جزيل المواهب في إختلاف المذاهب
الحافظ الإمام جلال الدين السيوطي
الحمد لله وكفى ، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى .
روى البيهقي في " المدخل " بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) : " مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى ، فالعمل به لا عذرَ لأحدٍ في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى ، فسنة مني ماضية ، فإن لم يكن سنة مني ، فما قال أصحابي . إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء ،فأيما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة " .
في هذا الحديث فوائد :
إخباره ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) باختلاف المذاهب بعده في الفروع ، وذلك من معجزاته ؛ لأنه من الإخبار بالمغيبات .
ورضاه بذلك ، وتقريره عليه ، ومدحه له حيث جعله رحمة ، والتخيير للمكلف في الأخذ بأيها شاء من غير تعيين لأحدها .
واستنبط منه أن كل المجتهدين على هدي ، فكلهم على حق ، فلا لوم على أحد منهم ، ولا ينسب إلى أحد منهم تخطئة ، لقوله : " فأيما أخذتم به اهتديتم " ، فلو كان المصيب واحداً ، والباقي خطأ ، لم تحصل الهداية بالأخذ بالخطأ ، ولذلك سر لطيف سنذكره قريباً .
وقال ابن سعد في " الطبقات " : أنبأنا قبيصة بن عقبة أنبأنا أفلح بن حميد ، عن القاسم بن محمد قال : كان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس . أخرجه البيهقي في " المدخل " .
وقال ابن سعد : أنبأنا قبيصة بن عقبة ، أنبأنا سفيان عن إسماعيل بن عبدالملك ، عن عون ، عن عمر بن عبدالعزيز ، قال : ما يسرني باختلاف أصحاب النبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) حمر النعم .
ورواه البيهقي في " المدخل " بلفظ : ما يسرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا ، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة .(1/1)
وأخرج الخطيب البغدادي في كتاب " الرواة " عن مالك من طريق إسماعيل بن أبي المجالد ، قال : قال هارون الرشيد لمالك بن أنس ؛ يا أبا عبدالله ، نكتب هذه الكتب ، ونفرقها في آفاق الإسلام ، لنحمل عليها الأمة . قال : يا أمير المؤمنين ، إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة ، كل يتبع ما صح عنده ، وكل على هدى ، وكل يريد الله .
وأخرج أبو نعيم في " الحلية " عن عبدالله بن عبدالحكم ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : شاورني هارون الرشيد في أن يعلق " الموطأ " في الكعبة ، ويحمل الناس على ما فيه ، فقلت : لا تفعل ، فإن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في البلدان ، وكلٌّ مصيب ، فقال : وفقك الله يا أبا عبدالله .
وأخرج ابن سعد في " الطبقات " عن الواقدي ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : لما حج المنصور ، قال لي إني قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ، ولا يتعدوه إلى غيره ، فقلت : يا أمير المسلمين ، لا تفعل هذا ؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، ودانوا به من اختلاف الناس ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منه لأنفسهم .
فصل
اعلم أن اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرة ، وفضيلة عظيمة ، وله سر لطيف أدركه العالمون ، وعمي عنه الجاهلون ، حتى سمعت بعض الجهال يقول : النبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) جاء بشرع واحد ، فمن أين مذاهب أربعة ؟ ! .
ومن العجب أيضاً من يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدي ، إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه ، وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء ، وصارت عصبية وحمية الجاهلية ، والعلماء منزهون عن ذلك .(1/2)
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة ( رضى الله عنهم و ارضاهم ) ، وهم خير الأمة ، فما خاصم أحد منهم أحداً ، ولا عادى أحد أحداً ، ولا نسب أحد أحداً إلى خطأ ولا قصور .
والسر الذي أشرت إليه قد استنبطته من حديث ورد أن اختلاف هذه الأمة رحمة من الله لها ، وكان اختلاف الأمم السابقة عذاباً وهلاكاً . هذا أو معناه ، ولا يحضرني الآن لفظ الحديث .
فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الأمة خصيصة فاضلة لهذه الأمة ، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة ، فكانت الأنبياء قبل النبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) يبعث أحدهم بشرع واحد ، وحكم واحد ، حتى إنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا ؛ كتحريم القصاص في شريعة اليهود ، وتحتم الدية في شريعة النصارى .
ومن ضيقها أيضاً : لم يجتمع فيها الناسخ والمنسوخ كما وقع في شريعتنا ، ولذا أنكر اليهود النسخ ، واستعظموا نسخ القبلة .
ومن ضيقها أيضاً : أن كتابهم لم يكن يقرأ إلا على حرف واحد كما ورد بكل ذلك الأحاديث .
وهذه الشريعة سمحة سهلة ، لا حرج فيها ، كما قال تعالى : ) يريد الله بكم اليسر ( [ البقرة : 185 ] ، وقال : ) وما جعل عليكم في الدين من حرج ( [ الحج : 78 ] ، وقال ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) : " بعثت بالحنيفية السمحة " .
فمن سعتها : أن كتابها نزل على سبعة أحرف ، يقرأ بأوجه متعددة والكل كلام الله .
ووقع فيه الناسخ والمنسوخ ليعمل بهما معاً في هذه الملة في الجملة ، فكأنه عمل فيها بالشرعين معاً .
ووقع فيها التخيير بين أمرين شرع كل منهما في ملة ، كالقصاص والدية ، فكأنها جمعت الشرعين معاً ، وزادت حسناً بشرع ثالث ، وهو التخيير الذي لم يكن في أحد الشريعتين .(1/3)
ومن ذلك : مشروعية الاختلاف بينهم في الفروع فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة ، كل مأمور بها في هذه الشريعة ، فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع بعث النبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) بجميعها ، وفي ذلك توسعة زائدة لها ، وفخامة عظيمة لقدر النبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) ، وخصوصية له على سائر الأنبياء ، حيث بعث كل منهم بحكم واحد ، وبعث هو ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) في الأمر الواحد بأحكام متنوعة ، يحكم بكل منها وينفّذ ، ويصوب قائله ، ويؤجر عليه ، ويهدي به .
وهذا معنى لطيف فتح الله به ، ويستحسنه كل من له ذوق وإدراك لأسرار الشريعة .
وقد ذكر السبكي في تأليف له أن جميع الشرائع السابقة هي شرائع للنبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) بعث بها الأنبياء السابقة كالنيابة عنه ؛ لأنه نبيّ وآدم بين الروح والجسد ، وجعل إذ ذاك نبي الأنبياء ، وقدر بذلك قوله : " بعثت إلى الناس كافة " ، فجعله مبعوثاً إلى الخلق كلهم من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة في كلام طويل مشتمل ، على نفائس بديعات ، وقد سقته في أول كتاب المعجزات .
فإذا جعل السبكي جميع الشرائع التي بعثت بها الأنبياء شرائع له ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) زيادة في تعظيمه ، فالمذاهب التي استنبطها أصحابه من أقواله وأفعاله على تنوعها شرائع متعددة له من باب أولى ، خصوصاً وقد أخبر بوقوعها ، ووعد بالهداية على الأخذ بها .
فصل
ومن الدليل على ما قلناه : قصة اختلاف الصحابة في أسرى بدر ، فإن أبا بكر ومن تابعه أشاروا بأخذ الفداء منهم ، وعمر ومن تابعه أشاروا بقتلهم ، فحكم النبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) بالأول ، ونزل القرآن بتفضيل الرأي الثاني مع تقرير الأول .(1/4)
وهذا دليل على تصويب الرأيين ، وأن كلاً من المجتهدين مصيب ، ولو كان الرأي الأول خطأ لما حكم به النبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) ، وكيف وقد أخبر الله أنه عين حكمه بقوله : ) لولا كتاب من الله سبق ( [ الأنفال : 68 ] ، وطيب الفادي بقوله تعالى : ) فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ( [ الأنفال : 69 ] .
وإنما وقع العتب على اختيار غير الأفضل ، فأكثر ما يقع الترجيح في المذاهب بالنظر إلى الأفضل من حيث قوة الأدلة ، والقرب من الاحتياط والورع ، ونحو ذلك في مفردات المسائل ، لا من حيث مجموع المذاهب .
