنين فإنهما يومان يعرض فيهما الأعمال ، وقد ذكرنا من قبل .
عدم إرهاق الجيش :
ويكلفهم من السير ما يطيقه الضعيف إلا عند الضرورة ، ويتخير لهم من المنازل أصلحها وأوفرها ماء .
وينصب الحرس والطلائع إذا خاف العدو ، ويخفي من أمره ما استطاع ، ويوري إلا من ذوي الرأي والنصيحة .
لا تقام الحدود في أرض الكفار :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تقطع الأيدي في الغزو » ، وسره ما بيّنه عمر رضي اللّه عنه ألا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار ، ولأنه كثيراً ما
$[2/469]
يفضي إلى اختلاف بين الناس ، وذلك يخل بمصلحتهم .
ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
لا قتل إلا للمحاربين :
ولا يقتل وليداً . ولا امرأة ، ولا شيخاً فانياً إلا عند ضرورة كالبيات .
ولا يقطع الشجر ، ولا يحرق ، ولا يعقر الدواب إلا إذا تعينت المصلحة في ذلك كالبويرة قرية بني النضير .
ولا يخيس بالعهد ، ولا يحبس البُرُد لأنه سبب انقطاع المراسلة بينهم ، ويخدع فإن الحرب خدعة .
ويهجم عليم غارين ويرميهم بالمنجنيق ، ويحاصرهم ، ويضيق عليهم . ثبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . كل ذلك ، ولأن القتال لا يتحقق إلا به كما .لا حاجة إلى شرحه .
المبارزة جائزة :
ويجوز المبارزة بإذن الإِمام لمن وثق بنفسه كما فعل علي وحمزة رضي اللّه عنهما . وللمسلمين أن يتصرفوا فيما يجدونه هنالك من العلف والطعام من غير أن يخمس لأنه لو لم يرخص فيه لضاق الحال .
$[2/470]
الإِمام مخير في الأسرى بين أربع خصال :
فإذا أسروا أسراء خيّر الإِمام بين أربع خصال : القتل ، والفداء ، والمّن ، والإِرقاق ، يفعل من ذلك الأحظ .
وللإمام أن يعطيهم الأمان ولآحادهم .(2/258)
والأصل فيه قوله تعالى : { وإن أحد منَ الْمُشْرِكِين اسْتَجَارَكَ فَأجرهُ } ، وذلك لأن دخولهم في الإِسلام لا يتحقق إلا بمخالطة المسلمين ومعرفة حجتهم وسيرتهم .
مصالحة تجار دار الحرب :
وأيضاً فكثيراً ما تقع الحاجة إلى تردد التجار وأشباههم ، ويصالحهم بمال وبغير مال فإن المسلمين ربما يضعفون عن مقاتلة الكفار فيحتاجون إلى الصلح وربما يحتاجون إلى المال يتقوون به ، أو إلى أن يأمنوا من شر قوم فيجاهدوا آخرين .
المعصية تتصور يوم القيامة بصورة ما وقعت فيه :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا ألْفَيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول اللّه أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد بلغتك » ، ونحو ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم : « على رقبته فرس له حمحمة وشاة لها يعار ونفس لها صياح ورقاع تخفق » .
$[2/471]
أقول الأصل في ذلك أن المعصية تتصور بصورة ما وقعت فيه ، وأما حمله فثقله والتأذي به ، وأما صوته فعقوبته بإشاعة فاحشته على رؤوس الناس .
معاقبة من يغل :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا وجدتم الرجل قد غلَّ فاحرقوا متاعه كله واضربوه » ، وعمل به أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما .
أقول سره الزجر وكبح الناس أن يفعلوا مثل ذلك .
غنيمة الحرب :
واعلم أن الأموال المأخوذة من الكفار على قسمين : ما حصل منهم بإيجاف الخيلَ والركاب واحتمال أعباء القتال وهو الغنيمة .
وما حصل منهم بغير قتال كالجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجارهم وما بذلوا صلحاً أو هربوا عنه فزعاً .
قسمة الغنيمة :
فالغنيمة تخمس ويصرف الخمس إلى ما ذكر اللّه تعالى في كتابه حيث قال : { واعلمواْ أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقرْبى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } .
فيوضح سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده في مصالح المسلمين الأهم فالأهم .
$[2/472](2/259)
وسهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب الفقير منهم والغني والذكر والأنثى .
وعندي أنه يخير الإِمام في تعيين المقادير ، وكان عمر رضي اللّه عنه يزيد في فرض آل النبي صلى اللّه عليه وسلم من بيت المال ويعين المدين منهم والناكح وذا الحاجة .
وسهم اليتامى لصغير فقير لا أب له .
وسهم الفقراء والمساكين لهم يفوض كل ذلك إلى الإِمام يجتهد في الفرض وتقديم الأهم فالأهم ويفعل ما أدى إليه اجتهاده .
ويقسم أربعة أخماسه في الغانمين يجتهد الإِمام أولاً في حال الجيش فمن كان نفله أوفق بمصلحة المسلمين نفل له ، وذلك بإحدى ثلاث :
أن يكون الإِمام دخل دار الحرب فبعث سرية تغير على قرية مثلاً فيجعل لها الربع بعد الخمس أو الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية رفع خمسه ، ثم أعطى السرية ربع ما غبر أو ثلثه وجعل الباقي في المغانم . وثانيتها : أن يجعل الإِمام جعلاً لمن يعمل عملاً فيه غناء عن المسلمين ، مثلاً أن يقول : من طلع هذا الحصن فله كذا . من جاء بأسير فله كذا . من قتل قتيلاً فله سلبه ، فإن شرط من مال المسلمين أعطى منه . وإن شرط من الغنيمة أعطى من أربعة أخماس .
$[2/473]
وثالثتها : أن يخص الإِمام بعض الغانمين بشيء لغنائه وبأسه كما أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قَرَد سهم الفارس والراجل حيث ظهر منه نفع عظيم للمسلمين .
والأصح عندي أن السلب إنما يستحقه القاتل بجعل الإِمام قبل القتل أو تنفيله بعده .
يخصص عطاء للنساء المشاركات في الجيش :
ونرفع ما ينبغي أن يرضخ دون السهم للنساء يداوين المرضى ، ويطبخن الطعام ، ويصلحن شأن الغزاة وللعبيد والصبيان وأهل الذمة الذين أذن لهم الإِمام إن حصل منهم نفع للغزاة .
وإن عثر على أن شيئاً من الغنيمة كان مال مسلم ظفر به العدو رد عليه بلا شيء .
للفارس ثلاثة أسهم :(2/260)
ثم يقسم الباقي على من حضر الوقعة للفارس ثلاثة أسهم . وللراجل وعندي أنه إن رأى الإِمام أن يزيد لركبان الإِبل أو للرماة شيئاً أو يفضل العراب على البراذين بشيء دون السهم فله ذلك بعد أن يشاور
$[2/474]
أهل الرأي ويكون أمراً لا يختلف عليه لأجله وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضي اللّه عنهم في الباب .
من عمل لمصلحة الجيش يسهم له :
ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد والطليعة والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الوقعة كما كان لعثمان يوم بدر .
مصرف الفيء :
وأما الفيء فمصرفه ما بيّن اللّه تعالى حيث قال : { مَّا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } ، إلى قوله : { رؤوف رحيم } .
ولما قرأها عمر رضي اللّه عنه قال : هذه استوعبت المسلمين فيصرفه إلى الأهم فالأهم ، وينظر في ذلك إلى مصالح المسلمين لا مصلحته الخاصة به .
واختلفت السنن في كيفية قسمة الفيء ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أتاه الفيء قسمه في يومه ، فأعطى الأهل حظين ، وأعطى الأعزب حظاً .
وكان أبو بكر رضي اللّه عنه يقسم للحر وللعبد . يتوخى كفاية الحاجة .
ووضع عمر رضي اللّه عنه الديوان على السوابق والحاجات ، فالرجل وقدمه ، والرجل وبلاؤه ، والرجل وعياله ، والرجل وحاجته .
والأصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف أن يحمل على أنه إنما فعل ذلك على الاجتهاد فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته .
$[2/475]
الأراضي تقسم أو توقف :
والأراضي التي غلب عليها المسلمون للإمام فيها الخيار . إن شاء قسمها في الغانمين ، وإن شاء أوقفها على الغزاة كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخيبر . قسم نصفها ووقف نصفها ، ووقف عمر رضي اللّه عنه أرض السواد ، وإن شاء أسكنها الكفار ذمة لنا .
مقدار الجزية :(2/261)
وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم معاذاً رضي اللّه عنه أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافر ، وفرض عمر رضي اللّه عنه على الموسر ثمانية وأربعين درهماً ، وعلى المتوسط أربعة وعشرين ، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر .
ومن هنا يعلم أن قدره مفوض إلى الإِمام يفعل ما يرى من المصلحة ، ولذلك اختلفت سيرهم ، وكذلك الحكم عندي في مقادير الخراج وجميع ما اختلفت فيه سير النبي صلى اللّه عليه وسلم وخلفائه رضي اللّه عنهم .
الحكمة في إباحة الغنيمة والفيء :
وإنما أباح اللّه لنا الغنيمة والفيء لما بيّنه النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث قال : « لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ، ذلك بأن اللّه رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه فضل أمتي على الأمم وأحل لنا الغنائم » ، وقد شرحنا هذا في القسم الأول فلا نعيده .
$[2/476]
المقصود من المصارف :
والأصل في المصارف أن أمهات المقاصد أمور :
منها : إبقاء ناس لا يقدرون على شيء لزمانة أو لاحتياج مالهم أو بعده منهم .
ومنها : حفظ المدينة عن شر الكفار بسد الثغور ونفقات المقاتلة والسلاح والكراع .
ومنها : تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة الحدود والحسبة .
ومنها : حفظ الملة بنصب الخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين .
ومنها : منافع مشتركة كَكَرْي الأنهار وبناء القناطر ونحو ذلك .
البلاد على قسمين :
وأن البلاد على قسمين : قسم تجرد لأهل الإِسلام كالحجاز ، أو غلب عليه المسلمون ، وقسم أكثر أهله الكفار فغلب عليهم المسلمون بعنوة أو صلح .
والقسم الثاني : يحتاج إلى شيء كثير من جمع الرجال وإعداد آلات القتال ونصب القضاة والحرس والعمال .
والأول : لا يحتاج إلى هذه الأشياء كاملة وافرة .
$[2/477]
الشرع يوزع المال بحكمة :(2/262)
وأراد الشرع أن يوزع بيت المال المجتمع في كل بلاد على ما يلائمها فجعل مصرف الزكاة والعُشر ما يكون فيه كفاية المحتاجين أكثر من غيرها ، ومصرف الغنيمة والفيء ما يكون فيه إعداد المقاتلة وحفظ الملة وتدبير المدينة أكثر ، ولذلك جعل سهم اليتامى والمساكين والفقراء من الغنيمة وِالفيء أقل من سهمهم من الصدقات وسهم الغزاة منهما أكثر من سهمهم منها .
ثم الغنيمة إنما تحصل بمعاناة وإيجاف خيل وركاب فلا تطيب قلوبهم إلا بأن يعطوا منها . والنواميس الكلية المضروبة على كافة الناس لابد فيها من النظر إلى حال عامة الناس . ومن ضم الرغبة الطبيعية إلى الرغبة العقلية ولا يرغبون إلا بأن يكون هناك ما يجدونه بالقتال ، فلذلك كان أربعة أخماسها للغانمين والفيء إنما يحصل بالرعب دون مباشرة القتال فلا يجب أن يصرف على ناس مخصوصين فكان حقه أن يقدم فيه الأهم فالأهم .
شرع اللّه الخمس بدل المرباع :
والأصل في الخُمس أنه كان المرباع عادة مستمرة في الجاهلية يأخذه رئيس القوم وعصبته فتمكن ذلك في علومهم وما كادوا يجدون في أنفسهم حرجاً منه ، وفيه قال القائل :
وإن لنا المرباع من كل غارة ……تكون بنجد أو بأرض التهائم
$[2/478]
فشرع اللّه تعالى الخمس لحوائج المدينة والملة نحواً مما كان عندهم كما أنزل الآيات على الأنبياء عليهم السلام نحواً مما كان شائعاً ذائعاً فيهم ، وكان المرباع لرئيس القوم وعصبته تنويهاً بشأنهم ولأنهم مشغولون بأمر العامة محتاجون إلى نفقات كثيرة .
الخمس لرسول اللّه :
فجعل اللّه الخمس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنه عليه السلام مشغول بأمر الناس لا يتفرغ أن يكتسب لأهله ، فوجب أن تكون نفقته في مال المسلمين ، ولأن النصرة حصلت بدعوة النبي صلى اللّه عليه وسلم والرعب الذي أعطاه اللّه إياه ، فكان كحاضر الوقعة .
ما يأخذه ذوو القربى :(2/263)
ولذوي القربى لأنهم أكثر الناس حمية للإسلام حيث اجتمع فيهم الحمية الدينية إلى الحمية النسبية فإنه لا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولأن في ذلك تنويه أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وتلك مصلحة راجعة إلى الملة ، وإذا كان العلماء والقراء يكون توقيرهم تنويهاً بالملة يجب أن يكون توقير ذوي القربى كذلك بالأولى .
وللمحتاجين وضبطهم بالمساكين والفقراء واليتامى .
وقد ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس .
وعلى هذا فتخصيص هذه الخمسة بالذكر للاهتمام بشأنها ، والتوكيد ألا يتخذ الخمس والفيء أغنياؤهم دولة فيهملوا جانب المحتاجين ،
$[2/479]
ولسد باب الظن السيِّئ بالنسبة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقرابته .
وإنما شرعت الأنفال والأرضاخ لأن الإِنسان كثيراً ما يقدم على مهلكة إلا لشيء لا يطمع فيه ، وذلك ديدن وخلق للناس لابد من رعايته .
للفارس ثلاثة أسهم :
وإنما جعل للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأن غناء الفارس عن المسلمين أعظم ومؤنته أكثر وإن رأيت حال الجيوش لم تشك أن الفارس لا يطيب قلبه ولا تكفي مؤنته إذا جعلت جائزته دون ثلاثة أضعاف سهم الراجل لا يختلف فيه طوائف العرب والعجم على اختلاف أحوالهم وعاد اتهم .
إخراج أهل الكتاب من جزيرة العرب :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لئن عشت إن شاء اللّه لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب » ، وأوصى بإخراج المشركين منها .
أقول : عرف النبي صلى اللّه عليه وسلم أن الزمان دول وسجال فربما ضعف الإِسلام وانتشر شمله فإن كان العدو في مثل هذا الوقت في بيضة الإِسلام ومحتده أفضى ذلك إلى هتك حرمات اللّه وقطعها فأمر بإخراجهم من حوالي دار العلم ومحل بيت اللّه .
وأيضاً المخالطة مع الكفار تفسد على الناس دينهم وتغير نفوسهم ، ولما لم يكن بد من المخالطة في الأقطار أمر بتنقية الحرمين منهم ، وأيضاً
$[2/480](2/264)
انكشف عليه صلى اللّه عليه وسلم ما يكون في آخر الزمان فقال : « إن الدين ليأرز إلى المدينة » ، الحديث ولا يتم ذلك إلا بألا يكون هناك من أهل سائر الأديان ، واللّه أعلم .
$[2/481]
من أبواب المعيشة
الناس متفقون على مراعاة آداب المعيشة :
اعلم أن جميع سكان الأقاليم الصالحة اتفقوا على مراعاة آدابهم في مطعمهم ، ومشربهم ، وملبسهم ، وقيامهم ، وقعودهم ، وغير ذلك من الهيئات والأحوال . وكان ذلك كالأمر المفطور عليه الإِنسان عند سلامة مزاجه وظهور مقتضيات نوعه عند اجتماع أفراد منه ، وتراءى بعضها لبعض وكانت لهم مذاهب في ذلك .
آداب المعيشة مختلفة :
فكان منهم من يسويها على قواعد الحكمة الطبيعية فيختار في كل ذلك ما يُرجى نفعه ولا يخشى ضرره بحكم الطب والتجربة ، ومنهم من يسويها على قوانين الإِحسان حسبما تعطيه ملته ، ومنهم من يريد محاكاة ملوكهم وحكمائهم ورهبانهم ، ومنهم من يسويها على غير ذلك .
آداب المعيشة بعضها نافع وبعضها ضار :
وكان في بعض ذلك منافع يجب التنبيه عليها والأمر به لأجلها ، وفي البعض الأخر مفاسد يجب أن ينهى عنها لأجلها وينبه عليها ، والبعض الأخر غفل من المعنيين يجب أن يبقى على الإِباحة ويرخص فيه فكان
$[2/482]
تنقيحها والتفتيش عنها إحدى المصالح التي بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم لها .
ذكر اللّه عند الاشتغال بالمعيشة :
والعمدة في ذلك أمور :
فمنها أن الاشتغال بهذه الأشغال ينسي ذكر اللّه ويكدر صفاء القلب فيجب أن يعالج هذا السم بترياق ، وهو أن يسن قبلها وبعدها ومعها أذكار تردع النفس عن اطمئنانها بها بأن يكون فيها ما يذكر المنعم الحقيقي ويميل الفكر إلى جانب القدس .
الامتناع عن بعض الأفعال والهيئات :(2/265)
ومنها : أن بعض الأفعال والهيئات تناسب أمزجة الشياطين من حيث إنهم لو تمثلوا في منام أحد أو يقظته لتلبسوا ببعضها لا محالة ، فتلبس الإِنسان بها معد للتقرب منهمِ وانطباع ألوانها الخسيسة في نفوسهم فيجب أن يمنع عنها كراهة أو تحريماً حسبما تحكم به المصلحة كالمشي في نعل واحدة والأكل باليد اليسرى ، وبعضها مطردة للشياطين مقربة من الملائكة كالذكر عند ولوج البيت والخروج منه ، ويجب أن يحض عليها .
الامتناع عن هيئات فيها أذى :
ومنها : الاحتراز عن هيئات يتحقق فيها التأذي بحكم التجربة كالنوم على سطح غير محجور وترك المصابيح عند النوم ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « فإن الفويسقة تضرم على أهلها » .
$[2/483]
الامتناع عن عادات الأعاجم الضارة :
ومنها : مخالفة الأعاجم فيما اعتادوه من الترفه البالغ والتعمق في الاطمئنان بالحياة الدنيا فأنساهم ذكر اللّه وأوجب الإِكثار من طلب الدنيا وتشبح اللذات في نفوسهم فيجب أن يخص رؤوس تعمقاتهم بالتحريم كالحرير ، والقسي ، والمياثر ، والأرجوان ، والثياب المصنوعة فيها الصور ، وأواني الذهب ، والفضة ، والمعصفر ، والخلوق ونحو ذلك ، وأن يعم سائر عاداتهم بالكراهية ، ويستحب ترك كثير من الإِرفاه .
الاحتراز عن الهيئات التي تنافي الوقار :
ومنها : الاحتراز عن هيئات تنافي الوقار وتلحق الإِنسان بأهل البادية ممن لم يتفرغوا لأحكام النوع ليحصل التوسط بين الإفراط والتفريط .
الأطعمة والأشربة
حفظ الصحة النفسانية :
اعلم أنه لما كانت سعادة الإِنسان في الأخلاق الأربعة التي ذكرناها وشقاوته في أضدادها أوجب حفظ الصحة النفسانية وطرد المرضى النفساني أن يفحص عن أسباب تغير مزاجه إلى إحدى الوجهتين .
$[2/484]
فمنها : أفعال تتلبس بها النفس وتدخل في جذر جوهرها ، وقد بحثنا عن جملة صالحة من هذا الباب .
