تيسير الوصول
إلى
قواعد الأصول ومعاقد الفصول
للإمام عبد المؤمن بن عبد الحقّ البغدادي الحنبلي
(658 ـ 739هـ)
شرح
عبد الله بن صالح الفوزان
المدرّس ـ سابقاً ـ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
فرع القصيم
مقدمة الطبعة الثانية
«وهي الأولى لدار ابن الجوزي»
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه...
أما بعد...
فهذه الطبعة الثانية لكتابي: «تيسير الوصول إلى قواعد الأصول ومعاقد الفصول» تقوم دار ابن الجوزي بطباعته، بعد نفاد طبعته الأولى التي قامت بها دار الفضيلة، وقد قرأت الكتاب، وبذلت فيه وقتاً وجهداً، وزدت عليه بعض الفوائد والتعليقات، وصححت ما فيه من أخطاء، ومن مميزات هذه الطبعة مقابلة نصِّ «قواعد الأصول» على المخطوطة، ولعلي بهذا أكون قد ساهمت في إخراج النص صحيحاً موافقاً لما كتبه مؤلفه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه عبد الله بن صالح الفوزان 26/7/1426هـ
alfuzan1@hotmail.com
http://alfuzan.islamlight.net
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشارح
إنّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذا شرح وسيط على كتاب «قواعد الأصول ومعاقد الفصول» لعبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي رحمه الله راعيت فيه سهولة الأسلوب، وإيضاح العبارة، مع إيراد الأمثلة الكافية.
وأصل هذا الشرح دروس ألقيتها في المسجد على الطلبة فرغب إليَّ عدد من الإخوة أن أقوم بطباعتها، فأعدت النظر في الأصل المذكور، وزدت فيه زيادات كثيرة، مع تهذيبه وحذف ما يُستغنى عنه، وسلكت فيه المنهج الآتي:(1/1)
1 ـ وضّحت عبارة المصنف بالصفة المتقدمة، وذكرت الأدلة للأقوال التي أوردها المصنف، ورجّحت ما يستحق الترجيح، ولو كان قولاً أغفله صاحب الكتاب.
2 ـ خَرَّجْتُ الأحاديث التي ذكرتها في الشرح، واقتصرت على الصحيحين إن كان الحديث فيهما، أو في أحدهما، فإن لم يكن فالسنن، ومسند الإمام أحمد، وقد أكتفي بالسنن، فإن لم يكن فيها ذكرت غيرها، كل ذلك طلباً للاختصار؛ لئلا أُثقل حواشي الكتاب.
3 ـ ترجمت بإيجاز للأعلام الواردة في أصل الكتاب، من الأُصوليين وغيرهم، ولم أترجم للأئمة الأربعة؛ لعدم الحاجة إلى ذلك.
4 ـ ذيّلت الشرح بحواشٍ ذكرت فيها المراجع للمباحث التي قد يحتاج إليها القارئ، ولم أكثر منها؛ لما تقدّم.
ترجمة المؤلف
1 ـ اسمه ونسبه:
هو صفي الدين عبد المؤمن بن كمال الدين[(1)] عبد الحق بن شمائل القطيعي، البغدادي، الحنبلي، الفقيه، الفرضي، المتقن.
2 ـ مولده:
ولد في (27) جمادى الآخرة سنة (658هـ) في بغداد.
3 ـ نشأته وحياته:
نشأ في بيت والده، وكان بيت علم ومعرفة؛ إذ كان والده خطيباً بجامع ابن عبد المطلب في بغداد احتساباً، وتفقه على علماء عصره، وكان أول حياته متجهاً إلى الكتابة الديوانية، ثم ترك ذلك وأقبل على طلب العلم، فلازم ذلك مطالعةً وكتابةً، وتدريساً وتأليفاً، حتى صار عالم بغداد في عصره.
قام برحلات إلى الشام، واجتمع بشيخ الإسلام ابن تيمية، وأجاز للحافظ ابن رجب، كما ذكر ذلك في ترجمته له، وكان حسن الخط؛ كتب أشياء كثيرة.
4 ـ صفاته ومكانته العلمية:
قال ابن رجب: (كان إماماً فاضلاً، ذا مروءة، وأخلاق حسنة، وحسن هيئة وشكل، عظيم الحرمة، شريف النفس، منفرداً في بيته لا يغشى الأكابر ولا يخالطهم، ولا يزاحمهم في المناصب؛ بل الأكابر يترددون إليه، وكان ذا ذهنٍ حاد، وفطنة، وعنده خميرة[(2)] جيدة من أول عمره في العلم، فأقبل آخراً على التصنيف، وتفرد في وقته ببغداد في علم الفرائض والحساب، وسمع منه خلق كثيرون).(1/2)
وقال الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة»: (وكان زاهداً خيِّراً، ذا مروءة وفتوة، وتواضع، ومحاسن كثيرة، طارحاً للتكلف على طريقة السلف، محباً للخمول، وكان شيخ العراق على الإطلاق..).
5 ـ مصنفاته:
صنّف في علوم كثيرة، ومن ذلك:
1 ـ «تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل» في أُصول الفقه.
2 ـ «قواعد الأُصول ومعاقد الفصول» وهو مختصر ما قبله، كما في مقدمة كتابه هذا.
3 ـ «شرح المحرر» في الفقه.
4 ـ «شرح العمدة» في الفقه.
5 ـ «اللامع المغيث في علم المواريث».
6 ـ «مراصد الاطلاع» مختصر «معجم البلدان» لياقوت، مطبوع في ثلاثة أجزاء.
6 ـ وفاته:
توفي ليلة الجمعة عاشر صفر سنة (739هـ) في بغداد، وكانت جنازته مشهودة ـ رحمه الله تعالى ـ.
أهم مصادر ترجمته:
1 ـ «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (2/428 ـ 431) رقم (523).
2 ـ «الدرر الكامنة» لابن حجر العسقلاني (2/32).
3 ـ «شذرات الذهب» لابن العماد الحنبلي (6/121).
4 ـ «الدر المُنضَّد» للعُليمي (2/495).
5 ـ «الفتح المبين في طبقات الأصوليين» للمراغي (2/148).
6 ـ «معجم المؤلفين» لكحالة (2/326).
7 ـ «الأعلام» لخير الدين الزركلي (4/318).
دراسة الكتاب
يُعدّ كتاب «قواعد الأصول» من أنفع المختصرات في أُصول الفقه عند الحنابلة، وقد أثنى عليه العلماء قديماً وحديثاً.
فابن بدران في كتابه «المدخل» ذكره في مقدمة متون الحنابلة المختصرة، وقال عنه: (إنه مختصر مفيد)[(3)].
ونوَّه بشأنه عالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي حيث يقول: (وما وقفنا عليه حتى رأيناه من أنفس الآثار الأُصولية، وأعجبها سبكاً وألطفها جمعاً للأقوال، وإيجازاً في المقال...)[(4)].
فهو يمتاز عن غيره من المختصرات بما يلي:
1 ـ وضوح العبارة، وسلامتها من التعقيد الذي قد لا تخلو منه معظم المتون في هذا الفن.(1/3)
2 ـ أنّه مع إيجازه فقد عُني بالمسائل الأُصولية التي يحتاجها الفقيه، وأغفل ما لا تعلق للأُصول به من مباحث علم الكلام، وآراء المتكلمين.
3 ـ جرى في ترتيبه وأُسلوبه على منهج فريد، يختلف عن غيره من كتب الحنابلة خاصة، وغيرها عامة؛ ففيه من التعريفات والتقسيمات ما لا يوجد في غالب المتون.
وأما ما ذكره بعض المعاصرين[(5)] من أن مؤلِّفه تابع فيه كتاب «روضة الناظر» وأنه نسخة مصغرة عنه، إلا أنه حذف الأدلة وخالفه في الترتيب، فهو كلام من لم يتأمل الكتاب، وإلا فالحق أنه لا يعتبر نسخة مصغّرة من «الروضة» لاختلاف الكتابين في المنهج والعبارة؛ صحيح أن معظم المباحث الأُصولية تتفق فيها كتب الحنابلة خصوصاً، وغيرها عموماً، وأن ابن قدامة كان متقدماً فيمكن متابعة المؤلف له، لكن في «قواعد الأُصول» مباحث وتقسيمات وتعريفات لا وجود لها في «روضة الناظر». فانظر على سبيل المثال (من طبعة جامعة أُم القرى) ما يلي:
1 ـ «تعريف الحكم الشرعي» ص(23).
2 ـ «أسماء المندوب» ص(26).
3 ـ «تقسيم الأحكام الوضعية إلى أربعة أقسام» ص(30).
4 ـ «الكلام على أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم» ص(38).
5 ـ «ألقاب الجامع في باب القياس»، وتفسير كل واحد منها، ص(82).
6 ـ «الاستدلال» ص(94).
7 ـ لم يذكر في «القواعد» قوادح القياس.
8 ـ لم يذكر المقدمة المنطقية التي في أول «الروضة»..
وقد ذكر مؤلفه أنه مختصر من كتابه: «تحقيق الأمل» فكيف يكون مختصراً من «الروضة»؟! ثم إن المؤلف رحمه الله له عبارات في مختصره لم أجدها في معظم كتب الأصول، مما يدل على أنه متقن لهذا الفن، قادر على التصرف في التعبير عن مسائله.
هذا وقد طبع «قواعد الأُصول» خمس طبعات:
الأولى: بالشام، وعليها تعليقات الشيخ: جمال الدين القاسمي، وهي ضمن مجموعة «متون أُصولية مهمة».
الثانية: بالمطبعة السلفية بمصر، وهي مطابقة لطبعة الشام.
الثالثة: بدار المعارف بمصر بعناية أحمد وعلي محمد شاكر.(1/4)
ويغلب على الظن أنها نسخة موافقة لطبعة الشام سوى حذف تعليقات الشيخ القاسمي.
الرابعة: طبعة جامعة أُم القرى (1409هـ) بتحقيق وتعليق الدكتور: علي الحكمي، وهي أحسن طبعات الكتاب، وقد أبان المحقق في المقدمة عن منهجه، إلا أن فيها بعض الأخطاء.
الخامسة: طبعة دار الفضيلة في مصر (1418هـ) بعناية أحمد الطهطاوي، ويبدو لي أنه اعتمد على طبعة الشام، وقد علق على معظم الكتاب، وعزا النقول إلى مواطنها من كتب الأُصول، وفيها سقط في ص(60)، (السطر الأول) : يقدّر بصفحة كاملة، ويبدو ـ والله أعلم ـ أنه في جميع النسخ.
وقد اعتمدت في شرحي على طبعة جامعة أم القرى؛ لأنها أكمل الطبعات، مع الاستفادة من النسخ الأُخرى وكتب الحنابلة في تصحيح بعض الأغلاط، وقد رجعت إلى مخطوطة الكتاب ـ الوحيدة ـ التي حصلت عليها من المحقق ـ أثابه الله ـ بواسطة الأخ الدكتور: أحمد بن عبد الله بن حميد ـ جزاه الله خيراً ـ واستفدت منها في تصحيح ما وقع من الأخطاء في طبعة أُم القرى، وأثبت ذلك في حاشية الشرح.
وفي الختام أرجو القارئ الكريم، إذا رأى فيما كتبته زلّة قلم أو نبوة فهم، أن يكتب إليَّ مشكوراً مأجوراً لتلافي ذلك مستقبلاً، فالأذن مصغية، والصدر منشرح، وما يكتبه الإنسان عرضة للنقد والانتقاد والتخطئة والتصحيح، لا سيّما وأن هذا المختصر لم يسبق له شرح ـ فيما أعلم ـ فالتقصير وارد، والخطأ موجود، وقد سميته: «تيسير الوصول إلى قواعد الأصول ومعاقد الفصول» .
وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي صالحاً، ولوجهه خالصاً، وأن ينفع به، وأن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً متقبلاً.
وصلّى الله وسلم على عبده ورسوله نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين..
وكتبه عبد الله بن صالح الفوزان
القصيم ـ بريدة
في 28/3/1420هـ صندوق البريد/12370 الرمز البريدي/81999
alfuzan@hotmail.com /http://www.islamlight.net/alfuzan
بسم الله الرحمن الرحيم(1/5)
أحمد الله ...................................................
--------------------------
مقدمة المؤلف
قوله: ({{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} }) بدأ المصنف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداءً بكتاب الله تعالى، وتأسياً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقد كان يبدأ كتبه بالبسملة، كما في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، الذي أخرجه البخاري في أول «صحيحه»[(9)].
وقوله: ({{بِسْمِ اللَّهِ} }) جار ومجرور متعلق بمحذوف يقدر متأخراً، ليحصل التبرك بالبدء بالبسملة. ويكون التقدير بما يناسب المقام، فالذي يقرأ يكون التقدير: بسم الله أقرأ. والذي يكتب يكون التقدير: بسم الله أكتب، وهكذا...
والمراد بـ ({{بِسْمِ اللَّهِ} }) هنا: كل اسم من أسماء الله تعالى، ولفظ {{اللَّهِ}}: اسم من أسماء الله تعالى الخاصة به، ومعناه: المألوه حباً وتعظيماً.
وقوله: ({{الرَّحْمَانِ} }) اسم من أسماء الله تعالى الخاصة به، ومعناه: ذو الرحمة الواسعة.
وقوله: ({{الرَّحِيمِ} }) اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: موصل رحمته إلى من يشاء من خلقه، وهو ليس خاصاً بالله تعالى. قال تعالى: {{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *}} [التوبة: 128] .(1/6)
قوله: (أحمد الله) الحمد: هو الاعتراف للمحمود بصفات الكمال مع محبته وتعظيمه. وعبّر المؤلف بالجملة الفعلية مع أن الاسمية أبلغ لدلالتها على الثبوت والدوام؛ لأنه قصد إفادة التجدد والحدوث، أي: إنه حمد يتجدد كلما تجددت النعم، ولما كان هذا الكتاب من النعم المتجددة ناسب أن يؤتى بما يدل على التجدد[(10)]، والحديث أولى؛ لأن فيه جمعاً بين الجملتين، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الحمد لله نحمده»[(11)] . وليس قوله: (أحمد الله) خبراً، وإنما إنشاء للحمد، ولهذا عَطَف عليه (وأصلي) ومعناه: إنشاء الطلب، فهو عطف إنشاء على إنشاء.
على إحسانه وإفضاله كما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله، ..........................................
قوله: (على إحسانه وإفضاله) الإحسان ضد الإساءة، ويطلق ويراد به الإنعام على الغير، قال تعالى: {{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}} [القصص: 77] ويراد به الإحسان في الفعل، قال تعالى: {{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *}} [السجدة: 7] ، والإفضال مصدر أفضل، والفضل: الزيادة، وكل عطية لا تلزم من يعطي، ويفسر بالإحسان ـ أيضاً ـ كما في «اللسان» وغيره[(12)].
قوله: (كما ينبغي لكرم وجهه) أي: أحمده مثل الحمد الذي ينبغي، وهذا من حيث الإجمال، أمَّا التفصيل فلا يمكن، لعجز الخلق عنه، حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأكملهم نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»[(13)].
قوله: (وعِزِّ جلاله) الجلال هو: العظمة، والعزُّ: القوة والغلبة، والعزة من صفات الله تعالى، وهي تدل على كمال قهره وسلطانه، وعلى تمام صفاته وكمالها.
وقد استعمل الشافعي رحمه الله هذا الأسلوب في خطبة كتابه: «الرسالة»، فقال: (أحمده حمداً كما ينبغي لكمال وجهه، وعِزِّ جلاله..) [(14)].(1/7)
وأصلي [وأسلِّم] على نبيه المكمَّلِ بإرساله، المؤيد في أقواله وأفعاله،.................................................
قوله: (وأصلي على نبيه...) إلخ، فيه الاقتصار على الصلاة، والمطلوب الجمع بين الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}} [الأحزاب: 56] ، وقد ذكر النووي رحمه الله أنه لا يُقتصر على أحدهما، فلا يقال: صلّى الله عليه فقط، ولا عليه السلام فقط، وكذا قال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الأحزاب نقلاً عنه[(15)].
واقتصار المصنف على الصلاة فقط سلكه بعض أهل العلم كالإمام مسلم رحمه الله في أول «صحيحه»، ولعل من فعل ذلك رأى عدم الكراهة، مستدلاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى عليَّ واحدة صلّى الله عليه عشراً»[(16)] فإن ظاهره الاقتصار على الصلاة فقط، ويمكن أن يجيب عنه من يرى الجمع بأن هذا الحديث وما في معناه لم يُقصد به ذات الصيغة، وإنما قُصد به الصلاة، وهي تشمل التسليم، والله أعلم.
قال أبو العالية: (صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء).اهـ[(17)]. وكذلك صلاة غير الملائكة، والمراد بالدعاء: طلب ذلك له من الله تعالى، أي: طلب الزيادة، لا طلب أصل الصلاة. فيكون قول المؤلف (وأصلي) أي: أطلب من الله تعالى زيادة الصلاة[(18)]، وهي جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى، وسيأتي الكلام على معنى «السلام» في آخر الكتاب حيث ذكره الصنف.
وعلى جميع صحبه وآله................................
قوله: (وعلى جميع صحبه وآله) صحب: مفرده صحابي، وهو من اجتمع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أو رآه مؤمناً به ومات على ذلك.(1/8)
وقوله: (وآله) فيهم خلاف على أقوال، ذكرها ابن القيم في «جلاء الأفهام»[(19)]، والأظهر أنهم أتباعه على دينه، ويدخل فيهم دخولاً أوَّلياً أتباعه من قرابته؛ لأنهم آل من جهتين: من جهة الاتّباع، ومن جهة القرابة، والجمع بين الصحب والآل فيه مخالفة للمبتدعة من الرافضة ونحوهم؛ لأنهم يوالون الآل دون الصحب، وكلمة (آل) اسم جمع لا واحد له من لفظه.
[وبعد] هذه قواعد الأصول، ومعاقد الفصول من كتابي المسمى بـ «تحقيق الأمل» مجردة عن الدلائل، من غير إخلال بشيء من المسائل، ................................................
قوله: (هذه «قواعد الأصول ومعاقد الفصول») كان الأولى بالمصنف رحمه الله أن يقول: أمَّا بعد، فهذه قواعد.. وقواعد: جمع قاعدة، وهي لغة: الأساس؛ حسياً كان ذلك كأساس البيت، أو معنوياً كقواعد الدين، أي: دعائمه.
واصطلاحاً: قضايا كلية ينطبق حكمها على جميع جزئياتها، وضعت لاستنباط الأحكام الشرعية العملية، مثل: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم.. وهذا بخلاف القواعد الفقهية، فإنها أغلبية، يكون الحكم فيها على أغلب الجزئيات، وتكون لها مستثنيات[(20)].
قوله: (من كتابي المسمى بـ«تحقيق الأمل») أي: مختصرة منه.
قوله: (مجردة عن الدلائل) أي: لأجل الاختصار؛ لأنه مع الدليل والتعليل يطول الكتاب، والدلائل: جمع دليل، وهو ما يلزم من العلم به العلمُ بشيء آخر، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
تذكرةً للطالب المستبين، وتبصرة للراغب المستعين، وبالله أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي، ونعم الوكيل المعين .
قوله: (تذكرةً للطالب المستبين) مفعول لأجله، أي: لتذكير الطالب الذي يريد بيان قواعد الأصول.
قوله: (وتبصرة للراغب المستعين) يقال: بَصَّره الأمرَ تبصيراً وتبصرة: فَهَّمَهُ إياه [(21)].
قوله: (وبالله أستعين) أي: أطلب عونه على جميع أموري، ومنها تأليف هذا الكتاب، وتقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر.(1/9)
قوله: (وعليه أتوكل) أي: أعتمد على الله وأفوّض أمري إليه، وتقديم الجار والمجرور للحصر؛ أي: عليه أتوكل لا على غيره، قال تعالى: {{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}} [المائدة: 23] .
قوله: (وهو حسبي) أي: الله كافيَّ. قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *}} [الأنفال: 64] ، أي: الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين، وقال تعالى: {{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}} [الطلاق: 3] .
قوله: (ونعم الوكيل المعين) نِعم: فعل ماضٍ للمدح، والوكيل: فاعل، والمخصوص بالمدح محذوف، لدلالة ما قبله، أي: ونعم الوكيل هو أي: الله، الوكيل: أي: الموكول إليه أمر عباده، فهو المعتَمد عليه سبحانه، والمعين: الذي يعين عبده ويسدده. قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام: {{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}} [آل عمران: 173] . وقال النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: «.. والله عزّ وجل في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه...» [(22)].
* * *
أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد، وهو المجتهد.
................................................................
تعريف أصول الفقه والغرض منه
قوله: (أصول الفقه) ذكر تعريفه باعتباره مركباً إضافياً عَلَماً على هذا الفن، وسيأتي تعريفه باعتبار مفرديه.
قوله: (معرفة دلائل الفقه) المراد بالمعرفة هنا: العلم والتصديق، والدلائل جمع دليل، وهو: ما وصَّل إلى المراد قطعاً أو ظناً، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
والمراد من معرفة دلائل الفقه: معرفة الأحوال المتعلقة بهذه الأدلة، مثل: أن يعرف أن الأمر عند التجرد من القرينة للوجوب، والنهي للتحريم، وأنه يعمل بالعام حتى يرد تخصيصه، وأن القياس يثبت الحكم ظناً.. وهكذا.(1/10)
وليس المراد تصور معانيها، فإن هذا ليس من مقاصد علم الأصول، وإنما هو من المبادئ التصورية.
وإضافة دلائل إلى الفقه تفيد العموم، فيشمل الأدلة المتفق عليها، وهي الكتاب والسنّة والإجماع والقياس، والمختلف فيها كقول الصحابي، وهذا القيد يخرج معرفة الباب الواحد من (أصول الفقه) ؛ لأن بعض الشيء لا يكون نفس ذلك الشيء[(23)].
قوله: (إجمالاً) هذا حال من الأدلة، والمعنى: أنها أدلة غير معيّنة، فإذا قلنا: الأمر للوجوب لم نقصد أمراً معيناً، وهذا يخرج الأدلة التفصيلية فلا تذكر في الأصول إلا على سبيل التمثيل للقاعدة، بخلاف أدلة الفقه فإنها معينة، فلكل مسألة دليل تفصيلي.
والدليل عند الأصوليين نوعان:
1 ـ دليل تفصيلي: وهو المختص بمسألة معينة، كـ {{أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}}.
2 ـ دليل إجمالي: وهو الكلي الذي لم يعين فيه شيء خاص، مثل: الأمر للوجوب.
قوله: (وكيفية الاستفادة منها) معطوف على (دلائل) فيكون لفظ (معرفة) متوجهاً إليه، أي: ومعرفة كيف يستفاد من هذه الأدلة، أي: القواعد في استنباط الأحكام الشرعية، وهذا بمعرفة دلالات الألفاظ وشروط الاستدلال، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (وحال المستفيد، وهو المجتهد) معطوف على (دلائل) ـ أيضاً ـ أي: معرفة حال المستفيد، والمستفيد هو: طالب الحكم من الدليل، وخصه بالمجتهد؛ لأنه هو الذي يستفيد بنفسه الأحكام من أدلتها، فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك يبحث في أصول الفقه[(24)].
و(الفقه) [لغةً] : الفهم.
واصطلاحاً: معرفة أحكام الشرع المتعلقة بأفعال العباد.
قوله: (والفقه لغةً: الفهم) شرع المصنف رحمه الله في تعريف (أصول الفقه) باعتبار مفرديه، وأكثر الأصوليين على تقديم هذا التعريف على تعريفه باعتباره لقباً، قال صاحب «المحصول»: (إن المركب لا يمكن أن يُعلم إلا بعد العلم بمفرداته)[(25)].(1/11)
وقوله: (الفهم) أي: فهم غرض المتكلم من كلامه، قال الجوهري: (الفقه: الفهم، تقول: فَقِهَ الرجل، بالكسر، وفلان لا يَفْقَهُ ولا يَنْقَهُ، ثم خُصَّ به علم الشريعة، والعالم به فقيه، وقد فَقُه بالضم فقاهة، وفقّهه الله، وتفقه إذا تعاطى ذلك)[(26)].
قوله: (واصطلاحاً: معرفة أحكام الشرع المتعلقة بأفعال العباد) المعرفة تشمل العلم والظن؛ لأن إدراك الأحكام الفقهية قد يكون يقينياً، كعرفة أن الصلاة خمس، وأن السجود اثنتان، وقد يكون ظنياً، كما في كثير من مسائل الفقه، وقوله: (أحكام الشرع) أي: الأحكام المتلقاة من الشرع، فخرج بذلك الأحكام العقلية والعادية ونحوهما.
وقوله: (المتعلقة بأفعال العباد) أي: كالصلاة والزكاة والحج والمعاملات، وغيرها من الأحكام العملية، وهذا يخرج ما يتعلق بالاعتقاد، كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، فلا يسمى ذلك فقهاً في الاصطلاح.
وهذا التعريف غير مانع؛ لأنه يدخل فيه معرفة المقلِّد، فالأولى زيادة (بأدلتها التفصيلية) لإخراج المقلِّد؛ لأن معرفته ليست من طريق الاجتهاد في الأدلة، بل من طريق التقليد.
والأصل: ما ينبني عليه غيره.
فأصول الفقه: أدلته، والغرض منه: معرفة كيفية اقتباس الأحكام، والأدلة، وحال المقتبس.
قوله: (والأصل: ما ينبني عليه غيره) وذلك كأصل الجدار، وهو أساسه، وأصل الشجرة الذي يتفرع منه أغصانها. وهذا تعريف الأصل في اللغة. وأمَّا في الاصطلاح فله أربعة معانٍ:
1 ـ الدليل، كقولنا: الأصل في وجوب الصوم: الكتاب والسنّة، ومنه أصول الفقه، أي: أدلته.
2 ـ القاعدة الكلية، كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل.
3 ـ أحد أركان القياس، وهو ما يقابل الفرع.
4 ـ الراجح كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، أي: الراجح عند السامع الحقيقة لا المجاز.(1/12)
قوله: (فأصول الفقه أدلته) ؛ لأن الأصل هو الدليل، فالمراد بأصول الفقه: أدلة الفقه من الكتاب والسنّة والإجماع والقياس، وما في خلال ذلك من القواعد الأصولية، فالفقه مستمد من أدلته ومبني عليها.
قوله: (والغرض منه: معرفة كيفية اقتباس الأحكام، والأدلة، وحال المقتبس) أي: إن الغرض من علم الأصول ثلاثة أمور:
1 ـ معرفة كيفية اقتباس الأحكام، أي: معرفة طرق الاستدلال ومراتبه وشروط هذا الاستدلال، كحمل المطلق على المقيد، وتخصيص العام، ومعرفة الترجيح عند التعارض، ونحو ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن المقصود من أصول الفقه أن يُفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنّة)[(27)].
2 ـ معرفة الأدلة، أي: البحث في مصادر الأحكام وحجيتها، فيعرف أن الكتاب والسنّة والإجماع والقياس أدلة يحتج بها.
3 ـ معرفة حال المقتبس، وهو طالب حكم الله تعالى، والمراد به المجتهد ـ كما تقدم ـ؛ لأن كيفية الاستدلال من صفات المجتهد.
ومن فوائد دراسة الأصول ـ أيضاً ـ:
1 ـ معرفة أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وأنها قادرة على إيجاد الأحكام لكل ما يستجد من حوادث على مرِّ العصور.
2 ـ بيان ضوابط الفتوى، وشروط المفتي، وآدابه.
3 ـ ضبط قواعد الحوار والمناظرة، وذلك بالرجوع إلى الأدلة الصحيحة المعتبرة[(28)].
* * *
وذلك ثلاثة أبواب: الباب الأول: في الحكم ولوازمه.
الحكم قيل فيه حدود، أسلمها من النقض والاضطراب أنه قضاء الشارع على المعلوم بأمرٍ ما نطقاً أو استنباطاً.
.............................................................
الباب الأول في الحكم ولوازمه
قوله: (ولوازمه) المراد بلوازمه: أركانه، وهي ثلاثة: الحاكم والمحكوم فيه، والمحكوم عليه، فالحاكم: هو الله تعالى، والمحكوم فيه: أفعال المكلفين، والمحكوم عليه: هو الإنسان المكلف، والركن الرابع: الحكم، وهو من لوازم الحاكم.(1/13)
والحكم لغة: المنع والقضاء. يقال: حكمت عليه بكذا: إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك، ومنه الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها عن أخلاق الأراذل والفساد، وقيل للقضاء: حكم؛ لأنه يمنع من غير المقضى به. يقول جرير:
أَبَنِيْ حنيفة أَحْكِموا سفهاءكم
إني أخاف عليكمُ أن أغضبا[(29)]
ويظهر من هذا المعنى اللغوي لكلمة (حكم) أننا إذا قلنا: حكم الله في المسألة: الوجوب، فإن معناه: أنه سبحانه وتعالى قضى فيها بالوجوب، ومنع المكلف من مخالفته[(30)].
قوله: (الحكم قيل فيه حدود) أي: الحكم اصطلاحاً فيه حدود، أي: عدة تعريفات، والحدود جمع حدّ، وهو لغةً: المنع، ومنه سمي البواب حداداً، لأنه يمنع من الدخول.
واصطلاحاً: الوصف المحيط بموصوفه، المميز له عن غيره، وسمي التعريف حداً؛ لمنعه الداخل من الخروج، والخارج من الدخول.
قوله: (أسلمها من النقض والاضطراب) النقض: هو أن يدخل في الحدّ غير المحدود، وهو التعريف غير المانع، كتعريف الإنسان بأنه حيوان، فهو غير مانع من دخول غير الإنسان كالفرس.
أمَّا الاضطراب: فهو أن يكون غير منضبط، أي: غير جامع، كتعريف الحيوان بأنه الناطق، فهذا غير جامع؛ لأن من أفراد الحيوان ما ليس بناطق[(31)].(1/14)
قوله: (أنه قضاء الشارع على المعلوم بأمر ما نطقاً أو استنباطاً) معنى (قضاء الشارع) أي: حُكْمُ الشارع؛ لأنه لما كان الحكم في اللغة بمعنى (القضاء) عُرِّف الحكم في الاصطلاح بأنه قضاء الشارع، وكأن المصنف يميل إلى ما مشى عليه الفقهاء وبعض الأصوليين من أن الحكم هو أثر الخطاب ومدلوله، وليس الخطاب نفسه، كما فعل جمهور الأصوليين، وذلك ليسلم التعريف من الاعتراضات التي وجهت لتعريف الأصوليين، وهو مسلك سديد، فإن هذا التعريف ميّز بين الحكم الشرعي وبين دليله، فجعل الحكم ما ثبت بالخطاب، والدليل: الخطاب نفسه[(32)]، والفرق بين تعريف الأصوليين وتعريف الفقهاء: أن الأصوليين نظروا إلى الحكم من حيث المصدر وهو خطاب الله، والفقهاء نظروا إليه من حيث المتعلَّق، وهو أفعال المكلفين[(33)].
قوله: (على المعلوم) هذا عام لا أعمّ منه؛ لأن المعلوم يشمل الموجود الآن ومن سيوجد، فيشمل المكلف الآن، ومن سيكلف كالصبي والمجنون.
وقوله: (بأمر ما) هذا الأمر إمَّا طلب، أو تخيير، أو وضع سبب أو شرط أو مانع، فهو شامل للحكم التكليفي، والحكم الوضعي.
وقوله: (نطقاً أو استنباطاً) أي: إن دلالة اللفظ على الحكم قد تكون مأخوذة من منطوق الكلام، مثل: {{أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}} أو استنباطاً من مفهوم الكلام، مثل: تحريم شتم الوالدين أو ضربهما من قوله تعالى: {{فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}} [الإسراء: 23] كما يدخل في ذلك القياس.
و (أو) هنا للتنويع والتقسيم، وليست للشك؛ لأنه لا يصح إيرادها في التعريف؛ لأن المراد منه الكشف والبيان، وهما متنافيان.
والحاكم: هو الله سبحانه، لا حاكم سواه، والرسول صلّى الله عليه وسلّم مبلِّغ ومبيِّن لما حكم به، والمحكوم عليه: هو الإنسان المكلف.(1/15)
قوله: (والحاكم: هو الله سبحانه، لا حاكم سواه) شرعاً وعقلاً. قال تعالى: {{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}} [الأنعام: 57] وقال تعالى: {{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}} [الرعد: 41] ، وذلك لأنه سبحانه هو الخالق لما عداه، المربي لمخلوقاته بنعمه المالك لهم، والمالك يتصرف في ملكه كما يشاء، فمصدر الأحكام الشرعية هو الله تعالى، سواء أظهر حكمه في فعل المكلف مباشرة من النصوص التي أوحى بها إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أم اهتدى إليه المجتهدون بواسطة الأدلة التي شرعها لاستنباط أحكامه.
قوله: (والرسول صلّى الله عليه وسلّم مبلّغ ومبيّن لما حكم به) أي: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس مشرّعاً، وإنَّما هو مبلّغ ومبيّن للتشريع. قال تعالى: {{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ *}} [الغاشية: 21 ـ 22] ، وقال سبحانه: {{إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ}} [الشورى: 48] ، وقال عزَّ من قائل: {{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}} [النحل: 44] ، وهذا يفهم من الآية السابقة {{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}} فهي أسلوب قصر وتخصيص.
وأمَّا قوله تعالى: {{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ} ...} [النساء: 105] فمعناه: بما عرّفك الله به وأرشدك إليه إمَّا بوحي أو بما هو جارٍ على سنن ما قد أوحى الله به[(34)].
قوله: (والمحكوم عليه: الإنسان المكلف) المكلَّف: اسم مفعول من كلفه تكليفاً فهو مكلَّف: إذا أمره بما يشق. والتكليف: طلبُ الفعل أو الترك أو التخييرُ بينهما، وهذا التعريف لإدخال المباح، وهو باعتبار الغالب، وإلا فإن ما خيَّر فيه الشارع ليس فيه تكليف، والمكلف: هو البالغ العاقل.(1/16)
والبلوغ يكون بالاحتلام، ويكون بالحيض في النساء، قال ابن بطال: (أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والحيض في النساء هو البلوغ الذي تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره)[(35)].
وما عدا ذلك من علامات البلوغ كنبات الشعر الخشن حول القُبل، أو البلوغ بالسن، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، وليس عليه أدلة صريحة، والله أعلم[(36)].
وخرج بقولنا: (البالغ): الصغير، فلا يكلف بالأمر والنهي تكليفاً مساوياً لتكليف البالغ، ولكنه يؤمر بالعبادات بعد التمييز تمريناً له على الطاعة، ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها.
أمَّا العقل فقد اتفق العلماء على أنه شرط للتكليف، أما المجنون فلا يكلف بالأمر والنهي، ولكنه يمنع مما فيه تعدٍّ على غيره أو إفساد، ولو فعل المأمور به لم يصح منه، لعدم قصد الامتثال[(37)].
وقد دلَّ على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر ـ وفي رواية: «حتى يحتلم» ، وفي رواية: «حتى يبلغ» ـ وعن المجنون حتى يعقل» [(38)]. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»[(39)].
والأحكام قسمان:
تكليفية وهي خمسة:
واجب يقتضي الثواب على الفعل والعقاب على الترك، ............
قوله: (والأحكام قسمان: تكليفية) أي: إن الأحكام الشرعية قسمان: فالأول الأحكام التكليفية: وهي ما اقتضى طلباً أو تخييراً، والقسم الثاني: الأحكام الوضعية: وهي جعل الشيء علامة أو صفة لشيء آخر ـ ويأتي ذلك إن شاء الله ـ.
مثال التكليفية: ما يقتضي طلب الفعل كقوله تعالى: {... {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}...} [التوبة: 103] ، أو الترك كقوله تعالى: {{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}} [الإسراء: 29] ، أو التخيير كقوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] .(1/17)
قوله: (وهي خمسة) وجه الحصر في الخمسة: أن الشرع إمَّا أن يطلب، أو يخيِّر، والطلب نوعان: طلب فعل على وجه الإلزام فهو الإيجاب، ويسمى الفعل واجباً، أو ليس على وجه الإلزام فهو الندب ويسمى الفعل مندوباً، وطلب ترك إمَّا على وجه الإلزام فهو التحريم ويسمى الفعل محرماً، أو ليس على وجه الإلزام فهو الكراهة، ويسمى الفعل مكروهاً، فهذه أربعة، والخامس التخيير وهو المباح، ويأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام عليها، وبيان وجه إدخال المباح في الأحكام التكليفية.
* * *
الأحكام التكليفية
1 ـ الواجب
قوله: (واجب) هذا القسم الأول من الأحكام التكليفية وهو الواجب. والواجب في اللغة: الساقط واللازم، قال في «القاموس»: (وجب وجوباً: لزم، ووجب الحجر وجبة، أي: سقط)[(40)].اهـ، قال تعالى: {{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}} [الحج: 36] ، أي: سقطت على الأرض ولزمت محلها، وقال قيس بن الخطيم:
أطاعتْ بنو عوفٍ أميراً نهاهموا عن السِّلْمِ حتى كان أولَ واجبِ[(41)]
أمَّا الواجب في الاصطلاح: فبعضهم يعرفه بالحد، أي: ببيان الحقيقة والماهية، وبعضهم يعرفه ببيان الثمرة والحكم والأثر، والأول أدق؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولذلك قال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله في تعريفه، هو: (إلزام الشرع) وقال: (الثواب والعقاب أحكام الواجب، والإيجاب شيء، وأحكامه شيء آخر، والتحديد بمثل هذا يأباه المحققون)[(42)]، واستحسن هذا القول الفتوحي في «شرحه على الكوكب المنير»[(43)].
فالواجب اصطلاحاً: ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً؛ كالصلاة، والزكاة، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالوعد ـ على أحد القولين ـ، والصدق...
وقولنا: (ما طلب الشارع فعله) يخرج المحرم والمكروه. وقولنا: (طلباً جازماً) يخرج المندوب.(1/18)
قوله: (يقتضي الثواب على الفعل، والعقاب على الترك) هذا تعريف بالثمرة والحكم، أي: إن الواجب يقتضي الثواب على الفعل، وذلك بقيد الامتثال[(44)]، والعقاب على الترك. والأولى أن يقال: واستحقاق العقاب على الترك؛ لأن من الواجبات ما لا يلزم من تركه العقاب حتماً، مثل ترك برّ الوالدين، وصلة الأرحام، بل هو تحت المشيئة.
وعلى هذا فعبارة المصنف ـ كغيرها ـ يحتاج أولها إلى قيد (امتثالاً)، وثانيها إلى تقدير: (ويستحق العقاب) لما تقدم، أو يقدر (ويترتب العقاب على الترك)؛ لأن ترتب العقاب لا يلزم منه حصول العقاب، وبعضهم قال: ما يخاف العقاب بتركه[(45)].
وينقسم ـ من حيث الفعل ـ إلى معيَّن لا يقوم غيره مقامه؛ كالصلاة والصوم ونحوهما، وإلى مبهم في أقسام محصورة، يجزئ واحد منها كخصال الكفارة، ومن حيث الوقت، إلى: مضيَّق، وهو ما تعين له وقت لا يزيد على فعله؛ كصوم رمضان، وإلى موسع، وهو ما كان وقته المعين يزيد على فعله؛ كالصلاة والحج،........................................................
قوله: (وينقسم من حيث الفعل إلى معين..) شرع المصنف رحمه الله في تقسيمات الواجب، وهي ثلاثة:
1 ـ تقسيمه من حيث المطلوب به إلى: معيّن، ومبهم.
2 ـ تقسيمه من حيث وقت أدائه إلى: موسّع، ومضيّق.
3 ـ تقسيمه من حيث المخاطبون به إلى: فرض عين، وفرض كفاية.
فبدأ بالتقسيم الأول إلى: معيّن، ومبهم، فالمعيّن أن يكون الفعل مطلوباً بعينه لا يقوم غيره مقامه، ولا خيار للمكلف في نوعه.
قوله: (كالصلاة والصوم ونحوهما) أي: كالحج، وثمن المبيع، وأجرة المستأجَر، وردّ المغصوب، وبرّ الوالدين، والصدق؛ فالمطلوب في هذه الواجبات واحد لا خيار فيه.
قوله: (وإلى مبهم في أقسام محصورة، يجزئ واحد منها) أي: يجزئ فعلُ واحدٍ منها.(1/19)
قوله: (كخصال الكفارة) أي: في قوله تعالى: {{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}} [المائدة: 89] ، والتخيير فيها بين الإطعام أو الكسوة أو العتق، فأيُّ واحد أتى به المكلف أجزأ في التكفير عن يمينه، فإن لم يجد واحداً منها عدل إلى الصيام، ومثل ذلك جزاء الصيد، وفدية الأذى، وكذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم للمستحاضة: «تَحَيَّضِي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله»[(46)] ، وهذا تخيير اجتهاد، لا تخيير تَشَهٍّ.
والمراد أن المستحاضة إما أن تعتبر بحال نسائها؛ كأمها وأختها، أو أن لها عادة ونسيتها، فتجتهد وتبني أمرها على ما تيقنته، والأول أقرب، والله أعلم[(47)].
قوله: (ومن حيث الوقت) هذا التقسيم الثاني وهو من حيث وقته، والوقت هو الزمن الذي قدره الشارع للعبادة.
قوله: (إلى مضيَّق) أي: ضُيق فيه على المكلف حتى لا يجد سعة يؤخر فيها الفعل أو بعضه، ولو أخّره صار قضاء.
قوله: (وهو ما تعين له وقت لا يزيد على فعله؛ كصوم رمضان) أي: إن وقت الواجب المضيّق يسعه وحده، ولا يسع غيره من جنسه؛ كصوم رمضان، فإن وقته مضيق لا يمكن للمكلف أن يصوم أيَّ صومٍ آخر سوى رمضان.
قوله: (وإلى موسّع: وهو ما كان وقته المعين يزيد على فعله؛ كالصلاة والحج) أي: فيكون واسعاً لأدائه وأداء غيره من جنسه؛ كأوقات الصلاة، فإن وقتها موسَّع يمكن المكلف أن يؤديها ويصلي غيرها في الوقت نفسه، وكذا أوقات مناسك الحج، فإنها لا تستغرق سوى جزء قليل من وقت الحج.(1/20)
فهو مخير في الإتيان به في أحد أجزائه. فلو أَخَّرَ ومات قبل ضيق الوقت لم يَعْصِ؛ لجواز التأخير، بخلاف ما بعده، ومن حيث الفاعل، إلى: فرض عين، وهو ما لا تدخله النيابة مع القدرة وعدم الحاجة؛ كالعبادات الخمس، وفرض كفاية، وهو ما يسقطه فعل البعض مع القدرة وعدم الحاجة؛ كالعيد والجنازة...............................................................
قوله: (فهو مخير في الإتيان به في أحد أجزائه) أي: إن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في أيِّ جزءٍ من أجزاء وقته؛ لأن مقتضى التوسيع في الوقت يفيد أن المكلف مخيَّر في إيقاعه في أي جزء من أجزاء هذا الوقت، وهذا قول الجمهور، واستدلوا بما ورد من أن الله تعالى لما فرض الصلاة أرسل جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليعلّمه أوقاتها وأفعالها، فأمَّه مرةً في أول وقتها، ومرة في آخر وقتها، ثم قال: «ما بين هذين وقت»[(48)] ، فدلَّ على أن المكلف مخيّر في أداء الصلاة في أي جزء من أجزاء الوقت المحدد لها. أمَّا الوقت الذي يضاف إليه الإيجاب فهو أول أجزاء الوقت؛ لقوله تعالى: {{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}} [الإسراء: 78] ، فمتى دخل وقت الظهر ـ مثلاً ـ صار المكلف مطالباً بالفعل، مخيراً في جميع أجزاء الوقت، وأمَّا المبادرة والصلاة مع الجماعة فأمر آخر دلت عليه النصوص[(49)]. وهذا إذا كان المكلف أهلاً للتكليف من أول الوقت، فإن كان ليس أهلاً، كحائض طهرت أثناء الوقت فإن سبب الإيجاب هو الجزء من الوقت الذي يزول فيه المانع.(1/21)
قوله: (فلو أخَّر ومات قبل ضيق الوقت لم يعصِ؛ لجواز التأخير، بخلاف ما بعده) أي: إذا أخَّر صلاة الظهر ـ مثلاً ـ عن أول الوقت، ثم مات قبل ضيق الوقت، فإنه لا يعد عاصياً بالتأخير عند الجمهور، وحكاه بعضهم إجماعاً؛ لأنه فعَلَ ما له فعله، وهو جواز التأخير، واشتراط العلم بسلامة العاقبة للتأخير ممنوع، لأن ذلك غيب. لكن لو مات بعد ضيق الوقت، بأن لم يبق إلا ما يتسع لأربع ركعات فقط فإنه يأثم، كما يفهم من كلام المؤلف، وذلك لأن الواجب أداء الصلاة في هذا الجزء من الوقت[(50)].
قوله: (ومن حيث الفاعل إلى فرض عين) هذا التقسيم الثالث للواجب، وهو تقسيمه من حيث المخاطبون به إلى: فرض عين، وهو ما يجب أداؤه على كل مكلف بعينه، وسمي فرض عين؛ لأن خطاب الشرع يتوجه إلى كل مكلف بعينه، ولا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائه بنفسه.
قوله: (وهو ما لا تدخله النيابة مع القدرة وعدم الحاجة) أي: ما دامت القدرة البدنية موجودة ولم يوجد حاجة، فإنه يجب على المكلف أن يفعل بنفسه.
قوله: (كالعبادات الخمس) أي: الطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج[(51)].
قوله: (وفرض كفاية) هذا القسم الثاني، وسمي فرض كفاية؛ لأن قيام البعض به يكفي في:
1 ـ الوصول إلى مقصد الشارع، وهو مجرد الفعل.
2 ـ سقوط الإثم عن الباقين.
قوله: (وهو ما يسقطه فعل البعض) أي: إذا فعله البعض سقط عن الباقين، ولو كانوا قادرين عليه، وليسوا محتاجين لغيرهم.
قوله: (كالعيد والجنازة) هذا على القول بأن صلاة العيد فرض كفاية، والقول الثاني: أنها فرض عين، ولا فرق بين فرض الكفاية وفرض العين من جهة الوجوب، لشمول حدّ الواجب لهما، وإنَّما الفرق من جهة الإسقاط بفعل الآخرين.
والغرض منه وجود الفعل في الجملة، فلو تركه الكل أثموا؛ لفوات الغرض.(1/22)
قوله: (والغرض منه وجود الفعل في الجملة) هذا بيان للفرق بين فرض العين وفرض الكفاية، وهو أن فرض العين منظور فيه إلى ذات الفاعل، وفرض الكفاية نظر فيه الشارع إلى الفعل نفسه، بقطع النظر عن فاعله؛ لأن الغرض إيجاد الفعل، كإنقاذ الغريق، والأذان، والإقامة، والإمامة الصغرى، والكبرى، والقضاء، والإفتاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيجاد الصناعات والحِرَف، والعلوم التي تحتاجها الأمة، وكذا تجهيز الموتى بالتغسيل والتكفين والصلاة والحمل والدفن ونحو ذلك.
وقد يكون واجب الكفاية عينياً إذا لم يوجد غيره، كقاضٍ لم يوجد غيره، وسبَّاحٍ لإنقاذ غريق، وطبيب لم يكن غيره لإسعاف مريض، وهكذا.
قوله: (فلو تركه الكل أثموا؛ لفوات الغرض) هذا يدل على أن فرض الكفاية واجب على الجميع، وهذا قول الجمهور، مستدلين بالآيات العامة الواردة بأمر المسلمين جميعاً، كقوله تعالى: {{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}} [البقرة: 190] ، وقوله تعالى: {{إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}} [التوبة: 39] . والعلماء متفقون على أن القتال فرض كفاية.
ومن أدلتهم ـ كما ذكر المصنف رحمه الله ـ اتفاق العلماء على إثم الجميع إذا لم يقم بالواجب الكفائي أحد، لعدم تحقق الغرض، وتأثيم الجميع موجب لتكليفهم جميعاً؛ لأنه لا يمكن أن يؤاخذ الإنسان على شيء لم يكلَّفْهُ، فدل على وجوبه على الجميع[(52)].
وما لا يتم الواجب إلا به: إما غير مقدور للمكلف كالقدرة واليد في الكتابة، واستكمال عدد الجمعة فلا حكم له، وإما مقدور، كالسعي إلى الجمعة، وصومِ جزءٍ من الليل، وغسلِ جزءٍ من الرأس، فهو واجب لتوقف التمام عليه.
قوله: (وما لا يتم الواجب إلا به إمَّا غير مقدور للمكلف... وإمَّا مقدور) معناه: أن ما لا يتم الواجب إلا به ضربان:
فالأوَّل: غير مقدور للمكلف، بمعنى أنه ليس في قدرته ووسعه وطاقته تحصيله ولا هو إليه.(1/23)
قوله: (كالقدرة واليد في الكتابة) فإن القدرة واليد شرط في الكتابة، وهما مخلوقتان لله تعالى، فلا قدرة للمكلف على إيجادهما.
قوله: (واستكمال عدد الجمعة فلا حكم له) المراد حضور الأربعين، فلا يطالب المكلفون بإحضار الناس؛ ليتم بهم العدد ويقيموا الجمعة، وهذا بناء على اشتراط العدد، وهو قول مرجوح، والصحيح أنه لا يشترط العدد، لعدم الدليل الصحيح، ولو كان شرطاً لما سكت عنه الشارع، والأحاديث التي فيها ذكر الأربعين قضايا أعيان، وقضايا الأعيان لا يستدل بها في العموم، فهذا الضرب لا حكم له، فلا يعلق به إيجاب ولا غيره.
قوله: (وإمَّا مقدور كالسعي إلى الجمعة) هذا الضرب الثاني وهو المقدور للمكلف، ومن أمثلته: السعي إلى الجمعة، والسفر إلى مكة مع الاستطاعة، وإحصاء المال لإخراج الزكاة، وهذا كله واجب لغيره، سواء أكان مأموراً به شرعاً، أم لم يرد فيه أمر مستقل[(53)].
قوله: (وصوم جزء من الليل وغسل جزء من الرأس، فهو واجب لتوقف التمام عليه) فإنه لا يتحقق تعميم غسل الوجه إلا بغسل جزء يسير من الرأس، ولا يتحقق الإمساك في جميع نهار رمضان إلا بإمساك جزء يسير من الليل، فإن من أخّر الإمساك عن جميع أجزاء الليل فهو متناول للفطر قطعاً في نهار رمضان، إذ لا واسطة بين الليل والنهار.
فلو اشتبهت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة وجب الكف تحرجاً عن مواقعة الحرام، فلو وطئ واحدة أو أكل فصادف المباح لم يكن مواقعاً للحرام باطناً، لكن ظاهراً لِفِعْلِ ما ليس له.(1/24)
قوله: (فلو اشتبهت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة وجب الكف) هذان مثالان من فروع مسألة: (ما لا يتم الواجب إلا به) فإذا اشتبهت أخته بأجنبية لم يجز العقد عليهما، وإذا اشتبهت ميتة بمذكاة لم يجز أن يأكلهما، فقد حرمت إحداهما: بالأصالة وهي: الأخت والميتة، والأخرى: بعارض الاشتباه، وهي: الأجنبية والمذكاة، والمحرم بالأصالة يجب اجتنابه، ولا يتم اجتنابه إلا باجتناب ما اشتبه به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فاجتناب ما اشتبه بالمحرم أصالةً واجب.
قوله: (وجب الكف تحرجاً عن مواقعة الحرام) أي: وجب الكف عما ذكر والابتعاد عنه تجنباً للوقوع في الحرام. والتحرج: أن يفعل الإنسان فعلاً يبتعد به عن الحرج، وهو الإثم، فالكف عن الأخت لذاتها، وعن الأجنبية لاشتباهها، وكذا بالنسبة للميتة والمذكاة، وإنَّما عبر المصنف بالكف دون التحريم؛ لأن تحريم الأجنبية ليس لذاتها، فلو تزوجها فهي حلال، ولكن حَرُما لاشتباههما، فاجتمعا في وجوب الكف عنهما، والمراد بوجوب الكف عنهما: عدم جواز العقد عليهما في المسألة الأولى، وعدم جواز الأكل منهما في المسألة الثانية، كما تقدم.
قوله: (فلو وطئ واحدة أو أكل فصادف المباح لم يكن مواقعاً للحرام باطناً...) أي: لعدم العلم به يقيناً، ولكنه مواقع له ظاهراً؛ لأنه فعل ما ليس له فعله؛ لأن الواجب عليه الكفُّ للاشتباه، وهذا فيه نظر؛ إذ كيف يقال: إنه حلال باطناً وحرام ظاهراً؟! فإنه لا معنى لقولنا: (حرام) إلا وجوب الكف؛ لأن الحل والحرمة وصفان للفعل، فإذا حَرُمَ لم يكن حلالاً[(54)]، والله أعلم.
* * *
و(مندوب): وهو ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك.
..........................................................
2 ـ المندوب(1/25)
قوله: (ومندوب) هذا القسم الثاني من الأحكام التكليفية، وهو المندوب. وهو في اللغة: المدعو، مأخوذ من الندب، وهو الدعاء إلى الفعل، وقال الآمدي: إلى أمر مهم[(55)]. قال قُريط بن أُنيف العنبري:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم
في النائبات على ما قال برهانا[(56)]
ويقال له: نَدْبٌ، من إطلاق المصدر على اسم المفعول.
واصطلاحاً: ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم.
وقولنا: (ما طلب الشارع فعله) هذا جنس يدخل فيه الواجب والمندوب، ويخرج المحرم والمكروه والمباح.
وقولنا: (طلباً غير جازم) هذا قيد يخرج الواجب، ومن أمثلة المندوب: السواك، والسنن الرواتب، والتطيب يوم الجمعة، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء، ونحو ذلك، وذكر المصنف رحمه الله المندوب بعد الواجب؛ لاشتراكهما في طلب الفعل.
قوله: (وهو ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك) هذا تعريف للمندوب بحكمه، وهو أن فاعله يثاب، وتاركه لا يعاقب، والتعريف بالحكم لم يرتضه بعض المحققين، كما تقدم.
وقد سكت المصنف رحمه الله عن قيد الامتثال في الثواب على الفعل، وهو قيد لا بدّ منه، كما تقدم في الكلام على «الواجب».
واعلم أن المندوب بجملته يعتبر كمقدمة للواجب، بل هو دافع قوي للالتزام بالواجبات، إضافة إلى أنه يجبر النقص فيها، كما دلت السنّة على ذلك[(57)]. يقول الشاطبي رحمه الله: (المندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعمَّ، وجدته خادماً للواجب؛ لأنه إما مقدمة له، أو تذكار به، كان من جنسه الواجب أو لا..)[(58)].
وبمعناه: المستحب، والسنّة: وهي الطريقة والسيرة، لكن تختص بما فُعِلَ للمتابعة فقط، والنفل: وهو الزيادة على الواجب، ..................................................
قوله: (وبمعناه: المستحب والسنّة) أي: المندوب له أسماء منها: مستحب، فضيلة، الأفضل، نفل، سنّة، تطوّع. وهذا مذهب جمهور الأصوليين.(1/26)
قوله: (والسنّة: وهي الطريقة والسيرة) هذا تعريف السنّة في اللغة. قال في «المصباح المنير»: (السنّة: السيرة حميدة كانت أو ذميمة)[(59)]. قال لبيد:
من مَعْشرٍ سَنَّتْ لهم آباؤهم
ولكل قومٍ سنةٌ وإمامُها[(60)]
أي: طريقة يسيرون عليها.
وأمَّا في الاصطلاح: فإن لفظ السنّة يطلق على واحد من معانٍ ثلاثة:
1 ـ ما يقابل القرآن، فيراد بها قول النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم وفعله وتقريره. ولهذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنّة، أي: القرآن والحديث، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ ذكر هذا التعريف في موضعه مع شرحه.
2 ـ ما يقابل الواجب ويرادف المندوب، وهو ما يثاب على فعله امتثالاً ولا يعاقب على تركه، وهذا هو المراد هنا.
3 ـ ما يقابل البدعة، فيراد بها ما وافق القرآن أو حديث النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، سواء أكانت الدلالة على طلب الفعل مباشرة أم بواسطة القواعد المأخوذة من نصوص الشريعة، ويدخل في ذلك ما عمل عليه الصحابة رضي الله عنهم، سواء وجد ذلك في الكتاب والسنّة أم لا، لكونه اتباعاً لسنّة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجمعاً عليه منهم أو من خلفائهم، كما في جمع المصحف، وتدوين الدواوين، وما أشبه ذلك. ويدل لهذا الإطلاق قوله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»[(61)].(1/27)
قوله: (لكن تختص بما فُعِلَ للمتابعة فقط) أي: إن لفظ (السنّة) يختلف عن المستحب، فالسنّة تختص بما يفعله المكلف متابعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء أكان ذلك الفعل واجباً أم غير واجب[(62)]، وقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»[(63)] . وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى على جنازة فجهر بقراءة فاتحة الكتاب، وقال: (إنَّما فعلت ذلك لتعلموا أنها سنّة)[(64)] وقراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة.
وأمَّا الغالب على ألسنة الفقهاء فهو إطلاق السنّة على ما ليس بواجب[(65)]، وعلى هذا ينبغي أن يقال: السنّة: ما فعل للمتابعة استحباباً.
قوله: (والنفل وهو الزيادة على الواجب) أي: إن النفل يطلق على العبادات التي يبتدئ بها العبد زيادة على الواجب[(66)]. قال تعالى: {{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}} [الإسراء: 79] ، وفي الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه»[(67)].
واعلم أن المندوبات ليست على درجة واحدة من جهة الندب إليها، بل هي متفاوتة كما يلي:
1 ـ سنّة مؤكدة: وهي ما واظب عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وربما اقترن به حثّ وترغيب، مثل: ركعتي الفجر، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر)[(68)]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»[(69)].(1/28)
2 ـ سنّة غير مؤكدة: وهي التي لم يداوم عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم، كصيام التطوع. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم..)[(70)] وكصلاة أربع ركعات قبل العصر، فقد حثّ عليها صلّى الله عليه وسلّم[(71)] من غير مواظبة على فعلها.
3 ـ فضيلة وأدب: وتسمى بـ (سنّة الزوائد) و(سنّة العادة) وهي الأفعال النبوية في غير أمر التعبد، كصفة أكله وشربه ونومه ومشيه وركوبه ونحو ذلك. فالاقتداء به عليه الصلاة والسلام في ذلك أمر مستحب، ويدل على تعلق المقتدي به صلوات الله وسلامه عليه[(72)].
وقد سمى القاضي ما لا يتميز من ذلك كالطمأنينة في الركوع والسجود واجباً، بمعنى أنه يثاب عليها ثواب الواجب؛ لعدم التميز، وخالفه أبو الخطاب. والفضيلة والأفضل كالمندوب.
قوله: (وقد سمى القاضي[(73)] ما لا يتميز من ذلك... واجباً) أي: إن الزيادة على الواجب قسمان:
1 ـ زيادة متميزة عن الواجب؛ كصلاة التطوع بالنسبة للمكتوبات، فهذه ندب إجماعاً.
2 ـ زيادة غير متميزة؛ كالزيادة في الطمأنينة، والزيادة في الركوع والسجود على أقل الواجب، ففيها قولان:
الأول: أنها ندب؛ لأن هذه يجوز تركها فلا تكون واجبة، وهذا قول الأئمة الأربعة، واختاره أبو الخطاب[(74)].
الثاني: أنها واجبة، وهو قول الكرخي وبعض الشافعية، وهو قول القاضي أبي يعلى، لكن في كتابه «العدة» ما يفهم منه القول بأنها ندب، مع أن أبا الخطاب حكى عنه الوجوب، والمرداوي نقل عنه القولين[(75)].
وعبارة المصنف هنا تجمع بين القولين وتزيل الإشكال، حيث أفادت أن رأي أبي يعلى أن ما زاد على ما يتناوله الاسم من الواجب يكون نفلاً بمعنى أنه لا يعاقب على تركه، ولكن إذا فعله فإنه يثاب عليه ثواب الواجب، لعدم تميزه، لا بمعنى أنه يعاقب على تركه[(76)].(1/29)
وقوله: (كالطمأنينة في الركوع والسجود) أي: كالزيادة في الطمأنينة على قدر الإجزاء، فهي واجبة، وعللوا ذلك بأنه لا يتميز فيه جزءٌ عن جزءٍ يسقط الفرض به، لصلاحية كلِّ جزءٍ لذلك، فتخصيص بعض الأجزاء بوصف الواجب ترجيح بلا مرجح.
وقوله: (وخالفه أبو الخطاب) [(77)] أي: إن أبا الخطاب خالف شيخه القاضي أبا يعلى فقال: إن هذه الزيادة ندب، لما تقدم.
قوله: (والفضيلة والأفضل كالمندوب) : تقدّم بيان ذلك.
* * *
و(محظور): وهو لغة: الممنوع، والحرام بمعناه، وهو ضد الواجب: ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه، فلذلك يستحيل كون الشيء الواحد بالعين واجباً حراماً، كالصلاة في الدار المغصوبة في أصح الروايتين، وعند من صححها النهي إما أن يرجع إلى ذات المنهيِّ عنه فيضاد وجوبه، أو إلى صفته، كالصلاة، في السكر، والحيض، والأماكن السبعة والأوقات الخمسة، فسماه أبو حنيفة فاسداً.
..............................................................
3 ـ المحظور
قوله: (ومحظور، وهو لغةً: الممنوع، والحرام بمعناه) هذا القسم الثالث من الأحكام التكليفية، والمحظور لغة: الممنوع، قال في «اللسان»: (الحَظْرُ: الحَجْرُ، وهو خلاف الإباحة. والمحظور: المحرم، وحَظَرَ الشيء يَحْظُره: مَنَعَه). وقال في «المختار»: (حَرَمَهُ الشيء يَحْرِمُه حَرِماً: إذا منعه إياه)[(78)].
واصطلاحاً: ما طلب الشارع تركه طلباً جازماً، سواء كان فعلاً؛ كعقوق الوالدين، وإسبال الثياب، وحلق اللحى، والإسراف، ونحوها مما حرم فعله، أو قولاً؛ كالغيبة، والنميمة، ولعن المسلم، ونحوهما مما حرم التلفظ به، أو من أعمال القلوب؛ كالحقد، والحسد، والنفاق ونحوها.
وقولنا: (طلباً جازماً) يخرج المكروه.(1/30)
قوله: (وهو ضد الواجب) أي: باعتبار تقسيم أحكام التكليف فيعرف بضد تعريف الواجب، وإلا فالحرام ضد الحلال. قال تعالى: {{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} ...} [النحل: 116] .
قوله: (ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه) هذا تعريف الحرام باعتبار حكمه، كما تقدم في الواجب والمندوب، لكن لا يثاب المكلف على ترك المحرم إلا بقصد الامتثال، وذلك بأن يكفَّ نفسه عن المحرم امتثالاً لنهي الشرع قاصداً بذلك وجه الله تعالى، فلو تركه خوفاً من مخلوق أو حياءً أو رياءً أو عجزاً ونحو ذلك سلم من الإثم؛ لأنه لم يرتكب حراماً، ولكن لا أجر له؛ لأنه لم يقصد بذلك الترك وجه الله تعالى[(79)].
قوله: (فلذلك يستحيل كون الشيء الواحد بالعين واجباً حراماً) أي: لأجل أن الحرام ضد الواجب، فيستحيل اجتماع الحل والحرمة في عين واحدة، وإذا استحال ما ذكره فمعناه بطلان الصلاة في الدار المغصوبة، كما سيأتي.
وقوله: (الواحد بالعين) أي: بخلاف الواحد بالجنس، فلا مانع من كون بعض أفراده حلالاً وبعضها حراماً، فالحيوان جنس من أفراده: البعير والخنزير، والواحد بالنوع كذلك، فالسجود نوع واحد، ومنه سجود لله واجب، وسجود للصنم محرّم.
أمَّا الواحد بالعين ـ وهو الواحد بالشخص ـ فهو ما ليس له أفراد بل هو عين واحدة، وهذا مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، فلا يقال: بعض أفرادها واجب، وبعضها محرم.
قوله: (كالصلاة في الدار المغصوبة في أصح الروايتين) أي: فلا تصح الصلاة في الدار المغصوبة ولا يسقط بها الطلب، وهذا مذهب الإمام أحمد[(80)]، واختار ذلك أكثر أصحابه، قالوا: لأن النهي يقتضي الفساد، والصحة تقتضي الثواب، فلا يتصور أن يثاب المكلف ويعاقب في وقت واحد بسبب عمل واحد، كما أن صحتها تقتضي أن يكون الفعل حراماً وواجباً في وقت واحد، وهذا لا يمكن كما تقدم.(1/31)
وقال الجمهور: إن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة مجزئة، وهو رواية عن أحمد؛ لأن الفعل الواحد له وجهان متغايران، وهو مطلوب من أحدهما منهي عنه من الآخر، فالصلاة في الدار المغصوبة من حيث إنها صلاة مطلوبة، ومن حيث إنها غصب فالغصب حرام، والصلاة معقولة بدون الغصب، والغصب معقول بدون الصلاة، وهذا القول هو الراجح؛ لقوة مأخذه[(81)].
قوله: (وعند من صححها النهي إمَّا أن يرجع إلى ذات المنهي عنه) أي: ومن صحح الصلاة في الدار المغصوبة قال: إن النهي ثلاثة أقسام: نهي يعود إلى ذات المنهي عنه، ونهي يعود إلى صفته، ونهي يعود إلى أمر خارج.
قوله: (النهي إمَّا أن يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه) هذا القسم الأول. ومثاله: قوله تعالى: {{وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى} ...} [الإسراء: 32] ، وكنهي النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم عن صوم يوم الفطر ويوم النحر[(82)]. ومثاله في العقود: نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الحصاة[(83)]، وهو جعل إصابة الحصاة لشيء بيعاً له، فهذا راجع إلى نفس العقد، أي: البيع على هذه الصورة.
وقوله: (فيضاد وجوبه) أي: إن إيجاب مثل هذه المنهيات مع قيام النهي عنها متضاد قطعاً؛ لأنه يقتضي أنه مطلوب الوجود والعدم من جهة واحدة، وهذا تناقض.
قوله: (أو إلى صفته، كالصلاة في السُّكْرِ والحيض) هذا القسم الثاني، وهو أن يكون الفعل مطلوباً، والنهي يعود إلى صفة من صفاته، فالصلاة مطلوبة، ومنهي عنها لوصف السكر القائم بالمصلي. قال تعالى: {{أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}} [البقرة: 43] ، وقال تعالى: {{لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}} [النساء: 43] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت أبي حبيش: «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي»[(84)].(1/32)
قوله: (والأماكن السبعة) وهي: المَزْبَلةُ، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يصلّى في سبعة مواطن... فذكرها[(85)]. لكنه حديث ضعيف، ولم يثبت النهي إلا عن ثلاثة: الحمام والمقبرة، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة» [(86)]. ومعاطن الإبل، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «صلّوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل» [(87)]. وما عدا ذلك لم يثبت فيه حديث، فيُعمل بعموم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»[(88)] . ويستثنى الموضع النجس؛ لحديث الأعرابي الذي بال في المسجد[(89)].
قوله: (والأوقات الخمسة) أي: الأوقات الخمسة التي نهى الشارع عن الصلاة فيها، وهي: من طلوع الفجر ـ على القول الراجح ـ إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها حتى ترتفع قدر رمح، وعند قيامها حتى تزول، ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس، وإذا شرعت في الغروب حتى يتم، والأدلة معروفة في كتب الفقه.
وقد مثّل المصنف رحمه الله للمنهي عنه لوصفه في أبواب العبادات، أمَّا العقود فمثل إحلال البيع بقوله تعالى: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}} [البقرة: 275] مع النهي عن الربا بقوله تعالى: {{لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا}} [آل عمران: 130] .(1/33)
قوله: (فسماه أبو حنيفة فاسداً) أي: إن أبا حنيفة سمّى المنهي عنه لوصفه فاسداً؛ إعمالاً لدليلي الجواز والمنع، فيقول: الصلاة في نفسها مشروعة بدليل {{أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}} [الأنعام: 72] ، وإيقاعها في حال السُّكْر أو الحيض أو في الأماكن أو الأوقات المنهي عنها هو الممنوع، فمطلوبية الصلاة من حيث ذاتها دليل الجواز، وتعلق النهي بها من جهة أوصافها دليل المنع، والبيع باعتبار ذاته مشروع، وإنَّما الممنوع إيقاعه على صفة الربا، أو مقترناً بشرط فاسد، وإعمال الدليلين أولى من ترك أحدهما، وأطلق عليه فاسداً؛ لأن الفاسد عنده ما شرع بأصله ومنع بوصفه، كالصلاة في حال السكر، والباطل ما منع بأصله ووصفه؛ كبيع الميتة والدم ونحوها [(90)].
وعندنا وعند الشافعي أنه من القسم الأول، لأن المنهي عنه نفس هذه الصلاة، ولذلك بطلت، أو لا إلى واحد منهما، كلبس الحرير، فإن المصلي فيه جامع بين القُربة والمكروه بالجهتين فتصح.
قوله: (وعندنا وعند الشافعي أنه من القسم الأول) وهو المنهي عنه لذاته فيكون باطلاً؛ لأن المنهي عنه الصلاةُ الواقعة في حال السُّكْر أو الحيض، كما أن المنهي عنه الزنا الواقع في غير محل الحرث شرعاً، والبيع المشتمل على الزيادة.
قوله: (أو لا إلى واحد منهما كلبس الحرير) هذا القسم الثالث من أقسام النهي، وهو أن يعود إلى أمر خارج، فلا يعود إلى ذات المنهي عنه ولا إلى صفته، فلا يضاد الوجوب، كقوله: {{أَقِمِ الصَّلاَةَ}} مع قوله: (لا تلبس الحرير) ولم يتعرض في النهي للصلاة كما في السكر، فإذا صلى في ثوب حرير أتى بالمطلوب والمنهي عنه جميعاً.
ومثاله في العقود: النهي عن الغش، فالبيع صحيح، وللمشتري الخيار، وعلى البائع إثم الغش.(1/34)
قوله: (فإن المصلي فيه جامع بين القربة والمكروه) أي: فإن المصلي في ثوب الحرير جامع بين القربة بالصلاة، والمكروه كراهة تحريم، وهو لبس الحرير؛ لأنه منهي عنه في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»[(91)].
وقوله: (بالجهتين) أي: جهة القربة والكراهة، ولا محال في ذلك، إنَّما المحال أن يجتمعا من وجه واحد، كما تقدم.
قوله: (فتصح) أي: الصلاة في ثوب الحرير ويثاب عليها، وهكذا الصلاة في الأرض المغصوبة، فإن الحرير محرم داخل الصلاة وخارجها، وكذا الغصب محرم في الصلاة وغيرها، والمصلي فيهما جامع بين الأمرين، والله أعلم.
* * *
و(مكروه) ـ وهو ضد المندوب ـ ما يقتضي تركه الثواب ولا عقاب على فعله، كالمنهي عنه نهي تنزيه.
............................................................
4 ـ المكروه
قوله: (مكروه) هذا القسم الرابع من الأحكام التكليفية، والمكروه لغة: المبغَض.
وفي الاصطلاح: ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومَنْعَ وهاتِ، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»[(92)] . وكذا كل صيغة نهي قام الدليل على صرفها عن التحريم إلى الكراهة، مثل النهي عن الكي مع الإذن فيه[(93)]، والنهي عن مسّ الذكر باليمين حال البول[(94)].
قوله: (وهو ضد المندوب) وذلك لأن المندوب هو المأمور به غير الجازم، والمكروه المنهي عنه غير الجازم، فالمندوب قسيم الواجب في الأمر، والمكروه قسيم الحرام في النهي.
قوله: (ما يقتضي تركه الثواب ولا عقاب على فعله) هذا حكمه وهو أن يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله.(1/35)
قوله: (كالمنهي عنه نهي تنزيه) هذا عند المتأخرين حيث اصطلحوا على أنهم إذا أطلقوا الكراهة فمرادهم كراهة التنزيه، لا كراهة التحريم، وإن كان عندهم لا يمتنع أن يطلق المكروه على الحرام، ونسب الطوفي هذا الإطلاق إلى الفقهاء[(95)].
وإنمَّا كان المكروه ينصرف إلى كراهة التنزيه؛ لأن الأحكام أربعة، وكل واحد قد خُصَّ باسم غلب عليه، فينبغي أن المكروه إذا أطلق ينصرف إلى مسماه دون غيره مما قد يستعمل فيه.
وكثيراً ما يطلق الأئمة كالشافعي وأحمد ـ رحمهما الله ـ لفظ المكروه على المحرم[(96)]، لقيام الدليل على إرادتهم إياه، وإنَّما أطلقوا ذلك تورعاً وحذراً من الوقوع في النهي عن القول: هذا حرام وهذا حلال، لقوله تعالى: {{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}} [النحل: 116] . قال ابن القيم رحمه الله: (إن كثيراً من أتباع الأئمة غلطوا على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة).اهـ[(97)].
ومن كلام الإمام أحمد: (أكره المتعة والصلاة في المقابر)، وهما محرمان[(98)]، وفي «مختصر الخرقي» رحمه الله: (ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة) نقله عن أبي عبد الله[(99)]، وذكر في «شرح الكوكب المنير»: أن إطلاق المكروه للتنزيه اصطلاح لا مشاحة فيه[(100)].
ويطلق المكروه أحياناً على ترك الأَوْلَى: وهو ترك ما فعله راجح على تركه، لكثرة الفضل في فعله، كترك مندوب، مثل: صلاة الضحى[(101)].
قال الآمدي: (قد يطلق المكروه على الحرام، وعلى ما فيه شبهة وتردد، وعلى ترك ما فعله راجح وإن لم يكن منهياً عنه)[(102)].(1/36)
وقد مثّل الطوفي لترك الأَوْلَى بقول الخرقي في «مختصره»: (ومن صلّى صلاة بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك، ولا يعيد) أي: الأَوْلَى أن يصلي بأذان وإقامة أو بأحدهما، فإن أخلَّ بأحدهما تَرَكَ ذلك الأولى.اهـ. وظاهر ذلك أن الأذان سنّة مؤكدة؛ وليس بواجب؛ لأنه جعل تركه مكروهاً، وهذا أحد القولين في المسألة، والله أعلم[(103)].
و(مباح) ، و(الجائز) و(الحلال) بمعناه: وهو ما لا يتعلق بفعله أو تركه ثواب ولا عقاب.
وقد اختلف في حكم الأعيان المنتفع بها قبل الشرع، فعند أبي الخطاب والتميمي: الإباحة، كأبي حنيفة، فلذلك أنكر بعض المعتزلة شرعيته، وعند القاضي، وابن حامد، وبعض المعتزلة: الحظر، وتوقف الجزري والأكثرون.
...........................................................
5 ـ المباح
قوله: (ومباح) هذا القسم الخامس من الأحكام التكليفية، والمباح في اللغة: المعلن والمأذون فيه، يقال: بَاحَ فلان بِسِرِّه أي: أظهره، وأباحه الشيء: أحلَّه له[(104)].
واصطلاحاً: ما لا يتعلق به أمر ولا نهي عنه لذاته؛ كالاغتسال للتبرد، والمباشرة ليالي الصيام.
وخرج بالقيد الأول وهو (ما لا يتعلق به أمر): الواجب والمندوب، وخرج بالثاني (ولا نهي): المحرم والمكروه، وخرج بالثالث (لذاته): ما إذا كان المباح وسيلة، كما سيأتي.
قوله: (والجائز والحلال بمعناه) لكن الحلال أعم؛ لأنه يطلق على الأربعة: الواجب والمندوب والمكروه والمباح؛ والمباح لا يطلق على الثلاثة، لكن إطلاق المباح على ما استوى طرفاه هو الأصل، ويطلق على المباح: الجائز، مع أن الجائز كل ما وافق الشريعة[(105)].(1/37)
قوله: (وهو ما لا يتعلق بفعله أو تركه ثواب ولا عقاب) هذا المباح الباقي على وصف الإباحة، لكن يستثنى من ذلك ما إذا اقترن بفعله أو تركه نية صالحة فإنه يثاب على ذلك[(106)]. أمَّا المباح الذي صار وسيلة إلى مأمور به أو منهي عنه فحكمه حكم ما كان وسيلة إليه، فإن كان وسيلة لمأمور به تعلق به أمر وثواب، وإن كان وسيلة لمنهي عنه تعلق به نهي وعقاب[(107)]. مثال الأول: شراء الماء لمن لم يجد ماء يتوضأ به؛ فهو واجب، والأصل فيه الإباحة، ومثال الثاني: شراء السلاح ليقتل به نفساً محرمة؛ فهو محرم، والأصل فيه الإباحة.
قوله: (وقد اختلف في حكم الأعيان المنتفع بها قبل الشرع) ، المراد بالأعيان: الذوات، ولها ثلاث حالات:
1 ـ ما فيه ضرر محض، ولا نفع فيه البتة؛ كأكل الأعشاب السامة القاتلة.
2 ـ ما فيه ضرر من جهة ونفع من جهة، والضرر أرجح أو مساوٍ، وهذان محرمان؛ لحديث: «لا ضرر ولا ضرار» [(108)].
3 ـ ما فيه نفع محض ولا ضرر فيه أصلاً، أو فيه ضرر خفيف، وهذا هو الذي فيه الكلام. أما الأول والثاني فقد خرجا بقوله: (المنتفع بها) .
قوله: (فعند أبي الخطاب والتميمي[(109)]: الإباحة، كأبي حنيفة) هذا القول الأول، وهو الإباحة، ودليلهم:
1 ـ قوله تعالى: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} ...} [البقرة: 29] . ووجه الدلالة: أن الله تعالى امتنّ على خلقه بما في الأرض جميعاً، ولا يمتن إلا بمباح؛ إذ لا مِنَّة في محرم، وخُصَّ من ذلك بعض الأشياء، وهي الخبائث لما فيها من الفساد لهم في معاشهم أو معادهم، فيبقى ما عداها مباحاً بموجب الآية.
2 ـ ما ورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أعظم المسلمين جُرماً من سأل عن شيء لم يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ من أجل مسألته»[(110)] . ووجه الدلالة من وجهين:
1 ـ أن الأشياء لا تحرم إلا بتحريم خاص؛ لقوله: «لم يُحرَّم».(1/38)
2 ـ أن التحريم قد يكون لأجل المسألة، فبيّن بهذا أنها بدون ذلك ليست محرمة.
قوله: (فلذلك أنكر بعض المعتزلة[(111)] شرعيته) أي: لأجل أن الأصل في المنافع الإباحة أنكرت المعتزلة أن المباح من الأحكام الشرعية. قالوا: (لأن المباح ما اقتضى نفي الحرج في فعله وتركه، وذلك ثابت قبل الشرع وبعده). وقال غيرهم: بل هو مشروع؛ لأن الإباحة خطاب الشرع بالتخيير، وهذا غير ثابت قبل ورود الشرع. قال تعالى: {{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}} [المائدة: 96] ، وقال تعالى: {{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ}} [المائدة: 1] ، ونحو ذلك من الأدلة التي تفيد الإباحة، وهذه هي الإباحة الشرعية، وأما الإباحة العقلية، فهي الباقية على البراءة الأصلية[(112)].
ومن ثمرة الخلاف في هذه المسألة:
أنه إذا وجد مادة جديدة صالحة للأكل جاز الأكل منها ولو لم يرد دليل خاص بها، وهذا على القول بالإباحة[(113)].
قوله: (وعند القاضي وابن حامد[(114)] وبعض المعتزلة الحظر) هذا القول الثاني في مسألة الأعيان المنتفع بها، وهو أنها على الحظر؛ لأن جميع الأشياء مملوكة لله تعالى، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه.
قوله: (وتوقف الجزري[(115)] والأكثرون) هذا القول الثالث وهو التوقف، حتى يرد دليل مبين للحكم، وذلك لأن الحظر والإباحة من الشرع، فلا حكم قبله[(116)].
والقول الأول هو الأظهر ـ إن شاء الله ـ، لقوة أدلته من الكتاب والسنّة، وقد نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأما القول بأن الأصل التحريم فهو قول ضعيف ترده النصوص الثابتة الدالة على أن الشيء إذا خلا عن الضرر فالأصل فيه الإباحة، والله أعلم[(117)].(1/39)
أما وجه إدخال المباح في الأحكام التكليفية مع أنه لا كلفة فيه ولا مشقة فالأكثرون على أن ذلك من باب التغليب ـ كما تقدم ـ وهو استعمال مألوف في اللغة العربية. وهذا الإشكال مبني على أن أحكام الشريعة كلها تكاليف ومشقات، وهذا فيه نظر؛ فإنَّ وَصْفَ أوامر الله ونواهيه بأنها تكاليف قول مستحدث، أول من استعمله المعتزلة، ولا يصح إطلاقه على جميع الأحكام الشرعية، فإن كثيراً من الفروض والواجبات فضلاً عن المباحات ليست تكاليف ولا مشقات؛ بل هي راحة وهداية ونور، وقد وصف الله تعالى أحكام شرعه باليسر ونفى عنها الحرج.
يقول ابن تيمية: (ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنّة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح: إنه تكليف، كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة؛ وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي، كقوله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] .. أي: وإن وقع في الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يُسَمَّى جميع الشريعة تكليفاً، مع أنها غالبها قرة العيون، وسرور القلوب، ولذات الأرواح، وكمال النعيم...)[(118)].
* * *
و(وضعية): وهي أربعة:
أحدها: (ما يظهر به الحكم) وهو نوعان: (علة) إما عقلية، كالكسر للانكسار، أو شرعية، قيل: إنها المعنى الذي علق الشرع الحكم عليه، وقيل: الباعث له على إثباته ، وهذا أولى.
الأحكام الوضعية
قوله: (ووضعية: وهي أربعة) هذا معطوف على قوله فيما تقدم: (تكليفية) .
والحكم الوضعي: ما دلَّ عليه خطاب الشرع من كون هذا الشيء سبباً في شيء آخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه، أو صحيحاً، أو فاسداً، أو رخصةً، أو عزيمةً.
وقد قسّمها المؤلف إلى أربعة أقسام:
1 ـ ما يظهر به الحكم، وهو نوعان: العلة والسبب، ومن توابعهما: الشرط والمانع. فهذه أعلام على الحكم.
2 ـ الصحيح، والفاسد.
3 ـ المنعقد.
4 ـ الرخصة، والعزيمة.
والفرق بين خطاب التكليف والوضع من وجوه منها:(1/40)
الأول: أن الحكم التكليفي يتعلق بفعل المكلف فقط، بخلاف الحكم الوضعي فيتعلق بفعل الإنسان مطلقاً ولو كان غير مكلف؛ كالصبي والمجنون. كما يتعلق بفعل غير الإنسان، كالدابة تتلف شيئاً، فإن على صاحبها الضمان.
الثاني: أن الحكم التكليفي لا يكون إلا بالكسب، بخلاف الحكم الوضعي، كوجوب الدية على العاقلة مع أنهم لم يباشروا القتل، وإنما معناه أن فعل الغير قد وقع سبباً لثبوت الحق في ذمتهم[(119)].
الثالث: أن الأحكام التكليفية في قدرة المكلف ومأمور بها فعلاً؛ كالوضوء للصلاة، أو تركاً كسائر المنهيات.
أمَّا الأحكام الوضعية فهي إمَّا داخلة تحت قدرة المكلف بحيث يستطيع الفعل والترك، كالسرقة التي هي سبب في قطع اليد، وإمَّا غير داخلة في قدرة المكلف أصلاً كزوال الشمس، والنقاء من الحيض، أو يكون في قدرته ولا يؤمر به؛ كالنصاب للزكاة، والاستطاعة للحج.
قوله: (أحدها: ما يظهر به الحكم) أي: أن الحكم يظهر ويوجد بوجود هذا الشيء، كما يوجد التحريم في الخمر إذا وجد الإسكار، فيكون الإسكار دليلاً يستدل به المجتهد على وجود الحكم إذا لم يكن عارفاً به.
قوله: (وهو نوعان: (علة) إمَّا عقلية كالكسر للانكسار) أي: إن الذي يظهر به الحكم نوعان:
الأول: العلة: وهي في اللغة: ما اقتضى تغييراً، ومنه سميت علة المريض؛ لأنها اقتضت تغيّر الحال من الصحة والقوة إلى المرض والضعف، أو أنها من العَلَلِ بعد النَّهَلِ، وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة؛ لأن المجتهد يعاود النظر في استخراجها مرة بعد مرة، أو لأن الحكم يتكرر بتكرر وجودها، أو لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض[(120)].
وهي إمَّا عقلية أو شرعية، فالعلة العقلية هي ما يوجب الحكم لا محالة، كالكسر علة الانكسار، فهي موجبة لوجود معلولها، والتسويد علة للسواد، ونحو ذلك.
قوله: (أو شرعية) هذا النوع الثاني للعلة، ويراد به التعريف الاصطلاحي لها.(1/41)
قوله: (قيل: إنها المعنى الذي علق الشرع الحكم عليه) هذا التعريف الأول، وهو أن يراد بها: المعنى[(121)] الذي علق الشرع الحكم عليه وأناطه به.. فتكون العلة أمارة وعلامة على وجود الحكم وثبوته في جميع محالّ الوصف، كالإسكار في الخمر علامة على وجود الحكم، وهو التحريم، والصغر علامة على وجود الولاية على المال.
و(سبب): وقد استعمله الفقهاء فيما يقابل المباشرة، كالحفر مع التردية، وفي علة العلة، كالرمي في القتل للموت، وفي العلة بدون شرطها، كالنصاب بدون الحول، وفي العلة نفسها، كالقتل للقصاص، ولذا سموا الوصف الواحد من أوصاف العلة جزء السبب.
قوله: (وقيل: الباعث له على إثباته) هذا التعريف الثاني، وهو أن العلة الشرعية هي الباعث للشرع على إثبات الحكم، وفُسِّر ذلك بكونها مشتملة على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، كالقتل العمد ـ مثلاً ـ فإنه باعث للشارع على شرع القصاص، حفظاً للنفوس.
فالمراد بالباعث: المشتمل على الحكمة، لا الباعث للشارع على شرع الحكم كما هو ظاهر اللفظ؛ لأن الله تعالى لا يبعثه شيء على شَرْعِ حكمٍ سوى إرادته {{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}} [القصص: 68] .
قوله: (وهذا أولى) أي: إن التعريف الثاني أولى؛ لأن الأول مبني على قول المتكلمين: إن الأحكام الشرعية لا تعلل بالأغراض، أي: إنها لم تشرع لأغراض وأهداف.
وشبهتهم: أن شرعية الفعل من أجل غاية معينة معناه: أن صاحبه يتكمَّلُ بوجود تلك الغاية، والله منزّه عن ذلك. وهذه شبهة ساقطة؛ إذ لا قياس للخالق على المخلوق، والله له الغنى التام، وإنَّما شَرَعَ الأحكام لمصالح ترجع إلى العباد تفضلاً منه سبحانه وتعالى، وهذا دليل على أن الله تعالى له الكمال التام في أفعاله، كما أن له الكمال التام في ذاته وصفاته. وسيأتي الكلام على العلة في باب «القياس» ـ إن شاء الله ـ [(122)].(1/42)
قوله: (وسبب) هذا النوع الثاني مما يظهر به الحكم، أي: من العَلَمِ الذي نصبه الشارع معرِّفاً للحكم، والسبب لغةً: ما تُوصِّل به إلى الغرض المقصود. قال الجوهري: (والسبب الحَبْل. والسبب أيضاً كل شيء يُتوصل به إلى غيره)[(123)].
وعند الأصوليين: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، أي: إن السبب هو الأمر الذي جعل الشارع وجوده علامة على وجود الحكم، وانتفاءه علامة على انتفائه.
فزوال الشمس ـ مثلاً ـ سبب لوجوب صلاة الظهر، يلزم من وجوده وجود صلاة الظهر، ومن عدمه عدمها.
فالقيد الأول: لإخراج الشرط؛ لأنه لا يلزم من وجوده الوجود، كوجود الطهارة لا يلزم منه وجود الصلاة.
والقيد الثاني: لإخراج المانع؛ لأنه لا يلزم من عدمه وجود، ولا عدم، كالدَّين ـ مثلاً ـ فإنه مانع من الزكاة، فإذا لم يكن عليه دين فلا يلزم أن تجب عليه الزكاةـ لاحتمال فقره مع عدم الدين، ولا أن لا تجب عليه الزكاة لاحتمال أن يكون عنده نصاب قد حال عليه الحول فتلزمه الزكاة.
وقولنا: (لذاته) احتراز مما لو قارن السبب فقدان الشرط أو وجود المانع، كالنصاب قبل تمام الحول أو مع وجود الدين، فإنه لا يلزم من وجود النصاب وجود الزكاة، لكن لا لذته بل لأمر خارج عنه، وهو انتفاء الشرط أو وجود المانع.
قوله: (وقد استعمله الفقهاء) [(124)] أي: استعاروا لفظ (السبب) من الوضع اللغوي إلى التصرف الشرعي لمعانٍ أربعة:
قوله: (فيما يقابل المباشرة، كالحَفْر مع التردية) هذا المعنى الأول، وهو أنهم استعملوا السبب في مقابل المباشرة، فلو حفر شخص بئراً ودفع آخر إنساناً فتردى فيها فهلك، فالأول: وهو الحافر متسبب، والثاني: مباشر، فالحفر سبب، والتردية علة؛ لأن الهلاك بها لا بالحفر، ولكن وقع ذلك عند وجود البئر، فسموا الحافر متسبباً، والدافع مباشراً، وإذا اجتمع السبب والمباشرة غلبت المباشرة، ووجب الضمان على المباشر، وانقطع حكم المتسبب[(125)].(1/43)
قوله: (وفي علة العلة) أي: استعملوا السبب في علة العلة، وهذا هو الثاني. قالوا: إن الرمي سبب للقتل من حيث إنه سبب للعلة، وهو على التحقيق علة العلة وهي الإصابة؛ لأن القتل سببه الإصابة، والإصابة سببها الرمي، فكان الرمي شبيهاً بالسبب في وضع اللسان، وهو ما كان مفضياً إلى الشيء وطريقاً إليه.
قوله: (وفي العلة بدون شرطها) هذا الاستعمال الثالث، وهو أن الفقهاء استعملوا السبب في العلة الشرعية بدون شرطها، كالنصاب بدون الحول، فإنه يسمى سبباً لوجوب الزكاة، وكاليمين بدون الحنث، فهي سبب لوجوب الكفارة، مع أنه لا بدّ من الحول، والحنث في الوجوب، ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه، كما يقال: نصاب الزكاة، وكفارة اليمين، ونحو ذلك.
قوله: (وفي العلة نفسها) أي: يطلق السبب على العلة الشرعية كاملة، وعليه أكثر أهل الأصول، وهذا هو الاستعمال الرابع، وبهذا يكون السبب أعم من العلة، فكل علّة سبب، وليس كل سبب علّة، فإن ظهرت المناسبة فهو علة وسبب، كالإسكار علة لتحريم الخمر، ومثل عقد البيع الدال على الرضا بنقل الملكية، وأمَّا إذا لم تظهر المناسبة فهو سبب وليس علة، كالزوال سبب لوجوب صلاة الظهر، مع أن عقولنا لا تدرك مناسبة ظاهرة بين السبب والحكم[(126)]، وسيأتي ذكر ذلك في باب «القياس» ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قوله: (كالقتل للقصاص) فالقتل سبب للقصاص وعلة أيضاً؛ لأن هذا السبب فيه مناسبة ظاهرة، وهي حفظ الأنفس وصيانة الدماء.
قوله: (ولذا سموا الوصف الواحد من أوصاف العلة جزء السبب) كالقتل علة وسبب لوجوب القصاص، والقتل له أوصاف، فهو قتل عمد عدوان، وكل واحد يعتبر جزءاً من أجزاء السبب.(1/44)
وينبغي أن يعلم أن جزء العلة إذا انفرد لا يترتب عليه حكم، بل لا بدّ من وجود بقية أجزائها، فلو كان القتل خطأ لم يجب القود، أو كان عمداً لكنه في حدّ أو قصاص لم يجب القود أيضاً، بخلاف العلل المتعددة فإن بعضها إذا انفرد استقل بالحكم، كمن بَالَ وأكل لحم جزور ونام، وجب الوضوء بجميعها، وبكل واحد منها منفرداً.
ومن توابعهما: الشرط وهو ما يتوقف على وجوده: إما الحكم كالإحصان للرجم، ويسمى: شرط الحكم، أو عمل العلة وهو شرط العلة، كالإحصان مع الزنا، فيفارق العلة من حيث إنه لا يلزم الحكم من وجوده.
قوله: (ومن توابعهما) أي: ومن توابع السبب والعلة: الشرط والمانع.
قوله: (الشرط) الشرط في اللغة: العلامة؛ لأنه علامة على المشروط، ومنه قوله تعالى: {... {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ...} [محمد: 18] أي: علامتها، والمفرد شَرْط أو شَرَط، ولا أثر لاختلاف الحركات مع اتفاق المادة، كما قال الطوفي رحمه الله[(127)].
وعند الأصوليين: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، ولا عدم لذاته.
فقولنا: (ما يلزم من عدمه العدم) احتراز من المانع؛ لأنه لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، كالدَّين يجوز وجوب الزكاة مع انتفائه لوجود الغنى، ويجوز عدم وجوبها لوجود الفقر مع انتفاء الدين.
وقولنا: (ولا يلزم من وجوده الوجود ولا عدم) احتراز من السبب؛ لأنه يلزم من وجوده الوجود لذاته، ومن المانع؛ لأنه يلزم من وجوده العدم.
وقولنا: (لذاته) احتراز من مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود، أو قيام المانع، فيلزم العدم، لكن لا لذاته، بل لأمر خارج وهو مقارنة السبب أو قيام المانع.(1/45)
فالطهارة شرط للصلاة يلزم: من عدمها عدم الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة لذات الطهارة، بل لسبب كزوال الشمس لصلاة الظهر ـ مثلاً ـ، فتجب الصلاة لهذا السبب لا لذات الشرط، ولا يلزم من وجود الطهارة عدم الصلاة لأجل الطهارة، بل لمانع قارن الشرط، كأن يكون الوقت نهياً والنفل مطلقاً.
قوله: (وهو ما يتوقف على وجوده إمَّا الحكم كالإحصان للرجم... أو عمل العلة..) يشير بذلك إلى أن الشرط قسمان:
أ ـ ما يكون شرطاً للحكم كالإحصان ـ وهو الوطء في نكاح صحيح ـ شرط للرجم؛ لأن وجوب الرجم متوقف عليه، فالرجم حكم شرعي، شرطه الإحصان، فإن عُدم عُدل إلى الجلد، ومثله: الحول شرط في وجوب الزكاة، والقدرة على التسليم شرط في صحة البيع.
ب ـ ما يكون شرطاً للعلة أو السبب، فالزنا علة وسبب لوجوب الحد وهو الرجم، وشرط هذه العلة ـ وهي الزنا ـ: الإحصان. ومثله: القتل علة وسبب لوجوب القصاص، وشرطه: العمد العدوان.
قوله: (فيفارق العلة) أي: إن الفرق بين الشرط والعلة: أن العلة إن كانت واحدة يلزم من وجودها وجود الحكم، فإذا وجد الإسكار وجد التحريم، وأمَّا الشرط فلا يلزم من وجوده وجود الحكم، فتوجد الطهارة ولا يلزم وجود الصلاة، كما تقدم.
وهو عقلي، كالحياة للعلم، ولغوي، كالمقترن بحروفه، وشرعي، كالطهارة للصلاة، والمانع عكسه، وهو ما يتوقف السبب أو الحكم على عدمه، فمانع السبب كالدَّين مع ملك النصاب، ومانع الحكم، وهو الوصف المناسب لنقيض الحكم، كالمعصية بالسفر المنافي للترخيص، ثم قيل: هما من جملة السبب؛ لتوقفه على وجود الشرط وعدم المانع، وليس بشيء. الثاني: الصحيح، [وهو] لغةً المستقيم، واصطلاحاً في العبادات: ما أجزأ وأسقط القضاء، وعند المتكلمين: ما وافق الأمر، وفي العقود: ما أفاد حُكْمُهُ المقصودَ منه.
قوله: (وهو عقلي كالحياة للعلم ولغوي...) أي: إن الشرط ثلاثة أنواع:(1/46)
1 ـ شرط عقلي: وهو ما لا يوجد المشروط ولا يمكن عقلاً بدونه؛ كالحياة في العلم، والفهم في التكليف، فإن العقل يحكم بأن العلم لا يوجد بدون حياة، ولا التكليف بدون فهم.
2 ـ شرط شرعي: وهو المراد هنا، وتقدم تعريفه؛ كالطهارة للصلاة ـ مثلاً ـ فإن الشارع هو الذي حكم بأن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة، فتتوقف صحة الصلاة على وجود الطهارة شرعاً، وكذلك الحول في الزكاة، والإحصان في الرجم، وغيرها مما دلّ عليه الشرع.
3 ـ شرط لغوي: وهو المقترن بأداة شرط، وهو تعليق شيء بشيء بإنْ الشرطية أو إحدى أخواتها، نحو: إن زرتني أكرمتك. قال تعالى: {{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}} [النساء: 12] ، وهذا يذكر في أصول الفقه من المخصصات للعموم، وبعض الأصوليين يعتبر الشروط اللغوية من قبيل الأسباب لا من قبيل الشروط؛ لأنه يتحقق فيها تعريف السبب حيث يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم[(128)].
قوله: (والمانع عكسه) هذا النوع الثاني من توابع السبب والعلة، وهو المانع. وهو لغةً: الحائل بين الشيئين. واصطلاحاً: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود، ولا عدم لذاته. كالحيض يلزم من وجوده عدم الصلاة، ولا يلزم من عدمه وجود الصلاة، كما لا يلزم من عدمه عدمها، فقد تعدم الصلاة لوقت نهي ـ مثلاً ـ.
وقوله: (عكسه) أي: عكس الشرط؛ لأن الشرط ينتفي الحكم لانتفائه، والمانع ينتفي الحكم لوجوده.
قوله: (فمانع السبب كالدين مع ملك النصاب) أي: إن المانع باعتبار ما يمنعه من حكم أو سبب نوعان:(1/47)
الأول: مانع السبب، وهو الوصف الظاهر المنضبط الذي يلزم من وجوده عدم تحقق السبب، كالدين في باب الزكاة عند من يقول: إنه مانع من وجوب الزكاة؛ لأنه مانع من تحقق السبب، وهو ملك النصاب؛ لأن ملك النصاب دليل الغنى، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تؤخذ من أغنيائهم»[(129)] ومع وجود الدين لا يتحقق غنى؛ لأن ما يقابل الدين ليس مملوكاً للمدين فلا زكاة فيه؛ لأن تخليص ذمة المدين مما عليه من الدين أولى من مواساة الفقراء والمساكين بالزكاة.
قوله: (ومانع الحكم) هذا النوع الثاني: وهو مانع الحكم، والمراد به: الوصف الظاهر المنضبط الذي يلزم من وجوده عدم الحكم، وهو معنى قول المصنف: (الوصف المناسب لنقيض الحكم) فإنه إذا لم يوجد الحكم بسبب المانع وجد نقيضه، كالمعصية مانع من الأخذ برخص السفر. فالسفر سبب، وحكمه: الترخص برخصة السفر، كالقصر ـ مثلاً ـ والمعصية ترتب على وجودها عدم الترخص. فقوله: (الوصف) هو المعصية (المناسب لنقيض الحكم) نقيضه عدم الترخص، والمعصية تناسب ذلك، وهذا على أحد القولين في مسألة المعصية.
ومنه أيضاً: اختلاف الدِّين في باب الإرث، فإنه مانع من الإرث وإن تحققت أركان الإرث وشرائطه ووجد سبب من أسبابه كالقرابة ـ مثلاً ـ.
ومثاله أيضاً: الحيض فهو مانع من الصلاة مع وجود السبب، وهو الوقت.
قوله: (ثم قيل: هما من جملة السبب؛ لتوقفه على وجود الشرط وعدم المانع) أي: قيل: إن الشرط والمانع من جملة السبب؛ لأنه إذا اختل شرط أو وجد مانع لم يوجد السبب، فهما متلازمان.
قوله: (وليس بشيء) أي: هذا القيل لا ينظر إليه، لأن الشرط والمانع من توابع السبب، لا من جملة السبب؛ لأن السبب قد يوجد ولو لم يوجد الشرط أو وجد المانع؛ كالنصاب مع عدم الحول، أو وجود الدَّين؛ ولأنه يجوز فعل الواجب إذا انعقد سبب الوجوب قبل وجود شرطه؛ كإخراج الزكاة قبل الحول ـ مثلاً ـ. قوله: (الثاني: الصحيح) أي: الثاني من الأحكام الوضعية، هو: الصحيح.(1/48)
قوله: (وهو لغةً المستقيم) المشهور في كتب اللغة أن الصحيح لغةً: السليم من المرض. قال الشاعر:
وليلٍ يقولُ المرءُ من ظلماتِه
سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها
قوله: (واصطلاحاً في العبادات: ما أجزأ وأسقط القضاء) هذا في اصطلاح الفقهاء، وهو أن العبادة الصحيحة ما أجزأت وبرئت بها ذمة المكلف، وسقط عنه الطلب، كأن يأتي بالصلاة في وقتها تامة بشروطها وأركانها وواجباتها مع انتفاء موانعها .
قوله: (وعند المتكلمين[(130)] ما وافق الأمر) أي: إن الصحيح عند المتكلمين: ما وافق الأمر الشرعي في ظن المكلف لا في الواقع، فإذا صلّى يظن أنه طاهر صحت صلاته عند المتكلمين، لأن المعتبر في الموافقة للأمر شرعاً هو حصول الظن فقط؛ لأنه هو الذي في وسع المكلف، وفسدت عند الفقهاء؛ لأنها لم تقع كافية في سقوط القضاء، مع اتفاق الجميع على أنه أتى بما أمر به، وأنه مثاب لقصده الطاعة، وأنه لا يجب عليه القضاء إذا لم يطلع على الحدث، ويجب إذا اطلع على الحدث، فالخلاف لفظي، لاتفاقهم على وجوب إعادتها فيمن صلّى ظاناً أنه متطهر فبان خلافه، ولكنهم يختلفون في وصف هذه الصلاة قبل إعادتها، فالمتكلمون يقولون صحيحة، والفقهاء يقولون غير صحيحة؛ لأنه لا يزال مطالباً بفعلها.
قال القرافي: (ومذهب الفقهاء أنسب من جهة اللغة؛ فإن الآنية إذا كانت صحيحة من جميع الجهات إلا من جهة واحدة فإن العرب لا تسميها صحيحة، وإنَّما تُسمِّي صحيحاً ما لا كسر فيه البتة بطريق من الطرق، وهذه الصلاة هي مختلَّة على تقدير الذكر، فهي كالآنية المكسورة من وجه؛ لأنها على تقدير الذكر يتبين فسادها ويجب قضاؤها اتفاقاً)[(131)].(1/49)
قوله: (وفي العقود: ما أفاد حكمُهُ المقصودَ منه) أي: إن الصحيح في العقود ـ كالبيع والإجارة والنكاح ـ ما أفاد حكمُهُ المقصودَ منه، وهو الثمرة المقصودة من العقد، وذلك لأن العقد لم يوضع إلا لإفادة الثمرة المقصودة، مثل البيع المقصود منه نقل الملكية، والإجارة استيفاء المنفعة لأحد المتعاقدين واستحقاق الأجر للآخر، والنكاح مقصوده ملك البضع والاستمتاع، فكل عقد له ثمرة، فإن صح العقد ترتبت ثمرته عليه وإلا فلا.
والفاسد لغةً: المختل، واصطلاحاً: ما ليس بصحيح، ومثله: الباطل، وخص أبو حنيفة باسم الفاسد ما شُرِعَ بأصله ومنع بوصفه، والباطل ما منع بهما، وهو اصطلاح. والنفوذ لغةً: المجاوزة، واصطلاحاً: التصرف الذي لا يقدر متعاطيه على رفعه، وقيل: كالصحيح، والأداء: فعل الشيء في وقته، و(الإعادة) فعله ثانياً لخلل أو غيره. و(القضاء) فعله بعد خروج وقته، وقيل: إلا صوم الحائض بعد رمضان، وليس بشيء.
قوله: (والفاسد لغةً: المختل) أي: إن الفاسد في اللغة عبارة عن تغير الشيء عن الحالة السليمة وخروجه عن الاعتدال الطبيعي، وهذا هو الاختلال.
قوله: (واصطلاحاً: ما ليس بصحيح) أي: إن الفاسد في الاصطلاح نقيض الصحيح، فمن قال: الصحة: ما أجزأ، قال: الفاسد: ما لم يجزئ ويسقط القضاء، وعلى القول الثاني يكون الفاسد: ما خالف الأمر، وأمَّا في العقود فالفاسد ما لا تترتب آثاره عليه، كبيع المجهول، أو بيع ما لا يملك.
ولو قيل: إن الصحيح ما ترتبت آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً، والفاسد: ما لم تترتب آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً[(132)]، لكان أوضح. ثم يُفَسَّرُ الصحيح من العبادات بما أسقط القضاء، ومن العقود ما ترتبت آثاره عليه، والفاسد بضد ذلك.(1/50)
قوله: (ومثله: الباطل) أي: إن الفاسد والباطل بمعنى واحد؛ لأنهما مترادفان، فكل فاسد باطل وبالعكس، فهما عبارتان عن معنى واحد في الشرع، وهو ما يقابل الصحيح، لوجود خلل في ركنه أو شرطه عبادة كان أم عقداً. كما لو صلّى بغير طهارة أو بغير قراءة، وكبيع المعدوم أو الميتة، أو بيع المجنون، ونحو ذلك[(133)].
قوله: (وخص أبو حنيفة باسم الفاسد ما شرع بأصله، ومنع بوصفه...) أي: إن أبا حنيفة رحمه الله له اصطلاح خاص في التفرقة بين الفاسد والباطل، وذلك في أبواب المعاملات، أمَّا العبادات فهو موافق للجمهور[(134)]، فالفاسد عنده ما كان مشروعاً بأصله، ولكن جاء الخلل من أحد أوصافه، كأن يبيع بثمن مجهول، أو شيئاً ربوياً، كبيع صاعي برٍّ بصاع منه، فإن بيع البرِّ مشروع بأصله من حيث إنه بيع، ولكنه غير مشروع بوصفه وهو الفضل، لأنه زيادة في غير مقابل، فلو حذفت الزيادة صح البيع.
والباطل يكون الخلل في أصل العقد، كصدور البيع من مجنون، أو صبي لا يعقل، وكبيع الملاقيح ـ وهو ما في بطون الأمهات من الأجنة ـ فالفاسد ما كان مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه، والباطل: ما لم يكن مشروعاً بأصله ولا بوصفه، فالأول فاسد يترتب عليه بعض الآثار، فإذا باعه بثمن مجهول ـ مثلاً ـ ثبت الملك إذا قبضه المشتري، وإذا طرح الزيادة في البيع الربوي صح البيع ولم يحتج إلى عقد جديد، والثاني لا يترتب عليه أثر؛ لبطلانه وكونه غير مشروع أصلاً[(135)].
قوله: (وهو اصطلاح) أي: تفريق الحنفية بين الفاسد والباطل بالاعتبار المذكور مجرد اصطلاح لهم، رتّبوا عليه مسائل فقهية، وقد ورد عند الجمهور مسائل فرّقوا فيها بين الفاسد والباطل ـ كما في الحج ـ ويرى كثيرون أن الخلاف لفظي؛ لما ذُكر، وأن النزاع إنما هو في العبارة فحسب[(136)].
قوله: (والنفوذ لغة: المجاوزة) وأصله: من نفوذ السهم، وهو بلوغ المقصود من الرمي.(1/51)
قوله: (واصطلاحاً: التصرف الذي لا يقدر متعاطيه على رفعه) وهذا مأخوذ من المعنى اللغوي، وعلى هذا التعريف فالنفوذ يختص بالعقود، والإجزاء يختص بالعبادة.
وذلك مثل عقد البيع إذا وقع بشروطه وانتفت موانعه ترتبت آثاره عليه من تملك العين والثمن، فهو عقد صحيح ويعتد به، فالاعتداد بالعقد هو المراد بوصفه بكونه نافذاً. ومثله: الإجارة والنكاح والعتق والطلاق، فالبائع أو المشتري لا يقدر على رفع التصرف، فلا يَمنعُ من وقوعه ولا حصول آثاره.
قوله: (وقيل: كالصحيح) أي: إن النفوذ بمعنى الصحة، فهما مترادفان، وعليه فيصح وصف العبادة بالنفوذ، والأول أصح، وهو أن الإجزاء يختص بالعبادة، والنفوذ يختص بالعقود على قول الأكثرين، وأمَّا وصف العبادة بالنفوذ فضعيف؛ لأن المعنى اللغوي لا يساعد عليه[(137)].
قوله: (والأداء) شرع في بيان أحوال الواجب المقيَّد بوقت، كالصلاة، فيوصف بالأداء، والقضاء، والإعادة، وهذا من لواحق خطاب الوضع؛ لأن الوقت سبب للأداء، وخروجه سبب للقضاء، والسبب حكم وضعي.
قوله: (فعل الشي في وقته) أي: إن الأداء فعل الشيء أولاً في وقته المقدر له شرعاً، والتقييد بقولنا: (أولاً) للتفريق بين الأداء والإعادة، ومثاله: أن يصلي المغرب بين غروب الشمس وغروب الشفق، والفجر بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
وقولنا: (في وقته المقدر له) احتراز مما رُبِطَ الأمرُ بفعله عند وجود سبببه، كتحية المسجد إذا دخل المسجد في أي وقت ـ على الراجح ـ، وسجود التلاوة إذا قرأ آية فيها سجدة، وإنكاره المنكر إذا ظهر، وإنقاذ غريق إذا وجد، وكالجهاد إذا تحرك العدو أو حُصر البلد، فإن هذا كله فِعْلُ مأمورٍ به. ولا يوصف بالأداء في الاصطلاح؛ لعدم تقدير وقته، وإن كان قد يقال في فاعله: إنه امتثل ما أمر الله به، كما أن هذا القيد يخرج القضاء فإنه يُفْعَلُ بعد الوقت.(1/52)
ولا يشترط في كون فعل الواجب أداءً أن يقع جميعه في الوقت بل يكفي إيقاع بعضه، فإذا أدرك ركعة من العصر ـ مثلاً ـ قبل غروب الشمس صارت أداءً؛ لقول النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»[(138)].
قوله: (والإعادة: فعله ثانياً لخلل أو غيره) أي: فعل المأمور به في وقته المقدر له شرعاً لخلل في الفعل الأول، كمن صلّى بدون طهارة، فإنه يعيد، أو لغير خلل كمن صلّى منفرداً ثم جاء الجماعة فإنه يصلي معهم لتحصيل فضيلة الجماعة، أو صلّى في جماعة ثم دخل مسجداً آخر فإنه يصلي معهم ـ أيضاً ـ لما ثبت في السنّة[(139)].
قوله: (والقضاء: فعله بعد خروج وقته) أي: مطلقاً لعذر، كالحائض يفوتها الصوم في رمضان، فتصوم بعده فيكون قضاءً، أو لغير عذر كما لو أخّر صلاة عن وقتها عمداً حتى خرج وقتها ثم صلاها، فيسمى ذلك قضاء على القول بقضائها[(140)].
قوله: (وقيل: إلا صوم الحائض بعد رمضان) هذا إشارة إلى قول آخر في تعريف القضاء، وهو أنه إن كان فوات المأمور به لعذر لم يكن قضاء، كصوم الحائض، بل هو فرض مبتدأ؛ لأن القضاء الحقيقي مبني على وجوب الأداء، وهو ساقط مع وجود المانع بالاتفاق.
قوله: (وليس بشيء) أي: هذا القول ضعيف، والصواب أنه قضاء، وهو قول جمهور العلماء؛ لوجوب نية القضاء عليها إجماعاً، ولحديث عائشة: (كنا نحيض فنؤمر بقضاء الصوم)[(141)]؛ ولأن ثبوت العبادة في الذمة غير ممتنع، كدين الآدمي، فكلاهما يُقضى، فالمعتبر في القضاء هو سَبْقُ الوجوب في الجملة، لا سَبْقُ وجوب الأداء على ذلك الشخص نفسه.(1/53)
الثالث: المنعقد، وأصله: الالتفاف، واصطلاحاً: إما ارتباط بين قولين مخصوصين، كالإيجاب والقبول، أو اللزوم، كانعقاد الصلاة والنذر بالدخول. وأصل اللزوم: الثبوت، واللازم: ما يمتنع على أحد المتعاقدين فسخه بمفرده، والجائز: ما لا يمتنع. والحسن: ما لفاعله أن يفعله، والقبيح: ما ليس له.
