حد في كتاب الله فلا يجاوز غير المنصوص عن أقل الحدود ، وإما لأن الشارب يقذف غالبا إن لم يكن زنى أو قتل ، والغالب حكمه حكم المتيقن وأما سر التبكيت فقد ذكرنا من قبل . قال النبي أينما صلى الله عليه وسلم : ' إن أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله ' أقول : علم النبي صلى الله عليه وسلم أن حفظ جاه الشرفاء والمسامحة معهم والذب عنهم والشفاعة في أمرهم أمر توارد عليه الأمم وانقاد لها طوائف الناس من الأولين والآخرين ، فأكد في ذلك وسجل ، فان الشفاعة والمسامحة بالشرفاء مناقضة لشرع الله الحدود . ونهى رسول صلى الله عليه وسلم عن لعن المحمود أو الوقوع فيه لئلا يكون سببا لامتناع الناس عن إقامة الحد ، ولأن الحد كفارة ، والشيء إذا تدورك بالكفارة صار كأن لم يكن ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' والذي نفسي بيده إنه لفي انهار الجنة منغمس بها ' . ويلحق بالحدود مزجرتان أخريان : إحداهما عقوبة هتك حرمة الملة ، والثانية الذب عن الأمامة ، والأصل في الأولى قوله صلى الله عليه وسلم : ' من بدل دينه فاقتلوه ' وذلك لأنه يجب أن يقام اللائمة الشديدة على الخروج من الملة وإلا لانفتح باب هتك حرمة الملة ، ومرضى الله تعالى أن تجعل الملة السماوية بمنزلة الأمر المجبول عليه الذي لا ينفك عنه ، وتثبت الردة بقول يدل على نعني الصانع أو الرسل أو تكذيب رسول أو فعل تعمد به استهزاء صريحا بالدين ، وكذا إنكار ضروريات الدين ، قال الله تعالى :
____________________
(1/772)
! ( وطعنوا في دينكم ) ! . وكانت يهودية تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم دمها ، وذلك لانقطاع ذمة الذمي بالطعن في دين المسلمين والشتم والإيذاء الظاهر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' أنا برئ من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين ، لا يتراءى ناراهما ' . أقول : السبب في ذلك أن الاختلاط معم وتكثير سوادهم إحدى النصرتين لهم ، ثم ضبط النبي صلى الله عليه وسلم البعد من أحياء الكفار بأن يكون منهم بحيث لو أوقدت نارا على أرفع مكان في بلدهم أو حلتهم لم تظهر للآخرين ، والأصل في الثانية قوله تعالى : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ' أقول : السبب في ذلك أن الامامة مرغوب فيها طبعا ، ولا يخلوا اجتماع الناس في الأقاليم من رجل يجترئ لأجلها على القتال ، ويجتمع لنصرته الرجال ، فلو ترك ولم يقتل لقتل الخليفة ثم قاتله آخر وهلم جرا ، وفيه فساد عظيم للمسلمين ، ولا ينسد باب هذه المفاسد إلا بأن تكون السنة بين المسلمين أن الخليفة إذا انعقدت خلافته ، ثم خرج آخر ينازعه حل قتله ووجب على المسلمين نصرة الخليفة عليه ، ثم الذي خرج بتأويل لمظلمة يريد دفعها عن نفسه وعشيرته أو لنقيصة يثبتها في الخليفة ويحتج عليها بدليل شرعي بعد ألا يكون مسلما عند جمهور المسلمين ولا يكون أمرا من الله فيه عندهم
____________________
(1/773)
برهان لا يستطيعون إنكاره فأمره دون الأمر الذي خرج يفسد في الأرض ويحكم السيف دون الشرع ، فلا ينبغي أن يجعلا بمنزلة واحدة ، فلذلك كان الأول أن يبعث الإمام إليهم فطنا ناصحا عالما يكشف شبهتهم أو يدفع عنهم مظلتهم كما بعث أمر المؤمنين علي رضي الله عنه عبد الله بن وابن عباس رضي الله عنه إلى الحرورية ، فإن رجعوا إلى جماعة المسلمين فيها وإلا قاتلهم ولا يقتل مدبرهم ولا أسيرهم ولا يجهز على جريحهم لأن المقصود إنما هو دفع شرهم وتفريق جماعتهم وقد حصل ، وأما الثاني فهو من المحاربين وحكمه حكم المحارب .
____________________
(1/774)
( القضاء ) اعلم أن من الحاجات التي يكثر وقوعها وتشتد مفسدتها المناقشات في الناس ؛ فانها تكون باعثة على العداوة والبغضاء وفساد ذات البين ، وتهيج الشح على غمط الحق وألا ينقاد للدليل فوجب أن يبعث في كل ناحية من يفصل قضاياهم بالحق ، ويقهرهم على العمل به أشاءوا أم أبوا ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني ببعث قضاة اعتناء شديدا ، ثم لم يزل المسلمون على ذلك ، ثم لما كان القضاء بين الناس مظنة الجور والحيف وجب أن يدهب الناس عن الجور في القضاء وأن يضبط الكليات التي يرجع إليها الأحكام . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين ' . أقول : هذا بيان أن القضاء حمل ثقيل وإن الإقدام عليه مظنة الهلاك إلا أن يشاء الله . وقال صلى الله عليه وسلم : ' من ابتغى القضاء وسأله وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله ملكا يسدده ' . أقول : السر فيه أن الطالب لا يخلو غالبا من داعية نفسانية من مال أو جاه أو التمكن من انتقام عدو نحو ذلك فلا يتحقق منه خلوص النية الذي هو سبب نزول البركات . قال صلى الله عليه وسلم :
' القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ' .
____________________
(1/775)
أقول : في هذا الحديث أنه لا يستوجب القضاء إلا من كان عدلا بريئا من الجور والميل قد عرف منه ذلك . وعالما يعرف الحق لا سيما في مسائل القضاء ، والسر في ذلك واضح فإنه لا يتصور وجود المصلحة المقصودة إلا بها . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ' . أقول : السبب المقتضي لذلك أن الذي اشتغل قلبه بالغضب لا يتمكن من التأمل في الدلائل والقرائن ومعرفة الحق . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد ' اجتهد يعني بذل طاقته في انباع الدليل ؛ وذلك لأن التكليف بقدر الوسع وإنما وسع الإنسان أن يجتهد وليس في وسعه أن يصيب الحق ألبتة . وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : ' إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء أقول : وذلك لأنه عند ملاحظة الحجتين يظهر الترجيح ' . وأعلم أن القضاء فيه مقامان : أحدهما أن يعرف جلية الحال التي تشاجرا فيه ، والثاني الحكم العدل في تلك الحالة ، والقاضي قد يحتاج إليهما وقد يحتاج إلى أحدهما فقط فإذا ادعى كل واحد أن هذا الحيوان مثلا ملكه قد ولد في يده ، وهذا الحجر التقطه من جبل ارتفع الإشكال لمعرفة جلية الحال . والقضية التي وقعت بين علي ، وزيد ، وجعفر رضي الله عنهم في حضانة بنت حمزة رضي الله عنه كانت جلية الحال معلومة وإنما كان المطلوب الحكم . وإذا ادعى واحد على الآخر الغصب والمال متغير صفته وأنكر الآخر
____________________
(1/776)
وقعت الحاجة أولا إلى معرفة جلية الحال هل كان هناك غصب أولا ، وثانيا إلى الحكم هل يحكم بردعين المغصوب أو قيمته ، وقد ضبط النبي صلى الله عليه وسلم كلا المقامين بضوابط كلية ، أما المقام الأول فلا أحق فيه من الشهادات والأيمان فإنه لا يمكن معرفة الحال إلا باخبار من حضرها أو بإخبار صاحب الحال مؤكدا بما يظن أنه لا يكذب معه ، قال صلى الله عليه وسلم :
' لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه ' فالمدعي هو الذي يدعي خلاف الظاهر ويثبت الزيادة ، والمدعى عليه هو مستصحب الأصل والمتمسك بالظاهر ولا عدل ثم من أن يعتبر فيمن يدعي بينة وفيمن يتمسك بالظاهر ويدرأ عن نفسه اليمين إذا لم تقم حجة الآخر . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى سبب مشروعية هذا الأصل حيث قال : ' لو يعطى الناس ' الخ يعني كان سببا للتظالم فلا بد من حجة ، ثم أنه يعتبر في الشاهد صفة كونه مرضيا عنه لقوله تعالى : ! ( ممن ترضون من الشهداء ) ! . وذلك بالعقل . والبلوغ . والضبط . والنطق . والإسلام . والعدالة . والمروءة . وعدم التهمة . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ، ولا ذي غمر على أخيه وترد شهادة القانع لأهل البيت ' وقال الله تعالى في القذفة : ! ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا ) ! الآية .
____________________
(1/777)
وفي حكم القذف . والزنا سائر الكبائر ، وذلك لأن الخبر يحتمل في نفسه الصدق والكذب وإنما يترجح أحد المحتملين بالقرينة ، وهي إما في المخبر أو المخبر عنه أو غيرهما ، وليس شيء من ذلك مضبوطا يحق أن يدار عليه الحكم التشريعي إلا صفات المخبر غير ما ذكرنا من الظاهر والاستصحاب ، وقد اعتبر مرة حيث شرع للمدعي البينة والمدعى عليه اليمين ثم اعتبر عدد الشهود على أطوار وزعها على أنواع الحقوق ، فالزنا لا يثبت إلا بأربعة شهداء . والأصل فيه قوله تعالى : ! ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) ! الآية . وقد ذكر سبب مشروعية هذا من قبل . ولا يعتبر في القصاص والحدود إلا شهادة رجلين ، والأصل فيه قول الزهري رحمه الله تعالى : جرت السنة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تقبل شهادة النساء في الحدود ، ويعتبر في الحقوق المالية شهادة رجل وامرأتين ، والأصل فيه قوله تعالى : ! ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) ! . وقد نبه الله تعالى على سبب مشروعية الكثرة في جانب النساء ' فقال : ! ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ! . يعني هن ناقصات العقل ، فلا بد من جبر هذا النقصان بزيادة العدد . وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين وذلك لأن الشاهد العدل إذا لحق معه اليمين تأكد الأمر ، وأمر الشهادات لا بد فيه توسعة ، وجرت السنة أنه إذا كان ريب زكى الشاهدان ، وذلك لأن شهادتهما إنما
____________________
(1/778)
اعتبرت من جهة صفاتهما المرجحة للصدق على الكذب فلا بد من تبينها . وجرت السنة أنه إذا كان ريب غلظت الأيمان بالزمان والمكان واللفظ ، وذلك لأن الأيمان إنما صارت دليلا على صدق الخبر من جهة اقتران قرينة تدل على أنه لا يقدم على الكذب معها فكان حقها إذا كان زيادة ريب طلب قوة القرائن ، في اللفظ زياده الأسماء والصفات ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم : ' احلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ' ونحو ذلك ، والزمان أن يحلف بعد العصر لقوله تعالى : ! ( تحبسونهما من بعد الصلاة ) ! . والمكان أن يقام بين الركن والمقام إن كان بمكة . وعند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان بالمدينة . وعند المنبر في سائر البلدان لورود فضل هذه الأمكنة وتغليظ الكذب عندها . ثم وقعت الحاجة أن يرهب الناس أشد ترهيب من أن يجترئوا على خلاف ما شرع الله لهم لفصل القضايا ومعرفة جلية الحال . والأصل في تلك الترهيبات ثلاثة أشياء : أحدها أن الإقدام على فعل نهى الله تعالى عنه وغلظ في النهي دليل قلة الورع والاجتراء على الله فأدير حكم الاجتراء على هذه الأشياء ، وأثبت لها أثره مثل وجوب دخول النار وتحريم الجنة ونحو ذلك . والثاني أن ذلك سعى في الظلم وبمنزلة السرقة وقطع الطريق ، أو بمنزلة دلالة السارق على المال ليسرق أوردء القاطع فتوجهت لعنة الله والملائكة والناس على السعادة في الأرض بالفساد إلى هذا العاصي فاستحق النار .
____________________
(1/779)
والثالث أنه مخالفه لما شرع الله لعباده وسعى في سد جريانه على ما أراد الله في شرائعه فان اليمين إنما شرعت معرفة للحق ، والبينة إنما شرعت مبينة لجلية الحال فان جرت السنة بزور الشهادة والإيمان انسد باب المصلحة المرعية . فمن ذلك كتمان الشهادة لقوله تعالى . ! ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) ! . ومنها شهادة الزور لعده عليه السلام من الكبائر شهادة الزور . ومنها اليمين الكاذبة لقوله صلى الله عليه وسلم :
' من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقي الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان ' . ومنها الدعوى الكاذبة لقوله صلى الله عليه وسلم :
' من ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ' . ومنها الاخذ لقضاء القاضي وليس له الحق لقوله صلى الله عليه وسلم
' إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون ' الحديث . ومنها الاعتياد بالمجادلة ورفع القضية فان ذلك لا يخلو من إفساد ذات البين لقوله صلى الله عليه وسلم :
' إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ' . ورغب لمن ترك المخاصمة في الحق والباطل جميعا فإن ذلك مطاوعة لداعية السماحة ، وأيضا كثيرا ما لا يكون الحق له ، ويظن أن الحق له فلا يخرج
____________________
(1/780)
عن العهدة باليقين إلا إذا وطن نفسه على ترك الخصومة في الحق والباطل جميعا ، وفي الحديث ' إن رجلين تداعيا دابة فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي في يده . أقول : والسر في ذلك أن الحجتين لما تعارضتا تساقطتا فبقي المتاع في يد صاحب القبض لعدم ما يقتضي رده ، أو نقول اعتضدت إحدى البينتين بالدليل الظاهر وهو القبض فرجحت . وأما المقام الثاني فشرع النبي صلى الله عليه وسلم فيه أصولا يرجع إليها : والجملة في ذلك أن جلية الحال إذا كانت معلومة فالنزاع يكون إما في طلب كل واحد شيئا وهو مباح في الأصل وحكمه أبدا الترجيح إما بزيادة صفة يكون فيها نفع للمسلمين ولذلك الشيء أو سبعة أحدهما إليه أو بالقرعة مثاله فقضية زيد . وعلي . وجعفر رضي الله عنهم في حضانة بنت حمزة رضي الله عنه فقضى بها لجعفر رضي الله عنه ، وقال : ' الخالة أم ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الأذان : ' لا ستهموا ' وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، وأما أن يكون هناك سابقة من عقد أو غصب يدعي كل واحد أنه أحق ، ويكون لكل واحد شبهة وحكمة اتباع العرف والعادة المسلمة عند جمهور الناس يفسر الأقارير وألفاظ العقود بما عند جمهورهم من المعنى ويعرف الأضرار وغيرها بما عندهم ، مثاله قضية البراء ابن عازب دخلت ناقته حائطا فأفسدت فيه ، وأدعى كل واحد أنه معذور فقضى بما هو المعروف من عادتهم من حفظ أهل الحوائط أموالهم بالنهار وحفظ أهل المواشي مواشيهم بالليل . ومن القواعد المبنية عليها كثير من الأحكام أن الغنم بالغرم ، وأصله
____________________
(1/781)
ما قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الخراج بالضمان وذلك لعسر ضبط المنافع ، وإن قسم الجاهلية ودمائها وما كان فيها لا يتعرض بها ، وأن الأمر مستأنف بعدها ، وأن اليد لا تنقص إلا بدليل آخر وهو أصل الاستصحاب وأنه إن انسد باب التفتيش فالحكم أن يكون ما يريده صاحب المال أو يترادا ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' البيعان إذا اختلفا بينهما والسلعة قائمة ' الحديث وأن الأصل في كل عقد أن يوفي لكل أحد وعلى كل أحد ما التزمه بعقده إلا أن يكون عقدا نهى الشرع عنه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلال ' فهذه نبذ مما شرع النبي صلى الله عليه وسلم في المقام الثاني . ومن القضايا التي قضى فيها رسول الله قضية صلى الله عليه وسلم قضيت بنت حمزة رضي الله عنه في الحضانة حيث قال علي رضي الله عنه . بنت عمي وأنا أخذتها ، وقال جعفر رضي الله عنه : بنت عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد رضي الله عنه : بنت أخي فقضى بها لجعفر رضي الله عنه ، وقال : الخالة بمنزلة الأم ' . وقضية ابن وليدة زمعة في الدعوة حيث قال سعد : إن أخي قد عهد إلي فيه ، وقال عبد بن زمعة ابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال صلى الله عليه وسلم ' : هو لك يا عبد ابن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ' . وقضية زيد رضي الله عنه . والأنصاري في شراج الحرة فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أمر لهما في سعة ' اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري ، فاستوعى لزبير حقه قال : احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ' .
____________________
(1/782)
وقضية ناقة براء بن عازب رضي الله عنه دخلت حائطا لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل . وقضى صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ، وقد ذكرنا فيما سبق وجوه هذه القضايا . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع ' . أقول : وذلك أن الناس إذا عمروا أرضا مباحة فقصروا بها واختلفوا في الطريق ، فأراد بعضهم أن يضيق الطريق ويبني فيها ، وأبى الآخرون ذلك ، وقالوا : لا بد للناس من طريق واسعة قضى بأن يجعل عرضه سبعة أذرع وذلك لأنه لا بد من مرور قطارين من الإبل يمشي أحدهما إلى جانب ، وثانيهما إلى الآخر ، وإذا جاءت زاملة من ههنا وزاملة من هنالك فلا بد من طريق تسعهما وإلا كان الحرج ومقدار ذلك سبعة أذرع . وقال صلى الله عليه وسلم :
' من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ' أقول : جعله بمنزلة أجير عمل له عملا نافعا ، والله أعلم .
____________________
(1/783)
( الجهاد ) اعلم أن أتم الشرائع وأكمل النواميس هو الشرع الذي يؤمر فيه بالجهاد ، وذلك لأن تكليف الله عباده بما أمر ونهى - مثله كمثل رجل مرض عبيده ، فأمر رجلا من خاصته أن يقيهم دواء ، فلو أنه قهرهم على شرب الدواء ، وأوجره في أفواههم لكان حقا ، لكن الرحمة اقتضت أن يبين لهم فوائد الدواء ؛ ليشربوه على رغبة فيه ، وأن يخلط معه العسل ؛ ليتعاضد فيه الرغبة الطبيعية والعقلية . ثم إن كثيرا من الناس يغلب عليهم الشهوات الدنية والأخلاق السبعية ووساوس الشطان في حب الرياسات ، ويلصق بقلوبهم رسوم آبائهم ، فلا يسمعون تلك الفوائد ، ولا يذعنون لما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتأملون في حسنة ، فليست الرحمة في حق أولئك أن يقتصر على إثبات الحجة عليهم ، بل الرحمة في حقهم أن يقهروا ؛ ليدخل الإيمان عليهم على رغم أنفهم بمنزلة إيجاد الدواء المر ، ولا قهر إلا بقتل من له منهم بكناية شديدة وتمنع قوى ، أو تفريق منعتهم وسلب أموالهم حتى يصيروا لا يقدرون على شيء ، فعند ذلك يدخل أتباعهم وذراريهم في الإيمان برغبة وطوع ، ولذلك كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ' كان عليك إثم الأريسيين . وربما كان أسرهم وقهرهم يؤدي إلى إيمانهم ، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :
' عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل ' . وأيضا فالرحمة التامة الكاملة بالنسبة إلى البشر أن يهديهم الله إلى الاحسان ،
____________________
(1/784)
وأن يكبح ظالمهم عن الظلم ، وأن يصلح ارتفاقاتهم وتدبير منزلهم وسياسة مدينتهم ، فالمدن الفاسدة التي يغلب عليها نفوس السبعية ، ويكون لهم تمنع شديد إنما هو بمنزلة الأكلة في بدن الإنسان لا يصح الإنسان إلا بقطعه ، والذي يتوجه إلى إصلاح مزاجه وإقامة طبيعته لا بد له من القطع ، والشر القليل إذا كان مفضيا إلى الخير الكثير واجب فعله ، ولك عبدة بقريش ومن حولهم من العرب كانوا بعد خلق الله عن الاحسان وأظلمهم على الضعفاء ، وكانت بينهم مقاتلات شديدة ، وكان بعضهم يأسر بعضا ، وما كان أكثرهم متأملين في الحجة ناظرين في الدليل فجاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ' وقتل أشدهم بطشا وأحدهم نفسا حتى ظهر أمر الله ، وانقادوا له ، فصاروا بعد ذلك من أهل الإحسان ، واستقامت أمورهم ، فلو لم يكن في الشريعة جهاد أولئك لم يحصل اللطف في حقهم . وأيضا فإن الله تعالى غضب على العرب والعجم ، وقضى بزوال دولتهم وكبت ملكهم ، فنفث في روع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبواسطته في قلوب أصحابه رضي الله عنهم أن يقاتلوا في سبيل الله ؛ ليحصل الأمر المطلوب ، فصاروا في ذلك بمنزلة الملائكة تسعى في إتمام ما أمر الله تعالى ، غير أن الملائكة تسعى من غير أن يعقد فيهم قاعدة كلية ، والمسلمون يقاتلون لأجل قاعدة كلية علمهم الله تعالى ، وكان علمهم ذلك أعظم الأعمال ، وصار القتل لا يسند إليهم إنما يسند إلى الآمر ، كما يسند قتل العاصي إلى الأمير دون السياف ، وهو قوله تعالى : ! ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) ! .