هناك أمور تولد في النفس هيئات دنية :(2/266)
ومنها : أمور تولد في النفس هيئات دنية توجب مشابهة الشياطين والتبعد من الملائكة وتحقق أضداد الأخلاق الصالحة من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون ، فتلقت النفوس اللاحقة بالملأ الأعلى التاركة للألواث البهيمية من حظيرة القدس بشاعة تلك الأمور كما تلقى الطبيعة كراهية المر والبشع ، وأوجب لطف اللّه ورحمته بالناس أن يكلفهم برؤوس تلك الأمور ، والذي هو منضبط منها وأثرها جلي غير خاف فيهم .
المأكول سبب تغير البدن والأخلاق :
ولما كان أقوى أسباب تغير البدن والأخلاق المأكول وجب أن يكون رؤوسها من هذا الباب ، فمن أشد ذلك أثراً تناول الحيوان الذي مسخ قوم بصورته .
وذلك أن اللّه تعالى إذا لعن الإِنسان وغضب عليه أورث غضبه ولعنه فيه وجود مزاج هو من سلامة الإِنسان على طرف شاسع وصقع بعيد حتى يخرج من الصورة النوعية بالكلية فذلك أحد وجوه التعذيب في بدن الإنسان .
ويكون خروج مزاجه عند ذلك إلى مشابهة حيوان خبيث يتنفر منه الطبع السليم فيقال في مثل ذلك مسخ اللّه قردة وخنازير فكان في حظيرة
$[2/485]
القدس علم متمثل أن بين هذا النوع من الحيوان وبين كون الإِنسان مغضوباً عليه بعيداً من الرحمة مناسبة خفية وأن بينه وبين الطبع السليم الباقي على فطرته بوناً بائناً .
فلا جرم أن تناول هذا الحيوان وجعله جزء بدنه أشد من مخامرة النجاسات والأفعال المهيجة للغضب ولذلك لم يزل تراجمة حظيرة القدس نوح فمن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يحرمون الخنزير ويأمرون بالتبعد منه إلى أن يتنزل عيسى عليه السلام فيقتله .
ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه وهجر أمره أشد ما يكون ، والقردة .(2/267)
والفأرة لم تكن تؤكل قط فكفى ذلك عن التأكيد الشديد ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم في الضب : « إن اللّه غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض فلا أدري لهل هذا منها » ، وقال اللّه تعالى : { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } .
كراهية المكث بأرض وقع فيها العذاب :
ونظيره ما ورد من كراهية المكث بأرض وقع فيها الخسف أو العذاب ، وكراهية هيئات المغضوب عليهم فإن مخامرة هذه الأشياء
$[2/486]
ليست أدنى من مخامرة النجاسات ، والتلبس بها ليس أقل تأثيراً من التلبس بالهيئات التي يقتضيها مزاج الشيطان .
حرمة تناول الحيوان ذي الأخلاق الخبيثة :
ويلوه تناول حيوان جبل على الأخلاق المضادة للأخلاق المطلوبة من الإِنسان حتى صار كالمندفع إليها بضرورة ، وصار يضرب به المثل ، وصارت الطبائع السليمة تستخبثه وتأبى تناوله اللّهم إلا قوم لا يعبأ بهم ، والذي تكامل فيه هذا المعنى وظهر ظهوراً بيناً وانقاد له العرب والعجم جميعاً أشياء :
منها : السباع المخلوقة على الخدش ، والجرح ، والصولة ، وقسوة القلب ، ولذلك قال عليه السلام في الذئب : « أو يأكله أحد » ؟ .
ومنها : الحيوانات المجبولة على إيذاء الناس والاختطاف منهم وانتهاز الفرص للإغارة عليهم وقبول إلهام الشياطين في ذلك كالغراب ، والحديات ، والوزغ ، والذباب ، والحية ، والعقرب ونحو ذلك .
ومنها : حيوانات جبلت على الصَّغار والهوان والتستر في الأخدود كالفأرة وخشاش الأرض .
ومنها : حيوانات تتعيش بالنجاسات أو الجيفة ومخامرتها وتناولها حتى امتلأت أبدانها بالنتن .
ومنها : الحمار فإنه يضرب به المثل في الحمق والهوان وكان كثير
$[2/487](2/268)
من أهل الطبائع السليمة من العرب يحرمونه ويشبه الشياطين ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا باللّه من الشيطان فإنه رأى شيطاناً » . وأيضاً قد اتفق الأطباء أن هذه الحيوانات كلها مخالفة لمزاج نوع الإنسان لا يسوغ تناولها طِبًّا .
حرمة أكل ما ذبح لغير اللّه :
واعلم أن هاهنا أموراً مبهمة تحتاج إلى ضبط الحدود وتمييز المشكل .
منها : أن المشركين كانوا يذبحون لطواغيتهم يتقربون به إليها وهذا نوع من الإشراك فاقتضت الحكمة الإِلهية أن ينهى عن هذا الإِشراك ، ثم يؤكد التحريم بالنهي عن تناول ما ذبح لها ليكون كابحاً عن ذلك الفعل .
وأيضاً فإن قبح الذبح يسري في المذبوح لما ذكرنا في الصدقة ، ثم المذبوح للطواغيت أمر مبهم ضبط : بما أهل لغير اللّه به ، وبما ذبح على النصب ، وبما ذبحه غير المتدين بتحريم الذبح بغير اسم اللّه وهم المسلمون وأهل الكتاب ، وجر ذلك أن يوجب ذكر اسم اللّه عند الذبح لأنه لا يتحقق الفرقان بين الحلال والحرام بادي الرأي إلا عند ذلك .
وأيضاً فإن الحكمة الإلهية لما أباحت لهم الحيوانات التي هي مثلهم في الحياة وجعل لهم الطَوْل عليها أوجبت ألا يغفلوا عن هذه النعمة عند
$[2/488]
إزهاق أرواحها ، وذلك أن يذكروا اسم اللّه عليها ، وهو قوله تعالى : { لِيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّه عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } .
حرمة أكل الميتة :
ومنها : أن الميتة حرام في جميع الملل والنحل ، أما الملل فاتفقت عليها لما تلقى من حظيرة القدس أنها من الخبائث ، وأما النحل فلما أدركوا أن كثيراً منها يكون بمنزلة السم من أجل انتشار أخلاط سمية تنافي المزاج الإِنساني عند النزع ، ثم لابد من تمييز الميتة من غيرها فضبط بما قصد إزهاق روحه للأكل فجر ذلك إلى تحريم المتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنها كلها خبائث مؤذية .
الذبح والنحر سنة الأنبياء :(2/269)
ومنها : أن العرب واليهود كانوا يذبحون وينحرون وكان المجوس يخنقون ويبعجون والذبح والنحر سنّة الأنبياء عليهم الملام توارثوهما ، وفيهما مصالح .
منها : إراحة الذبيحة فإنه أقرب طريق لإِزهاق الروح ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « فليرح ذبيحته » ، وهو سر النهي عن شريطة الشيطان .
ومنها : أن الدم أحد النجاسات التي يغسلون الثياب إذا أصابها ويحفظون منها والذبح تطهير للذبيحة منها ، والخنق والبعج تنجيس لها به .
$[2/489]
ومنها : أنه صار ذلك أحد شعائر الملة الحنيفية يعرف به الحنيفي من غيره فكان بمنزلة الختان وخصال الفطرة ، فلما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم مقيماً للملة الحنيفية وجب الحفظ عليه ، ثم لابد من تمييز الخنق والبعج من غيرهما ولا يتحقق إلا بأن يوجب المحدد وإن يوجب الحلق واللبة فهذا ما نهى عنه لأجل حفظ الصحة النفسانية والمصلحة الملية ، أما الذي ينهى عنه لأجل الصحة البدنية كالسموم والمفترات فحالها ظاهر .
النهي عن صنفين من الحيوان :
وإذا تمهدت هذه الأصول حان أن نشتغل بالتفصيل ، فنقول : ما نهى اللّه عنه من المأكول صنفان : صنف نهى عنه لمعنى في نوع الحيوان . وصنف نهى عنه لفقد شرط الذبح .
الحيوان الأهلي المباح :
فالحيوان على أقسام : أهلي يباح منه الإِبل والبقر والغنم . وهو قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ } .
وذلك لأنها طيبة معتدلة المزاج موافقة لنوع الإِنسان ، وأذن يوم خيبر في الخيل ونهي عن الحمر ، وذلك لأن الخيل يستطيبه العرب والعجم وهو أفضل الدواب عندهم ويشبه الإِنسان ، والحمار يضرب به المثل في الحمق والهوان وهو يرى الشيطان فينهق . وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة وأطيبهم نفساً ، وأكل صلى اللّه عليه وسلم لحم الدجاج ، وفي معناها الأوز والبط لأنها من
$[2/490]
الطيبات ، والديك يرى الملك فيصقع ، ويحرم الكلب والسِّنَّوْر لأنهما من السباع ويأكلان الجيف ، والكلب شيطان .(2/270)
الحيوان الوحشي الشبيه بالأهلي :
ووحشي يحل منه ما يشبه بهيمة الأنعام في اسمها ووصفها كالظباء والبقر الوحشي والنعامة ، وأهدي له صلى اللّه عليه وسلم لحم الحمار الوحشي فأكله والأرنب فقبله ، وأكل الضب على مائدته لأن العرب يستطيبون هذه الأشياء ، واعتذر في الضب تارة بأنه : « لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه » ، وتارة باحتمال المسخ ونهى عنه تارة .
وليس فيها عندي تناقض لأنه كان فيه وجهان جميعاً كل واحد كافٍ في العذر لكن ترك ما فيه الاحتمال ورع من غير تحريم ، وأراد بالنهي الكراهة التنزيهية .
حرمة لحم كل ذي ناب :
ونهى عن كل ذي ناب من السباع لخروج طبيعتها من الاعتدال ولشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها .
حرمة لحم كل ذي مخلب :
وطير يباح منه الحمام والعصفور لأنهما من المستطاب ، ونهى عن كل ذيِ مخلب وسمّى بعضها فاسقاً فلا يجوز تناوله ويكره ما يأكل الجيف والنجاسة وكل ما يستخبثه العرب لقوله تعالى : { وَيحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } .
$[2/491]
وأكل الجراد في عهده صلى اللّه عليه وسلم لأن العرب يستطيبونه .
حل أسماك البحر :
وبحري يباح منه ما يستطيبه العرب كالسمك والعنبر .وأما ما يستخبثه العرب ويسميه باسم حيوان محرم كالخنزير ففيه تعارض الدلائل والتعفف أفضل .
حكم السمن الذي ماتت فيه فأرة :
وسئل صلى اللّه عليه وسلم عن السمن ماتت فيه الفأرة فقال : « ألقوها وما حولها وكلوه » ، وفي رواية : « إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه » .
حكم الجيفة وما تأثر منها :
أقول : الجيفة وما تأثر منها خبيث في جميع الأمم والملل فإذا تميز الخبيث من غيره ألقي الخبيث وأكل الطيب . وإن لم يمعن التميز حرم كله .
حرمة أكل الجلالة :
ونهى عليه السلام عن أكل الجلالة وألبانها ، أقول ذلك لأنها لما شربت أعضاؤها النجاسة وانتشرت في أجزائها كان حكمها حكم النجاسات أو حكم من يتعيش بالنجاسة .(2/271)
$[2/492]
أحلت ميتتان ودمان :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان الحوت والجراد والدمان الكبد والطحال » .
أقول : الكبد والطحال عضوان من أعضاء بدن البهيمة لكنهما يشبهان الدم فأزاح النبي صلى اللّه عليه وسلم . الشبهة فيهما وليس في الحوت والجراد دم مسفوح فلذلك لم يشرع فيهما الذبح .
الأمر بقتل بعض الحيوان :
وأمر صلى اللّه عليه وسلم بقتل الوزغ وسماه فاسقاً ، وقال : « كان ينفخ على إبراهيم » ، وقال : « من قتل وزغاً في أول ضربة كتب له كذا وكذا وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك » .
أقول : بعض الحيوان جبل بحيث يصدر منه أفعال وهيئات شيطانية وهو أقرب الحيوان شبهاً بالشيطان وأطوعه لوسوسته ، وقد علم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن منه الوزغ ونبّه على ذلك بأنه كان ينفخ على إبراهيم لانقياده بحسب الطبيعة لوسوسة الشيطان وإن لم ينفع نفخه في النار شيئاً ، وإنما رغب في قننه لمعنيين :
أحدهما : أن فيه دفع ما يؤذي نوع الإِنسان فمثله كمثل قطع أشجار السموم من البلدان ونحو ذلك مما فيه جمع شملهم .
والثاني : أن فيه كسر جند الشيطان ونقض وكرّ وسوسته ، وذلك
$[2/493]
محبوب عند اللّه وملائكته المقربين ، وإنما كان القتل في أول ضربة أفضل من قتله في الثانية لما فيه من الحذاقة والسرعة إلى الخير ، واللّه أعلم .
المحرم أكله في نص القران الكريم :
قال اللّه تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْر اللّه بِهِ وَالْمَنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذةُ وَالْمُتَرَديَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَيَتمْ وَمَا ذُبح عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِاْلأزْلام ذَلِكُمْ فِسْق } .
أقول : فالميتة والدم لأنهما نجسان ، والخَنزير لأنه حيوان مسخ بصورته قوم .(2/272)
{ وما أهل لغير اللّه به } ، { وما ذبح على النصب } ، يعني الأصنام قطعاً لدابر الشرك ، ولأن قبح الفعل يسري في المفعول به .
و « المنخنقة » : وهي التي تخنق فتموت .
و « المتردية » : وهي التي تقع من الأعلى إلى الأسفل .
و « النطيحة » : وهي التي قتلت نطحاً بالقرون .
$[2/494]
{ وما أكل السبع } ، فبقي منه لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلقه أو لبته فجر ذلك إلى تحريم هذه الأشياء .
وأيضاً فإن الدم المسفوح ينتشر فيه ويتنجس جميع البدن .
{ إلا ما ذكيتم } ، أي وجدتموه قد أصيب ببعض هذه الأشياء ، وفيه حياة مستقرة فذبحتموه فكان إزهاق روحه بالذبح .
{ وأن تستقسموا بالأزلام } ، أي تطلبوا علم ما قسم لكم من الخير والشر بالقداح التي كان أهل الجاهلية يجيلونها ، في أحدها افعل والثاني لا تفعل ، والثالث غفل فإن ذلك افتراء على اللّه واعتماد على جهل .
حرمة أكل لحم المصبورة :
ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تصبر بهيمة وعن أكل المصبورة .
أقول : كان أهل الجاهلية يصبرون البهائم يرمونها بالنبل ، وفي ذلك إيلام غير محتاج إليه ولأنه لم يصر قرباناً إلى اللّه ولا شكر به نعم اللّه .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه كتب الإِحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » .
أقول : في اختيار أقرب طريق لإِزهاق الروح اتباع داعية الرحمة وهي
$[2/495]
خَلة يرضى بها رب العالمين ويتوقف عليها أكثر المصالح المنزلية والمدنية .
النهي عن أكل ما قطع من البهيمة الحية :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « ما يقطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة » .
أقول : كانوا يجبون أسنمة الإبل ويقطعون إليات الغنم وفي ذلك تعذيب أو مناقضة لما شرع اللّه من الذبح ، فنهى عنه .
النهي عن قتل الطير لغير مأكلة :(2/273)
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من قتل عصفوراً فما فوقه بغير حقه سأله اللّه عز وجلّ عن قتله ، قيل : يا رسول اللّه وما حقه ؟ قال : أن يذبحه فيأكله ولا يقطع رأسه فيرمي به » .
أقول : هاهنا شيئان مشتبهان لابد من التمييز بينهما :
أحدهما : الذبح للحاجة واتباع داعية إقامة مصلحة نوع الإِنسان .
والثاني : السعي في الأرض بإفساد نوع الحيوان واتباع داعية قسوة القلب .
الصيد مباح شرعاً :
واعلم أنه كان الاصطياد ديدناً للعرب وسيرة فاشية فيهم حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم فأباحه النبي صلى اللّه عليه وسلم وبيّن ما في إكثاره بقوله : « من اتبع الصيد لها » .
$[2/496]
صيد مأكول اللحم :
وأحكام الصيد تبنى على أنه محمول على الذبح في جميِع الشروط إلا فيما يعسر الحفظ عليه ويكون أكثر سعيهم أن اشترط باطلاً فيشترط التسمية على إرسال الجارح أو الرمي ونحوها .
ويشترط أهلية الصائد ولا يشترط الذبح ولا الحلق واللبة وعلى تحقيق ذاتيات الاصطياد كإرسال الجارح المعلم قصداً وإلا كان ظفراً بالصيد اتفاقاً لا اصطياداً ، وكون الجارح لم يأكل منه فإن أكل فأدرك حيًّا وذكي حل وإلا لا ، وذلك تحقيقاً لمعنى المعلم وتميزاً له مما أكل السبع .
أحكام الصيد :
وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أحكام الصيد والذبائح فأجاب بالتخريج على هذه الأصول .
قيل : إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي ؟ قال صلى اللّه عليه وسلم : « أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم اللّه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم اللّه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم وأدركت ذكاته فكل » .
قوله صلى اللّه عليه وسلم : « فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها » .
أقول : ذلك تحرياً للمختار وراحة للقلب من الوساوس .(2/274)
$[2/497]
متى يؤكل صيد الكلب :
وقيل : يا رسول اللّه إنا نرسل الكلاب المعلمة قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا أرسلت كلبك فأذكر اسم اللّه فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله » .
الصيد يجده صاحبه في اليوم التالي :
قيل : يا رسول اللّه أرمي الصيد فأجد فيه من الغد سهمي قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا علمت أن سهمك قتله ولم ترَ فيه أثر سبع فكل » ، وفي رواية : « وإذا رميت سهمك فأذكر اسم اللّه فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل » .
لا يؤكل ما رمي بالمعراض :
قيل : « إنا نرمي بالمعراض قال صلى اللّه عليه وسلم : كل ما خزق وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل » .
لحم حديثي العهد بالشرك :
قيل : « يا رسول اللّه إن هنا أقواماً حديث عهدهم بشِرْك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم اللّه عليها أم لا ، قال صلى اللّه عليه وسلم : اذكروا أنتم اسم اللّه وكلوا » .
الذبح بالقصب :
أقول : أصله أن الحكم على الظاهر ، قيل : « إنا لاقو العدو غداً وليست معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ قال صلى اللّه عليه وسلم : ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك عنه أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبش » .
$[2/498]
رمي الإِبل الأوابد بالسهم :
وند بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن لهذه الإِبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا » ، أقول : لأنه صار وحشياً فكان حكمه حكم الصيد .
وسئل صلى اللّه عليه وسلم عن شاة أبصرت جارية بها موتاً فكسرت حجراً فذبحتها فأمر بأكلها .
قيل : « إن من الطعام طعاماً أتحرج منه ؟ قال : لا يختلجن في صدرك شيء ، ضارعت فيه النصرانية » .(2/275)
قيل : « يا رسول ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله ؟ قال صلى اللّه عليه وسلم : كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه » .
آداب الطعام
البركة في الطعام :
واعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم علّم آداباً يتأدبون فيها في الطعام .
$[2/499]
قال صلى اللّه عليه وسلم : « بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « كيلوا طعامكم يبارك لكم » .
وقال عليه السلام : « إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها » .
أقول : من البركة أن تشبع النفس ، وتقر العين ، وينجمع الخاطر ، ولا يكون هاعاً لاعاً كالذي يأكل ولا يشبع .