قوله: (الثالث: المنعقد) هذا القسم الثالث من أقسام الحكم الوضعي، وهو منظور فيه إلى اعتبار لزوم الحكم وعدم لزومه، ولهذا يكثر لفظ (ينعقد) عند الفقهاء، ولا سيّما في المعاملات والعقود، كقولهم: وينعقد البيع بإيجاب [وهو: جعل الشيء واجباً أي: واقعاً]، وقبول [بالفتح على الأشهر أي: التزامه والرضا به][(142)]. وتنعقد الهبة بالإيجاب والقبول، وهكذا..
قوله: (وأصله الالتفاف) يقول ابن فارس: (العين والقاف والدال أصل واحد يدل على شدٍّ، وشدة وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها...)[(143)].
قوله: (واصطلاحاً إمَّا ارتباط بين قولين مخصوصين...) إلخ، أي: إن المنعقد في الاصطلاح له معنيان:
الأول: الارتباط بين قولين مخصوصين؛ كالإيجاب والقبول. فإذا قال: بعت عليك الكتاب؛ فهذا إيجاب، وإذا قال: اشتريت؛ فهذا قبول، فينعقد البيع، ويحصل الارتباط، ومثل هذا لا يكون إلا بين طرفين.
الثاني: اللزوم؛ كانعقاد الصلاة بتكبيرة الإحرام، والصيام بالإمساك مع النية، والنذر ينعقد بالتلفظ به، فإذا قال: إن شفى الله مريضي فللّه عليَّ صيام ثلاثة أيام؛ انعقد النذر.
قوله: (وأصل اللزوم: الثبوت، واللازم: ما يمتنع على أحد المتعاقدين فسخه بمفرده) كالإجارة عقد لازم، فليس لأحدهما الفسخ بعد انقضاء خيار المجلس أو الشرط في صلب العقد، إلا لعيب ونحوه.
قوله: (والجائز: ما لا يمتنع) أي: ما لا يمتنع فسخه، بل لكل واحد من المتعاقدين فسخه، ولو لم يرض الآخر، وذلك كالوكالة فهي عقد جائز لا لازم؛ لأنها من جهة الموكِّل إذن، ومن جهة الوكيل بذل نفع، وكلاهما غير لازم.(1/54)
قوله: (والحسن ما لفاعله أن يفعله، والقبيح ما ليس له) هذا فيه بيان صفة فعل المكلف الذي هو متعلق الحكم الشرعي، فهو قسمان: حسن وقبيح، فالحسن في عرف الشرع: ما لفاعله أن يفعله، والقبيح ما ليس لفاعله أن يفعله، وكل ما أمر به الشرع فهو حسن، وكل ما نهى عنه فهو قبيح، سواء علمنا حكمته أم لم نعلمها، وهو الذي يترتب عليه المدح والذم، والثواب والعقاب.
وقد يكون الحُسْنُ والقبح بطريق العقل أو الفطرة، لكن لا يترتب عليه شيء من ذلك ما لم يأت به الشرع[(144)].
الرابع: (العزيمة والرخصة)، وأصل العزيمة: القصد المؤكد، والرخصة: السهولة. واصطلاحاً: العزيمة: الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي، والرخصة: إباحة المحظور مع قيام سبب الحظر، وقيل: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح كَتَيمُّمِ المريض لمرضه، وأكل الميتة للمضطر؛ لقيام سبب الحظر؛ لوجود الماء، وخبث المحل، والعرايا من صور المزابنة.
قوله: (الرابع: العزيمة والرخصة) هذا القسم الرابع للحكم الوضعي، وهو باعتبار كونه على وفق الدليل كالعزيمة، أو على خلافه كالرخصة.
والرخصة والعزيمة من الأحكام الوضعية؛ لأن العزيمة ترجع إلى جعل الشارع الأحوال العادية للمكلفين سبباً لبقاء الأحكام الأصلية واستمرارها في حقهم، والرخصة ترجع إلى جعل الأحوال الطارئة سبباً للتخفيف.
قوله: (وأصل العزيمة: القصد المؤكد) أي: إن العزيمة في اللغة: مشتقة من العزم، وهو القصد المؤكد. يقال: عزم على الشيء عزماً وعزيمة: إذا عقد ضميره على فعله وقطع عليه، ومنه قوله تعالى عن آدم عليه السلام لما اقترف الخطيئة: {{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}} [طه: 115] أي: قصداً مؤكداً على المعصية، وسمي بعض الرسل أولي العزم؛ لتأكيد قصدهم في طلب الحق[(145)].(1/55)
قوله: (والرخصة: السهولة) أي: إن الرخصة في اللغة: السهولة، جاء في «المصباح المنير»: (رَخَّصَ لنا الشارع في كذا ترخيصاً، وأرخص إرخاصاً: إذا يسّره وسهّله..)[(146)]. ورَخُصَ السعر: إذا تراجع وسَهُل الشراء، فالرخصة تعني اليسر والسهولة.
قوله: (واصطلاحاً: العزيمة: الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي) فقوله: (الحكم) هذا جنس يشمل الرخصة والعزيمة.
وقوله: (الثابت) إشارة إلى أن العزيمة لا بدّ لها من دليل، وهذا يتناول الواجب والمندوب، وتحريم الحرام وكراهة المكروه، فالعزيمة واقعة في جميع هذه الأحكام، ولهذا وقع الخلاف عند الحنابلة هل سجدة (ص) من عزائم السجود أو لا؟ مع أن سجدات القرآن كلها ندب عندهم وعند الجمهور، ما عدا الحنفية، فإنهم يقولون بالوجوب[(147)].
قوله: (من غير مخالفة دليل شرعي) هذا يخرج الرخصة؛ لأنها حكم ثابت على خلاف الدليل، كما سيأتي، فتحريم الميتة عند عدم المخمصة عزيمة؛ لأنه حكم ثابت بدليل من غير مخالفة دليل شرعي.
قوله: (والرخصة: إباحة المحظور مع قيام سبب الحظر) هذا التعريف الأول للرخصة في الاصطلاح، لكن لو قال: إباحة المحظور شرعاً مع قيام سبب الحظر، لكان أولى؛ لأن شرط الإباحة أن يكون مستندها الشرع، فإن كانت غير مستندة إلى الشرع فهي معصية محضة لا رخصة.
فأكل الميتة في المخمصة استباحة للميتة المحرمة شرعاً مع قيام السبب المحرم، وهو قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}} [المائدة: 3] ، وإنَّما استباحه لدليل شرعي راجح على هذا السبب، وهو قوله تعالى: {{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [المائدة: 3] .(1/56)
قوله: (وقيل: ما ثبت على خلاف دليل شرعي...) ، هذا التعريف الثاني للرخصة، وقوله: (ما) أي: حكم (ثبت على خلاف) هذا إشارة إلى أن الرخصة لا بدّ أن تكون ثابتة بدليل، فإن لم تثبت بدليل لم يجز الإقدام عليها؛ لئلا يلزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، وهذا لا يجوز.
وقوله: (على خلاف دليل شرعي) يخرج العزيمة؛ لأنها على وفق الدليل لا على خلافه، مثل الصوم في الحضر.
قوله: (لمعارض راجح) فيه بيان سبب الرخصة. والمراد بالمعارض: العذر الذي قام بالمكلف واقتضى التخفيف والتيسير.
والمراد بالعذر: المشقة الشاملة للضرورة والحاجة، فيشمل أحكام الاضطرار من أكل الميتة ونحوها، كما يشمل أحكام السفر والمرض المرخص بها وأمثالها من الأعذار، كما يدخل فيه ما رُخِّصَ فيه للحاجة، كبعض أنواع العقود[(148)].
وقوله: (راجح) احتراز مما كان المعارض غير راجح، بل إمَّا مساوٍ فيلزم الوقف على حصول المرجِّح، أو قاصر عن مساواة الدليل الشرعي فلا يؤثر، وتبقى العزيمة بحالها.
قوله: (كتيمم المريض لمرضه...) إلخ، فيه بيان أن الرخص ثلاثة أنواع:
الأول: إباحة ترك الواجب، مثل: التيمم للمرض مع وجود الماء، ومثل: الفطر في رمضان للمسافر والمريض دفعاً للمشقة، قال تعالى: {{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] ، وقد دلّ على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[(149)].(1/57)
قوله: (وأكل الميتة للمضطر) هذا النوع الثاني من أنواع الرخص، وهو إباحة المحرم لعذر الضرورة، مثل: أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر للمضطر. كما قال تعالى: {{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}} [البقرة: 173] ، وقال تعالى: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] . ومن هذه الآيات وغيرها استنبط العلماء قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
قوله: (لقيام سبب الحظر لوجود الماء وخبث المحل) أي: إن سبب المنع موجود، ففي التيمم سبب المنع: وجود الماء، وفي الميتة: كونها خبيثة، لكن رُخِّصَ في التيمم والأكل، للضرورة والحاجة.
قوله: (والعرايا من صور المزابنة) هذا معطوف على قوله: (تَيَمُّم) أي: وكالعرايا حالة كونها من صور المزابنة، وهذا النوع الثالث من أنواع الرخص، وهو تصحيح بعض العقود التي يحتاجها الناس مع اختلال ما تصح به؛ تخفيفاً وتيسيراً على المكلفين[(150)]. ومن ذلك: العرايا، فإنها من المزابنة المنهي عنها، وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بتمر، ووجه النهي: ما فيه من الجهل بتساوي النوعين الربويين، لكن أجاز الشرع ذلك في العرايا، ففي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها). ولمسلم: (بخرصها تمراً يأكلونها رطباً)[(151)].
واشترط الفقهاء لذلك شروطاً. ومنها: ألا يكون معه ما يشتري به الرطب. وإنما عنده تمر جاف؛ لأن العرية أُبيحت للحاجة، ولا حاجة مع وجود النقود.
ومثل ذلك: بيع السَّلم فقد أباحه الشرع مع أنه بيع معدوم، وبيع المعدوم باطل، لكن أجازه استثناءً من القواعد العامة في البيوع؛ لما تقدم، والله أعلم.
* * *
الباب الثاني في الأدلة(1/58)
أصل الدلالة: الإرشاد، واصطلاحاً قيل: ما يُتوصل به إلى معرفة ما لا يُعلم في مستقر العادة اضطراراً عِلماً أو ظناً. والدليل يراد به إما الدال؛ كدليل الطريق، أو ما يستدل به من نص أو غيره، ويرادفه ألفاظ منها: البرهان والحجة والسلطان والآية، وهذه تستعمل في القطعيات، وقد تستعمل في الظنيات، والأمارة والعلامة وتستعمل في الظنيات فقط.
........................................................
الباب الثاني في الأدلة
قوله: (في الأدلة) أي: الأدلة الشرعية التي تستنبط منها الأحكام الشرعية، وقد تقدم في أول الكتاب أن الأصول هي الأدلة، وأصول الفقه هي الأدلة التي يبنى عليها الفقه، فكان لا بدّ من معرفة الدليل، وانقسامه إلى ما يفيد العلم أو الظن.
قوله: (أصل الدلالة الإرشاد) الدلالة لغةً: من دَلَلْتُ على الشيء وإليه: أرشدت، من باب (قَتَل) والمصدر دُلُولة، والاسم: الدلالة، بكسر الدال وفتحها وضمها ـ والفتح أفضل[(152)] ـ، ومعناها: الإرشاد، وتطلق الدلالة على الدليل من باب المجاز؛ لأنهم يسمون الفاعل باسم المصدر، كرجل صائم وصَوْم، وعادل وعَدْل، قال تعالى: {{أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا}} [الملك: 30] أي: غائراً.
قوله: (واصطلاحاً قيل: ما يتوصل به إلى معرفة ما لا يعلم في مستقر العادة اضطراراً علماً أو ظناً) قوله: (ما) أي: لفظ، وهذا على أن الدلالة بمعنى الدليل، وقوله: (إلى معرفة) مفعوله قوله: (علماً أو ظناً) أي: إن الدليل ما يتوصل به إلى معرفة علم أو ظن لما لا يعلم ضرورة، فالعلم كقولنا: الإنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فالإنسان جسم، والظن كغالب مسائل الفقه، وعليه فما يعلم ضرورة كمعرفة أن النار حارة لا يتعلق به دلالة إنَّما الدلالة خاصة بالعلم النظري لا الضروري.(1/59)
قوله: (والدليل يراد به إمَّا الدال كدليل الطريق أو ما يستدل به من نصٍّ أو غيره) أي: إن الدليل يطلق في اللغة على الدال، وهو الناصب للدليل، أو الفاعل وهو دليل الطريق، ويطلق على ما يستدل به من كتاب أو سنّة وغيرهما، وهذا هو المسمى دليلاً في عرف الفقهاء.
قوله: (ويرادفه ألفاظ منها: البرهان والحجة والسلطان والآية) أي: يرادف الدليل في المعنى ألفاظ منها: (البرهان) بضم الباء بمعنى الحجة والدلالة. يقال: برهن عليه: أقام البرهان، (والحجة) بضم الحاء بمعنى الدليل، وتطلق على ما تثبت به الدعوى، سمّي حجة: للغلبة به على الخصم، ويسمى: بيّنة لإفادة البيان. (والسلطان) وقد كثر استعماله في القرآن بمعنى الحجة، قال تعالى: {{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ}} [يونس: 68] ، وقال تعالى: {{فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}} [إبراهيم: 10] . (والآية) بمعنى البرهان والدليل، كما في قوله تعالى: {{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}} [الروم: 22] .
قوله: (وهذه تستعمل في القطعيات وقد تستعمل في الظنيات) أي: إن هذه الألفاظ تستعمل فيما كان موصِّلاً إلى حكم شرعي على سبيل القطع، كالمتواتر والإجماع القطعي. وفيما كان موصِّلاً إلى حكم شرعي على سبيل الظن، كخبر الواحد والقياس والإجماع الظني.
قوله: (والأمارة والعلامة وتستعمل في الظنيات فقط) أي: إن (الأمارة) بفتح الهمزة و(العلامة) تستعمل فيما كان موصلاً إلى حكم شرعي على سبيل الظن فقط، ولا يسمى ذلك دليلاً، بل الدليل خاص بما كان قطعياً، وهذا قول أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء، وعليه فالأمارة أضعف من الدليل.
والقول الثاني: أن ما يوجب العلم وما يوجب الظن دليل وأمارة، فلا فرق بينهما، وهذا قول عامة الفقهاء. وهذا هو المختار لما يلي:
1 ـ أن العرب لا تفرق في التسمية بين ما يؤدي إلى العلم أو يؤدي إلى الظن، فالكل يطلق عليه اسم الدليل.(1/60)
2 ـ أن كلاً منهما مرشد إلى المطلوب.
3 ـ أن مُؤَدَّى كلِّ واحدٍ منهما هو العمل بما دلّ عليه الدليل.
4 ـ أن هذا الاصطلاح عند المتكلمين هو إلى الناحية النظرية أقرب منه إلى التطبيق العملي، فإن من تتبع أدلتهم وجدهم يطلقون الدليل على ما هو ظني بل على الشبهة[(153)].
وأصول الأدلة أربعة: (الكتاب والسنّة والإجماع) وهي سمعية، ويتفرع عنها: القياس، والاستدلال. والرابع: عقلي، وهو (استصحاب الحال) في النفي الأصلي الدال على براءة الذمة.
قوله: (وأصول الأدلة أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع، وهي سمعية، ويتفرع عنها القياس، والاستدلال) أي: إن أصول الأدلة نوعان:
1 ـ سمعية: وهي الأدلة الثابتة بطريق السمع، أي: النقل، وهي: الكتاب والسنّة والإجماع، ويتفرع عنها القياس؛ لأنه يحتاج في إثبات الحكم به إلى أصل، عليه دليل من الكتاب أو السنّة أو الإجماع، والاستدلال؛ لأنه داخل في حدّ الدليل، وقد انعقد الإجماع على مشروعية استعماله في استخراج الأحكام، وسيأتي الكلام عليها، إن شاء الله.
2 ـ عقلية: وهي التي ترجع إلى النظر والرأي، وهذا هو الاستصحاب.
قوله: (والرابع عقلي) لم يقصد المؤلف أن الأحكام الشرعية تدرك بالعقل وحده، وإنَّما المراد أن العقل دلّ على براءة الذمة عن الواجبات قبل مجيء الشرع، فالنظر في الأحكام إمَّا في إثباتها أو نفيها، أمَّا إثباتها فلا بدّ من شرع، وأمَّا النفي فيدل عليه العقل إلى أن يرد الدليل السمعي.
واعلم أن اعتبار الاستصحاب الدليل الرابع من الأدلة المتفق عليها مخالف ما عليه جمهور الأصوليين من اعتبارهم القياس، ولكن المؤلف تبع في ذلك ابن قدامة، الذي تبع الغزالي[(154)].(1/61)
قوله: (وهو استصحاب الحال في النفي الأصلي الدال على براءة الذمة) أي: إن المجتهد إذا بحث عن الدليل ولم يجد، استصحب (النفي الأصلي) أي؛ العدم الأصلي، وهو براءة الذمة من التكاليف الشرعية حتى يرد دليل شرعي، كنفي صلاة سادسة، وعدم وجوب صوم شعبان ـ مثلاً ـ وكذا الحكم بعدم الدَّين على من ادُّعِيَ عليه ذلك، حتى يثبت دليل على شغل الذمة به، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ الكلام على الاستصحاب.
فالكتاب: كلام الله عزّ وجل، وهو القرآن المتلوّ بالألسنة المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، وهو كغيره من الكلام في أقسامه، فمنه: (حقيقة) وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له، و(مجاز) وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له على وجه يصح، كـ {{جَنَاحَ الذُّلِّ}} و{{يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}}. ومنه: ما استعمل في لغة أخرى، وهو المُعَرَّب، كـ {{نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}} وهي حبشية. و(المِشْكَاة) هندية، والـ (إستبرق) فارسية، وقال القاضي: الكل عربي.
..........................................................
الأصل الأول: الكتاب
قوله: (فالكتاب) شرع المصنف رحمه الله في الكلام على الأدلة بالتفصيل على الترتيب المذكور، والكتاب لغةً: يطلق على كل كتابة ومكتوب، ثم غلب في عرف أهل الشرع على كتاب الله تعالى المكتوب في المصاحف، وهو القرآن.
قوله: (كلام الله عزّ وجل) أي: بدليل إعجازه، والإعجاز هو ارتقاؤه في البلاغة إلى حد خارج عن طوق البشر، ولهذا عجز العرب عن معارضته عند تحديهم به، وإذا كان القرآن هو كلام الله تعالى فهو حجة ملزمة بما دلّ عليه من الأحكام الصالحة لكل زمان ومكان؛ لأنه كلام من تجب طاعته وعبادته سبحانه وتعالى.
قوله: (وهو القرآن المتلوّ بالألسنة) المراد بالمتلو: ما تتعلق الأحكام الشرعية بتلاوته، كوجوبها في الصلاة وحرمتها على الجنب ونحو ذلك، وفسّر المؤلف الكتاب بالقرآن؛ لأنه أشهر من لفظ الكتاب.(1/62)
قوله: (المكتوب في المصاحف) هذه من صفات القرآن، وهي أن الله تعالى شاء كتابته في المصاحف، وذلك من أسباب حفظه، وكان آخر ذلك في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث جمع القرآن كله في مصحف واحد، لحمل الناس على الاجتماع عليه، وذلك عندما كثر الاختلاف في القراءات، وصار بعضهم يخطّئ بعضاً، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فجمع القرآن في مصحف واحد، مرتِّباً سوره الترتيب النهائي المعروف الآن.
قوله: (المحفوظ في الصدور) هذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة، وهي حفظ القرآن في صدورهم، ولذا كان الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، وفي «صحيح مسلم»: «وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء...» الحديث[(155)]، فأخبر تعالى أن القرآن محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على ممر الأزمان، وأنه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأ في كل حال، بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظراً..
قوله: (وهو كغيره من الكلام في أقسامه فمنه: حقيقة وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له) أي: إن القرآن كغيره من الكلام العربي ينقسم باعتبار استعماله في المعنى إلى: حقيقة ومجاز، فالحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له، سواء في اللغة مثل: الأسد. في الحيوان المفترس، أو في الشرع مثل: الصلاة في العبادة المخصوصة، أو في العرف، كلفظ (الدابة) لذوات الأربع.
قوله: (ومجاز: وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له على وجه يصح) هذا القسم الثاني من أقسام الكلام باعتبار استعماله في المعنى، وهو المجاز، ويراد به اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، كقولك: رأيت أسداً على فرس، تريد: رجلاً شجاعاً.
وقوله: (على وجه يصح) إشارة إلى أن استعمال اللفظ في غير ما وضع له لا بدّ فيه من شرطين:(1/63)
الأول: وجود عَلاقَة بين المعنى الأصلي الذي وضعت له الكلمة والمعنى الآخر الذي استعملت فيه الكلمة، ويسمى المجاز الذي علاقته المشابهة: استعارة، كالمثال السابق، والذي علاقته غير المشابهة: مجازاً مرسلاً، نحو: سال الوادي.
الثاني: وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ زيادة بيان في «المباحث اللفظية».
قوله: (كـ {{جَنَاحَ الذُّلِّ}} و {{يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} }) هذان مثالان للمجاز بناء على وقوعه في القرآن، فالجناح حقيقة للطائر من الأجسام، والذل معنى، فلا يوصف به فهو مجاز، والجدار لا إرادة له بل هي للإنسان والحيوان، ومن لا يقول بوقوع المجاز في القرآن؛ يقول: إن لفظ (الجناح) مستعمل في حقيقته، وهو يد الإنسان وعضده، قال تعالى: {{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ}} [القصص: 32] والخفض حقيقة، وهو ضد الرفع، فالأمر بخفض الجناح كناية عن لين الجانب، وأمَّا الإضافة فلا تستلزم المجاز؛ لأن المراد جناحك الذليل، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كحاتم الجواد، وعذاب الهون، وأمَّا {{يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}} [الكهف: 77] فلا مانع من حمله على الحقيقة للأدلة، كقوله تعالى: {{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ...} [الإسراء: 44] وما ثبت من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم[(156)]، وسلام الحجر عليه[(157)]، ونحو ذلك، أو يراد به قرب الوقوع.
وقد اختلف أهل العلم في وقوع المجاز في القرآن:(1/64)
فمنهم من ذهب إلى أنه لا مجاز في القرآن، وهو قول داود الظاهري وابنه أبي بكر، ونُسب إلى ابن خويز منداد من المالكية، وابن القاص من الشافعية[(158)]، ونصره ابن تيمية[(159)]، ومن بعده ابن القيم[(160)] وكأن مستندهم في ذلك ما وقع في كلام أهل البدع من التذرع به إلى نفي صفات الله تعالى، وتأويل الأمور الغيبية؛ ولهذا عدَّه ابن القيم طاغوتاً فقال: (فصل: في كسر الطاغوت الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات، وهو طاغوت المجاز) والحَقُّ أن تذرع أهل البدع بالمجاز لنفي الصفات يفسده عليهم وجوه أخرى من الاستدلال ليست هي إبطال القول بالمجاز[(161)]، وذهب الجمهور من أهل العلم إلى وقوع المجاز في القرآن كوقوعه في اللغة، ونصره ابن حزم، والآمدي والشوكاني[(162)]، واستدلوا بوقوعه في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ}} [المائدة: 6] فإن المعنى الحقيقي للفظ {{الْغَائِطِ}}: المكان المنخفض من الأرض الذي يُقْصَدُ لقضاء الحاجة، رغبة في التستر، وهذا غير مراد قطعاً؛ لأن مجرد المجيء من ذلك الموضع ليس بحدث يوجب الطهارة، فتعين حمله على المعنى المجازي، وهو الخارج من الإنسان.(1/65)
والأظهر في هذه المسألة هو التفصيل. وهو أن المجاز واقع في القرآن ما عدا آيات الصفات، وهو قول الشافعي وإن لم يسمه مجازاً[(163)]، وقول الخطيب البغدادي[(164)]، ولعل ذلك هو مراد من قال من أهل السنّة بوقوع المجاز في القرآن، ذلك أنه لا يلزم من إثبات المجاز في القرآن دخوله في آيات الصفات، إذ يمكن إثبات صفات الله تعالى على حقيقتها ووجهها اللائق بالله تعالى، ونفي المجاز عنها، وإثبات المجاز فيما عداها[(165)]. كقوله تعالى: {{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}} [يوسف: 82] وقوله تعالى: {{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}} [الكهف: 77] وقوله تعالى: {{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}} [الإسراء: 24] وغير ذلك؛ لأن إثبات المجاز لا بدَّ له من قرينة تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، وهذه القرينة عند أهل السنّة منتفية عن آيات الصفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قال أبو عمر ـ ابن عبد البر ـ: أهل السنّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنّة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكَيِّفون شيئاً، ولا يجدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع: الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها؛ ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة...)[(166)].
والذي يظهر أن منكري المجاز طائفتان: فطائفة ترى أنه أسلوب من أساليب العرب، ففي قوله تعالى: {{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}} بعضهم يقول: مجاز. فأطلق المحل وأريد الحالّ، وبعضهم يقول: إنه حذف المضاف (أهل) وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا أسلوب من أساليب اللغة معروف[(167)]، والخلاف مع هؤلاء لفظي. والطائفة الثانية: تنكر حقيقة المجاز، وترى أنه لم يرد في القرآن لفظ مستعمل في غير موضوعه الأصلي، والخلاف مع هؤلاء حقيقي[(168)]، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، كما تقدم.(1/66)
قال ابن رجب: (من أنكر المجاز من العلماء فقد ينكر إطلاق اسم المجاز، لئلا يوهم هذا المعنى الفاسد، ويصير ذريعة لمن يريد جحد حقائق الكتاب والسنّة ومدلولاتها.
ويقول: غالب من تكلم بالحقيقة والمجاز هم المعتزلة ونحوهم من أهل البدع، وتطرقوا بذلك إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فيمتنع من التسمية بالمجاز، ويجعل جميع الألفاظ حقائق.
ويقول ـ أيضاً ـ: اللفظ إن دلَّ بنفسه فهو حقيقة لذلك المعنى، أو دلّ بقرينة فدلالته بالقرينة حقيقة للمعنى الآخر، فهو حقيقي في الحالين)[(169)].
قوله: (ومنه: ما استعمل في لغة أخرى، وهو المعرَّب) أي: ومن القرآن ما هو معرَّب، وهو ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعان في غير لغتها.
قال الجوهري: (تعريب الاسم الأعجمي: أن تتفوَّه به العرب على منهاجها، تقول: عَرَّبَتْه العرب، وأعربته أيضاً)[(170)].
وهذا هو القول الأول في وقوع المعرّب في القرآن، وهو قول جمع من أهل العلم، ودليلهم: وقوعه، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد رحمه الله وغيرهما.
قوله: (كـ {{نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}} وهي حبشية) وقد وردت هذه الكلمة مرة واحدة في سورة المزمل، وعن ابن عباس: {{نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}} قيام الليل، بالحبشية[(171)].
قوله: (والمشكاة هندية) المشكاة هي: الكوة بلسان الحبشة، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد. وقد وردت هذه الكلمة في موضع واحد في سورة النور.
أمَّا ما ذكره المصنف من أن (المشكاة هندية) فقد رده صاحب شرح «مسلّم الثبوت» ـ وهو هندي ـ فقال: (ثم كون المشكاة هندية غير ظاهر؛ فإن البراهمة العارفين بأنحاء الهند لا يعرفونه...)[(172)].
قوله: (والإستبرق فارسية) الإستبرق: غليظ الديباج، وأصلها: استبره، فأبدلت العرب الهاء قافاً، كما قال ابن قتيبة وغيره[(173)]. و (إستبرق) وردت أربع مرات في القرآن الكريم.(1/67)
قوله: (وقال القاضي: الكل عربي) هذا القول الثاني، وهو أن القرآن ليس فيه شيء من غير العربية، وهو قول القاضي من الحنابلة، وقول الشافعي، وقد شدد النكير في كتابه «الرسالة» على من يدّعي أن في القرآن غير لسان العرب[(174)]، وعمدة الشافعي: الآيات الكثيرة التي وصفت القرآن بأنه عربي، كقوله تعالى: {{قُرْآناً عَرَبِيًّا}} [يوسف: 2] .
وجمع بعض العلماء بين القولين بأن مثل هذه الكلمات كانت أعجمية، فعربتها العرب وغيّرت فيها وحوّلتها إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت بكلام العرب، فمن قال: عربية فهو مصيب، ومن قال: أعجمية فهو مصيب.
وقال آخرون: إن هذه عربية صِرْفَةٌ، ولكن لغة العرب متسعة، ولا يبعد أن يخفى على الأكابر ألفاظ منها[(175)]، وهذه من المسائل التي لا ينبغي الإطالة فيها.
وفيه: محكم، ومتشابه.
قال القاضي: المحكم: المُفَسَّر، والمتشابه: المجمل.
وقال ابن عقيل: المتشابه: ما يَغْمُضُ علمه على غير العلماء المحققين؛ كالآيات المتعارضة. وقيل: الحروف المقطعة، وقيل: المحكم: الوعد والوعيد والحرام والحلال. والمتشابه: القصص والأمثال.
قوله: (وفيه محكم ومتشابه) اعلم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه محكم كله، وبأنه متشابه كله، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه.
فالأول: كقوله تعالى: {{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ *}} [هود: 1] ، وقوله تعالى: {{يس *وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ *}} [يس: 1 ـ 2] .
والثاني: كقوله تعالى: {{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} ...} [الزمر: 23] .
والثالث: كقوله: {{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ...} [آل عمران: 7] .(1/68)
فالأول هو الإحكام العام، ومعناه: الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فألفاظه في غاية البيان والفصاحة، ومعانيه أكمل المعاني وأجودها وأنفعها، وأخباره في كمال الصدق، وأحكامه في كمال الرشد والعدل.
وأمَّا التشابه العام فهو أن القرآن يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة والإتقان والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار، كما قال سبحانه: {{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *}} [النساء: 82] .
وأمَّا الإحكام الخاص والتشابه الخاص ففيهما خلاف، سيذكره المصنف رحمه الله.
قوله: (قال القاضي: المحكم المفسَّر، والمتشابه المجمل) ذكر المصنف رحمه الله أربعة أقوال في تعريف المحكم والمتشابه، والمراد: الخاص، لقوله: (وفيه محكم ومتشابه) . فالأول للقاضي أبي يعلى. والظاهر أن المصنف نقل كلامه بالمعنى. فإنّ الذي في كتابه «العدة» قوله: (المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه ما احتاج إلى بيان)[(176)].
قوله: (وقال ابن عقيل[(177)] : المتشابه ما يغمض علمه على غير العلماء المحققين، كالآيات المتعارضة) [(178)] هذا القول الثاني في تعريف المتشابه، وهو أنه ما يَغْمُضُ علمه على غير المحققين. قال في «المصباح المنير»: (غَمَضَ الحق: غموضاً من باب. (قَعَدَ): خفي مأخذه)[(179)]. والغامض من الكلام: ضد الواضح.
وقوله: (كالآيات المتعارضة) أي: كقوله تعالى: {{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}} [القصص: 56] ، مع قوله: {{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ}} [الشورى: 52] والجمع بينهما أن الأولى: يراد بها هداية التوفيق للعمل، وهذه بيد الله تعالى، لا يملكها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا غيره، والثانية: يراد بها هداية الدلالة والإشارة إلى الحق، وهي ثابتة للرسول صلّى الله عليه وسلّم[(180)].(1/69)
قوله: (وقيل: الحروف المقطعة) هذا القول الثالث في تفسير المتشابه، وقد نسبه ابن كثير رحمه الله إلى مقاتل بن حيان، وقال ابن تيمية رحمه الله: (إنه يروى عن ابن عباس)[(181)]. فتكون الحروف المقطعة في أوائل بعض السور من المتشابه، والمحكم ما وُصِلَتْ حروفه.
قوله: (وقيل: المحكم: الوعد والوعيد والحرام والحلال. والمتشابه: القصص والأمثال) هذا القول الرابع في تفسير المحكم والمتشابه، وقد رُوي بمعناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره». وذكره السيوطي في «الإتقان»[(182)]. والظاهر أن هذا التفسير مبني على ما نقله القاضي من أن المحكم: ما استفيد الحكم منه. والمتشابه: ما لا يفيد حكماً[(183)].
وهذا التفسير للمتشابه ضعفه الآمدي، ومن بعده ابن تيمية؛ لأن القصص والأمثال يُعرف معناها، قال تعالى: {{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ *}} [العنكبوت: 43] فدل على أن العَالِمين يعقلونها، وإن كان غيرهم لا يعقلها. قال ابن تيمية: (والأمثال: هي المتشابه عند كثير من السلف، وهي إلى المتشابه أقرب من غيرها، لما بين الممثَّل والممثَّل به من التشابه، وعَقْلُ معناها هو معرفة تأويلها الذي يعرفه الراسخون في العلم دون غيرهم)[(184)].
والصحيح: أن المتشابه: ما يجب الإيمان به، ويحرم تأويله كآيات الصفات.
والسنّة: ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قولٍ غير القرآن، أو فعل، أو تقرير، (فالقول) حجة قاطعة يجب على من سمعه العمل بمقتضاه؛ لدلالة المعجز على صدقه.(1/70)
قوله: (والصحيح: أن المتشابه: ما يجب الإيمان به، ويحرم تأويله) المراد بالتأويل هنا: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه، وهو قد يكون صحيحاً مقبولاً إن دلّ عليه دليل صحيح، وقد يكون فاسداً مردوداً إن لم يكن كذلك، فهو على الأول من باب التأويل بمعنى التفسير، وعلى الثاني من باب تحريف الكلام عن مواضعه.
مثال الأول: قوله تعالى: {{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}} [النحل: 1] فهذا ماضٍ، ولكنه يصرف إلى المستقبل؛ لأنه لم يأت بعدُ، بدليل {{فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}} وبدليل: {{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ...} [النحل: 98] أي: أردت أن تقرأ، وإنما جاء لفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه.
ومثال الثاني: قوله تعالى: {{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *}} [طه: 5] فظاهره العلو اللائق بالله، وهذا هو المراد، فصرفه إلى معنى الاستيلاء باطل؛ لأنه ليس عليه دليل صحيح، بل هو من تحريف الكلام عن مواضعه. وأمَّا إن أريد بالتأويل التفسير فهو صحيح بالنسبة إلى معنى الصفة، كمعرفة معنى الاستواء، لا الكيفية، كما سيأتي إن شاء الله.
قوله: (كآيات الصفات) أي: إن آيات الصفات كقوله تعالى: {{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *}} من المتشابه الذي يجب الإيمان به ويحرم تأويله، وهذا فيه نظر، فإن آيات الصفات لا يطلق عليها اسم المتشابه بهذا المعنى؛ لأن معناها معلوم في اللغة العربية وليس متشابهاً، وأمَّا كيفية اتصافه جلّ وعلا بها فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه، وهي من المتشابه بهذا الاعتبار، فالاستواء إذا عُدّي بعلى فمعناه في اللغة: العلو والارتفاع، وأما كيفية استوائه سبحانه وتعالى على عرشه فلا يعلمها إلا هو.(1/71)
وقد ردّ ابن تيمية رحمه الله هذا التفسير وبيّن فساد القول بأن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يفهم معناه، وقرر أن معناها معلوم، كما قال الإمام مالك رحمه الله وغيره من سلف هذه الأمة، وأما الكيفية فلا تُعلم، ولا يجوز لأحد السؤال عنها[(185)].
والأظهر ـ والله أعلم ـ أن المحكم ما عُرف المراد منه، إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه ما خفي معناه حيث يشتبه على بعض الناس، لكن من رَدَّ المتشابه إلى المحكم تبيّن له المراد، وتعيَّن له وجه الصواب، ومن اقتصر على المتشابه ضلّ سواء السبيل، كقوله تعالى: {{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}} [النساء: 171] فالنصارى احتجوا بهذه الآية على أن عيسى ابن الله، ولم يرجعوا إلى قوله تعالى في عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {{إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}} [الزخرف: 59] وقوله تعالى: {{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}} [آل عمران: 59] .
ومن المتشابه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، مثل كيفية الصفات، وما في اليوم الآخر مما أخبر الله. وهذا لا يُسأل عنه؛ لتعذر الوصول إليه[(186)].
ومن حكمة خطاب الخلق بالمتشابه الذي لا يفهم معناه: اختبارهم وامتحانهم بالإيمان بما لا يعلمون معناه، ويدل لذلك قوله تعالى عن الراسخين: {{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}} [آل عمران: 7] .
الأصل الثاني: السنّة
قوله: (والسنّة) شرع المصنف رحمه الله في الكلام على الأصل الثاني من أصول الأدلة الشرعية، وهو السنّة. وقد تقدم معنى (السنّة) لغة، وبيان إطلاقاتها في باب «المندوب».(1/72)
قوله: (ما ورد عن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم من قولٍ غير القرآن أو فعل أو تقرير) هذا تعريف السنّة في اصطلاح الأصوليين. فهي قول وفعل وتقرير، ويضيف المحدثون: أو صفة، فمعناها عندهم أعم؛ لأنهم أهل العناية برواية الأخبار، وبعض الأصوليين ـ كالبيضاوي ـ يعرّف السنّة بأنها قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفعله، ولا يذكر التقرير؛ لأنه فعل؛ إذ هو كف عن الإنكار؛ والكفُّ فِعْلٌ، على المختار [(187)]، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ توضيح كل نوع مع الأمثلة.
وقوله: (غير القرآن) هذا ما عليه أكثر الأصوليين[(188)]، وهو إخراج القرآن من مفهوم السنّة، وأن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان وحياً كالقرآن فإنه لا يقال فيه: إنه من السنّة، والمحدثون لا يذكرون هذا الاستثناء، وهو الأظهر.
قوله: (فالقول حجة قاطعة يجب على من سمعه العمل بمقتضاه) أي: إن قول النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم حجة قاطعة على من سمعه كالصحابة رضي الله عنهم الذين سمعوا منه الأحكام، لا يسوغ خلافها بوجه من الوجوه إلا بنسخ، أو جمع بين متعارض، وهذا لا يعدّ خلافاً.
فإن كان القول منقولاً إلى الغير فهو إمَّا متواتر أو آحاد، وسيأتي ذلك ـ إن شاء الله ـ.(1/73)
قوله: (لدلالة المعجز على صدقه) أي: إن الدليل على وجوب العمل بسنّة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أن المعجز دلّت على صدقه، وكل من دلّ المعجز على صدقه فهو صادق، فهو صلّى الله عليه وسلّم صادق، وكل صادق فقوله حجة، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام حجة؛ ولأن الله تعالى أمر بتصديقه، وكل من أمر الله بتصديقه كان قوله حجة، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [النساء: 136] ، وقال تعالى: {{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}} [آل عمران: 31] ، والمتابعة فرع على التصديق وملزوم له؛ ولأن الله تعالى حذر من مخالفة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله سبحانه: {{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [النور: 63] ، فالله توعد المخالفين لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالفتنة، وهي الزيغ أو بالعذاب الأليم، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب. فدلّ على أن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم واجبة[(189)].
وأما (الفعل) فما ثبت فيه أمر الجِبِلَّة؛ كالقيام والقعود، وغيرهما، فلا حكم له، وما ثبت خصوصه به، كقيام الليل فلا شركة لغيره فيه، وما فعله بياناً إما بالقول، كقوله: «صَلُّوا كما رَأَيْتُمونِي أُصلي» أو بالفعل، كقطع السارق من الكوع، فهو معتبر اتفاقاً في حق غيره، وما سوى ذلك فالتشريك، فإن عُلِمَ حكمه من الوجوب والإباحة وغيرهما فكذلك اتفاقاً، وإن لم يعلم ففيه روايتان: إحداهما: أن حكمه الوجوب، كقول أبي حنيفة وبعض الشافعية، والأخرى: الندب، لثبوت رجحان الفعل دون المنع من الترك.(1/74)
قوله: (وأمَّا الفعل فما ثبت فيه أمر الجبلة؛ كالقيام والقعود وغيرهما فلا حكم له) هذا القسم الثاني من أقسام السنّة، وهو السنّة الفعلية. وقد عُني الأصوليون بالأفعال النبوية، وأفردوا فيها مصنفات مستقلة[(190)]؛ لأنها من أدلة الأحكام الشرعية، وهي أنواع:
الأول: ما ذكره المصنف وهو ما فعله النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمقتضى الجِبِلَّة ـ بكسرتين وتثقيل اللام ـ، أي: الطبيعة والخلقة؛ كالقيام والقعود والنوم والأكل والشرب، فهذا لا حكم له في ذاته؛ لأنه ليس من باب التكليف؛ لأن التكليف فيما يمكن فعله وتركه، وهذه الأفعال ليست مشروعة لذاتها ومقصوداً بها التأسي؛ لأن كل ذي روح من البشر لا يخلو عنها، ولهذا نُسبت إلى الجبلة، إلا إذا كان الفعل له هيئة معينة، كصفة أكله وشربه ونومه ونحو ذلك، فهذا له حكم شرعي، كما دلّت عليه النصوص.
قوله: (وما ثبت خصوصه به؛ كقيام الليل فلا شركة لغيره فيه) هذا النوع الثاني من الأفعال، وهو ما فعله على وجه الخصوصية، فهذا يكون مختصاً به ولا يشاركه فيه غيره.
ومن خصائصه صلّى الله عليه وسلّم وجوب قيام الليل، كما قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *}} ثم نسخ هذا الوجوب على أحد القولين[(191)].
ومن خصائصه صلّى الله عليه وسلّم الوصال في الصوم، والزيادة على أربع في النكاح، والنكاح بلفظ الهبة، وغير ذلك مما يدل عليه القرآن والسنّة[(192)].
ولا يحكم بالخصوصية إلا بدليل؛ لأن الأصل التأسي به صلّى الله عليه وسلّم؛ لقوله تعالى: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}} [الأحزاب: 21] فيكون هذا النص معمولاً به حتى يقوم الدليل المانع، وهو ما يوجب الخصوصية.(1/75)
قوله: (وما فعله بياناً إمَّا بالقول، كقوله: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي» أو بالفعل، كقطع السارق من الكوع) هذا النوع الثالث من الأفعال النبوية، وهو ما فعله صلّى الله عليه وسلّم بياناً لمجمل، والبيان يكون بالقول ويكون بالفعل.
فالبيان بالقول كإخباره صلّى الله عليه وسلّم عن أنصبة الزكاة ومقاديرها، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيما سقت السماء العشر»[(193)] بياناً لمجمل قوله تعالى: {{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}} [الأنعام: 141] .
ومن ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم فَعَلَ الصلاة، وقال: «صلّوا كما رأيتموني أُصلي»[(194)].
وظاهر عبارته أن هذا من البيان بالقول فقط. وعليه جرى غيره، وفيه نظر؛ فإن بيان كيفية الصلاة لم يحصل بمجرد القول المذكور؛ بل بالفعل، وغاية ما يدل عليه أنه وضَّح كون الفعل بياناً بقوله: «صلوا كما رأيتموني أُصلي» ولو لم يقترن الحال بالفعل لما فُهمت الصلاة من مجرد هذا القول، والصلاة قد بيّنت بالفعل، كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه[(195)] وبالقول كما في حديث المسيء في صلاته[(196)]. فيكون القول مؤكداً للفعل[(197)].
والظاهر أن غرض المصنف بيان أن دليل كون صلاته صلّى الله عليه وسلّم بياناً هو الطريق القولي، فلذا اقتصر عليه، والله أعلم.
والبيان بالفعل: مثل قيامه صلّى الله عليه وسلّم بأفعال المناسك أمام الأمة بياناً لمجمل قوله تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}} [آل عمران: 97] ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لتأخذوا مناسككم»[(198)] ، فَأَمَرَ الأمة أن تتأسى به في فعل المناسك وأن تفعل مثل ما يفعل صلوات الله وسلامه عليه.(1/76)
وقول المصنف رحمه الله: (كقطع يد السارق من الكوع) يشير به إلى ما ورد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه صلّى الله عليه وسلّم (أمر بقطع السارق الذي سرق رداء صفوان من المفصل)[(199)]. والمراد به: الكوع، وتمثيل المصنف بذلك مبنيٌّ على أن اليد في آية السرقة مجملة، وليس كذلك، لأن اليد إذا أُطلقت في الشرع تناولت إلى الكوع، ولا تتعداه إلا بدليل[(200)].
قوله: (فهو معتبر اتفاقاً في حق غيره) هذا بيان حكم ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم بياناً لمجمل، وهو أنه معتبر في حق غيره من الأمة اتفاقاً؛ لأنه تشريع داخل في عموم قوله تعالى: {{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}} [النحل: 44] ، ثم إن كان الفعل بياناً لواجب فهو واجب، وإن كان بياناً لمندوب فالفعل مندوب[(201)]، لكنه واجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم مطلقاً حتى يحصل البلاغ.
فمثال الواجب: مسحه الرأسَ كلَّه[(202)] بياناً لقوله تعالى: {{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}} [المائدة: 6] [(203)] وغسل اليد مع المرفق[(204)] بياناً لقوله تعالى: {{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}} [المائدة: 6] [(205)].
ومثال المندوب: صلاته صلّى الله عليه وسلّم ركعتين عند المقام بعد طوافه بياناً لقوله تعالى: {{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}} [البقرة: 125] ، فكونه صلاها عند المقام من باب الندب، فقد نُقل الإجماع على جواز صلاة ركعتي الطواف إلى أي جهة من جهات الكعبة[(206)].
ويعرف الفعل بأنه بيان بأن يرد من القول ما يدل على أن هذا الفعل بيان، أو يرد خطاب مجمل فيفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما يصلح أن يكون بياناً له، أو يُسأل الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن بيانِ مشكل فيفعل فعلاً ويُعلم بالقرائن أنه جواب للسائل[(207)].(1/77)
قوله: (وما سوى ذلك فالتشريك) أي: ما سوى الجبلي والخاص به، وما فعله بياناً، فحكمه التشريك بينه وبين أمته، وهذا إمَّا أن يعلم حكمه أو لا.
قوله: (فإن علم حكمه من الوجوب والإباحة وغيرهما فكذلك اتفاقاً) أي: ما علم حكمه من أفعاله صلّى الله عليه وسلّم، من وجوب أو ندب أو إباحة، فإن أمته مثله[(208)]، لأن الأصل مشاركة أمته له، حتى يدل دليل على غير ذلك، وقد دلَّ على ذلك القرآن وفعل الصحابة رضي الله عنهم. أمَّا القرآن فقوله تعالى: {{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}} [الحشر: 7] . ووجه الاستدلال: أن فعله صلّى الله عليه وسلّم من جملة ما أَتَى به، فيكون الأخذ به واجباً، وقوله تعالى: {{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}} [آل عمران: 31] والأمر بالاتباع يقتضي الوجوب.
وأمَّا الصحابة فكانوا يرجعون إلى فعله صلّى الله عليه وسلّم احتجاجاً واقتداءً به في وقائع كثيرة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تقبيل الحجر الأسود، وقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبّلك ما قبّلتك)[(209)].
قوله: (وإن لم يعلم ففيه روايتان...) أي: وإن لم يعلم حكم الفعل بالنسبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ففيه عن الإمام أحمد روايتان.
قوله: (إحداهما: أن حكمه الوجوب، كقول أبي حنيفة وبعض الشافعية) أي: أنه واجب علينا وعليه، وهو قول مالك وأبي حنيفة وبعض الشافعية، ودليلهم ما ورد من الأمر باتباع النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، والأمر للوجوب.
قوله: (والأخرى: الندب..) هذه الرواية الثانية، وهي أنه يدل على الندب، قال المجد ابن تيمية: (نقلها إسحاق بن إبراهيم والأثرم وجماعة عنه بألفاظ صريحة)[(210)]، وهو قول في مذهب أبي حنيفة، وقول بعض الشافعية، وهو قول الظاهرية.(1/78)
وقيل: الإباحة، وتوقف المعتزلة؛ للتعارض، والوجوب أحوط.
وأما (تقريره) وهو ترك الإنكار على فعل فاعل. فإن عُلِمَ علةُ ذلك كالذمي على فطره رمضان، فلا حكم له، وإلا دلّ على الجواز، ثم العالم بذلك منه بالمباشرة إما بسماع القول أو رؤية الفعل أو التقرير فقاطع به، وغيره إنما يصل إليه بطريق الخبر عن المباشر، فيتفاوت في قطعيته بتفاوت طريقه؛ لأن الخبر يدخله الصدق والكذب، ولا سبيل إلى القطع بصدقه؛ لعدم المباشرة.
...........................................................
قوله: (لثبوت رجحان الفعل دون المنع من الترك) هذا دليل القائلين بالندب، وهو أن الفعل أرجح من الترك؛ لأن فعل النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم له يدل على مشروعيته، وأقل أحوال المشروع أن يكون مندوباً، لا سيما ما ظهر فيه قصد القربة والطاعة فهو دليل على أن الفعل مطلوب، فيترجح فعله على تركه؛ لأن رجحان الفعل في باب الطلب أرجح من الوجوب الذي فيه المنع من الترك.
قوله: (وقيل: الإباحة) هذا القول الثالث في المسألة، وهو أن الفعل للإباحة؛ حملاً على أقل الأحوال.
قوله: (وتوقف المعتزلة؛ للتعارض) هذا القول الرابع، وهو الوقف وعدم الجزم برأي معين؛ لأن الفعل يحتمل الوجوب والندب والإباحة، مع احتمال أن يكون من خصائصه، فيكون التوقف متعيناً.
والمصنف رحمه الله حكى الخلاف في هذه المسألة، ولم يفرق بين ما يظهر فيه قصد القربة وما لا يظهر فيه ذلك، ومن الأصوليين من يجعلهما مسألتين، ويفرد لكل مسألة أقوالاً متشابهة في مجملها[(211)].
والظاهر أن مراده ـ هنا ـ ما ظهر فيه قصد القربة؛ لأنه ذكر عن الإمام أحمد روايتين، وهما فيما كان على جهة القربة، كما حكاه المجد ابن تيمية وغيره[(212)]. والترجيح الآتي يؤيد ذلك.(1/79)
قوله: (والوجوب أحوط) أي: إن المصنف رحمه الله يرجح القول بوجوبه؛ لأن الوجوب أعلى مراتب الفعل، فوجب حمله عليه احتياطاً، وهذا الترجيح قد يكون مسلَّماً فيما ظهر فيه قصد القربة، وأمَّا ما لا يظهر فيه قصد القربة فالقول بالوجوب لا يخلو من ضعف[(213)].
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن ما فعله صلّى الله عليه وسلّم وقصد به القربة فهو مندوب بالنسبة لنا؛ لأن القربة طاعة، وهي غير خارجة عن الواجب والمندوب، والقدر المشترك بينهما ترجيح الفعل على الترك. وهذه حقيقة المندوب، لكنه واجب على النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يحصل البلاغ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وما فعله النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم على وجه التعبد فهو عبادة يشرع التأسي به فيه، فإذا خصَّص زماناً أو مكاناً بعبادة كان تخصيصه تلك العبادة سنة...)[(214)].
ومن أمثلة ذلك: ما رواه شريح بن هانئ قال: (سألت عائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يبدأ الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك)[(215)].
أمَّا ما لم يظهر فيه قصد القربة فالأظهر فيه الإباحة؛ لأن ما لا يظهر فيه قصد القربة متردد بين كونه عبادة أو عادة، فمفاده على أقل تقدير إباحة ذلك الفعل للأمة حيث إن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم فعله، والإباحة تشريع.
ومثال ذلك: نزوله صلّى الله عليه وسلّم بالمحصَّب عند الخروج من منى، فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في هذا النزول: هل فعله النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان أسمح لخروجه، فيكون من الأفعال التي ليس فيها معنى القربة، أو لكونه سنة، فالنزول بالمحصَّب فيه معنى القربة؟ فعائشة رضي الله عنها تقول: (نزول الأبطح ليس بسنة، إنَّما نزله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج)[(216)]. وهذا هو رأي ابن عباس رضي الله عنهما[(217)] وغيره، وخالف في ذلك ابن عمر رضي الله عنهما فإنه كان يرى أن النزول بالأبطح سنة[(218)].(1/80)
قوله: (وأمَّا تقريره) هذا القسم الثالث من أقسام السنة، وهو السنة التقريرية، والتقرير حجة على قول أكثر الأصوليين، ونقل الحافظ ابن حجر الاتفاق على الاحتجاج به[(219)]؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم معصوم عن أن يُقِرَّ أحداً على خطأ أو معصية فيما يتعلق بالشرع.
قوله: (وهو ترك الإنكار على فعل فاعل) هذا تعريف التقرير، والتعريف بترك الإنكار أولى من تعريفه بالسكوت عن الإنكار؛ لأنه قد يسكت عن الإنكار باللسان، ولكن يغيره بيده، كما أدار ابن عباس رضي الله عنهما عندما قام في الصلاة عن يساره فأقامه عن يمينه[(220)]، ورأى رجلين يطوفان بالبيت وبينهما زمام فقطعه[(221)].
والمراد بالفعل: ما يشمل القول، فالأولى أن يقال في تعريفه: ترك الإنكار على ما عَلِمَ به من قول أو فعل[(222)].
قوله: (فإن عُلِمَ علة ذلك كالذمي على فطره رمضان فلا حكم له) أي: فإن علم علة ترك إنكاره صلّى الله عليه وسلّم كأن يكون للفاعل عذر خاص، فإن ذلك لا يدل على الجواز[(223)]. وذلك كإقرار الذمي على فطره في رمضان، أو إقراره على شرب الخمر، وغير ذلك مما علمت علته، إذ لا بد أن يكون المقَرُّ منقاداً للشرع، بأن يكون مسلماً سامعاً مطيعاً.
قوله: (وإلا دلَّ على الجواز) أي: وإلا تُعلم علة ترك الإنكار كان ذلك دليلاً على الجواز، لأن التقرير وترك الإنكار تشريع للأمة؛ لأنه لو كان منكراً لأنكره؛ قال تعالى في صفته صلّى الله عليه وسلّم: {{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}} [الأعراف: 157] .
ومن التقرير على الفعل: تقريره خالد بن الوليد رضي الله عنه على أكل لحم الضب[(224)]، وإقراره الحبشة يلعبون في المسجد من أجل التأليف على الإسلام[(225)].
ومن التقرير على القول؛ إقراره صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر رضي الله عنه على قوله بإعطاء سلب القتيل لقاتله [(226)].(1/81)
قوله: (ثم العالم بذلك..) شرع المصنف رحمه الله في تقسيم من تصل إليه السنة، فذكر أن ذلك قسمان:
الأول: عالم بذلك منه بالمباشرة.
الثاني: من تصل إليه بطريق الخبر.
قوله: (بالمباشرة إمَّا بسماع القول أو رؤية الفعل أو التقرير فقاطع به) هذا القسم الأول، وهو أن يكون عالماً بالسنة مباشرة إما بسماع قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو رؤية فعله، أو تقريره، وهذا لا يكون إلا للصحابة رضي الله عنهم.
وقوله: (فقاطع به) أي: إن العالم بما ذكر قاطع بحصوله منه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه تحصيل للعلم بطريق قطعي، فيكون حجة قاطعة على من سمعه لا يسوغ خلافها بوجه من الوجوه، إلا بنسخ أو جمعٍ بين متعارض، وهذا لا يعد خلافاً، كما تقدم.
قوله: (وغيره إنَّما يصل إليه بطريق الخبر عن المباشر، فيتفاوت في قطعيته بتفاوت طريقه) هذا القسم الثاني وهو من تصل إليه السنة بطريق الخبر عن المباشر، وهو السامع للقول، والمشاهد للفعل أو التقرير، فقوله: (وغيره) أي: وغيرُ العالم بالسنة مباشرةً، من تصل إليه السنة بواسطة، وقوله: (فيتفاوت في قطعيته بتفاوت طريقه) أي: والحكم على هذا النوع منظور فيه إلى الواسطة التي نقلت الخبر، فإن رواه جماعة كثيرون ـ كما سيأتي ـ فهو متواتر، وإلا فآحاد.
قوله: (لأن الخبر يدخله الصدق والكذب) هذا تعليل لما تقدم من أن الخبر إذا كان بواسطة تَفَاوَتَ في قطعيته بسبب تَفَاوُتِ طريقه؛ لأنه يدخله الصدق والكذب، فإن طابق المُخْبَرَ عنه فهو صدق، وإلا فكذب.
لكن يرد على هذا التعليل أن من الأخبار ما لا يدخله الكذب، ومنها ما لا يدخله الصدق، فلو زيد عليه كلمة (لذاته) لكان أولى، كما قاله الزركشي والقرافي وغيرهما [(227)]. فيخرج بهذا القيد الخبر الذي لا يحتمل الصدق، أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به.
فالأول: كخبر مدعي الرسالة بعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم.(1/82)
والثاني: كخبر الله تعالى، وخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثابت عنه.
فإذا قال إنسان: قدم أبوك، فهذا خبر يحتمل الصدق والكذب لذات الخبر، فإن طابق الواقع فهو صدق وإلا فكذب، وذلك إمَّا على السواء إن كان القائل مجهول الحال، أو مع رجحان الصدق إن كان المخبر عدلاً، أو الكذب إن كان فاسقاً.
قوله: (ولا سبيل إلى القطع بصدقه لعدم المباشرة) أي: لا يمكن القطع بصدق المُخْبِر غير المباشر؛ لما تقدم من أن الخبر يحتمل الصدق والكذب.
والخبر ينقسم إلى: تواتر ، وآحاد، فالتواتر: إخبار جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب. وشروطه ثلاثة: إسناده إلى محسوس، كـ سمعت أو رأيت ـ لا إلى اعتقاد، واستواء الطرفين والواسطة في شرطه والعدد، فقيل: أقله اثنان، وقيل: أربعة، وقيل: خمسة، وقيل: عشرون، وقيل: سبعون، وقيل غير ذلك.
قوله: (والخبر ينقسم إلى تواتر وآحاد) أي: إن الخبر باعتبار طريق وصوله إلينا قسمان: تواتر وآحاد.
قوله: (فالتواتر) هو لغةً: التتابع، وهو مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، ومنه قوله تعالى: {{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}} [المؤمنون: 44] أي: رسولاً بعد رسول بفترة بينهما.
قوله: (إخبار جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب) هذا تعريف التواتر اصطلاحاً، والتواتر وصف للسند، فإذا أريد المتن قيل: حديث متواتر، على معنى تواتر سنده[(228)]. وقوله: (لا يمكن) أي: يستحيل، وقوله: (تواطؤهم) التواطؤ هو: أن يتفق قوم على اختراع معين بعد المشاورة والتقرير، بأن لا يقول أحد خلاف صاحبه، والمراد أنه يستحيل اتفاقهم على الكذب في العادة لا في العقل؛ لأن العقل يجوّز الكذب على كل عدد وإن عظم، وإنَّما هذه استحالة عادية.(1/83)
قوله: (وشروطه ثلاثة: إسناده إلى محسوس) أي: وشروط التواتر المتفق عليها[(229)] في الجملة ثلاثة: الأول: أن يكون إخبارهم عن شيء محسوس مدرك بإحدى الحواس، كالسماع والرؤية؛ كقول المحدث: سمعنا، أخبرنا، حدثنا.. وهكذا؛ لأن الذي لا يكون عن مشاهدة أو سماع يحتمل دخول الغلط أو الوهم فيه.
قوله: (لا إلى اعتقاد) أي: فإن كان إخبارهم عن شيء قد علموه واعتقدوه بالنظر أو الاستدلال أو عن شبهة فإن هذا لا يعد تواتراً؛ لما تقدم.
قوله: (واستواء الطرفين والواسطة في شرطه) هذا الشرط الثاني من شروط التواتر، وهو (استواء الطرفين) ، والمراد بهما: الطبقة المشاهدة للمخبر عنه كالصحابة المشاهدين لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، والطبقة التي أخبرتنا بوجوده (والواسطة) وهي ما كان بينهما من طبقات المخبرين. وقوله: (في شرطه) هذا مفرد أضيف فيعم جميع الشروط، وهي: وجود جماعة كثيرين يبلغون في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب، وأن يكون علمهم مستنداً إلى الحس لا إلى دليل العقل ـ كما تقدم ـ وذلك لأن خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه فلا بد فيه من الشروط[(230)].
وقيل: لا يشترط الأخير في كل طبقة، فإذا حصل في الطبقة الأولى كفى [(231)].
فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر لم يحصل العلم بصدقهم ولم يكن الخبر متواتراً.
قوله: (والعدد) هذا الشرط الثالث من شروط التواتر، وهو العدد الكثير، وقد اختلف في تعيينه على أقوال كثيرة.
قوله: (فقيل: أقله اثنان) : أي: أقل عدد للتواتر أن يرويه اثنان؛ لأن أقل الشهود اثنان.
قوله: (وقيل: أربعة) اعتباراً بأعلى الشهادات.
قوله: (وقيل: خمسة) ليزيد على عدد الشهود.
قوله: (وقيل: عشرون) لقوله تعالى: {{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ}} [الأنفال: 65] ، وإنَّما خصهم بذلك؛ لحصول العلم بما يخبرون به.(1/84)
قوله: (وقيل: سبعون) لقوله تعالى: {{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا}} [الأعراف: 155] ، وإنَّما خصهم بذلك لما تقدم.
قوله: (وقيل غير ذلك) أي: من الأقوال في تحديد العدد الذي يحصل به التواتر، وكلها أقوال ضعيفة؛ لأن أدلتها لا تتعلق بالأخبار، ولو سُلِّم فليس فيها ما يدل على أن ذلك العدد شرط لتلك الوقائع، ولا على كونه مفيداً للعلم[(232)].
والصحيح: لا ينحصر في عدد، بل متى أخبرو واحداً بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حدّ لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم.
وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم؛ لِقطعنا بوجود مصر.
قوله: (والصحيح: لا ينحصر في عدد، بل متى أخبروا واحداً بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حدّ لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم) أي: والصحيح في العدد الذي يحصل به التواتر أن ذلك لا ينحصر في عدد معين، بل متى أخبرنا شخص بخبر ثم توالى الناقلون له حتى خرجوا بالكثرة إلى حد لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بصدقهم دون أن يكونوا محصورين بعدد، وإنَّما لم نشترط عدداً معيناً؛ لأن حصول العلم بالخبر يختلف بحسب حال المخبر، فتارة يحصل ـ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ؛ بكثرة المخبرين، وتارة يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم، وتارة يحصل بقرائن تحتف بالخبر، وقد يحصل بمجموع ذلك، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «شرح النخبة»: (وتلك الكثرة أحد شروط التواتر، إذا وردت بلا حصر عدد معين، بل تكون العادة قد أحالت تواطؤهم على الكذب، وكذا وقوعه منهم اتفاقاً من غير قصد، فلا معنى لتعيين العدد على الصحيح)[(233)].(1/85)
قوله: (وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم؛ لقطعنا بوجود مصر) أي: ليس من شرط التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولاً، بل يحصل التواتر بدون عدالة ولا إسلام؛ لأن القطع بصدق خبرهم من حيث إن اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب مستحيل عادة لكثرتهم، والعادة تحيل ذلك في المسلمين والكفار، وهذا في مطلق الخبر أي: خبر الناس، فنحن نقطع بوجود البلاد النائية مثل: مصر وغيرها من البلدان عن طريق التواتر، وهذا بخلاف رواية حديث النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، فذلك لا بد فيه من الإسلام والعدالة بالإجماع[(234)]، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
ويحصل العلم به، ويجب تصديقه بمجرده وغيره بدليل خارجي.
قوله: (ويحصل العلم به) أي: إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهو القطع بصحة نسبته إلى من نُقل عنه.
قوله: (ويجب تصديقه بمجرده) أي: يجب تصديق الخبر المتواتر لكونه متواتراً، وإن لم يدل عليه دليل آخر؛ لأنه مفيد للعلم بكثرة المخبرين، فهو مستغنٍ عن اعتبار أوصاف المخبرين من الضبط والعدالة، وليس معنى ذلك أن صفة العدالة غير موجودة فيهم، بل هي موجودة، وهي قدر زائد على ما يحتاجه المتواتر، فاجتمعت فيه الكثرة والصفة، وهذا هو المتواتر بصفة عامة، وهو موجود في كثير من أمور الشرع، كالقرآن الكريم. وكأخباره صلّى الله عليه وسلّم التي لم ترد في القرآن مثل حجة الوداع، وهجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ووفاته بها، وأسماء زوجاته وكبار أصحابه رضي الله عنه، وغير ذلك كثير.(1/86)
قوله: (وغيره بدليل خارجي) أي: إن التواتر يفيد القطع ويجب تصديقه لذاته وهو كثرة الرواة المخبرين، وهذا هو التواتر العام، وأما غيره فيحصل القطع به ويجب تصديقه بدليل خارجي. وذلك أن هناك أخباراً نقلت بالتواتر، لكنه ليس باعتبار الكثرة، وإنما باعتبار صفات المخبرين لدينهم وضبطهم، أو باعتبارات أخرى تفيد العلم، وهذا يسميه ابن تيمية التواتر الخاص. أي: الذي عرفه أهل الحديث خاصة باعتبار اطلاعهم على أحوال الرواة، وذلك مثل: أحاديث الرؤية، وعذاب القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموضع أن غير أهل الحديث تبع لهم، وأنه إذا ثبت التواتر عندهم وجب على من لم يتواتر عنده أن يسلم ذلك لهم؛ لأن أهل الحديث يسمعون ما لا يسمعه غيرهم، ويروون ما لا يرويه غيرهم[(235)].
والعلم الحاصل به ضروري عند القاضي، ونظري عند أبي الخطاب وما أفاد العلم في واقعة ولشخصٍ بدون قرينة أفاده في غيرها أو لشخص آخر.
قوله: (والعلم الحاصل به ضروري...) اختلف العلماء في نوع العلم الحاصل بالمتواتر بعد اتفاقهم على أنه يفيد العلم على قولين:
الأول: أنه يفيد العلم الضروري، ويُعَبَّرُ عنه ـ أيضاً ـ بالعلم اليقيني[(236)]، وهو ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال، وهذا قول الجمهور واختيار القاضي أبي يعلى، ودليل ذلك أن السامع يجد نفسه مضطراً للعلم يقيناً به، كوجود الأئمة الأربعة، ووجود مكة، ودمشق ـ مثلاً ـ بالنسبة لمن لم يرهما، ولو أراد التخلص من العلم بذلك لم يستطع.
الثاني: أنه يفيد العلم النظري الذي يحتاج إلى تأمل، وهو قول بعض الشافعية، وأبي الخطاب [(237)] من الحنابلة، وحجة ذلك: أن العلم لا بد له من العلم بمقدمتين قبله:
الأولى: أن يعلم أن هذا الأمر أخبر به جماعة كثيرون يستحيل في العادة أن يتواطؤوا على الكذب.(1/87)
الثانية: أن يعلم أن ما أخبر به عدد هذه صفاتهم فهو حق يقيناً، فينتج من ذلك أن هذا الخبر يقين، وهذا نظر وتأمل.
والقول الأول ـ وهو أنه يفيد العلم الضروري ـ هو المختار، وقد نسبه الشوكاني إلى الجمهور، وقال: (إنه الحق)[(238)]؛ لما ذكرنا؛ ولأنه لو كان نظرياً لما حصل لغير أهل النظر، كالصبيان المراهقين وكثير من العامة، فلما حصل لهم العلم به علمنا أنه ليس بنظري.
قوله: (وما أفاد العلم في واقعة ولشخصٍ بدون قرينة أفاده في غيرها أو لشخص آخر) أي: إن العدد للعلم اليقيني لا يتفاوت بحسب الوقائع والأشخاص، بل ما حصل به العلم في واقعة يحصل به في غيرها، وما حصل به لشخص يحصل به لغيره من غير تفاوت، فإذا أخبر ثلاثون شخصاً عمراً بموت زيد، وحصل له العلم بخبرهم، وجب أن يفيد خالداً بموت بكر، وهذا محمول ـ كما قال المؤلف ـ رحمه الله على ما إذا تجرد الخبر عن القرائن، أمَّا إن احتفت به قرائن فلا شك أن حصول العلم به يتفاوت؛ لأن القرائن الخفية يفهمها الذكي، وتخفى على الغبي، فتقوم القرائن للذكي مقام عدد من المخبرين، وكذلك القرائن الظاهرة إن علم بها بعض المخبرين دون بعض، كما لو بلغ الخبر بواسطة مبلغين كثيرين أن زيداً مات، وعمراً تزوج، وأحد المخبرين قد رأى قبل ذلك زيداً في حادث ثم رآه في النزع، ورأى عمراً في السوق يشتري ما يحتاج إليه المتزوج، فهذا الشخص يحصل له اليقين بمثل هذه القرائن[(239)].
والآحاد ما لم يتواتر، والعلم لا يحصل به في إحدى الروايتين، وهو قول الأكثرين ومتأخري أصحابنا، والأخرى: بلى، وهو قول جماعة من أصحاب الحديث، والظاهرية. وقد حَمَلَ ذلك منهم على ما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم، وتلقته الأمة بالقبول، لقوته بذلك، كخبر الصحابي، فإن لم يكن قرينة أو عارضه خبر آخر فليس كذلك.
وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلاً؛ لاحتماله.(1/88)
قوله: (والآحاد: ما لم يتواتر) هذا القسم الثاني من أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا، وهو الآحاد، والآحاد لغةً: جمع أحد كأَجَل وآجال، وأحد بمعنى واحد، وهمزته مبدلة من واو، فأصلها وَحَد. وخبر الآحاد: ما يرويه الواحد.
واصطلاحاً: ما لم يتواتر، أي: لم تبلغ نقلته مبلغ الخبر المتواتر، سواء أكان المخبر به واحداً أم اثنين أم ثلاثة أم أربعة إلى غير ذلك من الأعداد التي لا تشعر بأن الخبر دخل في حد التواتر.
قوله: (والعلم لا يحصل به في إحدى الروايتين، وهو قول الأكثرين) المراد بـ (العلم) : اليقين، وقد ذكر المؤلف ثلاثة مذاهب فيما يفيده حديث الآحاد. أحدها: هذا وهو أنه لا يفيد العلم بل يفيد الظن، وهو رجحان صحة نسبته إلى من نقل عنه، وهذا قول الجمهور، وهو رواية عن الإمام أحمد.
وقد ضعّف ابن القيم رحمه الله هذه الرواية، وقال: (إنها رواية انفرد بها الأثرم، وليست في مسائله، ولا في كتاب «السنة»، وإنَّما ذكر القاضي أنه وجدها في كتاب معاني الحديث، والأثرم لم يذكر أنه سمع ذلك منه، بل لعله بلغه عنه من واهمٍ وَهِمَ عليه في لفظه، فلم يرو عنه أحد من أصحابه ذلك، بل المروي الصحيح عنه أنه جزم بالشهادة للعشرة المبشرين بالجنة، والخبر في ذلك خبر واحد)[(240)]اهـ.
قوله: (ومتأخري أصحابنا) أي: هو قول المتأخرين من الحنابلة، ولعل المؤلف يريد المتأخرين من طبقة المتوسطين، وهم من سنة (403 ـ 884)، وإلا فإن المصطلح عليه أن بداية المتأخرين من سنة (885هـ)، ورئيسهم إمام المذهب في زمانه العلامة أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، المتوفى (885هـ)[(241)].
واستدل هؤلاء بما يلي:
1 ـ أنه لو أفاد خبر كل واحد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه، ونحن لا نصدق كل خبر نسمعه، فدل على أنه لا يفيد العلم.
2 ـ أن أعدل رواة الآحاد يجوز في حقه الكذب والغلط، فالقطع بصدقه مع تجويز الكذب والغلط عليه لا معنى له.(1/89)
قوله: (والأخرى: بلى...) هذا هو القول الثاني، وهو أن خبر الواحد يفيد العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، ونُسب إلى مالك، وهو مذهب الظاهرية[(242)]، وقد نصره ابن حزم[(243)]، وهو قول جماعة من أصحاب الحديث.
ومن أدلتهم حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة[(244)]).
فهذا دليل على أن خبر الواحد يقبل، ويحصل به العلم؛ لأن استقبالهم الأول للقبلة مقطوع به، فلولا أن الخبر أفاد العلم ما تركوا المقطوع به لخبر لا يفيد العلم.
قوله: (وقد حَمَلَ ذلك منهم على ما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم وتلقته الأمة بالقبول) أي: وقد حمل بعض القائلين: إن خبر الواحد يفيد العلم، على ما قامت القرائن على صدقه دون غيره، كأن يكون الحديث مما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم، أو مما تلقته الأمة بالقبول، كحديث: «لا يَمَسُّ القرآن إلا طاهر» [(245)]، أو يقع الإجماع على العلم بمقتضاه، كحديث: «لا يجمع بين المرأة وعمتها» [(246)]، ونحو ذلك مما يقوي خبر الواحد.
قوله: (لقوته بذلك) أي: لأنه صار قوياً بنقل الأئمة، وتلقي الأمة له بالقبول. وهذا هو القول الثالث. وهو التفصيل، بأنه إن احتفت به قرائن دالة على صدقه أفاد العلم وإلا أفاد الظن[(247)]. وهذا أقرب الأقوال.(1/90)
قوله: (كخبر الصحابي) أي: إن ذلك مثل خبر الصحابي فإنه يتقوى إذا أجمعت الأمة على الأخذ به، وكذا لو أخبر مخبر بحضرة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال أو فعل فعلاً فلم ينكر عليه النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإننا نعلم صدقه فيما أخبر به عنه صلّى الله عليه وسلّم، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يُقِرُّ على الكذب، وكذا لو أخبر رجل بحضرة جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بخبر يضيفه إلى مشاهدتهم وعلمهم ولا ينكر أحد منهم ذلك، فيدل على أنه صدق؛ لأنه لو كان كذباً لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه[(248)].
قوله: (فإن لم يكن قرينة) أي: دالة على صدق الخبر مما ذكر من القرائن فلا يفيد العلم بل الظن.
قوله: (أو عارضه خبر آخر) أي: فيفيد الظن، مثل حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها: (من مسّ ذكره فليتوضأ) معارض بحديث طلق بن علي رضي الله عنه: (هل هو إلا بَضْعَةٌ منك)، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام على ذلك في موضوع «التعارض بين الأدلة».
قوله: (فليس كذلك) أي: فلا يفيد العلم بل يفيد الظن.
قوله: (وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلاً، لاحتماله) أي: لاحتمال أن يكون كذباً أو خطأ، والعمل به عمل بالشك وإقدام على الجهل، وهذا لا ينبغي، وهذا هو القول الأول في حكم التعبد بخبر الواحد، وهو قول طائفة من المتكلمين، وهو قول باطل.
وقال أبو الخطاب: يقتضيه، والأكثرون: لا يمتنع، فأما سمعاً فيجب عند الجمهور، وخالف أكثر القدرية، وإجماعُ الصحابة على قبوله يرد ذلك.
وشروط الراوي أربعة: الإسلام، فلا تقبل رواية كافر ولو ببدعة، إلا المتأول إذا لم يكن داعية في ظاهر كلامه.(1/91)
قوله: (وقال أبو الخطاب: يقتضيه) هذا القول الثاني: وهو أن العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم مبعوث إلى الناس كافة، ولا تمكن مشافهة جميعهم، ولا إبلاغ جميعهم بالتواتر؛ ولأن العدل الراوي لخبر الواحد مظنون الصدق؛ لعدالته؛ والظن أرجح من مقابله وهو الوهم، والعمل بالراجح يوجبه العقل.
قوله: (والأكثرون: لا يمتنع) هذا هو القول الثالث: وهو أنه لا يمتنع العمل بخبر الواحد، بل هو جائز عقلاً وليس بواجب عقلاً، وهذا قول جمهور العلماء، وهو الراجح؛ لأن العقل وحده لا يمنع التعبد بخبر الواحد ولا يوجبه، بل يجيزه.
قوله: (فأمَّا سمعاً فيجب عند الجمهور) أي: من جهة السمع، وهو دليل الشرع على وجوب العمل بخبر الآحاد، والمراد أن العمل بخبر الواحد في الأحكام الشرعية واجب عند الجمهور من باب (قبول الظن الراجح) وهو حجة معتبرة في الشرع لما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}} [التوبة: 122] . والطائفة في اللغة: تطلق على الواحد فصاعداً، فإذا رحل شخص واحد وتفقه في الدين، ثم رجع إلى قومه، وعَلَّمهم وأنذرهم لزمتهم الحجة، وإلا لم يكن لإنذار من يتفقه في الدين فائدة.
2 ـ أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث الآحاد إلى النواحي والقبائل لتبليغ الأحكام الشرعية، كما بعث معاذاً إلى اليمن، وبعث غيره إلى غيرها، فلولا أنه يجب العمل بخبرهم لم يكن لبعثهم فائدة.(1/92)
3 ـ أن الصحابة رضي الله عنهم رجعوا إلى خبر الواحد، وعملوا به في وقائع كثيرة، كرجوع أهل قُباء لخبر الواحد لما أخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة[(249)]، وكرجوع زيد بن ثابت رضي الله عنه إلى رواية امرأة من الأنصار: أن الحائض تنفر بلا وداع[(250)]، وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فُريعة بنت مالك في سكنى المتوفى عنها زوجها حتى يبلغ الكتاب أجله[(251)]، وعمل عمر رضي الله عنه بخبر حَمَلِ بن مالك، ابن النابغة في دية الجنين وأنها غرةٌ عبدٌ أو أمة[(252)].
قوله: (وخالف أكثر القدرية) [(253)] أي: قالوا: لا يجوز العمل بخبر الواحد، وهو قول باطل؛ لأن الأدلة السابقة ترده.
واعلم أن المؤلف لم يفرق في الاحتجاج بخبر الواحد بين الأحكام وبين العقائد، وهذا هو الحق؛ فإن خبر الآحاد كما يقبل في الأحكام الشرعية العملية يقبل في الأحكام الشرعية العلمية وهي العقائد، كما في باب الأسماء والصفات، وما ورد من أمور الدار الآخرة وغير ذلك من فروع العقائد، فما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم من صفات الله تعالى وجب إثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال الله تعالى وعظمته، وكذا ما ورد من سؤال الملكين في القبر، ونصب الصراط على ظهر جهنم ـ أعاذنا الله منها ـ وأن الميزان له كفتان، وغير ذلك يجب إثباته ولو كان بأخبار الآحاد.
وأمَّا ما يثيره بعض المعاصرين اقتداءً بسلفهم من أهل الكلام من أن خبر الآحاد لا يقبل في العقائد؛ لأن الله تعالى نهى عن اتباع الظن والعقائد لا تبنى على الظن بل على اليقين، فهو قول باطل، وذلك لأمور:
1 ـ أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الباب بمجرد تحكيم العقل.(1/93)
2 ـ أن الأدلة التي يُستدل بها على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام العملية هي أدلة على وجوب الأخذ بها في الأحكام العلمية؛ لعمومها وشمولها لكل ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ربه، سواء كان عقيدة أم حكماً، فتخصيص هذه الأدلة بالأحكام دون العقائد تخصيص بدون مخصص، وذلك باطل، وما لزم منه باطل فهو باطل.
3 ـ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يرسل الدعاة إلى مختلف البلاد ليعلموا الناس دينهم، وأهم شيء في الدين هو العقيدة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله عزّ وجل ...» ، وفي رواية: «فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله...» [(254)].
فهذا دليل قاطع على أن العقيدة تثبت بخبر الواحد وتقوم به الحجة على الناس، ولولا ذلك لما اكتفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإرسال معاذ رضي الله عنه وحده[(255)].
قوله: (وشروط الراوي أربعة) أي: صفة من يقبل خبره، وهي التي إذا وجدت في الراوي ترجح اعتقاد صدقه وعدم وقوعه في الخطأ، ومن المعلوم أن حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم يصل إلينا عن طريق الرواة، فهم إذن الركيزة الأولى في معرفة صحة الحديث أو عدم صحته، ومن هنا اهتم علماء الحديث بالرواة؛ ووضعوا الشروط والضوابط لقبول روايتهم، وهي تدل على بُعْدِ نظر وسداد تفكير، وجودة طريقة.
قوله: (الإسلام) هذا الشرط الأول، فالإسلام شرط في قبول الرواية.
قوله: (فلا تقبل رواية كافر) أي: لأن الكافر عدو للإسلام وأهله، فلا يتحرج من الكذب على الله ورسوله وتحريف دينه.
والمراد بالكفر: الكفر الذي يخرج به الإنسان عن الإسلام، كاليهودية والنصرانية، فهذا لا يقبل خبره إجماعاً، والمراد به من كفر لا بتأويل، بل ابتغى غير الإسلام ديناً.(1/94)
والإسلام شرط للأداء لا للتحمل، فلو تحمل وهو كافر وأدى بعد إسلامه قُبِلَ، كما في «صحيح البخاري» عن جبير بن مطعم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ في المغرب بالطور»[(256)]، فإنه كان وقت التحمل أسيراً من أسارى بدر قبل أن يسلم، قال الحافظ ابن حجر: (واستُدِلَّ به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة)[(257)].
قوله: (ولو ببدعة) أي: ولو كان كفره بسبب بدعة، فالبدعة المكفرة سبب لرد الراوي وعدم قبول روايته؛ لأن من شرط قبول الرواية: الإسلام، ومثال البدعة دعوى بعض غلاة الراوفض حلول الإلهية في علي رضي الله عنه، أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة، أو غير ذلك، كالقول بتحريف القرآن، لكن لا بد أن يكون التكفير متفقاً عليه من قواعد جميع الأئمة، كما مُثّل، وذلك لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة؛ وقد تبالغ فتكفر مخالفيها. فلو أُخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف، فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة. وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضمَّ إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبول روايته[(258)].
قوله: (إلا المتأوّل) أي: إلا المبتدع الذي كُفِّر بسبب بدعته، لكنه متأول أي: مستند في بدعته إلى دليل من الكتاب أو السنة، بتأويل رآه باجتهاده فهذا تقبل روايته.
قوله: (إذا لم يكن داعية) هذا شرط في قبول روايته، وهو ألاّ يكون داعياً الناس إلى بدعته[(259)]؛ لأننا لا نأمن أن يضع حديثاً يوافق هواه، وقد يحمله تزيين[(260)] بدعته على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه، قال الخطيب في الكفاية: (هذا مذهب كثير من العلماء وممن ذهب إلى ذلك أبو عبد الله أحمد بن حنبل)[(261)].
وقال الحافظ ابن حجر: (هذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة)[(262)].(1/95)
وقال الشيخ أحمد شاكر بعد عرض الأقوال في هذه المسألة: (هذه الأقوال كلها نظرية والعبرة في الرواية بصدق الراوي والثقة بدينه وخُلقه، والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والاطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيراً منهم لا يوثق بأي شيء يرويه...) وهذا هو التحقيق في المسألة ـ إن شاء الله ـ وهو الذي يدل عليه كلام الحافظ فيما تقدم.
وقد نقل الحافظ ابن رجب في «شرح علل الترمذي» عن أبي داود قوله: (ليس في أهل الأهواء أصحُّ حديثاً من الخوارج، ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسان الأعرج)[(263)].
قوله: (في ظاهر كلامه) أي: ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله أن الكفر بتأويل لا يكون سبباً في ردِّ الراوي إذا لم يكن داعياً إلى بدعته، فقد ورد عنه أنه قال: يُكتب حديث القدري إذا لم يكن داعية، وعنده: القدرية كفار.
قال أبو الخطاب: (ووجهه أن جلَّ أصحاب الحديث قبلوا أخبار الخوارج والقدرية مثل: قتادة، وعطاء بن يسار، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة..، والمرجئة مثل: إبراهيم التيمي، وحماد بن أبي سليمان...، والشيعة مثل: الحارث الأعور، وعطية العوفي.. وأكثرهم روى عنه أحمد وغيره من أصحاب الحديث... ولأن المتحرج الذي أخطأ بتأويلٍ غيرُ تاركٍ للتحرج والتنزهِ عن الكذب، فَقَوِيَ الظن بصدقه)[(264)].
والرواية الأخرى: أن البدعة المكفرة لا تقبل معها الرواية، وهذا قول الشافعي، وأكثر الفقهاء؛ لعظم الكفر، فيضعف العذر، ويَقْوَى عدم الوثوق، قال النووي: (من كفر ببدعته لم يُحتجَّ به بالاتفاق)[(265)].
وهذا الإجماع محمول على غير المتأول؛ لما علم من عمل أهل الحديث وأصحاب الصحيح، ولما تقدم من خلاف الإمام أحمد، كما في إحدى الروايتين[(266)].(1/96)
والتكليف حالة الأداء، والضبط سماعاً وأداءً، والعدالة فلا تقبل من فاسق، إلا ببدعة متأولاً عند أبي الخطاب، والشافعي، والمجهول في شرط منها لا يقبل، كمذهب الشافعي، وعنه: إلا في العدالة، كمذهب أبي حنيفة، ولا يشترط ذكوريته ولا رؤيته ولا فقهه ولا معرفة نسبه، ويقبل المحدود في القذف إن كان شاهداً.
قوله: (والتكليف) هذا الشرط الثاني من شروط قبول الرواية، وهو التكليف، والمراد: البلوغ والعقل. أمَّا العقل فلأنه أصل الضبط، والبلوغ هو الوازع عن الكذب؛ لأن الصغير لا يدرك أثر الكذب ولا عقوبته.
قوله: (حالة الأداء) أي: إن التكليف شرط في قبول الرواية حالة أداء الحديث، أي: إبلاغه إلى الغير، فلا يقبل أداء الحديث من الصغير، لكن لو تحمله وهو صغير ورواه بعد بلوغه جاز، لإجماع السلف على قبول خبر ابن عباس رضي الله عنهما مع أن سِنَّه عند وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثلاث عشرة سنة، وابن الزبير وسِنُّه تسع سنين، والنعمان بن بشير وقد ولد في السنة الثانية من الهجرة، قال الصنعاني عن البلوغ: (وهذا شرط للأداء لا للتحمل إجماعاً). وقال عن العقل: (وهذا لا بد منه في حال الأداء والتحمل)[(267)].
قوله: (والضبط) هذا الشرط الثالث، ومعناه أن يؤدي ما تحمله على الوجه الذي تحمله من غير زيادة ولا نقص، ولا يضر الخطأ اليسير؛ لأنه لا يسلم منه أحد، ويعرف ضبط الراوي بموافقته الثقات المتقنين في الرواية، فإن وافقهم في روايتهم غالباً فهو ضابط، ولا تضر مخالفته النادرة لهم، فإن كثرت فليس بضابط، كما يعرف بالنص عليه ممن يعتبر قوله في ذلك، وهم أئمة الجرح والتعديل.
قوله: (سماعاً وأداء) أي: لا بد من الضبط في حالة التحمل وفي حالة الأداء، ليؤدي ما سمع كما سمع.
واعلم أن المصنف رحمه الله لم يقيد ـ كغيره ـ الضبط بالتمام؛ لأن الكلام في شروط من تقبل روايته، وهو أعم من أن يكون حديثه صحيحاً لذاته أو لغيره أو حسناً[(268)].(1/97)
قوله: (والعدالة) هذا الشرط الرابع، والعدالة: هي استقامة الدين والمروءة، بأن يكون الراوي مؤدياً الواجبات، سليماً مما يوجب الفسق من المحرمات، فاعلاً ما يحمده الناس عليه من الأدب والأخلاق، سليماً من خوارم المروءة التي يذمه الناس عليها.
وللشافعي رحمه الله كلام مستحسن في العدالة، يقول: (وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يُختبر من حاله في نفسه، فإذا كان الأغلبُ من أمره ظاهرَ الخير قُبل، وإن كان فيه تقصير عن بعض أمره؛ لأنه لا يُعرَّى أحد رأيناه من الذنوب، وإذا خلط الذنوب والعمل الصالح فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره، بالتمييز بين حسنه وقبيحه)[(269)].
وتعرف العدالة إمَّا بالاستفاضة والشهرة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم كفى، كالأئمة الأربعة والبخاري ومسلم، وغيرهم، أو بتنصيص عليها ممن يعتبر قوله في ذلك من علماء التعديل.
قوله: (فلا تقبل من فاسق) أي: لا تقبل الرواية من فاسق، وهو الفاسق من جهة الجوارح؛ لأنه قد يُقْدِمُ على الكذب، فأثَّر ذلك في قوة الظن بصدقه، وإن كان لا يلزم من الفسق الكذب، ولهذا أمرنا الله تعالى بالتثبت والتبين من خبر الفاسق ولم يأمرنا برده، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ...} [الحجرات: 6] فأمرنا بالتثبت في خبر الفاسق. قال القرطبي في «تفسيره»: (في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً؛ لأنه إنَّما أمرنا بالتثبت عند نقل الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعاً لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة تبطلها)[(270)].
وقال إمام الحرمين: (الثقة هي المعتمد عليها، فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل)[(271)] وهذا معنى كلام الشافعي، كما تقدم.(1/98)
قوله: (إلا ببدعة متأولاً عند أبي الخطاب والشافعي) أي: إذا كان فسقه من جهة الاعتقاد لا من جهة الجوارح فإنه يقبل خبره إذا كان متأولاً، وهو اختيار أبي الخطاب[(272)]، وقول الشافعي؛ لأن السلف في زمن الصحابة والتابعين اختلفوا ووقع بينهم الفرقة وقَبِلَ بعضهم أخبار بعض، ولأنه إذا كان الفاسق متأولاً فإنه يتحرج عن الكذب؛ لأنه يظن في اعتقاده أنه على حق، فيقوى الظن بصدقه.
أمَّا من يستحل الكذب في نصرة مذهبه فترد روايته قولاً واحداً[(273)]، وقد روي عن الشافعي رحمه الله: (أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يستحلون الشهادة بالزور لنصرة مذهبهم)[(274)].
قوله: (والمجهول في شرط منها لا يقبل، كمذهب الشافعي) المجهول هو من لم تعرف عينه أو صفته؛ أي: لم تعرف ذاته ولا شخصيته، أو عرفت ولكن لم يعرف عن صفته شيء كضبطه وعدالته، وهو أنواع معروفة في علم المصطلح.
ومعنى كلامه: أن من جُهِلَ إسلامه أو ضبطه أو عدالته أو بلوغه، لم تقبل روايته، وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وحكاه الشنقيطي عن مالك والجمهور[(275)].
قوله: (وعنه: إلا في العدالة، كمذهب أبي حنيفة) أي: عن الإمام أحمد رواية: أن مجهول العدالة تقبل روايته وفقاً لأبي حنيفة، فالخلاف في مجهول العدالة، أمَّا مجهول الإسلام والضبط والبلوغ فلا تقبل، قولاً واحداً[(276)].
ودليل هذه الرواية أن شرط القبول عدمُ العلم بالفسق، وهذا لم يعلم منه فسق فيقبل، وأمَّا دليل المنع فهو أنه لا فرق في الشك في العدالة وباقي الشروط فلا ينبغي التفريق، وللقياس على الشهادة، فإن شهادة مجهول العدالة لا تقبل؛ لقوله تعالى: {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}} [الطلاق: 2] ، وقوله تعالى: {{مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}} [البقرة: 282] ، والمجهول غير عدل ولا مرضي، فكذلك روايته.(1/99)
قوله: (ولا يشترط ذكوريته) أي: لا يشترط أن يكون الراوي ذكراً، بل رواية المرأة كرواية الرجل، لأن السلف قبلوا خبر النساء، كعائشة وأسماء وأم سلمة وأم سليم وغيرهن ـ رضي الله عنهن ـ، فالرواية ليست كالشهادة، بل النساء والرجال في باب الرواية سواء.
قوله: (ولا رؤيته) أي: لا يشترط كون الراوي مرئياً مشاهداً حال السماع منه، على القول المختار، فإن الصحابة كانوا يروون عن عائشة رضي الله عنها من وراء حجاب.
قوله: (ولا فقهه) أي: لا يشترط كون الراوي فقيهاً على أرجح الأقوال، بل تقبل رواية العدل الذي ليس بفقيه؛ لأن الرواية مبناها على الحفظ، لحديث: «نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى بلَّغه غيره، فَرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ وليس بفقيه»[(277)].
فقد دل هذا الحديث على صحة رواية غير الفقيه، وكذلك كانت الصحابة رضي الله عنهم تقبل خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثاً واحداً.
قوله: (ولا معرفة نسبه) أي: لا يشترط كون الراوي معروف النسب، بل تقبل رواية من لا نسب له أصلاً، كالعبد وولد الزنا، إذا تحققت فيهم الشروط، وكذا تقبل رواية مجهول النسب بل أولى.
قوله: (ويقبل المحدود في القذف إن كان شاهداً) أي: من أقيم عليه حد القذف بسبب كونه قذف غيره تقبل روايته إذا كان قَذَفَهُ بلفظ الشهادة، مثل أن يشهد على إنسان بالزنا، وإنَّما قبلت روايته؛ لأن إقامة الحد عليه إنَّما هو لعدم كمال نصاب الشهادة بالزنا وهو أربعة، إذ لو كملوا لحُدَّ المشهود عليه دون الشهود، وعدم كمال نصاب الشهادة ليس من فعل هذا الشاهد المحدود حتى يعاقب برد روايته، فإن كان قذفه بغير لفظ الشهادة، مثل: (يا زانٍ، ونحوه) فإن روايته ترد حتى يتوب.(1/100)
والصحابة كلهم عدول بإجماع المعتبرين، والصحابي من صحبه ولو ساعة، أو رآه مؤمناً، وتثبت صحبته بخبر غيره عنه، أو خبره عن نفسه، وغير الصحابي لا بدّ من تزكيته كالشهادة، والرواية عنه تزكية، في رواية، بشرط أن يُعلم من عادة الراوي أو صريح قوله أنه لا يروي إلا عن عدل، والحكم بشهادته أقوى من تزكيته، والجرح: نسبة ما تُرَدُّ به الشهادة، وليس ترك الحكم بشهادته منه ، ويقبل ـ كالتزكية ـ من واحد، ولا يجب ذكر سببه، وعنه: بلى، وقيل: يُسْتَفْسَرُ غيرُ العالم، ويقدم على التعديل، وقيل: الأكثر، ...................................................
قوله: (والصحابة كلهم عدول) أي: فلا نتكلف البحث عن عدالتهم ولا طلب التزكية فيهم، وتقبل رواية الواحد منهم وإن كان مجهولاً، ولذلك قالوا: جهالة الصحابي لا تضر.
قوله: (بإجماع المعتبرين) أي: من أهل السنة، وليس المراد إجماع الكل، بل هو قول الجمهور، كما حكاه الآمدي؛ لأن هناك من قال: إنهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقاً، وقول آخر: إنهم عدول إلى وقوع الفتنة.. إلى غير ذلك من الأقوال الضعيفة؛ ولهذا قال: بإجماع المعتبرين، كأنه لم يعتدَّ بمن خالف، وقد حكى الإجماع ابن الصلاح وابن عبد البر[(278)].(1/101)
فالذي عليه جمهور سلف الأمة وجمهور الخلف أن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم فيما أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقوله سبحانه: {{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}} [التوبة: 100] ، وهم عدول ـ أيضاً ـ بدليل أن الله تعالى أثنى عليهم في آيات كثيرة. كقوله تعالى: {{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}} [الفتح: 29] وقوله: {{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ..} [آل عمران: 110] ، وقوله: {{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}} [الفتح: 18] .
ونصوص من السنة كحديث: (لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)[(279)].
وأمَّا الإجماع فكما ذكر المؤلف رحمه الله.
قوله: (والصحابي من صحبه ولو ساعة) اعلم أن معرفة الصحابة لها فوائد كثيرة؛ لأنهم الذين نقلوا سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس وحفظوها وبلغوها عنه، فهم خير القرون، وأفضل الأمم، ومن فوائد معرفتهم: معرفة المتصل من المرسل.
قوله: (من صحبه ولو ساعة) هذا قول جمهور المحدثين.(1/102)
وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله، كما قال أبو الخطاب، وهو أنه لا يشترط لثبوت الصحبة طول المدة، وذلك لأن الصاحب مشتق من الصحبة، والصحبة تعم القليل والكثير، يقال: صحبته ساعة، وصحبته يوماً وشهراً، وأكثر من ذلك. فكل من صحبه فهو من أصحابه، وله من الصحبة على قدر ما صحبه، وقد ذكر ابن عبد البر عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قوله: (أسلمت قبل موت النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بأربعين يوماً) وهو صحابي بالاتفاق[(280)].
قوله: (أو رآه) هذا معطوف على قوله: (من صحبه) أي: إن الصحابي من صحب النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم ولو لم يره كابن أم مكتوم رضي الله عنه، أو رآه ولو لم يجتمع به.
قال ابن الصلاح: (وهذا لشرف منزلة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، أعطوا كل من رآه حكم الصحبة)[(281)].
وقال الحافظ ابن حجر: (لا خفاء برجحان رتبة من لازمه صلّى الله عليه وسلّم وقاتل معه، أو قتل تحت رايته، على من لم يلازمه، أو لم يحضر معه مشهداً، وعلى من كلّمه يسيراً، أو ماشاه قليلاً، أو رآه على بعد، أو في حال الطفولة، وإن كان شرف الصحبة حاصلاً للجميع)[(282)].
وقال في مقدمة «الإصابة»: (وأطلق جماعة أن من رأى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم فهو صحابي، وهو محمول على من بلغ سنَّ التمييز، إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه، نعم، يصدق أن النبي رآه فيكون صحابياً من هذه الحيثية، ومن حيث الرواية يكون تابعياً)[(283)].
قوله: (مؤمناً) حال، أي: حالة كون الرائي أو الصاحب مؤمناً، وهذا قيد لإخراج من رآه وهو كافر، كأبي جهل وغيره، وقوله: (من صحبه أو رآه) يخرج من كان في زمنه وآمن ولم يصحبه، ولم يره كالنجاشي، فليس بصحابي.
وبقي على المؤلف قيد: (ومات على ذلك) ذكره الحافظ ابن حجر[(284)].(1/103)
ويرى بعضهم أنه لا حاجة له؛ لأنه قيد اتفاقي لا يضر خلو التعريف عنه؛ لأن مرادهم أن لا يظهر منه ردة، فمن ارتد ورجع فهو صحابي، كالأشعث بن قيس؛ فإنه ارتد بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم تاب، ومن مات على ردته فليس بصحابي، كعبد الله بن خطل، قتل يوم الفتح، وربيعة بن أمية بن خلف ارتد في زمن عمر رضي الله عنه ومات على الردة.
قوله: (وتثبت صحبته...) اعلم أن الطريق إلى معرفة الصحابي أمور:
1 ـ أن يعرف أنه صحابي عن طريق التواتر كالخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة وغيرهم من الصحابة المعروفين.
2 ـ الاستفاضة والشهرة ـ القاصرة عن التواتر ـ بأن هذا صحابي، كضمام ابن ثعلبة، وعكاشة بن محصن.
3 ـ أن يخبر غيره من الصحابة عنه أنه صحابي، كما شهد أبو موسى لحُمَمَة بن أبي حُمَمَة الدوسي بذلك[(285)].
4 ـ أن يخبر عن نفسه أنه صحابي بعد ثبوت عدالته، وذلك في زمن يمكن كونه صحابياً، وهو أن يكون موجوداً قبل السنة العاشرة من الهجرة.
والثالث والرابع يوجبان غلبة الظن، كما قال أبو الخطاب، لكن ذلك طريق مقبول؛ لأن ظاهر حال الصحابي العدالة، والعدالة تمنع الكذب[(286)].
واشترط الشوكاني أن تقوم القرائن الدالة على صدق دعواه[(287)]، ولعل مراده أن يكون معروف العدالة وثابت المعاصرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم[(288)]. والله أعلم.
قوله: (وغير الصحابي لا بد من تزكيته) التزكية: ثناء العدول المبرزين على الراوي بصفات العدالة، والصحابي لا يحتاج إلى تزكية لما تقدم، وكذا نص العلماء على أن من عرف بالعدالة لا يطلب له تزكية.
قوله: (كالشهادة) أي: إن الرواية كالشهادة لا بد فيها من التزكية.
قوله: (والرواية عنه تزكية...) هذا إشارة إلى ما تثبت به العدالة، فذكر منها شيئين:
1 ـ الحكم بشهادته.
2 ـ الرواية عنه.(1/104)
وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله فإذا روى الثقة عن شخص مجهول الحال، وكانت عادة الثقة أنه لا يروي إلا عن عدل، كانت روايته عن ذلك الشخص تعديلاً له، وإن لم يعرف أن عادته الرواية عن الثقة فليس بتعديل.
واختار ذلك الجويني، والغزالي، وابن الحاجب، والآمدي، وجماعة من الأصوليين[(289)]، وإليه يميل المصنف، قال الحافظ السخاوي: (وإليه ذهب جمع من المحدِّثين، وإليه ميل الشيخين، وابن خزيمة في صحاحهم، والحاكم في مستدركه، ونحوه قول الشافعي رحمه الله فيما يتقوى به المرسل: أن يكون المرسِلُ إذا سمى من روى عنه لم يسمِّ مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه)[(290)]. فإذا روى الإمام مالك أو يحيى بن سعيد القطان، أو سعيد بن المسيب، أو محمد بن سيرين عن شخص فهو ثقة؛ لأن الغالب في هؤلاء أن الواحد منهم لا يروي إلا عن الثقة، فيكون تعديلاً له.
والرواية الثانية: أن رواية الثقة عن شخص لا يكون تعديلاً له مطلقاً، سواء روى عنه من عُرِفَ بأنه لا يروي إلا عن ثقة أم لا، وهو قول أكثر الشافعية وابن حزم. قال ابن الصلاح: وهو الصحيح[(291)].
وقيل: تعديل مطلقاً. اختاره القاضي وأبو الخطاب والحنفية وبعض الشافعية[(292)].
قوله: (والحكم بشهادته أقوى من تزكيته) أي: إذا قضى قاض بشهادة شاهد كان ذلك تعديلاً له، وهذا أقوى من تزكيته وتعديله بالقول؛ لأنه فعل تضمن القول أو استلزمه بخلاف قوله: هو عدل، فهو قول مجرد.
قوله: (والجرح نسبة ما ترد به الشهادة) أي: أن ينسب إلى الشخص ما يوجب رد شهادته كأن يُثبت له صفة رد، أو ينفي عنه صفة قبول. مثل: كذاب، فاسق، ضعيف، ليس بثقة، لا يعتبر، لا يكتب حديثه.
قوله: (وليس ترك الحكم بشهادته منه) الضمير يعود إلى الجرح، أي: أن ترك الحكم بشهادته ليس جرحاً له؛ لاحتمال وجود سبب لترك العمل بشهادته غير الفسق، كعداوة أو تهمة قرابة، ونحو ذلك مما ترد به الشهادة، كما هو مدون في كتب الفقه.(1/105)
قوله: (ويقبل كالتزكية من واحد) أي: إن الجرح يقبل من شخص واحد، وكذلك التزكية، قال في «شرح الكوكب المنير»: (عند الأئمة الأربعة وأكثر العلماء، بشرط ألا يكون عنده تساهل في التعديل أو مبالغة في الجرح) [(293)]، وقال ابن حجر: (على الأصح)[(294)].
وذلك لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في تعديل المخبر.
قوله: (ولا يجب ذكر سببه) أي: لا يجب ذكر سبب الجرح بل يكفي مجرد قوله: هو فاسق ـ مثلاً ـ وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله؛ لأن أسباب الجرح معلومة، فالظاهر أنه لا يَجْرحُ إلا بما يعلمه.
قوله: (وعنه: بلى) : هذه الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وهي أنه لا بد من ذكر سبب الجرح، فيقول ـ مثلاً ـ: هو فاسق؛ لأنه يشرب الخمر، وهو قول الشافعية والحنفية وأكثر المحدثين، ومنهم البخاري ومسلم.. وذلك لأمرين:
1 ـ لأن الجرح يحصل بأمر واحد، وهو لا يشق ذكره.
2 ـ لأن الناس مختلفون في أسباب الجرح، فقد يطلق أحدهم الجرح بناء على ما اعتقده جرحاً وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه لينظر هل هو قادح أو لا؟ كمن رأى إنساناً يبول قائماً فيبادر بجرحه، وقد يكون معذوراً.
ولهذا احتج البخاري بجماعة سَبَقَ من غيره جَرْحُهُمْ، كعكرمة مولى ابن عباس، وعمرو بن مرزوق الباهلي، وغيرهما، كما ذكر ذلك ابن حجر في المقدمة[(295)].
قوله: (وقيل: يُسْتَفْسَرُ غير العالم) هذا القول الثالث، وهو قبول الجرح من غير بيان سببه، إذا كان الجارح عالماً بأسباب الجرح والتعديل والخلاف في ذلك، مرضياً في اعتقاده وأفعاله، أمَّا غير العالم فلا بد أن يبين السبب، وهذا قول وجيه يضاف إليه قيد آخر، وهو أن من علمت عدالته فلا يقبل جرحه إلا ببيان السبب إذا كان الجارح من أهل العلم بذلك[(296)].(1/106)
ومما يدل على وجاهة هذا القول أن كتب الجرح والتعديل التي ألفها الأئمة الثقات الذين رزقهم الله تعالى بُعْدَ النظر، وسداد التفكير والرسوخ في الدين والورع، أقول: معظم الجرح فيها مبهم لم يبين سببه، فإذا أخذنا بالقول الثاني وهو أنه لا بد من بيان السبب لم يكن لهذه الكتب فائدة، بل نتوقف في الراوي المجروح حتى تزاح الريبة عنه ويتبين سبب الجرح.
وللحافظ الذهبي كلمة جامعة في هذا الموضوع، قال فيها: (إن قولهم: لا يقبل الجرح إلا مفسَّراً، إنَّما هو أيضاً في جرح من ثبتت عدالته واستقرت، فإذا أراد رافعٌ رفعها بالجرح قيل له: ائت ببرهان على هذا، أو فيمن لم يُعرف حاله، ولكن ابتدره جارحان ومزكيان، فيقال إذ ذاك للجارحين: فسرا ما رميتماه به، أما من ثبت أنه مجروح فيقبل قول من أطلق جرحه؛ لجريانه على الأصل المقرر عندنا، ولا نطالبه بالتفسير؛ إذ لا حاجة إلى طلبه)[(297)].
وقد يفهم من كلام المؤلف أن العلم بأسباب الجرح والتعديل شرط في الجرح المبهم، وهذا غير مراد، لأن شروط الجرح والتعديل معتبرة، دون التفات لبيان السبب أو عدمه.
قوله: (ويقدم على التعديل) أي: يقدم الجرح على التعديل، وهذا إذا تعارض الجرح والتعديل، وهو أن يذكر الراوي بما يوجب رد روايته وبما يوجب قبولها، كأن يقول بعض العلماء: فلان ثقة. ويقول آخرون: إنه ضعيف، فيقدم الجرح على التعديل؛ لأن الجارح معه زيادة علم لم يطلع عليها المعدل، وهذا إذا كان كل من الجرح والتعديل مفسَّرين، أي: مبيَّناً فيهما سبب الجرح والتعديل، إلا أن يقول المعدل: أنا أعلم أن السبب الذي جرحه به قد زال فيؤخذ بالتعديل؛ لأن مع قائله زيادة علم، وهكذا لو كان الجرح مفسراً والتعديل مبهماً لما ذُكِرَ، أمَّا إن كان الجرح مبهماً والتعديل مفسراً فيؤخذ بالتعديل لرجحانه.(1/107)
فإن كانا مبهمين أخذ بالأرجح منهما، إمَّا في عدالة قائله، أو في معرفته بحال الشخص، أو بأسباب الجرح والتعديل، أو في كثرة العدد.
قوله: (وقيل: الأكثر) هذا القول الثاني، وهو أن يُقَدَّمَ الأكثر من الجارحين والمعدلين، فإن زاد عدد المعدل على عدد الجارح قدم قول المعدل؛ لأن الكثرة تُقَوِّي الظن، والعمل بأقوى الظنين واجب، وقد علمت أن في المسألة تفصيلاً، والله أعلم.
والخلاف السابق يجري فيما إذا كان الخلاف معتبراً، أما إن كان ضعيفاً، كجرح من ثبتت إمامته وعدالته، وكَثُرَ مادحوه، وندر جارحوه، كالبخاري ومالك ونحوهما فإنه لا يقبل، كما لا يقبل التعديل فيمن اشتهر بما يوجب رد روايته من كذب أو فسق ظاهر ونحوهما.
و[أما] ألفاظ الرواية، فمن الصحابي خمسة:
قوله: (وأمَّا ألفاظ الرواية فمن الصحابي خمسة) شرع المصنف رحمه الله في بيان ألفاظ الرواية، وبيانها من مباحث السنة لاختلاف الأحكام باختلاف مراتب الرواية وألفاظ الرواة، وقوله: (الرواية) أي: نقل الحديث، والراوي: إمَّا أن يكون صحابياً أو غيره، فذكر هنا ألفاظ الرواية من الصحابي ومراتبها.
أقواها: سمعته، أو أخبرني، أو شافهني، ثم قال: كذا؛ لاحتمال سماعه من غيره، ثم أمر، أو نهى، ثم أُمرنا، أو نُهينا؛ لعدم تَعَيُّن الآمر، ومثله: من السنّة، ثم كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، فإن أضيف إلى زمنه فحجة، لظهور إقراره عليه.
قوله: (أقواها) أي: أعلاها في الاحتجاج.
قوله: (سمعته أو أخبرني أو شافهني) هذه المرتبة الأولى ، وإنما كان هذا أقوى الألفاظ؛ لأنه يدل على عدم الواسطة بينهما قطعاً.
قال الجوهري: المشافهة: المخاطبة من فيك إلى فيه [(298)].
قوله: (ثم قال: كذا) هذه المرتبة الثانية ، ومثلها: فعل كذا، وهذه أقل من الأولى؛ لأنه يحتمل سماعه منه مباشرة، ويحتمل سماعه من غيره.(1/108)
والراجح حمله على عدم الواسطة؛ لأن الظاهر أنه سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيكون حكماً شرعياً يجب العمل به.
قوله: (ثم أمر، أو نهى) هذه المرتبة الثالثة ، وإنَّما كانت دون الثانية لاشتراكهما في احتمال الواسطة، واختصاصها باحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أمراً، وأيضاً فليس فيه لفظ يدل على أنه أَمَرَ الكل أو البعض دائماً أو غير دائم.
والصحيح أنهما في حكم المرفوع؛ لأن الظاهر من حال الصحابي أنه لم يصرح بنقل ذلك إلا بعد جزمه بوجود حقيقته، ومعرفة الأمر مستفادةٌ من اللغة، وهم أهلها فلا يخفى عليهم ذلك، وعدالة الصحابي تمنعه من أن ينقل عن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم الأمر فيما ليس بأمر.
قوله: (ثم أُمرنا أو نُهينا) هذه المرتبة الرابعة ، وهي بضم أوله مبنياً للمجهول، وهذه في الدلالة دون ما قبلها، لاحتمال الواسطة، ولاحتمال اعتقاد ما ليس بأمر ولا نهي أمراً أو نهياً.
قوله: (لعدم تعين الآمر) أي: ومع الاحتمالين السابقين يحتمل أمر ثالث. وهو أن الآمر غير النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، كأن يكون الخليفة، ولكنه احتمال ضعيف؛ لأن قول الصحابي: (أُمرِنا أو نُهِينا) محمول على صدوره ممن له الأمر والنهي، وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لكون الصحابي يذكر ذلك في مقام الاستدلال والاحتجاج[(299)].
قوله: (ومثله: من السنّة) أي: بأن يقول الصحابي عن شيء: إنه من السنة، كقول عمر رضي الله عنه: (من السنّة الأخذ بالرُّكَبِ)[(300)] أي: في الركوع، فهذا من المرفوع حكماً؛ لأن الظاهر انصراف ذلك إلى سنة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، لا سيما إذا قاله مثل عمر رضي الله عنه فإن المقصود من ذلك بيان الشرع، فيحمل على من يصدر منه الشرع، دون الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.(1/109)
وهذه الدرجة دون ما قبلها؛ لكثرة استعمال السنة في الطريقة؛ ولأن السنة لفظ متردد بين سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسنة الخلفاء الراشدين، لكن الأظهر حمله على سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن سنة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أصل وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنته؛ ولأن ذلك هو المتبادر من إطلاق لفظ السنة، فكان الحمل عليه أولى[(301)].
ومما يؤيد ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه، من حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: (إن كنت تريد السنة فهجّر بالصلاة يوم عرفة).
قال ابن شهاب: فقلت لسالم: أفَعَله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: وهل يتَّبعون بذلك إلا سنته صلّى الله عليه وسلّم[(302)]؟!
قوله: (ثم كنا نفعل، أو كانوا يفعلون) هذه المرتبة الخامسة ، وهي أن يقول الصحابي: كنا نفعل كذا، أو كانوا يفعلون كذا، ولا يضيفه إلى زمن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، فهذا يكون موقوفاً، على أحد الأقوال، ومثاله: قول أبي سعيد رضي الله عنه: (كنا نطعم الصدقة ـ أي صدقة الفطر ـ صاعاً من شعير)[(303)] وقول ابن عمر رضي الله عنهما: (كانوا يعطون ـ أي زكاة الفطر ـ قبل الفطر بيوم أو يومين)[(304)].