____________________
(1/785)
وإلى هذا السر أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :
' مقت عربهم وعجمهم ' الحديث ، وقال عليه السلام : ' لا كسرى ولا قيصر ' يعني المتدينين بدين الجاهلية . وفضائل الجهاد راجعة إلى أصول : منها أنه موافقة تدبير الحق وإلهامه ، فكان السعي في إتمامه سببا لشمول الرحمة ، والسعي في إبطاله سببا لشمول اللعنة ، والتقاعد عنه في مثل هذا الزمان تفويتا لخير كثير . ومنها أن الجهاد عمل شاق يحتاج إلى تعب وبذل مال ومهجة وترك الأوطان والأوطار ، فلا يقدم عليه إلا من أخلص دينه لله وآثر الآخرة على الدنيا ، وصح اعتماده على الله . ومنها أن نفث مثل هذه الداعية في القلب لا يكون إلا بتشبه الملائكة ، وأحظاهم بهذا الكمال أبعدهم عن شرور البهيمية وأطرفهم من رسوخ الدين في قلبه ، فيكون معرفا لسلامة صدره . هذا كله إن كان الجهاد على شرطه ، وهو ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ' إن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ' . ومنها أن الجزاء يتحقق بصورة العمل يوم القيامة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم ي سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ' . ومنها أن الجهاد لما كان أمرا مرضيا عند الله تعالى وهو لا يتم في العادة إلا بأشياء من النفقات ورباط الخيل والرمي ونحوها وجب أن يتعدى الرضا إلى هذه الأشياء من جهة إفضائها إلى المطلوب .
____________________
(1/786)
ومنها أن بالجهاد تكميل الملة وتنويه أمرها وجعله في الناس كالأمر اللازم ، فإذا حفظت هذه الأصول انكشفت لك حقيقة الأحاديث الواردة في فضائل الجهاد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين ' الحديث . أقول : سره أن ارتفاع المكان في دار الجزاء تمثال لارتفاع المكانة عند الله ، وذلك بأن تسكب النفس سعادتها من التطلع للجبروت وغير ذلك ، وبأن يكون سببا لاشتهار شعائر الله ودينه وسائر ما يرضي الله باشتهاره ، ولذلك كانت الأعمال التي هي مظنة هاتين الخصلتين جزاؤها الدرجات في الجنة ، فورد في تالي القرآن أنه يقال له ' اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ' وورد في الجهاد أنه سبب رفع الدرجات فإن عمله يفيد ارتفاع الدين ، فيجازى بمثل ما تضمنه عمله ، ثم إن ارتفاع المكانة يتحقق بوجوه كثيرة ، فكل وجه يتمثل درجة في الجنة ، وإنما كان كل درجة كما بين السماء والأرض لأنه غاية ما تمكن في علوم البشر من البعد الفوقانى فيتمثل في دار الجزاء كما تمكن في علومهم . قال صلى الله عليه وسلم : ' مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم ' . أقول : سره أن الصائم القانت إنما فضل على غيره بأنه عمل عملا شاقا لمرضاة الله ، وأنه صار بمنزلة الملائكة ومتشبها بهم ، والمجاهد إذا كان جهاده على ما أمر الشرع به يشبهه في كل ذلك غير أن الاجتهاد في الطاعات
____________________
(1/787)
يسلم فضلة الناس ، وهذا لا يفهمه إلا الخاصة ، فشبه به لينكشف الحال . ثم مست الحاجة إلى الترغيب في مقدمات الجهاد التي لا يتأتى الجهاد في العادة إلا بها كالرباط والرعي وغيرهما لأن الله تعالى إذا أمر بشيء ورضي به وعلم أنه لا يتم إلا بتلك المقدمات كان من موجبة الأمر بها والرضا عنها . ورد في الرباط أنه ' خير من الدنيا وما فيها ' وأنه ' خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان عمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ' . أقول : أما سر كونه خيرا من الدنيا وما فيها فلأن له ثمرة باقية في المعاد ، وكل نعيم من نعيم الدنيا لا محالة زائل . . . وأما كونه خيرا من صيام شهر وقيامه فلأنه عمل شاق يأتي على البهيمية لله وفي سبيل الله كما يفعل ذلك الصيام والقيام . . وسر إجراء عمله أن الجهاد بعضه مبنى على بعض بمنزلة البناء ويقوم الجدار على الأساس وياقوم السقف على الجدار ، وذلك لأن الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا سبب دخول قريش ومن حولهم في الإسلام ثم فتح الله على أيدي هؤلاء العراق والشام ، ثم فتح الله على أيدي هؤلاء الفرس والروم ، ثم فتح الله على أيدي هؤلاء الهند والترك والسودان ، فالنفع الذي يترتب على الجهاد يتزايد حينا فحينا وصار بمنزلة الأوقاف والرباطات والصدقات الجارية . وأما الأمن من الفتان يعني المنكر والنكير فإن المهلكة منهما على من لم يطمئن قلبه بدين محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينهض لنصرته ، أما المرابط على شرطه فهو جامع الهمة على تصديق ناهض العزيمة على تمشية نور الله .
____________________
(1/788)
قال صلى الله عليه وسلم :
' من جهز غازيا في سيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' أفضل الصدقة ظل فسطاط في سبيل الله ' ونحو ذلك . أقول : السر في ذلك أنه عمل نافع للمسلمين يترتب عليه نصرتهم ، وهو المعنى في الغزو أو الصدقة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا حاء يوم القيامة وجرحه يثغب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك ' . أقول : العمل يلتصق بالنفس بهيئته وصورته ويجر ما فيه معنى التضاعف بالنسبة إلى العمل والمجازاة مبناها على تمثل النعمة والراحة بصورة اقرب ما هناك ، فإذا جاء الشهيد يوم القيامة ظهر عليه عمله وتنعم به بصورة ما في العمل . وقال عليه السلام صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ! ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ! . الآية ' أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالفرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل ' . أقول : الذي يقتل في سبيل الله يجتمع فيه خصلتان : إحداهما أنه تبقى
____________________
(1/789)
نسمته وافرة كاملة لم تضمحل علومها التي كانت منغمسة فيها في حياتها الدنيا وإنما هو بمنزلة رجل مشغول بأمر معاشه ينام نومة بخلاف الميت الذي ابتلي بأمراض شديدة تغير مزاجه وتنسيه كثيرا مما كان فيه . والثانية أنه شملته الرحمة الإلهية المتوجهة إلى نظام العالم الممتلئ منها حظيرة القدس والملائكة المقربون ، فلما زهقت نفسه وهي ممتلئة من السعي في إقامة دين الله فتح بينه وبين حظيرة القدس فيح واسع ، ونزل من هناك الأنس والنعمة والراحة ، وتنفست إليه حظيرة القدس نفسا مثاليا ، فيتمثل الجزاء حسبما عنده ، فتركبت من اجتماع هاتين الخصلتين أمور عجيبة : منها أنه تتمثل نفسه معلقة بالعرش بنحوما ، وذلك لدخوله في حملة العرش وطموح همته إلى ما هناك . ومنها أنه تمثل له بدن طير أخضر ، فكونه طيرا لأنه من الملائكة بمنزلة الطير من دواب الأرض في ظهور أحكام الجنس إجمالا وكونه أخضر لحسن منظره . ومنها أنه تتمثل نعمته وراحته بصورة الرزق كما كان يتمثل النعمة في الدنيا بالفواكه والشواء . ثم مست الحاجة إلى تمييز ما يفيد تهذيب النفس مما لا يفيده وهو مشتبه به فإن الشرع أتى بأمرين : بانتظام الحي والمدينة . والملة ؛ وبتكميل النفوس . قيل : الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر . والرجل يقاتل
____________________
(1/790)
ليرى مكانه ، فمن يقاتل في سبيل الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم :
' من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ' أقول : وذلك لما ذكرنا من أن الأعمال أجساد ، وأن النيات أرواح لها ، وإنما الأعمال بالنيات ، ولا عبرة بالجسد إلا بالروح ، وربما تفيد النية فائدة العمل وإن لم يقترن بها إذا كان فوته لمانع سماوي دون تفريط منه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر ' وإن كان من تفريط فإن النية لم تتم حتى يترتب عليها الأجر قال صلى الله عليه وسلم :
' البركة في نواصي الخيل ' وقال عليه السلام :
' الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة ' . اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالخلافة العامة ، وغلبة دينه على سائر الأديان لا يتحقق إلا بالجهاد وإعداد آلاته ، فإذا تركوا الجهاد ، واتبعوا أذناب البقر أحاط بهم الذل ؛ وغلب عليهم أهل سائر الأديان . قال صلى الله عليه وسلم : ' من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ' . أقول : ذلك لأنه يتعانى في علفه وشرابه وفي روثه وبوله ، فصار عمله ذلك متصورا بصورة ما تعانى فيه ، فيظهر يوم القيامة كل ذلك بصورته وهيئته ، قال صلى الله عليه وسلم :
' إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة ، صانعه يحتسب في صنعه والرامي به ومنبله ' وقال عليه السلام : ' من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر ' أقول : لما علم الله تعالى أن كبت الكفار لا يتم إلا بهذه الأشياء انتقل رضا الحق بإزالة الكفر والظلم إلى هذه .
____________________
(1/791)
قال الله تعالى : ! ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) ! . وقال الله تعالى : ! ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) ! . وقال صلى الله عليه وسلم لرجل :
' ألك والدان ؟ قال . نعم ، قال ففيهما فجاهد ' . أقول : لما كان إقبالهم بأجمعهم على الجهاد يفسد أرتفاقاتهم وجب ألا يقوم به إلا البعض ، وإنما تعين غير المعلول بهذه العلل لأن على أصحابها حرجا وليس فيهم غنية معتد بها للإسلام بل ربما يخاف الضرر منهم قال الله تعالى : ! ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ! . أقول : إعلاء كلمة الله لا يتحقق إلا بأن يوطنوا أنفسهم بالثبات والنجدة والصبر على مشاق القتال ولو جرت العادة بأن يفروا إذا عثروا على مشقة لم يتحقق المقصود بل ربما أفضى إلى الخذلان . وأيضا فالفرار جبن وضعف وهو أسوأ الأخلاق
____________________
(1/792)
ثم لا بد من بيان حد يتحقق به الفرق بين الواجب وغيره ولا تتحقق النجدة والشجاعة إلا إذا كان أسباب الهزيمة أكثر من أسباب الغلبة فقدر أولا بعشرة أمثال لأن الكفر يومئذ كان أكثر ولم يكن المسلمون إلا أقل شيء فلو رخص لهم الفرار لم يتحقق الجهاد أصلا ، ثم خفف إلى مثلين لأنه لا تتحقق النجدة والثبات فيما دون ذلك . ثم لما وجب الجهاد لإعلاء كلمة الله وجب ما لا يكون الإعلاء إلا به ، ولذلك كان سد الثغور وعرض المقاتلة ونصب الأمراء على كل ناحية وثغر واجبا على الإمام وسنة متوارثة ، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه رضي الله عنهم في هذا الباب سننا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو على سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : ' اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ' الحديث . وإنما نهى عن الغلول لما فيه من كسر قلوب المسلمين واختلاف كلمتهم واختيارهم النهي على القتال ، وكثيرا ما يفضي ذلك إلى الهزيمة ، وعن الغدر لئلا يرتفع الأمان من عهدهم وذمتهم ولو ارتفع ذهب أعظم الفتوح وأقربها وهي الذمة ، وعن المثلة لأنه تغيير خلق الله ، وعن قتل الوليد لأنه تضييق على المسلمين وإضرار بهم فإنه لو بقي حيا لصار رقيقا لهم واتبع السابي في الإسلام . وأيضا فإنه لا ينكأ عدوا ولا ينصر فئة .
____________________
(1/793)
والدعوة إلى ثلاث خصال مترتبة : الأولى الإسلام مع الهجرة والجهاد وحينئذ له ما للمجاهدين من الحق في الفيء والمغانم . الثانية الإسلام من غير هجرة ولا جهاد إلا في النفير العام وحينئذ ليس له نصيب في المغانم والفيء ، وذلك لأن الفيء إنما يصرف إلا الأهم فالأهم ، والعادة قاضية بألا يسع بيت المال الصرف إلى المتوطنين في بلادهم غير المجاهدين فلا اختلاف بين هذا وبين قول عمر رضي الله عنه : فأين عشت فليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه يعني إذا فتح كنوز الملوك وجيء من الخراج شيء كثير فيبقى بعد حظ المقاتلة وغيرهم الثالثة أن يكونوا من أهل الذمة ، ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون فبالأولى تحصل المصلحتان من نظام العالم ورفع التظالم من بينهم ومن تهذيب نفوسهم بأن يحصل نجاتهم من النار ويكونوا ساعين في تمشية أمر الله . وبالثانية النجاة من النار من غير أن ينالوا درجات المجاهدين . وبالثالثة زوال شوكة الكفار وظهور شوكة المسلمين ، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المصالح . ويجب على الإمام أن ينظر في أسباب ظهور شوكة المسلمين وقطع أيدي الكفار عنهم ، ويجتهد ، ويتأمل في ذلك فيفعل ما أدى إليه اجتهاده مما عرف هو أو نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم ؛ لأن الأمام إنما جعل لمصالح ، ولا تتم إلا بذلك ، والأصل في هذا الباب سير النبي صلى الله عليه وسلم .
____________________
(1/794)
ونحن نذكر حاصل أحاديث الباب : فنقول . يجب أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ، ويؤمر عليهم رجلا شجاعا ذا رأي ناصحا للمسلمين وإن احتاج إلى حفر خندق أو بناء حصن فعله كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وإذا بعث سرية أمر عليهم أفضلهم أو أنفعهم للمسلمين ، وأوصاه في نفسه وبجماعة المسلمين خيرا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، وإذا أراد الخروج للغزو عرض جيشه ، ويتعاهد الخيل والرجال فلا يقبل من دون خمس عشرة سنة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، ولا مخذلا وهو الذي يقعد الناس عن الغزو ، ولا مرجفا وهو الذي يحدث بقوة الكفار ، والأصل فيه قوله تعالى . ( كره الله انبعائهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) . ولا مشركا لقوله صلى الله عليه وسلم :
' إنا لا نستعين بمشرك إلا عند ضرورة ووثوق به ' ولا امرأة شابة يخاف عليها ، ويأذن للطاعنة في السن لأنه صلى الله عليه وسلم كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى ، ويعبي الجيش ميمنة وميسرة ، ويجعل لكل قوم راية ، ولكل طائفة أميرا وعريفا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لأنه أكثر إرهابا وأقرب ضبطا ، ويعين لهم شعارا يتكلمونه في البيات لئلا يقتل بعضهم بعضا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، ويخرج يوم الخميس أو الاثنين فإنهما يومان يعرض فيهما الأعمال ، وقد ذكرنا من قبل ، ' ويكلفهم من السير ما يطيقه الضعيف
____________________
(1/795)
إلا عند الضرورة ، ويتخير لهم من المنازل أصلحها وأوفرها ماء ، وينصب الحرس والطلائع إذا خاف العدو ، ويخفى من أمره ما استطاع ، ويورى إلا من ذوي الرأي والنصيحة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تقطع الأيدي في الغزو ' وسره ما بينه عمر رضي الله عنه ألا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار ، ولأنه كثيرا ما يفضي إلى اختلاف بين الناس ، وذلك يخل بمصلحتهم ، ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، ولا يقتل وليدا . ولا امرأة ، ولا شيخا فانيا إلا عند ضرورة كالبيات ، ولا يقطع الشجر ، ولا يحرق ، ولا يعقر الدواب إلا إذا تعينت المصلحة في ذلك كالبويرة قرية بني النضير ، ولا يخيس بالعهد ، ولا يحبس البرد لأنه سبب انقطاع المراسلة بينهم ، ويخدع فإن الحرب خدعة ، ويهجم عليهم غارين ويرميهم بالمنجنيق ، ويحاصرهم ، ويضيق عليهم ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك ، ولأن القتال لا يتحقق إلا به كما لا حاجة إلى شرحه ، ويجوز المبارزة بإذن الإمام لمن وثق بنفسه كما فعل علي . وحمزة رضي الله عنهما . وللمسلمين أن يتصرفوا فيما يجدونه هنالك من العلف والطعام من غير أن يخمس لأنه لو لم يرخص فيه لضاق الحال فإذا أسروا أسراء خير الإمام بين أربع خصال ، القتل ، والفداء ، والمن ، والارقاق يفعل من ذلك الأحظ وللإمام أن يعطيهم الأمان ولآحادهم . والأصل فيه قوله تعالى : ! ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) ! .
____________________
(1/796)
وذلك لأن دخولهم في الإسلام لا يتحقق إلا بمخالطة المسلمين ومعرفة حجتهم وسيرتهم . وأيضا فكثيرا ما تقع الحاجة إلى تردد التجار وأشباههم ، ويصالحهم بمال وبغير مال فإن المسلمين ربما يضعفون عن مقاتلة الكفار فيحتاجون إلى الصلح وربما يحتاجون إلى المال يتقوون به ، أو إلى أن يأمنوا من شر قوم فيجاهدوا آخرين . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغتك ' ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
' على رقبته فرس له حمحمة وشاة لها يعار ونفس لها صياح ورقاع تخفق ' . أقول الأصل في ذلك أن المعصية تتصور بصورة ما وقعت فيه ، وأما حمله فثقله والتأذي به ، وأما صوته فعقوبته بإشاعة فاحشته على رءوس الناس . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه كله واضربوه ' وعمل به أبو بكر . وعمر رضي الله عنهما . أقول سره الزجر وكبح الناس أن يفعلوا مثل ذلك واعلم أن الأموال المأخوذة من الكفار على قسمين : ما حصل منهم بإيجاف الخيل والركاب واحتمال أعباء القتال وهو الغنيمة . وما حصل منهم بغير قتال كالجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجارهم وما بذلوا صلحا أو هربوا عنه فزعا .
____________________
(1/797)
فالغنيمة تخمس ويصرف الخمس إلى ما ذكر الله تعالى في كتابه حيث قال : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) . فيوضع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده في مصالح المسلمين الأهم فالأهم ، وسهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب الفقير منهم والغني والذكر والأنثى ، وعندي أنه يخير الإمام في تعيين المقادير ، وكان عمر رضي الله عنه يزيد في فرض آل النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال ويعين المدين منهم والناكح وذا الحاجة ، وسهم اليتامى لصغير فقير لا أب له ، وسهم الفقراء والمساكين لهم يفوض كل ذلك إلى الإمام يجتهد في الفرض وتقديم الأهم فالأهم ويفعل ما أدى إليه اجتهاده ويقسم أربعة أخماسه في الغانمين يجتهد الإمام أولا في حال الجيش فمن كان نفله أوفق بمصلحة المسلمين نفل له ، وذلك بإحدى ثلاث . أن يكون الإمام دخل دار الحرب فبعث سرية تغير على قرية مثلا فيجعل لها الربع بعد الخمس أو الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية رفع خمسه ثم أعطي السرية ربع ما غبر أو ثلثه وجعل الباقي في المغانم . وثانيتها أن يجعل الإمام جعلا لمن يعمل عملا فيه غناء عن المسلمين ، مثلا أن يقول : من طلع هذا الحصن فله كذا . ومن جاء بأسير فله كذا . من قتل قتيلا فله سلبه ، فإن شرط من مال المسلمين أعطي منه ، وإن شرط من الغنيمة أعطي من أربعة أخماس . وثالثتها أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء لغنائه وبأسه كما أعطي
____________________
(1/798)
رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد سهم الفارس والراجل حيث ظهر منه نفع عظيم للمسلمين . والأصح عندي أن السلب إنما يستحقه القاتل بجعل الإمام قبل القتل أو تنفيله بعده . ويرفع ما ينبغي أن يرضخ دون السهم للنساء يداوين المرضى ، ويطبخن الطعام ، ويصلحن شأن الغزاة وللعبيد والصبيان وأهل الذمة الذين أذن لهم الإمام إن حصل منهم نفع للغزاة وإن عثر على أن شيئا من الغنيمة كان مال مسلم ظفر به العدو رد عليه بلا شيء ، ثم يقسم الباقي على من حضر الوقعة للفارس ثلاثة أسهم . وللراجل سهم . وعندي أنه إن رأى الإمام أن يزيد لركبان الإبل أو للرماة شيئا أو يفضل العراب على البراذين بشيء دون السهم فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في الباب . ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد والطليعة والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الوقعة كما كان لعثمان يوم بدر . وأما الفيء فمصرفه ما بين الله تعالى حيث قال : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القريى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) . إلى قوله ' ( رءوف رحيم ) ولما قرأها عمر رضي الله عنه قال : هذه استوعبت المسلمين فيصرفه إلى الأهم فالأهم ، وينظر في ذلك إلى مصالح المسلمين لا مصلحته الخاصة به .
____________________
(1/799)
واختلفت السنن في كيفية قسمة الفيء ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفيء قسمه في يومه ، فأعطى الأهل حظين ، وأعطى الأعزب حظا ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقسم للحر وللعبد . ويتوخى كفاية الحاجة ، ووضع عمر رضي الله عنه الديوان على السوابق والحاجات ، فالرجل وقدمه ، والرجل وبلاؤه ، والرجل وعياله ، والرجل وحاجته ، والأصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف أن يحمل على أنه إنما فعل ذلك على الاجتهاد فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته ، والأراضي التي غلب عليها المسلمون للإمام فيها الخيار . إن شاء قسمها في الغانمين ، وإن شاء أوقفها على الغزاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر . قسم نصفها ووقف نصفها ، ووقف عمر رضي الله عنه أرض السواد ، وإن شاء أسكنها الكفار ذمة لنا . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ، وفرض عمر رضي الله عنه على الموسر ثمانية وأربعين درهما ، وعلى المتوسط أربعة وعشرين ، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر . ومن هنا يعلم أن قدره مفوض إلى الإمام يفعل ما يرى من المصلحة ، ولذلك اختلفت سيرهم ، وكذلك الحكم عندي في مقادير الخراج وجميع ما اختلفت فيه سير النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم . وإنما أباح الله لنا الغنيمة والفيء لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ' لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا . . ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' إن الله فضل أمتي على الأمم وأحل لنا الغنائم ' وقد شرحنا هذا في القسم الأول فلا نعيده .