تفصيل ذلك أنه ربما يكون رجلان عند كل منهما مائة درهم ، أحدهما يخشى العيلة ويطمع في أموال الناس ولا يهتدي لصرف ماله فيما ينفعه في دينه ودنياه ، والآخر متعفف يحسبه الجاهل غنياً مقتصداً في معيشته منجمعاً في نفسه .
فالثاني بورك له في ماله ، والأول لم يبارك له ، ومن البركة أن يصرف الشيء في الحاجة ويكفي عن أمثاله .
تفصيله أنه ربما يكون رجلان يأكل كل واحد رطلا يصرف طبيعة أحدهما إلى تغذية البدن ويحدث في معدة الآخر آفة فلا ينفعه ما أكل بل ربما صار ضاراً ، وربما يكون لكل منهما مال فيصرف أحدهما في مثل ضيعة كثيرة الريف ويهتدي لتدبير المعاش ، والثاني يبذر تبذيراً فلا يقع من حاجته في شيء .
وإن لهيئات النفس وعقائدها مدخلاً في ظهور البركة ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « فمن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع » .
$[2/500]
ولذلك تزلق رجل الماشي على الجذع في الجو دون الأرض فإذا أقبل على شيء بالهمة وأراد به أن يقع كفاية عن حاجته وجمع نفسه في ذلك كان سبب قرة عينه وانجماع خاطره وتعفف نفسه ، وربما يسري ذلك إلى الطبيعة فصرفت فيما لابد منه .(2/276)
فإذا غسل يديه قبل الطعام ونزع النعلين واطمأن في مجلسه وأخذه اعتداداً به وذكر اسم اللّه أفيضت عليه البركة .
وإذا كال الطعام وعرف مقداره واقتصد في صرفه ، وصرفه على عينه كان أدنى أن يكفيه أقل مما لا يكفي الآخرين .
وإذا جعل الطعام بهيئة منكرة تعافها الأنفس ولا تعتد به لأجلها كان أدنى ألا يكفي أكثر مما يكفي الآخرين . كيف ولا أظن أن أحداً يخفى عليه أن الإِنسان ربما يأكل الرغيف كهيئة المتفكه أو يأكله وهو يمشي ويحدث فلا يجد له بالاً ولا يرى نفسه قد اغتذت ولا تشبع به نفسه وإن امتلأت المعدة وربما يأخذ مقدار الرطل جزافاً فيكون الزائد يستوي وجوده وعدمه ولا يقع من الحاجة في شيء ويجد الطعام بعد حين وقد ظهر فيه النقصان .
وبالجملة لوجود البركة وعدمها أسباب طبيعية يمد في ضمنها ملك كريم أو شيطان رجيم ، وينفخ في هيكلها روح ملكي أو شيطاني ، واللّه أعلم .
غسل اليد قبل الطعام وبعده :
أما غسل اليد قبل الطعام ففيه إزالة الوسخ ، وأما غسلها بعده ففيه
$[2/501]
إزالة الغمر وكراهية أن يفسد عليه ثيابه أو يخدشه سبع أو تلدغه هامة ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « من بات وفي يده غمر لم يغسله فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه » .
الأكل باليد اليمنى :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم اللّه عليه » .
التسمية قبل الطعام وبعده :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر اسم اللّه على طعامه فليقل بسم اللّه أوله وآخره » ، وقال فيمن فعل ذلك : « ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم اللّه استقاء ما في بطنه » .(2/277)
وقال عليه السلام : « إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط » ، ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان » .
أقول من العلم الذي أعطاه اللّه نبيه حال الملائكة والشياطين وانتشارهم في الأرض يتلقى هؤلاء من الملأ الأعلى إلهامات خير فيوحونه إلى بني آدم ، وينبجس من مزاج الشياطين آراء فاسدة تميل إلى فساد
$[2/502]
النظامات الفاضلة ومعصية حكم الوقار وما تقتضيه الطبيعة السليمة فيفعلون ذلك ويوحونه إلى أوليائهم من الأنس .
فمن حال الشياطين أنهم إذا تمثلوا في المنام أو اليقظة تمثلوا بهيئات منكرة تتنفر منها الطبائع السليمة كالأكل بالشمال ، وكصورة الأجدع ونحو ذلك .
ومنها : أنه قد تنطبع في نفوسهم هيئات دنية تنبجس في بني آدم من البهيمية كالجوع والشبق ، فإذا حدثت فيهم اندفعوا إلى اختلاط بتلك الحاجات وتلفع بها ومحاكاة ما يفعله الإِنس عندها ويتخيلون في ذلك قضاء تلك الشهوة يقضون بذلك أوطارهم ، فيصير الولد الذي حصل من جماع اشترك فيه الشياطين وقضوا عنده وطرهم قليل البركة ماثلاً إلى الشيطنة ، والطعام » ، الذي باشروه وقضوا به وطرهم قليل البركة ولا ينفع الناس بل ربما يضرهم وذكر اسم اللّه والتعوذ باللّه مضاد بالطبع لهم ، ولذلك ينخنسون عمن ذكر اللّه وتعوذ به .
وقد اتفق لنا أنه زارنا ذات يوم رجل من أصحابنا فقربنا إليه شيئاً ، فبينا يأكل إذا سقطت كسرة من يده وتدهدهت في الأرض فجعل يتبعها وجعلت تتباعد عنه حتى تعجب الحاضرون بعض العجب وكابد هو في تتبعها بعض الجهد ، ثم إنه أخذها فأكلها فلما كان بعد أيام تخبط الشيطان
$[2/503]
إنساناً وتكلم على لسانه فكان فيما تكلم أني مررت بفلان وهو يأكل فأعجبني ذلك الطعام فلم يطعمني شيئاً فخطفته من يده فنازعني حتى أخذه مني .(2/278)
وبينا يأكل أهل بيتنا أصول الجزر إذ تدهده بعضها فوثب عليه إنسان فأخذه وأكله فأصابه وجع في صدره ومعدته ثم تخبطه الشيطان فأخبر على لسانه أنه كان أخذ ذلك المتدهده ، وقد قرع أسماعنا شيء كثير من هذا النوع حتى علمنا أن هذه الأحاديث ليست من باب إرادة المجاز وإنما أريد بها حقيقتها ، واللّه أعلم .
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء » ، وفي رواية : « وإنه يتقي بجناحيه الذي فيه الداء » . اعلم أن اللّه تعالى خلق الطبيعة في الحيوان مدبرة لبدنه فربما دفعت المواد المؤذية التي لا تصلح أن تصير جزء البدن من أعماق البدن إلى أطرافه ، ولذلك نهى الأطباء عن أكل أذناب الدواب فالذباب كثيراً ما يتناول أغذية فاسدة لا تصلح جزءاً للبدن فتدفعها الطبيعة إلى أخس عضو منه كالجناح ، ثم إن ذلك العضو لما فيه من المادة السمية يندفع إلى الحك ويكون أقدم أعضائه عند الهجوم في المضايق ، ومن حكمة اللّه تعالى أنه لم يجعل في شيء سماً إلا جعل فيه مادة ترياقية لتحفظ بها بنية الحيوان ، ولو ذكرنا هذا المبحث من الطب لطال الكلام . وبالجملة فسم لسع الذباب في بعض الأزمنة وعند تناول بعض الأغذية محسوس معلوم وتحرك العضو الذي تندفع إليه المادة اللذاعة معلوم ، وأن الطبيعة يختفي فيها ما يقاوم مثل هذه المواد المؤذية معلوم فما الذي يستبعد من هذا المبحث .
$[2/504]
كيف كان يأكل رسول اللّه :
وما أكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على خوان ولا في سُكُرّجة ولا خبز له مرقق ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط . ولا أكل متكئاً . وما رأى منخلاً كانوا يأكلون الشعير غير منخول .(2/279)
اعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم . بعث في الهرب وعاداتهم أوسط العادات ولم يكونوا يتكلفون تكلف العجم والأخذ بها أحسن وأدنى ألا يتعمقوا في الدنيا ولا يعرضوا عن ذكر اللّه ، وأيضاً فلا أحسن لأصحاب الملة من أن يتبعوا سيرة إمامها في كل نقير وقطمير .
أكل المؤمن وأكل الكافر :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن المؤمن يأكل في مِعي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء » .
أقول : معناه أن الكافر همه بطنه والمؤمن همه آخرته وأن الحري بالمؤمن أن يقلل الطعام وأن تقليله خصلة من خصال الإِيمان وأن شرة الأكل خصلة من خصال الكفر .
النهي أن يقرن الرجل بين تمرتين :
ونهى صلى اللّه عليه وسلم . أن يقرن الرجل بين تمرتين .
$[2/505]
أقول : النهي عن القرآن يحتمل وجوهاً . منها : أنه لا يحسن المضغ عند جمع تمرتين وأنه أدنى أن تؤذيه إحدى النواتين لنقصان ضبطهما بخلاف النواة الواحدة .
ومنها : أن ذلك هيئة من هيئات الشره والحرص .
ومنها : أنه استئثار على أصحابه ومظنة أن يكرهه أصحابه ويزول هذا المعنى بالإِذن .
الحث على تناول التمر واقتنائه :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يجوع أهل بيت عندهم التمر » ، وقال عليه السلام : « بيت لا تمر فيه جياع أهله » ، وقال عليه الصلاة والسلام : « نعم الإِدام الخل » .
أقول : من تدبير المنزل أن يدخر في بيته شيئاً تافهاً يجده رخيصاً في السوق كالتمر في المدينة وأصول الجزر ونحوها في سواد بلادنا فإن وجد طعاماً يشتهيه فبها ، وإلا كان الذي عنده كفافاً لهم وستراً فإن لم يفعلوا ذلك كانوا على شرف الجوع وكذلك حال الإِدام .
اجتناب أكل الثوم والبصل في المجتمعات :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا » ، وأتي بقدر فيه خضرات لها رائحة فقال ، لبعض أصحابه : « كل فإني أناجي من لا تناجي » .(2/280)
أقول : الملائكة تحب من الناس النظافة والطيب وكل شيء يهيج خلق التنظيف وتتنفر من أضداد ذلك ، وفرق النبي صلى اللّه عليه وسلم بين ما كان هو
$[2/506]
شريعة المحسنين المتلعلع فيهم أنوار الملكية وبين غيرهم .
حمد اللّه على ما أنعم من طعام :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها » ، قد مر سره .
وقد روي من الحمد صيغ أيها فعل فقد أدى السنة ، منها : « الحمد للّه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا » .
ومنها : الحمد للّه الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين .
ومنها : الحمد للّه الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجاً .
إكرام الضيف من الإِيمان :
ولما كانت الضيافة باباً من أبواب السماحة وسبباً لجمع شمل المدينة والملة مؤدياً إلى تودد الناس وألا يتضرر أبناء السبيل وجب أن تعد من الزكاة ويرغب فيها ويحث عليها ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الأخر فليكرم ضيفه » ، ثم مست الحاجة إلى تقدير مدة الضيافة لئلا يحرج الضيف أو يعد القليل منها كثيراً فقدر الإِكرام بيوم وليلة وهو الجائزة وجعل آخر الضيافة ثلاثة أيام ثم بعد ذلك صدقة .
المسكرات
العقول والملل تحكم بقبح المسكرات :
واعلم أن إزالة العقل بتناول المسكر يحكم العقل بقبحه لا محالة إذ
$[2/507]
فيه تردي النفس في ورطة البهيمية والتبعد من الملكية في الغاية وتغيير خلق اللّه حيث أفسد عقله الذي خص اللّه به نوع الإِنسان ومن به عليهم وإفساد المصلحة المنزلية والمدنية وإضاعة المال والتعرض لهيئات منكرة يضحك منها الصبيان .
وقد جمع اللّه تعالى كل هذه المعاني تصريحاً أو تلويحاً في هذه الآية { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ } الآية .(2/281)
ولذلك اتفق جميع الملل والنحل على قبحه بالمرة ، وليس الأمر كما يظنه من لا بصيرة له من أنه حسن بالنظر إلى الحكمة العملية لما فيه من تقوية الطبيعة فإن هذا الظن من باب اشتباه الحكمة الطبية بالحكمة العملية ، والحق أنهما متغايرتان وكثيراً ما يقع بينهما تجاذب وتنازع كالقتال يحرمه الطب لما فيه من التعرض لفك البنية الإِنسانية الواجب حفظها في الطب ، وربما أوجبته الحكمة العملية إذا كان فيه صلاح المدينة أو دفع عار شديد ، وكالجماع يوجبه الطب عند التوقان وخوف التأذي من تركه ، وربما حرمته الحكمة العملية إذا كان فيه عار أو منابذة سنة راشدة .
مساوئ الخمر تفوق منافعها بمراحل :
وأهل الرأي من كل أمة وكل قرن يذهبون إلى ترجيح المصلحة على الطب ويرون من لا يتحراها ولا يتقيد بها ميلاً إلى صحة الجسم فاسقاً ماجناً مذموماً مقبوحاً لا اختلاف لهم في ذلك ، وقد علمنا اللّه تعالى
$[2/508]
ذلك حيث قال : { فِيهِمَا إِثْم كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا } .
نعم تناول المسكر إذا لم يبلغ حد الإِسكار ولم تترتب عليه المفاسد يختلف فيه أهل الرأي ، والشريعة القويمة المحمدية - التي هي الغاية في سياسة الأمة . وسد الذرائع . وقطع احتمال التحريف - نظرت إلى أن قليل الخمر يدعو إلى كثيرها ، وأن النهي على المفاسد من غير أن ينهى عن ذات الخمر لا ينجع فيهم ، وكفى شاهداً على ذلك ما كان في المجوسِ وغيرهم وأنه إن فتح باب الرخصة في بعضها لم تنتظم السياسة الملية أصلاً فنزل التحريم إلى نوع الخمر قليلها وكثيرها .
ملعون كل من أعان على شرب الخمر :
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه » .(2/282)
أقول : لما تعينت المصلحة في تحريم شيء وإخماله ونزل القضاء بذلك وجب أن ينهى عن كل ما ينوه أمره ويروجه في الناس ويحملهم عليه فإن ذلك مناقضة للمصلحة ومناوأة بالشرع .
كل مسكر خمر :
وقد استفاض عن النبي صلى اللّه عليه وسلم . وأصحابه رضي اللّه عنهم أحاديث كثيرة
$[2/509]
من طرق لا تحصى وعبارات مختلفة ، فقال : « الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة » .
وأجاب صلى اللّه عليه وسلم من سأل عن البِتْع والمِزْر وغيرهما ، فقال : « كل شراب أسكر فهو حرام » .
وقال عليه الصلاة والسلام : « كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام » . وقال من شاهد نزول الآية إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء : العنب ، والتمر ، والحنطة ، والشعير . والعسل والخمر ما خامر العقل . وقال : « لقد حرمت الخمر حين حرمت » ، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً وعامة خمرنا البسر والتمر . وكسروا دنان الفضيخ حين نزلت وهو الذي يقتضيه قوانين التشريع فإنه لا معنى لخصوصية العنب وإنما المؤثر في التحريم كونه مزيلاً للعقل يدعو قليله إلى كثيره فيجب به القول ، ولا يجوز لأحد اليوم أن يذهب إلى تحليل ما اتخذ من غير العنب ، واستعمل أقل من حد الإِسكار .
نعم كان ناس من الصحابة والتابعين لم يبلغهم الحديث في أول
$[2/510]
الأمر فكانوا معذورين ، ولما استفاض الحديث وظهر الأمر - ولا كرابعة النهار - وصح حديث : « ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها » ، لم يبق عذر أعاذنا اللّه تعالى والمسلمين من ذلك .
يحرم الاستفادة من الخمر :
وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلاً ؟ قال : لا وقيل إنما أصنعها للدواء ، فقال : « إنه ليس بدواء ولكنه داء » .
أقول : لما كان الناس مولعين بالخمر وكانوا يتحيلون لها حيلاً لم تتم المصلحة إلا بالنهي عنها على كل حال لئلا يبقى عذراً لأحد ولا حيلة .(2/283)
النهي عن خليط التمر والبسر :
ونهى صلى اللّه عليه وسلم . عن خليط التمر والبسر ، وعن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب . أقول : السر في ذلك أن الإِسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكراً . وكان صلى اللّه عليه وسلم . يتنفس في الشراب ثلاثاً ولقول : « إنه أروى وأبرأ وأمرأ » .
أقول : ذلك لأن المعدة إذا وصل إليها الماء قليلاً قليلاً صرفته الطبيعة إلى ما يهمها وإذا هجم عليها الماء الكثير تحيرت في تصريفه والمبرود إذا ألقي على معدته الماء أصابته البرودة لضعف قوته من مزاحمة القدر الكثير بخلاف ما إذا تدرج ، والمحرور إذا ألقى على معدته الماء دفعة حصلت
$[2/511]
بينهما المدافعة ولم تتم البرودة ، وإذا ألقى شيئاً فشيئاً وقعت المزاحمة أولاً ثم ترجحت البرودة .
آداب الشراب
النهي عن الشراب من فم السقاء :
ونهى صلى اللّه عليه وسلم عن الشراب من في السقاء وعن اختناث الأسقية أقول : وذلك لأنه إذا ثنى فم القربة فشرب منه فإن الماء يتدفق وينصب في حلقه دفعة ، وهو يورث الكُباد ويضر بالمعدة ولا يتميز عنده في دفق الماء وانصبابه القذاة ونحوها .
ويحكى أن إنساناً شرب من في السقاء فدخلت حية في جوفه .
النهي عن الشرب من قيام :
ونهى صلى اللّه عليه وسلم أن يشرب الرجل قائماً ؛ وروي أنه عليه السلام شرب قائماً أقول : هذا النهي نهي إرشاد وتأديب فإن الشرب قاعداً من الهيئات الفاضلة وأقرب لجموم النفس والريّ وأن تصرف الطبيعة الماء في محله أما الفعل فلبيان الجواز .
البدء بالأيمن فالأيمن :
وقال عليه السلام : « الأيمن فالأيمن » ، أقول : أراد بذلك قطع المنازعة فإنه لو كانت السنة تقديم الأفضل ربما لم يكن الفضل مسلماً بينهم وربما يجدون في أنفسهم من تقديم غيرهم حاجة .
$[2/512]
النهي عن التنفس في الإِناء :(2/284)
ونهى صلى اللّه عليه وسلم أن يتنفس في الإِناء أو ينفخ فيه ، أقول : ذلك لئلا يقع في الماء من فمه أو أنفه ما يكرهه فيحدث هيئة منكرة .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « سموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم رفعتم » ، قد مر سره .
اللباس ، والزينة ، والأواني ونحوها
كره النبي الاطمئنان إلى لذات الدنيا :
اعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نظر إلى عادات العجم وتعمقاتهم في الاطمئنان بلذات الدنيا فحرم رؤوسها وأصولها ، وكره ما دون ذلك ، لأنه علم أن ذلك مفض إلى نسيان الدار الآخرة مستلزم للإكثار من طلب الدنيا .
فمن تلك الرؤوس اللباس الفاخر فإن ذلك أكبر همهم وأعظم فخرهم ، والبحث عنه من وجوه .
النهي عن الإِسبال وجر الإِزار بطراً :
منها : الإِسبال في القمص والسراويلات فإنه لا يقصد بذلك الستر والتجمل اللذين هما المقصودان في اللباس ، وإنما يقصد به الفخر وإراءة الغنى ونحو ذلك ، والتجمل ليس إلا في القدر الذي يساوي البدن ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار » .
$[2/513]
ومنها : الجنس المستغرب الناعم من الثياب .