قوله: (فإن أضيف إلى زمنه فحجة؛ لظهور إقراره عليه) أي: إن قول الصحابي: كنا نفعل ـ إذا أضيف إلى زمن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم ـ فهو حجة؛ لأن ظاهر ذلك مشعر بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اطلع على ذلك وقررهم عليه، والتقرير أحد أنواع السنة، كما تقدم[(305)].
وما ذكره المصنف رحمه الله من هذا التفصيل هو قول الجمهور من المحدثين وأصحاب الفقه والأصول، كما ذكر ذلك النووي في «شرحه لمقدمة صحيح مسلم»[(306)].(1/110)
ويدل عليه: احتجاج جابر رضي الله عنه على جواز العزل بفعلهم له في زمن نزول الوحي، فقال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) قال سفيان: لو كان شيء يُنهى عنه لنهى عنه القرآن، وهذا الاستدلال واضح؛ لأن الزمان هو زمان التشريع[(307)].
وقال أبو الخطاب: (كانوا يفعلون) نقل للإجماع، خلافاً لبعض الشافعية، ويقبل قوله: هذا الخبر منسوخ، عند أبي الخطاب، ويرجع إليه في تفسيره.
قوله: (وقال أبو الخطاب: «كانوا يفعلون» نقل للإجماع) أي: إن الراوي إذا قال عن الصحابة: كانوا يفعلون كذا، فهو نقل للإجماع؛ لأن الراوي لا يقول ذلك إلا ويقصد به إقامة الحجة، فيجب أن يحمل على مَنْ قولهم حجة، وهو الإجماع[(308)].
ومثلوا لذلك بقول عائشة رضي الله عنها: (كانوا لا يقطعون في الشيء التافه)[(309)].
قوله: (خلافاً لبعض الشافعية) أي: فإنهم قالوا: إن هذه الصيغة لا تفيد إضافة الفعل المحكي إلى جميع أهل الإجماع من ذلك العصر، ما لم يصرح بنقل الإجماع عن أهله.
والظاهر أن هذا ليس نقلاً للإجماع، بل هو من المرفوع حكماً؛ إذ لا إجماع في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الدليل حصل بسنته من قول أو فعل أو تقرير[(310)].
قوله: (ويقبل قوله: هذا الخبر منسوخ، عند أبي الخطاب) أي: إن أبا الخطاب يذهب إلى أنه يقبل قول الصحابي: هذا الخبر منسوخ، إذا كان الخبر يتضمن حكماً، وذلك لأن الصحابي عدل لا يقول ذلك إلا عن يقين، وهو أعلم بقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومقاصده منا، فإذا نصَّ على الإخبار بالنسخ نصاً جازماً حمل على علمه به[(311)].
قوله: (ويرجع إليه في تفسيره) أي: يرجع إلى الصحابي في تفسير الخبر الذي رواه إذا كان الخبر مجملاً؛ لأنه أولى من غيره؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم حضروا التنزيل، وعرفوا التأويل، وهم أعرف بمراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لكونهم معه.(1/111)
ومثاله: ما روي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذهب بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ» [(312)]، وفسر عمر رضي الله عنه قوله: «هاء وهاء» بالتقابض في المجلس، حيث قال لأحد المتصارفين: «والله لا تفارقه حتى تأخذ منه» كما في سياق الحديث.
ولغيره مراتب: أعلاها: قراءة الشيخ عليه في مَعْرِضِ الإخبار فيقول: «حدثني» أو «أخبرني» و«قال» و«سمعته»، ثم قراءته على الشيخ. فيقول الشيخ: نعم، أو يسكت، خلافاً لبعض الظاهرية، فيقول: «أخبرنا» أو «حدثنا» قراءةً عليه، لا بدونه، في رواية، وليس له إبدال إحدى لفظتي الشيخ: حدثنا، أو أخبرنا بالأخرى، في رواية.
قوله: (ولغيره مراتب: أعلاها قراءة الشيخ عليه في مَعْرِضِ الإخبار) .
لما ذكر ألفاظ الرواية التي يستعملها الصحابي في نقل الحديث، ذكر ألفاظ الرواية لغير الصحابي، كالتابعي ومن بعده، فأعلاها: قراءة الشيخ على التلميذ ـ وهو الراوي عنه ـ، وإنَّما كانت القراءة على التلميذ أعلاها؛ لأنه يسمع لفظ الشيخ، وأعلى السماع ما كان يسمعه التلميذ إملاءً من شيخه؛ لما فيه من التثبت والتحفظ[(313)]، وقوله: (في معرض الإخبار) أي: إن الشيخ قصد من القراءة إخبار تلميذه بمروياته ليروي عنه، ليخرج بذلك من سمع الشيخ يقرأ محفوظه، كما يخرج منه حال المذاكرة فقد نصوا على التسامح فيها.
قوله: (فيقول: «حدثني» أو «أخبرني» و«قال» و«سمعته») هذه صيغ الأداء التي يؤدي بها الحديث في مرتبة قراءة الشيخ على التلميذ، وهذا إذا سمع وحده، فإن كان معه غيره قال: حدثنا... وسمعنا... وهذا التفريق عزاه الحاكم إلى أكثر مشايخه، وأئمة عصره، ونقله الترمذي بسنده عن ابن وهب، قال الخطيب في «الكفاية»: (هذا هو المستحب، وليس بواجب عند كافة أهل العلم)[(314)].(1/112)
قوله: (ثم قراءته على الشيخ، فيقول الشيخ: نعم) هذه المرتبة الثانية من مراتب تحمل الحديث، وهي أن يقرأ على الشيخ، فإذا قرأ عليه مروياته، وقال: «نعم» فله الرواية عنه؛ لأن هذا ظاهر في أن رواية الشيخ للحديث صحيحة.
قوله: (أو يسكت) أي: إن سكوت الشيخ عند القراءة عليه إقرار، بشرط ألا يكون سكوته لغفلة أو نوم ونحوهما.
قوله: (خلافاً لبعض الظاهرية) حيث قالوا: لا بد أن ينطق الشيخ بصحة ما قرئ عليه، والصحيح ما ذكر المصنف من أن السكوت كافٍ في الصحة؛ لأن العرف قاضٍ بأن السكوت تقرير في مثل هذا.
وتسمى هذه المرتبة: العرض؛ لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه.
قوله: (فيقول: «أخبرنا» أو «حدثنا» قراءة عليه لا بدونه، في رواية) هذه رواية في المذهب، وهو أنه لا بد أن يقيد ولا يطلق؛ لأنه يوهم السماع من لفظ الشيخ، وهو كذب في الرواية، فلا يجوز، وظاهر عبارة المصنف أن التقييد راجع للصيغتين، وهذا قول أحمد والنسائي وابن المبارك وغيرهم.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد أنه يقول: أخبرنا أو حدثنا، بدون لفظة (قراءةً عليه) لأن سكوت الشيخ مع عدم المانع عند قراءة الراوي عليه، هو في معنى سماع الراوي من لفظ الشيخ، وهو قول مالك، والزهري، وهو مذهب البخاري، وابن معين، وأهل الحجاز وأهل الكوفة، وفي المسألة قول ثالث وهو: جواز إطلاق لفظ (أخبرنا) والمنع من إطلاق (حدثنا) وهو رأي مسلم والشافعي وجمهور أهل المشرق[(315)]، وكلام المصنف يحتمل ذلك بأن يعود القيد إلى اللفظة الثانية دون الأولى، لكن يشكل عليه قوله: (في رواية) .(1/113)
قوله: (وليس له إبدال إحدى لفظتي الشيخ: حدثنا أو أخبرنا بالأخرى، في رواية) أي: لا يجوز للراوي إبدال قول الشيخ: حدثنا، بقول الراوي: أخبرنا، وعكسه، لاحتمال أن يكون الشيخ لا يرى التسوية يبن اللفظين، فيكون كذباً عليه[(316)]، وقوله: (في رواية) أي: عن الإمام أحمد، والرواية الثانية: الجواز، وذلك أن حدثني وأخبرني يُؤدى بهما ما سُمع من الشيخ، وهذا رأي البخاري، فإنه قال: (باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا، وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت، واحداً..)، قال الحافظ ابن حجر: (وإيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه مختاره)[(317)].
ثم الإجازة، فيقول: أجزت لك رواية الكتاب الفلاني، أو مسموعاتي. والمناولة، فيناوله كتاباً، ويقول: اروه عني، فيقول: أنبأنا، وإن قال: أخبرنا؛ فلا بدّ من إجازةٍ أو مناولةٍ، وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف منع الرواية بهما. ولا تجوز الرواية بقوله: «هذا الكتاب سماعي» بدون إذنه فيها ، ولا وجوده بخطه، بل يقول: وجدت كذا.
قوله: (ثم الإجازة) هذه المرتبة الثالثة من مراتب تحمل الحديث، وهي الإجازة، ومعناها: أن يأذن الشيخ بالرواية عنه، سواء أذن له لفظاً أو كتابة.
قوله: (فيقول: أجزت لك رواية الكتاب الفلاني أو مسموعاتي) هذه صفة الإجازة؛ لأن المجاز به لا بد أن يكون معلوماً، إما بالتعيين مثل: أجزت لك أن تروي عني صحيح البخاري، وإمَّا بالتعميم مثل: أجزت لك أن تروي عني جميع مسموعاتي، أي: مروياتي، فكل ما ثبت عنده أنه من مروياته صح أن يحدث به عنه، بناءً على هذه الإجازة العامة، ومفهومه: أنه إن كان المجاز به مبهماً لم تصح الرواية بها، مثل: أجزت لك أن تروي عني بعض صحيح البخاري، أو بعض مروياتي؛ لأنه لا يعلم المجاز به[(318)].(1/114)
قوله: (والمناولة...) المناولة: نوع من الإجازة، والإجازة لا يشترط فيها أن يناوله الكتاب، لكن الإجازة شرط في المناولة، فإذا اجتمعت الإجازة والمناولة صار ذلك أعلى درجات الإجازة؛ لما فيها من التعيين والتشخيص.
قوله: (فيناوله كتاباً ويقول: اروه عني، فيقول: أنبأنا) هذه صفة المناولة مع شرطها، وهو اقترانها بالإذن في الرواية، وصورة ذلك: أن يدفع الشيخ أصله، أو ما قام مقامه للطالب، ويقول الشيخ له: هذه روايتي عن فلان فاروه عني، فيقول التلميذ عند الأداء: أنبأنا فلان، وهذا في اصطلاح المتأخرين، حيث خصوا الإجازة بهذا، وإلا فإن لفظ (أنبأنا) كلفظ (حدثنا وأخبرنا) كما تقدم في كلام ابن عيينة وغيره[(319)].
قوله: (وإن قال: أخبرنا؛ فلا بد من إجازة أو مناولة) أي: لا بد أن يقول: أخبرني إجازةً أو مناولةً؛ لأنه لو اقتصر على قوله: (أخبرني) لأشعر بالسماع منه، وهو كذب، فلا بد أن يبين صورة الإذن.
قوله: (وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف منع الرواية بهما) أي: بالإجازة والمناولة، وهذا محمول على غير العالم بما في الكتاب، كما نص عليه الأصوليون من الحنفية، أمَّا العالم فتجوز له الرواية بالإجازة والمناولة
[(320)].
قوله: (ولا تجوز الرواية بقوله: «هذا الكتاب سماعي» بدون إذنه فيها) أي: لأن جواز الرواية إنَّما يستفاد من الإذن فيها، وهو مفقود هنا، ولجواز معرفة الشيخ بخلل في الكتاب يمنع من الرواية.
قوله: (ولا وجوده بخطه) أي: لو وجد شيئاً بخط شيخه فإنه لا يرويه عنه، لكن يجوز أن يقول: وجدت بخط فلان كذا وكذا، وهذه تسمى عند المحدثين: الوجادة، بكسر الواو.
ومتى وجد سماعه بخط يوثق به، وغلب على ظنه رواه وإن لم يذكره، خلافاً لأبي حنيفة، وإن شك فلا، فإن أنكر الشيخ الحديث، وقال: لا أذكره، لم يقدح، ومنع الكَرْخِيُّ منه، ولو زاد ثقة فيه لفظاً أو معنى قبلت.(1/115)
قوله: (ومتى وجد سماعه بخط يوثق به وغلب على ظنه رواه وإن لم يذكره) أي: ومن وجد سماعه من شيخه بخط يوثق به، وغلب على ظنه أنه سمع منه هذا الحديث، جاز له أن يرويه اعتماداً على الخط، وإن كان ناسياً للسماع؛ لأن مبنى الرواية على حسن الظن وغلبته، وقد وجد ذلك هنا، فيجوز الاعتماد عليه.
قوله: (خلافاً لأبي حنيفة) حيث قال: لا يجوز ذلك، قياساً على الشهادة، فإنه لو وَجَدَ شهادة بخط فَشَكَّ وتردد فيها، لا يجوز له أن يشهدها؛ لأنه لا بد من الجزم والعلم، وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: أن الشهادة تصح اعتماداً على الخط الموثوق به، وإن لم يتذكرها على إحدى الروايتين.
الثاني: أن الشهادة أضيق من الرواية؛ لأنها آكد منها، وبينهما فروق كثيرة[(321)] فيمتنع القياس.
قوله: (وإن شك فلا) أي: إذا شك في سماع حديث من شيخه لم يجز أن يرويه عنه، لأن روايته عنه شهادة عليه، فلا يشهد بما لم يغلب على ظنه.
قوله: (فإن أنكر الشيخ الحديث وقال: لا أذكره، لم يقدح) أي: فإن أنكر الشيخ الحديث بدون جزم بأن قال: لا أذكره، أو لا أعرفه، قُبل الحديث، ولم يقدح ذلك فيه؛ لأن الراوي عدل جازم بالرواية، والنسيان غالب على الإنسان.
قال ابن الصلاح: (ومن روى حديثاً ثم نسيه لم يكن ذلك مسقطاً للحديث، وجاز العمل به عند جمهور أهل الحديث، وجمهور الفقهاء والمتكلمين...؛ لأن المروي عنه بصدد السهو والنسيان، والراوي عنه ثقة جازم، فلا يُرد بالاحتمال روايته)[(322)].
ومن أمثلة ذلك: ما ورد من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد.
قال عبد العزيز: فلقيت سهيلاً فسألته عنه، فلم يعرفه، فقلت: إن ربيعة حدثني عنك بكذا، فكان سهيل بعد ذلك يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي به[(323)].(1/116)
فإن كان الشيخ جازماً بأن قال: كَذَبَ عليَّ، أو ما رويت هذا، ونحو ذلك رُدَّ الحديث. لكذب واحد منهما لا بعينه، ولا يكون ذلك قادحاً في واحد منهما، للتعارض.
قوله: (ومنع الكرخي[(324)] منه) أي: إن الكرخي ـ من الحنفية ـ منع من قبول الحديث إذا نسيه الشيخ؛ لأن الفرع تبع للأصل في إثبات الحديث بحيث إذا ثبت أصل الحديث، ثبتت رواية الفرع، وإذا نفاه الأصل، تنتفي رواية الفرع له.
وهذا مردود بأن عدالة الفرع تقتضي صدقه، وكون الأصل متردد لا ينفي جزم الفرع؛ لأن الجزم مقدم على الترديد[(325)].
قوله: (ولو زاد ثقة فيه لفظاً أو معنى قبلت) الزيادة في الحديث أن يضيف أحد الرواة إلى الحديث ما ليس منه، ومعنى ذلك: أن يروي جماعة حديثاً واحداً بإسناد واحد ومتنٍ واحد، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة[(326)]، وقوله: (ثقة) هذا شرط في قبول الزيادة. فإن كان غير ثقة لم تقبل، لأنه لا يقبل ما انفرد به فما زاد على غيره أولى بالرد.
وظاهر كلام المصنف ـ كغيره من الأصوليين ـ أن زيادة الثقة تقبل مطلقاً. وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر لا خلاف في قبولها إذا صح السند إليه[(327)]. وأما الزيادة التي يبحث فيها أهل الحديث فهي زيادة بعض الرواة من التابعين فمن بعدهم، والقول الوسط فيها: أنها تقبل ممن يكون حافظاً متقناً حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك، فإن كانوا أكثر عدداً منه، أو كان فيهم من هو أحفظ منه، أو كان غير حافظ ولو كان في الأصل صدوقاً فإن زيادته لا تقبل[(328)]. وأما القول بأن الزيادة تقبل مطلقاً فإن ذلك لا يتأتى على طريقة المحدِّثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه[(329)].(1/117)
وقوله: (لفظاً أو معنى) أي: إن الزيادة تارة تكون لفظية، وتارة تكون معنوية، وقد مثَّل بعض الأصوليين[(330)] للزيادة اللفظية بحديث: (ربنا ولك الحمد)[(331)]، قال: فإن الواو زائدة في اللفظ لا في المعنى، ومثَّل للزيادة المعنوية بحديث: (فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حرٍّ أو عبدٍ ذكرٍ أو أنثى من المسلمين)[(332)]. فقوله: (من المسلمين) زيادة معنوية، تفيد معنى زائداً[(333)].
وعندي أن في المثالين نظراً، لأن الزيادة في اللفظ زيادة في المعنى، والواو في المثال الأول لها فائدة، فهي عاطفة، والتقدير: ربنا استجب ولك الحمد، فاشتمل على الدعاء، وعلى الخبر. كما ذكره ابن دقيق العيد[(334)]، ولفظة (من المسلمين) في المثال الثاني أفادت أن زكاة الفطر لا تجب على الكافر[(335)].
والظاهر أن الزيادة المعنوية اشتمال لفظ أحدهما على معنى زائد، وربما كان هذا اللفظ دون الأول في القدر، كأن يروي الثقة لفظة عموم فيها حكم زائد، ويروي الآخرون لفظة فيها إسقاط ذلك الحكم[(336)]. كما روى بعض العدول عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النهي عن آنية الفضة[(337)]. وروى آخرون النهي عن الشرب في آنية الفضة[(338)]. فلفظة الشرب ناقصة عن معنى الحديث الأول الذي فيه تعميم النهي، وهو وإن كان ناقص اللفظ فهو زائد الحكم والمعنى؛ لأنه يفيد النهي عن استعمال آنية الفضة مطلقاً في الشرب وغيره.
ومن الأمثلة على الزيادة: حديث عمر رضي الله عنه أنه سمع النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» . فقد رواه مسلم من طريقين، وفي إحدهما زيادة: «وحده لا شريك له» بعد قوله: «إلا الله» [(339)].(1/118)
فإن اتحد المجلس، فالأكثر: عند أبي الخطاب، والمُثْبِتُ: مع التساوي في العدد والحفظ والضبط، وقال القاضي: روايتان، ولا يتعين لفظه، بل يجوز بالمعنى لعالم بمقتضيات الألفاظ عند الجمهور، فيبدل اللفظ بمرادفه، لا بغيره. ومنع منه بعض المحدثين مطلقاً.
قوله: (فإن اتحد المجلس فالأكثر عند أبي الخطاب) أي: فإن اتحد مجلس الحديث بأن كان مجلساً واحداً ووقعت الزيادة فيه من بعض الرواة، قدّم قول الأكثر، سواء كانوا رواة الزيادة أم غيرهم، تغليباً لجانب الكثرة[(340)]، ومفهومه أنه إن تعدد المجلس قبلت الزيادة مطلقاً، قال الشوكاني: «بالاتفاق»[(341)].
قوله: (والمثبت مع التساوي في العدد والحفظ والضبط) أي: إذا تساوى رواة الزائد والناقص، في العدد (أي: الكثرة) والحفظ والضبط، فإنه يقدم من أثبت الزيادة، لا من نفاها.
قوله: (وقال القاضي: روايتان) أي: إن القاضي أبا يعلى ذكر أن الرواة إذا تساووا في الكثرة والحفظ والضبط، واختلفوا في الزيادة، ففيها روايتان عن الإمام أحمد:
الأولى: يقدم قول المثبت؛ لإخباره بزيادة علم، قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله عن مسألة في فوت الحج فقال: فيها روايتان: إحداهما: فيها زيادة دم، قال أبو عبد الله: والزائد أولى أن يؤخذ به...[(342)].
والرواية الثانية: يقدم قول النافي، لأن الأصل عدم الزيادة، قال في رواية أبي طالب: كان الحجاج بن أرطاة من الحفاظ، قيل له: فَلِمَ هو عند الناس ليس بذاك؟ قال: (لأن في حديثه زيادةً على حديث الناس، ما يكاد له حديث إلا فيه زيادة)[(343)].
ووجه الدلالة: أن الإمام اعتبر الانفراد بالزيادة جرحاً[(344)].
والظاهر أن هذا التفصيل لا طائل تحته؛ لعدم إمكان تطبيقه في المرويات، وتحقيق هذه المسألة هو ما تقدم، والله أعلم.(1/119)
قوله: (ولا يتعين لفظه، بل يجوز بالمعنى) أي: لا يتعين لفظ الحديث، بل يجوز للراوي أن يرويه بالمعنى، وهذا في غير المتعبد بلفظه، كالأذان، والإقامة والتشهد، وتكبير الصلاة، ونحوها، فهذه لا يجوز نقلها بالمعنى، ولا ريب أن أفضل أحوال الرواية وأكملها أن يرويه باللفظ الذي سمع، لكن هل تجوز الرواية بالمعنى؟ قولان:
قوله: (لعالم بمقتضيات الألفاظ عند الجمهور...) هذا القول الأول ، وهو الجواز، وشرطه: أن يكون الراوي عالماً بمقتضيات الألفاظ، يعرف الفرق بينها من جهة الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص، ويعرف الألفاظ المترادفة، فيبدل قوله: (سَجْلاً من ماء) بقوله: (ذَنُوباً من ماء) أو (دلواً مَلاْئَ) ونحو ذلك.
وحجة الجمهور: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمعون الأحاديث ولا يكتبونها، ثم يروونها بعد السنين الكثيرة، وهذا قد لا تنضبط فيه العبارة نفسها، ولأن أحاديث كثيرة وقعت بعبارات مختلفة، وذلك مع اتحاد القصة، وهو دليل على جواز النقل بالمعنى؛ ولأنه غير متعبد بلفظه، والمقصود منه المعنى[(345)].
قوله: (ومنع منه بعض المحدثين مطلقاً) هذا القول الثاني ، وهو: المنع من الرواية بالمعنى مطلقاً أي: سواء كان عالماً بمقتضيات الألفاظ أم لا، وهو قول ابن سيرين، وعلي بن المديني، والقاسم بن محمد، والقاضي عياض، وجزم القاضي أبو بكر بن العربي بأنه إنَّما يجوز ذلك للصحابة دون غيرهم، لما هم عليه من الفصاحة والبلاغة، إذ جبلَّتُهم عربية، ولغتهم سليقة؛ ولأنهم شاهدوا قول النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم وفعله، فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة، واستيفاء المقصد كله...[(346)].
وحجتهم: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «نضّر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فَرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع» [(347)].(1/120)
وأجيب عنه: بأن المراد تبليغ الحكم، بدلالة السياق، أو يقال: إن هذا الحديث لا يعارض جواز نقل الحديث بالمعنى، لأن من أتى بالمعنى بتمامه، فقد أداه كما سمعه، والله أعلم.
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: (إن هذا الخلاف لا طائل تحته الآن، فقد استقر القول في العصور الأخيرة على منع الرواية بالمعنى عملاً، وإنْ أخذ بعض العلماء بالجواز نظراً، قال القاضي عياض: (ينبغي سد باب الرواية بالمعنى، لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن، كما وقع للرواة قديماً وحديثاً).
والمتتبع للأحاديث يجد أن الصحابة أو أكثرهم كانوا يروون بالمعنى، ويعبرون عنه في كثير من الأحاديث بعباراتهم، وأن كثيراً منهم حرص على اللفظ النبوي خصوصاً فيما يتعبد بلفظه كالتشهد.
وكذلك نجد التابعين حرصوا على اللفظ وإن اختلفت ألفاظهم، فإنَّما مرجع ذلك إلى قوة الحفظ وضعفه، ولكنهم أهل فصاحة وبلاغة.. وأمَّا من بعدهم فإن التساهل عندهم في الحرص على الألفاظ قليل، بل أكثرهم يحدث بما سمع... وأمَّا الآن فلن ترى عالماً يجيز لأحد أن يروي الحديث بالمعنى، إلا على وجه التحدث في المجالس، وأمَّا الاحتجاج وإيراد الأحاديث رواية فلا...)[(348)].
ومراسيل الصحابة مقبولة، وقيل: إن عُلِمَ أنه لا يروي إلا عن صحابي، وفي مراسيل غيرهم روايتان: القبول، كمذهب أبي حنيفة وجماعة من المتكلمين، اختارها القاضي، والمنع، وهو قول الشافعي، وبعض المحدثين، والظاهرية.
قوله: (ومراسيل الصحابة مقبولة) مرسل الصحابي: هو ما أخبر به الصحابي عن قول النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أو فعله، ولم يسمعه أو يشاهده؛ إما لغيابه، أو لكونه لم يدرك زمانه؛ لصغر سنه، أو لتأخر إسلامه.
ومثاله: قول عائشة رضي الله عنها: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فَلَقِ الصبح.. الحديث)[(349)].(1/121)
فهذا مرسل؛ لأن عائشة لم تدرك هذه القصة، فتكون قد سمعتها من النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أو من الصحابي[(350)]؛ لأنها ولدت بعد البعثة بأربع سنين أو خمس، كما في «الإصابة»[(351)].
ومثاله ـ أيضاً ـ: ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير أنه خطب فقال: قال محمد صلّى الله عليه وسلّم: «من لبس الحرير في الدنيا لن يلبسه في الآخرة» [(352)]، فهذا مرسل؛ لأن ابن الزبير ولد عام الهجرة، كما في «الإصابة» ـ أيضاً ـ[(353)].
وقول المصنف: (مقبولة) هذا قول الجمهور، وهو أنها حجة، قال الحافظ ابن حجر: (وهو الذي عليه عمل أئمة الحديث)[(354)].
وحجة هؤلاء: أن مرسل الصحابي موصول مسند؛ لأن روايتهم غالباً عن الصحابة، والجهالة بالصحابة لا تضر؛ لأنهم كلهم عدول، كما تقدم.
وقد ذكر الحافظ في الكلام على مرسل ابن الزبير: بأنه تبين من الروايتين اللتين أوردهما البخاري بعد هذا المرسل أن ابن الزبير حمله عن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بواسطة عمر رضي الله عنه[(355)].
قوله: (وقيل: إن عُلِمَ أنه لا يروي إلا عن صحابي) أي: قيل: يقبل مرسل الصحابي بشرط العلم أنه لا يروي إلا عن صحابي مثله، لاحتمال أن يروي عمن لم تثبت لنا صحبته، وهذا القول ضعيف؛ لأن رواية الصحابي عن غيره نادرة، لكن لو عُلِمَ عن هذا الصحابي أن أكثر روايته عن التابعين، كان مُرْسِلُهُ كمرسل غير الصحابي.
قال السيوطي: (وفي الصحيحين من مراسيل الصحابة ما لا يحصى؛ لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة، وكلهم عدول، ورواياتهم عن غيرهم نادرة، وإذا رووها بينوها، بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليس أحاديث مرفوعة، بل إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات)[(356)].
قوله: (وفي مراسيل غيرهم روايتان) مرسل غير الصحابي هو أن يقول غير الصحابي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كذا.(1/122)
ومثاله: ما أخرجه مسلم عن سعيد بن المسيّب رحمه الله: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المزابنة والمحاقلة)[(357)].
فسعيد تابعي كبير، روى هذا الحديث عن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بدون أن يذكر الواسطة بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو الصحابي، ففي قبولها روايتان عن الإمام أحمد.
قوله: (القبول، كمذهب أبي حنيفة وجماعة من المتكلمين، اختارها القاضي) هذه هي الرواية الأولى ، وهو قول مالك ـ أيضاً ـ وحجتهم: أن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بالخبر إلا وهو عالم بأن الواسطة التي حَذَفَ ثقة، فهو بمثابة قوله: أخبرني فلان وهو ثقة.
قوله: (والمنع، وهو قول الشافعي، وبعض المحدثين، والظاهرية) هذه هي الرواية الثانية ، وهي المنع؛ وذلك للجهل بالساقط في الإسناد، لاحتمال أنه تابعي، ثم يحتمل أنه ضعيف، وبتقدير كونه ثقة يحتمل أنه روى عن تابعي آخر، وهكذا.
واختار هذا القول الإمام مسلم رحمه الله فقد قال في مقدمة «صحيحه»: (والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة)[(358)]، وهو قول أبي حاتم وابنه، وأبي زرعة، ويظهر أن عمل المحدِّثين عليه، ومثل ذلك حكى ابن عبد البر وابن الصلاح والنووي، قال ابن حجر: (إنما ذكر المرسل في قسم المردود؛ للجهل بحال المحذوف)[(359)].
وهناك قول ثالث أنه يحتج بمراسيل كبار التابعين الذين أكثر روايتهم عن الصحابة، كسعيد بن المسيب[(360)]، وعروة بن الزبير، وذلك بشرط أن يعضده مرسل آخر، أو قول صحابي، أو قياس، أو يفتي بمقتضاه أكثر أهل العلم، وهو قول الشافعي، كما يفهم من كتابه «الرسالة»[(361)].
وخبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول، خلافاً لأكثر الحنفية، وفي الحدود وما يسقط بالشبهة خلافاً للكرخي، وفيما يخالف القياس، وحكي عن مالك تقديم القياس.(1/123)
قوله: (وخبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول) المراد بخبر الواحد: حديث الآحاد كما تقدم، والذي تعم به البلوى هو: ما يكثر وقوعه بين الناس؛ كأحكام الصلاة والصيام والطهارة، ونحو ذلك، كرفع اليدين في الصلاة، ونقض الوضوء من مس الذكر، وغيرهما.
فهذا يقبل فيه خبر الواحد، وهو مذهب الجمهور؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون خبر الواحد فيما تعم به البلوى، كقبولهم خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من الجماع بدون إنزال، فإن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يفتي بعد موت النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن الماء من الماء لا غير، فنازعه بعضهم في ذلك، فأرسلوا إلى عائشة رضي الله عنها أبا موسى رضي الله عنه يسألها. فروت لهم عن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا التقى الختانان ـ وفي رواية: إذا مسَّ الختان الختان ـ وجب الغسل» [(362)]. فرجعوا إلى قولها.
ولأن الراوي عدل جازم بالرواية، وصدقه ممكن، فلا يجوز تكذيبه مع إمكان صدقه.
ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد يبلغ الشاهد، ويأمره بتبليغ الغائب.
قوله: (خلافاً لأكثر الحنفية) وهم المتأخرون منهم، حيث قالوا: لا يقبل خبر الواحد في ذلك؛ لأن ما تعم به البلوى تتوفر الدواعي على نقله، فلا يقبل إلا متواتراً.
والصواب الأول، وما استند إليه المانعون مردود، فإن ما تعم به البلوى قد يكثر السؤال والجواب عنه، ولا يكثر النقل، ولذا اختلف في كلمات الأذان مع أنه يسمع في اليوم خمس مرات، ولم ينقل نقلاً عاماً، وكذا مناسك الحج، وصفة الصلاة، ثم إن مذهبهم هذا منقوض، فإنهم أثبتوا وجوب الوتر، والوضوء بالقهقهة داخل الصلاة، بخبر الواحد، واختاروا تثنية الإقامة في الصلاة، وأوجبوا الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيلين، كالقيء والرعاف، ونحو ذلك بخبر الواحد، وكل ذلك مما تعم به البلوى[(363)].(1/124)
وما حكاه المصنف هو قول متأخري الحنفية. ولم يعرف عن متقدميهم إلا ما نقل عن الكرخي من القول بالمنع[(364)]، والظاهر أن الحنفية يقبلون خبر الواحد فيما تعم به البلوى باشتهار أو تلقي الأمة له بالقبول، كما ذكره صاحب «التحرير» وغيره[(365)].
قوله: (وفي الحدود وما يسقط بالشبهة) أي: وخبر الواحد مقبول في إثبات الحدود وما يسقط بالشبهة، كإثبات النفي والجلد على الزاني البكر، بخبر العسيف[(366)]. وذلك لأن الحدود تثبت بغلبة الظن، ولهذا ثبتت بالشهادة، فوجب أن يقبل فيها خبر الواحد، كسائر الأحكام الشرعية.
قوله: (خلافاً للكرخي) أي: إن أبا الحسن الكرخي الذي انتهت إليه رئاسة الحنفية في عصره قال: لا يقبل خبر الآحاد فيما يسقط بالشبهة كالحدود؛ لأن خبر الواحد مظنون غير مقطوع بصحته، فصار ذلك شبهة، فلا يثبت به الحد[(367)].
وهذا قول ضعيف، لأن مؤدى ذلك أن لا تقبل الشهادة في الحدود؛ لأنه غير مقطوع بصحتها، وهذا لا يقول به أحد.
قوله: (وفيما يخالف القياس) أي: خبر الواحد مقدم على القياس، فيقبل ويعمل به ولو خالفه، ونسبه أبو الخطاب إلى عامة الفقهاء[(368)].
وذلك لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم خبر الواحد على القياس، فلا يستعملونه مع وجود النص، فقد ورد عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر رضي الله عنه نَشَدَ الناس: مَنْ سَمِعَ النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قضى في السِّقْط؟ فقال المغيرة: أنا سمعته قضى فيه بغرةٍ عبدٍ أو أمة، قال: ائت بمن يشهد معك على هذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا أشهد على النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا[(369)].
ومِثْلُ تقديمِ خبرِ «صاعٍ من تمر» في المصراة[(370)] على القياس الذي هو ردُّ مثلِ اللبنِ المحلوب من المصراة، لأن القياس ضمان المثلي بمثله، والتمر ليس مثلاً للبن.(1/125)
قوله: (وحكي عن مالك تقديم القياس) أي: إنه حكي عن مالك رحمه الله تقديم القياس على خبر الواحد، وذلك لاحتمال كذب الراوي وفسقه وخطئه واحتمال النسخ ونحو ذلك مما لا يحتمله القياس.
وهذا الذي ذكره المصنف رحمه الله عن الإمام مالك هو المقرر في أصول الفقه المالكي، وجزم به القرافي في «التنقيح»، ومنهم من حكى عنه القولين، وهو الذي نقله القاضي عياض، وابن رشد[(371)] قال الشنقيطي: (التحقيق خلاف ما ذهب إليه المؤلف والقرافي، والرواية الصحيحة عن مالك رواية المدنيين أن خبر الواحد مقدم على القياس، وقال القاضي عياض: مشهور مذهبه أن الخبر مقدم، قاله المِقَّري، وهو رواية المدنيين، ومسائل مذهبه تدل على ذلك كمسائل المصراة، ومسألة النضح، ومسألة غسل اليدين لمن أحدث في أثناء الوضوء...)[(372)].
وقال أبو حنيفة: ليس بحجة إن خالف الأصول أو معناها، ثم هاهنا أبحاث يشترك فيها الكتاب والسنّة من حيث إنها لفظية، منها: اللغات توقيفية، للدور، وقيل: اصطلاحية؛ لامتناع فهم التوقيف بدونه.
قوله: (وقال أبو حنيفة: ليس بحجة إن خالف الأصول أو معناها) أي: إن خبر الواحد ليس بحجة إن خالف الأصول، وهي: الكتاب والسنة والإجماع، أو خالف معنى الأصول، وهو: القياس؛ لأنه أصل من الأُصول[(373)]، وهذا مقيد بما إذا كان الراوي غير فقيه، فترد روايته إن خالفت القياس، وهذا قول الحنفية[(374)]، فردوا حديث القضاء بالشاهد واليمين؛ لأنه مخالف للقرآن في زعمهم[(375)]، وردوا حديث الرد بالتصرية؛ لأن راويه أبو هريرة رضي الله عنه وهو غير فقيه، ولأنه مخالف للقياس حيث إن الأصول تقتضي أن يكون الضمان بقدر التالف[(376)].(1/126)
وهذا مسلك ضعيف، فإن خبر الواحد حجة في جميع الأحكام ولو زاد على ما في القرآن، أو كان مبيناً له، أو خالف القياس؛ لعموم الأدلة الدالة على وجوب الأخذ بخبر الواحد[(377)] ونصوص الشريعة لا تتناقض، فإن وجد ذلك بحسب الظاهر أُحيل إلى باب «التعارض بين الأدلة»، والله أعلم.
ثم هاهنا أبحاث يشترك فيها الكتاب والسنّة من حيث إنها لفظية، منها: اللغات توقيفية، للدور، وقيل: اصطلاحية؛ لامتناع فهم التوقيف بدونه.
المباحث اللفظية
قوله: (ثم هاهنا أبحاث يشترك فيها الكتاب والسنة) يهتم علماء الأصول بمباحث الكلام وأقسامه، وهي مباحث نحوية وبلاغية، وذلك لأنها هي المدخل إلى أصول الفقه، حيث إن الأصول يعتمد على الكتاب والسنة، وفَهْمُ الكتاب والسنة والاستدلال بهما متوقفان على معرفة اللغة العريبة، لأنهما بلسان عربي مبين، ومن لا يعرف اللغة لا يمكنه استنباط الأحكام من الكتب والسنة.
وقوله: (ثم هاهنا أبحاث) الأبحاث جمع بحث[(378)]، وهو لغةً: التفحص والتفتيش، يقال: بحث يبحث بحثاً: إذا أثار التراب ونحوه عن مكانٍ لدفن شيء أو الكشف عنه، واصطلاحاً: إثبات النسبة الإيجابية أو السلبية بين الشيئين بطريق الاستدلال.
قوله: (منها: اللغات) أي: من هذه الأبحاث: اللغات، وهذا هو البحث الأول، واللغات: جمع لغة، وهي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.
قوله: (توقيفية) أي: تعليمية، علمنا الله تعالى إياها.
قوله: (للدور) ظاهره أن اللام للتعليل، وأن الدور علة لكون اللغات توقيفية، وهذا غير مراد، وإنَّما الغرض بيان اختيار القول بالتوقيف؛ لأن القول بالاصطلاح يلزم منه الدور، فكان الأولى أن يقول: (اللغات توقيفية منعاً للدور) وهذا دليل القائلين بالتوقيف، وتوضيح الدور: أننا إذا قلنا: اصطلاحية فإن الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة وداعٍ للاجتماع للوضع، وهذا لا يكون إلا بوجود لفظ معلوم يعرفونه قبل الاجتماع للاصطلاح.(1/127)
قوله: (وقيل: اصطلاحية) هذا القول الثاني في موضوع: كون اللغات توقيفية أو اصطلاحية. وهو أنها اصطلاحية أي: عُرِفَتْ باصطلاح الناس ووضَعَهَا البشر، واحدٌ أو جماعة اصطلحوا عليها.
قوله: (لامتناع فهم التوقيف بدونه) هذا دليل القول الثاني، والضمير في قوله: (بدونه) عائد على الاصطلاح؟ والمعنى: أنها اصطلاحية، لأن فهم ما جاء توقيفاً لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح، وذلك بأن يكون لفظ صاحب التوقيف معروفاً للمخاطب باصطلاح سابق.
وقال القاضي: كلا القولين جائز في الجميع، وفي البعض والبعض، أما الواقع فلا دليل عليه عقلي ولا نقلي، فيجوز خلق العلم في الإنسان بدلالتها على مسمياتها، وابتداءُ قوم بالوضع على حسب الحاجة ويتبعهم الباقون. ثم قال: ويجوز أن تثبت الأسماء قياساً كتسمية النبيذ خمراً، كقياس التصريف، ومنعه أبو الخطاب، والحنفية، وبعض الشافعية.
قوله: (وقال القاضي: كلا القولين جائز في الجميع وفي البعض والبعض) أي: يجوز أن تكون اللغة كلها توقيفية، ويجوز أن تكون اصطلاحية. وقوله: (وفي البعض والبعض) أي: يجوز أن يكون بعضها توقيفية وبعضها اصطلاحية[(379)].
قوله: (أمَّا الواقع فلا دليل عليه عقلي ولا نقلي) أي: أما الواقع من اللغات هل هو التوقيف أو الاصطلاح؟ فهذا لا مطمع في معرفته يقيناً؛ إذ لا دليل عليه من النص، ولا مجال للعقل في معرفته. وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة إيرادها في أصول الفقه؟! إن هذا البحث لا فائدة منه؛ لأن الذين بحثوها من علماء الأصول والعربية لم يصلوا ولن يصلوا إلى نتيجة قاطعة، فلم يبق إلا رجم الظن في مسألة لا يرتبط بها تعبد، ولا تدعو إلى معرفتها حاجة. وقد نقل السيوطي عن ابن السبكي أنه قال: (الصحيح عندي أنه لا فائدة لهذه المسألة، وهو الذي صححه ابن الأنباري وغيره، ولذلك قيل: ذكرها في الأصول فضول) [(380)]. وقال بعضهم: (هذه مسألة طويلة الذيل قليلة النيل)[(381)].(1/128)
قوله: (فيجوز خلق العلم في الإنسان بدلالتها على مسمياتها) قوله: (بدلالتها) متعلق بـ (العلم) . والمعنى: أن التوقيف ممكن، وذلك أن الله قادر على أن يخلق في الإنسان علماً ضرورياً بالألفاظ ومدلولاتها، فيعرف من غير فهم سابق، كالطفل مع أبويه.
قوله: (وابتداء قوم بالوضع على حسب الحاجة ويتبعهم الباقون) قوله: (وابتداء) هذا معطوف على (خلق) ، والمعنى: أن الاصطلاح ممكن ـ أيضاً ـ فيبدأ قوم بوضع الألفاظ للأمور التي يحتاجونها، ويعينهم الله تعالى، ثم يتبعهم الباقون، فيحصل التخاطب بينهم بالاصطلاح.
قوله: (ثم قال: ويجوز أن تثبت الأسماء قياساً) القائل هو القاضي يعقوب من الحنابلة كما في الروضة[(382)]، وهذا البحث الثاني من أبحاث اللغة، وهو هل تثبت الأسماء قياساً؟ ومعناه: أن العرب إذا سَمَّتْ شيئاً باسم لأجل صفة فيه، ثم وجدنا تلك الصفة في شيء آخر، فهل يُطلق عليه ذلك الاسم؟ مثل: لفظ (الخمر) يطلق على عصير العنب القاذف بالزبد، وهذه التسمية لأجل صفة فيه، وهي مخامرة العقل، أي: الإسكار، فإذا وجدنا هذه الصفة في النبيذ سميناه خمراً في لغتهم. والسارق لفظ يطلق على آخذ المال خفية من حرز، فيطلق على النباش ـ وهو سارق الكفن ـ فتقطع يده على أحد القولين، ومن ذلك (عمل قوم لوط) فهو يوجب حد الزنا على أحد الأقوال؛ لوجود معنى الزنا فيه[(383)]. وفي هذه المسألة قولان:
الأول: يجوز أن تثبت اللغة قياساً، وهو ما مشى عليه المصنف، وبه قال أكثر أصحاب الإمام أحمد، واختاره ابن قدامة، وبه قال بعض الشافعية، وقد أومأ إلى ذلك الإمام أحمد رحمه الله في رواية الأثرم، وقد ذُكِرَ له ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (الخمر ما خامر العقل). قيل له: أيُّ شيء يعني به؟ قال: ما غيَّر العقل، قيل له: كُلُّ نبيذ غيَّر العقل فهو خمر؟ قال نعم [(384)].(1/129)
قوله: (كقياس التصريف) أي: يجوز أن تثبت الأسماء قياساً مثل قياس التصريف، وهو القياس المعروف عند الصرفيين، كقولهم: إن العرب صغروا الاسم الثلاثي على (فُعيل) مثل: جَمَل وجُميل، فيقاس عليه كل اسم ثلاثي، وإن لم ينطقوا به، فيكون تصغيره على (فُعيل)، فيدل ذلك على جواز القياس.
قوله: (ومنعه أبو الخطاب والحنفية وبعض الشافعية) هذا القول الثاني. وهو المنع، وهو قول الحنفية وأكثر الشافعية[(385)]، وبه قال أبو الخطاب من الحنابلة[(386)].
ودليلهم: أن العرب إمَّا أن تكون وضعت الاسم لهما معاً فلا قياس، وإنَّما هو وضع منهم لا مِنّا، وإمَّا أنها وضعته لواحد منهما فليس لنا أن نتعدى ونزعم أنهم وضعوه للثاني، أو يحتمل أنه وضع لهذا أو ذاك فليس لنا أن نتحكم.
وفائدة ذلك: أن من يقول بقياس اللغة يُسمِّي النبيذ خمراً ويكون تحريمه بالنص، ومن لا يقول به يحتاج في إثبات الحكم إلى القياس الشرعي[(387)].
والكلام: هو المنتظم من الأصوات المسموعة المعتمدة على المقاطع، وهي الحروف، وهو جمع كلمة، وهي اللفظ الموضوع لمعنى، وخَصَّ أهل العربية الكلام بالمفيد، وهو الجمل المركبة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، وغير المفيد كَلِمٌ. فإن استعمل في المعنى الموضوع له فهو الحقيقة، إن كان بوضع اللغة فهي اللغوية، أو بالعرف فالعرفية، كالدابة لذوات الأربع، أو بالشرع فالشرعية، كالصلاة والزكاة، وأنكر قوم الشرعية، وقالوا: اللغوي باقٍ، والزيادات شروط، وكلٌّ يتعين باللافظ ، فمن أهل اللغة بدون قرينة : اللغويةُ، وبقرينة العرف : العرفية، ومن أهل الشرع: الشرعية، ولا يكون مجملاً، كما حُكي عن القاضي، وبعض الشافعية.
قوله: (والكلام: هو المنتظم من الأصوات) هذا البحث الثالث من أبحاث اللغة. وهو تعريف الكلام وأقسامه، والانتظام هو التأليف للأصوات المتوالية على السمع.
قوله: (المسموعة) هذا قيد يخرج الحروف المكتوبة.(1/130)
قوله: (المعتمدة على المقاطع) هذه صفة للأصوات.
قوله: (وهي الحروف) يخرج بهذا الحرف الواحد، مثل: ب، ق؛ لأن أقل الكلام حرفان، وقد خص النحويون الكلام بما تضمَّن كلمتين بالإسناد. وذهب كثير من أهل الأصول إلى أن الكلمة الواحدة تسمى كلاماً.
قوله: (وهو جمع كلمة) أي: إن الكلام جمع كلمة، وهذا فيه نظر، والأظهر أن جمع كلمة: كَلِمٌ، كلَبِنَةٍ ولَبِنٍ. وهو ما نص عليه النحويون. قال ابن هشام: (والكَلِمُ واحده: كلمة)[(388)].
قوله: (وهي اللفظ الموضوع لمعنى) قَيْدُ الوضع يقتضي الاختصاص بالحقيقة، كأسد للحيوان، دون المجاز كأسد للشجاع؛ لأنه لم يوضع له فليس كلمة على هذا، ولو قال: (هي اللفظ المستعمل في معنى مفرد) لكان أجود؛ لأن الاستعمال أعم من الوضع، فيشمل الحقيقة والمجاز[(389)].
قوله: (وخص أهل العربية الكلام بالمفيد) أي: خص النحويون الكلام بما تحصل به الإفادة، والمراد بالمفيد: ما دل على معنى يحسن من المتكلم السكوت عليه، بحيث يقنع السامع، ولا ينتظر مزيداً من المخاطب.
قوله: (وهو الجمل المركبة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر) أي: إن الكلام لا بد أن يكون جملة، إمَّا فعلية مركبة من فعل وفاعل، نحو: جاء الحق وزهق الباطل، أو اسمية مركبة من مبتدأ وخبر، نحو: الله خالق كل شيء.
قوله: (وغير المفيد كَلِمٌ) أي: أن غير المفيد لا يطلق عليه كلام، وإنَّما هو كلم، وليس مراده أن الكلم خاص بغير المفيد، فإن الكلم يطلق على المفيد وغيره، فهو أعم من الكلام من جهة المعنى، وإنَّما مراده أن غير المفيد لا يسمى كلاماً.
قوله: (فإن استعمل في المعنى الموضوع له فهو الحقيقة) شرع في تقسيم الكلام من حيث استعماله إلى: حقيقة ومجاز، وهما من عوارض الألفاظ، فالحقيقة: هي اللفظ المستعمل في المعنى الموضوع له، كأسد للحيوان.
قوله: (إن كان بوضع اللغة فهي اللغوية، أو بالعرف...) إلخ، الحقيقة ثلاثة أنواع:
1 ـ لغوية:(1/131)
وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة، كالصلاة، فإن حقيقتها اللغوية: الدعاء، والصيام، فإن حقيقته اللغوية: الإمساك. قال الشاعر:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ
تحت العَجَاجِ وأخرى تَعْلُكُ اللُّجُما[(390)]
أي: خيل ممسكة عن الجري والحركة، وقيل: عن العلف.
2 ـ عرفية:
وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف، كالدابة، فإنها في اللغة اسم لكل ما يدِبُّ على الأرض، ثم خصها العرف بذوات الأربع، كالفرس، وهذا من تخصيص الاسم العام ببعض مسمياته، وفيه نوع آخر وهو اشتهار استعمال الاسم في غير ما وضع له، كالغائط، لقضاء الحاجة، فهو حقيقة عرفية باعتبار الاشتهار، ومجاز باعتبار استعماله في غير موضوعه الأصلي [(391)].
3 ـ شرعية:
وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع، كالصلاة، فإن حقيقتها الشرعية الأقوال والأفعال المعلومة، المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم. والزكاة: حق واجب، في مال مخصوص، لطائفة أو جهة مخصوصة.
قوله: (وأنكر قوم الشرعية، وقالوا: اللغوي باقٍ، والزيادات شروط) اعلم أن مذهب الفقهاء إثبات الحقيقة الشرعية، وأن الشرع خرج بألفاظ الوضوء، والصلاة، والصيام، والاعتكاف، والحج، والزكاة، ونحوها، خرج بها عن وضع أهل اللغة ووضعها بما يفيد المعنى الشرعي. فيكون الشارع وضعها ابتداء.
وزعم قوم أنه لم يُنقل شيء، بل الاسم باقٍ على ما هو عليه، وزاد الشرع عليه شروطاً شرعية، فهي مجازات لغوية، غلبت في المعاني الشرعية، لكثرة دورانها على لسان أهل الشرع، فالصلاة لغةً الدعاء، وهذا مراد للشرع وملاحظ في نظره، لكن ضم إليه اشتراط الركوع والسجود... إلخ.
والأول أظهر؛ فإنه معلوم شرعاً أن الصلاة في لسان الشارع وأهل الشرع لذات الأذكار والأركان، والزكاة لأداء مال مخصوص.. إلخ، وقد قام الإجماع على أن الركوع والسجود من الأركان التي هي من تفسير الصلاة لا أنها شروط؛ لأن الشرط خارج عن الماهية[(392)].(1/132)
وأفاد قوله: (وأنكر قوم الشرعية) أن الحقيقة اللغوية والعرفية متفق عليهما، ذكر ذلك الشوكاني وغيره[(393)].
وثمرة الخلاف: أن الحقيقة إذا وردت في كلام الشارع بلا قرينة فهل تحمل على المعاني الشرعية أو اللغوية؟ كما أن من ثمرة الخلاف أننا إذا قلنا: هي وضع الشرع ابتداء فهي حقيقة مطلقاً، وإن قلنا: لغوية منقولة فهي حقيقة بالإضافة إلى الشرع، مجاز بالإضافة إلى الوضع.
قوله: (وكلٌّ يتعين باللافظ...) أي: إن نوع الحقيقة إنَّما يتبين باستعمال اللفظ عند أهله، فيحمل في استعمال أهل اللغة على الحقيقة اللغوية، وفي استعمال أهل الشرع على الحقيقة الشرعية، وفي استعمال أهل العرف على الحقيقة العرفية، والحقيقة اللغوية لا تحتاج إلى قرينة، لأنها الأصل، كالأسد للحيوان المفترس، بخلاف العرفية، فإن اللفظ انتقل فيها من مسماه اللغوي إلى غيره، كما تقدم في الأمثلة.
قوله: (ولا يكون مجملاً) أي: إن اللفظ الوارد على لسان الشرع لا يكون مجملاً، بل يجب صرفه إلى المعنى
الشرعي، دون اللغوي، لأن الشرع يبين أحكام الشرع لا أحكام اللغة.
قوله: (كما حُكي عن القاضي وبعض الشافعية) أي: حُكي عن القاضي أبي يعلى أنها تكون مجملة لترددها بين معنييها: اللغوي والشرعي[(394)]. والأول أرجح؛ لأن التردد إن أريد به مع رجحان المعنى الشرعي فقد يُسَلَّم لهم، لكن لا يلزم منه الإجمال، لأن اللفظ ظاهر في المعنى الشرعي، ما دام أنه على لسان الشرع، وإن أرادوا به التردد على السواء من غير رجحان فهو ممنوع، لما تقدم.
ومثاله: ما ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوضوء من لحوم الإبل. فقال: «توضؤوا منها...» الحديث[(395)].(1/133)
فإن الظاهر من الحديث أن المراد غسل الأعضاء الأربعة مع النية، لأن الوضوء حقيقة شرعية، فيحمل في كلام الشرع على مراده، وحمله بعضهم على الوضوء اللغوي، وهو غسل اليدين، والأول أولى، لأنه لفظ على لسان الشارع، فيحمل على معناه عنده، ما لم يوجد دليل يصرفه.
وإن استعمل في غير ما وضع له فهو (المجاز) بالعلاقة، وهي إما اشتراكهما في معنى مشهور، كالشجاعة في الأسد، أو الاتصال، كقولهم: الخمر حرام، والحرام شربها، والزوجة حلال، والحلال وطؤها، أو لأنه سبب أو مُسَبَّبٌ، وهو فرع الحقيقة، فلذلك تلزمه دون العكس.
قوله: (وإن استعمل في غير ما وضع له فهو المجاز) هذا تعريف المجاز. وهو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، نحو: رأيت أسداً يرمي، تريد: رجلاً شجاعاً.
فقولنا: (اللفظ المستعمل) جنس يتناول الحقيقة والمجاز. وقولنا: (في غير ما وضع له) قيد أخرج الحقيقة.
قوله: (بالعلاقة...) هذا شرط المجاز، وهو أنه لا بد من عَلاقَة[(396)]، وهي الرابطة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، وهي أنواع ذكر المصنف منها أربعة.
قوله: (وهي إمَّا اشتراكهما في معنى مشهور) أي: اشتراك الحقيقة والمجاز في معنى مشهور، وذلك كاستعارة لفظ (أسد) للرجل الشجاع، لاشتهار الشجاعة في الأسد الحقيقي، فإن كان غير مشهور لم يصح، فلا يصح استعارة الأسد للرجل الأبخر، وإن كان البَخَرُ موجوداً في الأسد، لكنه غير مشهور لا يكاد يعرفه إلا القليل من الناس، والبخر: بفتحتين، تغير رائحة الفم.
قوله: (أو الاتصال) أي: إطلاق اسم الشيء على ما يتصل به، كقولهم: الخمر حرام، والمراد شربها. والزوجة حلال، والمراد وطؤها.
قوله: (أو لأنه سبب) أي: إن اللفظ المذكور سبب للمعنى المراد، مثل: رعينا الغيث، فالغيث مجاز عن العشب، وهو سبب له.
قوله: (أو مسبب) أي: اللفظ المذكور مسبب عن المعنى المراد وناتج عنه، كقول الشاعر:
سَقُونِي الإثمَ ثم تكنَّفوني
عُدَاةَ اللهِ من كَذَبٍ وَزُوْرِ(1/134)
أراد الخمر، لأن الإثم مسبب عنه.
قوله: (وهو فرع الحقيقة فلذلك تلزمه دون العكس) أي: المجاز فرع الحقيقة، بدليل اشتراط عَلاقة تجمع بين المعنى المجازي وأصله الذي هو الحقيقة.
وقوله: (فلذلك تلزمه) أي: لما كان المجاز فرع الحقيقة فإن الحقيقة تلزم المجاز، فكل مجاز له حقيقة في شيء آخر؛ لأن المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فما وضع له هو الحقيقة. (دون العكس) أي: إن المجاز لا يلزم الحقيقة، فقد يكون اللفظ حقيقة ولا مجاز له، إذ كون الشيء له لفظ موضوع لا يلزم أن يستعمل فيما عداه، واللغة طافحة بحقائق لا مجازات لها..
(تنبيه): الحقيقة أسبق إلى الفهم، ويصح الاشتقاق منه، بخلاف المجاز، ومتى دار اللفظ بينهما فالحقيقة ولا إجمال، لاختلال الوضع به فإن دلّ على معنى واحد من غير احتمال لغيره فهو (النص) وأصله: الظهور والارتفاع، وقد يطلق على (الظاهر)، وهو المعنى السابق من اللفظ مع تجويز غيره، وأكثر ما يستعمل بين الفقهاء بهذا المعنى. فإن عَضَدَ الغير دليل يغلِّبه لقرينة، أو ظاهر آخر أو قياس راجح سُمِّي (تأويلاً)، وقد يكون في الظاهر قرائن يدفع الاحتمال مجموعها دون آحادها، والاحتمال قد يبعد فيحتاج إلى دليل في غاية القوة لدفعه، وقد يقرب فيكفي أدنى دليل، وقد يتوسط فيجب المتوسط.
قوله: (الحقيقة أسبق إلى الفهم) هذا بيان لما تُعرف به الحقيقة من المجاز، فتعرف بشيئين:
الأول: أن الحقيقة أسبق إلى الفهم من المجاز إذا لم يكن قرينة، فإذا قلت: رأيت أسداً، فهو الحيوان المفترس؛ لأنه حقيقة فيه، لكن إذا قلت: رأيت أسداً يرمي، فالمراد الرجل الشجاع؛ لوجود القرينة، وهي كلمة (يرمي).(1/135)
قوله: (ويصح الاشتقاق منه) هذه العلامة الثانية، وهي أنه يصح الاشتقاق من الحقيقة، فيؤتى بالمضارع واسم الفاعل ونحوها؛ لأن تصرف اللفظ يدل على قوته وأصالته، وأمَّا المجاز فلا يصح الاشتقاق منه على أحد القولين، والثاني: يصح، وهو قول الأكثر، بدليل وجود الاستعارة التبعية، وهي مشتقة من المجاز، حيث تُجرى الاستعارة في المصدر، ثم فيما يشتق منه.
قوله: (ومتى دار اللفظ بينهما فالحقيقة) أي: متى دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة مقدمة؛ لأنها الأصل، كقولك: رأيت أسداً.
قوله: (ولا إجمال) أي: لا يكون اللفظ مجملاً بسبب تردده بين الحقيقة والمجاز، مثل: رأيت أسداً، فالمراد الحيوان، وليس الشجاع، ولا يكون مجملاً لذلك.
قوله: (لاختلال الوضع به) تعليل لنفي الإجمال، أي: لو جعلنا اللفظ الدائر بين الحقيقة والمجاز مجملاً، لأدى ذلك إلى اختلال الحكمة من الوضع، وهي الإفهام، ولم يُستفد من أكثر الألفاظ بسبب ترددها بين حقيقتها ومجازها.
أقسام اللفظ من حيث الدلالة
1 ـ النص
2 ـ الظاهر
قوله: (فإن دل على معنى واحد...) أي: فإن دلَّ اللفظ، وهذا شروع من المصنف في مباحث أصولية بعد المباحث اللغوية، وهذه المباحث ذات وجهين، فهي من حيث اللغة لغوية، ومن حيث إنها قواعد للألفاظ في النصوص الشرعية فهي أصولية.
وقد ذكر المصنف النص والظاهر والمجمل، ووجه انحصار الكلام فيها هو أن اللفظ من حيث الدلالة على معنى، له حالات:
1 ـ إمَّا أن يدل على معنى واحد فقط، فهذا هو النص.
2 ـ وإما أن يحتمل أكثر من معنى، فإن ترجح أحدهما على الآخر فهو الظاهر، وإن تساويا فهو المجمل.
قوله: (فهو النص) هذا الأول وهو النص، وهو لغةً: الظهور والارتفاع، ومنه نَصَّت الظبية رأسها، أي: رفعته وأظهرته، ومنه مِنَصَّةُ العَروس، وهو الكرسي الذي تجلس عليه لأجل ظهورها. وقيل: النص هو الرفع إلى غاية ما ينبغي[(397)]، وهو الصحيح.(1/136)
قوله: (فإن دلَّ على معنى واحد من غير احتمال لغيره فهو النص) هذا تعريف النص اصطلاحاً، وهو من أحسن التعاريف وأشهرها.
وقوله: (فإن دلَّ) ، أي: بلفظه وصيغته، وقوله: (على معنى واحد) أي: بيِّن واضح، سيق الكلام له، وقوله: (من غير احتمال لغيره) أي: إن النص لا يتطرق إليه احتمال معنى آخر، كقوله تعالى: {{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}} [النور: 2] وقوله تعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}} [الأنعام: 151] [(398)] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في أربعين شاةً شاةٌ» [(399)].
وهذا أحد اصطلاحات الفقهاء، وقد يطلقونه على كل ملفوظ مفهوم المعنى، من الكتاب أو السنة، سواء كان ظاهراً أو نصاً أو مفسراً، عاماً أو خاصاً، وهذا على أساس أن النص هو الظهور والارتفاع، ومن لاحظ المعنى اللغوي الثاني وهو الرفع إلى غاية ما ينبغي، فسر النص بأنه ما دل على معنى دون غيره، وهذا مراد الأصوليين بقولهم: اللفظ إمَّا نص أو ظاهر.
كما يطلق النص إطلاقاً ثالثاً، وهو ما دل على معنى قطعاً وإن احتمل غيره، كصيغ الجموع في العموم، فإنها تدل على أقل الجمع قطعاً، وتحتمل الاستغراق، كقوله تعالى: {{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}} [التوبة: 5] فهو يقتضي قتل اثنين جزماً؛ لأنه نص في ذلك، مع احتماله لقتل جميع المشركين[(400)].
قوله: (وقد يطلق على الظاهر) أي: يطلق النص على الظاهر، لأن الارتفاع والظهور موجود فيهما، فالنص مرتفع ظاهر في الدلالة، وكذلك الظاهر، غير أن النص أشد ظهوراً وارتفاعاً.(1/137)
قوله: (وهو المعنى السابق من اللفظ مع تجويز غيره) هذا تعريف الظاهر، والمراد بـ (السابق) : المتبادر للذهن والسابق للفهم، وهذا يخرج المجمل، لأنه لا يتبادر فيه معنى عند إطلاقه، كما ـ سيأتي إن شاء الله ـ، وقوله: (من اللفظ) احتراز مما كانت فيه المبادرة ليست من اللفظ بل من قرينة، فليس ظاهراً لذاته بل بالقرينة.
وقوله: (مع تجويز غيره) يفيد أن الظاهر لا بد أن يكون له معنيان، وهذا يخرج النص الصريح، لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً.
وذلك كلفظ (الأسد) فإنه ظاهر في الحيوان المفترس، ويحتمل أن يراد به الرجل الشجاع مجازاً، لكنه احتمال ضعيف، ومثاله: قوله صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: «توضؤوا منها» ، فإنه ظاهر في غسل الأعضاء الأربعة، كما تقدم.
قوله: (وأكثر ما يستعمل بين الفقهاء بهذا المعنى) أي: أكثر ما يستعمل الظاهر عند الفقهاء في اللفظ الذي يحتمل معنيين فأكثر، وهو في أحدهما أرجح [(401)]؛ لأن الارتفاع والظهور يجمعهما، كما تقدم.
قوله: (فإن عَضَدَ الغير دليل يغلّبه) المراد بـ (الغير) : المعنى الثاني للظاهر، وهو الاحتمال المرجوح المراد بقوله: (مع تجويز غيره) ، وقوله: (يغلّبه) أي: إن الدليل جعل هذا المعنى المرجوح أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر، فصار هذا المعنى المرجوح بسبب الدليل راجحاً، وهذا الدليل ثلاثة أنواع:
قوله: (لقرينة) هذا النوع الأول من الدليل الذي يَقْوى به الاحتمال المرجوح على الظاهر، وهو القرينة المتصلة بالظاهر، ومثال ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله: لا يجوز للواهب أن يرجع في هبته، لحديث: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» [(402)].
وعند الشافعي: يجوز الرجوع؛ لأن الكلب لا يحرم عليه أن يعود في قيئه؛ تمسكاً بالظاهر، فقال أحمد: لكنه في أول الحديث: «ليس لنا مَثَلُ السَّوْء» وهو قرينة على أن هذا المثل السيء منفي عنا، فلا يجوز لأحد منا إتيانه[(403)].(1/138)
قوله: (أو ظاهر آخر) هذا النوع الثاني . ومثاله قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}} [المائدة: 3] فهذا ظاهر في تحريم جلدها مطلقاً؛ لأن عموم لفظ (الميتة) يتناول جميع أجزائها ومنها الجلد، ويحتمل عدم دخول الجلد؛ لأن إضافة التحريم إلى الميتة يقتضي تحريم الأكل، والجلدُ غيرُ مأكول.
ثم نظرنا في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» [(404)]، وفي لفظ: «أيما إهاب دبغ» [(405)]، فإذا هو عموم، وظاهر في أن الإهاب يطهر بالدبغ، فكان هذا الظاهر دليلاً على أن الجلد لا يتناوله التحريم المذكور في الآية.
ومما يؤيد ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم في شاة ميمونة: «هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟» فقالوا: إنها ميتة، فقال: «إنَّما حَرُمَ أكلها» [(406)]. فهذا نص في طهارة جلد الميتة بالدبغ.
قوله: (أو قياس راجح) أي: أو يكون الدليل قياساً راجحاً، وهذا هو النوع الثالث . ومثاله: قوله تعالى: {{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}} فهذا ظاهر في شمول العبد وأنه يجلد مائة، ولكن دل قوله تعالى: {{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}} [النساء: 25] على تنصيف الحد على الأمة، والعلة الرق، فيقاس العبد على الأمة، ويكون هذا القياس صارفاً للفظ عن العموم إلى كونه في خصوص الحر، اعتماداً على القياس على الأمة المنصوص عليها.
قوله: (سمي تأويلاً) أي: إن تأييد المعنى المرجوح بدليل يصيّره راجحاً يسمى تأويلاً، فالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره لدليل يصير به المرجوح راجحاً، كما تقدم في الأمثلة.(1/139)
قوله: (وقد يكون في الظاهر قرائن يدفع الاحتمال مجموعها دون آحادها) أي: إن الظاهر والاحتمال المرجوح إذا تقابلا فقد يحتفّ بالظاهر قرائن تدفع ذلك الاحتمال، وهو لا يندفع إلا بها لا بآحادها، ومثاله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيُّما امرأة نَكَحَتْ نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها» [(407)].
فحمله الحنفية القائلون بعدم اشتراط الولي في النكاح على الصغيرة، فقيل لهم: ليست بامرأة في لسان العرب، فحملوه على الأمة؛ لأنها مملوكة لسيدها، فلا يجوز أن تتصرف في نفسها بغير إذنه. فقيل لهم: «فلها المهر» ومهر الأمة لسيدها، فحملوه على المكاتبة، فقيل لهم: هذا حمل باطل من وجوه:
1 ـ أنه صدَّره بلفظة (أي) وهي من ألفاظ الشرط التي لا خلاف في إفادتها العموم.
2 ـ أنه أكدها بـ(ما) في قوله: «أيما امرأة» وهي من مؤكدات العموم.
3 ـ أنه رتب بطلان النكاح على هذا الشرط. وليس هناك عموم أبلغ من هذا العموم.
4 ـ أن المكاتبة نادرة، وليس من كلام العرب إرادة النادر بلفظ يدل على العموم.
قوله: (والاحتمال قد يبعد فيحتاج إلى دليل في غاية القوة لدفعه، وقد يقرب فيكفي أدنى دليل، وقد يتوسط فيجب المتوسط) أي: إن الاحتمال المرجوح المقابل للراجح الظاهر، قد يكون بعيداً عن الإرادة، وقد يكون قريباً، وقد يكون متوسطاً.
فالاحتمال البعيد يحتاج في حمل اللفظ عليه إلى دليل قوي لتجبر قوةُ الدليلِ ضعفَ الاحتمال بسبب بعده. ومثاله: تأويل الحنفية حديث: «أيما امرأة نكحت نفسها...» على الصغيرة والأمة والمكاتبة، وتقدم وجه بُعْدِ هذا التأويل.(1/140)
والاحتمال القريب يكفي في إثباته دليل قريب، وإن لم يكن بالغاً في القوة، كقوله تعالى: {{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}} [المائدة: 6] أي: عزمتم على القيام؛ لأنه من المعلوم شرعاً أنه لا يؤمر بالوضوء مع التلبس بالقيام للصلاة والدخول فيها؛ لأن الشرط يطلب تحصيله قبل التلبس بالمشروط.
والاحتمال المتوسط يبن الاحتمالين قرباً وبعداً، يكفيه دليل متوسط بين الدليلين قوة وضعفاً.
* * *
فإن دلّ على أحد معنيين أو أكثر لا بعينه وتساوت، ولا قرينة (فمجمل) وقد حدّه قوم بما لا يُفهم منه معنى عند الإطلاق، فيكون في (المشترك) وهو ما توحد لفظه وتعددت معانيه بأصل الوضع، كالعين، والقرء، والمختار للفاعل والمفعول، والواو للعطف والابتداء، ومنه عند القاضي وبعض المتكلمين: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}} و{{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ}} لتردده بين الأكل، والبيع، واللمس، والنظر.
3 ـ المجمل والمبيَّن
قوله: (فإن دل على أحد معنيين...) هذا شروع في القسم الثالث من أقسام اللفظ من حيث الدلالة وهو المجمل، وهو لغةً: المجموع، من أجملت الحساب: إذا جمعته، أو المبهم، من أجمل الكلام: إذا أبهمه.
واصطلاحاً: ما دل على أحد معنيين أو أكثر لا بعينه، وتساوت ولا قرينة.
وذلك مثل قوله تعالى: {{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}} [البقرة: 228] فإن القَرْءَ لفظ مشترك يبن الحيض والطهر، فيحتاج في تعيين أحدهما إلى دليل.
وقوله: (فإن دلَّ على أحد معنيين) يفيد أن المجمل لا يتصور إلا في لفظ له معنيان فأكثر، وهذا القيد يخرج النص؛ لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً، كما تقدم.
وقوله: (لا بعينه) أي: لا يعلم المعنى المراد، فلا مزية لأحدهما على الآخر، وهذا يخرج الظاهر، فهو محتمل لأمرين، لكن لا على السواء، بل هو في أحدهما أظهر، كما مضى.(1/141)
وقوله: (وتساوت) أي: المعاني متساوية ليس معنى أظهر من معنى.
وقوله: (ولا قرينة) أي: تبين المراد، فإذا وجدت قرينة زال الإجمال وصار من قبيل المبيَّن، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قوله: (وقد حده قوم بما لا يفهم منه معنى عند الإطلاق) هذا تعريف آخر للمجمل، ولكن فيه نظر ظاهر؛ لأن الذي لا يفهم منه معنى عند الإطلاق هو المهمل، وهو الذي ليس له معنى.
والمجمل يفيد معنى ولكنه غير معين، ويحصل تعيينه بالبيان، فلو زيد بعد قوله: (معنى) كلمة (معين) لكان أصح، كما ذكره الطوفي رحمه الله[(408)].
قوله: (فيكون في المشترك) أي: إن المجمل يكون في المشترك، وهو ما اتحد لفظه وتعدد معناه، فالاشتراك في الدلالة من أسباب الإجمال، لعدم معرفة المراد.
قوله: (كالعين) هذه أمثلة للمشترك، وهو إمَّا في اسم، أو فعل، أو حرف، فالاسم كالعين: لفظ مشترك بين الذهب، والعين الباصرة، والعين الجارية.
قوله: (والقرء) بفتح القاف وجمعه (قروء). قال تعالى: {{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}} [البقرة: 228] . وهو لفظ متردد بين معنيين: الطهر، والحيض. ولذا وقع الخلاف بين العلماء: هل تكون ثلاثة القروء هذه حيضات أو أطهاراً؟
قوله: (والمختار للفاعل والمفعول) أي: لفظ «مختار» أصله: مُخْتَيِر ـ بكسر الياء ـ اسم فاعل، أو بفتحها، فهو اسم مفعول، وقد تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، والألف لا تقبل الكسرة ولا الفتحة؛ ليتبين اسم الفاعل من اسم المفعول، فحصل الإجمال.
قال العسكري: إذا أريد اسم الفاعل قيل: مختار لكذا، واسم المفعول: مختار من كذا[(409)].(1/142)
ومن ذلك قوله تعالى: {{وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}} [البقرة: 282] فالفعل {{يُضَآرَّ}} يحتمل أن يكون بكسر الراء الأولى مبنياً للمعلوم و{{كَاتِبٌ}} فاعل، وأن يكون بفتح الراء مبنياً للمجهول و{{كَاتِبٌ}} نائب فاعل، والأول الأحسن؛ بدليل قوله تعالى: {{وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}} [البقرة: 282] وهو خطاب للشهداء.
قوله: (والواو للعطف والابتداء) هذا النوع الثاني، وهو الإجمال في الحرف، ومثاله: قوله تعالى: {{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}} [آل عمران: 7] فإن الواو محتملة للعطف، فيكون الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه، ومحتملة للاستئناف، فيكون المتشابه مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، ويكون الوقف على قوله تعالى: {{إِلاَّ اللَّهَ}}. ومنه ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}} [المائدة: 6] ، فيحتمل أن (من) لابتداء الغاية. أي: مبدأ المسح من الصعيد الطيب ـ وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض ـ فلا يتعين ما له غبار، أو للتبعيض، فيتعين التراب الذي له غبار يعلق باليد، ولذا وقع الخلاف في هذه المسألة، والأول أظهر؛ لسياق الآية، ولعموم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»[(410)].
أمَّا الإجمال في الفعل فكقوله تعالى: {{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ *}} [التكوير: 17] فهو لفظ متردد بين: أقبل وأدبر.(1/143)
قوله: (ومنه... {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} }) أي: ومن المجمل، وهذا شروع في إيراد نصوص قيل: إنها من المجمل، وهي ليست من المجمل، ومن ذلك قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}} [المائدة: 3] فهذا مجمل عند القاضي أبي يعلى[(411)]، وبعض المتكلمين كالكرخي من الحنفية، وسبب الإجمال عندهم أن لفظ التحريم متردد بين الأكل والبيع؛ لأن إسناد التحريم إلى نفس الميتة لا يصح؛ لأن التحريم حكم يتعلق بالفعل، فلا بد من تقدير فعل يضاف إليه هذا الحكم، وهو محتمل لأمور: كالأكل والبيع وغيرهما، ولا مرجح لأحدهما فيبقى مجملاً.
وكذا قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ}} [النساء: 23] فهذا مجمل عندهم لتردده بين اللمس والنظر وغيرهما؛ لأن إسناد التحريم إلى نفس الأمهات لا يصح، بل لا بد أن يتعلق بفعل كاللمس والنظر والوطء ونحوها ولا مرجح لأحدها فيبقى مجملاً.
وهو مُخَصَّصٌ بالعرف في الأكل والوطء فليس منه. وعند الحنفية [منه] قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بطهور» ، والمراد نفي حكمه؛ لامتناع نفي صورته، وليس حكم أولى من حكم، فتتعين الصورة الشرعية، فلا يكون منه.
قوله: (وهو مخصَّص بالعرف في الأكل والوطء فليس منه) هذا رد على القاضي وبعض المتكلمين. أي: لا نسلم بأنه من المجمل، ولا نسلم بأنه لا مرجح، بل المرجح موجود وهو العرف، فإن الحكم المضاف إلى العين ينصرف لغةً وعرفاً إلى ما أُعدَّت له هذه العين، وما هو اللائق بها.
فإذا قال قائل: هذا طعام حرام، فُهِمَ أن المراد تحريم أكله، أو هذه المرأة حرام: تحريم وطئها، فتحريم الميتة ينصرف إلى أكلها، وتحريم الأمهات ينصرف إلى الوطء.(1/144)
قوله: (وعند الحنفية منه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بطهور») [(412)] أي: إن هذا الحديث من المجمل عند الحنفية؛ لأنه إمَّا أن يحمل على نفي صورة الصلاة، أو يحمل على نفي الحكم. فالأول باطل قطعاً؛ لأن صورة الصلاة قد توجد بغير طهور، كصلاة المحدث، فتعين الثاني وهو حمله على نفي الحكم، وهذا معنى قول المؤلف: (والمراد: نفي حكمه؛ لامتناع نفي صورته) .
قوله: (وليس حكم أولى من حكم) أي: إذا حمل على نفي الحكم فإن الأحكام متساوية، كالصحة والكمال والإجزاء، وليس حكم أولى من حكم، فيبقى الكلام متردداً بين: لا تصح الصلاة، أو لا تكمل، أو لا تجزئ، أو لا تقبل، فجاء الإجمال.
قوله: (فتتعين الصورة الشرعية، فلا يكون منه) هذا رد المصنف على الحنفية ببيان أن الحديث ليس مجملاً. ولو صدَّره المصنف رحمه الله بقوله: (قلنا) لكان أحسن، ليعلم أنه ردٌّ.
والمعنى: أن اللفظ جاء على لسان الشرع، وحرف النفي إذا دخل على عمل في لسان الشارع مثل: «لا صلاة» حمل على الصورة الشرعية، فيكون المعنى: لا صلاة معتَّدٌ بها شرعاً إلا بطهور، فلا يحتاج إلى إضمار حكم مما ذكرتم، فالصلاة بغير طهور لا تفيد، فانتفت الصحة لانتفاء الفائدة، فيكون الحديث من باب الحقيقة الشرعية؛ لأن الفعل الشرعي هو ما كان تام الشروط والأركان، فإذا نُفِي كان المراد نفي الحقيقة، ويؤيد ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم للمسيء في صلاته: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» [(413)] فَنَفَى حقيقة الصلاة؛ لفوات ركن من أركانها، وهو الطمأنينة.
ويقابل المجمل (المبيَّن) وهو المُخْرَجُ من حَيِّزِ الإشكال إلى الوضوح، والمُخْرِجُ هو المبيِّن، والإخراج هو البيان، وقد يسمى الدليل بياناً، ويختص بالمجمل، وحصول العلم للمخاطب ليس بشرط، ويكون بالكلام والكتابة، وبالإشارة، وبالفعل، وبالتقرير، وبكل مُقَيَّدٍ شرعي.(1/145)
قوله: (ويقابل المجمل المبيَّن) المبيَّن: بفتح الياء مشددة اسم مفعول، وهو لغة: الموضَّح والمظهر، وهو يقابل المجمل؛ لأنه يفهم المراد منه.
فيقال في تعريفه: ما فهم منه عند الإطلاق معنى معين، إمَّا بأصل الوضع، أو بعد البيان.
وإذا قلت: المجمل ما تردد بين معنيين... إلخ. فالمبيَّن هو: اللفظ الدال على معنى لا تردد فيه.
فمثال ما يفهم المراد منه بأصل الوضع لفظ: كتاب، سماء، أرض، ظلم، صدق،... فهذه الكلمات ونحوها مفهومة بأصل الوضع، ولا تحتاج إلى غيرها في بيان معناها.
ومثال ما يفهم المراد منه بعد التبيين قوله تعالى: {{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}} [البقرة: 43] فإن الإقامة والإيتاء كل منهما مجمل، ولكن الشارع بيّنهما، فصار لفظهما بيناً بعد التبيين[(414)]. وسيأتي مزيد أمثلة ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (وهو المخرج من حَيِّز الإشكال إلى الوضوح) هذا تعريف المبيَّن الذي ارتضاه المصنف رحمه الله.
ويرد عليه اعتراضان:
1 ـ أنه لا يدخل فيه إلا ما كان مشكلاً، دون المبيَّن بأصل الوضع مع أن المبيَّن شامل لهما، لكن قد يجاب عن ذلك بقوله فيما بعد: (ويختص بالمجمل) .
2 ـ أنه ورد فيه لفظ (الحيّز) وهو الفراغ المتوهم الذي يشغله شيء، والتبيين أمر معنوي، والمعنى لا يوصف بالاستقرار في الحيِّز[(415)].
ومعنى: (من حيز الإشكال) أي: من صفة وحال الإشكال، والإشكال: خفاء المراد بحيث لا يدرك المقصود من اللفظ.
قوله: (والمخْرِجُ: هو المبيِّن) المخرج اسم فاعل، أي: الموضِّح للإجمال هو: (المبيِّن) والمراد: الشارع إذ عنه تظهر الأحكام.
قوله: (والإخراج: هو البيان) أي: إن البيان الذي هو اسم مصدر بيَّن تبييناً وبياناً يطلق على التبيين وهو فعل المبيِّن. والتبيين: هو التوضيح. فالبيان: إظهار المعنى للمخاطب وإيضاحه، والإخراج: هو الإظهار.(1/146)
قوله: (وقد يسمى الدليل بياناً) هذا الإطلاق الثاني، أي: ويطلق البيان على ما حصل به التبيين، وهو الدليل الذي حصل به البيان.
قوله: (ويختص بالمجمل) أي: إن المبيَّن بالتعريف المذكور خاص بالمجمل الذي جاء بيانه فأصبح مبيناً بعد التبيين، وإلا فإن المبيَّن يطلق أيضاً على ما فهم المراد منه بأصل الوضع دون أن يسبقه إجمال، كما تقدم.
قوله: (وحصول العلم للمخاطب ليس بشرط) أي: ليس من شرط البيان أن يعلمه جميع المكلفين الموجودين في وقته، بل يجوز أن يكون بعضهم جاهلاً به.
ومثاله: أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بيَّن أن قوله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}} [النساء: 11] لا يتناول الأنبياء بقوله: «لا نورث ما تركناه صدقة» [(416)]، ولم يقدح في هذا البيان أن فاطمة والعباس رضي الله عنهما لم يعلما به، فسألا أبا بكر رضي الله عنه عن ميراثهما من النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم مما ترك مما أفاء الله عليه.
قوله: (ويكون بالكلام) هذا بحث فيما يكون البيان، ومن المعلوم أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بين لأمته جميع شريعته، كما في الصلاة والزكاة والصوم والحج والبيع وغير ذلك، حتى ترك الأمة على شريعة بيضاء نقية، ليلها كنهارها، قال تعالى: {{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}} [النحل: 44] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» [(417)]، لكن قد يحصل الإجمال لبعض الناس دون بعض، وهذا يختلف بحسب العلم والاطلاع والذكاء.
وقد حصل البيان بأنواع:
قوله: (بالكلام) أي: بالقول، وهذا كثير جداً، كبيانه صلّى الله عليه وسلّم أن الظلم المذكور في قوله تعالى: {{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ...} [الأنعام: 82] أنه الشرك[(418)].(1/147)
وكقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيما سقت السماء العشر» [(419)]؛ بياناً لمجمل قوله تعالى: {{وَآتُوا الزَّكَاةَ}} [البقرة: 43] ، والسنة تبين القرآن وتفسره.
وكذا وقع البيان من الله تعالى؛ قال سبحانه: {{الْقَارِعَةُ *مَا الْقَارِعَةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ *}} [القارعة: 1 ـ 3] ، ثم بينها بقوله سبحانه: {{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ *}} [القارعة: 4] وهذا من باب تفسير القرآن بالقرآن، وهو كثير.
قوله: (والكتابة) أي: ككتابة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى عماله أسنان الديات ومقاديرها، ومقادير الزكاة، كما في حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه[(420)].
قوله: (وبالإشارة) أي: كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» ، وأشار بأصابعه العشر، وقبض الإبهام في الثالثة، يعني تسعة وعشرين[(421)].
قوله: (وبالفعل) أي: كقيامه صلّى الله عليه وسلّم بأفعال المناسك أمام الأمة بياناً لمجمل قوله: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ...} [آل عمران: 97] [(422)]، وكذلك صلاته صلّى الله عليه وسلّم الكسوف على صفتها بياناً لمجمل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا» [(423)].
وأيهما أبلغ: البيان بالقول أو الفعل؟ الأكثرون على أن البيان الفعلي أقوى من البيان القولي، لأن المشاهدة أدل على المقصود وأوضح من القول، وأسرع في الفهم، وأثبت في الذهن.
ويرى الشاطبي رحمه الله أن كلاً منهما أبلغ من الآخر من جهة، فالفعل أبلغ من جهة المشاهدة للكيفية والصفة، والقول أبلغ؛ لأنه بيان للعموم والخصوص في الأحوال والأزمان والأشخاص[(424)].
قوله: (وبالتقرير) أي: ويكون بيان جواز الشيء بإقراره صلّى الله عليه وسلّم للصحابة رضي الله عنهم على فعله وهو يشاهده أو يَعْلَمُهُم يفعلونه؛ كإقراره الجارية التي سألها: «أين الله؟» قالت: في السماء[(425)].(1/148)
فهذا بيان لجواز مثل هذا القول، وتقدم أمثلة لذلك عند الكلام على «السنة».
قوله: (وبكل مُقَيَّدٍ شرعي) أي: كل مقيد من جهة الشرع فهو بيان، وهذه قاعدة كلية فيما يحصل به البيان[(426)]، وذلك مثل أن يترك الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعلاً قد أمر به، فيكون تركه بياناً لعدم وجوبه، كقوله تعالى: {{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}} [البقرة: 282] مع أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بايع ولم يشهد، عندما اشترى صلّى الله عليه وسلّم فرساً من أعرابي، فأنكر البيع[(427)]، فعلم أن الإشهاد غير واجب.
ومثال آخر: أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى التراويح في رمضان، ثم تركها خشية أن تفرض على الأمة[(428)]، فدل الترك على عدم الوجوب؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يترك واجباً.
ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، فأما إليها فجوّزه ابن حامد والقاضي، وأصحابه، وبعض الحنفية، وأكثر الشافعية، ومنعه أبو بكر عبد العزيز، والتميمي، والظاهرية، والمعتزلة.
قوله: (ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة) أي: ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه؛ لأن وقت الحاجة هو الوقت الذي يكون المخاطب مطالباً فيه بالأداء والامتثال، فيلزم عليه تكليف الإنسان بما لا يعلم، وهو تكليف له بالمحال، وهو غير واقع شرعاً، كأن يقول: صلوا الظهر، ثم لا يبين لهم كيف يصلون، وهذا النوع الأول من أنواع تأخير البيان، وهو تأخيره عن وقت الحاجة.
قوله: (فأمَّا إليها فجوَّزه ابن حامد) هذا النوع الثاني ، وهو تأخير البيان إلى وقت الحاجة إليه، فذكر قولين:
الأول : الجواز، وهو محكي عن مالك، وأكثر الشافعية، وبعض الحنفية، ورواية عن أحمد، اختارها جمع من الحنابلة، منهم الحسن بن حامد، والقاضي وأصحابه. ولهم أدلة منها:(1/149)
1 ـ قوله تعالى: {{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *} {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ *}} [القيامة: 18، 19] . وجه الدلالة: أن الله تعالى رتب بيان القرآن بـ (ثم) وهي للتراخي، وهذا يقتضي جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
2 ـ أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أخّر البيان إلى وقت الحاجة، وهذا من أقوى أدلتهم، ففي قوله تعالى: {{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} ...} [الأنفال: 41] دلالة على أن جميع الغنيمة لهذه الأصناف، ثم بيّن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول الآية الكريمة أن «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سَلَبُهُ» [(429)]. وأن المراد بذي القربى: بنو هاشم وبنو المطلب، دون بني نوفل وبني عبد شمس، وقد أَخَّرَ النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بيان ذلك إلى أن قَسَمَ الخمس وَمَنَعَ منه بني عبد شمس وبني نوفل؛ مع أن الكل أولاد عبد مناف، حتى سئل عن ذلك فقال: «بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» [(430)]، وقال: «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام» [(431)].
قوله: (ومنعه أبو بكر عبد العزيز[(432)] ...) هذا القول الثاني : وهو المنع، وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز، والتميمي، وهو مذهب الظاهرية، والمعتزلة.
قالوا: لو جاز تأخير البيان، فإمَّا إلى مدة معينة، أو إلى الأبد، وكلاهما باطل، فأمَّا إلى مدة معينة فلكونه تحكماً، ولكونه لم يقل به أحد، وأمَّا إلى الأبد فلكونه يلزم عليه الخطاب بالمجمل بدون بيانه، وهو خطاب بما لا يُفهم، وهذا عبث وتجهيل للسامع.
وهذا قول مرجوح، فإنه لا تحكم بتأخير البيان إلى مدة معينة عند الله تعالى، وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلِّفُ به فيه[(433)]، والله تعالى أعلم.
* * *(1/150)
فإن دلّ على مفهومات أكثر من واحد مطلقاً فعام، وقد حدّه قوم بأنه اللفظ المستغرق لما يصلح له. وهو من عوارض الألفاظ، فهو حقيقة فيها مجاز في غيرها، وأصله: الاستيعاب والاتساع.
.....................................................
باب العام
قوله: (فإن دل على مفهومات أكثر من واحد مطلقاً فعام) شرع المصنف رحمه الله في الكلام على العام والخاص، ثم المطلق والمقيد، وهي من مباحث دلالات الألفاظ، والبحث فيها من المباحث الأصولية المفيدة؛ لأن استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة على أسس سليمة لا يتم إلا بمعرفة شروط الاستدلال، ومن ذلك ما يتعلق بدلالات الألفاظ، من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، ونحو ذلك مما جاء في نصوص الكتاب والسنة.
والعام لغة: اسم فاعل من (عَمَّ) أي: شَمِلَ، يقال: عمّ المطر وغيره عموماً فهو عام[(434)].
وأمَّا في الاصطلاح فذكر له تعريفين:
قوله: (ما دل على مفهومات أكثر من واحد مطلقاً) هذا التعريف الأول للعام، والمراد بقوله: (مطلقاً) أي: بلا حدٍّ معين، نحو: تَصدقْ على الفقراء، بخلاف مثل: (أكرم رجالاً) فهو يدل على أكثر من واحد لكن إلى حد معين؛ لأنه جمع منكر في حال الإثبات، فلا يعم على أحد القولين، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (وقد حدَّه قوم بأنه اللفظ المستغرق لما يصلح له) هذا التعريف الثاني، وهو من أحسن تعاريف العام، لكنه يحتاج إلى زيادة: (بوضع واحد بلا حصر) ليكون جامعاً مانعاً[(435)].
وقوله: (اللفظ) مبني على أن العموم من عوارض الألفاظ، كما سيأتي، وقوله: (المستغرق) أي: الشامل لكل ما يصلح له اللفظ، من غير أن يكون في اللفظ دلالة على انحصاره بعدد معين.
فكلمة: (الطلاب) لفظ عام؛ لأنه يشمل جميع الأفراد من هذا الجنس، بلا تحديد في عدد معين.(1/151)
وقيد الاستغراق يخرج المطلق، والنكرة في سياق الإثبات؛ لأن المطلق لم يوضع للأفراد ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ وإنما وضع لحقيقة الشيء وماهيته[(436)]، فلا يكون مستغرقاً لها، نحو: فتحرير رقبة، وأما النكرة فإنها وإن وضعت للفرد الشائع ـ سواء كان واحداً، كما في النكرة المفردة، كرجل، أم متعدداً، كما في النكرة المثناة أو المجموعة ـ إلا أن النكرة لم تستغرق جميع ما وضعت له، بمعنى أنها لم تتناوله دفعة واحدة، بل على سبيل البدل[(437)]. وسيأتي بيان ذلك في باب «المطلق» ـ إن شاء الله تعالى ـ.
واشتراط الاستغراق في العام موضع خلاف بين الأصوليين يترتب عليه إدخال الجمع المنكر في صيغ العموم أو عدم إدخاله.. وقولنا: (بوضع واحد)، أي: إن استغراق العام لما يصلح له إنما يكون بواسطة وضع واحد، لا بواسطة أوضاع متعددة.
وهذا القيد لإخراج المشترك اللفظي (كالعين) فلا يسمى عاماً بالنسبة إلى شموله الجارية والباصرة؛ لأنه لم يوضع لهما وضعاً واحداً، بل لكل منهما وضع مستقل.
وقولنا: (بلا حصر) هذا قيد لإخراج اسم العدد، كمائة وألف، فإنها وإن كانت تشمل اثنين فصاعداً لكنها بحصر، فليست من العام؛ لأن الكثرة في العام غير محصورة، وفي العدد محصورة.
قوله: (وهو من عوارض الألفاظ...) عوارض بمعنى: صفات، فالعام من صفات اللفظ حقيقة، بمعنى أن العرب وضعت للعموم صيغاً تخصه، وأمَّا المعنى فلا يوصف بذلك، بل يقال فيه: أعمّ وأخصّ، واللفظ عام وخاص، ولا يطلق العام على المعنى إلا مجازاً؛ لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له، ولا خلاف في كون العموم من عوارض الألفاظ، لكن هل يختص بالألفاظ، أو يكون في المعاني أيضاً؟ هذا موضع خلاف.
وإنَّما خُصَّ المعنى بأفعل التفضيل (الأعم)؛ لأنه أهم من اللفظ؛ لأنه المقصود واللفظ وسيلة إليه؛ ولأن المعاني أعم من الألفاظ، ومنهم من يقول فيها: عام وخاص، كالألفاظ[(438)].(1/152)
قوله: (وأصله: الاستيعاب والاتساع) هذا معنى لغوي، والعام اصطلاحاً ملحوظ فيه هذا المعنى اللغوي، إلا أنهم اختلفوا في تعريفه، كما تقدم.
وألفاظه خمسة: الاسم المحلّى بالألف واللام، والمضاف إلى معرفة، كعبد زيد، وأدوات الشرط كـ(مَنْ) فيمن يعقل، و(ما) فيما لا يعقل، و(أيٍّ) فيهما، و(أين) و(أيان) في المكان، و(متى) في الزمان، و(كلٌّ) و(جميع)، والنكرة في سياق النفي، كلا رجل في الدار.
.........................................................
قوله: (وألفاظه خمسة...) تبع فيه ابن قدامة في «الروضة» وغيره[(439)]، وإلا فهي أكثر من ذلك[(440)].
قوله: (الاسم المحلى بالألف واللام) المراد بها: الاستغراقية، وعلامتها: صحة وقوع (كل) موقعها، سواء كان مدخولها مفرداً، كقوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] أم جمعاً، كقوله تعالى: {{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}} [النور: 59] ، أم اسم جنس وهو ما لا واحد له من لفظه، كقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}} [النساء: 1] أمَّا أل العهدية ففيها تفصيل يأتي ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (والمضاف إلى معرفة...) أي: مفرداً كان، كعبد زيدٍ، وكقوله تعالى: {{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}} [إبراهيم: 34] أم جمعاً كقوله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}} [النساء: 11] فإذا قال: هذا وقف على ولدي، تناول جميع أولاده الذكور والإناث[(441)].
قوله: (وأدوات الشرط) المراد بالأدوات هنا: الأسماء، ولو عبر بها لكان أدق؛ لأن من الأدوات (إن) وهي حرف، وليست من صيغ العموم.(1/153)
قوله: (كمن فيمن يعقل) مثل قوله تعالى: {{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}} [النساء: 123] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» [(442)]، ولو قال المصنف: (فيمن يَعْلَم) لكان أولى؛ لأن الله تعالى وصف نفسه بالعلم، وهي قد تستعمل في الدلالة عليه سبحانه، في مثل: «سبحان من يُسبِّح الرعد بحمده»[(443)].
قوله: (وما فيما لا يعقل) كقوله تعالى: {{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}} [فاطر: 2] .
قوله: (وأيٍّ فيهما) أي: في العاقل وغير العاقل، ففي العاقل كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» [(444)] وفي غير العاقل كقوله تعالى: {{أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ}} [القصص: 28] .
قوله: (وأين وأيان في المكان) أمَّا (أين) فهي للمكان، كقوله تعالى: {{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}} [البقرة: 115] ، وقوله تعالى: {{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُّمُ الْمَوْتُ}} [النساء: 78] . أمَّا (أيان) فليست للمكان بل للزمان، نحو: أيان تسافر أسافر[(445)].
قوله: (ومتى في الزمان) نحو: متى تسافر أسافر.(1/154)
قوله: (وكل وجميع) أمَّا «كل»، فهي من أقوى صيغ العموم، كقوله تعالى: {{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا *}} [مريم: 95] ، وقوله تعالى: {{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}} [النمل: 87] وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» [(446)]، وأما «جميع» فإنها مثل «كل» في الدلالة على العموم إلا أن دلالتها ظاهرية ودلالة «كل» نصيّة[(447)] ومثالها قوله تعالى: {{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ *}} [يس: 32] ، وكل تضاف للمعرفة كما تقدم، وللنكرة كقوله تعالى: {{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}} [آل عمران: 185] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل امرىءٍ في ظل صدقته» [(448)]. وأمَّا (جميع) فلا تضاف إلا إلى معرفة، نحو: حضر جميع الطلاب.
قوله: (والنكرة في سياق النفي...) ، أي: سواء باشرها النافي، نحو: ما طالبٌ حاضراً. أم باشر عاملها نحو: ما حضر طالب[(449)]، وسواء ذكرت معها (مِنْ)، كقوله تعالى: {{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ}} [آل عمران: 62] أم لم تذكر، كقوله تعالى: {{وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}} [الكهف: 49] هذا ما قاله الأصوليون. وهو المختار، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.(1/155)
وكذلك تفيد النكرة العموم في سياق النهي، كقوله تعالى: {{فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}} [الجن: 18] ، أو الشرط، كقوله: {{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ}} [التوبة: 6] ، أو الاستفهام الإنكاري، كقوله تعالى: {{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}} [الأنعام: 46] أو في سياق الامتنان، كقوله تعالى: {{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}} [الفرقان: 48] فكل ماء نزل من السماء فهو طهور، وقوله تعالى: {{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ *}} [الرحمن: 68] ووجه ذلك: أن الامتنان مع العموم أكثر؛ إذ لو صدق بالنوع الواحد من الفاكهة لم يكن في الامتنان بالجنتين كبير معنى[(450)].
قال البستي: الكامل في العموم الجمع؛ لوجود صورته ومعناه، والباقي قاصر؛ لوجوده فيه معنى لا صورة، وأنكره قوم فيما فيه الألف واللام، وقوم في الواحد المعرّف خاصة، كـ (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةِ) وبعض متأخري النحاة في النكرة في سياق النفي إلا مع (مِنْ) مُظْهَرَةً.
وأقل الجمع ثلاثة. وحُكِيَ [عن][(6)] أصحاب مالك، وابن داود، وبعض النحاة.
والشافعية: اثنان. والمخاطِبُ يدخل في عموم خطابه، ومنعه أبو الخطاب في الأمر، وقوم مطلقاً.
...........................................................
قوله: (قال البُسْتي[(451)] : الكامل في العموم الجمع...) أي: إن الكامل في العموم والواضح فيه هو لفظ الجمع، مثل قوله تعالى: {{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}} [الأحزاب: 35] فهو أكمل من غيره كالمفرد، مثل: الرجل، أو المعرّف باللام، كالسارق؛ وذلك لأن العموم وُجِدَ في الجمع (بصورته) أي: صيغته (ومعناه).
أمَّا صيغته فتفيد التعدد، وأمَّا معناه فكذلك، بخلاف المفرد كالرجل، فإن التعدد في مدلوله لا في لفظه وصورته، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الجمع معرّفاً بأل الاستغراقية أو بالإضافة، كما تقدم بيان ذلك.(1/156)
وأمَّا الجمع المنكر في سياق الإثبات كرجال، ففيه خلاف، هل يفيد العموم لو قال: أكرم رجالاً، أو يمتثل بإكرام أقل الجمع؟ الثاني هو المختار، وهو قول الجمهور؛ لأن أهل اللغة يسمونه نكرة، ولو كان عاماً لم يكن نكرة، لمغايرة معنى النكرة لمعنى العام؛ لأن النكرة تطلق على وحدة غير معينة كرجل، والعام يطلق على جميع وحدات الماهية[(452)].
قوله: (وأنكره قوم فيما فيه الألف واللام) لما ذكر المؤلف صيغ العموم، ذكر الخلاف في بعضها، والحق أن هذا خلاف ضعيف لا يعول عليه.
فأنكر العموم قوم في الجمع المحلى بالألف واللام[(453)]. قالوا: لأن المتيقن في مدخولها هو الجنس الصادق ببعض الأفراد نحو: تزوجت النساء، وملكت العبيد. فلا يفيد الاستغراق، ويُرَدُّ على هؤلاء بجوابين:
1 ـ أن المحلى بـ (أل) فيه تفصيل، فإن كانت استغراقية فهو للعموم ـ كما تقدم ـ، وإن كانت لتعريف الجنس فليست للعموم، نحو: الرجل خير من المرأة، قال تعالى: {{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}} [آل عمران: 36] وإن كانت عهدية ـ وهي التي تقدم لمدخولها ذكر ـ والمعهود عام فالمعرَّف بها عام، نحو قوله تعالى: {{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ *فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *}} [ص: 71 ـ 73] .
وإن كان المعهود خاصاً فالمعرَّف خاص، كقوله تعالى: {{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}}[(454)] [المزمل: 15، 16] .(1/157)
2 ـ نصوص من الكتاب والسنة ظهر فيها العموم بدخول الألف واللام كقوله تعالى: {{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ *}} [المرسلات: 11] وقوله تعالى: {{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [آل عمران: 134] وفي الحديث: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كلَّ عبدٍ لله صالح في السماء والأرض...» [(455)]. ففيه التنصيص على أن صيغة الجمع المحلى بلام الجنس تقتضي العموم لكل الأفراد الداخلة تحتها[(456)].
قوله: (وقوم في الواحد...) أي: أنكر العموم في المفرد المحلى بالألف واللام قوم، منهم الفخر الرازي[(457)]، لأن المتيقن هو الجنس الصادق ببعض الأفراد، نحو: لبست الثوب، وشربت الماء، ما لم تقم قرينة على العموم، كقوله تعالى: {{إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *}{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}} [العصر: 2، 3] فالاستثناء دليل العموم، والحقيقة أن قرينة البعضية موجودة بدلالة الحال؛ إذْ لا يُلْبس جميع الثياب، ولا يُشْرب جميع الماء..
قوله: (وبعض متأخري النحاة في النكرة في سياق النفي إلا مع مِنْ مظهرةً) أي: إن بعض المتأخرين من النحاة، كالمبرد والجرجاني قالوا: إن النكرة في سياق النفي لا تفيد العموم إلا إذا ظهرت معها (مِنْ) الاستغراقية.
قالوا: لأنَّ قول القائل: ما جاءني رجل، لا يقتضي استغراق الجنس، فيجوز أن يقول: بل أكثر، بخلاف ما إذا دخلت (من) [(458)].
والحق أنَّها تفيد العموم ولو لم تكن (مِنْ) مظهرة، لقوله تعالى: {{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}} [البقرة: 255] فلو لم تكن النكرة في سياق النفي للعموم لما كان ذلك نفياً لجميع الآلهة سوى الله سبحانه وتعالى، ولقد فهم الصحابة رضي الله عنهم العموم من قوله تعالى: {{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}} [الأنعام: 82] فقالوا: وأيّنا لم يظلم؟ فأنزل الله: {{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}} [لقمان: 13] [(459)].(1/158)
وما ذكروه لا يتم الاستدلال به، فإن القائل: ما جاءني رجل، يفيد كلامه العموم لو اقتصر عليه، فإذا قال: بل أكثر أو بل رجلان، فهو قرينة على أنَّه لم يرد نَفْيَ ماهية الرجل، بل نَفْيَ واحدٍ من الجنس، فيكون ذلك قرينة صارفة عن إرادة العموم، كما لو قال: نجح الطلاب إلا خالداً[(460)].
قوله: (وأقل الجمع ثلاثة...) ذكر القولين في أقل الجمع، والمراد به: جمع السلامة، وجمع التكسير[(461)]:
الأول: أن أقل الجمع ثلاثة، وهذا مذهب الجمهور. وذلك لإجماع أهل اللغة على تفريق العرب بين الجمع والتثنية في أن كلاً منهما له لفظ يختص به، وعدم نعت أحدهما وتأكيده بالآخر، فلا يقال: رجال اثنان، أو رجلان ثلاثة، أو الرجال كلاهما، أو الرجلان كلهم.
وهذا يدل على أن الاثنين ليس جمعاً، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» [(462)]. ففرَّق بين الاثنين والثلاثة.
قوله: (وحكي عن أصحاب مالك وابن داود[(463)] وبعض النحاة[(464)]. والشافعية اثنان) . هذا القول الثاني: وهو أن أقل الجمع اثنان، واستدلوا بما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}} [النساء: 11] وهي تُحجب بالاثنين من الثلث إلى السدس، على قول الجمهور؛ فدلَّ على أن الاثنين جمع.
2 ـ قوله تعالى: {{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ...} [الحج: 19] ، وقوله تعالى: {{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}} [الحجرات: 9] . فلما أعاد ضمير الجمع وهو الواو على ما قبله دلَّ على أن الاثنين جمع.
3 ـ حديث: «الاثنان فما فوقهما جماعة» [(465)].
والقول الأول: هو الراجح، لقوة مأخذه. قال الشوكاني: (وهذا هو القول الحق الذي عليه أهل اللغة والشرع، وهو الأسبق إلى الفهم عند إطلاق الجمع. والسبق دليل الحقيقة، ولم يتمسك من خالفه بشيء يصلح للاستدلال به)اهـ[(466)].
أمَّا الإجابة عن أدلتهم:(1/159)
1 ـ فإن استدلالهم بأن لفظ (الإخوة) في الآية جاء جمعاً وقد حجبت باثنين لا دليل فيه؛ لأنَّ ابن عباس رضي الله عنهما قال لعثمان رضي الله عنه: (ليس الأخوان بإخوة في لسان قومك). فوافقه عثمان على ذلك، وإنَّما صار إلى هذا الحكم للإجماع[(467)].
ويرى ابن القيم أن لفظ الجمع قد يطلق على الاثنين مع البيان وعدم اللبس، وأمَّا عند الإطلاق فهو يختص بما زاد على الاثنين[(468)].
2 ـ وأمَّا الآيتين فالأولى؛ يجاب عنها: بأن (الخصم) مصدر يقع على الواحد والاثنين وما فوقهما، كلفظ العدو ونحوه، وأمَّا الآية الثانية فإن جمع الضمير باعتبار الأفراد، لأنَّ كلّ طائفة تشمل أفراداً.
3 ـ وأما حديث: «الاثنان فما فوقهما جماعة» ، فعنه جوابان:
أ ـ أنَّه ضعيف، كما تقدم.
ب ـ على فرض صحته ـ لوجود ما يشهد له ـ فالاستدلال به خارج عن محل النزاع؛ لأنَّ المراد أن الاثنين جماعة في حصول الفضيلة، ولم يقل: إن الاثنين فما فوقهما جمع، بل قال: «جماعة». والشارع يبين الأحكام التي بعث لبيانها، لا اللغات التي عرفت من غيره.
وينبني على الخلاف مسائل، ومنها: مسألة الإقرار، فلو قال: له عليَّ دراهم، أو ثياب أو نحو ذلك، فإذا أُلزم بأقل الجمع فعلى الأول يلزمه ثلاثة، وعلى الثاني يلزمه اثنان.
قوله: (والمخاطب يدخل في عموم خطابه) اختلف الأصوليون في المخاطِب ـ بكسر الطاء اسم فاعل ـ إذا خاطب غيره بصيغة العموم هل يدخل هو في عموم ذلك الخطاب أو لا؟
في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنَّه يدخل في عموم خطابه مطلقاً، سواء كان الكلام خبراً أم إنشاء أم أمراً أم نهياً، إذا كان صالحاً للدخول، ولا يخرج عنه إلا بدليل. وهذا مذهب الجمهور؛ لأنَّ اللفظ عام، والأصل اتباع العموم إلا بدليل يخرج المتكلم من كلامه.
وقولنا: (إذا كان صالحاً) يخرج نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم...» [(469)] لأنَّه خطاب للأمة، وهذا هو القول الأول.(1/160)
قوله: (ومنعه أبو الخطاب في الأمر) هذا القول الثاني ، وهو أن المخاطِب غيره بأمر لا يدخل في هذا الأمر؛ لأنَّه قول يتضمن طلب الفعل ممن هو دونه، ولا يتصور أن يكون الإنسان دون نفسه، فلم توجد حقيقة الأمر.
قوله: (وقوم مطلقاً) هذا القول الثالث ، وهو أنَّه لا يدخل في الخطاب مطلقاً، سواء كان خبراً أم إنشاءً؛ لقوله تعالى: {{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}} [الزمر: 62] ولو تناول المتكلمَ عمومُ كلامه للزم أن يكون الله عزّ وجل وصفاته مخلوقاً لنفسه لتناول عموم لفظ (الشيء) له، وذلك محال.
والقول الأول هو المختار؛ لقوة مأخذه، ويؤيده ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يُدخل أحداً منكم عملُه الجنة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة» [(470)].
ووجه الدلالة: أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم هل هو داخل في هذا الخطاب أجابهم بما يفهم منه دخوله حيث قال: «ولا أنا...» .
وأمَّا قوله تعالى: {{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}} [الزمر: 62] فإن لفظ (شيء) يتناوله سبحانه وتعالى؛ لقوله جل وعلا: {{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}} [القصص: 88] لكن دلَّ العقل على أن ذاته تعالى غير مخلوقة.
وينبني على ذلك ما لو قال: هذا وقف على الفقراء، فافتقر، فإنَّه يدخل في هذا الوقف على القول المختار.(1/161)
ويجب اعتقاد عمومه في الحال في إحدى الروايتين، اختارها أبو بكر، والقاضي، وهي قول الحنفية، والأخرى: لا، حتى يبحث فلا يجد مخصصاً، اختارها أبو الخطاب، وعن الشافعية: كالمذهبين، وعن الحنفية: إن استمع منه على وجه تعليم الحكم، فكالأول، وإلا كالثاني والعبد يدخل في الخطاب للأمة والمؤمنين؛ لأنه منهم، والإناث في الجمع بالواو والنون، ومثل: «كلوا واشربوا» عند القاضي، وبعض الحنفية، وابن داود؛ لغلبة المذكر، واختار أبو الخطاب، والأكثرون: عدم دخولهن.
..............................................................
قوله: (ويجب اعتقاد عمومه في الحال) هذه المسألة هي مسألة العمل بالعام، وهي من أهم مسائل العام؛ لأنَّ ما قبلها بحث في الصيغ.
وظاهر كلام المصنف أن المسألة خاصة باعتقاد العموم، دون العمل، وليس كذلك. بل هي شاملة لاعتقاد العموم، والعمل بمقتضاه، كما صرح بذلك بعض الأصوليين[(471)].
وقد اختلف العلماء: هل يجب العمل بالعام على عمومه أو يُمنع العمل حتى يُبحث عن مخصص؟
قوله: (ويجب اعتقاد عمومه في الحال في إحدى الروايتين...) هذا القول الأول في المسألة، وهو أنه يجب اعتقاد العموم والعمل به إذا حضر وقت العمل من غير توقف على البحث عن مخصص، وهذا مذهب الجمهور، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وهو قول الحنفية.
لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك، واللفظ الموضوع للعموم يجب العمل بمقتضاه، ومن أدلة ذلك: ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في إثم مانع الزكاة، وفيه: (قيل: يا رسول الله فالحُمُرُ؟ قال: «ما أنزل عليّ في الحُمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}} [الزلزلة: 7، 8] )[(472)].(1/162)
قال الحافظ ابن حجر: (فيه تحقيقٌ لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها مُلزمة حتى يدل دليل التخصيص)
[(473)].
قوله: (والأخرى: لا، حتى يبحث فلا يجد مخصصاً، اختارها أبو الخطاب) هذا القول الثاني ، وهو أنه لا يجب اعتقاد العموم في الحال ولا العمل به حتى يبحث عن مخصص فلا يجد، وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو الخطاب[(474)].
وحجة هؤلاء: أن العموم معناه الشمول، بشرط التجرد من القرينة، ونحن لا نعلم عدم القرينة إلا أن نطلب فلا نجد؛ لأن عدم علمنا بالقرينة لا يعني عدم وجودها، فلما كان محتملاً للتخصيص لم نعمل به.
قوله: (وعن الشافعية: كالمذهبين) أي: إن الشافعية لهم قولان في المسألة. وقد ورد من نصوص الشافعي ما يدل على ذلك[(475)].
قوله: (وعن الحنفية: إن استمع منه على وجه تعليم الحكم فكالأول وإلا كالثاني) هذا القول الثالث ، وهو أنه إن سمعه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن طريق تعليم الحكم فالواجب اعتقاد عمومه في الحال، وإن سمعه من غيره فلا يجب اعتقاد عمومه، وذلك أنه إذا سمعه من الرسول على وجه بيان الحكم علمنا أنه يقتضي الشمول؛ إذ لو كان مخصصاً لبيّنه حال خطابه.
والقول الأول أرجح ؛ لأن الأصل عدم التخصيص فيستصحب حتى يرد مخصص.