____________________
(1/800)
والأصل في المصارف أن أمهات المقاصد أمور : منها إبقاء ناس لا يقدرون على شيء لزمانه أو لاحتياج مالهم أو بعده منهم . ومنها حفظ المدينة عن شر الكفار بسد الثغور ونفقات المقاتلة والسلاح والكراع . ومنها تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة الحدود والحسبة . ومنها حفظ الملة بنصب الخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين . ومنها منافع مشتركة ككرى الأنها وبناء القناطر ونحو ذلك . وأن البلاد على قسمين . قسم تجرد لأهل الإسلام كالحجاز ، أو غلب عليه المسلمون ، وقسم أكثر أهله الكفار فغلب عليهم المسلمون بعنوة أو صلح . والقسم الثاني يحتاج إلى شيء كثير من جمع الرجال وإعداد آلات القتال ونصب القضاة والحرس والعمال ، والأول لا يحتاج إلى هذه الأشياء كاملة وافرة . وأراد الشرع أن يوزع بيت المال المجتمع في كل بلاد على ما يلائمها فجعل مصرف الزكاة والعشر ما يكون فيه كفاية المحتاجين أكثر من غيرها ، ومصرف الغنيمة والفيء ما يكون فيه إعداد المقاتلة وحفظ الملة وتدبير المدينة أكثر ، ولذلك جعل سهم اليتامى والمساكين والفقراء من الغنيمة والفيء أقل من سهمهم من الصدقات وسهم الغزاة منهما أكثر من سهمهم منها . ثم الغنيمة إنما تحصل بمعاناة وإيجاف خيل وركاب فلا تطيب قلوبهم إلا بأن يعطوا منها . والنواميس الكلية المضروبة على كافة الناس لا بد فيها من النظر
____________________
(1/801)
إلى حال عامة الناس . ومن ضم الرغبة الطبيعية إلى الرغبة العقلية ولا يرغبون إلا بأن يكون هناك ما يجدونه بالقتال ، فلذلك كان أربعة أخماسها للغانمين والفيء إنما يحصل بالرعب دون مباشرة القتال فلا يجب أن يصرف على ناس مخصوصين فكان حقه أن يقدم فيه الأهم فالأهم . والأصل في الخمس أنه كان المرباع عادة مستمرة في الجاهلية يأخذه رئيس القوم وعصبته فتمكن ذلك في علومهم وما كادوا يجدون في أنفسهم حرجا منه ، وفيه قال القائل : ( وإن لنا المرباع من كل غارة ** تكون بنجد أو بأرض التهائم ) فشرع الله تعالى الخمس لحوائج المدينة والملة نحوا مما كان عندهم كما أنزل الآيات على الأنبياء عليهم السلام نحوا مما كان شائعا ذائعا فيهم ، وكان المرباع لرئيس القوم وعصبته تنويها بشأنهم ولأنهم مشغولون بأمر العامة محتاجون إلى نفقات كثيرة ، فجعل الله الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام مشغول بأمر الناس لا يتفرغ أن يكتسب لأهله ، فوجب أن تكون نفقته في مال المسلمين ، ولأن النصرة حصلت بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم والرعب الذي أعطاه الله إياه ، فكان كحاضر الوقعة ، ولذوي القربى لأنهم أكثر الناس حمية للإسلام حيث اجتمع فيهم الحمية الدينية إلى الحمية النسبية فإنه لا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأن في ذلك تنويه أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتلك مصلحة راجعة إلى الملة ، وإذا كان العلماء والقراء يكون توقيرهم تنويها بالملة يجب أن يكون توقير ذوي القربى كذلك بالأولى ، وللمحتاجين وضبطهم بالمساكين والفقراء واليتامى ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس . وعلى هذا فتخصيص هذه الخمسة بالذكر للاهتمام بشأنها ، والتوكيد ألا
____________________
(1/802)
يتخذ الخمس والفيء أغنياؤهم دولة فيهملوا جانب المحتاجين ، ولسد باب الظن السيئ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرابته . وإنما شرعت الأنفال والأرضاخ لأن الإنسان كثيرا ما يقدم على مهلكة إلا لشيء لا يطمع فيه ، وذلك ديدن وخلق للناس لا بد من رعايته . وإنما جعل للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأن غناء الفارس عن المسلمين أعظم ومؤنته أكثر وإن رأيت حال الجيوش لم تشك أن الفارس لا يطيب قلبه ولا تكفي ومؤنته إذا جعلت جائزته دون ثلاثة أضعاف سهم الراجل لا يختلف فيه طوائف العرب والعجم على اختلاف أحوالهم وعاداتهم . قال صلى الله عليه وسلم :
' لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ' وأوصى بإخراج المشركين منها . أقول : عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن الزمان دول وسجال فربما ضعف الإسلام وانتشر شمله فإن كان العدو في مثل هذا الوقت في بيضة الإسلام ومحتده أفضى ذلك إلى هتك حرمات الله وقطعها فأمر بإخراجهم من حوالي دار العلم ومحل بيت الله . وأيضا المخالطة مع الكفار تفسد على الناس دينهم وتغير نفوسهم ، ولما لم يكن بد من المخالطة في الأقطار أمر بتنقية الحرمين منهم ، وأيضا انكشف عليه صلى الله عليه وسلم ما يكون في آخر الزمان فقال : ' إن الدين ليأرز إلى المدينة ' الحديث ولا يتم ذلك إلا بألا يكون هناك من أهل سائر الأديان ، والله أعلم .
____________________
(1/803)
( من أبواب المعيشة ) اعلم أن جميع سكان الأقاليم الصالحة اتفقوا على مراعاة آدابهم في مطعمهم . ومشربهم . وملبسهم . وقيامهم . وقعودهم . وغير ذلك من الهيئات والأحوال ، وكان ذلك كالأمر المفطور عليه الإنسان عند سلامة مزاجه وظهور مقتضيات نوعه عند اجتماع أفراد منه ، وتراءى بعضها لبعض وكانت لهم مذاهب في ذلك . فكان منهم من يسويها على قواعد الحكمة الطبيعية فيختار في كل ذلك ما يرجى نفعه ولا يخشى ضرره بحكم الطب والتجربة ، ومنهم من يسويها على قوانين الإحسان حسبما تعطيه ملته ، ومنهم من يريد محاكاة ملوكهم وحكمائهم ورهبانهم ، ومنهم من يسويها على غير ذلك ، وكان في بعض ذلك منافع يجب التنبيه عليها والأمر به لأجلها ، وفي البعض الآخر مفاسد يجب أن ينهي عنها لأجلها وينبه عليها ، والبعض الآخر غفل من المعنيين يجب أن يبقى على الأباحة ويرخص فيه فكان تنقيحها والتفتيش عنها إحدى المصالح التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لها . والعمدة في ذلك أمور : فمنها أن الاشتغال بهذه الأشغال ينسي ذكر الله ويكدر صفاء القلب فيجب أن يعالج هذا السم بترياق ، وهو أن يسن قبلها وبعدها ومعها أذكار تردع النفس عن اطمئنانها بها بأن يكون فيها ما يذكر المنعم الحقيقي ويميل الفكر إلى جانب القدس . ومنها أن بعض الأفعال والهيآت تناسب أمزجة الشياطين من حيث إنهم لو تمثلوا في منام أحد أو يقظته لتلبسوا ببعضها لا محالة ، فتلبس الإنسان
____________________
(1/804)
بها معد للتقرب منهم وانطباع ألوانها الخسيسة في نفوسهم فيجب أن يمنع عنها كراهة أو تحريما حسبما تحكم به المصلحة كالمشي في نعل واحدة والأكل باليد اليسرى ، وبعضها مطردة للشياطين مقربة من الملائكة كالذكر عند ولوج البيت والخروج منه ، ويجب أن يحض عليها . ومنها الاحتراز عن هيآت يتحقق فيها التأذي بحكم التجربة كالنوم على سطح غير محجوز وترك المصابيح عند النوم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' فإن الفويسقة تضرم على أهلها ' . ومنها مخالفة الأعاجم فيما اعتادوه من الترفه البالغ والتعمق في الاطمئنان بالحياة الدنيا فأنساهم ذكر الله وأوجب الإكثار من طلب الدنيا وتشبح اللذات في نفوسهم فيجب أن يخص رءوس تعمقاتهم بالتحريم كالحرير . والقسى . والمياثر . والأرجوان . والثياب المصنوعة فيها الصور . وأواني الذهب . والفضة . والمعصفر . والخلوق ونحو ذلك ، وأن يعم سائر عاداتهم بالكراهية ، ويستحب ترك كثير من الإرفاه . ومنها الاحتراز عن هيآت تنافي الوقار وتلحق الإنسان بأهل البادية ممن لم يتفرغوا لأحكام النوع ليحصل التوسط بين الإفراط والتفريط . ( الأطعمة والأشربة ) اعلم أنه لما كانت سعادة الإنسان في الأخلاق الأربعة التي ذكرناها وشقاوته في أضدادها أوجب حفظ الصحة النفسانية وطرد المرض النفساني أن يفحص عن أسباب تغير مزاجه إلى إحدى الوجهتين . فمنها أفعال تتلبس بها النفس وتدخل في جذر جوهرها ، وقد بحثنا عن جملة صالحة من هذا الباب .
____________________
(1/805)
ومنها أمور تولد في النفس هيآت دنية توجب مشابهة الشياطين والتبعد من الملائكة وتحقق أضداد الأخلاق الصالحة من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون ، فتلقت النفوس اللاحقة بالملأ الأعلى التاركة للألواث البهيمية من حظيرة القدس بشاعة تلك الأمور كما تلقى الطبيعة كراهية المر والبشع ، وأوجب لطف الله ورحمته بالناس أن يكلفهم برءوس تلك الأمور ، والذي هو منضبط منها وأثرها جلي غير خاف فيهم . ولما كان أقوى أسباب تغير البدن والأخلاق المأكول وجب أن يكون رؤوسها من هذا الباب ، فمن أشد ذلك أثرا تناول الحيوان الذي مسخ قوم بصورته ، وذلك أن الله تعالى إذا لعن الإنسان وغضب عليه أورث غضبه ولعنه فيه وجود مزاج هو من سلامة الإنسان على طرف شاسع وصقيع بعيد حتى يخرج من الصورة النوعية بالكلية فذلك أحد وجوه التعذيب في بدن الإنسان ويكون خروج مزاجه عند ذلك إلى مشابهة حيوان خبيث يتنفر منه الطبع السليم فيقال في مثل ذلك مسخ الله قردة وخنازير فكان في حظيرة القدس علم متمثل أن بين هذا النوع من الحيوان وبين كون الإنسان مغضوبا عليه بعيدا من الرحمة مناسبة خفية وأن بينه وبين الطبع السليم الباقي على فطرته بونا بائنا فلا جرم أن تناول هذا الحيوان وجعله جزء بدنه أشد من مخامرة النجاسات والأفعال المهيجة للغضب ولذلك لم يزل تراجمة حظيرة القدس نوح فمن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يحرمون الخنزير ويأمرون بالتبعد منه إلى أن يتنزل عيسى عليه السلام فيقتله ، ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه وهجر أمره أشد ما يكون ، والقردة . والفأرة لم تكن تؤكل قط فكفى ذلك عن التأكيد الشديد ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الضب . ' إن الله غضب على سبط من
____________________
(1/806)
بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض فلا أدري لعل هذا منها ' ، وقال الله تعالى : ! ( جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) ! . ونظيره ما ورد من كراهية المكث بأرض وقع فيها الخسف أو العذاب ، وكراهية هيآت المغضوب عليهم فإن مخامرة هذه الأشياء ليست أدنى من مخامرة النجاسات ، والتلبس بها ليس أقل تأثيرا من التلبس بالهيآت التي يقتضيها مزاج الشيطان . ويتلوه تناول حيوان جبل على الأخلاق المضادة للأخلاق المطلوبة من الإنسان حتى صار كالمندفع إليها بضرورة ، وصار يضرب به المثل ، وصارت الطبائع السليمة تستخبثه وتأبى تناوله اللهم إلا قوم لا يعبأ بهم ، والذي تكامل فيه هذا المعنى وظهر ظهورا بينا وانقاد له العرب والعجم جميعا أشياء : منها السباع المخلوقة على الخدش . والجرح . والصولة . وقسوة القلب ، ولذلك قال عليه السلام في الذئب : ' أو يأكله أحد ' ؟ ومنها الحيوانات المجبولة على إيذاء الناس والاختطاف منهم وانتهاز الفرص للإغارة عليهم وقبول إلهام الشياطين في ذلك كالغراب . والحديات . والوزغ . والذباب . والحية والعقرب ونحو ذلك . ومنها حيوانات جبلت على الصغار والهوان والتستر في الاخدود كالفأرة وخشاش الأرض . ومنها حيوانات تتعيش بالنجاسات أو الجيفة ومخامرتها وتناولها حتى امتلأت أبدانها بالنتن . ومنها الحمار فإنه يضرب به المثل في الحمق والهوان وكان كثير من أهل
____________________
(1/807)
الطبائع السليمة من العرب يحرمونه ويشبه الشياطين ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا ' وأيضا قد اتفق الأطباء أن هذه الحيوانات كلها مخالفة لمزاج نوع الإنسان لا يسوغ تناولها طبا . واعلم أن ههنا أمورا مبهمة تحتاج إلى ضبط الحدود وتمييز المشكل . منها أن المشركين كانوا يذبحون لطواغيتهم يتقربون به إليها وهذا نوع من الإشراك فاقتضت الحكمة الالهية أن ينهى عن هذا الإشراك ، ثم يؤكد التحريم بالنهي عن تناول ما ذبح لها ليكون كابحا عن ذلك الفعل ، وأيضا فإن قبح الذبح يسري في المذبوح لما ذكرنا في الصدقة ثم المذبوح للطواغيت أمر مبهم ضبط بما أهل لغير الله به ، وبما ذبح على النصب ، وبما ذبحه غير المتدين بتحريم الذبح بغير اسم الله وهم المسلمون وأهل الكتاب ، وجر ذلك أن يوجب ذكر اسم الله عند الذبح لأنه لا يتحقق الفرقان بين الحلال والحرام بادي الرأي إلا عند ذلك ، وأيضا فإن الحكمة الالهية لما أباحت لهم الحيوانات التي هي مثلهم في الحياة وجعل لهم الطول عليهم أوجبت ألا يغفلوا عن هذه النعمة عند إزهاق أرواحها ، وذلك أن يذكروا اسم الله عليها ، وهو قوله تعالى . ! ( ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) ! . ومنها أن الميتة حرام في جميع الملل والنحل ، أما الملل فاتفقت عليها لما تلقى من حظيرة القدس أنها من الخبائث ، وأما النحل فلما أدركوا أن كثيرا منها يكون بمنزلة السم من أجل انتشار أخلاط سمية تنافي المزاج الإنساني عند النزع ، ثم لا بد من تمييز الميتة من غيرها فضبط بما قصد إزهاق روحه للأكل فجر ذلك إلى تحريم المتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنها كلها خبائث مؤذية .
____________________
(1/808)
ومنها أن العرب واليهود كانوا يذبحون وينحرون وكان المجوس يخنقون ويبعجون والذبح والنحر سنة الأنبياء عليهم السلام توارثوهما ، وفيهما مصالح . منها إراحة الذبيحة فإنه أقرب طريق لازهاق الروح ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' فليرح ذبيحته ' وهو سر النهي عن شريطة الشيطان . ومنها أن الدم أحد النجاسات التي يغسلون الثياب إذا أصابها ويتحفظون منها والذبح تطهير للذبيحة منها ، والخنق والبعج تنجيس لها به . ومنها أنه صار ذلك أحد شعائر الملة الحنيفة يعرف به الحنيفي من غيره فكان بمنزلة الختان وخصال الفطرة ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مقيما للملة الحنيفية وجب الحفظ عليه ، ثم لا بد من تمييز الخنق والبعج من غيرهما ، ولا يتحقق إلا بأن يوجب المحدد وأن يوجب الحلق واللبة فهذا ما نهى عنه لأجل حفظ الصحة النفسانية والمصلحة الملية ، وأما الذي ينهى عنه لأجل الصحة البدنية كالسموم والمفترات فحالها ظاهر . وإذا تمهدت هذه الأصول حان أن نشتغل بالتفصيل ، فنقول : ما نهى الله عنه من المأكول صنفان : صنف نهى عنه لمعنى في نوع الحيوان . وصنف نهى عنه لفقد شرط الذبح ، فالحيوان على أقسام : أهلي يباح منه الإبل والبقر والغنم . وهو قوله تعالى : ! ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ! . وذلك لأنها طيبة معتدلة المزاج موافقة لنوع الإنسان ، وأذن يوم خيبر في الخيل ونهى عن الحمر ، وذلك لأن الخيل يستطيبه العرب والعجم وهو
____________________
(1/809)
أفضل الدواب عندهم ويشبه الإنسان ، والحمار يضرب به المثل في الحمق والهوان وهو يرى الشيطان فينهق وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة وأطيبهم نفسا ، واكل صلى الله عليه وسلم لحم الدجاج ، وفي معناها الأوز والبط لأنها من الطيبات والديك يرى الملك فيصقع ، ويحرم الكلب والسنور لأنهما من السباع ويأكلان الجيف ، والكلب شيطان . ووحشي يحل منه ما يشبه بهيمة الأنعام في اسمها ووصفها كالظباء والبقر الوحشي والنعامة ، وأهدي له صلى الله عليه وسلم لحم الحمار الوحشي فأكله والأرنب فقبله ، وأكل الضب على مائدته لأن العرب يستطيبون هذه الأشياء ، واعتذر في الضب تارة بأنه ' لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ' وتارة باحتمال المسخ والنهي عنه تارة وليس فيها عندي تناقض لأنه كان فيها وجهان جميعا كل واحد كاف في العذر لكن ترك ما فيه الاحتمال ورع من غير تحريم ، وأراد بالنهي الكراهة التنزيهية ، ونهى عن كل ذي ناب من السباع لخروج طبيعتها من الاعتدال ولشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها . وطير يباح منه الحمام والعصفور لأنهما من المستطاب ، ونهى عن كل ذي مخلب وسمى بعضها فاسقا فلا يجوز تناوله ويكره ما يأكل الجيف والنجاسة وكل ما يستخبثه العرب لقوله تعالى : ! ( يحرم عليهم الخبائث ) ! . وأكل الجرادفي عهده صلى الله عليه وسلم لأن العرب يستطيبونه وبحري يباح منه ما يستطيبه العرب كالسمك والعنبر وأما ما يستخبثه
____________________
(1/810)
العرب ويسميه باسم حيوان محرم كالخنزير ففيه تعارض الدلائل والتعفف أفضل . وسئل صلى الله عليه وسلم عن السمن ماتت فيه الفأرة : فقال ' ألقوها وما حولها وكلوه ' وفي رواية ' إذا وقعت الفأرة في السمن فان كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه ' . أقول : الجيفة وما تأثر من منهاني جميع الأمم والملل فإذا تميز الخبيث من غيره ألقى الخبيث وأكل الطيب وإن لم يمكن التميز حرم كله . ودل الحديث على حرمة كل نجس ومتنجس . ونهى عليه السلام عن أكل الجلالة وألبانها ، أقول ذلك لأنها لما شربت أعضائها النجاسة وانتشرت في جميع أجزائها كان حكمها حكم النجاسات أو حكم من يتعيش بالنجاسات . قال صلى الله عليه وسلم :
' أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان الحوت والجراد والدمان الكبد والطحال ' ، أقول : الكبد والطحال عضوان من أعضاء بدن البهيمة لكنهما يشبهان الدم فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم الشبه فيهما وليس في الحوت والجراد دم مسفوح فلذلك لم يشرع فيهما الذبح ، وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ وسماه فاسقا وقال : ' كان ينفخ على إبراهيم ' وقال : ' من قتل وزغا في أول ضربة كتب له كذا وكذا وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك ' . أقول : بعض الحيوان جبل بحيث يصدر منه أفعال وهيآت شيطانية وهو أقرب الحيوان شبها بالشيطان وأطوعه لوسوسته ، وقد علم النبي
____________________
(1/811)
صلى الله عليه وسلم أن منه الوزغ ونبه على ذلك بأنه كان ينفخ على إبراهيم لانقياده بحسب الطبيعة لوسوسة الشيطان وإن لم ينفع نفخه في النار شيئا ، وإنما رغب في قتله لمعنيين : أحدهما أن فيه دفع ما يؤذي نوع الإنسان فمثله كمثل قطع أشجار السموم من البلدان ونحو ذلك مما فيه جمع شملهم . والثاني أن فيه كسر جند الشيطان ونقص وكر وسوسته ، وذلك محبوب عند الله وملائكته المقربين ، وإنما كان القتل في أول ضربة أفضل من قتله في الثانية لما فيه من الحذاقة والسرعة إلى الخير ، والله أعلم . قال الله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح عن النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ) . أقول : فالميتة والدم لأنهما نجسان ، والخنزير لأنه حيوان مسخ بصورته قوم ( وما أهل لغير الله به ) ( وما ذبح على النصب ) يعني الأصنام قطعا لدابر الشرك ، ولأن قبح الفعل يسري في المفعول به و ( المنخنقة ) وهي التي تخنق فتموت ( والمتردية ) وهي التي تقع من الأعلى إلى الأسفل ( والنطيحة ) وهي التي قتلت نطحا بالقرون ( وما أكل السبع ) فبقي منه لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلقه أو لبته فجر ذلك إلى تحريم هذه الأشياء .