حرمة لبس الحرير للرجال :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه يوم القيامة » ، وسره مثل ما ذكرنا في الخمر .
ونهى صلى اللّه عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وعن لبس القسي والمياثر والأرجوان ، ورخص في موضع إصبعين أو ثلاث لأنه ليس من باب اللباس وربما تقع الحاجة إلى ذلك ، ورخص للزبير ، وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة بهما لأنه لم يقصد حينئذٍ به الإِرفاه وإنما قصد الاستشفاء .
النهي عن لبس ما يحصل به الفخر والمراءاة :(2/285)
ومنها : الثوب المصبوغ بلون مطرب يحصل به الفخر والمراءاة ؛ فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن المعصفر والمزعفر ، وقال : « إن هذه من ثياب أهل النار » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « ألا طيب الرجال ريح لا لون له وطيب النساء لون لا ريح له » ، ولا اختلاف بين قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إن البذاذة من الإِيمان » .
$[2/514]
وقال عليه السلام : « من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه اللّه ثوب مذلة يوم القيامة » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من ترك لبس ثوب جمال تواضعاً كساه اللّه حلة الكرامة » .
إظهار نعمة اللّه تعالى :
وبين قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده » .
ورأى رجلاً شعثاً ، فقال : « ما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه » .
ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة فقال : « ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا آتاك اللّه مالاً فلتُرَ نعمة اللّه وكرامته عليك » ، لأن هنالك شيئين مختلفين في الحقيقة قد يشتبهان بادي الرأي : أحدهما مطلوب ، والآخر مذموم .
المطلوب من الثياب :
فالمطلوب ترك الشح ، ويختلف باختلاف طبقات الناس ، فالذي هو في الملوك شح ربما يكون إسرافاً في حق الفقير ، وترك عادات البدو واللاحقين بالبهائم واختيار النظافة ومحاسن العادات .
المذموم من الثياب :
والمذموم الإِمعان في التكلف والمراءاة والتفاخر بالثياب وكسر قلوب الفقراء ونحو ذلك ، وفي ألفاظ الحديث إشارات إلى هذه المعاني كما لا يخفى على المتأمل ، ومناط الأجر ردع النفس عن اتباع داعية الغمط والفخر .
$[2/515]
شكر اللّه على ما استجد من ثياب :
وكان صلى اللّه عليه وسلم إذا استجد ثوباً سماه باسمه عمامة أو قميصاً أو رداء ثم يقول : « اللّهم لك الحمد كما كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له » ، وقد مر سره من قبل .
التحلي بالذهب حرام :(2/286)
ومن تلك الرؤوس الحلي المترفة ، وهاهنا أصلان : أحدهما أن الذهب هو الذي يفاخر به العجم ويفضي جريان الرسم بالتحلي به إلى الإِكثار من طلب الدنيا دون الفضة ولذلك شدد النبي صلى اللّه عليه وسلم في الذهب ، .وقال : « ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها » .
النساء أحوج إلى الزينة :
والثاني : أن النساء أحوج إلى تزيين ليرغب فيهن أزواجهن ، ولذلك جرت عادة العرب والعجم جميعاً بأن يكون تزينهن أكثر من تزينهم فوجب أن يرخص لهن أكثر مما يرخص لهم ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : « أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : في خاتم ذهب في يد رجل : « يعمد أحدكم إلى جمر من نار فيجعله في يده » ، ورخص عليه السلام في خاتم الفضة لا سيما لذي سلطان ، قال : « ولا تتمه مثقالاً » ، ونهى صلى اللّه عليه وسلم النساء عن غير المُقَطَّع من . الذهب وهو ما كان قطعة واحدة كبيرة ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من النار فليحلقه حلقة من ذهب » ،
$[2/516]
وذكر على هذا الأسلوب الطوق والسوار . وكذا جاء التصريح بقلادة من ذهب . وخرص من ذهب . وسلسلة من ذهب ، وبيّن المعنى في هذا الحكم حيث قال : « أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهباً تظهره إلا عذبت به » ، وكان لأم سلمة رضي اللّه عنها أوضاح من ذهب ، والظاهر أنها كانت مقطعة ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « حل الذهب للإناث » ، معناه الحل في الجملة .
هذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحاديث ولم أجد لها معارضاً ، ومذهب الفقهاء في ذلك معلوم مشهور واللّه أعلم بحقيقة الحال .
إطالة اللحى وإحفاء الشوارب :
ومنها : التزين بالشعور فإن الناس كانوا مختلفين في أمرها ، فالمجوس كانوا يقصون اللحى ويوفرون الشوارب ، وكانت سنّة الأنبياء عليهم السلام خلاف ذلك ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : « خالفوا المشركين ، وفروا اللحى واحفوا الشوارب » .(2/287)
التوسط في التجمل والتزين :
وكان ناس يحبون التشعث والتمهن والهيئة البذة ويكرهون
$[2/517]
التجمل والتزين . وناس يتعمقون في التجمل ويجعلون ذلك أحد وجوه الفخر وغمط الناس ، فكان إخمال مذهبهم جميعاً ورد طريقهم أحد المقاصد الشرعية ، فإن مبنى الشرائع على التوسط بين المنزلتين ، والجمع بين المصلحتين .
الفطرة في خمس خصال :
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « الفطرة خمس : الختان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإِبط » ، ثم مست الحاجة إلى توقيت ذلك ليمكن الإِنكار على من خالف السنة ولئلا يصل المتورع إلى الحلق والنتف كل يوم ، والمتهاون إلى تركها سنة فوقت في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإِبط وحلق العانة ألا يترك أكثر من أربعين ليلة .
سدل الرسول شعره :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن اليهود والنصارى لا يصبغون » ، وكان أهل الكتاب يسدلون ، والمشركون يفرقون ، فسدل النبي صلى اللّه عليه وسلم ناصيته ، ثم فرق بعد ، فالسدل أن يرخي ناصيته على وجهه ، وهي هيئة بذة ، والفرق أن يجعله ضفيرتين ويرسل كل ضفيرة إلى صدغ .
النهي عن حلق بعض الرأس دون الآخر :
ونهى صلى اللّه عليه وسلم عن القزع .
$[2/518]
أقول : السر فيه أنه من هيئات الشياطين ، وهو نوع من المثلة تعافها الأنفس إلا القلوب المؤوفة باعتيادها ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من كان له شعر فليكرمه » ، ونهى عن الترجل إلا غبًّا يريد التوسط بين الإفراط والتفريط .
ما يحرم على النساء من زينة :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لعن اللّه الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللّه » ، ولعن صلى اللّه عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال .(2/288)
أقول : الأصل في ذلك أن اللّه تعالى خلق كل نوع وصنف مقتضياً لظهور أحكام في البدن كالرجال تلتحي وكالنساء يصغين إلى نوع من الطرب والخفة ، فاقتضاؤها للأحكام لمعنى في المبدأ هو بعينه كراهية أضدادها ، ولذلك كان المرضي بقاء كل نوع وصنف على ما تقتضيه فطرته وكان تغيير الخلق سبباً للعن ، ولذلك كره النبي صلى اللّه عليه وسلم . إنزاء الحمير لتحصيل البغال .
ما يباح للرجال من زينة :
فمن الزينة ما يكون كالتقوية لفعل الطبيعة والتوطئة له والتمشية إياه كالكحل والترجل وهو محبوب ، ومنها ما يكون كالمباين لفعلها كاختيار الإِنسان هيئة الدواب وما يكون تعمقاً في إبداع ما لا تقتضيه الطبيعة ، وهو غير محبوب إذا خلى الإِنسان وفطرته عده مثلة .
$[2/519]
النهي عن التصاوير في الثياب والمنازل :
ومنها : صناعة التصاوير في الثياب والجدران والأنماط ، فنهى عنها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ومدار النهي شيئان :
أحدهما : أنها أحد وجوه الإِرفاه والزينة فانهم كانوا يتفاخرون بها ويبذلون أموالاً خطيرة فيها فكانت كالحرير ، وهذا المعنى موجود في صورة الشجر وغيرها .
وثانيهما : أن المخامرة بالصور واتخاذها وجريان الرسم بالرغبة فيها يفتح باب عبادة الأصنام وينوه أمرها ويذكرها لأهلها ، وما نشأت عبادة الأصنام في أكثر الطوائف إلا من هذه ، وهذا المعنى يختص بصورة الحيوان ولذلك أمر بقطع رأس التماثيل لتصير كهيئة الشجر ، وخف فساد صناعة صور الأشجار .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن البيت الذي فيه الصورة لا تدخله الملائكة » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فيعذبه في جهنم » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ » .(2/289)
أقول : لما كانت التصاوير فيها معنى الأصنام ، وقد تحقق في الملأ الأعلى داعية غضب ولعن على الأصنام وعبدتها وجب أن يتنفر منها الملائكة ، وإذا حشر الناس يوم القيامة بأعمالهم تمثل عمل المصور بالنفوس التي تصورها في نفسه وأراد محاكاتها في عمله لأنها أقرب ما
$[2/520]
هنالك وظهر إقدامه على المحاكاة ، وسعيه أن يبلغ فيها غاية المدى في صورة التكليف بأن ينفخ فيها الروح وليعمى بنافخ .
النهي عن الاشتغال بالمسليات :
ومنها : الاشتغال بالمسليات وهي ما يُسلي النفس عن همِّ آخرته ودنياه ويضيع الأوقات كالمعازف والشطرنج واللعب بالحمام واللعب بتحريش البهائم ونحوها ؛ فإن الإِنسان إذا اشتغل بهذه الأشياء لها عن طعامه وشرابه وحاجته ، وربما كان حاقناً ولا يقوم للبول فإن جرى الرسم بالاشتغال بها صار الناس كَلًّا على المدينة ، ولم يتوجهوا إلى إصلاح نفوسهم .
يباح الغناء والدف في الوليمة وسواها :
واعلم أن الغناء والدف في الوليمة ونحوها عادة العرب والعجم وديدنهم ، وذلك لما يقتضيه الحال من الفرح والسرور فليس ذلك من المسليات إنما ميزان المسليات ما كان فيِ زمانه صلى اللّه عليه وسلم في الحجاز وفي القرى العامرة ، لا ما كان الاشتغال به زائداً على الفرح والسرور المطلوبين كالمزامير .
اللعب بالنردشير معصية :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من لعب بالنردشير فقد عصى اللّه ورسوله » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف » ،
$[2/521]
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف » .
الملاهي : محرم ومباح :
فالملاهي نوعان : محرم وهي الآلات المطربة كالمزامير ، ومباح وهو الدف والغناء في الوليمة ونحوها من حادث سرور .
الحداء مباح :(2/290)
وأما الحداء وهو في الأصل ما يقصد به تهيج الإِبل ، لكن المراد هنا مطلق النشيد مع تأليف الألحان والإِيقاع فهو مباح فإنه من المباسطات دون المسليات .
وأما اللعب بالات كالمناضلة ، وتأديب الفرس ، واللعب بالرماح فليس من اللعب في الحقيقة لما فيه من مقصود شرعي ، وقد لعبت الحبشة بالحراب والدرق بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسجده .
وقال صلى اللّه عليه وسلم لرجل يتبع حمامة : « شيطان يتبع شيطانة » ، ونهى عليه السلام عن التحريش بين البهائم .
النهي عن اقتناء ما فوق الكفاية :
ومنها : اقتناء عدد كثير من الدواب والفرش لا يقصد بذلك كفاية الحاجة بل مراءاة الناس والفخر عليهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « فراش للرجل ، وفراش لامرأته ، والثالث للضيف ، والرابع للشيطان » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « يكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين » .
إبل الشياطين :
قال أبو هريرة رضي اللّه عنه : « أما إبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها ولا يعلو بعيراً منها ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله » .
$[2/522]
اقتناء الكلاب محرم إلا كلب صيد وزرع :
. وكان أهل الجاهلية مولعين باقتناء الكلاب - جمع كلب - وهو حيوان ملعون تتأذى منه الملائكة فإن له مناسبة بالشياطين كما قلنا في الوزغ ، فحرم النبي صلى اللّه عليه وسلم اقتناءها ، وقال : « من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط » ، وفي رواية : « قيراطان » ، وفي حكم الكلاب القردة والخنازير .
أقول : السر في انتقاص أجره أنه يمد البهيمية ويقهر الملكية ، والقيراط خرج مخرج المثل ، يريد به الجزاء القليل ولذلك لم يكن بين قوله صلى اللّه عليه وسلم : قيراطان ، وقوله : قيراط مناقضة .
حرمة استعمال أواني الذهب والفضة :(2/291)
ومنها : استعمال أواني الذهب والفضة ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة » ، وقد ذكرنا من قبل ما ينكشف به سره .
$[2/523]
نصائح نبوية :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « خمروا الآنية وأوكوا الأسقية وأجيفوا الأبواب واكفتوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشاراً وخطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت » ، وفي رواية : « فإن الشيطان لا يحل سقاء ولا يفتح باباً ولا يكشف إناء » ، وفي رواية : « فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء » .
انتشار الجن مساءً :
أقول : أما انتشار الجن عند المساء فلكونهم ظلمانيين في أصل الفطرة فيحصل لهم عن انتشار الظلمة ابتهاج وسرور فينتشرون ، وأما إن الشيطان لا يحل وكاء فلأن أكثر تأثيراتها على ما أدركنا في ضمن الأفعال الطبيعية كما أن الهواء إذا دخل في البيت دخل الجني معه وإذا تدهده الحجر وأمد في تدهدهه تدهده أكثر مما تقتضيه العادة ونحو ذلك ، وأما إن في السنة ليلة ينزل فيها الوباء ، فمعناه أنه يجيء بعد زمان طويل وقت يفسد فيه الهواء .
وقد شاهدت ذلك مرة أحسست لهواء خبيث أصابني صداع في ساعة ما وصل إليّ ثم رأيت كثيراً من الناس قد مرضوا واستعدوا لحدث ومرضى في تلك الليلة .
$[2/524]
النهي عن التطاول في البنيان :(2/292)
ومنها : التطاول في البنيان وتزويق البيوت وزخرفتها فكانوا يتكلفون في ذلك غاية التكلف ويبذلون أموالاً خطيرة فعالجه النبي صلى اللّه عليه وسلم بالتغليظ الشديد ، فقال : لاما أنفق المؤمن من نفقة إلا أجر فيها إلا نفقته في هذا التراب » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا » ، يعني إلا ما لابد منه .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « ليس لولي - أو ليس لنبي - أن يدخل بيتاً مزوقاً » .
وقال عليه الصلاة والسلام : « إن اللّه لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين » .
الطب والرقى :
وكان الناس قبل النبي صلى اللّه عليه وسلم : يتمسكون في أمراضهم وعاهاتهم بالطب والرقى ، وفي تقدمة المعرفة بالفأل ، والطيرة ، والخطو هو الرمل - والكهانة ، والنجوم ، وتعبير الرؤيا ، وكان في بعض ذلك ما لا ينبغي ، فنهى عنه النبي صلى اللّه عليه وسلم وأباح الباقي .
الطب :
فالطب حقيقته التمسك بطبائعِ الأدوية الحيوانية ، أو النباتية ، أو المعدنية ، والتصرف في الأخلاط نقصاً وزيادة ، والقواعد الملية تصححه إذ ليس فيه شائبة شرك ولا فساد في الدين والدنيا بل فيه نفع كبير ، وجمع لشمل الناس إلا المداواة بالخمر إذ للخمر ضراوة لا تنقطع ، والمداواة بالخبيث أي السم ما أمكن العلاج بغيره فإنه ربما أفضى إلى القتل ،
$[2/525]
والمداواة بالكي ما أمكن بغيره لأن الحرق بالنار أحد الأسباب التي تنفر منها الملائكة ، والأصل فيما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم . من المعالجات التجربة التي كانت عند العرب .
الرقى :
وأما الرقى فحقيقتها التمسك بكلمات لها تحقق في المثال وأثر ، والقواعد الملية لا تدفعها ما لم يكن فيها شرك لا سيما إذا كان من القرآن أو السنّة أو مما يشبههما من التضرعات إلى اللّه .
العين حق :(2/293)
والعين حق وحقيقتها تأثير إلمام نفس العائن وصدمة تحصل من إلمامها بالمعين ، وكذا نظرة الجن وكل حديث فيه نهي عن الرقى والتمائم والتولة فمحمول على ما فيه شرك أو انهماك في التسبب بحيث يغفل عن الباري جل شأنه .
الفأل والطيرة :
وأما الفأل والطيرة فحقيقتهما أن الأمر إذا قضي به في الملأ الأعلى ربما تلونت بلونه وقائع جبلت على سرعة الانعكاس ، فمنها الخواطر ، ومنها الألفاظ التي يتفوه بها من غير قصد معتد به وهي أشباح الخواطر الخفية التي يقصد إليها بالذات .
الوقائع الجوية :
ومنها : الوقائع الجوية فإن أسبابها في الأكثر من الطبيعة ضعيفة وإنما
$[2/526]
تختص بصورة دون صورة بأسباب فلكية أو انعقاد أمر في الملأ الأعلى . وكان العرب يستدلون بها على ما يأتي وكان فيه تخمين وإثارة وسواس بل ربما كانت مظنة للكفر باللّه وإن لم تطمح الهمة إلى الحق فنهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الطيرة ، وقال : « خيرها الفأل » ، يعني كلمة صالحة يتكلم بها إنسان صالح فإنها أبعد من تلك القبائحِ ، ونفي العدوى لا بمعنى نفي أصلها لكن العرب يظنونها سبباً مستقلاً وينسون التوكل رأساً ، والحق أن سببية هذه الأسباب إنما تتم إذا لم ينعقد قضاء اللّه على خلافه لأنه إذا انعقد أتمه اللّه من غير أن ينخرم النظام ، والتعبير عن هذه النكتة بلسان الشرع أنها أسباب عادية لا عقلية .
الهامة تفتح باب الشرك :
والهامة تفتح باب الشرك غالباً ، وكذلك الغول فنهوا عن الاشتغال بهذه الأمور لأن هذه ليست حقيقة البتة .
كيف والأحاديث متظاهرة على ثبوت الجن وتردده في العالم . وعلى ثبوت أصل العدوى ، وعلى ثبوت أصل الشؤم في المرأة والفرس والدار ، فلا جرم أن المراد نفيها من حيث جواز الاشتغال بها ومن حيث إنه لا يجوز المخاصمة في ذلك فلا يسمع خصومة من ادعى على أحد أنه قتل إبله وأمرضها بإدخال الإِبل المريضة عليها ونحو ذلك .
$[2/527]
النهي عن الكهانة :(2/294)
كيف وأنت خبير بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن الكهانة وهي الإِخبار عن الجن أشد نهي وبرئ ممن أتى كاهناً ، ثم لما سئل عن حال الكهان أخبر : أن الملائكة تنزل في العنان فتذكر الأمر قد قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة ، يعني أن الأمر إذا تقرر في الملأ الأعلى ترشح منه رشحات على الملائكة السافلة التي استعدت للإلهام فربما أخذ منهم بعض أذكياء الجن ، ثم تتلقى الكهان منهم بحسب مناسبات جبلية وكسبية فلا تشكن أن النهي ليس معتمداً على عدمها في الخارج بل على كونها مظنة للخطأ والشرك والفساد كما قال عزّ من قائل : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثمهما أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا } .
الأنواء والنجوم :
أما الأنواء والنجوم فلا يبعد أن يكون لهما حقيقة ما فإن الشرع إنما أتى بالنهي عن الاشتغال به لا نفي الحقيقة البتة وإنما توارث السلف الصالح ترك الاشتغال به وذم المشتغلين وعدم القبول بتلك التأثيرات لا القول بالعدم أصلاً ، وإن منها ما يلحق البديهيات الأولية كاختلاف الفصول باختلاف أحوال الشمس والقمر ونحو ذلك .
الحدس والتجربة والرصد :
ومنها : ما يدل عليه الحدس والتجربة والرصد كمثل ما تدل هذه على حرارة الزنجبيل وبرودة الكافور ، ولا يبعد أن يكون تأثيرها على
$[2/528]
وجهين : وجه يشبه الطبائع فكما أن لكل نوع طبائع مختصة به من الحر والبرد واليبوسة والرطوبة بها يتمسك في دفع الأمراض فكذلك للأفلاك والكواكب طبائع وخواص كحر الشمس ورطوبة القمر فإذا جاء ذلك الكوكب في محله ظهرت قوته في الأرض . ألا تعلم أن المرأة إنما اختصت بعادات النساء وأخلاقهن لشيء يرجع إلى طبيعتها وإن خفي إدراكها ، والرجل إنما اختص بالجراءة والجهورية ونحوهما لمعنى في مزاجه فلا تنكر أن يكون لحلول قوى الزهرة والمريخ بالأرض أثر كأثر هذه الطبائع الخفية .(2/295)
وثانيهما : وجه يشبه قوة روحانية متركبة مع الطبيعة وذلك مثل قوة نفسانية في الجنين من قبل أمه وأبيه ، والمواليد بالنسبة إلى السموات والأرضين كالجنين بالنسبة إلى أبيه وأمه فتلك القوة تهيئ العالم لفيضان صورة حيوانية ثم إنسانية .
ولحلول تلك القوى بحسب الاتصالات الفلكية أنواع ولكل نوع خواص فأمعن قوم في هذا العلم فحصل لهم علم النجوم يتعرفون به الوقائع الآتية غير أن القضاء إذا انعقد على خلافه جعل قوة الكوكب متصورة بصورة أخرى قريبة من تلك الصورة وأتم اللّه قضاءه من غير أن ينخرم نظام الكواكب في خواصها ويعبر عن هذه النكتة بأن الكواكب خواصها بجري عادة اللّه لا باللزوم العقلي ، ويشبه بالأمارات والعلامات ، ولكن الناس جميعاً توغلوا في هذا العلم توغلاً شديداً حتى صار مظنة لكفر اللّه وعدم الإِيمان فعسى ألا يقول صاحب توغل هذا العلم : مطرنا بفضل اللّه ورحمته من صميم قلبه بل يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا فيكون ذلك
$[2/529]
صاداً عن تحققه بالإِيمان الذي هو الأصل في النجاة .
علم النجوم لا يضر جهله :
وأما علم النجوم فإنه لا يضر جهله إذ اللّه مدبر للعالم على حسب حكمته علم أحد أو لم يعلم فلذلك وجب في الملة أن يخمل ذكره وينهى عن تعلمه ويجهر بأن : « من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » ، ومثل ذلك مثل التوراة والإِنجيل شدد النبي صلى اللّه عليه وسلم على من أراد أن ينظر فيهما لكونهما محرفين ومظنة لعدم الانقياد للقرآن العظيم ولذلك نهوا عنه .
هذا ما أدى إليه رأينا وتفحصنا فإن ثبت من السنّة ما يدل على خلاف ذلك فالأمر على ما في السنة .
الرؤيا خمسة أقسام :(2/296)
وأما الرؤيا فهي على خمسة أقسام : بشرى من اللّه ، وتمثل نوراني للحمائد والرذائل المندرجة في النفس على وجه ملكي ، وتخويف من الشيطان ، وحديث نفس من قبل العادة التي اعتادها النفس في اليقظة تحفظها المتخيلة ويظهر في الحسّ المشترك ما اختزن فيها ، وخيالات طبيعية لغلبة الأخلاط وتنبه النفس بأذاها في البدن .
$[2/530]
البشرى من اللّه تعالى :
أما البشرى من اللّه فحقيقتها أن النفس الناطقة إذا انتهزت فرصة عن غواشي البدن بأسباب خفية لا يكاد يتفطن لها إلا بعد تأمل وافٍ استعدت لأن يفيض عليها من منبع الخير والجود كمال علمي فأفيض عليه شيء على حسب استعداده ومادته العلوم المخزونة عنده .
الرؤيا كالمعراج المنامي :
وهذه الرؤيا تعليم إلهي كالمعراج المنامي الذي رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم فيه ربه في أحسن صورة فعلمه الكفارات والدرجات ، وكالمعراج المنامي الذي انكشف فيه عليه صلى اللّه عليه وسلم أحوال الموتى بعد انفكاكهم عن الحياة الدنيا كما رواه جابر بن سمرة رضي اللّه عنه وكعلم ما سيكون من الوقائع الآتية في الدنيا .
الرؤيا الملكية :
وأما الرؤيا الملكية فحقيقتها أن في الإِنسان ملكات حسنة وملكات قبيحة ولكن لا يعرف حسنها وقبحها إلا المتجرد إلى الصورة الملكية فمن تجرد إليها تظهر له حسناته وسيئاته في صورة مثالية فصاحب هذا يرى اللّه تعالى ، وأصله الانقياد للباري ، ويرى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وأصله الانقياد للرسول المركوز في صدره ، ويرى الأنوار واصلها الطاعات المكتسبة في صدره وجوارحه تظهر في صورة الأنوار والطيبات كالعسل والسمن واللبن .
فمن رأى اللّه أو الرسول أو الملائكة في صورة قبيحة أو في صورة
$[2/531]
الغضب فليعرف أن في اعتقاده خللاً وضعفاً وأن نفسه لم تتكمل ، وكذلك الأنوار التي حصلت بسبب الطهارة تظهر في صورة الشمس والقمر .
التخويف من الشيطان :(2/297)
وأما التخويف من الشيطان فوحشة وخوف من الحيوانات الملعونة كالقرد ، والفيل ، والكلاب ، والسودان من الناس . فإذا رأى ذلك فليتعوذ باللّه وليتفل ثلاثاً عن يساره وليتحول عن جنبه الذي كان عليه .
البشرى :
وأما البشرى فلها تعبير والعمدة فيه معرفة الخيال أي شيء مظنة لأي معنى فقد ينتقل الذهن من المسمى إلى الاسم : « كرؤية النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان في دار عقبة بن رافع فأتى برطب ابن طاب » ، قال عليه الصلاة والسلام : « فأوّلت أن الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة وأن ديننا قد طاب » . وقد ينتقل الذهن من الملابس إلى ما يلابسه كالسيف للقتال ، وقد ينتقل الذهن من الوصف إلى جوهر مناسب له كمن غلب عليه حب المال رآه النبي صلى اللّه عليه وسلم في صورة سوار من ذهب .
وبالجملة فللانتقال من شيء إلى شيء صور شتى ، وهذه الرؤيا شعبة من النبوة لأنها ضرب من إفاضة غيبية وتدل من الحق إلى الخلق وهو أصل النبوة ، وأما سائر أنواع الرؤيا فلا تعبير لها .
$[2/532]
آداب الصحبة
الآداب ضرورية :
اعلم أنه مما أوجبت سلامة الفطر ووقوع الحاجات في أشخاص الإِنسان والارتفاق منها آداب يتأدبون بها فيما بينهم ، وأكثرها أمور اجتمعت طرائف العرب والعجم على أصولها وإن اختلفوا في الصور والأشباح ، فكان البحث عنها وتمييز الصالح من الفاسد منها إحدى المصالح التي بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم لها .
التحية من سنن السلف :(2/298)
فمنها : التحية التي يحيّي بها بعضهم بعضاً ؛ فإن الناس يحتاجون إلى إظهار التبشيش فيما بينهم ، وأن يلاطف بعضهم بعضاً . ويرى الصغير فضل الكبير ويرحم الكبير الصغير ، ويؤاخي الأقران بعضهم بعضاً ؛ فإنه لولا هذه لم تثمر الصحبة فائدتها ولا أنتجت جدواها لو لم تضبط بلفظ لكانت من الأمور الباطنة لا يعلم إلا استنباطاً من القرائن ، ولذلك جرت سنّة السلف في كل طائفة بتحية حسبما أدى إليه رأيهم ، ثم صارت شعاراً لملتهم وأمارة لكون الرجل منهم .
فكان المشركون يقولون : أنعم اللّه بك عيناً وأنعم اللّه بك صبحاً .
وكان المجوس يقولون : هز إرسال برزى .
سنّة الأنبياء في السلام :
وكان قانون الشرع يقتضي أن يذهب في ذلك إلى ما جرت به سنّة الأنبياء عليهم السلام وتلقوها عن الملائكة .
$[2/533]
وكان من قبيل الدعاء والذكر دون الاطمئنان بالحياة الدنيا كتمني طول الحياة وزيادة الثروة ودون الإفراط في التعظيم حتى يتاخم الشرك كالسجدة ولثم الأرض وذلك هو السلام ، فقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « لما خلق اللّه آدم قال : اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فذهب فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة اللّه ، قال : فزادوه ورحمة اللّه » .
قوله : « فسلم على أولئك » ، معناه - واللّه أعلم - حيهم حسبما يؤدي إليه اجتهادك فأصاب الحق ، فقال : « السلام عليكم » ، وقوله : « فإنها تحيتك » ، يعني حتماً من حيث إنه عرف أن ذلك مترشح من حظيرة القدس .
السلام ينشر المحبة :
وقال اللّه تعالى في قصة الجنة : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم » .(2/299)
أقول : بيّن النبي صلى اللّه عليه وسلم فائدة السلام وسبب مشروعيته فإن التحابب في الناس خصلة يرضاها اللّه تعالى وإفشاء السلام آلة صالحة لإِنشاء المحبة .
قواعد السلام :
وكذلك المصافحة ، وتقبيل اليد ونحو ذلك ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « يسلم الراكب على الماشي » .
$[2/534]
أقول : الفاشي في طوائف الناس أن يحيّي الداخل صاحب البيت والحقير العظيم فأبقاه النبي صلى اللّه عليه وسلم على ذلك غير أنه مر عليه السلام على غلمان فسلم عليهم ، ومر على نسوة فسلم عليهن علماً منه أن في رؤية الإِنسان فضل من هو أعظم منه وأشرف جمعاً لشمل المدينة ، وأن في ذلك نوعاً من الإِعجاب بنفسه فجعل وظيفة الكبار التواضع ووظيفة الصغار توقير الكبار ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا » . وإنما جعل وظيفة الراكب السلام على الماشي لأنه أهيب عند الناس وأعظم في نفسه فتأكد له التواضع .
لا تبدأوا اليهود بالسلام :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه » ، أقول : سره أن إحدى المصالح التي بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم لها التنويه بالملة الإِسلامية وجعلها أعلى الملل وأعظمها لا يتحقق إلا بأن يكون لهم طول على سواهم .
ثواب من زاد في السلام :
وقال صلى اللّه عليه وسلم فيمن قال : « السلام عليكم عشر ، وفيمن زاد ورحمة اللّه عشرون ، وفيمن زاد أيضاً وبركاته ثلاثون ، وأيضاً ومغفرته أربعون ، وقال : هكذا تكون الفضائل » .
$[2/535]
أقول : سر الفضل ومناطه أنه تتميم لما شرع اللّه له السلام من التبشيش ، والتألف ، والموادة ، والدعاء ، والذكر ، وإحالة الأمر على اللّه .
الفرد يقوم مقام الجماعة في التحية وردها :(2/300)
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم » ، أقول : وذلك لأن الجماعة واحدة في المعنى وتسليم واحد منهم يدفع الوحشة ويودد بعضهم بعضاً .
السلام عند دخول المجلس والانصراف منه :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة » ، أقول : سلام الوداع فيه فوائد ؛ منها التمييز بين قيام المتاركة والكراهية ، وقيام الحاجة على نية العود لمثل تلك الصحبة .
ومنها : أن يتدارك المتدارك بعض ما كان يقصده ويهمه من الحديث ونحو ذلك .
ومنها : ألا يكون ذهابه من التسلل .
السر في المصافحة :
والسر في المصافحة ، وقوله : مرحباً بفلان ومعانقة القادم ونحوها
$[2/536]
أنها زيادة في المودة والتبشيش ورفع الوحشة والتدابر .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا التقى المسلمان فتصافحا حمداً للّه واستغفراه غفر لهما » ، أقول : وذلك لأن التبشيش فيما بين المسلمين وتوادهم وتلاطفهم وإشاعة ذكر اللّه فيما بينهم يرضى بها رب العالمين .
القيام للترحيب :
وأما القيام فاختلفت فيه الأحاديث ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : « من سره أن يتمثل له الرجل قياماً فليتبوأ مقعده من النار » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم . في قصة سعد : « قوموا إلى سيدكم » ، وكانت فاطمة رضي اللّه عنها إذا دخلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه ، وإذا دخل صلى اللّه عليه وسلم . عليها قامت وأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها .(2/301)
أقول : وعندي أنه لا اختلاف فيها في الحقيقة فإن المعاني التي يدور عليها الأمر والنهي مختلفة فإن العجم كان من أمرهم أن تقوم الخدم بين أيدي سادتهم والرعية بين أيدي ملوكهم وهو من إفراطهم في التعظيم حتى كاد يتاخم الشرك فنهوا عنه ، وإلى هذا وقعت الإِشارة في قوله عليه السلام : « كما يقوم الأعاجم » .
وقوله عليه السلام : « من سره أن يتمثل » ، يقال : مثل بين يديه مثولاً إذا انتصب قائماً للخدمة ، أما إذا كان تبشيشاً له واهتزازاً إليه وإكراماً وتطييباً لقلبه من غير أن يتمثل بين يديه فلا بأس فإنه ليس يتاخم الشرك .
$[2/537]
النهي عن الانحناء عند اللقاء :
وقيل : « يا رسول اللّه الرجل منا يلقى أخاه أينحني له ؟ قال : لا وسببه أنه يشبه الركوع في الصلاة فكان بمنزلة سجدة التحية » .
آداب الدخول والاستئذان :
قال اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا } .
وقال اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الّذِينَ مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } ، إلى قوله : { كَمَا استأذنَ الذِينَ مِنْ قَبّلِهِمْ } فقوله : « تستأنسوا » ، أي تستأذنوا أقول : إنما شرع الاستئذان لكراهية أن يهجم الإِنسان على عورات الناس وأن ينظر منهم ما يكرهونه ، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم . في بعض حديثه : « إنما جعل الاستئذان لأجل البصر » ، فكان من حقه أن يختلف باختلاف الناس .
فمنهم الأجنبي الذي لا مخالطة بينهم وبينه ، ومن حقه ألا يدخل حتى يصرحِ بالاستئذان ويصرح له بالإِذن ، ولذلك علم النبي صلى اللّه عليه وسلم كلدة بن الحنبل رجلاً من بني عامر أن يقول : السلام عليكم أأدخل .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع » .(2/302)
ومنهم : ناس أحرار ليسوا بالمحارم لكن بينهم خلطة وصحبة فاستئذانهم دون استئذان الأولين ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم لعبد اللّه بن مسعود :
$[2/538]
« إذنك عليّ أن ترفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك » .
ومنهم : صبيان ومماليك لا يجب الستر منهم فلا استئذان لهم إلا في أوقات جرت العادة فيها بوضع الثياب ، وإنما خص اللّه تعالى هذه الأوقات الثلاثة لأنها وقت ولوج الصبيان والمماليك بخلاف نصف الليل مثلاً .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « رسول الرجل إلى الرجل إذنه » ، وذلك لأنه عرف بدخوله لما أرسل إليه .
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : « السلام عليكم السلام عليكم » ، وذلك لأن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستور .
آداب الجلوس :
ومنها : آداب الجلوس ، والنوم ، والسفر ، ونحوها ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن يقول : تفسحوا وتوسعوا » ، أقول : وذلك لأنه يصدر من كبر وإعجاب بنفسه ولجد به الأخر وحراً وضغينة .
الرجل أحق بمجلسه :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به » ، أقول : من سبق إلى مجلس أبيح له من مسجد أو رباط أو بيت فقد تعلق حقه به فلا يهيج حتى يستغنى عنه كالموات وقد مر هنالك .
$[2/539]
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما » .
أقول : وذلك لأنهما ربما يجتمعان لمسارة ومناجاة فيكون الدخول بينهما تنغيصاً عليهما ، وربما يتآنسان فيكون الجلوس بينهما إيحاشاً لهما .
الاستلقاء المكروه :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى » ، ورؤي صلى اللّه عليه وسلم في المسجد مستلقياً واضعاً إحدى قدميه على الأخرى .(2/303)
أقول : كان القوم يأتزرون والمؤتزر إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى لا يأمن أن تنكشف عورته فإن كان لابس سراويل أو يأمن انكشاف عورته فلا بأس بذلك .
وقال صلى اللّه عليه وسلم لمضطجع على بطنه : « إن هذه ضجعة يبغضها اللّه » ، أقول وذلك لأنها من الهيئات المنكرة القبيحة .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من بات على ظهر بيت ليس عليه حجاب فقد برئت منه الذمة » .
أقول : وذلك لأنه تعرض لإِهلاك نفسه وألقى نفسه إلى التهلكة ، وقد قال اللّه تعالى : { وَلا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
النهي عن القعود وسط الحلقة :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « ملعون على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم . من قعد وسط الحلقة » ،
$[2/540]
قيل : المراد منه الماجن الذي يقيم نفسه مقام السخرية ليكون ضحكة وهو عمل من أعمال الشيطان ، ويحتمل أن يكون المعنى أن يدبر على طائفة ويقبل على ناحية فيجد بعضهم في نفسه من ذلك كراهية .
آداب السير في الطرقات :
واختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : « للنساء استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ، عليكن بحافات الطريق ، فكانت المرأة تلصق بالجدار » .
ونهى صلى اللّه عليه وسلم أن يمشي الرجل بين المرأتين .
أقول : وذلك خوفاً من أن يمسّ الرجل امرأة ليست بمحرم أو ينظر إليها .
تشميت العاطس :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا عطس أحدكم فليقل الحمد للّه وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك اللّه فليقل : يهديكم اللّه ويصلح بالكم » .
وفي رواية : « وإن لم يحمد اللّه فلا تشمتوه » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « شمت أخاك ثلاثاً فما زاد فهو زكام » .
أقول : إنما شرع الحمد عند العطسة لمعنيين : أحدهما : أنه من الشفاء وخروج الأبخرة الغليظة من الدماغ ، وثانيهما : أنه سنّة آدم عليه
$[2/541](2/304)
السلام وهو معرف لكونه تابعاً لسنن الأنبياء عليهم السلام جامع العزيمة على ملتهم ولذلك وجب التشميت وكان من حقوق الإِسلام ، وإنما سن جواب التشميت لأنه من مقابلة الإِحسان بالإِحسان .
كظم التثاؤب :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إنما التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان » .
أقول : وذلك لأن التثاؤب ناشئ من كسل الطبيعة وغلبة الملال . والشيطان يجد في ضمن ذلك فرصة ، وفتح الفم وصوت هاه يضحك منه الشيطان لأنه من الهيئات المنكرة .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه فإن الشيطان يدخل » .
أقول : الشيطان يهيج ذباباً أو بقة فيدخله في فمه وربما تشنج أعصاب وجهه وقد رأينا ذلك .
كراهية السير المنفرد ليلاً :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده » .
أقول : أراد عليه السلام كراهية التهور والاقتحام في المهالك من غير ضرورة أما بعث الزبير رضي اللّه عنه وحده طليعة فلمكان ضرورة .