وأمَّا القول الثالث: فيجاب عنه بأنه لا يلزم البيان حال الخطاب، بل يجوز ـ على الراجح ـ تأخير البيان إلى وقت الحاجة، كما تقدم.
وأمَّا القول الثاني: فيجاب عنه بأن الأصل عدم التخصيص، والعام كالظاهر يجب العمل به حتى يوجد دليل يصرفه عن ظاهره؛ لأن العموم ظاهر في شمول جميع الأفراد، فيجب أن يعمل به على ظاهره.
وينبغي أن يعلم أن اعتقاد العموم في الحال خاص بالممارسين لأدلة الكتاب والسنة، العارفين بها، دون غيرهم ممن هو أقل منهم في هذا الشأن.(1/163)
وقد مثّل بعض الأصوليين لمسألة العمل قبل البحث عن المخصص بما ورد في حديث جابر رضي الله عنه في قصة العنبر الذي ألقاه البحر، وكان أمير القوم أبا عبيدة رضي الله عنه، فحكم بتنجيس ميتة البحر تمسكاً بعموم القرآن، ثم إنه استباحها بحكم الاضطرار، مع أن عموم القرآن في الميتة مخصَّص بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ، ولم يكن عنده ولا عند أحد من أصحابه خبر من هذا المخصص[(476)].
قوله: (والعبد يدخل في الخطاب للأمة والمؤمنين؛ لأنه منهم) أي: لأن الخطاب إذا كان بلفظ الناس أو المؤمنين فهو خطاب لكل من هو من الناس والمؤمنين، والعبد من الناس والمؤمنين حقاً، فكان داخلاً في عمومات الخطاب. وهذا مذهب الأكثرين وهو الأقوى دليلاً؛ لأن العبد من جملة المخاطبين بنصوص الكتاب والسنة، وهو يصح تكليفه، والخطاب متناول له فوجب دخوله فيه كالحر، كما في قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}} [النساء: 1] وقوله: {{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}} [النور: 31] .
ومما يدل على دخولهم استثناء الشارع لهم في وجوب الجمعة والجهاد والحج، وذلك لأمر عارض وهو فقره، واشتغاله بخدمة سيده ـ على ما ذكره الفقهاء ـ فاستثناؤهم دليل على أنهم داخلون في الخطاب.
قوله: (والإناث في الجمع بالواو والنون) أي: وتدخل الإناث في الجمع بالواو والنون، والمراد به: جمع المذكر السالم، نحو: المؤمنين والصابرين، ودليل ذلك قوله تعالى: {{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}} [يوسف: 29] ، وقوله: {{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}} [التحريم: 12] وهذه جموع صحيحة مذكرة دخلت فيها النساء قطعاً.(1/164)
قوله: (ومثل: «كلوا واشربوا» عند القاضي وبعض الحنفية وابن داود؛ لغلبة المذكر) هذا معطوف على ما قبله؛ لأن محل النزاع هو جمع المذكر السالم وضمير الجمع المتصل بالفعل، وهو واو الجماعة[(477)]، كما في قوله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}} [الأعراف: 31] فالقول الأول للقاضي، ومن وافقه أن النساء يدخلن في ذلك لاتفاق أهل اللغة على أن الذكور والإناث إذا اجتمعوا غُلِّبَ الذكور، فيقال: الرجال والنساء دخلوا، وقد عُهِد من الشارع في خطابه أنه يعم القسمين، ويدخل النساء بطريق التغليب، وهذا في الخطاب المطلق، أمَّا المقيد مثل: {{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}} [الأحزاب: 35] فلا ريب في عدم دخولهن.
وقد دخلن في أوامر الشارع ونواهيه بلفظ: المذكر، كقوله تعالى: {{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}} [البقرة: 43] ، وقوله: {{وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى}} [الإسراء: 32] ، وقوله: {{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}} [البقرة: 36] وحواء داخلة في هذا الخطاب إجماعاً.
قوله: (واختار أبو الخطاب والأكثرون: عدم دخولهن) هذا القول الثاني في المسألة، ودليلهم قوله تعالى: {{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}} [الأحزاب: 35] ، وقوله تعالى: {{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا}} [النور: 30] ، ثم قال: {{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ}} [النور: 31] ؛ وعَطْفُهنَّ عليهم يدل على عدم دخولهن.
والقول الأول هو المختار؛ لقوة دليله، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبق المفرِّدون» . قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» [(478)]. فلولا دخولهن في لفظ «المفردون» وهو جمع مذكر سالم، لم يحسن التقسيم بعد ذلك[(479)].(1/165)
وأمَّا ذكرهن منفردات فيكون لغرض: كالتبيين، والإيضاح، وتأكيد التزامهن بالحكم، وهذا لا يمنع دخولهن في اللفظ العام الصالح لهن، كما في قوله تعالى: {{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ *}} [البقرة: 98] فأفرد جبريل وميكال ـ عليهما السلام ـ من جملة الملائكة وهما داخلان في اللفظ العام.
والظاهر أن الخلاف في هذه المسألة لفظي، لاتفاق الفريقين على دخول النساء في عموم الأحكام الشرعية، ما لم يرد مخصص، إلا أن الفريق الأول جعل دخولهن مستفاداً من اللغة، والفريق الثاني جعله مستفاداً من عُرف الشارع والأدلة الدالة على استواء الرجال والنساء في الأحكام[(480)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولا خلاف بين الفريقين أن آيات الأحكام والوعد والوعيد التي في القرآن تشمل الفريقين وإن كانت بصيغة المذكر...)[(481)].
وأمَّا ما لا يفرق فيه بين المذكر والمؤنث فلا ريب في دخولهن فيه، كقوله تعالى: {{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}} [النحل: 97] فلولا اشتمال لفظ (مَنْ) على الذكور والإناث لم يحسن التقسيم بعد ذلك، وكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدل دينه فاقتلوه» [(482)]، فتقتل المرأة إذا ارتدت[(483)] ـ على الأرجح في هذه المسألة ـ تمسكاً بهذا العموم، وعدم ورود أدلة قوية يمكن أن تخصصه.
وقول الصحابي: «نَهَى عن المُزابَنَةِ»، و«قَضَى بالشُّفْعَة»؛ عام. والمعتبر اللفظ، فيعم وإن اختص السبب.
وقال مالك وبعض الشافعية: يختص بسببه. فإن تعارض عمومان وأمكن الجمع بتقديم الأخص أو تأويل المحتمل فهو أولى من إلغائهما، وإلا فأحدهما ناسخ إن عُلِمَ تأخره، وإلا تساقطا.
..............................................................(1/166)
قوله: (وقول الصحابي «نهى عن المزابنة» و«قضى بالشفعة» عام) المراد بالمزابنة: بيع الرطب في رُؤوس النخل بالتمر، وبيع العنب بالزبيب كيلاً ـ كما تقدم ـ، وقد جاء النهي عنها في حديث ابن عمر رضي الله عنهما[(484)]، وعلة النهي لما فيها من الغبن والجهالة.
وأمَّا الشفعة فهي: انتقال حصة الشريك إلى شريكه ممن اشتراها بالثمن الذي استقر عليه العقد، وقد جاءت في حديث جابر رضي الله عنه قال: (قضى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بالشفعة في كل ما لم يقسم...) الحديث[(485)].
ومراد المؤلف رحمه الله بيان مسألة ما إذا حكى الصحابي فعلاً من أفعال النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم ظاهره العموم، فهل يكون عاماً؟ اختلف الأصوليون في ذلك.
فالأكثرون على أنه عام يُستدل به في كل مزابنة وكل شفعة، كما ذكر المصنف؛ لأن الصحابي عدل ضابط، فلا يروي ما يدل على العموم إلا وهو جازم بالعموم.
ويرى آخرون كإمام الحرمين والرازي وأكثر الأصوليين ـ فيما حكاه الآمدي[(486)] ـ أنه لا يفيد العموم؛ لأن هذه قضايا وأحكام وقعت من النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم في محالٍّ معينة، فحكاها الرواة عنه فلا عموم فيها، ولأن الحجة إنَّما هي في المحكي، وهو قول النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أو فعله، وليست في الحكاية أي: لفظ الراوي. والمحكي قد يكون خاصاً فيتوهمه عاماً.
والقول الأول أرجح، وهو اختيار الآمدي والشوكاني وغيرهما[(487)]؛ لقوة مأخذه، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحتجون بالعمومات من أفعاله صلّى الله عليه وسلّم دون نكير، وقد رجع ابن عمر رضي الله عنهما إلى حديث رافع بن خديج رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المخابرة) [(488)]. وأشباه ذلك كثير، ولأن قَصْرَ فِعْلِ النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم على حالة معينة يؤدي إلى ترك كل عموم السنة بدعوى الشك في إحالة الصحابة للألفاظ[(489)].(1/167)
وأمَّا قولهم: إن الحجة في المحكي لا في لفظ الحاكي، فليس بشيء، بل الحجة في عموم لفظ الحاكي؛ إذ أنه عدل عارف بدلالات الألفاظ، كما تقدم.
قوله: (والمعتبر اللفظ، فيعم وإن اختص السبب) إذا ورد العام على سبب خاص، فهل يسقط عمومه؟ هذه المسألة لها حالتان:
الأولى: ألا يدل دليل على تخصيص العموم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، سواء كان السبب سؤالاً أم واقعة، فيجب العمل بعمومه، ومثاله: ما ورد أن قوماً من الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ولو توضأنا بما معنا من الماء عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» [(490)].
فصيغة العموم وهي قوله: «هو الطهور ماؤه» تدل بعمومها على أن ماء البحر مطهِّر كل أنواع التطهير، في حال الضرورة والاختيار، ولا عبرة بورود السؤال عن شيء خاص، وهو الوضوء، ولا بكون السؤال ورد في حال الضرورة، وهو خشية العطش.
ومثال ذلك ـ أيضاً ـ حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلة، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له، فأُنزلت عليه {{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ *}} [هود: 114] قال الرجل: ألي هذه؟ قال: «لمن عمل بها من أمتي» وفي رواية: «بل للناس كافة» [(491)].
ومثل ذلك ـ أيضاً ـ: آيات الظهار التي في أول سورة المجادلة فإن سبب نزولها ظهار أوس بن الصامت رضي الله عنه، والحكم عام فيه وفي غيره، لأن الله تعالى قال: {{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ}} [المجادلة: 2] والاسم الموصول من صيغ العموم، ولم يرد دليل مخصِّص، وعدول الشارع عن اللفظ الخاص إلى اللفظ العام لا بُدَّ له من فائدة، وفائدته هي تعميم الحكم، فإن الكتاب والسنة إنَّما جاءا لبيان أحكام الشريعة العامة[(492)].(1/168)
الثانية: أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله العام، فيختص بما يشبهها.
وذلك كحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس من البر الصيام في السفر» ، فإن سببه أنه صلّى الله عليه وسلّم كان في سفر فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظلل عليه. فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: «ليس من البر الصيام في السفر» [(493)]، فهذا الحديث عام؛ لعموم (البر)، و(الصيام)، فدل على انتفاء كلِّ برٍّ عن كلِّ صيامٍ في السفر، لكن لا يؤخذ بعمومه في الأحوال، فيحكم على الصيام في السفر بأنه ليس من البر، وإنَّما هو خاص بمن يشبه حال الصحابي الذي قيل الحديث بسببه ـ كما ذكر ابن دقيق العيد رحمه الله[(494)] ـ.
والدليل على ذلك: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم صام في السفر، حيث لا يشق عليه، وهو لا يفعل ما ليس براً[(495)].
وقوله: (وقال مالك وبعض الشافعية: يختص بسببه) هذا القول الثاني في مسألة ورود العام على سبب الخاص. وهو أن العام يختص بسببه، ولا يتعداه إلى غيره؛ أما ما شابهه فلا يُعلم حكمه من النص العام، وإنما بالقياس أو من نص آخر؛ لأن الكلام إنما سيق لأجل السبب، فهو كالجواب له، والجواب شأنه أن يكون مطابقاً للسؤال ولا يزيد عليه، فيخصَّص العموم به[(496)].
وقد ذكر الشنقيطي رحمه الله أن مالكاً رحمه الله يوافق الجمهور في هذه المسألة[(497)]. وحكى القرافي رحمه الله عن مالك روايتين، وأمَّا الشافعية فلهم قولان.
وثمرة الخلاف في هذه المسألة أن من يرى العبرة بعموم اللفظ يكون تعدية الحكم عن السبب من دلالة النص، ومن يرى العبرة بخصوص السبب تكون التعدية عن طريق القياس، كما تقدم.(1/169)
والمختار: أن العبرة بعموم اللفظ؛ لأن ذلك هو الذي يتفق مع عموم أحكام الشريعة، وهو الذي سار عليه الصحابة رضي الله عنهم والمجتهدون من هذه الأمة، فعدَّوا حكم الآيات إلى غير صورة سببها، ولأن عدول الشارع في جوابه عن ذلك السؤال أو تلك الحادثة عن اللفظ الخاص إلى صيغة العموم قرينة على عدم اعتبار تلك الأسباب.
قوله: (فإن تعارض عمومان) التعارض لغة: التقابل والتمانع.
وعند الأصوليين: أن يتقابل دليلان بحيث يخالف أحدهما الآخر.
والتعارض من أهم المباحث في أصول الفقه؛ لأنه يقع في جميع الأدلة الشرعية، ولا يمكن إثبات الحكم إلا بإزالة التعارض، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ البحث في التعارض، والمقصود هنا التعارض في باب «العام».
فإذا تعارض نصان عامان فللخروج من التعارض طرق:
قوله: (وأمكن الجمع بتقديم الأخص) هذا الطريق الأول ، وهو أن يمكن الجمع بينهما بتقديم الأخص، وهذا إذا كان التعارض بين العامين من وجه، كأن يكون بين عموم الأول وخصوص الثاني، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}} [البقرة: 234] فهذه الآية عامة في الحامل وغيرها، خاصة في المتوفى عنها.
وقوله تعالى: {{وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}} [الطلاق: 4] عامة في المتوفى عنها وغيرها، خاصة بالحامل، فيقدم الأخص، وهو الثاني، على الأول، وتُخرج الحامل من عموم الآية الأولى، وتكون عدتها وضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها أم غيرها، بدليل حديث سُبيعة الأسلمية رضي الله عنها أنها وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فأفتاها النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أن تتزوج[(498)]. فدلّ ذلك على أن الحامل المتوفى عنها غير داخلة في عموم آية البقرة، والله أعلم.(1/170)
والتمثيل بآية البقرة لا يتمشى مع القول بأن الجموع المنكرة لا عموم لها، وقوله تعالى: {{وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}} [البقرة: 234] جمع منكر، فلا يعم[(499)]، كما تقدم، والله أعلم.
ومن أمثلة ذلك ـ أيضاً ـ: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدل دينه فاقتلوه» [(500)] مع نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النساء[(501)]. فالأول عام في الرجال والنساء، خاص بأهل الردة، والثاني عام في الحربيات والمرتدات، خاص بالنساء، فالتعارض بين عموم الأول وخصوص الثاني، بمعنى أن المرتدة هل تقتل عملاً بعموم الأول، أو لا تقتل عملاً بالثاني؟
والجمهور على العمل بالحديث الأول، فيقتل كل مرتد ومرتدة، وحملوا حديث النهي على الكافرة الأصلية ما دامت لم تباشر القتال، بدليل سياق قصة النهي، ولحديث معاذ رضي الله عنه وفيه: «وأيُّما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها» [(502)].
قوله: (أو تأويل المحتمل) كحديث أسامة رضي الله عنه: «إنَّما الربا في النسيئة»[(503)]، فهذا كالصريح في نفي ربا الفضل، وورد حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر وبالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» [(504)]، وفيه إثبات ربا الفضل، فوقع التعارض في الظاهر، فيجمع بينهما بتأويل حديث أسامة وحمله على الجنسين كَبُرٍّ بشعير، فلا يجوز فيه النَّسَأ. وقيل: يحمل حديث أسامة على الربا الأغلظ الأشد، كما يقال: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وقيل: هو منسوخ؛ لكن هذا ضعيف؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن الاستدلال بحديث أسامة على جواز ربا الفضل إنَّما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأنه منطوق[(505)].
قوله: (فهو أولى من إلغائهما) أي: إن الجمع أولى من الإلغاء؛ لأن الجمع عمل بكلا الدليلين.(1/171)
قوله: (وإلا فأحدهما ناسخ إن علم تأخره) هذا الطريق الثاني للخروج من التعارض، وهو أنه إذا لم يمكن الجمع فإنه يصار إلى النسخ، ومن شروط النسخ: عدم إمكان الجمع، والعلم بتأخر الناسخ. فإذا عُلِمَ تأخر أحد النصين فهو ناسخ للآخر فيعمل به، ومثاله قوله تعالى في الصيام: {{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}} [البقرة: 184] فهذه الآية تفيد التخيير بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام.
وقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] يفيد تعيين الصيام أداء في حق المقيم الصحيح، وهي متأخرة عن الأولى فتكون ناسخة لها؛ كما دل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} [البقرة: 184] كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها)[(506)].
قوله: (وإلا تساقطا) أي: إذا لم يمكن الجمع ولا النسخ تساقطا، فلا يعمل بأحدهما دون الآخر؛ لئلا يلزم عليه الترجيح بلا مرجح.
لكن كلام المصنف مبني على ما إذا لم يمكن الترجيح، فإذا أمكن الترجيح بمرجحات خارجية عمل بها، وإلا تساقطا، ولا مانع من ذلك، إذ قد يخفى علينا دليل الترجيح لطول المدة، واندراس القرائن؛ لحِكَمٍ يعلمها الله تعالى.
واعلم أنه لا يمكن التعارض بين الأدلة في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع، ولا النسخ، ولا الترجيح؛ لأن الأدلة لا تتناقض، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد بلّغ وبيّن، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد، إمَّا لنقص في علمه، أو خلل في فهمه. والله أعلم[(507)].
* * *
و الخاص : يقابل العام، وهو ما دلّ على شيء بعينه، ولهما طرفان وواسطة، فعام مطلق، وهو ما لا أَعَمَّ منه، كالمعلوم، وخاص مطلق، وهو ما لا أَخَصَّ منه، كزيد، وما بينهما فعام بالنسبة إلى ما تحته، خاص بالنسبة إلى ما فوقه كالموجود.(1/172)
...........................................................
باب الخاص
قوله: (والخاص يقابل العام) لما فرغ المصنف رحمه الله من ذكر العام ذكر الخاص؛ لأن العام يدخله التخصيص؛ ولأن العام قد يطلق ويراد به الخاص، والخاص يقابل العام في معناه.
فالعام لغةً: الشامل. والخاص لغةً: غير الشامل.
قوله: (وهو ما دل على شيء بعينه) هذا تعريف الخاص اصطلاحاً.
وقوله: (ما) أي: لفظ، وهذا جنس يشمل الخاص والعام.
وقوله: (دل على شيء بعينه) هذا قيد لإخراج العام، ومعنى (على شيء بعينه) أن الخاص: لفظ وضع لمعنى واحد معلوم على الانفراد، وهو إمَّا أن يكون خصوص الجنس كإنسان، أو خصوص النوع كرجل، أو خصوص العين كزيد[(508)].
قوله: (ولهما طرفان وواسطة) هذا تقسيم للعام والخاص بحسب مراتبهما علواً ونزولاً وتوسطاً، فهي ثلاثة:
قوله: (فعام مطلق وهو ما لا أعم منه كالمعلوم) هذا الطرف الأول وهو العام المطلق، وهو الذي ليس فوقه أعم منه، مثل كلمة (المعلوم) فهذا لفظ يتناول جميع الموجودات والمعدومات، لتعلق العلم بذلك كله، ومثل: (الشيء) فهو يتناول القديم والحديث.
قوله: (وخاص مطلق وهو ما لا أخص منه كزيد) هذا الطرف الثاني وهو الخاص المطلق، وهو الذي ليس تحته أخص منه كأسماء الأشخاص مثل: زيد، وخالد؛ إذ لا يوجد أخص من ذلك يعرف به، ونحو: هذا الرجل.(1/173)
قوله: (وما بينهما فعام بالنسبة إلى ما تحته خاص بالنسبة إلى ما فوقه كالموجود) هذه هي الواسطة وهو العام والخاص الإضافي، فهو خاص بالإضافة إلى ما فوقه، عام بالإضافة إلى ما تحته، وذلك كالموجود، فإنه خاص بالنسبة إلى المعلوم؛ لأنك تقول: كل موجود معلوم، وليس كل معلوم موجوداً؛ إذ المعدوم معلوم، وليس موجوداً، وكالحيوان فإنه أعم من الإنسان، وأخص من النامي، وكالنامي، فإنه أعم من الحيوان، وأخص من الجسم، لشمول الجسم لغير النامي كالحجر مثلاً، وهو عام بالنسبة إلى الجوهر؛ فإنك تقول: كل جوهر موجود، وليس كل موجود جوهراً؛ لأن العرَض هو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى محل يقوم به كاللون، والحركة.
والتخصيص: إخراج بعض ما تناوله اللفظ، فيفارق النسخ، بأنه رفع لجميعه، وبجواز مقارنة المخصِّص، وعدم وجوب مقاومته، ودخوله على الخبر، بخلاف النسخ، ولا خلاف في جواز التخصيص.
والمخصِّصَاتُ تسعة: (الحِسُّ) كخروج السماء والأرض من {{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}}، و(العقلُ) وبه خرج من لا يفهم من التكاليف، والإجماعُ، والحق أنه ليس بمخصص، بل دال على وجوده.
...........................................................
قوله: (والتخصيص: إخراج بعض ما تناوله اللفظ) أي: بيان أن بعض ما يتناوله اللفظ غير مراد بالحكم. والمراد باللفظ: العام.
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيما سقت السماء العشر» [(509)]، فهذا عام في القليل والكثير. فجاء قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» [(510)]، وبيّن أن أقل من خمسة أوسق غير مراد بالحكم، فلا زكاة فيه.
قوله: (فيفارق النسخ بأنه رفع لجميعه) أي: إن الفرق بين النسخ والتخصيص من وجوه:
فالأول: أن النسخ رفع لجميع مدلول اللفظ، وأمَّا التخصيص فهو رفع لبعض ما تناوله اللفظ، وعليه فلا بد أن يبقى من العام شيء.(1/174)
قوله: (وبجواز مقارنة المخصِّص) هذا الفارق الثاني: وهو أن النسخ لا بُدَّ أن يتأخر فيه الناسخ، أمَّا التخصيص فيجوز مقارنة المخصِّص للعام، وربما لزم، كالاستثناء، والشرط، وغيرهما من المخصص المتصل.
قوله: (وعدم وجوب مقاومته) هذا الفارق الثالث: وهو أن النسخ يلزم فيه مساواة الناسخ للمنسوخ في ثبوته ودلالته ـ على قول الجمهور ـ ولا يشترط أن يكون المخصص مساوياً للعام في ثبوته بل يجوز تخصيص المتواتر بالآحاد؛ لأن التخصيص بيان، والنسخ رفع، فقوله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}} [النساء: 11] متواتر خصص بآحاد، وهو قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» [(511)].
قوله: (ودخوله على الخبر بخلاف النسخ) هذا الفارق الرابع: وهو أن النسخ لا يدخل الأخبار، إلا إذا أتى الحكم بصورة الخبر، كما سيأتي في «النسخ»، بخلاف التخصيص فهو يدخل الأخبار، كقوله تعالى: {{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ *}} [الحجر: 42] ، فقوله: {{إِنَّ عِبَادِي}} لفظ عام، وهو خبر دخله التخصيص بالاستثناء.
قوله: (ولا خلاف في جواز التخصيص) أي: لا خلاف في جواز تخصيص العام، بإخراج بعض أفراده؛ بدليل وقوعه في الخبر والأمر والنهي ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ والوقوع أوضح دليل على الجواز[(512)].
قوله: (والمخصصات تسعة) هذا فيه تقدير، أي: الأدلة المخصصات، والمخصصات: جمع مفرده مخصِّص ـ بوزن اسم الفاعل ـ وهو الدليل الذي حصل به التخصيص ـ أي: إخراج بعض أفراد العام ـ وهذا هو المراد عند الأصوليين، وقد يطلق المخصِّص على فاعل التخصيص، وهو الشارع.(1/175)
قوله: (الحس) هذا المخصِّص الأول ، والمراد به: المشاهدة، كقوله تعالى عن ريح عاد: {{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}} [الأحقاف: 25] فهذا عام دخله التخصيص بالحس، فإننا قد علمنا بالمشاهدة أن الريح لم تدمر السماء والأرض، فكان الحس مخصصاً لذلك.
قوله: (العقل) هذا الثاني ، فقد دل العقل على خروج من لا يفهم من الناس ـ كالصبي والمجنون ـ من التكاليف، كما في قوله تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}} [آل عمران: 97] ، وقوله: {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}} [البقرة: 21] فإن هذه النصوص وغيرها تتناول بعمومها من ذكر، لكن خرج بدليل العقل، وكقوله تعالى: {{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}} [الزمر: 62] فإن العقل دل على أن ذات الله تعالى غير مخلوقة، مع أن لفظ (شيء) يتناوله سبحانه. قال تعالى: {{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}} [القصص: 88] .
ومنع بعض العلماء أن يكون هذا وما قبله من باب التخصيص، وهو إخراج بعض أفراد العام. وقالوا: إن ذلك من باب العام الذي أريد به الخاص ـ وهو أن يكون المخصوص غير مراد عند المتكلم ولا المخاطب ـ بمعنى أنه غير داخل في العام أصلاً فلا يحتاج إلى إخراج[(513)].
قوله: (وبه خرج من لا يفهم من التكاليف) أي: وبدلالة العقل خرج من التكليف من لا يفهم من الناس ـ كما تقدم ـ وقوله: (من لا يفهم) فاعل (خرج) . وقوله: (من التكاليف) متعلق به.
قوله: (الإجماع) هذا الثالث ، وذلك لأنه دليل قاطع، والعام دليل ظاهر يفيد ثبوت الحكم لكل فرد من أفراد العام بطريق الظهور لا بطريق القطع، فإذا اجتمع القاطع والظاهر كان القاطع مقدماً.
قوله: (والحق أنه ليس بمخصِّص بل دالٌّ على وجوده) أي: لأن الإجماع لا بدَّ أن يستند إلى دليل، فيكون المخصِّص للعام هو هذا الدليل، والإجماع دليل على وجوده.(1/176)
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}} [الجمعة: 9] فإنهم أجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة[(514)].
والنص الخاص كـ (لا قَطْعَ إلا في ربع دينار) ولا يشترط تأخُّره. وعنه: بلى، فيقدم المتأخر وإن كان عاماً، كقول الحنفيّة فيكون نسخاً للخاص، كما لو أفرده، فعلى هذا متى جُهل المتقدم تعارضا؛ لاحتمال النسخ بتأخر العام، واحتمال التخصيص بتقدُّمه.
وقال بعض الحنفية: الكتاب لا يخصص السنّة، وخرّجه ابن حامد رواية لنا.
قوله: (والنص الخاص) هذا الرابع من المخصِّصات، وهو النص الخاص من نصوص الكتاب أو السنة، فيخصص العام.
قوله: (كـ (لا قطع إلا في ربع دينار)) أي: كتخصيص هذا الحديث[(515)] لعموم قوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] فإن هذا يقتضي عموم القطع في القليل والكثير، فَخُصَّ بالحديث ما دون ربع دينار، فلا قطع فيه على قول الجمهور.
قوله: (ولا يشترط تأخره) أي: النص الخاص لا يشترط أن يكون متأخراً عن العام، بل إنه يخصص العام سواء كان متقدماً أم متأخراً، وذلك لقوة دلالة الخاص على مدلوله، فإنها قاطعة، ودلالة العام على أفراده ظاهرة، والقاطع مقدم على الظاهر ـ كما تقدم ـ ودلالة الآية على قطع من سرق دون ربع دينار ظاهرة، ودلالةُ الحديثِ على عدم قطع من سرق دون ربع دينار قاطعة، فيقدم؛ ولأننا إذا قدمنا الخاص عملنا بكليهما؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقدمون الخاص من غير اشتغال بطلب تاريخ ولا نظر في تقديم وتأخير، ومن تتبع قضاياهم تحقق ذلك عنهم[(516)].(1/177)
قوله: (وعنه: بلى، فيقدم المتأخر وإن كان عاماً...) هذه رواية عن الإمام أحمد، وهي أنه يشترط تأخر النص المخصص، فيقدم المتأخر من النصين خاصاً كان أم عاماً، وهو قول الحنفية؛ لما روي عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَدِيدَ ثم أفطر الناس، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(517)]، فقوله: «بالأحدث فالأحدث» أي: بالآخر فالآخر، وهو عام في تقديم المتأخر خاصاً كان أم عاماً، لأنه الذي استقر عليه حكم الشرع، لكن قوله: (وكانوا) زيادة مدرجة من قول الزهري، كما جزم به البخاري ومسلم[(518)].
والقول الأول هو المختار؛ لأن في تقديم الخاص على العام مطلقاً عملاً بالدليلين: الدليل الخاص، وكذا العام فيما عدا صورة التخصيص، وأمَّا على تقديم العام فيلغى الخاص، والعمل بالنصوص الشرعية واجب متى أمكن ذلك، فمثلاً: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجداً» [(519)] عام، وحديث: «لا تصلوا إلى القبور» [(520)] خاص، فهو مخصص لعموم الأول، ولم نعلم تأخر هذا الخاص، فنعمل بالخاص، ونعمل بالعام على عمومه فيما عدا هذه الصورة التي ثبت تخصيصها.
وإذا قال: أعط زيداً درهماً، ثم قال: لا تعط أحداً شيئاً، فإذا عَمِلَ بهذا العام وحده، ومَنَع زيداً كان ملغياً للنص الخاص في إعطاء زيد، وإذا أعطى زيداً ومنع من سواه كان عاملاً بالخاص في إعطاء زيد، وبالعام في منع غيره، فهذا أولى؛ لأنه عمل بالنصين[(521)].
وأمَّا حديث ابن عباس فهو محمول على النسخ، وإلا فالعمل بالنصين متعين ما أمكن ذلك، ثم إن هذا كلام الزهري ـ كما تقدم ـ فهو قول تابعي، وقد روى مسلم حديث ابن عباس من طريق آخر. قال ابن شهاب: (فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، ويرونه الناسخ المحكم)[(522)].(1/178)
قوله: (فيكون نسخاً للخاص) هذا حاصل القول الثاني، وهو: أن المتأخر إن كان هو الخاص فهو المقدم باتفاق، كما لو قال: لا تعطِ أحداً شيئاً، ثم قال: أعطِ زيداً، فيعطى زيدٌ دون غيره، وإن كان المتأخر هو العام نَسخَ الخاص المتقدم، فلو قال: أعطِ زيداً درهماً، ثم قال: لا تعطِ أحداً شيئاً، فهذا عام متأخر رافع للأمر المتقدم فهو ناسخ له، ولا يُعْطَى أحد شيئاً.
قوله: (كما لو أفرده) أي: كما لو قال: لا تعط زيداً شيئاً، فتكلم باللفظ الخاص.
قوله: (فعلى هذا متى جُهل المتقدم تعارضا لاحتمال النسخ بتأخر العام واحتمال التخصيص بتقدمه) أي؛ فعلى اعتبار أن المتأخر ناسخ للمتقدم إذا جهل التاريخ فلم يعلم المتقدم، هل هو الخاص أو العام؟ حصل التعارض بينهما؛ لأنه يحتمل أن يكون العام متأخراً ناسخاً للخاص، ويحتمل أن يكون العام متقدماً فيكون مخصوصاً بالخاص، ولا مرجح فيجب الوقف، حتى يدلَّ دليل آخر على أحدهما.
وقد منع الطوفي رحمه الله القول بعدم وجود المرجح، وقال: بل المرجح موجود، وهو أنه إذا تعارض النسخ والتخصيص رجح التخصيص[(523)].
واعلم أنه على القول الأول ـ وهو عدم اشتراط التأخر ـ لا فرق بين التقدم والتأخر، فيقدم الخاص ولو جهل التاريخ، وعلى القول الثاني يتعارضان، كما تقدم.
قوله: (وقال بعض الحنفية: الكتاب لا يخصص السنة، وخرَّجه ابن حامد رواية لنا) هذه المسألة مستثناة مما يفهم من قوله: (النص الخاص) إذ يقتضي أن الكتاب والسنة يُخَصَّصُ كل منهما بمثلهما.
ومسألة تخصيص السنة بالكتاب فيها قولان:
الأول: أن الكتاب يخصص السنة، وهو قول الجمهور، لقوله تعالى: {{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}} [النحل: 89] فالقرآن مبين لكل شيء ومنه السنة.
ولأن التخصيص يبين المراد، فإذا جاز أن يبين لنا المراد بالسنة، جاز أن يبين لنا المراد بكلامه.(1/179)
القول الثاني: أن الكتاب لا يخصص السنة. وهو قول بعض الحنفية، وبعض الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، خرّجها ابن حامد من قول الإمام أحمد: (السنة مفسرة للقرآن ومبينة له)[(524)].
واستدل هؤلاء بقوله تعالى: {{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}} [النحل: 44] فالسنة مبينة للكتاب، فلو خصصها الكتابُ لصار مبيناً لها؛ لأن التخصيص بيان، فيلزم التناقض؛ إذ يصير كل واحد منهما مبيناً للآخر وتابعاً له؛ لأن المبيِّن تابع للمبيَّن، وكون كل واحد من الشيئين تابعاً للآخر باطل.
والقول الأول هو المختار، لقوة مأخذه، فإنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالسنة فتخصيص السنة بالكتاب أولى؛ لقوته وضعفها، وأمَّا ما استدل به المانعون فعنه جوابان:
الأول: ليس في أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يبين لنا ما نُزِّل ما يمنع أن يبين الله تعالى لنا بكلامه ما أنزله إلينا.
الثاني: أن التناقض يلزم لو بيّن كل واحد منهما من الآخر ما بيّنه الآخر منه بعينه، وليس كذلك، بل الذي تبينه السنة من الكتاب لا يبينه الكتاب من السنة؛ لعدم الحاجة، وكذلك العكس.
ومن الأمثلة على تخصيص السنة بالكتاب: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وسلّم...» الحديث»[(525)]، فإن عمومه يشمل ما إذا أعطوا الجزية أو لم يعطوها.
فخُصَّ بقوله تعالى: {{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}} [التوبة: 29] .(1/180)
والمفهومُ، كخروج المعلوفة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سائمة الغنم الزكاة» من قوله: «في أربعين شاةً شاةٌ» وفعلُه صلّى الله عليه وسلّم وتقريرُه، وقولُ الصحابي إن كان حجة، وقياسُ نص خاص في قول أبي بكر، والقاضي، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين.
قوله: (والمفهوم) هذا المخصص الخامس .
والمفهوم: هو ما دلَّ عليه اللفظ لا في محل النطق. وسيأتي تفصيل الكلام فيه ـ إن شاء الله ـ.
وهو من المخصصات؛ لأنه دليل شرعي كالنص، وذلك كتخصيص قوله صلّى الله عليه وسلّم: «في الغنم في كل أربعين شاةً شاةٌ» [(526)]، بمفهوم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائةِ شاةٍ شاةٌ» [(527)].
فإن الأول عام يوجب الزكاة في الأربعين مطلقاً سائمة كانت أم لا، ومفهوم الحديث الثاني أن غير السائمة وهي المعلوفة لا زكاة فيها، فيكون هذا المفهوم مخصصاً لعموم الأول، فتخرج المعلوفة من عمومه، ويكون خاصاً بالسائمة، وهي غير المعلوفة.
قوله: (وفعله صلّى الله عليه وسلّم) : هذا السادس من المخصصات للعموم، وهو فعل النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم. ومثاله: تخصيص قوله تعالى في الحيض: {{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}} [البقرة: 222] بما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرني فأتزر ثم يباشرني وأنا حائض» [(528)].
فالآية عامة اقتضت عدم القرب في الفرج وغيره، فخَصَّصَ فعله صلّى الله عليه وسلّم هذا العموم باستثناء ما دون الفرج.
قوله: (وتقريره) هذا السابع، والمراد به تقرير النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم على شيء يخالف العموم مع قدرته على المنع مما يخالفه، وذلك لأن إقراره صلّى الله عليه وسلّم كصريح قوله بالإذن؛ إذ لا يُقِرُّ أحداً على خطأ، فإذا أقر أحداً من الأمة على خلاف العموم، ثبت في حق غيره ما لم يرد دليل على تخصيصه به.(1/181)
ومثاله: تقرير النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم الحبشة على لعبهم بالحراب في المسجد[(529)]، وهذا مخصِّص لعموم حديث: «إنما هي لذكر الله عزّ وجل والصلاة، وقراءة القرآن» [(530)].
قوله: (وقول الصحابي إن كان حجة) هذا المخصص الثامن، وهو أن قول الصحابي يخصص العام على القول بأنه حجة، وذلك لأن قول الصحابي أقوى من القياس، بدليل أنه يقدم على القياس، والقياس يخصص العام، فكذا قول الصحابي.
وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو قول أصحاب أبي حنيفة[(531)]، وأمَّا الشافعية فالأصح عندهم عدم التخصيص، واختاره الغزالي، ومن المتأخرين الشنقيطي[(532)]، لأن النصوص لا تُخَصَّصُ باجتهاد أحد؛ لأنها حجة على كل من خالفها[(533)].
أمَّا من لا يرى قول الصحابي حجة فلا يجيز تخصيص العام به، لأن التخصيص تقديم الخاص، وما ليس بحجة لا يجوز تقديمه.
والراجح: أن قول الصحابي لا يخصص العام، إلا إذا كان له حكم الرفع، وهو ما ليس للرأي فيه مجال، والله أعلم.
قوله: (وقياس نص خاص في قول أبي بكر والقاضي وجماعة) هذا المخصِّص التاسع ، وهو أن القياس المعتمد على نص يخصص العموم، وهو قول القاضي أبي يعلى، وأبي بكر عبد العزيز المشهور عند الحنابلة بغلام الخَلاَّل، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين.
قالوا: لأن حكم القياس حكم النص الذي استند إليه، فكما أن النص الخاص يخص العموم ـ كما تقدم ـ فكذا قياسه.
وقال ابن شاقلا وجماعة من الفقهاء: لا يُخَصُّ، وقال قوم: بالجَليِّ دون الخفي، وخصّص به عيسى بن أبان العام المخصوص، وحكي عن أبي حنيفة ويجوز تخصيص العموم إلى الواحد وقال الرازي والقفال والغزالي: إلى أقل الجمع.
قوله: (وقال ابن شاقلا[(534)] وجماعة من الفقهاء: لا يُخَصُّ) هذا القول الثاني ، وهو: أن العام لا يُخَصُّ بقياس، وهذا قول ابن شاقْلاَ من الحنابلة، وجماعة من الفقهاء.(1/182)
قالوا: لأن النص العام أصل، والقياس فرع، فلو خُصَّ العام به، لقدّم الفرع على الأصل، وذلك لا يجوز.
قوله: (وقال قوم: بالجلي دون الخفي) هذا القول الثالث : وهو: التفصيل، وهو جواز التخصيص بالقياس الجلي دون الخفي، وبه قال بعض الأصوليين؛ لأن القياس الجلي أقوي من الخفي، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في باب «القياس».
قوله: (وخصص به عيسى بن أبان[(535)] العام المخصوص...) هذا القول الرابع ، وهو أنه يخصص بالقياس العام المخصوص، دون العام الذي ليس بمخصوص، وهو قول عيسى بن أبان، وحكي عن أبي حنيفة. وذلك لأن العام المخصوص قد ضعف عمومه بتخصيصه، فيقوى القياس على تخصيصه، بخلاف العام الباقي على عمومه.
وأقوى هذه الأقوال هو الأول؛ لقوة مأخذه، وأمَّا القول الثاني فأجيب عنه: بأن الممنوع إنَّما هو تقديم الفرع على أصله، والقياس هنا ليس فرعاً للعام، بل هو فرع للنص الخاص الذي هو أقوى من العام ـ كما تقدم ـ ولا يمتنع أن يكون فرع الأصل القوي أقوى من الأصل الضعيف، وبه يحصل الجواب عن الثالث والرابع وهو قوة القياس؛ لقوة مستنده.
ومثال تخصيص القرآن بالقياس: قوله تعالى: {{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}} [النور: 2] خُصَّ بقياس العبد الزاني على الأمة، الثابت تنصيف الحد عليها بآية سورة النساء وهي قوله تعالى: {{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}} [النساء: 25] فيقتصر على خمسين جلدة على المشهور، فهذا التخصيص إنَّما هو بما دلت عليه آية النساء من أن الرق علة التنصيف.
ومثال تخصيص السنة بالقياس: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» [(536)]، خص منه العبد قياساً على الأمة في تنصيف الحد والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور.(1/183)
قوله: (ويجوز تخصيص العموم إلى الواحد) اختلف العلماء فيما ينتهي إليه التخصيص على قولين:
الأول: أنه يجوز إلى الواحد، بمعنى أنه يجوز إخراج أفراد العام بالمخصِّص حتى لا يبقى إلا فرد واحد، فإذا قيل: أكرم الطلاب، يجوز أن يُخَصَّ حتى لا يبقى أحدٌ مأمور بإكرامه إلا طالب واحد؛ وذلك لأن التخصيص إخراج بعض أفراد العام، فأي فرد أُخرج تبين أن مدلوله غير مراد من العموم حتى ينتهي إلى الواحد، والعام يتناول حتى الفرد الواحد؛ لأن ضابطه ينطبق عليه، وهذا قول جماعة، وبه جزم المصنف.
قوله: (وقال الرازي[(537)] والقفال[(538)] والغزالي[(539)] : إلى أقل الجمع) هذا القول الثاني: وهو أنه يجوز التخصيص إلى أن يبقى أقل الجمع، وحكاه المصنف تبعاً لابن قدامة عن أبي بكر الرازي والقفال والغزالي[(540)]. ففي المثال السابق يصح التخصيص إلى أن يبقى ثلاثة طلاب، وهو أقل الجمع، واحتجوا بأن بقاء فرد واحد لا يجعل اللفظ عاماً؛ لأن الواحد ليس بعام، فلا يجوز التخصيص إليه.
وهو حجة في الباقي عند الجمهور خلافاً لأبي ثور وعيسى بن أبان، ومنه: الاستثناء، وهو قول متصل يدل على أن المذكور معه غير مراد بالقول الأول. فيفارق التخصيص بالاتصال، وتطرقه إلى النص كعشرة إلا ثلاثة، ويفارق النسخ بالاتصال، وبأنه مانع لدخول ما جاز دخوله، والنسخ رافع لما دخل، وبأنه رفع للبعض والنسخ رفع للجميع. وشرطه: الاتصال. فلا يفصل بينهما سكوت يمكن الكلام فيه. وحُكِيَ عن ابن عباس عدم اشتراطه، وعن عطاء والحسن تعليقه بالمجلس، وقد أومأ إليه أحمد في اليمين، وأن يكون من الجنس، وبه قال بعض الشافعية، وقال مالك وأبو حنيفة وبعض المتكلمين: ليس بشرط، وأن يكون المستثنى أقل من النصف، وفي النصف: وجهان. وأجاز الأكثرون: الأكثر.
قوله: (وهو حجة في الباقي..) أي: إن العام إذا دخله التخصيص وأخرج منه بعض الأفراد وبقي بعض؛ هل يبقى حجة فيما بقي منه غير مخصوص؟(1/184)
القول الأول: أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي، ونسبه المصنف إلى الجمهور، واحتجوا: بأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على التمسك بالعمومات وأكثرها دخله التخصيص.
ومن أمثلته:
أن فاطمة رضي الله عنها احتجت على أبي بكر في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}} [النساء: 11] [(541)]، مع أن هذا العام أخرج منه الولد الكافر، والولد القاتل بالنص، فثبت بذلك أن الصحابة يرون العمل بالعام ولو بعد تخصيصه.
قوله: (خلافاً لأبي ثور[(542)] وعيسى بن أبان) هذا القول الثاني ، وهو: أنه لا يبقى حجة في الباقي بعد التخصيص، وهو مذهب أبي ثور صاحب الشافعي، وعيسى بن أبان من الحنفية.
واحتجوا: بأن العام بعد التخصيص يصير مستعملاً في غير ما وضع له، فيكون مجازاً، فمثلاً لفظ (المشركين) إذا خُصَّ منه اليهود والنصارى صار مستعملاً في بعض ما وضع له، وهذا غير ما وضع له، لأنه وضع لجميع ما يصلح له، وبعضه ليس كذلك، فيكون مجازاً.
والقول الأول: هو الراجح؛ لقوة مأخذه.
قال الشوكاني: (وهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة؛ لأن اللفظ العام كان متناولاً للكل، فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية، فإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به، والمقتضي للعمل بالعام فيما بقي موجود، وهو دلالة اللفظ عليه، والمعارض مفقود، فَوُجِدَ المقتضي، وعُدِمَ المانع فوجب ثبوت الحكم)[(543)].
وأمَّا الثاني: فيلزم عليه بطلان عمومات الكتاب والسنة؛ لأن الغالب عليها التخصيص، والتخصيص لا يقدح في دلالة اللفظ العام على الباقي.(1/185)
وما ذكروه مردود، لأن أفراد العام لا فرق فيها بين ما أُخرج وبين ما بقي؛ لأن اللفظ العام وإن كان واحداً لكنه في تقدير ألفاظ متعددة مطابقة لأفراد مدلوله في العدد، فإذا قلنا: أكرم الرجال، وكانوا عشرين، فإن لفظ (الرجال) في تقدير عشرين لفظاً، يدل كل لفظ منها على رجل، فكأنه قال: أكرم زيداً وعمراً وبكراً وعلياً... إلخ.
فإذا قال: لا تكرم زيداً، صار زيدٌ مخصوصاً من العشرين، وسقط لفظ اسمه المطابق لمسماه تقديراً، فالباقي من الألفاظ والأشخاص متطابقان تقديراً.
قوله: (ومنه: الاستثناء) أي: ومن الكلام المفيد: الاستثناء فهو عطف على ما تقدم، وهذا شروع في الكلام على نوع من المخصِّص المتصل وهو: الاستثناء.
وهو لغةً: من الثني وهو العطف والعَوْدُ، كقولك: «ثنيتُ الحبل إذا عطفتَ بعضه على بعض»[(544)].
قوله: (وهو قول متصل) هذا تعريفه اصطلاحاً، والمراد بالقول: صيغة الاستثناء مثل: إلا، وغير، وليس، ونحوها.
وقوله: (يدل على أن المذكور معه) المراد بالمذكور: المستثنى، أي: المستثنى المذكور مع القول، وهو صيغة الاستثناء.
قوله: (غير مراد بالقول الأول) المراد به: المستثنى منه، فإذا قلت: حضر الطلاب إلا علياً، فكلمة (إلا) قول متصل دل على أن (علياً) غير مراد بالمستثنى منه، أي: أنه غير داخل معهم في الحكم، وهو الحضور.
وهذا التعريف غير دقيق؛ لأنه يشمل نحو: رأيت الطلاب ولم أرَ علياً؛ مع أنه لا يسمى استثناء بالمعنى الاصطلاحي، والأجود أن يقال في تعريفه: هو إخراج بعض أفراد العام بـ(إلا) أو إحدى أخواتها.
والتعريف الذي ذكره المصنف هو على قول من يزعم أن التعريف بالإخراج تناقض، لأن إخراج المستثنى من المستثنى منه دليل على أنه داخل فيه، ثم أخرج بالاستثناء فيكون تناقضاً، فإذا قال: قام الطلاب، اقتضى قيام خالد معهم ـ مثلاً ـ فإذا قال: إلا خالداً، اقتضى أنه لم يقم، فصار التقدير: قام خالد لم يقم خالد، وذلك تناقض. وهذا مردود لأمرين:(1/186)
1 ـ أن متقدمي أهل العربية عَرَّفوا الاستثناء بالإخراج، وهم أعلم بذلك من غيرهم؛ لأنهم أهل هذا الشأن، ومن هؤلاء ابن جني (ت392هـ).
2 ـ أن هذا الدخول دخول لفظي لا معنوي، وهذا لا يضر؛ لأن القائل: قام الطلاب، عالم بأن خالداً لم يقم، ولذا عَطَفَ على المستثنى منه، فاستثناه منه[(545)].
قوله: (فيفارق التخصيص) أي: إن الاستثناء يفارق التخصيص بغير الاستثناء؛ لأن الاستثناء من المخصصات المتصلة، كما تقدم.
قوله: (بالاتصال) هذا الفرق الأول ، وهو أن الاستثناء يجب اتصاله بالمستثنى منه حقيقة أو حكماً ـ كما سيأتي إن شاء الله قريباً ـ بخلاف التخصيص بغير الاستثناء فيجوز فيه التراخي، وذلك لأن صيغة الاستثناء لا تستقل بنفسها، بل هي تابعة للمستثنى منه.
لكن هذا الكلام ليس على إطلاقه، بل الصواب تقييده بالمخصِّص المنفصل كما تقدم؛ أمَّا المتصل فهو لا يستقل بنفسه، سواء كان المتصل استثناء، كقوله تعالى: {{إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *}{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}} [العصر: 2، 3] ، أو شرطاً نحو قوله: {{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}} [النساء: 12] أو صفة نحو قوله تعالى: {{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}} [النساء: 25] .
قوله: (وتطرقه إلى النص كعشرة إلا ثلاثة) هذا الفرق الثاني بين الاستثناء والتخصيص، وهو أن الاستثناء يتطرق إلى النص، مثل: له علي عشرة إلا ثلاثة، فإن لفظ العشرة ليس من قبيل العام ـ كما تقدم في تعريفه ـ بل هو من قبيل النص، قال تعالى: {{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا}} [العنكبوت: 14] ، بخلاف التخصيص بغير الاستثناء فإنه لا يصح في النص، وإنَّما يصح في العام، كما تقدم في الشرط والصفة.
وبهذا يكون التخصيص بالاستثناء أعم من التخصيص بغيره.
قوله: (ويفارق النسخ) هذا شروع في الفرق بين النسخ والاستثناء.(1/187)
قوله: (بالاتصال) هذا هو الفرق الأول، وهو أن الاستثناء يشترط فيه الاتصال ـ كما ذكرنا وسيأتي إن شاء الله ـ والنسخ لا يشترط اتصاله بل يشترط تراخيه ـ كما تقدم ـ في الفرق بين التخصيص والنسخ.
قوله: (وبأنه مانع لدخول ما جاز دخوله...) هذا الفرق الثاني ، وهو أن الاستثناء مانع، والنسخ رافع، ومعناه: أن الاستثناء يمنع أن يدخل تحت اللفظ ما لولاه لدخل، فإذا قلت: قام القوم إلا علياً، فلولا الاستثناء لدخل (علي) تحت الحكم وهو القيام، فالاستثناء مانع، وأمَّا النسخ فهو رافع لما دخل تحت لفظ المنسوخ.
قوله: (وبأنه رفع للبعض والنسخ رفع للجميع) هذا الفرق الثالث ، وهو أن النسخ يرفع جميع حكم النص، وهذا هو الغالب، وإلا فقد يرفع البعض، كما في نسخ خمس رضعات من عشر في حديث عائشة رضي الله عنها[(546)].
وأمَّا الاستثناء فإنه يرفع حكم بعض النص، ولا يصح أن يكون مستغرقاً، فيصح أن يقول: صلوا أربع ركعات، ثم يقول: لا تصلوها، ولا يصح أن يقول: صلوا أربعاً إلا أربعاً.
قوله: (وشرطه الاتصال...) هذا شروع في شروط الاستثناء. وتتأكد معرفتها؛ لأنَّ الاستثناء يتعلق به كثير من أحكام الإقرار والطلاق والأيمان وغيرها، فذكر المؤلف ثلاثة شروط:
الأول: الاتصال: والمراد اتصال المستثنى بالمستثنى منه حقيقة أو حكماً، فالمتصل حقيقة: هو أن يُذكر المستثنى عقب المستثنى منه بلا فاصل.
والمتصل حكماً: هو أن يفصل بين المستثنى والمستثنى منه فاصل اضطراري، كسعال وعطاس ونحوهما.
وعلى هذا فلا يجوز الفصل بينهما بكلام أجنبي ولا بسكوت يمكن التكلم فيه، وهذا مذهب الجمهور، بل نقل بعضهم الإجماع[(547)] واستدلوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه، وليأتِ الذي هو خير» [(548)].(1/188)
وجه الدلالة: أنَّه لو كان الاستثناء بعد مدة يرفع اليمين، كان الخلاص به أسهل من الحنث والكفارة، فلما جعل الخلاص منها بالحنث والكفارة، دلَّ على أنَّه لا خلاص بغير ذلك[(549)].
قوله: (وحُكي عن ابن عباس عدم اشتراطه) هذا قول آخر في المسألة، وهو جواز كون الاستثناء منفصلاً، فقد ورد عنه رضي الله عنه في الرجل يحلف. قال: له أن يستثني ولو إلى سنة[(550)] ثم قرأ: {{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *}{إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ}} [الكهف: 23، 24] يقول: إذا ذكرت، وورد عنه: يصح الاستثناء إلى شهر. وورد عنه: يصح أبداً[(551)].
قوله: (وعن عطاء[(552)] والحسن[(553)] تعليقه بالمجلس) أي: إن عطاء ابن أبي رباح، والحسن البصري أجازا الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالزمن اليسير ما دام المتكلم في مجلس الكلام. كأن يقول: له علي عشرة، ثم يقول بعد مدة: إلا ثلاثة. فيصح الاستثناء ما دام المجلس واحداً، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رواية عن الإمام أحمد[(554)].
قوله: (وقد أومأ إليه أحمد في اليمين) الضمير يعود إلى انفصال الاستثناء، فقد قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: (إذا حلف بالله، وسكت قليلاً، ثم قال: إن شاء الله. فله استثناؤه، لأنَّه يكفِّر)[(555)].
فظاهر هذا جواز الفصل بزمان يسير ما دام في المجلس، وهو ظاهر كلام الخرقي حيث قال في مختصره: (وإذا حلف بيمين فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك، ولا كفارة عليه، إذا لم يكن بين اليمين والاستثناء كلام)اهـ[(556)]. فإنَّه لم يشترط اتصال الكلام وعدم السكوت.
وعلى هذا فإذا قال الحالف: إن شاء الله مع يمينه. فقد أجمع العلماء على تسميته استثناء، وينفعه ذلك بالشرط المذكور، فلا يحنث، لما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه» [(557)].(1/189)
والصحيح أنَّه يصح الاستثناء مع الانفصال، إذا وقع في المجلس الذي ذكر فيه اللفظ العام، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض لا يُعْضَدُ شوكه، ولا يُخْتَلَى خلاه». فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر؛ فإنَّه لِقَيْنِهِم وبيوتهم. فقال: «إلا الإذخر» [(558)].
أمَّا ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما فعنه جوابان:
الأول: أن سند هذا الأثر معلول، كما حقق ذلك الأئمة الحفاظ، كابن كثير وابن حجر وغيرهما.
الثاني: أن مراده أنه إذا نسي أن يقول عند حلفه أو كلامه (إن شاء الله). وذكر ولو بعد سنة، أنه يقول ذلك تبركاً، ليكون آتياً بسنة الاستثناء لا أنه يرفع الحنث ويسقط الكفارة[(559)].
قوله: (وأن يكون من الجنس، وبه قال بعض الشافعية) هذا الشرط الثاني من شروط الاستثناء، وهو أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وذلك لأنَّ الاستثناء إخراج بعض ما دخل في المستثنى منه، وغير جنسه لم يدخل حتى يخرج، فإذا قال: له علي ألف ريال إلا ثوباً، فإن قوله: (إلا ثوباً) لغو، وتلزمه الألف كاملة[(560)]. وهذا قول بعض الشافعية، وهو أصح الروايتين عن الإمام أحمد[(561)].
قوله: (وقال مالك وأبو حنيفة وبعض المتكلمين: ليس بشرط) هذا القول الثاني، وهو عدم اشتراط كون المستثنى من جنس المستثنى منه، فيجوز عندهم كون الاستثناء منقطعاً، وهو قول الشافعي ومالك، وعن الإمام أحمد رواية أخرى بصحة استثناء أحد النقدين من الآخر[(562)] واختار أبو الخطاب الإطلاق، وأنه لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما بناءً على هذه الرواية[(563)]. وقالت الحنفية: يصح الاستثناء من غير الجنس إذا كان مكيلاً أو موزوناً[(564)].(1/190)
واستدل هؤلاء بكثرة مجيء الاستثناء من غير الجنس في القرآن وفي كلام العرب، فقد ورد في القرآن كما في قوله تعالى: {{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا}} [مريم: 62] وقوله تعالى: {{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا *}{إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا *}} [الواقعة: 25، 26] والسلام ليس من جنس اللغو والتأثيم. وقوله تعالى: {{لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] والتجارة ليست من جنس المال؛ لأنَّ المال هو الأعيان، والتجارة التصرف في تلك الأعيان. وقال الراجز:
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ
إلا اليعافيرُ وإلا العِيسُ
واليعافير: جمع يعفور، وهو ولد الظبية، وولد البقرة الوحشية أيضاً، والعيس: إبل بيض يخالط بياضها شقرة. وهذه ليست من جنس الأنيس.
وهذا القول هو الأظهر ـ إن شاء الله ـ؛ لقوة مأخذه[(565)]، وعليه ففي المثال السابق: له علي ألف ريال إلا ثوباً؛ تسقط قيمة الثوب من الألف، ويصح الاستثناء.
قوله: (وأن يكون المستثنى أقل من النصف، وفي النصف: وجهان، وأجاز الأكثرون: الأكثر) هذا الشرط الثالث . وتحته أربع صور:
الأولى: أن يكون المستثنى أقل من النصف مثل: له علي عشرة إلا ثلاثة، فهذه جائزة بالإجماع[(566)]، فيلزمه سبعة.
الثانية: أن يكون المستثنى مستغرقاً للمستثنى منه، مثل: له علي عشرة إلا عشرة. فهذا باطل بالاتفاق، كما نقله جماعة من المحققين، كالفخر الرازي وابن الحاجب[(567)]؛ لإفضائه إلى العبث وكونه نقضاً كلياً للكلام. فيلغو الاستثناء وتلزمه العشرة.(1/191)
الثالثة: أن يكون المستثنى نصف المستثنى منه، مثل: له علي عشرة إلا خمسة؛ فهذه فيها خلاف، ولهذا قال المصنف: (وفي النصف وجهان) لكن الراجح عند الحنابلة الجواز، قال في الإنصاف: «وهو المذهب»[(568)] وهو رأي الجمهور، والوجه الثاني: لا يصح. قال ابن قدامة: (لأنه لم يرد في كلامهم إلا القليل من الكثير، والنصف ليس بقليل)[(569)].
الرابعة: أن يكون المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه. مثل: له علي عشرة إلا سبعة. وهذه جائزة عند الجمهور، وهو المراد من قوله: (وأجاز الأكثرون: الأكثر) أمَّا الحنابلة فمنعوا ذلك. قال ابن قدامة: (لا يختلف المذهب أنه لا يجوز استثناء ما زاد على النصف)[(570)]. وهذا قول للشافعي.
وحجتهم: أن اللغة لم ترد به، ولأن الشيء إذا نقص يسيراً لم يَزُلْ عنه اسم ذلك الشيء، فلو استثنى الأكثر لزال الاسم. قال ابن جني: (لو قال: له عندي مائة إلا تسعة وتسعين ما كان متكلماً بالعربية وكان عبثاً من القول)[(571)].
وأمَّا الجمهور فلهم على الجواز دليل وتعليل. أمَّا الدليل فقوله تعالى: {{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ *}} [الحجر: 42] وأتباع إبليس من بني آدم أكثر من النصف، وأمَّا التعليل: فلأن الاستثناء رَفْعُ ما تناوله اللفظ، فجاز في الأكثر، كما جاز في الأقل.
وأجيب عن الآية: بأن الاستثناء ليس من عدد بل من صفة، وهذا يجوز ولو خرج الكل، والخلاف في العدد. وأمَّا التعليل فمردود لأمرين:
1 ـ أنه قياس، والقياس في اللغة ممنوع.
2 ـ أن استثناء الأقل غير استثناء الأكثر، فالأول استعملته العرب وحسّنته، والثاني نفته وقبّحته.
وقد رجح الشوكاني القول بالجواز فقال: (والحق أنه لا وجه للمنع، لا من جهة اللغة، ولا من وجهة الشرع، ولا من جهة العقل)[(572)].
فهذه أربع صور ذكر المصنف منها ثلاثاً، وترك المستغرق لوضوح حكمه، وهو البطلان، كما تقدم.(1/192)
فإن تعقب جملاً عاد إلى جميعها، وقال الحنفية: إلى الأقرب وهو من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات.
ومنه: المطلق، وهو ما تناول واحداً لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه، وقيل: لفظ يدل على معنى مبهم في جنسه. ويقابله المقيد، وهو المتناول لموصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه، كـ {{رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}}.
قوله: (فإن تعقب جملاً عاد إلى جميعها، وقال الحنفية: إلى الأقرب) اختلف العلماء فيما إذا وقع الاستثناء عقيب جمل هل يرجع لكل ما قبله من المتعاطفات، أو يرجع للجملة الأخيرة فقط[(573)]؟ ذكر المصنف رحمه الله في المسألة قولين[(574)]:
الأول: للشافعية والمالكية والحنابلة: أنه يرجع لكل ما قبله، إلا لدليل يخصصه ببعضها، فلو قال: نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وخيلي وقف، إلا الحيّض، فهذا راجع إلى الجملة الأولى بقرينة الحيض المختص بالنساء، فإذا قال: أنفق على حفاظ القرآن وأوقف على طلاب العلم إلا المقيمين، رجع إلى الجميع، وإذا قال: هذا البيت وقف على الفقراء والمساكين وبني زهرة وبني تميم إلا الفاسق منهم، فإنه يخرج فاسق الكل عند هؤلاء.
واستدل هؤلاء بثلاثة أمور:
1 ـ قياسه على الشرط، فإن الشرط يرجع لكل المتعاطفات قبله، كما لو قال: نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، إن كلمت زيداً، فيكون تكليمه زيداً شرطاً في وقوع الطلاق والعتق جميعاً، فكذا الاستثناء كما مر.
2 ـ اتفاق أهل اللغة على أن تكرار الاستثناء عقب كل جملة قبيح فيما يراد به الاستثناء من الجميع.
3 ـ أن العطف بالواو[(575)] يوجب نوعاً من الاتحاد بين الجمل في المعنى، فيكون الاستثناء المتعقب لها عائداً إلى جميعها، كما لو اتحدت لفظاً، إذ لا فرق في المعنى بين قوله: اضرب من قتل وسرق إلا من تاب، وبين قوله: اضرب الجماعة الذين هم قَتَلةٌ وسَرَقةٌ إلا من تاب، فكما يرجع الاستثناء في هذا إلى الجميع، فكذلك يرجع إلى الذي قبله.(1/193)
والقول الثاني: للحنفية، أن الاستثناء يرجع للجملة الأخيرة لقربها، ولأن الفصل وقع بين كل جملتين من الجمل بحرف العطف، فأشبه الفصل بكلام أجنبي، ولو فصل بينهما بكلام أجنبي لم يعد الاستثناء إلى الجميع، فكذا ما أشبهه[(576)].
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *}{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}} [النور: 4، 5] فأوجب الله تعالى على القاذف إذا لم يُقِمْ بينةً على صحة ما قاله ثلاثة أحكام:
1 ـ أن يجلد ثمانين جلدةً.
2 ـ أنه ترد شهادته دائماً.
3 ـ أنه يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس.
وقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فترفع التوبةُ عنه وصفَ الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة دائماً وإن تاب، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة؟ أمَّا الجلد فقد انقضى سواء تاب أو أصر، لأنه حق آدمي فلا يسقط بالتوبة، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف، وعلى هذا فالجملة الأولى لا يرجع إليها الاستثناء إجماعاً، والثالثة يرجع إليها إجماعاً، والخلاف في الثانية.
فالجمهور على أن الاستثناء يعود إلى الجملتين، فإذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق، ويكون المراد بالتأبيد في الآية مدة كونه قاذفاً.
وقالت الحنفية: إنه يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبداً، ويكون المراد بالتأبيد في الآية مدة حياته، وذهب إلى هذا القول القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم[(577)] وغيرهم.
وقول الجمهور في هذه الآية أرجح؛ لأن ارتفاع الفسق مع رَدِّ الشهادة أمر غير مناسب في الشرع؛ لأن الفسق متى ارتفع قبلت الشهادة.(1/194)
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}{إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}} [النساء: 89، 90] فالاستثناء في الآية لا يرجع إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل، وهي قوله تعالى: {{وَلاَ تَتَّخِذُوا}} إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ولو وصلوا إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق، فهذا لا خلاف فيه، وإنَّما هو راجع إلى الجملتين الأوليين {{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}}، والمعنى: فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق.
وفي المسألة قول ثالث، وهو الوقف، فلا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الجملة الأخيرة إلا بدليل، وهو قول بعض الأصوليين، منهم ابن الحاجب، والغزالي، والآمدي، ونصره الشنقيطي في «تفسيره»[(578)].
واحتج هؤلاء بأمرين:
1 ـ أن كلاً من التعميم والتخصيص تحكّم، وقد ثبت أن العرب تعيد الاستثناء تارة إلى الجميع، وتارة إلى الأخيرة.
2 ـ أنه ورد في القرآن رجوعُه إلى جميع الجمل، واقتصاره على الأخيرة، وعودُه إلى بعض الجمل السابقة؛ فدل على أن رجوعه لما قبله ليس شيئاً مطّرداً.
أمَّا عوده إلى بعض الجملة فكما في الآية التي في سورة «النور» ـ وقد سبق الكلام عليها ـ، وأما عوده إلى الأخير فقط فكقوله تعالى: {{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا}} [النساء: 92] فالاستثناء في هذه الآية راجع للدية فقط؛ لأن المطالبة بها تسقط بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة إجماعاً؛ لأن تصدق مستحقي الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ؛ لأنها حق لله تعالى، لا يسقط بإسقاطهم.(1/195)
ومن رجوعه إلى جميع الجمل قوله تعالى في اليمين: {{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}} [المائدة: 33 ـ 34] ، فـ {} عائد إلى الجميع، وحكي فيه الإجماع، والظاهر أنه ينازع في ذلك[(579)]. ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يجلس على تَكْرِمته إلا بإذنه» [(580)]. قال الإمام أحمد: أرجو أن يكون الاستثناء على كلِّه[(581)].
وهذا القول: وجيه جداً؛ لأنه ينطبق على كل صور الاستثناء، ويليه في القوة القول الأول.
قال أصحاب هذا القول: ولا يبعد أنه إن تجرد عن القرائن والأدلة أن يكون ظاهراً في رجوعه للجميع؛ لأن الواو ظاهرة في العطف، وذلك يوجب نوعاً من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه وإن كانت محتملة للابتداء، وهذا غالب الاستثناءات في نصوص الشريعة[(582)].
قوله: (وهو من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات) أي: إن الاستثناء من أشياء منفية إثبات للمستثنى، والاستثناء من أشياء مثبتة نفي للمستثنى، فإذا قال: له علي عشرة إلا درهماً، كان ذلك إقراراً بالتسعة؛ لأنه استثناء من مثبت، وإذا قال: ليس له علي شيء إلا درهماً. كان مقراً بدرهم؛ لأنه استثناء من منفي.(1/196)
فأما الصورة الأولى وهي الاستثناء من الإثبات وأنه نفي فقد نُقِلَ فيه الاتفاق[(583)]، وأما الثانية وهي الاستثناء من النفي وأنه إثبات فهو مذهب الجمهور من الحنابلة والمالكية والشافعية وطائفة من محققي الحنفية، وقالت الحنفية: الاستثناء من النفي ليس إثباتاً بل واسطة، وهي عدم الحكم، فيكون المستثنى غير محكوم عليه لا بنفي ولا إثبات.
وقول الجمهور هو الصواب؛ لأنه لو كان رأي الحنفية صحيحاً لم تكن كلمة التوحيد توحيداً؛ لأن قولنا: (لا إله إلا الله) استثناء من نفي، فيفيد إثبات الألوهية الحقة لله تعالى، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» [(584)].
لكن ينبغي أن يفهم أن قول العلماء: الاستثناءُ من النفي إثباتٌ، يختص بما عدا الشروط، وإلا لزم من وجود الشرط وجود المشروط، وهذا لم يقل به أحد من العلماء، فمثلاً: «لا صلاة إلا بطهور» [(585)] استثناء من نفي، لكن لا يلزم منه إثبات الصلاة عند الطهور؛ لأن الطهور شرط لا يلزم من وجوده وجود الصلاة.
أمَّا الأحكام نحو: قام القوم إلا زيداً، والموانع نحو: لا يُسْقِطُ الصلاة عن المرأة إلا الحيض، فهو إثبات على القاعدة. والله أعلم.
* * *
باب المطلق والمقيد
قوله: (ومنه: المطلق) أي: ومن الكلام المفيد: المطلق والمقيد، وأكثر الأصوليين يذكر ذلك بعد العام والخاص؛ للتشابه بين المطلق والعام، والمقيد والخاص.
والمطلق لغة: مأخوذ من مادة تدور على معنى التخلية والإرسال[(586)]، فالإطلاق في الألفاظ مستعار من الإطلاق في الذوات، كالإنسان والحيوان، وهكذا يقال في المقيد.
قوله: (وهو ما تناول واحداً لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه) هذا تعريف المطلق اصطلاحاً. ومثاله: قوله تعالى في كفارة الظهار: {{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}} [المجادلة: 3] فلفظ «رقبة» قد تناول فرداً غير معين من جنس الرقاب.(1/197)
فمعنى المطلق أن يُقتصر على مسمى اللفظة المفردة، دون أي زيادة على مدلولها، كرقبة، وإنسان، وطالب، ورجل، وكل نكرة في سياق الإثبات فهي من المطلق، ما لم يرد قرينة تفيد العموم، فإذا زيد على مدلول اللفظة مدلولاً آخر كوصفٍ، صارت مقيدة.
وبهذا يتضح الفرق بين العام والمطلق، فالعام يستغرق أفراده ـ كما تقدم ـ والمطلق يراد به فرد غير معين، فهو لا يستغرق أفراده إلا على سبيل البدل، لا على سبيل الشمول، فإذا قيل: أكرم الطلاب، فالمراد جميع الأفراد، وإذا قيل: أكرم طالباً، فهذا فيه عموم من جهة أنه لا يخص طالباً بعينه، بل هو شائع في جميع الأفراد، لكن لا يتناول إلا فرداً واحداً، فإذا أُكرم خالد ـ مثلاً ـ لم يكرم غيره.
قوله: (وقيل: لفظ يدل على معنى مبهم في جنسه) هذا تعريف آخر للمطلق، وهو قريب من التعريف الأول، والمراد: أن المطلق لفظ يدل على فرد شائع في جنسه غير مقيد لفظاً بأي قيد يَحُدُّ من انتشاره وشيوعه.
قوله: (ويقابله المقيد) أي: إن المقيد يقابل المطلق في تعريفه اللغوي والاصطلاحي، فالمقيد لغة: ما جعل فيه قيد من بعير ونحوه[(587)].
قوله: (وهو المتناول لموصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه...) هذا تعريف المقيد اصطلاحاً، ومعناه: أن اللفظ المقيد يدل على فرد من أفراد الحقيقة، ولكن اقترن به أمر زائد يدل على تقييده، وتقليل شيوعه، كقولك: أكرم طالباً مجداً، فلا يصدق الإكرام على غير المجد، لأنه قُيِّد بالوصف، ومنه قوله تعالى في كفارة القتل: {{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}} [النساء: 92] فلا تصدق الرقبة ـ هنا ـ على الكافرة؛ لأن الله تعالى قيّدها بوصف الإيمان. وقوله تعالى: {{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}} [الأنعام: 145] ففيه تقييد الدم المحرم أكلُه بالمسفوح.(1/198)
وهذا القيد قد يكون صفة كما مثّل. وقد يكون شرطاً كقوله تعالى: {{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}} [المائدة: 89] وقد يكون غاية كقوله تعالى: {{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] .
فإن ورد مطلق ومقيد، فإن اتحد الحكم والسبب، كـ «لا نكاح إلا بولي» مع «لا نكاح إلا بولي مرشد» حمل المطلق على المقيد.
وقال أبو حنيفة: زيادة فهي نسخ، وإن اختلف السبب كالعتق في كفارة اليمين قُيِّد بالإيمان، وأطلق في الظهار، فالمنصوص: لا يحمل، واختاره ابن شاقلا، وهو قول أكثر الحنفية خلافاً للقاضي والمالكية وبعض الشافعية.
قوله: (فإن ورد مطلق ومقيد) شرع المصنف رحمه الله في بيان أحوال المطلق والمقيد، وذلك بأن يرد اللفظ مطلقاً في نص، ويرد بعينه مقيداً في نص آخر، وهذا هو الذي فيه التفصيل.
ولا خلاف بين العلماء في أن المطلق يجب العمل به على إطلاقه إلا بدليل يدل على تقييده، وأن المقيد يعمل به بقيده، ولا يخرج المكلف من العهدة إلا بذلك، لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها، حتى يقوم دليل على خلاف ذلك.
فمثال العمل بالمطلق الذي لم يرد تقييده: قوله تعالى في كفارة الظهار: {{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *}} [المجادلة: 3] فلفظ {{رَقَبَةٍ}} مطلق لم يقيد بشيء، فيجزئ إعتاق الرقبة الكافرة على أحد قولي أهل العلم، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.(1/199)
ومثال المطلق الذي ورد تقييده: قوله تعالى: {{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}} فلفظ (وصية) مطلق، جاء في السنة تقييده بالثلث، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» . قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا» . قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: «الثلث، والثلث كثير....» الحديث»[(588)].
ومثال العمل بالمقيد على تقييده: قوله تعالى في كفارة الظهار: {{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا}} [المجادلة: 4] فجاء الصيام مقيداً بالتتابع، وبكونه قبل التماس، فيعمل به على تقييده بهذين القيدين[(589)].
قوله: (فإن اتحد الحكم والسبب..) إلخ، هذه أحوال المطلق والمقيد، وهي ثلاثة، ووجه الحصر: أنه إذا ورد لفظان: مطلق ومقيد، فإمَّا أن يتحد حكمهما، أو يختلف؛ فإن اتحد الحكم، فإمَّا أن يتحد سببهما، أو يختلف.
فالأولى: أن يتحد الحكم والسبب، أي: يكون حكمهما واحداً وسببهما واحداً، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي» [(590)]، مع حديث: «لا نكاح إلا بولي مرشد» [(591)].
فالأول مطلق في الولي، والثاني مقيد بالرشد. وهما متحدان سبباً، وهو النكاح، وحكماً، وهو نفي النكاح إلا بولي، فيحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة، ويشترط رشد الولي على أحد القولين.(1/200)
ومثله قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}} [المائدة: 3] فهذا مطلق جاء تقييده بالمسفوح في آية الأنعام، كما تقدم، والحكم واحد وهو التحريم، والسبب الذي بني عليه الحكم واحد، وهو كونه دماً، فيكون الدم الباقي في اللحم حلالاً، ولا يحرم إلا الدم المفسوح، وهو الدم الجاري، وغير المسفوح معفوٌّ عنه، كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح، ومنه الكبد والطحال، وما يتلطخ به اللحم من الدم، وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا[(592)].
قوله: (وقال أبو حنيفة: زيادة فهي نسخ) هذا رأي أبي حنيفة في الحالة المذكورة، فهو يرى أن هذا التقييد زيادة على المطلق، والزيادة على النص نسخ، فلو حمل المطلق على المقيد لكان هذا نسخاً للمطلق وإبطالاً للعمل به؛ لأنه إذا صار المطلق مقيداً، فمعناه انتهاء العمل به؛ لثبوت حكم التقييد. وتوضيح ذلك: أن زيادة اشتراط الرشد في الولي رفعت إجزاء الولي مطلقاً الذي دل عليه النص المطلق، والإجزاء حكم شرعي.
والصحيح أن هذه الزيادة ليست نسخاً؛ لأن النسخ رفعُ حكمٍ شرعي، وهنا لم يرفع حكم شرعي، بل هي زيادة سكت عنها النص الأول، فلم يتعرض لها بصريح إثبات ولا نفي، ثم إن الناسخ والمنسوخ يشترط فيهما المنافاة، ولا منافاة هنا بين المطلق والمقيد.
ولم يظهر لي فرق واضح بين مذهب الجمهور والحنفية؛ لأن المُؤدَّى واحد، وقد نُقِل أن الحنفية يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة، بل نُقل فيها الاتفاق[(593)]، ولعل الفرق أن المطلق على مذهب الجمهور محكم، وعلى مذهب الحنفية منسوخ، على أن ابن بدران قال: ثبت أن مذهب الحنفية حمل المطلق على المقيد، وأن الخلاف في غير هذه الصورة[(594)].
فلعل المصنف هنا توهم الخلاف في الكل تبعاً للموفَّق في الروضة، والعلم عند الله تعالى.(1/201)
قوله: (وإن اختلف السبب كالعتق في كفارة اليمين...) هذه الحالة الثانية من أحوال المطلق والمقيد، وهي أن يختلف السبب ويتحد الحكم، ومثاله: قوله تعالى في كفارة الظهار: {{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا}} [المجادلة: 3] وقوله في كفارة القتل: {{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}} [النساء: 92] فلفظ {{رَقَبَةٍ}} في الآية الأولى مطلق، وفي الثانية مقيد بالإيمان، والحكم واحد، وهو تحرير الرقبة. والسبب مختلف، ففي الأولى ظهار، وفي الثانية قتل. فهذا فيه خلاف.
قوله: (فالمنصوص لا يحمل، واختاره ابن شاقلا وهو قول أكثر الحنفية) هذا القول الأول ، وهو أنه إذا اختلف السبب فلا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل بالمطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، فتجزئ الرقبة الكافرة في الظهار، ولا يجزئ في كفارة القتل إلا مؤمنة، وهو قول أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية.
وقد ورد عن أحمدَ ما يدل على ذلك. قال في رواية أبي الحارث: التيمم ضربة للوجه والكفين، فقيل له: أليس التيمم بدلاً عن الوضوء، والوضوء إلى المرفقين؟ فقال: إنَّما قال الله تعالى: {{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}} [النساء: 43] ولم يقل: إلى المرافق، وقال في الوضوء: {{إِلَى الْمَرَافِقِ}}.
فظاهر هذا أن الإمام أحمد لم يَبْنِ التيمم المطلق في الأيدي على الوضوء المقيد إلى المرافق، هكذا ذكر الأصوليون الحنابلة كالقاضي وأبي الخطاب. مع أن الحكم مختلف، وكأنهم نظروا إلى اتحاد السبب، وهو التطهر للصلاة. وسيأتي بيان ذلك ـ إن شاء الله ـ.
وظاهر عبارة المصنف أن هذا هو المنصوص عن أحمد، وأنه لم يرد عنه خلافه، مع أنه رُوِيَ عن أحمد ما يدل على أنه يُبنى المطلق على المقيد، قال في رواية أبي طالب: أحبُّ إليَّ أن يعتق في الظهار مسلمة، فعلى هذا يكون للإمام أحمد روايتان، والله أعلم[(595)].(1/202)
واحتج هؤلاء المانعون بأن ظاهر المطلق يقتضي أن يُعمل به على إطلاقه، فلا يختص بالمقيد، إلا أن يكون بينهما ارتباط لفظي أو معنوي، فالارتباط اللفظي كأن يُعطف المطلق على المقيد، وهذا مفقود هنا، والارتباط المعنوي أن يتفق العتقان في علة التقييد، وهذا حمل بالقياس، وليس كلامنا فيه، فقد يكون التقييد في كفارة القتل لشدة أمره، بخلاف الظهار، فَنَقْلُ القيد إليه زيادة في الشرع، ومشقة على الأمة.
وقول المؤلف (كالعتق في كفارة اليمين) وهم منه أو من الناسخ، وصوابه: في كفارة القتل، لأن العتق في كفارة اليمين مطلق كالظهار.
قوله: (خلافاً للقاضي والمالكية وبعض الشافعية) هذا القول الثاني في مسألة اتحاد الحكم واختلاف السبب: وهو أنه يحمل المطلق على المقيد، وهو قول القاضي أبي يعلى، والمالكية، وبعض الشافعية.
وحجة هؤلاء: أن كلام الله تعالى متحد في ذاته لا تعدد فيه، فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصاً على اشتراطه في كفارة الظهار. قالوا: ويعتضد حمل هذا المطلق على المقيد بقوله صلّى الله عليه وسلّم في قصة جارية معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: «أعتقها فإنها مؤمنة» ولم يستفصله عنها: هل هي كفارة أو لا؟[(596)].
قالوا: ولأن الشهادة لما قُيدت بالعدالة مرة واحدة في قوله تعالى: {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}} [الطلاق: 2] وأطلقت في سائر المواضع، حملنا المطلق على المقيد، فكذا هنا.
وقد نسب المصنف ـ كغيره من الحنابلة ـ إلى المالكية القول بحمل المطلق على المقيد. وقد ذكر القرافي المالكي وغيره أن أكثرهم لا يقولون بذلك[(597)].
وقال أبو الخطاب: تقييد المطلق كتخصيص العموم، وهو جائز بالقياس الخاص، فهاهنا مثله، فإن كان ثَمَّ مقيدان حُمِلَ على أقربهما شبهاً به، وإن اختلف الحكم فلا حَمْلَ، اتحد السبب أو اختلف.(1/203)
قوله: (وقال أبو الخطاب: تقييد المطلق كتخصيص العموم، وهو جائز بالقياس الخاص، فهاهنا مثله) هذا القول الثالث في المسألة، وهو أنه لا يحمل المطلق على المقيد بنفس اللفظ، بل لا بُدَّ من دليل من قياس أو غيره، وذلك لأن المطلق يقتضي العموم، والتقييد شبيه بالتخصيص، فإذا وقع التخصيص بالقياس كما مر، وقع التقييد بالقياس، ومقتضاه أنه إن حصل قياس صحيح مقتضٍ لتقييده قُيّد، كاشتراك الظهار والقتل في خلاص الرقبة المؤمنة من الرق؛ لتشوّف الشارع إليه، وإن لم يحصل أُقِرَّ المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده[(598)].
والأظهر ـ والله أعلم ـ هو القول الأول، وهو أنه إذا اختلف السبب فلا يحمل المطلق على المقيد؛ لأن تقييد المطلق مع اختلاف السبب زيادة تنافي الإطلاق، ولعل الشرع أراد التفريق بين القتل والظهار.
وقولهم: إن كلام الله متحد، فيترتب فيه المطلق على المقيد، فيه نظر، فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة، لبعضها حكم التعلق والاختصاص، ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع، واختلاف السبب يؤثر على حمل المطلق على المقيد؛ لما تقدم، وأمَّا الشهادة فإنَّما قُيدت بالعدالة بالإجماع، والله أعلم[(599)].
قوله: (فإن كان ثَمَّ مقيدان حُمِلَ على أقربهما شبهاً به) أي: إذا اجتمع مطلق ومقيَّدان حمل المطلق على ما هو أشبه به، وأقرب إليه من المقيَّدين.(1/204)
مثال ذلك: إطلاق صوم كفارة اليمين عن القيد، في قوله تعالى: {{فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}} [البقرة: 196] مع تقييد صوم كفارة الظهار بالتتابع في قوله تعالى: {{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}} [النساء: 92] ، وتقييد صوم التمتع بالتفريق في قوله تعالى: {{فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}} [البقرة: 196] فالظهار أقرب لليمين من التمتع؛ لأن كلاً منهما كفارة، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع ـ على أحد القولين[(600)] ـ حملاً على الصوم المقيد بالتتابع في كفارة الظهار.
فإن لم يكن أحدهما أقرب لم يحمل المطلق على واحد منهما اتفاقاً، ومثاله: صوم قضاءِ رمضان، فإن الله تعالى أطلقه في قوله: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] مع تقييد صوم الظهار بالتتابع، وصوم التمتع بالتفريق ـ كما تقدم ـ وقضاءُ رمضان ليس أقرب لواحد منهما، فيبقى على إطلاقه: من شاء تابعه، ومن شاء فرّقه[(601)].
قوله: (وإن اختلف الحكم فلا حَمْلَ اتحد السبب أو اختلف) هذه الحالة الثالثة من أحوال المطلق والمقيد، وهي أن يختلف حكم المطلق عن حكم المقيد، وفي هذه الحالة لا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل بالمطلق على إطلاقه، وبالمقيد على تقييده. سواء اتحدا في السبب أو اختلفا.(1/205)
فمثال اختلاف الحكم واتحاد السبب قوله تعالى: {{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}} [المائدة: 6] مع قوله تعالى في الآية نفسها: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}} [المائدة: 6] فلفظ (الأيدي) جاء مطلقاً في التيمم، ومقيداً (إلى المرافق) في الغسل، فلا يحمل المطلق على المقيد ـ هنا>;ـ لاختلاف الحكم، وهو التيمم في الأول، والغسل في الثاني، وإن كان السبب واحداً، وهو القيام إلى الصلاة.
ومثال اختلاف الحكم والسبب: قوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] مع قوله تعالى في آية الوضوء: {{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}} فلفظ الأيدي جاء مطلقاً في آية السرقة، ومقيداً في آية الوضوء، فلا يحمل المطلق على المقيد؛ لاختلاف الحكم؛ لأنه في الأولى قطع، وفي الثانية غسل، والسبب مختلف ـ أيضاً ـ لأن السبب في الأولى سرقة، وفي الثانية القيام إلى الصلاة، وهذا مما لا خلاف فيه؛ فتبقى الآية الأولى على إطلاقها، ويكون القطع من الكوعِ مفصلِ الكف[(602)]، والثانية على تقييدها ويكون الغسل إلى المرافق. والله أعلم.
* * *
و(الأمر): استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، وله صيغة تدل بمجردها عليه، وهي (افعل) للحاضر، و(ليفعل) للغائب عند الجمهور. ومن تخيّل الكلام معنى قائماً بالنفس أنكر الصيغة، وليس بشيء.
باب الأمر
الأمر والنهي من أهم أبواب الأصول؛ لأن مدار التكليف على الأوامر والنواهي، فلا بد من معرفة أحكامهما، ليكون المكلف على بصيرة من دينه.
يقول السرخسي رحمه الله في أصوله: (أحق ما يُبْدأ به في البيان الأمرُ والنهي؛ لأن معظم الابتلاء يقع بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام، ويتميز الحلال من الحرام)[(603)].(1/206)
قوله: (الأمر: استدعاء) هذا تعريف الأمر اصطلاحاً، والمراد بالاستدعاء: الطلب، وهذا جنس يشمل الأمر والنهي.
قوله: (الفعل) أي: الإيجاد، ليشمل القول المأمور به، نحو: {{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}} [الأنفال: 45] ، والفعل المأمور به، نحو: {{وَآتُوا الزَّكَاةَ}} [البقرة: 43] ، وقد خرج بهذا القيد: النهي، لأنه استدعاء الترك.
قوله: (بالقول) أي: باللفظ الدال عليه، والمراد صيغ الأمر الآتية، وهذا قيد ثان لإخراج الإشارة، فإنها وإن أفادت طلب الفعل لكنها لا تسمى أمراً في الاصطلاح.
قوله: (على وجه الاستعلاء) وهو كون الأمر على وجه الترفع وإظهار القهر[(604)]. وهذا قيد ثالث يخرج استدعاء الفعل من المساوي، فهو التماس، أو ممن هو فوقه فهو دعاء.
قوله: (وله صيغة تدل بمجردها عليه) أي: إن الأمر له لفظ يدل على طلب الفعل، والمراد: صيغة لفظية موضوعة له، كدلالة سائر الألفاظ الحقيقية على موضوعاتها.
وقوله: (تدل بمجردها عليه) أي: إذا تجردت عن القرائن الصارفة، دلت على طلب الفعل، كقوله تعالى: {{أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}} [الأنعام: 72] ، أما في مثل قوله تعالى: {{فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا}} [الطور: 16] ، فهي لا تدل على طلب الفعل، بل المراد التسوية لوجود القرينة، والضمير في قول (عليه) يعود على استدعاء الفعل.
قوله: (وهي افعل للحاضر) أي: إن صيغ الأمر اللفظية هي فعل الأمر، كقوله تعالى: {{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ *}} [الأعراف: 199] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة» [(605)].(1/207)
قوله: (وليفعل للغائب) المراد بذلك: المضارع المبدوء بالياء المقرون بلام الأمر، وهو الأكثر ـ ومثله المبدوء بالتاء ـ وهو قليل[(606)]، كقوله تعالى: {{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}} [البقرة: 282] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، فإذا نزع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تُنْعَلُ، وآخرهما تنزع» [(607)].
ومن الصيغ: اسم فعل الأمر، كقوله تعالى: {{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}} [المائدة: 105] ، والمصدر النائب عن فعل، الأمر، كقوله تعالى: {{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}} [البقرة: 83] .
وللأمر صيغ أخرى تدل على الأمر بالشيء وطلب إيجاده، كالتصريح بلفظ الأمر، كقوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}} [النساء: 58] ، أو لفظ: كُتب أو فَرَض ونحوهما، كقوله تعالى: {{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}} [البقرة: 183] ، وقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (فرض رسول الله زكاة الفطر في رمضان)[(608)].
قوله: (عند الجمهور) أي: إن مذهب جمهور أهل السنة أن الأمر له صيغة لفظية.
قوله: (ومن تخيل الكلام معنى قائماً بالنفس أنكر الصيغة) أي: إن القائل إن الأمر لا صيغة له بنى ذلك على إثبات الكلام النفسي، وهذا مذهب الأشاعرة، فهم يقولون: ليس للأمر صيغة لفظية؛ لأن الكلام عندهم هو المعنى القائم بالنفس دون اللفظ. وإنَّما جُعل اللفظُ ليعبَّر به عن المعنى النفسي ويدل عليه، فإذا قال: أعطني الكتاب، فإنه قبل أن يتلفظ بهذه الصيغة قام بنفسه تصور حقيقة الإعطاء، وحقيقة الكتاب، والنسبة الطلبية بينهما، فهذا هو الكلام النفسي، والمعنى القائم بالنفس، وصيغة قوله: (أعطني الكتاب)، عبارة عنه ودليل عليه.(1/208)
ومن أدلة هذا القول قوله تعالى: {{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ *}} [المنافقون: 1] ، فكذّبهم الله تعالى في شهادتهم، ومعلوم أنهم كانوا صادقين في النطق اللساني، فلا بد من إثبات كلام في النفس؛ ليكون الكذب عائداً إليه[(609)].
قوله: (وليس بشيء) أي: هذا مذهب باطل، لمخالفته الكتاب والسنة واللغة والعرف. قال تعالى لزكريا عليه السلام: {{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا *فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا *}} [مريم: 10، 11] ، وقال تعالى: {{آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا}} [آل عمران: 41] ، فلم يسمّ الله تعالى إشارته إلى قومه كلاماً؛ لأنه لم يتكلم بشيء من الألفاظ.
وأمَّا السنة فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا» [(610)]، فَفَرَّقَ بين المعنى القائم بالنفس والكلام، وأخبر برفع المؤاخذة في الأول دون الثاني.
واتفق أهل اللسان على أن الكلام اسم وفعل وحرف، وأجمع الفقهاء على أن من حلف لا يتكلم لا يحنث بحديث النفس، وإنما يحنث بالكلام، وإذا أطلق الكلام على ما في النفس فلا بد من تقييده، كقوله تعالى: {{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ}} [المجادلة: 8] . وأهل العرف كلهم يسمون الناطق متكلماً، ومن عداه ساكتاً أو أخرس.
وأما الآية التي استدلوا بها فلا دليل فيها؛ لأن الشهادة هي الإخبار عن الشيء مع العلم به، فلما لم يكونوا عالمين به، فلا جرم كذّبهم الله تعالى في ادعائهم كونهم شاهدين[(611)].(1/209)
والإرادة ليست شرطاً عند الأكثرين خلافاً للمعتزلة، وهو للوجوب بتجرده عند الفقهاء وبعض المتكلمين. وقال بعضهم: للإباحة، وبعض المعتزلة: للندب؛ فإن ورد بعد الحظر فللإباحة. وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين : لما يفيده [قبل] الحظر، ولا يقتضي التكرار عند الأكثرين، وأبي الخطاب خلافاً للقاضي، وبعض الشافعية، وقيل: يتكرر إن عُلِّقَ على شرط، وقيل: يتكرر بتكرر لفظ الأمر، وحُكِيَ ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه.
قوله: (والإرادة ليست شرطاً عند الأكثرين) المراد بالإرادة: إرادة امتثال المأمور به ووقوعه، والجمهور على أنه لا يشترط في كون الأمر أمراً إرادة الآمر، وذلك لإجماع أهل اللغة على عدم الاشتراط؛ لأنهم رتبوا ذم المأمور أو مدحه أو إثابته أو عقوبته على مخالفة مجرد الصيغة، أو موافقتها، ولم يسألوا هل أراد الآمر امتثال المأمور أو لا؟ ولو كان ذلك شرطاً عندهم لما أهملوا السؤال عنه، ولا رتبوا أحكام الأمر عليه بدون تحققه.
قوله: (خلافاً للمعتزلة) أي: إن بعض المعتزلة[(612)] عرّفوا الأمر بأنه: إرادة الفعل بالقول على جهة الاستعلاء. وهذا يدل على أنهم يشترطون في الأمر إرادة وقوع المأمور به، وقالوا: إن الصيغة نفسها لا تكفي في أن تكون طلباً للفعل، لئلا يلزم عليه أن يكون التهديد أمراً، وكلام الساهي أمراً.
والصحيح قول الجمهور، وهو: أنه لا يشترط إرادة وقوع المأمور به، وما قاله المعتزلة فهو غير صحيح؛ لأمرين:
الأول: أن تعريف الأمر بأنه استدعاء يدل على أن التهديد ليس بأمر، لعدم الاستدعاء، والقرائن تحدد المراد.
الثاني: أن الإرادة نوعان:
1 ـ كونية قدرية، وهي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهي لا تستلزم محبة الله ورضاه.
2 ـ شرعية دينية، وهي المتضمنة لمحبة الله ورضاه، ولا يلزم وقوع المراد.(1/210)
والأمر الشرعي ملازم للإرادة الشرعية الدينية، ولا تلازم بينه وبين الإرادة الكونية القدرية؛ فإن الله تعالى أمر أبا جهل ـ مثلاً ـ بالإيمان وأراده منه شرعاً وديناً، لكنه لم يرده منه كوناً وقدراً، ولذا لم يقع، ولو أراده لوقع، قال تعالى: {{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} ...} [الأنعام: 107] والحكمة في ذلك ابتلاء الخلق وتمييز المطيع من غيره، فإن الله تعالى أمر إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بذبح ابنه ابتلاءً، ولم يرد وقوع ذبحه بالفعل كوناً وقدراً، فظهر بذلك بطلان قول المعتزلة: إنه لا يكون أمراً إلا بإرادة وقوعه، فهذا أمر من الله تعالى لإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، ولم يرد وقوعه[(613)].
قوله: (وهو للوجوب بتجرده عند الفقهاء وبعض المتكلمين) هذا في بيان ما تدل عليه صيغة الأمر إذا كانت مجردة عن القرائن، فذكر في المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: أنها تفيد الوجوب. وهو مذهب الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وبعض المتكلمين؛ كأبي الحسين البصري، والجبائي.
واستدلوا بأدلة منها:
1 ـ قوله تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً *}} [الأحزاب: 36] .
قال القرطبي في «تفسيره»: (هذا أدلُّ على ما ذهب إليه الجمهور... من أن صيغة (افعل) للوجوب في أصل وضعها؛ لأن الله تبارك وتعالى نفي خِيَرة المكلف عند سماع أمره وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب)[(614)].(1/211)
2 ـ قوله تعالى: {{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [النور: 63] . ووجه الاستدلال: أن الله تعالى توعد المخالفين لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالفتنة وهي الزيغ، أو بالعذاب الأليم، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب، فدل على أن أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم المطلق يقتضي الوجوب.
قال القرطبي: (بهذه الآية استدل الفقهاء على أن الأمر للوجوب...)[(615)].
3 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة» [(616)]. قال ابن دقيق العيد: (ووجه الاستدلال: أن كلمة (لولا) تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره، فيدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة، والمنتفي لأجل المشقة إنَّما هو الوجوب، لا الاستحباب، فإن استحباب السواك ثابت عند كل صلاة، فيقتضي ذلك أن الأمر للوجوب).اهـ[(617)].
4 ـ أن أهل اللغة عقلوا من إطلاق الأمر: الوجوب؛ لأن السيد لو أمر عبده فخالفه، حَسُنَ عندهم لومه، وحَسُنَ العذر في عقوبته بأنه خالف الأمر، والواجب ما يعاقب على تركه.
قوله: (وقال بعضهم: للإباحة) هذا القول الثاني فيما تدل عليه صيغة الأمر عند التجرد من القرائن، وهو أنها للإباحة، ولم يُنسب لقائل معين[(618)]، ودليلهم أن الأمر يحتمل الوجوب والندب، والإباحة هي اليقين، فيجب حمل الصيغة على اليقين.
قوله: (وبعض المعتزلة: للندب) هذا القول الثالث. وهو أن الأمر للندب، وهو لبعض المعتزلة، ونقله السرخسي عن بعض المالكية. قالوا: لأن صيغة (افعل) تقتضي طلب الفعل، وأدنى درجات الطلب الندب، فنحمله عليه.(1/212)
والراجح هو القول الأول، وهو أن الأمر للوجوب، إلا لدليل صارف عنه، لقوة أدلته، وضعف أدلة مخالفيه، فدليل القول الثاني مردود، لأن الأمر استدعاء وطلب، والإباحة ليست استدعاء، بل إذن وإطلاق وتخيير، وأمَّا الثالث فضعيف؛ لأن صيغة (افعل) لطلب الفعل لا محالة، وطلب الفعل لا محالة إيجاب.
فإن وجد دليل صارف عن الوجوب إلى الندب عُمل به، ومثاله: حديث عبد الله المزني رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا قبل المغرب» ، قال في الثالثة: «لمن شاء»
[(619)].
قوله: (فإن ورد بعد الحظر فللإباحة) الحظر أي: النهي والمنع، وقد اختلف الأصوليون في صيغة الأمر إذا جاءت بعد حظر على قولين:
الأول: أنها للإباحة، وهو الذي ذكره المصنف، وبه قال الشافعي، ونسب لمالك[(620)]، واستدلوا بأن أكثر أوامر الشرع بعد الحظر دالة على الإباحة، كقوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] ، وقوله: {{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا}} [الجمعة: 10] وقوله: {{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}} [البقرة: 222] ، وقوله: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}} [البقرة: 187] .
قوله: (وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: لما يفيده قبل الحظر) هذا هو القول الثاني ، وهو: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، فإن كان قبله مباحاً رجع إلى الإباحة، وإن كان قبله واجباً رجع إلى الوجوب.
ونسبه المؤلف إلى أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(621)]، وجمع من المحققين منهم: الزركشي، وابن كثير، والشنقيطي[(622)]؛ لأنه ينتظم جميع الأدلة ولا يرد عليه شيء.(1/213)
قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] : (والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يُردُّ الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده واجباً، وإن كان مستحباً فمستحب، أو مباحاً فمباح، ومن قال: إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال: إنه للإباحة يرد عليه آيات أُخر، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم)[(623)].
ومثاله: أن الصيد قبل الإحرام كان مباحاً، فمُنع للإحرام بقوله تعالى: {{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}} [المائدة: 96] ، ثم أُمِرَ به بعد الإحلال بقوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] فيرجع إلى الإباحة.
وقتل المشركين كان واجباً قبل دخول الأشهر الحرم، فمنع من أجلها، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله: {{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}} [التوبة: 5] فيرجع إلى ما كان قبل التحريم، وهو الوجوب.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي» [(624)]، فالأمر بالصلاة للوجوب، لأن الصلاة قبل امتناعها بالحيض واجبة.
قوله: (ولا يقتضي التكرار عند الأكثرين وأبي الخطاب) اعلم أن الأمر إمَّا أن يقيد بما يفيد الوحدة، أو بما يفيد التكرار، أو يكون خالياً من القيد.
فالثاني يحمل على ما قيّد به[(625)]، والقيد إمَّا صفة كقوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] ، فكلما حصلت السرقة وجب القطع، ما لم يكن تكرارها قبله.(1/214)
وإما شرط، كقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}} [المائدة: 6] ، فظاهر الآية إيقاع الفعل ـ وهو الوضوء ـ على التكرار بتكرر الصلاة، إلا أن السنة دلت على أن الأمر معلق بالحَدَثِ، تخفيفاً على الأمة، وأمَّا بدون الحدث، فهو على الندب، كما دلت عليه السنة[(626)]. وهذا فيما إذا كان الشرط والصفة علة ثابتة كما مثّلنا، فإن لم يكن علة ثابتة، فلا تكرار مثل: إن جاء زيد فَأعتِقْ عبداً من عبيدي، فإذا جاء زيد حصل ما عُلِّقَ عليه الأمر، لكن لا يتكرر بتكرر مجيئه.
وكذا الأول، وهو ما قُيد بالوحدة فيقيد به، كقوله تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] . فظاهر الآية وجوب تكرار الحج بتكرار الاستطاعة، لكن سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأجاب بما يدل على أنه مرة واحدة في العمر[(627)]، فيحمل الأمر في الآية على الوَحْدَةِ لهذا الدليل من السنة.
فإن كان الأمر مطلقاً لم يقيد، فهذا فيه خلاف كما ذكر المصنف رحمه الله.
فالقول الأول: أن الأمر لا يقتضي التكرار، وهو قول الأكثرين، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو الخطاب[(628)]، فيخرج المأمور من عهدة الأمر بمرة واحدة؛ لأن صيغة الأمر لا تدل إلا على مجرد إيقاع المأمور به مرة واحدة؛ والأصل براءة الذمة مما زاد عليها، واللغة تدل على ذلك، فإن السيد لو قال لعبده: ادخل السوق واشتر تمراً، لم يعقل منه التكرار، ولو كرر العبد ذلك لحسُنَ لومه، ولو لامه سيده على عدم التكرار لعُدّ السيد مخطئاً.
قوله: (خلافاً للقاضي وبعض الشافعية) هذا القول الثاني ، وهو أن صيغة الأمر تقتضي التكرار، وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها أكثر أصحابه، وهو أشهر قولي القاضي أبي يعلى[(629)].(1/215)
قالوا: لأن الأمر كالنهي، في أن النهي أفاد وجوب الترك، والأمر أفاد وجوب الفعل، فإذا كان النهي يفيد الترك على الاتصال أبداً، وجب أن يكون الأمر يفيد وجوب الفعل على الاتصال أبداً، وهذا معنى التكرار، والمراد به عندهم: حسب الطاقة والإمكان.
قوله: (وقيل يتكرر إن عُلِّقَ على شرط) هذا ليس بقول في المسألة، وقد تبع المصنف رحمه الله غيره كابن قدامة في «الروضة»[(630)]، وذلك لأن الكلام في الأمر المطلق المجرد عن القرائن. والأمر المعلق على شرط غير مطلق، وقد تقدم حكمه.
قوله: (وقيل يتكرر بتكرر لفظ الأمر..) هذا القول الثالث في المسألة، وهو أنه إن تكرر لفظ الأمر مثل: صلِّ ركعيتن، صلِّ ركعتين، أفاد التكرار، وإلا فلا، ونسبه الزركشي لبعض الأصوليين[(631)].
والأظهر ـ والله أعلم ـ هو القول الأول، وهو أن صيغة الأمر لا تدل على إيقاع المأمور به أكثر من مرة واحدة إلا بدليل، لقوة مأخذه، ويؤيده أنه قد عُلِمَ حُسْنُ قول القائل: افعل كذا أبداً، أو افعله مرة واحدة، فلو دل الأمر على التكرار لم يكن لقوله: (أبداً) فائدة، ولكان قوله: (مرة واحدة) تناقضاً؛ لأن (افعل) بوضعه يقتضي التكرار.
وأمَّا ما قاله أصحاب القول الثاني من قياس الأمر على النهي، فغير صحيح؛ للفرق بينهما؛ لأن الانتهاء عن الفعل ممكن، أمَّا الاشتغال به أبداً فغير ممكن، فظهر الفرق. وأمَّا تكرر لفظ الأمر فهو لا يفيد التكرار، بل هو في التأكيد أظهر. والله أعلم.
وهو على الفور في ظاهر المذهب، كالحنفية. وقال أكثر الشافعية: على التراخي، وقوم: بالوقف، والمؤقت لا يسقط بفوات وقته، فيجب قضاؤه. وقال أبو الخطاب والأكثرون: بأمر جديد.
قوله: (وهو على الفور في ظاهر المذهب، كالحنفية) المراد بالفور: الشروع في الامتثال عقب الأمر من غير فصل، وضده التراخي، وهو تأخير الامتثال عن الأمر زمناً يمكن إيقاع الفعل فيه فصاعداً.(1/216)
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة إنَّما هو في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، فإن وجد قرينة تدل على فور نحو: سافر الآن، أو تراخ نحو: سافر آخر الشهر، عمل بها.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال ـ كما ذكر المصنف ـ.
فالأول: أن الأمر على الفور: وهو ظاهر المذهب، أخذاً من قول الإمام أحمد: إن الحج يجب على الفور[(632)].
ونسبه المصنف إلى الحنفية، وهو قول المالكية وبعض الشافعية، واستدلوا بما يلي:
1 ـ أن ظواهر النصوص تدل عليه كقوله تعالى: {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}} [آل عمران: 133] ، {{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}} [الحديد: 21] ، {{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}} [البقرة: 148] . والمأمورات الشرعية خير، والأمر بالاستباق إليها دليل على وجوب المبادرة[(633)].
2 ـ ما جاء في قصة الحديبية، وفيها: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس...» الحديث [(634)].
وجه الدلالة: أنه لو لم يكن الأمر للفور ما دخل الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أم سلمة رضي الله عنها مغضباً، ولا قال لها: «ألا ترين إلى الناس إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه» كما في رواية ابن إسحاق[(635)].
3 ـ أن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ للذمة وأدل على الطاعة، والتأخير له آفات، ويقتضي تراكم الواجبات حتى يعجز الإنسان عنها.
4 ـ من جهة اللغة: أن السيد لو أمر عبده بأمر فلم يمتثل معتذراً بأن الأمر على التراخي لم يكن عذره مقبولاً.(1/217)
وقول المصنف: (في ظاهر المذهب) إشارة إلى أن فيه خلافاً عن الإمام أحمد، فإنه قد نُقِل عنه أن الحج على التراخي مع أنه مأمور به، وعلى هذا فما نُقِلَ عنه لا يصح أن يكون حجة في هذه المسألة[(636)].
وقوله: إن القول بالفور مذهب الحنفية، تبع فيه غيره كأبي يعلى، وابن قدامة، والآمدي، والبيضاوي، وغيرهم[(637)]، وهذا فيه نظر. والصواب أنه قول أبي الحسن الكرخي منهم، وتبعه بعض الحنفية، وأمَّا أكثرهم فيرون أن الأمر لمطلق الطلب فقط. قال ابن عبد الشكور: (هو لمجرد الطلب، فيجوز التأخير، كما يجوز البدار).
وذكر السرخسي في «أصوله» أن الصحيح عنده من مذهب علماء الحنفية أن الأمر على التراخي[(638)].
قوله: (وقال أكثر الشافعية: على التراخي) هذا القول الثاني ، وهو: أن الأمر على التراخي، وهو رواية عن أحمد، وقول أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية، واستدلوا بما يلي:
1 ـ أن الأمر لمطلق الطلب، فهو يقتضي مجرد الامتثال، ولا يدل على غير ذلك من زمان ولا غيره، وذلك لأن قوله: (صلِّ) إنَّما يقتضي إيقاع حقيقة الصلاة، وليس في لفظه ما يدل على فَورٍ أو تراخٍ، فتحديد الفور لا يدل عليه النص، فيكون زيادة على المأمور.
2 ـ أن نسبة الفعل إلى جميع الأزمنة واحدة، لعدم دلالة اللفظ على بعضها دون بعض، ولصحة وقوعه في كل زمن منها، وإذا استوت نسبة الفعل إلى جميعها كان تخصيصه بالفور تحكماً[(639)].
قوله: (وقوم: بالوقف) أي: وقال قوم بالوقف، وهو القول الثالث في اقتضاء الأمر الفورَ أو التراخي، فلا يجزم بواحد منهما؛ لتعارض الأدلة، وقالوا: إن المبادر ممتثل، لكن هل يأثم بالتأخير؟ قولان، واختار الآمدي أنه بفعله ممتثل قدَّم أو أخَّر، ولا إثم عليه[(640)].(1/218)
والراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول، لقوة أدلته، فهي أدلة شرعية، وتعليلات قوية، وأمَّا قول أصحاب القول الثاني: إن الأمر لمطلق الطلب، فهذا صحيح، ولكن وجدنا أدلة تفيد الفورية فقلنا بها، ولو لم نجد زيادة على ما ذكرتم اقتصرنا عليه.
وقولكم: إن نسبة الفعل إلى الأزمنة سواء من جهة الفعل مُسَلَّم، أمَّا من جهة الشرع فممنوع؛ إذ قد يتعلق قصد الشرع بوقت دون وقت؛ لمصلحة علمها، فلا يكون التخصيص للفورية تحكماً، كيف وقد بيّنا فيما مضى جواز عقوبة السيد عبده على تأخير الامتثال.
وأمَّا قول الواقفية فهو ضعيف جداً؛ إذ إن مطلق التعارض لا يبيح التوقف، بل لا بُدَّ من النظر والبحث، وقد تبين أن أدلة القول بالفور راجحة على أدلة القول بالتراخي، فتعين القول به والمصير إليه، والله أعلم[(641)].
قوله: (والمؤقت لا يسقط بفوات وقته فيجب قضاؤه) معنى ذلك أن العبادة المؤقتة بوقت معين، كصلاة الظهر ـ مثلاً ـ إذا فات وقتها، فهل يجب قضاؤها بالأمر الأول، أو لا يجب إلا بأمر جديد؟ قولان:
القول الأول: أن المؤقت لا يسقط بفوات وقته، ويجب قضاؤه بالأمر الأول، ولا يحتاج القضاء إلى دليل، وهذا قول جماعة من الفقهاء، وإليه يميل المصنف، واختاره القاضي. قال: (وأومأ إليه أحمد في رواية إسحاق بن هانئ: في الرجل ينسى الصلاة في الحضر فيذكرها في السفر «يصليها أربعاً، تلك وجبت عليه أربعاً»، فأوجب القضاء بالأمر الأول الذي به وجبت عليه في الحضر)[(642)] وذلك لأن الذمة إذا اشتغلت بواجب الشرع أو لآدمي لم تبرأ منه إلا بالامتثال، وهو الأداء، أو الإبراء، وإذا كانت الذمة مشغولة بالواجب المؤقت في وقته، فكذا بعده؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.(1/219)
قوله: (وقال أبو الخطاب والأكثرون: بأمر جديد) هذا هو القول الثاني ، وهو أن الأمر بالعبادة المؤقتة لا يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت، فلا يجب قضاؤها إلا بأمر جديد، وهذا قول الأكثرين من أهل الأصول، ونسبه الآمدي إلى المحققين من الشافعية، وهو اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وقواه المجد ابن تيمية[(643)].
وحجتهم: أن العبادة لما عُلِّقتْ بوقت معين، عُلِمَ أن مصلحتها مختصة به، وأن الشارع قد قصد وقوعها في الوقت الذي حدده لها، كتخصيص الصوم برمضان، والحج بعرفات، ولو كانت المصلحة في غيره من الأوقات لما كان لتخصيصه فائدة.
وعلى هذا فإذا ترك صلاة عمداً ـ وقلنا إنه: لا يكفر ـ فالجمهور على أنه لا بد للقضاء من أمر جديد، وهو عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فدين الله أحق أن يقضى» [(644)] والصلاة المتروكة عمداً دين لله في ذمة تاركها، أو يقاس على الناسي والنائم المنصوص على وجوب القضاء عليهما.
والقول الثاني: أنه لا قضاء عليه، وإنَّما عليه التوبة النصوح والإكثار من التطوع، لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، ولم يأت أمر جديد بقضاء التارك عمداً، وإنَّما جاء للناسي والنائم ونحوهما، ولا يقاس عليهما غير المعذور؛ لأن المعذور قادر على الفعل في الوقت، والنائم والناسي ليسا كذلك. واختار هذا ابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية وبعض المتأخرين[(645)].