وأما بالنظر إلى التصويب ، فكلُّ صواب وحق ، لا شبهة فيه ولا مرية . ومن هذا كانت طريقة الصوفية أن لا يلتزم مذهب معين ، بل يؤخذ من كل مذهب بالأشد والأحوط والأورع ، فإذا كان في مذهب الشافعي – مثلاً – الجواز في مسألة ، والتحريم في أخرى ، ومذهب غيره بالعكس ، يأخذون بالتحريم احتياطاً ، وإذا كان مذهبه الوجوب في مسألة ، والاستحباب في أخرى ، ومذهب غيره بالعكس ، يأخذون بالوجوب في المسألتين احتياطاً ، فيقولون بنقض الوضوء بلمس النساء ، ومس الفرج ، وبالقيء ، والدم السائل ، ويقولون بوجوب النية في الوضوء ، ومسح كل الرأس ، ووجوب الوتر ، إلى غير ذلك .
وهذا مثل ما حكى في " الروضة " عن ابن سريج أنه كان يغسل الأذنين مع الوجه ، ويمسحهما مع الرأس ، ويمسحهما منفردين ؛ احتياطاً لكل مذهب .
تذنيب : ونظير ما قلناه : أن المذاهب كلها صواب ، وأنها من باب جائز وأفضل ، لا من باب صواب وخطأ : ما ورد عن جماعة من الصحابة في القراءات المشهورة أنهم أنكروها على عثمان ، وقرأوا غيرها . وقد أجاب العلماء عن إنكارهم : أنهم أرادوا أن الأولى اختيار غيرها ، ولم يريدوا إنكار القراءة بها البتة ، وقد عقدت لذلك فصلاً في : الإتقان " .
فصل(1/5)
إذا عرف ما قررناه ، عرف ترجيح القول بأن كل مجتهد مصيب ، وأن حكم الله في كل واقعة تابع لظن المجتهد ، وهو أحد القولين للأئمة الأربعة ، ورجحه القاضي أبو بكر ، وقال في " التقريب " : الأظهر من كلام الشافعي ، والأشبه بمذهبه ومذهب أمثاله من العلماء القول بأن كل مجتهد مصيب ، وقال به من أصحابنا : ابن سريج ، والقاضي أبو حامد ، والداركي ، وأكثر العراقيين ، ومن الحنفية : أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأبو زيد الدبوسي ، ونقله عن علمائهم جميعاً .
فإن قلت : قوله ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ ، فله أجر واحد " يدل على أن في المجتهدين من يصيب ومن يخطئ وأن الحكم يختلف ، ولو كانوا مصيبين ، لم يكن للتقسيم معنى .
قلت : أحمد قوله : " فأخطأ " على عدم إدراكه للأفضل والأولى ، كما عتب على الصحابة في اخيار الفداء ؛ لأنه غير الأفضل ، مع أنه حكم صواب .
وقد قال الفقهاء فيمن ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) صلاة رباعية إلى أربع جهات ، كل ركعة إلى جهة بالاجتهاد ، أنه لا قضاء عليه ، مع القطع بأن ثلاث ركعات منها إلى غير القبلة .
واختلف اجتهاد عمر ( رضى الله عنه ) في الجد ، فقضى فيه بقضايا مختلفة ، وكان يقول : ذاك على ما قضينا ، وهذا على ما قضينا .
وأخرج البيهقي في " المدخل " عن الشعبي أن رسول الله ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) كان يقضي بالقضاء ، وينزل القرآن بغير ما قضى ، فيستقبل حكم القرآن ، ولا يرد قضاءه الأول
فصل
في الانتقال من مذهب إلى مذهب
هو جائز كما جزم الرافعي ، وتبعه النووي ، قال في " الروضة " : إذا دونت المذاهب ، فهل يجوز للمقلد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب ؟ .(1/6)
إن قلنا : يلزمه الاجتهاد في طلب الأعلم ، وغلب على ظنه أن الثاني أعلم ، ينبغي أن يجوز ، بل يجب ، وإن خيرناه ، فينبغي أن يجوز أيضاً ، كما لو قلد في القبلة هذا أياماً ، وهذا أياماً .