$[2/542]
النهي عن صحبة الكلب :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم :
« الجرس مزامير الشيطان » .
أقول : الصوت الحديد الشديد يوافق الشيطان وحزبه ، وتكرهه الملائكة لمعنى يعطيه مزاجهم .
آداب السفر والعودة :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإِبل حقها من الأرض ، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير ، وإذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل » .
أقول : هذا كله ظاهر .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله » .
أقول : يريد عليه السلام كراهية أن يتبع محقرات الأمور فيطيل مكثه لأجلها .(2/305)
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً » .
أقول : كثيراً ما يتنفر الإِنسان نفرة طبيعية من أجل التشعث ونحوه فيكون سبباً لتنغيص حالهم .
$[2/543]
حسن اختيار الأسماء والألقاب :
ومنها آداب الكلام ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أخنى الأسماء يوم القيامة عند اللّه رجل يسمى ملك الأملاك » ، وقال : « لا ملك إلا اللّه » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم في التكنية بأبي الحكم : « إن اللّه هو الحكم واليه الحكم » .
أقول : إنما نهى عن ذلك لأنه إفراط في التعظيم يتاخم الشرك .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح فإنك تقول : أثم هو ؟ فلا يكون ، فيقول : لا » .
وقال جابر رضي اللّه عنه : أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن ينهى أن يسمى بيعلى ، وببركة ، وبأفلح ، وبيسار ، وبنافع ، ونحو ذلك ، ثم رأيته سكت عنها ثم قبض ولم ينهَ عن ذلك . أقول : سبب كراهية التسمية بهذه الأسماء أنها تفضي إلى هيئة منكرة هي في الأقوال بمنزلة الأجدع ونحوه في الأفعال ، وهو قوله عليه السلام : « الأجدع شيطان » .
ووجه الجمع بين الحديثين أنه لم يعزم في النهي ولم يؤكد ولكنه نهى نهْيَ إرشاد بمنزلة المشورة ، أو ظهرت مخايل النهي ، فقال الراوي نهى اجتهاداً منه ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .
وأرى أن هذا الوجه أوفق لفعل الصحابة رضي اللّه عنهم فانهم لم يزالوا يسمون بهذه الأسماء .
$[2/544]
لا تكنوا بكنية النبي :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإني إنما جعلت قاسماً أقسم بينكم » ، أقول : لو كان أحد يسمى باسم النبي صلى اللّه عليه وسلم : لكان مظنة أن تشتبه الأحكام ويدلس في نسبتها ورفعها ، فإذا قيل : قال أبو القاسم ظن أن الأمر هو النبي صلى اللّه عليه وسلم وربما كان المراد غيره .(2/306)
وأيضاً ربما يسب الرجل باسمه ويذم بلقبه في الملاحاة فإن كان مسمى باسم النبي كان في ذلك هيئة منكرة .
ثم هذا المعنى أكثر تحققاً في الكنية منه في العلم لوجهين : أحدهما : أن الناس كانوا ممنوعين شرعاً وممتنعين ديدناً من أن ينادوا النبي صلى اللّه عليه وسلم باسمه وكان المسلمون ينادون يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وأهل الذمة يقولون : يا أبا القاسم .
وثانيهما : أن العرب كانوا لا يقصدون بالاسم التشريف ولا التحقير ، وأما الكنى فكانوا يقصدون بها أحد الأمرين كأبي الحكم ، وأبي الجهل ونحو ذلك .
وإنما كني النبي صلى اللّه عليه وسلم بأبي القاسم لأنه قاسم فكان تكنية غيره بها كالتسوية معه .
وإنما رخص النبي صلى اللّه عليه وسلم لعلي أن يسمي ولده باسمه بعده ويكنيه بكنيته لارتفاع الالتباس والتدليس بانقراض القرن .
لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد اللّه وكل نسائكم إماء اللّه ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي » .
$[2/545]
أقول : التطاول في الكلام والازدراء بالناس منشؤه الإِعجاب والكبر وفيه كسر قلوب الناس ، وأيضاً فلما عبر في الكتب الإِلهية عن النسبة التي هي للخلق إلى الخالق بالعبدية والربية كان إطلاقها فيما بينهم سوء أدب .
النهي عن تسمية العنب بالكرم :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة ولا تقولوا يا خيبة الدهر فإن اللّه هو الدهر ، وقال اللّه تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار » .
أقول : لما نهى اللّه تعالى عن الخمر ووضع أمرها اقتضى ذلك أن يمنع عن كل ما ينوه أمرِها ويخيل حسنها إليهم والعنب مادة الخمر وأصلها ، وكان العرب كثيراً ما يسمونها بنت كرم ويروجونها بذلك .(2/307)
وكان أهل الجاهلية ينسبون الوقائع إلى الدهر وهذا نوع من الشرك ، وأيضاً ربما يريدون بالدهر مقلب الدهر ، فالسخط راجع إلى اللّه وإن أخطأوا في العنوان .
لا يقولن أحدكم خبثت نفسي :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا يقولنِ أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي » ، أقول : الخبث كثيراً ما يستعمل في الكتب الإِلهية بمعنى خبث
$[2/546]
الباطن وسوء السريرة فهذه الكلمة بمنزلة الهيئات الشيطانية .
إحسان القول :
قال صلى اللّه عليه وسلم في زعموا : « بئس مطية الرجل » ، أقول : يريد كراهية أن يذكر الأقاويل من غير تثبت .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تقولوا ما شاء اللّه وشاء فلان وقولوا ما شاء اللّه ثم شاء فلان » .
أقول : التسوية في الذكر توهم التسوية في المنزلة فكان إطلاق مثل هذه اللفظة سوء أدب .
النهي عن التنطع والتشدق :
واعلم أن التنطع والتشدق ، والتقعر في الكلام ، والإِكثار من الشعر ، والمزاح ، وتزجية الوقت بأسمار ونحوها إحدى المسليات التي تشغل عن الدين والدنيا وما يقع به التفاخر والمراءاة فكان حالها كحال عادات العجم فكرهها النبي صلى اللّه عليه وسلم وبيّن ما في ذلك من الآفات ، ورخص فيما لا يتحقق فيه معنى الكراهية وإن اشتبه بادي الرأي .
الحياء من الإِيمان والبذاء من النفاق :
قال صلى اللّه عليه وسلم : « هلك المتنطعون قالها ثلاثاً » ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : « الحياء والعي شعبتان من الإِيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق » .
أقول : يريد ترك البذاء ، والتقعر ، والتطاول في الكلام .
$[2/547]
حفظ اللسان إلا عن الحق :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن أحبكم إليّ وأقربكم مني يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني أساوئكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لقد رأيت - أو أمرت - أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير » .(2/308)
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم لحسان : « إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن اللّه ورسوله » .
وقال عليه السلام : « إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده فكأنما ترمونهم به نضح النبل » .
وقد ذكرنا في الإِحسان من أصول آفات اللسان ما يتضح به أحاديث
$[2/548]
حفظ اللسان كقوله صلى اللّه عليه وسلم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليسكت » .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر » .
الغيبة محرمة :
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « أتدرون ما الغيبة ؟ ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ » .
أمور لا تحرم فيها الغيبة :
وقال العلماء يستثنى من تحريم الغيبة أمور ستة : التظلم لقوله تعالى : { لا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا من ظُلِمَ } ، والاستعانة على تغيير المنكر ، ورد العاصي إلى الصواب كإخبار زيد ابن أرقم بقول عبد اللّه بن أبي ، وإخبار ابن مسعود بقول الأنصار في مغانم حنين ، والاستفتاء كقول هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وتحذير المسلمين من الشر كقوله صلى اللّه عليه وسلم : « بئس أخو العشيرة » ، وكجرح المجروحين وكقوله صلى اللّه عليه وسلم : « أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه » ، والتنفير من مجاهر بالفسق ، كقوله صلى اللّه عليه وسلم : « لا أظن فلاناً وقلاناً يعرفان من أمرنا شيئاً » ، والتعريف كالأعمش ، والأعرج . وقالوا :
$[2/
الكذب يجوز إذا كان تحصيل المقصود لا يمكن إلا به ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً » .
ومما يتعلق بهذا المبحث أحكام النذور والإِيمان(2/309)
والجملة في ذلك أنها من ديدن الناس وعادتهم عربهم وعجمهم لا تجد واحدة من الأمم إلا تستعملها في مظانها فوجب البحث عنها .
ليس النذر من أصول البر :
وليس النذر من أصول البر ولا الإِيمان ، ولكن إذا أوجب الإِنسان على نفسه وذكر اسم اللّه عليه وجب ألا يفرط في جنب اللّه وفيما ذكر عليه اسم اللّه ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً وإنما يستخرج به من البخيل » ، يعني أن الإِنسان إذا أحيط به ربما يسهل عليه إنفاق شيء فإذا أنقذه اللّه من تلك المهلكة كان كأن لم يمسه ضر قط ، فلابد من شيء يستخرج به ما التزمه على نفسه مما يؤكد عزيمته وينوه نيته .
الحلف أربعة أنواع :
والحلف على أربعة أضرب : يمين منعقدة وهي اليمين على مستقبل متصور عاقداً عليه قلبه ، وفيها قوله تعالى : { وَلكِن يُؤَاخِذكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } .
ولغو اليمين قول الرجل : لا واللّه ، وبلى واللّه من غير قصد ، وأن
$[2/550]
يحلف على شئ يظنه كما حلف فتبين بخلافه ، وفيها قوله تعالى : { لا يُؤَاخِذُكِمُ اللّه بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } .
واليمين الغموس وهي التي يحلفها كاذباً عامداً ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهي من الكبائر .
واليمين على مستحيل عقلاً كصوم أمس ، والجمع بين الضدين ، أو عادة كإحياء الميت وقلب الأعيان .
واختلف في الضربين اللذين ليس فيهما نصل فيهما كفارة ؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك » .
أقول : الحلف باسم شيء لا يتحقق حتى يعتقد فيه عظمة وفي اسمه بركة ، والتفريط في جنبه وإهمال ما ذكر اسمه عليه إثم .
من حلف بمحرم وجب عليه التصدق :(2/310)
قال صلى اللّه عليه وسلم : « من حلف فقال في حلفه : باللات والعزى ، فليقل : لا إله إلا اللّه ، ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق » . أقول : اللسان ترجمان القلب ومقدمته ولا يتحقق تهذيب القلب حتى يؤاخذ بحفظ اللسان .
$[2/551]
من حلف يميناً على محرم أو مكروه كفّر عن يمينه :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفّر عن يمينك وأت الذي هو خير » .
وقال عليه الصلاة والسلام : « لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند اللّه من أن يعطي كفارته التي افترض اللّه عليه » ، أقول : كثيراً ما يحلف الإِنسان على شيء فيضيّق على نفسه وعلى الناس وليست تلك من المصلحة ، وإنما شرعت الكفارة منهية لما يجده المكلف في نفسه .
اليمين على نية المحلف لا الحالف :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك » ، أقول : قد يحتال لاقتطاع مال امرئ مسلم بأن يتأول في اليمين فيقول مثلاً : واللّه ليس في يدي من مالك شيء يريد ليس في يدي شيء وإن كان في تصرفي وقبضي ، وهذا محله الظالم .
من قال في يمينه إن شاء اللّه لم يحنث :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من حلف فقال : إن شاء اللّه لم يحنث » .
أقول : حينئذٍ لم يتحقق عقد القلب ولا جزم النية وهو المعنى في الكفارة ، قال اللّه تعالى : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطعامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أوسط ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رقبَةٍ فمَن لمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّام ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } .
$[2/552]
أقول : قد مر سر وجوب الكفارة من قبل فراجع .
أقسام النذر :
والنذر على أقسام : النذر المبهم ، وفيه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين » .(2/311)
والنذر المباح ، وفيه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « أوفِ بنذرك » ، بلا وجوب لما يأتي من قصة أبي إسرائيل .
ونذر طاعة في موضع بعينه أو بهيئة بعينها ، وفيه قصة أبي إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه » ، وقصة من نذر أن ينحر إبلاً ببوانة ليس بها وثن ولا عيد لأهل الجاهلية ، قال : « أوفِ بنذرك » .
ونذر المعصية ، وفيه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « من نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين » .
ونذر مستحيل ، وفيه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « من نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين » ، والأصل في هذا الباب أن الكفارة شرعت منهية للإثم مزيلة لما حاك في صدره فمن نذر بطاعة فليفعل ومن نذر غير ذلك ووجد في صدره حرجاً وجبت الكفارة ، واللّه أعلم .
$[2/553]
من أبواب شتى
قد فرغنا والحمد للّه رب العالمين عما أردنا إيراده في هذا الكتاب وشرطناه على أنفسنا ، ولا استوعب المذكور جميع ما هو مكنون في صدورنا من أسرار الشريعة فليس كل وقت يسمح القلب بمضنونات السرائر وينفخ اللسان بمكنونات الضمائر ، ولا كل حديث ينثى للعامة ولا كل شيء يحسن ذكره بغير تمهيد مقدماته ، ولا استوعب ما جمع اللّه في صدورنا جميع ما أنزل على قلب النبي صلى اللّه عليه وسلم وكيف يكون لمورد الوحي ومنزل القرآن نسبة مع رجل من أمته هيهات ذلك ، ولا استوعب ما جمع اللّه في صدره صلى اللّه عليه وسلم جميع ما عند اللّه تعالى من الحكم والمصالح المرعية في أحكامه تعالى ، وقد أوضح عن ذلك الخضر عليه السلام حيث قال : ما نقص علمي وعلمك إلا كما نقص هذا العصفور من البحر .(2/312)
فمن هذا الوجه ينبغي أن يعرف فخامة أمر المصالح المرعية في الأحكام الشرعية وأنها لا منتهى لها ، وأن جميع ما يذكر فيها غير وافٍ بواجب حقها ، ولا كافيٍ بحقيقة شأنها ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله ،
$[2/554]
ونحن الآن نشتغل بشيء من السير ، والفتن ، والمناقب على التيسير دون الاستيعاب ، واللّه الموفق والمعين ، وإليه المرجع والمآب .
سير النبي صلى اللّه عليه وسلم
نسب النبي عليه السلام :
نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم . بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي ، نشأ من أفضل الهرب نسباً وأقواهم شجاعة وأوفرهم سخاوة وأفصحهم لساناً وأذكاهم جناناً ، وكذلك الأنبياء عليهم السلام لا تبعث إلا في نسب قومها ، فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، وجودة الأخلاق يرثها الرجل من آبائه ولا يستحق النبوة إلا الكاملون في الأخلاق . وقد أراد اللّه ببعثهم أن يظهر الحق ويقيم بهم الأمة العوجاء ويجعلهم أئمة ، والأقرب لذلك أهل النسب الرفيع واللطف مرعي في أمر اللّه ، وهو قوله تعالى : { اللّه أَعْلَمُ حَيْث يَجْعَلُ رسَالَتَهُ } .
وصف النبي عليه السلام :
ونشأ معتدلاً في الخَلْق والخُلُق ، كان رَبْعة ليس بالطويل ولا بالقصير ، ولا الحمد القطط ، ولا السبط . كان جعداً رجِلاً ، ولم يكن بالمطهم ، ولا بالمكلثم .
وكان في وجهه تدوير ، ضخم الرأس واللحية شثن الكفين والقدمين
$[2/555]
مشرباً حمرة ، ضخم الكراديس ، قوي البطش والباءة ، أصدق الناس لهجة وألينهمِ عريكة من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه ، أشد الناس تواضعاً مع كبر النفس وأرفقهم بأهل بيته وخدمه ، خدمه أنس رضي اللّه عنه عشر سنين فما قال له أفٍ ولا لمَ صنعت ؟ ولا ألا صنعت ؟ وإن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت .
وكان يكون في مهنة أهله ولم يكن فاحشاً ولا لعّاناً ولا سباباً .
تواضعه وخلقه عليه السلام :(2/313)
وكان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويحلب شاته مع كونه ذا عزيمة نافذة . قيله القيل لا يغلبه أمر ولا تفوته مصلحة .
وكان أجود الناس وأصبرهم على الأذى وأكثرهم رحمة بالناس لا يصل إلى أحد منه شر لا من يده ولا من لسانه إلا أن يجاهد في سبيل اللّه . وكان ألزمهم بإصلاح تدبير المنزل ورعاية الأصحاب وسياسة المدينة بحيث لا يتصور فوقه . يعرف لكل شيء قدره .
دعاؤه وذكره :
وكان دائم النظر إلى الملكوت مستهتراً بذكر اللّه يحس ذلك من
$[2/556]
فلتات لسانه وجميع حالاته مؤيداً من الغيب مباركاً يستجاب دعاؤه وتفتح عليه العلوم من حظيرة القدس ويظهر منه المعجزات من وجوه استجابة الدعوات وانكشاف خبر المستقبل وظهور البركة فيما يُبَرَّك عليه .
وكذلك الأنبياء صلوات اللّه عليهم يجبلون على هذه الصفات ويندفعون إليها فطرة فطرهم اللّه عليها .
ذكره إبراهيم عليه السلام في دعائه وبشر بفخامة أمره ، وبشر به موسى وعيسى عليهما السلام وسائر الأنبياء صلوات اللّه عليهم .
معجزات ولادته :
ورأت أمه كأن نوراً خرج منها فأضاء الأرض فعبرت بوجود ولد مبارك يظهر دينه شرقاً وغرباً وهتفت الجن وأخبرت الكهان والمنجمون بوجوده وعلو أمره ودلت الواقعات الجوية كانكسار شرفات كسرى على شرفه وأحاطت به دلائل النبوة كما أخبر هرقل قيصر الروم ورأوا آثار البركة عند مولده وإرضاعه وظهرت الملائكة فشقت عن قلبه فملأته إيماناً وحكمة ، وذلك بين عالم المثال والشهادة فلذلك لم يكن الشق عن القلب إهلاكاً وقد بقي منه أثر المخيط وكذلك كل ما اختلط فيه عالم المثال والشهادة .
سفره إلى الشام :
ولما خرج به أبو طالب إلى الشام فرآه الراهب شهد بنبوته لآيات رآها فيه ، ولما شب ظهرت مناسبة الملائكة بالهتف به والتمثل له .
$[2/557]
زواجه عليه السلام :(2/314)
وسد اللّه خلته برغبة خديجة رضي اللّه عنها فيه ومواساتها به وكانت من مياسير نساء قريش ، وكذلك من أحبه اللّه يدبر له في عباده . ولما بنى الكعبة فيمن بنى ألقى إزاره على عاتقه كعادة العرب فانكشفت عورته فأسقط مغشياً عليه ، ونُهي عن كشف عورته في غشيته وذلك شعبة من النبوة ونوع من المؤاخذة في النفس .
الخلوة في حراء :
ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بحراء الليالي ذوات العدد ، ثم يأتي أهله ويتزود لمثلها لعزوفه عن الدنيا وتجرده إلى الفطرة التي فطره اللّه عليها .
وكان أول ما بدئ به الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وهذه شعبة من شعب النبوة .
نزول الوحي :
ثم نزل الحق عليه وهو بحراء ففزع بطبيعته بأن تشوشت البهيمة من سننها لغلبة الملكية فذهبت به خديجة إلى ورقة ، فقال : هو الناموس الذي نزل على موسى ، ثم فتر الوحي وذلك لأن الإِنسان يجمع جهتين : جهة البشرية ، وجهة الملكية فيكون عند الخروج من الظلمات إلى النور مزاحمات ومصادمات حتى يتم أمر اللّه .