ويقتضي الإجزاء بفعل المأمور به على وجهه، وقيل: لا يقتضيه. ولا يمنع وجوب القضاء إلا بدليل منفصل. والأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظٍ لا تخصيص فيه له، يشاركه فيه غيره، وكذلك خطابه لواحد من الصحابة، ولا يختص إلا بدليل، وهذا قول القاضي، وبعض المالكية، والشافعية. وقال التميمي، وأبو الخطاب، وبعض الشافعية: يختص بالمأمور. ويتعلق بالمعدوم خلافاً للمعتزلة وجماعة من الحنفية.(1/220)
قوله: (ويقتضي الإجزاء بفعل المأمور به على وجهه) أي: إن من امتثل الأمر، وجاء به على الوجه المطلوب بأركانه وشروطه، اقتضى فعله الإجزاء، وبراءة الذمة، وسقوط الطلب، وذلك لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» [(646)].
وقال النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم للخثعمية: «أرأيتِ لو كان على أبيكِ دين فقضيتيه، أكان يجزئه؟» قالت: نعم، قال: «فدين الله أحق بالقضاء» [(647)].
ووجه الدلالة: أن المرأة فهمت أن أداء ما وجب يدل على الإجزاء، فدل على أن امتثال الأمر يحصل به الإجزاء؛ ولأن الأمر بالعبادة يقتضي وجوب فعلها، فإذا فَعَلَ المأمور فقد امتثل ما اقتضاه الأمر، فخرج من عهدته وبرئت ذمته، وعادت خالية كما كانت قبل الأمر؛ ولأن الذمة اشتغلت بهذا المأمور به ولا خروج لها من عهدته وعودها بريئة إلا بالفعل، فينبغي أن يكون الفعل والأداء مجزئاً، لأن ما ثبت لعلة زال بزوالها، كدين الآدمي لا تبرأ الذمة إلا بأدائه.
قوله: (وقيل: لا يقتضيه) هذا القول الثاني في المسألة، وهو أن الفعل لا يقتضي الإجزاء لزوماً، بل جوازاً، فقد يفعل الإنسان المأمور ويلزمه القضاء، وهو قول بعض المتكلمين.
واستدلوا بأن الحج الفاسد مأمور بإتمامه ولا يقع مجزئاً، والمحدث يظن الطهارة، وإذا صلى لم تجزئه صلاته.
والقول الأول أرجح لقوة دليله، وأمَّا عدم الإجزاء في الحج؛ فلأنه أفسده بالوطء، فلم يتحقق المصحح للحج، وهو الإمساك عن الوطء في الحج، وفي الثاني صلى محدثاً فلم يمتثل أمر الشارع، وليس كلامنا فيما كان لفوات مصححه، وإنَّما كلامنا فيما إذا أتى بالمأمور به بجميع مصححاته.
أمَّا الإثابة على الفعل فليست من لوازم الإجزاء، فقد يحصل الإجزاء ويحصل الثواب، وقد يحصل الإجزاء ولا يحصل الثواب، وقد يكون مثاباً ولا يحصل الإجزاء.
فمثال الأول: إذا فعل المأمور به على الوجه المطلوب ولم يقترن به معصية تخل بالمقصود.(1/221)
ومثال الثاني: إذا اشتمل الصيام ـ مثلاً ـ على قول الزور والعمل به، فتبرأ الذمة، ولا يحصل الثواب؛ لأجل المعصية؛ لدلالة السنة على ذلك[(648)].
ومثال الثالث: إذا فعل المأمور به ناقص الشروط والأركان، فيثاب على ما فعل، ولا تبرأ الذمة إلا بفعله كاملاً، كما لو أخرج الزكاة ناقصة، فإنه يخرج التمام، أو ترك شيئاً من واجبات الحج فإنه يجبره بدم.. فعلم بذلك أن امتثال الأمر على الوجه المطلوب يقتضي الإجزاء دون الثواب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، بعد أن ذكر هذا التفصيل: (وهذا تحرير جيد: أن فعل المأمور به يوجب البراءة، فإن قارنه معصية بقدره تخل بالمقصود قابل الثواب، وإن نقص المأمور به أثيب، ولم تحصل له البراءة التامة، فإمَّا أن يعاد، وإمَّا أن يجبر، وإمَّا أن يأثم)[(649)].
قوله: (ولا يَمْنَعُ وجوب القضاء إلا بدليل منفصل) الضمير في قوله: (ولا يمنع) يعود إلى فعل المأمور به.
ومعناه: أن الامتثال وأداء المأمور به لا يمنع وجوب القضاء، ولا يلزم منه حصول الإجزاء، بدليل أن من أفسد حجه فهو مأمور بإتمامه، وهو لا يجزئه بل يلزمه القضاء، وكذا من ظنّ أنه متطهر فهو مأمور بالصلاة، وممتثل إذا صلى، ويلزمه القضاء.
وقوله: (إلا بدليل منفصل) أي: إن فعل المأمور به لا يدل على الإجزاء ويمنع وجوب القضاء، إلا بدليل آخر، وذلك لأن اللفظ تضمن طلب إيجاد الفعل ليس إلا، ولم يتضمن الإجزاء وسقوط الطلب، فاحتاج في ذلك إلى دليل.
لكن هذا فيه نظر؛ لأن اللفظ تضمن إيجاد الفعل، فإذا وجد الفعل على الوجه المطلوب فقد امتثل ما أُمِرَ به وبرئت ذمته، ولم يبق شيء يحتاج إلى دليل.(1/222)
قوله: (والأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ لا تخصيص فيه له يشاركه فيه غيره) أي: إن الخطاب المتضمن أمراً للنبي صلّى الله عليه وسلّم يشملُ الأمة؛ لأن الأصل التأسي به صلّى الله عليه وسلّم، كما قال تعالى: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}} [الأحزاب: 21] فالخطاب له خطاب لأمته، ومنه قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}} [الطلاق: 1] فجاء الضمير بلفظ الجمع لإفادة العموم.
وهذا قول الإمام أحمد، وأبي حنيفة، وبعض المالكية، والشافعية.
قوله: (وكذلك خطابه لواحد من الصحابة) أي: إنه صلّى الله عليه وسلّم إذا خاطب واحداً من الصحابة بشيء، فهو عام لجميع المكلفين لا يختص بذلك الصحابي حتى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم يشمله ذلك الخطاب، إلا إن قام دليل على التخصيص، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يرجعون في أحكامهم العامة إلى أحكام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان بعضها توجه إلى صحابي واحد، كحديث عائشة لما حاضت صفية رضي الله عنها بعد الإفاضة وأخبرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بسقوط طواف الوداع عنها[(650)].
وفي حدِّ الزاني إلى قصة ماعز رضي الله عنه[(651)]، ونحو ذلك.
وهذا هو اللائق بعموم الشريعة.
قوله: (ولا يختص إلا بدليل) هذا راجع إلى المسألتين السابقتين. أي: لا يختص الأمر بالرسول صلّى الله عليه وسلّم إلا بدليل يدل على الخصوصية، كقوله تعالى: {{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}} [الأحزاب: 50] ، وكذلك ما خوطب به الصحابي فلا بد من دليل يفيد اختصاصه بالحكم، كقوله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بُرْدَةَ في الأضحية بالجَذَعِ من المعز: «تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك» [(652)].(1/223)
قوله: (وقال التميمي وأبو الخطاب وبعض الشافعية: يختص بالمأمور) هذا هو القول الثاني في المسألتين، وهو: أن الحكم يختص بمن توجه إليه من النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أو غيره، إلا أن يقوم دليل على التعميم.
ونسبه الشوكاني إلى الجمهور[(653)].
واستدلوا باللغة: فقالوا: لو أن السيد أمر بعض عبيده بأمر، فإنه يختص موجب الأمر به دون غيره، فكذا الله تعالى مع عبيده.
وأيضاً فإن الله تعالى إذا أمر بعبادة؛ كالصلاة والصيام فإنه لا يتناول بمطلقه عبادة أخرى غيرها، إلا بأمر جديد لها، فكذا إذا أمر عبداً لا يتناول بمطلقه عبداً آخر غيره.
وكأن الخلاف لفظي؛ لأن من يقول بالتخصيص يتمسك باللغة، ومن يقول بالتعميم يتمسك بالواقع الشرعي، لوجود وقائع شرعية عُدِّيَ حكمها إلى غير أصحابها[(654)].
قوله: (ويتعلق بالمعدوم) المراد بالمعدوم: من لم يكن موجوداً حال الخطاب بالأمر، فهذا يتعلق به الأمر، بمعنى: أن الخطاب يتناوله، للإجماع على أن أول هذه الأمة وآخرها إلى يوم القيامة سواء في الأوامر والنواهي.
وأمَّا تعلق الأمر بمعنى طلب إيقاع الفعل منه حال عدمه، فهذا محال باطل بالإجماع، فإن الصبي والمجنون والسكران غير مكلفين لعدم فهم الخطاب وإمكان الامتثال، والمعدوم أسوأ حالاً من هؤلاء في هذا المعنى، لوجود أصل الفهم في حقهم، وعدمه بالكلية في حق المعدوم.
قوله: (خلافاً للمعتزلة وجماعة من الحنفية) هذا القول الثاني، وهو: أن الأمر لا يتعلق بالمعدوم، وأن أوامر الشرع الواردة في عصر النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم تختص بالموجودين في وقته، فأمَّا من بعدهم فإنه دخل في ذلك بدليل؛ لأن خطاب المعدوم مستحيل فيستحيل تكليفه، ولأن الأمر يتعلق بمأمور، والمعدوم ليس بشيء، فلا يصح تعلق الأمر به.(1/224)
وأجيب عن ذلك: بأن الخطاب متوجه إليهم بشرط وجودهم متصفين بصفات التكليف، والأمر متعلق بمأمور وجد في الزمن الثاني كما يتعلق الأمر بالعاجز لقدرة تحصل في الزمن الثاني، وقد دلت النصوص على خطاب المعدومين من هذه الأمة للموجدين منها، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تقاتلون اليهود، حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر، فيقول: يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله» [(655)].
وفي حديث آخر: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود...» [(656)].
وقد دل على ذلك القرآن، قال تعالى: {{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}} [الأنعام: 19] قال بعض السلف: من بَلَغَهُ القرآن فقد أُنذر بإنذار النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم[(657)].
وإذا قلنا: الأمر يتعلق بالمعدوم، فمعناه أنه لا يحتاج إلى خطاب ثان، وعلى هذا فلو أوصى الوالد عند موته لمن سيوجد بعده من أولاده بوصية، فإن الولد بتقدير وجوده وفَهْمِهِ يصير مكلفاً بوصية والده، حتى إنه يوصف بالطاعة والعصيان بتقدير المخالفة والامتثال[(658)].
ويجوز أمر المكلف بما عُلِمَ أنه لا يتمكن من فعله، وهي مبنية على النسخ قبل التمكن، والمعتزلة شرطوا تعليقه بشرطٍ لا يعلم الآمر عدمه، وهو نهي عن ضده معنى.
قوله: (ويجوز أمر المكلف بما علم أنه لا يتمكن من فعله) أي: يجوز الأمر من الله تعالى للمكلف بما يعلم سبحانه أنه لا يتمكن من فعله.
وفي المسألة تفصيل:
1 ـ فإن عَلِمَ الله تعالى أن المنع من عدم التمكن من الفعل يزول، ويقدر الممنوع على الفعل المأمور به، دَخَلَ المأمور في الأمر، وصار من جملة المأمورين بلا خلاف.
2 ـ وإن علم الله تعالى أنَّ منعه لا يزول، بل يحال بينه وبين الفعل، فهل يدخل هذا في الأمر؟
المذهب على ما قرره القاضي أبو يعلى، وتلميذه أبو الخطاب أنه يدخل في الأمر أيضاً[(659)]. فيجوز أَمْرُ من عَلِمَ الله تعالى أنه لا يُمكّن من الفعل، وفيه فوائد منها:(1/225)
امتحان المكلف، وابتلاؤه، وتوطين النفس على العزم على الطاعة، ومسرة الآمر بأمره لغيره، وإيثار الإقرار من المأمور بالتزام الطاعة.
ودليل ذلك: أن الله تعالى أمر إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم بذبح ولده إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم وهو يعلم أنه لا يمكِّنه من ذبحه بالفعل، وذكر أن الحكمة في ذلك هي الابتلاء، قال تعالى: {{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ *}} [الصافات: 106] .
ولأن المقصود من الأمر حصول الطاعة، وذلك بالفعل تارة، وباعتقاد وجوب الأمر والعزم على فعله متى قدر عليه تارة، فإن مُنِعَ من الأول وُجِدَ الثاني.
قوله: (وهي مبنية على النسخ قبل التمكن) أي: إن هذه المسألة فرع عن مسألة في باب النسخ، وهي: هل يجوز النسخ قبل التمكن من الامتثال؟ والتحقيق هو الجواز ـ كما سيأتي إن شاء الله في النسخ ـ والحكمة من ذلك هي الابتلاء، وقد وقع ذلك، كما في المثال السابق.
قوله: (والمعتزلة شرطوا تعليقه بشرط لا يعلم الآمر عدمه) أي: يشترط في تكليف المعدوم بالأمر ألا يعلم الآمر عدم قدرته.
وهذا هو القول الثاني في المسألة، وهو أن من علم الله تعالى أنه يُمنع من الفعل فلا يجوز تكليفه[(660)]. وإنَّما يجوز تكليف من كان الآمر لا يعلم عدم منعه من الفعل.
قالوا: لأن ذلك من باب التكليف بما لا يطاق، فإن من يحال بينه وبين الفعل يستحيل منه الفعل، وما يستحيل وقوعه لا يحسن الأمر به.
وأجيب عن ذلك: بأنه قد يؤمر بذلك ابتلاءً، هل عنده استعداد أو لا. ثم إن طاعة المأمور به تحصل ولو باعتقاد وجوبه وإقرار المكلف بوجوب طاعة مَن أمره، وليعرضه بذلك لثواب العزم على طاعته، كما تقدم.(1/226)
قوله: (وهو نهي عن ضده معنى) لا خلاف أنَّ صيغة الأمر (افعل) مغايرة لصيغة النهي (لا تفعل)، فيكون الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده[(661)] من جهة المعنى ـ كما قال المصنف ـ لا من جهة اللفظ، فإذا قال له: اسكن، فهذا أمر بالسكون، نهي عن ضده وهو التحرك. قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}} [الأنفال: 45] فالأمر بالثبات نهي عن عدم الثبات أمام الكفار، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ *}} [الأنفال: 15] ومثاله أيضاً: الأمر بالقيام في الصلاة نهي عن ضده وهو الجلوس، فلو جلس من قيامه أثناء صلاة الفرض عمداً لغير عذر بطلت صلاته؛ لأن أمره بالقيام نهي له عن الجلوس.
ومن منع كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده استدل بحديث: (فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام) [(662)]. إذ لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله: (ونهينا).
وأجيب: بأن دلالته على ضده دلالة التزام[(663)]، ولعله ذكر ذلك لكونه أصرح، والله أعلم[(664)].
* * *
و(النهي) يقابل الأمر عكساً، وهو استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء، ولكل مسألة من الأوامر وِزَانٌ من النواهي بعكسها، وقد اتضح كثير من أحكامه.
بقي أن النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها. وقيل: لعينه لا لغيره، وقيل: في العبادات لا في المعاملات، وحُكِيَ عن جماعة منهم أبو حنيفة: يقتضي الصحة.
وقال بعض الفقهاء وعامة المتكلمين: لا يقتضي فساداً ولا صحة.
فهذا ما تقتضيه صرائح الألفاظ.
باب النهي
قوله: (والنهي يقابل الأمر عكساً) أي: إن تعريف النهي عكس تعريف الأمر.
قوله: (وهو استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء) .
الاستدعاء: جنس في التعريف، يشمل استدعاء الفعل واستدعاء الترك، كما تقدم في الأمر.
وقوله: (الترك) هذا قيد يخرج الأمر.(1/227)
وقوله: (بالقول) هذا قيد يخرج الإشارة.
وقوله: (على وجه الاستعلاء) يخرج السؤال، نحو: {{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}} [آل عمران: 8] والالتماس كقولك لزميلك: لا تتأخر عن الموعد.
قوله: (ولكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي بعكسها، وقد اتضح كثير من أحكامه) أي: إن أكثر أحكام النهي عكس أحكام الأمر، مثاله: أن الأمر استدعاء فعل، والنهي استدعاء ترك. والأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في التحريم، وصيغة الأمر (افعل)، وصيغة النهي (لا تفعل)، والأمر يقتضي صحة الفعل المأمور به، والنهي يقتضي فساده، وكما يخرج من عهدة المأمور به بفعله، يخرج من عهدة المنهي عنه بتركه.
قوله: (بقي أن النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها) أي: بقي من مباحث النهي أنه إذا ورد النهي عن السبب الذي يفيد حكماً من الأحكام، اقتضى فساده؛ كالنهي عن بيع الغرر يقتضي فساد هذا البيع، وهذا البحث موضوعه: اقتضاء صيغة النهي الفساد، وهي مسألة فيها خلاف طويل بين الأصوليين، وقد أشار المصنف إلى أقوالهم.
قوله: (يقتضي فسادها) أي: يقتضي الفساد مطلقاً، سواء كان النهي لعينه، أي: لذات المنهي عنه، أو لغيره أي: لأمر خارج عنه، في العبادات والمعاملات.
فمثال النهي في العبادات: النهي عن صوم يوم العيدين، لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (نهى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم عن صوم يوم الفطر ويوم النحر)[(665)]. فإن النهي لمعنى اتصل بالوقت الذي هو محل الأداء، وأنه يوم عيد ويوم ضيافة.
ومثال النهي لغيره في العبادات: النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، فالنهي ليس لذات الصلاة، وإنَّما لمعنى آخر، وهو شغل ملك الغير بنفسه.
ومثال النهي لذاته في المعاملات: النهي عن بيع الجنين في بطن أمه[(666)]، أو بيع المعدوم.(1/228)
ومثال النهي لغيره في المعاملات: النهي عن البيع يوم الجمعة بعد ندائها الثاني لمن تلزمه الجمعة، فهذا يقتضي الفساد على هذا القول[(667)].
وهذا قال به أكثر الحنابلة والمالكية والظاهرية[(668)]، وصرح الآمدي بأنه لا يعرف من يقول بهذا غير مالك وأحمد في رواية عنه[(669)].
وحجة هؤلاء: أن مقتضى النهي فساد المنهي عنه، فيفيده في الصور كلها، سواء كان النهي لذات المنهي عنه أم لغيره، وهذا مُسلَّم في الأول، دون الثاني، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (وقيل: لعينه لا لغيره) هذا القول الثاني ، وهو أن النهي عن الشيء لعينه يقتضي فساده، والنهي عنه لغيره لا يقتضي فساده، ونسبه الفتوحي إلى الأكثر[(670)]، وهذا أرجح الأقوال، كما سيأتي إن شاء الله.
قوله: (وقيل: في العبادات لا في المعاملات) هذا القول الثالث في المسألة، وهو التفريق بين العبادات فيقتضي الفساد، والمعاملات فلا يقتضي الفساد، وإنَّما فسادها بفوات ركن، كانعدام المبيع في بيع الملاقيح[(671)]، أو شرط، كانعدام طهارة المبيع، وذلك لأن العبادة قربة، وارتكاب النهي معصية فيتناقضان. بخلاف المعاملات فإنها ليست قربة فلا يناقضها ارتكاب النهي، وفرق آخر وهو أن فساد المعاملات بالنهي يضر بالناس، وفساد العبادات لا يضر بهم.
قوله: (وحكي عن جماعة منهم أبو حنيفة: يقتضي الصحة) هذا القول الرابع ، وهو: أن النهي لا يقتضي الفساد، وإنَّما يقتضي الصحة.
وحجتهم: أن النهي عن الشيء يقتضي إمكان وجوده شرعاً؛ إذ لو كان ممتنعاً في نفسه لم يتوجه إليه النهي، كما لا يتوجه النهي عن الإبصار إلى الأعمى؛ لأنه مَنْعٌ للممتنع، ومَنْعُ الممتنع عبث. فيجوز عندهم التصرف في المبيع بيعاً فاسداً، كحلب الدابة وركوب السيارة ونحو ذلك، وصححوا بيع درهم بدرهمين، ويثبت الملك في أحدهما، ويجب رد الآخر؛ لأن النهي دل على الصحة، والصحة: ترتب الأثر المقصود من العقد على العقد.(1/229)
وهذا غير مسلم؛ فإن النهي يقتضي الفساد، وإلا لضاع المقصود الذي من أجله نُهي عن الفعل.
قوله: (وقال بعض الفقهاء وعامة المتكلمين: لا يقتضي فساداً ولا صحة) هذا القول الخامس ، وهو: أن النهي لا يقتضي فساداً ولا صحة.
وعلّلوا لذلك بأن النهي من الخطاب التكليفي، والصحة والفساد من الخطاب الوضعي، وليس بينهما رابط عقلي حتى يقتضي أحدهما الآخر، وإنَّما تأثير فعل المنهي عنه في الإثم بفعله، لا في الصحة ولا في الفساد، فإن اقترن بالإثم بفعل المنهي عنه صحةٌ أو فسادٌ، فذلك لدليل خارج.
والقول الراجح هو: أن النهي يقتضي الفساد، إذا عاد النهي لعينه في العبادات وغيرها، وذلك لما يلي:
أولاً: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [(672)].
وجه الدلالة: أن ما نُهي عنه ليس من الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مردود على فاعله، وما كان مردوداً فكأنه لم يوجد، لأنه فاسد.
ثانياً: أن الصحابة رضي الله عنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها، فمن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه: (لا يصح نكاح المشركات؛ لأن الله تعالى قال: {{وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}} [البقرة: 221] )[(673)].
واحتجاجهم على فساد الربا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا يداً بيد سواء بسواء» [(674)].
ثالثاً: أن المنهي عنه مفسدته راجحة، وإن كان فيه مصلحة فمصلحته مرجوحة بمفسدته، فما نهى الله عنه وحرّمه إنَّما أراد منع وقوع الفساد ودفعه؛ لأن الله إنما ينهى عما لا يحبه، والله لا يحب الفساد، فَعُلِمَ أن المنهي عنه فاسد ليس بصالح[(675)].(1/230)
وهذا إذا لم يأت مع النهي قرينة تفيد البطلان أو الصحة، أمَّا إذا اقترن النهي بقرينة تدل على بطلان المنهي عنه، أو تدل على صحته فيحكم بما دلت عليه القرينة، فمثال الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً[(676)].
فالنهي عن ثمن الكلب نهي عن البيع، وهذا النهي يقتضي الفساد بالنص، وهو قوله: «وإن جاء يطلب ثمن الكلب...».
ومثال الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بَعْدُ فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر» [(677)].
فقد دل قوله: «إن شاء أمسكها» على صحة البيع، مع أنه نهى عن التصرية، لكنه نهي لا يقتضي الفساد؛ لأن الفاسد لا يُقِرُّه الشرع.
فإن عاد النهي إلى أمر خارج عن المنهي عنه فالراجح عدم الفساد، وقد نسبه القاضي إلى أكثر الفقهاء[(678)] فيصح الفعل، وتترتب عليه آثاره، مع الإثم بفعل المنهي عنه؛ لانفكاك الجهة، فإن من صلى في دار مغصوبة صحت صلاته، وعليه إثم الغصب؛ لأنه ممنوع من الجلوس فيها في غير صلاة، وإذا لم يرجع النهي إلى الصلاة لم يؤثر فيها، وتقدم ذلك في باب «المحظور».
ومثال ذلك ـ أيضاً ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» [(679)]. فهذا نفي مقتضاه النهي عن الصلاة عند حضور الطعام، وعند مدافعة البول والغائط، وذلك لما فيه من تفويت الخشوع، فالصلاة صحيحة على أحد القولين؛ لأن النهي يعود على أمر ليس شرطاً في صحة الصلاة، بل تصح بدونه، كما دلت السنة على ذلك[(680)].(1/231)
ومن أمثلة العقود: النهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة؛ فإنه راجع إلى تفويته للصلاة، وهو غير لازم للبيع، لأنه قد يحصل بدون تفويت، لأنهما قد يتعاقدان وهما يسيران إلى الصلاة، فيصح البيع على هذا القول، وقد تقدم الحكم بفساده على القول الآخر.
قوله: (فهذا ما تقتضيه صرائح اللفظ) الإشارة إلى ما تقدم من مباحث النص، والمجمل، والظاهر، والعام، والخاص، والأمر، والنهي، وهي مما يستفاد من صريح اللفظ، وهو المعنى الذي وضع له اللفظ، والصريح أحد قسمي المنطوق، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ والله تعالى أعلم.
* * *
باب المفهوم
وأما المستفاد من فحوى الألفاظ وإشاراتها وهو (المفهوم) فأربعة أضرب:
الأول: (الاقتضاء) وهو الإضمار الضروري لصدق المتكلم، مثل: (صحيحاً) في قوله: «لا عَمَل إلا بِنِيَّة» أو ليوجد الملفوظ به شرعاً، مثل: «فَأَفْطَرَ» لقوله: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} أو عقلاً مثل الوطء في مثل: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ}}.
قوله: (وأمَّا المستفاد من فحوى الألفاظ وإشاراتها وهو المفهوم، فأربعة أضرب) شرع المصنف رحمه الله في بيان المفهوم بعد كلامه على ما يتعلق بالمنطوق، وهما من المباحث الأساسية في أصول الفقه؛ لأن دلالة الكتاب والسنة على الأحكام إمَّا من منطوق اللفظ أو من مفهومه.
والمراد بفحوى اللفظ: ما نبّه عليه اللفظ، قال في «المصباح المنير»: (فحوى الكلام: معناه ولحنه) [(681)]، وقال الزمخشري: (عرفت ذلك في فحوى كلامه ـ بالقصر والمد ـ أي: فيما تَنَسَّمْتُ من مراده بما تكلم به)[(682)]، ففحوى اللفظ ما أفاده اللفظ من معنى دون أن يصرح به.(1/232)
قوله: (وهو المفهوم) أي: إن ما يفهم من غير منطوق اللفظ يسمى: فحوى ومفهوماً، ففحوى اللفظ ما أفاده اللفظ لا من صيغته، وهو يقابل المنطوق، فالمنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي: إن دلالته تكون من مادة الحروف التي ينطق بها، كدلالة قوله تعالى: {{فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}} [الإسراء: 23] على تحريم التأفيف للوالدين، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سائمة الغنم الزكاة» [(683)] يدل على وجوب الزكاة في الغنم السائمة، وهي التي تأكل من الأرض.
وأمَّا المفهوم، فهو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، كالآية السابقة، فإن منطوقها تحريم التأفيف، ويستفاد من الاعتماد على اللفظ تحريم السب والضرب وما كان في معناهما، وهذا هو المفهوم من الآية.
قوله: (فأربعة أضرب) وهي: الاقتضاء، والإشارة، والتنبيه، ودليل الخطاب، وقد مشى المصنف رحمه الله على أن الاقتضاء والإشارة من قبيل المفهوم، ومن الأصوليين من يجعلهما من قبيل المنطوق غير الصريح، فيقسم المنطوق إلى صريح، وهو: ما وضع له اللفظ، ودل عليه بالمطابقة أو التضمن، وغير الصريح، وهو: ما لم يوضع له اللفظ، بل يلزم مما وضع له، فيدل عليه بالالتزام[(684)]، وما مشى عليه المصنف أجود، لأنهما يفهمان من الكلام فهماً، ولم ينطق بهما مطلقاً.
قوله: (الأول: الاقتضاء، وهو الإضمار الضروري لصدق المتكلم...) إلخ، أي: الضرب الأول من المفهوم: دلالة الاقتضاء، ومعنى: (الاقتضاء) : أن الكلام المذكور لا يصح إلا بتقدير محذوفٍ ضرورة، وذلك المحذوف هو المقتضى، أي: الذي يقتضيه صحة الكلام ويطلبه، ومعنى الضروري: أي: تدعو الضرورة إلى إضماره، فلا تستقيم دلالة الكلام إلا بتقديره، وقوله: (لصدق المتكلم) بيان للسبب الذي أوجب تقدير المحذوف، وهو توقف صدق الكلام على هذا التقدير.(1/233)
قوله: (مثل صحيحاً في قوله: «لا عمل إلا بنية») أي: مثل: إضمار لفظ الصحة في قوله: «لا عمل إلا بنية»[(685)]، أي: لا عملٌ صحيحاً إلا بنية، على أن (لا) عاملة عمل (ليس) كما قدَّر المصنف، أو: لا عملَ صحيحٌ، على أنها عاملة عمل (إن) ولولا هذا التقدير لم يكن الكلام صدقاً؛ لأن صور الأعمال كالصلاة، والصوم يمكن وجودها بلا نية، فكان إضمار الصحة من ضرورة صدق المتكلم.
ومثاله ـ أيضاً ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم لذي اليدين، لما قال له: أقُصِرَت الصلاة أم نسيت؟، قال: «كل ذلك لم يكن» [(686)]، أي: في ظني؛ لأنه دون المحذوف يكون كذباً، لأنه قد وقع بالفعل واحد منهما، حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم سلَّم من ركعتين، وهو صلّى الله عليه وسلّم يستحيل في حقه الكذب.
قوله: (أو ليوجد الملفوظ به شرعاً...) هذا معطوف على قوله: (لصدق المتكلم) أي: أو يكون الإضمار ضرورياً لأجل أن يوجد الملفوظ به شرعاً، مثل: إضمار «فأفطر» في قوله تعالى: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] ، لأن القضاء لا يكون إلا للمفطر، سواء كان مريضاً أو مسافراً، فلأجل أن يوجد الملفوظ به شرعاً وهو القضاء لا بُدَّ من هذا الإضمار.
ومثله ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}} [البقرة: 196] ، أي: فحلق رأسه ففدية.
قوله: (أو عقلاً) هذا معطوف أي: أو يكون الإضمار ضرورياً لأجل أن يوجد الملفوظ به عقلاً، والتعبير بالوجود ليس بجيد، ولو قال: ليتوقف صحة الكلام عليه شرعاً أو عقلاً، لكان أجود[(687)]، لأنه ليس المتوقف على التقدير هو وجود القضاء، بل صحة الحكم بإيجابه على المريض والمسافر.(1/234)
قوله: (مثل الوطء...) أي: إضمار لفظ (الوطء) في قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ}} [النساء: 23] أي: حرم عليكم وطء أمهاتكم، فإن العقل يأبى إضافة التحريم إلى الأعيان، فوجب لذلك إضمار فعل يتعلق به التحريم.
الثاني: (الإيماء والإشارة وفحوى الكلام ولحنه) كفهم عِلِّيَّة السرقة في قوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}}.
قوله: (الثاني: الإيماء والإشارة وفحوى الكلام ولحنه) أي: الثاني من أنواع دلالة المفهوم: دلالة الإيماء والإشارة، وهما بمعنى واحد، على ما مشى عليه المصنف كغيره، ويرى كثير من الأصوليين أن بينهما فرقاً، وهو أن دلالة الإيماء مختصة بفهم التعليل من السياق دون التصريح به، كما سيأتي في مسالك العلة، حيث سماه إيماءً وتنبيهاً، ولم يسمِّه إشارة.
ودلالة الإشارة المراد بها: إشارة اللفظ إلى معنى غير مقصود من سياقه، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام من أجله.
قوله: (كفهم عِلِّيَّةِ السرقة في قوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] ) هذا مثال دلالة الإشارة، فإن الآية دلت بعبارتها على وجوب قطع يد السارق والسارقة؛ لأن هذا هو المعنى المقصود منها، ويفهم من الآية أن السرقة هي علة القطع، وهذا المعنى غير مقصود من سياق الآية، فتكون دلالتها عليه بالإشارة.
ومن الأمثلة ـ أيضاً ـ: {{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}} [البقرة: 187] فإن الآية دلت بعبارتها على إباحة إتيان الزوجة في ليلة الصيام، في أيِّ وقت من الليل إلى آخر جزء منه، ويفهم من الآية صحة صوم من أصبح جنباً، فإن امتداد الإباحة إلى آخر جزء من الليل يستلزم أن الصائم قد يصبح جنباً، لعدم الوقت الذي يتسع للاغتسال، وهذا المعنى غير مقصود من سياق الآية، فتكون دلالتها عليه بالإشارة.(1/235)
الثالث: (التنبيه) وهو مفهوم الموافقة، بأن يُفهم الحكم في المسكوت من المنطوق بسياق الكلام، كتحريم الضرب من قوله تعالى: {{فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}}.
قوله: (الثالث: «التنبيه» وهو مفهوم الموافقة) أي: الثالث من أنواع دلالة المفهوم: التنبيه، ويسمى: مفهوم الموافقة، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب[(688)].
قوله: (بأن يفهم الحكم في المسكوت من المنطوق بسياق الكلام) هذا تعريف مفهوم الموافقة، ومعناه: أن حكم المسكوت عنه يفهم من المنطوق بدلالة سياق الكلام؛ لاشتراكهما في علة الحكم، وهذه العلة تدرك بمجرد فهم اللغة، دون حاجة إلى بحث واجتهاد، وسمي (مفهوم الموافقة)؛ لأن المسكوت عنه موافق للمنطوق في الحكم، لكن تعريف المصنف لمفهوم الموافقة يدخل فيه مفهوم المخالفة، لأن الحكم فيهما يفهم من سياق الكلام، ولو قال: بأن يكون المسكوت عنه موافقاً لحكم المنطوق لكان أولى.
قوله: (كتحريم الضرب من قوله: {{فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} } [الإسراء: 23] ) هذا مثال مفهوم الموافقة، فإن الآية دلت بمنطوقها على تحريم قول (أفٍّ) للوالدين، ودلت بمفهومها على تحريم الضرب وغيره، كالسبّ والشتم واللعن، فنبَّه بمنع الأدنى على منع ما هو أولى منه، وهو معنى يدرك من غير بحث ولا نظر، وهذه إحدى صور مفهوم الموافقة، وهي أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق.
والصورة الثانية: أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق، كقوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *}} [النساء: 10] فقد دلت الآية بمنطوقها على تحريم أكل أموال اليتامى، ودلت بمفهومها على تحريم إحراقها وإغراقها، وهذا هو المسكوت عنه، فنبَّه بالمنع من الأكل على كل ما يساويه في الإتلاف، وهذا على القول بإثبات المساوي في مفهوم الموافقة، ومنهم من قصره على الصورة الأولى فقط[(689)].(1/236)
قال الجزري وبعض الشافعية: هو قياس، وقال القاضي وبعض الشافعية: بل من مفهوم اللفظ، سَبَقَ إلى الفهم مقارناً. وهو قاطع على القولين. الرابع: (دليل الخطاب) وهو مفهوم المخالفة، كدلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه، كخروج المعلوفة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ» وهو حجة عند الأكثرين خلافاً لأبي حنيفة، وبعض المتكلمين ودرجاته ست:
قوله: (قال الجزري وبعض الشافعية: هو قياس) الضمير يعود على مفهوم الموافقة، والمراد أن الأصوليين اختلفوا في دلالة النص على مفهوم الموافقة هل هي لفظية أو قياسية؟
فالقول الأول: أنها غير لفظية، بل هي من القياس الجلي. أي: إن هذا الحكم المسكوت عنه معلوم بالقياس لا بطريق النص، ففي آية الوالدين السابقة، يقاس الضرب على التأفيف بجامع الأذى في كل، فكما يحرم التأفيف يحرم الضرب؛ لأن كلاً منهما أذى.
ويقال في آية اليتامى السابقة: يقاس إحراق مال اليتيم أو إغراقه على أكله بجامع الإتلاف في كل، فكما يحرم الأكل يحرم الإحراق؛ لأن كلاًّ منهما إتلاف.
ونسب هذا القول إلى الشافعي وبعض الحنابلة.
قوله: (وقال القاضي وبعض الشافعية: بل من مفهوم اللفظ، سَبَقَ إلى الفهم مقارناً) هذا القول الثاني ، وهو: أن دلالة النص على مفهوم الموافقة دلالة لفظية؛ لأن المسكوت عنه يسبق إلى الفهم مقارناً للمنطوق، فلا يحتاج إلى بحث وتأمل، بخلاف القياس، فإنه يحتاج إلى ذلك في تحقيق أركانه، وهذا قول الجمهور، وهو الراجح لقوة مأخذه، فإن من سمع قول الله تعالى: {{فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}} فَهِمَ منه النهي عن الضرب، وإن لم ينظر في طرق القياس[(690)].(1/237)
قوله: (وهو قاطع على القولين) أي: سواء قلنا: إن دلالته لفظية أو قياسية، فهو يفيد القطع بنفي الفرق بين المسكوت عنه والمنطوق، كما في المثالين السابقين، فالظاهر أن الخلاف راجع إلى التسمية؛ لحصول الاتفاق على أن دلالة مفهوم الموافقة قد تكون قاطعة إذا قطع بنفي الفارق، كما مثّلنا.
قوله: (الرابع «دليل الخطاب» وهو مفهوم المخالفة) أي: الضرب الرابع من أضرب المفهوم: مفهوم المخالفة، ويسمى: دليل الخطاب؛ لأن الخطاب دال عليه.
قوله: (كدلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه) هذا فيه إشارة إلى تعريف مفهوم المخالفة، وهو أن يخص المتكلم بالذكر وصفاً من أوصاف المحكوم فيه أو حالاً من أحواله فَيُسْتدل به على انتفاء الحكم عما عداه، ولو قال في تعريفه: هو ما خالف المسكوتُ عنه المنطوقَ في الحكم، لكان أوضح.
قوله: (كخروج المعلوفة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سائمة الغنم الزكاة») هذا مثال لمفهوم المخالفة، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة» [(691)]. فدل الحديث بمنطوقه على تعليق زكاة الغنم بوصف (السائمة) التي ترعى بنفسها، ومفهومه أنه لا زكاة في المعلوفة.
قوله: (وهو حجة عند الأكثرين) اختلف العلماء في حجية مفهوم المخالفة، فالقول الأول أنه حجة، وهو قول الجمهور ومنهم الشافعي ومالك وأحمد ـ رحمهم الله ـ.
واستدلوا على حجيته بما يلي:(1/238)
1 ـ أن كبار الصحابة رضي الله عنهم، وكبار التابعين، وأئمة اللغة ـ رحمهم الله ـ أخذوا بمفهوم المخالفة، فقد ورد عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: {{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}} [النساء: 101] فقد أَمِنَ الناس؟ فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك؟ فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» [(692)].
فهذا عمر رضي الله عنه أخذ بمفهوم المخالفة في الآية الكريمة، وعجب من بقاء الحكم عند انتفاء الشرط، وأقره النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم على هذا الفهم، وبيّن له أن بقاء الحكم صدقة من الله تعالى على عباده.
واحتج أبو عبيد في (غريب الحديث) بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته» [(693)]، على أن غير الواجد لا سبيل للطالب عليه بحبس ولا غيره، حتى يجد ما يقضي[(694)].
2 ـ أن القيود الواردة في النصوص الشرعية ليست عبثاً، ولا بد أن تكون لفائدة، فمتى لم تظهر فائدة معينة فلا بد أن تكون فائدته تخصيص الحكم بالمذكور ونفيه عما عداه، ولو كان المذكور مساوياً للمسكوت عنه في الحكم، لزم أمران باطلان:
الأول: العدول عن الأخصر لا لفائدة، فإن قوله: «في الغنم إذا كانت أربعين» ، أخصر من قوله: «في سائمة الغنم...» .
الثاني: أن تخصيص أحدهما بالذكر مع استوائهما في الحكم ترجيح بلا مرجح؛ إذ ليس ذكر السائمة بأولى من ذكر المعلوفة.(1/239)
وانظر إلى قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}} [المائدة: 95] فقد دل بمنطوقه على وجوب الجزاء على من قتل الصيد عمداً، ودل بمفهومه على نفي الجزاء عن قتل الصيد خطأ، وهو مُحْرِمٌ، على الأظهر من قولي أهل العلم، ولو لم تدل الآية على هذا الحكم لكان ذكر التعمد لغواً.
قوله: (خلافاً لأبي حنيفة وبعض المتكلمين) هذا القول الثاني في مفهوم المخالفة وهو أنه ليس بحجة، ولا يجوز العمل به في نصوص الكتاب والسنة، وما خرج عن المنصوص عليه يبقى مسكوتاً عنه، يؤخذ حكمه من البراءة الأصلية لا من اللفظ، فحديث (السائمة) يستفاد منه عندهم حكم السائمة، أمَّا المعلوفة فلا يؤخذ حكمها من هذا الحديث أصلاً.
واستدلوا على أن مفهوم المخالفة ليس بحجة بما يلي:
1 ـ أنه ورد في النصوص الشرعية مفاهيم مخالفة لا يمكن العمل بها، كقوله تعالى: {{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}} [التوبة: 36] ، فليس التخصيص بالأربعة الحرم ـ رجب، وذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم ـ دليلاً على إباحة الظلم في غيرها من الأشهر؛ لأن الظلم حرام في جميع الأوقات.
2 ـ أن فوائد القيود التي يقيد بها اللفظ كثيرة، ولا نستطيع الجزم بأن هذا القيد لتخصيص الحكم بالمنطوق ونفيه عما عداه.
وقول الجمهور أرجح، لقوة أدلته من اللغة والشرع، ولأن مقاصد الشريعة وإن لم يمكن الإحاطة بها، إلا أن المجتهد إذا غلب على ظنه أن هذا القيد ليس له فائدة إلا تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد ونفيه عما عداه، كفى هذا الظن الغالب في العمل بدلالة مفهوم المخالفة.(1/240)
ثم إن الجمهور شرطوا للعمل بمفهوم المخالفة شروطاً تُضْعِفُ احتمالات التشكيك التي وجهها الحنفية، وأرادوا بها إلزام الجمهور بتعميم العمل بمفهوم المخالفة، إذا كان حجة[(695)]، وسأذكر هذه الشروط ـ إن شاء الله ـ بعد نهاية الكلام على درجات مفهوم المخالفة.
قوله: (ودرجاته ست) أي: إن درجات مفهوم المخالفة ومراتبه في القوة والضعف ست.
(إحداها): مفهوم الغاية بإلى وحتى، مثل: {{أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} أنكره بعض منكري المفهوم.
الثانية: (مفهوم الشرط)، مثل: {{وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}} أنكره قوم.
الثالثة: (مفهوم التخصيص) هو أن تذكر الصفة عقيب الاسم العام في معرض الإثبات والبيان، كقوله: «في سائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكاة». وهو حجة، ومثله أن يثبت الحكم في أحد، فينتفي في الآخر، مثل: «الأيِّمُ أَحَقُّ بنفسها».
قوله: (إحداها مفهوم الغاية: بإلى أو حتى، مثل: {{أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] ) مفهوم الغاية: هو دلالة اللفظ الذي قُيِّد فيه الحكم بغاية على ثبوت نقيض ذلك الحكم بعد الغاية.
وللغاية لفظان: إلى، وحتى، كقوله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] فإنه يدل بمفهومه المخالف على تحريم الأكل والشرب بعد الغاية، وهي طلوع الفجر، وعلى جواز تناول المفطرات بدخول الليل بعد الإمساك عنها طوال النهار.
ومثله ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}} [الحجرات: 9] فإن مفهومه ترك قتال الفئة الباغية بعد أن تفيء إلى الحق.
والقول بمفهوم الغاية هو مذهب الجمهور: بل قال به معظم نفاة المفهوم.(1/241)
قوله: (أنكره بعض منكري المفهوم) هذا القول الثاني في مفهوم الغاية وهو منعه، وبه قال بعض الحنفية والآمدي، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين ممن ينكرون المفهوم[(696)]، قالوا: لأن هذا نُطْقٌ بما قبل الغاية، وسكوت عما بعدها، فبقي ما بعد الغاية على ما كان قبل النطق، غير مُتَعرَّضٍ له بنفي ولا إثبات.
والصواب اعتباره؛ لأن تقييد الخطاب بحرف الغاية يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية، وما تمسك به النافون فلا يصح التمسك به؛ فإن تسميته غاية دليل على أن الحكم ينتهي عنده، والانتهاء معناه عدم تجاوز ما قبله لما بعده، وهذا هو جوهر مفهوم المخالفة[(697)].
وقوله: (بعض منكري المفهوم) يشعر بأن بعض من أنكر القول بمفهوم المخالفة قد قال بمفهوم الغاية، اعتباراً له من قبيل المنطوق، لأن دلالة أدوات الغاية على انتهاء الحكم بانتهائها مأخوذ من اللغة، والله أعلم.
قوله: (والثانية: مفهوم الشرط) أي: والدرجة الثانية: مفهوم الشرط، وهو دلالة اللفظ المقيد بشرط على ثبوت نقيض الحكم في المقيد، عند انتفاء الشرط، والمراد الشرط اللغوي.
قوله: (مثل {{وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} } [الطلاق: 6] ) فإن منطوق الآية وجوب الإنفاق على المرأة المطلقة الحامل، ومفهومها أن النفقة لا تجب للمعتدة غير الحامل، وهذا إنما هو في الطلاق البائن.
ومثله ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}} [التوبة: 5] فإن الله تعالى شرط في تخلية سبيلهم إقامتهم الصلاة، ويؤخذ من مفهوم الشرط أنهم إن لم يقيموها لم يُخَلَّ سبيلهم[(698)].(1/242)
قوله: (أنكره قوم) أي: إن بعض الأصوليين، ومنهم محققو الحنفية، وأكثر المعتزلة، والغزالي، والآمدي، أنكروا مفهوم الشرط[(699)]، وقالوا: إن التقييد بالشرط لا يدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، بل هو باقٍ على ما كان عليه قبل التعليق؛ لأن تعليق الحكم بشرط لا يمنع تعليقه بشرطين فأكثر، ومن ثمّ فلا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الحكم، لوجود الشرط الآخر.
والصواب الأول؛ لأن النحاة نصُّوا على أن أدوات الشرط للشرط، ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط، فالأخذ بالشرط معلوم من لغة العرب، والشرع، فإن من قال لغيره: إن زرتني أكرمتك. فهم منه أنه لا يستحق الإكرام إلا بالزيارة، وهذا مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف.
وأمَّا قولهم: إن الحكم قد يعلق بشرطين، فلا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر، فهو مردود؛ لأن الأصل الاكتفاء بشرط واحد، لاستقلاله بالتأثير، فإن جاء شرط ثانٍ فهذا دليل على اعتباره ـ أيضاً ـ فلا نحكم بانتفاء الحكم إلا بانتفاء جميع شروطه.
قوله: (الثالثة: مفهوم التخصيص وهو أن تذكر الصفة عقيب الاسم العام في معرض الإثبات والبيان) أي: الثالثة من درجات مفهوم المخالفة: مفهوم التخصيص، وهو نوع من مفهوم الصفة ـ كما سيأتي ـ، وهو أن تذكر الصفة الخاصة عقب الاسم العام؛ لغرض الإثبات والبيان[(700)].
ومثاله ما تقدم في حديث: «في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة» ، فالغنم اسم عام يتناول السائمة والمعلوفة، فجاء ذكر السائمة لبيان أنها المراد من عموم الغنم.
ومثله ـ أيضاً ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من ابتاع نخلاً بعد أن تُؤَبَّر فثمرتها للبائع الذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع» [(701)]. فالنخل عام في المؤبر وغيره، فجاء ذكر المؤبر لبيان أنه المراد من عموم النخل.(1/243)
قوله: (وهو حجة) أي: إن مفهوم التخصيص دليل شرعي على اختصاص الحكم بالمخصوص ونفيه عما عداه، وذلك طلباً لفائدة التخصيص؛ إذ لو سوّينا بين السائمة وغيرها في وجوب الزكاة لم يكن للتخصيص فائدة.
قوله: (ومثله أن يثبت الحكم في أحد فينتفي في الآخر، مثل: «الأيِّم أحق بنفسها») أي: ومما يلحق بتعقيب ذكر الاسم العام بصفة خاصة: تقسيم الاسم أو الصفة إلى قسمين، وتخصيص كل قسم منهما بحكم، ثم نفي حكم كل منهما عن الآخر بطريق المفهوم، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأيِّم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن» [(702)]. فخص البكر بالاستئذان، فدل على نفيه في الأيِّم، والمراد بالأحقية: أنها أحق بالرضا، فلا تزوج حتى تنطق بالإذن.
وهو حجة ـ كالذي قبله ـ؛ لأن تقسيم الشيء إلى قسمين، وتخصيص كل واحد بحكم يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر؛ إذ لو عمَّهما لم يكن للتقسيم فائدة.
الرابعة: (مفهوم الصفة) وهو تخصيصه ببعض الأوصاف التي تطرأ وتزول، مثل: «الثيِّب أحق بنفسها» . وبه قال جُلُّ أصحاب الشافعي، واختار التميمي أنه ليس بحجة، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين.
الخامسة: (مفهوم العدد) وهو تخصيصه بنوع من العدد، مثل: «لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ». وبه قال مالك، وداود، وبعض الشافعية، خلافاً لأبي حنيفة، وجُلّ أصحاب الشافعي.
قوله: (الرابعة: مفهوم الصفة، وهو تخصيصه ببعض الأوصاف التي تطرأ وتزول) أي: الدرجة الرابعة من مفهوم المخالفة: مفهوم الصفة، وهو تخصيص الحكم ببعض الأوصاف التي تطرأ وتزول.(1/244)
والمراد بالوصف ـ هنا ـ تقييد لفظٍ مشترك المعنى بلفظ آخر ليس شرطاً ولا غاية ولا عدداً، فهو أعم من النعت، فيشمل النعت النحوي، نحو: «في الغنمِ السائمةِ الزكاةُ» ، والمضاف نحو: «سائمةُ الغنمِ» . والمضاف إليه نحو: «مَطْلُ الغنيِّ ظلمٌ» [(703)]. والحال، كقوله تعالى: {{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}} [البقرة: 187] .
قوله: (مثل «الثيب أحق بنفسها») أي: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها» [(704)].
فالثيوبة وصف خُصِّص به حكم الأحقية، وهو يطرأ ويزول.
واعلم أن ذكر مفهوم التخصيص ثم مفهوم الصفة تفرّد به بعض الأصوليين وكأنهم نظروا إلى اختلاف الرتبة، لأن مفهوم التخصيص أقوى مرتبة من مجرد ذكر الوصف[(705)]، والأكثرون يعتبرون الأول من مفهوم الصفة، ولا يجعلونه نوعاً مستقلاً، وهذا هو الظاهر، من حيث إن كلاً منها مفهوم صفة، وعلى هذا فالأمثلة واحدة، والفرق بينهما على الأول أن مفهوم التخصيص يذكر الاسم العام ثم تذكر الصفة، ومفهوم الصفة يسند الحكم إلى نفس الصفة، ولا يذكر العام.
قوله: (وبه قال جل أصحاب الشافعي) أي: إن مفهوم الصفة حجة عندنا وعند أكثر الشافعية، فالحكم المرتبط بصفة يدل على نفي الحكم عند انتفاء تلك الصفة، ودليلهم: ما تقدم في الاستدلال لحجية مفهوم المخالفة. وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار» . وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة[(706)]. وهذا يدل على أنه رضي الله عنه يقول بالمفهوم[(707)].(1/245)
قوله: (واختار التميمي أنه ليس بحجة، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين) أي: إن أبا الحسن التميمي الحنبلي، ومن ذكر معه اختاروا أن مفهوم الصفة ليس بحجة، وأن التقييد بالصفة الخاصة لا يدل على نفي الحكم عند انتفاء تلك الصفة، لاحتمال أن المتكلم غفل عن ضد الوصف الذي عَلَّقَ عليه الحكم، فإذا قال: (السائمة) فإنه يحتمل أن المعلوفة لم تخطر له حتى ينفي وجوب الزكاة عنها، وحينئذ لا يكون قَصْدُ المتكلم نفي الحكم عن المسكوت عنه ظاهراً، بخلاف ما قبله، نحو: «في الغنم السائمة الزكاة» . فإن الاحتمال المذكور منتفٍ قطعاً؛ لأنه نَطَقَ بلفظ عام شامل للسائمة وغيرها، فيلزم استحضار الصفة في ذهنه، فيلزم أن تقييده بالسائمة بعد ذلك احتراز عن المعلوفة، وأنه قصد نفي الحكم عنها.
والصحيح أنه حجة، لما تقدم، وما ذكروه وإن كان متجهاً لكنه لا يمنع تعليق الحكم على الوصف الذي يطرأ ويزول، لأن قصد المتكلم نفي الحكم عن المسكوت عنه ظاهرٌ من الكلام، وهذا يكفي في التمسك به؛ لأن مناطَ أحكامِ الفروعِ الظهورُ وغلبةُ الظنِ.
قوله: (الخامسة: مفهوم العدد وهو تخصيصه بنوع من العدد، مثل: «لا تُحرِّم المصة والمصتان»...) أي: الدرجة الخامسة: مفهوم العدد، وهو تخصيص الحكم بنوع من العدد، فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائداً كان أو ناقصاً.
ومثاله: قوله تعالى: {{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}} [النور: 4] فمفهومه المخالف: عدم جواز الجلد أقل أو أكثر من هذا العدد.
ومثاله ـ أيضاً ـ: حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تُحرِّم المصة المصتان» [(708)] فإنه يدل بمنطوقه على أن الرضعة والرضعتين لا تحرمان، وبمفهومه على أن ما فوق الرضعتين وهي الثلاث تحرِّم، لكن هذا المفهوم معارض بحديث عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات...)[(709)].(1/246)
فإن مفهومه أن ما كان أقل من الخمس لا يحرم، وهذا مقدم على الأول؛ لاعتضاده بالأصل، وهو عدم التحريم.
قوله: (وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية) أي: إن مفهوم العدد حجة عند الإمام أحمد، كما نقله أبو الخطاب[(710)]، وبه قال مالك، وداود الظاهري، وبعض الشافعية[(711)]، وهذا هو القول الأول.
وحجة هؤلاء: أن العدد وصف في المعنى للمعدود، فهو كمفهوم الصفة في الحجية، فإن تخصيص مقدار من العدد بحكمٍ كتخصيص صفة من الصفات بحكم.
وقوله: (خلافاً لأبي حنيفة وجُلِّ أصحاب الشافعي) هذا القول الثاني، وهو أن مفهوم العدد ليس بحجة؛ لأن تعليق الحكم بعدد معين لا يدل على حكم في الزائد أو الناقص؛ لأن العدد في معنى اللقب، واللقب لا مفهوم له، كما سيأتي.
والصحيح الأول؛ لقوة مأخذه. قال الشوكاني: (والعمل به معلوم من لغة العرب ومن الشرع) [(712)].
السادسة: (مفهوم اللقب) وهو أن يخص اسماً بحكم، وأنكره الأكثرون، وهو الصحيح؛ لمنع جريان الربا في غير الأنواع الستة.
قوله: (السادسة: مفهوم اللقب. وهو أن يخص اسماً بحكم) أي: الدرجة السادسة من مفهوم المخالفة: مفهوم اللقب، وهو تعليق الحكم بالاسم، فيدل على أن ما عداه بخلافه، والمقصود باللقب عند الأصوليين: الاسم الذي ليس بوصف، وهو إمَّا اسم ذات، كقولك: «زيد قائم»، أو اسم معنى، كقولك: «أحِبُّ طلب العلم».(1/247)
قوله: (وأنكره الأكثرون، وهو الصحيح، لمنع جريان الربا في غير الأنواع الستة) أي: إن جمهور العلماء على أن مفهوم اللقب غير حجة، وأن ذكره لا يفيد تقييداً ولا تخصيصاً ولا احترازاً عما عداه، وذلك أنه لو كان حجة للزم على ذلك منع جريان حكم الربا في غير الأنواع الستة المنصوص عليها في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد» [(713)].
فإن الحديث لا يدل على انتفاء الربا في غير هذه الأصناف ما دامت العلة واحدة، وقد ذكرت هذه الستة من باب الاكتفاء بالأشياء التي لا يستغني عنها الناس عادة، فما ورد في هذا الحديث فهي ألقاب لا مفهوم لها.
ومن أجاز مفهوم اللقب ـ وهم بعض الحنابلة والدقَّاق من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية[(714)] ـ قال: لأن المنطوق لو شارك المسكوت عنه في الحكم لبطلت فائدة تخصيصه بالذكر، وذلك فيما إذا كان مسنداً إليه؛ لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره.
وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذُكِرَ ليمكن الحكم عليه، والإسناد إليه لا لتخصيصه بالحكم؛ إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه.
والقول الأول هو الصحيح ـ كما قال المؤلف ـ فإنه لا دليل من الشرع ولا من اللغة على اعتباره، وليس من شأنه الدلالة على نفي الحكم عن غيره، فإن قول القائل: خالد في الدار، لا يفهم منه أن (علياً) ليس فيها.
ومن الأمثلة: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «وجعلت تربتها لنا طهوراً» [(715)]. فلا يفهم منه أن غير التراب ـ كالحجارة ـ لا يتيمم عليه؛ لأن مفهوم اللقب ليس بحجة.(1/248)
ولا فرق عند المانعين بين كون الاسم مشتقاً كلفظ الطعام، فهو مشتق من الطعم، أو غير مشتق كأسماء الأعلام، ومنهم من قال: إن كان مشتقاً كان له مفهوم مخالفة؛ لأن قريب من الوصف، وأما أسماء الأعلام فلا مفهوم لها، إلا إذا قام دليل من خارج على التخصيص، فإنه يحتج به على الصحيح، كقوله تعالى: {{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}} [الأنبياء: 79] ولعل هذا من أجل القرينة فيكون خارجاً عن محل النزاع. والله أعلم[(716)].
تتمة:
لم يذكر المصنف رحمه الله شروط العمل بمفهوم المخالفة، فأذكرها لأهميتها، لئلا يتوسع في هذا المفهوم فيُدخل فيه ما ليس منه، وهذه الشروط كلها ترجع إلى شرط واحد أطلق عليه الجمهور ضابط القول بالمفهوم المخالف، وهو ألاَّ يظهر لذكر المخصوص بالذكر فائدة، سوى إرادة تخصيصه بالحكم ونفيه عما عداه، وهذه الشروط هي:
1 ـ ألاّ يوجد دليل خاص في المحل الذي يثبت فيه مفهوم المخالفة، وذلك كقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى}} [البقرة: 178] ، فمفهوم المخالفة في هذه الآية: لا يقتل الذكر بالأنثى، ولكن وُجِدَ نص على وجوب القصاص بين الذكر والأنثى، وهو قوله تعالى: {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}} [المائدة: 45] فلا يعمل بمفهوم المخالفة في الآية الأولى؛ لما تقدم.
2 ـ ألاّ يكون القيد خرج مخرج الغالب.
وذلك كقوله تعالى: {{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ}} [النساء: 23] فتقييد تحريم الربيبة بكونها في حَجْرِ الزوج، لا يدل على أنها تكون حلالاً إذا لم تكن في حجره؛ لأن الغالب أن بنت الزوجة تكون مع أمها.
3 ـ ألاّ يكون خرج مخرج الجواب عن سؤال معين.(1/249)
وذلك كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة الليل مثنى مثنى» ، فهذا الحديث لا مفهوم له في صلاة النهار، فلا يقال: صلاة النهار ليست مثنى مثنى ، لأن الحديث جاء جواباً لسؤال عن صلاة الليل خاصة، فلا يتعداها إلى غيرها.
فقد ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنا بينه وبين السائل، فقال: يا رسول الله، كيف صلاة الليل؟ قال: «مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح، فصلِّ ركعة، واجعل آخر صلاتك وتراً» [(717)].
4 ـ ألاّ يقصد الشارع تهويل الحكم وتفخيم أمره.
وذلك كقوله تعالى: {{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}} [البقرة: 236] ، وقوله تعالى: {{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *}} [البقرة: 241] فإن ذلك لا يشعر بسقوط الحكم عمن ليس بمحسن ولا مُتَّقٍ.
5 ـ ألاّ يكون القيد أريد به إفادة التكثير والمبالغة.
وذلك كقوله تعالى: {{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}} [التوبة: 80] فالعدد هنا لا مفهوم له، وإنَّما أريد به المبالغة، وأن المعنى: (مهما استغفرت لهم)، فلا يدل على أن الاستغفار الزائد عن هذا العدد ينتفع به المستغفَرُ له.(1/250)
ويؤيد ذلك ما ورد عن عمر رضي الله عنه قال: لما مات عبد الله بن أُبيّ بن سلول، دعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثبْتُ إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أُبيّ، وقد قال يوم كذا: كذا وكذا؟ قال: أُعَدِّدُ عليه قوله، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أخّر عني يا عمر» ، فلما أكثرت عليه قال: «إني خيّرت فاخترت؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» . قال: فصلى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}} إلى قوله: {{وَهُمْ فَاسِقُونَ}} [التوبة: 84] قال: فعجبت بَعْدُ من جرأتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله ورسوله أعلم[(718)].
ففيه أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم ظن أن العدد للمبالغة، كما رجا أن ينفع الاستغفار لو زاده على السبعين رغبة منه في رحمة أمته صلّى الله عليه وسلّم.
6 ـ ألاّ يقصد بالسياق التنبيه على معنى يصلح للقياس عليه بطريق المساواة أو الأولوية.
وذلك كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» [(719)].
فإن مفهوم هذا العدد أن لا يقتل ما سواهن، وهذا غير مراد، وإنَّما جاء ذكر هؤلاء الخمس لأذيتهن، فيلحق بهن ما يساويهن في الأذية أو يزيد عليهن، مما لا يكون صيداً، فيكون له حكمهن[(720)].
والشرط الجامع لهذه الشروط هو ألاّ يظهر لتخصيص الحكم بالمنطوق فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه، والله أعلم[(721)].
النسخ(1/251)
ثم الذي يرفع الحكم بعد ثبوته: (النسخ) وأصله: الإزالة: وهو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخٍ عنه، والرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقيَ ثابتاً، ليخرج زوال الحكم بخروج وقته، والثابت بخطاب متقدم: ليخرج الثابت بالأصالة، وبخطاب متأخر: ليخرج زواله بزوال التكليف. ومتراخ عنه: ليخرج البيان، وقيل: هو كشف مدة العبادة بخطاب ثانٍ. والمعتزلة قالوا: الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتاً. وهو خالٍ من الرفع الذي هو حقيقة النسخ. ويجوز قبل التمكن من الامتثال.
قوله: (ثم الذي يرفع الحكم بعد ثبوته «النسخ» وأصله: الإزالة) أي: إن النسخ في الأصل اللغوي: يطلق على الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر: أزالته.
ويطلق ـ أيضاً ـ على النقل، فيقال: نسخت ما في الكتاب، أي: نقلته مع بقاء الأصل، قال تعالى: {{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}} [الجاثية: 29] .
قوله: (وهو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخٍ عنه) هذا تعريف النسخ اصطلاحاً[(722)].
وهو تعريف مطابق في اللفظ والمعنى؛ لأن الرفع مصدر، كما أن النسخ مصدر، وليس هذا تعريفاً للنسخ بالناسخ، كما عرَّفه به آخرون.
قوله: (والرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتاً) هذا تعريف الرفع الوارد في حدِّ النسخ، والمراد برفع الحكم: تغييره من إيجاب إلى إباحة ـ وذلك كنسخ الصدقة بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما سيأتي ـ، أو من إباحة إلى تحريم، وذلك مثل حديث: «إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة» [(723)].
قوله: (ليخرج زوال الحكم بخروج وقته) أي: إن انتهاء وقت الحكم لا يسمى نسخاً، وإنَّما النسخ قطع دوام الحكم واستمراره، وذلك برفعه وتغييره.(1/252)
وذلك مثل فسخ الإجارة، فهو قطع دوامها لسبب خفي على المتعاقدين عند ابتداء العقد، وهذا يفارق زوال حكمها بانقضاء مدتها المتفق عليها بين المتعاقدين، فكذلك نسخ الحكم قطع لدوامه، لا سقوط الحكم بانتهاء وقته، فإن ذلك لا يسمى نسخاً، كما أن انقضاء مدة الإجارة لا يسمى نسخاً.
قوله: (والثابت بخطاب متقدم) هذا صفة للحكم المنسوخ، وقوله: (بخطاب) متعلق بـ (الثابت) ، و (المتقدم) أي: في الورود إلى المكلفين، فهو متقدم على الخطاب الدال على الرفع.
قوله: (ليخرج الثابت بالأصالة) أي: إن قيد (الثابت بخطاب متقدم) يُخرج رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية، فليس بنسخ، ومعنى (الأصالة) : البراءة الأصلية، وذلك أن ابتداء العبادات في الشرع مزيل لحكم البراءة الأصلية، وهي عدم التكليف بشيء، وهذا ليس بنسخ، لأن البراءة لم تثبت بخطاب من الشرع.
قوله: (وبخطاب متأخر: ليخرج زواله بزوال التكليف) الجار والمجرور في قوله: (بخطاب) متعلق بقوله: (رفع الحكم) أي: إن الحكم السابق يُرفع بخطاب متأخر، والمراد به: الكتاب والسنة.
وهذا قيد لإخراج زوال الحكم بزوال التكليف، كزواله بنحو جنون وموت، فليس زوال الحكم بذلك نسخاً؛ لأنه لم يرفع بخطاب ثان، وكأن يرتفع وجوب الزكاة لنقص النصاب، أو وجوب الصلاة لوجود الحيض، فلا يسمى ذلك نسخاً.
قوله: (ومتراخ عنه: ليخرج البيان) هذا يفيد أن الخطاب الناسخ لا بُدَّ أن يكون متأخراً عن الخطاب الأول غير متصل به، وهذا يخرج البيان والتخصيص، فإنه يجوز اقترانه، وربما لزم، كالتخصيص بالشرط أو الاستثناء أو الصفة أو الغاية ـ كما تقدم في بحث التخصيص ـ، كقوله تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] فإن بدل البعض من الكل، وهو قوله: {{مَنِ اسْتَطَاعَ}} رَفَعَ حكم وجوب الحج عن غير المستطيع، ولما كان متصلاً به لم يُعدَّ نسخاً؛ لأنه لم يتراخ عنه.(1/253)
قوله: (وقيل: هو كشف مدة العبادة بخطاب ثانٍ) هذا تعريف آخر للنسخ، وحاصله أن النسخ بيان لانقضاء زمن الحكم الأول؛ لأن ظاهر الخطاب الأول أن الحكم مؤبَّد، والناسخ قد دل على انتهاء زمنه، وعلى هذا التعريف يكون النسخ راجعاً إلى التخصيص في الأزمان، فيرد عليه قوله تعالى: {{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] فإن انتهاء مدة الصوم بظهور الليل ليس رفعاً، وإنَّما هو حكم مُغَيَّا ينتهي بوجود الغاية.
قوله: (والمعتزلة قالوا: الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتاً) هذا تعريف المعتزلة للنسخ، واختاره أبو حامد الغزالي[(724)]، والظاهر أن المصنف ذكره لبيان فساده.
قوله: (وهو خالٍ من الرفع الذي هو حقيقة النسخ) هذا فيه بيان أن تعريف المعتزلة غير صحيح، لأنه تعريف الناسخ الذي هو الخطاب، وليس تعريفاً للنسخ الذي هو الرفع، لكن قد يقال: إنهم عبروا بالإزالة، وهي بمعنى الرفع، وهم إنما عبروا بزوال مثل الحكم الأول، لبيان أن نفس الحكم المرفوع لم يرفع حينما كان محكوماً به، وإنما زال استمرار الحكم بمثله في المستقبل.
ولو قيل في تعريف النسخ: رفعُ حكم دليلٍ شرعيٍّ أو لفظِه بدليل من الكتاب أو السنة متأخرٍ عنه، لكان أوضح وأخصر وأشمل، كما سيأتي إن شاء الله.
وقد تبيّن من خلال تعريف النسخ أنه لا يقع إلا في الأحكام الشرعية التي يصح وقوعها على وجهين، كالصلاة والصوم ونحوهما، أمَّا ما لا يجوز أن يكون إلا على وجه واحد، كالتوحيد، وأصول الإيمان، وأصول العبادات، ومكارم الأخلاق: من الصدق والعفاف والكرم والشجاعة ونحو ذلك، فلا يمكن نسخ الأمر بها، وكذا لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان، كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق: من الكذب والفجور والبخل ونحو ذلك، إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم.(1/254)
وكذا لا يدخل النسخ الأخبار، كالإخبار عن الأمم الماضية، والقرون الخالية، أو الإخبار عما سيكون، كأشراط الساعة؛ لأن نسخ أحد الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كذباً أو وهماً، وهذا مستحيل في أخبار الله ورسوله، إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر فلا يمتنع نسخه، كما في آيتي المصابرة ـ كما سيأتي ذكرهما إن شاء الله ـ.
قوله: (ويجوز قبل التمكن من الامتثال) أي: يجوز النسخ قبل تمكن المكلف من امتثال ما أُمر به، وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة، وهو قول الجمهور. وحكمة ذلك: هي الابتلاء في الأمر الأول، هل يتهيأ المكلف للامتثال ويُظهر الطاعة والانقياد لما أُمر به أو لا؟
ودليل ذلك: أَمْرُ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بذبح ابنه، فإنه نُسِخَ عنه الذبح قبل التمكن من فعله. قال تعالى: {{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَنْ ياإِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *}} [الصافات: 103 ـ 105] ، ومن منع هذا فقوله باطل؛ وذلك لأن حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء، فالمنسوخ بعد الفعل حكمته الامتثال، وقد امتثل بالفعل قبل النسخ، والمنسوخ قبل التمكن من الفعل حكمته الابتلاء، وقد حصل قبل النسخ. وقد مضى ذلك في باب «الأمر».
والزيادة على النص، إن لم تتعلق بالمزيد [عليه] كإيجاب الصلاة، ثم الصوم، فليس بنسخ إجماعاً، وإن تعلقت وليست بشرط فنسخ عند أبي حنيفة، فإن كانت شرطاً، كالنية في الطهارة فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ.
ويجوز إلى غير بدل، وقيل: لا وبالأخف، والأثقل، وقيل: بالأخف. ولا نسخ قبل بلوغ الناسخ، وقال أبو الخطاب: كعزل الوكيل قبل علمه به.
ويجوز نسخ القرآن والسنّة المتواترة والآحاد بمثلها، والسنّة بالقرآن، لا هو بها، في ظاهر كلامه، خلافاً لأبي الخطاب، وبعض الشافعية.(1/255)
قوله: (والزيادة على النص إن لم تتعلق بالمزيد [عليه]... فليس بنسخ إجماعاً) المراد بالزيادة على النص: أن يوجد نص شرعي يفيد حكماً، ثم يأتي نص آخر فيزيد على النص الأول زيادة لم يتضمنها، والغالب أن يكون النص من القرآن الكريم والزيادة من أخبار الآحاد [(725)].
والزيادة نوعان:
الأول: زيادة عبادة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بالمزيد عليه؛ كزيادة وجوب الصوم، أو الزكاة، بعد وجوب الصلوات، فهذه لا تكون نسخاً لحكم المزيد عليه بالإجماع؛ لأنها زيادة حكم في الشرع من غير تغيير للأول، ومن غير جنس الأول، وهذا النوع غير داخل في هذا الموضوع.
الثاني: زيادة غير مستقلة، وفيها الخلاف الآتي:
قوله: (وإن تعلقت وليست بشرط فَنَسْخٌ عند أبي حنيفة) أي: إن النوع الثاني وهي الزيادة غير المستقلة قسمان:
الأول: أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه على وجه لا تكون شرطاً فيه، كزيادة تغريب الزاني البكر الثابتة بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة)[(726)] ، على قوله تعالى: {{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}} [النور: 2] . فإن الحد وهو الجلد لا يتوقف على التغريب توقف الكل على جزئه، ولا توقف المشروط على شرطه.
وقد اختلف الأصوليون في هذه الزيادة: هل تكون نسخاً للنص المزيد عليه؟ قولان:
الأول: قول الجمهور: أن ذلك لا يكون نسخاً؛ لأن الزيادة في مثل ذلك زيادة شيء سكت عنه النص الأول، فلم يتوجه له بصريح إثبات ولا نفي. ولا يصدق على ذلك حد النسخ، فإنه رفع حكم الخطاب، وحكم الخطاب ـ هنا ـ وهو الجلد باقٍ لم يرفع، وإنَّما انضم إليه شيء آخر، فثبت أن الزيادة ليست نسخاً.(1/256)
الثاني: قول الحنفية: وهو أن هذه الزيادة نسخ؛ لأن الجلد هو الحد كاملاً مستقلاً بعقوبة الزاني، متعلق به حكم شرعي، وهو أن المحدود صار فاسقاً لا تقبل شهادته، وبعد زيادة التغريب عليه لم يبق مستقلاً بل صار جزءاً أولاً للحد، والتغريب جزءاً ثانياً، فارتفعت الأحكام التي أنيطت بالجزء الأول واستقرت بتمام الجزأين، وهذا هو معنى النسخ؛ لأن حكم الاستقلال ارتفع بهذه الزيادة.
والقول الأول هو الراجح، وهو: أن هذه الزيادة لا تكون نسخاً؛ لأن النسخ هو رفع الحكم وإزالته، والزيادة لا توجب رفع المزيد عليه، فإنّ حكمه ثابت كما كان.
وأمَّا الجواب عن دليل الحنفية: فإن المقصود بهذه الزيادة تعبد المكلف في الإتيان بها، لا رفع استقلال ما كان قبلها بالحكم، لكنه حصل ضرورة وتبعاً لورود الزيادة، لا أن الرفع كان مقصوداً، والمنسوخ يجب أن يكون رفعه مقصوداً، فإن زيادة التغريب مقصود الإتيان به، لا رفع استقلال المائة جلدة، وعليه فالمنسوخ مقصود بالرفع، والاستقلال غير مقصود بالرفع، ولا يكون منسوخاً فلا يكون رفعه نسخاً.
قوله: (فإن كانت شرطاً؛ كالنية في الطهارة فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ) هذا القسم الثاني من الزيادة غير المستقلة، وهي أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه تعلق الشرط بالمشروط، كزيادة النية في الطهارة، عملاً بحديث: «إنَّما الأعمال بالنيات» [(727)]. زيادة على ما دلت عليه آية الوضوء، وكزيادة وصف الإيمان في الرقبة التي يطلب عتقها في كفارة الظهار واليمين، زيادة على النص القرآني المطلق.
فالجمهور على أن هذه الزيادة ليست بنسخ، بل هي من باب حمل المطلق على المقيد ـ كما مضى في بابه ـ، وقد ذهب أبو حنيفة وبعض من خالفه ووافق الجمهور في القسم الأول إلى أن الزيادة هنا نسخ؛ لأن حكم المزيد عليه وهو الإجزاء والصحة قد ارتفع، وارتفاع الحكم نسخ.(1/257)
والأول أرجح؛ لأن النسخ رَفْعُ حكمِ الخطاب بمجموعه، والخطاب اقتضى الوجوب والإجزاء، والوجوب باقٍ بحاله، وإنَّما ارتفع الإجزاء، وهو بعض ما اقتضى اللفظ، فهو كرفع المفهوم، وتخصيص العموم في الأخذ بالزيادة وقبولها، بجامع رفع بعض مقتضى اللفظ.
وثمرة الخلاف:
أن من لم يجعل الزيادة نسخاً ـ وهم الجمهور ـ يجوز عندهم إثباتها بطريق القياس أو بخبر الواحد، ومن جعل الزيادة نسخاً لم يجز ذلك، إلا أن يكون طريق الزيادة والمزيد عليه سواء في القوة والمعنى، وهنا ليس كذلك.
فأبو حنيفة يقول: زيادة التغريب نسخ، وليس معناه أن الجلد منسوخ؛ لأن التغريب خبر آحاد فلا ينسخ المتواتر، وهو القرآن الذي دل على الجلد، ولما كان لا يقوى على نسخ القرآن تُرك العمل به.
وكذا العمل بما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى بيمين وشاهد[(728)]؛ لأنه ورد زائداً على قوله تعالى: {{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}} [البقرة: 282] . وهذا يقتضي الحصر، فالزيادة عليه نسخ، ولا يُنسخ القرآن بالسنة غير المتواترة.
أمَّا الجمهور فقد قبلوا هذا الحديث، وعملوا به، وقالوا: إنه ليس بنسخ، بل زيادة لا تغير حكم المزيد عليه.
قوله: (ويجوز إلى غير بدل، وقيل: لا) الأصل في النسخ أن يكون إلى بدل يكون عوضاً عن المنسوخ، كما دلت على ذلك النصوص.(1/258)
أمَّا النسخ إلى غير بدل فهو مذهب جمهور العلماء، ومثّلوه بنسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي نجوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، المستفاد من قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}} [المجادلة: 12] نسخت بقوله تعالى: {{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}} [المجادلة: 13] .
والقول الثاني: أن النسخ إلى غير بدل لا يجوز، وهو قول الظاهرية، ونصر هذا القول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وقال: إن النسخ إلى غير بدل قول باطل، وإن قال به جمهور العلماء؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: {{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}} [البقرة: 106] ، فإن الله تعالى ربط في هذه الآية الكريمة بين النسخ وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء.
وأجاب عن آية الصدقة بأن الذي نسخ هو الوجوب، وأمَّا الاستحباب فهو باقٍ لم ينسخ، فالنسخ إلى بدل، وقد ورد هذا الجواب عن ابن الهُمام صاحب «التحرير»[(729)].
والقول بالجواز أظهر، لقوة مأخذه، وأمَّا ما استدل به المانعون ـ وهي الآية الكريمة ـ فعنه ثلاثة أجوبة:
الأول: أن المراد بالآية ـ هنا ـ نظم الجملة ولفظها، لورود ذلك في كتاب الله تعالى في أكثر من موضع، قال تعالى: {{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}} [آل عمران: 164] والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا يصرف اللفظ عن ظاهره إلا بدليل، ولا دليل هنا.
الثاني: سلّمنا أن المراد نسخ الحكم، وهذا لا يعارض النسخ إلى غير بدل؛ لأن الله تعالى عليم حكيم، فقد يكون عدم الحكم خيراً من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس.(1/259)
الثالث: سلّمنا أن المراد نسخ الحكم، لكنه عام دخله التخصيص بما نسخ إلى غير بدل، وتخصيص العموم جائز، والله أعلم[(730)].
وأمَّا إجابتهم عن آية الصدقة وأنه نُسِخَ الوجوب وبقي الاستحباب، فهذا فيه نظر؛ لأن آية {{أَأَشْفَقْتُمْ}} لم تثبت حكماً تكليفياً آخر، وكون التصدق مندوباً إليه إن كان بهذا الناسخ فلا دليل فيه، وإن كان بالأدلة العامة التي ندبت إلى التصدق فهذا مُسَلَّمٌ، لكنها خاصة بالموسرين، وهي عامة في جميع الأوقات، وتقديم الصدقة عند المناجاة كان واجباً على الأغنياء والفقراء على السواء، والله أعلم[(731)].
قوله: (وبالأخف والأثقل. وقيل: بالأخف) أي: النسخ إلى بدل ثلاثة أقسام:
1 ـ إلى بدل أخف، ولا خلاف في جوازه ووقوعه، ومثاله: آيتا المصابرة: {{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ}} [الأنفال: 65] ، ثم قال تعالى: {{فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ}} [الأنفال: 66] فمصابرة مسلم واحد لاثنين من الكفار أخف من مصابرة الواحد لعشرة منهم.
2 ـ إلى بدل أثقل: وهذا محل خلاف، كما أشار المصنف؛ والصحيح الجواز لوقوعه، وذلك كنسخ التخيير بين صيام رمضان والإطعام في قوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} [البقرة: 184] بقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ...} [البقرة: 185] الدال على وجوب الصيام في حق المقيم الصحيح أداء، والمسافر والمريض قضاء، وإيجاب الصيام أثقل من التخيير بينه وبين الإطعام.
وأمَّا من منع فقد احتج بآيات التيسير والتخفيف ورَفْعِ الحرج عن هذه الأمة، ولا دلالة في ذلك؛ لأن الحكم الجديد يكون ميسراً على المكلفين لا مشقة فيه، مع ما فيه من زيادة النفع وعظيم الثواب، وثِقْلُهُ وصف له بالنسبة إلى ما قبله، وعليه فلا يلزم من كون الناسخ أثقل من المنسوخ أن يكون فيه حرج ومشقة.(1/260)
3 ـ إلى بدل مساوٍ، وذلك كنسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة، كما في حديث البراء: (أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس بعد الهجرة بضعة عشر شهراً)[(732)] فنسخ هذا باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: {{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}} [البقرة: 144] ، واستقبال الكعبة مساوٍ لاستقبال بيت المقدس بالنسبة لفعل المكلف، وهذا القسم لا خلاف فيه.
قوله: (ولا نسخ قبل بلوغ الناسخ) أي: إذا نزل الناسخ فهل يثبت حكمه في حق المكلفين بمجرد وروده إلى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم ولو لم يبلِّغْه للأمة، أو أنه لا يثبت حكمه إلا بعد أن يبلِّغَه لهم؟ قولان:
فالأول: أنه لا يثبت إلا بعد بلوغه لهم، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وقول للشافعية، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد[(733)].
واستدلوا بأن أهل قُباء بلغهم نسخ استقبال بيت المقدس وهم في الصلاة فاعْتَدُّوا بما مضى من صلاتهم، ولو كان الحكم يستقر بمجرد وروده وإن لم يعلم به المكلف لما اعتدوا بما مضى منها قبل العلم بالناسخ، ولوجب عليهم أن يبتدئوا الصلاة من أولها؛ لأن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم علم بالنسخ قبل صلاتهم[(734)].
قوله: (وقال أبو الخطاب: كعزل الوكيل قبل علمه به) هذا القول الثاني في المسألة، وهو أنه يثبت حكم الناسخ في حق المكلفين قبل التبليغ، وهو قول للشافعية، وهو قول أبي الخطاب، بناءً على قول الإمام أحمد، في الوكيل: أنه ينعزل بعزل الموكِّل وإن لم يعلم الوكيل بالعزل[(735)]. والجامع بينهما: أن كلاً من المكلف والوكيل لا يتصرف إلا بعد الإذن، وأنه ينعزل بالعزل.
والقول الأول أرجح؛ لأن إثبات الحكم في حق من لم يبلغه تكليف بما لا يطاق؛ لأنه لم يعلم به.
وما ذكره أبو الخطاب لا يكفي، لأنه مسألة فرعية، وما نحن فيه مسألة أصولية، والعادة تخريج الفروع على الأصول، لا تخريج الأصول على الفروع، والله أعلم.(1/261)
قوله: (ويجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة والآحاد بمثلها) هذا في بيان أقسام النسخ باعتبار الناسخ، وهي أربعة:
1 ـ نسخ القرآن بالقرآن.
2 ـ نسخ السنة بالسنة، وتحته أقسام.
3 ـ نسخ السنة بالقرآن.
4 ـ نسخ القرآن بالسنة.
فأما نسخ القرآن بالقرآن؛ فلا خلاف في جوازه عند القائلين بالنسخ، ومن أمثلته آيتا المصابرة، وقد تقدمتا.
وكذا نسخ السنة المتواترة بسنة متواترة، قال صاحب «شرح الكوكب المنير»: (وأمَّا مثال نسخ متواتر السنة بمتواترها فلا يكاد يوجد...)[(736)].
وأما نسخ الآحاد بالآحاد. فهذا مجمع عليه ـ أيضاً ـ لاتحاد الناسخ والمنسوخ في المرتبة والقوة، قال في «شرح الكوكب المنير»: (وله أمثلة كثيرة)[(737)]اهـ.
ومن أمثلته: حديث بريدة رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» [(738)]. فقوله: «كنت نهيتكم» ، يدل على أن النهي ثابت بالسنة.
قوله: (والسنة بالقرآن) أي: ويجوز نسخ السنة بالقرآن، وهذا هو القسم الثالث، كنسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة، باستقبال الكعبة الثابت بالقرآن، كما تقدم.
قوله: (لا هو بها، في ظاهر كلامه) هذا القسم الرابع، وهو نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وهذا لا يجوز في ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله. فإنه قال: (لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده)، وبه قال الشافعي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(739)]؛ لأن الله تعالى قال: {{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}} [البقرة: 106] ، والسنة لا تكون خيراً من القرآن، ولا مثله.
قوله: (خلافاً لأبي الخطاب، وبعض الشافعية) هذا القول الثاني، وهو: أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة، وهو قول الأكثرين، واختاره أبو الخطاب[(740)]، وبعض الشافعية؛ لأن الكل وحي من الله تعالى.(1/262)
وهذا هو الراجح إن شاء الله؛ لأن الناسخ حقيقة هو الله تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فإن كل ما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو من الله، قال تعالى: {{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *}} [النجم: 3] ، ومحل النسخ هو الحكم وليس اللفظ، وعليه فإن لفظ {{بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}} [البقرة: 106] يكون من السنة كما يكون من القرآن، فيمكن أن يكون الناسخ خيراً من المنسوخ أو مثله، ولو كان الناسخ سنة والمنسوخ قرآناً، لأن الخيرية والمثلية المذكورة في الآية مراد بها الحكم، فما ينسخ حكماً إلا ويأتي بحكم خيرٍ منه وأنفع للمكلفين أو مثله، والأحكام كلها من الله تعالى: {{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}} [الأنعام: 57] ، على أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد ناقش من حمل الخيرية والمثلية في الآية على الحكم، ونقل عن ابن عقيل أن المراد بها: الجنس، وقال: إن الخيرية لازمة لجميع الأحكام، والمنسوخ قد يكون خيراً من الناسخ أو مثله[(741)].
وقد مثلوا لذلك: بنسخ قوله تعالى: {{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} ...} [البقرة: 180] بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» [(742)].
وقد انعقد الإجماع على معنى هذا الحديث[(743)]، وهذا على أحد القولين.
والقول الثاني: أن الناسخ آيات المواريث، والحديث بيان لها؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رَتَّبَ نفي الوصية للوارث بالفاء على إعطاء كل ذي حق حقه، فيكون من نسخ القرآن بالقرآن[(744)]، فلا وصية لوارث، ولا تجب الوصية للأقارب غير الورثة، وإنَّما تستحب لهم بأدلة صلة الأرحام.(1/263)
ويرى بعض العلماء أنه لا نسخ في الآية. وفَرْضُ الوصية مخصوص في الوارثين بآيات المواريث، فلا وصية لوارث، وتجب الوصية للأقارب غير الوارثين من الوالدين وغيرهما، وهذا القول فيه جمع بين الأدلة، ومتى أمكن الجمع بين الأدلة تعيّن المصير إليه[(745)] والله أعلم.
فأما نسخ القرآن ومتواتر السنّة بالآحاد فجائز عقلاً، ممتنع شرعاً إلا عند بعض الظاهرية، وقيل: يجوز في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وما ثبت بالقياس، إن كان منصوصاً على علته فكالنص يُنْسخ ويُنسخ به وإلا فلا. وقيل: يجوز بما جاز به التخصيص.
قوله: (فأمَّا نسخ القرآن ومتواتر السنة بالآحاد فجائز عقلاً، ممتنع شرعاً...) أي: إن نسخ القرآن بالسنة الآحادية، ونسخ السنة المتواترة بالآحاد جائز عقلاً؛ إذ لا يمتنع أن يقول الشارع: تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد، فلا يلزم من فرض وقوع ذلك محال.
وأمَّا جوازه شرعاً ففيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يجوز شرعاً؛ لأن المتواتر قطعي، والآحاد ظني، والشيء إنَّما يُنسخ بمثله أو بما هو أقوى منه. وهذا قول الجمهور.
قوله: (إلا عند بعض الظاهرية) هذا القول الثاني ، وهو أن الآحاد ينسخ المتواتر من قرآن أو سنة، وهذا قول جماعة من أهل الظاهر، ونصره ابن حزم[(746)]؛ لأن القطعي هو اللفظ، ومحل النسخ هو الحكم، ولا يشترط في ثبوته التواتر؛ لأن الدلالة باللفظ المتواتر قد تكون ظنية، فحينئذٍ لم يُرفع الظنيُّ إلا بمثله.
ومثال نسخ السنة المتواترة بالآحاد: ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أُنزل عليه القرآن، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة[(747)].(1/264)
ووجه الدلالة: أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة المتواترة؛ لأن صلاتهم إليه كانت بطريق القطع لمشاهدتهم النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى جهته، وهؤلاء قبلوا خبر الواحد وعملوا به في نسخ ما تقرر عندهم بطريق العلم المتواتر، ولم ينكر عليهم النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، فدل على الجواز.
وأما نسخ القرآن بالآحاد فلم يقع شرعاً، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وبالجملة فلم يثبت أن شيئاً من القرآن نُسخ بسنة بلا قرآن) وقال: (ومن تمام حرمة القرآن أن الله لم ينسخه إلا بقرآن)[(748)] وظاهر هذا المنع مطلقاً، سواء كانت السنة متواترة أم أحاداً، كما تقدم.
قوله: (وقيل: يجوز في زمنه صلّى الله عليه وسلّم) هذا القول الثالث ، وهو أنه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد في زمن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يجوز بعده.
وهو قول جماعة من الأصوليين، واختاره الغزالي[(749)]، واستدلوا بقصة أهل قباء، كما تقدم.
والأظهر ـ والله أعلم ـ القول الثاني، لما تقدم من قوة مأخذه، فإن الوقوع دليل قوي، ولا داعي للتقييد بزمن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن النسخ خاص بزمنه لا بعده.
قوله: (وما ثبت بالقياس إن كان منصوصاً على علته، فكالنص يُنْسخ ويُنْسخ به وإلا فلا) أي: إن الحكم الثابت بالقياس إمَّا أن يكون منصوصاً على علته من قِبَلِ الشرع أو لا، فإن كان الشارع قد نص على علته كان ذلك القياس كالنص فيكون ناسخاً، ويكون منسوخاً، كما أن النص كذلك؛ لأن القياس لا بُدَّ أن يستند إلى نص، فإذا كانت علة القياس منصوصاً عليها صار حكم القياس منصوصاً عليه بواسطة القياس، فيكون نصاً يصح أن يكون ناسخاً ومنسوخاً.(1/265)
مثاله: لو قال الشارع: حرمت الخمر المتخذ من العنب، لكونه مسكراً، فإذا قسنا عليه نبيذ التمر المسكر في التحريم، كان تحريم هذا النبيذ حكماً منصوصاً على علته، حتى كأنه قال: حرمت نبيذ التمر المسكر، فلو فرض أن الشارع قال: أبحت نبيذ الذرة المسكر، جاز أن يكون تحريم نبيذ التمر المسكر المستفاد من القياس ناسخاً لذلك، إذا كان متأخراً عنه، ومنسوخاً بإباحة نبيذ الذرة، إذا كان تحريم نبيذ التمر متقدماً.
فإن كان الحكم الثابت بالقياس غير منصوص على علته لم يجز أن يكون القياس ناسخاً ولا منسوخاً؛ لأن العلة إذا لم تكن منصوصة، فهي مستنبطة، والاستنباط طريقه الاجتهاد، وهو عرضة للخطأ، فلا يقوى على رفع الحكم الشرعي.
قوله: (وقيل: يجوز بما جاز به التخصيص) أي: يجوز النسخ بما يجوز به التخصيص، وعليه فيدخل القياس، لجواز التخصيص به، وهذا ظاهر البطلان؛ لأن النسخ رفع، والرفع إبطال، وأمَّا التخصيص فهو بيان، والبيان تقرير، والله أعلم.
* * *
و(الإجماع) وأصله: الاتفاق، وهو اتفاق علماء العصر من الأمة على أمر ديني. وقيل: اتفاق أهل الحل والعقد على حكم الحادثة قولاً، وإجماع أهل كل عصر حجة خلافاً لداود، وقد أومأ أحمد إلى نحو قوله.
الأصل الثالث الإجماع
قوله: (والإجماع) هذا معطوف على قوله: (السنة) فإنه قال: (وأصول الأدلة أربعة: الكتاب والسنة والإجماع...) ، ثم فصّل القول فيها واحداً بعد الآخر، إلى أن وصل إلى الثالث منها، وهو: الإجماع.
قوله: (وأصله: الاتفاق) هذا معنى الإجماع في اللغة. يقال: أجمع القوم على كذا: أي: اتفقوا عليه، ويطلق على العزم، يقال: أَجْمَعْتُ الأمر، وعلى الأمر: إذا عزمت عليه[(750)].
قوله: (وهو اتفاق علماء العصر من الأمة على أمر ديني) هذا تعريف الإجماع اصطلاحاً.(1/266)
وقوله: (اتفاق) هذا قيد في التعريف، يخرج وجود خلاف ولو من واحد، فلا ينعقد معه الإجماع؛ لأن من الجائز إصابة الأقل، وخطأ الأكثر، كما كشف الوحي عن إصابة عمر رضي الله عنه في أسرى بدر، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
قوله: (علماء العصر) أراد بالعلماء: المجتهدين منهم، وهذا قيد ثانٍ لإخراج غير المجتهد ـ من العوام والمقلدين ـ فلا عبرة بهم في الإجماع، لا وفاقاً ولا خلافاً.
وقوله: (العصر) قيد ثالث لبيان أن المراد العصر الواحد، وليس جميع العصور؛ لأن هذا يؤدي إلى عدم انعقاد الإجماع.
وقوله: (من الأمة) أي: من أمة الإجابة، وهي أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قيد لإخراج إجماع غيرها، فلا يعتبر إجماعاً شرعياً بالنسبة لنا.
وقوله: (على أمر ديني) أي: يتعلق بالدين لذاته أصلاً أو فرعاً، وهذا لإخراج اتفاقهم على أمر دنيوي، كإقامة متجر أو حرفة؛ أو على أمر ديني لكنه لا يتعلق بالدين لذاته بل بواسطة، كاتفاقهم على بعض مسائل اللغة أو النحو، ونحو ذلك.
وبقي عليه قيد آخر: بعد النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قيد لإخراج اتفاقهم في عهد النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلا يعتبر إجماعاً من حيث كونه دليلاً؛ لأن الدليل حصل بسنة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولذا فإن الصحابي إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون كذا على عهد النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ كان مرفوعاً حكماً، لا نقلاً للإجماع[(751)]، كما تقدم في مباحث «السنة».
قوله: (وقيل: اتفاق...) هذا تعريف آخر قريب من تعريف ذكره القرافي والآمدي، قال القرافي: (ونعني بالاتفاق: الاشتراك إمَّا في القول أو الفعل أو الاعتقاد)[(752)].
قوله: (أهل الحل والعقد) أي: المجتهدين في الأحكام الشرعية.
قوله: (على حكم الحادثة) المراد بها: الواقعة من الوقائع التي تستدعي بيان حكم الشرع فيها.(1/267)
قوله: (قولاً) أي: لا بُدَّ أن يكون الاتفاق قولاً من جميع أهل الحل والعقد، وهذا يسمى (الإجماع الصريح)، وهذا القيد لإخراج الإجماع السكوتي، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (وإجماع أهل كل عصر حجة) أي: إن إجماع أهل كل عصر من العصور إلى قيام الساعة حجة، ودليل شرعي يجب العمل به؛ لأن الأدلة الدالة على حجية الإجماع تتناول جميع العصور، وكليةُ الأمة حاصلةٌ بالموجودين في كل عصر، ومن الأدلة على حجية الإجماع:
1 ـ قوله تعالى: {{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *}} [النساء: 115] ووجه الاستدلال: أن الله تعالى توعد من خالف سبيل المؤمنين بالعذاب، فوجب اتباع سبيلهم، وما ذاك إلا لأنه حجة[(753)].
2 ـ قوله تعالى: {{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ...} [البقرة: 143] والوسط: العدل الخيار، ومقتضى ذلك أنهم عصموا من الخطأ فيما أجمعوا عليه؛ فيكون قولهم حجة.
3 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» [(754)] ووجه الدلالة: أنه نفى عنهم وجود الضلالة، والخطأ ضلالة، فيكون ما أجمعوا عليه حقاً، فيجب اتباعه.
قوله: (خلافاً لداود) فإنه قال: إن الإجماع المحتج به مختص بالصحابة رضي الله عنهم[(755)]؛ لأن الخطاب الذي ثبت به الإجماع خطاب للحاضرين، كقوله تعالى: {{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}} [البقرة: 143] .
قوله: (وقد أومأ أحمد إلى نحو قوله) أي: إلى نحو قول داود الظاهري، فقد جاء في مسائل الإمام أحمد ـ رواية أبي داود ـ قوله: (الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم وعن أصحابه، ثم هو من بعد التابعين مخيّر)[(756)].
قال الطوفي: (المشهور من مذهب أحمد ما حكيناه أولاً، كقول الأكثرين)[(757)].(1/268)
والراجح قول الجمهور؛ لقوة مأخذه، وما استدلت به الظاهرية غير صحيح، فإن سائر خطابات التكليف كقوله تعالى: {{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}} [البقرة: 43] خطاب للحاضرين، وعمّ غيرهم ممن بعدهم ولم يختص بهم.
وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: اعتبره أبو الخطاب والحنفية، وقال القاضي وبعض الشافعية: ليس بإجماع. والتابعي معتبر في عصر الصحابة عند الجمهور خلافاً للقاضي وبعض الشافعية، وقد أومأ أحمد إلى القولين. ولا ينعقد بقول الأكثرين، خلافاً لابن جرير، وأومأ إليه أحمد، وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة.
قوله: (وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: اعتبره أبو الخطاب والحنفية) أي: إذا اختلف الصحابة على قولين، فأجمع التابعون على أحدهما هل يكون إجماعاً؟ قولان:
القول الأول: أنه إجماع، فيحرم الأخذ بالقول الآخر، وهذا قول أبي الخطاب والحنفية[(758)]؛ لأنه اتفاق من أهل العصر الثاني، وقد دل الدليل على كونه معصوماً من الخطأ، فهو كاتفاق الصحابة على أحد قولين.
قوله: (وقال القاضي وبعض الشافعية[(759)] : ليس بإجماع) هذا القول الثاني في المسألة؛ وهو أنه ليس إجماعاً، فيجوز الأخذ بالقول الآخر.
واستدلوا بأن هذا الإجماع سبقه خلاف مستقر، فلا يُجمع على أحدهما؛ لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها، وعليه فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق إذا استقر بموت المختلفين، وإنَّما يمنع من حدوث خلاف، وهذا القول هو الراجح، لقوة مأخذه.(1/269)
قوله: (والتابعي معتبر في عصر الصحابة عند الجمهور) أي: إن التابعي إذا بلغ رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة فإنه يعتد به في الإجماع، وهذا قول الجمهور، وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو الخطاب[(760)] وابن عقيل[(761)]؛ لأنه مجتهد من علماء الأمة فلا وجه لإلغائه؛ ولأن الصحابة سوّغوا اجتهاد التابعين وفتواهم معهم في الوقائع الحادثة في زمانهم مثل: سعيد بن المسيّب في المدينة، وشريح بالكوفة، وغيرهم، ولو لم يعتبر قولهم في الإجماع مع الصحابة لسألوهم قبل إقدامهم على الفتوى: هل أجمعوا أم لا؟
قوله: (خلافاً للقاضي وبعض الشافعية) هذا القول الثاني، وهو أنه إذا أدرك التابعي عصر الصحابة، وهو من أهل الاجتهاد لم يعتدَّ بخلافه. قال القاضي: في أصح الروايتين عن أحمد[(762)].
ووجه ذلك أن الصحابة لما شاهدوا التنزيل وكانوا أعلم بالتأويل كان غيرهم من العلماء بالنسبة إليهم كالعامي بالنسبة إلى العلماء.
قوله: (وقد أومأ أحمد إلى القولين) فقد أومأ إلى الأول في رواية أبي الحسن بن هارون، قال: (ولا ينظر العبد إلى شعر مولاته، واحتج بقول سعيد) أي: ابن المسيب.
وقد ورد عن ابن عباس: لا بأس أن ينظر العبد إلى شعر مولاته، فرجّح أحمد قول سعيد؛ لكثرة من قال به من التابعين على قول ابن عباس؛ لأنه انفرد بذلك.
وأومأ إلى الثاني وهو أنه لا يعتد به، فقال في رواية أبي الحارث: وقد سألته: إلى أي شيء ذهبت في ترك الصلاة بين التراويح؟ فقال: ضرب عليها عقبة بن عامر، ونهى عنها عبادة بن الصامت. فقيل: روي عن سعيد والحسن أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح. فقال: أقول لك: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتقول: التابعين[(763)]؟!
لكن قد يقال: إنه لم يتقدم إجماع خالف فيه التابعون، وإنَّما قدم الإمام أحمد رحمه الله قول الصحابة على قول التابعين، فلا يتم الاستدلال.(1/270)
والراجح أن التابعي معتبر، لقوة الأدلة التي استدل بها القائلون بذلك، فإنه إذا اعتبر قول التابعين في الاجتهاد فليعتبر في الإجماع، فإن من حُكم عليه بأنه مجتهد لماذا يرفض قوله في الإجماع؟ ثم إن الأدلة على حجية الإجماع تتناولهم واختصاص الصحابة بالأوصاف الشريفة لا يمنع من الاعتداد بغيرهم.
وأمَّا قولهم: إن التابعين بالنسبة للصحابة كالعامة مع العلماء. فهذا مردود؛ لأنه كلام لا يليق بمقام التابعين ومنزلتهم.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن التابعي إذا بلغ رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة قبل إجماعهم فقوله معتبر، وإن بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم في عصرهم لم يعتبر خلافه[(764)]، وهذا مبني على القول بعدم اشتراط انقراض العصر، كما يأتي ـ إن شاء الله ـ[(765)].
قوله: (ولا ينعقد بقول الأكثرين) هذا قول الجمهور، وذلك لأن العبرة بقول علماء جميع الأمة؛ لأن العصمة من الخطأ إنَّما هي للكل لا للبعض.
قوله: (خلافاً لابن جرير) [(766)] أي إن ابن جرير الطبري حَكَى عنه كثير من الأصوليين أنه قال: لا عبرة بمخالفة الواحد والاثنين، فينعقد الإجماع بقول الأكثرين؛ اعتباراً للأكثر وإلغاءً للأقل[(767)].
قوله: (وأومأ إليه أحمد) أي: أومأ أحمد إلى قول ابن جرير، وهو أن الإجماع ينعقد بقول الأكثرين، وذلك في رواية ابن القاسم في المريض يطلِّق، فإنه لما ذكر قول زيد، قال: «زيد وحده، هذا عن أربعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وزيد، وابن عمر» وقال في رواية الميموني: «في فسخ الحج أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يروون ما يروون، أين يقع بلال بن الحارث منهم؟» قال أبو يعلى: «وظاهر هذا أنه لم يعتد بخلاف زيد في مقابلة الجماعة، ولا مخالفة بلال في مقابلة الجماعة[(768)].(1/271)
قوله: (وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة) اعلم أنه وقع الخلاف بين أهل العلم في المراد من قول الإمام مالك رحمه الله: إجماع أهل المدينة حجة.
فمنهم من أخذه على ظاهره، ومنهم من قال: إن مراده أن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم، ومنهم من قال: إن مراده بذلك ما كان جارياً مجرى النقل المستفيض، كألفاظ الأذان، والإقامة، وترك الجهر بالبسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة، ومقدار الصاع، والمدّ، وعدم أخذ الزكاة في الخضروات مع أنها كانت تزرع في المدينة، وغير ذلك مما كان في زمن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم. فإنه لو تغير عما كان عليه لعُلِم، فأمَّا في مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء.
وهذا هو الأظهر إن شاء الله تعالى، وهو الذي عليه المحققون من المالكية، كأبي الوليد الباجي، وابن القصار[(769)] وغيرهما، وهو الذي يستفاد من موطأ الإمام مالك، كما سيأتي.
وقد سلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضوع مذهب أهل المدينة وعملهم مسلكاً وسطاً لا يسع الناظر المنصف إلا أن يقول: إن هذا هو الحق إن شاء الله، وقد ذكر أن محل الخلاف في هذه المسألة إنما هو إجماعهم في العصور المفضلة، وهي القرون الثلاثة الأولى... ثم قال ما ملخصه:
والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة، أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:
الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم. فهذا حجة باتفاق العلماء، وتقدمت أمثلته.
الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان رضي الله عنه، فهذا حجة في مذهب مالك، والمنصوص عن الشافعي، وظاهر مذهب أحمد؛ لأن هذا مما سنّه الخلفاء الراشدون، فهو حجة يجب اتباعها، وهو المحكي عن أبي حنيفة.(1/272)
الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان، كحديثين جُهِلَ أيُّهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة، فمذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد أنه يرجح بعمل أهل المدينة، وهذا هو المنصوص عن أحمد، يقول رحمه الله: (إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية). ومذهب أبي حنيفة وبعض الحنابلة كالقاضي وابن عقيل أنه لا يرجح.
والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة إلا إذا بحثنا فلم نجد مرجحاً غيره على قاعدة التعارض.
الرابعة: العمل المتأخر بالمدينة. فهل هذا حجة شرعية يجب اتباعه أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، وهذا قول الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله بعض أهل المغرب من أصحابه حجة، وليس معهم للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد[(770)]اهـ.
والمتتبع للإمام مالك في موطئه يرى أن كثيراً من المسائل يحتج فيها بعمل أهل المدينة، ويستعمل عبارات لا تفيد أنه يريد الإجماع الذي تحرم مخالفته، وإنَّما تفيد أنه أراد إجماع أهل بلده، فهو يخبر عن رأيه، مستنداً إلى إجماعهم الذي لا يلزم المجتهد اتباعه، ومن أمثلة ذلك:
1 ـ قوله: (الأمر عندنا أن يقرأ الرجل وراء الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة، ويترك القراءة فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة)[(771)]. وهي مسألة خلافية.
2 ـ قوله: (الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يُخْرصُ من الثمار إلا النخيل والأعناب...)[(772)]. وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأهل الرأي.
3 ـ يرى أن من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر، كما وجبت عليه إذا كان الوقت قد ذهب. قال: (وهذا الأمر هو الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا)[(773)].
وانقراض العصر شرط في ظاهر كلامه وقد أومأ إلى خلافه، فلو اتفقت الكلمة في لحظة واحدة فهو إجماع عند الجمهور، واختاره أبو الخطاب.(1/273)
وإذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم على قولين لم يجز إحداث قول ثالث عند الجمهور، وقال بعض الحنفية، والظاهرية: يجوز.
وإذا قال بعض المجتهدين قولاً وانتشر في الباقين وسكتوا، فعنه: إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية، وقيل: حجة لا إجماع.
قوله: (وانقراض العصر شرط في ظاهر كلامه) المراد بانقراض العصر: أن يموت أهل الإجماع، وينقرض عصرهم، دون أن يخالف واحد منهم، ثم يبدأ الاحتجاج بإجماعهم، فإذا أجمع المجتهدون على حكم في عصر، فهل ينعقد الإجماع حال اتفاقهم، أو لا يكون إجماعهم حجة إلا بعد أن يموتوا كلهم؛ لاحتمال رجوع بعضهم؟ قولان:
الأول: أن انقراض العصر شرط، وهو قول بعض الشافعية، وظاهر كلام الإمام أحمد، فلا ينعقد الإجماع إلا بعد انقراض عصر المجمعين.
وقد ذكر أبو الخطاب أن ظاهر كلام أحمد أن انقراض العصر شرط في صحة الإجماع، ثم ذكر عنه أن حدَّ الخمر أربعون في عهد أبي بكر رضي الله عنه وخالفه عمر رضي الله عنه فزاد أربعين، ثم ضرب عليٌّ رضي الله عنه أربعين، ولولا اشتراط انقراض العصر لما جاز ذلك، فدل على أنه شرط، وأن الإجماع لم ينعقد قبل.
ووجه هذا القول احتمال رجوع البعض عن اجتهاده ما دام موجوداً، فيؤول الأمر إلى الخلاف[(774)].
قوله: (وقد أومأ إلى خلافه) أي: إلى خلاف ما تقدم، فأومأ إلى أن الانقراض ليس شرطاً، فيكون لأحمد روايتان: إحداهما: قالها صريحاً وهي الاشتراط، والثانية: إيماء وهي عدمه.(1/274)
قوله: (فلو اتفقت الكلمة في لحظة واحدة فهو إجماع عند الجمهور، واختاره أبو الخطاب) أي: إن مذهب الجمهور عدم الاشتراط، وهو القول الثاني ، فلو اتفقت كلمة الأمة في لحظة واحدة فهو إجماع؛ وذلك لأن الأدلة على أن الإجماع حجة ليس فيها اشتراط انقراض العصر؛ ولأن الإجماع هو الاتفاق، وقد حصل ساعة اتفاقهم فما الذي يرفعه؟ ولأن التابعين كانوا يحتجون بالإجماع في زمن أواخر الصحابة، كأنس وغيره رضي الله عنهم ولو كان شرطاً لم يجز ذلك، ولأنه يؤدي إلى تعذر الإجماع؛ لأنه لا يكاد عصر ينقرض حتى يحدث من أولاده من يكون من علماء العصر فيتسلسل.
وهذا هو القول الراجح؛ لقوة دليله، وأمَّا ما ثبت من أن عمر رضي الله عنه جلد شارب الخمر ثمانين فلا نسلم أن ذلك رجوع عن الإجماع، لما ورد أن عثمان رضي الله عنه لما أمر علياً بجلد الوليد بن عقبة في الخمر أمر عليٌّ عبدَ الله بنَ جعفر فجلده، وعلي يعُدُّ عليه حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنّة، وهذا أحبُّ إلي[(775)].
وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم في الزيادة على الأربعين، فدلَّ ذلك على أن المسألة لم يثبت فيها إجماع، وإنما الأمر فيها موكول إلى اجتهاد الإمام، فتكون هذه الزيادة دعت إليها المصلحة، كما يفيده حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم[(776)]، والله أعلم.
وثمرة الخلاف:
إن قلنا: الانقراض شرط، جاز للمجمعين أو لبعضهم الرجوع عن الحكم الذي أجمعوا عليه، وجاز لمن بلغ رتبة الاجتهاد في العصر أن يخالف، لأن الإجماع لم ينعقد، وإذا قلنا: ليس بشرط فليس لمن بلغ رتبة الاجتهاد أن يخالف، لأنه مسبوق بالإجماع.(1/275)
قوله: (وإذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث عند الجمهور) مذهب الجمهور أن الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين، لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، لأن اختلافهم على قولين حصر للحق فيهما، فيكون ذلك القول خارجاً عن سبيل المؤمنين وعن الحق المحصور فيه، فيكون باطلاً، فلا يجوز إحداثه.
قوله: (وقال بعض الحنفية والظاهرية: يجوز) أي: لأن المختلفين على قولين لم يصرحوا بتحريم القول الثالث، فجاز إحداثه، ولأنهم لو عللوا بعلة أو استدلوا بدليل، فلمن بعدهم التعليل والاستدلال بغير ذلك.
مثال إحداث قول ثالث مخالف: ما حكاه ابن حزم من أن الأخ يحجب الجد، لأن الصحابة لهم قولان: أحدهما: أن الجد أب يحجب الأخ. والثاني: أنهما يرثان، فكان إجماعاً على أن للجد نصيباً في التركة.
فالقول بحجب الأخ للجد، قول ثالث، فيه خرق للإجماع السابق، وهو ضرورة توريث الجد مع الأخوة[(777)].
والأول هو الصحيح؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يمكن أن يقول علماء الأمة قولين كلاهما خطأ، والصواب قول ثالث لم يقولوه.
أما إحداث قول بالتفصيل لا يرفع ما اتفق عليه القولان فليس هذا من قبيل مسألتنا، لأن التفصيل لا يُعدُّ قولاً جديداً[(778)].
وظاهر كلام المصنف تبعاً لابن قدامة وغيره تخصيص المسألة بالصحابة، والصواب أنها عامة، كما ذكر ذلك الأصوليون، ولعل من خصَّه بالصحابة، قصد أن غيرهم من باب أولى[(779)].
قوله: (وإذا قال بعض المجتهدين قولاً وانتشر في الباقين وسكتوا، فَعَنْهُ إجماع في التكاليف) تقدم أن الإجماع إمَّا صريح وإما سكوتي، فالصريح أن يبدي كل واحد من المجتهدين رأيه في المسألة، وأمَّا السكوتي فهو أن يقول بعض المجتهدين قولاً، ويسكت الباقون مع اشتهار ذلك القول فيهم، وقدرتهم على إظهار الموافقة أو الإنكار.
وقد اختلف في ذلك هل يكون إجماعاً؟ على أقوال كثيرة...(1/276)
فالأول: أنه إجماع؛ أي: حجة في الأحكام المتعلقة بالتكليف، وإذا لم يكن الحكم تكليفياً لم يكن إجماعاً ولا حجة، لأن الإجماع أمر ديني، وما ليس تكليفياً ليس دينياً بل دنيوياً، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وبه قال بعض المالكية؛ تنزيلاً للسكوت منزلة الرضا والموافقة.
وقول المصنف: (في التكاليف) هذا قيد في الإجماع السكوتي، وليس قيداً لهذا القول كما يظهر، فالإجماع السكوتي لا بُدَّ أن يكون في مسائل التكليف، فقول القائل: عمار أفضل من حذيفة، لا يدل السكوت فيه على شيء؛ إذ لا تكليف على الناس فيه.