وأقول : للمنتقل أحوال :
الأول : أن يكون السبب الحامل له على الانتقال أمراً دنيوياً ؛ كحصول وظيفة ، أو مرتبة ، أو قرب من الملوك وأهل الدنيا ، فهذا حكمه كمهاجر أم قيس ؛ لأن الأمور بمقاصدها ، ثم له حالان :
أحدهما : أن يكون عارياً من معرفة الفقه ، ليس له من مذهب إمامه سوى اسم شافعي أو حنفي ، كغالب متعممي زماننا أرباب الوظائف في المدارس ، حتى إن رجلاً سأل شيخنا العلامة محي الدين الكافيجي رحمه الله مرة أن يكتب له على قصة تعليقاً بولاية أول وظيفة تشغر بالشيخونية ، فقال : ما مذهبك ؟ فقال : مذهبي خبز وطعام يعني : وظيفة إما في الشافعية أو المالكية أو الحنابلة ، فإن الحنفية في الشيخونية لا خبز لهم ولا طعام .
فهذا أمره في الانتقال أخف ، لا يصل إلى حد التحريم ؛ لأنه إلى الآن عامي لا مذهب له يحققه ، فهو يستأنف مذهباً جديداً .
ثانيهما : أن يكون فقيهاً في مذهبه ، ويريد الانتقال لهذا الغرض ، فهذا أمره أشد ، وعندي أنه يصل إلى حد التحريم ؛ لأنه تلاعب بالأحكام الشرعية بمجرد غرض الدنيا .
الحال الثاني : أن يكون الانتقال لغرض ديني ، وله صورتان :
الأولى : أن يكون فقيهاً ، وقد ترجح عنده المذهب الآخر لما رآه من وضوح أدلته ، وقوة مداركه ، فهذا إما يجب عليه الانتقال أو يجوز ، كما قاله الرافعي ؛ ولهذا لما قدم الشافعي مصر ، تحول أكثر أهلها شافعية بعد أن كانوا مالكية .(1/7)
والثاني : أن يكون عارياً من الفقه ، وقد اشتغل بمذهبه فلم يحصل منه على شيء ، ووجد مذهب غيره سهلاً عليه سريعاً إدراكه ، بحيث يرجو التفقه فيه ، فهذا يجب عليه الانتقال قطعاً ، ويحرم عليه التخلف ، لأن التفقه على مذهب إمامٍ من الأئمة الأربعة خير من الاستمرار على الجهل ، وليس له من المذهب سوى مجرد اسم : " حنفي " أو " شافعي " أو " مالكي " .
فالفقيه على مذهب أي إمام كان خير من الجاهل بالفقه على كل المذاهب ، فإن الجهل بالفقه نقص كبير ، وقل أن تصح معه عبادة.
وأظن هذا هو السبب في تحول الطحاوي حنفياً بعد أن كان شافعياً ؛ فإنه كان يقرأ على خاله المزني ، فاعتاص عليه الفهم يوماً ، فحلف المزني أنه لا يجيء منه شيء ، فانتقل حنفياً ، ففتح عليه ، وصنف كتابه " شرح معاني الآثار " فكان إذا قرئ عليه يقول : لو عاش خالي ، كفّر عن يمينه .
قال بعض العلماء وقد حكى هذه الحكاية : لا حنث على المزني ؛ لأن مراده : لا يجيء منه شيء في مذهب الشافعي .
قلت: ولا يستنكر ذلك ؛ فرب شخص يفتح عليه بعلم دون علم ، وفي مذهب دون مذهب ، وهي قسمة من الله ، وكل ميسر لما خلق له ، وعلامة الإذن التيسير .