$[2/558]
وكان يرى الملك تارة جالساً بين السماء والأرض ، وتارة واقفاً في الحرم تصل حجزته إلى الكعبة ونحو ذلك ، وسره أن الملكوت تلم بالنفوس المستعدة للنبوة فكلما انفلتت برق عليها بارق ملكي حسبما يقتضيه الوقت كما تنفلت نفوس العامة فتطلع في الرؤيا على بعض الأمر .
كيفية الوحي :
قيل : « يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : أحياناً يأتيني مثلِ صلصلة الجرس وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال : وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول » .
أقول : أما الصلصلة فحقيقتها أن الحواس إذا صادمها تأثير قوي تشوشت ، فتشويش قوة البصر أن يرى ألواناً : الحمرة والصفرة والخضرة ونحو ذلك ، وتشويش قوة السمع أن يسمع أصواتاً مبهمة كالطنين والصلصلة والهمهمة فإذا تم الأثر حصل العلم .(2/315)
وأما التمثل فهو في موطن يجمع بعض أحكام المثال والشهادة ، ولذلك كان يرى الملك بعضهم دون البعض .
بدء الدعوة سراً :
ثم أمر بالدعوة فاشتغل بها إخفاء فآمنت خديجة ، وأبو بكر الصديق ، وبلال ، وأمثالهم رضي اللّه عنهم .
$[2/559]
ثم قيل له : { فَاصْدَعْ بِما تُؤمَرُ } .
وقيل : { وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبينَ } .
الجهر بالدعوة :
فجهر بالدعوة وإبطال وجوه الشرك فتعصب عليه الناس وآذوه بألسنتهم وأيديهم كقصة إلقاء سلى جزور والخنق وهو صابر في كل ذلك يبشر المؤمنين بالنصر وينذر الكافرين بالانهزام كما قال اللّه تعالى : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيوَلُّونَ الدُّبُرَ } .
وقال اللّه تعالى : { جنْدٌ ما هُنَالِكَ مَهْزُومٌ منَ الأَحْزَابِ } .
ثم ازدادوا في التعصب فتقاسموا على إيذاء المسلمين ومن وليهم من بني هاشم وبني المطلب فهدوا إلى الهجرة قِبَلَ الحبشة فوجدوا سعة قبل السعة الكبرى .
موت زوجه وعمه :
ولما ماتت خديجة رضي اللّه عنها ومات أبو طالب عمه وتفرقت كلمة
$[2/560]
بني هاشم فزع لذلك وكان قد نفث في صدره أن علو كلمته في الهجرة نفثاً إجمالياً فتلقاه برويته وفكره فذهب وهلة إلى الطائف ، وإلى هجر ، وإلى اليمامة ، وإلى كل مذهب .
فاستعجل وذهب إلى الطائف فلقي عناءً شديداً ، ثم إلى بني كنانة فلم ير منهم ما يسره فعاد إلى مكة بعهد زمعة ونزل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رسُول وَلا نَبِيٍّ إلا إذا تمنى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } .
قال : أمنيته أن يتمنى إنجاز الوعد فيما يتفكره من قبل نفسه وإلقاء الشيطان أن يكون خلاف ما أراد اللّه ونسخه كشف حقيقة الحال وإزالته من قلبه .
الإِسراء والمعراج :
وأسري به إلى المسجد الأقصى ، ثم إلى سدرة المنتهى ، وإلى ما شاء اللّه .(2/316)
وكل ذلك لجسده صلى اللّه عليه وسلم في اليقظة ولكن ذلك في موطن هو برزخ بين المثال والشهادة جامع لأحكامهما فظهر على الجسد أحكام الروح وتمثل الروح والمعاني الروحية أجساداً ، ولذلك بأن لكل واقعة من تلك الوقائع تعبير ، وقد ظهر لحزقيل ، وموسى ، وغيرهما عليهما السلام نحو من تلك الوقائع وكذلك لأولياء الأمة ليكون علو درجاتهم عند اللّه كحالهم في الرؤيا واللّه أعلم .
$[2/561]
شق صدره :
أما شق الصدر وملؤه إيماناً فحقيقته غلبة أنوار الملكية وانطفاء لهب الطبيعة وخضوعها لما يفيض عليها من حظيرة القدس .
ركوبه البراق :
وأما ركوبه على البراق فحقيقته استواء نفسه النطقية على نسمته التي هي الكمال الحيواني فاستوى راكباً على البراق كما غلبت أحكام نفسه النطقية على البهيمية وتسلطت عليها .
وأما إسراؤه إلى المسجد الأقصى فلأنه محل ظهور شعائر اللّه ومتعلق همم الملأ الأعلى ومطمح أنظار الأنبياء عليهم السلام فكأنه كُوَّة إلى الملكوت .
ملاقاته الأنبياء :
وأما ملاقاته مع الأنبياء صلوات اللّه عليهم ومفاخرته معهم فحقيقتها اجتماعهم من حيث ارتباطهم بحظيرة القدس وظهور ما اختص به من بينهم من وجوه الكمال .
وأما رقيه إلى السموات سماء بعد سماء فحقيقته الانسلاخ إلى مستوى الرحمن منزلة بعد منزلة ومعرفة حال الملائكة الموكلة بها ومن لحق بهم من أفاضل البشر والتدبير الذي أوحاه اللّه فيها والاختصام الذي يحصل في مَلَئِهَا .
وأما بكاء موسى فليس بحسد ولكنه مثال لفقده عموم الدعوة وبقاء كمال لم يحصله مما هو في وجهه .
$[2/562]
سدرة المنتهى :(2/317)
وأما سدرة المنتهى فشجرة الكون وترتب بعضها على بعض وانجماعها في تدبير واحد كانجماع الشجرة في الغاذية والنامية ونحوهما ولم تتمثل حيواناً لأن التدبير الجملي الإِجمالي الشبيه للسياسة الكلي أفراده ، وإنما أشبه الأشياء به الشجرة دون الحيوان فإن الحيوان فيه قوى تفصيلية والإِرادة فيه أصرح من سنن الطبيعة .
الأنهار والأنوار :
وأما الأنهار في أصلها فرحمة فائضة في الملكوت حذو الشهادة وحياة وإنماء ، فلذلك تعين هنالك بعض الأمور النافعة في الشهادة كالنيل والفرات .
وأما الأنوار التي غشيتها فتدليان إلهية وتدبيرات رحمانية تلعلعت في الشهادة حيثما استعدت لها .
البيت المعمور :
وأما البيت المعمور فحقيقته التجلي الإِلهي الذي يتوجه إليه سجدات البشر وتضرعاتها يتمثل بيتاً على حذو ما عندهم من الكعبة وبيت المقدس .
ثم أُتي بإناء من لبن ، وإناء من خمر فاختار اللبن ، فقال جبرائيل : هديت للفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك فكان هو صلى اللّه عليه وسلم جامع أمته ومنشأ ظهورهم وكان اللبن اختيارهم الفطرة والخمر اختيارهم لذات الدنيا .
$[2/563]
فرض الصلوات الخمس :
وأمر بخمس صلوات بلسان التجوز لأنها خمسون باعتبار الثواب ، ثم أوضح اللّه مراده تدريجاً ليعلم أن الحرج مدفوع وأن النعمة كاملة وتمثل هذا المعنى مستنداً إلى موسى عليه السلام فإنه أكثر الأنبياء معالجة للأمة ومعرفة بسياستها .
بيعة العقبة :
ثم كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يستنجد من أحياء العرب فوفق الأنصار لذلك فبايعوه بيعة العقبة الأولى ، والثانية ودخل الإِسلام كل دار من دور المدينة .
الهجرة إلى المدينة :(2/318)
وأوضح اللّه على نبيه أن ارتفاع دينه الهجرة إلى المدينة فأجمع عليها وازداد غيظ قريش فمكروا به ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه فظهرت آيات لكونه محبوباً مباركاً مقضياً له بالغلبة فلما دخل هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه الغار لدغ أبو بكر رضي اللّه عنه فبرك عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فشفي من ساعته .
ولما وقف الكفار على رأس الغار أعمى اللّه أبصارهم وصرف عنه أفكارهم ولما أدركهما سراقة بن مالك دعا عليه فارتطمت فرسه إلى بطنها في جَلَد من الأرض بأن انخسفت الأرض بتقريب من اللّه فتكفل بالرد عنهما ، ولما مروا بخيمة أم معبد درت له شاة لم تكن من شياه الدر .
$[2/564]
ثلاث أمور لا يعلمها إلا نبي :
فلما قدما المدينة جاءه عبد اللّه بن سلام فسأله عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : فما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال صلى اللّه عليه وسلم : « أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت » ، فأسلم عبد اللّه وكان إفحاماً لأحبار اليهود .
الصلاة والأذان والجمعة والجماعة :(2/319)
ثم عاهد النبي صلى اللّه عليه وسلم اليهود وأمن شرهم واشتغل ببناء المسجد وعلّم المسلمين الصلاة وأوقاتها وشاور فيما يحصل به الإِعلام بالصلاة ، فأُري عبد اللّه بن زيد في منامه الأذان وكان مطمح الإفاضة الغيبية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإن كان السفير عبد اللّه ، وحرضهم على الجماعة ، والجمعة ، والصوم وأمر بالزكاة وعلمهم حدودها وجهر بدعوة الخلق إلى الإِسلام ورغبهم في الهجرة من أوطانهم لأنها يومئذٍ دار الكفر ولا يستطيعون إقامة الإِسلام هنالك وشد المسلمين بعضهم ببعض بالمواخاة وإيجاب الصلة والإِنفاق والتوارث بتلك المؤاخاة لتتفق كلمتهم فيتأتى الجهاد ويتمنعوا من أعدائهم ، وكان القوم ألفوا التناصر بالقبائل .
الأمر بالجهاد :
ثم لما رأى اللّه فيهم اجتماعاً ونجدة أوحى إلى نبيه أن يجاهد
$[2/565]
ويقعد لهم كل مرصد ، ولما وقعت واقعة بدر لم يكونوا على ماء فأمطر اللّه مطراً ، واستشار الناس هل يختار العير أم النفير ؟ فبورك في رأيهم حسب رأيه فأجمعوا على النفير بعد ما لم يكد يكون ذلك ، ولما رأى صلى اللّه عليه وسلم كثرة العدو تضرع إلى اللّه فبشر بالفتح وأوحى إليه مصارع القوم .
فقال : « هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان يضع يده هاهنا وهاهنا فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم » ، وظهرت الملائكة يومئذٍ بحيث يراها الناس لتثبت قلوب الموحدين وترعب قلوب المشركين فكان ذلك فتحاً عظيماً أغناهم اللّه به وأشبعهم وقطع حبل الشرك وأهلك أفلاذ كبد قريش ، ولذا يسمى فرقاناً .
وكان ميلهم للافتداء مخالفاً لما أحبه من اللّه قطع دابر الشرك فعوتبوا ثم عُفي عنهم .
إجلاء اليهود عن المدينة :(2/320)
ثم أهاج اللّه تقريباً لإجلاء اليهود فإنه لم يكن يصفو دين اللّه بالمدينة وهم مجاوروها فكان منهم نقض العهد فأجلى بني النضير ، وبني قينقاع ، وقتل كعب بن الأشرف ، وألقى اللّه في قلوبهم الرعب فلم يعرجوا لمن وعدهم النصر وشجع قلوبهم فأفاء اللّه أموالهم على نبيه وكان أول توسيع عليهم .
$[2/566]
وكان أبو رافع تأجر الحجاز يؤذي المسلمين فبعث إليه عبد اللّه بن عتيك فيسر اللّه له قتله ، فلما خرج من بيته انكسرت ساقه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أبسط رجلك فمسحها فكأنها لم يشتكِها قط » .
يوم أحد درس للمسلمين :
ولما اجتمعت الأسباب السماوية على هزيمة المسلمينِ يوم أحد ظهرت رحمة اللّه ثَمَّ من وجوه كثيرة فجعل الواقعة استبصاراً في دينهم وعبرة فلم يجعل سببه إلا مخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما أمر من القيام على الشعب ، وعلم اللّه تعالى نبيه بالانهزام إجمالاً فأراه سيفاً انقطع وبقرة ذبحت فكانت الهزيمة وشهادة الصحابة ، وجعلها بمنزلة نهر طالوت ميز اللّه بها المخلصين من غيرهم لئلا يعتمد على أحد أكثر مما ينبغي .
كرامة الشهداء :
ولما استشهد عاصم وأصحابه حمتهم الزنابير من الأعادي فلم يبلغوا منهم ما أرادوا .
ولما استشهد القراء في بئر معونة جعل النبي صلى اللّه عليه وسلم . يدعو عليهم في صلاته وكان فيه نوع من استعجال البشرية فنبه على ذلك ليكون كل أمره في اللّه وباللّه وللّه ، ونزل في القرآن مقالتهم - بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه لتتسلى قلوبهم - ثم نسخ بعد .
يوم الأحزاب :
ولما أحاطت بهم الأحزاب وحفر الخندق ظهرت رحمة اللّه بهم من وجوه كثيرة رد اللّه كيدهم في نحورهم ولم يضروا المسلمين شيئاً ، وبورك في طعام جابر رضي اللّه عنه فكفى صاع من شعير وبهمة نحو ألف
$[2/567](2/321)
رجل ، وانكشفت قصور كسرى وقيصر في قدحة الحجر وبشر بفتحها وهبت ريح شديدة في ليلة مظلمة ، وألقي الرعب في قلوبهم فانهزموا ، وحاصر قريظة فنزلوا على حكم سعد رضي اللّه عنه فأمر بقتل مقاتلتهم وسبي ذريتهم فأصاب الحق ، وكانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم . رغبة طبيعية في زينب رضي اللّه عنها فوفر اللّه له ذلك حيث كانت فيه مصلحة دينية ليعلموا أن حلائل الأدعياء تحل لهم فطلقها زوجها فأنكحها اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم .
استسقاء النبي على المنبر :
وبينا هو يخطب يوم الجمعة إذ قام أعرابي فقال : يا رسول اللّه هلك المال وجاع العيال فاستسقى وما في السماء قزعة . فما وضع يده حتى ثار السماء كأمثال الجبال فمطروا حتى خافوا الضرر ، فقال : « حوالينا ولا علينا لا يشير إلى ناحية إلا انفرجت » .
من معجزات النبي عليه السلام :
وتكرر ظهور البركة فيما برَّك عليه كبيدر جابر وأقراص أم سليم ونحوها .
ولما غزا بني المصطلق ظهرت الملائكة متمثلة فخاف العدو .
واتهمت عائشة في تلك الغزوة فظهرت رحمة اللّه بتبرئتها وإقامة الحد على من أشاع الفاحشة عليها .
$[2/568]
ولما انكسفت الشمس تضرع إلى اللّه فإنه آية من آيات اللّه يترشح عندها خوف في قلوب المصطفين ، ورأى في ذلك الجنة والنار بينه وبين جدار القبلة وهو من ظهور حكم المثال في مكان خاص .
رؤية الرسول الفتح :
وأراه اللّه في رؤياه ما يقع بعد الفتِح من دخولهم مكة محلقين ومقصرين لا يخافون فرغبوا في العمرة ولما يئِنْ وقتها ، وكان ذلك تقريباً من اللّه للصلح الذي هو سبب فتوح كثيرة وهم لا يشعرون .
نظير ذلك ما قالته عائشة رضي اللّه عنها في معارضة أبي بكر ، وعمر رضي اللّه عنهما عند موت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، إن في كل قول فائدة فرد اللّه المنافقين بقول عمر رضي اللّه عنه وبيّن الحق بقول أبي بكر رضي اللّه عنه فأل الأمر إلى أن اجتمع رأي هؤلاء وهؤلاء أن يصطلحوا وإن كرهه الفئتان .(2/322)
نبع الماء من بين أصابع النبي :
وظهرت هنالك آيات ، عطشوا ولم يكن عندهم ماء إلا في ركوة فوضع عليه السلام يده فيها فجعل الماء يفور من بين أصابعه .
ونزحوا ماء الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة فبرك عليها - فسقوا واستقوا . ووقعت بيعة الرضوان معرفة لإخلاص المخلصين ، ثم فتح اللّه عليه خيبر فأفاء منه على النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين ما يتقوون به على الجهاد ، وكان ابتداء انتظام الخلافة فصار عليه السلام خليفة اللّه في الأرض .
إخباره بالسم الذي وضع في طعامه :
وظهرت آيات ، دسوا السم في طعامه صلى اللّه عليه وسلم فنبأه اللّه .
$[2/569]
وأصابت سلمة بن الأكوع ضربة فنفث فيها نفثات فما اشتكاها بعد .
وأراد أن يقضي حاجته فلم يرَ شيئاً يستتر به فدعا شجرتين فانقادتا كالبعير المخشوش حتى إذا فرغ ردهما إلى موضعه هما .
ولما أراد المحاربي أن يسطو بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ألقى اللّه عليه الرعب فربط يده .
دعوته المستجابة :
ثم نفث اللّه في روعه ما انعقد في الملأ الأعلى من لعن الجبابرة وإزالة شوكتهم وإبطال رسومهم فتقرب إلى اللّه بالسعي في ذلك فكتب إلى قيصر وكسرى وكل جبار عنيد ، فأساء كسرى الأدب فدعا عليه فمزقه اللّه كل ممزق .
نعيه لشهداء مؤتة :
وبعث صلى اللّه عليه وسلم زيداً ، وجعفراً ، وابن رواحة إلى مؤتة فانكشف عليه حالهم فنعاهم عليه السلام قبل أن يأتي الخبر .
ثم بعث اللّه تقريباً بفتح مكة بعد ما فرغ من جهاد أحياء العرب فنقضت قريش عهودها وتعاموا وأراد حاطب أن يخبرهم فنبأ اللّه بذلك رسوله وفتح مكة ولو كره الكافرون وأدخل عليهم الإِسلام من حيث لم يحتسبوا .
$[2/570]
معجزة النبي يوم حنين :(2/323)
ولما التقى المسلمون والكفار يوم حنين وكانت لهم جولة استقام رسول اللّه وأهلِ بيته أشد استقامة ورماهم بتراب فبورك في رميه فما خلق اللّه منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً فولوا مدبرين ، ثم ألقى اللّه سكينته على المسلمين فاجتمعوا واجتهدوا حتى كان الفتح ، وقال لرجل يدعي الإِسلام وقاتل أشد القتال : هو من أهل النار فكاد بعض الناس يرتاب ثم ظهر أنه قتل نفسه .
كشفه السحر :
وسحر النبي صلى اللّه عليه وسلم فدعا اللّه أن يكشف عليه جلية الحال فجاءه فيما يراه رجلان وأخبراه عن السحر والساحر .
إخباره عن أمر مغيب :
وأتاه ذو الخويصرة فقال : « يا رسول اللّه اعدل فانكشف عليه حاله وحال قومه ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : يقاتلون خير فرقة من الناس آيتهم رجل أسود أحد عضديه مثل ثدي المرأة ، فقاتلهم علي رضي اللّه عنه ووجد الوصف كما قال » .
$[2/571]
ودعا لأم أبي هريرة فآمنت في يومها .
حفظ أبي هريرة للعلم :
وقال عليه السلام يوماً : « لم يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالته شيئاً أبداً ، فبسط أبو هريرة فما نسي منها شيئاً » .
وضرب عليه السلام بيده على صدر جرير ، وقال : « اللّهم ثبته فما سقط عن فرسه بعد » ، وكان لا يثبت على الخيل .
وارتد رجل عن دينه فلم تقبله الأرض .
