بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن علم أصول الفقه علم جليل القدر ، غزير الفائدة ، بالغ الأهمية ، لأنه أصل العلوم الشرعية ، لا يستغني عنه مفسِّر ولا محدث ولا فقيه ، بل ولا تكمل ثقافة الدارس المسلم إلا به ، لأنه المعين – بتوفيق الله – على فهم النصوص ، واستنباط الأحكام ، يقول ابن تيمية – رحمه الله – : ( المقصود من أصول الفقه أن يُفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنة ) «(1)» ، ولذا فرغ العلماء وسعهم ، وبذلوا وقتهم وجهدهم في تأصيل أصوله ، وتفريع فروعه ، وتعددت فيه المؤلفات ، ذات المناهج المختلفة ، والصفات المتعددة .
لكن يلاحظ على غالب كتب الأصول صعوبة العبارة ، مما يجعل طالب الأصول يعاني من فهم مسائله ، وتوضيح عباراته ، فاتجهت همة بعض أهل العلم – ولا سيما المعاصرون – إلى تبسيط الأصول ، وكتابته بأسلوب واضح ، مع الاعتدال في شرح مسائله ، وإيراد الأمثلة الكافية التي توضح القاعدة ، لأن هذه هي الغاية من علم الأصول .
وهذه الرسالة التي معنا كتبها عالم جليل من علماء القصيم ، وهو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ، المتوفى سنة (1376) – رحمه الله – وقد امتازت بما يلي :
سهولة ألفاظها ووضوح معانيها ، وهذه الميزة ذكرها الشيخ – رحمه الله – ، وهي صفة تبدو واضحة في جميع مؤلفات الشيخ كـ( التفسير) ، و ( بهجة قلوب الأبرار ) و ( توضيح الكافية الشافية ) وغيرها من مؤلفاته .
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/497) .(1/1)
عنايته بالقواعد والضوابط ، فالرسالة من أولها إلى آخرها مسائل أصولية ، وقواعد فقهية ، وهذا منهج سلكه الشيخ – رحمه الله – في عدد من مؤلفاته ، مثل : « القواعد الفقهية » و« القواعد والأصول الجامعة » وغيرهما .
أنها رسالة مختصرة وافية بالمراد ، يحتاج إليها الراغب المبتدئ ولا يستغني عنها الطالب المنتهي ، ولهذا جردها من الدليل والتمثيل .
أنها اشتملت على مسائل قد لا توجد في أكثر كتب الأصول ، ولعل من أسباب ذلك أنه اعتمد فيها كثيراً على قواعد شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – المبثوثة في كتبه ، وقد كان للشيخ – رحمه الله – عناية واضحة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله – يظهر ذلك لكل من تأمل في مؤلفاته .
وقد كنت اخترت هذه الرسالة لتدريسها في بعض الدورات العلمية الصيفية «(1)» لسهولتها ، واختصارها ، وفائدتها ، فقمت بشرحها بأسلوب يناسبها ، ليس بالطويل الممل ، ولا بالقصير المخل ، مع العناية بالأمثلة الكافية ، فرغب إليَّ عدد من الاخوة – ومنهم من حضر الدورة المذكورة – بطباعة شرحها ليستفيد منه الطلاب المبتدئون ، فقمت بكتابته ، وزدت عليه بعض الفوائد والأمثلة .
وقد خرَّجت الأحاديث التي ذكرتها في الشرح ملتزماً الاختصار ، ولم اعزُ كثيراً من المسائل لئلا أثقل الكتاب بالحواشي التي قد يُستغنى عنها ، وقد كان الشيخ – رحمه الله – قد اكتفى بالفصول المجردة بين الموضوعات ، فأتممت ذلك بالعناوين التي توضح المراد .
__________
(1) وهي الدورة العلمية الثامنة التي تعقد في مسجد ابن تيمية في الرياض ، واستغرق شرحها سبعة مجالس ، من يوم السبت 23/3/1422هـ إلى مساء يوم الخميس (28) منه .(1/2)
وفي الختام أرجو القارئ الكريم إذا رأى فيما كتبته زلة قلم أو نبوة فهم ، أن يكتبه إليَّ مشكوراً مأجوراً لتلافي ذلك مستقبلاً ، فالأذن صاغية ، والصدر منشرح ، وما يكتبه الإنسان عرضة للنقد والانتقاد والتخطئة والتصحيح ، فالتقصير وارد ، والخطأ موجود ، وقد سميته : « جمع المحصول في شرح رسالة ابن سعدي في الأصول ».
وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي صالحاً ولوجهه خالصاً ، وأن ينفع به كما نفع بأصله ، وأن يرزقنا علماً نافعاً ، وعملاً متقبلاً ، وصلّى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين …
وكتب
عبد الله ………..
ترجمة موجزة لمؤلف الرسالة
1ـ اسمه ومولده :
هو العلامة الورع الزاهد الفقيه الأصولي المفسر المحقق ، أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن حمد آل سعدي ، من قبيلة تميم .
ولد في عنيزة في القصيم ، بتاريخ ( 12 محرم 1307هـ ) ، وتوفيت أمه وعمره أربع سنوات ، وتوفي والده وله سبع سنين .
2ـ نشأته وحياته العلمية :
عاش الشيخ – رحمه الله – يتيم الأبوين ، وكان أبوه عالماً وإماماً في أحد مساجد عنيزة ، فوصى به إلى ابنه الأكبر حمد بن ناصر – وكان رجلاً صالحاً من حملة القرآن – فقام برعايته وتربيته خير قيام ، فنشأ نشأة صالحة ، فحفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره ، وأقبل منذ صغره على طلب العلم بهمة وعزم ، وانقطع إليه انقطاعاً لا يكاد يرى إلا في السابقين الأولين ، فلازم أشهر علماء بلده ، وأخذ عن غيرهم ، فلم يترك فناً من الفنون إلا أخذ منه بنصيب وافر ، كالتوحيد وأصول الدين ، وكالحديث وعلومه ، والفقه وأصوله ، والتفسير ، وعلوم العربية .
من أبرز مشايخه :(1/3)
الشيخ إبراهيم بن حمد الجاسر (1342هـ ) ، والشيخ محمد بن عبد الكريم الشبل (1343هـ ) ، والشيخ صالح بن عثمان القاضي (1351هـ ) ، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم (1323هـ ) ، والشيخ المحدث علي بن ناصر أبو وادي (1361هـ) ، والشيخ المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى (1343هـ ) ، والشيخ محمد الأمين بن محمود الشنقيطي (1351هـ ) .
وقد عني الشيخ بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم الجوزية عناية بالغة ، وقد ظهر ذلك في اختياراته وقواعده وفتاواه وسائر مؤلفاته ، ليس في الفقه فحسب بل في سائر علوم الشريعة .
وقد كان لحرصه على طلب العلم وحفظ الأوقات أثر بيّن على حصيلته العلمية ، حتى تم له في زمن يسير ما يعجز عنه أكابر الطلبة في أضعافه .
وقد كان أول جلوسه للتعليم في الثالثة والعشرين من عمره ، مع مواصلته التحصيل العلمي ، والتحقيق لكثير من المسائل .
وكان للشيخ في التدريس طريقة مميزة ، تفيد الطلبة في تنمية معلوماتهم ، والإجابة عن إشكالاتهم ، حيث كان يجمع الطلبة كلهم على كتابين واحداً بعد الآخر ، ويقرر في كل درس بما يفتح الله عليه من درر العلم ، ثم يناقش الطلبة ويسألهم عن الدرس ليختبر قوة حفظهم ومدى استيعابهم وفهمهم ، ثم يناقشهم في كل درس عما سبق شرحه ، وهذه – والله – هي الطريقة المتميزة في التعليم ، لكنها تحتاج إلى صبر ومثابرة وسعة بال ، ولهذا توافد إليه الطلاب ، حتى العامة كانت تجلس في حلقته تستفيد منه ، لوضوحه عبارته وسهولة أسلوبه .
من تلاميذه :
الشيخ سليمان البسام (1377هـ ) ، والشيخ سليمان بن محمد الشبل (1386هـ ) ، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين (1421هـ ) ، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام وغيرهم كثير .
3 ـ مؤلفاته :(1/4)
خلف الشيخ مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون ، ما بين صغير وكبير ، وقد وهب الله تعالى الشيخ ملكة الكتابة ، فكان سريع الكتابة ، وامتزت مؤلفاته بسهولة الأسلوب ، ووضوح المعنى ، مع التحقيق ، والعناية بالدليل ، ومنها :
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، وأحسن طبعاته هي الأخيرة التي حققها : عبد الرحمن بن معلاّ اللويحق .
القواعد الحسان لتفسير القرآن .
توضيح الكافية الشافية .
بهجة قلوب الأبرار ، وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار .
تحفة أهل الطلب في تجريد أصول قواعد ابن رجب .
القواعد والأصول الجامعة .
منهج السالكين ، وتوضيح الفقه في الدين .
رسالة في أصول الفقه ، وهي التي بين يديك .
وغيرها كثير .
4 ـ وفاته :
بعد عمر دام قرابة تسعة وستين عاماً في العلم والتعليم والتأليف ، انتقل الشيخ إلى جوار ربه ، فجر يوم الخميس الموافق ( 22 جمادى الآخرة ، عام 1376هـ ) وصلي عليه بعد صلاة الظهر ، بعد مرض لازمه قرابة خمس سنوات ، وهو مرض ضغط الدم وضيق الشرايين ، وكان صابراً محتسباً ، ودفن في مدينة عنيزة ، فرحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الأبرار .
مقدمة الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، نحمده على ما له من الأسماء الحسنى ، والصفات الكاملة العليا ، وعلى أحكامه القدرية العامة لكل مكوَّن موجود ، وأحكامه الشرعية الشاملة لكل مشروع ، وأحكام الجزاء بالثواب للمحسنين ، والعقاب للمجرمين .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الأسماء والصفات والعبادة والأحكام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بيَّن الحِكَمَ والأحكام ، ووضح الحلال والحرام ، وأصَّل الأصول وفصلها ، حتى استتم هذا الدين واستقام ، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، خصوصاً العلماء الأعلام .(1/5)
أما بعد : فهذه رسالة لطيفة في أصول الفقه ، سهلة الألفاظ ، واضحة المعاني ، معينة على تعلم الأحكام لكل متأملٍ مُعَاني ، نسأل الله أن ينفع بها جامعها وقارئها ، إنه جواد كريم .
هذه خطبة الرسالة ، وقد تضمنت الأمور الآتية :
البداءة بالبسملة ، اقتداء بكتاب الله العظيم ، واتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : ( بسم الله ) متعلق بمحذوف ، يقدر متأخراً ليحصل التبرك بالبدء بالبسملة ، والتقدير : بسم الله أكتب ، أو بسم الله أقرأ … وهكذا .
والمراد بـ( بسم الله ) هنا : كل اسم من أسماء الله تعالى ، ومعنى ( الله ) : المألوه ، أي : المعبود حباً وتعظيماً وتألهاً وشوقاً ، و ( الرحمن ) ذو الرحمة الواسعة ، وهو اسم من أسماء الله الخاصة به ، و ( الرحيم ) موصل رحمته من شاء من خلقه ، وهو ليس خاصاً بالله تعالى ، قال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة/128] .
الثناء على الله تعالى بالحمد ، والحمد : ذكر أو صاف المحمود الكاملة ، وأفعاله الحميدة ، مع محبته وتعظيمه ، وهو يكون على النعمة وعلى الصفات والأفعال ، ولهذا قال : ( نحمده على ما له من الأسماء الحسنى ) أي : بالغة الحسن ، لأنها تضمنت صفات الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، فهي كلها ثناء ومدح وتمجيد للرب جلَّ وعلا ، ( والصفات الكاملة العليا ) أي : أن صفات الله تعالى كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } [النحل/60] أي : الوصف الأعلى .
وقوله : ( وعلى أحكامه القدرية … الخ ) أي : أن الأحكام من الله تعالى ثلاثة :
أحكام قدرية ، وهي ما يجري في هذا الكون مما يتعلق بكل مكوَّن وموجود ، من الخلق ، والرزق ، والإحياء والإماتة ، والعز والذل ، والفقر والغنى ، ونحو ذلك .(1/6)
أحكام شرعية ، وهي ما يتعلق بالمكلفين من الأحكام العلمية والعملية .
أحكام أخروية ، وهي ما يتعلق بالدار الآخرة من أحكام الجزاء على الأعمال بالثواب أو العقاب .
3-الشهادة لله تعالى بالوحدانية في الأسماء والصفات والعبادة والأحكام ، وقوله : ( أشهد ) أي : أقرب بقلبي ناطقاً بلساني ( أن لا إله إلا الله ) أي : لا معبود حق إلا الله ، فخبر ( لا ) النافية محذوف ، و ( الله ) بدل منه ، و ( وحده ) حال ، وهي من حيث المعنى توكيد للإثبات ، ( لا شريك له ) توكيد للنفي .
4- الشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية والرسالة ، ومعنى العبودية : أنه عبد مفتقر إلى ربه محتاج إليه ، يدعوه ويرجوه ويخافه ، ومقتضى ذلك أنه لا حق له في شيء من شؤون الربوبية ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً .
ثم ذكر شيئاً من أوصافه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد دل على ذلك عموم قوله : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل/44] .
5- الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ( وعلى آله ) وهم قرابته المؤمنون به ( وأصحابه ) وهم الذين اجتمعوا به مؤمنين ، وماتوا على ذلك ( وأتباعه ) إلى يوم القيامة ( خصوصاً الأئمة الأعلام ) خصوصاً : حال ، والشيخ – رحمه الله – خصهم بالذكر لأمرين :
الأول : شدة اتباعهم للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - لما منحهم الله من العلم .
الثاني : عظيم قدرهم ، وعظم نفعهم وأثرهم على الأمة .(1/7)
6- وصف الرسالة بأنها ( لطيفة ) واللطيف من الكلام : رقيقه «(1)» ، ولهذا قال : ( سهلة الألفاظ واضحة المعاني ) وهذه من مزايا الرسالة كما تقدم ، ( معينة على تعلم الأحكام لكل متأمل معاني ) وذلك لأهميتها ووضوحها ، و ( مُعاني ) بضم الميم – كما في المخطوطة – اسم فاعل من ( عانى ) والمعاناة : المقاساة والمكابدة «(2)» .
7- ثم ختم الشيخ – رحمه الله – خطبة الرسالة بهذا الدعاء الجامع النافع ، وهو أن ينفع الله تعالى بهذه الرسالة جامعها وقارئها ، وأنا أقول : وشارحها ، إنه جواد كريم ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تعريف أصول الفقه وفائدته
« فصل » أصول الفقه : هي العلم بأدلة الفقه الكلية ، وذلك أن الفقه إما مسائل يطلب الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة ، وإما دلائل يُستدلُّ بها على هذه المسائل .
فالفقه : هو معرفة المسائل والدلائل ، وهذه الدلائل نوعان ، كلية تشمل كل حكم من جنس واحد من أول الفقه إلى آخره ، كقولنا : الأمر للوجوب ، والنهي للتحريم ، ونحوهما ، وهذه هي أصول الفقه ، وأدلة جزئية تفصيلية تفتقر إلى أن تبنى على الأدلة الكلية ، وإذا تمت حكم على الأحكام بها ، فالأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية ، والأدلة التفصيلية مضطرة إلى الأدلة الكلية ، وبهذا نعرف الضرورة والحاجة إلى معرفة أصول الفقه وأنها معينة عليه ،وهي أساس النظر والاجتهاد في الأحكام .
قوله : ( أصول الفقه : هي العلم بأدلة الفقه الكلية ) عرف الشيخ – رحمه الله – أصول الفقه باعتباره علماً على هذا الفن ، وترك تعريفه باعتبار مفرده ، مع أن المركب لا تمكن معرفته إلا بعد معرفة ما تركب منه ، ولعله ترك ذلك للاختصار .
فالأصول : جمع أصل ، وهو في اللغة : ما يبنى عليه غيره ، كأصل الجدار وهو أساسه ، وأصل الشجرة وهو طرفها الثابت بالأرض .
__________
(1) المعجم الوسيط (2/826) .
(2) المعجم الوسيط (2/633) .(1/8)
وأما في الاصطلاح : فيطلق على معان منها :
الدليل ، كقولنا : أصل وجوب الصوم قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [البقرة/183] ، ومن ذلك أصول الفقه ، أي : أدلته .
القاعدة ، كقولنا : إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل .
المقيس عليه ، وهذا في باب القياس ، حيث إن الأصل هو أحد أركان القياس .
وتعريف الشيخ ، تعريف مختصر وافٍ بالمراد ، وترك أمرين يذكرهما الأصوليون وهما : كيفية الاستفادة منها وحال المستفيد ، ولعله تركهما إما للاختصار ، أو لأنهما مفهومان مما ذُكر ، لأن العلم بالأدلة الكلية لا يتم إلا بمعرفة كيفية الاستدلال ، وهذا لا يكون إلا من مجتهد .
والمراد بأدلة الفقه : القواعد العامة التي تذكر في الأصول ، والتي يهتدي بها المجتهد لاستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية ، كما سيتبين .
قوله : ( وذلك أن الفقه إما مسائل … الخ ) هذا توضيح للتعريف السابق ، ومعناه أن الأدلة في قوله : ( أدلة الفقه ) أضيفت إلى الفقه ، لأن الفقه مشتمل على أمرين :
الأول : مسائل تحتاج إلى بيان حكمها الشرعي من واجب أو مندوب وغيرهما ، مثل : وجوب بر الوالدين ، واستحباب السواك .
الثاني : أدلة يستدل بها على هذه المسائل ، كقوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [البقرة/83] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب )«(1)» .
__________
(1) أخرجه النسائي (1/10) وأحمد (40/240-241) وسنده حسن ، لأنه من طريق محمد بن إسحاق ، وقد علقه البخاري في صحيحه قبل الحديث (1934) بصيغة الجزم .(1/9)
قوله : ( فالفقه معرفة المسائل والدلائل ) هذا تعريف الفقه في الاصطلاح ، وهو تعريف موجز ومفيد ، والمراد بالمسائل : الأحكام الشرعية العملية التي تتعلق بأفعال المكلفين كصلاتهم ، وصومهم ، وبيوعهم ، وجناياتهم ، وكل ما يتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم ، ويخرج بذلك الأحكام الاعتقادية والسلوكية ، فلا تبحث في كتب الفقه .
قوله : ( وهذه الدلائل نوعان … الخ ) أي : أن الدلائل التي يقوم عليها الفقه نوعان :
الأول : أدلة كلية ، وهي القواعد العامة التي تضمنها أصول الفقه – كما تقدم – مثل : الأمر للوجوب حتى تصرفه قرينة ، والنهي للتحريم حتى تصرفه قرينة ، والعام شامل لجميع أفراده حتى يثبت تخصيصه ، ويعمل بالمطلق حتى يثبت تقييده … وهكذا .
فهذه أدلة كلية ، كل دليل منها ينطبق على جميع مسائل الفقه ، فقولنا : الأمر للوجوب ، يشمل كل مسألة واجبة من أول الفقه إلى آخره ، وهكذا يقال في كل دليل كلي من أدلة أصول الفقه ، فهو لا يخص مسألة بعينها .
الثاني : أدلة جزئية ، وهي كل دليل يختص بمسألة معينة ، كقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاة } [البقرة/43] فهو يختص بوجوب إقامة الصلاة ، وقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [الإسراء/32] فهو يختص بحرمة الزنا ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)«(1)» يختص باستحباب السواك ، وهذه الأدلة تحتاج إلى أن تبنى على الأدلة الكلية ليتم استنباط الحكم من الدليل بواسطة هذه الأدلة .
__________
(1) تقدم تخريجه .(1/10)
وقد دل كلام الشيخ – رحمه الله – على أن الفقه يقوم على الأدلة الكلية ، وهي قواعد الأصول وعلى الأدلة الجزئية التي تستنبط منه الأحكام ، وهي الكتاب والسنة وما يستند إليهما من الإجماع والقياس ، وهو بهذا يؤكد على أن الفقه محتاج إلى الأدلة الكلية ، وأن الفقه بالمعنى الصحيح لا بد أن يؤسس على قواعد الأصول ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ( الفقه لا يكون إلا بفهم الأدلة الشرعية بأدلتها السمعية الثبوتية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباطاً ) «(1)» ويقول : ( الفقه لا يكون فقهاً إلا من المجتهد المستدل ) «(2)» .
قوله : ( فالأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية ، والأدلة التفصيلية مضطرة إلى الأدلة الكلية ) هذا توضيح لما سبق ، والمعنى : أن أيَّ حكم شرعي لابد له من دليل يدل عليه – كما تقدم – وهو الدليل التفصيلي أو الجزئي ، وهذا الدليل التفصيلي مفتقر إلى الأدلة الكلية في أصول الفقه ، إذ لا يتم الاستدلال والاستنباط إلا بواسطة الأصول ، وهذا قد يكون واضحاً في مسائل الأوامر والنواهي المشهورة ، ولكنه يحتاج إلى تأمل ونظر في أبواب العام أو المطلق أو المفهوم وغير ذلك من مباحث دلالات الألفاظ ، وقواعد الاستنباط .
قوله : ( وبهذا نعرف الضرورة والحاجة إلى معرفة أصول الفقه …) أي : وبهذا التقرير السابق ، وهو أن استنباط الأحكام من الأدلة لا بد أن يستند إلى الأدلة الأصولية تتضح أهمية أصول الفقه ، وأنها معينة على الفقه وأحكامه ، وهي الدعامة الأولى ، وأساس النظر والاجتهاد في الأحكام ، وبها يتمكن المجتهد من استنباط الأحكام الشرعية على أسس سليمة ، وقواعد صحيحة .
الأحكام الشرعية
« فصل » الأحكام التي يدور عليها الفقه خمسة :
__________
(1) الاستقامة (1/61) .
(2) مجموع الفتاوى (13/118) .(1/11)
الواجب : الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، والحرام : ضده ، والمسنون : الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ، والمكروه : ضده ، والمباح : مستوي الطرفين .
وينقسم الواجب : إلى فرض عين ، يطلب فعله من كل مكلف بالغ عاقل ، وهو جمهور أحكام الشريعة الواجبة ، وإلى فرض كفاية : وهو الذي يطلب حصوله وتحصيله من المكلفين ، لا من كل واحد بعينه ، كتعلم العلوم والصناعات النافعة ، والأذان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحو ذلك .
قوله : ( الأحكام التي يدور عليها الفقه خمسة ) الأحكام جمع حكم : وهو ما دل عليه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع .
وقد اقتصر الشيخ على الأحكام التكليفية الخمسة ، وترك الأحكام الوضعية ، وإن كان سيشير إليها فيما بعد عند إيراده بعض المسائل الأصولية من أبواب متفرقة .
قوله : ( الواجب : الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه ) هذا الأول من أقسام الحكم التكليفي ، وهو الواجب ، وهو لغة : الساقط واللازم .
واصطلاحاً : كما ذكر الشيخ ، وهذا التعريف من التعريف ببيان الثمرة والحكم ، وأما تعريفه ببيان الحقيقة والماهية فهو : ما طلب الشرع فعله على وجه الإلزام ، كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والصدق ، وغير ذلك ، والتعريف بذلك رجحه المحققون ، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
قوله : ( والحرام ضده ) أي أن الحرام ضد الواجب ، فهو لغة : الممنوع ، واصطلاحاً : ما يعاقب فاعله، ويثاب تاركه .
وعلى المسلك الثاني : ما طلب الشرع تركه على وجه الإلزام ، كعقوق الوالدين ، وإسبال الثياب ، والغيبة ، والنميمة ، والحقد ، والحسد ، ونحو ذلك .
ومعنى أنه ضد الواجب : أي باعتبار أحكام التكليف ، فيعرف بضد تعريف الواجب – كما تقدم – وإلا فالحرام ضد الحلال ، قال تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ .. } [النحل/116] .(1/12)
قوله : ( والمسنون الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ) المراد بالمسنون : المندوب ، ويسمى : التطوع والنفل والمستحب .
وهو : ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم ، كالسنن الرواتب ، والسواك ، والطيب يوم الجمعة ، ونحو ذلك ، فهذا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه .
قوله : ( والمكروه ضده ) أي : أن المكروه ضد المندوب ، كما أن الحرام ضد الواجب ، فالمكروه : ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ، كالأخذ والإعطاء بالشمال .
أما المكروه باعتبار ما تقدم فهو : ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم .
قوله : ( والمباح مستوي الطرفين ) وهو الذي خير الشرع المكلف فيه بين فعله وتركه ، فلا يتعلق بفعله مدح ولا بتركه ذم ، فلا أمر فيه ولا نهي من الشرع ، وإنما أذن فيه وأباحه للمكلفين ، وهذا هو المباح الباقي على وصف الإباحة ، كالاغتسال للتبرد ، والمباشرة ليالي الصيام ، أما المباح الذي صار وسيلة لمأمور به أو منهي عنه ، فسيذكره المصنف – رحمه الله – .
قوله : ( وينقسم الواجب … الخ ) أي : أن الواجب باعتبار الفاعل قسمان :
فرض عين ، وهو الذي لا تدخله النيابة مع القدرة وعدم الحاجة ، بل يطلب فعله من كل مكلف ، وهو البالغ العاقل ، كالطهارة ، والصلوات الخمس ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ونحو ذلك ، فما دامت القدرة موجودة وجب على المكلف أن يفعل بنفسه ، أما مع عدم القدرة ففي المسألة تفصيل حسب نوعية العبادة .
فرض كفاية : وهو ما يسقطه فعل البعض ولو مع القدرة ، وعدم الحاجة ، لأن المطلوب حصوله وتحصيله من المكلفين لا من كل واحد بعينه ، كتعلم العلوم والصناعات النافعة ، والأذان ، والصلاة على الميت ودفنه ، والقضاء والإفتاء ونحو ذلك .
وقد يكون فرض الكفاية فرض عين كقاضٍ واحدٍ في البلد ، أو سَبَّاحٍ واحدٍ لإنقاذ غريق ، أو طبيب واحد لم يكن غيره لإسعاف مريض ، ونحو ذلك مما يتعين فيه الفعل على شخص بعينه .
تفاضل الأحكام الشرعية(1/13)
وهذه الأحكام الخمسة تتفاوت تفاوتاً كثيراً بحسب حالها ومراتبها وآثارها ، فما كانت مصلحته خالصة أو راجحة ، أمر به الشارع أمر إيجاب أو استحباب ، وما كانت مفسدته خالصة أو راجحة نهى عنه الشارع نهي تحريم أو كراهة ، فهذا الأصل يحيط بجميع المأمورات والمنهيات .