الحال الثالث : أن يكون الانتقال لا لغرض دنيوي ، ولا لغرض ديني ، بل مجرداً عن القصدين ، فهذا يجوز للعامي ، ويكره أو يمنع للفقيه ، لأنه قد حصل فقه ذلك المذهب ، ويحتاج إلى زمن آخر لتحصيل فقه هذا المذهب ، فيشغله ذلك عما هو الأهم من العمل بما تعلمه ، وقد ينقضي العمر قبل حصول المقصود من المذهب الثاني ، فالأولى ترك ذلك .
ومن قال من مفتي المالكية اليوم : إن من تحول عن مذهبه ، فبئس ما صنع ؛ هو لأن إمام مذهبه الشيخ جمال الدين ابن الحاجب لم يقل ذلك .(1/8)
وأما من يقول : إنه يجوز لغير الحنفي أن يتحول حنفياً ، ولا يجوز للحنفي أن يتحول شافعياً أو غيره ، فهو تحكم لا دليل عليه ، وتعصب محض ؛ فإن الأئمة كلهم في الحق سواء ، ولم يرد حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) يتمييز مذهب أبي حنيفة عن غيره .
والاستدلال بتقدم زمنه ، لا ينهض ، ولو صح ، لوجب تقليده على كل أحد ، ولم يجز تقليد غيره البتة ، وهو خلاف الإجماع ، وخلاف الحديث المصدر به ، ويلزم عليه أيضاً طرد ذلك في بقية المذاهب ، فيقال بتجويز الانتقال من مذهب المتأخر إلى مذهب المتقدم ، كالشافعي يتحول مالكياً ، والحنبلي يتحول شافعياً دون العكس ، وهذا الحنفي لم يقل به ، وكل قول لا دليل عليه ، فإنه مردود لا يعتد به .
وإن كان ولا بد من الترجيح ، فمذهب الشافعي أولى بالرجحان ، لأنه أقرب إلى موافقة الأحاديث ، ومذهبه اتباع الحديث ، وتقديمه على الرأي .
قال ابن السبكي في " شرح مختصر ابن الحاجب " في آخر باب الاجتهاد والتقليد : من أئمتنا من أورع الباب .
مسألة : تقليد الشافعي ؛ كإمام الحرمين ، وابن السمعاني ، والغزالي والكيا وغيرهم ، وميل المحققين هنا إلى أن تقليده واجب على طوائف العامة ، وأنه لا عذر لهم عند الله في العدول عنه ، وبه صرح إمام الحرمين في تصنيف لطيف أفرده في ذلك ، وسماه " بمغيث الخلق في اختيار الأحق " .
قال الأستاذ أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر التميمي في كتابه " التحصيل في أصول الفقه " ما نصه : وأما الذي يوجب ترجيح مذهب الشافعي على مذهب غيره في الجملة قبل التفصيل ، فدلائل كثيرة .(1/9)
منها : قوله ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) : " الأئمة من قريش " ، وذلك عام في الخلافة وفي إمامة الدين ، ولم نجد أحداً من أصحاب المذاهب قرشياً غيره ؛ لأن أبا حنيفة من الموالي ، ومالك من الموالي من ذي أصبح ، والنخعي من نخع ،وهم من اليمن ، لا من قريش ، وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن شيبانيان ، وهم من ربيعة ، لا من قريش ، ولا من مضر ، والثوري من بني ثور بن عمرو بن أدٍّ ، ومكحول والأوزاعي من الموالي .
وقد اختلف النسابون في قريش ، فقال أكثرهم : هم ولد النضر بن كنانة ، وقال آخرون : هم ولد إلياس بن مضر، وقال آخرون : ولد عدنان كلهم ، قريش دون غيرهم .
وعلى جميع هذه الأقاويل ، يجب أن يكون الشافعي منهم ؛ لأنه من ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
ومنها : قوله : ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( [ البقرة : 218 ] ، وذلك عام في الجهاد بالحِجاج ، والجهاد بالسلاح .
ووجود الجهاد بالحجاج والنظر في أصحاب الشافعي غير خاف ، وهم الذي شرحوا الأصول ، وأوضحوا عن قوانين الجدل ، والشافعي أول من صنف في أصول الفقه ، صنف فيه كتاب " الرسالة " ، وكتاب " أحكام القرآن " ، و " اختلاف الحديث " ، " وإبطال الاستحسان " ، وكتاب " جماع العلم " ، وكتاب " القياس " ، ثم تبعه المصنفون في الأصول ، فاقتدوا به ، ونسجوا على منواله .