حنين الجذع :
وكان عليه السلام يخطب مستنداً إلى جذع فلما صنع له المنبر واستوى عليه صاح حتى أخذه وضمه .
وركب فرساً بطيئاً ، وقال : « وجدنا فرسكم هذا بحراً » ، فكان بعد ذلك لا يجارى .
غزوة تبوك :
ثم أحكم اللّه دينه وتواردت الوفود وتواترت الفتوح وبعث العمال على القبائل ونصب القضاة في البلاد وتمت الخلافة فنفث في روعه صلى اللّه عليه وسلم . أن يخرج إلى تبوك ليظهر شوكته على الروم فينقاد له أهل تلك الناحية ، وكانت تلك غزوة في وقت الحر والعسرة فجعلها اللّه تمييزاً بين المؤمنين حقاً والمنافقين .
$[2/572](2/324)
ومر عليه السلام على حديقة لامرأة في وادي القرى فخرصها وخرصها الصحابة رضي اللّه عنهم فكان كما قال عليه السلام .
نهيه عن مياه حجر :
ولما وصل إلى ديار حِجْر نهاهم عن مياهه تنفيراً عن محل اللعن ، ونهاهم ليلة أن يخرج أحد فخرج رجل فألقته الريح بجبليْ طيئ ، وضل له صلى اللّه عليه وسلم بعير فقال بعض المنافقين ؛ لو كان نبياً لعلم أين بعيره فنبأه اللّه بقول المنافق وبمكان البعير .
وتخلف ناس من المخلصين زلة منهم ثم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فعفا اللّه عنهم .
وأُلقي ملك أيلة في أسر خالد من حيث لم يحتسب .
نزول سورة براءة :
فلما قوي الإِسلام ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً أوحى اللّه إلى نبيه أن ينبذ عهد كل معاهد من المشركين ، ونزلت سورة براءة .
وأراد المباهلة من نصارى نجران فعجزوا واختاروا الجزية .
ثم خرج إلى الحج وحضر معه نحو من مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً فأراهم مناسك الحج ورد تحريفات الشرك .
$[2/573]
جبرائيل يأتي النبي في صورة رجل :
ولما تم أمر الإِرشاد واقترب أجله بعث اللّه جبرائيل في صورة رجل يراه الناس فسأل النبي عن الإِيمان ، والإِسلام ، والإِحسان والساعة فبيّن النبي صلى اللّه عليه وسلم . وصدقه جبرائيل ليكون ذلك كالفذلكة لدينه .
وفاة الرسول عليه السلام :
ولما مرض لم يزل يذكر الرفيق الأعلى ويحن إليهم حتى توفاه اللّه ، ثم تكفل أمر ملته فنصب قوماً لا يخافون لومة لائم فقاتلوا المتنبئين والروم والعجم حتى تم أمر اللّه ووقع وعده صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم .
الفتن
الإِنسان ثلاث شعب قلب وعقل وطبع :
اعلم أن الفتن على أقسام : فتنة الرجل في نفسه بأن يقسو قلبه فلا يجد حلاوة الطاعة ولا لذة المناجاة ، وإنما الإِنسان ثلاث شعب :
1 - قلب هو مبدأ الأحوال كالغضب ، والجرأة ، والحياء ، والمحبة ، والخوف ، والقض ، والبسط ونحوها .(2/325)
2 - وعقل هو مبدأ العلوم الذي ينتهي إليه الحواس كالأحكام البديهية من التجربة والحدس ونحوهما والنظرية من البرهان والخطابية ونحوهما .
$[2/574]
3 - وطبع هو مبدأ اقتضاء النفس ما لابدّ منه أو لابدّ من جنسه في بقاء البنية كالداعية المنبجسة في شهوة الطعام ، والشراب ، والنوم ، والجماع ، ونحوها .
القلب بين البهيمية والملكية :
فالقلب مهما غلب عليه خصال البهيمية فكان قبضه وبسطه نحو قبض البهائم وبسطها الحاصلين من طبيعة ووهم كان قلباً بهيمياً .
ومهما قبل من الشياطين وسوستهم في النوم واليقظة يسمى الإِنسان شيطان الإِنس .
ومهما غلب عليه خصال الملكية يسمى قلباً إنسانياً فيكون خوفه ومحبته وما يشبههما مائلة إلى اعتقادات حقة حصلها .
ومهما قوي صفاؤه وعظمِ نوره كان روحاً فيكون بسطاً بلا قبض وألفة بلا قلق ؛ وكانت أحواله أنفاساً ، وكانت الخواص الملكية كالديدن له دون الأمور المكتسبة بسعي .
العقل بين البهيمية والملكية :
ومهما غلبت خصال البهيمية على العقل صار جربزة وأحاديث نفس تميل إلى بعض الدواعي الطبيعية فيحدث نفسه بالجماع إن كان فيه شبق ، وبأنواع الطعام إن كان فيه جوع ونحو ذلك ، أو وحي الشيطان فيكون أحاديث النفس تميل إلى فك النظامات الفاضلة وشك في المعتقدات الحقة وإلى هيئات منكرة تعافها النفوس السليمة .
$[2/575]
ومهما غلبت عليه خصال الملكية في الجملة كان عقلاً من فعله التصديق بما يجب تصديقه من العلوم الارتفاقية أو الإِحسانية بديهة أو نظراً .
ومهما قوي نوره وصفاؤه كان سراً من فعله قبول علوم فائضة من الغيب رؤيا وفراسة وكشفاً وهتفاً ونحو ذلك .
ومهما مال إلى المجردات البرية من الزمان والمكان كان خفيًّا .
الطبع بين البهيمية والملكية :
ومهما انحدر الطبع إلى الخصال البهيمية كان نفساً أمارة بالسوء .
ومهما كان متردداً بين البهيمية والملكية وكان الأمر سجالاً ونوباً كان نفساً لوامة .(2/326)
ومهما تقيدت بالشرع ولم تبغ عليه ولم تنبجس إلا فيما يوافقه كانت نفسا مطمئنة .
هذا ما عندي من معرفة لطائف الإِنسان واللّه أعلم .
فتنة الرجل في أهله :
وفتنة الرجل في أهله وهي فساد تدبير المنزل ، واليها الإِشارة في قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إن إبليس يضع عرشه » - إلى أن قال - « ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه ، ويقول : نعم أنت » .
فتنة فساد تدبير المدينة :
وفتنة تموج كموج البحر وهي فساد تدبير المدينة وطمع الناس في الخلافة من غير حق ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب » ، ولكن في التحريش بينهم .
$[2/576]
فتنة ملية :
وفتنة ملية وهي أن يموت الحواريون من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ويستند الأمر إلى غير أهله فيتعمق رهبانهم وأحبارهم ويتهاون ملوكهم وجهالهم ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فيصير الزمان زمان الجاهلية ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « ما من نبي إلا كان له حواريون » ، الحديث .
فتنة تغير الناس من الإِنسانية :
وفتنة مستطيرة وهي تغير الناس من الإِنسانية ومقتضاها فأزكاهم وأزهدهم إلى الانسلاخ من مقتضيات الطبع رأساً دون إصلاحها والتشبه بالمجردات والتحنن إليهم بوجه من الوجوه ونحو ذلك ، وعامتهم إلى البهيمية الخالصة ويكون ناس بين الفريقين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
فتنة الوقائع الجوية :
وفتنة الوقائع الجوية المنذرة بالإِهلاك العام كالطوفانات العظيمة من الوباء والخسف والنار المنتشرة في الأقطار ونحو ذلك .
النبي تحدث عن الفتن :
وقد بيّن النبي صلى اللّه عليه وسلم أكثر الفتن قال : « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم » .
وقال عليه السلام : « يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير لا يباليهم اللّه بالة » .(2/327)
أقول : علم النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه إذا بَعُد العهد من النبي وانقرض الحواريون
$[2/577]
من أصحابه ووسد الأمر إلى غير أهله لابد أن تجري الرسوم حسب الدواعي النفسانية والشيطانية وتعمهم جميعاً إلا من شاء اللّه منهم .
بدا الأمر بالنبوة وينتهي بالعتو والفساد :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ، ثم مُلكاً عضوضاً ثم كائن جبرية وعتواً وفساداً في الأرض يستحلون الحرير والفروج والخمور يرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا اللّه » . أقول : فالنبوة انقضت بوفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والخلافة التي لا سيف فيها بمقتل عثمان ، والخلافة بشهادة علي كرم اللّه وجهه وخلع الحسن رضي اللّه عنه ، والملك العضوض مشاجرات الصحابة بني أمية ومظالمهم إلى أن استقر أمر معاوية ، والجبرية ، والعتو خلافة بني العباس فإنهم مهدوها على رسوم كسرى وقيصر .
الفتن تعرض للقلوب فتقبلها أو ترفضها :
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « تعرض الفتن على القلوب والحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه » .
$[2/578](2/328)
أقول الهواجس النفسانية والشيطانية تنبعث في القلوب والأعمال الفاسدة تكتنفها ولا تكون حينئذٍ دعوة حثيثة إلى الحق فلا ينكرها إلا من جهل في قلبه هيئة مضادة للفتن ، وتعم من سوى ذلك وتأخذ بتلابيبه . وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الناس ، ثم علموا من القرآن ، ثم علموا من السنة » - وحدث عليه السلام عن رفعها - فقال : « ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيطل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً » .
الإِسلام اختار قوماً للانقياد لحكم اللّه :
أقول لما أراد اللّه ظهور ملة الإِسلام اختار قوماً ومرنهم للانقياد والإِذعان وجمع الهمة على موافقة حكم اللّه ، ثم كانت الأحكام المفصلة في الكتاب والسنّة تفصيلاً لذلك الإِذعان الإِجمالي . ثم إنها تخرج من صدورهم على غفلة منها وذهول شيئاً فشيئاً فيرى الإِنسان أظرف ما يكون وأعقله وليس في قلبه مقدار شيء من الأمانة لا بالنسبة إلى دين اللّه ولا بالنسبة إلى معاملات الناس .
$[2/579]
الرسول يخبرنا أن بعد الخير شر :
وقال حذيفة رضي اللّه عنه : « قلت يا رسول اللّه أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر ؟ قال : نعم ، قلت : فما العصمة ؟ قال : السيف ، قلت وهل بعد السيف بقية ؟ قال : نعم يكون إمارة على أقذاء وهدنة على دخن ، قلت : ماذا ؟ قال : ثم ينشأ دعاة الضلال فإن كان للّه في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة » .(2/329)
أقول : الفتنة التي يكون العصمة فيها السيف ارتداد العرب في أيام أبي بكر رضي اللّه عنه ، وأما أمارة على أقذاء فالمشاجرات التي وقعت في أيام عثمان وعلي رضي اللّه عنهما ، وهدنة على دخن الصلح الذي وقع بين معاوية والحسن بن علي رضي اللّه عنهما ، ودعاة الضلال يزيد بالشام ، ومختار بالعراق ، ونحو ذلك حتى استقر الأمر على عبد الملك .
فتنة الأحلاس وفتنة السراء :
وذكر صلى اللّه عليه وسلم فتنة الأحلاس ، قيل : « وما فتنة الأحلاس ؟ قال : هي هرب وحرب » ، قال : « ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني إنما أوليائي المتقون ، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع » ، ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة ، فإذا قيل : انقضت تمادت .
$[2/580]
أقول : يشبه واللّه أعلم أن تكون فتنة الأحلاس قتال أهل الشام عبد اللّه بن الزبير بعد هربه من المدينة ، وفتنة السراء إما تغلب المختار وإفراطه في القتل والنهب يدعو ثأر أهل البيت ، فقوله عليه السلام : « يزعم أنه مني » ، معناه من حزب أهل البيت وناصريهم ، ثم اصطلحوا على مروان وأولاده ، أو خروج أبي مسلم الخراساني لبني العباس يزعم أنه يسعى في خلافة أهل البيت ، ثم اصطلحوا على السفاح ، والفتنة الدهيماء تغلب الجنكيزية على المسلمين ونهبهم بلاد الإِسلام .
أشراط الساعة :
وبيّن النبي صلى اللّه عليه وسلم أشراط الساعة وهي ترجع إلى أنواع : الفتن التي مر
$[2/581]
ذكرها وشيوعها وكثرتها فإن التلف من القرف ، وإنما يجئ النقصان من حيث يجيء الهلاك ، وشرح هذا يطول .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر الزنا ، ويكثر شرب الخمر ، ويقل الرجال ، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد » .(2/330)
والحشر في لسان الشريعة مقول على معنيين : حشر الناش إلى الشام ، وهو واقعة قبل القيامة حين يقل الناس على وجه الأرض يحشر بعضهم بتقريبات وبعضهم بنار تسوقهم ، وحشر هو البعث بعد الموت ، وقد ذكرنا من قبل أسرار المعاد ، واللّه أعلم .
الفتن العظيمة أربع :
الفتن العظيمة التي أخبر بها النبي صلى اللّه عليه وسلم أربع : الأولى فتنة أمارة على أقذاء ، وذلك صادق بمشاجرات الصحابة بعد مقتل عثمان رضي اللّه عنه إلى أن استقرت خلافة معاوية ، وهي التي أشير إليها بقوله : « هدنة على دخن » ، وهو الذي يعرف أمره وينكر لأنه كان على سيرة الملوك لا على سيرة الخلفاء قبله .
الثانية : فتنة الأحلاس ، وفتنة الدعاة إلى أبواب جهنم ، وذلك صادق باختلاف الناس وخروجهم طالبين الخلافة بعد موت معاوية إلى أن استقرت خلافة عبد الملك .
$[2/582]
الثالثة : فتنة السراء ، والجبرية ، والعتو ، وذلك صادق بخروج بني العباس على بني أمية إلى أن استقرت الخلافة العباسية ومهدوها على رسوم الأكاسرة وأخذوا بجبرية وعتو .
الرابعة : فتنة تلطم جميع الناس إذا قيل : انقضت تمادت حتى رجع الناس إلى فسطاطتين وذلك صادق بخروج الأتراك الجنكيزية وإبطالهم خلافة بني العباس ومزقهم على وجهها الفتن .
تدور رحى الإِسلام :
والأحاديث الواردة في الفتن أكثرها مرت من قبل ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تدور رحى الإِسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً ، قلت : أمما بقي أو مما مضى ؟ قال : مما مضى » .
فمعنى قوله : « تدور رحى الإِسلام » ، أي يقوم أمر الإِسلام بإقامة الحدود والجهاد في هذه الأمة وذلك صادق من ابتداء وقت الجهاد وأوائل الهجرة إلى مقتل سيدنا عثمان رضي اللّه عنه ، والشك في خمسة وثلاثين وأخواتها لأن اللّه تعالى أوحى إليه مجملاً .(2/331)
وقوله : « فإن يهلكوا » ، بيان لصعوبة الأمر وأن الأمر يصير إلى حالة لو نظر فيها الناظر يشك في هلاك الأمة وبطلان أمورهم .
$[2/583]
قوله : سبعين عاماً ابتداؤها من البعثة وتمامها موت معاوية رضي اللّه عنه وبعده قامت فتنة دعاة الضلال .
وقوله : سبعين عاماً معناه تهويل الأمر وانه يكون تحت بطن الباطن فيه ، وأنه لا يكون بعد هذه استقامة الأمر ، واللّه أعلم .
يقاتلكم قوم صغار الأعين :
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يقاتلكم قوم صغار الأعين - يعني الترك - تسوقونهم ثلاث مرات » ، الحديث معناه أن العرب يجاهدونهم ويغلبونهم فيصير ذلك سبباً لأحقاد وضغائن حتى يؤول الأمر إلى أن يذبوا العرب من بلادهم ثم لا يقتصرون على ذلك بل يدخلون بلاد العرب ، وهذا هو المراد من قوله : « حتى تلحقوهم بجزيرة العرب » ، أما في السياقة الأولى فينجو من العرب من هرب من قتالهم بأن يفر من بين أيديهم ، وذلك صادق بقتال الجنكيزية فهلك العباسية الذين كانوا ببغداد ونجا العباسية الذين فروا إلى مصر ، وأما في السياقة الثانية فينجو بعض ويهلك بعض ، وذلك صادق بوطء تيمور ديار الشام وإهلاك أمر العباسية « وأما في الثالثة فيصطلمون » ، وذلك صادق بغلبة العثمانية على جميع العمل ، واللّه أعلم .
$[2/584]
المناقب
مناقب الصحابة تتجلى في أمور :
الأصل في مناقب الصحابة رضي اللّه عنهم أمور :
منها : أن يطلع النبي صلى اللّه عليه وسلم على هيئة نفسانية تعد الإِنسان لدخول الجنان كما اطلع على أبي بكر رضي اللّه عنه أنه ليس فيه خيلاء وأنه ممن أكمل الخصال التي تكون أبواب الجنة تمثالاً لها فقال : « أرجو أن تكون منهم » ، يعني الذين يدعون من الأبواب جميعاً .
وقال صلى اللّه عليه وسلم لعمر رضي اللّه عنه : « ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « إن يك من أمتي أحد من المحدثين فإنه عمر » .(2/332)
ومنها : أن يرى في المنام أو ينفث في روعه ما يدل على رسوخِ قدمه في الدين كما رأى بلالاً رضي اللّه عنه يتقدمه في الجنة ، ورأى قصراً لعمر رضي اللّه عنه في الجنة ورآه قمص بقميص سابغ ، وأنه صلى اللّه عليه وسلم أعطاه سؤره من اللبن فعبر بالدين والعلم .
ومنها : حب النبي صلى اللّه عليه وسلم . إياهم وتوقيرهم ومواساته معهم وسوابقهم في الإِسلام ، فذلك كله ظاهرة أنه لم يكن إلا لامتلأ القلب من الإِيمان .
$[2/585]
فضل بعض القرون على بعضها الآخر :
واعلم أن فضل بعض القرون على بعض لا يمكن أن يكون من جهة كل فضيلة ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : « مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره » ، وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « أنتم أصحابي ، وأخواني الذين يأتون بعد » ، وذلك أن الاعتبارات متعارضة والوجوه متجاذبة ، ولا يمكن أن يكون تفضيل كل أحد من القرن الفاضل على كل أحد من القرن المفضول كيف ومن القرون الفاضلة اتفاقاً من هو منافق أو فاسق ومنها الحجاج . ويزيد بن معاوية ، ومختار ، وغلمة من قريش الذين يهلكون الناس وغيرهم ممن بيّن النبي صلى اللّه عليه وسلم سوء حالهم ، ولكن الحق أن جمهور القرن الأول أفضل من جمهور القرن الثاني ونحو ذلك .
تعظيم الذين شاهدوا النبي وصاحبوه :
والملة إنما تثبت بالنقل والتوارث ولا توارث إلا بأن يعظم الذين شاهدوا مواقع الوحي وعرفوا تأويله وشاهدوا سيرة النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يخلطوا معها تعمقاً ولا تهاوناً ولا ملة أخرى .
أفضل الأمة :
وقد أجمع من يعتد به من الأمة على أن أفضل الأمة أبو بكر الصديق ، ثم عمر رضي اللّه عنهما ، وذلك لأن أمر النبوة له جناحان : تلقي العلم عن اللّه تعالى ، وبثه في الناس ، أما التلقي عن اللّه فلا يشرك النبي صلى اللّه عليه وسلم في ذلك أحد ، وأما بثه فإنما تحقق بسياسة وتأليف ونحو ذلك ، ولا
$[2/586](2/333)
شك أن الشيخين رضي اللّه عنهما أكثر الأمة في هذه الأمور في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم وبعده ، واللّه أعلم .
وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في كتاب « حجة اللّه البالغة » ، والحمد للّه تعالى أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، وصلى اللّه على خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين .(2/334)