قوله : ( وهذه الأحكام الخمسة … الخ ) أي : أن هذه الأحكام الخمسة ليست على درجة واحدة ، بل تتفاوت تفاوتاً كثيراً بالنظر إلى حالها ومرتبتها ، والآثار المترتبة عليها ، ففي باب الأمر – مثلاً – ليس الأمر بالتوحيد والإيمان بالله ورسوله وغير ذلك من أصول الدين الذي أمرت به الشرائع كلها ، كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد ، أو الأمر بلعق الأصابع ، أو إماطة الأذى عن اللقمة الساقطة .
فالتفاضل ثابت في طلب الشارع ، وفي الثواب ، فما كان ثوابه أكثر كان طلبه آكد ، ومما يدل على ذلك وجود الترجيح عند تعارض واجبين في حق الشخص ، هل يقدم هذا أو هذا ؟ ، وما زال أهل العلم يقولون : هذا أوكد من هذا ، فيقدم عليه ، وهذا دليل بين على تفاضل الواجبات ، وكذا المندوبات ، مثل طلب العلم فهو آكد وأفضل من صلاة التطوع .
وإذا عرف أن بين الأعمال تفاضلاً ، كان طلب الأفضل أكمل من طلب المفضول ، حرصاً على اغتنام الأوقات ، واكتساب الدرجات ، ومعلوم أن التفاضل يختلف حسب الأحوال والأشخاص والأوقات «(1)» .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (17/58-61) ومدارج السالكين (1/102) .(1/14)
وفي باب النهي فإن المحرم يتفاوت في نفس التحريم ، وهو النهي الشرعي كما يتفاوت في متعلقه ، وهو العقاب ، فليس النهي عن الشرك ، وقتل النفس والزنا ونحو ذلك مما حرمته الشرائع كلها ، وما يحصل معه فساد عظيم كالنهي عن القران في التمر ، أو الانتعال وهو قائم ، فما كان عقابه أعظم كان النهي عنه أوكد لأن العقاب ثمرة ونتيجة لأصل التحريم ، ولأن الترجيح بين الفعلين المحرمين ثابت ، فما زال أهل العلم يقدمون أخف الضررين والمفسدتين عند التعارض – كما سيأتي إن شاء الله – ولو تساويا من كل وجه لامتنع ذلك الترجيح .
قوله : ( فما كان مصلحته راجحة … الخ ) أي : أن المأمورات والمنهيات ترجع إلى أقسام أربعة ، اثنان في المأمورات ، واثنان في المنهيات :
أن تكون المصلحة خالصة ، وهي التي لا يشوبها أيُّ مفسدة كالتوحيد والإخلاص والعدل والإحسان وبر الوالدين وصلة الأرحام وفعل المعروف ونحو ذلك ، فهذا يأمر به الشرع أمر إيجاب أو أمر استحباب ، حسب نوعية المأمور به .
أن تكون المصلحة راجحة ، وهي التي تخالطها مفسدة ولكن المصلحة هي الأغلب ، كالجهاد ، فإن فيه إعلاء كلمة الله ونصرة دينه مع ما فيه من التعرض للقتل ، وهذه يأمر بها الشرع – أيضاً – أمر إيجاب أو استحباب ، لأن العبرة بالغالب ، ولا ينظر إلى ما فيها من المفسدة ، لضعف أثرها وغلبة المصلحة عليها .
أن تكون المفسدة خالصة ، وهي التي لا يخالطها مصلحة كالشرك والظلم وعقوق الوالدين ونحو ذلك مما لا مصلحة فيه ، فهذه ينهى عنها الشرع نهي تحريم أو كراهة حسب نوعية المنهي عنه .(1/15)
أن تكون المفسدة راجحة ، وهي التي تضمنت مصلحة ولكن جانب المفسدة أغلب ، مثل : الخمر والميسر والربا والظلم ونحو ذلك ، فإن هذه المذكورات فيها مصالح كسب المال وما يحصل لفاعلها من اللذة ، لكن مفاسدها أعظم قال تعالى : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة/219] ، وهذه ينهى عنها الشرع نهي تحريم أو كراهة ، لأن العبرة بالغالب، ولا ينظر إلى ما فيها من المصلحة ، لضعف أثرها وغلبة المفسدة عليها .
يقول ابن القيم – رحمه الله – : ( ولما كانت خاصةُ العقل النظرَ فيه إلى العواقب والغايات كان أعقلُ الناس أتركَهم لما ترجحت مفسدته في العاقبة ، وإن كانت فيه لذة ومنفعة يسيرة بالنسبة إلى مضرته ) «(1)» .
الوسائل لها أحكام المقاصد
وأما المباحات : فإن الشارع أباحها وأذن فيها ، وقد يتوصل بها إلى الخير فتلحق بالمأمورات ، وإلى الشر فتلحق بالمنهيات .
فهذا أصل كبير : أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، وبه نعلم : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون ، وما يتوقف الحرام عليه فهو حرام ، ووسائل المكروه مكروهة .
قوله : ( وأما المباحات فإن الشرع أباحها … الخ ) ذكر هنا النوع الثاني من نوعي المباح ، وهو المباح الذي صار وسيلة لمأمور به أو منهي عنه ، فيكون حكمه حكم ما كان وسيلة إليه ، فإن كان المباح يتوصل به إلى الخير فهو مأمور به أمر إيجاب أو استحباب ، ويثاب على ذلك بحسب نيته ، فمثلاً : النوم مباح ، فإذا كان وسيلة للتقوي على طاعة الله تعالى أو كسب الرزق صار مستحباً يثاب عليه المكلف .
__________
(1) مفتاح دار السعادة (2/14) .(1/16)
وإن كان المباح يتوصل به إلى منهي عنه فهو منهي عنه ، نهي تحريم أو كراهة ، فمثلاً : يحرم بيع المباحات لمن يعمل فيها معصية ، كبيع العنب على من يتخذه خمراً ، والأكل والشرب من الطيبات مباحان لكن الإسراف فيهما إلى حد التخمة مكروه ، واللهو مباح في غير محرم فإن أدى إلى تفويت الصلاة أو التعدي على الغير صار محرماً ، وهكذا ..
قوله : ( فهذا أصل كبير أن الوسائل لها أحكام المقاصد .. الخ ) أي : كون الشيء وسيلة إلى غيره ، هذا أصل كبير من أصول الشريعة ، ويتضمن فروعاً كثيرة تندرج تحت هذه القاعدة .
والوسائل : جمع وسيلة ، وهي ما يتوصل به إلى غيره ، والمقاصد : جمع مقصد ، وهو الإرادة والهدف ، والمراد هنا : الشيء المطلوب .
والمعنى : أن ما يثبت للمقصود من حكم يثبت مثله للوسيلة الموصلة إليه ، فوسائل المأمورات مأمور بها ، ووسائل المنهيات منهي عنها ، فإذا كان تحقيق المقصود واجباً فإن الأخذ بالوسيلة الموصلة إليه يكون أمراً واجباً ، ومثال ذلك : الصلاة ، فهي من حيث أداؤها مقصد ، والمشي إليها : وسيلة ، وبما أن الصلاة واجبة ، فالوسيلة إليها واجبة ، وهكذا يقال في المندوب وغيره ، كما سيأتي إن شاء الله .(1/17)
ودليل ذلك قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [التوبة/120] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع حسنة ) «(1)» ، وعنه – أيضاً – - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة )«(2)» .
ويندرج تحتها أربعة فروع ، كما ذكر الشيخ – رحمه الله – وهي :
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، والمراد بذلك ما يدخل تحت قدرة المكلف وهو مأمور به ، كالمشي إلى الصلاة ، والسعي إلى الجمعة ، والسفر إلى مكة لأداء الحج ، أو العمرة – على القول بوجوبها – ، وكنقل الأقدام لزيارة الوالدين أو صلة الأرحام ، وكذا طلب الماء للوضوء ، أو شراؤه بثمن المثل أو زيادة لا تضر أو شراء ثوب لستر العورة ، ونحو ذلك .
لكن لا يفهم من ذلك أن هذه القاعدة تكون دليلاً لإثبات وجوب حكم لم يرد بوجوبه دليل ، وإنما هي مسألة قُسمت عليها مقدمات الواجب – وهي ما يتوقف عليها وجود الواجب – وعلى ذلك فإن مقدمات الواجب واجبة بنفس دليل ذلك الواجب ، كما في الأمثلة ، وقد يرد دليل على ما لايتم الواجب إلا به ، كقوله تعالى : { فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [الجمعة/9] وقد لا يرد كإفراز المال لإخراج الزكاة ، ومنه بعض ما تقدم .
__________
(1) أخرجه مسلم (666) .
(2) أخرجه مسلم (2699) وهو جزء من حديث .(1/18)
ما لا يتم المسنون إلا به هو مسنون ، كالسواك للصلاة ، والتطيب يوم الجمعة ، فإذا توقف تحقيق ذلك على شراء السواك أو الطيب كان ذلك الشراء مسنوناً ، أي : مندوباً إليه بواسطة دليل المندوب نفسه ، وهكذا يقال في نوافل الصلاة والصدقة والحج والعمرة ونحو ذلك من المندوبات .
ما يتوقف الحرام عليه فهو حرام ، ومن ذلك الشرك الأكبر ، وهو الشرك في العبادة ، فكل قول أو فعل يفضي إليه فهو محرم ، وكذا الشرك الأصغر ووسائله كالحلف بغير الله تعالى ونحو ذلك ، وكالسعي إلى المعاصي كالزنا والخمر ونحو ذلك ، أو الخلوة بالمرأة الأجنبية المفضية إلى الفاحشة ولو في إقراء القرآن أو السفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين ، وكذا قيادة المرأة للسيارة فإنها تفضي إلى مفاسد كثيرة لا يمكن حصرها ، فتكون القيادة محرمة لذلك .
وسائل المكروه مكروهة ، كما لو أمسك شيئاً بيساره ليمسك ذكره بيمينه ، فإمساك الذكر باليمين مكروه ، فتكون هذه الوسيلة مكروهة أيضاً ، والله أعلم .
أدلة الأحكام الشرعية
« فصل » الأدلة التي يستمد منها الفقه أربعة : الكتاب والسنة ، وهما الأصل الذي خوطب به المكلفون وانبنى دينهم عليه ، والإجماع والقياس الصحيح ، وهما مستندان إلى الكتاب والسنة .
فالفقه – من أوله إلى آخره – لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة ، وأكثر الأحكام المهمة تشتمل عليها الأدلة الأربعة ، تدل عليها نصوص الكتاب والسنة ، ويجمع عليها العلماء ، ويدل عليها القياس الصحيح ، لما فيها من المنافع والمصالح ، إن كانت مأموراً بها ، ومن المضار إن كانت منهياً عنها ، والقليل من الأحكام يتنازع فيها العلماء ، وأقربهم إلى الصواب فيها من أحسن ردها إلى هذه الأصول الأربعة .
هذا الفصل عقده الشيخ – رحمه الله – لبيان أدلة الأحكام الشرعية إجمالاً ، وسيتكلم عن كل واحد منها بشيء من التفصيل .(1/19)
والأدلة : جمع دليل ، وهو في اللغة : ما فيه دلالة وإرشاد إلى أمر من الأمور ، واصطلاحاً : ما يُستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عملي على سبيل القطع أو الظن .
قوله : ( التي يستمد منها الفقه ) أي : تؤخذ منها الأحكام الشرعية العملية التي تتعلق بالمكلفين ، وهي الكتاب والسنة والإجماع ، وهذه أدلة نقلية ، والرابع : القياس ، وهذا دليل عقلي ، لأن مرده إلى النظر والرأي المستند إلى النقل .
قوله : ( وهما الأصل الذي خوطب به المكلفون ) أي : أن الكتاب والسنة هما الأصل في خطاب المكلفين بالأحكام الشرعية ، والإجماع والقياس مستندان إليهما ، لأن الإجماع لابد أن يستند إلى نص – كما سيأتي إن شاء الله – ، والقياس مسلك اجتهادي في حدود نصوص الكتاب والسنة ، بضوابط معينة ، بل إن الأدلة الثلاثة كلها راجعة إلى القرآن ، لأن العمل بالسنة إنما دل عليه القرآن ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [النساء/59] ولأن السنة جاءت لبيان القرآن وتفسيره ، وتفصيل ما أُجمل فيه – كما سيأتي إن شاء الله – قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل/44] .
قوله : ( فالفقه … لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة ) أي : أن جميع مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ، ويُفتون بها ثابتة بهذه الأدلة الأربعة ، وفي مقدمتها النص والإجماع ، فإذا لم يوجد للمسألة دليل صريح من كتاب أو سنة أو إجماع يؤخذ بالقياس ، لأنه طريق شرعي لاستنباط الأحكام .(1/20)
قوله : ( وأكثر الأحكام المهمة تجتمع عليها الأدلة الأربعة … الخ ) أي : أن أكثر الأحكام الشرعية التي لا بد للناس من العلم بها ، مما يجب عليهم ويحرم ويباح ، تجتمع عليها الأدلة الأربعة ، لأنها من قبيل المعلوم المقطوع به ، وذلك كوجوب الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، واستقبال القبلة ، ووجوب الوضوء ، والغسل من الجنابة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والعدل ، والصدق ، وتحريم الزنا ، والخمر ، والفواحش ، والظلم ، وعقوق الوالدين ، وغير ذلك .
قوله : ( والقليل من الأحكام يتنازع فيها العلماء ) أي : أن الأحكام التي حصل فيها خلاف بين العلماء قليلة بالنسبة للأحكام المهمة ، لأن من هذه الأحكام المختلف فيها ما هو مسائل مقدرة غير واقعة ، ومنها ما هو تفاريع فقهية على بعض الأحكام المهمة ، وهذا الاختلاف له أسباب ، كعدم سماع الحديث ، أو عدم ثبوته ، أو الاختلاف في فهمه ، أو كيفية الاستدلال به ، أو اعتقاد عدم معارض للدليل ، أو نحو ذلك مما هو معروف في محله «(1)» .
قوله : ( وأقربهم إلى الصواب فيها : من أحسن ردها إلى هذه الأصول الأربعة ) أي : أن هذه المسائل المختلف فيها لا بد لها من دليل ، قد يكون نصاً ، وقد يكون استنباطاً ، ولهذا قال الشافعي – رحمه الله – : ( قلَّ ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دلالة من كتاب الله أو سنة رسوله أو قياساً عليهما أو على واحد منهما ) «(2)» .
__________
(1) انظر : « رفع الملام عن الأئمة الأعلام » ، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
(2) الرسالة ص (562) .(1/21)
وأقرب العلماء إلى الصواب في مثل هذه المسائل المختلف فيها من أحسن استنباط حكمها الشرعي من نص أو إجماع أو قياس ، ولابد في ذلك من الإحاطة بدلالات الألفاظ وقواعد الاستنباط ، قال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء/59] قال الشيخ – رحمه الله – في تفسيره : ( أي : كتاب الله وسنة رسوله ، فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية ، إما بصريحهما أو عمومهما ، أو إيماء ، أو تنبيه ، أو مفهوم ، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه ، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين ، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما ، فالردُّ إليهما شرط في الإيمان … ) «(1)» .
الدليل الأول : الكتاب
« فصل في الكتاب والسنة » أما الكتاب : فهو هذا القرآن العظيم ، كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلب محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين ، للناس كآفة ، في كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم ، وهو المقروء بالألسنة ، والمكتوب في المصاحف ، المحفوظ في الصدور ، الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت/42] .
هذا الفصل عقده الشيخ لبيان معنى الكتاب والسنة ، وكيفية استنباط الحكم من هذين الدليلين .
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن ص (184) .(1/22)
قوله : ( أما الكتاب فهو القرآن العظيم ، كلام رب العالمين ) عرف الشيخ – رحمه الله – القرآن ، وهو أشهر من أن يعرف ، ولكنه تبع الأصوليين في ذلك ، ولعل في تعريفه إظهار بعض خصائصه التي جعلته المصدر الأول للتشريع في كل زمان ومكان ، وهو حجة الله تعالى على جميع البشر ، قال تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام/19] فكل من بلغه هذا القرآن فقد أُنذر به وقامت عليه حجة الله تعالى به .
قوله : ( كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين على قلب محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) هذه أول خصائص القرآن ، وهو أنه كلام الله تعالى حقيقة ، وهو اللفظ والمعنى جميعاً ، المنزل على رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، نزل به جبريل عليه السلام ، وهذا دليل على تعظيم هذا القرآن وشدة الاهتمام فيه ، فإنه نزل من الله لا من غيره «(1)» ، ويخرج بذلك الكتب التي أنزلت على غير محمد - صلى الله عليه وسلم - كالتوراة والإنجيل والزبور فهي ليست قرآناً ، بل القرآن مختص بنبينا - صلى الله عليه وسلم - .
وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خُفف على داود عليه السلام القرآن ، فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه ) «(2)» ، فالقرآن – هنا – ليس اسم الكتاب ، وإنما المراد به المعنى المصدري ، وهو القراءة كما وقع في رواية أخرى ( خُفف على داود القراءة ) «(3)» .
__________
(1) انظر : تيسير الكريم الرحمن ص (598) .
(2) أخرجه البخاري (3417) .
(3) انظر : فتح الباري (6/454-455) (8/397) .(1/23)
قوله : ( بلسان عربي مبين ) هذه الثانية من خصائص القرآن ، وهي أنه نزل باللسان العربي ، فحروفه هي الحروف التي تتكلم بها العرب ، ليس فيها زيادة حرف واحد ، واللسان العربي أفضل الألسنة ، فقد نزل بلغة من بعث إليهم ، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [إبراهيم/4] .
قوله : ( للناس كافة في كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم ) أشار الشيخ بذلك إلى أن القرآن يشتمل على كل ما يحتاجه الناس ، وهو ثلاثة أنواع :
أحكام اعتقادية ، وهي المتعلقة بالعقيدة ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
أحكام أخلاقية سلوكية ، وهي المتعلقة بتهذيب النفس وتزكيتها ، كأعمال القلوب ، ومكارم الأخلاق ، كالمحبة والخوف والرجاء ، والصدق ، والشكر ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والصبر ، والعفو ، والإصلاح بين الناس ، وكف الأذى ، والوفاء بالعهد ، وغير ذلك .
أحكام عملية ، وهي المتعلقة بأفعال المكلفين ، وهي نوعان :
عبادات ، وهي ما بين العبد وربه ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج .
معاملات ، وهي اسم يطلق على ما سوى العبادات ، ويراد بها ما يتعلق بتنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات ، كأحكام البيوع والنكاح والطلاق والجنايات والحدود والسياسة الشرعية .
وتسميتها بالمعاملات اصطلاح للعلماء ، وليس معنى ذلك خلوها من معنى العبادة ، لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، وقد يوجد فيها معنى العبادة ، كما في البيع والنكاح ونحو ذلك .
قوله : ( وهو المقروء بالألسنة … الخ ) ذكر الشيخ أربعاً من خصائص القرآن ، إضافة إلى ما تقدم ، وهي :(1/24)
أنه المقروء بالألسنة ، أي : المتعبد بتلاوته في الصلاة وغيرها ، فهو الذي تتعين القراءة به في الصلاة ، قال تعالى : { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن } [المزمل/20] وقراءته عبادة ورد فيها ثواب عظيم ، كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : ( آلم ) حرف ولكن (ألف) حرف ، و (لام) حرف ، و (ميم) حرف ) «(1)» .
أنه مكتوب في المصاحف ، وكان ذلك في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وذلك من مناقبه الجليلة ، وحسناته العظيمة ، بعد استشارته الصحابة رضي الله عنهم ، وقد رتبت سُوره كما هو الآن .
أنه محفوظ في الصدور ، فإن الله تعالى اختص هذه الأمة بذلك ، وهو أن القرآن محفوظ في صدورهم يقرأونه عن ظهر قلب ، وقد ورد في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته : ( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني … ) وساق الحديث إلى أن قال : ( وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء ) «(2)» أي : لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يُقرأ على كل حال ، بخلاف أهل الكتب فإنهم لا يقرأونه كله إلا نظراً .
__________
(1) أخرجه الترمذي (2912) وقال: حديث حسن صحيح ، وقد جاء هذا الحديث من عدة طرق ، بعضها مرفوع ، وبعضها موقوف ، انظر : ( السلسلة الصحيحة ) للألباني (660) .
(2) أخرجه مسلم (2865) .(1/25)
أنه محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان ، لقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر/9] وقوله تعالى : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت/42] أي : لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن { مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ } أي : بزيادة عليه ، { وَلا مِنْ خَلْفِهِ } أي : بنقصان منه ، لأنه محفوظ ، { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ } أي : ذي حُكْم وحكمة ، وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها ، { حَمِيدٍ } أي : محمود على جميع ما يأمر به وينهى عنه ، ومحمود لكثرة خيره وسعة جوده وكرمه .
الدليل الثاني : السنة
وأما السنة : فإنها أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأفعاله ، وتقريراته على الأقوال والأفعال .
السنة في اللغة : السيرة حميدة كانت أو ذميمة ، قال لبيد :
من معشر سنَّت لهم آباؤهم ... ولكلِّ قومٍ سنةٌ وإمامُها
وأما في الاصطلاح : فلها ثلاثة معان :
1- ما يقابل الواجب ، ويرادف المندوب ، فهي من أسمائه .
2- ما يقابل البدعة ، فيراد بها ما وافق القرآن أو حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويدخل في ذلك سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .
ما يقابل القرآن ، وهو المراد هنا ، فيراد بها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعله أو تقريره ، ويضيف المحدثون : أو وصفه ، فمعناها عندهم أعم ، لأنهم أهل العناية برواية الأخبار .
والسنة قد تكون مؤكدة لما جاء في القرآن ، كوجوب الصلاة ، فإنها ثابتة بالكتاب والسنة ، وقد تكون مبينة أو مفسرة لما أجمل في القرآن مثل : بيان عدد الصلاة و كيفيتها ، ومقادير الزكاة ، وصفة الحج ونحو ذلك ، وقد تكون سنة استقلالية أو زائدة على ما في القرآن كأحكام الشفعة ، وميراث الجدة ، ونحو ذلك .(1/26)
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – الإجماع على وجوب اتباع ما ثبت من سنته - صلى الله عليه وسلم - «(1)» ، والأدلة من الكتاب والسنة متظاهرة على ذلك ، قال تعالى : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران/32] ووجه الدلالة : أن الله تعالى ساوى بين طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [لنجم/3-4] ووجه الدلالة : أن الآية دلت على استواء السنة مع القرآن في كونهما وحياً من الله تعالى ، إلا أن السنة موحى بها بالمعنى فقط .
وعن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجلٌ شبعانُ على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه … الحديث ) «(2)» وقد دل هذا الحديث بتمامه على أمرين :
حجية السنة واستقلالها بتشريع بعض الأحكام ، وأن القرآن لا يغني عن السنة ، بل هي مثله في وجوب الطاعة والاتباع ، لقوله : ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) لأن المراد بالكتاب : القرآن ، وبالمثل : السنة ، ومِثْلِيَّتُهَا له في أنه يجب العمل بها كما أنه يجب العمل به .
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/85) .
(2) أخرجه أبو داود (3804) (4604) والترمذي (2664) وابن ماجة (12) (3193) وأحمد (28/410-411) وهذا لفظ أبي داود بتمامه ، وقال الترمذي : ( هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ) وصححه الألباني ، والحديث له طرق ، مطولاً ومختصراً .(1/27)
في الحديث معجزة باهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذا أورده البيهقي – رحمه الله – في كتابه « دلائل النبوة » «(1)» فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن شيء قد وقع ، فقد ظهر في زماننا من يرد الاحتجاج بالسنة وينكر العمل بها ، ولهم في ذلك شبه سموها أدلة ، وما هي إلا محض أوهام ، وهذا ليس بوليد هذا العصر ، فإن لكل قوم وارثاً ، وسلفهم في ذلك طوائف من أهل البدع ، يقول الشوكاني – رحمه الله – : ( والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام ) «(2)» ، وسيأتي في كلام الشيخ – رحمه الله – الكلام على أنواع السنة ، وهي الأقوال والأفعال والتقريرات .
من مباحث دلالات الألفاظ
النص والظاهر
فالأحكام الشرعية تارة تؤخذ من نص الكتاب والسنة ، وهو اللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ، وتارة تؤخذ من ظاهرهما ، وهو ما دل على ذلك على وجه العموم اللفظي أو المعنوي .
ذكر الشيخ – رحمه الله – كيفية استنباط الحكم الشرعي من الدليل ، وهذا يختلف باختلاف نوعية دلالة اللفظ .
فاللفظ من حيث الدلالة على المعنى نوعان :
الأول : أن يدل على معنى واحد ، لكون اللفظ واضحاً لا يحتمل إلا ذلك المعنى بسبب دلالة لفظه على المعنى دون توقف على أمر خارجي ، وكون هذا المعنى هو المقصود الأصلي من سوق الكلام ، وهذا هو النص .
ومعناه في اللغة : الظهور والرفع إلى غاية ما ينبغي ، ومنه قولهم : نصَّت الظبية رأسها : إذا رفعته ، ومنه سمي ما يُظهر عليه من مرتفع : منصة .
ومن أمثلته :
1- قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة/38] فهذه الآية نص في عقوبة القطع دون احتمال لشيء آخر من أنواع العقوبات ، وهذا المعنى هو المقصود الأصلي من سياق الآية .
__________
(1) دلائل النبوة (6/549) .
(2) إرشاد الفحول ص (33) .(1/28)
2- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) «(1)» فقوله : ( هو الطهور ماؤه ) نص في طهورية ماء البحر ، وهذا هو المقصود الأصلي من سياق هذا اللفظ .
وحكم النص : أنه يجب العمل به ما لم يقم دليل صحيح على تأويله ، أو تخصيصه ، أو تقييده ، أو نسخه في عهد الرسالة .
النوع الثاني : الظاهر ، وهو لغة : الواضح ، ويقابله الخفي ، واصطلاحاً : كما ذكر الشيخ : هو ما دلَّ على ذلك المعنى على وجه العموم اللفظي أو المعنوي .
ومراده بذلك : أن الظاهر هو الذي اتضح المراد منه بنفسه من غير توقف على أمر خارجي ، مع احتمال معنى آخر مرجوح ، بسبب العموم اللفظي أو المعنوي .
والمراد بالعموم اللفظي : ما ثبت عن طريق اللفظ ، والعموم المعنوي : ما ثبت عن طريق القياس ، وهو الجامع المشترك بين الأصل والفرع «(2)» ، وذلك لأن الظاهر لا بد له من معنيين فأكثر ، وهذا من معاني العموم .
ومن أمثلته :
حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل ، فقال : ( توضأوا منها … الحديث ) «(3)» .