____________________
(1/812)
وأيضا فإن الدم المسفوح ينتشر فيه ويتنجس جميع البدن ( إلا ما ذكيتم ) أي وجدتموه قد أصيب ببعض هذه الأشياء ، وفيه حياة مستقرة فذبحتموه فكان إزهاق روحه بالذبح ( وأن تستقسموا بالأزلام ) أي تطلبوا علم ما قسم لكم من الخير والشر بالقداح التي كان أهل الجاهلية يجيلونها ، في أحدها افعل ، والثاني لا تفعل ، والثالث غفل فإن ذلك افتراء على الله واعتماد على جهل . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر بهيمة وعن أكل المصبورة أقول كان أهل الجاهلية يصبرون البهائم ويرمونها بالنبل ، وفي ذلك إيلام غير محتاج إليه ولأنه لم يصر قربانا إلى الله ولا شكر به نعم الله . قال صلى الله عليه وسلم :
' إن الله كتب الاحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد احدكم شفرته وليرح ذبيحته ' . أقول : في اختيار أقرب طريق لازهاق الروح اتباع داعية الرحمة وهي خلة يرضى بها رب العالمين ويتوقف عليها اكثر المصالح المنزلية والمدنية . وقال صلى الله عليه وسلم ' ما يقطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ' أقول :
' كانوا يجبون أسنمة الابل ويقطعون إليات الغنم وفي ذلك تعذيب ومناقضة لما شرع الله من الذبح ، فنهى عنه . قال صلى الله عليه وسلم :
' من قتل عصفورا فما فوقه بغير حقه سأله الله عز وجل عن قتله ، قيل : يا رسول الله وما حقه ؟ قال . أن يذبحه فيأكله
____________________
(1/813)
ولا يقطع رأسه فيرمى به ' أقول : ههنا شيآن متشابهان لا بد من التمييز بينهما : أحدهما الذبح للحاجة واتباع داعية إقامة مصلحة نوع الإنسان . والثاني السعي في الأرض بفساد نوع الحيوان واتباع داعية قسوة القلب . واعلم أنه كان الاصطياد ديدنا للعرب وسيرة فاشية فيهم حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما في إكثاره بقوله :
' من اتبع الصيد لها ' . وأحكام الصيد تبنى على أنه محمول على الذبح في جميع الشروط إلا فيما يعسر الحفظ عليه ويكون أكثر سعيهم أن اشترط باطلا فيشترط التسمية على إرسال الجارح أو الرمي ونحوها ويشترط أهلية الصائد ولا يشترط الذبح ولا الحلق واللبة وعلى تحقيق ذاتيات الاصطياد كارسال الجارح المعلم قصدا وإلا كان ظفرا بالصيد اتفاقا لا اصطيادا ، وكون الجارح لم يأكل منه فإن أكل فأدرك حيا وذكى حل وإلا لا ، وذلك تحقيقا لمعنى المعلم وتميزا له مما أكل السبع . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحكام الصيد والذبائح فأجاب بالتخريج على هذه الأصول . قيل : إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأ كل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ولكلبي المعلم فما يصلح لي ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ' أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير المعلم وأدركت ذكاته فكل ' . قوله صلى الله عليه وسلم :
' فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ' .
____________________
(1/814)
أقول : ذلك تحريا للمختار وراحة للقلب من الوساوس وقيل : يا رسول الله إنا نرسل الكلاب المعلمة قال صلى الله عليه وسلم : ' إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله ، قيل : يا رسول الله ارمي الصيد فإني فأجد فيه من الغد سهمي قال صلى الله عليه وسلم : ' وإذا رميت سهمك فاذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ' قيل : ' إنا نرمي بالمعراض قال صلى الله عليه وسلم : كل ما خزق وما أصاب بعرضه فقتل فانه وقيذ فلا تأكل ، قيل : ' يا رسول الله إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا ، قال صلى الله عليه وسلم : ' اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ' أقول : أصله أن الحكم على الظاهر ، قيل : ' إنا لاقوا العدو غدا وليست معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر وسأحدثك عنه أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبش ' وند بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال صلى الله عليه وسلم : ' إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا ' أقول : لأنه صار وحشيا فكان حكمه حكم الصيد .
____________________
(1/815)
وسئل صلى الله عليه وسلم عن شاة أبصرت جارية بها موتا فكسرت حجرا فذبحتها فأمر بأكلها . قيل : ' إن من الطعام طعاما أتحرج منه ؟ قال لا يختلجن في صدرك شيء ، ضارعت فيه النصرانية ' . قيل : ' يا رسول ننحر الناقة ونذبح البقر والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله ؟ قال صلى الله عليه وسلم . كلوه إن شئتم فإن ذكاته زكاة أمه ' .
____________________
(1/816)
( آداب الطعام ) واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم آدابا يتأدبون فيها في الطعام . قال صلى الله عليه وسلم : ' بركة الطعام والضوء قبله والوضوء بعده ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' كيلوا طعامكم يبارك لكم ' وقال عليه السلام : ' إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها فان البركة تنزل من أعلاها ' . أقول : من البركة أن تشبع النفس ، وتقر العين ، وينجمع الخاطر ، ولا يكون هاعا لاعا كالذي يأكل ولا يشبع . تفصيل ذلك أنه ربما يكون رجلان عند كل منهما مائة درهم ، وأحدهما يخشى العيلة ويطمع في أموال الناس ولا يهتدي لصرف ماله فيما ينفعه في دينه ودنياه ، والآخر متعفف يحسبه الجاهل غنيا مقتصدا في معيشته منجمعا في نفسه . فالثاني بورك له في ماله ، والأول لم يبارك له ، ومن البركة أن يصرف الشيء في الحاجة ويكفي عن أمثاله . تفصيله أنه ربما يكون رجلان يأكل كل واحد رطلا يصرف طبيعة أحدهما إلى تغذية البدن ويحدث في معدة الآخر آفة فلا ينفعه ما أكل بل ربما صار ضارا ، وربما يكون لكل منهما مال فيصرف أحدهما في مثل ضيعة كثيرة الريف ويهتدي لتدبير المعاش ، والثاني يبذر تبذيرا فلا يقع من حاجته في شيء . وإن لهيآت النفس وعقائدها مدخلا في ظهور البركة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/817)
: ' فمن اخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي لا يأكل ولا يشبع ' ولذلك تزلق رجل الماشي على الجذع في الجو دون الأرض فإذا أقبل على شيء بالهمة وأراد به أن يقع كفاية عن حاجته وجمع نفسه في ذلك كان سبب قوه عينه وانجماع خاطره وتعفف نفسه ، وربما يسري ذلك إلى الطبيعة فصرفت فيما لا بد منه ، فإذا عسل يديه قبل الطعام ونزع النعلين واطمأن في مجلسه وأخذه اعتدادا به وذكر اسم الله أفيضت عليه البركة ، وإذا كال الطعام وعرف مقداره واقتصد في صرفه وصرفه على عينه كان أدنى أن يكفيه اقل مما لا يكفي الآخرين ، وإذا جعل الطعام بهيئة منكرة تعافها الأنفس ولا تعتد به لأجلها كان أدنى ألا يكفى أكثر مما يكفي الآخرين كيف ولا أظن أن أحدا يخفى عليه أن الإنسان ربما يأكل الرغيف كهيئة المتفكه أو يأكله وهو يمشي ويحدث فلا يجد له بالا ولا يرى نفسه قد اغتدت ولا تشبع به نفسه وإن امتلأت المعدة وربما يأخذ مقدار الرطل جزافا فيكون الزائد يستوي وجوده وعدمه ولا يقع من الحاجة في شيء ويجد الطعام بعد حين وقد ظهر فيه النقصان . وبالجملة لوجود البركة وعدمها أسباب طبيعية يمد في ضمنها ملك كريم أو شيطان رجيم ، وينفخ في هيكلها روح ملكي أو شيطاني ، والله أعلم . أما غسل اليد قبل الطعام ففيه إزالة الوسخ ، وأما غسلها بعده ففيه إزالة الغمر وكراهية ان يفسد عليه ثيابه ، أو يخدشه سبع أو تلدغه هامة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' من بات وفي يده غمر لم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه ' . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه ' ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ' .
____________________
(1/818)
وقال صلى الله عليه وسلم : ' إن الشيطان يستحل الطعام إلا يذكر اسم الله عليه : . وقال صلى الله عليه وسلم : ' إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر اسم الله على طعامه فليقل بسم الله أوله وآخره ' وقال فيمن فعل ذلك : ' ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه ' وقال عليه السلام : ' إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضر عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان ' . أقول من العلم الذي أعطاه الله نبيه حال الملائكة والشياطين وانتشارهم في الأرض يتلقى هؤلاء من الملأ الأعلى إلهامات خير فيوحونه إلى بني آدم ، وينبجس من مزاج الشياطين آراء فاسدة تميل إلى فساد النظامات الفاضلة ومعصية حكم الوقار وما تقتضيه الطبيعة السليمة فيفعلون ذلك ويوحونه إلى أوليائهم من الأنس . فمن حال الشياطين أنهم إذا تمثلوا في المنام أو اليقظة تمثلوا في بهيآت منكرة تنفر منها الطبائع السليمة كالأكل بالشمال ، وكصورة الأجدع ونحو ذلك . ومنها أنه قد تنطبع في نفوسهم هيآت دنية تنبجس في بني آدم من البهيمية كالجوع والشبق ، فإذا حدثت فيهم اندفعوا إلى اختلاط بتلك الحاجات وتلفع بها ومحاكاة ما يفعله الأنس عندها ويتخيلون في ذلك
____________________
(1/819)
قضاء تلك الشهوة يقضون بذلك أوطارهم ، فيصير الولد الذي حصل من جماع اشترك فيه الشياطين وقضوا عنده وطرهم قليل البركة مائلا إلى الشيطنة ، والطعام الذي باشروه وقضوا به وطرهم قليل البركة لا ينفع الناس بل ربما يضرهم وذكر اسم الله والتعوذ بالله مضاد بالطبع لهم ، ولذلك ينخنسون عمن ذكر الله وتعوذ به وقد اتفق لنا أنه زارنا ذات يوم رجل من أصحابنا فقربنا إليه شيئا ، فبينا يأكل إذا سقطت كسرة من يده وتدهدهت في الأرض فجعل يتبعها وجعلت تتباعد عنه حتى تعجب الحاضرون بعض العجب وكابد هو في تتبعها بعض الجهد ، ثم إنه أخذها فأكلها فلما كان بعد أيام تخبط الشيطان إنسانا وتكلم على لسانه فكان فيما تكلم أني مررت بفلان وهو يأكل فأعجبني ذلك الطعام فلم يطعمني شيئا فخطفته من يده فنازعني حتى أخذه مني . وبينا يأكل أهل بيتنا أصول الجزر إذا تدهده بعضها فوثب عليه إنسان فأخذه وأكله فأصابه وجع في صدره ومعدته ثم تخبطه الشيطان فأخبر على لسانه أنه كان أخذ ذلك المتدهدة ، وقد قرع أسماعنا شيء كثير من هذا النوع حتى علمنا أن هذه الأحاديث ليست من باب إرادة المجاز وإنما أريد بها حقيقتها ، والله أعلم . قال صلى الله عليه وسلم : ' إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء ' وفي رواية ' وإنه يتقى بجناحيه الذي فيه الداء ' وأعلم أن الله تعالى خلق الطبيعة في الحيوان مدبرة لبدنه فربما دفعت المواد المؤذية التي لا تصلح أن تصير جزء البدن من أعماق البدن إلى أطرافه ولذلك نهى الأطباء عن أكل أذناب الدواب
____________________
(1/820)
فالذباب كثيرا ما يتناول أغذية فاسدة لا تصلح جزءا للبدن فتدفعها الطبيعة إلى أخس عضو منه كالجناح ، ثم إن ذلك العضو لما فيه من المادة السمية يندفع إلى الحك ويكون أقدم أعضائه عند الهجوم في المضايق ، ومن حكمة الله تعالى أنه لم يجعل في شيء سما إلا جعل فيه ترياقيه لتحفظ بها بينه الحيوان ، ولو ذكرنا هذا المبحث من الطب لطال الكلام . وبالجملة فسم لسع الذباب في بعض الأزمنة وعند تناول بعض الأغذية محسوس معلوم وتحرك العضو الذي تندفع إليه المادة اللذاعة معلوم ، وأن الطبيعة يختفي فيها ما يقاوم مثل هذه المواد المؤذية معلوم فما الذي يستبعد من هذا المبحث . وما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق ولا رأى شاة سميطا بعينه قط . ولا أكل متكئا . وما رأى منخلا كانوا يأكلون الشعير غير منخول . اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في العرب وعاداتهم أوسط العادات ولم يكونوا يتكلفون تكلف العجم والأخذ بها أحسن وأدنى ألا يتعمقوا في الدنيا ولا يعرضوا عن ذكر الله ، وأيضا أحسن لأصحاب الملة من أن يتبعوا إمامها في كل نقير وقطمير . قال صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ' . أقول : معناه أن الكافر همه بطنه والمؤمن همه آخرته وأن الحرى
____________________
(1/821)
بالمؤمن أن يقلل الطعام وأن تقليله خصلة من خصال الإيمان وأن شرة الأكل خصلة من خصال الكفر . ونهى صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين تمرتين . أقول : النهي عن القران يحتمل وجوها : منها أنه لا يحسن المضع عند جمع تمرتين وأنه أدنى أن تؤذيه إحدى النواتين لنقصان ضبطهما بخلاف النواة الواحدة . ومنها أن ذلك هيئة من هيآت الشره والحرص . ومنها أنه استئثار على أصحابه ومظنة أن يكرهه أصحابه ويزول هذا المعنى بالاذن . قال صلى الله عليه وسلم : ' لا يجوع أهل بيت عندهم تمر ' ، وقال عليه السلام : ' بيت لا تمر فيه جياع أهله ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' نعم الادام الخل ' . أقول من تدبير المنزل أن يدخر في بيته شيئا تافها يجده رخيصا في السوق كالتمر في المدينة وأصول الجزر ونحوها في سواد بلادنا فإن وجد طعاما يشتهيه فيها إلا كان الذي عنده كفافا لهم وسترا فان لم يفعلوا ذلك كانوا على شرف الجوع وكذلك حال الادام . قال صلى الله عليه وسلم : ' من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا ' وأتى بقدر فيه خضرات لها رائحة فقال ، لبعض اصحابة : ' كل فاني أناجي من لا تناجي ' . أقول : الملائكة تحب من الناس النظافة والطيب وكل شيء يهيج خلق
____________________
(1/822)
التنظيف وتتنفر من أضداد ذلك ، وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ما كان هو شريعة المحسنين المتلعلع فيهم أنوار الملكية وبين غيرهم . قال صلى الله عليه وسلم : ' إن الله يرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة ويحمده عليها ' قد مر سره . وقد روى عن الحمد صيغ أيها فعل فقد أدى السنة : منها الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفى ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ' . ومنها الحمد الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين . ومنها الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا . ولما كانت الضيافة بابا من أبواب السماحة وسببا لجمع شمل المدينة والملة مؤديا إلى تودد الناس وألا يتضرر أبناء السبيل وجب أن تعد من الزكاة ويرغب فيها ويحث عليها ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ' ثم مست الحاجة إلى تقدير مدة الضيافة لئلا يحرج الضيف أو يعد القليل منها كثيرا فقدر الاكرام بيوم وليلة وهو الجائزه وجعل آخر الضيافة ثلاثة أيام ثم بعد ذلك صدقة .
____________________
(1/823)
( المسكرات ) واعلم أن إزالة العقل بتناول المسكر يحكم العقل بقبحه لا محالة إذ فيه تردى النفس في ورطة البهيمية والتبعد من الملكية في الغاية وتغيير خلق الله حيث أفسد عقله الذي خص الله به نوع الإنسان ومن به عليهم وإفساد المصلحة المنزلية والمدنية وإضاعة المال والتعرض لهيآت منكرة يضحك منها الصبيان . وقد جمع الله تعالى كل هذه المعاني تصريحا أو تلويحا في هذه الآية ! ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة ) ! الآية . ولذلك اتفق جميع الملل والنحل على قبحه بالمرة ، وليس الأمر كما يظنه من لا بصيرة له من أنه حسن بالنظر إلى الحكمة العملية لما فيه من تقوية الطبيعة فإن هذا الظن من باب اشتباه الحكمة الطيبة بالحكمة العملية ، والحق أنهما متغايرتان وكثيرا ما يقع بينهما تجاذب وتنازع كالقتال يحرمه الطب لما فيه من التعرض لفك البنية الإنسانية الواجب حفظها في الطب ، وربما أوجبته الحكمة العملية إذا كان فيه صلاح المدينة أو دفع عار شديد ، وكالجماع يوجبه الطب عند التوقان وخوف التأذي من تركه ، وربما حرمته الحكمة العملية إذا كان فيه عار أو منابذة سنة راشدة . وأهل الرأي من كل أمة وكل قرن يذهبون إلى ترجيح المصلحة على الطب ويرون من لا يتحراها ولا يتقيد بها ميلا إلى صحة الجسم فاسقا ماجنا مذموما مقبوحا لا اختلاف لهم في ذلك ، وقد علمنا الله تعالى ذلك حيث قال :
____________________
(1/824)
! ( فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) ! نعم تناول المسكر إذا لم يبلغ حد الاسكار ولم تترتب عليه المفاسد يختلف فيه أهل الرأي ، والشريعة القومية المحمدية - التي هي الغاية في سياسة الأمة . وسد الذرائع . وقطع احتمال التحريف - نظرت إلى أن قليل الخمر يدعوا إلى كثيرها ، وأن النهي على المفاسد من غير أن ينهى عن ذات الخمر لا ينجع فيهم ، وكفى شاهدا على ذلك ما كان في المجوس وغيرهم وأنه أن فتح باب الرخصة في بعضها لم تنظيم السياسة الملية أصلا فنزل التحريم إلى نوع الخمر قليلها وكثيرها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومتباعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ' . أقول : لما تعينت المصلحة في تحريم شيء وإخماله ونزل القضاء بذلك وجب أن ينهى عن كل ما ينوه أمره ويروجه في الناس ويحملهم عليه فإن ذلك مناقضة للمصلحة ومناوأة بالشرع . وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أحاديث كثيرة من طرق لا تحصى وعبارات مختلفة ، فقال : الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبه ' وأجاب صلى الله عليه وسلم من سأل عن البتع والمزر وغيرهما ، فقال : ' كل شراب أسكر فهو حرام ' وقال عليه الصلاة والسلام :
' كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ' ، وقال : ' من شاهد
____________________
(1/825)
نزول الآية إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء العنب . والتمر . والحنطة . والشعير . والعسل والخمر ما خامر العقل ' وقال : ' لقد حرمت الخمر حين حرمت ' وما نجد خمر الأعناب إلا قليل وعامة خمرنا البسر والتمر وكسروا دنان الفضيخ حين نزلت وهو الذي يقتضيه قوانين التشريع فإنه لا معنى من للخصوصية العنب وإنما المؤثر في التحريم كونه مزيلا للعقل يدعو قليله إلى كثيره فيجب به القول ، ولا يجوز لأحد اليوم أن يذهب إلى تحليل ما اتخذ من غير العنب ، واستعمل أقل من حد الإسكار . نعم كان ناس من الصحابة والتابعين لم يبلغهم الحديث في أ ول الأمر فكانوا معذورين ، ولما استفاض الحديث وظهر الأمر - ولا كرابعة النهار - وصح حديث ' ليشر بن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ' لم يبقى عذر ' أعاذنا الله تعالى والمسلمين من ذلك . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا ؟ قال : ' لا وقيل إنما أصنعها للدواء فقال : ' إنه ليس بدواء ولكنه داء ' . أقول : لما كان الناس مولعين بالخمر وكانوا يتحيلون لها حيلا لم تتم المصلحة إلا بالنهي عنها على كل حال لئلا يبقى عذر لأحد ولا حيلة . ونهى صلى الله عليه وسلم عن خليط التمر والبسر ، وعن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب أقول : السر في ذلك أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكرا .
____________________
(1/826)
وكان صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول : ' إنه أروى وأبرأ وأمرأ ' أقول : ذلك لأن المعدة إذا وصل إليها الماء قليلا قليلا صرفته الطبيعة إلى ما يهمها وإذا هجم عليها الماء الكثير تحيرت في تصريفه والمبرود إذا لفى في معدته الماء أصابته البرودة لضعف قوته من مزاحمة القدر الكثير بخلاف ما إذا تدرج ، والمحرور إذا ألقى على معدته ماء دفعة حصلت بينهما المدافعة ولم تتم البرودة ، وإذا ألقى شيئا فشيئا وقعت المزاحمة أولا ثم ترجحت البرودة . ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشارب من في السقاء وعن اختناث الأسقية أقول : وذلك لأنه إذا ثنى فم القربة فشرب منه فإن الماء يتدفق وينصب في في حلقه حقله دفعة ، وهو يورث الكباد ، ويضر بالمعدة ولا يتميز عنده في دفق الماء وانصبابه القذاه ونحوها . ويحكى أن إنسان شرب من في السقا فدخلت حية في جوفه . ونهى عليه السلام أن يشرب الرجل قائما ، وروى أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما أقول : هذا النهي نهي إرشاد وتأديب فإن الشرب قاعدا من الهيآت الفاضلة وأقرب لجموع النفس والري وأن تصرف الطبيعة الماء في محله أما الفعل فلبيان الجواز . وقال عليه السلام :
' الأيمن فالأيمن ' أقول أراد بذلك قطع المنازعة فإنه لو كانت السنة تقديم الأفضل ربما لم يكن الفضل مسلما بينهم وربما يجدون في أنفسهم من تقديم غيرهم حاجة . ونهى صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه أقول . ذلك لئلا يقع في الماء من فمه أو أنفه ما يكرهه فيحدث هيئة منكرة .