والجهاد بالسلاح مخصوص بأهل الثغور ، والسواد الأعظم منهم أصحاب الشافعي ، واعتبر ذلك بثغور الشام ، وبثغور ديار مصر ، وثغور ديار ربيعة ، وثغور أرمينية وأذربيجان ، وثغور طبران والشاش في ناحية الترك ، وغيرها .
وإذا تحقق الجهاد في هذه الطائفة ، ثبت أنهم الذي ضمن الله U لهم الهداية .
ومنها : كثرة الاحتياط في مذهبه ، وقلته في مذهب غيره .(1/10)
فمن ذلك : الاحتياط في العبادات ، وأعظمها شأناً : الصلاة ، فمن أدى صلاته على مذهب الشافعي ، كان على يقين من صحتها ، ومن أداها على مذهب مخالف ، وقع الخلاف في صحة صلاته من وجوه :
إجازتهم الوضوء في السفر بنبيذ التمر، وتطهير البدن والثوب عن النجاسات بالمائعات ، وأجازوا الصلاة في جلد الكلب المذبوح من غير دباغ ، وأجازوا الوضوء بغير نية ولا ترتيب ، وأسقطوه في مس الفرج والملامسة ، وأجازوا الصلاة على ذرق الحمام مع قدر الدرهم من النجاسات الجامدة ، أو ربع الثوب من البول ، أو مع كشف بعض العورة ، وأبطلوا تعيين التكبير والقراءة .
وأجازوا القرآن منكوساً وبالفارسية ، وأسقطوا وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود والإعتدال من الركوع وبين السجدتين ، والتشهد والصلاة على النبي ( صلى الله عليه و على آله و سلم ) في الصلاة مع الخروج عنها بالحديث .
وأبطلنا نحن الصلاة في هذه الوجوه ، وأوجبنا الإعادة على من صلى خلف واحد من هؤلاء ، وهم لا يوجبون الإعادة على من صلى خلفنا على مذهبنا في هذه المسائل .
عود على بدء : قال صاحب " جامع الفتاوى " من الحنفية يجوز للرجل والمرأة أن ينتقل من مذهب الشافعية إلى مذهب الحنفي ، وكذا العكس ، ولكن بالكلية ، أما في مسألة واحدة ، فلا يمكن ، حتى لو خرج دم من حنفي المذهب وسال ، لا يجوز له أن يصلي قبل أن يتوضأ اقتداءً بمذهب الشافعي في هذه المسألة ، فإن صلى قبل أن يتوضأ يُصفع .
وقال بعضهم : ليس للعامي أن يتحول من مذهب إلى مذهب ، حنفياً كان أو شافعياً ، وقال بعضهم : من انتقل إلى مذهب الشافعي ليزوجه ولي البكر البالغة بغير رضاها يخاف عليه أن يسلب إيمانه وقت موته لإهانته بالدين لجيفة قذرة .(1/11)
فإن قال حنفي : إن تزوجت فلانة ، فهي طالق ثلاثاً ، فتزوجها ، ثم استفتى شافعي المذهب ، فأجابه بأنها لا تطلق ، ويمينه باطل ، فلا بأس باقتداء الشافعي في هذه المسألة ؛ لأن كثيراً من الصحابة في جانبه . انتهى كلامه .
وقال القرافي في " التنقيح " : قال الزياتي : يجوز تقليد المذاهب في النوازل ، والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط :
أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع ، كمن تُزوج بغير صداق ، ولا ولي ولا شهود ؛ فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد .
وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه .
ولا يقلده رمياً في عماته ، ولا يتبع رخص المذاهب .
قال : والمذاهب كلها مسلكة إلى الجنة ، وطرق إلى السعادة ، فمن سلك منها طريقاً وصله .