فإن الظاهر من الحديث أن المراد غسل الأعضاء الأربعة ، لأن الوضوء حقيقة شرعية ، فيحمل في كلام الشرع على مراده ، ولا يعدل عن ذلك إلى المعنى الآخر وهو النظافة ، إلا بدليل ، ولا دليل ، فيكون ظاهراً في المعنى الأول .
__________
(1) أخرجه أبو داود (83) والنسائي (1/50) والترمذي (69) وابن ماجة (386) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
(2) انظر : الفتاوى (15/446-451) .
(3) أخرجه أبو داود (184) وأحمد (4/288) وهو حديث صحيح ، ولمسلم بمعناه (360) .(1/29)
وحكم الظاهر : أنه يجب العمل به على ظاهره إلا بدليل يصرفه عن ذلك ، لأن هذه طريقة السلف الصالح من هذه الأمة ، ولأنه أحوط ، وأبرأ للذمة ، وأقوى في التعبد والانقياد .
المنطوق والمفهوم
وتارة تؤخذ من المنطوق ، وهو ما دل على الحكم في محل النطق ، وتارة تؤخذ من المفهوم ، وهو ما دل على الحكم بمفهوم موافقة ، إن كان مساوياً للمنطوق ، أو أول منه ، أو بمفهوم المخالفة إذا خالف المنطوق في حكمه ، لكون المنطوق وصف بوصف أو شرط فيه شرط إذا تخلف ذلك الوصف أو الشرط ، تخلف الحكم .
قوله : ( وتارة تؤخذ من المنطوق … الخ ) أي : أن الأحكام الشرعية قد تستنبط من منطوق اللفظ دون مفهومه .
والمنطوق : هو ما دل على الحكم في محل النطق ، أي : أن دلالته تكون من مادة الحروف التي ينطق بها ، كقوله تعالى : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف } [الإسراء23] فإن اللفظ المنطوق به يدل على تحريم التأفيف ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( في سائمة الغنم الزكاة ) «(1)» فهو يدل بمنطوقه على وجوب الزكاة في الغنم السائمة ، وهي التي ترعى أكثر الحول .
قوله : ( وتارة تؤخذ من المفهوم … الخ ) وهو : ما دل على الحكم لا في محل النطق ، كالآية السابقة فإن منطوقها تحريم التأفيف ، ويستفاد من الاعتماد على اللفظ تحريم الضرب والسب ونحو ذلك ، وهذه هو المفهوم ، وهو نوعان :
مفهوم موافقة ، وهو ما وافق المسكوتُ عنه المنطوقَ في الحكم ، لاشتراكهما في العلة ، وله صورتان :
__________
(1) أخرجه أبو داود (1568) من حديث أنس - رضي الله عنه - ، وهو حديث طويل ، وأخرجه البخاري (3/317فتح ) بمعناه .(1/30)
الأولى : أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق ، كالآية المتقدمة ، فإنها دلت بمفهومها على تحريم الضرب والسب واللعن ونحو ذلك ، وهذا المعنى يدرك بمجرد فهم اللغة ، ولا يحتاج إلى بحث ولا نظر ، وهذا المعنى موافق للمسكوت عنه في الحكم ، وهو النهي الذي يفيد التحريم ، بل هو أولى من المنطوق ، كما تقدم ، فإن الله تعالى نبه بمنع الأدنى على منع ما هو أولى منه .
الثانية : أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء/10] فقد دلت الآية بمنطوقها على تحريم أكل أموال اليتامى ، ودلت بمفهومها على تحريم إحراقها أو إغراقها أو إتلافها بأي نوع من أنواع الإتلاف ، فهذه الأمور تساوي أكل أموالهم ظلماً بجامع الاعتداء على مال اليتيم القاصر العاجز عن دفع الاعتداء عنه ، فنبه بالمنع من الأكل على كل ما يساويه في الإتلاف .
ومفهوم الموافقة حجة بالإجماع ، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقال : ( إن إنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحد من السلف ) «(1)» .
قوله : ( أو بمفهوم المخالفة إذا خالف المنطوق في حكمه … الخ ) هذا النوع الثاني من نوعي المفهوم ، وهو مفهوم المخالفة ، وهو ما خالف المسكوتُ عنه المنطوقَ في الحكم ، بسبب كون المنطوق وصف بوصف أو شرط فيه شرط ، ويسمى الأول مفهوم الصفة ، والثاني : مفهوم الشرط ، وقد اقتصر عليهما الشيخ – رحمه الله – ولعل ذلك لكونهما من أهم مفاهيم المخالفة .
__________
(1) مجموع الفتاوى (21/207) .(1/31)
فمفهوم الصفة : هو تخصيص الحكم ببعض الأوصاف التي تطرأ وتزول ، ومثاله : حديث ( في الغنم السائمة الزكاة ) فقد تقدم أن منطوقه يدل على وجوب الزكاة في الغنم ( السائمة ) ، ومفهومه أنه لا زكاة في المعلوفة ، لأنه إذا تخلف الوصف تخلف الحكم ، ولو كان المسكوت عنه مساوياً للمذكور في الحكم لما كان للوصف فائدة بل كان تطويلاً ، فينزه عنه كلام الشارع ، والمراد بالصفة – هنا – ما أشعر بمعنى يختص به المنطوق ليس شرطاً ولا غاية ولا عدداً ، فهو أعم من النعت .
ومفهوم الشرط هو تقييد حكم المنطوق بشرط ، بحيث يثبت نقيضه عند انتفاء الشرط ، ومثاله : قوله تعالى : { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِن } [الطلاق/6] فإن منطوق الآية وجوب الإنفاق على المطلقة الحامل ، ومفهومها أن النفقة لا تجب للمعتدة غير الحامل ، لأنه إذا تخلف الشرط تخلف الحكم ، على ما تقدم ذكره في الوصف .
ومفهوم المخالفة حجة عند الجمهور من أهل العلم ، فإن القيود الواردة في النصوص الشرعية لا بد أن تكون لفائدة ، وهي تخصيص الحكم بالمذكور ونفيه عما عداه ، وقد أخذ به كبار الصحابة رضي الله عنهم ، وكبار التابعين وأئمة اللغة ، رحمهم الله .
أنواع الدلالة
والدلالة من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام :
دلالة مطابقة : إذا طبقنا اللفظ على جميع المعنى ، ودلالة تضمن : إذا استدللنا باللفظ على معناه ، ودلالة التزام : إذا استدللنا بلفظ الكتاب والسنة ومعناهما على توابع ذلك ومتمماته وشروطه ، وما لا يتم ذلك المحكوم فيه أو المخبر عنه إلا به .
قوله : ( والدلالة من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام … الخ ) الدلالة : بكسر الدال وفتحها ، والفتح أحسن «(1)» ، ومعناها : فهم المعنى من اللفظ ، والمراد هنا الدلالة اللفظية ، وهي ثلاثة أقسام :
__________
(1) المصباح المنير ص (199) أدب البحث والمناظرة للشنقيطي (1/11)(1/32)
دلالة مطابقة : وهي دلالة اللفظ على تمام ما وضع له ، وهو معنى قول الشيخ: ( إذا طبقنا اللفظ على جميع المعنى ) كدلالة الإنسان على تمام معناه ، وهو الحيوان الناطق العاقل ، ودلالة لفظ الصلاة على ما وضع لها في الشرع من الأركان والواجبات المعلومة ، وسميت بذلك لمطابقة اللفظ للمعنى الموضوع له .
دلالة تضمن : وهي دلالة اللفظ على جزء ما وضع له ، وهو معنى قول الشيخ : ( إذا استدللنا باللفظ على بعض معناه ) كدلالة الإنسان على الحيوان أو العاقل ، ودلالة لفظ الصلاة على الركوع أو السجود ، فإنهما بعض الصلاة.
وشرطها : أن يكون للمعنى الموضوع له جزء ، وسميت بذلك ، لأن الجزء في ضمن الكل .
دلالة التزام : وهي دلالة اللفظ على لازم المعنى الموضوع له اللفظ ، كدلالة الإنسان على قابل العلم ، ودلالة لفظ السقف على الجدار ، فإنه لاوجود للسقف إذا لم يكن هناك جدار ، وقد فسر الشيخ – رحمه الله – ذلك بقوله : ( إذا استدللنا بلفظ الكتاب والسنة ومعناهما على توابع ذلك ومتمماته وشروطه … الخ ) ومثاله : الاستدلال بلفظ ( وأقيموا الصلاة ) ، على ستر العورة ، أو الطهارة ، أو استقبال القبلة ، وهي من شروط صحة الصلاة .
وسميت بذلك لأن اللفظ الخارج لازم لما وضع له .
وأعلم أن أقسام الدلالة من قسم المنطوق ، وهو قسمان :
المنطوق الصريح : وهو دلالة المطابقة ودلالة التضمن .
المنطوق غير الصريح : وهو دلالة الالتزام ، وهي ثلاثة :
دلالة الاقتضاء : وهي دلالة الكلام على معنى لا يستقيم الكلام إلا بتقديره ، كقوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } [البقرة/184] أي : فأفطر فعدة من أيام أخر ، لأن القضاء لا يلزم بمجرد المرض أو السفر بل لابد من الفطر .(1/33)
دلالة الإيماء والتنبيه : وهي أن يقترن بالحكم وصف لو لم يكن هذا الوصف تعليلاً لهذا الحكم لكان ذكره حشواً في الكلام لا فائدة منه ، وألفاظ الشارع تنزه عن ذلك – كما تقدم – ، ومثاله : قوله تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [الانفطار/13] أي : لبرهم .
دلالة الإشارة : وهي أن يدل اللفظ على معنى ليس مقصوداً باللفظ في الأصل ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام من أجله ، كقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [البقرة/187] فإن الآية دلت على إباحة إتيان الزوجة ليلة الصيام ، في أي وقت من الليل إلى آخر جزء منه ، ويستفاد من ذلك صحة صوم من أصبح جنباً ، فإن امتداد الإباحة إلى آخر جزء من الليل يستلزم أن الصائم قد يصبح جنباً ، وهذا المعنى غير مقصود من سياق الآية ، فتكون دلالتها عليه بالإشارة .
بعض الأصول التي يحتاج إليها الفقيه
الأصل في الأمر والنهي
الأصل في أوامر الكتاب والسنة : أنها للوجوب ، إلا إذا دل الدليل على الاستحباب أو الإباحة ، والأصل في النواهي : أنها للتحريم ، إلا إذا دل الدليل على الكراهة .
ذكر الشيخ – رحمه الله – ثلاثة من الأصول التي يضطر إليها الفقيه في كل تصرفاته الفقهية ، فيحتاج إليها في استنباط الأحكام وفي الإفتاء ونحو ذلك ، وقد ذكر – هنا – ثلاثة أصول :
الأول :أن الأصل في أوامر الكتاب والسنة أنها تقتضي الوجوب ، وهذا قول الجمهور من أهل العلم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( أمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب ) «(1)» .
__________
(1) القواعد النورانية ص (26) .(1/34)
والأدلة على ذلك كثيرة جداً ، ومنها : قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور/63] ووجه الدلالة : أن الله تعالى توعد المخالفين لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفتنة : وهي الزيغ ، أو بالعذاب الأليم ، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب ، فدل على أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المطلق يقتضي الوجوب ، قال القرطبي – رحمه الله – : ( بهذا الآية استدل الفقهاء على أن الأمر للوجوب ) «(1)» .
ومنها قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب/36] قال القرطبي : ( هذا أدلُّ دليل على ما ذهب إليه الجمهور … من أن صيغة ( افعل ) للوجوب في أصل وضعها ، لأن الله تبارك وتعالى نفى خِيَرةَ المكلف عند سماع أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية ، ثم علق على المعصية بذلك الضلال ، فلزم حمل الأمر على الوجوب ) «(2)» .
ومن أمثلة ذلك : قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأعراف/204] فهذا أمر مطلق ، يفيد وجوب الاستماع و الإنصات عند قراءة القرآن مطلقاً في الصلاة وغيرها ، فيكون دليلاً على سقوط الفاتحة عن المأموم في الصلاة الجهرية إذا سمع قراءة الإمام ، ويرى بعض العلماء استثناء الفاتحة على القول بوجوبها ، من باب التخصيص ، والمسألة خلافية ، والمقصود الاستدلال بالآية على أن الأمر فيها للوجوب ، سواء دخلها التخصيص أم لا .
__________
(1) تفسير القرطبي (12/322) .
(2) تفسير القرطبي (14/188) .(1/35)
قوله : ( إلا إذا دل الدليل على الاستحباب أو الإباحة ) أي : أن الأمر لا يصرف عن الوجوب إلا بدليل يصرفه إلى غيره كالاستحباب أو الإباحة أو غيرهما ، ولعل الشيخ اقتصر عليهما لكثرتهما في النصوص ، وإلا فإن الأمر قد يرد لمعانٍ كثيرة .
فمثال الاستحباب حديث عبد الله بن مغفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صلوا قبل المغرب ، قال في الثالثة : لمن شاء .. ) «(1)» ، فقوله : ( لمن شاء ) قرينة على أن الأمر ليس للوجوب .
ومثال الإباحة : قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة/2] وقوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } [الجمعة/10] لأن هذا أمر وقع بعد حظر ، فإذا زال الحظر رجع إلى حالته قبله ، وهو الإباحة .
الأصل الثاني : أن النواهي تقتضي تحريم المنهي عنه إلا إذا دل الدليل على أنها مصروفة إلى غيره كالكراهة .
ومن أدلة ذلك : قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر/7] فأمر الله تعالى بالانتهاء عن المنهي عنه ، فيكون الانتهاء واجباً ، لأن الأمر المطلق يقتضي الوجوب ، كما تقدم ، يقول الإمام الشافعي – رحمه الله – : ( أصل النهي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل ما نهى عنه فهو محرم ، حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم ) «(2)» .
ومثال ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ) «(3)» ، فهذا نهي يقتضي تحريم الصلاة إلى القبور أو الجلوس عليها ، إذ لا صارف له عن ذلك .
__________
(1) أخرجه البخاري (1182) .
(2) الأم للشافعي (7/305) .
(3) أخرجه مسلم (972) من حديث أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - .(1/36)
فإن وُجد دليل يصرف النهي إلى الكراهة أُخذ به ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يمسنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ) «(1)» فالنهي عن مس الذكر باليمين محمول على الكراهة – على ما حكاه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – عن الجمهور «(2)» – ، والدليل الصارف له حديث قيس بن طلق بن علي عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه وضوء ؟ قال : ( لا ، إنما هو بَضْعَةٌ منك ) «(3)» ، والبضعة : بفتح الباء وسكون الضاد المعجمة : قطعة اللحم ، أي : كما لا ينتقض الوضوء من مس الجسد والأعضاء ، فكذا لا ينتقض من مس الذكر ، لأن الذكر قطعة من الجسد .
الحقيقة والمجاز
والأصل في الكلام : الحقيقة فلا يعدل به إلى المجاز – إن قلنا به – إلا إذا تعذرت الحقيقة ، والحقيقة ثلاثة : شرعية ، ولغوية ، وعرفية .
فما حكم به الشارع وحَدَّهُ : وجب الرجوع فيه إلى الحد الشرعي ، وما حكم به ولم يحدَّه اكتفاءً بظهور معناه اللغوي : وجب الرجوع فيه إلى اللغة ، وما لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة : رجع فيه إلى عادة الناس وعرفهم ، وقد يصرح الشارع بإرجاع هذه الأمور إلى العرف ، كالأمر بالمعروف ، والمعاشرة بالمعروف ونحوهما ، فاحفظ هذه الأصول التي يضطر إليها الفقيه في كل تصرفاته الفقيه .
هذا هو الأصل الثالث وهو يتعلق بالحقيقة والمجاز : فالأصل في الكلام الحقيقة ، وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له ، مثل كلمة ( أسد ) في الحيوان المفترس .
قوله : ( فلا يعدل به إلى المجاز … الخ ) المجاز : هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي ، مثل : رأيت أسداً يرمي ، تريد رجلاً شجاعاً .
__________
(1) أخرجه البخاري (153) ومسلم (267) (63) .
(2) فتح الباري (1/253) .
(3) أخرجه أبو داود (182-183) والنسائي (1/101) والترمذي (85) وهو حديث صحيح ، وله طرق .(1/37)
فلا يصار إلى المعنى المجازي إذ أمكن المعنى الحقيقي ، لأن الحقيقة أصل ، والمجاز فرع عنه ، لكن إذا تعذر حمل الكلام على الحقيقة فإنه يصار إلى المجاز ، ويتعلق به الحكم ، لأن إعمال الكلام خير من إهماله ، فإذا قال : والله لأكلن من هذه الشجرة ، فإن المراد ثمرها لا من خشبها لتعذر ذلك .
ومن أمثلة ذلك : قوله تعالى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } [النساء/43] فالمعنى الحقيقي لكلمة ( الغائط ) المكان المنخفض من الأرض تقضى فيه الحاجة رغبة في التستر ، ثم نقل وصار يطلق على الفضلة الخارجة من الإنسان ، فحمل اللفظ على حقيقته متعذر ، لأن مجرد المجيء من تلك المواضع ليس بحدث ينقض الوضوء ويوجب الطهارة ، فتعين حمله على المعنى المجازي ، وهو الخارج من السبيلين .
وقوله عن المجاز : ( إن قلنا به ) أشار به إلى الخلاف في المجاز وأن حمل اللفظ على مجازه مبني على إثبات المجاز .
وقد اختلف في وقوعه في القرآن ، فمن أهل العلم من نفاه مطلقاً ، ومنهم من أثبته، والأظهر التفصيل وهو أن المجاز واقع في القرآن ماعدا آيات الصفات ، فهي محمولة على حقيقتها ووجها اللائق بالله تعالى ، ويمتنع حملها على المجاز ، أما ما عداها فيدخله المجاز بشرطه المتقدم ، كقوله تعالى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف/82] ، وقوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل } [الإسراء/24] ، وقوله تعالى : { جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَض } [الكهف/77] ، وهذا مذهب طائفة من أهل السنة ، منهم الإمام الشافعي «(1)» – وإن لم يسمه مجازاً – والخطيب البغدادي «(2)» وذلك لأن القرآن نزل بلغة العرب ، والمجاز لغة العرب وعادتها.
__________
(1) انظر : الرسالة ص (62-63) .
(2) انظر : الفقيه والمتفقه (1/214) .(1/38)
وأما تعلق أهل البدع بالمجاز لنفي الصفات فلا يلزم منه نفي المجاز مطلقاً ، لأنه لا يلزم من إثبات المجاز في غير آيات الصفات ، إثباته في آيات الصفات ، لأن المجاز يحتاج إلى قرينة تمنع من حمل اللفظ على حقيقته – كما تقدم – وهذه القرينة ممكنة في غير آيات الصفات ، وممتنعة فيها عند أهل السنة ، لوجوب حملها على حقيقتها ، ثم إن تذرع هؤلاء المبتدعة بالمجاز لنفي الصفات يفسده عليهم وجوه أخرى من الاستدلال ليست هي إبطال القول بالمجاز ، والله أعلم .
قوله : ( والحقائق ثلاث : شرعية ، ولغوية ، وعرفية ) فالحقيقة الشرعية هي التي يعرف حدها بالشرع ، كلفظ الإسلام والإيمان والكفر والنفاق ، والصلاة والزكاة والصوم والحج .
واللغوية : هي التي يعرف حدها باللغة ، كالشمس والقمر ، والسماء والأرض ، ونحو ذلك .
والعرفية : هي التي يعرف حدها بعرف الناس وعاداتهم ، كلفظ البيع ، والنكاح والدرهم والدينار ، وغير ذلك .
قوله : ( فما حكم به الشارع وحَدَّهُ … الخ ) أشار بذلك إلى فائدة معرفة أقسام الحقيقة ، وذلك بأن يحمل كل لفظ على معناه الحقيقي في موضع استعماله ، فما حكم به الشرع وبين معناه ، وجب الرجوع فيه إلى المعنى الشرعي دون المعنى اللغوي ، مثل لفظ ( الصلاة ) فإن معناها الشرعي : الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم ، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( توضئوا من لحوم الإبل ) يرجع فيه إلى المعنى الشرعي ، وهو غسل الأعضاء الأربعة ، كما تقدم .
وما تكلم به الشرع ، ولم يحده اكتفاء بظهور معناه اللغوي يرجع فيه إلى اللغة ، فالشرع حكم بقطع يد السارق ، لكنه لم يبين حد السرقة ، فيرجع في معناه إلى اللغة ، وأمر بإعفاء اللحية ولم يبين حدها ، فيرجع في ذلك إلى المعنى اللغوي ، وهكذا .(1/39)
فإذا لم يوجد للفظ حد في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى عادة الناس وعرفهم ، كالسفر ، والحيض ، ومقدار الإطعام في كفارة اليمين ونحو ذلك ، فما عده الناس سفراً تعلقت به أحكامه ، من قصر وفطر وغيرهما ، والحيض يعود تقدير مدته إلى ما استقر عادة لكل امرأة ، وفي كفارة اليمين وصف الله الإطعام بقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [المائدة/89] فلم يقدر الشرع مقداراً معيناً ، فيرجع فيه إلى العرف ، فيطعم من أوسط ما يطعم أهله مقداراً ونوعاً ، والمراد من المتوسط الذي اعتاد الإنسان أن يطعم أهله منه ، فلا يجب عليه الأعلى ، ولا يجزئ الأدنى ، والله أعلم .
قوله : ( وقد يصرح الشارع بإرجاع هذه الأمور إلى العرف ) أي : كقوله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء/19] ، وقوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة/228] ، وقوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [الطلاق/2] وقوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوف } [النساء/6] ، وقوله تعالى : { وَأْمُرْ بِالْعُرْف } [لأعراف/199] ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند زوج أبي سفيان : ( خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف ) «(1)» ، وهذا يدل على أن المرجع في حقيقة المعاشرة ، وحق كل واحد من الزوجين على الآخر ، ومراجعة الزوجة أو مفارقتها، ومقدار أكل الفقير من مال اليتيم ، ومقدار أخذ الزوجة من مال زوجها ، كل ذلك يعتمد فيه على العرف .
__________
(1) أخرجه البخاري (2211) ومسلم (1714) .(1/40)
وظاهر كلام الشيخ أن الحقيقة اللغوية مقدمة على العرفية ، ولعل هذا غير مراد ، فقد ذكر علماء الأصول أن الأصل تقديم الحقيقة الشرعية في تفسير نصوص الشرع ، فما بينه الله ورسوله فقد عرف المراد منه ، ولا يحتاج بعد ذلك إلى بيان ولا تفسير ، فاسم الإيمان والإسلام ، والنفاق والكفر ، والصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يراد بها في كلام الله ورسوله ، وكذا لفظ الخمر وغيرها .يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ومما ينبغي أن يُعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم … فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله ، فإنه شافٍ كافٍ ) «(1)» ، فإن لم يكن للفظ معنى شرعي قدمت الحقيقة العرفية في تفسيره وبيانه ، والمراد بها استعمال الصحابة – رضي الله عنهم – وعرفهم للألفاظ ، لأن الشرع نزل بلغتهم وبعرفهم في الأصل ، يقول ابن تيمية : ( ولا يجوز أن يحمل كلامه [ أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ] على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه ، وخطاب أصحابه ، كما يفعله كثير من الناس ، وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه)«(2)» .
فإن لم يكن للفظ معنى شرعي ولا عرفي ، فُسِّر بحسب اللغة ولا ينتقل من الحقيقة إلى المجاز – عند القائل به – إلا إن تعذرت الحقيقة ، وقامت قرينة على المراد كما تقدم .
__________
(1) الإيمان لابن تيمية ص (271-272)
(2) المصدر السابق ص (111) .(1/41)
قوله : ( فاحفظ هذه الأصول ) غرض الشيخ من هذه الجملة حث طالب العلم على العناية بحفظ هذه الأصول المذكور والاستفادة منها في استنباط الأحكام الشرعية ، ولم يقصد بذلك حصر الأصول فيما ذكر ، فإنه سيذكر أصولاً أخرى في المباحث الآتية – إن شاء الله تعالى – لا تقل أهمية وفائدة عما ذكر هنا ، ولعله ذكر هذه الجملة هنا لأهمية هذه الأصول ، ولا سيما مبحث الحقيقة بأنواعها ، فإنها ركيزة أساسية لفهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه بفهم ذلك يحصل له التفقه بالكتاب والسنة ، والوقوف على مراد الله ورسوله ، فيأمن بذلك الغلط في تفسير النصوص ، ويسلم من طريقة أهل البدع الذين يفسرون ألفاظ الكتاب والسنة برأيهم واعتمادهم على العقل واللغة وكتب الأدب «(1)» .
من مباحث دلالات الألفاظ
العام والخاص
« فصل » ونصوص الكتاب والسنة ، منها : عام : وهو اللفظ الشامل لأجناس أو أنواع أو أفراد كثيرة ، وذلك أكثر النصوص .
ومنها : خاص يدل على بعض الأجناس أو الأنواع أو الأفراد ، فحيث لا تعارض بين العام والخاص ، عمل بكل منهما ، وحيث ظنَّ تعارضهما ، خُصَّ العام بالخاص .
عقد الشيخ – رحمه الله – هذا الفصل لأنواع من نصوص الكتاب والسنة ، وهي من مباحث دلالة الألفاظ ، وهي أربعة إجمالاً :
1-العام والخاص . 2-المطلق والمقيد . 3-المجمل والمبين . 4-المحكم والمتشابه .
1- العام والخاص :
عرف الشيخ – رحمه الله – العام بأنه اللفظ الشامل لأجناس أو أنواع أو أفراد كثيرة ، وهذا تعريف مختصر مفيد ، فالأجناس كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ } [النساء/1] ، والأنواع كقوله تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } [النساء/34] ، والأفراد الكثيرة كقوله تعالى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [الأحزاب/35] .
__________
(1) انظر : المصدر السابق ص (114) .(1/42)
ثم عرف الخاص بأنه : ما دل على بعض الأجناس ، مثل : هذا إنسان ، أو بعض الأنواع ، مثل : هذا رجل ، هذه امرأة ، أو بعض الأفراد ، مثل : حضر علي .
قوله : ( وحيث لا تعارض بين العام والخاص عُمل بكل منهما … ) أي: أن العام مع الخاص لهما حالتان :
الأولى : ألا يكون بينهما تعارض ، وهذا إذا ورد الخاص بحكم العام ، فلا يخصص العام به ، بل يعمل بكل منهما ، لعدم تعارضهما ، مثل : أكرم الطلبة ، ثم تقول : أكرم خالداً ، وهو من الطلبة ، فهذا لا يقتضي التخصيص ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) «(1)» فهذا نص عام في جميع أنواع الأرض من تراب ورمل وحجر ونحو ذلك ، وحديث حذيفة ( جعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) «(2)» فهذا خاص بالتراب ، فلا يخصص هذا الحديث الأول ، فيشترط التراب في التيمم ، بل يبقى الأول على عمومه ، فيجوز التيمم بكل نوع من أنواع الأرض ، والثاني على خصوصه ، لأن التربة فرد من أفراد الأرض ، والحكم فيهما واحد .