____________________
(1/827)
قال صلى الله عليه وسلم : ' سموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم رفعتم ' قد مر سره . ( اللباس . والزينة . والأواني ونحوها ) اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى عادات العجم وتعمقاتهم في الاطمئنان بلذات الدنيا فحرم رءوسها وأصولها ، وكره ما دون ذلك ، لأنه علم أن ذلك مفض إلى نسيان الدار الآخرة مستلزم للإكثار من طلب الدنيا . فمن تلك الرءوس اللباس الفاخر فإن ذلك أكبر همهم وأعظم فخرهم ، والبحث عنه من وجوه . منها الاسبال في القيص والسراويلات فإنه لا يقصد بذلك الستر والتجمل اللذين هما المقصودان في اللباس ، وإنما يقصد به الفخر وإراءة الغني نحو ذلك ، والتجمل ليس إلا في القدر الذي يساوي البدن ، قال صلى الله عليه وسلم : ' لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً ، وقال صلى الله عليه وسلم إزاره المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار ' . ومنها الجنس المستغرب الناعم من الثياب . قال صلى الله عليه وسلم : ' من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه يوم القيامة ' وسره مثل ما ذكرنا في الخمر ونهى صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وعن لبس القسى
____________________
(1/828)
والمياثر والأرجوان ، ورخص في موضع إصبعين أو ثلاثة لأنه ليس من باب اللباس وربما تقع الحاجة إلى ذلك ، ورخص للزبير . وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكمة بهما لأنه لم يقصد حينئذ به الإرفاه وإنما قصد الاستشفاء . ومنها الثوب المصبوغ بلون مطرب يحصل به الفخر والمراءاة ؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعصفر والمزعفر ، وقال : ' إن هذه من ثياب أهل النار ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' ألا طيب الرجال ريح لا لون له وطيب النساء لون لا ريح له ' ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم :
' إن البذاذة من الإيمان ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ' ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' من ترك لبس ثوب جمال تواضعا كساه الله حلة الكرامة ' وبين قوله صلى الله عليه وسلم : ' أن الله يحب أن يرى اثر نعمته على عبده ' ورأى رجلا شعثا ، فقال : ' ما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه ' ورأى رجلا عليه ثياب وسخة فقال : ' ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه ' . وقال صلى الله عليه وسلم : ' إذا أتاك الله ما لا فأثر نعمة الله وكرامته عليك ' لأن هنالك شيئين مختلفين في الحقيقة قد يشتبهان بادئ الرأي : أحدهما مطلوب ، والآخر مذموم ، فالمطلوب ترك الشح ، ويختلف باختلاف طبقات الناس ، فالذي هو في الملوك شح ربما يكون إسرافا في حق الفقير ، وترك عادات البدو واللاحقين بالبهائم واختيار النظافة ومحاسن العادات ، والمذموم الامعان في التكلف والمراءاة والتفاخر بالثياب وكسر قلوب الفقراء ونحو ذلك ، وفي ألفاظ الحديث إشارات إشارة إلى هذه المعاني كما لا يخفى على المتأمل ، ومناط الأجر ردع النفس عن اتباع داعية الغمط والفخر .
____________________
(1/829)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عماقة أو قميصا أو رداء ثم يقول : ' اللهم لك الحمد كما كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له ' وقد مر سره من قبل . ومن تلك الرءوس الحلي المترفة ، وههنا أصلان : أحدهما أن الذهب هو الذي يفاخر به العجم ويفضي جريان الرسم بالتحلي به إلى الإكثار من طلب الدنيا دون الفضة ولذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب ، وقال : ' ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها ' . والثاني أن النساء أحوج إلى تزين ليرغب فيهن أزواجهن ، ولذلك جرت عاده العرب والعجم جميعا بأن يكون تزينهن أكثر من تزينهم فوجب أن يرخص لهن أكثر مما يرخص لهم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم .
' أحل الذهب والحرير للأناث من أمتي وحرم على ذكورها ' . وقال صلى الله عليه وسلم . في خاتم ذهب في يد رجل . ' يعمد أحدكم إلى جمر من نار فيجعله في يده ' ورخص عليه السلام في خاتم الفضة لا سيما لذي سلطان ، قال . ' ولا تتمه مثقالا ' ونهى صلى الله عليه وسلم النساء عن غير المقطع من الذهب وهو ما كان قطعة واحدة كبيرة ، قال صلى الله عليه وسلم .
' من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من النار فليحلقه حلقة من ذهب ' وذكر على هذا الأسلوب الطوق السوار . وكذا جاء التصريح بقلادة من ذهب ، وخرص من ذهب . وسلسلة من ذهب ، وبين المعنى في هذا الحكم حيث قال : ' أما إنه ليس منكن امرأة تحلي ذهبا تظهره إلا عذبت به ' وكان لأم سلمة رضي الله عنها أوضاع من ذهب ، والظاهر
____________________
(1/830)
أنها كانت مقطعة ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' حل الذهب للاناث ' معناه الحل في الجملة . هذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحديث ولم أجد لها معارضا ، ومذهب الفقهاء في ذلك معلوم مشهور والله أعلم بحقيقة الحال . ومنها التزين بالشعور فان الناس كانوا مختلفين في أمرها ، فالمجوس كانوا يقصون اللحى ويوفرون الشوارب ، وكانت سنة الأنبياء عليهم السلام خلاف ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم :
' خالفوا المشركين ، وفروا اللحى واحفوا الشوارب ' . وكان ناس يحبون التشعث والتمهن والهيئة البذة ويكرهون التجمل والتزين . وناس يتعمقون في التجمل ويجعلون ذلك أحد وجوه الفخر وغمط الناس ، فكان إخمال مذهبهم جميعا ورد طريقهم أحد المقاصد الشرعية ، فان مبنى الشرائع على التوسط بين المنزلتين ، والجمع بين المصلحتين . وقال رسول الله :
' الفطرة خمس : الختان . والاستحداد . وقص الشارب . وتقليم الأظافر . ونتف الابط ' ثم مست الحاجة إلى توقيت ذلك ليمكن الإنكار على من خالف السنة ولئلا يصل المتورع إلى الحلق والنتف كل يوم ، والمتهاون إلى تركها سنة فوقت قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الابط وحلق العانة ألا يترك أكثر من أربعين ليلة . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن اليهود والنصارى لا يصبغون ' وكان أهل الكتاب يسدلون ، والمشركون يفرقون ، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/831)
ناصيته ثم فرق بعد ، فالسدل أن يرخي ناصيته على وجهه ، وهي هيئة بذة ، والفرق أن يجعله ضفيرتين يرسل كل ضفيرة إلى صدغ . ونهى صلى الله عليه وسلم عن القزع . أقول : السر فيه أنه من هيآت الشياطين ، وهو نوع من المثلة تعافها الأنفس إلا القلوب المؤفة باعتيادها ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' من كان له شعر فليكرمه ، ونهى عن الترجل إلا غبا يريد التوسط بين الافراط والتفريط . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ' ولعن صلى الله عليه وسلم
المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ، أقول : الأصل في ذلك ان الله خلق كل نوع وصنف متقيضيا لظهور أحكام في البدن كالرجال تلتحي وكالنساء يصغين إلى نوع من الطرب والخفة ، فاقتضاؤها للأحكام لمعنى في المبدأ هو بعينه كراهية أضدادها ، ولذلك كان المرضي بقاء كل نوع وصنف على ما تقتضيه فطرته وكان تغيير الخلق سببا للعن ، ولذلك كره النبي صلى الله عليه وسلم إنزاء الحمير لتحصيل البغال . فمن الزينة ما يكون كالتقوية لفعل الطبيعة والتوطئة له والتمشية إياه كالكحل والترجل وهو محبوب ، ومنها ما يكون كالمباين لفعلها كاختيار الإنسان هيئة الدواب وما يكون تعمقا في إبداع ما لا تقتضيه الطبيعة ، وهو غير محبوب إذا خلى الانسان وفطرته عدة مثله .
____________________
(1/832)
ومنها صناعة التصاوير في الثياب والجدران والأنماط ، فنهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومدار النهي شيآن : أحدهما أنها أحد وجوه الإرفاه والزينة فانهم كانوا يتفاخرون بها ويبذلون أموالا خطيرة فيها فكانت كالحرير وهذا المعنى موجود في صورة الشجر وغيرها . وثانيهما أن المخامرة بالصور واتخاذها وجريان الرسم بالرغبة فيها يفتح باب عبادة الأصنام وينوه أمرها ويذكرها لأهلها ، وما نشأت عبادة الأصنام في أكثر الطوائف إلا من هذه ، وهذا المعنى يختص بصورة الحيوان ولذلك أمر بقطع راس التماثيل لتصير كهيئة الشجر ، وخف فساد صناعة صور الأشجار ، قال صلى الله عليه وسلم :
' إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا يعذبه في جهنم ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' من صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ ' . أقول : لما كانت التصاوير فيها معنى الأصنام وقد تحقق في الملأ الأعلى داعية غضب ولعن على الأصنام وعبدتها وجب أن يتنفر منها الملائكة ، وإذا حشر الناس يوم القيامة بأعمالهم تمثل عمل المصور بالنفوس التي تصورها في نفسه وأراد محاكاتها في عمله لأنها أقرب ما هنالك وظهر إقدامه على المحاكاة ، وسعيه أن يبلغ فيها غاية المدى في صورة التكليف بأن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ . ومنها الاشتغال بالمسليات وهي ما يسلي النفس عن هم آخرته ودنياه ويضيع الأوقات كالمعازف والشطرنج واللعب بالحمام واللعب بتحريش البهائم ونحوها ؛ فان الانسان إذا اشتغل بهذه الأشياء لها عن طعامه وشرابه وحاجته ، وربما كان حاقنا لا يقوم للبول فان جرى الرسم بالاشتغال بها صار الناس كلا على المدينة ، ولم يتوجهوا إلى إصلاح نفوسهم . واعلم أن الغناء والدف في الوليمة ونحوها عادة العرب والعجم وديدنهم ،
____________________
(1/833)
وذلك لما يقتضيه الحال من الفرح والسرور فليس ذلك من المسليات إنما ميزان المسليات ما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم في الحجاز وفي القرى العامرة ، لا مكان الاشتغال به زائدا على الفرح والسرور المطلوبين كالمزامير . قال صلى الله عليه وسلم :
' من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله ' وقال صلى الله عليه وسلم
: من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' ليكونن أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف ' فالملاهي نوعان . محرم وهي الآلات المطربة كالمزامير ، ومباح وهو الدف والغناء في الوليمة ونحوهما من حادث سرور . وأما الحداء فهو في الأصل ما يقصد به تهيج الابل ، لكن المراد هنا مطلق النشيد مع تأليف الألحان والإيقاع فهو مباح فإنه من المباسطات دون المسليات . وأما اللعب بآلات كالمناضلة . وتأديب الفرس . واللعب بالرماح فليس من اللعب في الحقيقة لما فيه من مقصود شرعي ، وقد لعبت الحبشة بالحراب والدرق بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده ' . وقال صلى الله عليه وسلم لرجل يتبع حمامة :
' شيطان يتبع شيطانه ' ونهى عليه السلام صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم . ومنها اقتناء عدد كثير من الدواب والفرش لا يقصد بذلك كفاية الحاجة بل مراءاة الناس والفخر عليهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' فراش للرجل . وفراش لامرأته . والثالث للضيف . والرابع للشيطان ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' يكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين ، قال أبو هريرة
____________________
(1/834)
رضي الله عنه : أما أبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها ولا يعلوا بعيرا آمنها ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله ' . وكان أهل الجاهلية مولعين باقتناء الكلاب - جمع كلب - وهو حيوان ملعون تتأذى منه الملائكة فإن له مناسبة بالشياطين كما قلنا في الوزغ ، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم اقتناءها ، وقال :
' من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيدا أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط ' وفي رواية قيراطان ' وفي حكم الكلاب القردة والخنازير . أقول : السر في انتقاص أجره أنه يمد البهيمية ويقهر الملكية ، والقيراط خرج مخرج المثل ، يريد به الجزاء القليل ولذلك لم يكن بين قوله صلى الله عليه وسلم . قيراطان . وقوله قيراط مناقضة . ومنها استعمال أواني الذهب والفضة ، قال صلى الله عليه وسلم : ' الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجر جر في بطنه نار جهنم ' . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فانها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ' وقد ذكرنا من قبل ما ينكشف به سره . وقال صلى الله عليه وسلم خمروا الآنية وأوكلوا الأسقية وأجيفوا الأبواب واكفتوا صبيانكم عند المساء فان للجن انتشارا وخطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فان الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت ' وفي رواية فان الشيطان ' لا يحل سقا ولا يفتح باب ولا يكشف إناء ' وفي رواية ' فان في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء ' .
____________________
(1/835)
أقول : أما انتشار الجن عند المساء فلكونهم ظلمانيين في أصل الفطرة فيحصل لهم عن انتشار الظلمة ابتهاج وسرور فينتشرون ، وأما إن الشيطان لا يحل وكاء فلأن اكثر تأثيراتها على ما أدركنا في ضمن الأفعال الطبيعية كما أن الهواء إذا دخل في البيت دخل الجني معه وإذا تدهده الحجر وأمد في تدهده تدهده أكثر مما تقتضيه العادة ونحو ذلك ، وأما إن في السنة ليلة ينزل فيها الوباء ، فمعناه أنه يجيء بعد زمان طويل وقت يفسد فيه الهواء . وقد شاهدت ذلك مرة أحسست بهواء خبيث أصابني صداع في ساعة ما وصل إلي ثم رأيت كثيرا من الناس قد مرضوا واستعدوا لحدث ومرض في تلك الليلة . ومنها التطاول في البنيان وتزويق البيوت وزخرفتها فكانوا يتكلفون في ذلك غاية التكلف ويبذلون أموالا خطيرة فعالجه النبي صلى الله عليه وسلم بالتغليظ الشديد ، فقال :
' ما أنفق المؤمن من نفقة إلا أجر فيها إلا نفقته في هذا التراب ' ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا ' يعني إلا ما لا بد منه ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' ليس لولي - أو ليس لنبي - أن يدخل بيتا مزوقا ' ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين ' . وكان الناس قبل النبي صلى الله عليه وسلم يتمسكون في أمراضهم وعاهاتهم بالطب والرقى ، وفي تقدمة المعرفة بالفأل . والطيرة ، والحظ - وهو الرمل - والكهانة . والنجوم . وتعبير الرؤيا ، وكان في بعض ذلك ما لا ينبغي ، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأباح الباقي . فالطب حقيقته التمسك بطبائع الأدوية الحيوانية أو والنباتية أوالمعدنية . والتصرف في الأخلاط نقصا وزيادة ، والقواعد الملية تصحح إذ ليس فيه شائبة شرك ولا فساد في الدين والدنيا بل فيه نفع كبير ، وجمع لشمل
____________________
(1/836)
الناس إلا المداداة بالخمر إذ للخمر ضراوة لا تنقطع ، والمداواة بالخبيث أي السم ما أمكن العلاج بغيره فانه ربما أفضى إلى القتل ، والمداواة بالكي ما أمكن بغيره لأن الحرق بالنار أحد الأسباب التي تنفر منها الملائكة ، والأصل فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعالجات التجربة التي كانت عند العرب . وأما الرقي فحقيقتها التمسك بكلمات لها تحقق في المثل وأثر ، والقواعد الملية لا تدفعها ما لم يكن فيها شرك لا سيما إذا كان من القرآن أو السنة أو مما يشبههما من التضرعات إلى الله . والعين حق وحقيقتها تأثير إلمام نفس العائن وصدمة تحصل من إلمامها بالمعين ، وكذا نظرة الجن وكل حديث فيه نهي عن الرقى والتمائم والتولة محمولة على ما فيه شرك أو انهماك في التسبب بحيث يغفل عن البارى جل شأنه . وأمال الفأل والطيرة فحقيقتهما أن الأمر إذا قضى به في الملأ الأعلى ربما تلونت بلونه وقائع جبلت على سرعة الانعكاس ، فمنها الخواطر ، ومنها الألفاظ التي يتفوه بها من غير قصد متعد به وهي أشباح الخواطر الخفية التي يقصد إليها بالذات ، ومنها الوقائع الجوية فإن أسبابها في الأكثر من الطبيعة ضعيفة وإنما تختص بصورة دون صورة بأسباب فلكية أو انعقاد أمر في الملأ الأعلى وكان العرب يستدلون بها على ما يأتي وكان فيه تخمين وإثارة وسواس بل ربما كانت مظنة للكفر بالله وإن لم كطمح الهمة إلى الحق فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة ، وقال :
' خيرها الفأل ' يعنى كلمة صالحة يتكلم بها إنسان صالح فإنها أبعد من تلك القبائح ، ونفي العدوى لا بمعنى نفي أصلها لكن العرب يظنونها سببا مستقلا وينسبون التوكل رأسا ، والحق
____________________
(1/837)
أن سببية هذه الأسباب إنما تتم إذا لم ينعقد قضاء الله على خلافه لأنه إذا انعقد أئمه الله من غير أن ينخرم النظام ، والتعبير عن هذه النكتة بلسان الشرع أنها أسباب عادية لا عقلية ، والهامة تفتح باب الشرك غالبا ، وكذلك الغول فهذا عن الاشتغال بهذه الأمور لأن هذه ليست حقيقة ألبتة ، كيف والأحاديث متظاهرة على ثبوت الجن وتردده في العالم . وعلى ثبوت اصل العدوى . وعلى ثبوت اصل الشؤم في المرأة والفرس والدار ، فلا جرم أن المراد نفيها من حيث جواز الاشتغال بها ومن حيث أنه لا يجوز المخاصمة في ذلك فلا يسمع خصومة من ادعى على أحد على أنه قتل إبله وأمرضها بادخال الابل المريضة عليها ونحو ذلك كيف وأنت خبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكهانة وهي الاخبار عن الجن أشد نهي وبرئ ممن أتى كاهنا ، ثم لما سئل عن حال الكهان أخبر . أن الملائكة تنزل في العنان فتذكر الأمر قد قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة ، يعني أن الأمر إذا تقرر في الملأ الأعلى ترشح منه رشحات على الملائكة السافلة التي استعدت للإلهام فربما أخذ منهم بعض أذكياء الجن ، ثم تتلقى الكهان منهم بحسب مناسبات جبلية وكسبية فلا [ تشكن أن النهي ليس معتمدا على عدمها في الخارج بل على كونها مظنة للخطأ والشرك والفساد ] كما قال عز من قائل : ! ( قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) ! . أما الأنواء والنجوم فلا يبعد أن يكون لهما حقيقة ما فإن الشرع إنما
____________________
(1/838)
أتى بالنهي عن الاشتغال به لانفى الحقيقة ألبتة وإنما توارث السلف الصالح ترك الأشتغال به وذم المشتغلين وعدم القبول بتلك التأثيرات لا القول بالعدم أصلا ، وإن منها ما يلحق البديهيات الأولية كاختلاف الفصول باختلاف أحوال الشمس والقمر ونحو ذلك . ومنها ما يدل عليه الحدس والتجربة والرصد كمثل ما تدل هذه على حرارة الزنجبيل وبرودة الكافور ، ولا يبعد أن يكون تأثيرها على وجهين : وجه يشبه الطبائع فكما أن لكل نوع طبائع مختصة به من الحر والبرد واليبوسة والرطوبة بها يتمسك في دفع الأمراض فكذلك للأفلاك والكواكب طبائع وخواص كحر الشمس ورطوبة القمر فإذا جاء ذلك الكوكب في محله ظهرت قوة في الأرض ألا تعلم أن المرأة إنما اختصت بعادات النساء وأخلاقهن الشيء يرجع إلى طبيعتها وإن خفي إدراكها ، والرجل إنما اختص بالجراءة والجهورية ونحوهما لمعنى في من مزاجه ' فلا تنكر أن يكون لحلول قوى الزهرة والمريخ وبالأرض أثر كأثر هذه الطبائع الخفية ' . وثانيهما وجه يشبه قوة روحانية متركبة مع الطبيعة وذلك مثل قوة نفسانية في الجنين من قبل أمه وأبيه ، والمواليد بالنسبة إلى السموات والأرضيين كالجنين بالنسبة إلى أبيه وأمه فتلك القوة تهيئ العالم لفيضان صورة حيوانية ثم إنسانية . ولحلول تلك القوى بحسب الاتصالات الفلكية أنواع ولكل نوع خواص فأمعن قوم في هذا العلم فحصل لهم علم النجوم يتعرفون له الوقائع الآتية غير أن القضاء إذا انعقد على خلافه جعل قوة الكوكب متصورة بصورة أخرى قريبة من تلك الصورة وأتم الله قضاءه من غير أن ينخرم نظام الكواكب في خواصها ويعبر عن هذه النكتة بأن الكواكب خواصها يجري عادة الله لا باللزوم العقلي ، ويشبه بالأمارات والعلامات ، ولكن
____________________
(1/839)
الناس جميعا توغلوا في هذا العلم توغلا شديدا حتى صار مظنة لكفر الله وعدم الإيمان فعسى ألا يقول صاحب توغل هذا العلم : مطرنا بفضل الله ورحمته من صميم قلبه بل يقول : مطرنا بنو كذا وكذا فيكون ذلك صادا عن تحققه الإيمان الذي هو الأصل في النجاة . وأما علم النجوم فإنه لا يضر جهله إذ الله مدبر للعالم على حسب حكمته على علم أحد أو لم يعلم فلذلك وجب في الملة أن يخمل ذكره وينهى عن تعلمه ويجهر بأن ' من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ' ومثل ذلك مثل التوراة والإنجيل شدد النبي صلى الله عليه وسلم على من من أراد أن ينظر فيهما لكونهما محرفين ومظنة لعدم الانقياد للقرآن العظيم ولذلك نهوا عنه . هذا ما أدى إليه رأينا وتفحصنا فإن ثبت من السنة ما يدل على خلاف ذلك فالأمر على ما في السنة . وأما الرؤيا فهي على خمس أقسام : بشرى من الله . وتمثل نوراني من للحمائد والرذائل المندرجة من النفس على وجه ملكي وتخويف من الشيطان . وحديث نفس من قبل العادة التي اعتادتها النفس في اليقظة تحفها المتخيلة ويظهر في الحس المشترك ما اختزن فيها . وخيالات طبيعية لغلبة الاخلاط وتنبه النفس بأذاها في البدن أما البشرى من الله فحقيقتها أن النفس الناطقة إذا انتهزت فرصة عن
____________________
(1/840)
غواشي البدن بأسباب خفية إلا يكاد يتفطن لها لآ بعد تأمل واف استعدت لأن يفيض عليها من منبع الخير والجود كمال علمي فأفيض عليه شيء على حسب استعداده ومادته العلوم المخزونة عنده . وهذه الرؤيا تعليم إلهي كالمعراج المنامي الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه ربه في أحسن صورة فعلمه الكفارات والدرجات وكالمعراج المنامي الذي انكشف فيه صلى الله عليه وسلم أحوال الموتى بعد انفكاكهم عن الحياة الدنيا كما رواه جابر بن سمرة رضي الله عنه وكعلم ما سيكون من الوقائع الآتية في الدنيا . وأما الروؤيا الملكية فيحققها أن في الإنسان ملكمات حسنة وملكات قبيحة ولكن لا يعرف حسنها وقبحها إلا المتجرد إلى الصورة الملكية فمن تجرد إليها تظهر حسناته وسيآته في صورة مثالية فصاحب هذا يرى الله تعالى ، وأصله الانقياد للبارى ، ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصله الانقياد للرسول المركوز في صدره ، ويرى الأنوار وأصلها الطاعات المكتسبة في صدره وجوارحه تظهر في صورة الأنوار والطيبات كالعسل والسمن واللبن ، فمن رأى الله أو الرسول أو الملائكة في صورة قبيحة أو في صورة الغضب فليعرف أن في اعتقاده خللا وضعفا وأن نفسه لم تتكمل ، وكذلك الأنوار التي حصلت بسبب الطهارة تظهر في صورة الشمس والقمر . وأما التخويف من الشيطان فوحشه وخوف من الحيوانات الملعونة كالقرد ، والفيل . والكلاب . والسودان من الناس فإذا رأى ذلك فليتعوذ بالله وليتفل ثلاثا على يساره وليتحول عن جنبه الذي كان عليه . وأما البشرى فلها تعبير والعمدة فيه معرفة الخيال أي شيء مظنة لأي معنى فقد ينتقل الذهن من المسمى إلى الاسم كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في دار عقبة بن رافع فأتى برطب ابن طاب ' قال
____________________
(1/841)
عليه الصلاة والسلام : ' فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة وأن ديننا قد طاب . وقد ينتقل الذهن من الملابس إلى ما يلابسه كالسيف للقتال ، وقد ينتقل الذهن من الوصف إلى جوهر مناسب له كمن غلب عليه حب المال رآه النبي صلى الله عليه وسلم في صورة سوار من ذهب . وبالجملة فللانتقال من شيء إلى شيء صور شتى ، وهذه الرؤيا شعبة من النبوة لأنها ضرب من إفاضة غيبية وتدل من الحق إلى الخلق وهو أصل النبوة ، وأما سائر أنواع الرؤيا فلا تعبير لها .