قوله: (وقيل: حجة لا إجماع) هذا القول الثاني: وهو أنه حجة ظنية، وليس بإجماع تمتنع مخالفته.
وحجتهم أن حقيقة الإجماع: الاتفاق من الجميع، وهذا لم يتحقق في الإجماع السكوتي؛ لأن السكوت ليس صريحاً في الدلالة على الموافقة، فلا يعتبر إجماعاً، لكن لرجحان دلالته على الموافقة اعتبر حجة ظنية[(780)].
وقيل: لا إجماع ولا حجة. ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد، وأحاله قوم، وقيل: يتصور وليس بحجة. والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكاً بالإجماع. واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع، وقد نقل عنه: لا يُخْرج عن قولهم إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع.
قوله: (وقيل: لا إجماع ولا حجة) هذا القول الثالث: وهو قول الشافعي في الجديد، وقول المالكية وبعض الحنفية والحنابلة، لأنه لا ينسب لساكت قول، ثم إنه لا يجزم بأن هذا الساكت بلغه ذلك القول، أو يكون بلغه وقام مانع من الاعتراض، إمَّا لهيبة القائل، أو لأنه لا يرى الإنكار في مسائل الاجتهاد، أو لكونه يخاف على نفسه، أو أنه أنكر ولم يبلغنا إنكاره، إلى غير ذلك من الاحتمالات الواردة في مثل هذه الحال.
وقد جعل المصنف المسألة عامة في مجتهدي الأعصار، وبعض الأصوليين يخص ذلك بالصحابة رضي الله عنهم دون من بعدهم؛ لأن منصبهم الشريف لا يقتضي السكوت في موضع المخالفة.(1/277)
وأظهر الأقوال في هذه المسألة: التفصيل. وهو أنه إن علم من قرينة حال الساكت أنه راضٍ بذلك فهو إجماع قولاً واحداً، وإن علم أنه ساخط فليس بإجماع قولاً واحداً، وإن لم يعلم رضا ولا سُخْط فالأظهر أنه إجماع سكوتي ظني[(781)]. لأن غالب هذا النوع مبني على التتبع والاستقراء لأقوال الصحابة والتابعين ـ مثلاً ـ فإذا لم يجد خلافاً من أهل زمانهم أجرى ذلك على أنه إجماع[(782)]. وهو في حقيقته رأي لجماعة من الفقهاء، وقد يظهر مخالف لم يطلع عليه مدعي الإجماع، فيكون ظنياً لا قطعياً، والله أعلم.
قوله: (ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد) اعلم أن الأصوليين اختلفوا في مستند الإجماع، هل يصح أن يكون عن اجتهاد وقياس أو لا؟ إذ لا بُدَّ للإجماع من دليل يستند إليه؛ لأن القول بغير حجة اتباع للهوى، واتباع الهوى باطل، وهو يقتضي إثبات الشرع بعد النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقد اختلفوا: هل يجوز أن يكون مستند الإجماع اجتهاداً ورأياً؟ على أقوال:
الأول: أنه يجوز انعقاد الإجماع مستنداً إلى اجتهاد أو قياس،. وهذا قول الأكثرين، واختاره ابن قدامة، ومثّلوا له بالإجماع على تحريم شحم الخنزير، قياساً على لحمه، والإجماع على تحريم القضاء من الحاقن ونحوه؛ كالجوع والعطش المفرطين، وغيرها من مشوشات الفكر قياساً على الغضب المنصوص عليه في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» [(783)].
وحجة هؤلاء أنه لا يمتنع اتفاق الأمة على حصول ظَنِّ الحكم بالقياس، فإن القياس مُحَصِّل للظن، وإذا حصل الظن جاز الاتفاق على موجبه.(1/278)
قوله: (وأحاله قوم) هذا القول الثاني في المسألة، وهو أنه لا يتصور الإجماع عن اجتهاد وقياس، لأن القياس مختلف فيه، ولا إجماع مع الخلاف، ذلك أن الإجماع فرعُ مستندِه، وإذا كان المسْتَنَدُ إليه وهو القياس مختلفاً فيه فكيف يكون المسْتَنِدُ متفقاً عليه؟ وكيف يُختلف في الأصل ويُتفق على الفرع؟ هذا لا يمكن، وعلى هذا القول فلا بد أن يكون مستند الإجماع نصاً من كتاب أو سنة.
وأجيب عن ذلك بأن الكلام مفروض قبل وقوع الخلاف في القياس، وهذا في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وعلى فرض أن الكلام بعد حدوث الخلاف في القياس، فللموافق أن يستند إلى القياس، وللمخالف أن يستند إلى مَدْرَكٍ من مدارك الاجتهاد لا يعتقده قياساً، وهو في الحقيقة قياس، كقولهم: لا يقضي القاضي وهو جائع، يقولون: نبَّه بحالة الغضب على حالة الجوع وغيرها من الأحوال، مع أن هذا في الحقيقة قياس.
قوله: (وقيل: يتصور وليس بحجة) هذا القول الثالث . وهو أنه يتصور وقوع الإجماع عن اجتهاد وقياس، لكنه ليس بحجة؛ لأن هذا اجتهاد ظني، والإجماع دليل قاطع.
والأظهر في هذه المسألة ـ والله أعلم ـ ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه لا يوجد مسألة مجمع عليها إلا وفيها نص شرعي، لكن قد يكون هذا النص غاب عن بعض المجمعين، فاستدلَّ عليه برأي أو قياس، ولا يمكن أن يخفى النص على جميع الأمة[(784)].
فالإجماع على حرمة نكاح الجدات، وبنات الأولاد، مهما نزلت درجتهن سنده قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}} [النساء: 23] ، ومن الإجماع المبني على السنة: الإجماع على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» [(785)].
وأمَّا الإجماع المستند للاجتهاد أو القياس فتقدمت أمثلته...(1/279)
قوله: (والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكاً بالإجماع) أي: إن الأخذ بأقل ما قيل في مسألة اختلف فيها العلماء زيادة أو نقصاً، لا يكون أخذاً بالإجماع كالاختلاف في دية الكتابي، فقيل: كدية المسلم، وقيل: نصفها، وقيل: ثلثها، فالتمسك بالثلث ليس بإجماع، وأظهر دليل على ذلك جواز مخالفته، ذلك أن وجوب الثلث متفق عليه، وإنما الخلاف فيما زاد على الثلث، وهو مختلف فيه، فكيف يكون إجماعاً؟ لأنه لو كان إجماعاً لحرمت مخالفته، ولكان الآخذ بالمماثلة أو النصف خارقاً للإجماع.
قوله: (واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع) هذا مذهب الجمهور، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لأن الإجماع اتفاق الأمة، وهؤلاء بعضها، فلا تثبت لهم العصمة.
قوله: (وقد نقل عنه: «لا يُخْرج عن قولهم إلى قول غيرهم») أي: نقل عن الإمام أحمد القول المذكور، وهذا يدل على أنه حجة، لا على أنه إجماع؛ لأن الدليل قد يكون حجة وليس إجماعاً، وهذا هو الأظهر في هذه المسألة، أنه ليس بإجماع، فقد خالف ابن عباس رضي الله عنه الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم في بعض المسائل، ولم يحتج عليه أحد بإجماع الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم لبطلان مذهبه. والله أعلم[(786)].
الاستصحاب
وأما الأصل الرابع ـ وهو دليل العقل في النفي الأصلي ـ فهو : أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف، فيستمر حتى يرد غيره ويسمى استصحاباً، وكل دليل فهو كذلك، فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ، والملك حتى يرد المزيل، والنفي حتى يرد المثبت، ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك.
قوله: (وأما الأصل الرابع، وهو دليل العقل في النفي الأصلي) أي: إن الأصل الرابع من الأصول المتفق عليها: دليل العقل في النفي الأصلي، وهذا بحث في الاستصحاب.
قوله: (فهو أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف) هذا تفسير للمراد بالنفي الأصلي ودلالة العقل عليه.(1/280)
فالمراد بالنفي: البراءة الأصلية، بمعنى أن العقل دل على براءة الذمة من الواجبات قبل مجيء الشرع، ولم يُقصد به أن الأحكام الشرعية تدرك بالعقل وحده، وإنَّما المراد أن العقل دل على البراءة، فإن النظر في الأحكام إمَّا في إثباتها أو نفيها؛ أمَّا إثباتها فلا بد من شرع، وأمَّا النفي فيدل عليه العقل.
قوله: (فيستمر حتى يرد غيره) أي: يستمر النفي الأصلي حتى يرد غيره، وهو الدليل الشرعي الناقل عن البراءة الأصلية.
قوله: (ويسمى استصحاباً) أي: إن الأصل الرابع هو الاستصحاب، وهو في اللغة: طلب الصحبة واستمرارها.
واصطلاحاً: استدامةُ إثباتِ ما كان ثابتاً أو نفي ما كان منفياً
[(787)].
وسمي استصحاباً؛ لأن المستدل يجعل الحكم الثابت في الماضي ـ من إثبات أو نفي ـ مصاحباً للحال. والاستصحاب أربعة أنواع:
1 ـ استصحاب البراءة الأصلية، وهو المراد عند إطلاق لفظ: (الاستصحاب).
2 ـ استصحاب الدليل الشرعي الذي لم يرد ناقل عنه.
3 ـ استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه.
4 ـ استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.
قوله: (وكل دليل فهو كذلك) أي: إن الاستصحاب يُتَصور في جميع الأدلة الشرعية، وهو استصحاب الدليل الشرعي الذي لم يظهر ناقل عنه، كما مثّل المصنف.
قوله: (فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المخصِّص) هذا فيه بيان أن الاستصحاب يكون في جميع الأدلة، وهو استصحاب دليل الشرع حتى يرد الناقل، فيجب العمل ـ مثلاً ـ بعموم اللفظ وتطبيق الحكم على كل أفراده ولا يستثنى من ذلك شيء إلا بدليل يدل على التخصيص؛ لأن تعطيل العموم بدعوى احتمال وجود مخصص تعطيل للشريعة.
وكذلك يجب العمل بالنص حتى يرد الناسخ؛ لأن تعطيل النص بحجة البحث عن الناسخ تعطيل للحكم الشرعي، ومثله: أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته حتى يرد دليل الخصوصية.(1/281)
وهذا النوع من الاستصحاب معمول به بالإجماع، على أن من الأصوليين من نازع في تسمية ذلك استصحاباً. وقال: إن ثبوت الحكم فيها من ناحية اللفظ لا من جهة الاستصحاب[(788)]. وعليه يمكن أن نقول: إن الاستصحاب نوعان بهذا الاعتبار: حكمي ـ كما سيأتي ـ، ولفظي: وهو ما كان في الألفاظ كالعموم.
قوله: (والملك حتى يرد المزيل) أي: إذا ثبت ملكية عقار لأحد ـ مثلاً ـ فإن هذه الملكية تظل ثابتة في حقه ما لم يقم دليل على زوالها، كعقد بيع أو هبة أو وقف ونحو ذلك، وهذا هو استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه، فالملك وصف قائم، ومثله: استصحاب حكم الطهارة، وحكم الحدث، واستصحاب بقاء النكاح، وحياة المفقود، وغير ذلك، وهذا النوع لا نزاع في صحته[(789)]. ومن أدلة هذا النوع قوله صلّى الله عليه وسلّم لما شُكيَ إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» [(790)]. فبيّن له أن الأصل بقاء طهارته، لأن اليقين لا يزول بالشك.
قوله: (والنفي حتى يرد المثبت) أي: يحكم بالنفي حتى يرد ما يُثْبِتُ، مثل: أن الأصل براءة الذمة من شغلها بدين أو التزام، فيستصحب ذلك حتى يرد ما يثبت ما يَشْغَلُها، وهذا هو استصحاب البراءة الأصلية حتى يرد ما ينقل عنها.
قوله: (ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك) أي: إن الوجوب المذكور يصح أن يستدل على نفيه بالاستصحاب، وهو استصحاب العدم الأصلي، كما تقدم، وهذا النوع لا خلاف في اعتباره، ولذا عدَّه المصنف من الأدلة المتفق عليها، وهو المراد عند الإطلاق كما تقدم، ومن الأدلة على اعتباره قوله تعالى: {{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}} [البقرة: 275] فبيّنت الآية أن ما اكتسبوا من الأموال قبل تحريم الربا فهو على البراءة الأصلية[(791)].(1/282)
وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحاباً للإجماع، [فـ] فاسد عند الأكثرين، خلافاً لابن شاقلا، وبعض الفقهاء.
فهذه الأصول الأربعة لا خلاف فيها.
قوله: (وأمَّا استصحاب الإجماع) هذا من صور الاستصحاب ـ كما تقدم ـ، وهو استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع، وذلك بأن يُتَّفَقَ على حكم في حالة، ثم تتغير صفة المُجْمَعِ عليه فيختلفون فيه، فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال.
قوله: (في مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم...) إلخ، هذا مثال لاستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، وتوضيحه: أن يقول المستدل باستصحاب حكم الإجماع: إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة، فإن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها، وذلك استصحاب لصحة صلاته قبل رؤية الماء الثابتة بالإجماع، حتى يدل دليل على أن رؤية الماء في أثناء الصلاة مبطلة لها.
وهذا غير صحيح؛ لأن الإجماع إنَّما دل على الدوام فيها حال عدم الماء، أمَّا مع وجوده فلا إجماع حتى يقال باستصحابه، فصار موضع الخلاف غير موضع الوفاق، لاستحالة أن يختلفوا في الموضع الذي اتفقوا عليه، فلا يكون الإجماع حجة في الموضع الذي لا إجماع فيه.
قوله: (ففاسد عند الأكثرين) هذا جواب (أمَّا) الشرطية في قوله: (وأمَّا استصحاب الإجماع...) ، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والحنابلة والمالكية وبعض الشافعية، وهو أن استصحاب الإجماع ليس بحجة؛ وتقدم وجهه.
قوله: (خلافاً لابن شاقلا وبعض الفقهاء) هذا القول الثاني، وهو أن استصحاب الإجماع حجة يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حجة خاصة، وهو قول بعض الشافعية، وداود الظاهري، وابن شاقلا، وابن حامد من الحنابلة، واختاره الآمدي، وابن الحاجب، وابن القيم وغيرهم [(792)].
واحتجوا بأن الإجماع يحسم الخلاف ويقطعه، فيستحيل أن يقع الخلاف.(1/283)
وعليه فلا تبطل صلاة المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة؛ لأن الإجماع قد انعقد على صحة صلاته حالة الشروع، والدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلا أن يقوم دليل الانقطاع.
وتبطل عند الأكثرين ـ كما تقدم ـ ولا اعتبار بالإجماع على صحة صلاته قبل رؤية الماء، لأن الإجماع انعقد حالة العدم، لا حالة الوجود، ومن أراد إلحاق العدم بالوجود فعليه الدليل.
والقول بأنه ليس بحجة هو الراجح؛ لقوة مأخذ القائلين به، وضعف مأخذ الآخرين ـ والله أعلم ـ.
والحق أن اعتبار الاستصحاب دليلاً فيه تجوّز، لأن الدليل في الحقيقة هو ما ثبت به الحكم السابق، وما الاستصحاب إلا استبقاءُ دلالةِ هذا الدليل على حكمه.
وينبغي أن يعلم أن الاستصحاب آخر مدار الفتوى، لا يُفزع إليه إلا بعد فقد الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أو قول الصحابي ـ على القول بأنه حجة ـ كما سيأتي، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (أن الاستصحاب في كثير من المواضع من أضعف الأدلة)[(793)] ويشترط لصحة العمل به البحث الجاد عن الدليل الناقل ثم القطع أو الظن بعدمه وانتفائه[(794)].
قوله: (فهذه الأصول الأربعة لا خلاف فيها) وهي الكتاب، والسنة والإجماع، والاستصحاب؛ وهو استصحاب النفي الأصلي.
وقد تقدم أن اعتبار الاستصحاب دليلاً رابعاً مخالف ما عليه جمهور الأصوليين من اعتبارهم القياس. والله أعلم[(795)].
* * *
وقد اختلف في أصول أربعة أُخَرَ، وهي:
(شرع من قبلنا) وهو شرع لنا ما لم يرد نسخه في إحدى الروايتين، اختارها التميمي، وهي قول بعض الحنفية، وبعض الشافعية، والأخرى: لا، وهي قول الأكثرين.
الأصول المختلف فيها
1 ـ شرع من قبلنا
قوله: (وقد اختلف في أصول أربعة أُخَرَ) أي: اختلف في الاحتجاج بها وهي: شرع من قبلنا، وقول الصحابي الذي لا مخالف له، والاستحسان، والاستصلاح، وسيأتي بيانها على هذا الترتيب ـ إن شاء الله ـ.(1/284)
قوله: (وهي شرع من قبلنا) المراد به: الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمم السابقة على ألسنة رسله إليهم، مما جاء في التوراة والإنجيل وغيرهما.
وقد اختلف العلماء في علاقتها بشريعتنا، وهل هي حجة لنا؟ وقبل ذكر الأقوال لا بُدَّ من بيان موضع الخلاف؛ لأن شرع من قبلنا أنواع:
فالأول: أحكام شرعت للأمم قبلنا، وجاء في الكتاب أو السنة ما يدل على نسخها، فتكون خاصة بالأمم السابقة، ومن ذلك قوله تعالى في تحية أهل يوسف عليه السلام له: {{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}} [يوسف: 100] ، فهذا منسوخ بالنسبة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم[(796)]، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لما عظَّم الله عليها من حقه» [(797)].
ومن ذلك ـ أيضاً ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأحلت لي الغنائم، ولم تحلَّ لأحد قبلي...» [(798)].
وكذا ما كان من التشديد في الشرائع السابقة، وضعه الله تعالى عن هذه الأمة كقوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} ...} [الأنعام: 146] ، فهذا النوع ليس بتشريع لنا بلا خلاف، لقيام الدليل على ذلك.
الثاني: أحكام شرعت للأمم قبلنا، وجاء ما يدل على أنها شرع لنا، وذلك كالقصاص، فقد جاء ما يدل على أنه شرع لمن قبلنا، كما في قوله تعالى: {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}} [المائدة: 45] ، وبيّن سبحانه أنه شرع لنا بقوله: {{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}} [البقرة: 178] .
ومثله ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *}} [البقرة: 183] .
وهذا النوع حجة بلا خلاف؛ لوجود الدليل من الكتاب والسنة على أنه شرع لنا.(1/285)
الثالث: أحكام لم يرد لها ذكر في الكتاب ولا في السنة، كالأحكام المأخوذة من الإسرائيليات، فهذا النوع ليس بتشريع لنا إجماعاً، ولذا نهينا عن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام)، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: {{آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} ...} [المائدة: 59] الآية» [(799)].
الرابع: أحكام ورد لها ذكر في الكتاب أو السنة، لكن لم يأت ما يدل على أنها شرع لنا أو ليست بشرع لنا، وهذا النوع هو محل الخلاف بين أهل العلم، هل يُعَدُّ من أدلة التشريع أو ليس منها؟ على قولين:
قوله: (وهو شرع لنا ما لم يرد نسخه في إحدى الروايتين، اختارها التميمي...) هذا القول الأول في المسألة، وهو: أنه شرع لنا؛ لأنه ما ذكر في شرعنا إلا لنعتبر به، ونعمل بما يتضمن من أحكام، وهو شرع لنا من حيث إنه وارد في كتابنا أو سنة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، لا من حيث إنه كان شرعاً لمن كان قبلنا.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وبعض الشافعية، والأصح عن الإمام أحمد[(800)].
واستدلوا بأدلة منها:(1/286)
1 ـ قوله تعالى: {{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}} [الأنعام: 90] وهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذكر المرسلين بالاقتداء بهم، وهذا يقتضي أن شرعهم شرع لنا، لأن الأمر له أمر لأمته ما لم يرد تخصيص، والهدى يشمل الأصول وهو التوحيد، والفروع العملية، ولا يصح حملها على خصوص التوحيد، لما ورد عن مجاهد رحمه الله أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: من أين أخذت السجدة في ص؟ فقال: أوَما تقرأ: {{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} ...} [الأنعام: 84] إلى قوله: {{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}} [الأنعام: 90] ، فكان داود ممن أُمِرَ نبيكم صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام، فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(801)].
2 ـ قوله تعالى: {{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}} [الشورى: 13] والدين يشمل العقيدة والأحكام العملية.
3 ـ قوله تعالى: {{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} ...} [ص: 44] . وهذا في شريعة أيوب عليه السلام ولم ينسخ، ولم يقرر في شرعنا، قال ابن كثير رحمه الله: (وقد استدل كثير من الفقهاء بهذه الآية على مسائل في الأيمان وغيرها وأخذوا بمقتضاها)[(802)]، وهذا الدليل يُستأنس به، وإلا قد يكون من فروع الأصل.
4 ـ قضاء النبي صلّى الله عليه وسلّم في قصة الرُبَيِّع، كما سيأتي قريباً.
قوله: (والأخرى: لا، وهي قول الأكثرين) هذا القول الثاني ، وهو: أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس بشرع لنا إلا بنص يدل على أنه مشروع لنا، وهذا قول أكثر الشافعية، وهو قول الأشاعرة، والمعتزلة، ورواية عن أحمد[(803)]، واستدلوا بما يلي:(1/287)
1 ـ قوله تعالى: {{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ...} [المائدة: 48] فدلت الآية على اختصاص كل نبي بشريعة لا يشاركه فيها غيره.
2 ـ ما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه أتى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم فغضب، فقال: «أَمُتَهوِّكُون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوه، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلّى الله عليه وسلّم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني» [(804)].
فأنكر النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم على عمر رضي الله عنه لما رأى ما معه من التوراة، فدل على أنه ليس بشرع لنا.
والقول الراجح ـ إن شاء الله ـ هو الأول؛ لقوة أدلته؛ فإن القرآن إذا قصَّ علينا حكماً شرعياً سابقاً بدون نصٍّ على نسخه، أفاد ضمناً أنه تشريع لنا؛ لأنه حكم إلهي بَلَّغَهُ الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلينا، ولا دليل على نسخه.
ومما يؤيده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى في قصة الرُبَيِّع بالقصاص في السِّن، وقال: «كتاب الله: القصاص» [(805)]. وليس في كتاب الله تعالى «السنُّ بالسنِّ»، إلا ما حكى عن التوراة في قوله تعالى: {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ...} [المائدة: 45] . فدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم قضى بحكم التوراة، بدليل أنه ذكر الآية، ولو كان حكماً ابتدأه ما ذكرها، ولو لم يكن شرعاً لما قضى به، وهذا على أحد الأقوال في معنى الحديث[(806)].(1/288)
قال البخاري رحمه الله: باب قول الله تعالى: {{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}} إلى قوله: {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}} [المائدة: 45] ثم ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (لا يحل دم امرئ مسلم...)[(807)].
قال الحافظ ابن حجر: (والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب، فالحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام، فهو أصل في القصاص في القتل العمد)اهـ[(808)].
ومما يؤيده ـ أيضاً ـ أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم استدل على وجوب قضاء الصلاة المنسية عند ذكرها بقوله تعالى: {{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي *}} [طه: 14] [(809)]. والخطاب فيها لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ على ما دل عليه سياق القرآن.
وأمَّا دليل أصحاب القول الثاني، فإن قوله تعالى: {{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}} [المائدة: 48] لا يدل على عدم المشاركة؛ لأن المشاركة في بعض الشريعة لا تمنع نسبتها إلى المبعوث بها باعتبار أن معظمها خاص به.
أمَّا غضبه صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ عمر رضي الله عنه شيئاً من التوراة، فهو لدرء الفتنة، لا سيما وأن التوراة قد غُيِّرت وحُرِّفت، ثم الخلاف إنما هو فيما جاء عنهم في الكتاب والسنة، والله أعلم[(810)].(1/289)
والظاهر أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن القائلين بشرع من قبلنا لا يعتبرونه دليلاً مستقلاً، وإنما هو راجع إلى الكتاب إذا قصَّه الله علينا من غير إنكار، أو إلى السنة إذا قصَّه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من غير إنكار، ومن لا يرى حجيته فإنه يعمل به، لوروده في الكتاب والسنة، لا لأنه شرع لمن قبلنا، والله أعلم.
* * *
و (قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف) فرويَ أنه حجة، يقدم على القياس، ويُخَصُّ به العموم ، وهو قول مالك، وقديم قولي الشافعية، وبعض الحنفية، ويروى خلافه، وهو قول عامة المتكلمين، وجديد قولي الشافعي واختاره أبو الخطاب، وقيل: الخلفاء الأربعة، وقيل: أبو بكر وعمر.
……2 ـ قول الصحابي
قوله: (وقول الصحابي) أي: الأصل الثاني من الأصول المختلف فيها: قول الصحابي، وقد تقدم تعريف الصحابي.
والمراد بقول الصحابي: ما أُثر عن أحد صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، لا نصّ فيه من الكتاب أو السنة.
قوله: (إذا لم يظهر له مخالف) هذا فيه تحرير محل النزاع، وهو أن الخلاف بين العلماء إنما هو في قول الصحابي الذي لم يثبت فيه اشتهار، ولم يظهر له مخالف من الصحابة، وكان ذلك في المسائل الاجتهادية، وهذا أكثر ما يوجد عن الصحابة رضي الله عنهم.
فإن اشتهر القول بين الصحابة ولم يظهر من أحد إنكار له، ولا موافقة، فهذا هو الإجماع السكوتي، وتقدم الكلام فيه، وإن ظهر له مخالف من الصحابة لم يكن قوله حجة عند جميع الفقهاء، فإن وجد مرجح لأحدهما من كتاب أو سنة أو قياس أو غير ذلك كان الاحتجاج بالدليل، لا بقول الصحابي، وإن كان قول الصحابي فيما لا مجال للاجتهاد فيه فله حكم الرفع.(1/290)
ومن الأمثلة على ذلك[(811)]: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أنَّ الله قد أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير» [(812)]. فهذا روي مرفوعاً وموقوفاً. فإن كان مرفوعاً فالأمر واضح، وإن كان موقوفاً على ابن عباس فهو قول صحابي اشتهر، ولم يعلم له مخالف من الصحابة، فيكون حجة، لا سيما وقد ورد ما يؤيده من الأحاديث الصحيحة، كقوله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة: «افعلي ما يفعله الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» [(813)]. ولا يقال: إن علة النهي عن طوافها أنَّ الحائض لا تدخل المسجد؛ فإنه قال: (حتى تطهري) ، وفي رواية: (حتى تغتسلي) . ولو كان المراد ما ذكر، لقال حتى ينقطع عنك الدم، والله أعلم.
قوله: (فروي أنه حجة) هذا هو القول الأول ، وهو أن قول الصحابي حجة شرعية مطلقاً، سواء كان من الخلفاء الأربعة أو من غيرهم. وهذا قول الشافعي في القديم، وقال به الإمام مالك، وجمهور أصحابه، وجمهور أهل الحديث، ونقل عن أكثر الحنفية، كالرازي وغيره، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وبه قال أكثر أصحابه، وهو مقتضى أجوبته وتصرفاته في كثير من المسائل، قال ابن القيم: (الأصل الثاني من أصول فتاوى الإمام أحمد: ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يُعرف له مخالف منهم فيها، لم يَعْدُ إلى غيرها)[(814)].
قوله: (يقدم على القياس) أي: إذا خالف قول الصحابي القياس فإن قول الصحابي يقدم، لأنه إذا خالف القياس دل على أنه توقيف من صاحب الشرع، فيكون حجة لا لذاته، بل لدلالته على الحجة.
ومثاله: ما نقله أبو طالب عن الإمام أحمد فيمن تسحر بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم ثم علم، يقضي يوماً مكانه، وإن أكل ناسياً فلا شيء عليه، فقيل له: فإذا لم يعلم فهو كالناسي؟ فقال: كذا القياس، ولكن عمر أكل في آخر النهار يظنه ليلاً، فقال: أقضي يوماً مكانه[(815)].(1/291)
فقدّم الإمام أحمد قول الصحابي على القياس.
قوله: (ويخص به العموم) أي: إن النص العام يُخَصُّ بقول الصحابي، وقد تقدم ذلك في باب «التخصيص»، وذكرتُ أن الراجح أن قول الصحابي لا يُخَصُّ به العموم، إلا إذا كان له حكم الرفع.
قوله: (ويروى خلافه...) هذا القول الثاني ، وهو أن قول الصحابي ليس بحجة، وهو قول الشافعي في الجديد، وأومأ إليه أحمد، واختاره أبو الخطاب [(816)]. وهو اختيار الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، كما اختاره الشوكاني، ونسبه إلى الجمهور[(817)].
على أن ابن القيم رحمه الله نفى نسبة هذا القول إلى الشافعي، وأيَّد ذلك بأدلة قوية لا تقبل الشك[(818)].
قوله: (وقيل: الخلفاء الأربعة) هذا القول الثالث ، وهو التفصيل، وهو أن الحجة قول الخلفاء الأربعة دون غيرهم.
قوله: (وقيل: أبو بكر وعمر) هذا القول الرابع ، وهو التفصيل أيضاً، وهو أن الحجة قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما دون غيرهما.
استدل القائلون بأنه حجة مطلقاً بأن الله تعالى أثنى على الصحابة، فقال تعالى: {{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}} [آل عمران: 110] ، ومدحهم الله بقوله سبحانه: {{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}} [التوبة: 100] . وأَخْذُ قولهم على أنه حجة نوع من الاتّباع.(1/292)
ثم إن من عَدَّله الله ومدحه فإن العقل لا يقبل مخالفة قوله، والصحابة أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهم شاهدوا مواضع التنزيل، ولهم من الإخلاص والعقل والاتباع للهدي النبوي ما يجعلهم أقدر من غيرهم على معرفة مقاصد الشرع، ولا يبعد أن تكون أقوالهم سنة نبوية، فإن الصحابي إما أن يكون سمعها من النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أو سمعها ممن سمعها منه، أو فهمها من آية، ولا يقال لو كان حديثاً لرفعه، فإنه لا يلزم، ويحتمل أنه نقله، ولم يبلغنا، أو ظَنَّ نَقْلَ غيرِه له فاكتفى به[(819)].
واستدل القائلون بعدم حجيته: بأن الصحابة غير معصومين عن الخطأ كسائر المجتهدين، فقولهم يكون متردداً يبن الخطأ والصواب، ومحتملاً كقول غيرهم من التابعين المجتهدين، ويدل على ذلك اختلافهم، كما في مسألة الجد مع الإخوة.
واستدل أصحاب القول الثالث: بحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ...» [(820)]. وهذا يتناول ما أفتوا به وسنّوه للأمة، ومعلوم أنهم لم يسنّوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد، فعلم أن المراد: أن ما سَنَّه كل واحد منهم في وقته فهو من سنّة الخلفاء الراشدين.
واستدل أصحاب القول الرابع: بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر» [(821)].
والأظهر ـ والله أعلم ـ أن قول الصحابي ليس حجة ملزمة، ولكنه قول يؤخذ به حيث لا دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو غيرها مما يعتبر، لأن اقتفاء أثر الصحابة والأخذ بما أداه إليه اجتهادهم أولى من اجتهاد من جاء بعدهم؛ لأن قولهم أقرب إلى الصواب لبركة الصحبة، والتخلق بالهدي النبوي، وهم حملة الشرع، وأئمة الأمة، وأصفاها ذهناً.(1/293)
وقد دل على ذلك قول الإمام الشافعي رحمه الله في حكايته مع مُنَاظِرِه: (قال: أفرأيتَ إذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلافاً، أتجد لك حجة باتباعه في كتاب أو سنة أو أمر أجمع عليه الناس فيكون من الأسباب التي قلتَ بها خبراً؟ قلت له: ما وجدنا في هذا كتاباً ولا سنة ثابتة، ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة ويتركونه أخرى، ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم، قال: فإلى أيّ شيء صرتَ من هذا؟ قلتُ: إلى اتباع قول واحد إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً في معناه يُحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس، وقلَّ ما يوجد من قول الواحد منهم لا يخالفه غيره من هذا)[(822)].
والإمام أحمد رحمه الله شديد التمسك بما كان عليه الصحابة، شديد الاتباع لهم، وقد روى عنه أبو يعلى في (الطبقات) عن عبدوس بن مالك قال: سمعت أبا عبد الله، أحمد بن حنبل يقول: (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والاقتداء بهم، وترك البدع...)[(823)].
ثم إن القائلين بحجية قول الصحابي اشترطوا لذلك شرطين:
1 ـ ألاَّ يعارضه ما هو أقوى منه من نص أو ما في معناه.
2 ـ ألاَّ يخالفه صحابي آخر.
ويندر أن يتحقق هذان الشرطان في قول الصحابي وفتواه، وعلى هذا فتضيق دائرة الخلاف من حيث النتائج، أما الاختيار من أقوالهم وعدم الخروج عنها جملة، وتقليد بعضهم فهذا باب واسع. والله أعلم[(824)].
فإن اختلف الصحابة على قولين لم يجز للمجتهد الأخذ بأحدهما إلا بدليل، وأجازه بعض الحنفية، والمتكلمين ما لم يُنْكَرْ على القائل قوله.(1/294)
قوله: (فإن اختلف الصحابة على قولين لم يجز للمجتهد الأخذ بأحدهما إلا بدليل) أي: إذا اختلف الصحابة في مسألة على قولين لم يجز للمجتهد الأخذ بأحد القولين من غير دليل، وذلك لأن قولي الصحابة ليسا بأقوى من دليلين في الكتاب أو السنة تعارضا، ولو تعارض دليلان من الكتاب أو السنة لا يؤخذ بأحدهما دون دليل مرجح فكذا هنا، ذلك أن أحد القولين خطأ، ولا طريق إلى تمييز الصواب من الخطأ إلا بدليل.
يقول الشافعي رحمه الله: (وأقوال الصحابة إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب والسنة أو الإجماع أو ما كان أصح في القياس)[(825)].
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا اختلف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة)[(826)].
قوله: (وأجازه بعض الحنفية) هذا القول الثاني في المسألة، وهو أنه يجوز الأخذ بأحد قولي الصحابة من غير دليل.
قوله: (ما لم يُنْكَرْ على القائل قوله) أي: بشرط ألا ينكر ذلك القول المأخوذ به على قائله.
واحتج هؤلاء بما رواه ابن أبي شيبة بسنده: أن امرأة غاب عنها زوجها، ثم جاء وهي حامل، فرفعها إلى عمر، فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على الذي في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثنيتان، فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر[(827)].
وجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه رجع إلى قول معاذ رضي الله عنه في هذه القضية، فأخّر رجمها حتى تضع، بدون أن يستعلم رأي غيره.
والقول الأول أرجح؛ لقوة مأخذه، وأمَّا دليل المجيزين فإن عمر رضي الله عنه رجع إلى قول معاذ رضي الله عنه لما بان له الحق، لا أنه أخذ بقوله تقليداً وتشهياً.(1/295)
ومن الأمثلة على ذلك: أن عمر وعلياً رضي الله عنهما يريان قتل الجماعة بالواحد، وورد أن الزبير لا يرى قتل الجماعة بالواحد، كا نقله ابن المنذر، فيترجح مذهب الأكثرين منهم؛ لقوله تعالى: {{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}} [البقرة: 179] [(828)]، والله أعلم.
* * *
و(الاستحسان) وهو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص.
قال القاضي: الاستحسان مذهب أحمد رحمه الله، وهو أن تترك حكماً إلى حكم هو أولى منه، وهذا لا ينكره أحد، وقيل: دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يمكنه التعبير عنه، وليس بشيء. وقيل: ما استحسنه المجتهد بعقله، وحُكي عن أبي حنيفة أنه حجة، كدخول الحمام بغير تقدير أجرة وشبهه.
3 ـ الاستحسان
قوله: (والاستحسان) أي: والأصل الثالث من الأصول المختلف فيها: الاستحسان.
وهو لغةً: عَدُّ الشيء حسناً. تقول: استحسنت كذا، أي: اعتقدته حسناً. ففي الأمور الحسية يقال: استحسن الطعام أو الشراب، وفي الأمور المعنوية يقال: استحسن هذا الرأي، أو هذا القول، بمعنى: عَدَّهُ حسناً[(829)].
قوله: (وهو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص) هذا تعريف الاستحسان اصطلاحاً، وهو من أحسن التعاريف وأجودها، كما قال الطوفي رحمه الله[(830)]؛ لأنه يشمل جميع أنواعه، ولأنه يبين أساس الاستحسان ولُبَّه، وهذا التعريف يدل على أمرين:
الأول: أن حقيقة الاستحسان وأساسه العدول عن حكمٍ اقتضاه دليل شرعي في واقعة من الوقائع إلى حكم آخر فيها.
الثاني: أن هذا العدول لا بُدَّ أن يستند إلى دليل شرعي، اقتضى هذا العدول من الكتاب أو السنة، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين: وجه الاستحسان، أو سند الاستحسان.(1/296)
فإذا عرض للمجتهد واقعة يقتضي عموم النص أو القياس حكماً فيها، وظهر للمجتهد أن لهذه الواقعة ظروفاً وملابسات خاصة، تجعل تطبيق النص العام يُفَوِّتُ المصلحة، أو يؤدي إلى مفسدة، فَعُدِلَ فيها عن هذا الحكم إلى آخر اقتضاه الدليل، فهذا العدول هو الاستحسان.
فالاستحسان عند التحقيق هو ترجيح دليلٍ على دليل يعارضه، بمرجح معتبر شرعاً، لا بمجرد الرأي والهوى.
وينبغي أن نعلم أنَّ الاستحسان ليس دليلاً شرعياً مستقلاً بذاته، دون مستند من الأدلة الشرعية المتفق عليها من نص أو إجماع أو قياس، وما نسب إلى الشافعي رحمه الله من إنكار الاستحسان وإبطاله[(831)]، فالظاهر أنه لا يريد به هذا المعنى، وإنَّما مراده الاستحسان الذي لا يستند إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس؛ فإنَّ من فعل ذلك فهو المشرِّع لذلك الحكم، حيث لم يأخذه من أدلة الشرع[(832)].
وعليه فالاستدلال بالاستحسان ليس خروجاً عما شرعه الله من الأدلة؛ إذ مقتضاه العدول إلى دليل مما شرعه الله أقوى من الدليل المعدول عنه.
وعلى هذا فذكر الاستحسان في باب مستقل لا فائدة فيه أصلاً، لأنه إن كان راجعاً إلى الأدلة المتقدمة وأنه من باب ترجيح الأدلة بعضها على بعض، فهو تكرار، وإن كان خارجاً عنها، فليس من الشرع في شيء، بل هو من التقوّل على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة، وبما يضادها أخرى، إلا أن يقال: إنهم خصوه باسم معين وجعلوه دليلاً؛ لعدم ظهور وجه الترجيح على الدليل المعارض له، واعتماده في الغالب على المصلحة التي يدل عليها العقل، ولهذا نرى شيخ الإسلام ابن تيمية يُرجع الاستحسان المختلف فيه إلى تخصيص في بعض المواضع عن الاطراد، لما يؤدي إليه اطرادها فيه لحصول مفسدة أكبر، أو فوات مصلحة أهم، وعلى هذا فليس كل عدول عن مقتضى دليل لما هو أقوى منه من الأدلة داخل في الاستحسان المختلف[(833)].(1/297)
ومن أمثلته: ما لو رأى شاة غيره أشرفت على الهلاك فذبحها حفاظاً لماليتها عليه حتى لا تذهب ضياعاً، فإن القياس يوجب عليه الضمان، وفي الاستحسان لا يضمن، لأنه مأذون له في الذبح دلالةً، وقد وصف ابن القيم الفقهاء المانعين من الاستحسان بالجمود عندما قالوا: هذا تصرف في ملك الغير، ووجه الرد عليهم: أن التصرف إنَّما حرمه الله لما فيه من الإضرار، وترك التصرف هاهنا هو الإضرار[(834)].
ومن أمثلته ـ أيضاً ـ العدول في عام المجاعة عن مقتضى العموم في قوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} ...} [المائدة: 38] إلى عدم القطع تخصيصاً لهذه الحالة من العموم، كما ذهب إليه عمر رضي الله عنه[(835)] فهذا عدول عن مقتضى نص عام إلى حكم خاص.
ومن أمثلته ـ أيضاً ـ: العدول عن حكم كلي إلى حكم استثنائي، مثل العدول في الأكل ناسياً في رمضان عما تقتضيه القاعدة الكلية من فساد الصوم، لكونه فسد ركنه وهو الإمساك، فعدل عن ذلك إلى ما يقتضيه الدليل الخاص وهو: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتمّ صومه، فإنَّما أطعمه الله وسقاه» [(836)]. حيث دلَّ على عدم فساد صوم من أكل ناسياً، وإعطائه حكماً غير الحكم المستفاد من القاعدة الكلية، وهذا استحسان سنده النص.
ومن الأمثلة: عقد الاستصناع، وهو أن يطلب شخص من آخر أن يصنع له شيئاً معيناً نظير مبلغ من المال، فالأصل عدم جواز هذا العقد؛ لأنه عقد على معدوم، وقد دل على عدم جوازه قوله صلّى الله عليه وسلّم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» [(837)]، لكن جاز ذلك استحساناً لجريان عمل الناس على ذلك في كل زمان ومكان من غير نكير، وهذا استحسان سنده الإجماع، ورفع الحرج عن الأمة.(1/298)
ومن الأمثلة ـ أيضاً ـ ما قيل في استحسان شراء المصحف وكراهة بيعه، فمن كره بيعه استحساناً، قال: إن بيعه علامة على الزهد فيه، والرغبة في الثمن، ومن لم يكره بيعه، قال: في بيعه تمكين للاستفادة منه وتيسيرها، ونشره بين الناس طباعة وبيعاً[(838)]، وهذا استحسان سنده المصلحة.
واعلم أن الاستحسان غير القياس؛ لأن القياس إلحاق المسألة بنظائرها. والاستحسان في غالب صوره قَطْعُ المسألة عن نظائرها، وإفرادُها بحكم خاص لدليل من الأدلة، ثم إن القياس يكون في المسائل التي لا دليل عليها غيره، أمَّا الاستحسان فيكون في المسائل التي تعارض فيها دليلان.
قوله: (قال القاضي: الاستحسان مذهب أحمد رحمه الله وهو أن تترك حكماً إلى حكم هو أولى منه) القائل هو القاضي يعقوب[(839)]. وقد أطلق المصنف هنا لقب القاضي. والمعروف أنه إذا أُطلق لقب القاضي عند الحنابلة، فالمراد به: أبو يعلى، وقد ذكر هذا القول ابن قدامة منسوباً إلى القاضي يعقوب، وهو من تلاميذ أبي يعلى[(840)].
قوله: (وهذا لا ينكره أحد) هذا من كلام المصنف، وليس من كلام القاضي، وهو كلام ابن قدامة في «الروضة»[(841)]. والمعنى: أن الاستحسان بهذا المعنى متفق عليه، وليس مذهب أحمد فقط.
قوله: (وقيل: دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يمكنه التعبير عنه) هذا تعريف آخر للاستحسان، وقد ذكر البيضاوي وابن السبكي قريباً منه[(842)].
قوله: (وليس بشيء) أي: إن هذا التعريف ساقط، لا يلتفت إليه؛ لأن المجتهد الذي يبلغ من العِيِّ[(843)] أن ينقدح في نفسه دليل، ولا يستطيع التعبير عنه كيف يقبل اجتهاده، وهو بهذه الحال التعسة من العجز عن التعبير عما في نفسه[(844)]؟!(1/299)
قوله: (وقيل: ما استحسنه المجتهد بعقله) هذا تعريف ثالث، وقد ذكره الغزالي[(845)]، وبطلانه ظاهر، لأن المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرد عقله في تحسين شيء من غير نظر في الأدلة، فهو كاستحسان العامي، وأي فرق بين العامي والعالم غير معرفة الأدلة الشرعية والنظر فيها؟!
قوله: (وحكي عن أبي حنيفة أنه حجة) أي: الاستحسان بهذا المعنى حكي عن أبي حنيفة أنه حجة، تمسكاً بقوله تعالى: {{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}} [الزمر: 18] ، ووجه الدلالة: ورود الآية في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول[(846)].
قوله: (كدخول الحمام بغير تقدير أجرة) أي: إن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة للماء المصبوب، ولا تقدير لمدة المقام فيه، فهذا استحسان واقع، فيدل على الجواز قطعاً. ويكون استحسان ذلك هو الدليل على صحته.
قوله: (وشبهه) أي: وشبه ذلك، مثل: استحسان شرب الماء من أيدي السقَّائين من غير تقدير الماء ولا العوض.
وفي نسبة هذا القول إلى أبي حنيفة رحمه الله نظر؛ إذ كيف يستحسن أبو حنيفة في شريعة الله بمجرد الهوى والتشهي، فإن هذا لا يُظَنُّ بواحد من العلماء فضلاً عن إمام من أئمة المسلمين[(847)]، إلا أن يكون مراده ما يستحسنه المجتهد بعقله لوجود المصلحة المرسلة التي تندرج تحت أصل كلي فيه، فيكون من باب التخصيص بالمصلحة المرسلة. وأما الآية فليس فيها دليل على وجوب اتباع أحسن القول، وهو محل النزاع[(848)].
وما ذكروه ليس من باب الاستحسان، وذلك لعموم مشقة التقدير؛ إذ يشق جداً أن يجعل في الحمام صاع يقدر به الماء، أو ساعة يقدر بها الزمان، ونحو ذلك، فلما تعذر تقدير الزمان والماء تعذر تقدير الأجرة والثمن، وصار الحمامي يُعطى ما يتفقان عليه.
أو يقال: ليس الاستحسان هو الدليل على صحة ذلك، بل الدليل جريان ذلك في زمن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم مع علمه وتقريره لهم عليه. والله أعلم[(849)].(1/300)
* * *
و(الاستصلاح) وهو اتباع المصلحة المرسلة من جلب منفعة أو دفع مضرة من غير أن يشهد لها أصل شرعي و(هي) إما ضروري كقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي حفظاً للدين، والقصاص حفظاً للنفس، وحد الشرب حفظاً للعقل، وحد الزنا حفظاً للنسب، والقطع حفظاً للمال، فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة، والصحيح أنه ليس بحجة.
4 ـ الاستصلاح
قوله: (والاستصلاح) أي: والأصل الرابع من الأصول المختلف فيها: الاستصلاح، وهو من أهم هذه الأصول الأربعة من حيث دقة البحث وسعة الجوانب، وشدة الحاجة المتجددة، وحقيقة المصلحة[(850)].
والاستصلاح لغةً: طلب الإصلاح، مثل: الاستفسار طلب التفسير.
قوله: (وهو اتباع المصلحة المرسلة) هذا تعريف الاستصلاح عند الأصوليين، والمصلحة في اللغة: على وزن مفعلة، وهي كالمنفعة وزناً ومعنى، فهي مصدر بمعنى الصلاح، كالمنفعة بمعنى النفع، أو هي اسم للواحدة من المصالح، وقد ذكر ابن منظور الوجهين فقال: (والمصلحة: الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح)[(851)].
والمرسلة: من الإرسال بمعنى الإطلاق، أي: أطلقها الشرع، فلم يقيدها باعتبار ولا بإلغاء، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
والمراد باتباعها: بناء الأحكام الفقهية على مقتضى المصالح المرسلة التي تحقق نفعاً للعباد، مما يلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ودلت نصوصه وأصوله على لزوم مراعاتها والنظر إليها.
قوله: (من جلب منفعة أو دفع مضرة) هذا تعريف المصلحة اصطلاحاً، فهي في الأصل عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة.
وهذا تعريف عام للمصلحة التي لا خلاف فيها بين الفقهاء؛ إذ جميعهم يؤمنون بأن الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ: (بعثت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها)[(852)].
وجميع شرائع الدين ترجع إلى تحقيق ثلاث مصالح:(1/301)
الأولى: درء المفاسد، وشُرِعَ لها حفظ (الضروريات) وهي ستة: الدين، والنفس، والمال، والنَّسل، والعِرض، والعقل، وقد انتقد شيخ الإسلام ابن تيمية من يقصر المصالح في هذه الضروريات بدفع ما يفسدها فحسب، وإغفال حفظها بشرع ما ينميها ويكملها من العبادات الباطنة والظاهرة[(853)]، ولعله يأتي لذلك زيادة ـ إن شاء الله ـ.
الثانية: جلب المصالح، وشُرِعَ لها ما يرفع الحرج عن الأمة في العبادات والمعاملات وغيرها وهي المعبّر عنها بـ«الحاجيات».
الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق وأحسن العادات، وهذا ما يعرف بـ«التحسينيَّات».
يقول العزُّ بن عبد السلام رحمه الله: (الشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}} فتأمل وصية الله بعد ندائه، فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه، أو شراً يزجرك عنه، أو جمعاً بين الحث والزجر، وقد أبان الحق تبارك وتعالى في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد، حثاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثاً على إتيان المصالح)[(854)].
قوله: (من غير أن يشهد لها أصل شرعي) هذا قيد في التعريف يفيد أن المصلحة المرسلة لم يشهد لها نص معين من الشرع باعتبار ولا إلغاء، ولكنها تفهم من مقاصد الشريعة وعموماتها، فلذلك سميت مصلحة مرسلة.
وعبارة المصنف تفيد أن المصلحة باعتبار شهادة الشرع لها ثلاثة أقسام:
1 ـ ما شهد الشرع باعتبارها، فهي مصلحة، لكن ليست مرسلة.
2 ـ ما شهد الشرع بإلغائها.
3 ـ ما سكت عنها الشرع، فلم يرد فيها دليل خاص باعتبار ولا إلغاء، وهذه هي المرسلة.(1/302)
فالقسم الأول: هي المصلحة المعتبرة، ولا خلاف في صحتها؛ لأن الشرع شهد لها بالاعتبار بدليل معين من نص أو إجماع أو قياس، كالاستدلال على إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث بقوله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}} [النساء: 11] .
وكدلالة قوله تعالى: {{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}} [البقرة: 222] على وجوب اعتزال النساء حال النفاس، أو حال النزيف؛ قياساً على وجوب الاعتزال في الحيض[(855)].
أمَّا القسم الثاني: فهي الملغاة، وهي مقابلة: لـ«المصلحة المعتبرة» فهذه وإن سميت مصلحة إلا أن الشارع ـ وهو أعلم ـ ألغى اعتبارها، وهذه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يجوز بناء الأحكام عليها، كقول من يقول: إن الموسر كالمَلِكِ ونحوه، يتعين عليه الصوم في كفارة الوطء في رمضان، ولا يخير بينه وبين العتق والإطعام؛ لأن فائدة الكفارة الزجر عن الجناية على العبادة، ومثل هذا لا يزجره العتق ولا الإطعام لكثرة ماله، فيسهل عليه أن يعتق رقاباً في قضاء شهوته، وقد لا يسهل عليه صوم ساعة، فيكون الصوم أزجر له، فيتعين.
فهذا وإن كان مصلحة إلا أنه مُلْغَى غير معتبر؛ لأنه تغيير للشرع بالرأي وهو غير جائز، فإنه عُلم من الشرع وجوب تقديم العتق على من قدر عليه، ولو أراد الزجر بما تقدم لنبَّه عليه.
ومثاله ـ أيضاً ـ ما لو قال قائل: تحرم زراعة العنب، لمصلحة منع عصره واتخاذه خمراً، وتجوز التجارة بالخمر قصداً لما فيها من المنافع، ويسوى بين الذكر والأنثى في الميراث، لتوهم المصلحة في ذلك، لحاجة الأنثى، ولتساويهما في القرابة، فهذا كله باطل؛ لدلالة الشرع على بطلانه بالنص والإجماع[(856)].(1/303)
أمَّا القسم الثالث: وهي ما سكت عنها الشرع وليس لها نظيرٌ منصوصٌ على حكمه حتى نقيسها عليه، وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة أو يدفع مفسدة، فهذا الأمر المناسب يسمى: المصلحة المرسلة. ووجه أنه مصلحة: هو أن بناء الحكم عليه مظنة دفع ضرر، أو جلب نفع، وإنما سميت مرسلة: لما تقدم من أن الشرع أطلقها، فلم يقيدها باعتبار ولا إلغاء.
قوله: (وهي) أي: المصلحة من حيث هي ثلاثة أضرب، ومراد المصنف تقسيم المصلحة من حيث ما تحققه من مقصود شرعي.
قوله: (إمَّا ضروري) هذا الضرب الأول ، من المصالح، وهي المصالح الضرورية، وهو ما تصل الحاجة إليه إلى حد الضرورة [(857)] بمعنى أن ذلك من ضرورات سياسة العالم وبقائه وانتظام أحواله، ولا غنى للعباد عنه، وهو ما عرف التفات الشرع إليه والعناية به، كالضرورات الخمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، وزاد بعضهم العرض، كما تقدم.
قوله: (كقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي حفظاً للدين) أي: إن الأولى من الضروريات حفظ الدين، وذلك بقتل الكافر، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته. قال تعالى: {{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}} [البقرة: 193] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من بدل دينه فاقتلوه» [(858)].
قوله: (والقصاص حفظاً للنفس) هذه الضرورة الثانية ، وهي: حفظ النفس، وذلك بمشروعية القصاص. قال تعالى: {{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}} [البقرة: 179] .
قوله: (وحد الشرب حفظاً للعقل) هذه الضرورة الثالثة ، وهي: حفظ العقل، وذلك بتحريم المسكرات ونحوها، قال تعالى: {{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ}} [المائدة: 91] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» [(859)]، وبمشروعية حد الشرب، كما ثبت في السنة.(1/304)
قوله: (وحد الزنا حفظاً للنسب) هذه الضرورة الرابعة ، وهي: حفظ النسب، وذلك بوجوب حد الزنا. قال تعالى: {{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}} [النور: 2] ، وكذا حفظ العرض، وذلك بوجوب حد القذف كما قال تعالى: {{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}} [النور: 4] .
قوله: (والقطع حفظاً للمال) هذه الضرورة الخامسة ، وهي: حفظ المال، وذلك بقطع السارق وتضمينه، وتضمين الغاصب، قال تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام...» [(860)].
وقد قصر المصنف ـ كغيره من الأصوليين ـ المحافظة على هذه الضرورات على الحدود والقصاص، بينما يرى الشاطبي، وتبعه ابن عاشور ـ رحمهما الله ـ أن الشرع حافظ عليها بمراعاة أمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، ومَثَّلَ لذلك بالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وما أشبه ذلك، فإنها تهدف إلى حفظ الدين من جانب الوجود، وما شرعه الإسلام من تناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات يهدف إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود ـ أيضاً ـ.
وثانيهما: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشرع الحدود والعقوبات[(861)].
قوله: (فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة) اختلف العلماء في هذا الضرب من المصلحة هل هو حجة؟ على قولين:
فذهب مالك، وأبو حنيفة[(862)]، وبعض الشافعية[(863)]، والحنابلة إلى أن هذا النوع من المصلحة حجة. واستدلوا بما يلي:(1/305)
1 ـ أن الشريعة ما وُضِعَتْ إلا لتحقيق مصالح العباد في الدارين، والأخذ بالمصلحة المرسلة يتفق وطبيعة الشريعة والأساس الذي قامت عليه والغرض الذي جاءت من أجله.
2 ـ أن جزئيات مصالح العباد لا تتناهى، فإنها تتغير باختلاف الظروف والأحوال والأزمان، فما لم يرد في الكتاب والسنة منها، فالأصل أن تراعى فيه قواعد الإسلام من جلب المصالح ودفع المفاسد.
3 ـ أن الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم بنوا اجتهادهم على رعاية المصلحة، وبناءُ الأحكام عليها من غير نكير دليلٌ على صحة هذا الأصل، وصواب هذا الاتجاه.
وستأتي أمثلة على ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
لكن ذلك خاص بالمعاملات، وما يدرك وجهه مما يتعلق بمصالح العباد، أمَّا العبادات فلا يجري فيها العمل بـ(المصلحة المرسلة) اتفاقاً؛ لأن الأمر فيها مبني على النص، فالأصل فيها التوقيف[(864)].
قوله: (والصحيح أنه ليس بحجة) هذا القول الثاني: وهو أن هذا الضرب ليس بحجة، ونسبه صاحب «شرح التحرير» إلى الأكثر[(865)]، ودليلهم أن الشريعة قد راعت مصالح العباد في تشريعها، فما غفلت عن مصلحة ولا تركتها بدون تشريع، فالقول بالمصلحة المرسلة استدراك على الشرع، وفتح للباب، ليقول من شاء ما شاء.
والقول الأول أرجح؛ لقوة مأخذه، على أن الذين أنكروا حجية المصلحة المرسلة قد جاء في فقههم اجتهادات قامت على أساس هذه المصلحة، ولهذا ذكر القرافي رحمه الله أن عامة العلماء يحتجون بالمصلحة المرسلة التي من هذا القسم[(866)]. وقال لما ذكر المصالح المرسلة: (والمشهور اختصاص المالكية بها، وليس كذلك، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك)[(867)].(1/306)
أمَّا ما استدل به أصحاب القول الثاني فهو وإن كان مقبولاً في ظاهره، لكنه ضعيف عند التأمل؛ إذ لا ريب أن الشريعة قد راعت مصالح العباد، وشرعت من الأحكام ما يحقق ذلك، ولكنها لم تنص على جميع جزئيات المصالح على امتداد الزمان؛ لأنها تتغير وتتبدل، وإنَّما نصت على بعضها واستفيد الآخر من مقاصد الشريعة وعموماتها، وهذا ثابت لا يتغير.
هذا وقد ذكر المالكية ـ وهم أكثر الفقهاء أخذاً بالمصالح ـ شروطاً وضوابط للاحتجاج بالمصلحة المرسلة. وهذه الشروط هي:
1 ـ أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشرع، فلا تخالف أصلاً من أصوله، ولا تنافي دليلاً من أدلة أحكامه، بل تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها، فلا يترك تحديد ما هو مصلحة أو مفسدة للبشر؛ لقصورهم عن ذلك.
2 ـ أن تكون معقولة في ذاتها تتلقاها العقول السليمة بالقبول؛ لكونها جرت على الأوصاف المناسبة المعقولة.
3 ـ أن يكون الأخذ بها لحفظ ضروري، كحفظ الدين والأنفس والأموال، أو لرفع حرج؛ لأن الله تعالى يقول: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] .
وهذه شروط معقولة تجعل الأخذ بهذا الأصل من الأصول صحيحاً، لا يخضع لأحكام الأهواء والشهوات باسم المصالح[(868)].
وقد ورد أن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا بهذا المسلك وبنوا الأحكام عليه[(869)] فجمعوا القرآن في مصحف واحد، وهذا لا نص عليه، وإنَّما اقتضته مصلحة حفظ الدين، كما قرروا تضمين الصنّاع مع أن الأمين لا يضمن، لكن لمصلحة حفظ أموال الناس وعدم التساهل فيها.
ومن أمثلة المصالح ـ أيضاً ـ أن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على جلد شارب الخمر ثمانين جلدة تعزيراً؛ لأنهم رأوا أن الشريعة لم تأت فيه بحد مقدر، فاستندوا إلى المصلحة في ذلك، وهي درء المفسدة، لا سيما في زمن عمر رضي الله عنه، من أجل حفظ ضروريٍّ وهو العقل[(870)].(1/307)
ومن الأمثلة ـ أيضاً ـ: ما يتعلق بالنظافة العامة والخاصة، وشق الطرق، وتعبيدها، ونزع الملكيات للصالح العام، وتنظيم المرور، ونحو ذلك مما يؤخذ من نصوص الشريعة ومقاصدها[(871)]، وهذه المصالح منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجيّ تدعو إليه الحاجة والتوسعة على الناس، كما سيأتي قريباً ـ إن شاء الله ـ.
ولا ريب أن المصلحة إذا كانت ملائمة لمقاصد الشرع ومن جنس ما أقره من المصالح فالأخذ بها موافقة لمقاصده.
وإذا لم تكن كذلك فهي كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (هذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإنه من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل ـ أي المصلحة المرسلة ـ، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قُدِّم على المصلحة المرسلة كلامٌ بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعاً، بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوَّت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه).
ثم بيّن رحمه الله أن الشريعة لم تهمل مصلحة قط، وكل ما يظنه العباد مصلحة لا بد أن يجدوه في الشريعة إذا حققوا النظر[(872)]، فيقول: (والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم.. لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له: إمَّا أن الشرع دل عليه من حيث لا يُعلم، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيراً ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا، ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة...)[(873)].(1/308)
وإما (حاجي) كتسليط الولي على تزويج الصغيرة لتحصيل الكفء خيفة الفوات. أو (تحسيني) كالولي في النكاح صيانة للمرأة عن مباشرة العقد الدال على الميل إلى الرجال، فهذان لا يتمسك بهما بدون أصل، بلا خلاف.
قوله: (وإمَّا حاجي) هذا هو الضرب الثاني من المصالح المرسلة، وهو الحاجي، نسبة إلى الحاجة، وهو الذي تدعو إليه الحاجة، والتوسعة على الناس ورفع الحرج، وإن كانت لا تصل إلى رتبة الضروريات، والحاجيات جارية في العبادات كالرخص للمريض والمسافر، وفي العادات مثل: إباحة الصيد، والتمتع بالحلال من الطيبات التي يمكن أن يستغني عنها الإنسان ولكن بشيء من المشقة، وفي المعاملات كتشريع عقد الاستئجار، والمساقاة والقراض والسَّلَم، وفي الجنايات كالقسامة، وضرب الدية على العاقلة[(874)].
قوله: (كتسليط الولي على تزويج الصغيرة لتحصيل الكفء خيفة الفوات) هذا مثال المصنف لما يقع في رتبة الحاجيات، وهو تسليط الولي على تزويج الصغيرة ليختار لها الكفء، فإن هذا وإن كان لا ضرورة إليه، لكنه يُحتاج إليه لتحصيل الكفء خوفاً من فواته.
قوله: (أو تحسيني) هذا هو الضرب الثالث من المصالح، وهو التحسيني، نسبة إلى التحسين والتزيين، وهو ما ليس ضرورياً ولا حاجياً، ولكن مراعاته من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهو جارٍ في العبادات مثل: إزالة النجاسة، وأخذ الزينة، والتقرب بالنوافل، وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات والكلأ، وفي العادات كآداب الكلام، والطعام، والشراب، وكالاعتدال في المظاهر، والاقتصاد في المصارف دون إسراف ولا تقتير، ونحو ذلك، وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد، أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد، وقد يكون التحسيني مطلوباً شرعاً على سبيل الحتم والإيجاب، كستر العورة [(875)].(1/309)
قوله: (كالولي في النكاح صيانة للمرأة عن مباشرة العقد) هذا مثال المصنف للتحسيني، وهو اعتبار الولي في عقد النكاح صيانة للمرأة عن مباشرة العقد بنفسها؛ لأنها لو باشرت عقد نكاحها لكان ذلك مشعراً بما لا يليق بالمروءة من قلة الحياء، وتوقان نفسها إلى الرجال، فمنعت من ذلك حملاً للخلق على أحسن المناهج، وأجمل السير.
قوله: (فهذان لا يتمسك بهما بدون أصل، بلا خلاف) أي: إنه لا يجوز التمسك بالضرب الثاني والثالث، ولا بناء الأحكام عليهما من غير أصل من أصول الشريعة يشهد لهما بالاعتبار، فلا يجوز للمجتهد كلما لاحت له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها ورتّب عليها الأحكام، حتى يجد لاعتبارها شاهداً من جنسها، وإلا لزم على ذلك وضع الشرع بالرأي، لأن الناس يختلفون في تقدير الحاجات، وما يراه بعض الناس حسناً قد يراه آخرون قبيحاً، كما يلزم عليه استواء العامي والعالم؛ لأن كل واحد يعرف مصلحة نفسه الواقعة موقع التحسين أو الحاجة، ثم لو جاز ذلك لاسْتُغْنِيَ عن بعثة الرسل؛ لأن العقل كافٍ في التأديب ومعرفة الأحكام، وهذا وما قبله من اللوازم الباطلة.
وقول المصنف: (بلا خلاف) تبع فيه ابن قدامة، وفيه نظر، فإن الإمام مالكاً يراعي المصلحة المرسلة في الحاجيات، كما يراعيها في الضروريات[(876)].
وينبغي أن يعلم أنه إذا تساوت مصلحة الفعل ومفسدته رُجِّحَ جانب المفسدة فيُدرأ الفعل؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
واعلم أن الأحكام التي شرعت لصيانة الضروريات هي أهم الأحكام وأحقها بالمراعاة، وتليها الأحكام المشروعة لضمان الحاجيات، ثم الأحكام المشروعة للتحسين والتكميل.(1/310)
ولا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بما هو ضروري أو حاجي؛ لأن الفرع لا يراعى إذا كان في مراعاته والمحافظة عليه تفريط في الأصل، ولذا أبيح شرعاً كشف العورة عند الاقتضاء لأجل تشخيص داء أو لمداواة أو عملية جراحية ضرورية؛ لأن ستر العورة من الأمور التحسينية المطلوبة على سبيل الوجوب ـ كما مضى ـ أمَّا العلاج فمن الضروريات؛ لأن به صيانة النفس أو العقل أو النسل[(877)]، والله أعلم.
* * *
ومما يتفرع على الأصول المتقدمة: القياس، وأصله: التقدير، وهو حمل فرع على أصل في حكم لجامعٍ بينهما، وقيل: إثبات حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في علة الحكم. وقيل: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما لجامع بينهما، من إثبات حكم أو صفة لهما أو نفيه عنهما وهو بمعنى الأول، وذاك أوجز. وقيل: هو الاجتهاد، وهو خطأ.
باب القياس
قوله: (ومما يتفرع على الأصول المتقدمة: القياس) أي: إن القياس من الأدلة الشرعية، لكنه ليس مستقلاً بذاته، بل هو متفرع عن الكتاب والسنة، لأن الحكم الشرعي إمَّا أن يعرف بطريق النص، وإمَّا أن يكون حملاً على نصٍّ بطريق القياس، فهو مسلك اجتهادي في حدود نصوص الكتاب والسنة.
قوله: (وأصله: التقدير) هذا تعريف القياس في اللغة، يقال: قاس الثوب بالذراع: إذا قدّره به، قال الجوهري: (قِسْتُ الشيء بغيره، وعلى غيره: إذا قدّرته على مثاله)[(878)]. وهو يستلزم وجود شيئين، يقدّر أحدهما بالآخر.
كما يطلق ويراد به المساواة، يقال: فلان يقاس بفلان، أي: يساوى به. وعلى هذا فهو مشترك لفظي بين التقدير والمساواة، لاستعماله في كل منهما.(1/311)
قوله: (وهو حمل فرع على أصل...) هذا تعريف القياس اصطلاحاً، وقد ذكر المصنف ـ كغيره ـ للقياس عدة تعريفات، لا يخلو كل واحد منها من اعتراضات وإيرادات، والقياس لفظ يفهم من لغة العرب وكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عبد البر رحمه الله: (القياس والتشبيه والتمثيل من لغة العرب الفصيحة التي نزل بها القرآن..)[(879)].
والمراد بالحمل هنا: إلحاق الفرع بالأصل، وإثبات حكمه له.
لكن قد يرد على هذا التعريف أن الحمل هو ثمرة القياس ونتيجته، لأن الحمل في اللغة هو الإثبات، إلا إن نظرنا إلى معناه المجازي، وهو التسوية أو التشريك في الحكم أو الإضافة أو الإلحاق[(880)].
قوله: (وقيل: إثبات حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في علة الحكم) هذا تعريف ثان، وذلك كإثبات جريان الربا في الأرز، لاشتراكه مع الأصل ـ وهو القمح ـ في علة الحكم، وهي الكيل والطُعْمُ ـ مثلاً ـ.
ويرد على هذا التعريف أن إثبات حكم الفرع متفرع على القياس ومتوقف عليه، فاعتباره جزءاً في تعريف القياس يقتضي توقف القياس عليه، وهذا دور مفسدٌ للتعريف.
قوله: (وقيل: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما) هذا تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني، كما ذكر الرازي، وذكره الغزالي[(881)].
وقوله: (حمل معلوم) أي: الفرع (على معلوم) أي: الأصل، وعبّر بالمعلوم: ليشمل الموجود والمعدوم.
وقوله: (لجامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما) هذا إشارة إلى أن الجامع بين الأصل والفرع قد يكون حكماً شرعياً وجودياً، كما لو قيل: الكلب نجس، فلا يجوز بيعه كالخنزير. وقد يكون وصفاً حقيقياً وجودياً، كما لو قيل: النبيذ مسكر، فيحرم تناوله كالخمر.
وقوله: (أو نفيه عنهما) إشارة إلى أن الجامع بين الأصل والفرع كما يكون وجودياً يكون عدميّاً.
فالحكم العدمي نحو: الخَلُّ ليس بنجس؛ فيباح التَضَمُّخُ به كالماء، والصفة العدمية نحو: الصبي غير عاقل؛ فلا يكلف كالمجنون.(1/312)
وَرُدَّ هذا التعريف بأن القياس لا يُطلب به معرفة حكم الأصل، إذ حكمه معلوم، وإنَّما يطلب به حكم الفرع. وبأن الحكم في الفرع ـ سواء كان نفياً أو إثباتاً ـ فرع عن القياس، وفرع الشيء لا يكون ركناً فيه، لأنه يلزم من ذلك الدور كما تقدم، ثم إن المعتبر في القياس هو الجامع، دون أقسامه، وإلا لوجب ذكر أقسام الحكم، مع أن هذا التعريف طويل، وهو كما قال المصنف: «بمعنى الأول وذاك أوجز»[(882)].
قوله: (وقيل: هو الاجتهاد) أي: إن القياس بذل الجهد في استخراج الحكم، وهذا رأي الشافعي، فإنه يرى أن الاجتهاد والقياس اسمان لمعنى واحد[(883)].
قوله: (وهو خطأ) أي: لأن الاجتهاد أعم من القياس، فإنه كما يكون بالقياس، يكون بالنص والإجماع، ثم إن الاجتهاد صفة للقائس نفسه، وقد يكون بالنظر في الدليل، دون إلحاق شيء آخر.
وقد يعتذر للشافعي بأنه أراد المبالغة؛ لأن القياس أهم مباحث الاجتهاد[(884)].
ولو قيل في تعريف القياس: تسوية فرع بأصل في حكمٍ لعلةٍ جامعةٍ بينهما، لكان أولى وأوضح[(885)].
فحقيقة القياس أن يدل نص على حكمٍ معينٍ في واقعة، ويعرف المجتهد علة هذا الحكم، ثم توجد واقعة أخرى لم يرد نصٌّ في حكمها، ولكنها تساوي واقعة النص في علة الحكم، فيلحق المجتهد هذه الواقعة بالأولى، ويسوِّي بينهما في الحكم؛ لأن الحكم يوجد حيث توجد علته.
وليس القياس إثبات حكم شرعي من غير أصل، بل الحكم ثابت للمقيس من وقت ثبوته للمقيس عليه، إلا أنه ليس بظاهر، فيكشف عنه المجتهد بطريق القياس، لذا فهو مسلك اجتهادي ـ كما تقدم ـ.
واعلم أن القياس له أربعة أركان:
1 ـ الأصل: ويسمى المقيس عليه، وهو ما ورد النص بحكمه.
2 ـ حكم الأصل: وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل، ويراد تعديته إلى الفرع.
3 ـ الفرع: ويسمى المقيس، وهو ما لم يرد نص بحكمه، ويراد أن يكون له حكم الأصل بطريق القياس.(1/313)
4 ـ العلة: وهي المعنى المشترك يبن الأصل والفرع، المقتضي إثبات حكم الأصل للفرع، وهي أهم أركان القياس، وسيأتي ذكر هذه الأركان في كلام المصنف مع بعض شروطها.
ومن أمثلة القياس:
أنه ورد النص بالنهي عن البيع وقت النداء الثاني للصلاة من يوم الجمعة وهو قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}} [الجمعة: 9] وعلة الحكم: ما في البيع من تعويق للسعي إلى الصلاة، واحتمال تفويتها، وهذه العلة موجودة في غير البيع من العقود كالإجارة والوكالة والرهن ونحوها، وهذه لم يرد نص بالمنع منها، لكن فيها نفس المعنى الذي لأجله مُنع البيع، فتأخذ حكمه بطريق القياس.
والتعبد به جائز عقلاً وشرعاً عند عامة الفقهاء والمتكلمين خلافاً للظاهرية والنظام، ويجري في جميع الأحكام حتى في الحدود والكفارات خلافاً للحنفية، وفي الأسباب عند الجمهور، ومنعه بعض الحنفية.
قوله: (والتعبد به جائز عقلاً) أي: دل العقل على جواز التعبد بالقياس؛ إذ لو كان التعبد به عقلاً ممتنعاً لما وقع، لكنه وقع، فإن الاعتبار بالأمثال وقياس النظير على نظيره من قضية العقل والمنطق، فهما يقضيان باتحاد الحكم في المتماثلات، وذلك معلوم قطعاً، لا ينكره إلا مكابر[(886)].
قوله: (وشرعاً...) أي: يجوز التعبد بالقياس شرعاً، فيعمل به في الأمور الشرعية، وتثبت به الأحكام؛ لأن القياس يثير ظناً غالباً في ثبوت الحكم للفرع، فيكون حجة، وهذا قول الجمهور.
والدليل على أن القياس حجة: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعمل الصحابة رضي الله عنهم.
أمَّا الكتاب: فقد ورد فيه آيات كثيرة تأمر بتدبر الآيات الكونية وأخذ العبرة من أحوال الأمم الماضية، كما ورد فيه الكثير من ضرب الأمثال والتشبيه[(887)]، وهذا هو القياس.(1/314)
ومن ذلك قوله تعالى {} والاعتبار من العبور، وهو الانتقال من شيء إلى آخر، والقياس فيه انتقال بالحكم من الأصل إلى الفرع، فيكون مأموراً به[(888)]، وقال تعالى: {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}} [فصلت: 39] ، ففيه قياسُ إحياءٍ على إحياءٍ، واعتبارُ الشيء بنظيره، وقال تعالى: {{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}} [الحديد: 25] والميزان: ما توزن به الأمور، ويقايس به بينها، قال ابن تيمية: (والقياس الصحيح من العدل، فإنه تسوية بين المتماثلين، وتفريق بين المختلفين...)[(889)].
أمَّا السنة فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل القياس في الأحكام وغيرها، ومن أمثلة ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟» قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك» وفي رواية: «فدين الله أحق أن يُقْضى» [(890)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود، فقال: «هل لك من إبل؟» قال: نعم. قال: «ما ألوانها؟» قال: حُمْرٌ. قال: «هل فيها من أوْرَقَ؟» قال: نعم. قال: «فأنَّى ذلك؟» قال: لعله نَزَعَهُ عِرْقٌ. قال: «فلعل ابنك نزعه عرق» [(891)].
قال النووي: (وفيه إثبات القياس، والاعتبار بالأشباه وضرب الأمثال)[(892)].(1/315)
وأمَّا عمل الصحابة رضي الله عنهم، فقد ساق ابن القيم أقوال الصحابة في القياس، وذكر الوقائع التي حكموا فيها بالقياس، مما يدل على أنهم كانوا يستعملونه في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر، حتى إنها لكثرتها وتعدد وجوهها واختلاف طرقها تجري مجرى التواتر المعنوي الذي لا شك فيه[(893)].
يقول المزني المتوفى سنة (224هـ)، وهو من أكثر أصحاب الشافعي ملازمة له وصحبة، يقول: (الفقهاء من عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا استعملوا المقاييس في جميع الأحكام من أمر دينهم، وأجمعوا على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس؛ لأنه تشبيه الأمور، والتمثيل عليها)[(894)].
قوله: (خلافاً للظاهرية والنظام) [(895)] هذا القول الثاني في حجية القياس، وهو أنه ليس بحجة، وهو قول الظاهرية، وإبراهيم النظام، وقد نقل ابن عبد البر أن النظام أول من أحدث القول بنفي القياس، ثم انفتح الباب بعد ذلك[(896)].
وأكثر الظاهرية غلواً في نفي القياس هو ابن حزم[(897)]، ولذا سموا ظاهرية؛ لأخذهم بظواهر النصوص، دون العلل والمعاني المقتضية للقياس.
وقد استدل المنكرون لوقوع التعبد بالقياس بأدلة خلاصتها:
1 ـ ما ورد من أن القرآن تبيان لكل شيء، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر أن يحكم به، قال تعالى: {{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}} [الأنعام: 38] ، وقال تعالى: {{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}} [المائدة: 49] فدلت الآية الأولى على أن في القرآن بياناً لكل شيء، فلا حاجة إلى القياس، ودلت الثانية على أن الحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله، فلا يجوز العمل به.(1/316)
2 ـ ما ورد من ذم الله تعالى من يتبع الظن، ويقول على الله ما لا يعلم، من ذلك قوله تعالى في سياق ذكر المحرمات: {{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}} [البقرة: 169] والحكم بالقياس قول بما لا يُعلم.
3 ـ ما ورد من أمر المؤمنين بالرد إلى الله والرسول عند الاختلاف، قال تعالى: {{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}} [النساء: 59] والحكم بالقياس ليس رداً إليهما، فلا يجوز الحكم به.
4 ـ أن القياس عمل بالرأي، وهو مسلك مذموم، والأمة تضل إذا عملت بالرأي.
وهذه أدلة ضعيفة غير ناهضة على إنكار القياس؛ لأنها في موضوعات أخرى، وبيان ذلك بما يلي:
أولاً: أنَّ كون القرآن تبياناً لكل شيء مراد به ـ والله أعلم ـ أنه بيان لكل شيء إما بدلائل ألفاظه من غير واسطة، وإمَّا بواسطة الاستنباط منه، والقياسُ ـ كما قدمنا ـ لا بُدَّ أن يسَتند إلى نصٍّ من كتاب أو سنة، وعليه فلا يكون القياس خارجاً عن ذلك.
وأمَّا ما جاء من الأمر بالحكم بما أنزل الله فهذا لا يمنع الحكم بالقياس؛ لأنه مستند إلى ما أنزل الله، فمن حكم به فقد حكم بالمنزَّل.
ثانياً: وأمَّا قولهم: إن الحكم بالقياس حكم بغير علم، وقد نُهي عنه، فهذا غير مسلّم؛ لأن القياس يثير ظناً غالباً في ثبوت الحكم، وقد تُعُبِّدت الأمة بالعمل بالظن، وجواز بناء الأحكام الشرعية عليه، إذا فُقِدَ اليقين الذي قلما يحصل عند الاجتهاد، ثم إن خبر الواحد ونحوه لا يفيد إلا الظن في الأصل، ومع هذا يُستدل به.
وأمَّا ما ورد من النهي عن العمل بالظن، فالمراد به الظن المرجوح الذي لا يقوم عليه دليل، بل هو قائم على الهوى والغرض المخالف للشرع.(1/317)
ثالثاً: وأما قوله تعالى: {} فإنها دليل على حجية القياس، لأن المراد بالرد إلى الله والرسول الردُّ إليهما بطريق التأمل فيما هو مماثل للمنصوص عليه، وهذه المماثلة تكون بإعمال الرأي، وهذه حقيقة القياس، إذ لا يمكن القول بأن المراد: الكتاب والسنة؛ لورود الأمر بهما في أول الآية[(898)].
رابعاً: وأمَّا ما ورد من ذم الرأي وأهله، فالمراد به الرأي الباطل، واتباع الهوى، وترك النصوص، والقياس حَمْلٌ على النصوص وعمل بمقتضاها.
وبهذا يتضح صحة قول الجمهور بحجية القياس، لقوة أدلتهم، وضعف أدلة المخالفين، والله أعلم.
قوله: (ويجري في جميع الأحكام) أي: إن محل القياس هو الأحكام الشرعية العملية، وأمَّا التوحيد والعقائد فقد اتفق أهل السنة على أن القياس لا يجري فيها إن أدى إلى البدعة والإلحاد، وتشبيه الخالق بالمخلوق، وتعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله[(899)].
وإنَّما يصح القياس في باب التوحيد إذا استُدل به على معرفة الخالق وتوحيده، ويستخدم في ذلك قياس الأولى، لئلا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولئلا يتماثلا في شيء من الأشياء، قال تعالى: {{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}} [الشورى: 11] [(900)]، بل كل كمال ـ لا نقص فيه بوجه ـ ثبت للمخلوق فالخالق به أولى، وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه[(901)].
قوله: (حتى في الحدود والكفارات) أي: يجوز إثبات الحدود والكفارات بالقياس، وهذا قول جمهور الأصوليين، واستدلوا بعموم الأدلة المثبتة لحجية القياس، فإنها تدل على أن القياس يجري في جميع الأحكام ـ إذا استكملت شروط القياس ـ. ومن ادعى أنه حجة في بعض الأحكام دون بعض فعليه الدليل.
ومن أمثلة القياس في الحدود:
1 ـ قياس النباش ـ وهو الذي ينبش القبور ليأخذ الأكفان وما فيها ـ على السارق في وجوب القطع، بجامع أخذِ مالِ الغيرِ خُفْيةً من حرزه، وهذا على أحد القولين[(902)].(1/318)
2 ـ قياس اللائط على الزاني، في وجوب الحد ـ إن كان محصناً فالرجم، وإن كان غير محصن فجلدُ مائةٍ وتغريبُ عام ـ بجامع إيلاج فرج محرم في فرج محرم شرعاً، وهذا على أحد الأقوال في المسألة[(903)].
ومن أمثلة القياس في الكفارات:
1 ـ قياس الأكل في نهار رمضان عمداً على الجماع في نهار رمضان في ثبوت الكفارة في كل منهما، بجامع انتهاك حرمة شهر رمضان في كل، وهذا على أحد القولين في هذه المسألة[(904)]، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
2 ـ قياس القتل العمد على القتل الخطأ في ثبوت الكفارة في القتل العمد كما ثبت في القتل الخطأ، بجامع إزهاق الروح والقتل بغير حق في كل، على أحد القولين[(905)].
قوله: (خلافاً للحنفية) هذا القول الثاني، وهو أن الحدود والكفارات لا تثبت بالقياس، واستدلوا بما يلي:
1 ـ أن الحدود من الأمور المقدرة التي لا يمكن تَعَقُّلُ المعنى الموجب تقديرها، والقياس فرع تعقل علة الحكم.
2 ـ أن الحدود عقوبات، وكذا الكفارات، فإن فيها شائبة العقوبة، والقياس محتمل للخطأ، وذلك شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
والقول الأول أرجح ؛ لقوة مأخذه، وضَعْفِ أدلة الحنفية، فإن قولهم: إنه لا يمكن تعقل المعنى من تقدير الحدود، دعوى لا دليل عليها، بل الدليل قام على خلافها، فإن إدراك المعنى المناسب أمر واضح، لا امتناع فيه، وقد مضى من الأمثلة ما يؤيد ذلك، وأمَّا ما لا يدرك فيه المعنى المناسب فلا خلاف في أنه لا يجوز القياس عليه؛ لأنه فَقَدَ أهم أركان القياس، وهي العلة.
وأمَّا قولهم: إن القياس يفيد الظن فيدخله احتمال الخطأ، فهذا غير مسلم؛ لأن مجرد الظن لا يكون شبهة يمنع من إجراء القياس في الحدود والكفارات مع ظهور الظن الغالب، ولو كان مطلق الظن مانعاً من إقامة الحد لما وجب هذا الحد بالأدلة الظنية كأخبار الآحاد، وظواهر النصوص والشهادات وما شابهها.(1/319)
على أن الحنفية وإن كانوا ينفون القياس في الحدود والكفارات، إلا أنه وجد في كتبهم أمثلة من هذا النوع من القياس، مما يدل على ضعف قولهم[(906)].
واعلم أن القياس في باب العقوبات قليل، ولم يكن متسعاً كاتساعه في المسائل الفقهية الأخرى.
قوله: (وفي الأسباب عند الجمهور) أي: ويجري القياس في الأسباب، وذلك بأن يجعل الشارع وصفاً سبباً لحكم، فيقاس عليه وصف آخر، فيحكم بكونه سبباً أيضاً، وهذا القول نسبه المصنف إلى الجمهور، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية[(907)].
واستدلوا بأن الأدلة المثبتة لحجية القياس لا تقييد فيها بحكم دون حكم، فيعمل بها على إطلاقها، فيكون القياس حجة في كل الأحكام، ولأن السببية حكم شرعي، فجاز القياس فيها كسائر الأحكام.
ومثاله: حديث أبي بكرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» [(908)]. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم جعل الغضب سبباً لمنع الحاكم من القضاء، فيقاس عليه الجوع والمرض والحزن ـ مثلاً ـ فتجعل أسباباً لمنع القضاء ـ أيضاً ـ بجامع تشويش الفكر، وانشغال الذهن، وهي علة ثابتة بالإجماع.
ومثاله ـ أيضاً ـ قياس اللواط على الزنا بجامع إيلاج فرج في فرج محرم، والزنا سبب لإيجاب الحد، فاللواطة تكون سبباً له كذلك، على ما تقدم.
قوله: (ومنعه بعض الحنفية) هذا القول الثاني، وهو أن القياس لا يجري في الأسباب، واستدلوا بأن القياس لا بُدَّ فيه من الجامع بين الأصل والفرع، فإن لم يوجد الجامع بين الأسباب فلا يصح القياس؛ لفقدان ركن من أركانه وهو العلة، وإن وجد الجامع بينهما فلا فائدة في القياس؛ لأن هذا الجامع يعتبر هو السبب، ويكون كل من الأصل والفرع فرداً من أفراد هذا السبب، وبذلك يكون الاشتغال بالقياس في الأسباب نوعاً من العبث.(1/320)
فمثلاً: قياس الجوع وما ذكر معه على الغضب بعلة تشويش الفكر، يجعل التشويش هو السبب في وجود المنع من القضاء، ويكون كل من الغضب والجوع والمرض فرداً من أفراد هذا السبب.
وقياس اللواطة على الزنا بعلة الإيلاج المحرم، يجعل الإيلاج هو السبب في الحد، ويكون كل من اللواطة والزنا فرداً من أفراد هذا السبب.
والقول بجواز القياس في الأسباب قوي؛ لأن الشارع إذا نصَّ على أحد السببين دون الآخر، فإن إلحاق السبب المسكوت عنه بالسبب المذكور هو القياس، على أن بعض الأصوليين جعل الخلاف لفظياً.
واعلم أن نسبة المصنف جريان القياس في الأسباب إلى الجمهور فيه نظر، فإن أكثر الأصوليين على منع القياس في الأسباب، ومنهم الحنفية، وجمع من الشافعية، وأكثر المالكية، والقائلون بالجواز هم الحنابلة وأكثر الشافعية[(909)].
ثم إلحاق المسكوت بالمنطوق: مقطوع، وهو مفهوم الموافقة، وقد سبق، وضابطه: أنه يكفي فيه نفي الفارق المؤثر من غير تعرض للعلة وما عداه فهو مظنون، وللإلحاق فيه طريقان:
أحدهما: نفي الفارق المؤثر، وإنما يحسن مع التقارب.
والثاني: بالجامع فيهما، وهو القياس، فإذن أركان القياس أربعة:
قوله: (ثم إلحاق المسكوت بالمنطوق: مقطوع...) المراد بالإلحاق: القياس. والمسكوت عنه هو: الفرع. والمنطوق هو: الأصل. وهذا الإلحاق نوعان: مقطوع به، ومظنون، ويسمى الأول: القياس الجلي، والثاني: القياس الخفي.
قوله: (مقطوع، وهو مفهوم الموافقة) أي: إن المقطوع هو: مفهوم الموافقة، وله صورتان:
إحداهما: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، ومن أمثلته: قوله تعالى: {{فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}} [الإسراء: 23] فإن النهي عن التأفيف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه من باب أولى، لأنه أعظم منه.(1/321)
الثانية: أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق في الحكم، بألاَّ يكون أولى منه، ولا هو دونه، فيقال: إنه في معنى الأصل، ومن أمثلته: قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}} [النساء: 10] فإن تحريم أكل مال اليتيم وهو المنطوق، يدل على تحريم إحراقه أو إغراقه؛ لأن الجميع إتلاف له بغير حق.
قوله: (وقد سبق) أي: في الكلام على ما يستفاد من فحوى الألفاظ، وسبق الخلاف في تسمية هذا قياساً، وأن الأظهر أنه ليس بقياس، وإنما دلالة النص على المفهوم دلالة لفظية؛ لأن المسكوت عنه يسبق إلى الفهم، ولا يحتاج إلى فكر واستنباط علة، ومن سماه قياساً ـ كالمصنف ـ اعترف بأنه مقطوع به، ولا مشاحة في الأسامي؛ لأن القياس عنده يصدق على أي نوع من أنواع الإلحاق، ويكون بهذا الاعتبار أقوى أنواع القياس.
قوله: (وضابطه: أن يكفي فيه نفي الفارق المؤثر من غير تعرض للعلة) أي: إن ضابط الإلحاق المقطوع به، وهو القياس الجلي: أن يُقْطَعَ فيه بنفي الفارق المؤثر في الحكم، ولا يُحتاج فيه إلى التعرض لبيان العلة الجامعة، كقياس ضرب الوالدين على التأفيف، وقياس البول في الإناء وصبِّه في الماء على البول في الماء الراكد مباشرة، فكل ذلك مقطوع فيه بنفي الفارق بين الفرع والأصل.
فإن لم يُجْزَمْ بنفي الفارق لم يكن مقطوعاً به، كإلحاق شهادة الكافر بشهادة الفاسق في الرد المنصوص عليه في قوله تعالى: {{وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}} [النور: 4] فإنه يحتمل الفرق بأن الكافر يحترز عن الكذب لدينه في زعمه، والفاسق متهم في دينه.
وعلى هذا فلا يلزم من كون المسكوت عنه أولى من المنطوق بالحكم أو مساوياً له أن يكون القياس قطعياً، حتى يُقْطَعَ فيه بنفي الفارق، كما في الأمثلة المتقدمة.
قوله: (وما عداه فهو مظنون) أي: ما عدا المذكور من الإلحاق بطريق الأولى وهو مفهوم الموافقة، فهو مظنون.(1/322)
ومن أمثلته: أن يكون نفي الفارق ليس قطعياً بل مظنوناً ظناً قوياً مزاحماً لليقين. مثل: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعتق شِرْكاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قُوِّمَ عليه قيمة عدل، فأَعْطَى شركاءه حصصهم، وعَتَقَ عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق» [(910)]، فإن ظاهره أنه لا فرق في سراية العتق بين العبد والأمة؛ إذ لا تأثير للذكورة والأنوثة في هذا الحكم ونحوه في عرف الشرع، فصار المسكوت عنه مساوياً للمنطوق في الحكم، إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظناً قوياً؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان[(911)] لا يناط بهما حكم من أحكام العتق، لكن يحتمل أن يكون الشارع نص على سراية العتق في خصوص الذَّكَر، مخصِّصاً له بذلك الحكم دون الأنثى؛ لأن عتق الذكر يترتب عليه من الآثار الشرعية ما لا يترتب على عتق الأنثى، كالجهاد والإمامة والقضاء، ونحو ذلك من المناصب المختصة بالذكور دون الإناث، كما أن بقاء الأمة في الرق قد يكون أنفع للمجتمع من بقاء العبد رقيقاً، وذلك للتسري بهن، مما يحفظ المجتمع من الفاحشة. والله أعلم.
قوله: (وللإلحاق فيه طريقان) أي: وبالجملة فإن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق له طريقان:
قوله: (أحدهما: نفي الفارق المؤثر) أي: نفي الفارق المؤثر في الحكم بين الفرع والأصل، فيجب استواؤهما في الحكم، وهذا هو مفهوم الموافقة، وهو القياس الجلي، كما تقدم.
قوله: (وإنَّما يحسن مع التقارب) أي: إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل، كقرب الإحراق والإغراق من الأكل في الإتلاف، فلا يحتاج في ذلك إلى التعرض للجامع بينهما.
قوله: (والثاني: بالجامع فيهما، وهو القياس) أي: الطريق الثاني من طريقي الإلحاق هو: الإلحاق بالجامع، وهذا هو المتفق على تسميته قياساً.(1/323)
ومعناه أن يقول: إن العلة في الأصل كذا، وهي متحققة في الفرع، فيجب استواؤهما في الحكم، كأن يقول: العلة في جريان الربا في البر هي: الكيل والطعم ـ مثلاً ـ، وهي موجودة في الأرز، فيجب جريان الربا فيه.
قوله: (فإذن أركان القياس أربعة) الأركان: جمعٌ مفرده: ركن، وركن الشيء في اللغة: جانبه الأقوى الذي يعتمد عليه، يقال: ركنت إلى زيد: اعتمدت عليه.
أمَّا ركن الشيء في الاصطلاح: فهو الذي لا تتحصل حقيقة الشيء بدونه، فلا وجود للصلاة بلا ركوع وسجود وقراءة، ولا وجود للقياس بدون الأربعة المذكورة.
(الأصل): وهو المحل الثابت [له] الحكم، الملحق به كالخمر مع النبيذ، وشرطه: أن يكون معقول المعنى لِيُعَدَّى، فإن كان تعبدياً لم يصح وموافقة الخصم عليه، فإن منعه وأمكنه إثباته بالنص جاز، لا بعلة عند المحققين. وقيل: الاتفاق شرط.
قوله: (الأصل: وهو المحل الثابت له الحكم) أي: إن الأصل هو محل الحكم، فالبر ـ مثلاً ـ أصل، وهو محل للحكم، وهو تحريم الربا، وهذا التعريف هو الأقرب لاستعمال الفقهاء.
قوله: (الملحق به) أي: المشبه به الفرع، كالبر مع الأرز، والخمر مع النبيذ[(912)].
قوله: (وشرطه) أي: يشترط للأصل شرطان، لأن المفرد إذا أضيف يعم، وظاهر كلام المصنف أن هذين شرطان في الأصل، ولا يخفى أنهما شرطان في حكم الأصل، لا في الأصل نفسه[(913)].
قوله: (أن يكون معقول المعنى) هذا الشرط الأول ، وهو أن يكون الحكم الثابت للأصل معقول المعنى، أي: يُدْرِكُ العقلُ الحكمة في شرعيته، أو يوميء النص إلى حكمة شرعيته، كتحريم الخمر، وتحريم أكل الميتة، ونحو ذلك مما تدرك علته.
قوله: (لِيُعَدَّى) أي: لِيُعَدَّى حكم الأصل إلى الفرع؛ لأن ما لا يعقل معناه لا يمكن القياس فيه؛ لأن القياس تعدية حكم المنصوص عليه وهو الأصل، إلى غيره وهو الفرع، وما لا يعقل لا يمكن تعديته.(1/324)
فتحريم الربا في البر هو لعلة الكيل والطعم ـ مثلاً ـ فيمكن أن يُعَدَّى هذا الحكم إلى كل مكيل مطعوم، كالفول والعدس والأرز ونحوها.
قوله: (فإن كان تعبدياً لم يصح) أي: القياس عليه، والتعبدي: هو الحكم الشرعي الذي لا تدرك له حكمة[(914)]، وهذا تصريح من المصنف بمفهوم قوله: (معقول المعنى) . فإذا تعذر على العقل إدراك العلة امتنع القياس، ولهذا قال العلماء: لا قياس في العبادات؛ لأنها أحكام استأثر الله تعالى بعلم عللها، مثل: أوقات الصلاة، وأعداد الركعات، ومقادير الحدود والكفارات ونحو ذلك.
ومثال ذلك أن يقال: لحم النعامة ينقض الوضوء، قياساً على لحم البعير لمشابهة النعامة للبعير، فيقال: هذا قياس لا يصح؛ لأن حكم الأصل وهو أن لحم الإبل ينقض ليس له علة معلومة، وإنَّما هو تعبدي محض على المشهور.
قوله: (وموافقة الخصم عليه) هذا الشرط الثاني ، ومعناه: أن يكون حكم الأصل متفقاً عليه بين الخصمين، أي: المتناظرين في مسألة فيها قياس، فإن لم يكن خصم فالشرط ثبوت الحكم للأصل بدليل يقول به القائس.
وإنَّما اشترط ثبوت حكم الأصل، لأنه ينبني عليه الفرع ويلحق به، وما لا ثبوت له لا يُتَصَوَّرُ بناءُ غيرِه عليه.
واشترط اتفاق الخصمين لئلا يمنع الخصم الحكم، فيحتاج المستدل إلى إثباته، فيكون انتقالاً من مسألة إلى مسألة أخرى، وينتشر الكلام، فيفوت المقصود[(915)].
ومثاله قول الحنبلي: جلد الميتة نجس، فلا يطهر بالدباغ، كجلد الكلب، فيقول الحنفي: لا أسلّم حكم الأصل، وهو أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ بل يطهر به عندي، فحكم الأصل المقيس عليه ليس متفقاً عليه بينهما، فلا يصح القياس إذا كان في باب المناظرة، وهذا من القوادح في باب القياس، ويسمى: (المنع).(1/325)
قوله: (فإن منعه وأمكنه إثباته بالنص جاز) أي: فإن منع الخصم حكم الأصل. (وأمكنه) أي: المستدل. (إثباته) أي: إثبات حكم الأصل بالنص ثم بالعلة جاز ذلك، وقُبِلَ منه استدلاله في الأصح، ونهض دليله على خصمه[(916)].
ويتحصل من ذلك أن الشرط عند المصنف أحد الأمرين: من اتفاق الخصمين أو الإثبات بالنص، وأن الأصح هنا أنه لا يشترط خصوص الاتفاق؛ لاكتفائه بالإثبات المذكور وقبوله.
قوله: (لا بعلة عند المحققين) أي: على المستدل إثبات حكم الأصل بالنص، لا إثباته بعلة ينازع فيها الخصم، فهذا لا يكفي، ولا يعتبر حجة عند المحققين، فلا يتم القياس، ويدخل تحت هذا صورتان:
الأولى: أن يتفق الخصمان على حكم الأصل، ويدعي كل منهما أنه ثابت بعلة غير العلة التي يدعيها الآخر، ويسمى هذا القياس: (مركب الأصل) لتركيب الحكم وبنائه على العلتين بالنظر إلى الخصمين.
ومن أمثلته: قياس حلي البالغة على حلي الصبية في عدم وجوب الزكاة عند الشافعية والمالكية، فإن حكم الأصل وهو: لا زكاة في حلي الصبية، متفق عليه بين هؤلاء وبين الحنفية، إلا أن الحنفية يقولون: إن العلة أنه مال لغير بالغة، فلا يمكن قياس حلي الكبيرة عليه؛ لبلوغها، والمالكية والشافعية يقولون: العلة كونه حلياً مباحاً، وهي موجودة في حلي الكبيرة.
فهذا القياس غير مقبول لمنع الخصم وجود العلة في الفرع.
والصورة الثانية: أن يتفق الخصمان على حكم الأصل، إلا أن العلة التي يدعي المستدل أنه ثابت بها يدعي الخصم نفيها من أصلها عن الأصل، ويسمى هذا القياس: (مركب الوصف)؛ لتركيب الحكم وبنائه على وصف يمنع الخصم وجوده في الأصل.(1/326)
ومثاله: قياس قول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، على قول: فلانة التي أتزوجها طالق، في عدم لزوم الطلاق بعد الزواج، فإن عدم الطلاق في الأصل وهو قول: فلانة التي أتزوجها طالق، متفق عليه، والشافعية والحنابلة يقولون: العلة في الأصل تعليق الطلاق قبل ملك محله، والمالكية والحنفية يقولون: هذه العلة من أصلها ليست موجودة في الأصل، لأن الأصل الذي هو: فلانة التي أتزوجها طالق، لا تعليق فيه أصلاً، وإنما هو تنجيز طلاق أجنبية، وهي لا ينجز عليها الطلاق، ولو كان فيه التعليق على (تزوجها) لطلقت بعد التزوج.
فهذا القياس لا يصح، لأن الخصم يمنع وجود علة الأصل التي تتعدى إلى الفرع[(917)].
قوله: (وقيل: الاتفاق شرط) أي: قال بعضهم: لا يقبل إثبات الحكم بالنص، بل لا بد من الاتفاق بين الخصمين على الأصل صوناً للكلام عن الانتشار.
ويحتمل أنه يريد كون الحكم متفقاً عليه بين الأمة، لا بين الخصمين فقط كيلا يتأتى المنع بوجه[(918)].
والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يشترط ذلك؛ لحصول المقصود باتفاق الخصمين فقط؛ لأن البحث لا يعدوهما، ثم إن هذا الشرط خاص بمسائل المناظرة، وليس شرطاً في كل قياس، والله أعلم.
و(الفرع): وهو لغة ما تولد عن غيره وانبنى عليه، وهنا: المحل المطلوب إلحاقه، وشرطه: وجود علة الأصل فيه.
قوله: (والفرع: وهو لغة ما تولد عن غيره وانبنى عليه) هذا الركن الثاني وهو: الفرع. وهو لغةً: ما تفرّع عن غيره. كفروع الشجرة: متولدة من أصلها. وفروع الفقه: متولدة من أصول الفقه.
وقوله: (وانبنى عليه) أي: انبنى الفرع على الأصل؛ لأن المراد بالغير هو: الأصل.
قوله: (وهنا: المحل المطلوب إلحاقه) أي: المراد بالفرع في باب القياس، ما يراد إلحاقه بغيره، وهو الأصل.
قوله: (وشرطه: وجود علة الأصل فيه) وذلك لأن وجودها فيه هو مناط تعدية الحكم إليه، كما تقدم في الأمثلة.(1/327)
فإن لم تكن العلة موجودة في الفرع لم يصح القياس، كأن يقال: العلة في تحريم الربا في البر كونه مكيلاً، ثم يقال: يجري الربا في التفاح قياساً على البر، فهذا قياس غير صحيح؛ لأن العلة غير موجودة في الفرع؛ إذ التفاح غير مكيل، والقياس الذي لا يتحقق فيه هذا الشرط هو القياس مع الفارق.
و(الحكم): وهو الوصف المقصود بالإلحاق، فالإثبات ركن لكل قياس، والنفي إلا لقياس العلة عند المحققين؛ لاشتراط الوجود فيها. وشرطه: الاتحاد فيها قدراً وصفة، وأن يكون شرعياً لا عقلياً أو أصولياً.
قوله: (والحكم: وهو الوصف المقصود بالإلحاق) هذا الركن الثالث، وهو الحكم، وهو: الوصف الذي يراد إلحاق الفرع بالأصل فيه.
قوله: (فالإثبات ركن لكل قياس) أي: كون الحكم إثباتاً ركن في كل قياس، والمراد قياس العلة، وقياس الدلالة.
قوله: (والنفي إلا لقياس العلة عند المحققين) أي: والنفي الأصلي يجري فيه قياس الدلالة، لا قياس العلة، فيستدل بانتفاء الحكم عن الشيء على انتفائه عن مثله، ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل، وإلا فهو ثابت بالاستصحاب مستغنٍ عن الاستدلال بالنظر[(919)].
وقياس العلة: ما كان الجمع فيه بين الأصل والفرع بنفس العلة، كالإسكار، والكيل عند من يعلل به.
وقياس الدلالة: الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، لا بالعلة نفسها، مثل: إلحاق النبيذ بالخمر في المنع بجامع الشدة المطربة، أو الرائحة الكريهة الدالة على الإسكار.
قوله: (لاشتراط الوجود فيها) أي: لا يجري النفي الأصلي، وهو ما كان قبل ورود الشرع في قياس العلة؛ لأن قياس العلة يقتضي وجود علة شرعية، ولا علة قبل ورود الشرع، فإن هذا النفي ثابت بالأصالة، فلا علة له إلا إرادة الله تعالى عدم إيجاده[(920)]، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام على ذلك عند أنواع القياس، مع ذكر الأمثلة.(1/328)
قوله: (وشرطه: الاتحاد فيها قَدْراً وصفة) هذا الشرط الأول للحكم، والمراد بالاتحاد: المساواة، بأن يكون حكم الفرع مساوياً لحكم الأصل في العلة، كقياس الأرز على البر في تحريم الربا؛ بجامع الاقتيات والادخار.
وقوله: (قدراً) أي: بلا تفاوت ـ كما في المثال المتقدم ـ وهذا بالنسبة إلى النقصان، أما الزيادة فلا يشترط انتفاؤها، إذ قد يكون الحكم في الفرع أولى كما تقدم في قياس الضرب على التأفيف[(921)]، ومثال النقصان قول بعضهم: تجب الزكاة في مال الصبي قياساً على مال المكلف، بجامع أن كلاً منهما يملك ماله، فهذا لا يصح؛ لأن علة الأصل ـ وهو البالغ ـ هي أنه يملك ماله بالقوة والفعل، أما علة الفرع ـ وهو الصبي ـ فهي أنه يملك ماله بالقوة فقط[(922)].
وقوله: (وصفة) أي: بأن تكون الصفة التي جعلت علة لحكم الأصل موجودة في الفرع، سواء كانت الصفة نوعاً كما تقدم، أو جنساً كقياس القصاص في الأطراف على القصاص في النفس، بوصف الجناية، فإن علة الفرع غير علة الأصل، ولكن الجناية جنس لهاتين العلتين[(923)].
والأصوليون لا يذكرون هذا الشرط من شروط الحكم، وإنما يذكرونه من شروط الفرع، وهذا الشرط يشبه الشرط الذي ذكره المصنف في الفرع، إلا أن يقال: إن الأول مجمل، وهذا مفصل، أو أن الأول يتعلق بالعلة، وهذا يتعلق بالحكم، والعلم عند الله تعالى.
قوله: (وأن يكون شرعياً) هذا الشرط الثاني للحكم، وهو أن يكون الحكم شرعياً؛ لأن المطلوب بالقياس إثبات حكم الشرع.
قوله: (لا عقلياً) هذا محترز قوله: (شرعياً) فإذا كان الحكم الثابت في الأصل عقلياً لم يصح القياس عليه؛ لأن بحثنا في القياس الشرعي، الذي يراد به إثبات حكم شرعي للفرع. فإن قلنا: يجري القياس في العقليات، فليس قياساً شرعياً، إنَّما هو قياس عقلي.(1/329)
قوله: (أو أصولياً) هذا محترز قولنا: (عملياً) . وإن كان المصنف لم يصرح به، لكنه يفهم من ذكر محترزه، والمراد بالحكم الأصولي: مسائل العقيدة، فلا يصح إجراء القياس في العقائد والتوحيد، وتقدم ذكر ذلك.
و(الجامع): وهو المقتضي لإثبات الحكم، ويكون حكماً شرعياً، ووصفاً عارضاً، ولازماً، ومفرداً، ومركباً، وفعلاً، ونفياً، وإثباتاً، ومناسباً، وغير مناسب. وقد لا يكون موجوداً في محل الحكم، كتحريم نكاح الحر للأمة لعلة رق الولد، وله ألقاب منها: العلة: وقد سبق تفسيرها، والمؤثر: وهو المعنى الذي عرف كونه مناط للحكم بمناسبته . و المناط: وهو من تعلق الشيء بالشيء، ومنه (نياط) القلب لِعَلاَّقَتِه، فلذلك هو عند الفقهاء متعلق الحكم. والبحث فيه، إما لوجوده وهو: (تحقيق المناط)، أو تنقيته وتخليصه من غيره وهو (تنقيح المناط) [بـ]أن ينص الشارع على حكم عقيب أوصاف، فيلغي المجتهد غير المؤثر، ويعلق الحكم على ما بقي، و(تخريجه) بأن ينص الشارع على حكم غير مقترن بما يصلح علة، فيستخرج المجتهد علته باجتهاده ونظره.
قوله: (والجامع) هذا الركن الرابع وهو الجامع، والمراد به الجامع بين الأصل والفرع. والتعبير بالجامع ليعم قياس العلة وقياس الشبه وقياس الدلالة، والتعبير بالعلة يختص بقياس العلة حَسْبُ[(924)].
قوله: (وهو المقتضي لإثبات الحكم) أي: الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، فإن الله تعالى يشرع الأحكام من أجل حِكَمٍ باهرة ومصالح عظيمة، كلها راجعة إلى المخلوقين، الذين هم في غاية الفقر والحاجة إلى ما يشرعه لهم خالقهم، وهو غني لذاته الغنى المطلق سبحانه وتعالى.
ومثال ذلك ما تقدم في أول القياس من أن علة النهي عن البيع يوم الجمعة بعد النداء الثاني ما في البيع من التعويق عن حضور الجمعة، واحتمال تفويتها، فالتعويق عن الحضور وصف مشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، وهو النهي عن البيع في هذا الوقت.(1/330)
والمراد بالحكمة: المصلحة التي قصد الشارع تحقيقها بتشريعه الحكم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية)[(925)].
وهذا التعريف من المؤلف للجامع يدل على اختياره أن العلة بمعنى: الباعث على تشريع الحكم، وقد نصَّ المؤلف في الكلام على «الأحكام الوضعية» على هذا الاختيار، وهو اختيار الآمدي، وتبعه ابن الحاجب[(926)].
وقد وقع النزاع بين الأصوليين في العلة، هل هي أمارة وعلامة ومُعَرِّف للحكم أو أنها باعث؟
وقد مضى بيان ذلك وسبب النزاع، والحق أن إطلاق اسم الأمارة والعلامة على العلة لا مانع منه، لكن لا يُقصر ذلك عليها، بل هي مؤثرة وباعث على تشريع الحكم[(927)] ـ أيضاً ـ، وسيمر في هذا الباب الاستدلال على بعض مسائل القياس بأن العلة أمارة وعلامة على وجود الحكم.
قوله: (ويكون حكماً شرعياً) أي: هذا الجامع أنواع: فقد يكون حكماً شرعياً، كقولنا: تحرم الخمر، فلا يصح بيعها كالميتة، فالجامع هو التحريم، وهو حكم شرعي علل به حكم شرعي، وهو فساد البيع، ومثله: قولنا: من صح طلاقه صح ظهاره، وسيأتي الكلام على ذلك ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (ووصفاً عارضاً) أي: كالشدة في الخمر، فهي علة التحريم، وهي وصف عارض؛ لأنه عَرَضَ للعصير بعد أن لم يكن.
قوله: (ولازماً) كالأنوثة في ولاية النكاح.
قوله: (ومفرداً) أي: وصف واحد، كقولنا في اللواط: زنا، فأوجب الحد كوطء المرأة، وكالكيل عند من يعلل به في الأصناف الربوية.
قوله: (ومركباً) أي: من عدة أوصاف، كالقتل العمد العدوان، علة لوجوب القصاص، وكالكيل والطعم عند من يعلل به.
قوله: (وفعلاً) كالقتل علة للقصاص، والسرقة علة للقطع.
قوله: (ونفياً وإثباتاً) أي: يجوز أن تكون العلة وصفاً منفياً، أو وصفاً مثبتاً. فالأول: نحو: لم ينفذ تصرفه لعدم رشده، والثاني: نحو: حُرِّم الخمر لإسكاره.(1/331)
قوله: (ومناسباً) أي: وجدت الحكمة مع العلة؛ كالإسكار لتحريم الخمر، والقتل، والسرقة، والقذف، لأحكامها.
قوله: (وغير مناسب) ، وهو: ما تخلفت فيه الحكمة عن العلة في بعض الصور مع كون وجودها هو الغالب، ومثاله: المسافر سفر تَرَفُّهٍ كالذي يسافر على الطائرة ـ مثلاً ـ فإن أكثر أهل العلم على أنه كالنائم على مَحْمِل[(928)]، فَرُخَصُ السفر ثابتة له كالقصر والفطر؛ لأن العلة التي هي السفر موجودة، ووصف السفر في هذا المثال ليس مناسباً لتشريع الحكم (كالقصر مثلاً) لتخلف الحكمة؛ لأن حكمة التخفيف بالقصر والإفطار هي تخفيف مشقة المسافر، وهذا المسافر المذكور لا مشقة عليه أصلاً، ووجه بقاء الحكم هنا مع انتفاء حكمته هو: أن السفر مظنة المشقة غالباً، والمعَلَّل بالمظان لا يتخلف حكمه بتخلف حكمته اعتباراً بالغالب وإلغاءً للنادر.
قوله: (وقد لا يكون موجوداً في محل الحكم...) أي: قد يكون الجامع وصفاً غير موجود في محل الحكم، إلا أنه يترقب وجوده (كتحريم نكاح الحر للأمة لعلَّةِ رِقِّ الولد) . فإن رِقَّ الولد وصف قائم به، أو معنى إضافي بينه وبين سيده، وتحريم نكاح الأمة وصف قائم بالنكاح، أو معنى مضاف إليه، فَرِقُّ الولدِ وصف غير موجود في محل الحكم، وهو تحريم النكاح.
قوله: (وله ألقاب) أي: الجامع بين الفرع والأصل له ألقاب، وله أسامٍ في الاصطلاح.