وفائدة ذكر الخاص مع دخوله في العام إما بيان عدم تخصيصه ، أو تفخيمه واثبات مزيته على غيره ، حيث أفرد في عنوان مستقل .
الحالة الثانية : أن يكون بينهما تعارض في الظاهر ، وذلك إذا كان للخاص حكم يخالف حكم العام ، فيخصص العام بالخاص .
__________
(1) أخرجه البخاري (335) ومسلم (521) بتمامه .
(2) أخرجه مسلم (1522) .(1/43)
والتخصيص : إخراج بعض أفراد العام بدليل متصل أو منفصل ، فالمتصل ، مثل : الاستثناء كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور/4-5 ] فإن هذا الاستثناء ( إلا الذين تابوا ) أخرج التائبين من عموم الآية ، فكلُّ القذفة فاسقون بذلك إلا التائبين ، فيبقى وصف الفسق في غير التائب منهم .
ومثال الشرط : كقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } [النساء/101] فالقصر مشروط بالضرب في الأرض ، وهو السفر ، فمن لم يسافر ليس له أن يقصر الصلاة .
والصفة كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من باع نخلاً مؤبراً فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ) «(1)» فقوله : ( مؤبراً ) صفة للنخل ، فهي مخصصة لعموم النخل ، ومفهومها أن النخل إن لم تؤبر فثمرتها للمشتري .
__________
(1) أخرجه البخاري (2204) ومسلم (1543) ، والتأبير : تلقيح النخل ، بوضع شيء من طلع النخلة الذكر في طلع الأنثى .(1/44)
والدليل المنفصل : كقوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } [البقرة/228] خص بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب/ 49] الدال على أن غير المدخول بها ليس عليها عدة ، وبقوله تعالى : { وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن } [الطلاق/4] الدال على أن المطلقة الحامل عدتها وضع الحمل ، وكقوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء/24] خص بقول - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ) « (1)» .
المطلق والمقيد
ومنها : مطلق عن القيود ، ومقيد بوصف أو قيد معتبر ، فيحمل المطلق على المقيد .
قوله : ( ومنها مطلق من القيود … ) أي : ومن نصوص الكتاب والسنة مطلق ومقيد ، فالمطلق : هو اللفظ الدال على فرد غير معين ، كطالب ، أو أفراد غير معينين كطلاب .
والمقيد : هو اللفظ الدال على فرد غير معين ، أو أفراد غير معينين ، مع اقترانه بصفة تحدد المراد منه ، كطالب مجتهد ، وطلاب مجتهدين .
وحكم المطلق أنه يعمل به على إطلاقه حتى يثبت تقييده ، لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها من إطلاق أو تقييد .
فقوله تعالى في ذكر المحرمات : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } [النساء/23] مطلق لم يقيد بالدخول ، فيعمل به على إطلاقه ، وتحرم أم الزوجة بمجرد العقد على البنت ، سواء دخل بها أم لم يدخل إذ لم يقم دليل على التقييد ، فتؤخذ على إطلاقها ، على أحد القولين «(2)» .
__________
(1) أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) .
(2) انظر : تفسير القرطبي (5/106) .(1/45)
وأما المقيد فقد يقيد بوصف أو قيد معتبر ، كالشرط ، كقوله تعالى في كفارة الظهار : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة/4] فجاء الصيام مقيداً بالتتابع وبكونه قبل التماس ، فيعمل به على تقييده بهذين القيدين ، وكقوله تعالى في كفارة اليمين : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } [المائدة89] فالصيام مقيد بألا يجد رقبة ولا طعاماً ولا كسوة .
وقول الشيخ : ( ومقيد بوصف أو قيد معتبر ) هذا تعميم بعد تخصيص ، فإنه نصَّ على الوصف ، ثم عمم ، فيدخل في ذلك الشرط كما مُثَّلَ ، والتقييد بالغاية كقوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة/187] فالصوم مقيد بغاية وهي الليل .
وقول الشيخ : ( فيحمل المطلق على المقيد ) أي : إذا ورد اللفظ مطلقاً في نص ومقيداً في نص آخر حمل المطلق على المقيد إذا كان حكمهما واحداً كقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّم } [المائدة/3] فجاء الدم مطلقاً في هذه الآية ، وقيد بالمسفوح في آية الأنعام { إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } [الأنعام /145] فيحمل المطلق على المقيد ، لاتحاد الحكم وهو : تحريم الدم ، فلا يحرم إلا الدم المسفوح ، وهو الدم الجاري ، وأما غير المسفوح فهو معفو عنه ، كالذي يوجد في اللحم ، أو في العروق ، وقد نقل القرطبي في تفسيره الإجماع على ذلك «(1)» .
__________
(1) تفسير القرطبي (7/124) .(1/46)
ومنه – أيضاً – قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْن } [النساء/11] فجاءت الوصية في هذه الآية مطلقة ، لكن قيد هذا الإطلاق في حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الثلث ، والثلث كثير )«(1)» ، فدل على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث ، وجاء الدين في الآية مطلقاً ، لكن قيد في قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } [النساء/12] فدل على أن الدين مقيد بعدم المضارة به ، فلا يقدم من الديون على الميراث إلا الدين الصحيح الذي لم يقصد به مضارة الورثة .
المجمل والمبين
ومنها: مجمل ومُبَيَّنٌ ، فما أجمله الشارع في موضع ، وبينه ووضحه في موضع آخر : وجب الرجوع فيه إلى بيان الشارع ، وقد أجمل في القرآن كثير من الأحكام وبينتها السنة ، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه المبين عن الله .
3- المجمل والمبيَّن : وهما من أنواع نصوص الكتاب والسنة .
فالمجمل : ما يتوقف فهم المراد منه على غيره ، إما في تعيينه أو بيان صفته أو مقداره ، وهذا يفيد أن المجمل لا يدل على المراد منه بنفسه ، ولا يمكن معرفته من نفس اللفظ ، ولا بمجرد الاجتهاد الفقهي في تفسيره ، بل لابد من مُبَيِّنٍ يوضح المراد ، وليس معنى ذلك أن المجمل هو ما لا يفهم منه معنى ، وإنما المراد أنه لا يكفي وحده في العمل به ، بل لا بد له من بيان ممن أجمله .
وأسباب الإجمال ثلاثة :
__________
(1) أخرجه البخاري (1295) ومسلم (1628) .(1/47)
1- عدم تعيين المراد إما لكون اللفظ مشتركاً بين معنيين أو أكثر كلفظ ( القرء ) في قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } [البقرة/228] فإن ( القرء ) لفظ مشترك بين الحيض والطهر ، فيحتاج في تعيين أحدهما إلى دليل ، أو لغرابة اللفظ كلفظ ( هلوعاً ) في قوله تعالى : { إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } [المعارج:19] بين الله مراده منه بعد ذلك فقال : { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً } [المعارج / 20-21] ومثل كلمة ( القارعة ) في قوله تعالى : { الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ } [القارعة/1-2] بينه الله تعالى بقوله : { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } … الآيات [القارعة/4] ولو لا بيان الله تعالى لم نفهم منها هذا المعنى .
2- عدم معرفة الصفة كقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } [البقرة/43] فإن كيفية إقامة الصلاة مجهولة تحتاج إلى بيان .
3- عدم معرفة المقدار ، كقوله تعالى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } [البقرة/43] فإن مقدار الزكاة مجهول يحتاج إلى بيان .
وأما المبيَّن : فهو بضم الميم وفتح الياء مشددة على زنة اسم المفعول ، بمعنى المظهر الموضَّح ، واصطلاحاً : ما يفهم المراد منه إما بأصل الوضع أو بعد التبيين .
فالأول كلفظ سماء ، أرض ، باب ، عدل ، صدق ، والثاني كقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } [البقرة/43] فإن الإقامة والإتيان كل منهما مجمل – كما تقدم – ولكن الشارع بينهما ، فصار لفظهما مبيناً بين التبيين .
وأما المبيِّن : بكسر الياء ، بزنة اسم الفاعل ، فهو الموضِّح لإجمال المجمل الكاشف عن المراد بالخطاب .(1/48)
وينبغي أن يعلم أن البيان ليس خاصاً بالمجمل ، بل هو أعم من ذلك ، فإن تخصيص العام بيان ، وتقييد المطلق بيان ، لوجود معنى الإظهار والإيضاح ، وقد استهل الشافعي – رحمه الله – كتابه ( الرسالة ) بـ( باب البيان ) ثم ذكر وجوهاً متعددة تدل على أن البيان عام في المجمل وغيره «(1)» .
قوله : ( فما أجمله الشارع في موضع وبينه في موضع آخر … ) دل على أمرين :
الأول : وقوع المجمل في الكتاب والسنة ، كما في آيات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك ، وحكمة ذلك – والله أعلم – بالنسبة للوضع العربي تشويق النفس إلى البيان ، وتشوفها إلى الإطلاع على المقصود ، فإذا بُيِّنَ أتضح ورسخ في الذهن أكثر مما لو ورد اللفظ مبيناً لأول مرة ، وبحسب الحكم الشرعي فإن سامع المجمل يستعد ويعقد العزم على العمل بالمجمل متى حصل بيانه ، فيؤجر على ذلك .
الثاني : أن المجمل قد حصل بيانه من الشارع ، فلم يترك البيان عند الحاجة إليه أبداً ، وذلك أن ما يثبت به التكليف العملي ويتصل به الفقه فإنه يستحيل استمرار الإجمال فيه ، فلا بد أن يكون الشارع قد بينه ، فإن كان البيان وافياً قطعياً انتقل من وصف المجمل إلى وصف ( المبيَّن ) وإن بينه الشرع ببعض البيان مع بقية خفاء ، صار من قسم ( المشكل ) فيحتاج إلى نظر واجتهاد لإزالة إشكاله ومعرفة المراد منه ، وكأن الشارع لما بين ما أجمله بعض التبيين فتح الباب للتأمل والاجتهاد لمعرفة المعنى المقصود من ذلك ، كالربا ، فإنه ورد في القرآن مجملاً ، وبينته السنة بحديث الأصناف الستة التي يجري فيها الربا ، ولكن هذا البيان فيه بقية خفاء ، لأنه لم يحصر الربا فيها ، فجاز الاجتهاد لبيان ما يمكن أن يقاس على الأصناف المنصوص عليها .
__________
(1) الرسالة ص (21) .(1/49)
قوله : ( وقد أجمل في القرآن كثير من الأحكام … ) أي : أن كثيراً من الأحكام الشرعية جاءت مجملة في القرآن ، فبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله أو بفعله أو بقوله وفعله كما في الصلاة والصوم والزكاة والحج ، وغير ذلك ، ولم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - البيان عند الحاجة إليه أبداً ، بل ترك الأمة على شريعة بيضاء نقية ليلها كنهارها ، قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم } [النحل/44] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد تركتكم على مثل البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) «(1)» .
المحكم والمتشابه
ونظير هذا : أن منها محكماً ومتشابهاً ، فيجب إرجاع المتشابه إلى المحكم .
4- المحكم والمتشابه :
المحكم : ما اتضح معناه وتبين .
والمتشابه : ما خفي معناه ، والمراد بذلك الإحكام الخاص والتشابه الخاص ، وهما المذكوران في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [آل عمران/7] وهما المقصودان غالباً إذا أطلق الإحكام والتشابه ، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن الإمام أحمد – رحمه الله – أنه قال : ( المحكم الذي ليس فيه اختلاف ، والمتشابه : الذي يكون في موضعٍ كذا ، وفي موضعٍ كذا ) «(2)» .
__________
(1) أخرجه أحمد (4/126) وابن ماجة (43) ، وهو حديث صحيح له شواهد ، فانظر : السنة لابن أبي عاصم (1/27) .
(2) الفتاوى (13/275) .(1/50)
قوله : ( فيجب إرجاع المتشابه إلى المحكم ) هذا شأن الراسخين في العلم أنهم يرجعون المتشابه إلى المحكم فيتضح المراد ، ويصير كله محكماً ، لكن هذا مراد به المتشابه الذي يمكن اتضاحه والبحث عن بيانه ، وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه المجمل كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية «(1)» ، أما إن أريد بالمتشابه ما استأثر الله بعلمه ، فهذا لا سبيل إلى معرفته ، ويجب الإيمان به ، ورده إلى الله تعالى ، وهي طريقة الراسخين في العلم ، كما سيأتي .
وقد دلت الآية المذكورة على أمرين :
الأول : أن المتشابه قليل بالنسبة للمحكم ، لأن الله تعالى جعل المحكم { أُمُّ الْكِتَاب } وأُمُّ الشيء : معظمه وأكثره ، وأما المتشابه فذكره بلفظ يدل على التقليل ، وذلك لأن الله تعالى أنزل القرآن مُبَيَّناً لا لبس فيه ولا إشكال ، ليتأتى تدبره والعمل بما فيه ، لكن قد يشتبه شيء منه على بعض الناس دون بعض ، فيحتاج إلى أهل العلم لإزالة ذلك .
الثاني : أن الناس أمام التشابه فريقان :
الأول : أهل الزيغ والضلال عن الحق ، وهؤلاء هم الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) «(2)» .
الثاني : الراسخون في العلم : وهم الذين يردون المتشابه إلى المحكم ، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ، وإلا قالوا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } أي : محكمه ومتشابهه حق .
والمتشابه نوعان :
نسبي : يخفى على أحد دون أحد «(3)» .
مطلق : يخفى على كل أحد .
__________
(1) الفتاوى (13/272، 273، 276) .
(2) أخرجه البخاري (4547) ومسلم (2665) .
(3) الفتاوى (3/62) (13/144) .(1/51)
فالأول كقوله تعالى : { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [فاطر/8] فقد تشتبه هذه الآية على من يظن أن هداية الله تعالى وإضلاله ليس لها سبب ، فنجد آيات أخرى تكشف هذا الاشتباه وتجليه كقوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلام } [المائدة/16] وقوله تعالى : { فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [لأعراف/30] .
والثاني : مثل كيفية صفات الله تعالى ، فهي من قبيل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، وأما معانيها فهي واضحة لا خفاء فيها ، كما قال الإمام مالك – رحمه الله – لما سئل عن استواء الله على عرشه ، فقال : ( الكيف غير معلوم ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ) .
ومنه – أيضاً – حقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار ، قال تعالى : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة/17] قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ) «(1)» .
وينبغي أن يعلم أن البحث في المتشابه الذي استأثر الله بعلمه لا يتصل به شيء من التكليف ، وكان الأولى عدم ذكره في أصول الفقه لهذا لسبب ، لكنهم يذكرونه من باب تتمة القول في دلالات الألفاظ وأنواع نصوص الكتاب والسنة ، والله أعلم .
مبحث النسخ والتعارض بين الأدلة
__________
(1) أخرجه ابن حزم في النحل (2/108) وقال : ( هذا سند غاية في الصحة ) وقال المنذري في الترغيب (4/560) : ( رواه البيهقي بإسناد جيد ) .(1/52)
ومنها ناسخ ومنسوخ ، والمنسوخ في الكتاب والسنة قليل، فمتى أمكن الجمع بين النصين ، وحمل كل منهما على حال : وجب ذلك ، ولا يعدل إلى النسخ إلا بنص من الشارع أو تعارض النصين الصحيحين اللذين لا يمكن حمل كل منهما على معنى مناسب ، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم ، فإن تعذر معرفة المتقدم والمتأخر : رجعنا إلى الترجيحات الأخر.
ذكر الشيخ هنا من أنواع النصوص : الناسخ والمنسوخ ، ثم وصل الكلام فتحدث عن التعارض وكيفية الخروج منه ، وذلك لأن من طرق درء التعارض القول بالنسخ ، فرأى أن يتمم طرق الخروج عن التعارض .
تعريف التعارض ومقدار المنسوخ :
والنسخ لغة : الرفع والإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل : أزالته ، ونسخت الكتاب : رفعت منه إلى غيره ، واصطلاحاً : رفع حكم شرعي عملي أو لفظه بدليل شرعي متأخر عنه .(1/53)
قوله : ( والمنسوخ في الكتاب والسنة قليل ) أي : أن النسخ ثابت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لقوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة/106] وقوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [النحل/101] ، لكن المنسوخ قليل ، وأكثر نصوص الشريعة محكمة ، وقد ذكر من ألَّف في الناسخ والمنسوخ آيات كثيرة ، لكن منهم المكثر الذي اشتبه عليه الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه ، ولعل من أسباب ذلك إطلاق النسخ على الاستثناء والتخصيص والتقييد وغير ذلك مما ورد عن الصحابة وسلف هذه الأمة ، ومنهم المتحري الذي اعتمد على النقل الصحيح في النسخ ، وذلك أن النسخ ليس من الأمور الاجتهادية بل هو قائم على شروط وضوابط حددها العلماء ، وبتطبيق ذلك لا يثبت النسخ إلا في آيات وأحاديث قليلة جداً .
طرق درء التعارض :
قوله : ( فمتى أمكن الجمع بين النصين وحمل كل منهما على حال وجب ذلك ) شرع الشيخ في الكلام على التعارض وطرق درئه ، والتعارض : هو تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر ، وقد ذكر الطريق الأول لدرء التعارض ، وهو الجمع بين النصين وأنه مقدم على النسخ ، لأن الجمع فيه إعمال لكلا الدليلين ، والنسخ فيه إلغاء لأحد الدليلين .
والجمع هو : بيان التوافق والائتلاف بين الأدلة ، إما ببناء العام على الخاص ، أو بحمل المطلق على المقيد ، أو بتأويل أحد الدليلين على معنى مناسب بلا تكلف .(1/54)
ومن أمثلة ذلك : حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها )«(1)» مع حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، والله أعلم أذكر الثالث أم لا ؟ ثم يخلف قوم يحبون السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا )«(2)» ففي الأول مدح من أتى بالشهادة قبل أن تطلب منه ، وذلك بإثبات الخيرية ، وفي الثاني ذمه حيث سيق مساق الصفات المذمومة ، وقد جمع العلماء بينهما بأجوبة لعل من أظهرها أن حديث زيد بن خالد محمول على شهادة لا يعلم بها صاحب الحق ، فيأتي الشاهد إليه فيخبره بها ، لأجل أن يحفظ له حقه بهذه الشهادة ، أو يكون في حقوق الله تعالى التي لا طالب لها ، لا في حقوق الآدميين ، وهذا مبني على أن الشهادة لا تؤدى قبل أن يطلبها صاحب الحق ، كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
قوله : ( ولا يعدل إلى النسخ إلا بنص الشارع ) هذا الطريق الثاني لدفع التعارض ، وهو العدول إلى النسخ ، والنسخ له شرطان :
الأول : النص من الشارع على أن هذا متأخر وهذا متقدم ، فينسخ المتأخر المتقدم .
الثاني : تعذر الجمع بين الدليلين .
ومثال ذلك حديث بريدة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) «(3)» فقوله : ( فزوروها ) نص من الشارع على أن النهي قد نسخ .
__________
(1) أخرجه مسلم (1719) .
(2) أخرجه مسلم (2534) .
(3) أخرجه مسلم (977) .(1/55)
ومثاله – أيضاً – حديث الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة )«(1)» فقوله : ( وأن الله قد حرم ذلك …) نص من الشارع على أن الإباحة قد نسخت .
وكذا يثبت النسخ بخبر الصحابي كقول علي - رضي الله عنه - : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك ، وأمرنا بالجلوس )«(2)» . وقول جابر - رضي الله عنه - : ( كان آخرَ الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركُ الوضوء مما مست النار )«(3)» .
قوله : ( فإن تعذر معرفة المتقدم والمتأخر رجعنا إلى الترجيحات الأُخر) .
هذا الطريق الثالث من طرق درء التعارض وهو الترجيح ، وهو تقديم المجتهد أحد الدليلين المتعارضين لما فيه من مزية معتبرة ، تجعل العمل به أولى من الآخر ، ولا يعدل إلا الترجيح إلا إذا تعذر الجمع والنسخ ، والمرجحات كثيرة .
__________
(1) أخرجه مسلم (1406) (21) .
(2) أخرجه مسلم (962).
(3) أخرجه أبو داود (192) والترمذي (80) والنسائي (1/108) وابن ماجة (489) وأحمد (22/164) من طرق عن جابر - رضي الله عنه - ، وهو حديث صحيح ، ويشهد له ما رواه البخاري (5457) عن جابر - رضي الله عنه - أنه سئل عن الوضوء مما مسته النار ، فقال : لا .(1/56)
ومثال الترجيح : حديث أسامة - رضي الله عنه - ( إنما الربا في النسيئة )«(1)» فهذا كالصريح في نفي ربا الفضل ، وورد حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء )«(2)» وفيه إثبات ربا الفضل ، فوقع التعارض في الظاهر .
ومن طرق درء هذا التعارض : ترجيح حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - ، لأن حديث أسامة رواية صحابي واحد ، وأحاديث منع ربا الفضل عن جماعة من الصحابة ، ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت من رواية الواحد ، والترجيح هو أحد طرق درء التعارض بين الحديثين «(3)» ، والله أعلم .
ومن أمثلة ذلك – أيضاً – : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من مس ذكره فلا يصلِّ حتى يتوضأ )«(4)» ، وحديث قيس بن طلق بن علي عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء ؟ قال : ( لا ، إنما هو بضعة منك )«(5)» ، فمن قال بالترجيح رجح الأول لوجوه :
1- أن العمل به أحوط .
2- لأنه أكثر طرقاً ومصححيه أكثر .
__________
(1) أخرجه مسلم بهذا اللفظ (3/1218) وأخرجه البخاري بلفظ ( لا ربا إلا في النسيئة ) (4/381 فتح) .
(2) أخرجه مسلم (3/1211) .
(3) انظر : فتح الباري (4/372) .
(4) أخرجه أبو داود (181) ، والنسائي (1/100) ، والترمذي (82) ، وأحمد (6/406) ، وأخرجه أحمد (6/406) ، وابن ماجه (1/176) ، من طريق آخر ، والحديث صححه الترمذي ، والإمام أحمد ، كما في (مسائل أبي داود )ص (309) وهو مروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كأبي هريرة وجابر وبسرة بنت صفوان وغيرهم .
(5) تقدم تخريجه .(1/57)
3- لأنه ناقل عن البراءة الأصلية ، وهي عدم إيجاب الوضوء ، والناقل يقدم على المبقي ، لأن مع الناقل زيادة علم ، حيث أفاد حكماً شرعياً ليس موجوداً عند المبقي على الأصل .
وأعلم أنه لا يمكن التعارض بين النصوص على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ ولا الترجيح ، لأن الأدلة لا تتناقض ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلَّغ وبيَّن ، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد ، إما لنقص في علمه ، أو خلل في فهمه ، وعلى هذا فأقل أحوال درء التعارض هو الترجيح ، والقول بأنه قد لا يمكن الترجيح ، وحينئذٍ يتوقف المجتهد فيه نظر ظاهر ، فإنه لا بد من الترجيح إما عن طريق الإسناد ، أو عن طريق المتن ، وهي وجوه كثيرة ، ولن يعدم المجتهد وجهاً واحداً يدرء التعارض ، والعلم عند الله تعالى .
تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله
ولهذا إذا تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله : قدم قوله ، لأنه أمر أو نهي للأمة ، وحمل فعله على الخصوصية له ، فخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الأصل .
لما ذكر الشيخ شيئاً عن تعارض النصوص ، رأى أن يذكر حكم تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله ، وموضوع تعارض القول والفعل اهتم به الأصوليون ، بل أُفرد في مصنفات مستقلة ، ومن ذلك كتاب « تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال » للحافظ العلائي ( م 761هـ ) وهو مطبوع ، وهو من أحسن ما أُلِّف في هذا الموضوع ، أثنى عليه الحافظ ابن حجر وهو من تلاميذ العلائي ، وقال : ( إنه مصنف جليل )«(1)» .
فإذا تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله قدم قوله ، لأنه خطاب للأمة ، وحمل فعله على الخصوصية له ، وهذا ما قرره الشيخ ، وقال به بعض الأصوليين .
وفيه نظر لأمرين :
__________
(1) فتح الباري (13/274) .(1/58)
الأول : أن حمل الفعل على الخصوصية يحتاج إلى دليل ، لأن الأصل عدمها ، كما سيأتي – إن شاء الله – ، ويؤيد ذلك أنه جاء بعض الأفعال المعارضة للقول ، ولا يصح حملها على الخصوصية كما سترى .
الثاني : أن الحكم بالخصوصية يفضي إلى ترك العمل بشطر السنة ، وهي السنة الفعلية .
والأظهر في هذه المسألة أنه إذا تعارض القول الفعل وقام دليل على أن الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - حكم بها ، كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك يا رسول الله تواصل ؟ قال : ( وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )«(1)» فهذا دليل واضح على أنه لا تعارض بين وصاله ونهيه عن الوصال ، لأن الوصال مختص به ، على أحد الأقوال «(2)» .
فإن لم يوجد دليل الخصوصية لم يحكم بها ، لأن الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاركة الأمة له في الأحكام ، إلا ما دل الدليل على تخصيصه به ، ولا ريب أن الأصل في التشريع وخطاب الأمة هو القول ، ولا يتطرق إليه من الاحتمالات ما يتطرق للفعل ، لكن إذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر وفعل خلافه ، أو نهى عن شيء وفعله فإما أن يكون الفعل مخصصاً للقول ، أو محمولاً على بيان الجواز ، أو أنه ناسخ للقول ، إلى غير ذلك مما تتم معرفته باستقراء مواضع التعارض والنظر في الأدلة والقرائن التي يستفاد منها في تحديد المراد .
ومن أمثلة ذلك :
ما روى أبو سعيد الخدري وأنس ابن مالك – رضي الله عنهما – ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر عن الشرب قائماً ) وفي لفظ : ( نهى أن يشرب الرجل قائماً )«(3)» .
__________
(1) أخرجه البخاري (1965) ومسلم (1103) .
(2) انظر : فتح الباري (4/204) .
(3) أخرجه مسلم (2024) .(1/59)
وبوب البخاري في صحيحه ، في كتاب ( الأشربة ) باب ( الشرب قائماً ) وذكر فيه عن النزَّال بن سبرة ، قال : ( أُتي علي - رضي الله عنه - على باب الرحبة بماء فشرب قائماً فقال: إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم ، وإني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ، كما رأيتموني فعلت )«(1)» .
فنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب قائماً وشربه قائماً بينهما تعارض في الظاهر ، ولا يمكن حمل الفعل على الخصوصية ، لفعل علي - رضي الله عنه - ، والظاهر أن النهي محمول على التنزيه ، وشربه قائماً لبيان الجواز «(2)» ، ولا يكون مكروهاً في حقه أصلاً ، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( سقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من زمزم ، فشرب وهو قائم )«(3)» .
وهذا يقوي القول بنسخ النهي ، لأن هذا الفعل كان في حجة الوداع ، وما ورد فيها من أحكام وهو معارضٌ أحكاماً غير معلومة التاريخ ؛ فهو ناسخ لتلك الأحكام ، لأن في هذه الحجة كمال الدين ، وجميع الأحكام الواردة فيها محكمة .
ومن الأمثلة أيضاً : حديث أبي هريرة وعائشة – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( توضئوا مما مست النار )«(4)» ، وقد عارض ذلك ما ورد عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه - صلى الله عليه وسلم - : ( أكل كتف شاة ثم صلَّى ولم يتوضأ )«(5)» ، وقال جابر - رضي الله عنه - : (كان آخرَ الأمرين من رسول الله تركُ الوضوء مما مست النار ) «(6)» .
__________
(1) أخرجه البخاري (5615) .
(2) انظر : فتح الباري (3/493) .
(3) أخرجه البخاري (1637) .
(4) أخرجه مسلم (352) (353) .
(5) أخرجه مسلم (354) .
(6) تقدم تخريجه .(1/60)
فذهب بعض الصحابة ، ومنهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، والأئمة الأربعة – رحمهم الله – إلى أنه لا يجب الوضوء مما مست النار ، لأنه لا يتعارض الفعل والقول ، ولما كان الفعل متأخراً صار ناسخاً للقول ، لأنه يشمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن المخاطب يدخل في عموم خطابه على الراجح ، ما لم يرد دليل على خلافه ، فالقول بالنسخ هنا قوي ، والله أعلم .
وقوله : ( فخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - تنبني على هذا الأصل ) ظاهره أن التعارض بين قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله هو الطريق الوحيد لمعرفة الخصائص النبوية ، وهذا فيه نظر ، فإن كثيراً من الخصائص مجرد عن التعارض ، بل إن من الخصائص ما ثبت بالنص ، كقوله تعالى عن النكاح بلفظ الهبة : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب/50] وكما تقدم في الوصال وغير ذلك مما هو مقرر في محله ، والله أعلم .
الأفعال النبوية والتقريرات
وكذلك إذا فعل شيئاً على وجه العبادة ، ولم يأمر به ، فالصحيح : أنه للاستحباب ، وإن فعله على وجه العادة : دل على الإباحة .
وما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال حكم عليه بالإباحة أو غيرها على الوجه الذي أقره .
تقدم أن السنة قول وفعل وتقرير ، وقد انتهى الكلام على القول ، وأشار بهذا إلى الفعل إشارة موجزة ، فذكر أن له وجهين :
الأول : ما فعله على وجه الطاعة والقربة والعبادة ، فالراجح أنه مستحب ، فنفعل مثل فعله ، لأن القربة طاعة ، وهي غير خارجة عن الواجب والمندوب ، والقدر المشترك بينهما ترجيح الفعل على الترك ، وهذه حقيقة المندوب .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ( وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعبد فهو عبادة ، يُشرع التأسي به فيه ، فإذا خصص زماناً أو مكاناً بعبادة ، كان تخصيصه تلك العبادة سنة ) «(1)» .
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/409) .(1/61)
ومن أمثلة ذلك : صلاة التطوع ، وصدقة التطوع ، ومنه ما ورد عن شريح بن هانئ ، قال : سألت عائشة – رضي الله عنها – : بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته ؟ قالت : ( بالسواك ) «(1)» .
وقول المصنف : ( ولم يأمر به ) أي : أن الفعل مجرد لم يرد فيه أمر .
الثاني : ما يفعله على وجه العادة ، والظاهر أن الشيخ – رحمه الله – يقصد بذلك ما سوى أمور الطاعة والقربة ، فيدخل في ذلك الأمور الجبلية والمعاملات والآداب وغيرها ، وهذا في الغالب ما عليه الأصوليون والفقهاء في تفسير الأمور العادية «(2)» التي لا تدل على قربة أو عبادة ، وذلك كأكله - صلى الله عليه وسلم - ونوع طعامه ، ولباسه ، وكلامه ، ومشيه ، ونومه ، ونحو ذلك ، فهذا حكمه الإباحة ، والمشهور عند الأصوليين أنه لا أسوة فيه ، لكن إن كان لهذا الفعل هيئة مخصوصة ، وصفة معروفة كهيئة أكله أو نومه ونحو ذلك فهذا يكون مشروعاً من هذا الوجه ، فيكون مستحباً ، والله أعلم .
وبقي نوع ثالث من الأفعال النبوية : وهو ما فعله - صلى الله عليه وسلم - بياناً لمجمل ، ولعل الشيخ تركه اكتفاء بالإشارة إليه في موضوع المجمل ، وهذا النوع من الأفعال حكمه حكم المبيَّن ، فإن كان المبين واجباً كان الفعل واجباً ، وإن كان مندوباً فمندوب «(3)» ، لأن المقصود به البيان والتشريع ، كأفعال الصلاة ومناسك الحج ، وغير ذلك ، هذا هو المشهور عند أكثر الأصوليين .
__________
(1) أخرجه مسلم (254) .
(2) انظر : ( أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) للدكتور : محمد بن سليمان الأشقر (1/237) .
(3) شرح تنقيح الفصول ص (288) .(1/62)
وأما التقرير : فهو ترك الإنكار على ما عَلِمَ به من قول أو فعل ، والتقرير حجة ، لأنه قسم من أقسام السنة النبوية ، وقد نقل الحافظ ابن حجر الاتفاق على الاحتجاج به «(1)» ، ودليل حجيته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن أن يقر أحداً على خطأ أو معصية فيما يتعلق بالشرع ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة .
وشرط حجيته : أن يعلم بوقوع الفعل أو القول ، وذلك بأن يقع بحضرته ، أو في زمنه وهو عالم به لانتشاره انتشاراً يبعد معه ألا يعلم به .
وحكمه الإباحة ، وقد يفيد الوجوب أو الاستحباب من دليل آخر ، ومن أمثلة ذلك : أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - سئل وهو غادٍ إلى عرفة : كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : ( كان يُهل منا المهل فلا يُنكر عليه ، ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه ) «(2)» .
فهذا يدل على أن الحاج مخير في هذا اليوم بين التكبير والتلبية ، لتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم على ذلك «(3)» .
ومن ذلك قول ابن عباس – رضي الله عنهما – : ( أقبلت راكباً على حمار أتان ، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار ، فمررت بين يدي بعض الصف ، فنزلت ، وأرسلت الأتان ترتع ، ودخلت في الصف ، فلم ينكر ذلك علي أحد ) «(4)» .
فهذا يدل على أن المرور بين يدي المأموم لا يضر ، لأن ابن عباس – رضي الله عنهما – بترك الإنكار على جواز ذلك «(5)» .
__________
(1) فتح الباري (3/323) .
(2) أخرجه البخاري (1659) .
(3) فتح الباري (3/510) .
(4) أخرجه البخاري (493) .
(5) انظر : فتح الباري (1/572) .(1/63)
ومن ذلك – أيضاً – إقراره - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - على قوله بإعطاء سلب القتيل لقاتله «(1)» ، والله أعلم .
الدليل الثالث : الإجماع
« فصل » وأما الإجماع : فهو اتفاق العلماء المجتهدين على حكم حادثة ، فمتى قطعنا بإجماعهم : وجب الرجوع إلى إجماعهم ، ولم تَحِلَّ مخالفتهم ، ولا بد أن يكون هذا الإجماع مستنداً إلى دلالة الكتاب والسنة .
الإجماع في اللغة : الاتفاق ، يقال : أجمع القوم على كذا : اتفقوا عليه ، ويطلق على العزم ، يقال : أجمعت السفر ، وعلى السفر : إذا عزمت عليه .
واصطلاحاً : كما ذكر الشيخ ، وهو تعريف مختصر وافٍ بالمراد .
قوله : ( اتفاق العلماء ) هذا قيد في التعريف ، يخرج وجود خلاف ولو من واحد ، فلا ينعقد معه الإجماع ، لأن من الجائز إصابة الأقل ، وخطأ الأكثر ، كما كشف الوحي عن إصابة عمر - رضي الله عنه - في أسرى بدر .
قوله : ( المجتهدين ) جمع مجتهد ، وهو الفقيه الذي له القدرة على استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ، وهذا القيد يخرج المقلدين والعوام ، فلا عبرة بهم في الإجماع لا وفاقاً ولا خلافاً .
قوله : ( على حكم حادثة ) المراد بها : الواقعة من الوقائع التي تستدعي بيان حكم الشرع فيها .
قوله : ( فمتى قطعنا بإجماعهم … ) أي : أن الإجماع القطعي هو ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة ، كالإجماع على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام ، وعلى تحريم الزنا والربا ، ونحو ذلك .
وهذا النوع من الإجماع له ثلاثة أحكام :
أنه يجب الرجوع إليه والأخذ به ، إذ لا خلاف في كونه حجة .
أنه لا تحل مخالفته ، إذ لا أحد ينكر ثبوته .
أنه يكفر مخالفه إذا كان ممن لا يجهله ، لأنه مقطوع بوقوعه «(2)» .
__________
(1) أخرجه البخاري (3142) ومسلم (1751) والسلب : ما على القتيل من ثياب أو سلاح وغيرهما .
(2) الفتاوى (19/270) (20/10) .(1/64)
وأما الإجماع الظني ، فلا يقطع بوقوعه ، لأنه لا يعلم إلا بالتتبع والاستقراء ، والأظهر أنه غير ممكن إلا في عصر الصحابة – رضي الله عنهم – وأما بعدهم فهو متعذر غالباً ، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية «(1)» .
قوله : ( ولا بد أن يكون الإجماع مستنداً إلى دلالة الكتاب والسنة ) أي : أن الإجماع ليس دليلاً مستقلاً تثبت به الأحكام الشرعية ، وإنما تابع للكتاب والسنة ، إذ لا يوجد مسألة مجمع عليها إلا وفيها نص «(2)» ، إذ لا يمكن أن يكون إجماع هذه الأمة عن هوى أو قولاً على الله بغير علم أو دون دليل ، والله أعلم .
الدليل الرابع : القياس
« فصل » وأما القياس الصحيح : فهو إلحاق فرع بأصل لعلة تجمع بينهما . فمتى نص الشارع على مسألة ، ووصفها بوصف ، أو استنبط العلماء أنه شرعها لذلك الوصف ، ثم وُجِدَ ذلك الوصف في مسألة أخرى لم ينصَّ الشارع على عينها ، من غير فرق بينها وبين النصوص : وجب إلحاقها بها في حكمها ، لأن الشارع حكيم لا يفرق بين المتماثلات في أوصافها ، كما لا يجمع بين المختلفات .
وهذا القياس الصحيح : هو الميزان الذي أنزله الله ، وهو متضمن للعدل ، وما يعرف به العدل .
والقياس : إنما يعدل إليه وحده إذا فُقِدَ النص ، فهو أصل يرجع إليه إذا تعذر غيره ، وهو مؤيد للنص ، فجميع ما نص الشارع على حكمه فهو موافق للقياس لا مخالف له .
القياس في اللغة : التقدير . يقال : قاسَ الثوب بالذراع : إذا قدره به ، وهو يستلزم وجود شيئين يقدر أحدهما بالآخر .
واصطلاحاً : كما ذكر الشيخ ، وهو تعريف مختصر مفيد ، والمراد بالإلحاق تعدية الحكم في مسألة منصوص عليها ، إلى مسألة غير منصوص عليها مساوية لها في العلة ، وهو يدل على أن القياس له أربعة أركان :
الأصل : وهو المقيس عليه ، وهو الذي ورد النص بحكمه .
__________
(1) الفتاوى (13/341) .
(2) الفتاوى (19/195) .(1/65)
حكم الأصل : وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل ، ويراد تعديته إلى الفرع .
الفرع : وهو المقيس عليه ، وهو الذي لم يرد نص بحكمه ، ويراد نقل حكم الأصل إليه .
العلة : وهي المعنى المشترك بين الأصل والفرع ، المقتضى إثبات حكم الأصل للفرع .
وقوله : ( فمتى نص الشارع على مسألة …الخ ) أراد بذلك بيان كيفية القياس ، وذلك بأن ينص الشارع على حكمِ مسألةٍ لها وصفٌ منصوص عليه أو مستنبط ثم يوجد ذلك الوصف في مسألة أخرى لم ينص الشارع على عينها ، ولكنها تساوي المنصوص عليها في هذا الوصف ، وليس بينهما أيُّ فارق مؤثر ، فيلحق المجتهد هذه المسألة بالمسألة المنصوص عليها ويسوي بينهما في الحكم ؛ لتساويهما في الوصف .
وقد دل كلام الشيخ على أمور مهمة :
الأمر الأول : إن الوصف الجامع بين الأصل والفرع نوعان :
وصف منصوص عليه . ومثاله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهرة : ( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم )« (1)» فقد نص الشرع على الوصف الذي اقتضى نفي النجاسة عن الهرة ، وهو كثرة التطواف على الناس الذي يشق معه الاحتراز منها ، فيلحق بها عن طريق القياس ما شاركها في هذا الوصف من الحمار والبغل ونحوهما .
__________
(1) أخرجه أبو داود (75) والنسائي (1/55_178) والترمذي (92) وابن ماجه (367) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .(1/66)
وصف مستنبط . استنبطه المجتهد ورأى أنه علة الحكم . ومثال ذلك أنه ورد النص بالنهي عن البيع وقت النداء الثاني يوم الجمعة ، وهو قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [الجمعة/9] وعلة الحكم مستنبطة ، وهي ما في البيع من تعويق السعي إلى الصلاة ، واحتمال تفويتها وهذه العلة موجودة في غير البيع من العقود الأخرى ، كالإجارة والوكالة والرهن ونحوها ، وهذه لم يرد نص بالنهي عنها ، فتأخذ حكم البيع ، وهو النهي بطريق القياس.
الأمر الثاني : أن شرط القياس عدم وجود فارق بين الأصل – وهي المسألة المنصوص عليها – والفرع – وهي المسألة غير المنصوصة – ، ولعل الشيخ يقصد بذلك أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجوده في الأصل من غير تفاوت ، كقياس الأرز على البر في جريان الربا بجامع الادخار والاقتيات – عند من يعلل بهما – فهذه العلة موجودة في الفرع وهو الأرز كوجودها في الأصل ، وهو البر من غير تفاوت .
فإن وجد تفاوت واختلاف فإنه ينظر فإن كان عن طريق زيادة علة الفرع على علة الأصل لم يؤثر ، ويصح القياس كقياس ضرب الوالدين على التأفيف المنصوص عليه في التحريم بجامع الإيذاء ، فإن الإيذاء في الضرب أشد ، وقد تقدم هذا المثال في الكلام على مفهوم الموافقة ، وإن كان الاختلاف عن طريق نقصان علة الفرع عن علة الأصل لم يصح القياس ، كما لو قيل : تجب الزكاة في مال الصبي قياساً على مال البالغ بجامع أن كلاً منهما يمتلك ماله ، فهذا القياس لا يصح ، لأنه قياس مع الفارق ، لأن علة حكم الأصل تختلف عن علة الفرع ، فإن البالغ يملك ماله بالقوة والفعل ، والصبي يملك ماله بالقوة فقط .(1/67)
الأمر الثالث : أن القياس لا يثبت حكماً ، وإنما هو كشف لحكم كان ثابتاً للفرع من وقت ثبوته للأصل ، وذلك لوجود علة الأصل فيه ، وغاية ما في الأمر أن ظهور الحكم في الفرع تأخر حتى استنبطه المجتهد بنظره ، فالقياس مسلك اجتهادي في حدود الكتاب والسنة .
قوله : ( وهذا القياس الصحيح هو الميزان الذي أنزله الله ، وهو متضمن للعدل ، وما يعرف به العدل ) .
أي : أن التسوية بين المتماثلين ، والتفريق بين المختلفين هو القياس الصحيح ، وهو الميزان الذي توزن به الأمور ، ويقاس به بينها ، فيعلم أن الفرع يوازن الأصل فيحكم بأنه نظيره ، أو لا يوازنه فيعلم أنه مخالفه .
وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – أن الأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به ، قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان } [الشورى/17] وهذا الاسم يدل على العدل ، وهو اسم يقتضي المدح ، بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل ، وممدوح ومذموم ، ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه ، ولا الأمر به «(1)» .
قوله : ( والقياس إنما يُعدل إليه وحده إذا فُقِدَ النص ) أشار بذلك إلى أن شرط استعمال القياس هو فقد النص الدال على حكم الفرع ، فإن وجد بطل القياس ، ويسمى ( فاسد الاعتبار) ومثال ذلك : يصح أن تزوج المرأة الرشيدة نفسها بغير ولي قياساً على صحة بيعها مالها بغير ولي ، فهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النص ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا نكاح إلا بولي ) «(2)» .
__________
(1) انظر : مجموع الفتاوى (19/171) ، إعلام الموقعين (1/133) .
(2) أخرجه أبو داود (2085) والترمذي (1101) وابن ماجة (1881) وأحمد (4/394) عن أبي موسى - رضي الله عنه - ، وقد اختلف في وصله وإرساله ، وصححه غير واحد من الحفاظ ، فانظر : إرشاد الفقيه لابن كثير (2/145) .(1/68)
وعلى هذا فلا بد من البحث عن النص قبل استعمال القياس ، ليكون استعمال القياس في محله ، فيكون معتبراً .
قوله : ( فجميع ما نص الشارع على حكمه فهو موافق للقياس لا مخالف له ) أي : أن القياس موافق للشريعة ، لا يخالفها ، لأنه قد تبين أن الله تعالى أنزل الكتاب والميزان ، ولا يجوز أن تتناقض دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح ، لأن الصحيح كله حق ، فلا يخالف بعضه بعضاً ، بل يصدق بعضه بعضاً «(1)» ، ولأن الشريعة جاءت بالجمع بين المتماثلات ، والتفريق بين المختلفات ، والقياس من قبيل الجمع بين المتماثلين ، فيكون موافقاً للشريعة ، ولهذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومن بعده تلميذه ابن القيم – رحمهما الله – أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس «(2)» ، والله أعلم .
القواعد الفقهية
« فصل » وأخذ الأصوليون من الكتاب والسنة أصولاً كثيرة ، بنوا عليها أحكاماً كثيرة جداً ، ونفعوا وانتفعوا .
هذا الفصل ذكر فيه الشيخ – رحمه الله – عدداً من القواعد الفقهية ، وهي جمل موجزة ، يندرج تحتها مسائل فقهية كثيرة ، من أبواب متعددة ، كما سيتضح إن شاء الله .
وهذا بخلاف الضابط الفقهي ، فإنه – على قول الجمهور – خاص في باب واحد من أبواب الفقه ، وقد يتسامح في إطلاق أحدهما على الآخر .
والقواعد الفقهية منها ما هو نص دليل شرعي ، مثل : لا ضرر ولا ضرار ، وأكثرها استنباط اجتهادي ، مثل : اليقين لا يزول بالشك ، وهذه القواعد جليلة النفع ، عظيمة الفائدة ، بها يستطيع الفقيه جمع الفروع الكثيرة من مسائل الفقه تحت قاعدة واحدة ، لا سيما وأن الحوادث والوقائع لا تنقضي على ممر الزمان ، ولولا هذه القواعد لبقيت الأحكام مفرقة متناثرة .
__________
(1) انظر : جامع المسائل لابن تيمية (2/272) .
(2) انظر مجموع الفتاوى (20/504-583) إعلام الموقعين (1/383) (2/3-70) .(1/69)
ومن فوائدها – أيضاً – سهولة استحضار الحكم الشرعي للمسألة نظراً لاختصارها وسهولة حفظها ، فهي تضبط الأحكام ، وتجمع المتفرقات ، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف ، وتتضح له مناهج الفتوى .
والفرق بين القاعدة الفقهية والأصولية من وجوه ، منها :
من حيث الموضوع ، فإن موضوع القواعد الفقهية : أفعال المكلفين ، والقواعد الأصولية موضوعها : الأدلة والأحكام ، كما تقدم في مباحث هذه الرسالة .
أن القاعدة الفقهية يستفاد منها الحكم مباشرة ، أما القاعدة الأصولية فيستفاد منها الحكم بواسطة الدليل .
أن القواعد الفقهية أغلبية ، أما القاعدة الأصولية فهي كلية ، ليس لها استثناءات .
قوله : ( وأخذ الأصوليون من الكتاب والسنة أصولاً كثيرة … الخ ) ظاهر صنيع الشيخ أن القواعد الفقهية من أصول الفقه ، فإنه ذكرها ضمن رسالته ، وصدر ذلك بقوله : ( وأخذ الأصوليون … ) وكأن هذا مبني على ما يفهم من أول الرسالة من التلازم بين الفقه وأصوله ، وأن الفقيه الحق هو الأصولي .
والمشهور أن هذه القواعد من قبيل الفقه لا من قبيل أصول الفقه ، ولعل الإمام القرافي – رحمه الله – أول من ميَّز بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية ، كما في مقدمة كتابه ( الفروق ) وقال في موضع آخر : ( فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جداً عند أئمة الفتوى والقضاء ، لا توجد في كتب أصول الفقه أصلاً ) «(1)» .
القاعدة الأولى
__________
(1) انظر : الفروق (1/2-3) (2/110) .(1/70)
فمنها « اليقين لا يزول بالشك » أدخلوا فيه من العبادات والمعاملات والحقوق شيئاً كثيراً ، فمن حصل له الشك في شيء منها : رجع إلى الأصل المتيقن ، وقالوا : « الأصل الطهارة في كل شيء » و « الأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحريمه » و « الأصل براءة الذمم من الواجبات ومن حقوق الخلق حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك » و « الأصل بقاء ما اشتغلت به الذمم من حقوق الله وحقوق عباده حتى يتيقن البراءة والأداء » .
هذه هي القاعدة الأولى : وهي « اليقين لا يزول بالشك » .
واليقين عند الفقهاء : هو الاعتقاد الجازم أو الظن الغالب ، والشك : مطلق التردد ، سواء استوى الطرفان أو ترجح أحدهما على الآخر .
ويرى الأصوليون أن اليقين : هو الاعتقاد الجازم ، والشك : تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، فإن ترجح أحدهما ، فالراجح : ظن ، والمرجوح : وهم .
وقول الفقهاء أرجح ، أما بالنسبة لليقين ، فلأن غلبة الظن معمول بها شرعاً ، لأن الوقوف على اليقين الجازم في كل حكم متعذر ، قال الشاطبي – رحمه الله – : ( الظن في العمليات جارٍ مجرى العلم ) «(1)» .
وأما بالنسبة للشك ، فهو أرجح لموافقته اللغة ، لأن الشك خلاف اليقين مطلقاً دون اشتراط تساوي الطرفين .
ومعنى القاعدة : أن كلَّ أمرٍ ثبت بدليل قاطع أو بظن ظاهر ، فإنه يحكم ببقائه على ما هو عليه ، ولا يزيله عن ذلك إلا يقين لا شك معه ، لأن الأمر اليقيني لا يعقل أن يزيله ما هو أضعف منه ، بل ما كان مثله أو أقوى .
ودليل هذه القاعدة : حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : ( لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) «(2)» .
__________
(1) الموافقات (2/360) .
(2) أخرجه البخاري (137) ومسلم (361) .(1/71)
وهذه القاعدة من القواعد الكبرى التي عليها مدار الفقه ، فإنه قلما يخلو باب من أبواب الفقه من ذكرها أو الإشارة إليها ، كما ذكر الشيخ – رحمه الله – ، وقد اتفق الفقهاء على القول بها ، قال الإمام القرافي – رحمه الله – : ( هذه قاعدة مجمع عليها ، وهي أن كل مشكوك فيه ، يُجعل كالمعدوم الذي يجُزم بعدمه ) «(1)» .
قوله : ( وقالوا : الأصل في الأشياء الطهارة … الخ ) هذا وما بعده تفريع على القاعدة الكبرى ، مما يدل على سعتها وشمولها لقواعد أخرى يندرج تحتها جزئيات كثيرة .
1- قوله : ( فالأصل الطهارة في كل شيء ، والأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحريمه ) فالأصل في المياه والأراضي والثياب والأواني الطهارة ، حتى يتقن زوال أصله بطرؤ النجاسة عليها ، فإذا شك في إناء أو ثوب أو مصلى أصابته نجاسة أم لا ؟ فهو طاهر .
والأصل في الأطعمة و الأشربة الحل ، إلا ما دل الشارع على تحريمه ، كالميتة ، والدم ، والخنزير ، ونحو ذلك ، لعموم قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة/29] .
2- قوله : ( والأصل براءة الذمم من الواجبات ، ومن حقوق الخلق حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك ) البراءة معناها : الخلو والفراغ ، والذمم : جمع ذمة ، وهي وصف يصير به الإنسان أهلاً لأن يجب له وعليه .
فالأصل براءة الذمة من الواجبات الشرعية مثل : الوتر ليس بواجب ، لعدم الدليل على وجوبه بعد طلبه .
__________
(1) الفروق (1/111) .(1/72)
والأصل براءة الذمة من حقوق الخلق ، كالديون ، فمن ادعى على غيره حقاً فلا بد من البينة ، فإن لم يأت ببينة تشهد بصحة دعواه ، فعلى الآخر اليمين التي تنفي ما ادعاه المدعي ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لأدعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) «(1)» ، وفي رواية ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ) «(2)» .
3- قوله : ( الأصل بقاء ما اشتغلت به الذمم من حقوق الله وحقوق عباده حتى يتيقن البراءة والأداء ) هذه القاعدة مقابلة لما قبلها ، لأن الأولى في استصحاب العدم ، وهذه في استصحاب الوجود .
فإذا شُغلت الذمة بحق الله تعالى ، كصلاة ، أو كفارة ، ونحو ذلك ، أو بحق المخلوق ، كدين ، أو ثمن مبيع ، ونحو ذلك ، فالأصل بقاء ذلك في الذمة حتى يحصل اليقين ببراءة الذمة من حق الله تعالى ، وأداء حق المخلوق .