____________________
(1/842)
( آداب الصحبة ) اعلم أنه مما أوجبت سلامة الفطر ووقوع الحاجات في أشخاص الإنسان والارتفاق منها آداب يتأدبون بها فيما بينهم ، وأكثرها أمور اجتمعت طرائف العرب والعجم على أصولها وإن اختلفوا في الصور والأشباح ، فكان البحث عنها وتميز الصالح من الفاسد منها إحدى المصالح التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لها . فمنها التحية التي يحيي بها بعضهم بعضا ؛ فإن الناس يحتاجون إلى إظهار التبشيش فيما بينهم . وأن يلاطف بعضهم بعضا . ويرى الصغير فضل الكبير ويرحم الكبير الصغير . ويواخى الأقران بعضهم بعضا ؛ فإنه لولا هذه لم تثمر الصحبة فائدتها ولا أنتجت جدولها ولو لم تضبط بلفظ لكانت من الأمور الباطنة لا يعلم إلا استنباطا من القرائن ، ولذلك جرت سنة السلف في كل طائفة بتحية حسبما أدى إليه رأيهم ثم صارت شعارا لملتهم وإمارة لكون الرجل منهم . فكان المشركون يقولون : أنعم الله بك علينا وأنعم الله بك صبحا وكان المجوس يقولون : هز إرسال برزي . وكان قانون الشرع يقتضي أن يذهب في ذلك إلى ما جرت به سنة الأنبياء عليهم السلام وتلقوها عن الملائكة . وكان من قبيل الدعاء والذكر دون الاطمئنان بالحياة الدنيا كتمني طول الحياة وزيادة الثروة ودون الافراط في التعظيم حتى يتاخم الشرك
____________________
(1/843)
كالسجدة ولئم الأرض وذلك هو السلام ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
' لما خلق الله آدم قال : اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحينوك يحيونك لله فإنها تحيتك وتحية ذريتك فذهب فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، قال : فزادوه ورحمة لله . قوله : ' فسلم على أولئك ' معناه - والله أعلم - حيهم حسبما يؤدي إليه اجتهادك فأصاب الحق ، فقال : ' السلام عليكم ' وقوله : ' فانها تحيتك ' يعنى حتما من حيث إنه عرف أن ذلك مترشح من حظيرة القدس . وقال الله تعالى في قصة الجنة : ! ( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ' . أقول : بين النبي صلى الله عليه وسلم فائدة السلام وسبب مشروعيته فإن التحابب في الناس خصلة يرضاها الله تعالى وإفشاء السلام آلة صالحة لإنشاء المحبة . وكذلك المصافحة . وتقبيل اليد ونحو ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم :
' يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير ' وقال صلى الله عليه وسلم
: ' يسلم الراكب على الماشي ' . أقول : الفاشي في طوائف الناس أن يحي الداخل صاحب البيت والحقير العظيم فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك غير أنه مر عليه السلام على غلمان فسلم عليهم . ومر على نسوة فسلم عليهن علما منه أن في رؤية الإنسان فضل من هو أعظم منه واشرف جمعا لشمل المدينة ، وأن في ذلك نوعا من الاعجاب بنفسه فجعل وظيفة الكبار التواضع ووظيفة
____________________
(1/844)
الصغار توقير الكبار ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا ' . وإنما جعل وظيفة الراكب السلام على الماشي لأنه أهيب عند الناس وأعظم في نفسه فتأكد له التواضع . قال صلى الله عليه وسلم '
: لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيفة ، أقول : سره أن إحدى المصالح التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لها التنويه بالملة الإسلامية وجعلها أعلى الملل وأعظمها لا يتحقق إلا بأن يكون لهم طول على سواهم . وقال صلى الله عليه وسلم فيمن قال . ' السلام عليكم عشر ، وفيمن زاد ورحمة الله عشرون ، وفيمن زائد أيضا وبركاته ثلاثون ، وأيضا ومغفرته أربعون ، وقال : هكذا تكون الفضائل ' . أقول : سر الفضل ومناطه أنه تتميم لما شرع الله له السلام من التبشيش . والتألف . والموادة . والدعاء والذكر . وإحالة الأمر على الله . وقال صلى الله عليه وسلم :
' يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ' أقول : وذلك لأن الجماعة واحدة في المعنى وتسليم واحد منهم يدفع الوحشة ويودد بعضهم بعضا . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة '
____________________
(1/845)
أقول : سلام الوداع فيه فوائد ؛ منها التمييز بين قيام المتاركة والكراهية ، وقيام الحاجة على نية العود لمثل تلك الصحبة ، ومنها أن يتدارك المتدارك بعض ما كان يقصده ويهمه من الحديث ونحو ذلك ، ومنها ألا يكون ذهابه من التسلل ، والسر في المصافحة ، وقوله : مرحبا بفلان ومعانقة القادم ونحوها أنها زيادة في المودة والتبشيش ورفع الوحشة والتدابر . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا التقى المسلمان فتصافحا حمدا لله واستغفراه غفر لهما ' أقول : وذلك لأن التبشيش فيما بين المسلمين توادهم وتلاطفهم وإشاعة ذكر الله فيما بينهم يرضى بها رب العالمين . وأما القيام فاختلفت فيه الأحاديث ، فقال صلى الله عليه وسلم :
' من سره أن يتمثل له الرجل قياما فليتبوأ مقعده من النار
' وقال صلى الله عليه وسلم : ' لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا ' وقال صلى الله عليه وسلم في قصة سعد :
' قوموا إلى سيدكم ' وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه ، وإذا دخل صلى الله عليه وسلم عليها قامت وأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها . أقول : وعندي أنه لا اختلاف فيها في الحقيقة فإن المعاني التي يدور عليها الأمر والنهي مختلفة فإن العجم كان من أمرهم أن تقوم الخدم بين أيدي سادتهم والرعية بين أيدي ملوكهم وهو من إفراطهم في التعظيم حتى كاد يتاخم الشرك فنهوا عنه ، وإلى هذا وقعت الإشارة في قوله عليه السلام : ' كما يقوم الأعاجم ' . وقوله عليه السلام :
' من سره أن يتمثل ' يقال : مثل بين يديه مثولا إذا انتصب قائما للخدمة ، أما إذا كان تبشيشا له واهتزازا اليه وإكراما وتطبيبا لقلبه من غير أن يتمثل بين يده فلا بأس فانه لا يتاخم الشرك .
____________________
(1/846)
وقيل ' يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أينحني له ؟ قال : لا ' وسببه أنه يشبه الركوع في الصلاة فكان بمنزلة سجدة التحية . قال الله تعالى : ! ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) ! وقال تعالى الله : ! ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات ) ! إلى قوله تعالى ( كما استأذن الذين من قبلكم ) فقوله ( تستأنسوا ) أي تستأذنوا أقول : إنما شرع الاستئذان لكراهية أن يهجم الإنسان على عورات الناس وان ينظر منهم ما يكرهون ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حديثه : ' إنما جعل الاستئذان لاجل البصر ' فكان من حقه أن يختلف باختلاف الناس . فمنهم الأجنبي الذي لا مخالطة بينهم وبينه ، ومن حقه ألا يدخل حتى يصرح بالاستئذان ويصرح له بالأذن ، ولذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم كلدة ابن الحنبل رجلا من بني عامر أن يقول : ' السلام عليكم أأدخل ، قال صلى الله عليه وسلم :
' الاستئذان ثلاث فاذا اذن لك وإلا فارجع . ومنهم ناس أحرار ليسوا بالمحارم لكن بينهم خلطة وصحبة فاستئذانهم دون استئذان الأولين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود : ' إذنك على أن ترفع الحجاب وأن تستمع سوادى حتى أنهاك '
____________________
(1/847)
ومنهم صبيان ومماليك لا يجب الستر منهم فلا استئذان لهم إلا في أوقات جرت العادة فيها بوضع الثياب ، وإنما خص الله تعالى هذه الأوقات الثلاث لأنها وقت ولوج الصبيان والمماليك بخلاف نصف الليل مثلا . وقال صلى الله عليه وسلم :
' رسول الرجل إلى الرجل إذنه ' وذلك لأنه عرف بدخوله لما أرسل إليه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : ' السلام عليكم السلام عليم ' وذلك لأن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور . ومنها آداب الجلوس . والنوم . والسفر . ونحوها ، قال صلى الله عليه وسلم : ' لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن يقول : تفسحوا وتوسعوا ' أقول : وذلك لأنه يصدر من كبر وإعجاب بنفسه ويجد به الآخر وحرا وضغينة وقال صلى الله عليه وسلم : من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به ' أقول : سبق إلى مجلس أبيح له من مسجد أو رباط أوبيت فقد تعلق حقه به فلا يهيج حتى يستغني عنه كالموات ' وقد مر هنالك . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ' . أقول : وذلك لأنهما ربما يجتمعان لمسارة ومناجاة فيكون الدخول بينهما تنغيصا عليهما ، وربما يتآنسان فيكون الجلوس بينهما إيحاشا لهما . قال صلى الله عليه وسلم : ' لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى ' ورؤى صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيا واضعا إحدى
____________________
(1/848)
قدميه على الأخرى أقول . كان القوم يأتزرون والمؤتزر إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى لا يأمن أن تنكشف عورته فإن كان لابس سراويل أو يأمن انكشاف عورته فلا بأس في ذلك . وقال صلى الله عليه وسلم للمضطجع على بطنه : ' أن هذه ضجعة يبغضها الله ' . أقول وذلك لأنها من الهيآت المنكرة القبيحة . وقال صلى الله عليه وسلم : ' من بات على ظهر بيت ليس عليه حجاب فقد برئت منه الذمة ' أقول . وذلك لأنه تعرض لاهلاك نفسه وألقى نفسه إلى التهلكة ، وقد قال الله تعالى : ( ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة ) وقال صلى الله عليه وسلم :
' ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من قعد وسط الحلقة ' قيل : المراد منه الماجن الذي يقيم نفسه مقام السخرية ليكون ضحكة وهو عمل من أعمال الشيطان ، ويحتمل أن يكون المعنى أن يدبر على طائفة ويقبل على ناحية فيجد بعضهم في نفسه من ذلك كراهية . واختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال صلى الله عليه وسلم :
' للنساء استأخرن فانه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلصق بالجدار ' . ونهى صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل بين امرأتين . أقول وذلك خوفا من أن يمس الرجل امرأة ليست بمحرم أو ينظر إليها .
____________________
(1/849)
قال صلى الله عليه وسلم
: إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك الله فليقل : يهديكم الله ويصلح بالكم ' وفي رواية ' وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' شمت أخاك ثلاثا فما زاد فهو زكام ' أقول : إنما شرع الحمد عند العطسه لمعنيين : أحدهما أنه من الشفاء وخروج الأبخرة الغليظة من الدماغ ، وثانيهما أنه سنة آدم عليه السلام وهو معرف لكونه تابعا لسنن الأنبياء عليهم السلام جامع العزيمة على ملتهم وكذلك وجب التشميت وكان من حقوق الإسلام ، وإنما سن جواب التشميت لأنه من مقابلة الإحسان بالإحسان . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إنما التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليردده ما استطاع فان أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان ' . أقول : وذلك لأن التثاؤب ناشئ عن كسل الطبيعة وغلبة الملال والشيطان يجد في ضمن ذلك فرصة وفتح الفم وصوت هاه يضحك منه الشيطان لأنه من الهيآت المنكرة . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا تثاءب أحكم فليمسك بيده على فمه فإن الشيطان يدخله ' أقول : الشيطان يهيج ذبابا أو بقة فيدخل في فمه وربما تشنج أعصاب وجهه وقد راينا ذلك . قال صلى الله عليه وسلم :
' لو يعلم الناس ما في الوحده ما أعلم ما سار راكب بليل وحده ' أقول . أراد عليه السلام كراهية التهور والاقتحام في المهالك من غير ضرورة أما بعث الزبير رضي الله عنه وحده طليعة فلمكان ضروري . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس ' وقال صلى الله عليه وسلم .
' الجرس مزامير الشيطان ' .
____________________
(1/850)
أقول . الصوت الحديد الشديد يوافق الشيطان وحزبه ويكرهه الملائكة لمعنى يعطيه مزاجهم . وقال صلى الله عليه وسلم : ' إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها من الأرض .
وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير . وإذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق فانها طريق الدواب ومأوى الهوام في بالليل ' . أقول : هذا كله ظاهر . قال صلى الله عليه وسلم :
' السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله ' أقول . يريد عليه السلام كراهية أن يتبع محقرات الأمور فيطيل مكثه لأجلها . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا ' . أقول : كثيرا ما يتنفر الإنسان نفرة طبيعية من أجل التشعث ونحوه فيكون سببا لتنغيص حالهم . ومنها آداب الكلام قال رسول الله : ' أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل يسمى ملك الأملاك ' وقال : ' لا ملك إلا الله ' وقال صلى الله عليه وسلم في التكنية بأبي الحكم : ' إن الله هو الحكم وإليه الحكم ' . أقول : إنما نهى عن ذلك لأنه إفراط في التعظيم يتاخم الشرك . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك نقول : أثم هو ؟ فلا يكون ، فيقول : لا ' .
____________________
(1/851)
وقال جابر رضي الله عنه : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يسمى بيعلي . وببركة . وبأفلح . وبيسار . وبنافع . ونحو ذلك ، ثم رأيته سكت بعد أن عنها ثم قبض ولم ينه عن ذلك أقول : سبب كراهية التسمية بهذه الأسماء أنها تفضي إلى هيئة منكرة هي في الأقوال بمنزلة الأجدع ونحوه في الأفعال ، وهو قوله عليه السلام :
' الأجدع شيطان ' . ووجه الجمع بين الحديثين أنه لم يعزم في النهي ولم يؤكد ولكنه نهى نهي إرشاد بمنزلة المشورة ، أو ظهرت مخايل النهي ، فقال الراوي نهى اجتهادا منه ، ومن حفظ حجة على من لم بحفظ . وأرى أن هذا الوجه أوفق لفعل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يزالوا يسمون بهذه الأسماء . قال صلى الله عليه وسلم :
' سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإني إنما جعلت قاسما أقسم بينكم ' أقول : لو كان أحد يسمى باسم النبي صلى الله عليه وسلم : لكان مظنة أن تشتبه الأحكام ويدلس في نسبتها ورفعها ، فإذا قيل : قال أبو القاسم ظن أن الآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم وربما كان المراد غيره . وأيضا ربما يسب الرجل باسمه أو يذم بقلبه في الملاحاة فإن كان مسمى باسم النبي كان في ذلك هيئة منكرة . ثم هذا المعنى أكثر تحققا في الكنية منه في العلم لوجهين : أحدهما أن الناس كانوا ممنوعين شرعا وممتنعين ديدنا من أن ينادوا النبي صلى الله عليه وسلم باسمه وكان المسلمون ينادون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الذمة يقولون : يا أبا القاسم .
____________________
(1/852)
وثانيهما أن العرب كانوا لا يقصدون بالاسم التشريف ولا التحقير ، وأما الكنى فكانوا يقصدون بها أحد الأمرين كأبي الحكم . وأبي جهل ونحو ذلك . وإنما كنى النبي صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم لأنه قاسم فكان تكنية غيره بها كالتسوية معه . وإنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أن يسمي ولده باسمه بعده ويكنيه بكنيته لارتفاع الالتباس والتدليس بانقراض القرن . قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ' لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي ' . أقول : التطاول في الكلام والازدراء بالناس منشؤه الإعجاب والكبر وفيه كسر قلوب الناس ، وأيضا فلما عبر في الكتب الإلهية عن النسبة التي هي للخلق إلى الخالق بالعبيده والربية كان إطلاقها فيما بينهم سوءأدب قال صلى الله عليه وسلم : ' لا تقولوا الكرم ولكن قالوا العنب والحبلة ولا تقولوا يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر ، وقال الله تعالى : ' يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ' . أقول : لما نهى الله تعالى عن الخمر ووضع أمرها اقتضى ذلك أن يمنع عن كل ما ينوه أمرها ويخيل حسنها إليهم والعنب مادة الخمر وأصلها ، وكان العرب كثيرا ما يسمونها بنت كرم ويروجونها بذلك . وكان أهل الجاهلية ينسبون الوقائع إلى الدهر وهذا نوع من الشرك ،
____________________
(1/853)
وأيضا ربما يريدون بالدهر مقلب الدهر ، فالسخط راجع إلى الله وأن أخطأوا في العنوان . قال * صلى الله عليه وسلم : ' لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي ' أقول : الخبث كثير ما يستعمل في الكتب الإلهية بمعنى خبث الباطن وسوء السريرة فهذه الكلمة بمنزلة الهيآت الشيطانية . وقال صلى الله عليه وسلم في زعموا : ' بئس مطية الرجل ' أقول : يريد كراهية أن يذكر الأقاويل من غير تثبت . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان وقولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ' أقول : التسوية في الذكر توهم التسوية في المنزلة فكان إطلاق مثل هذه اللفظة سوء أدب . واعلم أن التنطع والتشدق . والتقعر في الكلام . والإكثار من الشعر . والمزاح . وتزجية الوقت بأسمار ونحوها إحدى المسليات التي تشغل عن الدين والدنيا وما يقع به التفاخر والمراءة فكان حالها كحال عادات العجم فكرهها النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما في ذلك من الآفات ، ورخص فيما لا يتحقق فيه معنى الكراهية وإن أشتبه بادى الرأي . قال صلى الله عليه وسلم :
' هلك المتنطعون قالها ثلاثا ' وقال صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/854)
: ' الحياء والعي شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق ' أقول : يريد ترك البذاء . والتقعر . والتطاول في الكلام . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن أحبكم إلي وأقربكم مني يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني أساوئكم أخلاقا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون ' ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' بقد رأيت - أو أمرت - أن أتجوز في القول وفإن الجواز هو خير ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خيرا من أن يمتلئ شعرا ' وقال صلى الله عليه وسلم لحسان :
' إن روح القدس ما لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله ' وقال عليه السلام : ' إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده فكأنما ترمونهم به نضح النبل ' . وقد ذكرنا في الاحسان من أصول آفات اللسان ما يتضح به أحاديث حفظ اللسان كقوله صلى الله عليه وسلم :
' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت ' وقوله عليه الصلاة والسلام . ' سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ' وقوله صلى الله عليه وسلم :
' أتدرون ما الغيبة ؟ ذكر أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال . إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ' . وقال العلماء يستثنى من تحريم الغيبة أمور ستة : التظلم لقوله تعالى : ! ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) ! .
____________________
(1/855)
والاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب كاخبار زيد ابن أرقم بقول عبد الله بن أبي . وإخبار ابن مسعود بقول الأنصار في مغانم حنين . والاستفتاء كقول هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وتحذير المسلمين من الشر كقوله صلى الله عليه وسلم :
' بئس أخو العشيرة ' وكجرح المجروحين وكقوله صلى الله عليه وسلم :
' أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه ' والتنفير من مجاهر بالفسق كقوله صلى الله عليه وسلم :
' لا أظن فلانا وفلانا يعرفان من أمرنا شيئا ' والتعريف كالأعمش . والأعرج . ، وقالوا : الكذب يجوز إذا كان تحصيل المقصود لا يمكن إلا به ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم
' ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ' . ( ومما يتعلق بهذا المبحث أحكام النذور والايمان ) والجملة في ذلك أنها من ديدن الناس وعادتهم عربهم وعجمهم إلا تجد واحدة من الأمم لا تستعملها في مظانها فوجب البحث عنها . وليس النذر من أصول البر ولا الإيمان ، ولكن إذا أوجب الإنسان على نفسه وذكر اسم الله عليه وجب ألا يفرط في جنب الله وفيما ذكر عليه اسم الله ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل ' يعني أن الإنسان إذا أحيط به ربما يسهل عليه إنفاق شيء فإذا أنقذه الله من تلك المهلكة كان كأن لم يمسه ضر قط ، فلا بد من شيء يستخرج به ما التزمه على نفسه مما يؤكد عزيمته وينوه نيته .