قوله: (منها: العلة، وقد سبق تفسيرها) أي: عند الكلام على أقسام الحكم الوضعي، وذكرت هناك معناها اللغوي.(1/332)
قوله: (والمؤثر: وهو المعنى الذي عُرِفَ كونه مناطاً للحكم بمناسبته) المراد بالمعنى: الوصف، ومعنى (مناطاً للحكم) أي: علة للحكم، والمراد بالمناسبة: كون ذلك الوصف مظنةً لتحقق حكمة الحكم، وما قصده الشرع بتشريعه، كالإسكار فهو معنى عُرِفَ كونه علة لتحريم الخمر، وتَرَتُّبُ الحكم عليه فيه مصلحة حفظ العقل، والصغر معنى عُرف كونه علة للولاية على المال، وترتب الحكم عليه فيه مصلحة حفظ المال.
وسُمِّي الجامع مؤثراً؛ لأن الوصف له تأثير في الحكم عند الشرع حتى كأن الحكم نشأ عنه، أو أنه أثر من آثاره.
قوله: (والمناط...) هذا من ألقاب العلة، وأصل المناط: موضع التعليق، من ناطه نوطاً، أي: علقه، ومنه نياط القلب، وهو عرق عُلِّق به القلب من الوتين، فإذا قطع مات صاحبه[(929)]. وأطلق الفقهاء مناط الحكم على العلة؛ لأنها مكان نوطه أي: تعليقه.
قوله: (والبحث فيه إما لوجوده وهو تحقيق المناط...) أي: إن البحث في الجامع والاجتهاد في العلة ثلاثة أنواع:
الأول: نظر الفقيه في تحقق العلة في الفرع، أو عدم تحققها، وهذا تحقيق المناط.
ومثاله: عَلِمَ الفقيه أن علة وجوب اعتزال النساء في المحيض هي الأذى، فينظر هل توجد هذه العلة في النفاس أو لا؟ فإن وجدت فيه صح تعدية حكم الأصل إليه، وهو وجوب الاعتزال، وإلا فلا.
ومثاله ـ أيضاً ـ : الطواف علة لطهارة الهرة بناءً على حديث: «إنها ليست بنجس إنَّما هي من الطَوَّافِينَ عليكم» [(930)]. والطَوَّافُ وصف موجود في الفأرة ونحوها من صغار الحشرات.
قوله: (أو تنقيته وتخليصه من غيره وهو تنقيح المناط) هذا النوع الثاني من أنواع البحث في العلة، وهو: تنقيح المناط، والتنقيح في اللغة: التهذيب والتمييز، وتنقيح المناط: تهذيب العلة وتصفيتها بإلغاء ما لا يصلح للتعليل واعتبار الصالح له، وهو الذي له تأثير في الحكم.(1/333)
قوله: (بأن ينص الشارع على حكم عقيب أوصاف، فيلغي المجتهد غير المؤثر، ويعلق الحكم على ما بقي) ومثاله: قصة الرجل الذي واقع امرأته في نهار رمضان [(931)]. فإن الحديث دل على عليّة الحكم، ولكن لم يدل على وصف معين أنه هو العلة، فإن من الأوصاف أنه كان رجلاً، وأنه أعرابي، وأنه فقير، وأنه أفطر، وأنه جَامَعَ.
فيأتي الفقيه ويخلّص العلة الحقيقية مما اقترن أو عَلِقَ بها، فيستبعد جميع الأوصاف إلا أنه (جَامَعَ) فتكون العلة في إيجاب الكفارة: أنه واقع أهله عمداً في نهار رمضان، وهذا عند الشافعية والحنابلة، فالكفارة: عندهم بالجماع خاصة دون الأكل والشرب، أمَّا الحنفية والمالكية فقد حذفوا جميع الأوصاف إلا (أنه أفطر) فعندهم من أفطر متعمداً في رمضان بجماع أو أكل أو شرب فعليه الكفارة.
وبهذا يتبين أن أنظار المجتهدين تختلف في تنقيح المناط، فيما يصلح أن يكون علة، وما لا يصلح أن يكون علة.
قوله: (وتخريجه بأن ينص الشارع على حكم غير مقترن بما يصلح علة، فيستخرج المجتهد علته باجتهاده ونظره) هذا الثالث من أنواع البحث في العلة، وهو تخريج المناط بمعنى: استنباط مناط الحكم ـ أي: علته ـ واستخراجه من النص لكون الشارع لم يتعرض له، فكأنه مستورٌ أُخْرِجَ بالبحث والنظر.
ومثال ذلك: أنه ثبت في السنة ستة أصناف يحرم فيها الربا، وهي: (الذهب، والفضة، والبر، والتمر، والشعير، والملح)، ولم يرد ذكر العلة، ولا أوصاف مشتملة عليها، فلذا اجتهد الفقهاء في استنباط العلة بالطرق التي يُتَوصَّل بها إلى معرفة العلة غير المنصوص عليها، ليتأتى قياس الأصناف الأخرى التي لم تذكر في الحديث على التي ذكرت، ما دام أن العلة واحدة. وهذا على رأي جمهور الفقهاء خلافاً للظاهرية.
وهذا النوع محل النزاع بين مثبتي القياس ونفاته، بخلاف النوعين السابقين، فإن أكثر نفاة القياس يقرون بهما.(1/334)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يكثر الغلط في هذا النوع، بسبب عدم العلم بالجامع المشترك الذي عَلَّقَ الشارع الحكم به، فيظن القائس أن هذا الوصف هو علة الحكم، وهو ليس بعلة [(932)].
وحاصل ما تقدم أن استنباط العلة في الأصل (تخريج المناط)، وإثباتها في الفرع (تحقيق المناط)، وتنقية العلة مما لا يصلح أن يكون علة (تنقيح المناط).
والمظنة: وهي من ظننت الشيء، وقد تكون بمعنى العلم، كما في قوله تعالى: {{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ}}، وتارة بمعنى رجحان الاحتمال، فلذلك هي الأمر المشتمل على الحكمة الباعثة على الحكم: إما قطعاً كالمشقة في السفر، أو احتمالاً كوطء الزوجة بعد العقد في لحوق النسب فما خلا عن الحكمة فليس بمظنة.
قوله: (والمظنة: وهي من ظننت الشيء) أي: من ألقاب العلة لفظ: المظنة ـ بفتح الميم وكسر الظاء ـ وهي مشتقة من الظن. وهو خلاف اليقين.
قوله: (وقد تكون بمعنى العلم كما في قوله تعالى: {{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ}} [البقرة: 46] ) أي: إن الظن قد يستعمل بمعنى: اليقين، وهو العلم، كما في الآية الكريمة على أحد القولين[(933)].
قوله: (وتارة بمعنى رجحان الاحتمال) أي: رجحان أحد الاحتمالين على الآخر، بحيث يكون أقرب إلى اليقين، وهذا هو الغالب فيها.
قوله: (فلذلك هي الأمر المشتمل على الحكمة) أي: فلكون المظنة تأتي بمعنى الظن أو اليقين أو الرجحان، صح أن يطلق على الجامع (مظنة) لأنه مظنة تحقق المصلحة المقصودة من تشريع الحكم، إما قطعاً أو احتمالاً.
فمعنى المظنة: مظنة وجود حكمة العلة، ولا يلزم في كل علة أن تكون مفضية إلى المقصود قطعاً، بل قد توجد علل لا تفضي إلى المقصود إلا ظناً، أو أقل من ذلك، كما سيأتي.
والحكمة: هي المصلحة التي قصد الشارع تحقيقها بتشريع الحكم، وصار الوصف بسببها علة للحكم، كما مضى.(1/335)
فمثلاً: رُخِّصَ للمسافر أن يقصر الصلاة، وعلة ذلك هي السفر، والمصلحة التي بسببها صار السفر علة هي تخفيف المشقة، فالسفر علة، وهو مظنة تحقق المصلحة من القصر، وهو أمر مشتمل على حكمة، وهي تخفيف المشقة، وهي الباعث على تشريع الحكم، وهو القصر.
وقوله: (الباعثة على الحكم) هذه صفة للحكمة. أي: من شأن الحكمة أن تكون باعثة على الحكم؛ لأن الحكم شُرِعَ بسبب هذه الحكمة، كما تقدم.
قوله: (إما قطعاً كالمشقة في السفر) فالسفر علة لتشريع الحكم وهو القصر، والسفر أمر مشتمل على الحكمة، وهي تخفيف المشقة، وهو مشتمل عليها قطعاً، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «السفر قطعة من العذاب» [(934)].
فالمعنى المقصود من شرع الحكم علم حصوله قطعاً، ومثله البيع فإنه إذا كان صحيحاً حصل منه الملك الذي هو المقصود بالعقد.
قوله: (أو احتمالاً كوطء الزوجة بعد العقد في لحوق النسب) أي: يكون حصول المعنى محتملاً كوطء الزوجة، فإن حصول نطفة الزوج في رحم زوجته هو علة ثبوت النسب، ولكن هذا أمر خفي لا سبيل للاطلاع عليه والتأكد منه، فأقام الشارع مقامه أمراً ظاهراً يدل عليه وهو عقد الزواج الصحيح، أو العقد مع إمكان الدخول، أو مع الدخول فعلاً، على اختلاف بين الفقهاء، والمصنف يرى العقد مع الدخول فعلاً، والمقصود أن العلة في إثبات الأنساب هي الفراش الذي هو العقد الصحيح؛ إذ هو مظنة حصول النطفة في الرحم.
ومثاله ـ أيضاً ـ : شرعية القصاص المرتب على القتل العمد العدوان، فإن المقصود منه الانزجار عن القتل، ولكن هذا غير مقطوع به بدليل وجود الإقدام على القتل، مع علم القاتل بأن القصاص مشروع.
قوله: (فما خلا عن الحكمة فليس بمظنة) أي: فالجامع إذا خلا عن الحكمة لا يسمى (مظنة) ؛ لأنه إنما أطلق عليه مظنة لأنه مظنة الحكمة، فإذا لم يكن حكمة فلا معنى لإطلاق لفظ المظنة عليه، ويستفاد من ذلك أن اسم المظنة لا يطلق على كل علة، وإنَّما على بعض العلل.(1/336)
ومثال ما خلا عن الحكمة قطعاً: لو تزوج مشرقي بمغربية وكل منهما في مكانه، فلا يعلل بذلك للحوق النسب؛ لأن المقصود فائت يقيناً؛ للقطع بانتفاء اجتماعهما، إلا عند الحنفية فَيَلْحَقُ عندهم النسبُ لو تزوجها بطريق التوكيل، نظراً إلى الأغلب، ولأن الولد للفراش.
أمَّا عند الجمهور فإنه إذا فات المقصود من شرعية الحكم يقيناً لم يجز التعليل به؛ لأن المقصود من شرع الأحكام تحقيقُ الحِكَم، فشرع الأحكام مع انتفاء الحكمة يقيناً لا يكون مفيداً، فلا يرد به الشرع.
و(السبب) وأصله: ما تُوصِّل به إلى ما لا يحصل بالمباشرة، والمُتَسَبِّبُ: المتعاطي لفعله، وهنا ما تُوصِّل به إلى معرفة الحكم الشرعي فيما لا نص فيه. وجزء السبب: هو الواحد من أوصافه، كجزء العلة.
و(المقتضي) وهو لغة: طالب القضاء، فيطلق هنا لاقتضائه ثبوت الحكم.
قوله: (والسبب) أي: إن السبب يطلق على الجامع، وهي: العلة الشرعية، وتسميتها سبباً لأنها طريق إلى معرفة الحكم[(935)].
قوله: (وأصله: ما تُوصِّل به إلى ما لا يحصل بالمباشرة) فالحبل مثلاً تُوصِّل به إلى إخراج الماء من البئر، ولا يحصل الإخراج بالمباشرة لبعده.
قال الجوهري: (السبب: الحبل، والسبب أيضاً: كل شيء يتوصل به إلى غيره)[(936)]. وتقدم ذلك في «الأحكام الوضعية».
قوله: (والمتسبب: المتعاطي لفعله) أي: المتعاطي لفعل السبب هو المتسبب، فالمؤثر في إخراج الماء ليس الحبل نفسه، وإنَّما المؤثر حركة المستقي للماء.
قوله: (وهنا: ما توصِّل به إلى معرفة الحكم الشرعي فيما لا نص فيه) أي: إن السبب في باب القياس والذي هو من ألقاب الجامع يراد به: الطريق إلى معرفة الحكم الشرعي، ومن المعلوم أن الحكم الشرعي يعرف في الفرع الذي لا نص فيه بواسطة ثبوت العلة في الفرع.(1/337)
وعلى هذا فالسبب هو ما جعله الشارع علامة على الحكم وجوداً وعدماً، بحيث يوجد الحكم عند وجوده، وينعدم عند عدمه، كالزنا لوجوب الحد، والجنون لوجوب الحجر، والغصب لوجوب رد المغصوب، فإذا انتفى الزنا والجنون والغصب انتفى وجوب الحد والحجر والرد أو الضمان، وعليه فالسبب والعلة بمعنى واحد، وهذا قول الجمهور [(937)].
ومن الأصوليين من يقول: إن كانت العلامة مؤثرة في الحكم بمعنى: أن العقل يدرك وجه المناسبة بين الوصف والحكم فهذا علة وسبب، كالسفر لإباحة الفطر، والإسكار لتحريم الخمر، والصغر للولاية على المال، وإن كانت المناسبة خفية لا يدركها العقل سمي سبباً فقط، ولا يسمى علة، كغروب الشمس سبب لوجوب صلاة المغرب، فإن العقل لا يدرك وجه المناسبة بين هذا السبب وبين تشريع هذا الحكم، فهذا سبب وليس بعلة، وعلى هذا فكل علة سبب، وليس كل سبب علة.
ويرى آخرون قَصْرَ اسم العلة على ما عرفت مناسبته، وقصر اسم السبب على ما لم تعرف، فالعلة لا تسمى سبباً والسبب لا يسمى علة، والأمر في ذلك سهل، لكن قد يستفاد من هذا التفصيل أن ما سمي (علة) صح فيه القياس، وما لم يسمَّ (علة) امتنع فيه القياس.
وإنَّما قال المصنف: (وهنا ما تُوصِّل به...) إلخ، لأنه تقدم في الكلام على الأحكام الوضعية أن السبب يطلق على معان أخرى.
قوله: (وجزء السبب: هو الواحد...) إلخ، أي: إن السبب كالعلة يتركب من عدة أوصاف، وجزء السبب هو الوصف الواحد من أوصافه، كالقتل العمد العدوان للقصاص، وقد مضى ذكر ذلك عند الكلام على «الأحكام الوضعية».
قوله: (والمقتضي وهو لغةً: طالب القضاء) أي: من ألقاب الجامع: المقتضي، وهو لغةً: طالب القضاء؛ لأنه اسم فاعل من اقتضى.
قوله: (فيطلق هنا لاقتضائه ثبوت الحكم) أي: إن الجامع أطلق عليه لفظ المقتضي؛ لأنه يقتضي ثبوت الحكم الشرعي؛ كالسفر يقتضي إباحة الفطر ـ مثلاً ـ، والإسكار يقتضي تحريم الخمر.(1/338)
و(المستدعي): وهو من دعوته إلى كذا، أي: حثثته عليه؛ لاستدعائه الحكم.
ثم (الجامع) إن كان وصفاً موجوداً ظاهراً منضبطاً مناسباً معتبراً مطرداً متعدياً فهو علة لا خلاف في ثبوت الحكم به، أما (الوجود) فشرط عند المحققين، لاستمرار العدم، فلا يكون علة للوجود.
قوله: (والمستدعي... لاستدعائه الحكم) أي: لأن الجامع يستدعي الحكم [(938)]، ويطلبه.
قوله: (ثم الجامع إن كان وصفاً... فهو علة لا خلاف في ثبوت الحكم به) ذكر هنا شروط اعتبار الجامع علة لثبوت الحكم به، وقد ذكرها إجمالاً ثم فصَّل فيها، وذلك أنه ليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لِحُكْمِهِ، بل لا بد من شروط، وهذه الشروط استمدها الأصوليون من استقراء العلل المنصوص عليها، ومن مراعاة تعريف العلة، ومن الغرض المقصود من التعليل، وهو تعدية الحكم إلى الفرع، وهذه الشروط بعضها مجمع عليه، وبعضها مختلف فيه، ومن أهم هذه الشروط:
1 ـ أن يكون الوصف وجودياً.
2 ـ أن يكون ظاهراً.
3 ـ أن يكون منضبطاً.
4 ـ أن يكون مناسباً.
5 ـ أن يكون معتبراً.
6 ـ أن يكون مطرداً.
7 ـ أن يكون متعدياً.
فمتى تحققت هذه الأوصاف في الجامع فهو علة لا خلاف بين الأصوليين في ثبوت حكم الأصل للفرع به.
قوله: (أمَّا الوجود) أي: اشتراط أن تكون العلة وصفاً وجودياً، أي أمراً ثبوتياً، كتعليل تحريم الخمر بالإسكار، وإباحة الفطر والقصر بالسفر.
قوله: (فشرط عند المحققين) فعندهم لا يجوز التعليل بالعلة العدمية إذا كان الحكم ثبوتياً، وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب، وحكي عن الحنفية[(939)]، والجمهور على جواز تعليل الوجودي بالوصف العدمي.
قوله: (لاستمرار العدم) هذه حجة القائلين بالمنع، ومعنى «لاستمرار العدم» أي: لأن الوصف العدمي ليس له نهاية، يوضحه: أن المجتهد عليه سَبْرُ كلِّ وصفٍ يمكن أن يكون علة، ليميز الوصف الصالح للعلّية عن غيره، وسَبْرُ الأوصاف العدمية غير مقدور عليه؛ لأن الأعدام غير متناهية.(1/339)
قوله: (فلا يكون علة للوجود) أي: لا يكون العدم علة للوجود، وهو وجود الحكم؛ لأن الحكم لا يثبت إلا بوجود معنى يقتضي ثبوته، كالإسكار ـ مثلاً ـ والنفي عَدَمُ معنى، فلا يجوز أن يوجب الحكم[(940)].
وأما (النفي) فقيل: يجوز علة، ولا خلاف في جواز الاستدلال بالنفي على النفي، أما إن قيل: بعلّيته فظاهر، وإلا فمن جهة البقاء على الأصل، فيصح فيما يتوقف على وجود الأمر المدعى انتفاؤه، فينتفي لانتفاء شرطه، لا في غيره.
قوله: (وأمَّا النفي فقيل: يجوز علة) المراد بالنفي: الوصف المنفي، وهو عدم الوجود، أي: يجوز أن يكون النفي علة لإثبات حكم، نحو: التفاح ليس بمكيل ولا موزون، فيجوز التفاضل فيه، وقَتْلُ المرتد لعدم إسلامه، قال تعالى: {{وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}} [الأنعام: 121] ، فجعل سبحانه انتفاءَ ذكرِ اسم الله عزّ وجل علامةً على تحريم الأكل.
وحجة هؤلاء أن العلة الشرعية أمارة على الحكم ومعرِّفة له، ولا امتناع في جعل العدم أمارة، أي: علامة على ثبوت الحكم؛ إذ لا يمتنع أن يكون الشارع جعل نَفْيَ أمرٍ علامةً على وجود أمر آخر، كما في الآية الكريمة[(941)].
والحقُّ أنَّ من مَنَعَ بنى على أن العلة موجبة للحكم، والعدم لا يؤثر في الموجود، ومن أجاز بنى على أن العلة معرّفة[(942)]، والظاهر الجواز؛ لقوة مأخذه.
وقولهم: إن عدم المعنى لا يوجب الحكم والنفي عدم، مجرد دعوى، فَلِمَ لا يجوز؟ ثم إنَّ كلَّ نفي يتضمن إثباتاً، فقولنا: يقتل المرتد؛ لأنه ليس بمسلم، يشابه قولنا: يقتل المرتد لكفره، فيكون ذلك الإثبات علة في إثبات الحكم[(943)].(1/340)
قوله: (ولا خلاف في جواز الاستدلال بالنفي على النفي) أي: بأن يستدل بانتفاء حكم شيء على انتفائه عن مثله، ويستعمل القياس في ذلك على وجه التلازم، كما يأتي في الاستدلال ـ إن شاء الله ـ، نحو: الخمر لا يجوز بيعه، فلا يجوز رهنه، ونحو: لو وجبت الزكاة في حليٍّ، وجبت في جوهرٍ قياساً، واللازم منتفٍ فينتفي ملزومه[(944)].
قوله: (أمَّا إن قيل: بعلّيته فظاهر) أي: إن كان الاستدلال بالنفي على النفي من قبيل أن النفي علة للنفي، فهذا ظاهر في جواز كون النفي علة. ويكون من باب قياس العلة.
قوله: (وإلا فمن جهة البقاء على الأصل) أي: وإلا يُقَلْ بعليته فيكون الاستدلال به من باب الاستصحاب، وهو البقاء على الأصل، وهو النفي الأصلي. لأن البراءة الأصلية لا تفتقر إلى سبب.
قوله: (فيصح فيما يتوقف على وجود الأمر المدعى انتفاؤه) أي: فيصح الاستدلال بالنفي على النفي فيما يتوقف على وجود شيء يُدعى انتفاؤه، بناءً على الأصل، فمن ادعى على شخص حقاً فعليه الإثبات، وللمدعى عليه أن يستدل على النفي بأن الأصل براءة الذمة.
ومثله قول الشافعية لمن يوجب الوتر: الأصل عدم وجوبه إلا بدليل، فيُستدل على انتفاء وجوب الوتر بانتفاء الدليل وعدم وروده[(945)].
قوله: (فينتفي لانتفاء شرطه) أي: فينتفي الأمر المدعى انتفاؤه؛ لانتفاء شرطه، وهو عدم الدليل المثبت له؛ لأن الشرط علامة على انتفاء المشروط، فإنه ينتفي بانتفائه.
وقوله: (لا في غيره) أي: لا يستدل بالنفي على النفي في غير الصورة المذكورة، وهي الاستدلال على وجود أمر يُدّعى انتفاؤه.
و (الظهور) ، و (الانضباط) ليتعين و (المناسبة) وهي حصولُ مصلحةٍ يغلبُ ظنُّ القصدِ لتحصيلها بالحكم، كالحاجة مع البيع، وغيره طردي ليس بعلة عند الأكثرين، وقال بعض الشافعية: يصح مطلقاً، وقيل: جدلاً. و (الاعتبار) : أن يكون المناسب معتبراً في موضع آخر، وإلا فهو مرسل يمتنع الاحتجاج به عند الجمهور.(1/341)
قوله: (والظهور) هذا الشرط الثاني من شروط الجامع، وهو: أن يكون الوصف ظاهراً، ومعنى ظهوره: أن يكون مدركاً بالحواس الظاهرة، ليمكن التحقق من وجوده في كل من الأصل والفرع، كالإسكار في الخمر، فإنه يدرك بالحسِّ، ويتحقق من وجوده في مطعوم آخر مسكر، ومثله: الكيل والطعم عند من يعلل بهما في الربويات.
أمَّا الخفي وهو الذي لا يمكن الاطلاع عليه ولا يدرك بحاسة ظاهرة فلا يصح التعليل به؛ لأنه لا يمكن التحقق من وجوده أو عدمه، فلا يعلل البلوغ بكمال العقل؛ لأنه أمر خفي، ولهذا إذا كانت العلة وصفاً خفياً أقام الشارع مقامه أمراً ظاهراً هو مظنته بحيث يدل عليه، فجعل علامة البلوغ: الاحتلام ـ مثلاً ـ الذي هو مظنة كمال العقل.
ومثله ـ أيضاً ـ: القتل العمد العدوان، هو علة وجوب القصاص، ولكن العمديّة أمر نفسي لا يعرفه إلا من قام به، فأقام الشارع مقامه أمراً ظاهراً يقترن به ويدل عليه غالباً، وهو الآلة التي يستعملها القاتل، كالسيف ونحوه.
قوله: (والانضباط ليتعين) هذا الشرط الثالث، وهو: أن تكون العلة وصفاً منضبطاً متميزاً عن غيره، ومعنى انضباطه: أن تكون له حقيقة معينة محدودة يمكن التحقق من وجودها في الفرع بحدها أو بتفاوت يسير؛ لأن أساس القياس تساوي الفرع والأصل في علة الحكم ـ كما تقدم ـ، وهذا التساوي يستلزم أن تكون العلة منضبطة محدودة حتى يمكن الحكم بأن الواقعتين متساويتان فيها، فالسفر وصف منضبط، له حقيقة معينة لا تختلف باختلاف الأفراد والأحوال، والإسكار علة لتحريم الخمر، وله حقيقة معينة ثابتة، وهي ما يعتري العقل من اختلال، وكالقتل العمد العدوان من الوارث لمورِّثه وصف منضبط لا يختلف باختلاف القاتل والمقتول، وأمكن تحققه في قتل الموصى له للموصي.(1/342)
أمَّا الأوصاف غير المنضبطة فلا يعلل بها؛ لأنها تختلف باختلاف الظروف والأحوال والأفراد، فلا تُعلل إباحة الفطر في رمضان للمريض أو المسافر بدفع المشقة، بل بمظنتها وهو السفر أو المرض؛ لأن المشقة وصف غير منضبط؛ لأنها تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فلا يصلح لبناء الحكم عليه، ولهذا عُدِلَ إلى التعليل بالسفر؛ لما تقدم.
قوله: (والمناسبة) هذا الشرط الرابع، وهو: أن تكون العلة وصفاً مناسباً للحكم، والمناسبة في اللغة: الملاءمة والمقاربة.
قوله: (وهي حصول مصلحة يَغْلِبُ ظنُّ القصدِ لتحصيلها بالحكم) هذا تعريف المناسبة اصطلاحاً، فـ (هي حصول مصلحة) من جلب نفع أو دفع ضر. (يغلب ظن القصد لتحصيلها) أي: يغلب على ظن المجتهد أن الشرع قصد بتشريع هذا الحكم تحقيق هذه المصلحة وتحصيلها.
فالإسكار ـ مثلاً ـ مناسب لتحريم الخمر؛ لأن في بناء التحريم عليه حفظَ العقولِ، والسرقة مناسبة لقطع يد السارق؛ لأن في ذلك حفظَ أموال الناس، والسفر مناسب لقصر الصلاة؛ لأنه مظنة المشقة والحرج، والحاجة مناسبة لإباحة البيع. وهكذا...
قوله: (وغيره طردي) أي: غير الوصف المناسب: طردي ـ بالياء ـ كما يعبر به الأكثرون، وبعضهم يقول: طرد، قال الإسنوي: (اعلم أن التعبير عما ليس بمناسب ولا مستلزم للمناسب بالطرد ذكره جماعة، والتعبير المشهور فيه هو الطردي، بزيادة الياء، وأمَّا الطرد فمن جملة الطرق الدالة على العلية)[(946)].
فالطردي هو الوصف الذي ليس بينه وبين الحكم مناسبة، وهو الذي لم يُعهد من الشارع الالتفات إليه في إثبات الأحكام، إما بالنسبة إلى جميع الأحكام، مثل كون القاتل أسود، أو كون السارق غنياً والمسروق منه فقيراً، أو كون المواقع زوجته في نهار رمضان أعرابياً، ونحو ذلك من الأوصاف الطردية، أو إلى بعضها كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق[(947)]، بخلاف غيره فهما معتبران كالشهادة، والميراث، والقضاء، وولاية النكاح.(1/343)
ويعرف كون الوصف طردياً باستقراء موارد الشرع ومصادره، إما مطلقاً، وإما في بعض الأبواب.
قوله: (ليس بعلة عند الأكثرين) أي: إن الوصف إذا كان طردياً فليس بعلة عند أكثر العلماء؛ لأن الصحابة لم ينقل عنهم إلا العمل بالمناسب، أمَّا غيره فلا، فوجب بقاؤه على الأصل في عدم الاعتبار.
قوله: (وقال بعض الشافعية: يصح مطلقاً) هذا القول الثاني ، وهو أنه يصح التعليل بالطردي في مقام الجدل، وفي مقام العمل والفتوى، ونسبه إمام الحرمين إلى طوائف من أصحاب أبي حنيفة[(948)].
قالوا: لأن الشارع ينصب الوصف الطردي عَلماً على الحكم، وإن لم يكن مناسباً له، وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع من المستنبط تقديره.
وهذا ليس بصحيح؛ فإن الشارع له أن يؤسس الحكم، ويذكر ما هو علامة لهذا الحكم، والمستنبط يذكر الطردي تحكماً، فيؤدي ذلك إلى التحكم بوضع الحكم، وهذا لا يصح.
قوله: (وقيل: جدلاً) هذا القول الثالث ، وهو أنه يصح التعليل بالطردي في مقام الجدل، ولا يسوغ التعويل عليه عملاً ولا الفتوى به. وهذا القول للكرخي من الحنفية، وهذا مذهب ضعيف بل متناقض؛ لأن المناظرة مباحثة عن مأخذ الشرع، والجدل يستاقها على أحسن ترتيب يقرب إلى المقصود، وليس في أبواب الجدل ما يسوغ استعماله في النظر، مع الاعتراف بأنه لا يصلح أن يكون مناطاً للحكم[(949)].
قوله: (والاعتبار) هذا الشرط الخامس من شروط العلة، وهو أن تكون العلة من الأوصاف المعتبرة، التي اعتبرها الشرع وبنى الأحكام عليها.
قوله: (أن يكون المناسب) أي: الوصف المعلل به.(1/344)
قوله: (معتبراً في موضع آخر) أي: اعتبره الشرع علة للحكم، فعلَّق عليه بعض الأحكام، وهذا يدل على أن المناسبة بين الحكم والعلة ليست متروكة لأهواء النفس وما تشتهيه، بل لا بُدَّ من اعتبار الشارع لها، سواء اعتبره بعينه للحكم ذاته، أو كان معتبراً في موضع آخر، فالأول أعلى أنواع الاعتبار، كالأذى الناشئ عن المحيض علةُ إيجابِ الاعتزال في المحيض، كما في قوله تعالى: {{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}} [البقرة: 222] وكتعليل الحدث بمسِّ الذكر في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من مسَّ ذكره فليتوضأ» [(950)]، فهذا وصف معتبر بنى الشرع عليه هذا الحكم، وسمي (معتبراً) لوجود الدليل على اعتباره وصفاً.
أما الثاني وهو المعتبر في موضع آخر ـ وهو الذي ذكره المصنف ـ فمثاله: أنه ثبت بالإجماع اعتبار الصغر علة للولاية على مال الصغيرة، لقوله تعالى: {{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}} [النساء: 6] فيكون هذا الوصف وهو الصغر وصفاً معتبراً لحكمٍ في موضع آخر، وهو الولاية على تزويجها.
قوله: (وإلا فهو مرسل) أي: وإلا يكن المناسب معتبراً فهو المناسب المرسل، وهو الوصف الذي لم يشهد له دليل خاص بالاعتبار أو بالإلغاء، ولكنَّ بناءَ الحكم عليه يحقق مصلحة تشهد لها عمومات الشريعة وأصولها الكلية، مثل: المصلحة التي دعت إلى جمع القرآن، وتدوين الدواوين، وزيادة عثمان رضي الله عنه الأذان يوم الجمعة لإعلام من في السوق، واتخاذ الخلفاء رضي الله عنهم السجون، فهو من حيث إنه يحقق مصلحة من جنس مصالح الشريعة يكون مناسباً، ومن حيث إنه خال عن دليل يشهد له بالاعتبار أو بالإلغاء يكون مرسلاً، وهذا هو الذي يسمى بالمصلحة المرسلة[(951)].(1/345)
قوله: (يمتنع الاحتجاج به عند الجمهور) أي: لا يجوز تشريع الحكم بناء على المناسب المرسل، لأن الشارع لم يعتبره، وما لم يعتبره لا يصلح أن يكون وصفاً يُرتَّبُ عليه حكم شرعي.
ودليلهم أمران:
الأول: أن الشريعة راعت جميع مصالح الناس بنصوصها وبما أرشدت إليه من القياس، فلا مصلحة إلا ولها شاهد من الشارع.
والثاني: أن التشريع بناء على مطلق المصلحة فَتْحُ بابٍ لأهواءِ ذوي الأهواء والولاة والأمراء ورجال الإفتاء، فربما تخيلوا بعض المفاسد مصالح، فرتبوا عليها أحكاماً، وقد تقدم البحث في «المصلحة المرسلة»، وبيان من أجاز الأخذ بها.
و(الاطراد): شرط عند القاضي وبعض الشافعية. وقال أبو الخطاب وبعض الشافعية: يختص بمورده.
و(التخلف): إما لاستثنائه كالتمر في المصراة، أو لمعارضة علة أخرى، أو لعدم المحل، أو فوات شرطه، فلا ينقض، وما سواه فناقض.
قوله: (والاطراد) هذا الشرط السادس من شروط العلة، وهو شرط مختلف فيه، ومعنى الاطراد: أنه كلما وجدت العلة وجد معها الحكم، كوجود التحريم حيث وجد الإسكار، وتحريم الربا حيث وجد الكيل والطعم ـ مثلاً ـ.
قوله: (شرط عند القاضي وبعض الشافعية) هذا القول الأول ، وهو أن الاطراد شرط في صحة العلة، وعليه فإذا تخلف الحكم عنها مع وجودها استدللنا على أنها ليست بعلة؛ إذ لا فائدة من وجود العلة بدون حكم، وهذا ما يسمى بـ(النقض) وعليه فالنقض يقدح في صحة العلة، وهذا قول القاضي وبعض الشافعية، قال ابن اللحام في «مختصره»: (اشترطه الأكثر)[(952)]اهـ.(1/346)
قوله: (وقال أبو الخطاب وبعض الشافعية: يختص بمورده) هذا القول الثاني ، وهو: أنه لا يشترط اطراد العلة، فلا يقدح النقض في صحتها، بل هو تخصيص لها يختص بمورد الحكم، وتبقى العلة حجة فيما عدا المحل المخصوص، كالعام إذا خُصَّ يكون حجة فيما عدا الصورة المُخْرَجة بالتخصيص، وهذا قول أكثر الحنفية وأكثر المالكية، وحكاه الآمدي عن أكثر الحنابلة، واختاره أبو الخطاب، وبعض الشافعية[(953)].
قالوا: لأن ثبوت الحكم على وفق المعنى المناسب في موضعٍ دليلٌ على أنه هو العلة، وتَخَلُّفُ الحكم يحتمل أنه لمعارض من فوات شرط أو وجود مانع، ويحتمل أن يكون لعدم العلة، فلا يترك الدليلُ المغلِّبُ على الظن، لأمر مُحْتَمَلٍ متردد.
ولأن علل الشارع أمارات لا مؤثرات، والأمارة لا يجب وجود حكمها معها أبداً، بل يكفي وجودها في الأغلب، كالغيم في الشتاء أمارة على وجود المطر، فإن وجد ولم يمطر لم يخرجه ذلك عن كونه أمارة على المطر.
وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب التفريق بين العلة التامة والعلة الناقصة، فالتامة وهي المقتضى الذي اكتملت شروطه وانتفت موانعه لا بد من اطرادها، ومتى انتقضت فسدت، وأما الناقصة فانتقاضها لا يفسدها[(954)].
قوله: (والتخلف) لما ذكر المصنف تخصيص العلة بتخلف حكمها، والخلاف في ذلك، ذكر أقسام التخلف ليتميز بعضها عن بعض، فتخلُّفُ الحكمِ عن العلة ثلاثة أضرب:
قوله: (إمَّا لاستثنائه) أي: يكون التخلف لما عُلِمَ أنه مستثنى من قاعدة القياس، وهو: ما عُدِلَ به عن نظائره؛ لمصلحة أكملَ وأخصَّ من مصالحِ نظائره على جهة الاستحسان الشرعي.(1/347)
قوله: (كالتمر في المصراة) أي: إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة، إذا ردها المشتري، مع أن علة إيجاب المثل في المثليات التماثل بينها، فكان ذلك يقتضي أن يضمن لبن المصراة بلبن مثله؛ لهذه العلة، فَتَخَلُّفُ الحكم في مثل هذه العلة لا تبطل به علة القياس، لثبوته قطعاً بنص الشارع، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، وردّ معها صاعاً من تمر» [(955)]. فتكون هذه العلة علة في غير محل الاستثناء، وما استثناه الشارع لا تلزم فيه العلة.
قوله: (أو لمعارضة علة أخرى) هذا الضرب الثاني من أضرب تخلف الحكم عن العلة، وهو: أن يتخلف الحكم عن العلة لوجود علة أخرى أخصَّ منها، ومثاله: تعليلُ رِقِّ الولد بِرِقِّ أمه، وهذا بالإجماع؛ لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها، فَوَلَدُ من تزوج امرأة على أنها حرة فبانت أمةً يكون ولده منها حراً، مع أن العلة وهي رِقُّ الأم موجودة، لكنها عورضت بعلة أخرى، وهي الغرور الذي صار سبباً لحرية الولد، فهنا علتان: علة الرق تبعاً لأمه، وعلة الحرية تبعاً لاعتقاد أبيه حُرِّيَتَهُ، وثبت مقتضى العلة الثانية؛ تغليباً لجانب الحرية؛ لأنها الأصل.
فهذا لا يفسد العلة؛ لأن الحكم هاهنا وهو رق الولد كالحاصل تقديراً، حيث تجب قيمته على أبيه لسيد أمه، ولولا أن الرق فيه حاصل تقديراً لما وجبت قيمته؛ إذ الحر لا يضمن بالقيمة.
قوله: (أو لعدم المحل أو فوات شرطه) هذا الضرب الثالث ، وهو أن يتخلف الحكم عن العلة لفوات محلٍّ أو شرط، فمثال الأول: القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص، لكن ينتقض ذلك بقتل الوالد ولده، فإنه لا يجب القصاص، فلا يقتل به، مع أن العلة موجودة، فيقال: إن الأبوة مانعة من تأثير العلة في الحكم، لكنها ليست علة منقوضة، بل منع من تأثيرها مانع، فلا تبطل في غير الأب.(1/348)
ومثال الثاني: ـ وهو فوات شرط العلة ـ الزنا علة للرجم إجماعاً، وشرطه: الإحصان، فإذا تخلف الحكم وهو الرجم، مع وجود العلة ـ وهي الزنا ـ، فلا يقال: إنها علة منقوضة، بل علة تخلف شرط تأثيرها.
قوله: (فلا ينقض) أي: تخلف الحكم عن العلة في هذه الأضرب الثلاثة لا ينقض العلة ولا يفسدها، لما سبق تقريره من قيام الدليل عليه.
قوله: (وما سواه فناقض) أي: ما سوى تخلف حكم العلة في الأضرب الثلاثة فهو ناقض للعلة؛ لأن الأصل يقتضي انتقاض العلة بمطلق تخلف حكمها، وإنَّما ترك ذلك في الأضرب الثلاثة؛ لقيام الدليل عليه، ففي غيرها يكون ناقضاً عملاً بالأصل؛ كما مضى.
والنقض أن يوجد الوصف في صورة من الصور ولا يوجد معه الحكم، وما أشار إليه المصنف هو الصواب في المسألة، وهو قول المحققين، وهو أن تخلف العلة عن الحكم إن كان لأجل مانع مَنَعَ من تأثير العلة، أو لفقد شرط تأثيرها فهو تخصيص للعلة، وإلا فهو نقض وإبطال لها[(956)].
ومثاله: لو قيل: الزكاة تجب في المواشي، قياساً على الأموال، بجامع دفع حاجة الفقير، فيقال: إن التعليل بدفع حاجة الفقير قد تخلف الحكم عنها في الجواهر، لصلاحيتها لدفع حاجة الفقير، ومع هذا فلا زكاة فيها، فهي علة منقوضة حيث وجد المعنى المعلل به، وهو دفع حاجة الفقير، ولم يوجد الحكم، وهو وجوب الزكاة.
و(التعدي): لأنه الغرض من المستنبطة، فأما القاصرة وهي ما لا توجد في غير محل النص، كالثمنية في النقدين فغير معتبرة، وهو قول الحنفية، خلافاً لأبي الخطاب والشافعية.
فإن لم يشهد لها إلا أصل واحد فهو (المناسب الغريب). وإن كان حكماً شرعياً فالمحققون: تجوز عليته؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَرَأَيْتَ لو كان على أَبِيْكَ دَيْنٌ» ، «أرأيت لو تمضمضت» ، فنبه بحكم على حكم. وقيل: لا. ثم هل يشترط انعكاس العلة؟.(1/349)
قوله: (والتعدي) هذا الشرط السابع من شروط الجامع، وهو أن يكون وصفاً متعدياً، والمراد بالتعدي: أن تكون العلة متعدية من محل النص إلى غيره، أي: تتعدى من الأصل إلى الفرع، كالإسكار علة متعدية لكل مسكر، فهي غير قاصرة على الأصل، والكيل والطعم كذلك عند من يعلل بهما في الربويات.
قوله: (لأنه الغرض من المستنبطة) أي: لأن التعدي هو الغرض من العلة المستنبطة، حيث إن المجتهد إنَّما يستنبط العلة من الأصل، ليعرف وجودها في الفرع، فإذا كانت العلة قاصرة على الأصل، أي: لا توجد في غيره لم يتمَّ القياس؛ لانعدام العلة في الفرع، كما تقدم.
قوله: (فأما القاصرة ـ وهي ما لا توجد في غير محل النص... فغير معتبرة) العلة القاصرة: تقابل العلة المتعدية، والعلة القاصرة هي التي لا توجد في غير الأصل، وهو محل النص، وهي: إمَّا أن تكون منصوصة أو مستنبطة، فإن كانت ثابتة بنص أو إجماع فلا خلاف في جواز التعليل بها؛ لأن النص تَعَبُّدٌ من الشارع يجب تلقيه بالقبول.
وإن كانت ثابتة باستنباط فهي التي فيها الخلاف، فالقول الأول: إنها غير معتبرة، فلا يصح التعليل بها، وهذا قول أكثر الحنفية، ورواية عن أحمد، اختارها الأكثرون.
واستدلوا بأنه لا فائدة في التعليل بها؛ لأن فائدة العلة منحصرة في إثبات الحكم بها، وهو منتفٍ؛ لعدم تعديها إلى محل آخر، ولأن العلة الشرعية أمارة فلا بد وأن تكون كاشفة عن شيء، والعلة القاصرة لا تكشف عن شيء، فلا تكون أمارة، فلا تصح علة.
قوله: (كالثمنيّة في النقدين) هذا مثال العلة القاصرة. وهو تعليل الربا في الذهب والفضة بكونهما أثمان الأشياء، وهذه علة قاصرة ليست موجودة في غير النقدين لتتعدى إليه.(1/350)
لكن تمثيل المصنف كغيره من الأصوليين للعلة القاصرة بالثمنيّة في النقدين فيه نظر؛ فإن قصر الثمنيّة عليهما يرده تعامل الناس قديماً وحديثاً بأثمان ليست من النقدين، كالتعامل بالمقايضة ـ وهي مبادلة مال بمال كلاهما من غير النقود ـ؛ كأن يبيعه صاع برٍّ بصاعين من شعير، وكذا التعامل بالأوراق النقدية، وغير ذلك مما يكون ثمناً[(957)].
ومن الأمثلة: السفر والمرض علتان لإباحة الفطر للمسافر أو المريض، وهذه العلة لا توجد في غير السفر والمرض، فهي علة قاصرة عليهما لا تتعداهما إلى غيرهما، كأصحاب المهن الشاقة ـ مثلاً ـ لأنهم لا يوجد فيهم علة السفر والمرض.
قوله: (خلافاً لأبي الخطاب والشافعية) هذا القول الثاني ، وهو: أنه يجوز تعليل الحكم بالعلة القاصرة وإن كان الحكم لا يتعدى بها إلى محل آخر لعدم تحققها فيه، وهو رأي أكثر المالكية، وجمهور الشافعية، ورواية عن أحمد، وبعض الحنفية، واختارها أبو الخطاب، وصححه في «جمع الجوامع».
واستدلوا بأن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها، وهذا يكفي، بدلالة صحة العلة القاصرة المنصوصة اتفاقاً، والمجمع عليها أيضاً، وإن لم يفد كل منهما إلا الظن، ولأن الوصف القاصر قد يدور مع العلة وجوداً وعدماً، والدوران دليل العِلِّيَّةِ، فيكون الوصف القاصر علة.
وقولهم: إنه لا فائدة في التعليل بها، غير مسلَّم، بل فيها فوائد منها:
1 ـ أنها تقوّي الحكم بإظهار حكمته، وذلك مما يزيد به الإيمان والعلم، ويكون أدعى إلى القبول والطمأنينة.
2 ـ أنه يعلم بسببها امتناع القياس؛ لكونها قاصرة على محلها.
3 ـ أنها تقوي النص الدال على معلولها؛ لأن التعليل كنص آخر.
والأظهر بحسب النظر جواز التعليل بالعلة القاصرة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(958)]، أمَّا القياس بها فلا يجوز قولاً واحداً[(959)]؛ لعدم تعديها إلى الفرع، والتعدي أساس القياس.(1/351)
قوله: (فإن لم يشهد لها) أي: العلة، والكلام في الوصف، والظاهر أن هذا مقابل لقوله فيما سبق: (والاعتبار..) .
قوله: (إلا أصل واحد فهو المناسب الغريب) أي: إن المناسب الغريب هو ما أدرك المجتهد مناسبته استنباطاً، ولم يجد أن الشرع اعتبره، أو اعتبر نظيره، وهو قريب من المرسل أو قسم منه، فرتِّب الحكم على وفق الوصف فقط، دون أن يشهد له أصل آخر، بمعنى أنه لا نظير له. ومثّلوا لذلك: بتوريث المبتوتة في مرض الموت، إلحاقاً بالقاتل الممنوع من الميراث، تعليلاً بالمعارضة بنقيض القصد في كل من الزوج فترث زوجته، والقاتل فلا يرث، فهذا مناسبته ظاهرة، وفي ترتب الحكم عليه تحصيل مصلحة، وهي نهيهما عن الفعل الحرام، غير أنه لم يشهد لهذا النوع من المصلحة أصل آخر، فكان غريباً لذلك.
فهذا النوع من المناسب سمي غريباً لأنه لا نظير له في الشرع، ولا دلَّ كلام الشارع وإيماؤه عليه[(960)]. على أن من الأصوليين ـ كالغزالي>;ـ من منع وجود المناسب الغريب، وقال: (قلَّما يتفق في المسائل أمثلته، فإن المعاني إذا ظهرت مناسبتها فلا تنفك عن التفات الشرع إلى جنسها في غالب الأمر..) وقال غيره: (لا يحسن جعل هذا قسماً برأسه، بل إن شهد له أصل بعينه دخل فيما سبق، وإلا كان مرسلاً)[(961)].
قوله: (وإن كان حكماً شرعياً) الظاهر أن هذا معطوف على قوله: (ثم الجامع إن كان وصفاً... فهو علة لا خلاف في ثبوت الحكم به..) ثم قال:
(وإن كان حكماً شرعياً فالمحققون تجوز عليته) لأنه ذكر أن الجامع يكون وصفاً وفَصَّلَ القول فيه، ثم ذكر أنه يكون حكماً، وهذا التفصيل فيه، فيجوز أن يكون الحكم الشرعي علة لحكم شرعي، وهذا قول المحققين، ونسبه ابن اللحام إلى الأكثر[(962)].
وذلك كقولنا: من صح طلاقه صح ظهاره، وتحرم الخمر فلا يصح بيعها كالميتة، فالعلة الجامعة بينهما التحريم، وهو حكم شرعي عُلِّل به حكم شرعي، وهو فساد البيع.(1/352)
قوله: (لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيت لو كان على أبيك دين»[(963)] ، «أرأيت لو تمضمضت»[(964)] ) هذا الدليل على جواز كون العلة حكماً شرعياً، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نبّه بحكم شرعي، وهو وجوب قضاء دين المخلوق، على حكم شرعي، وهو قضاء دين الخالق. وفي الثاني: نبَّه على جواز القبلة للصائم بجواز المضمضة له؛ وكلاهما حكم شرعي.
وأمَّا التعليل فقالوا: إن أحد الحكمين قد يكون دائراً مع الحكم الآخر وجوداً وعدماً، والدوران يفيد ظن العلية، فإذا حصل في الحكم الشرعي حصل ظن العلية.
فمثلاً: جواز رهن المشاع[(965)] يوجد مع جواز بيعه وجوداً وعدماً، فما صح بيعه صح رهنه، وما لم يصح بيعه لم يصح رهنه، فيكون جواز بيع المشاع علة لجواز رهنه.
ولأن عِلَلَ الشارع مُعَرِّفات، فللشارع أن ينصب حكماً دليلاً على حكم آخر، كما ينصب النجاسة التي هي حكم شرعي دليلاً على تحريم البيع، أو على تحريم الأكل، وكلاهما حكم شرعي، ويدل لذلك ما تقدم في الحديث.
قوله: (وقيل: لا) هذا القول الثاني: وهو أنه لا يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، وما ورد منه فهو قياس دلالة، لا علة فيه، ويُعزى هذا إلى بعض المتكلمين، وابن عقيل[(966)].
قالوا: لأن الحكم شأنه أن يكون معلولاً، فلو صار علة لانقلبت الحقائق، ولأن الحكمين متساويان في أن كل واحد منهما حكم شرعي فليس جعل أحدهما علة للآخر بأولى من العكس.
وأجيب عن الأول: بالمنع؛ فإنه لا يمتنع أن يكون الحكم معلولاً لعلته، وعلة معرّفةً لحكم آخر غير علته.
وأجيب عن الثاني: بأن المناسبة تعيّن أحدهما للعلية، والآخر للمعلولية، كما تقول: نجس فيحرم، وطاهر فتجوز به الصلاة، فإن النجاسة مناسبة للتحريم، والطهارة مناسبة لإباحة الصلاة، ولو عُكِسَ هذا فقيل: حرام فينجس، لم ينتظم، فإنه قد يحرم بيعه لغصبه، أو للعجز عن تسليمه، أو غير ذلك.
والقول الأول أرجح؛ لقوة مأخذه، والله أعلم.(1/353)
قوله: (ثم هل يشترط انعكاس العلة؟) انعكاس العلة معناه: انتفاء الحكم لانتفاء العلة، والمراد به: انتفاء العلم أو الظن به، لا انتفاء الحكم نفسه، إذ لا يلزم من انتفاء دليل الشيء انتفاؤه.
قال الإمام أحمد: (لا تكون العلة علة حتى يُقْبِلَ الحكم بإقبالها ويُدْبِرَ بإدبارها)[(967)]. فمعنى الانعكاس: أن يثبت الحكم بوجودها ويرتفع بعدمها، فإذا ثبت مع عدمها لم تكن علة، لعدم الانعكاس.
فعند المحققين: لا يشترط مطلقاً، والحق أنه لا يشترط إذا كان له علة أخرى.
وتعليل الحكم بعلتين في محلين أو زمانين جائز اتفاقاً، كتحريم وطء الزوجة تارة للحيض، وتارة للإحرام. فأما مع اتحاد المحل أو الزمان فالأشبه بقول أصحابنا ـ وهو قول بعض الشافعية ـ يجوز. وقيل: يضاف إلى أحدهما، والصحيح: بهما مع التكافؤ، وإلا الأقوى مع اتحاد الزمن أو المتقدم.
قوله: (فعند المحققين لا يشترط مطلقاً) أي: لا يشترط انعكاسها وهو انتفاء الحكم لانتفائها، بل إذا ثبت الحكم بوجودها صحت، وإن لم يرتفع بعدمها، لأن المقصود بها إثبات الحكم لا نفيه.
وقوله: (مطلقاً) أي: سواء تعددت العلة أم لم تتعدد، وهذا هو القول الأول .
قوله: (والحق أنه لا يشترط إذا كان له علة أخرى) هذا القول الثاني ، وهو التفصيل، وهو أنه إذا اتحدت العلة، بمعنى أنه ليس لهذا الحكم إلا علة واحدة، فلا بدَّ من عكسها، لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم، إذ لا بدَّ له من علة.
ومثاله: قوله صلّى الله عليه وسلّم في ادخار لحوم الأضاحي: «إنَّما نهيتكم ـ أي عن الادخار بعد ثلاث ـ من أجل الدافَّة التي دَفَّتْ فكلوا، وادَّخِروا، وتصدقوا» [(968)].
فعلة تحريم الادخار: وجودُ دافةِ فقراءَ من البادية الذين قدموا المدينة، ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها.(1/354)
ومثاله ـ أيضاً ـ: الخمر، فقد عُلِّقَ التحريم على الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خَلاًّ زال الحكم، وكذا وصف الفسق عُلِّقَ عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه[(969)].
وأمَّا إذا تعددت العلة، فلا يلزم من انتفاء بعض العلل انتفاء الحكم. فقد يثبت الحكم لوجود علة أخرى، فعدم البول ـ مثلاً ـ لا يلزم منه عدم نقض الوضوء، لجواز نقض الوضوء بعلة أخرى غير البول، كالغائط والنوم وغيرهما.
وهذا القول اختاره المصنف، ومن قبله الغزالي، وهو مبني على جواز تعليل الحكم بعلتين، وعليه فإذا اشترط الانعكاس في العلة صار عدم العكس قادحاً، وهو قادح في الحكم المعلل بعلة واحدة، دون المعلل بعلل، فلا يقدح فيه قولاً واحداً عند من يرى جواز تعليل الحكم بعلتين.
والتحقيق: أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة، لا إن كانت له علل متعددة، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس؛ لأنه إذا انعدمت واحدة ثبت الحكم بالأخرى[(970)]، لكن إن دل دليل على بقاء الحكم مع ذهاب العلة الواحدة لم يقدح فيها بعدم العكس، مثل بقاء حكم الرَّمَل في الطواف؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رمل في حجة الوداع مع زوال علته. على أنه قد يقال: إن لبقائه علةً أخرى وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم، حيث كَثَّرهم وقوّاهم بعد القلة والضعف[(971)].
قوله: (وتعليل الحكم بعلتين في محلين أو زمانين جائز اتفاقاً كتحريم وطء الزوجة تارة للحيض وتارة للإحرام) فالحكم وهو تحريم الوطء له علتان: الأولى: الحيض، والثانية: الإحرام.(1/355)
وقوله: (في محلين) أي: في شخصين كتعليل إباحة قتل زيد بردته، وعمرو بالقصاص، وخالد بالزنى، فهذا حكم واحد، وهو: القتل، له ثلاث علل، لكن كل علة في محل. ومنه حديث: «لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفْرٍ بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل مؤمن بغير حق» [(972)]. فاشتمل الحديث على علل مختلفة، كل منها مستقل في إباحة الدم.
وقوله: (أو زمانين) كالمثال الأول[(973)].
قوله: (فأمَّا مع اتحاد المحل) أي: الشخص الواحد كما لو زنى محصن وقَتَلَ، وكالعصير إذا تخمر ووقعت فيه نجاسة، فهل إباحة دمه بهما معاً أم لا؟ وهل تعلل نجاسته بهما معاً أم لا؟
قوله: (أو الزمان) أي: مع اتحاد الزمان، كما لو لَمَسَ وبال في وقت واحد.
قوله: (فالأشبه بقول أصحابنا ـ وهو قول بعض الشافعية ـ يجوز) هذا القول الأول. وهو أنه يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين، وأن كل واحدة منهما علة، وهذا قول الجمهور[(974)]، بناء على أن العلل الشرعية أمارات وعلامات على الأحكام، ولا مانع من اجتماع علامات على شيء واحد.
وإنَّما قال: (فالأشبه) ؛ لأنه هو الذي يقتضيه جواب الإمام أحمد رحمه الله في خنزير مَيْتٍ. قال: (هذا حرام من وجهين) فأثبت تحريمين[(975)]، تحريماً لكونه خنزيراً، وتحريماً لكونه ميتة.
ثم إنه لو لم يجز، لم يقع ضرورة، وقد وقع، فإن البول واللمس والمذي والرعاف والغائط، أمور مختلفة الحقيقة، وهي علل للحدث، وكل واحدة منها توجب الحدث ـ على الخلاف في بعضها ـ، وإيجابُ الحدث بكل واحدة منها بانفرادها دليلُ الاستقلال.
وكوجوب الغُسل يعلل بالجماع، والإنزال، وانقطاع دم الحيض، ونحو ذلك من الأحكام التي تعددت عللها.
قوله: (وقيل: يضاف إلى أحدهما) هذا القول الثاني: وهو أنه لا يجوز تعليل الحكم بعلتين، وإنما العلة واحدة منهما لا بعينها.(1/356)
لأنه لو جاز تعليل الحكم بعلتين لأفضى ذلك إلى مُحال، وهو استواء حالتي وجود العلة وعدمها، فإن العلة إذا وجدت أفادت الحكم، وإن عُدمت لم يعدم الحكم، فقد استوت حالتاها، وهذا يخرجها عن كونها علة[(976)].
قوله: (والصحيح: بهما مع التكافؤ) أي: والصحيح جواز التعليل بعلتين مع التكافؤ في القوة، كالغائط والبول في وقت واحد.
قوله: (وإلا الأقوى مع اتحاد الزمن) أي: وإلا يحصل التكافؤ فالأقوى من الوصفين هو العلة، ويمكن تصوير الأقوى والأضعف بعلة متفق عليها وعلة مختلف فيها كالبول، ولمس الذكر.
قوله: (أو المتقدم) أي: عند الترتيب يكون الحكم مستنداً للأولى، مثل ما لو بال وبعد ذلك أكل لحم إبل فإن النقض حاصل بالأولى. وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وأن الخلاف فيما إذا وقعتا دفعة واحدة[(977)].
والراجح جواز تعليل الحكم بعلتين؛ لقوة مأخذه، فإن الوقوع دليل الجواز، وما استدل به المانعون لا يتجه إلا في العلل العقلية، أما في الشرعية فلا يلزم من تعليل الحكم بعلتين أيُّ محذور، لأن إناطة الأحكام بها بوضع الشرع؛ لأنه حَكَمَ بنقض وضوء مَنْ لَمَسَ أو بال أو أكل لحم جزور. ونحو ذلك، وعلى هذا فلو نوى رفع أحد هذه الأحداث ارتفع الباقي، على أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن الخلاف في هذه المسألة لفظي، فإن أحداً لا يمنع قيام وصفين، كل منهما لو انفرد لاستقل بالحكم، لكن نقول: هل الحكم مضاف إليهما أم إلى كل منهما، أو في المحل حكمان؟[(978)].
وثبوت الحكم في محل النص بالنص عند أصحابنا والحنفية؛ لوجوب قبوله وإن لم تعرف علته، وعند الشافعية: بالعلة. والأكثرون أن أوصاف العلة لا تنحصر في عدد، وقيل: إلى خمسة. ولإثبات العلة طرق ثلاثة[(7)]:
قوله: (وثبوت الحكم في محل النص بالنص عند أصحابنا والحنفية) اختلف العلماء في حكم الأصل الذي هو الخمر ـ مثلاً ـ وحكمه: وهو التحريم، هل هو ثابت بالنصِّ أو بالعلة؟ على قولين:(1/357)
الأول: للحنابلة والحنفية أنه ثابت بالنص؛ لأنه هو الذي أفاد الحكم، وهو: تحريم الخمر.
قوله: (لوجوب قبوله وإن لم تعرف علته) أي: لوجوب قبول الحكم ولو كانت العلة غير معروفة، كما في الأحكام التعبدية، كالوضوء من لحم الإبل، فلو كان ثابتاً بالعلة لم يثبت مع عدمها.
قوله: (وعند الشافعية بالعلة) هذا القول الثاني ، وهو للمالكية والشافعية، وفسروا ذلك بالباعث أي: إن العلة باعث على الحكم.
ومعنى باعث: أنها تبعث المكلف على الامتثال، ولم يستجيزوا أن يقال: إنها باعثة للشارع على تشريع الحكم؛ لأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض، ولهذا قال بعض الشافعية: إنَّ العلة بمعنى المعرّف للحكم، وليست بمعنى الباعث[(979)].
والتحقيق: أن الله تعالى يشرع الأحكام من أجل حكم باهرة، ومصالح عظيمة، كلها راجعة إلى الخلق، والله تعالى غني لذاته الغنى المطلق عن كل شيء، كما تقدم عند تعريف الجامع، وهو الركن الرابع من أركان القياس.
والحق: أن الخلاف لفظي، كما قرره كثيرون، وذلك أن مراد الشافعية والمالكية بقولهم: إن حكم الأصل ثابت بالعلة: أنها باعثة عليه، وأمَّا المعرّف له فهو النص، والحنفية والحنابلة أرادوا بقولهم: حكم الأصل ثابت بالنص: أن النص مُعَرِّف له، وأمَّا الباعث عليه فهو العلة، والله أعلم[(980)].
قوله: (والأكثرون...) هذا تفريع على القول بتركيب العلة الشرعية، وهو: أن تكون العلة مركبة من وصفين أو عدة أوصاف، كالقتل العمد العدوان للقصاص ـ كما تقدم ـ.
قوله: (... لا تنحصر في عدد) لكن قالوا: أقوى العلل ما تركب من وصفين، ثم يليه الثلاثة، ثم الأربعة، ثم الخمسة.
قوله: (وقيل: خمسة) وإذا زادت على الخمسة استثقلوها ولم يتمموها، قال الشيرازي: (وهذا لا وجه له؛ لأن العلل شرعية، فإذا جاز أن يُعلَّق الحكم في الشرع على خمسة أوصاف، جاز أن يعلق على ما فوقها)[(981)].(1/358)
قوله: (ولإثبات العلة طرق ثلاث) أي: لإثبات العلة في الأصل ثلاث طرق، وتسمى: مسالك العلة، وهي النص، والإجماع، والاستنباط، والمسالك جمع مسلك، والمراد به: الطريق الذي يسلكه المجتهد لإثبات عليّة الوصف.
(النص) بأن يدل عليها بالصريح كقوله: العلة كذا، أو بأدواتها وهي: الباء كقوله: {{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا}} واللام: {{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}}، وكي: {{كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً}}، وحتى نحو: {{حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}}، ومن أجل نحو: {{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا}}.
قوله: (النص) أي: من الكتاب أو السنة، فإنه قد يدل على أن وصفاً معيناً علة للحكم الذي ورد فيه، وتسمى: العلة المنصوص عليها، وهو ضربان:
الأول: صريح في التعليل. والثاني: الإيماء.
قوله: (بأن يدل عليها بالصريح) أي باللفظ الصريح، وهو أن يكون اللفظ موضوعاً للتعليل، أو مشهوراً فيه في عرف اللغة.
فالأول كقوله تعالى: {{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}} [المائدة: 32] ، وقوله تعالى: {{كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}} [الحشر: 7] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّما جعل الاستئذان من أجل البصر» [(982)].
فقوله: {{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ}}، وقوله: {{كَيْ لاَ يَكُونَ}} لفظ لا يحتمل غير التعليل، فدلالته عليه قطعية.
والثاني كقوله تعالى: {{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [التوبة: 80] ، وقوله تعالى: {{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}} [البقرة: 143] ، وقوله تعالى: {{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}} [البقرة: 193] فإن (الباء) و(اللام) و(حتى) وإن أفادت التعليل في هذه النصوص إفادة راجحة، فإن ذلك ليس دائماً؛ لأن لها معانيَ أخرى، فدلالتها عليه ظاهرة.(1/359)
أو بالتنبيه والإيماء إما بالفاء، وتدخل على السبب، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإنَّهُ يُبْعثُ مُلَبِّياً» وعلى الحكم، مثل: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}}، و«سَهَا فَسَجدَ» و«زَنَى فَرُجمَ» أو ترتيبه على واقعة سئل عنها، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَعْتِقْ رَقَبَة» في جواب سؤاله عن المواقعة في نهار رمضان، أو لعدم فائدته إن لم يكن علة، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّها مِن الطَّوَّافِين عليكم» ، أو نفي حكم بعد ثبوته لحدوث وصف، كقوله: «لا يَرِثُ القَاتِل» ، أو الامتناع عن فعلٍ بعد فعلِ مِثْلِهِ لعذر، فيدل على عليّة العذر، كامتناعه عن دخول بيت فيه كلب، أو تعليقه على اسم مشتق من وصف مناسب له، كقوله تعالى: {{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}}، أو إثبات حكم إن لم يجعل علةً لحكمٍ آخَرَ لم يكن مفيداً، كقوله تعالى: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}} لصحته {{وَحَرَّمَ الرِّبَا}} لبطلانه، و (الإجماع) فمتى وجد الاتفاق عليه، ولو من الخصمين ثبت و (الاستنباط) إما بالمناسبة، وهي: حصول المصلحة في إثبات الحكم من الوصف كالحاجة مع البيع، ولا يعتبر كونها منشأ الحكمة.
قوله: (أو بالتنبيه والإيماء) هذا الضرب الثاني، وهو التنبيه والإيماء، ويسمى بكل منهما دون الآخر، ولهذا اكتفى بعض الأصوليين بذكر أحدهما دون الآخر، والإيماء: مصدر أومأ إلى الشيء إيماءً: أشار إليه إشارة خفية. وهو أن يُقْرَنَ الحكم بوصف على وجه لو لم يكن علة لكان الكلام بعيداً عن فصاحة الشارع، فالإيماء إلى العلة يحصل بما يُفْهِمُ العلة من غير أن يوجد في الكلام لفظة موضوعة للتعليل.
والفرق بينه وبين النص: أن النص يدل على العلة بوضعه لها، والإيماء يدل عليها بطريق الاستدلال؛ لأنه يُفْهِمها من المعنى لا من اللفظ، وإلا لكان صريحاً.(1/360)
فالأول: كدلالة نقص الرطب على التفاضل، فقد سئل النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الرطب بالتمر فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟» فقالوا: نعم. فقال: «فلا إذن» [(983)].
فيفهم منه أن العلة في التحريم النقصُ باليُبْسِ؛ إذ لو لم يكن هو علة الربا لكان السؤال عنه لغواً، لأنه معلوم، فيقاس عليه تحريم بيع الرَّطْبِ من أي مادة ربوية باليابس منها إن كان يَنْقُصُهُ اليبس.
وأمَّا الثاني وهي طريق الاستدلال، فهي أنواع:
قوله: (إمَّا بالفاء) أي: أن يذكر الحكم عقب وصف مقرونٍ بالفاء، فيدل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وهذا هو النوع الأول .
قوله: (وتدخل على السبب) أي: إن ما بعد الفاء سبب لما قبلها، فيدل ذلك على ثبوت الحكم بسبب الوصف؛ لأن السبب ما يثبت الحكم عقيبه.
قوله: (كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإنه يبعث ملبياً») أي: في الذي وقع عن راحلته يوم عرفة فوقصته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» [(984)].
فالفاء في هذا الحديث داخلة على العلة وهي السبب، والحكم متقدم، أي أن بَعْثَهُ ملبياً علةُ تجنيبه الطيب، وعدم تغطية رأسه.
قوله: (وعلى الحكم مثل {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}} [المائدة: 38] ) فالفاء في هذه الآية داخلة على الحكم، والعلة متقدمة، فيفيد قطع السارق عقيب السرقة.
قوله: (وسها فسجد) التمثيل بذلك ليبين المصنف أن الفاء تأتي للتعليل في غير كلام الشارع، وهو ما رتبه الراوي بالفاء؛ لأنه من أهل اللغة، والحديث من كلام عمران بن حصين رضي الله عنه[(985)]، فرتب السجود على السهو، فدل على أنه علة.(1/361)
قوله: (وزنى فرجم) أي: ماعز رضي الله عنه، وهذا من كلام جابر بن سمرة وغيره من الصحابة[(986)]. فرتب الرجم على الزنى، وإنَّما حكمنا بالسببية في لفظ الراوي اعتماداً على فهمه وأمانته وكونه من أهل اللغة، على أن بعض علماء الأصول يقول: إن ما رتبه الراوي الفقيه بالفاء مقدم على ما رتبه الراوي غير الفقيه.
قوله: (أو ترتيبه على واقعة سئل عنها) هذا النوع الثاني من أنواع الإيماء، وهو: ترتيب الحكم على واقعة، أي: أمر حادث يُذَكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فيجيب بحكم، فيدل على أن ذلك الأمر المذكور له صلّى الله عليه وسلّم علة لذلك الحكم الذي أجاب به.
قوله: (كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعتق رقبة») هذا حديث الرجل الذي قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أعتق رقبة» [(987)]، فدل على أن الوقاع هو علة العتق، وتقدم بيان ذلك.
قوله: (أو لعدم فائدته إن لم يكن علة) هذا النوع الثالث ، وهو: أن يذكر مع الحكم شيئاً لو لم يقدّر التعليل به لم يكن له فائدة.
قوله: (كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها من الطوافين عليكم») هذا حديث أبي قتادة في الهرة: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات) [(988)]، فدل على أن الطواف علة لطهارة الهرة، وهذا مفهوم من قرينة سياق الكلام؛ لأن قوله: «إنها من الطوافين» لو قدّر استقلاله وعدم تعلقه بما قبله لم يكن له فائدة، فتعين لذلك ارتباطه بما قبله، ولا معنى له إلا ارتباط العلة بمعلولها، فصار للتعليل بهذا الطريق، لا بوضع اللغة.
وهذا على قول المصنف ومن وافقه: إن الحديث من قسم الإيماء، ويرى آخرون أن ذلك من قبيل الصريح.(1/362)
وذكر الطوفي أن النزاع لفظي؛ لأن من قال: إن ذلك من الصريح نظر إلى أن التعليل يتبادر إلى الذهن بلا توقف في عرف اللغة، ومن قال: إنه إيماء نظر إلى أن الحرف (إنَّ) ليس موضوعاً للتعليل في اللغة، ثم قال: (وهذا أقرب إلى التحقيق)اهـ[(989)].
قوله: (أو نفي حكم بعد ثبوته لحدوث وصف) هذا النوع الرابع من أنواع الإيماء.
قوله: (كقوله: «لا يرث القاتل»[(990)] ) أي: كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «القاتل لا يرث» ، أي: سواء كان القتل عمداً، أو خطأ ـ على أحد القولين ـ، تعميماً لسدّ الذريعة، ولئلا يدعي العامد أنه قتل خطأ[(991)].
فهذا الحديث ينفي حكماً وهو الإرث، بعد ثبوته للوارث كالولد ـ مثلاً ـ بسبب حدوث وصف وهو القتل، فهذه الصفة وهي: القتل، هي علة الفرق بين كونه يرث أو لا يرث، والإرث ثابت لغيره من الأولاد، فدل على أن القتل علةُ مَنْعِ الإرث.
قوله: (أو الامتناع عن فعلٍ بعد فعلِ مثله لعذر فيدل على عِليّة العذر) هذا الخامس من أنواع الإيماء. وهو أن يمتنع الشارع عن فعلٍ بَعْدَ فعلِ مثله لعذر، فيدل امتناعه على أن هذا العذر هو العلة.
قوله: (كامتناعه عن دخول بيت فيه كلب) لعله يشير بذلك إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي دار قوم من الأنصار، ودونهم دار، فشق ذلك عليهم، فقالوا: يا رسول الله تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا؟ فقال النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لأن في داركم كلباً» ، قالوا: فإن في دارهم سِنَّوْراً، فقال النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: «السِّنَّوْرُ سَبُعٌ» [(992)].
وورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وعد جبريل النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم فراثَ عليه حتى اشتدَّ على النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، فخرج النَّبِيّ فلقيه، فشكا إليه ما وجد، فقال: «إنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب» [(993)].(1/363)
فإن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ امتنع من دخول البيت لوجود الكلب فيه، وقد كان يدخله قبل ذلك، فدل على أن وجود الكلب هو علة امتناعه عن الدخول.
قوله: (أو تعليقه على اسم مشتق من وصف مناسب له) هذا السادس ، وهو أن يعلق الحكم على اسم مشتق من وصف مناسب له، و(من) بيانية، والمراد بالوصف: ما دل على معنى وذات، ولا يراد به النعت النحوي، بل ما هو أفسح مدلولاً، وأعمُّ أفراداً، وهو الصفة المعنوية، كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، ونحو ذلك.
وقوله: (مناسب له) أي: مناسب لشرعية الحكم، وهذا قول الأكثرين، أي: اشتمال الوصف على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وقيل: لا يشترط ذلك؛ لأن الله تعالى لا يبعثه شيء على شرع حكم سوى إرادته له، وتقدم الكلام على ذلك، لكن يبدو أن الخلاف في اشتراط المناسبة في الحكم خلاف لفظي، لأن الكلام في الحكم المرتب على وصف في إيماء الشارع الذي يستحيل أن يقرن وصفاً بحكم مع عدم مناسبته، وقد قام الإجماع على أن جميع أحكام الشارع لا تخلو من حكمة في الواقع، وإن كانت غير ظاهرة فمحل الخلاف في ظهورها.
قوله: (كقوله تعالى: {{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}} [التوبة: 5] ) فهذا يفهم منه تعليل القتل بالشرك. وكقوله تعالى: {{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ *}} [القمر: 54] فقد دلَّ بناء الخبر على هذا الوصف أن التقوى علة لهذا النعيم.
قوله: (أو إثبات حكم إن لم يجعل علة لحكم آخر لم يكن مفيداً) هذا السابع من أنواع الإيماء، وهو أن يذكر الشارع حكماً لو لم يكن علة مؤثرة في حكم آخر لم يكن لذكره فائدة.
قوله: (كقوله تعالى: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}} [البقرة: 275] لصحته) ففي الآية إثبات حكم وهو إحلال البيع، وهو علة لحكم وهو صحة البيع ـ أي: ترتب آثاره ـ ولو لم يكن ذلك علة لم يكن لذكره فائدة، فيلزم من حل البيع صحته، فالحكم بالصحة مستنبط من حله.(1/364)
قوله: ({{وَحَرَّمَ الرِّبَا}} [البقرة: 275] لبطلانه) ففي ذلك إثبات حكم وهو تحريم الربا، وهو علة لحكم آخر وهو فساد عقد الربا ـ فلا تترتب آثاره عليه ـ ولو لم يكن ذلك علة لم يكن لذكره فائدة، فيلزم من تحريم الربا فساده، فالحكم بالفساد مستنبط من تحريمه، وتقدم ذلك في باب «النهي»، وهذه الطرق للإيماء ليست على سبيل الحصر، بل كل ما أشعر بالتعليل فهو إيماء.
قوله: (والإجماع) هذا معطوف على قوله: (النص) فهذا الثاني من طرق إثبات العلة، وأخَّره المصنف؛ لطول الكلام على النص، ولأن النص أشرف من غيره، ولأنه هو أساس الإجماع، لكونه مُسْتَنداً له، وبعضهم يقدمه على النص لقوته؛ لأن النص يحتمل النسخ، والإجماع لا يحتمله.
قوله: (فمتى وجد الاتفاق عليه ولو من الخصمين ثبت) أي: إن المراد بثبوت العلة بالإجماع: أن تجمع الأمة على أن هذا الوصف المعيَّن هو علة لهذا الحكم.
مثاله: أن الإخوة من الأبوين يقدمون في الميراث على الإخوة من الأب، وقد أجمع الفقهاء على أن العلة في ذلك هي: تقوّي الأخوّة بكونها من أبوين، فيقاس على الميراث في ذلك ولاية النكاح، فيقال: الأخ الشقيق أولى بتزويج المرأة من الأخ لأب، قياساً على أولويته في الميراث، بجامع العلة المذكورة.
ومثاله ـ أيضاً ـ: نهي النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان[(994)]، فعلة الأصل ثابتة بالإجماع، وهي تشويش الفكر وانشغال القلب، فيقاس على الغضبان: الحاقن والخائف والجائع ونحوهم، كما تقدم.
ومثاله ـ أيضاً ـ: الصغر علة لولاية المال بالإجماع، فيقاس عليها: الولاية في التزويج، كما تقدم ـ أيضاً ـ.
وقوله: (ولو من الخصمين) أي: يثبت الوصف علة للحكم، ولو باتفاق الخصمين، فإذا اتفق الخصمان على تعيين علة حكم الأصل صح القياس في صورة المناظرة.(1/365)
وذلك أن الخصم إمَّا أن يسلم بوجود علة الأصل في الفرع، وهذا ظاهر. وإمَّا ألا يسلم بوجود علة الأصل في الفرع، إمَّا لكون الإجماع ظنياً، وهو ينكر حجيته، فينكر ثبوت علة الأصل، فلا يتحقق حينئذ وجودها في الفرع، وإمَّا أن يسلّم حجية الإجماع الظني ووجود العلة في الأصل لكونها مجمعاً عليها، ولكن ينازع في وجود العلة في الفرع.
ومثال ذلك: الصغر علة للولاية على المال بالإجماع ـ كما تقدم ـ لكن اختلف الحنفية والشافعية في كون الصغر علة للولاية على النكاح، إذا كانت الصغيرة ثيباً، فقالت الحنفية: نعم، فقاسوا النكاح على ولاية المال، وقالت الشافعية: لا، فلم يقيسوا النكاح على ولاية المال.
قوله: (والاستنباط) هذا المسلك الثالث لإثبات العلة، وهو: الاستنباط، وهو: استخراج علة حكم الأصل بالاجتهاد في الكتاب أو السنة.
ويندرج تحت هذا المسلك أربع طرق، وهي: المناسبة، والسبر والتقسيم، وقياس الشبه، ونفي الفارق بين الأصل والفرع.
قوله: (إمَّا بالمناسبة) هذا الطريق الأول من طرق الاستنباط، ويعبر عن المناسبة: بالمصلحة، أو الاستدلال، أو رعاية المقاصد، واستخراج العلة في هذا الطريق نوع من أنواع: (تخريج المناط)؛ لأنه إبداء مناط الحكم.
وإثبات العلة بالمناسبة هو عمدة كتاب القياس، ومحل غموضه ووضوحه؛ وإنما صح التعليل بالمناسبة التي اعتبرها الشارع؛ لأنه ثبت بالاستقراء والتتبع لأحكام الشارع أن كل حكم لا يخلو عن مصلحة ترجع إلى العباد من جلب نفع أو دفع ضر.
قوله: (وهي حصول المصلحة في إثبات الحكم من الوصف) هذا تعريف المناسبة اصطلاحاً. وأمَّا لغةً: فهي الملاءمة والمقاربة، والمناسب: هو الملائم، وتقدم ذكر ذلك.(1/366)
والمراد بحصول المصلحة: كون الوصف يتضمن ترتب الحكم عليه مصلحة، كالإسكار، فإن ترتب المنع عليه وتحريم الخمر فيه مصلحة حفظ العقل من الاختلال، فالإسكار وصف مناسب لترتيب الحكم، وهو تحريم الخمر، والمقصود أن يكون هناك مناسبة بين الوصف والحكم، وهذه المناسبة هي حصول المصلحة، ويستدل على ذلك بالنظر في مقاصد الشريعة وأهداف مشروعية أحكامها، وذلك دائر بين أمرين: جلب المصالح، ودفع المفاسد. فكل حكم لم تثبت علته بنص ولا إجماع ولكنه متعلق بوصف هو في ذاته دليل على أحد هذين المقصدين، فإنه يثبت كونه علة بمجرد ظهور هذه العلاقة يبن الوصف والحكم، وهذا هو المراد بالمناسبة هنا.
قوله: (كالحاجة مع البيع) فالحاجة إلى المبيع إلى الثمن وصف مناسب لإباحة البيع لتحصيل الانتفاع بواسطة صحة العقد؛ لأن الصحة حصول ثمرة العقد، كما تقدم في «الحكم الوضعي».
قوله: (ولا يعتبر كونها منشأ الحكمة) الضمير يعود على المناسبة، والمنشأ معناه: الظهور، ومنشأ الشيء: الموضع الذي يظهر منه ويبدو.
والحكمة: هي المصلحة التي قصد الشارع تحقيقها بتشريع الحكم، مثل: تحريم الخمر: حكم، والإسكار: علة لهذا الحكم. والمحافظة على العقل من الاختلال هي: الحكمة التي قصد الشارع تحقيقها من تحريم الخمر.(1/367)
إذا عرف هذا فكون هذا الوصف المناسب كالإسكار ـ مثلاً ـ منشأ للحكمة المطلوبة من الحكم غير مشترط، كما قال المصنف، خلافاً لقوم، بل المعتبر ثبوت المصلحة عقيبه، وهو أعم من أن يكون منشأ للحكمة ودالاً عليها أو لا، فقد يكون الوصف منشأ للحكمة، كقولنا: السفر منشأ المشقة، أي: إن السفر ينشأ منه مشقة تبيح الترخيص، والقتل منشأ المفسدة، وهي تفويت النفوس، والزنا منشأ المفسدة، وهي تضييع الأنساب وإلحاق العار، وقد لا يكون الوصف منشأ لها مثل: ملك النصاب، فإنه يناسب إيجاب الزكاة، لكنه ليس مظهراً للحكمة وهي شكر النعمة وزيادتها ولا دالاً عليها، لكن يلزم من ترتب الحكم على الوصف وجود هذه الحكمة، فتكون الحكمة مدلولاً عليها التزاماً[(995)].
والمؤثر: ما ظهر تأثيره في الحكم بنص أو إجماع، وهو ثلاثة: المناسب المطلق، والملائم، والغريب، وقد قصر قوم القياس على المؤثر وحده.
قوله: (والمؤثر: ما ظهر تأثيره في الحكم بنص أو إجماع) شرع المصنف في تقسيم المناسب من حيث التأثير والملاءمة، وذلك أن المناسبة بين الحكم والعلة لا بُدَّ لها من ضوابط تحددها؛ لأن الأوصاف منها ما هو مقبول، ومنها ما هو مردود، ومنها ما هو مختلف فيه، إذ ليس كل وصف مناسب يصلح أن يكون علة، بل لا بد أن يكون معتبراً ـ كما تقدم ـ وذلك إذا علم أن الشارع جعله علة، إما بالنص، أو بالإجماع، أو بإشارة النص في تنبيهه وإيمائه.
والمؤثر: بكسر الثاء، بصيغة اسم الفاعل. هو الوصف الذي يظهر تأثيره في حكم الأصل، كالإسكار ظهر تأثيره في التحريم، ومراد المؤلف ـ هنا ـ بيان أقسام تأثير المناسب في الحكم.(1/368)
فمثال ما ظهر تأثيره في الحكم بالنص: قوله تعالى: {{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ}} [البقرة: 222] ، فالحكم بإيجاب الاعتزال في المحيض ثابت بهذا النص، والأذى هو: علة الحكم، الذي دلَّ عليه النص بالإيماء، فالأذى وصف مؤثر، وسمي مؤثراً؛ لأن الشارع اعتبره، حتى كأن الحكم أثر من آثاره. ومثله ـ أيضاً ـ تعليل الحدث بمسِّ الذكر، وقد مضى ذكره.
ومثال الإجماع: قوله تعالى: {{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ...} [النساء: 6] ، فهذا النص القرآني يفيد أن الولاية المالية على من لم يبلغ الحلم تثبت لوليه، وأن علة هذا الحكم هي الصغر، وقد انعقد الإجماع على هذا، أي: إن الصغر علة للولاية على مال الصغير[(996)].
قوله: (وهو ثلاثة) أي: المناسب ثلاثة أقسام، بالنظر إلى نوعية اعتبار الشارع له، وهي: المناسب المطلق، والملائم، والغريب.
وظاهر صنيع المؤلف أنها أقسام للمؤثر، وهذا غير مراد، لأن المؤثر قسيم لها، وإنما هي أقسام للمناسب؛ لأن المناسب إما معتبر شرعاً أو لا، والمعتبر إما أن يثبت اعتباره أي: اعتبار عينه في عين الحكم بنص أو إجماع على أنه علة، وهذا هو المؤثر ـ كما تقدم ـ أو يثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه علة لحكم من جنس الحكم الذي رُتِّبَ على وفقه، أو جنسه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، وهذا هو الملائم، أو لا يثبت وهذا هو الغريب. وإن لم يعتبر لا بنص ولا إجماع، ولا يترتب الحكم على وفقه فهو المرسل أو المطلق[(997)]، فتكون الأقسام أربعة.
ثم إن قوله الآتي: (وقد قصر قوم القياس على المؤثر وحده) يؤيد ذلك؛ فإنه ظاهر في أن المؤثر قسم مستقل.
قوله: (المناسب المطلق) هذا القسم الأول ، وهو الوصف الذي لم يرتب الشارع حكماً على وفقه، ولم يدلَّ دليل شرعي معيَّن على اعتباره ولا على إلغائه، فهو مناسب، أي: يحقق مصلحة، ولكنه مطلق، أي: من دليل اعتبار أو دليل إلغاء، وهو من نوع المصلحة المرسلة، وقد مضى الكلام فيه.(1/369)
قوله: (والملائم) أي: الثاني: المناسب الملائم، وهو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكماً على وفقه، ولم يثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه علة لنفس الحكم الذي رتب على وفقه، وعلى هذا فهو مقابل للمؤثر، وهو ثلاثة أنواع:
أ ـ الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع بعينه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه، ومثاله: أن يقال: تثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة، كما يثبت له عليها ولاية المال، بجامع الصغر، فالوصف: الصغر، وهو أمر واحد، والحكم: الولاية، وهي جنس، يجمع ولاية النكاح وولاية المال، وهما نوعان من التصرف، وعين الصغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع؛ لأن الإجماع على اعتباره في ولاية المال، إجماع على اعتباره في جنس الولاية، بخلاف اعتباره في عين النكاح، فإنه إنما ثبت بمجرد ترتب الحكم على وفقه حيث ثبتت الولاية معه في الجملة، وإن وقع الاختلاف في أنه للصغر أو للبكارة أو لهما جميعاً.
ب ـ الوصف المناسب الذي اعتبر الشارع وصفاً من جنسه علة للحكم الذي رتب على وفقه، ومثاله أن يقال: الجمع جائز في الحضر مع المطر قياساً على السفر بجامع الحرج، فالحكم: رخصة الجمع، وهو واحد. والوصف: الحرج، وهو جنس يجمع الحرج الحاصل بالسفر، وهو خوف الضلال والانقطاع، وبالمطر وهو التأذي به، والسفر والمطر نوعان من جنس واحد، فكأن الشارع لما اعتبر السفر علة لإباحة الجمع بين الصلاتين اعتبر كل ما هو جنسه علة لهذه الإباحة، فعلّة إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر: المطر، ويقاس عليه الثلج، والبرد الشديد.
ج ـ الوصف المناسب الذي اعتبر الشارع وصفاً من جنسه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه.(1/370)
ومثاله: الحيض في إسقاط الصلاة عن الحائض، فإن المجتهد بحث عن علة هذا، فرأى أن الوصف المناسب هو الحيض، لاشتماله على المشقة في قضاء الصلوات الكثيرة أيام العادة الشهرية. ثم أخذ يبحث عن شاهد يسانده، فوجد أن الشرع جعل السفر علة للقصر والجمع للمشقة، فالحيض والسفر داخلان تحت جنس واحد وهو المشقة، وإسقاط الصلاة في الحيض وقصر الصلاة وجمعها في السفر داخلان في جنس واحد، وهو التيسير ورفع الحرج.
ومثاله ـ أيضاً ـ: إلحاق شارب الخمر بالقاذف في جلده ثمانين، كما قال علي رضي الله عنه: (إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد المفتري)[(998)]. فإن الشرب مظنة القذف ضرورة أنه مظنة الافتراء، فوجب أن يقام مقامه قياساً على الخلوة، فإنها لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه في الحرمة، فالافتراء: جنس؛ لأنه يكون في الشرب والقذف وغيرهما، فأثَّر جنسه في جنس الحكم، وهو الجلد؛ لأنه يكون في الزنا والقذف.
قوله: (والغريب) أي: الثالث: المناسب الغريب، وهو الوصف الذي لم يرتب الشارع حكماً على وفقه، ولم يثبت اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار. وقد مضى الكلام فيه قريباً.
قوله: (وقد قصر قوم القياس على المؤثر وحده) أي: إن بعض الأصوليين يرى أن القياس لا يصح إلا بجامع وصف مؤثر ثبت تأثيره بنص أو إجماع، وأن المناسبة لا تكفي في إثبات كون الوصف علة، بل لا بُدَّ من إظهار التأثير بالنص أو الإجماع[(999)].
لأننا لو أجزنا القياس بجامع غير مؤثر للزم التحكم والترجيح من غير مرجح، وهو باطل، لاحتمال ثبوت الحكم في الأصل تعبداً غير معلل، أو يكون لوصف مناسب آخر لم يظهر لنا، أو نحو ذلك؛ ولأن المناسبة يرجع حاصلها إلى الوقوع في النفس وقبول القلب له، وهذا أمر باطن لا يمكن إثباته على الخصم.(1/371)
والصحيح أن القياس ليس مقصوراً على المؤثر وحده؛ وإلا لخرجت العلة المستنبطة، وهي أكثر من العلل المنصوص أو المجمع عليها، وقد تقدم أن إشارة النص وتنبيهه تفيد عليّة الحكم، وليس المراد بالمناسب ما ظنه الخصم وتخيّله، وإنما المراد به معنى معقولاً ظاهراً في العقل، يمكن إثباته على الخصم بطريق النظر العقلي، بحيث لو رَدَّهُ الخصم لنسب إلى العناد[(1000)].
وأصول المصالح خمسة:
ثلاث منها ذكرت في الاستصلاح؛ وهي المعتبرة.
والرابع: ما لم يعلم من الشرع الالتفات إليه ولا إلغاؤه، فلا بدّ من شهادة أصل له.
والخامس: ما علم من الشرع إلغاؤه، فهو ملغى بذلك.
قوله: (وأصول المصالح خمسة) لما ذكر تعريف المناسبة وأنها حصول المصلحة، ذكر أصول المصالح وأنها خمسة.
قوله: (ثلاث منها ذكرت في الاستصلاح) أي: في بحث الاستصلاح قبل باب القياس، وهي: الضروري، والحاجي، والتحسيني، لكن هذه الثلاثة هي أنواع للمصلحة التي يقصد الشارع تحقيقها لنفع العباد، وظاهر كلام المصنف تقسيم المصالح من حيث اعتبارها شرعاً وعدمه، وعلى هذا فالثلاثة المتقدمة داخلة تحت قسم واحد، وهو ما ظهر اعتباره شرعاً.
قوله: (وهي المعتبرة) أي: اعتبرها الشرع وقصد تحقيقها بدليل شرعي خاص، وعلى هذا فالمناسب من حيث اعتبار الشارع له ثلاثة أقسام:
الأول: المعتبر، الثاني: المرسل، الثالث: الملغى.
فالمعتبر ما شهد الشارع باعتباره، بأن وضع من الأحكام التفصيلية ما يوصل إليه من الأحكام الشرعية التي وضعها الشرع للمحافظة على مقاصد الشرع الكلية الخمسة. وهي: حفظ الدين، والنفس، والمال، والعقل، والعرض أو النسب. وهذه تقدمت.
مثل تحريم المسكر لصيانة العقول، وتحريم الزنا لصيانة الأنساب والأعراض، فمثل هذين الوصفين لا خلاف في جواز التعليل بهما، للاستقراء بأن أحكام الشرع لجلب المصلحة أو درء المفسدة.(1/372)
قوله: (والرابع: ما لم يعلم من الشرع الالتفات إليه ولا إلغاؤه) هو الثاني من أقسام المصالح من حيث اعتبارها شرعاً وعدمه، وهو المرسل، وهو الذي لم يقم دليل خاص على اعتبار مناسبته ولا على إلغائها، وهو المسمَّى بالمصالح المرسلة، كما تقدم.
قوله: (فلا بد من شهادة أصل له) أي: إن المناسب المرسل لا يقبل إلا إذا كان تَرَتُّبُ الحكم عليه يحقق مصلحة، تشهد لها عمومات الشريعة من حيث الجملة، وذلك مثل جمع القرآن، وضرب النقود، واتخاذ السجون، ونحو ذلك.
قوله: (والخامس: ما علم من الشرع إلغاؤه فهو ملغى بذلك) هذا الثالث من أقسام المناسب. وهو المناسب الملغى، وهو الذي علم من الشرع إلغاؤه، أي: إلغاء اعتباره وصفاً للحكم، وإن كان قد يبدو للشخص المتوهم أنه مناسب لبناء حكم معين عليه.
كما في قول المتوهم: إن اشتراك الابن مع البنت في صفة البنوة من الميت وصف مناسب للتسوية بينهما في الميراث، فهذ محض وَهْمٍ، لأن الشرع ألغى مناسبته بالنص على أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
أو بالسبر والتقسيم بحصر العلل، وإبطال ما عدا المدَّعى علة أو بقياس الشَّبَهِ، أو بنفي الفارق بين الأصل والفرع إلا بما لا أثر له، وهو مثبت للعلة، لدلالته على الاشتراك فيها على الإجمال.وقد اسْتُدِلَّ على إثبات العلة بمسالك فاسدة، كقولهم: سلامة الوصف من مناقض له دليل عليّته، وغايته سلامته من المعارضة وهي إحدى المفسدات ، ولو سلم من كلها لم يثبت، ومنها: الطرد، وهو قولهم: ثبوت الحكم معه أينما وجد دليل عليّته، ومنها: الدوران، وهو وجود الحكم معها، وعدمه بعدمها. قيل: صحيح؛ لأنه أمارة، وقيل: فاسد؛ لأنه طرد، والعكس لا يؤثر؛ لعدم اشتراطه، ووجود مفسدة في الوصف مساوية أو راجحة، قيل: يخرم مناسبته، وقيل: لا.
قوله: (أو بالسبر والتقسيم) هذا معطوف على قوله: (إمَّا بالمناسبة) فهو النوع الثاني من أنواع إثبات العلة بالاستنباط.(1/373)
وهذا النوع يطلق عليه السبر فقط، أو التقسيم فقط، أو السبر والتقسيم، وهو الأكثر.
والسبر بالفتح لغةً: اختبار حال الشيء. ومنه سُمِّيَ ما يُعرف به طول الجرح وعرضه سِبَاراً ومِسْبَاراً، والمراد هنا: اختبار الأوصاف بإلغاء ما لا يصلح وإبقاء الصالح.
والتقسيم: هو تجزئة الشيء، بأن يقال: هذا إمَّا كذا وإمَّا كذا.
والمراد هنا: حصر الأوصاف التي تحتمل العلة في الأصل، ثم إبطال بعضها واختيار الباقي.
قوله: (بحصر العلل وإبطال ما عدا المدَّعَى علة) أي: إن هذا الدليل لاستنباط علة الحكم الشرعي مبني على أمرين:
الأول: أن المجتهد يحصر أوصاف الأصل المقيس عليه، وهذا هو المعبر عنه بالتقسيم.
الثاني: إبطال ما ليس صالحاً للتعليل؛ لعدم تحقق شروط العلة فيه، كالأوصاف الطردية[(1001)] ـ مثلاً ـ، أو الأوصاف التي لا تؤثر في الحكم، وهي التي لا يزول الحكم برفعها. فيتعين الوصف الباقي، وهذا هو المعبر عنه بالسبر، فَيَصِلُ المجتهد بعد هذا الإبطال والإبقاء إلى أن هذا الوصف دون غيره هو العلة، لكون الشروط المتقدمة قد تحققت فيه.
ولا شك أن أنظار المجتهدين تختلف في عملية السبر والتقسيم، فقد يرى مجتهد أن هذا الوصف هو المناسب، بينما لا يراه غيره مناسباً، ومن أمثلة ذلك: أنه ورد النص بتزويج الأب بنته البكر الصغيرة، ولم يرد نص ولا إجماع على علة ثبوت هذه الولاية، فالمجتهد يردد العلية بين كونها بكراً، وكونها صغيرة، فيستبعد البكارة؛ لأن الشارع لم يعتبرها للتعليل بنوع من أنواع الاعتبار، ويبقي الصغر، لأن الشارع اعتبره علة للولاية على المال ـ كما تقدم ـ وهي والولاية على التزويج من جنس واحد، فيحكم بأن العلة الصغر، ويقيس على البكر الصغيرة، الثيب الصغيرة؛ لهذا الجامع.(1/374)
قوله: (أو بقياس الشَّبَه) هذا معطوف على ما قبله؛ وهو النوع الثالث من طرق استنباط العلة، وهو إثبات العلة بالشَّبَه، وإن كان الشبه مطلوباً في كل قياس، لكن غلب إطلاقه على هذا النوع من مسالك العلة، وهو ما جُمع فيه بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم، مع الاعتراف بأن ذلك الوصف ليس علة للحكم.
ومثاله : قياس مسح الرأس على مسح الخف في عدم تكرار المسح، بجامع المسح في كل منهما.
وقياس إزالة النجاسة على طهارة الحدث في تعيُّن الماء، بجامع الطهارة، وسمي بقياس الشبه، لكونه يشبه الوصف المناسب من وجه، ويشبه الوصف الطردي من وجه آخر[(1002)]، وسيذكر المصنف نوعي قياس الشبه عند كلامه على أقسام القياس.
قوله: (أو بنفي الفارق بين الأصل والفرع) هذا معطوف على ما قبله، وهو النوع الرابع من طرق استنباط العلة، وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق، بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا، وذلك لا مدخل له في الحكم، فيلزم اشتراكهما في الحكم، لاشتراكهما في الموجب له.
وهذا من تنقيح المناط الذي مرَّ ذكره، وهو مفهوم الموافقة عند من يسميه قياساً، كما تقدم في أول القياس، كما في قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}} [النساء: 10] ، فالمنطوق هو: إتلاف مال اليتيم بالأكل، فإضاعته بالإحراق أو الإغراق أو أي وسيلة أخرى يساويه في طلب الحكم، وهو النهي المقرون بالوعيد.
قوله: (إلا بما لا أثر له) أي: نفي الفارق أن يُبَيَّنَ أن الفرع لم يفارق الأصل إلا فيما لا يؤثر، فيلزم اشتراكهما في المؤثر، كأن يقال في أكل مال اليتيم: إنه يستفيد الآخذ، وأمَّا الإحراق ونحوه فلا يستفيد، فيقال: هذا لا أثر له.
ومثله أيضاً: قياس الأمة على العبد في السراية، فإنه لا فرق بينهما إلا وصف الذكورة، وهو ملغى بالإجماع، فتثبت السراية في الأمة، للوصف الذي شاركها فيه العبد.(1/375)
قوله: (وهو مثبت للعلة) أي: القياس بنفي الفارق مثبت للعلة في الفرع، وقد تقدم أن إلحاق الفرع بالأصل قد يكون باستنباط الجامع، وقد يكون بإلغاء الفارق، وهو هذا.
قوله: (لدلالته على الاشتراك فيها) أي: اشتراك الأصل والفرع في العلة، وهي المؤثر.
قوله: (على الإجمال) أي: إن هذا يدل على أن علة الأصل من حيث الجملة متحققة في الفرع من غير تعيين، وأكثر الأصوليين لا يعدون ذلك من مسالك التعليل.
قالوا: لأنه لا يدل على أن هذا الوصف المعين علة، وإنَّما يدل على أن علة الأصل من حيث الجملة متحققة في الفرع من غير تعيين، وهو قريب من السبر، إلا أنه في السبر يُبْطِلُ الجميع إلا واحداً، وفي نفي الفارق يبطل واحداً.
ومن عدّه من مسالك العلة نظر إلى هذا الفرق، وهو أن الحصر في السبر والتقسيم لنفس العلة، وفي تنقيح المناط لتعيين الفارق وإبطاله، لا لتعيين العلة.
قوله: (وقد استُدِلَّ على إثبات العلة بمسالك فاسدة) لما فرغ المصنف رحمه الله من بيان الطرق الدالة على إثبات العلة، ذكر الطرق الفاسدة التي لا تدل على صحتها، وهي طرق مختلف في دلالتها على العلة.
قوله: (كقولهم: سلامة الوصف من مناقض له دليل عليته) أي: إن بعض الأصوليين ـ كأبي بكر الصيرفي [(1003)] وبعض الفقهاء ـ قالوا: إذا لم يوجد ما يعارض الوصف ولا ما يناقضه دل على صحة التعليل به، وهذا يسمى باطراد العلة، وهو: سلامتها من النقض، وهو مفسد واحد من مفسداتها.
قوله: (وغايته سلامته من المعارضة) أي: هذا لا يفيد صحة العلة، فإن غاية ذلك سلامة الوصف من المعارضة، والمعارضة من مفسدات القياس. فإن قوله: هذه العلة صحيحة؛ إذ لا دليل على فسادها، معارض بقول الخصم: هي فاسدة؛ إذ لا دليل على صحتها، وسلامة العلة عن مفسد واحد كالنقض لا ينفي بطلانها بمفسد آخر، ككونها قاصرة، أو عدمية، أو طردية غير مناسبة عند من لا يرى التعليل بذلك.(1/376)
قوله: (ولو سلم من كلها لم يثبت) أي: ولو سلم الوصف من كل المفسدات لم يكن ذلك دليلاً على الصحة؛ إذ لو كان دليلاً لوجب إذا استُدلَّ بخبر لا تعرف صحته أن يقال: عدم ما يعارضه وما يفسده يدل على صحته، وهذا لا يقوله أحد[(1004)].
قوله: (ومنها: الطرد) أي: من المسالك الفاسدة المردودة: الطرد.
قوله: (وهو قولهم: ثبوت الحكم معه أينما وجد دليل عليته) أي: إن الطرد هو الملازمة في الثبوت، أي: كلما ثبت الوصف ثبت معه الحكم، ويسمى الدوران الوجودي، وشرط كونه طرداً: ألا يكون الوصف مناسباً[(1005)]؛ لأنه متى كان مناسباً كان ذلك طريقاً آخر غير الطرد، كما تقدم.
وجمهور العلماء على أنه مردود، قال الفتوحي: (وليس الطرد دليلاً وحده عند الأئمة الأربعة وغيرهم؛ لأنه لا يفيد علماً ولا ظناً فهو تحكم)[(1006)].
إذ لا يلزم من وجود الوصف مع الحكم أنه علة له؛ لأنه قد يوجد من الأوصاف ما هو غير مناسب، مثل: الرائحة الفائحة للشدة المطربة في الخمر، فإن الرائحة وصف غير مناسب، لا يصلح أن يكون علة، ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يعرف عنهم العمل إلا بالمناسب فقط، كما في المصالح المرسلة، ولأن ما لا يشتمل على مصلحة ولا درء مفسدة يجب ألا يعتبر.
والمثال الذي يذكره الأصوليون للطرد: الخَلُّ لا تبنى على جنسه القنطرة، فلا تزال به النجاسة كالدهن[(1007)].
فالوصف ـ وهو عدم بناء القنطرة على جنسه ـ وصف طردي، ومقارنته للحكم ـ وهو: لا تُزال به النجاسة ـ طرد، وهو المسلك، وهو لا ينعكس؛ لأنه لو فرض أن بنيت القنطرة على جنسه فلا يُطَهِّر؛ لما علم من نصوص الشارع أن التطهير لا يكون بغير الماء والتراب، على أحد القولين.
قوله: (ومنها: الدوران) أي: ومن المسالك الفاسدة: الدوران الوجودي والعدمي، ويسمى بالطرد والعكس، لكونه في معناه.(1/377)
قوله: (وهو وجود الحكم معها، وعدمه بعدمها) أي: إن الدوران هو: أن يوجد الحكم عند وجود العلة، وينتفي عند انتفائها، فهذا يدل على أن الوصف علة.
ومثاله: الإسكار في العصير، فإن العصير قبل أن يوجد الإسكار كان حلالاً، فإذا وجد الإسكار صار حراماً، فهذا اقتران الحكم بالوصف وجوداً. وبعد أن صارت الخمر خلاً بالاستحالة وليست مسكرة لم تكن حراماً، فهذا اقتران عدم الحكم بعدم الوصف، فدل ذلك على أن العلة هي: الإسكار، لأنه لما وجد حصل التحريم، ولما زال زال التحريم، وكالطعم مع الربا في حَبِّ البر، فإنه وهو مأكول فيه الربا، فإذا زرع وصار قصيلاً[(1008)] غير مطعوم فلا ربا فيه، فإذا عَقَدَ الحب وصار مطعوماً عاد الربا فيه.
قوله: (قيل: صحيح؛ لأنه أمارة) هذا القول الأول في هذا المسلك، وهو الدوران، فمنهم من قال: إنه مسلك صحيح، يفيد العلة ظناً، وهذا مذهب جمهور الأصوليين من الشافعية والمالكية والحنابلة.
قالوا: لأنه علامة على ثبوت الحكم، ووجه دلالته على العلة: أن اقتران الوجود بالوجود، والعدم بالعدم مع ظهور المناسبة، أو احتمالها يفيد غلبة ظن العلية؛ ذلك أن العلة الشرعية لا توجب الحكم بذاتها، وإنَّما هي علامة منصوبة، فإذا دار الوصف مع الحكم غلب على الظن كونه علة له؛ إذ لو لم يكن ذلك الوصف علة لَتخلف الحكم عنه في بعض الصور، كالسفر ـ مثلاً ـ فإنه وصف؛ لأنه كلما وجد السفر وجد القصر، وبانعدامه ينعدم حكم القصر، وبهذا التلازم عرف أن السفر علة للقصر. وهذا معنى الدوران، ولا بدَّ أن يكون الوصف الدائر معه الحكم وجوداً وعدماً ظاهر التناسب أو محتملاً له، كالإسكار، فإن لم يكن ظاهر التناسب ولا محتملاً له فلا عبرة به.(1/378)
فإن قيل: المناسبة المذكورة في هذا المسلك تكفي، دون الدوران كما تقدم؟ فالجواب ما قاله بعض الأصوليين: من أن غاية ما في الباب اجتماع جهتين كل منهما تفيد العلية، ولا محذور في ذلك، فصارت علية الإسكار للتحريم، يستدل عليها بثلاثةٍ من مسالك العلة:
الأول: الإيماء من جهة ترتب الحكم (وهو المنع) على الوصف (وهو الإسكار) في حديث: «كل مسكر حرام» [(1009)].
الثاني: مسلك المناسبة، لمناسبة الإسكار للتحريم، كما تقدم.
الثالث: الدوران الوجودي والعدمي، كما هنا.
قوله: (وقيل: فاسد) هذا القول الثاني ، وهو أن الدوران مسلك فاسد، لا يفيد التعليل مطلقاً، لا قطعاً ولا ظناً، وهذا مذهب الحنفية وبعض الشافعية وبعض المالكية.
قوله: (لأنه طرد) هذا دليلهم، وهو أن الاحتجاج إما أن يكون بوجود الحكم عند وجود الوصف، وهذا طرد محض غير مؤثر، لجواز أن يكون الوصف ملازماً للعلة، من غير أن يكون هو العلة نفسها، كرائحة المسكر المخصوصة فإنها ملازمة للإسكار وجوداً وعدماً، فهي دائرة مع التحريم وجوداً وعدماً، وليست علته، وإنما هي ملازمة للعلة.
قوله: (والعكس لا يؤثر، لعدم اشتراطه) أي: وإما أن يكون الاحتجاج بانتفاء الحكم عند انتفاء الوصف وهو العكس، كانتفاء التحريم عند انتفاء الإسكار، فالعكس لا يؤثر؛ لأنه غير معتبر في العلل الشرعية، لأن من شروط الوصف أن يكون وجودياً، كما تقدم.
والظاهر أن الوصف الدائر مع الحكم إذا كان مناسباً فإن ذلك يفيد العلم بعليته، وقيده شيخ الإسلام ابن تيمية بأن لا يزاحم هذا الوصف الدائر وصف آخر[(1010)]، أمَّا ما لا تظهر مناسبته فلا، كالرائحة مع الخمر ـ والله أعلم ـ.
قوله: (ووجود مفسدة في الوصف... قيل: يخرم مناسبته) هذه مسألة تتعلق بالمناسبة وهي: هل تنخرم المناسبة أي: تبطل بوجود مفسدة في الوصف مساوية للمصلحة أو راجحة عليها؟ قولان:(1/379)
الأول: أنه يخرم مناسبته، وهو قول الأكثرين، ومعنى (يخرم مناسبته) أي: ينفيها ويبطلها، فتلغَى المصلحة، وحجة هؤلاء: أن المناسب ما تلقته العقول السليمة بالقبول، وما عارض مصلحتَهُ مفسدةٌ مساويةٌ أو راجحةٌ ليس كذلك، فلا يكون مناسباً؛ إذ ليس من شأن العقلاء المحافظة على تحصيل دينار على وجه يلزم منه خسارة دينار أو دينارين.
قوله: (وقيل: لا) هذا القول الثاني ، وهو أنه: لا تنخرم المناسبة؛ لأن الوصف قد تضمن مصلحة ولزمته مفسدة، فوجب اعتبارهما، لاختلاف الجهة، كما يقول التاجر: لي مصلحة في ركوب البر أو البحر للتجارة، لكن يصدني عنه ما فيه من المخاطرة بالمال.
والظاهر أن الخلاف لفظي، لأن المصلحة إذا استلزمت مفسدة مساوية أو راجحة فإن الحكم لا ينبني على تلك المصلحة قولاً واحداً؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فلا خلاف بين القولين في الحقيقة، وإنَّما الخلاف في العبارة فقط؛ لأن من يقول: ببقاء المصلحة فعدم الحكم عنده لوجود المانع، ومن يقول: بانخرامها فعدم الحكم عنده لانتفاء المقتضي.
ومن الأمثلة على ذلك: فداء أسارى المسلمين بالسلاح إذا كان يؤدي إلى قدرة الكفار بذلك السلاح على قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين[(1011)].(1/380)
وقال النظّام: يجب الإلحاق بالعلة المنصوص عليها بالعموم اللفظي، لا بالقياس؛ إذ لا فرق لغةً بين (حَرَّمتُ الخمر لشدتها)، وبين (حرَّمت كل مشتد)، وهو خطأ؛ لعدم تناول (حرمت الخمر لشدتها) كل مشتد غيرها، ولولا القياس لاقتصرنا عليه، فتكون فائدة التعليل دوران التحريم مع الشدة. وأنواع القياس أربعة: قياس العلة: وهو ما جمع فيه بالعلة نفسها، وقياس الدلالة: وهو ما جمع فيه بدليل العلة؛ ليلزم من اشتراكهما فيه وجودها. وقياس الشبه، وقد اختلف في تفسيره: فقال القاضي يعقوب: هو أن يتردد الفرع بين حاظر ومبيح، فيلحق بأكثرهما شبهاً، وقيل: هو الجمع بوصف يوهم اشتماله على المظنة من غير وقوف عليها. وهو صحيح في إحدى الروايتين، وأحد قولي الشافعي.
قوله: (وقال النظّام: يجب الإلحاق بالعلة المنصوص عليها بالعموم اللفظي، لا بالقياس) أي: يرى النظّام أن إلحاق الفرع بالأصل عن طريق العلة الثابتة بالنص إنَّما هو من جهة اللفظ، وهو كونه عاماً ورد بصيغة من صيغ العموم، وليس الإلحاق بواسطة القياس.
قوله: (إذ لا فرق لغةً بين «حرَّمت الخمر لشدتها»، وبين «حرَّمت كل مشتد...) هذه حجة النظام، وهي: أنه لا فرق في اللغة بين قول القائل: (حرمت الخمر لشدتها) ، وبين قوله: (حرمت كل مشتد) ، فهذا هو العموم.
قوله: (وهو خطأ...) هذا رد على النظام، وبيانه: أننا لا نسلم استواء الصيغتين، بل قوله: (حرَّمت كلَّ مشتد) يفيد العموم لعليته، وقوله: (حرمت الخمر لشدتها) لا يفيد إلا تحريم الخمر خاصة، ولا يتناول كل مشتد غيرها؛ لأنه قصر العلة عليها فقط؛ بخلاف: (كلَّ مشتد).
قوله: (ولولا القياس لاقتصرنا عليه) أي: لولا الإلحاق بطريق القياس لوجب الاقتصار على تحريم الخمر فقط، كما لو قيل: أعتق سعيداً لسواده، فيختص العتق به، والنص على علة العتق لا يوجب عموماً لفظياً، فكذلك هنا.(1/381)
قوله: (فتكون فائدة التعليل دوران التحريم مع الشدة) أي: إن قوله: (لشدتها) له فائدة، وهي دوران التحريم مع الشدة، فيزول الحكم وهو التحريم عند زوال العلة، وهي الشدة؛ لجواز أن يجعل الشارع شدة الخمر خاصة علة للتحريم، دون سائر المسكرات، تعبداً ولحاجة يعلمها فيه، ويكون فائدة النص على العلة هو ما ذكرنا ـ والله أعلم[(1012)] ـ.
قوله: (وأنواع القياس: أربعة) هذا تقسيم القياس بالنظر إلى الجامع بين الفرع والأصل، والأكثرون يذكرون ثلاثة، ولا يذكرون قياس الطرد؛ لعدم اعتباره.
قوله: (قياس العلة: وهو ما جمع فيه بالعلة نفسها) أي: إلحاق الفرع بالأصل بواسطة العلة منصوصة كانت أو مستنبطة، وذلك كالجمع بين البر والأرز في الكيل والطعم ـ مثلاً ـ في جريان الربا، وسمي قياس علة؛ لأنه صُرِّحَ فيه بالعلة.
قوله: (وقياس الدلالة: وهو ما جمع فيه بدليل العلة؛ ليلزم من اشتراكهما فيه وجودها) أي: يجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، وهو إما بملزومها أو أثرها، أو حكمها، ليدل اشتراكهما في الدليل على اشتراكهما في العلة، فيلزم اشتراكهما في الحكم، وسمي بقياس الدلالة؛ لأن الجامع فيه دليل العلة لا نفسها.
ومثاله: قياس النبيذ على الخمر، بجامع الرائحة الكريهة والشدة الدالة على الإسكار، فإن الرائحة هي دليل العلة، وأمارة وجودها، فإنه يلزم من وجود الرائحة والشدة وجود الإسكار.