فلو شك هل صلَّى الظهر – مثلاً – فلا بد أن يبرئ ذمته بيقين ، ولو شك هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً ، وهو منفرد ، بنى على اليقين ، لأن الأصل بقاء الصلاة في ذمته ، وإذا شك الصائم في غروب الشمس ، لم يفطر اعتباراً بالأصل ، وهو بقاء النهار ، وإذا شك في طلوع الفجر ، جاز أن يأكل اعتباراً بالأصل ، وهو بقاء الليل ، ففي كلتا الحالتين يبني على اليقين ، ولا يلتفت إلى الشك ، لأن اليقين لا يرتفع بالشك ، ولو طاف للنسك ، ثم شك ، هل طاف بطهارة أم لا ؟ لم يلزمه إعادة الطواف ، لأنه أدى العبادة في الظاهر ، فلا يسقط حكم ذلك بالشك ، وهذا مبني على القول باشتراط الطهارة للطواف ، وإذا شُك في عدد الرضعات ، بني على اليقين ، ولو استدان من شخص مالاً ، فالأصل أنه باق في ذمته حتى يتيقن الأداء .
القاعدة الثانية
__________
(1) أخرجه البخاري (4552) ومسلم (1711) .
(2) هذه رواية البيهقي (10/252) وإسنادها صحيح .(1/73)
ومنها أن « المشقة تجلب التيسير » وبنوا على هذا جميع رُخَصِ السفر ، والتخفيف في العبادات والمعاملات وغيرها .
هذه هي القاعدة الثانية : وهي « المشقة تجلب التيسير » وهي قاعدة عظيمة ، تدخل تحتها رخص السفر من الفطر والقصر والجمع ، وغير ذلك ، كما يدخل تحتها التخفيف في العبادات ، فالمريض يصلي قائماً ، فإن لم يستطع صلّى قاعداً ، ومن لم يستطع أن يسجد أومأ بالسجود ، كما يدخل في ذلك الاكتفاء بنضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام بشهية ، وكذا العفو عن قيئه ، وكذا المعاملات ، كإباحة العرايا ، وبيع السلم ، وحمل العاقلة الدية في قتل الخطأ ، وغير ذلك .
ودليل هذه القاعدة عمومات الشريعة ، كقوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة/185] ، وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج/78] ، قال الشاطبي – رحمه الله – : ( إن الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة بلغت مبلغ القطع ) «(1)» .
والمراد بالمشقة – هنا – : المشقة الزائدة التي لا يمكن للمكلف أن يستمر على تحملها عادة إلا ببذل أقصى الجهد ، ولا تمكن المداومة عليها ، بحيث تؤدي إلى وقوع الضرر أو الأذى في النفس أو المال ، أما المعتادة التي تكون مقدورة للإنسان ويمكن أن يتحملها وأن يداوم عليها ، فلا يتعلق بها تخفيف ، كالوضوء بالماء البارد في الشتاء ، وكالجوع العادي الذي يناله الصائم في رمضان ، وما يحصل في بعض مناسك الحج من تعب ، ونحو ذلك .
القاعدة الثالثة
ومنها : قولهم : « لا واجب مع العجز ، ولا محرم مع الضرورة » ، فالشارع لم يوجب علينا ما لا نقدر عليه بالكلية ، وما أوجبه من الواجبات فعجز عنه العبد : سقط عنه ، وإذا قدر على بعضه : وجب عليه ما يقدر عليه ، وسقط عنه ما يعجز عنه ، وأمثلتها كثيرة جداً ، وكذلك ما احتاج الخلق إليه : لم يحرمه عليهم .
__________
(1) الموافقات (1/231) .(1/74)
والخبائث التي حرمها إذا اضطر إليها العبد : فلا إثم عليه ، فالضرورات تبيح المحظورات الراتبة ، والمحظورات العارضة . والضرورة تقدر بقدرها ، تخفيفاً للشر ، فالضرورة تبيح المحرمات من المآكل والمشارب والملابس وغيرها .
هذه القاعدة الثالثة : وهي تتكون من جزئين :
الأول : يتعلق بالواجب « لا واجب مع العجز » .
الثاني : يتعلق بالمحرم « لا محرم مع الضرورة » .
أما الأول فدليله قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن/16] وقوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة/286] ، وقوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران/97] ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) «(1)» ، ومعنى ذلك : أن أوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته ، ولهذا ذكر الأصوليون أن من شروط الفعل المكلف به : أن يكون ممكناً ومقدوراً عليه ، لأن المطلوب شرعاً حصول الفعل المأمور به ، ولا يمكن حصوله إلا إذا كان ممكن الوقوع ، فإذا عجز المكلف عن العبادة كلها سقطت ،كالعاجز عن الصيام عجزاً مستمراً كالكبير الذي لا يطيقه ، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه ، فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ، ومن عجز عن بعض العبادة ، سقط عنه ما عجز عنه ، وبقي ما يقدر عليه ، فإذا عجز عن شيء من شروط الصلاة أو أركانها أو واجباتها ، صلّى على حسب ما يقدر عليه ، فمن عجز عن سترة الصلاة الواجبة أو عن الاستقبال أو توقَّي النجاسة سقط عنه وصلَّى على حسب حاله ، ومن عجز عن المصَّافة لكونه لم يجد مكاناً في الصف ، صحت صلاته منفرداً خلف الصف ، ومن قدر على القيام في الصلاة في الركعتين الأوليين لزمه القيام ، ومن عجز عن تغيير المنكر بيده لم يسقط عنه
__________
(1) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) .(1/75)
التغيير باللسان ، ومن لم يقدر إلا على غسل بعض محل الحدث غسله ، أو لم يجد إلا بعض الفطرة أخرجه ، ونحو ذلك .
وهكذا جميع ما أُمر به العبد أمر إيجاب أو استحباب كله مقيد بالاستطاعة ، وأما ما نُهي عنه فليس مقيداً بالاستطاعة ، لأن النبي طلب كف النفس ، وهو مقدور لكل أحد ، فكل أحد يقدر على ترك جميع ما نهي الله ورسوله عنه ، ولم يضطر العباد إلى شيء من المحرمات المطلقة ، فإن الحلال واسع ، يسع جميع الخلق في عباداتهم ومعاملاتهم ، وجميع تصرفاتهم «(1)» .
أما الجزء الثاني : ( لا محرم مع الضرورة ) فدليله قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام/119] فأخبر سبحانه وتعالى أن ما يُضطر إليه مستثنى من المحرمات ، وقال تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة/173] .
وقوله : ( وكذلك ما احتاج إليه الخلق لم يحرم عليهم ) هذا تفسير لقوله : ( لا محرم مع الضرورة )
وقوله : ( والخبائث التي حرمها إذا اضْطُرَّ إليها العبد فلا إثم عليه ) أي : أن المكلف إذا اضطر إلى شيء من الخبائث فإنه لا يكون محرماً عليه ، ولا يأثم بذلك ، كالمنقطع في الصحراء يضطر إلى أكل الميتة أو شرب الماء النجس فلا إثم عليه في ذلك .
وقوله : ( فالضرورات تبيح المحظورات ) هذه قاعدة عظيمة ، بمعنى القاعدة السابقة ، ولها فروع كثيرة ، ومعناها : أن الاضطرار يبيح المحرم ، وضابط ذلك أن يطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة التي لا يتحملها جنس بني آدم .
وقوله : ( تبيح المحظورات الراتبة ) كالميتة والخمر والماء النجس ونحو ذلك .
__________
(1) بهجة قلوب الأبرار ص (205) .(1/76)
وقوله : ( والمحظورات العارضة ) أي : التي يكون تحريمها عارضاً بسبب ، مثل محظورات الإحرام ، كأن يحتاج لحلق الرأس لجرح – مثلاً – فله أن يحلق رأسه ويفدي على ما هو مبين في كتب الفقه .
قوله : ( والضرورة تقدر بقدرها ) هذه قاعدة أخرى ، وهي كالقيد لما قبلها ، ومعناها : أن الاضطرار يبيح المحظور بقدر ما يدفع الخطر ، ولا يجوز الاسترسال ، ومتى زال الخطر عاد الحظر .
ودليلها قوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة/173] ومعنى ( غير باغ ) أي : غير طالب للمحرم مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه ، ( ولا عاد ) أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطراراً .
ومن أمثلة ذلك : أن المضطر إلى أكل الميتة لا يأكل منها إلا بقدر ما يدفع عن نفسه الهلاك ، ومن ذلك جواز كشف الطبيب عورات الأشخاص إذا توقف على هذا الكشف مداواتهم ، ويكشف من عورته بقدر ما يحتاجه للمداواة ولا يزيد على ذلك .
القاعدة الرابعة
ومنها « الأمور بمقاصدها » فيدخل في ذلك : العبادات والمعاملات ، وتحريم الحيل المحرمة مأخوذ من هذا الأصل ، وانصراف ألفاظ الكنايات والمحتملات إلى الصرائح من هذا الأصل ، وصورها كثيرة جداً .
هذه القاعدة الرابعة ، وهي من أجل قواعد الدين عموماً ، والفقه خصوصاً ، فإنها على وجازتها ذات معنى واسع لوجود ( أل ) الإستغراقية ، التي هي من صيغ العموم ، ولهذا فإن شطراً كبيراً من الأحكام الشرعية يدخل تحتها ، ودليلها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما الأعمال بالنيات ) « (1)» . والأمور جمع أمر ، وهو الشأن والحال ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود/97] ، ويقال : أمور فلان مستقيمة ، أي : أحواله ، والمقاصد : جمع مقصد ، وهو بمعنى النية والعزم .
__________
(1) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) .(1/77)
ومعناها : أن الحكم الذي يترتب على فعل المكلف ينظر فيه إلى نيته وقصده ، وعلى حسب ذلك يترتب ثوابه أو عقابه ، أو تملكه أو ضمانه وأضداد ذلك ، ولذا فإن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد بها المتكلم معانيها ، واعتبر المقاصد والاعتقادات في التصرفات والعبارات .
ومن أدلة ذلك : قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً } [البقرة/228] فهو نص في أن الرجعة إنما ملكها الله تعالى من قصد الصلاح ، دون من قصد الضرار ، وقوله تعالى : { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا } [البقرة/231] وقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار } [النساء/12] ، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها ، فهو له صدقة ) «(1)» .
ومن فروع هذه القاعدة :
السكران والمجنون ، لا يقع طلاقهما ، لأنهما لا يعلمان ما يقولان .
الاغتسال للتبرد مباح لا ثواب فيه ، لكن إن قصد به التقوِّي على الصلاة أو قراءة القرآن أثيب على ذلك .
إذا أخذ آلات اللهو بقصد كسرها وإشهارها فهو يختلف عما إذا أخذها بقصد سرقتها .
إذا أخذ اللقطة بقصد حفظها وتعريفها ، فهو أمين لا ضمان عليه إذا تلفت ، أو بقصد تملكها فهو غاصب ، عليه الضمان إذا تلفت .
مُعَلِّقُ الطلاق على شرط إن قصد الحلف فحكمه حكم الحالف ، وعليه كفارة يمين ، وإن قصد إيقاع الطلاق وقع ، على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية «(2)» .
وهذا معنى قول المصنف : ( ويدخل في ذلك العبادات والمعاملات ) .
قوله : ( وتحريم الحيل المحرمة مأخوذ من هذا الأصل ) معناه : أن تحريم الحيل المحرمة داخل تحت هذه القاعدة ، لأن الحيلة ظاهرها الجواز ، ولكنها حرمت نظراً لمقصد فاعلها .
__________
(1) أخرجه البخاري (55) .
(2) انظر الفتاوى (33/59) .(1/78)
والحيل : جمع حيلة ، وهي تقديم عمل ظاهر الجواز ؛ لإبطال حكم شرعي ، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر مباح .
ومن أمثلة ذلك : لو عقد النكاح قاصداً به التحليل فهو محلل بناء على نيته ، وإن كان العقد ظاهره الجواز .
ولو باع النصاب الزكوي قبل الحول ، فإن كان فراراً من الزكاة لم تسقط عنه ، وإلا سقطت .
ولو طلق المريض مرض الموت زوجته تحايلاً عليها ورغبة في حرمانها من الميراث ، فهو غير نافذ شرعاً بناء على هذه الحيلة المحرمة .
قوله : ( وانصراف ألفاظ الكنايات والمحتملات إلى الصرائح مأخوذ من هذا الأصل ) الكناية : اللفظ الذي استتر المعنى المراد به ، فلا يفهم إلا بقرينة ، مثل : كنايات الطلاق ، وهي : الألفاظ التي لا تدل بلفظها على الطلاق ، مثل : اذهبي لأهلك ، أخرجي من المنزل ، اعتزلي ، ونحو ذلك .
واللفظ الصريح : هو اللفظ الذي ظهر معناه ظهوراً تاماً لكثرة استعماله .
فاللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية ، فلو قال لزوجته : أنت طالق، حصل الطلاق بمجرد التلفظ به.
وأما الكناية كأن يقول لزوجته : اذهبي لأهلك ، فإنه يختلف الحكم باختلاف قصد المتكلم ونيته ، فإن نوى إيقاع الطلاق وقع ، وإن قال : قصدت مجرد الزيارة ، ولم أقصد الطلاق ، فإنه يصدق بدعواه ، لأن غير الصريح لا يعطى حكمه إلا بالقصد ، فلا ينفصل الفعل عن النية .
وكذا لو قال لزوجته : أنت مثل أمي ، فهذا اللفظ محتمل للظهار وغيره ، فيرجع إلى النية في تحديد المراد ، فإن نوى أنها مثل أمه في الكرامة ، فلا شيء عليه ، وإن نوى أنها مثل أمه في حرمة وطئها والاستمتاع بها ، فهو مظاهر .
وكذا لو قال : تصدقت ، وحرَّمت ، وأبَّدت ، فإنها لا تفيد انعقاد الوقف إلا بالنية التي تحدد المراد ، لأن هذه الألفاظ محتملة للوقف وغيره .
القاعدة الخامسة(1/79)
ومنها : « يُختار أعلى المصلحتين ، ويُرتكب أخف المفسدتين عند التزاحم » وعلى هذا الأصل الكبير ينبني مسائل كثيرة ، وعند التكافؤ فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح .
هذه القاعدة الخامسة : وهي قاعدة عظيمة من كبريات قواعد الدين ، وهي قاعدة ( المصالح والمفاسد ) ، والمصالح : جمع مصلحة ، وهي : ما فيه جلب منفعة أو دفع مضرة ، والمفاسد : جمع مفسدة ، وهي : كل ما يضر بالناس في دينهم أو دنياهم أفراداً أو جماعات ، ووجه عظمها : أن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح و تكميلها ، ودفع المفاسد وتقليلها ، يقول العز بن عبد السلام – رحمه الله – : ( الشريعة كلها مصالح ، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح ، فإذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فتأمل وصية الله بعد ندائه ، فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه أو شراً يزجرك عنه ، أو جمعاً بين الحث والزجر ، وقد أبان الحق تبارك وتعالى في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد ، حثاً على اجتناب المفاسد ، وما في بعض الأحكام من المصالح حثاً على إتيان المصالح )«(1)» .
ويدخل تحت هذه القاعدة ثلاث صور ، كما ذكر الشيخ – رحمه الله – :
الأولى : يختار أعلى المصلحتين عند التزاحم ، والتزاحم : التعارض بين أمرين بحيث لا يمكن الجمع بينهما .
فلو اجتمع عليه واجب : كدين ، ومستحب : كنفقة مستحبة ، كالصدقة ، فالمقدم قضاء الدين ، لأنه واجب .
وإذا اجتمعت مصلحتان واجبتان قدم أوجبهما ، فيقدم صلاة الفرض على صلاة النذر ، وفي النفقة اللازمة للزوجات والأقارب والمماليك تقدم الزوجات ثم المماليك ثم الأولاد ثم الأقرب فالأقرب ، وكذا الحكم في صدقة الفطر ، وإذا تعارض عند الزوجة أمر زوجها وأمر أبويها ، فتقدم أمر زوجها ، لأن طاعته آكد وأوجب .
__________
(1) قواعد الأحكام (1/9) .(1/80)
وإذا اجتمعت مصلحتان مسنونتان ، قدم أفضلهما ، فيقدم ما فيه نفع متعدٍ ، كالتعليم وعيادة المريض واتباع الجنائز ، ونحوها ، على ما نفعه قاصر ، كصلاة النافلة والذكر ونحو ذلك .
ومن أدلة اختيار أعلى المصلحتين : حديث ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يا عائشة لولا قومك حديثٌ عهدهم – قال ابن الزبير : بكفر – لنقضت الكعبة ، فجعلت لها بابين ، باب يدخل الناس ، وباب يخرجون ) «(1)» .
فنقض الكعبة وبناؤها على قواعد إبراهيم عليه السلام ، هذا مصلحة ، وتأليف قلوب كفار قريش بسبب قرب عهدهم بالكفر ، مصلحة أيضاً ، فاختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى المصلحتين «(2)» .
الصورة الثانية : إذا اجتمعت مفسدتان يرتكب أخفهما ، ودليل ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - قال : جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد ، فزجره الناس ، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء فأهريق عليه ) «(3)» .
فهذا الحديث دليل على هذه القاعدة العظيمة ، وذلك أن البول في المسجد مفسدة ، والاستمرار عليه مفسدة ، وقد حصل ذلك ، لكن كون الرجل يقوم من بوله مفسدة أكبر لما يترتب عليه من مفاسد أعظم ، وهي :
تضرر هذا الرجل بقطع بوله واحتباسه .
أنه يؤدي إلى تلوث ثيابه وبدنه .
أنه يؤدي إلى تلوث مكان أكبر من المسجد .
ومن أمثلة ذلك : من اضطر إلى أكل محرم ، فوجد شاة ميتة ، وصيداً محرماً ، قدم الصيد على الصحيح ، ومن اضطر إلى وطء إحدى زوجتيه الصائمة والحائض ، وطيء الصائمة ، لأنها أخف ، ولأن الفطر يجوز لضرورة الغير ، كفطر الحامل والمرض «(4)» .
__________
(1) أخرجه البخاري (126) .
(2) انظر : الفتاوى (22/407) .
(3) أخرجه البخاري (219) ومسلم (284) .
(4) انظر : القواعد لابن رجب ( القاعدة 112) والقواعد والأصول الجامعة لابن سعدي ص (78) .(1/81)
الصورة الثالثة : إذا تقابلت مصلحة ومفسدة ، فيقدم دفع المفسدة ولو فاتت المصلحة ، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، والدرء : هو الدفع .
ومن أدلة ذلك : قوله تعالى : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام/108] .
ففي سبِّ آلهة المشركين مصلحة وهي تحقير دينهم وإهانتهم ، ولكن سيترتب على ذلك مفسدة ، وهي سبُّ الله تعالى عَدْواً وكفراً على وجه المقابلة ، فنهى الله تعالى المسلمين عن ذلك .
ومن أمثلة ذلك : منع الجار من التصرف في ملكه إذا أدى إلى ضرر غيره ، فتُدرأ المفسدة وتُقدم المصلحة .
ومن ذلك – أيضاً – : قيادة المرأة للسيارة ، فإنه وإن قيل : إن فيها مصلحة فإنه لا اعتبار لها في مقابل المفاسد العظيمة التي لا يمكن حصرها ، فتحرم قيادتها من باب ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) وقد مضى الاستدلال على ذلك من وجه آخر .
القاعدة السادسة
ومن ذلك قولهم : « لا تتم الأحكام إلا بوجود شروطها وانتفاء موانعها » وهذا أصل كبير بُني عليه من مسائل الأحكام وغيرها شيء كثير ، فمتى فُقِدَ شرط العبادة أو المعاملة ، أو ثبوت الحقوق ، لم تصح ولم تثبت ، وكذلك إذا وجد ما نعها : لم تصح ولم تنفذ .
وشروط العبادات والمعاملات : كل ما تتوقف صحتها عليها ، ويعرف ذلك بالتتبع والاستقراء الشرعي ، وبأصل التتبع حصر الفقهاء فرائض العبادات وواجباتها ، وكذلك شروط المعاملات وموانعها .
والحصر إثبات الحكم في المذكور ، ونفيه عما عداه ، فيستفاد من حصر الفقها شروط الأشياء وأمورها : أن ما عداها لا يثبت له الحكم المذكور .
هذه القاعدة السادسة ، وهي تتعلق بأحد أقسام الحكم الوضعي ، وهو الشرط .
والشروط : جمع شرط ، والشرط : ما يتوقف وجود الشيء على وجوده ، وليس هو جزءاً من ذات ذلك الشيء ، بل هو خارج عنه ، ولا يلزم من وجوده وجود الشيء ، ولكن يلزم من عدمه عدمه .(1/82)
مثل : الوضوء شرط لصحة الصلاة ، وليس هو جزءاً من نفس الصلاة ، ولا يلزم من وجوده وجود الصلاة ، فقد يوجد الوضوء ولا توجد الصلاة ، كأن يكون الوقت وقت نهي – مثلاً – .
وأما المانع ، فالمراد به مانع الحكم ، وهو الوصف الذي يترتب على وجوده عدم ترتب الحكم على سببه وإن تحقق السبب وتوفرت الشروط .
مثاله : الأبوة ، أي : أن يكون القاتل أباً للمقتول ، فهي مانعة من إيقاع حكم القصاص على الوالد إذا قتل ابنه عمداً وإن تحققت شروط القصاص ، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقاد والد بولده ) «(1)» .
وما ذكره المصنف أصل كبير وقاعدة عظيمة بها يعرف الصحيح من الفاسد في العبادات والعقود ، فلا يكون الشيء صحيحاً إلا بتمام شروطه وانتفاء موانعه ، فبوجود الشروط يثبت الحكم ، وبانتفاء الموانع يندفع عنه الفساد والبطلان .
مثال ذلك في العبادات : أن يأتي بالصلاة في وقتها تامة شروطها وأركانها وواجباتها.
ومثال ذلك في العقود : أن يعقد بيعاً تامة شروطه المعروفة مع انتفاء موانعه .
وكذا الميراث : لا يرث إلا شخص قام به شرط الإرث ، وانتفى عنه مانعه .
قوله : ( فمتى فقد شرط العبادة أو المعاملة أو ثبوت الحق لم تصح ولم تثبت ، وكذلك إذا وجد مانعها لم تصح ولم تنفذ ) أشار بذلك إلى أنه إذا فقد الشرط ، أو وجد الشرط وقام المانع فإنه لا يتم الحكم ولا تترتب آثاره عليه ، عبادة كان أو عقداً أو حقاً من الحقوق .
فمن صلّى بلا طهارة أو قبل دخول الوقت لم تصح صلاته لفقد الشرط ، ومن باع ما لا يملك ، أو كان البيع ممن لا يصح تصرفه لم ينفذ البيع ، ومن ادعى على غيره حقاً بدون بينة فإنه لا يثبت .
__________
(1) أخرجه الترمذي (1400) وابن ماجة (2662) وأحمد (1/292) من حديث عمر - رضي الله عنه - ، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده .(1/83)
وكذا لو وجد مانع كأن يتطوع بنفل مطلق في وقت النهي لم تصح صلاته ، أو يبيع من تلزمه الجمعة شيئاً بعد ندائها الثاني على وجه لا يباح ، لم يصح البيع على أحد القولين «(1)» .
قوله : ( وشروط العبادات والمعاملات كل ما يتوقف صحتها عليها ) أي: أن الشرط الشرعي هو : ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة ، فهو علامة الصحة ، وترتب آثار العبادة وهي : براءة الذمة وسقوط الطلب ، وهكذا في العقود وفي المعاملات .
قوله : ( ويعرف ذلك بالتتبع والاستقراء … الخ ) أي : أن الشروط وكذا الواجبات والموانع ، لم يرد النص عليها من الشرع وإنما اجتهد العلماء في جمعها وترتيبها ، ليكون ذلك أقرب إلى جمع العلوم وحصرها وفهمها .
القاعدة السابعة
ومن ذلك قولهم « الحكم يدور مع علته ثبوتاً وعدماً » فالعلل التامة التي يعلم أن الشارع رتب عليها الأحكام ، متى وجدت وجد الحكم ، ومتى فقدت فقد الحكم .
هذه هي القاعدة السابعة : وهي تتعلق بباب القياس ، والعلة : هي المعنى المشترك بين الأصل والفرع الذي بني عليه الحكم وربط به وجوداً وعدماً .
وقد فسَّر الشيخ العلل التامة بأنها التي يعلم أن الشارع رتب عليها الأحكام ، مثل : الإسكار علة لتحريم الخمر ، والصغر علة للولاية على المال ، والسفر علة القصر – مثلاً – .
وهذا بخلاف العلل غير التامة التي لا يعلم أن الشرع رتب عليها أحكاماً ، وتسمى عند الأصوليين بالأوصاف الطردية ، كالطول والقصر بالنسبة لجميع الأحكام ، والأنوثة والذكورة بالنسبة للعتق ، خلا الشهادة والميراث ، فهما معتبران فيهما .
ومعنى هذه القاعدة : أن العلة كلما وجدت وجد معها الحكم ، وكلما فقدت فقد الحكم ، كوجود التحريم حيث وجد الاسكار ، وزوال التحريم بزوال الاسكار – كما لو تحولت الخمر إلى خل – .
__________
(1) انظر : تفسير ابن كثير (8/149) .(1/84)
وكلام الشيخ – رحمه الله – محمول على ما إذا كان الحكم له علة واحدة كالاسكار والصغر ، ونحو ذلك ، أو يقال : هذه قاعدة أغلبية ، فإن كان للحكم علل متعددة لم يلزم من انتفاء علة معينة منها انتفاء الحكم ، كالبول والغائط ، والنوم ، ونحوها ، لنقض الوضوء ، فقد ينتفي البول ويثبت الحكم ، وهو النقض ، لعلة أخرى كالنوم – مثلاً – .
وكذا الحكم الذي بقي مع انتفاء علته ، كالرَّمَلِ فإن علته إظهار النشاط والجلادة أمام الكفار ، وذلك في عمرة القضاء سنة سبع ، وقد زالت هذه العلة ، ومع هذا رَمَلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع .
القاعدة الثامنة
ومن ذلك قولهم : « الأصل في العبادات الحظر ، إلا ما ورد عن الشارع تشريعه ، والأصل في العادات : الإباحة ، إلا ما ورد عن الشارع تحريمه » لأن العبادة ما أمر به الشارع أمر إيجاب أو استحباب ، فما خرج عن ذلك فليس بعبادة ، ولأن الله خلق لنا جميع ما على الأرض ولأن لننتفع به بجميع أنواع الانتفاعات ، إلا ما حرمه الشارع علينا .
هذه هي القاعدة الثامنة : وقد ضمنها الشيخ أصلين عظيمين :(1/85)
الأول : ( الأصل في العبادات الحظر إلا ما ورد عن الشارع تشريعه ) ودليل ذلك قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه } [الشورى/21] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وفي رواية : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) «(1)» ، وعن جابر - رضي الله عنه - قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يوم الجمعة : أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة …)«(2)» ، ولأن العبادة ما أمر به الشارع أمر إيجاب أو استحباب ، فما خرج عن ذلك فليس بعبادة ، بل هو بدعة ، والبدعة في العبادة قسمان:
أن يبتدع عبادة لم يشرع الله ورسوله جنسها أصلاً ، كأذكار أو صلوات ليس لها أصل في الشرع ، وكالنداء لصلاة العيد أو الاستسقاء ، وكالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة بعد صلاة الفرض والنفل ، كما تفعله بعض الطوائف المنحرفة .