قال : وقال غيره : يجوز تقليد المذاهب ، والانتقال إليها في كل مالا ينقض فيه حكم الحاكم ، وهو أربعة : ما خالف الإجماع ، أو القواعد ، أو النص ، أو القياس الجلي .
قال : وانعقد الإجماع على أن من أسلم ، فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجة ، وأجمع الصحابة ( رضى الله عنهم و ارضاهم ) على أن من استفتى أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – وقلدهما ، فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ، ويعمل بقولهما من غير نكير ، فمن ادعى دفع هذين الإجماعين ، فعليه الدليل . انتهى كلام القرافي
ذكر من انتقل عن مذهبه من الأئمة
عبدالعزيز بن عمران بن مقلاص الخزاعي : قال ابن يونس في " تاريخ مصر " : كان من أكابر المالكية ، فلما قدم الشافعي مصر لزمه ، وتفقه على مذهبه .
الإمام أبو ثور إبراهيم بن خالد البغدادي : كان على مذهب الحنفية ، فلما قدم الشافعي بغداد ، تبعه ، وأقرأ كتبه ، ونشر علمه . ذكره الأسنوي في " طبقاته " .(1/12)
محمد بن عبدالله بن عبدالحكم : كان على مذهب الإمام مالك ،فلما قدم الشافعي مصر ، انتقل إلى مذهبه . قال : فاجتمع قوم من أصحاب أبي ، فعذلوه في ذلك ، فكان يلاطفهم ، ويأمرني سراً بملازمته ، فلما مات الشافعي ، كان يروم أن يستخلفه في حلقته بعده ، فلم يفعل ، واستخلف البويطي ، فانتقل إلى مذهب مالك .
أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي : رأس الشافعية بالعراق . قال الأسنوي في " طبقاته " : كان أولاً حنفياً ، فحجّ ، فرأى ما يقتضي انتقاله لمذهب الشافعي ، فتفقه على الربيع وغيره من أصحاب الشافعي . مات سنة خمس وتسعين ومئتين .
أبو جعفر الطحاوي : كان شافعياً ، وتفقه بخاله المزني ، ثم تحول حنفياً ، وصنف فيه كتاباً سماه " معاني الآثار " .
الخطيب البغدادي الحافظ ، أبو بكر ، المشهور : كان أولاً حنبلياً ، ثم تحول شافعياً ، ذكره ابن كثير في " تاريخه " .
ابن برهان أبو الفتح : أحد الأئمة في الفقه والأصول . كان حنبلياً ، ثم تحول شافعياً . ذكره الأسنوي في " طبقاته " .
أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني : كان مالكياً ، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي .
ابن فارس صاحب " المجمل في اللغة " . كان شافعياً كأبيه ، ثم انتقل إلى مذهب الإمام مالك ( رضى الله عنه ) .
سيف الدين الآمدي الأصولي المشهور : قال الأسنوي : اشتغل أولاً في مذهب الحنابلة ، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي .
نجم الدين أحمد بن محمد بن خلف المقدسي ، المعروف بالحنبلي : قال الأسنوي في " طبقاته " : كان أولاً كذلك ، ثم تفقه على الشيخ موفق الدين ، ودرس في مدرسة أبي عمر ، ثم تحول شافعياً ، وارتفع شأنه ، وعلا صيته ، وله مؤلفاته بارعة ، مات سنة ثمانية وثلاثين وست مئة .(1/13)
ابن الدهان النحوي : كان حنبلياً ، ثم تحول حنفياً ، لأن الخليفة طلب لولده حنفياً يعلمه النحو ، ثم تحول شافعياً ، لأن تدريس النحو بالنظامية شغر ، وشرط واقفها أن لا ينزل بها إلا شافعي ، وفيه أبيات سائرة .
الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد : كان أولاً مالكياً كأبيه ، ثم تحول إلى مذهب الشافعي ( رضى الله عنه ) .
قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن حملة الدمشقي الشافعي : كان حنبلياً ، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي . مات سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة .
أبو حيان : كان أولاً على مذهب أهل الظاهر ، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي ( رضى الله عنه ) .
هذا آخر ما وجد بخط المؤلف رحمه الله تعالى(1/14)