____________________
(1/856)
والحلف على أربعة أضرب : يمين منعقدة وهي اليمين على مستقبل متصور عاقدا عليه قلبه ، وفيها قوله تعالى : ! ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) ! . ولغو اليمن قول الرجل : لا والله . وبلى والله من غير قصد ، وأن يحلف على شيء يظنه كما حلف متبين بخلافه ، وفيها قوله تعالى . ! ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) ! . واليمين الغموس وهي التي يحلفها كاذبا عاملا ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهي من الكبائر . واليمين على مستحيل عقلا كصوم أمس ، والجمع بين الضدين ، أو عادة كإحياء الميت وقلب الأعيان . واختلف في الضربين اللذين ليس فيهما نص هل فيهما كفارة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' من حلف بغير الله فقد أشرك ' . أقول : الحلف باسم شيء لا يتحقق حتى يعتقد فيه عظمة وفي اسمه بركة ، والتفريط في جنبه وإهمال ما ذكر اسمه عليه إثما . قال صلى الله عليه وسلم :
' من حلف فقال في حلفه : باللات والعزى ، فليقل : لا إله إلا الله ، ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق '
____________________
(1/857)
أقول : اللسان ترجمان القلب ومقدمته ولا يتحقق تهذيب القلب حتى يؤاخذ بحفظ اللسان . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير ' . وقال عليه الصلاة والسلام لأن بلج : ' إن يلاج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه ' أقول : كثيرا ما يحلف الإنسان على شيء فيضيق على نفسه وعلى الناس وليست تلك من المصلحة ، وإنما شرعت الكفارة منهية لما يجده المكلف على نفسه . وقال صلى الله عليه وسلم : ' يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك ' أقول : قد يحتال لاقتطاع مال امرئ المسلم بأن يتأول في اليمين فيقول مثلا والله ليس في يدي من مالك شيء يريد ليس في يدي شيء وإن كان في تصرفي وقبضي ، وهذا محله الظالم . وقال صلى الله عليه وسلم :
' من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث ' . أقول : حينئذ لم يتحقق عقد القلب ولا جزم النية وهو المعنى في الكفارة ، قال الله تعالى : ! ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) ! .
____________________
(1/858)
أقول : قد مر سر وجوب الكفارة من قبل فراجع . والنذر على أقسام : النذر المبهم ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' كفارة النذر إن لم يسم كفارة اليمين ' . والنذر المباح ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك ' بلا وجوب لما يأتي من قصة أبي إسرائيل . ونذر طاعة في موضع بعينه أو بهيئة بعينها ، وفيه قصة أبي إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ' وقصة من نذر أن ينحر إبلا ببوانة ليس بها وثن ولا عيد لأهل الجاهلية . قال :
' أوف بنذرك ' . ونذر المعصية ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ' . ونذر مستحيل ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ' والأصل في هذا الباب أن الكفارة شرعت منهية للاثم مزيلة لما حاك في صدره فمن نذر بطاعة فليفعل ومن نذر غير ذلك ووجد في صدره حرجا وجبت الكفارة ، والله أعلم .
____________________
(1/859)
( من أبواب شتى ) قد فرغنا والحمد لله رب العالمين عما أردنا إيراده في هذا الكتاب وشرطناه على أنفسنا ، ولا استوعب المذكور جميع ما هو مكنون في صدورنا من أسرار الشريعة فليس كل وقت يسمح القلب بمضمونات السرائر وينفع اللسان بمكنونات الضمائر ، ولا كل حديث يثنى للعامة ولا كل شيء يحسن ذكره بغير تمهيد مقدماته ، ولا استوعب ما جمع الله في صدورنا جميع ما أنزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وكيف يكون لمورد الوحي ومنزل القرآن نسبة مع رجل من أمته هيهات ذلك ، ولا استوعب ما جمع الله في صدره صلى الله عليه وسلم جميع ما عند الله تعالى من الحكم والمصالح المرعية في أحكامه تعالى ، وقد أوضح عن ذلك الخضر عليه السلام حيث قال ، ما نقص علمي وعلمك إلا كما نقص هذا العصفور من البحر . فمن هذا الوجه ينبغي أن يعرف فخامة أمر المصالح المرعية في الأحكام الشرعية وأنها لا منتهى لها ، وأن جميع ما يذكر فيها غير واف بواجب حقها . ولا كاف بحقيقة شأنها ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، ونحن الآن نشتغل بشيء من اليسر . والفتن . والمناقب على التيسير دون الاستيعاب ، والله الموفق والمعين ، وإليه المرجع والمآب .
____________________
(1/860)
( سير النبي صلى الله عليه وسلم ) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، نشأ من أفضل العرب نسبا وأقواهم شجاعة وأوفرهم سخاوة وأفصحهم لسان وأذكاهم جنانا ، وكذلك الأنبياء عليهم السلام لا تبعث إلا في نسب قومها ، فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، وجودة الأخلاق يرثها الرجل من آبائه ولا يستحق النبوة إلا الكاملون في الأخلاق . وقد أراد الله ببعثهم أن يظهر الحق ويقيم بهم الأمة العوجاء ويجعلهم أئمة ، والأقرب لذلك أهل النسب الرفيع واللطف مرعى في أمر الله ، وهو قوله تعالى : ! ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ! . ونشأ معتدلا في الخلق والخلق ، كان ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير . ولا الجعد القطط . ولا البسط كان جعدا رجلا ، ولم يكن بالمطهم . ولا بالمكلثم ، وكان في وجهه تدوير ، ضخم الرأس واللحية شئن الكفين والقدمين مشربا حمرة . ضخم الكراديس . قوي البطش والباءة . أصدق الناس لهجة
____________________
(1/861)
وألينهم عريكة من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه ، أشد الناس تواضعا مع كبر النفس وأرفقهم بأهل بيته وخدمه ، خدمه أنس رضي الله عنه عشر سنين فما قال له أف ولا لم صنعت ؟ ولا ألا صنعت ؟ وإن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت . وكان يكون في مهنة أهله ولم يكن فاحشا ولا لعانا ولا سبابا . وكان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويحلب شاته مع كونه ذا عزيمة نافذة قيله القيل لا يغلبه أمر ولا تفوته مصلحة . وكان أجود الناس وأصبرهم على الأذى وأكثرهم رحمة بالناس لا يصل إلى أحد منه شر لا من يده ولا من لسانه إلا أن يجاهد في سبيل الله . وكان الزمهم باصلاح تدبير المنزل ورعاية الأصحاب وسياسة المدينة بحيث لا يتصور فوقه يعرف لكل شيء قدره . وكان دائم النظر إلى الملكوت مستهترا بذكر الله يحس ذلك من فلتات لسانه وجميع حالاته مؤيدا من الغيب مباركا يستجاب دعاؤه وتفتح عليه العلوم من حظيرة القدس ويظهر منه المعجزات من وجوه استجابة الدعوات وانكشاف خبر المستقبل وظهور البركة فيما يبرك عليه . وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم يجبلون على هذه الصفات ويندفعون إليها فطرة فطرهم الله عليها . ذكره إبراهيم عليه السلام في دعائه وبشر بفخامة أمره ، وبشر به موسى وعيسى عليهما السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم .
____________________
(1/862)
ورأت أمه كأن نورا خرج منها فأضاء الأرض فعبرت بوجود ولد مبارك يظهر دينه شرقا وغربا وهتفت الجن وأخبرت الكهان والمنجمون بوجوده وعلو أمره ودلت الواقعات الجوية كانكسار شرفات كسرى على شرفه وأحاطت به دلائل النبوة كما أخبر هرقل قيصر الروم ورأوا آثار البركة عند مولده وإرضاعه وظهرت الملائكة فشقت عن قلبه فملأنه إيمانا وحكمة ، وذلك بين عالم المثال والشهادة فلذلك لم يكن الشق عن القلب إهلاكا وقد بقي منه أثر المخيط وكذلك كل ما اختلط فيه عالم المثال والشهادة . ولما خرج به أبو طالب إلى الشام فرآه الراهب شهد بنبوته لآيات رآها فيه ، ولما شب ظهرت مناسبة الملائكة بالهتف به والتمثل له . وسد الله خلته برغبة خديجة رضي الله عنها فيه ومواساتها به وكانت من مياسير نساء قريش ، وكذلك من أحبه الله يدبر له في عباده . ولما بنى الكعبة فيمن بنى ألقى إزاره على عاتقه كعادة العرب فانكشفت عورته فأسقط مغشيا عليه ، ونهى عن كشف عورته في غشيته وذلك شعبة من النبوة ونوع من المؤاخذة في النفس . ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بحراء الليالي ذوات العدد ، ثم يأتي أهله ويتزود لمثلها لعزوفه عن الدنيا وتجرده إلى الفطرة التي فطره الله عليها . وكان أول ما بدئ به الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وهذه شعبة من شعب النبوة . ثم نزل الحق عليه وهو بحراء ففزع بطبيعته بأن تشوشت البهيمة
____________________
(1/863)
من سننها لغلبة الملكية فذهبت به خديجة إلى ورقة ، فقال : هو الناموس الذي نزل على موسى ، ثم فتر الوحي وذلك لأن الإنسان يجمع جهتين : جهة البشرية . وجهة الملكية فيكون عند الخروج من الظلمات إلى النور مزاحمات ومصادمات حتى يتم أمر الله ، وكان يرى الملك تارة جالسا بين السماء والأرض . وتارة واقفا في الحرم تصل حجزته إلى الكعبة ونحو ذلك ، وسره أن الملكوت تلم بالنفوس المستعدة للنبوة فكلما انفلتت برق عليها بارق ملكي حسبما يقتضيه الوقت كما تنفلت نفوس العامة فتطلع في الرؤيا على بعض الأمر . قيل : ' يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال : وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ' . أقول : أما الصلصلة فحقيقتها أن الحواس إذا صادمها تأثير قوي تشوشت ، فتشويش قوة البصر أن يرى ألوانا الحمرة والصفرة والخضرة ونحو ذلك ، وتشويش قوة السمع أن يسمع أصواتا مبهمة كالطنين والصلصلة والهمهمة فإذا تم الأثر حصل العلم . وأما التمثيل فهو في موطن يجمع بعض أحكام المثال والشهادة ، ولذلك كان يرى الملك بعضهم دون البعض . ثم أمر بالدعوة فاشتغل بها إخفاء فآمنت خديجة وأبو بكر الصديق . وبلال . وأمثالهم رضي الله عنهم .
____________________
(1/864)
ثم قيل له : ! ( فاصدع بما تؤمر ) ! . وقيل : ! ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ! . فجهر بالدعوة وإبطال وجوه الشرك فتعصب عليه الناس وآذوه بألسنتهم وأيديهم كقصة إلقاء سلى جزور والخنق وهو صابر في كل ذلك يبشر المؤمنين بالنصر وينذر الكافرين بالانهزام كما قال الله تعالى : ! ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) ! . وقال الله تعالى : ! ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) ! . ثم ازدادوا في التعصب فتقاسموا على إيذاء المسلمين ومن وليهم من بني هاشم وبني المطلب فهدوا إلى الهجرة قبل الحبشة فوجدوا سعة قبل السعة الكبرى . ولما ماتت خديجة رضي الله عنها ومات أبو طالب عمه وتفرقت كلمة بني هاشم فزع لذلك وكان قد نفث في صدره أن علو كلمته في الهجرة نفثا
____________________
(1/865)
إجماليا فتلقاه برويته وفكره فذهب وهله إلى الطائف . وإلى هجر . وإلى اليمامة . وإلى كل مذهب ، فاستعجل وذهب إلى الطائف فلقي عناء شديدا ، ثم إلى بني كنانة فلم ير منهم ما يسره فعاد إلى مكة بعهد زمعة ونزل ! ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) ! . قال : أمنيته أن يتمنى إنجاز الوعد فيما يتفكره من قبل نفسه وإلقاء الشيطان أن يكون خلاف ما أراد الله ونسخه كشف حقيقة الحال وإزالته من قلبه . وأسرى به إلى المسجد الأقصى ، ثم إلى سدرة المنتهى ، وإلى ما شاء الله ، وكل ذلك لجسده صلى الله عليه وسلم في اليقظة ولكن ذلك في موطن هو برزخ بين المثال والشهادة جامع لأحكامهما فظهر على الجسد أحكام الروح وتمثل الروح والمعاني الروحية أجسادا ، ولذلك بان لكل واقعة من تلك الوقائع تعبير ، وقد ظهر لحزقيل . وموسى . وغيرهما عليهما السلام نحو من تلك الوقائع وكذلك لأولياء الأمة ليكون علو درجاتهم عند الله كحالهم في الرؤيا والله أعلم . أما شق الصدر وملؤه إيمانا فحقيقته غلبة أنوار الملكية وانطفاء لهب الطبيعة وخضوعها لما يفيض عليها من حظيرة القدس . وأما ركوبه على البراق فحقيقته استواء نفسه النطقية على نسمته التي هي الكمال الحيواني فاستوى راكبا على البراق كما غلبت أحكام نفسه النطقية على البهيمية وتسلطت عليها .
____________________
(1/866)
وأما إسراؤه إلى المسجد الأقصى فلأنه محل ظهور شعائر الله ومتعلق همم الملأ الأعلى ومطمح أنظار الأنبياء عليهم السلام فكأنه كوة إلى الملكوت . وأما ملاقاته مع الأنبياء صلوات الله عليهم ومفاخرته معهم فحقيقتها اجتماعهم من حيث ارتباطهم بحظيرة القدس وظهور ما اختص به من بينهم من وجوه الكمال . وأما رقيه إلى السماوات سماء بعد سماء فحقيقته الانسلاخ إلى مستوى الرحمن منزلة بعد منزلة ومعرفة حال الملائكة الموكلة بها ومن لحق بهم من أفاضل البشر والتدبير الذي أوحاه الله فيها والاختصام الذي يحصل في ملئها وأما بكاء موسى فليس بحسد ولكنه مثال لفقده عموم الدعوة وبقاء كمال لم يحصله مما هو في وجهه . وأما سدرة المنتهى فشجرة الكون وترتب بعضها على بعض وانجماعها في تدبير واحد كانجماع الشجرة في الغاذية والنامية ونحوهما ولم تتمثل حيوانا لأن التدبير الجملي الإجمالي الشبيه للسياسة الكلي أفراده ، وإنما أشبه الأشياء به الشجرة دون الحيوان فإن الحيوان فيه قوى تفصيلية والإرادة فيه أصرح من سنن الطبيعة . وأما الأنهار في أصلها فرحمة فائضة في الملكوت حذو الشهادة وحياة وإنماء ، فلذلك تعين هنالك بعض الأمور النافعة في الشهادة كالنيل والفرات . وأما الأنوار التي غشيتها فتدليات إلهية وتدبيرات رحمانية تلعلعت في الشهادة حيثما استعدت لها . وأما البيت المعمور فحقيقته التجلي الإلهي الذي يتوجه إليه سجدات البشر وتضرعاتها يتمثل بيتا على حذو ما عندهم من الكعبة وبيت المقدس . ثم أتي بإناء من لبن . وإناء من خمر فاختار اللبن ، فقال جبرائيل : هديت
____________________
(1/867)
للفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك فكان هو صلى الله عليه وسلم جامع أمته ومنشأ ظهورهم وكان اللبن اختيارهم الفطرة والخمر اختيارهم لذات الدنيا وأمر بخمس صلوات بلسان التجوز لأنها خمسون باعتبار الثواب ، ثم أوضح الله مراده تدريجا ليعلم أن الحرج مدفوع وأن النعمة كاملة وتمثل هذا المعنى مستندا إلى موسى عليه السلام فإنه أكثر الأنبياء معالجة للامة ومعرفة بسياستها . ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستنجد من أحياء العرب فوفق الأنصار لذلك فبايعوه بيعة العقبة الأولى . والثانية ودخل الإسلام كل دار من دور المدينة . وأوضح الله على نبيه أن ارتفاع دينه الهجرة إلى المدينة فأجمع عليها وازداد غيظ قريش فمكروا به ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه فظهرت آيات لكونه محبوبا مباركا مقضيا له بالغلبة فلما دخل هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه الغار لدغ أبو بكر رضي الله عنه فبرك عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشفي من ساعته ، ولما وقف الكفار على رأس الغار أعمى الله أبصارهم وصرف عنه أفكارهم ولما أدركهما سراقة بن مالك دعا عليه فارتطمت فرسه إلى بطنها في جلد من الأرض بأن انخسفت الأرض بتقريب من الله فتكفل بالرد عنهما ، ولما مروا بخيمة أم معبد درت له شاة لم تكن من شياه الدر . فلما قدما المدينة جاءه عبد الله بن سلام فسأله عن ثلاث لا يعلمهن
____________________
(1/868)
إلا نبي ' فما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال صلى الله عليه وسلم :
' أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ' فأسلم عبد الله وكان إفحاما لأحبار اليهود . ثم عاهد النبي صلى الله عليه وسلم اليهود وأمن شرهم واشتغل ببناء المسجد وعلم المسلمين الصلاة وأوقاتها وشاور فيما يحصل به الأعلام بالصلاة . فأرى عبد الله بن زيد في منامه الأذان وكان مطمح الافاضة الغيبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان السفير عبد الله ، وحرضهم على الجماعة . والجمعة . والصوم وأمر بالزكاة وعلمهم حدودها وجهر بدعوة الخلق إلى الإسلام ورغبهم في الهجرة من أوطانهم لأنها يومئذ دار الكفر ولا يستطيعون إقامة الإسلام هنالك وشد المسلمين بعضهم ببعض بالمواخاة وإيجاب الصلة والإنفاق والتوارث بتلك المؤاخاة لتتفق كلمتهم فيتأتى الجهاد ويتمعنوا من أعدائهم ، وكان القوم ألفوا التناصر بالقبائل . ثم لما رأى الله فيهم اجتماعا ونجدة أوحى إلى نبيه أن يجاهد ويقعد لهم كل مرصد ، ولما وقعت واقعة بدر لم يكونوا على ماء فأمطر الله مطرا ، واستشار الناس هل يختار العير أن النفير ؟ فبورك في رأيهم حسب رأيه فأجمعوا على النفير بعد ما لم يكد يكون ذلك ، ولما رأى صلى الله عليه وسلم كثرة العدو تضرع إلى الله فبشر بالفتح وأوحى إليه مصارع القوم . فقال : ' هذا مصرع فلان . وهذا مصرع فلان يضع يده ههنا وههنا فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ' وظهرت
____________________
(1/869)
الملائكة يومئذ بحيث يراهم الناس لتثبت قلوب الموحدين وترعب قلوب المشركين فكان ذلك فتحا عظيما أغناهم الله به وأشبعهم وقطع حبل الشرك وأهلك أفلاذ كبد قريش ، ولذا سمي فرقانا . وكان ميلهم للافتداء مخالفا لما أحبه من الله قطع دابر الشرك فعوتبوا ثم عفى عنهم . ثم أهاج الله تقريبا لاجلاء اليهود فانه لم يكن يصفو دين الله بالمدينة وهم مجاوروها فكان منهم نقض العهد فأجلى بني النضير . وبني قينقاع ، وقتل كعب بن الاشرف ، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يعرجوا لمن وعدهم النصر وشجع قلوبهم فأفاء الله أموالهم على نبيه وكان أول توسع عليهم . وكان أبو رافع تاجر الحجاز يؤذي المسلمين فبعث إليه عبد الله بن عتيك فيسر الله له قتله ، فلما خرج من بيته انكسرت ساقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
' ابسط رجلك فمسحها فكأنها لم يشتكها قط ' . ولما اجتمعت الأسباب السماوية على هزيمة المسلمين يوم أحد ظهرت رحمه الله ثم من وجوه كثيرة فجعل الواقعة استبصارا في دينهم وعبرة فلم يجعل سببه إلا مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر من القيام على الشعب ، وعلم الله نبيه بالانهزام إجمالا فأراه سيفا انقطع وبقرة ذبحت فكانت الهزيمة وشهادة الصحابة ، وجعلها بمنزلة نهر طالوت ميز الله بها المخلصين من غيرهم لئلا يعتمد على أحد أكثر مما ينبغي . ولما استشهد عاصم وأصحابه حمتهم الزنابير من الأعادي فلم يبلغوا منهم ما أرادوا .
____________________
(1/870)
ولما استشهد القراء في بئر معونة جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم في صلاته وكان فيه نوع من استعجال البشرية فنبه على ذلك ليكون كل أمره في الله وبالله ولله ، ونزل في القرآن مقالتهم - بلغوا قومنا أنا قد ليقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه لتتسلى قلوبهم - ثم نسخ بعد . ولما أحاطت بهم الأحزاب وحفر الخدق ظهرت رحمة الله بهم من وجوه كثيرة رد الله كيدهم في نحورهم ولم يضروا المسلمين شيئا ، وبورك في طعام جابر رضي الله عنه فكفى صاع من شعير وبهمة نحو ألف رجل ، وانكشفت قصور كسرى وقيصر في قدحة الحجر وبشر بفتحها وهبت ريح شديدة في ليلة مظلمة ، وألقى الرعب في قلوبهم فانهزموا ، وحاصر قريضة فنزلوا على حكم سعد رضي الله عنه فأمر بقتل مقاتلتهم وسبي ذريتهم فأصاب الحق ، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم رغبة طبيعية لزينب رضي الله عنها فوفر الله له ذلك حيث كانت فيه مصلحة دينية ليعلموا أن حلائل الأدعياء تحل لهم فطلقها زوجها فأنكحها الله نبيه صلى الله عليه وسلم . وبينا هو يخطب يوم الجمعة إذ قام أعرابي فقال : ' يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فاستسقي وما في السماء قزعة فما وضع يده حتى ثار السماء كأمثال الجبال فمطروا حتى خافوا الضرر ، فقال : حوالينا ولا علينا لا يشير إلى ناحية إلا انفرجت .