أن يبتدعها على وجه يغير به ما شرعه الله ورسوله ، كالذكر الجماعي ، أو التكبير الجماعي ، أو الزيادة في الوضوء على ثلاث ، أو التلحين في الأذان ، ونحو ذلك .
الأصل الثاني : ( الأصل في العادات الإباحة إلا ما ورد عن الشارع تحريمه ) .
__________
(1) أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) ، واللفظ الثاني عند مسلم .
(2) أخرجه مسلم (867) .(1/86)
العادات : جمع عادة ، وهي ما استقر في الأنفس السليمة ، والطبائع المستقيمة من المعاملات ، سواء كانت معاملة مع النفس ، أو مع الخلق ، كعادة الناس في المآكل والمشارب ، وأصناف الملابس ، وعادتهم في استقبال الضيف ، وعمل الولائم ، وما يجري بينهم من المعاملات والصنائع ، وغير ذلك ، ويدخل في ذلك المخترعات الحادثة مما فيه منفعة للناس ، كما يدخل في ذلك ما اعتاده الناس من الزيادة في التحية على لفظ السلام والتهنئة بالعيد ، ونحو ذلك .
وهذا التعريف مع الأمثلة ، مراد به العادات الصحيحة دون العادات الفاسدة .
فالأصل في العادات الإباحة ، إلا ما حرمه الشارع الحكيم «(1)» ، لقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة/29] ، فالله تعالى خلق لنا جميع ما على الأرض لننتفع به بجميع أنواع الانتفاعات ، وقال تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق } [لأعراف/32] فالله تعالى أنكر على من حرم ما خلق الله لعباده من المآكل والمشارب والملابس وغيرها ، وقد ورد عن عائشة وأنس – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم يلقحون ، فقال : لو لم تفعلوا لصلح ، قال : فخرج شيصاً ، فمرَّ بهم ، فقال : ما لنخلكم ؟ قالوا : قلت كذا وكذا ، قال : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) «(2)» ، وفي رواية ابن حبان ( إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم ، وإن كان شيء من أمر دينكم فإليّ ) «(3)» .
__________
(1) انظر : الفتاوى (29/16-17) .
(2) أخرجه مسلم (2363) .
(3) عند ابن حبان (1/201) وإسناده صحيح على شرط مسلم .(1/87)
ووجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ الأمر فيما يتعلق بالزراعة إلى الخلق ، وبين أن هذا شأن من شئون الدنيا ، ولا صلة له بأحكام الشرع التي يُرجع فيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما ما حرمه الشارع علينا فهو حرام ولو تعارف الناس عليه ، وضابط ذلك أن كل عرف خالف الشرع فهو مردود ، مثل تعارف الناس في بعض التجمعات على إقامة مجالس العزاء ، أو تعارفهم على الاقتراض من المصارف الربوية ، أو تعارفهم على منكرات الأفراح ، أو أخذ الرشوة ، أو لبس الرجال الذهب ، ونحو ذلك .
القاعدة التاسعة
ومنها « إذا وجدت أسباب العبادات والحقوق ثبتت ووجبت ، إلا إذا قارنها المانع » .
هذه القاعدة التاسعة ، وهي تتعلق بأحد أقسام الحكم الوضعي ، وهو السبب .
والأسباب : جمع سبب ، وهو الأمر الذي جعل الشارع وجوده علامة على وجود الحكم ، وعدمه علامة على عدم الحكم ، مثل : دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة ، ودخول الشهر سبب لوجوب صوم رمضان ، ونحو ذلك .
وهذه القاعدة ليست تكراراً للقاعدة السادسة ، لأن المانع هنا يراد به مانع السبب ، والمانع هناك مانع الحكم .
فمانع السبب هو : الوصف الذي يلزم من وجوده عدم تحقق السبب ، كالدَّين في باب « الزكاة » عند من يقول : إنه مانع ، وهم الجمهور ، فالسبب هو ملك النصاب ، والحكم هو وجوب الزكاة ، فالدين مانع من وجوب الزكاة ولو وجد السبب ، لأن تخليص ذمة المدين مما عليه من دين أولى من مواساة الفقراء .
ومنه – أيضاً – القرابة سبب في الإرث ، لأنها تقتضي النصرة والمودة ، فإذا قتل الأخ أخاه صار القتل مانعاً من الإرث ، لأن وجود القتل يناقض هذه الحكمة ، لأنه يعني العقوق والقطيعة .
القاعدة العاشرة(1/88)
ومنها : « الواجبات تلزم المكلفين » والتكليف : يكون بالبلوغ ، والعقل ، والإتلافات تجب على المكلفين وغيرهم ، فمتى كان الإنسان بالغاً عاقلاً : وجبت عليه العبادات التي وجوبها عام ، ووجبت عليه العبادات الخاصة إذا اتصف بصفات من وجبت عليهم بأسبابها ، والناسي والجاهل غير مؤاخذين من جهة الإثم ، لا من جهة الضمان في المتلفات .
هذه القاعدة العاشرة ، وهي تتعلق بمباحث الأحكام ، وهو بحث المحكوم عليه ، والمراد به : الشخص الذي يتعلق به خطاب الشارع ، وهو المكلف .
وقد ذكر الشيخ – رحمه الله – أن الشخص لا يكون صالحاً للتكليف إلا باجتماع وصفين :
الأول : البلوغ ، الثاني : العقل .
والبلوغ يكون بالاحتلام ، ويكون بالحيض في النساء ، قال ابن بطال : ( أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والحيض في النساء هو البلوغ الذي تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره ) «(1)» .
وما عدا ذلك من علامات البلوغ كنبات الشعر الخشن حول القبل ، أو البلوغ بالسن ، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم ، وليس عليه أدلة صريحة ، والله أعلم «(2)» .
وخرج بقولنا : ( البالغ ) : الصغير ، فلا يكلف بالأمر والنهي تكليفاً مساوياً لتكليف البالغ ، ولكنه يؤمر بالعبادات بعد التمييز تمريناً له على الطاعة ، ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها .
أما العقل ، فقد اتفق العلماء على أنه شرط للتكليف ، أما المجنون فلا يكلف بالأمر والنهي ، ولكنه يمنع مما فيه تعدٍّ على غيره أو إفساد ، ولو فعل المأمور به لم يصح منه ، لعدم قصد الامتثال «(3)» .
__________
(1) شرح ابن بطال على البخاري (8/49) .
(2) انظر : المغني (6/597) .
(3) انظر : الأصول من علم الأصول ص (20) .(1/89)
وقد دل على ما ذكرنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يكبر ، وفي رواية ( حتى يحتلم ) ، وفي رواية : ( حتى يبلغ ) ، وعن المجنون حتى يعقل ) «(1)» ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) «(2)» .
قوله : ( والإتلافات تجب على المكلفين وغيرهم ) أي : أن ضمان الأشياء المتلفة تجب على المكلفين ، وهم البالغون العقلاء ، وتجب على غيرهم كالصبيان والمجانين ، وهذا شامل لإتلاف النفوس المحترمة ، والأموال ، والحقوق ، فمن أتلف شيئاً من ذلك بغير حق فهو مضمون ، سواء كان متعمداً أو جاهلاً أو ناسياً ، وسواء كان مكلفاً أو غير مكلف ، لأن هذا ليس من خطاب التكليف ، وإنما هو من باب ربط الأحكام بأسبابها ، بمعنى أن الشرع وضع أسباباً تقتضي أحكاماً تترتب عليها ، تحقيقاً للعدل في خلقه ، ورعاية لمصالح العباد ، فمتى وجد السبب كنصاب الزكاة ، أو الإتلاف وجب الحكم .
قوله : ( فمتى كان الإنسان بالغاً عاقلاً وجبت عليه العبادات التي وجوبها عام ) أي : كالصلاة والصيام ، فهي تجب على كل مكلف .
قوله : ( ووجبت عليه العبادات الخاصة إذا اتصف بصفات من وجبت عليهم بأسبابها ) أي : كالزكاة فهي لا تجب على كل مكلف ما لم يتصف بسببها ، وهو ملك النصاب ، وكذا الكفارات والنفقات ، ونحوها .
__________
(1) أخرجه أبو داود (4403) والنسائي (6/156) والترمذي (1423) وابن ماجة (2041) من حديث علي - رضي الله عنه - ، وعلقه البخاري (12/120 فتح ) وقد جاء مرفوعاً من عدة طرق ، يقوي بعضها بعضاً ، وروي موقوفاً ، ومثله لا يقال بالرأي .
(2) أخرجه أبو داود (641) والترمذي (377) وابن ماجة (655) وقال الترمذي : حديث حسن ، وأعله بعضهم بالإرسال .(1/90)
قوله : ( والناسي والجاهل غير مؤاخذين من جهة الإثم ) أي : لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات ، والناسي والجاهل لا قصد لهما ، فلا إثم عليهما ، ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) «(1)».
وقد استجاب الله دعاء المؤمنين حين قالوا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فقال الله عز وجل : ( قد فعلت ) «(2)» .
فلو نسي إنسان صلاة فلا إثم عليه بنسيانه ، لكن يجب عليه قضاؤها إذا تذكرها ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من نسي صلاة فليصلِّ إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك ) «(3)» .
وكذا لو نسي الصائم فأكل أو شرب فلا إثم عليه ، وليتم صومه ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه ) «(4)» .
قوله : ( لا من جهة الضمان في المتلفات ) أي : أن النسيان والجهل ليس عذراً فيما يتعلق بحقوق المخلوقين ، فلو أن رجلاً اسْتُودع أمانة فتركها في موضع ناسياً فذهبت عليه وجب عليه الضمان ، لأن الله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء/58] .
قول الصحابي
__________
(1) أخرجه ابن ماجة (2045) وابن حبان (16/202) والحاكم (2/198) وغيرهم ، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، والحديث له طرق وشواهد من الكتاب والسنة ، وقد حسنه النووي في ( الأربعين ) (37) ، وقال الحافظ ابن حجر في ( تحفة الطالب ) (158) : ( إسناده جيد ) ، وذكر في ( موافقة الخبْر الخبَر ) (1/510) أنه حديث حسن ، وأن له طرقاً جيدة ، وبمجموعها يظهر أن له أصلاً .
(2) أخرجه مسلم (199-200) .
(3) أخرجه البخاري (572) ومسلم (684) .
(4) أخرجه البخاري (4/155 فتح ) ومسلم (1155) .(1/91)
« فصل » قول الصحابي – وهو من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ومات على الإيمان – إذا اشتهر ولم ينكر ، بل أقره الصحابة عليه : فهو إجماع ، فإن لم يعرف اشتهاره ، ولم يخالفه غيره : فهو حجة على الصحيح ، فإن خالفه غيره من الصحابة : لم يكن حجة .
لما ذكر الشيخ – رحمه الله – الأدلة المتفق عليها ، وهي : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، ذكر قول الصحابي ، وهو من الأدلة المختلف فيها .
والمراد به : قول الصحابي ورأيه فيما لا نص فيه من الكتاب والسنة ، ويدخل في ذلك الفعل والتقرير .
وقد عرف الشيخ الصحابي بأنه ( من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ومات على الإيمان ) فذكر قيدين :
الأول : أن يكون حال اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ، وهذا يخرج من اجتمع به أو رآه وهو كافر كأبي جهل وغيره ، وإن آمن ولم يجتمع به فليس بصحابي كالنجاشي .
القيد الثاني : أن يموت على الإيمان ، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر وغيره ، ويرى بعضهم أنه لا حاجة له ؛ لأنه قيد اتفاقي لا يضر خلو التعريف منه ، لأن مرادهم أن لا يظهر منه ردة ، فمن ارتد ورجع فهو صحابي ، كالأشعث بن قيس ؛ فإنه ارتد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تاب ، ومن مات على ردته فليس بصحابي ؛ كعبد الله بن خطل ، قتل يوم الفتح ، وربيعة بن أمية بن خلف ، ارتد في زمن عمر - رضي الله عنه - ، ومات على الردة .
وقول الصحابي بالنسبة لحجيته له ثلاثة أوجه كما ذكر الشيخ :
الأول : إذا اشتهر ولم ينكر فهذا إجماع ، وهو من الإجماع السكوتي ، وفي حجيته خلاف ، والأظهر أنه ليس بحجة ، لأنه لا ينسب لساكت قول .
والقول الثاني : أنه ليس بإجماع وإنما هو حجة ، ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جماهير العلماء «(1)» .
__________
(1) الفتاوى (20/14) .(1/92)
الوجه الثاني : إذا لم يشتهر ولم يخالفه غيره ، وهذا هو محل النزاع ، والأظهر – والله أعلم – أنه حجة ، ولكن ليس حجة ملزمة ، كنصوص الكتاب والسنة ، وإنما هو قول يؤخذ به حيث لا دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو غيرهما مما يعتبر ، لأن اقتفاء أثر الصحابة والأخذ بما أدى إليه اجتهادهم أولى من اجتهاد من جاء بعدهم ، لأن قولهم أقرب إلى الصواب لبركة الصحبة ، والتحلي بالهدي النبوي ، وهم حملة الشرع ، وأئمة الهدى .
وقد جاء ما يدل على ذلك في قول الإمام الشافعي – رحمه الله – في حكايته مع مناظره : ( قال : أفرأيت إذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة و لا خلافاً ، أتجد لك حجة باتباعه في كتاب أو سنة أو أمر أجمع عليه الناس فيكون من الأسباب التي قلت بها خَبَراً ؟ قلت له : ما وجدنا في هذا كتاباً ولا سنة ثابتة ، ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة ، ويتركونه أخرى ، ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم ، قال : فإلى أيّ شيء صرت من هذا ؟ قلتُ : إلى اتباع قول واحد إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً في معناها يحكم له بحكمه ، أو أجد معه قياساً ، وقلَّ ما يوجد من قول الواحد منهم لا يخالفه غيره من هذا ) «(1)» .
الوجه الثالث : إذا خالفه غيره من الصحابة ، وهذا ليس بحجة عند جميع الفقهاء ، لأنه لا مرجح لأحدهما على الآخر ، فإن وجد مرجح كان العمل بالدليل لا بقول الصحابي .
__________
(1) الرسالة ص (597-598) وقوله : ( ويتفرقوا ) هكذا بحذف النون بدون ناصب أو جازم ، ولعله على لغة ، وهي صحيحة ، وإن كانت قليلة الاستعمال ، كما ذكر النووي في شرحه على ( صحيح مسلم ) (17/212) وقد وقع في الرسالة في موضع آخر ، انظر : ص (562) ، وقد قال ابن هشام صاحب السيرة : ( الشافعي كلامه لغة يحتج بها ) .(1/93)
ومن أمثلة ذلك : ما ورد أن عمر وعلياً وابن عباس والمغيرة بن شعبة – رضي الله عنهم – يرون قتل الجماعة بالواحد ، وابن الزبير لا يرى ذلك ، كما نقله ابن المنذر ، فيرجح الأول ، لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة/179] «(1)» .
وبهذا يتبين أن حجية قول الصحابي لها شرطان :
الأول : ألا يعارضه ما هو أقوى منه من نص أو ما في معناه .
الثاني : ألا يخالفه صحابي آخر .
ويندر أن يتحقق هذان الشرطان في قول الصحابي ، وعلى هذا فتضييق دائرة الخلاف من حيث النتائج ، أما الاختيار من أقوالهم وعدم الخروج عنها جملة ، وتقليد بعضهم ، فهذا باب واسع ، والله أعلم «(2)» .
مسائل أصولية من عدة أبواب
1 ـ من مسائل الأمر والنهي
« فصل » الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عن الشيء أمر بضده ، ويقتضي الفساد إلا إذا دل الدليل على الصحة ، والأمر بعد الحظر يرده إلى ما كان عليه قبل ذلك ، والأمر والنهي : يقتضيان الفور .
ولا يقتضي الأمر التكرار إلا إذا علق على سبب ، فيجب أو يستحب عند وجود سببه .
هذا الفصل عقده الشيخ – رحمه الله – لمسائل أصولية من عدة أبواب ، فذكر ست عشرة مسألة ، بأسلوب موجز ، ومعنى واضح ، وهي بمنزلة القواعد الأصولية التي ينبغي حفظها وما يتعلق بها من أمثلة ، وقد ذكر من مسائل الأمر والنهي سبع مسائل :
المسألة الأولى : الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وذلك كقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول } [النور/56] فالأول : أمر بإقامة الصلاة ونهي عن تركها ، والثاني : أمر بإيتاء الزكاة ونهي عن تركها ، والثالث : أمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونهي عن معصيته .
__________
(1) انظر : المغني (11/490) .
(2) انظر : أصول مذهب الإمام أحمد ص (444) .(1/94)
ومثاله – أيضاً – : الأمر بالقيام في الصلاة نهي عن ضده ؛ وهو الجلوس ، فإذا جلس من قيامه أثناء صلاة الفرض عمداً لغير عذر بطلت صلاته ، لأن أمره بالقيام نهي له عن الجلوس .
والأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده من جهة المعنى لا من جهة اللفظ ، فالطلب له تعلق واحد بأمرين : فعل الشيء ، والكف عن ضده ، فباعتبار الأول هو أمر ، وباعتبار الثاني هو نهي ، وهذا من باب دلالة ( الالتزام ) وليس الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده ، كما تقوله الأشاعرة ومن نهج منهجهم بناء على مذهبهم الباطل ، وهو أن الأمر هو المعنى القائم بالذات المجرد عن الصيغة .
والمسألة الثانية : النهي عن الشيء أمر بضده . كقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [الإسراء/32] ، فهو نهي في اللفظ عن قرب الزنا ، وأمر بما يتم به الاستعفاف من حيث المعنى ، من النكاح أو الصوم أو بمجرد ترك الزنا .
وبهذا يتبين أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده ، فالنهي عن القيام أمر بواحد من أضداده من القعود أو الاضطجاع أو غيرهما ، لحصول الامتثال بذلك الواحد .
المسألة الثالثة : أن النهي يقتضي الفساد ، إلا إذا دلَّ الدليل على الصحة ، وهذه المسألة فيها تفصيل كما يلي :
أن يقترن النهي بقرينة تدل على الفساد أو الصحة فيعمل بها .
ومثال الأول : حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب ، وإذا جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً «(1)» .
فأبطل العوض عنه ، وهذا إبطال للبيع وإفساد له ، فالنهي قد اقتضى الفساد بالنص وهو قوله : ( فإن جاء يطلب ثمن الكلب ) .
__________
(1) أخرجه أبو داود (3482) وإسناده صحيح ، كما قال الألباني .(1/95)
ومثال الثاني : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تُصَرُّوا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها ، وصاعاً من تمر ) «(1)» .
فقد دل قوله : ( إن شاء أمسكها ) على صحة البيع ، مع أنه نهى عن التصرية – وهي حبس اللبن في الضرع عند إرادة البيع – لكنه نهي لا يقتضي الفساد ، لأن الفاسد لا يقره الشرع «(2)» .
أن يكون النهي لأمر خارج عن المنهي عنه ، فهذا لا يقتضي الفساد ، فيصح الفعل وتترتب آثاره عليه ، مع الإثم بفعل المنهي عنه ، لانفكاك الجهة .
ومثال ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا صلاة بحضرة طعام ، ولا هو يدافعه الأخبثان ) «(3)» ، فهذا نفي ، مقتضاه النهي عن الصلاة عند حضور الطعام ، وعند مدافعة البول والغائط ، وذلك لما فيه من تفويت الخشوع ، فالصلاة صحيحة على أحد القولين ، وهو قول الجمهور ، لأن النهي يعود على أمر ليس شرطاً في صحة الصلاة ، بل تصح بدونه ، كما دلت السنة على ذلك .
ومن أمثلة العقود : النهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ، فإنه راجع إلى تفويته للصلاة ، وهو غير لازم للبيع ، لأنه قد يحصل بدون تفويت ، لأنهما قد يتعاقدان وهما يسيران إلى الصلاة ، فالبيع صحيح لاستيفائه شروط الصحة ، ويبقى تفويت الجمعة يكون به آثماً لأنه معصية ، وهذا على أحد القولين في هذه المسالة ، وقد تقدم القول الآخر .
أن يتجرد النهي من قرينة تدل على الصحة أو قرينة تدل على الفساد ، فهذا هو النهي المطلق ، فالأصل أنه يدل على الفساد ، لما يلي :
أولاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) «(4)» .
__________
(1) أخرجه البخاري (2150) ومسلم (1515) (11) .
(2) انظر : مجموع الفتاوى (29/283) .
(3) أخرجه مسلم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها ، وفيه قصة .
(4) تقدم تخريجه .(1/96)
وجه الدلالة : أن ما نهى عنه فليس من أمره ، أي : من شرعه ودينه ، فيكون مردوداً على فاعله ، وما كان مردوداً فكأنه لم يوجد ، لأنه فاسد .
ثانياً : أن الصحابة – رضي الله عنهم – استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها ، فمن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما – : ( لا يصح نكاح المشركات ؛ لأن الله تعالى قال : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } [البقرة/221] «(1)» .
واحتجاجهم على فساد الربا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا يداً بيد سواء بسواء ) «(2)» .
ثالثاً : أن المنهي عنه مفسدته راجحة ، وإن كان فيه مصلحة فمصلحته مرجوحة بمفسدته ، فما نهى الله عنه وحرمه إنما أراد مَنْعَ وقوع الفساد ودَفْعَهُ ، لأن الله إنما ينهى عما لا يحبه ، والله لا يحب الفساد ، فَعُلِمَ أن المنهي عنه فاسد ليس بصالح «(3)» .
المسألة الرابعة : مسألة الأمر بعد الحظر ، وقد ذكر الشيخ أنه يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر ، فإن كان قبل الحظر جائزاً رجع إلى الجواز ، وإن كان قبله واجباً رجع إلى الوجوب ، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة ، لأنه ينتظم جميع الأدلة ولا يَرِدُ عليه شيء .
مثاله : الصيد قبل الإحرام كان جائزاً ، فمنع للإحرام بقوله تعالى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [المائدة/96] ثم أمر به بعد الإحلال بقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة/2] فيرجع إلى الجواز .
وقتل المشركين كان واجباً قبل دخول الأشهر الحرم ، فمنع من أجلها ، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [التوبة/5] فيرجع إلى ما كان قبل التحريم ، وهو الوجوب .
__________
(1) شرح مختصر الروضة (2/437) تفسير ابن كثير (1/376) .
(2) أخرجه البخاري (2177) ومسلم (1584) .
(3) انظر : مجموع الفتاوى (29/282-283) .(1/97)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي ) «(1)» ، فالأمر بالصلاة للوجوب ؛ لأن الصلاة قبل امتناعها بالحيض واجبة .
المسألة الخامسة : أن النهي يقتضي الفور ، وهو المبادرة بالكف عن المنهي عنه بمجرد سماع النهي ؛ لأن الامتثال في هذا الباب لا يتحقق إلا بالمبادرة إلى الامتناع عن الفعل حالاً ، والاستمرار على هذا الامتناع في جميع الأوقات ، ولأن الفعل إنما نهى الشارع عنه لمفسدته ، ولا يمكن درء هذه المفسدة إلا بالامتناع حالاً ودائماً «(2)» ، ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم …)«(3)» ، قال العلماء : تقييد الأوامر بالاستطاعة دون المناهي ؛ لأن اجتناب المناهي استصحاب للعدم واستمرار عليه ، وليس فيه ما لا يستطاع حتى يسقط التكليف به ، وفعل الأوامر إحداث عبادة من العدم إلى الوجود ، ويحتاج إلى أركان وشروط ، وبعضها قد لا يستطاع ، فسقط التكليف به .
ولعل هذا باعتبار الغالب بالنسبة للمناهي ، وبه تسقط دعوى كثير ممن يُنْهون عن بعض المعاصي ، فيتعللون بعدم القدرة على الترك ، وما هذا بصحيح ، وإنما هو ضعف الإيمان وحب المعصية ، وعدم الخوف من الله .
وقد يكون الداعي إلى فعل المعصية قوياً لا صبر للعبد معه على الامتناع منها ، فيحتاج للكف عنها إلى مجاهدة شديدة ، قد تكون أشق على النفوس من المجاهدة على فعل الطاعة ، فعلى العبد أن يتأمل في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت/69] «(4)» .
__________
(1) أخرجه البخاري (328) ومسلم (333) .
(2) انظر : الوجيز ص (302) .
(3) تقدم تخريجه .
(4) انظر : جامع العلوم والحكم لابن رجب ، حديث (9) مع التصرف بحذف وزيادة .(1/98)
ويستثنى من اقتضاء النهي الدوام والفورية ما إذا وجد قرينة ، صارفة عن ذلك ، وذلك بأن يدل دليل على أن المراد بالنهي وقت معين لكونه مقيداً بوصف أو شرط أو نحوهما ، فهو على حسب ما قيد به ، وذلك كالنهي عن صوم يوم النحر ، ونهي الحائض عن الصلاة لأجل الحيض ، ونحو ذلك «(1)» .
المسألة السادسة : أن الأمر يقتضي الفور ، وهو الشروع في الامتثال عقب الأمر من غير فصل ، ودليل ذلك ما يلي :
أن ظواهر النصوص تدل عليه ، كقوله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } [آل عمران/133] ، وقوله : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [الحديد/21] وقوله : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [البقرة/148] والمأمورات الشرعية خير ، والأمر بالاستباق إليها دليل على وجوب المبادرة .
ما جاء في قصة الحديبية ، وفيها : ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : « قوموا فانحروا ثم احلقوا » قال : فو الله ما قام منهم رجل ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس … الحديث ) «(2)» .
وجه الدلالة : أنه لو لم يكن الأمر للفور ما دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة – رضي الله عنها – مغضباً ، ولا قال لها : ( ألا ترين إلى الناس إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه ) كما في رواية ابن إسحاق «(3)» .
أن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ للذمة وأدل على الطاعة ، والتأخير له آفات ، ويقتضي تراكم الواجبات حتى يعجز الإنسان عنها .
من جهة اللغة : أن السيد لو أمر عبده بأمر فلم يمتثل معتذراً بأن الأمر على التراخي ، لم يكن عذره مقبولاً .
__________
(1) انظر : الدلالات وطرق الاستنباط ص (68) .
(2) أخرجه البخاري (5/329 فتح ) في حديث طويل .
(3) انظر : زاد المعاد (3/307) فتح الباري (5/347) .(1/99)
وما ذكره الشيخ – رحمه الله – هو أحد الأقوال في هذه المسألة ، والظاهر أن المراد به الأمر المطلق ، فإن وجد ما يدل على أن الأمر مؤقت بوقت كالصلوات الخمس لزم امتثاله في وقته المحدد ، ويكون من باب الواجب الموسع ، وكذا إن وجد قرينة تدل على التراخي عمل بها ، كقضاء رمضان ، لقوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } [البقرة/184].
المسألة السابعة : أن الأمر لا يقتضي تكرار فعل المأمور به إلا إذا علق على سبب ، وتوضيح ذلك ؛ أن الأمر له ثلاث حالات :
الأولى : أن يقيد بما يفيد الوحدة ، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج ، فحجوا ) فقال رجل : أكلَّ عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثاً ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لو قلت : نعم لوجبت ، ولما استطعتم ) «(1)» .
ووجه الدلالة : أنه لو كان الأمر للتكرار لما أنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على السائل سؤاله ، بل قال له : نعم ، فكونه لم يقل ابتداء ( في كل عام ) دليل على أن الأصل وقوع المأمور به مرة واحدة ، وأن ما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل .
الثانية : أن يقيد بما يفيد التكرار ، فيحمل على ما قيد به ، والقيد إما صفة ، كقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة/38] فكلما حصلت السرقة وجب القطع ، ما لم يكن تكرارها قبله .
__________
(1) أخرجه مسلم (1337) .(1/100)
وإما شرط ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } [المائدة/6] فظاهر الآية إيقاع الفعل وهو – الوضوء – على التكرار ، بتكرار الصلاة ، إلا أن السنة دلت على أن الأمر معلق بالحَدَثِ ، تخفيفاً على الأمة ، وأمَّا بدون الحدث ، فهو على الندب كما دلت عليه السنة «(1)» ، وهذا فيما إذا كان الشرط والصفة علة ثابتة كما مثلنا ، فإن لم يكن علة ثابتة ، فلا تكرار ، مثل : إن جاء زيد فاعتق عبداً من عبيدي ، فإذا جاء زيد حصل ما عُلِّق عليه الأمر ، لكن لا يتكرر بتكرر مجيئه .
وهذا معنى قول الشيخ : ( إلا إذا علق بسبب فيجب عند وجود سببه ) وأما قوله : ( أو مستحب ) فيمثل له بتحية المسجد على قول الجمهور – وهو أنها سنة – ، وعلى هذا فتتكرر التحية كلما دخل المسجد ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ) «(2)» ، ورجح ذلك الشيخ في « الفتاوى » «(3)» .
والأظهر – والله أعلم – أنه يكفيه ركعتان ، لأن من خرج من المسجد وعاد من قُرْبٍ ، لم يخرج خروجاً منقطعاً ، فلا يعيد التحية ، أما من خرج خروجاً منقطعاً ولم ينو الرجوع فهذا تشرع له التحية مرة أخرى إن رجع «(4)» .
الثالثة : أن يكون الأمر مطلقاً لم يقيد ، فهذا لا يقتضي التكرار ، كما ذكر الشيخ ، وهو الأرجح في هذه المسألة ، فيخرج المأمور من عهدة الأمر بمرة واحدة ، والأصل براءة الذمة مما زاد عليها ، واللغة تدل على ذلك ؛ فإن السيد لو قال لعبده : « ادخل السوق واشترِ تمراً » لم يعقل منه التكرار ، ولو كرر العبد ذلك ، لحسُن لومه ، ولو لامه سيده على عدم التكرار لعُدَّ السيد مخطئاً .
__________
(1) انظر : فتح الباري (1/315) .
(2) أخرجه البخاري (433) ومسلم (714) .
(3) الفتاوى السعدية ص (161) .
(4) فتاوى ابن عثيمين (14/353) .(1/101)
ويؤيد ذلك أنه قد علم حسن قول القائل : افعل كذا أبداً ، أو افعله مرة واحدة ، فلو دل الأمر على التكرار لم يكن لقوله : ( أبداً ) فائدة ، ولكان قوله : ( مرة واحدة ) تناقضاً ، لأن ( افعل ) بوضعه يقتضي التكرار ، فلما لم يقتض التكرار حسن مثل ذلك .
2 ـ حكم ما خُير فيه المكلف
والأشياء المخير فيها إن كان للسهولة على المكلف : فهو تخيير رغبة واختيار ، وإن كان لمصلحة ما ولي : فهو تخيير يجب تعيين ما ترجحت مصلحته .
ذكر الشيخ في هذه المسألة أن الأشياء المخير فيها نوعان :
الأول : أن يكون التخيير مقصوداً به التسهيل على المكلف ، فيكون التخيير تخيير رغبة واختيار ، كخصال الكفارة ؛ من إطعام أو كسوة أو عتق ، وكفدية الأذى ، وهي صيام أو صدقة أو نسك ، كما دل على ذلك القرآن .
الثاني : أن يكون المقصود من التخيير مصلحة الغير ، فهو تخيير يجب فيه ما ترجحت مصلحته ، مثل : تخيير ملتقط الحيوان في حول تعريفه بين حفظه والإنفاق عليه ليرجع على صاحبه إذا وجده ، وبين بيعه وحفظ ثمنه ، وبين أكله بعد أن يقومه على نفسه ، ومن ذلك : تصرفات ولي اليتيم ، وناظر الوقف ، والوصي ، وغيرهم .
4 ـ من مسائل العام والخاص
وألفاظ العموم – ككل ، وجميع ، والمفرد المضاف ، والنكرة في سياق النهي أو النفي أو الاستفهام أو الشرط ، والمعرف بأل الدالة على الجنس أو الاستغراق – كلها تقتضي العموم .
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ويراد بالخاص العام وعكسه ، مع وجود القرائن الدالة على ذلك .
وخطاب الشارع لواحد من الأمة ، أو كلامه في قضيه جزئية : يشمل جميع الأمة وجميع الجزئيات ، إلا إذا دل الدليل على الخصوص .(1/102)
يتعلق بالعام والخاص مسائل كثيرة ، وقد تقدم بعضها ، وذكر الشيخ هنا ست مسائل : فالمسألة الأولى تتعلق بألفاظ العموم ، وكان الأولى بالشيخ – رحمه الله – أن يذكرها هناك أثناء كلامه على العام ، لكنه ذكرها هنا ، إما لغرض ، أو أنه قصد جمع المسائل دون مراعاة ضم النظير إلى نظيره ، فمن صيغ العموم :
ما دل على العموم بمادته ، مثل : ( كل ، وجميع ) كقوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت } [آل عمران/185] ، وقوله تعالى : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يّس/32] .
المفرد المضاف ،كقوله تعالى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } [النحل/18] ، وكذا الجمع المضاف ، كقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } [النساء/11] .
النكرة في سياق النهي ،كقوله تعالى: { فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [الجن/18] ، أو في سياق النفي ، كقوله تعالى: { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [البقرة/255] ، أو في سياق الاستفهام الإنكاري ، كقوله تعالى : { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء } [القصص/71] ، أو في سياق الشرط ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } [التوبة/6] .
المعرف بأل الدالة على الجنس ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } [الحج/1] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [البقرة/70] ، أو الدالة على الاستغراق ، وعلامتها : صحة وقوع ( كل ) موقعها ، كقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة/38] ، وقوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا } [النور/59] .
المسألة الثانية : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .(1/103)
ومعناها : أنه إذا حدث حادثة فورد في حكمها نص بلفظ عام ، فإن العبرة بهذا اللفظ العام ، ولا ينظر إلى السبب الخاص ، وتوضيح ذلك أن العام الوارد على سبب خاص له ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يدل دليل على العموم ، فيعم إجماعاً ، ومن أمثلة ذلك : ما ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره ، فأنزل الله: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات } [هود/114] فقال الرجل : ألي هذا ؟ قال : ( لجميع أمتي كلهم ) «(1)» .
الحالة الثانية : أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله العام ، فيختص بما يشبهها ، ولا يعمل به على عمومه .
وذلك كحديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ليس من البر الصيام في السفر ) «(2)» ، فإن سببه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فرأى زحاماً ، ورجلاً قد ظُلل عليه ، فقال: ما هذا ؟ قالوا : صائم ، فقال : ( ليس من البر الصيام في السفر ) ، فهذا الحديث عام ، لعموم ( البر ) و ( الصيام ) ، فيدل على انتفاء كل بر عن كل صيام في السفر ، لكن لا يؤخذ بعمومه في الأحوال ، فيحكم على كل صيام في السفر بأنه ليس من البر ، وإنما هو خاص بمن يشبه حال الصحابي الذي قيل الحديث بسببه «(3)» .
والدليل على ذلك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام في السفر ، حيث لا يشق عليه ، وهو لا يفعل ما ليس براً .
__________
(1) أخرجه البخاري (526-4687) ومسلم (2763) .
(2) أخرجه البخاري (1950) ومسلم (1146) .
(3) انظر : شرح ابن دقيق العيد على العمدة (3/63) .(1/104)
الحالة الثالثة : أن لا يدل دليل على التعميم ولا على التخصيص ، فالراجح أن العبرة العمل بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، سواء كان السبب سؤالاً أو واقعة ، فيجب العمل بعمومه ، ومثاله : ما ورد أن قوماً من الصحابة – رضي الله عنهم – قالوا : يا رسول الله إنا نركب البحر ولو توضأنا بما معنا من الماء عطشنا أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) «(1)» .
فصيغة العموم وهي قوله : ( هو الطهور ماؤه ) تدل بعمومها على أن ماء البحر مطهرٌ كلَّ أنواع التطهير ، في حال الضرورة والاختيار ، ولا عبرة بورود السؤال عن شيء خاص ، وهو الوضوء ، ولا بكون السؤال ورد في حال الضرورة ، وهو خشية العطش .
ومثل ذلك – أيضاً – : آيات الظهار التي في أول سورة المجادلة ، فإن سبب نزولها ظهار أوس بن الصامت - رضي الله عنه - ، والحكم عام فيه وفي غيره ، لأن الله تعالى قال : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } [المجادلة/2] والاسم الموصول من صيغ العموم ، ولم يرد دليل مخصص ، وعدول الشارع عن اللفظ الخاص إلى اللفظ العام لا بد له من فائدة ، وفائدته هي تعميم الحكم ، فإن الكتاب والسنة إنما جاءا لبيان أحكام الشريعة العامة .
ويرى آخرون أن العبرة بخصوص السبب ، وأن لفظ الآية مقصور على الحادثة التي نزل هو لأجلها ، أما أشباهه فلا يُعلم حكمها من نص الآية ، وإنما بالقياس أو بنص آخر ، وعلى هذا فهم لم يقولوا إن حكم الآية مختص بمن نزلت بسببه دون غيره ، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق .
وإنما المراد أن الجمهور يقولون يتعدى الحكم إلى أفراد غير السبب بالنص نفسه ، عملاً بالعموم ، وغيرهم يقول : يتعدى الحكم إما بالقياس أو بنص آخر لا بالنص نفسه «(2)» .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) انظر : مقدمة في أصول التفسير لأبن تيمية ص (37) مناهل العرفان (1/118) .(1/105)
المسألة الثالثة : أنه يأتي النص الخاص ويراد به العام إذا وجد قرينة تدل على ذلك ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } [الطلاق/1] فهذا خاص ، لأنه خطاب موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه يراد به العام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ( جمهور علماء الأمة على أن الله إذا أمر نبيه بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له في ذلك ، ما لم يقم دليل على اختصاصه بذلك )«(1)» .
ومن الأمثلة – أيضاً – : قوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب/33] ، فإن الخطاب في هذه الآيات – وهي آيات الحجاب – وإن كان لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو عام لجميع نساء الأمة .
المسألة الرابعة : أنه يأتي العام ويراد به الخاص بالشرط المذكور ، كقوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران/97] ، فالناس في هذه الآية عام يراد به خصوص المكلفين ، لأن الشرع والعقل يقضيان بخروج الصبيان والمجانين .
وكقوله تعالى : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } [التوبة/120] ، فهنا لفظان عامان يراد بهما خصوص القادرين ، كما ذكر ذلك الشافعي – رحمه الله – وذكر أمثلة أخرى «(2)» .
المسألة الخامسة : أن خطاب الشارع لواحد من الصحابة – رضي الله عنهم – يشمل جميع المكلفين ، ولا يختص بذلك الصحابي ، إلا بدليل يدل على التخصيص .
ومن أمثلة ذلك : قول علي - رضي الله عنه - : ( نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد ) «(3)» .
__________
(1) انظر : مجموع الفتاوى ( 22/322) .
(2) الرسالة ص (54) وانظر فتح الباري (2/8) ففيه مقال أيضاً .
(3) أخرجه مسلم (480) .(1/106)
ومن أمثلته – أيضاً – حديث قيس بن عاصم - رضي الله عنه - : ( أنه لما أسلم أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر ) «(1)» .
ودليل هذا التعميم النص والقياس ، أما النص فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ) «(2)» .
وأما القياس : فإن قياس غير المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي .
وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يرجعون في أحكامهم العامة إلى أحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان بعضها توجه إلى صحابي واحد ن كحديث عائشة – رضي الله عنها – لما حاضت صفية – رضي الله عنها – ، وفي تفويض المهر إلى قصة بروع بنت واشق – رضي الله عنها – ، وفي حكم السكنى للمبتوتة إلى حديث فاطمة بنت قيس – رضي الله عنها – ، وفي حد الزاني إلى قصة ماعز - رضي الله عنه - ، وغير ذلك .
__________
(1) أخرجه أبو داود (355) والنسائي (4/110) والترمذي (605) وحسنه ، وصححه ابن خزيمة (255) وابن حبان (4/45) وقال ابن المنذر في الأوسط (2/114) : ( حديث ثابت ) وله شاهد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة ثمامة بن أثال ، أخرجه عبد الرزاق (6/9) وسند صحيح ، وقصته في الصحيحين وليس فيها الأمر بالغسل .
(2) أخرجه النسائي (7/149_152) والترمذي (1597) وابن ماجه (2874) وأحمد (6/357) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .(1/107)
المسألة السادسة : أن كلام الشارع في قضية جزئية يشمل جميع الجزئيات ، وذلك مثل : ( نهى عن بيع الغرر ) «(1)» وقول الصحابي : ( قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة للجار )«(2)» ، فهذا يعم كل غرر وكل جار ، وذلك لأن الصحابي الناقل لذلك عدل ضابط فلا يروي ما يدل على العموم إلا وهو جازم بالعموم ، وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يحتجون يمثل ذلك دون نكير ، وقد رجع ابن عمر – رضي الله عنهما – إلى حديث رافع بن خديج – رضي الله عنهما – : ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة ) «(3)» .
قوله : ( إلا إذا دل دليل على الخصوص ) أي : أن ما خوطب به الصحابي لا يختص به إلا إذا دل الدليل على اختصاصه بهذا الحكم ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بُردة في الأضحية بالجذع من المعز : ( تجزئك ولا تجزيء أحداً بعدك )«(4)» ومثل ذلك تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - خزيمة - رضي الله عنه - بجعل شهادته كشهادتين «(5)» .
4 ـ الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بدليل
وفعله - صلى الله عليه وسلم - الأصل فيه أن أمته أسوته في الأحكام إلا إذا دل دليل على أنه خاص به .
__________
(1) أخرجه مسلم (1513) .
(2) أخرجه النسائي (7/320) .
(3) أخرجه البخاري (5/23 فتح ) ومسلم (1547) .
(4) أخرجه البخاري (10/12 فتح ) ومسلم (1961) .
(5) أخرجه البخاري (2807) .(1/108)
هذه المسألة تتعلق بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد مضى الكلام عليها ، وذكر هنا أن الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله من العبادات والمعاملات والأطعمة واللباس وغير ذلك ، لقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب/21] ، فيجب العمل بمقتضى هذه الآية حتى يقوم الدليل المانع من التأسي ، وهو الدال على الخصوصية ، كما في قوله تعالى : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب/50] ، فهذه الآية تدل على أن الأصل التأسي به - صلى الله عليه وسلم - لقوله : { خَالِصَةً لَكَ } ولو لم يكن هذا هو الأصل ؛ لما كان لقوله : { خَالِصَةً لَكَ } فائدة ، لأن الخصوصية تكون ثابتة بدون هذه الكلمة «(1)» .
5 ـ حكم ما نفى الشارع
وإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة : فهو لفسادها ، أو نفى بعض ما يلزم فيها : فلا تنفى لنفى بعض مستحباتها .
هذه المسألة تتعلق ببيان حكم ما نفاه الشارع ، فإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة ، فهو إما لفسادها من أصلها ، أو لانتفاء بعض ما يلزم فيها من واجبات أو غيرها .
ومثال الأول : ( لا صام من صام الأبد ) «(2)» ، ( لا وصية لوارث ) «(3)» .
__________
(1) أصول السرخسي (2/89) .
(2) أخرجه البخاري (1977) ومسلم (1159) .
(3) أخرجه أبو داود (3565) والترمذي (2120) وابن ماجة (2713) وأحمد (5/267) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .(1/109)
ومثال الثاني : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) «(1)» ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته : ( ارجع فصلِّ فإنك لم تصلّ ) «(2)» ، وقوله : ( لا نكاح إلا بولي ) «(3)» ، وكل ذلك يدل على الفساد وذلك لأن النفي قد يكون نفياً للوجود مثل : لا خالق إلا الله ، وقد يكون نفياً للصحة ، مثل : لا صلاة إلا بطهور ، وقد يكون نفياً للكمال مثل : لا صلاة بحضرة طعام – على أحد القولين – .
والأصل في نفي الشرع أن يكون نفياً للصحة لا نافياً للكمال إلا بدليل ، ونفي الصحة يلزم منه الفساد ، وهو نفي للوجود الشرعي في الواقع .
قوله : ( فلا تنفى لنفي بعض مستحباتها ) ، أي : أن العمل إذا فعل كما أوجبه الله تعالى فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من مستحباته التي ليست بواجبه «(4)» ، وعلى هذا فلا يحكم عليه بالفساد ، كما لو ترك المصلي رفع يديه ، أو اقتصر على الذكر مرة واحدة ، ونحو ذلك مما يعده الفقهاء من سنن الأقوال والأفعال .
6 ـ المرجع في صيغ العقود إلى العرف
تنعقد العقود وتنفسخ بكل ما دل على ذلك من قول أو فعل .
هذه المسألة تتعلق بالعقود من البيع والإجارة والهبة والنكاح والفسوخ ، ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري (756) ومسلم (394) .
(2) أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) .
(3) أخرجه أبو داود (2085) والترمذي (1101) وابن ماجة (1881) وأحمد (4/394) عن أبي موسى - رضي الله عنه - ، وقد صححه غير واحد من الحفاظ ، انظر : إرشاد الفقيه لابن كثير (2/145) .
(4) انظر : الفتاوى (18/268) (22/530) (23/233) القواعد النورانية ص (26) .(1/110)
ومعنى هذه القاعدة : أن كل ما يدل على مراد المتعاقدين مما تعارف عليه الناس من لفظ ، أو فعل ، أو نحوهما ، انعقد به العقد ، وهكذا يقال في الفسوخ ، بل تنعقد العقود عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال ، ومعلوم أن الألفاظ التي عند العرب ليست هي الألفاظ التي عند غيرهم ، ويدخل في ذلك ما تعارف الناس عليه من البيع بالمعاطاة من غير إيجاب ولا قبول عند شراء حوائجهم ، وهذا كثير في عصرنا هذا .
وما تقدم معلل بأمرين :
الأول : أن الشرع ذكر العقود ، وليس لها حد في اللغة أو الشرع ، فيرجع إلى العرف .
الثاني : أن العقود ليست عبادات يتقيد الإنسان فيها بما ورد ، بل هي معاملات يرجع فيها إلى ما تعارف الناس عليه ، والله أعلم .
خاتمة
في طريقة تقرير الأحكام الشرعية
والاجتهاد والتقليد
المسائل قسمان : مجمع عليها ، فتحتاج إلى تصور وتصوير ، وإلى إقامة الدليل عليها ، ثم يحكم عليها بعد التصوير والاستدلال .
وقسم فيها خلاف ، فتحتاج – مع ذلك – إلى الجواب عن دليل منازع ، هذا في حق المجتهد والمستدل ، وأما المقلد فوظيفته السؤال لأهل العلم .
والتقليد : قبول قول الغير من غير دليل ، فالقادر على الاستدلال عليه الاجتهاد والاستدلال ، والعاجز عن ذلك : عليه التقليد والسؤال ، كما ذكر الله الأمرين في قوله : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [الأنبياء/7] ، والله أعلم .
وصلّى الله على محمد رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم .
ذكر الشيخ – رحمه الله – في خاتمة الرسالة ثلاث مسائل :
طريقة تقرير الأحكام الشرعية .
الاجتهاد .
التقليد .
أما طريقة تقرير الأحكام الشرعية ، فإن المسائل قسمان :
الأول : مجمع عليها ، وهذه لها ثلاث مراتب :(1/111)
الأولى : تصور المسألة وتصويرها ، والتصور : إدراك الشيء من غير أن يحكم عليه بنفي أو إثبات ، فتصور المسألة : هو إدراكها ، وأما تصويرها : فهو حصر ضوابطها أو وصفها للغير وصفاً واضحاً .
المرتبة الثانية : إقامة الدليل عليها ، وهو الاستدلال على المسألة من كتاب أو سنة ، لأن الإجماع لا بد أن يستند إلى دليل ، كما تقدم .
المرتبة الثالثة : الحكم عليها ، وهذه ثمرة الاستدلال .
ومثال ذلك : نفقة الزوجة ، فلا بد من تصوير المسألة المعروضة على المفتي ليعرف مقدار ما يجب من النفقة ؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، وبتنوع حال الزوجين يساراً وإعساراً ، فإذا تقرر ذلك عند المفتي ، استدل عليه بمثل قوله تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا } [الطلاق/7] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف )«(1)» ، وقد نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على وجوب نفقة الزوجة على زوجها ما لم تكن ناشزاً «(2)» ، وبناء على هذه الأدلة يذكر المفتي وجوب نفقة الزوجة على زوجها ويرجع في تقدير ذلك إلى العرف في ذلك البلد الذي منه السائل .
أما المسائل التي فيها خلاف فتحتاج إلى أربع مراتب ، الثلاث السابقة ، والمرتبة الرابعة : الجواب عن دليل المنازع ؛ لأنه بعد تصوير المسألة والاستدلال عليها وبيان حكمها ، يبقى دليل المخالف موهناً لدليله ، وترجيح أحد القولين لا بد فيه من الجواب عن دليل المنازع ليظهر ضعفه وقوة دليل المستدل .
__________
(1) أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر - رضي الله عنه - في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع .
(2) المغني (11/348) .(1/112)
ومثال ذلك : أنه يجوز اختلاف نية الإمام والمأموم ، وتصوير المسألة : في مثل ما لو دخل إنسان المسجد والإمام يصلي التراويح فله أن يصلي العشاء خلفه ، فإذا سلم الإمام قام وأتم صلاته ، ودليل ذلك ما ورد عن جابر - رضي الله عنه - أن معاذاً - رضي الله عنه - كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة ، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة «(1)» .
كما يدل على ذلك – أيضاً – أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بالطائفة الثانية صلاة الخوف وهي له نافلة ، فإنه صلّى بالطائفة الأولى ثم سلم ، ثم صلّى بطائفة أخرى ثم سلم «(2)» ، واستدل المخالف بحديث ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ) «(3)» .
والقول الأول أرجح لقوة دليله ، وأما دليل المنازع فعنه جوابان :
الأول : أنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسره بذلك ، كما في تمام الحديث .
الثاني : سلمنا أنه عام في اختلاف النيات و الأفعال الظاهرة ، لكنه مخصوص بمثل حديث جابر المذكور ، والله أعلم .
قوله : ( هذا في حق المجتهد والمستدل ) أي : أن هذا المسلك في بيان الحكم الشرعي هو وظيفة المجتهد وهو : الفقيه الذي له القدرة على استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية .
وكذا المستدل : وهو من يطلب الدليل على حكم شرعي .
قوله : ( وأما المقلد فوظيفته السؤال لأهل العلم ) وهم : أهل الذكر ، كما في الآية الكريمة ، والطرق الدالة على معرفة من يصلح للفتوى ثلاث :
الاشتهار : فمن اشتهر بالعلم والدين ، فإنه يُستفتى .
إخبار العدل أن فلاناً يُستفتى .
الانتصاب للفتوى .
__________
(1) أخرجه البخاري (668) ومسلم (465) .
(2) أخرجه أبو داود (4/126 عون ) والنسائي (3/178) ، وهو حديث صحيح .
(3) أخرجه البخاري (734) ومسلم (414) .(1/113)
قوله : ( والتقليد : قبول قول الغير من غير دليل ) هكذا خصه الشيخ – رحمه الله – بالقول كغيره من علماء الأصول ، ولو قال : هو اتباع من ليس قوله حجة ، لكان أشمل وأوضح .
ومعناه أن الإنسان يتبع غيره ممن يعتقد صلاحه وعلمه ودينه في قول أو فعل من غير أن يعلم دليله ، بأن يسأل العاميُّ عالماً عن حكم شرعي فيفتيه ، فيعمل بفتواه .
قوله : ( فالقادر على الاستدلال عليه الاجتهاد والاستدلال ) أي : أن الناس صنفان ، ضرورة :
قادر على الاستدلال ، والمراد به المجتهد ، فهذا لا يجوز له التقليد ، بل لابد أن يستنبط الحكم الشرعي من الدليل بنفسه ، إلا أن ينزل به حادثة تقتضي الفورية ، ولا يتمكن من النظر فيها فيجوز له أن يقلد حينئذ للضرورة ، وكذا لو عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد سواء عجز عجزاً حقيقياً ، أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة .
العاجز عن الاستدلال فهذا عليه أن يسأل أهل العلم أو يقلد غيره من أهل العلم ، لكن لا يرتبط برجل معين ، بل يسأل عالماً في مسألة ، ويسأل غيره في أخرى ، فيكون مذهبه مذهب من يستفتيه .
قوله : ( كما ذكر الله الأمرين في قوله : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل/43] ) المراد بالأمرين : أن القادر يجتهد ، لقوله : { أَهْلَ الذِّكْرِ } ، وأن العاجز يقلد ، لقوله : { فَاسْأَلوا } والله أعلم .
وقد تم الفراغ منه في جوار بيت الله الحرام عصر يوم الجمعة ، آخر يوم من شهر جمادى الأولى من العام الثالث والعشرين بعد الأربعمائة والألف ، ثم إني زدت عليه بعد ذلك زيادات حسنة – إن شاء الله – وقد فرغت من ذلك في الساعة التاسعة والنصف من ليلة الثلاثاء الموافق للعاشر من شهر جمادى الآخرة من العام المذكور ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين .(1/114)