____________________
(1/871)
وتكرر ظهور البركة فيما برك عليه كبيدر جابر وأقراص أم سليم ونحوها . ولما غزا بني المصطلق ظهرت الملائكة متمثله فخاف العدو . واتهمت عائشة في تلك الغزوة فظهرت رحمة الله بتبرئتها وإقامة الحد على من أشاع الفاحشة عليها . ولما انكشف الشمس تضرع إلى الله فإنه آية من آيات الله يترشح عندها خوف في قلوب المصطفين ، ورأى في ذلك الجنة والنار بينه وبين جدار القبلة وهو من ظهور حكم المثال في مكان خاص . وأراه الله رؤياه ما يقع بعد الفتح من دخولهم مكة محلقين ومقصرين لا يخافون فرغبوا في العمرة ولما يأن وقتها ، وكان ذلك تقريبا من الله للصلح الذي هو سبب فتوح كثيرة وهم لا يشعرون ، نظير ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها في معارضة أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ، إن في كل قول فائدة فرد الله المنافقين بقول عمر رضي الله عنه وبين الحق بقول أبي بكر رضي الله عنه فآل الأمر إلى أن اجتمع رأي هؤلاء وهؤلاء أن يصطلحوا وإن كرهه الفئتان . وظهرت هنالك آيات ، عطشوا ولم يكن عندهم ماء إلا في ركوة فوضع عليه السلام يده فيها فجعل الماء يفور من بين أصابعه ، ونزحوا ماء الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة فبرك عليها فسقوا واستقوا ، ووقعت بيعة الرضوان معرفة لإخلاص المخلصين ، ثم فتح الله عليهم خيبر فأفاء منه على النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/872)
والمسلمين ما يتقوون به على الجهاد ، وكان ابتداء انتظام الخلافة فصار عليه السلام خليفة الله في الأرض . وظهرت آيات دسوا السم في طعامه صلى الله عليه وسلم فنبأه الله ، وأصابت سلمة ابن الأكوع ضربة فنفث فيها نفثات فما اشتكاها بعد ، وأراد أن يقضي حاجته فلم لا يجد شيئا يستر به فدعا شجرتين فانقاديا كالبعير المخشوش حتى إذا فرغ ردهما إلى موضعهما ، ولما أراد المحاربى أن يسطو بالنبي صلى الله عليه وسلم ألقى الله عليه الرعب فربط يده . ثم نفث الله في روعه ما انعقد في الملأ الأعلى من لعن الجبابرة وإزالة شوكتهم وإبطال رسومهم فتقرب في الله بالسعي إلى ذلك فكتب إلى قيصر وكسرى وكل جبار عنيد ، فأساء كسرى الأدب فدعا عليه فمزقه الله كل ممزق . وبعث صلى الله عليه وسلم زيدا . وجعفرا . وابن رواحة إلى مؤتة فانكشف عليه حالهم فنعاهم عليه السلام قبل أن يأتي الخبر . ثم بعث الله تقريبا بفتح مكة بعد ما فرغ من جهاد أحياء العرب فنقضت قريش عهودها وتعاموا وأراد حاطب أن يخبرهم فنبأ الله بذلك رسوله وفتح مكة ولو كره الكافرون وأدخل عليهم الإسلام من حيث لم يحتسبوا . ولما التقى المسلمون والكفار يوم حنين وكانت لهم جولة استقام رسول الله وأهل بيته اشد استقامة ورماهم بتراب فبورك في رميه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ الله عينه ترابا فولوا مدبرين ، ثم ألقى الله سكينته على المسلمين فاجتمعوا واجتهدوا حتى كان الفتح ، وقال لرجل يدعى الإسلام
____________________
(1/873)
وقاتل أشد القتال : هو من أهل النار فكاد بعض الناس يرتاب ثم ظهر أنه قتل نفسه . وسحر النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الله أن يكشف عليه جلية الحال فجاءه فيما يراه رجلان وأخبراه عن السحر والساحر . وأتاه ذو الخويصرة فقال : ' يا رسول الله اعدل فانكشف عليه حاله وحال قومه فقال صلى الله عليه وسلم : ' يقاتلون خير فرقة من الناس آيتهم رجل أسود أحد عضديه مثل ثدي المرأة ' فقاتلهم علي رضي الله عنه ووجد الوصف كما قال . ودعا لأم أبي هريرة فآمن في يومها . وقال : عليه السلام ' يوما لم يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالته شيء أبدا فبسط أبو هرير فما نسي منها شيئا ' . وضرب عليه السلام بيده على صدر جرير ، وقال : ' اللهم ثبته فما سقط عن فرسه بعد ' وكان لا يثبت على الخيل . وارتد رجل عن دينه فلم تقبله الأرض . وكان عليه السلام يخطب مستندا إلى جزع فلما صنع له المنبر واستوى
____________________
(1/874)
عليه صاح حتى أخذه وضمه ، وركب فرسا بطيئة ، وقال : ' وجدنا فرسكم هذا بحرا ' فكان بعد ذلك لا يجارى . ثم أحكم الله دينه وتواردت الوفود وتوارت الفتوح وبعث العمال على القبائل ونصب القضاة في البلاد وتمت الخلافة فنفث في روعه صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى تبوك ليظهر شوكته على الروم فينقاد له أهل تلك الناحية ، وكانت تلك غزوة في وقت الحر والعسرة فجعلها الله تمييزا بين المؤمنين حقا والمنافقين . ومر عليه السلام على حديقة لامرأة في وادي القرى فخرصها وخرصها الصحابة رضي الله عنهم فكان كما قال عليه السلام ، ولما وصل إلى ديار حجر نهاهم عن مياهه تنفيرا عن محل اللعن ، ونهاهم ليلة أن يخرج أحد فخرج رجل فألقته الريح بجبلي طيئ وضل له صلى الله عليه وسلم بعيرا فقال بعض المنافقين ؛ لو كان نبيا لعلم أين بعيره فنبأه الله بقول المنافق وبمكان البعير ، وتخلف ناس من المخلصين زلة منهم ثم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فعفا الله عنهم . وألقي ملك أيلة في أسر خالد من حيث لم يحتسب . فلما قوي الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا أوحى الله إلى نبيه أن ينبذ عهد كل معاهد من المشركين ، ونزلت سورة براءة . وأراد المباهلة من نصارى نجران فعجزوا واختاروا الجزية ،
____________________
(1/875)
ثم خرج إلى الحج وحضر معه نحو من مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا فأراهم مناسك الحج ورد تحريفات الشرك . ولما تم أمر الإرشاد واقترب أجله بعث الله جبرائيل في صورة رجل يراه الناس فسأل النبي عليه السلام عن الإيمان . والإسلام . والاحسان والساعة فبين النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه جبرائيل ليكون ذلك كالفذلكة لدينه ، ولما مرض لم يزل يذكر الرفيق الأعلى ويحن إليهم حتى توفاه الله ثم تكفل أمر ملته فنصب قوما لا يخافون لومة لائم فقاتلوا المتنبئين والروم والعجم حتى تم أمر الله ووقع وعده صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم .
____________________
(1/876)
( الفتن ) اعلم أن الفتنة على أقسام : فتنة الرجل في نفسه بأن يقسوا قلبه فلا يجد حلاوة الطاعة ولا لذة المناجاة ، وإنما الإنسان ثلاث شعب . قلب هو مبدأ الأحوال كالغضب . والجراءة . والحياء . والمحبة . والخوف ، والقبض . والبسط ونحوها . وعقل هو مبدأ العلوم الذي ينتهي إليه الحواس كالأحكام البديهية من التجربة والحدس ونحوهما والنظرية من البرهان والخطابية ونحوهما . وطبع هو مبدأ اقتضاء النفس ما لا بد منه أو لا بد من جنسه في بقاء البينة كالداعية المنبجسة من شهوة الطعام . والشراب . والنوم . والجماع . ونحوها . فالقلب مهما غلبت عليه خصال البهيمية فكان قبضه وبسطه نحو قبض البهائم وبسطها الحاصلين من طبيعة ووهم كان قلبا بهيميا ، ومهما قبل من الشياطين وسوستهم في النوم واليقظة يسمى الإنسان شيطان الأنس ، ومهما غلب عليه خصال الملكية يسمى قلبا إنسانيا فيكون خوفه ومحبته وما يشبههما مائلة إلى اعتقادات حقة حصلها ، ومهما قوى صفاؤها وعظم نوره كان روحا فيكون بسطا بلا قبض وألفة بلا قلق ؛ وكانت أحواله أنفاسا ، وكانت الخواص الملكية كالديدن له دون الأمور المكتسبة بسعي . ومهما غلبت خصال البهيمية على العقل صار جربزة وأحاديث نفس تميل إلى بعض الدواعي الطبيعية فيحدث نفسه بالجماع إن كان فيه شبق ، وبأنواع الطعام إن كان فيه جوع ونحو ذلك ، أو وحي الشيطان فيكون أحاديث النفس تميل إلى فك النظامات الفاضلة وشك في المعتقدات الحقة وإلى الهيآت
____________________
(1/877)
منكرة تعافها النفوس السليمة ، ومهما غلبت عليه خصال الملكية في الجملة كان عقلا من فعله التصديق بما يجب تصديقه من العلوم الارتفاقية أو الاحسانية بديهية أو نظرا ، ومهما قوى نوره وصفاؤه كان سر من فعله قبول علوم فائضة من الغيب رؤيا وفراسة وكشفا وهتفا ونحو ذلك ، ومهما مال إلى المجردات البرية من الزمان والمكان كان خفيا . ومهما انحدر الطبع إلى الخصال البهيمية كان نفسا أمارة بالسوء ، مهما كان مترددا بين البهيمية والملكية وكان الأمر سجالا ونوبا كان نفسا لوامة ، ومهما تقيدت بالشرع ولم تبغ عليه ولم تنبجس إلا فيما موافقه كانت نفسا مطمئنة . هذا ما عندي من معرفة لطائف الإنسان والله أعلم . وفتنة الرجل في أهله وهي فساد تدبير المنزل ، وإليها الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن أبليس يضع عرشه - إلى أن قال - ثم يجئ أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه ويقول : نعم أنت ' . وفتنة تموج كموج البحر وهي فساد تدبير المدينة وطمع الناس في الخلافة من غير حق ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون من جزيرة العرب ' ولكن في التحريش بينهم . وفتنة ملية وهي أن يموت الحواريون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويستند الأمر إلى غير أهله فيتعمق رهبانهم وأحبارهم ويتهاون ملوكهم وجهالهم ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فيصير الزمان زمان الجاهلية ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' ما من نبي إلا كان له حواريون ' الحديث . وفتنة مستطيرة وهي تغير الناس من الإنسانية ومقتضاها فأزكارهم
____________________
(1/878)
وأزهدهم إلى الانسلاخ من مقتضيات الطبع رأسا دون إصلاحها والتشبه بالمجردات والتحنن إليهم بوجه من الوجوه ونحو ذلك ، وعامتهم إلى البهيمية الخالصة ويكون ناس بين الفريقين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . وفتنة الوقائع الجوية المنذرة بالإهلاك العام كالطوفانات العظيمة من الوباء والخسف والنار المنتشرة في الأقطار ونحو ذلك . وقد بين النبي عليه السلام أكثر الفتن قال : ' لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير لا يباليهم الله بالة ' . أقول : علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا بعد العهد من النبي وانقرض الحواريون من أصحابه ووسد الأمر إلى غير أهله لا بد أن تجرى الرسوم حسب الدواعي النفسانية والشيطانية وتعمهم جميعا إلا ما شاء الله منهم . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ، ثم ملكا عضوضا ثم كائن جبرية وعتوا وفسادا في الأرض يستحلون الحرير والفروج والخمور يرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله ' . أقول : فالنبوة انقضت بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، والخلافة التي لا سيف فيها بمقتل عثمان ، والخلافة بشهادة علي كرم الله وجهه وخلع الحسن رضي الله عنه ، والملك العضوض ومشاجرات الصحابة بني أمية ومظالمهم إلى أن استقر أمر معاوية ، والجبرية ، والعتو خلافة بني العباس فإنهم مهدوها على رسوم كسرى وقيصر . وقال صلى الله عليه وسلم :
' تعرض الفتن على القلوب والحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت
____________________
(1/879)
فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخرة أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ' أقول الهواجس والنفسانية الشيطانية تنبعث في القلوب والأعمال الفاسدة تكتنفها ولا تكون حينئذ دعوة حثيثة إلى الحق فلا ينكرها إلا من جهل في قلبه هيئة مضادة للفتن ، وتعم من سوى ذلك وتأخذ بتلابيبه وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن الأمانة نزلت في جذر قلاب الناس ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدث عليه السلامعن رفعها فقال : ' ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا ' اقول لما أراد الله ظهور ملة الإسلام اختار قوما ومرنهم لانقياد والاذعان وجمع الهمة على موافقة حكم الله ثم كانت الأحكام المفصلة في الكتاب والسنة تفصيلا لذلك الاذعان الاجمالي . ثم إنها تخرج من صدورهم على غفلة منها وذهول شيئا فشيئا فيرى الإنسان أظرف ما يكون وأعقله وليس في قلبه مقدار شيء من الامانة لا بالنسبة إلى دين الله ولا بالنسبة إلى معاملات الناس ، وقال حذيفة رضي الله عنه : ' قلت يا رسول الله أيكون بعد هذا الخير
____________________
(1/880)
شر كما كان قبله شر ؟ قال : نعم قلت : فما العصمة ؟ قال : السيف ، قلت وهل بعد السيف بقية ؟ قال : نعم يكون إمارة على أقذاء وهدنة على دخن : قلت : ماذا ؟ قال : ثم ينشأ دعاة الضلال فان كان لله في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فأطمعه وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة ' أقول : الفتنة التي يكون العصمة فيها السيف ارتداد العرب في أيام أبي بكر رضي الله عنه ، وأما أمارة على أقذاء فالمشاجرات التي وقعت في ايام عثمان وعلي رضي الله عنهما ، ودعاة الضلال يزيد بالشام ومختار بالعراق ، ونحو ذلك حتى استقر الأمر على عبد الملك . وذكر صلى الله عليه وسلم فتنة الاحلاس قيل : وما فتنة الاحلاس ؟ قال : هي هرب وحرب ' قال : ' ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني إنما أوليائي المتقون ، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ' ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة ، فاذا قيل : انقضت تمادت .
____________________
(1/881)
أقول : يشبه والله أعلم أن تكون فتنة الأحلاس قتال أهل الشام عبد الله ابن الزبير بعد هربه من المدينة ، وفتنة السراء إما تغلب المختار وإفراطه في القتل والنهب يدعو ثأر أهل البيت ، فقوله عليه السلام : ' يزعم أنه مني ' معناه من حزب أهل البيت وناصريهم ، ثم اصطلحوا على مروان وأولاده ، أو خروج أبي مسلم الخراساني لبني العباس يزعم أنه يسعى في خلافة أهل البيت ، ثم اصطلحوا على السفاح ، والفتنة الدهيماء تغلب الجنكيزية على المسلمين ونهبهم بلاد الإسلام . وبين النبي صلى الله عليه وسلم أشراط الساعة وهي ترجع إلى أنواع : الفتن التي مر ذكرها وشيوعها وكثرتها فإن التلف من القرف ، وإنما يجيء النقصان من حيث يجيء الهلاك ، وشرح هذا يطول . قال صلى الله عليه وسلم :
' إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر الزنا ، ويكثر شرب الخمر . ويقل الرجال . ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ' . والحشر في لسان الشريعة مقول على معنيين : حشر الناس إلى الشام ، وهو واقعة قبل القيامة حين يقل الناس على وجه الأرض يحشر بعضهم بتقريبات وبعضهم بنار تسوقهم . وحشر هو البعث بعد الموت ، وقد ذكرنا من قبل أسرار المعاد ، والله أعلم . الفتن العظيمة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أربع : الأولى : فتنة أمارة على أقذاء ، وذلك صادق بمشاجرات الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه إلى أن استقرت خلافة معاوية ، وهي التي أشير إليها بقوله : ' هدنة عل دخن ' وهو الذي يعرف أمره وينكر لأنه كان على سيرة الملوك لا على سيرة الخلفاء قبله .
____________________
(1/882)
الثانية فتنة الأحلاس . وفتنة الدعاة إلى أبواب جهنم ، وذلك صادق باختلاف الناس وخروجهم طالبين الخلافة بعد موت معاوية إلى أن استقرت خلافة عبد الملك . الثالثة فتنة السراء . والجبرية . والعتو ، وذلك صادق بخروج بني العباس على بني أمية إلى أن استقرت خلافة العباسية ومهدوها على رسوم الأكاسرة وأخذوا بجبرية وعتو . الرابعة فتنة تلطم جميع الناس إذا قيل : انقضت تمادت حتى رجع الناس إلى فسطاطتين وذلك صادق بخروج الأتراك الجنكيزية وإبطالهم خلافة بني العباس ومزقهم على وجهها الفتن . والأحاديث الواردة في الفتن أكثرها مرت من قبل ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما قلت : أمما بقي أو مما مضى ؟ قال : مما مضى ' . فمعنى قوله : ' تدور رحى الإسلام ' أي يقوم أمر الإسلام بإقامة الحدود والجهاد في هذه الأمة وذلك صادق من ابتداء وقت الجهاد وأوائل الهجرة إلى مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه ، والشك في خمسة وثلاثين وأخواتها لأن الله تعالى أوحى إليه مجملا . وقوله : ' فإن يهلكوا بيان لصعوبة الأمر وأن الأمر يصير إلى حالة لو نظر فيها الناظر يشك في هلاك الأمة وبطلان أمورهم .
____________________
(1/883)
قوله . سبعين عاما ابتداؤها من البعثة وتمامها موت معاوية رضي الله عنه وبعده قامت فتنة دعاة الضلال . وقوله سبعين عاما معناه تهويل الأمر وأنه يكون تحت بطن الباطن فيه ، وأنه لا يكون بعد هذه استقامة الأمر ، والله أعلم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' يقاتلكم قوم صغار الأعين - يعني الترك - تسوقونهم ثلاث مرات ' الحديث معناه أن العرب يجاهدونهم ويغلبونهم فيصير ذلك سببا لأحقاد وضغائن حتى يؤول الأمر إلى أن يذبوا العرب من بلادهم ثم لا يقتصرون على ذلك بل يدخلون بلاد العرب ، وهذا هو المراد من قوله : ' حتى تلحقوهم بجزيرة العرب ' أما في السياقة الأولى فينجو من العرب من هرب من قتالهم بأن يفر من بين أيديهم ، وذلك صادق بقتال الجنكيزية فهلك العباسية الذين كانوا ببغداد ونجا العباسية الذين فروا إلى مصر ، وأما في السياقة الثانية فينجو بعض ويهلك بعض ، وذلك صادق بوطء تيمور ديار الشام وإهلاك أمر العباسية ' وأما في الثالثة فيصطلمون ' وذلك صادق بغلبة العثمانية على جميع العمل ، والله أعلم .
____________________
(1/884)
( المناقب ) الأصل في مناقب الصحابة رضي الله عنهم أمور : منها أن يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على هيئة نفسانية تعد الإنسان لدخول الجنان كما اطلع على أبي بكر رضي الله عنه أنه ليس فيه خيلاء وأنه ممن أكمل الخصال التي تكون أبواب الجنة تمثالا لها فقال : ' أرجو أن تكون منهم ' يعني الذين يدعون من الأبواب جميعا . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : ' ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك ' . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن يك من أمتي أحد من المحدثين فإنه عمر ' . ومنها : أن يرى في المنام أو ينفث في روعة ما يدل على رسوخ قدمه في الدين كما رأى بلالا رضي الله عنه يتقدمه في الجنة ، ورأى قصرا لعمر رضي الله عنه في الجنة ورآه قمص بقميص سابغ ، وأنه صلى الله عليه وسلم أعطاه سؤره من اللبن فعبر بالدين والعلم . ومنها حب النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وتوقيرهم ومواساته معهم وسوابقهم في الإسلام ، فذلك كله ظاهره أنه لم يكن إلا لامتلاء القلب من الإيمان . واعلم أن فضل بعض القرون على بعض لا يمكن أن يكون من جهة كل فضيلة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره ' وقوله صلى الله عليه وسلم :
' أنتم أصحابي ، وإخواني الذين يأتون بعد '
____________________
(1/885)
وذلك أن الاعتبارات متعارضة والوجوه متجاذبة ، ولا يمكن أم يكون تفضيل كل أحد من القرن الفاضل على كل أحد من القرن المفضول كيف ومن القرون الفاضلة اتفاقا من هو منافق أو فاسق ومنها الحجاج . ويزيد بن معاوية . ومختار . وغلمة من قريش الذين يهلكون الناس وغيرهم ممن بين النبي صلى الله عليه وسلم سوء حالهم ، ولكن الحق أن جمهور القرن الأول أفضل من جمهور القرن الثاني ونحو ذلك . والملة إنما تثبت بالنقل والتوارث ولا توارث إلا بأن يعظم الذين شاهدوا مواقع الوحي وعرفوا تأويله وشاهدوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخلطوا معها تعمقا ولا تهاونا ولا ملة أخرى . وقد أجمع من يعتد به من الأمة على أن أفضل الأمة أبو بكر الصديق ، ثم عمر رضي الله عنهما ، وذلك لأن أمر النبوة له جناحان : تلقى العلم عن الله تعالى . وبثه في الناس ، أما التلقي عن الله فلا يشرك النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحد ، وأما بثه فإنما تحقق بسياسة وتأليف ونحو ذلك ، ولا شك أن الشيخين رضي الله عنهما أكثر الأمة في هذه الأمور في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ، والله أعلم . وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في كتاب حجة الله البالغة ، والحمد لله تعالى أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين .
____________________
(1/886)