ومثل: إلحاق القتل بالمُثَقَّلِ بالقتل بالمحدد في وجوب القصاص، بجامع الإثم؛ لأن الإثم أَثَرُ العلة التي هي القتل العمد العدوان.
ومثل: قياس قطع الجماعة بالواحد على قتلهم به، بجامع وجوب الدية عليهم، وهو حكم من أحكام جناية العمد العدوان.
قوله: (وقياس الشبه، وقد اختلف في تفسيره: فقال القاضي يعقوب[(1013)] : هو أن يتردد الفرع بين حاظر ومبيح) أي: يتردد الفرع بين أصلين، له شبه بكل واحد منهما، فيلحق بأكثرهما شبهاً. ويسمى: قياس غلبة الأشباه[(1014)].(1/382)
ومثاله: العبد هل يملك بالتمليك؟ وهل إذا قُتِلَ فيه الدية أو القيمة؟ فهو متردد بين أصلين مختلفي الحكم:
الأول : الحر، فالعبد يشبه الحر من جهة أنه إنسان مكلف يثاب ويعاقب وينكح ويطلق، وتلزمه أوامر الشريعة ونواهيها.
الأصل الثاني: المال، أو البهيمة ـ كما عبر بعضهم ـ فهو يشبه هذا الأصل من جهة أنه يباع ويوهب ويوفَّى به ويرهن ويورث، إلى غير ذلك من أحوال المال. والأكثرون على أن شبهه بالمال أكثر، لأنه يشبهه في الحكم والصفة معاً أكثر مما يشبه الحر فيهما، أما الحكم فهو ما ذُكر، وأما الصفة، فتفاوت أوصافه جودة ورداءةً، وتعلق الزكاة بقيمته إذا اتُّجِرَ فيه.
ومن أمثلته ـ أيضاً ـ: المذْي، فإنه متردد بين البول والمني، فمن قال بنجاسته قال: هو خارج من الفرج، لا يخلق منه الولد، ولا يجب به الغسل، أشبه البول، ومن قال بطهارته قال: هو خارج تُحَلِّلُهُ الشهوة، ويخرج أمامها، أشبه المني[(1015)].
قوله: (وقيل: هو الجمع بوصف يوهم اشتماله على المظنة من غير وقوف عليها) هذا تعريف آخر لقياس الشبه، والمراد بالمظنة: الحكمة من جلب مصلحة أو دفع مفسدة. وقوله: (يوهم) أي: يُظَنُّ أن هذا الوصف مشتمل على الحكمة. وقوله: (من غير وقوف عليها) أي: من غير قطع بوجودها، لكنا رأينا الشارع قد اعتبره في بعض الأحكام، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على «مسالك العلة».
والخلاصة أن الوصف ثلاثة أقسام:
1 ـ قسم يُعْلَمُ اشتماله على المناسبة، كالإسكار، فهذا هو الوصف المناسب، وقياسه قياس العلة.
2 ـ قسم لا تتوهم فيه مناسبة كالطول والقصر، وهو الطردي، والقياس به باطل.
3 ـ قسم بين القسمين، وهو ما ذكر في تعريف الشبه أخيراً، وقد مضى بيانه.
قوله: (وهو صحيح في إحدى الروايتين وأحد قولي الشافعي) هذا القول الأول في قياس الشبه، وأنه قياس صحيح يتمسك به، وهذا قول الجمهور؛ لأنه يثير ظناً بثبوت الحكم. وقد اقتصر المؤلف على هذا القول، وهو يشعر باختياره له.(1/383)
والقول الثاني: أنه ليس بحجة، وهو قول جماعة من الأصوليين؛ لأنه قائم على توهم المناسبة وَظنِّها، لا حقيقتها، والأصل أنه لا يعمل بالظن[(1016)].
وقد قام الإجماع على أنه لا يُصار إلى قياس الشبه مع إمكان قياس العلة. فإن تعذر قياس العلة، ولم يصادف في محل الحكم إلا الوصف الشبهي، وهو محتمل للمناسبة، فهذا محل الخلاف[(1017)].
وقياس الطرد وهو ما جمع فيه بوصف غير مناسب أو ملغى بالشرع، وهو باطل، وأربعتها تجري في الإثبات. وأما النفي: فطارئ كبراءة الذمة من الدين، فيجري فيه الأولان، كالإثبات، وأصلي: وهو البقاء على ما كان قبل الشرع، فليس بحكم شرعي ليقتضي علة شرعية، فيجري فيه قياس الدلالة.
قوله: (وقياس الطرد، وهو ما جمع فيه بوصف غير مناسب أو ملغى بالشرع) هذا الرابع من أنواع القياس، وهو أن يُجمع بين الأصل والفرع بوصف غير مناسب، كالطول والقصر، كأن يقال تجب الكفارة على هذا الأعرابي، قياساً على الأعرابي المذكور في الحديث، أو يكون الوصف ملغى بالشرع كما في قول المتوهم: إن اشتراك الابن مع البنت في البنوة من الميت وصف مناسب يقتضي التسوية بينهما في الميراث، فهذا وهم، وليس هو بالمناسب؛ لأن الشرع ألغاه، وتقدم ذكر ذلك.
قوله: (وأربعتها تجري في الإثبات) أي: إثبات حكم الأصل للفرع، كما تقدم في الأمثلة.
قوله: (وأمَّا النفي فطارئ) أي: إن النفي قسمان: نفي طارئ، ونفي أصلي. فالنفي الطارئ: ما تقدمه ثبوت.
قوله: (كبراءة الذمة من الدين) هذا مثال للنفي الطارئ، وهو الحادث المتجدد بعد عدمه، فبراءة الذمة نفي طارئ بعد ثبوت الدين في الذمة.
قوله: (فيجري فيه الأولان) أي: قياس العلة، وقياس الدلالة.
فمثال قياس العلة في النفي الطارئ: أن يقال: علة براءة الذمة من دين الآدمي هي أداؤه. والعبادات هي دين الله تعالى، فليكن أداؤها علة البراءة منها، وقد دل على صحة هذا القياس قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فدين الله أحق بالقضاء» [(1018)].(1/384)
وأمَّا قياس الدلالة في النفي الطارئ، فهو الاستدلال بانتفاء خواص الشيء على انتفائه، ومثاله: خَواصُّ براءة الذمة من الدين ألا يُطالبَ به بعد أدائه، ولا يرفعَ إلى الحاكم، ولا يحبسَ به، ولا يحالَ به عليه، ونحو ذلك، وكل هذه الخواص موجودة، فدل على وجود براءة الذمة.
قوله: (كالإثبات) أي: يجري القياسان: قياس الدلالة، وقياس العلة في النفي الطارئ؛ لأنه حكم شرعي، فهو كالإثبات الشرعي، وذلك لأن النفي الطارئ بالشرع له خواص، فيستدل بانتفائها على انتفائه، وآثار يستدل بوجودها على وجوده. وهذا قياس الدلالة، وله علل وأسباب يعلل بها ويلحق به ما شاركه فيها، وهذا قياس العلة.
قوله: (وأصلي) هذا النوع الثاني من أنواع النفي، وهو النفي الأصلي، وهو الذي لم يتقدمه ثبوت، كنفي صلاة سادسة، ونفي صوم شهر شوال ـ مثلاً ـ.
قوله: (وهو البقاء على ما كان قبل الشرع) وهذه هي البراءة الأصلية، كما تقدم.
قوله: (فليس بحكم شرعي) أي: إن النفي الأصلي ليس من حكم الشرع؛ لأنه لم يحصل بورود الشرع، وإنما هو موجود قبل ذلك، ولا حكم إلا بدليل من الشرع.
قوله: (ليقتضي علة شرعية) أي: ليس حكماً شرعياً فيقتضي علة شرعية؛ لأن البراءة الأصلية لا تفتقر إلى سبب.
قوله: (فيجري فيه قياس الدلالة) أي: دون قياس العلة؛ لما تقدم من أنه لا يفتقر إلى سبب، وقياس الدلالة في النفي الأصلي معناه: الاستدلال بانتفاء الحكم في شيء على انتفائه عن مثله، وهذا ممكن حتى قبل ورود الشرع، كأن يقال: لم يجب كذا؛ لأن فيه مفسدة خالصة أو راجحة، وهذا الفعل الآخر مشتمل على مثل ذلك، فليكن مثله، فلا يجب.
كأن يقال: لم تجب صلاةٌ سادسة، أو حجٌ ثانٍ في العمر، لما فيه من المفسدة في نظر الشارع، ووجوبُ صوم شهرٍ ثان فيه مثل تلك المفسدة، فينبغي ألا يجب، فهذا قياس لأحد الحكمين على الآخر في الانتفاء بالاستدلال، بجامع ما اشتملا عليه من المفسدة.
والخطأ يتطرق إلى القياس من خمسة أوجه:(1/385)
أن يكون الحكم تعبدياً، أو يخطئ علته عند الله تعالى، أو يقصر في بعض الأوصاف، أو يضم ما ليس من العلة إليها، أو يظن وجودها في الفرع وليست موجودة فيه.
قوله: (والخطأ يتطرق إلى القياس من خمسة أوجه) تقدم أن القياس مسلك اجتهادي يُقصد به إظهار الحكم وبيانه، بتشبيه غير المنصوص بالمنصوص، وهذا الاجتهاد عرضة للخطأ، كغيره من الأحكام الاجتهادية، ويتطرق الخطأ إلى القياس من خمسة أوجه:
قوله: (أن يكون الحكم تعبد
ياً) أي: فلا يكون معللاً، كأن يُعَلَّلَ نقض الوضوء بلحم الجزور بأنه حارّ[(1019)] فيلحَقُ به لحم الضبي، فيجعله ناقضاً، وهذا بناء على أن نقض الوضوء بلحم الجزور ليس تعبدياً، والصحيح المشهور أن ذلك تَعَبُّدٌ لا يظهر له علة[(1020)].
قوله: (أو يخطئ علته عند الله تعالى) بألا يصيب علته في نفس الأمر، كألا تكون علة الربا في البر الطعم بالنسبة إلى من يعلل بذلك، فيلحق به الخضروات وسائر المطعومات، وتكون علته في نفس الأمر الكيل أو الاقتيات[(1021)].
قوله: (أو يُقَصِّرَ في بعض الأوصاف) كأن يقول: علة القصاص: القتل العمد، ويحذف العدوان، فيلزم على علته: القصاص من ولي الدم، إذا اقتص من القاتل، لأن قصاصه منه قتل عمد، لكنه ليس بعدوان.
قوله: (أو يضم ما ليس من العلة إليها) كما لو جعل علة وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان كونه أعرابياً، فيلزم عليه أن جماع الحضري ليس علة للكفارة، وهو باطل.
قوله: (أو يظن وجودها في الفرع وليست موجودة فيه) كما لو ظن التفاح مكيلاً، فألحقه بالبر في الربا، بجامع الكيل[(1022)]، وهذه الأوجه المذكورة راجعة إلى قوادح القياس. ولم يذكرها المصنف، والله أعلم.
* * *
و(الاستدلال) ترتيب أمور معلومة يلزم من تسليمها تسليم [المطلوب] وصوره كثيرة، ومنها: البرهان، وهو ثلاثة:
الاستدلال(1/386)
اعلم أن الاستدلال من جملة الطرق المفيدة للأحكام، ولهذا ذكره المصنف ـ كغيره ـ عقب الأدلة الأربعة، وهي: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس.
وهو لغةً: طلب دلالة الدليل؛ لأن لفظ الاستدلال استفعال من الدلالة، كالاستخبار: طلب الخبر، والاستنطاق: طلب النطق.
وأمَّا في الاصطلاح: فله معنيان:
الأول: معنى عام، وهو: إقامة الدليل مطلقاً من نص، إو إجماع، أو قياس، كالاستدلال على مسألة من مسائل الفقه.
الثاني: معنى خاص، وهو المراد هنا: وهو دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً، وقيل: ولا قياس علة، فيدخل فيه القياس بنفي الفارق، وقياس الدلالة [(1023)]. وسيذكر المصنف ذلك.
قوله: (والاستدلال: ترتيب أمور معلومة يلزم من تسليمها تسليم المطلوب) هذا تعريفه في الاصطلاح. وذلك كقولنا: العالم متغير، وكل متغير حادث، فيلزم من ذلك التسليم بـ: أن العالم حادث. وقولنا: هذا حكم دل عليه القياس، وكل ما دل عليه القياس فهو حكم شرعي، فهذا حكم شرعي.
قوله: (وصوره كثيرة، ومنها: البرهان) أي: إن صور الاستدلال كثيرة، ومنها: البرهان، وهو في اللغة: الدليل، كما قال تعالى: {{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}} [البقرة: 111] . قال الراغب: (البرهان: أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبداً، لا محالة)[(1024)].
وفي الاصطلاح: الدليل المركب من مقدمات يقينية، مثل: الكل أكبر من الجزء، الشمس مشرقة، الماء البارد يزيل العطش، ونحو ذلك من الأمور اليقينية.
(برهان الاعتلال ) ، وهو قياس بصورة أخرى تنتظم من مقدمتين ونتيجة، ومعناه إدخال واحد معين تحت جملة معلومة، كقولنا: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فينتج: النبيذ حرام.(1/387)
قوله: (وهو ثلاثة: برهان الاعتلال، وهو قياس بصورة أخرى تنتظم من مقدمتين ونتيجة، ومعناه: إدخال واحد معين تحت جملة معلومة) أي: إن برهان الاعتلال قياس، لكنه ليس بالصورة المعلومة المتقدمة، بل هو صورة أخرى، وهو القياس المنطقي، الذي يتألف ضرورة من مقدمتين، كل مقدمة مكونة من جزئين ـ مبتدأ وخبر ـ يلزم من المقدمتين نتيجة، وقوله: (من مقدمتين) أي: لأن المقدمة الواحدة لا يمكن الخروج منها بشيء؛ إذ لا تنتج أكثر مما فيها.
ومثال ذلك: كلُّ وضوءٍ عبادة ـ وهذه المقدمة الأولى ـ وكل عبادةٍ تفتقر إلى النية ـ وهذه الثانية ـ، فالنتيجة: كل وضوء يفتقر إلى النية.
وكقولنا: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، النتيجة: النبيذ حرام.
وكل ذلك يرجع إلى دعوى دخول واحد معين تحت جملة معلومة، وشكله من البراهين العقلية: مقدمتان ونتيجة، كما تقدم.
و(برهان الاستدلال) وهو أن يستدل على الشيء بما ليس موجباً له، إما بخاصيته، كالاستدلال على نفلية الوتر بجواز فعله على الراحلة، أو نتيجته كقوله: لو صح البيع لأفاد الملك، أو بنظيره، إما بالنفي على النفي، كقوله: لو صح التعليق لصح التنجيز ، أو بالإثبات على الإثبات كقوله: لو لم يصح طلاقه لما صح ظهاره، أو بالإثبات على النفي كقوله: لو كان الوتر فرضاً لما صح فعله على الراحلة، أو بالنفي على الإثبات كقوله: لو لم يجز تخليل الخمر لحرم نقلها من الظل إلى الشمس، وما حرم، فيجوز، ويلزمه بيان التلازم ظاهراً لا غير.
قوله: (وبرهان الاستدلال: وهو أن يُسْتَدَلَّ على الشيء بما ليس موجباً له) أي: بما ليس علة موجبة له، ولكن تثبت علته بوجه من وجوه الدلالة المعقولة.
وهو ثلاثة: الاستدلال على الشيء بوجود خاصيته، أو بوجود نتيجته، أو بمثله ونظيره.(1/388)
قوله: (إمَّا بخاصيته كالاستدلال على نفلية الوتر بجواز فعله على الراحلة) هذا النوع الأول، وهو الاستدلال على الشيء بوجود خاصيته؛ لأن وجود الخاصية يدل على وجود ذي الخاصيّة، وعدمها يدل على عدمه.
مثال ذلك: الوتر نفل ـ على قول الجمهور ـ لأنه يؤدى على الراحلة، وما يؤدى على الراحلة فهو نفل، فالوتر: نفل، فجواز الأداء على الراحلة هو خاصية النفل وأثر من آثاره؛ لأن الفريضة لا تؤدى على الراحلة ـ كما ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما[(1025)]، فإذا وجدت خاصية الشيء دل على وجود ذلك الشيء. وهذه الدلالة لا خفاء بها، بعد تسليم الخاصية؛ لوجود الملازمة، كما تقدم.
والاستدلال على نفلية الوتر بشيء ليس موجباً له، فإن الأداء على الراحلة الذي هو دليل نفلية الوتر ليس موجباً لفرضية ولا نفلية، ولا علة لهما، ولكنه خاصية ملازمة للذات، عرفت ملازمتها بالشرع، كما تقدم.
قوله: (أو نتيجته كقوله: لو صح البيع لأفاد الملك) أي: ومن أنواع الاستدلال: الاستدلال بوجود أثر الشيء ونتيجته على وجوده، كما يستدل بعدم أثر الشيء على عدمه، مثل الاستدلال على صحة البيع، بحصول ثمرته ونتيجته وهي: الملك، والاستدلال على عدم صحة البيع بعدم حصول ثمرته، فيقال: لو لم يصح البيع لم يفد الملك، ولو صح البيع لأفاد الملك.
فثبوت الصحة يدل على ثبوت الملك، وانتفاؤها يدل على انتفائه، وإذا سُلِّم كون هذا الشيء نتيجة وثمرة فلا خفاء في وجود دلالته؛ لأن طريقَ ذلك الملازمةُ بين الموجَب والموجِب. كما تقدم في الخاصية.
قوله: (أو بنظيره إما بالنفي على النفي، كقوله: لو صح التعليق لصح التنجيز) هذا النوع الثالث من أنواع الاستدلال، وهو: الاستدلال على الشيء بنظيره، فما ثبت لهذا الشيء فهو ثابت لمثله ومساويه، وهذا أربعة أنواع:(1/389)
الأول: الاستدلال بالنفي على النفي، والمراد به: التلازم بين حكمين منفيين، كقوله: (لو صح التعليق لصح التنجيز) ، فإنه في قوة قولك: لو لم يصح التنجيز لم يصح التعليق؛ لأن (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، أي: لم يصح التعليق؛ لأنه لا يصح التنجيز.
ومثله ـ أيضاً ـ لو صح الوضوء بغير نية لصح التيمم بغير نية؛ لأنه في قوة قولك: لو لم تشترط النية في الوضوء لم تشترط في التيمم، أو في قوة قولك: لمّا لم يصح التيمم بغير نية لم يصح الوضوء؛ لما تقدم.
قوله: (أو بالإثبات على الإثبات كقوله: لو لم يصح طلاقه لما صح ظهاره) هذا النوع الثاني من أنواع الاستدلال بالشيء على نظيره، وهو الاستدلال بالإثبات على الإثبات، والمراد: التلازم بين حكمين ثبوتيين، فإذا ثبت أحد الحكمين لزم ثبوت الآخر.
ومثاله: لو لم يصح طلاقه لما صح ظهاره، فهذا تلازم بين حكمين ثبوتيين؛ لأن المعنى: من صح طلاقه صح ظهاره، فالاستدلال بصحة الطلاق على صحة الظهار، وهذا يثبت بالطرد، وهو أنهم تتبعوا كثيراً من الأحكام الشرعية ومصادرها المختلفة، فوجدوا أن أي شخص يصح طلاقه يصح ظهاره. ويقوى بالعكس، وهو أنهم: تتبعوا فوجدوا كل من لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره، وحاصل هذا الاستدلال بالدوران، كما تقدم في القياس [(1026)].
قوله: (أو بالإثبات على النفي كقوله: لو كان الوتر فرضاً لما صح فعله على الراحلة) هذا النوع الثالث من أنواع الاستدلال بالشيء على نظيره، وهو الاستدلال بالإثبات على النفي، والمراد: التلازم بين ثبوت ونفي.
ومثاله: لو كان الوتر فرضاً لما صح فعله على الراحلة، فهذا تلازم بين ثبوت ونفي؛ لأن المعنى: انتفت فرضيته؛ لكونه يفعل على الراحلة.
قوله: (أو بالنفي على الإثبات كقوله: لو لم يجز تخليل الخمر لحرم نقلها من الظل إلى الشمس، وما حرم، فيجوز) هذا النوع الرابع ، وهو الاستدلال بالنفي على الإثبات ـ عكس ما قبله ـ، والمراد: التلازم بين نفي وثبوت.(1/390)
ومثاله: لو لم يجز تخليل الخمر لحرم نقلها من الظل إلى الشمس، فهذا تلازم بين نفي وثبوت، لأن المعنى: يجوز تخليل الخمر، لأنه لا يحرم نقلها من الظل إلى الشمس؛ لأن ما يكون مباحاً لا يكون حراماً[(1027)].
وقوله: (وما حرم، فيجوز) أي: ما حرم نقل الخمر من الظل إلى الشمس وهذا نفي، فيجوز تخليلها، وهذا إثبات، فاستدل بالنفي على الإثبات. أو أن مراده: أن كلَّ ما لا يحرم فإنه يجوز، فيكون من الاستدلال بالنفي على الإثبات كقوله: ما لا يكون جائزاً يكون حراماً، والله أعلم.
قوله: (ويلزمه بيان التلازم ظاهراً لا غير) أي: ويلزم المستدل بهذا البرهان أن يبين التلازم بين اللازم والملزوم، والملزوم: ما يحسن فيه (لو)، واللازم ما تحسن فيه (اللام)، كقوله تعالى: {{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}} [الأنبياء: 22] ، ونحو: لو كان هذا الطعام مهلكاً لكان حراماً.
فيبين المستدل التلازم، فيقول ـ مثلاً ـ في قولهم: من صح طلاقه صح ظهاره: قد ثبت أحد الأمرين فيلزم ثبوت الآخر، ولا يلزمه أن يعين المؤثِّر؛ لئلا يكون قد انتقل من التلازم إلى قياس العلة؛ وهو ليس باستدلال بالاتفاق [(1028)].(1/391)
و(برهان الخَلْفِ) وهو كل شيء تَعَرَّضَ فيه بإبطال مذهب الخصم ليلزم صحة مذهبه، إما بحصر المذاهب وإبطالها إلا واحداً، أو يذكر أقساماً ثم يبطلها كلها. وسمي خَلْفاً: إما لأنه لغةً الرديء، وكلُّ باطلٍ رديء ، أو لأنه الاستقاء، وهو استمداد، فكأنه استمد صحة مذهبه من فساد مذهب خصمه، ويجوز أن يكون من الخَلْف، وهو الوراء؛ لعدم الالتفات إلى ما بطل، ومنها: ضروب غير ذلك، كقولهم: وجد سبب الوجوب فيجب، أو فَقَدَ شرط الصحة فلا يصح، أو لم يوجد سبب الوجوب فلا يجب، أو لا فارق بين كذا وكذا إلا كذا وكذا، ولا أثر له، أو لا نص ولا إجماع ولا قياس في كذا فلا يثبت، أو الدليل ينفي كذا، خالفناه لكذا ، فبقي على مقتضى النافي، وهذا يعرف بالدليل النافي، وأشباه ذلك.
قوله: (وبرهان الخَلْفِ؛ وهو كل شيء تَعَرَّضَ فيه بإبطال مذهب الخصم ليلزم صحة مذهبه) ، هذا النوع الثالث من أنواع البرهان، وهو برهان الخَلْفِ ـ بفتح الخاء ـ وهو ما تعرض فيه المستدل بإبطال مذهب خصمه، فإذا أبطله تعين صحة مذهبه، وعلى هذا فلا يتعرض فيه للأمر المقصود، وإنَّما يشتغل بإبطال ضده المقابل له؛ ليتعين الضد الآخر.
قوله: (إما بحصر المذاهب وإبطالها إلا واحداً، أو يذكر أقساماً ثم يبطلها كلها) أي: إن هذا البرهان يقوم على طريقة السبر والتقسيم، وهو ضربان:
الأول : أن يذكر المستدل جميع الأقسام التي يجوز أن يتعلق بها الحكم، ثم يبطل الجميع إلا واحداً، وهو الذي يتعلق به الجواب من جهته، فيصح قوله.(1/392)
مثال ذلك: استدلال بعض الفقهاء في أن رد الشهادة يتعلق بالقذف لا بالحد، فقالوا: إن القاذف إذا حُدَّ وردّت شهادته، فلا يخلو: إما أن يكون رُدَّت شهادته للحد أو للقذف أو لهما، ولا يجوز أن يكون للحد؛ لأن الحد تطهير كما ثبت في السنة[(1029)]، وما كان تطهيراً فلا يجوز أن يتعلق به رد الشهادة، ولا يجوز أن يكون الرد للقذف والحد؛ لأنه إذا لم يجز أن يكون الحد مسبباً في الرد لم يجز أن يكون مع غيره، فثبت أنه إنَّما رد للقذف وحده.
الضرب الثاني: أن يذكر جميع الأقسام التي يجوز أن يتعلق بها الحكم من جهة المخالف، ثم يبطل الجميع، ليبطل مذهب الخصم.
مثال ذلك: قولنا في الإيلاء: إنه لا يوجب وقوع الطلاق بانقضاء المدة؛ لأن الطلاق لا يقع إلا بصريح أو بكناية، ولفظ الإيلاء لا يخلو: إما أن يكون صريحاً أو كناية، ولا يجوز أن يكون صريحاً؛ لأن ألفاظ الطلاق الصريح معلومة محدودة، وليس الإيلاء منها، ولا يجوز أن يكون كناية، لأن الكناية تفتقر إلى نية، ولا نية هاهنا، ولأن الكناية يقع بها الطلاق عقيب اللفظ، وهاهنا لم يقع عقيب اللفظ، وإذا بطل أن يكون صريحاً وبطل أن يكون كناية لم يجز إيقاع الطلاق بمضي مدة الإيلاء، بل لا بد أن ينطق به [(1030)].
قوله: (وسمي خَلْفاً: إما لأنه لغةً الرديء، وكلُّ باطلٍ رديء، أو لأنه الاستقاء وهو استمداد، فكأنه استمد صحة مذهبه من فساد مذهب خصمه، ويجوز أن يكون من الخَلْفِ، وهو الوراء؛ لعدم الالتفات إلى ما بَطَلَ) أي: إن هذا البرهان سمي ببرهان الخَلْفِ للأوجه التالية:
الأول: إما لأنه بمعنى الرديء، قال في «اللسان»: الخَلْف: الرديء من القول، يقال: هذا خَلْفٌ من القول، أي: رديء،اهـ. والمستدل يتعرض لإبطال مذهب خصمه، وكل باطل رديء.
الثاني: أنه بمعنى: استقاءِ الماءِ ـ كما في «اللسان» وغيره ـ والاستقاء: استمداد، فكأنَّ المستدل استمد صحة مذهبه من إفساد خصمه.(1/393)
الثالث: أنه من الخَلْفِ وهو الوراء ـ نقيض القُدَّامِ ـ، فكأن المستدل جعل مذهب خصمه وراء ظهره عندما أبطله، فلم يلتَفت إليه[(1031)].
قوله: (ومنها: ضروب غير ذلك، كقولهم: وُجِدَ سبب الوجوب فيجب) أي: ومن ضروب الاستدلال: الاستدلال بوجود السبب، فإذا وجد سبب الوجوب، ثبت الحكم، كأن تقول: إذا بلغ الصبي وجبت عليه الصلاة ـ مثلاً ـ، فهذا حكم وُجِدَ سببه، وكل ما وُجِدَ سببه، فهو موجود. وهذا دليل على ما اختاره بعض الأصوليين؛ لأن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعاً أو ظاهراً [(1032)].
قوله: (أو فَقَدَ شرط الصحة فلا يصح) أي: من صور الاستدلال: الاستدلال بفقد شرط الصحة على عدم الصحة؛ لأنه يدل على عدم الحكم المشروط، وهو الصحة، كأن تقول: من صلى بدون طهارة لم تصح صلاته، ومن باع مجهولاً لم يصح البيع.
قوله: (أو لم يوجد سبب الوجوب فلا يجب) كأن تقول: لم تجب الصلاة على الصبي؛ لأن سبب الوجوب، وهو البلوغ لم يوجد.
قوله: (أو لا فَارِقَ بين كذا وكذا إلا كذا وكذا، ولا أثر له) هذا استدلال بإلغاء الفارق، وهو أن يقال: لا فرق بين ما ذكره الشارع وما سكت عنه إلا فرقاً لا أثر له في الحكم، فيثبت الحكم لما اشتركا فيه، ومثاله ما تقدم: من قياس الأمة على العبد في سراية العتق، فإنه لا فرق بينهما إلا وصف الذكورة، وهو ملغى بالإجماع، فتثبت السراية في الأمة للوصف الذي شاركها فيه العبد.
قوله: (أو لا نص ولا إجماع ولا قياس في كذا فلا يثبت) أي: من صور الاستدلال: الاستدلال بعدم وجود الدليل؛ لأن الحكم الشرعي لا بد له من دليل، وإنَّما قلنا: إن الدليل نص أو إجماع أو قياس؛ لأن الأدلة محصورة فيها؛ لأننا بعد البحث والطلب لم نعرف أدلة غيرها، وهذا قول بعض الأصوليين، وطريقة عوَّل عليها بعض الفقهاء.
والأكثرون على أنه لا يلزم من عدم وجود الدليل انتفاءُ الحكم؛ لأنه لا يلزم من عدم وجدان الدليل عدم الدليل.(1/394)
والظاهر أن من قال بهذا النوع من الاستدلال لم يقصد القطع بانتفاء الدليل، وإنَّما هو ظَنٌّ فقط، سبقه البحث الشديد عن الدليل فلم يوجد، فيوجب ذلك ظنُّ عدمِ الحكم، فلا مانع، وإن كان ذلك من الأدلة الضعيفة، كما توحي به النقول التي أوردها صاحب «البحر المحيط» [(1033)].
قوله: (أو الدليل ينفي كذا، خالفناه لكذا، فبقى علي مقتضى النافي) أي: ومن أنواع الاستدلال قولهم: الدليل يقتضي ألا يكون الأمر إلا كذا، فخالفنا الدليل لصورةٍ ـ مثلاً ـ، كأن يقول: الدليل يقتضي امتناع تزويج المرأة مطلقاً ـ سواء زَوَّجَتْ نفسها أو زوّجها وليها ـ، وهو ما فيه من إذلالها بالوطء وغيره الذي تأباه الإنسانية لشرفها، لكن خالفنا هذا الدليل ـ لمصلحة المعاش وكثرة التناسل ـ في تزويج الولي لها، فجاز لكمال عقله، وهذا المعنى مفقود فيها، فيبقى تزويجها نفسها ـ الذي هو محل النزاع ـ على ما اقتضاه الدليل من الامتناع[(1034)].
قوله: (وهذا يعرف بالدليل النافي) أي: يسمى هذا الدليل عندهم: بالدليل النافي، وهو نافي الصحة هنا[(1035)].
قوله: (وأشباه ذلك) فيه إشارة إلى أن الاستدلال ليس مقصوراً على ما ذكره المصنف، بل له أنواع أخرى[(1036)]، والله أعلم.
فصل
وأما ترتيب الأدلة وترجيحها فإنه يبدأ بالنظر في (الإجماع)، فإن وجد لم يُحتج إلى غيره، فإن خالفه نص من كتاب أو سنّة علم أنه منسوخ أو متأول؛ لأن الإجماع قاطع لا يقبل نسخاً ولا تأويلاً.(1/395)
ثم في (الكتاب) و(السنّة المتواترة)، ولا تعارض في القواطع، إلا أن يكون أحدهما منسوخاً، ولا في علم وظنّ[(8)]، لأن ما عُلِمَ لا يظن خلافه، ثم في (أخبار الآحاد)، ثم في (قياس النصوص) فإن تعارض قياسان أو حديثان أو عمومان فالترجيح. والتعارض هو التناقض، فلذلك لا يكون في خبرين، لأنه يلزم كذب أحدهما، ولا في حكمين، فإن وجد فيهما فإما لكذب الراوي، أو نسخ أحدهما فإن أمكن الجمع بأن يُنَزَّلَ على حالين أو زمانين [جُمِعَ] فإن لم يمكن أُخِذَ بالأقوى والأرجح والترجيح إما في (الأخبار) فمن ثلاثة أوجه:
(السند) فيرجح بكثرة الرواة، لأنه أبعد من الغلط.
وقال بعض الحنفية: لا، كالشهادة، وبكون راويه أضبط وأحفظ، وبكونه أورع وأتقى، وبكونه صاحب القصة، أو مباشرها دون الآخر.
فصل في «ترتيب الأدلة»
هذا البحث يذكره بعض الأصوليين قبل الكلام عن الاجتهاد والتقليد وبعد مباحث الأدلة؛ لأنه وثيق الصلة بالأدلة؛ إذ لا يمكن إثبات الأحكام بالأدلة الظنية عند التعارض إلا بالترجيح.
ويذكره آخرون بعد الاجتهاد؛ لأن الذي يدرك التعارض ويقوم بالترجيح هو المجتهد، وهذا أحسن، إذ لا تعارض بين الأدلة في نفس الأمر، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد، لقصوره، وخفاء الأدلة ووجوهها عليه، فيحتاج إلى معرفة ما يُقَدَّم منها، كما يحتاج إلى إظهار بعضها بالترجيح[(1037)].
قوله: (وأمَّا ترتيب الأدلة) الأدلة جمع دليل، والمراد هنا: ما تثبت به الأحكام الشرعية: من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
والترتيب في اللغة: جعل واحد من شيئين أو أكثر في مرتبته التي يستحقها، ومعلوم أن الأدلة الشرعية متفاوتة في القوة، فيحتاج إلى معرفة الأقوى؛ ليقدَّم على غيره عند التعارض، وهذا من موضوع نظر المجتهد وضروراته.(1/396)
قوله: (وترجيحها) الترجيح هو: تقوية أحد الطرفين المتعارضين فيقدم بسبب هذه التقوية على غيره، وذلك لأنه قد يعرض للأدلة تعارض أو تكافؤ فتصير بذلك كالمعدومة، فيحتاج إلى إظهارٍ لبعضها بالترجيح لِيُعْمَلَ به، وإلا تعطلت الأدلة والأحكام.
قوله: (فإنه يبدأ بالنظر في الإجماع) لأنه مقدم على جميع الأدلة.
قوله: (فإن وجد لم يُحتج إلى غيره) أي: إن المجتهد يبدأ في الاستدلال بالنظر إلى الإجماع، فإن وجد إجماعاً في المسألة كفى في الاستدلال، إلا إن أراد المزيد من الأدلة، فله أن يضيف غيره عليه.
قوله: (فإن خالفه نص) أي: وُجِدَ نص مخالف للإجماع.
قوله: (علم أنه منسوخ أو متأول) أي: عُلم أن النصَ منسوخ فلا يُعمل به، أو متأول أي: مصروف عن ظاهره، فيكون غير صريح في معارضة الإجماع، وهذا على فرض صحة النص وهو الحديث، وإلا فقد يكون النص غير صحيح، أو أن في المسألة خلافاً لم يعلمه المجتهد فلا يكون إجماعاً.
قوله: (لأن الإجماع قاطع لا يقبل نسخاً ولا تأويلاً) هذا تعليل لكون الإجماع مقدماً عندما يخالفه نص، فَعَلَّلَ بأمرين:
الأول: كون الإجماع قاطعاً معصوماً من الخطأ بشهادة المعصوم صلّى الله عليه وسلّم له بذلك في قوله: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» [(1038)].
الثاني: كونه آمناً من النسخ والتأويل، بخلاف باقي الأدلة فإن النسخ يلحقها، والتأويل يتجه عليها.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية تقديم النص من كتاب أو سنة على الإجماع، مستدلاً بما ورد من الآثار عن السلف، وردَّ القول بأن المجتهد يبدأ بالنظر أولاً في الإجماع، فإن وُجد لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصاً خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقرر أن الإجماع إذا خالفه نص، فلا بد أن يكون مع الإجماع نصٌّ معروف به أن ذلك منسوخ[(1039)].(1/397)
ومن أمثلة الأصوليين على تقديم الإجماع: المضاربة [(1040)]، فإن ظاهر النصوص العامة منعها؛ لوجود الغرر في الربح المجهول للعامل، ولم يثبت نص صحيح فيها، والحديث الوارد فيها ضعيف[(1041)]، إلا أن الصحابة أجمعوا على جواز المضاربة، وكذا من بعدهم، فَقُدِّمَ الإجماع على ظاهر تلك النصوص الدالة على منع الغرر، لعلمنا بأنهم استندوا في إجماعهم إلى شيء علموه منه صلّى الله عليه وسلّم يدل على إباحة ذلك، على أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يرى أن إباحة المضاربة مخالف لعموم النصوص الدالة على منع الغرر، لأنها من باب المشاركة، وليست من باب المعاوضة، وقرر أن المضاربة ثابتة بإقرار الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسنة الخلفاء الثابتة عن عمر رضي الله عنه[(1042)].
واعلم أن الإجماع الذي يقدم على النص هو الإجماع القطعي، كما يفهم من كلام المصنف، أمَّا الظني فلا يقدم على النص[(1043)].
قوله: (ثم في الكتاب والسنة المتواترة) أي: ثم ينظر المجتهد في الكتاب، والسنة المتواترة، والكتاب مقدم في الاستدلال بعد الإجماع، ويساوي الكتاب في ذلك متواترُ السنة؛ لأنهما جميعاً قاطعان من جهة المتن، ولذلك جاز نسخ كل واحد منهما بالآخر، كما تقدم في «النسخ».
قوله: (ولا تعارض في القواطع إلا أن يكون أحدهما منسوخاً) أي: لا يقع التعارض بين قطعيين ـ والقطعي هو المجزوم به المقطوع بوقوعه ودلالته ـ إلا إذا كان أحدهما ناسخاً للآخر، أو مخصصاً له؛ لأن كل قطعي يفيد العلم والعمل، فإذا تعارضا تناقضا، والشريعة لا تتناقض.
قوله: (ولا في علم وظنّ) أي: لا يتصور تعارض علم وظن، والمراد بالعلم: اليقين، والمراد بالظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر.(1/398)
قوله: (لأن ما عُلِمَ لا يظن خلافه) أي: لأن ما علم يقيناً لا يمكن أن يظن خلافه، فإنَّ ظَنَّ خلافِه شكٌّ، وكيف يُشك فيما يُعلم، وعليه فيقدم القطعي على الظني، إلا إذا كان الظني مخصصاً للقطعي، فيكون من باب تخصيص العام، ولا يترك الظني لوجود القطعي حينئذٍ.
فإذا عُرِفَ أنه لا يقع تعارض بين قطعيين، ولا بين قطعي وظني لم يبقَ إلا الظنّيان، على أن بعض الباحثين المعاصرين يرى أن قصر التعارض على الأدلة الظنية تحكّم؛ لأن التعارض إنَّما يحدث في الظاهر فقط ـ كما تقدم ـ فيمكن أن يكون بين الأدلة القطعية، أو بين القطعية والظنية، ولعل الرأي الأول مبني على أن تقديم القاطع على الظن لا يسمى ترجيحاً، وقد صرح بعض الأصوليين بأن كون أحد الدليلين قطعياً من جملة المرجحات، وهذا رأي وجيه، لانطباق تعريف الترجيح عليه[(1044)].
قوله: (ثم في أخبار الآحاد) أي: ثم ينظر المجتهد في أخبار الآحاد بعد الكتاب والسنة المتواترة، والآحاد على مراتب معلومة.
قوله: (ثم في قياس النصوص) أي: إذا لم يجد نصاً انتقل إلى القياس، فالقياس بعد خبر الواحد، وهذا على قولٍ في المسألة؛ حيث إن المصنف ذكر القياس بعد النص، وقال آخرون: يقدم قول الصحابي على القياس، قال ابن بدران: (وهو الحق)[(1045)]. وهذا قول الحنفية، ونقل عن مالك، والشافعي في قول قديم له، وأحمد في رواية، وهي الراجحة في المذهب.
قوله: (فإن تعارض قياسان أو حديثان أو عمومان فالترجيح) لمّا بَيَّنَ ما يجب في الأدلة الأربعة، بَيَّنَ الحكم فيما إذا حصل التعارض في نفس الدليل، كأن يتعارض قياسان فيعدل إلى الترجيح.
قوله: (والتعارض هو التناقض) التعارض: مصدر تعارض تعارضاً، وهو لغةً: التقابل والتمانع، مأخوذ من العُرْض ـ بالضم ـ وهو الناحية والجهة، كأن الكلام المتعارض يقف بعضه في عُرض بعض، أي: في ناحيته، فيمنعه من النفوذ إلى حيث وجهه.(1/399)
واصطلاحاً: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر، كأن يقتضي أحدهما الإيجاب والآخر التحريم، فدليل الجواز يمنع التحريم، ودليل التحريم يمنع الجواز.
وتعريف المصنف التعارض بالتناقض تبع فيه الغزالي [(1046)] وغيره، وهو تعريف موجز، ليس فيه ما يشعر أو يفيد بحقيقة التعارض، ومتى يكون؟ ثم إن المصنف جرى ـ تبعاً للغزالي أيضاً ـ على أن التعارض هو التناقض، وأنه لا فرق بينهما، بينما يرى آخرون: أن التعارض تقابل الدليلين، والتناقض بطلان أحد الدليلين، لكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، والذين لا يفرقون يقولون: إنَّ التناقض في الكلام يقتضي أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، وهذا عين التعارض.
قوله: (فلذلك لا يكون في خبرين) أي: فلكون التعارض هو التناقض فإنه لا يقع بين خبرين؛ لأنه يلزم عليه أن أحدهما كذب، وخبر الله تعالى وخبر رسوله صلّى الله عليه وسلّم الثابت عنه لا يكون كذباً.
قوله: (ولا في حكمين) أي لا يقع التعارض في حكمين: أمر ونهي، أو حظر وإباحة؛ لأن الجمع بينهما تكليفُ محالٍ.
قوله: (فإن وُجِد فيهما فإمَّا لكذب الراوي) أي: إن وجد التعارض بين حكمين فإما: أن يكون أحدهما كذباً من الراوي، فيكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلّى الله عليه وسلّم، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقةً ثبتاً، فالثقة يغلط. ولو قال المصنف: (لغلط الراوي) لكان أحسن.
قوله: (أو نسخ أحدهما) أي: أو يكون أحد الحديثين الدال على الحكم المعارض ناسخاً للآخر، إذا كان مما يقبل النسخ.
قوله: (فإن أمكن الجمع بأن ينزل على حالين أو زمانين جمع) هذا الاحتمال الثالث، ولو قال المصنف: (أو يمكن الجمع) لكان أوضح، ويصير المراد أن التعارض إذا وقع فإما أن يكون الراوي قد غلط، أو أحدهما ناسخاً للآخر، أو يمكن الجمع.
وهذا شروع من المصنف ـ بإيجاز ـ في بيان طريقة درء التعارض:(1/400)
فالطريق الأول لدرء التعارض بين الدليلين الجمع بينهما، وذلك بوجه مقبول لا تكلّف فيه ولا تعسّف.
فإذا أمكن الجمع والتوفيق بين المتعارضين بوجه مقبول كان العمل بهما متعيناً، ولا يجوز العدول إلى الترجيح؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما بالكلية بترجيح الآخر عليه، لكون الأصل في الدليل إعماله لا إهماله.
وقوله: (بأن ينزل على حالين أو زمانين) أي: إن الجمع يكون بصور، منها: أن يحمل أحد الدليلين على حال والآخر على حال أخرى، أو هذا في زمان وذاك في آخر، ونحو ذلك من أوجه الجمع.
ومن الأمثلة على ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ، وفي رواية: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» [(1047)].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَبٍ» [(1048)]، فهذا معارض في الظاهر للأول، لكن جمع بينهما بأن الإهاب اسم لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شَنٌّ وقِرْبةٌ، فيكون النهي عن الانتفاع بالإهاب ما لم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهاباً، فلا يدخل تحت النهي. قال الصنعاني: (وهو جمع حسن)[(1049)].
ومن الأمثلة أيضاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم» والله أعلم، أذكر الثالث أم لا؟ قال: «ثم يَخْلُفُ قوم يحبون السَّمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا» [(1050)]. مع حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها» [(1051)].(1/401)
ففي الأول ذم من أتى بالشهادة قبل أن يُسألها، وفي الثاني مدحه بإثبات الخيرية، وهذا تعارض في الظاهر، وقد جمع العلماء بينهما بأجوبة لعلّ من أظهرها: أن حديث زيد بن خالد محمول على شهادة لا يعلم بها صاحب الحق، فيأتي إليه فيخبره بها، لأجل أن يحفظ له حقه بهذه الشهادة، أو يكون في حقوق الله تعالى التي لا طالب لها، لا في حقوق الآدميين، وهذا مبني على أن الشهادة لا تؤدى قبل أن يطلبها صاحب الحق، كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه[(1052)].
ومن أمثلة الزمانين: ما ورد في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: (أنه صلى الظهر يوم النحر بمكة)[(1053)]، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه صلّى الله عليه وسلّم صلاها بمنى)[(1054)].
فجمع بينهما بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه؛ لأنهم كانوا ينتظرونه، والله أعلم[(1055)].
قوله: (فإن لم يمكن أُخِذَ بالأقوى والأرجح) ظاهر كلام المصنف أنه إذا لم يمكن الجمع عدل إلى الترجيح، مع أن هناك طريقاً آخر قبل الترجيح، وهو النسخ، وقد أشار إليه المصنف قبل أن يتكلم على الجمع.
والنسخ أن يجعل أحدهما ناسخاً للآخر، بشرط أن يُعْلَمَ التاريخ، بأن يعلم السابق منهما، فيكون المتأخر ناسخاً له ويعمل به دون المتقدم.(1/402)
ومثاله قوله تعالى: {{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ...} [البقرة: 184] فهذه الآية تفيد التخيير بين الصيام والإطعام، وترجيح الصيام، وقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] تفيد تعيين الصيام أداء في حق غير المريض والمسافر، وقضاء في حقهما، وهي متأخرة عن الأولى، فتكون ناسخة لها، بدليل قول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (لما نزلت: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ...} [البقرة: 184] : كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها) [(1056)].
فإذا لم يمكن النسخ يُنتقل إلى الترجيح، والترجيح هو: تقديمُ المجتهدِ أحدَ الدليلين المتعارضين، لما فيه من مزية معتبرة، تجعل العمل به أولى من الآخر.
قوله: (والترجيح إمَّا في الأخبار) المقصود بالأخبار: الألفاظ، أي: الترجيح الواقع في الألفاظ. ويقابله القسم الثاني: الترجيح في المعاني.
قوله: (فمن ثلاثة أوجه) أي: إن الترجيح في الألفاظ إمَّا من جهة سندها، أو متنها، أو قرائنها التي تحفُّ بها.
قوله: (السند) المراد به: طريق الإخبار عن المتن، وهو سلسلة أسماء الرواة الذين نقلوا هذا الحديث بالتسلسل واحداً عن واحد، ابتداء بشيخ المؤلف وانتهاءً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: (فيرجح بكثرة الرواة؛ لأنه أبعد من الغلط) أي: يرجح السند بكثرة الرواة، بأن يكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر، فيرجح ما رواته أكثر على ما رواته أقل، لقوة الظن به؛ لأن احتمال الغلط أو الكذب على الأكثر أبعد من احتمالهما على الأقل، وهذا مذهب جمهور العلماء.
قوله: (وقال بعض الحنفية: لا) أي: قال بعض الحنفية ـ وهو الكرخي ـ: لا يرجح بكثرة الرواة.
قوله: (كالشهادة) أي: قياساً للرواية على الشهادة، فإنه إذا تعارض شهادتان فلا ترجح إحداهما على الأخرى بكثرة الشهود بعد أن تكون الأخرى قد تم نصابها.(1/403)
والأول هو الصواب؛ إذ لا يشك أحد في أن الكثرة تفيد قوة الثبوت، وقد رجح الرسول صلّى الله عليه وسلّم قول ذي اليدين رضي الله عنه بموافقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لِمَا قاله، وفي رواية: فقال: (أصدق ذو اليدين؟) فقالوا: نعم[(1057)]، وعَمِلَ بذلك الصحابة من بعده، ولا يقصد من الترجيح إلا هذا.
ومن أمثلة ذلك: حديث أسامة رضي الله عنه: (إنَّما الربا في النسيئة)، فإنه يدل على نفي ربا الفضل الثابت في حديث أبي سعيد رضي الله عنه وغيره[(1058)].
فمن طرق درء هذا التعارض: ترجيح حديث أبي سعيد رضي الله عنه؛ لأن حديث أسامة رواية صحابي واحد، وأحاديث منع ربا الفضل عن جماعة من الصحابة، ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت من رواية الواحد[(1059)].
وقد تقدم في باب العام أوجه لدرء هذا التعارض غير مسلك الترجيح[(1060)].
وأما دليل بعض الحنفية فمردود؛ لوجود الفرق بين الرواية والشهادة، فإن الشهادة شرعت لدفع الخصومة، فلو اعتبر الترجيح بالكثرة لأفضى إلى تطويل الخصومة، وهو خلاف المقصود من شرعها، بخلاف الرواية[(1061)].
قوله: (وبكون راويه أضبط وأحفظ، وبكونه أورع وأتقى) أي: يرجح السند الذي تتحقق فيه أكثر صفات القبول، بأن يكون أحد الروايين أضبط من الآخر، أو أحفظ، أو أورع وأتقى، أو أفقه في الدين أو اللغة العربية، فترجح روايته؛ لأنها أغلب على الظن، واحتمال الخطأ إليه أقل.(1/404)
ومن أمثلة ذلك: ترجيح أحاديث منع ربا الفضل على حديث أسامة: (لا ربا إلا في النسيئة) ، وذلك لأن في رواة الأول أبا هريرة، وأبا سعيد وغيرهما ممن هو مشهور بالحفظ، يقول الشافعي: (وبهذه الأحاديث نأخذ، وقال بمثل معناها: الأكابر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأكثر المفتين بالبلدان... وعثمان بن عفان، وعبادة بن الصامت ـ الموجودان في سند الحديث الأول ـ أشد تقدماً بالسن والصحبة من أسامة، وأبو هريرة ـ الموجودُ في سند الحديث الأول ـ أسنُّ، و[هو] أحفظ مَنْ روى الحديث في دهره)[(1062)].
قوله: (وبكونه صاحب القصة أو مباشرها دون الآخر) أي: تقدم رواية صاحب القصة أو المباشر لها على غيره؛ لاختصاصه بمزيد علم ليس عند غيره، لأنه أدرى بما جرى له في نفسه من غيره.
مثال تقديم رواية صاحب القصة: حديث ميمونة رضي الله عنها: (تزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو حلال)[(1063)]، فيقدم على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميمونة وهو محرم)[(1064)].
ومثال رواية المباشر: حديث أبي رافع رضي الله عنه: (تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميمونة وهو حلال، وكنتُ أنا الرسولَ فيما بينهما)[(1065)]. فيقدم على حديث ابن عباس المذكور.
و(المتن) فيرجح بكونه ناقلاً عن حكم الأصل، والمثبت أولى من النافي، والحاظر على المبيح عند القاضي، لا المسقط للحد على الموجب له، ولا الموجب للحرية على المقتضي للرق.
قوله: (والمتن) هذا الوجه الثاني من أوجه الترجيح في الأخبار، وهو من جهة المتن. والمتن هو: نص الحديث المروي، وهو غاية ما ينتهي إليه السند من الكلام، وأصله في اللغة: الظهر، والجمع: متون، وقد سمي به نص الحديث؛ لأنه يشبه الظهر في كونه معتمداً عليه، والحديث يعتمد عليه في الاستنباط والتشريع[(1066)].(1/405)
قوله: (فيرجح بكونه ناقلاً عن حكم الأصل) أي: من أوجه الترجيح في المتن ترجيح الناقل عن الأصل (وهي البراءة الأصلية) على المبقي عليه؛ لأن مع الناقل زيادة علم.
ومن أمثلة ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من مسَّ ذكره فلا يصلِّ حتى يتوضأ» [(1067)]. وحديث قيس بن طلق بن علي، عن أبيه رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الرجل يَمَسُّ ذكره أعليه الوضوء؟ قال: «لا، إنَّما هو بَضْعَةٌ منك» [(1068)].
فمن قال بالترجيح رجح الأول لوجوه، منها: أنه ناقل عن البراءة الأصلية؛ لأن مع الناقل زيادة علم، حيث أفاد حُكماً شرعياً ليس موجوداً عند المبقي على الأصل[(1069)].
قوله: (والمثبت أولى من النافي) أي: يقدم المثبت على النافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم، وهذا مذهب الجمهور.
ومثاله: حديث بريدة رضي الله عنه في قصة ماعز الأسلمي رضي الله عنه قال: (فلما كان الرابعة حُفِر له حفرة ثم أمر به فرجم)[(1070)]. وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (فما أوثقناه ولا حفرنا له)[(1071)]. فالأول مثبت للحفر، والثاني نافٍ له، فيقدم المثبت على النافي، وهذا على أحد الأقوال في دفع التعارض بين هذين الحديثين[(1072)].
ويستثنى من ذلك إذا استند النفي إلى علمٍ بالعدم، كأن يقول: أعلم أن محمداً لم يسافر؛ لأني رأيته الآن، فمثل هذا يقبل فيه النفي، لاستناده إلى مَدْرك علمي، فيستوي هو وإثبات المثبت، فيتعارضان، ويطلب الترجيح من خارج.(1/406)
قوله: (والحاظر على المبيح) أي: يرجح الخبر الدال على التحريم، وهو الحظر، على الخبر الدال على الإباحة، وهذا مذهب جمهور الأصوليين، واختاره القاضي[(1073)]؛ لأن ذلك أحوط، لأنه يترتب على ترجيح التحريم ترك الفعل، والفعل إذا كان حراماً في الواقع فقد تركه المكلف بترجيحه لجانب التحريم، ومن ثَمَّ فلا ضرر في تركه، وإن لم يكن حراماً في الواقع بأن كان مباحاً فلا شيء عليه كذلك في تركه؛ لأنه لا عقاب عليه في ترك المباح، أمَّا إذا عمل بالمبيح فإنه قد يترتب عليه العقاب إذا كان الفعل حراماً في الواقع.
ومثال ذلك: تقديم عموم قوله تعالى: {{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ...} [النساء: 23] المقتضي بعمومه منع الجمع بين الأختين بملك اليمين، على عموم {{إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}} [النساء: 24] الشامل بعمومه للأختين بملك يمين، فهذا مبيح، وذلك حاظر، فيقدم الحاظر على المبيح، وذلك لأن ترك المباح أهون من ارتكاب الحرام[(1074)].
قوله: (لا المسقط للحد على الموجب له) أي: إن الخبر المسقط للحد لا يرجح على الخبر الموجب له، بل يرجح الخبر الموجب له على المسقط، وهذا قول جماعة من المتكلمين، وقال جمهور الأصوليين بترجيح الخبر المسقط للحد على الموجب له، لما في ذلك من اليسر وعدم الحرج الموافق لنصوص الشريعة في هذا، ولأن الحد يدرأ بالشبهة، وتعارضُ الأدلة في وجوبه وسقوطه شبهةٌ.
وعلى هذا فهذه الصورة مستثناة من تقديم المثبت على النافي.
ووجه ما قال المصنف: أن المثبت للحد ناقل عن الأصل؛ لأن النفي مستفاد من البراءة الأصلية، وإيجاب الحد ناقل عنها، فهو مقدم.(1/407)
ومثال ذلك: الأحاديث الواردة في أنه لا تقطع اليد فيما هو أقل من ربع دينار، والأدلة الدالة على القطع بمطلق السرقة، أو بما هو أقل من ربع دينار من البيضة ونحوها، فعلى قول الجمهور ترجح أدلة عدم القطع فيما هو أقل من ربع دينار[(1075)]، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» [(1076)]، على ما يوجب القطع بمطلق السرقة لما تقدم، وعلى قول المصنف يرجح موجب الحد.
قوله: (ولا الموجب للحرية على المقتضي للرق) أي: لا يرجح الخبر الموجب للحرية على المقتضي للرق، بل يرجح المقتضي للرق؛ لأن الخبر المثبت للرق موافق للدليل الذي يدل على صحة ملك الرقبة، والخبر الموجب للحرية مخالف له، والدليل المثبت للملك أرجح من النافي له؛ لأن الأصل بعد تحقق الرق بقاءُ الملك.
والقول الثاني: يقدم الخبر الموجب للحرية؛ لأنه موافق للدليل الذي يدل على عدم ملك الرقبة، والخبر المقتضي للرق موافق للدليل المثبت للملك. والموجب للحرية أرجح؛ لموافقته الأصل، فإن الأصل في الناس الحرية.
ومثال ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعتق شركاً له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّمَ العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعَتَقَ عليه العبد، وإلا فقد عَتَقَ عليه ما عَتَقَ» [(1077)].
فظاهر هذا أن الشريك المُعْتِقَ نصيبَهُ إن كان فقيراً لا مال له بقي ما لشركائه من العبد رقيقاً، وظاهره أن العبد لا يُستسعى ليحصِّل قيمة الباقي، فيخلص نفسه من الرق.
فهذا الحديث موجب لرق الباقي في حالة فقرِ معتقِ نصيبِه، مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعتق شِقْصاً له من مملوكه فعليه خلاصه من ماله، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل، ثم اسْتُسْعي في نصيب الذي لم يُعْتِقْ غيرَ مشقوقٍ عليه» [(1078)].(1/408)
فهذا الحديث موجب للحرية باستسعاء العبد ليحصِّل قيمة الباقي من نفسه، وعليه فيجب استسعاء العبد لتحصيل قيمة الباقي؛ ليتخلص من الرق.
وبعض العلماء سلك مسلك الجمع بين الحديثين، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر وغيره من الشراح[(1079)].
و(أمر من خارج) مثل أن يعضده كتاب أو سنّة أو إجماع أو قياس، أو يعمل به الخلفاء الأربعة، أو صحابي غيرهم أو يختلف على الراوي فيقفه قوم ويرفعه آخرون، أو ينقل عن الراوي خلافه فتتعارض روايتاه، ويبقى الآخر سليماً ، أو يكون مرفوعاً والآخر مرسلاً، وإما في (المعاني) فترجح العلة بموافقتها لدليل آخر من كتاب، أو سنّة، أو قول صحابي أو خبر مرسل، وبكونها ناقلة عن حكم الأصل، ورجحها قوم بخفة حكمها، وآخرون بثقلها ، وهما ضعيفان. فإن كانت إحدى العلتين حكماً، والأخرى وصفاً حسياً فرجح القاضي الثانية، وأبو الخطاب الأولى. وبكثرة أصولها وباطرادها وانعكاسها، والمتعدية على القاصرة لكثرة فائدتها، ومنع منه قوم، والإثبات على النفي، والمتفق على أصله على المختلف فيه، وبقوة الأصل فيما لا يحتمل النسخ على محتمله، وبكونه رده الشارع إليه والمؤثر على الملائم. والملائم على الغريب، والمناسبة على الشبهية.
قوله: (وأمر من خارج) هذا الثالث من أوجه الترجيح، هو الترجيح بأمور خارجة عن السند والمتن.
قوله: (مثل أن يعضده كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس...) إلخ، أي: يقدم أحد الدليلين المتعارضين على الآخر إذا عاضده دليل آخر من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، أو عمل الخلفاء الأربعة أو صحابي غيرهم، لأنه يغلب على الظن قوته في الدلالة وسلامته من المعارض.
فمثال ما يعضده كتاب: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» [(1080)].(1/409)
فإنه يدل على قضاء الصلاة الفائتة مطلقاً في أي وقت، مع قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» [(1081)]، الدال على النهي عن الصلاة مطلقاً في هذين الوقتين.
فذهب الإمام الشافعي ومن وافقه إلى العمل بالحديث الأول؛ لأن ظاهر القرآن يعضده، كقوله تعالى: {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *}} [آل عمران: 133] ، وقوله تعالى: {{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}} [البقرة: 148] [(1082)].
ومثال ما يعضده سنة: حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي» [(1083)]، فإنه يدل على اشتراط الولي في تزويج المرأة مطلقاً. مع حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأيِّمُ أحق بنفسها من وليها» [(1084)]، فإنه يدل على عدم وجوب الولي في نكاح المرأة الثيب.
فيرجح الحديث الأول لأنه يعضده حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل...» [(1085)]. فإن عمومه يتناول الثيب، وأنه لا بد لها من ولي.
ومثال ما يعضده قياس: ما ورد من الأدلة التي تفيد عدم وجوب الزكاة في الحلي، مع الأدلة التي تفيد الوجوب، ويعضد أدلة القائلين بعدم الزكاة: القياس، وذلك أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية، أُلحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان، بجامع أن كلاً منهما معدٌّ للاستعمال لا للتنمية[(1086)].
وقد أشار الإمام مالك إلى هذا الإلحاق كما في «الموطأ»[(1087)].(1/410)
ومثال ما يعضده عمل الخلفاء رضي الله عنهم: ترجيح الأحاديث التي روت قراءة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم البسملة سراً في الصلاة، على الأحاديث التي روت جهره صلّى الله عليه وسلّم بها، وذلك بعمل الخلفاء الراشدين ـ على القول الراجح ـ فقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال: صليت خلف النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون: بسم الله الرحمن الرحيم، في أول قراءة ولا في آخرها. وفي رواية: فلم أسمع أحداً منهم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم [(1088)].
قوله: (أو يُخْتلف على الراوي فيقفه قوم ويرفعه آخرون) أي: إذا اختلف في أحد الخبرين على الراوي، فوقفه قوم، ورفعه آخرون، والخبر الآخر متفق على رفعه، فإنه يرجح الخبر الذي اتفق على رفعه؛ لأنه حجة اتفاقاً.
ومثال ذلك: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» [(1089)].
مع حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأمِّ الكتاب فهي خِدَاجٌ، إلا أن تكون وراء الإمام» [(1090)]. فالأول يدل على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، والثاني يدل على أنها لا تجب على المأموم، لكنه موقوف، ورفعه مردود، فيترجح حديث عبادة رضي الله عنه، وتجب قراءة الفاتحة على المأموم؛ لأنه متفق على رفعه إلى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم. وهذا على أحد الأقوال في المسألة.
قوله: (أو يُنقل عن الراوي خلافه فتتعارض روايتاه...) أي: أن يكون راوي أحد الخبرين قد نُقِلَ عنه خلافه، فتتعارض روايتاه، والخبر الآخر قد سلم من هذا التعارض، فيكون أولى.
ومثال ذلك: حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: رأيت النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه[(1091)]. ولم يختلف الرواة عنه.(1/411)
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» [(1092)] وجاء بلفظ: «إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك البعير» [(1093)]، فهذا مخالف لما قبله.
قال الشافعي: (حديث وائل رضي الله عنه انفرد من المعارضة فهو أولى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديثه قد عاضدته إحدى روايتي أبي هريرة، فهو أولى)[(1094)].
قوله: (أو يكون مرفوعاً والآخر مرسلاً) أي: إذا تعارض خبران: أحدهما: مرفوع أي: مسند. والثاني: مرسل، والمرسل عند الأصوليين: هو قول العدل الذي لم يلق النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» رُجِّحَ المسند على المرسل، وهو قول الإمام أحمد وأكثر المالكية وقول المحققين من الحنفية؛ لأن المسند متفق على قبوله، والمرسل مختلف فيه؛ ولأن المسند فيه مزية الإسناد، فيقدم بها؛ ولأن المُرْسِلَ قد يكون بينه وبين النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم مجهول[(1095)].
قوله: (وإمَّا في المعاني..) هذا معطوف على قوله: (والترجيح إمَّا في الأخبار..) والمراد بالمعاني: ما يقابل الأخبار، وهي الترجيحات الخاصة بالأقيسة.
قوله: (فترجح العلة بموافقتها لدليل آخر...) أي: إن العلة ترجح بما يرجح به الخبر من موافقتها لدليل آخر من كتاب أو سنة أو قول صحابي، أو خبر مرسل، والمراد: ترجيح القياس من جهة علته، فإذا استنبط في الأصل الواحد علتان، وقد عضد إحداهما دليل آخر فإنها ترجح على الأخرى.
ومن أمثلة ذلك: اختلاف أهل العلم في علة تحريم الربا في البر ونحوه، فقيل: الاقتيات والادخار، وقيل: الطعم والكيل، وقد ترجحت العلة الأخيرة بحديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الطعام بالطعام مثلاً بمثل» )
[(1096)].(1/412)
قوله: (وبكونها ناقلة عن حكم الأصل) أي: وترجح العلة بكونها ناقلة عن حكم الأصل على العلة المبقية على الأصل، كما تقدم في الترجيح بين النصوص، ومثال ذلك: حديث بسرة ـ المتقدم ـ: «من مسَّ ذكره فليتوضأ» فإنه يدل بمسلك الإيماء والتنبيه على أن علة الوضوء مسُّ الذكر، مع حديث طلق بن علي عن أبيه: (هل هو إلا بضعة منك؟) فإنه يدل على أن علة عدم نقض الوضوء مسُّ الإنسان لعضو من أعضائه، فترجح العلة الأولى، لما تقدم[(1097)].
قوله: (ورجحها قوم بخفة حكمها...) أي: إذا اجتمع قياسان، وعلة أحدهما تفيد حكماً أخف، والأخرى تفيد حكماً أثقل، فذهب قوم إلى ترجيح الأخف؛ أخذاً بعمومات الشريعة الدالة على اليسر ورفع الحرج، وذهب آخرون إلى ترجيح الأثقل؛ لأن المصلحة فيه أكثر.
قوله: (وهما ضعيفان) أي: إن ترجيح الأخف أو الأثقل قولان ضعيفان؛ لأن الأخف يكون أرجح تارة، والأثقل يكون أرجح تارة أخرى، وقد مضى بيان ذلك في باب «النسخ»[(1098)].
قوله: (فإن كانت إحدى العلتين حكماً والأخرى وصفاً حسياً فرجَّح القاضي الثانية) أي: إذا تعارض قياسان والجامع في إحداهما حكم شرعي، مثل الحل والحرمة والنجاسة، وفي الآخر وصف حسي: ككونه مسكراً، أو قوتاً ونحو ذلك، فقد رجح القاضي أبو يعلى القياس الذي علته حسية؛ لأن العلة الحسية ألزمُ للمحل، فهي كالعلة العقلية في قطعيتها، فتكون أولى مما يوجب الظن[(1099)].
قوله: (وأبو الخطاب الأولى) أي: رجح أبو الخطاب الأولى، وهي الحكمية؛ لأن المطلوب هو الحكم الشرعي، فالدلالة الشرعية أدل على الحكم الشرعي، والحسيةُ كانت موجودة من قبل ولم يتعلق بها حكم[(1100)].
وهذا هو الأظهر؛ لأن الحكم بالحكم أشبه، فيكون بالدليل عليه أولى[(1101)].(1/413)
ومثال ذلك: قياس الشافعية في إزالة النجاسة بالخل أنه لا يجوز؛ لأنها طهارة تراد للصلاة، فلم تصلح بالخل كالوضوء، وقياس الحنفي أنه مائع مزيل للعين، فتجوز الطهارة به كالماء، فعلة الحنفية وصف حسي ذاتي يرجع إلى ذات الخل، وعلة الشافعي صفة حكمية أي: شرعية[(1102)].
قوله: (وبكثرة أصولها) أي: إذا تعددت الأصول في أحد القياسين، وليس في القياس الآخر إلا أصل واحد، كأن يقاس فرع بجامع على أصول كثيرة، وعارضه قياس بجامع آخر على أصل واحد، أو أصول أقلَّ من القياس الأول، قدّم القياس ذو الأصول الكثيرة؛ لأن كثرتها شواهدُ للفرع بالصحة، وما كثرت شواهده كان الظن بصحته أغلب، كما يرجح أحد الخبرين بكثرة الرواة، كما تقدم.
ومن أمثلته: أن من يوجب النية في الوضوء يقيسه على الصلاة، والصيام، والحج، وغيرها من العبادات، ومن لا يقول بالنية يقول: إنه تنظيف فهو كطهارة الخبث، وهذا أصل واحد، والأول أصول متعددة[(1103)].
قوله: (وباطرادها وانعكاسها) أي: إن العلة المطردة المنعكسة ـ وهي التي إذا وجدت وجد الحكم وإذا انتفت انتفى الحكم ـ، ترجح على المطردة فقط ـ وهي التي إذا وجدت وجد الحكم ـ، لأن الأولى علة مجمع على صحتها، وهذا مبني على القول بصحة غير المنعكسة ـ كما تقدم في القياس ـ، فإن قلنا: إنها لا تصح، لم تعارض المطردة، فلا تحتاج إلى ترجيح، وتكون كالخبر الضعيف مع الصحيح.
ومثال ذلك: قياس الحنابلة الأخ والعم على الأجنبي في أن كلاً منهما لا يزوج الصغيرة، لأن من لا يملك التصرف في مالها لا يملك التصرف في بُضْعِها، وغيرهم يقيس على الأب بجامع أن الكل من أهل ميراثها، فالقياس الأول أولى، لأنه ينعكس؛ فإن الأب لما ملك التصرف في مالها بنفسه ملك التصرف في بضعها، وقياسهم لا ينعكس فإن الحاكم ليس من أهل ميراثها، ويزوجها عندهم[(1104)].(1/414)
قوله: (والمتعدية على القاصرة) أي: إذا تعارض قياسان، وكانت علة أحدهما متعدية، وعلة الآخر قاصرة ـ فعلى القول بعدم جواز تعدد العلل ـ ترجح العلة المتعدية؛ لأنها أتم فائدة من العلة القاصرة، وأكثر منفعة، وهذا القول الأول .
ومثاله: لو قدّرنا أن المكيلات أكثر، عَلَّلْنا الربا في البر بالكيل؛ لأن علة الكيل حينئذ تكون متعدية إلى فروع كثيرة، ولو قدرنا أن المطعومات أكثر، عللنا بالطعم؛ لما سبق، وحينئذ يصير الأقل فروعاً بالإضافة إلى الأكثر فروعاً كالقاصرة بالإضافة إلى المتعدية.
قوله: (ومنع منه قوم) هذا القول الثاني ، وهو أن بعض الأصوليين منع من ترجيح العلة المتعدية، فقالوا: القاصرة أرجح، وذلك لأنها مطابقة للنص، فلم يجاوز تأثيرها موضع النص، فصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة، بخلاف المتعدية فإنها لم تطابق النص بل زادت عليه، وما طابق النص أولى.
والأول أرجح ؛ فإن المتعدية علة متفق عليها، والقاصرة مختلف فيها؛ ولأنها أكثر فائدة ـ كما تقدم في شروط العلة ـ.
واعلم أن الكلام في ترجيح العلة المتعدية على القاصرة لا مدخل له في ترجيح الأقيسة، وإنَّما فائدته إمكان القياس إن قدمنا المتعدية، وعدم إمكانه إن قدمنا القاصرة.
قوله: (والإثبات على النفي) أي: يترجح من القياسين ما كانت علته إثباتاً على ما كانت علته بالنفي، وذلك لأن التعليل بالإثبات متفق عليه، والتعليل بالنفي مختلف فيه ـ كما تقدم ـ ولأن الموجود أولى من المعدوم في الجملة.
ومثال ذلك: تعليل الحنبلي لقياس الأشنان على البر والشعير بأنه مكيل جنس، وتعليل غيره بأنه ليس بمطعوم جنس ولا ثمن[(1105)].
قوله: (والمتفق على أصله على المختلف فيه) أي: إذا كان أصل إحدى العلتين متفقاً عليه والآخر مختلفاً فيه، كان القياس المتفق على أصله أولى، فإن قوة الأصل تؤكد قوة العلة، ويمكن أن يمثّل لذلك بقياس الأرز على البر في الحكم بجريان الربا فيه بجامع الكيل والطعم.(1/415)
وقال آخر: بقياس الأرز على الذرة، فترجح العلة الأولى؛ لأن أصلها وهو البر منصوص عليه، فيكون تحريم الربا في البر مجمعاً عليه، بخلاف تحريمه في الذرة، فقد خالف فيه الظاهرية القائلون بالاقتصار على الأصناف المنصوص عليها[(1106)].
قوله: (وبقوة الأصل فيما لا يحتمل النسخ على محتمله) أي: إن القياس الذي دليل أصله لا يحتمل النسخ فلم ينسخ بالاتفاق، مقدم على أصلِ دليلٍ محتملٍ للنسخ وإن كان الاحتمال ضعيفاً؛ إذ ليس كالمتفق على أنه لم ينسخ.
قوله: (وبكونه رَدَّه الشارع إليه) أي: ترجح العلة المردودة إلى أصل قاس الشارع عليه، كقياس الحج على الدَّيْن، في أنه لا يسقط بالموت، لقوله صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن الحج عن الميت: «أرأيتِ لو كان على أمكِ دين فقضيتيه عنها أكان ينفعها؟» قالت: نعم. قال: «فدين الله أحق بالقضاء» [(1107)].
وعلى هذا إذا مات من عنده مال ولم يحج، فإنه يخرج من تركته كسائر ديونه، فيقاس الحج على دين الآدمي بجامع أنه مطالب بالجميع، ومنهم من قال: لا حج عليه؛ لأن الحج عبادة بدنية فتسقط المطالبة بها بالموت، قياساً على الصلاة، لكن يرجح القياس الأول بأن علته جمع بها النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بين ذلك الأصل والفرع، فصارت مردودة إلى أصل قاس الشارع عليه.
قوله: (والمؤثر على الملائم. والملائم على الغريب) أي: لأن الأول أقوى من الثاني، والثاني أقوى من الثالث ـ كما تقدم ـ.
قوله: (والمناسبة على الشبهية) أي: يقدم الوصف المناسب على الشبهي؛ لأن المناسب متفق عليه، والمصلحة فيه ظاهرة، بخلاف الشبهي فيهما، وقد تقدم معنى ذلك. والله أعلم.
* * *
الباب الثالث
في الاجتهاد والتقليد
الاجتهاد [لغةً] : بذل الجهد في فعل شاق. وعرفاً: بذل الجهد في تعرّف الأحكام، وتمامه: بذل الوسع في الطلب إلى غايته.(1/416)
وشرط المجتهد: الإحاطة بمدارك الأحكام ـ وهي الأصول الأربعة والقياس ـ وترتيبها، وما يعتبر للحكم في الجملة إلا العدالة، فإن له الأخذ باجتهاد نفسه، بل هي شرط لقبول فتواه. فيعرف من الكتاب والسنّة ما يتعلق بالأحكام: فمن القرآن قدر خمسمائة آية، لا حفظها لفظاً، بل معانيها؛ ليطلبها عند حاجته. ومن السنّة ما هو مدوّن في كتب الأئمة، والناسخ والمنسوخ منهما، والصحيح والضعيف من الحديث للترجيح، والمجمع عليه من الأحكام، ونصب الأدلة وشروطها ، ومن العربية ما يميز به بين صريح الكلام وظاهره، ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيّده، ونصّه وفحواه.
الباب الثالث في الاجتهاد والتقليد
قوله: (الاجتهاد لغة: بذل الجهد في فعل شاق) الجُهْدُ: بالضم هو الطاقة. يقال: اجتهد في حمل الرحى ونحوها من الأشياء الثقيلة، أي: بذل طاقته، لا في حمل العصا ونحوه من الأشياء الخفيفة؛ لأن الاجتهاد مختص بذلك في عرف اللغة. قال ابن فارس: الجيم والهاء والدال: أصله المشقة، ثم يحمل عليه ما يقاربه. قال تعالى: {{وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}} [التوبة: 79]
[(1108)].
قوله: (وعرفاً: بذل الجهد في تعرّف الأحكام) أي: إن الاجتهاد في عرف الأصوليين: بذل الوسع والطاقة في التعرف على الحكم الشرعي وتحصيله واستنباطه.
والمجتهد هو: الفقيه الذي له القدرة على استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
قوله: (وتمامه: بذل الوسع في الطلب إلى غايته) أي: والتام من الاجتهاد: بذل الوسع في طلب الحكم إلى غايته، والضمير يعود على (الوسع) أي: بذل غاية وسعه، وهو العجز عن مزيد الطلب، وعليه فالاجتهاد نوعان:
1 ـ ناقص: وهو النظر المطلق في تعرف الحكم، وتختلف مراتبه بحسب الأحوال.
2 ـ تام: وهو بذل الجهد حتى يحسَّ الناظر من نفسه العجز عن مزيد الطلب.(1/417)
ومثاله: مِثَالُ من ضاع له درهم في التراب فقلَّبه برجله، فلم يجد شيئاً فتركه وراح، وآخر إذا جرى له ذلك جاء بغربال، فغربل التراب حتى يجد الدرهم أو يغلب على ظنه أنه لن يلقاه، فالأول اجتهاد قاصر، والثاني تام[(1109)]، وهو المعتبر شرعاً.
ومن هذا التعريف للاجتهاد يتبين أنه لا بُدَّ من بذل الجهد، ولا بد أن يكون الباذل جهده فقيهاً تحققت قدرته على استفادة الحكم، بذكاء وفطنة، إضافة إلى الشروط المعتبرة.
كما يتبين من التعريف أن المقصود التوصل إلى الأحكام الشرعية العملية عن طريق النظر في أدلة الشرع، سواء نتج عن ذلك قطع بالحكم أو ظن به، ويخرج بهذا حفظ المسائل بحفظ المتون الفقهية، أو أخذها من المفتي، أو نقلها من الكتب، فلا يسمى شيء من ذلك اجتهاداً في الاصطلاح.
قوله: (وشرط المجتهد) اعلم أن للاجتهاد شروطاً معينة لا بُدَّ من تحققها، حتى يكون صاحبها أهلاً لمنصب الاجتهاد ومرتبته؛ لأن الاجتهاد أصل عظيم من أصول الشريعة، وصاحبه مبيِّن لحكم الله تعالى؛ لأنه يكشفه باجتهاده، فلا بد أن يكون عنده أهلية الاجتهاد، بتحقق القدرة على الاستنباط كما تقدم، إضافة إلى الشروط المعتبرة التي ذكرها العلماء.
قوله: (الإحاطة بمدارك الأحكام) هذا أحد شروط الاجتهاد و (مدارك) جمع مفرده: (مُدْرك) بضم الميم، من أدرك الرباعي[(1110)]، والمراد بمدارك الأحكام: طرقها التي تدرك منها ويتوصل بها إليها.
قوله: (وهي الأصول الأربعة والقياس) أي: مدارك الأحكام هي الأصول الأربعة المتقدم ذكرها، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والاستصحاب، والقياس التابع لها؛ لأن المجتهد لا بُدَّ أن يستند في اجتهاده إلى دليل، وأن يرجع إلى أصل[(1111)]، وهذا على ما مشى عليه المصنف من اعتبار الدليل الرابع هو الاستصحاب، وتقدم الكلام على ذلك.
قوله: (وترتيبها) أي: يعرف ترتيب الأدلة، وما يجب تقديمه منها ـ كما سبق ـ.(1/418)
قوله: (وما يعتبر للحكم في الجملة) أي: يشترط في المجتهد ما يعتبر للحكم في الجملة من العلم بالكتاب والسنة، والناسخ والمنسوخ، ومواقع الإجماع، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، وطريقة استنباط الأحكام، وغير ذلك.
قوله: (إلا العدالة) العدالة على المشهور هي: استقامة الدين والمروءة، وذلك بأداء الواجبات واجتناب ما يوجب الفسق من المحرمات، وفعل ما يحمده الناس عليه من الآداب والأخلاق، وترك ما يذمه الناس عليه من ذلك.
فلا تشترط العدالة في كونه مجتهداً؛ لأن استنباط الأحكام من الأدلة يصح من العدل والفاسق.
قوله: (فإن له الأخذ باجتهاد نفسه) أي: له أن يجتهد ويعمل باجتهاد نفسه، ولو كان فاسقاً.
قوله: (بل هي شرط لقبول فتواه) أي: إن العدالة شرط لقبول فتياه وإخباره أن هذا حكم الله تعالى وأن الدليل الشرعي دل عليه.
قوله: (فيعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام) أي: فيشترط في المجتهد أن يعرف من الكتاب والسنة النصوص التي تستنبط منها الأحكام الشرعية؛ لأن ذلك وظيفة المجتهد.
قوله: (من القرآن قدر خمسمائة آية، لا حفظها لفظاً، بل معانيها؛ ليطلبها عند حاجته) أي: إن آيات الأحكام تقدر بهذا العدد، ولا يشترط حفظها، بل يكفي معرفة معانيها؛ ليرجع إليه وقت الحاجة.
والحق أن آيات الأحكام غير محصورة بهذا العدد؛ إذ يمكن بالتأمل الدقيق والنظر العميق استنباط الأحكام من الآيات الأخرى كالقَصَصِ والأمثال.
ومما يساعد على ذلك الرجوع إلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام، مثل: «أحكام القرآن» للجصاص، المتوفى سنة (370هـ)، و«أحكام القرآن» لابن العربي، المتوفى سنة (543هـ)، و«الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، المتوفى سنة (761هـ).(1/419)
وإضافة إلى معرفة آيات الأحكام لا بُدَّ أن يعرف ما يتعلق بأسباب النزول؛ لأنها تعين على فهم الآية، لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، كما أن في ذلك معرفة حكمة الله تعالى فيما شرع من الأحكام، وكذا ما يتعلق باختلاف القراءات؛ لما فيها من شرح الألفاظ أو إفادة حكمٍ جديدٍ لم يكن في القراءة الأخرى، أو دفعِ تَوَهُّمِ ما ليس مراداً، إلى غير ذلك مما يستفيده المجتهد.
قوله: (ومن السنة ما هو مدوّن في كتب الأئمة) أي: لا بُدَّ أن يعرف المجتهد من السنة ما يتعلق بالأحكام، وقد اعتنى طائفة من العلماء بأحاديث الأحكام، وأفردوها في مصنفات مستقلة، مثل كتاب: «منتقى الأخبار» لمجد الدين ابن تيمية، المتوفى سنة (652) و«بلوغ المرام» للحافظ ابن حجر العسقلاني، المتوفى سنة (852).
قوله: (والناسخ والمنسوخ منهما) أي: ومن شروط المجتهد أن يعرف الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة؛ ليقدم الأول على الثاني؛ فإنه إذا لم يكن عالماً بهما قد يحكم بالمنسوخ.
قوله: (والصحيح والضعيف من الحديث للترجيح) أي: لا بُدَّ أن يعرف المجتهد الحديث الصحيح من الضعيف، ليستفيد من ذلك في الترجيح عند التعارض، وذلك إمَّا بمعرفة حال الرواة، والبحث في عدالتهم من كتب الجرح والتعديل، أو بنقل الحديث من كتاب صحيح ارتضى الأئمة رواته كالصحيحين، وغيرهما.
قوله: (والمجمع عليه من الأحكام) أي: لا بُدَّ أن يعرف المجتهد مواقع الإجماع؛ لئلا يفتي بخلافه.
قوله: (ونصب الأدلة وشروطها) أي: ومن شروط المجتهد العلم بقواعد الاستدلال وشروطه، وما يتحقق به كيفية نصب الدليل، ووجه دلالته على المطلوب، ويستفاد ذلك من معرفة علم أصول الفقه، الذي هو القاعدة العظمى للمجتهد، لكي يستنبط الأحكام على أسس سليمة، وقواعد صحيحة.(1/420)
قوله: (ومن العربية ما يميز به بين صريح الكلام وظاهره، ومجمله وحقيقته...) أي: ومن شروط المجتهد أن يكون عالماً بالقدر اللازم لفهم الكلام، من اللغة والنحو والصرف. أمَّا اللغة فلأن القرآن والسنة بلسان العرب وردا، فلا يَفْهَمُ نصوصهما من يجهل اللغة، وأمَّا النحو فلأن المعاني تختلف باختلاف الإعراب، وأمَّا الصرف فلأن الاشتقاق ومعرفة أصول الكلمات له تأثير على اختلاف الدلالات والمعاني.
والمراد من ذلك كله: معرفة القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة، ويستطيع به أن يميز بين صريح الكلام وظاهره، ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وغير ذلك مما يتعلق بدلالات الألفاظ ومواقع الخطاب.
ومما أُلحق بذلك علم البلاغة، ولا سيما علم المعاني، كالخبر وأنواعه، والإنشاء وأقسامه، وما يتعلق بالمسند والمسند إليه من تقديم وتأخير وحذف ونحوها، وكذا الإيجاز والإطناب.. ثم علم البيان كالتشبيه، والحقيقة والمجاز والاستعارة، وغير ذلك من مباحث هذا الفن، الذي به تدرك أسرار الكلام، ومطابقته لمقتضى حال المخاطب.
وهذه الشروط التي ذكرها المصنف رحمه الله هي شروط المجتهد، أمَّا الشروط التي ترجع إلى المسائل المجتهد فيها، فلم يذكرها وأهمها:
1 ـ أن تكون المسألة غير منصوص أو مجمع عليها، وقد نقل ابن القيم رحمه الله الاتفاق على سقوط الاجتهاد عند ظهور النص[(1112)].
2 ـ أن يكون النص الوارد في المسألة ـ إن ورد فيها نص ـ محتملاً قابلاً للتأويل، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» [(1113)].
فقد فهم بعض الصحابة رضي الله عنهم من هذا النص ظاهره من الأمر بصلاة العصر في بني قريظة ولو بعد وقتها، وفهم آخرون من النص الحث على المسارعة في السير مع تأدية الصلاة في وقتها، ولم ينكر صلّى الله عليه وسلّم على أحد من الفريقين ما فَهِمَ، ولم يعنف أحداً على ما فعل.(1/421)
3 ـ ألا تكون المسألة المجتهد فيها من مسائل العقيدة؛ لأنها توقيفية، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك[(1114)]، ولهذا لا يجوز اجتهاداً اشتقاق الأسماء الحسنى من صفات الأفعال، كالرضى، والسخط، والغضب، والمكر، ونحو ذلك.
4 ـ أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل، أو مما يمكن وقوعه في الغالب والحاجة إليه ماسة. أمَّا استعمال الرأي قبل الواقعة والاشتغال بما لا يمكن، فقد كرهه جمهور أهل العلم[(1115)].
فإن علم ذلك في مسألة بعينها كان مجتهداً فيها وإن لم يعرف غيرها. ويجوز التعبد بالاجتهاد في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم للغائب والحاضر بإذنه. وقيل: للغائب.
وأن يكون هو صلّى الله عليه وسلّم متعبداً به فيما لا وحي فيه.
وقيل: لا. لكن هل وقع؟. أنكره بعض أصحابنا، وأصحاب الشافعي، وأكثر المتكلمين. والصحيح: بلى، لقصة أسارى بدر وغيرها.
قوله: (فإن علم ذلك في مسألة بعينها كان مجتهداً فيها، وإن لم يعرف غيرها) هذه مسألة تجزّؤ الاجتهاد، ومعناه: أن يصير العالم مجتهداً في باب من أبواب العلم كالمناسك، أو البيوع، أو في مسألة من مسائله، لمعرفته جميع ما ورد في ذلك من الأدلة التي تمكنه من الاجتهاد فيه، دون جمع أدلة غيره من الأبواب، فالأكثرون على جواز تجزؤ الاجتهاد، وأن له أن يجتهد بمعرفة ما يتعلق بمسألة وإن جهل ما لا تعلق له به من بقية المسائل الفقهية؛ إذ لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع المسائل حكماً ودليلاً، وهذا اللازم منتف، وواقع المجتهدين يدل على ذلك، فإن كثيراً منهم يُسأل عن مسائل فيجيب في بعضها دون الآخر، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم[(1116)].
وقال آخرون بمنع تجزؤ الاجتهاد؛ محتجين بأن ما يجهله العالم من الأدلة في الأبواب الأخرى يجوز أن يكون له تعلق بما هو بصدده وتَعَرُّفِ حكمه، فلا يحصل له ظن بالحكم، ولا يتمكن من استنباطه.(1/422)
والأول أرجح؛ لقوة مأخذه، وما ذكره المانعون بعيد الاعتبار، ولو تمَّ ذلك وصح اعتباره لكان كل مجتهد مجتهداً في جميع الأبواب والمسائل، وتساوى المجتهدون جميعاً في اجتهادهم، وهذا باطل[(1117)].
قوله: (ويجوز التعبد بالاجتهاد في زمن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم للغائب والحاضر بإذنه) اختلف العلماء في حكم اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم في زمنه صلّى الله عليه وسلّم هل يجوز أم لا؟ على أقوال:
الأول: أنه يجوز مطلقاً، أي: للغائب والحاضر بإذنه، ومعنى (بإذنه) ، أي: إن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم يأمر هذا الصحابي بالاجتهاد. وهذا مذهب الأكثر، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وَجدِّه مجد الدين أبي البركات[(1118)].
ودليل هذا ما ثبت أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم رضي بتحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في بني قريظة، ثم لما حكم بقتل رجالهم وسبي ذراريهم بالرأي أقرَّه النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال له: «لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات» [(1119)].
كما يشهد لوقوع الاجتهاد من الصحابة ما كان من عمرو بن العاص رضي الله عنه وكان على رأس جيش في غزوة ذات السلاسل[(1120)]، فأصابته جنابة في ليلة باردة شديدة البرودة، فرأى أن البرد قاتله إن اغتسل، فتيمم وصلى بأصحابه الصبح، وقال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}} [النساء: 29] فلما حضروا من سفرهم عرض ذلك على النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل شيئاً[(1121)].
فهذا وما قبله يدل على جواز اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم في حضرة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي غيبته.
قوله: (وقيل: للغائب) هذا القول الثاني في المسألة، وهو التفريق بين الحاضر فلا يجوز، وبين الغائب فيجوز.(1/423)
واستدلوا بقصة معاذ رضي الله عنه لما بعثه النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم والياً على اليمن، وسأله: «بِمَ تقضي؟» فذكر الكتاب والسنة، ثم قال: أجتهد رأيي ولا آلو. وصوّبه الرسول صلّى الله عليه وسلّم[(1122)].
كما استدلوا ـ أيضاً ـ بقصة عمرو بن العاص المتقدمة.
وأمَّا الحاضر فلا يجوز؛ لإمكان استكشاف ذلك بالوحي وخبر النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه بين ظهرانيهم، فاجتهاد الصحابي ظَنٌّ، والوحي عِلْمٌ، فهو عدول عن العلم إلى الظن، وهذا غير جائز؛ لأنه تهاون بالأحكام.
والظاهر هو الجواز مطلقاً، أي: سواء كان ذلك في حضرته أو غيبته، وذلك لوقوعه وهو أبلغ دليل، لكن إن كان صواباً وعلم النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم به وأقرّه ثبت حكمه، وإن كان غير صواب في حضرته نبّه على خطئه، وإن كان في غيبته ولم يعلمه فهو محتمل كأي اجتهاد آخر.
وقد ذكر الرازي أن الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه؛ لأن اجتهاد الصحابي إن أقره النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم كان حجة وشرعاً بالسنة التقريرية لا باجتهاد الصحابي، وإن لم يبلغه صار حكمه حكم قول الصحابي المختلف في حجيته[(1123)].
قوله: (وأن يكون هو متعبداً به فيما لا وحي فيه) هذا معطوف على ما قبله، أي: ويجوز أن يكون هو ـ أي النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم ـ (متعبداً به) أي: بالاجتهاد (فيما لا وحي فيه) أي: لا نص فيه، وهذا تقييد للمسألة، وذلك أن ما فيه نص لا يجوز للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجتهد فيه بخلاف النص، لقوله تعالى: {{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} ...} [الأنعام: 106] .
أمَّا ما لا نص فيه فهل هو متعبد بالاجتهاد فيه؛ اعلم أن محل الخلاف هو الاجتهاد في الأحكام الشرعية فيما لا نص فيه، وأمَّا اجتهاده في الأقضية والمصالح الدنيوية وتدابير الحروب ونحوها فقد اتفق العلماء على أنه يجوز له الاجتهاد فيها[(1124)].(1/424)
فالقول الأول في المسألة هو ما ذكره المصنف من أنه يجوز الاجتهاد للرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما لا نص فيه، وهو قول الأئمة مالك، والشافعي وأحمد، وأكثر الحنفية.
ومن أدلة هذا القول: أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في شأن حرمة مكة: «لا يُختلى خلاها، ولا يعضد شجرها» ، فلما قال له عمه العباس رضي الله عنه: إلا الإذخر، قال: «إلا الإذخر» [(1125)].
فرجوعه صلّى الله عليه وسلّم لقول العباس دليل على أنه قال ذلك باجتهاده؛ إذ لو كان بوحي لما تغير.
قوله: (وقيل: لا) هذا القول الثاني: وهو أنه لا يجوز له الاجتهاد، وإليه ذهب بعض الحنابلة وبعض الشافعية، وذلك لإمكان نزول الوحي والحكم بالقواطع من الأحكام، ولأن الله تعالى قال في حقه صلّى الله عليه وسلّم: {{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *}{إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *}} [النجم: 3، 4] ، وقال تعالى: {{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}} [يونس: 15] ، والحكم بالاجتهاد حكم بالهوى، فهو لا ينطق به، فلا يصدر عنه.
والقول الأول أرجح؛ لقوة مأخذه، فله صلّى الله عليه وسلّم أن يجتهد، لكن لا يُقَرُّ على خطأ، فما أُقِرَّ من اجتهاده واستمر الأمر عليه فهو تشريع له.
وأمَّا دليل القول الثاني: فلا نسلم أن الحكم بالاجتهاد نطق عن الهوى، لاعتماده على الإذن والدليل الشرعي، وإنَّما يكون الحكم بالهوى فيما لا يستند إلى شيء من ذلك.
قوله: (لكن هل وقع؟) أي: الاجتهاد منه صلّى الله عليه وسلّم.(1/425)
قوله: (أنكره بعض أصحابنا، وأصحاب الشافعي، وأكثر المتكلمين) أي: أنكر بعض الحنابلة؛ كأبي حفص العُكْبري وابن حامد[(1126)] وقوع الاجتهاد منه صلّى الله عليه وسلّم، واستدلوا بقوله تعالى: {{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *}{إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *}}، وبما ورد أنه أصاب الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَنَةٌ، فقالوا: يا رسول الله! سعِّر لنا، فقال: «لا يسألني الله عن سُنَّةٍ أحدثتها فيكم لم يأمرني بها» [(1127)].
قوله: (والصحيح: بلى) أي: وقع الاجتهاد منه صلّى الله عليه وسلّم، وهو الصحيح عند أكثر الحنابلة.
قوله: (لقصة أسارى بدر) أي: مما يدل على وقوع الاجتهاد منه صلّى الله عليه وسلّم قصة أسارى بدر، حيث استشار النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر رضي الله عنه في شأنهم، فأشار بأخذ الفداء، وأشار عمر رضي الله عنه بقتلهم. فَهَوِيَ النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم رأي أبي بكر رضي الله عنه، فنزل: {{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}} [الأنفال: 67] [(1128)].
فالنبي صلّى الله عليه وسلّم اجتهد في شأنهم، ولو كان ذلك بالوحي لما عوتب عليه، وهذا حكم شرعي؛ لأن جواز مفاداة الأسير بالمال وعدم جوازه من أحكام الشرع.
قوله: (وغيرها) أي: مثل إذنه صلّى الله عليه وسلّم في التخلف عن الجهاد لمن استأذنه في ذلك قبل أن يتثبت من عذره، ويتبين أصادق في عذره أم كاذب؟ فعاتب الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: {{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ *}} [التوبة: 43] ، ومنها: ما تقدم من قوله صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح: «إلاَّ الإذخر» ، لما قال له العباس ذلك.(1/426)
وأما استدلال الأولين بقوله تعالى: {{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *}} فهو مردود؛ فإن الآية سيقت في معرض الرد على منكري القرآن، ثم إن الاجتهاد ليس من الهوى، وإنما هو من الوحي الذي أوحي إليه؛ لأن الله تعالى أمره به كما أمر أمته، ويدل عليه قوله تعالى: {{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}} [آل عمران: 159] .
وأما الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول فلا وجود له في الدواوين المعتمدة، وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في (المسودة) ولم يعلق عليه بشيء، ولو صح فإن معناه أن النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يُحْدِثُ سنة إلا بأمر الله، ويدخل في ذلك الاجتهاد؛ لأنه بأمر الله كما تقدم[(1129)]. والله أعلم.
والحق في قول واحد، والمخطئ في الفروع ـ ولا قاطع ـ معذور، مأجور على اجتهاده. وقال بعض المتكلمين: كل مجتهد مصيب، وليس على الحق دليل مطلوب. وقال بعضهم: واختلف فيه عن أبي حنيفة وأصحابه، وزعم الجاحظ أن مخالف الملة متى عجز عن دَرَكِ الحق فهو معذور غير آثم.
قوله: (والحق في قول واحد) هذه مسألة تصويب المجتهد؛ وفيها قولان:
الأول: أن الصواب في قول واحد من المجتهدين، ومن عداه فهو مخطئ؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، وهذا قول الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة، وهو قول عند الحنفية.
قوله: (والمخطئ في الفروع ـ ولا قاطع ـ معذور) أي: المخطئ في المسائل الفقهية الظنية التي ليس فيها دليل قاطع من نص أو إجماع، معذور في خطئه. فلا إثم عليه، لسلامة نيته وقصده، ولأنه خطأ غير مقصود.
قوله: (مأجور على اجتهاده) أي: على بذل وسعه وطاقته؛ لحديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه: (وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) ، وهذا الأجر مقيد بالاجتهاد، كما يدل عليه الحديث.(1/427)
قوله: (وقال بعض المتكلمين: كلُّ مجتهد مصيبٌ...) هذا القول الثاني في مسألة التصويب والتخطئة في الاجتهاد. وهو أن كل مجتهد مصيب، وليس على الحق دليل مطلوب، وإنما كلُّ من أداه اجتهاده إلى ترجيح أمرٍ على آخرَ فهو مصيب، لعدم القطع بصواب واحد من هذه الاجتهادات، وهذا قول آخر للحنفية.
والقول الأول هو الصحيح في هذه المسألة؛ لما ورد من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد ثم أصاب، فلم أجران، وإذا حكم الحاكم، فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر» [(1130)].
ووجه الدلالة: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جعل المجتهدين قسمين: قسماً مصيباً، وقسماً مخطئاً. ولو كان كل منهم مصيباً لم يكن لهذا التقسيم معنى.
قوله: (وقال بعضهم: وا
ختلف فيه عن أبي حنيفة وأصحابه) أي: اختلف عنهم في هذه المسألة، فورد عنهم كلا القولين، كما تقدم.
قوله: (وزعم الجاحظ[(1131)] أن مخالف الملة متى عَجَزَ عن دَرَكِ الحق فهو معذور غير آثم) الزعم: حكاية قول هو في مظنة الكذب. والمعنى: أن الجاحظ يزعم أن مخالف ملة الإسلام كالواحد من اليهود والنصارى وغيرهم، متى جدّ وبذل وسعه في طلب الحق، فأداه اجتهاده إلى معتقده، فأقام عليه ولزمه فهو معذور غير آثم؛ لأنه نظر وبذل ما في وسعه، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.(1/428)
ولا ريب في فساد هذا القول؛ لأن الله تعالى ذم الكفار على معتقدهم، وتوعدهم بالعقاب عليه، ولو كانوا معذورين فيه لما كان الوعيد، قال تعالى: {{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}} [ص: 27] ، وقال تعالى: {{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}} [المجادلة: 18] ، وقال النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» [(1132)].
وقد أجمعت الأمة على ذم الكفار، ومطالبتهم بترك اعتقاداتهم ووجوب اعتناقهم الإسلام، وتصديقهم بالرسالة؛ قال تعالى: {{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}} [آل عمران: 85] .
وعلى هذا فأمور العقيدة لا محل للاجتهاد فيها، ومنكرها أو منكر شيء منها كافر.
وقال العنبري: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع فإن أراد أنه أتى بما أُمِرَ به : فكقول الجاحظ، وإن أراد في نفس الأمر لزم التناقض، فإن تعارض عنده دليلان واستويا توقف ولم يَحْكم بواحد منهما، وقال بعض الحنفية والشافعية: تَخَيَّر، وليس له أن يقول: فيه قولان حكاية عن نفسه في حالة واحدة وإن حُكي ذلك عن الشافعي. وإذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم لم يجز التقليد، وإنما يقلد العامي، ومن لا يتمكن من الاجتهاد في بعض المسائل فعامي فيها.
قوله: (وقال العنبري[(1133)] : كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع) المراد بالأصول: ما يتعلق بأمور العقيدة من إثبات وجود الله تعالى، وبعثة الرسل وتصديقهم، ورؤية الله تعالى، ونحو ذلك مما علم من الإسلام بالضرورة.
والمراد بالفروع: فقه أحكام العباد، ويدخل فيها أحكام العبادات والمعاملات [(1134)].(1/429)
واحتج بأنه إذا جاز أن يكون كل مجتهد في الفروع مصيباً، جاز مثله في الأصول، وهذا غير صحيح، فإن الأصول عليها أدلة قاطعة، بخلاف الفروع.
قوله: (فإن أراد أنه أتى بما أُمِرَ به فكقول الجاحظ) هذه مناقشة من المصنف للعنبري. والمعنى: أنه إن أراد بالإصابة أنه أتى بما كُلِّف به مما هو داخل تحت قدرته من الاجتهاد، وأنه لم يؤمر إلا بما هو عليه، فهذا مثل قول الجاحظ.
قوله: (وإن أراد في نفس الأمر لزم التناقض) أي: وإن أراد أن كل من اجتهد مصيب لما في نفس الأمر، وأن ما اعتقده موافق للمعتقد الصحيح، لزم التناقض؛ لأنه يجعل الشيء ونقيضه حقاً، إذ لا يعقل أن يكون قِدمُ العالم وحدوثه حقاً، وإثبات الخالق ونفيه حقاً في نفس الأمر، ونحو ذلك من الأمور القائمة بذاتها التي لا تتبع الاعتقاد.
وهذا قول بشع؛ لأنه يقتضي تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار وغيرهم حسب معتقداتهم.
وقد قيّد بعض الأصوليين كلام العنبري بأن مراده أهلُ القبلة؛ لأن القول بالإطلاق يلزم عليه الخروج من الدين؛ لما فيه من تصويب من أخطأ من أهل الضلال[(1135)].
قوله: (فإن تعارض عنده دليلان واستويا توقف ولم يحكم بواحد منهما) أي: إذا تعارض عند المجتهد حديثان ـ مثلاً ـ ولم يترجح واحد منهما على الآخر، فإنه يتوقف ولا يحكم بواحد منهما حتى يظهر له مرجح؛ لأن إعمالهما جمع بين النقيضين، وإعمال أحدهما من غير مرجح تحكّم، فتعيّن التوقف حتى يظهر مرجح.
قوله: (وقال بعض الحنفية والشافعية: تخيَّر) أي: بالأخذ بأيهما شاء، والظاهر أنه يأخذ بالأحوط، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك» [(1136)].
قوله: (وليس له أن يقول: فيه قولان، حكاية عن نفسه في حالة واحدة) أي: ليس للمجتهد أن يقول في مسألة قولين في وقت واحد عند الجمهور؛ لأنه يلزم منه اعتقاد النقيضين، كالتحريم والإباحة.
أما في وقتين فله أن يقول في المسألة بقولين متضادين. وسيأتي.(1/430)
قوله: (وإن حُكي ذلك عن الشافعي) أي: نقل عن الشافعي أنه قال في ست عشرة مسألة أو سبع عشرة بقولين مختلفين في وقت واحد.
قال في «جمع الجوامع» وشرحه: (وهو دليل على علوِّ شأنه علماً وديناً، أما علماً فلأن التردد من غير ترجيح ينشأ عن إمعان النظر الدقيق، حتى لا يقف على حالة، وأما ديناً فإنه لم يبال بذكره ما يتردد فيه، وإن كان قد يعاب في ذلك عادةً بقصور نظره، كما عابه به بعضهم)[(1137)].
وقال الطوفي: (وأحسن ما يعتذر به عن الشافعي أنه تعارض عنده الدليلان، فقال بمقتضاهما على شريطة الترجيح)[(1138)].
قال الشافعي في «الأم»: (وأُحِبُّ أن يُمِرَّ الماء على جميع ما سقط من اللحية عن الوجه، وإن لم يفعل فأمرَّه على ما على الوجه ففيها قولان: أحدهما: لا يجزيه؛ لأن اللحية تنزل وجهاً. والآخر: يجزيه إذا أمرَّه على ما علا الوجه منه)[(1139)].
قوله: (وإذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم لم يجز التقليد) أي: إن المجتهد إذا بلغ وسعه في النظر في المسألة فغلب على ظنه أن الحكم كذا فعليه أن يأخذ به، ولا يجوز له أن يقلد غيره.
قوله: (وإنما يقلد العامي) أي: إن الذي يصح منه التقليد لغيره هو العامي، فيقلد المجتهد.
قوله: (ومن لا يتمكن من الاجتهاد في بعض المسائل فعامي فيها) أي: من لا يقدر على الاجتهاد في بعض المسائل إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء، كالنحو في مسألة نحوية، وعلم الرجال فيما يتعلق بالإسناد فهو كالعامي فيها. فله أن يقلد غيره؛ لأن المجتهد هو الذي صارت العلوم عنده بالقوة القريبة، أما إذا احتاج إلى تعب في التعلم، فهو في ذلك الفن عاجز.(1/431)
والمجتهد المطلق: هو الذي صارت له العلوم خالصة بالقوة القريبة من الفعل، من غير حاجة إلى تعب كثير، حتى إذا نظر في مسألة استقل بها، ولم يحتج إلى غيره، فهذا قال أصحابنا: لا يقلد مع ضيق الوقت ولا سعته، ولا يفتي بما لم ينظر فيه إلا حكاية عن غيره، فإن نص في مسألة على حكم وعلّله فمذهبه في كل ما وجدت فيه تلك العلة كذلك، فإن لم يعلِّل لم يُخْرَجْ إلى ما أشبهها. وكذلك لا يُنْقَلُ حكمه في مسألتين متشابهتين كل واحدة إلى الأخرى.
فإن اختلف حكمه في مسألة واحدة، وجُهِلَ التاريخ، فمذهبه أشبههما بأصوله وأقواهما، وإلا فالثاني لاستحالة الجمع، وقال [بعض] أصحابنا: والأول.
قوله: (والمجتهد المطلق: هو الذي صارت له العلوم خالصة بالقوة القريبة من الفعل، من غير حاجة إلى تعب كثير) المراد بالقوة القريبة: المَلَكَةُ[(1140)] التي يقتدر بها على تحصيل التصديق بأي حكم أراد، وإن لم يكن حاصلاً بالفعل. فالمراد بالقوة: كون الشيء مستعداً لأن يوجد ولم يوجد، والفعل: كون الشيء خارجاً من الاستعداد إلى الوجود. فيقال: محمد قائم. بالقوة، إذا كان قاعداً، وقادراً على القيام. ويقال: قائم. بالفعل، إذا كان في حالة قيام.
قوله: (حتى إذا نظر في مسألة استقل بها ولم يحتج إلى غيره) أي: إن المجتهد المطلق هو: الفقيه المستقل الذي يمكنه استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، دون أن يقلد أحداً، وعنده القدرة على النظر في جميع المسائل، بما عنده من القوة العلمية، والملكة التي يقتدر بها على فهم النصوص، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه.
قوله: (فهذا قال أصحابنا: لا يقلد مع ضيق الوقت ولا سعته) أي: مَن هذه صفته، لا يجوز له أن يقلد مجتهداً آخر مطلقاً، لا لأعلم منه ولا لغيره، لا من الصحابة رضي الله عنهم ولا لغيرهم، لا للعمل ولا للفتيا، لا مع ضيق وقت ولا مع سعته، بل لا بد أن يستنبط الحكم الشرعي بنفسه[(1141)].(1/432)
وقوله: (قال أصحابنا) إشارة إلى أن في المسألة خلافاً، وذلك أنه وجد من خالف في الصور المذكورة، كما حكاه الطوفي في شرحه[(1142)]، ومحل النزاع: إذا لم يجتهد وعنده القدرة على الاجتهاد ـ كما تقدم ـ أما إذا أداه اجتهاده إلى حكم فهذا لا يجوز له تقليد غيره إجماعاً، والظاهر أن المجتهد إذا وقعت له حادثة تقتضي الفورية، ولا يتمكن من النظر فيها جاز له أن يقلد حينئذٍ للضرورة.
قوله: (ولا يفتي بما لم ينظر فيه إلا حكاية عن غيره) أي: ليس للمجتهد المطلق أن يفتي غيره بتقليد غيره، فيفتي بما لم ينظر فيه، وإنما يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي؛ إرشاداً للسائل إلى ذلك المذهب.
قوله: (فإن نصّ في مسألة على حكم وعَلَّلَهُ فمذهبه في كل ما وُجِدَتْ فيه تلك العلة كذلك) أي: إذا نص المجتهد على حكم في مسألة، وبيّن علة ذلك الحكم، ثم وجدت تلك العلة في مسائل أخرى، فمذهبه في تلك المسائل كمذهبه في المسألة المنصوص عليها؛ لأن الحكم يتبع العلة، فيوجد حيث وجدت، ولأن هذا قد وجد في كلام صاحب الشرع، ففي كلام المجتهدين كذلك وأولى.
فإذا قال: النيةُ واجبة في التيمم؛ لأنه طهارة عن حدث. قلنا: مذهبه أن النية تجب في الوضوء وغُسل الجنابة والحيض؛ لأنه اعتقد وجوب النية في التيمم، لكونه طهارة عن حدث، فوجب أن يشمل ذلك كل طهارة عن حدث[(1143)].
قوله: (فإن لم يعلِّل لم يُخْرَجْ إلى ما أشبهها) أي: إن المجتهد إذا نص على حكم في مسألة ولم يبيِّن علته، فلا يحكم بحكم تلك المسألة في غيرها وإن أشبهتها؛ لأن ذلك إثبات مذهب له بالقياس بغير جامع، ولجواز أن هذه المسألة لم تخطر بباله، أو لجواز ظهور الفرق له لو عرضت عليه المسألة التي لم يَنُصَّ على حكمها.(1/433)
قوله: (وكذلك لا ينقل حكمه في مسألتين متشابهتين كل واحدة إلى الأخرى) أي: كما أن المجتهد إذا نصَّ على حكم في مسألة وسكت عن مسألة أخرى تشبهها لم يجز أن ينقل حكم المنصوص عليها إلى المسكوت عنها، كذلك إذا نص على المسألتين بحكمين مختلفين، لم يجز أن يُنْقَلَ حكم إحداهما إلى الأخرى، ويُخَرَّجَ على أنه قول له، فيصير له فيها قولان، لأن المذهب إنما ينسب إلى الإنسان إذا قاله، أو دلَّ عليه بما يجري مجرى القول من تنبيه أو غيره، فإذا عُدِمَ ذلك لم يجز إضافته إليه، ولأن الظاهر أن مذهبه في إحداهما غير مذهبه في الأخرى؛ لأنه نصَّ فيها على المخالفة، فلا يجوز الجمع بينهما في قوله[(1144)].
والظاهر جواز ذلك، كما ذكر الطوفي[(1145)]، إذا كان بعد البحث والنظر، والباحث أهل لذلك. وقد وقع هذا النقل والتخريج في المذهب عند الحنابلة.
فقد جاء في كتاب «المحرر» في باب (ستر العورة): (ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه وأعاد، نصّ عليه، ونصَّ فيمن حُبِسَ في موضع نجس فصلى فيه أنه لا يعيد، فيتخرج فيهما روايتان)[(1146)].
وذلك لأن طهارة الثوب والمكان كلاهما شرط في صحة الصلاة، وهذا وجه الشبه بين المسألتين، وقد نص في الأولى على أنه يعيد، فينقل إلى الثانية، ويتخرج فيها مثله، ونص في الثانية على أنه لا يعيد، فينقل إلى الأولى، ويتخرج فيها مثله، فيكون في كل مسألة روايتان: إحداهما بالنص، والأخرى بالنقل[(1147)].
قوله: (فإن اختلف حكمه في مسألة واحدة، وجُهِلَ التاريخ، فمذهبه أشبههما بأصوله وأقواهما) أي: إن المجتهد إذا اختلف حكمه في مسألة واحدة، بأن نصّ على حكمين مختلفين فيها، كقوله: يجزئ إخراج القيمة في الزكاة، و:لا يجزئ. فلا يخلو: إما أن يُجْهَلَ التاريخ، أو يعلم، فإن جُهِلَ تاريخ القولين، فإن مذهبه أشبه القولين بأصول وقواعد مذهبه. (وأقواهما) أي: أقوى القولين، وهو ما كان أقرب إلى الدليل الشرعي.(1/434)
ومن أمثلة ذلك: أن الإمام أحمد لما اختلف نَصُّهُ في أن بيع النَّجْشِ [(1148)] وتلقي الركبان ونحوهما باطل، كان الأشبه بأصوله القول بالبطلان؛ بناءً على أن النهي يقتضي الفساد[(1149)].
قوله: (وإلا فالثاني لاستحالة الجمع) أي: وإلا يجهل التاريخ بأن علم أسبق القولين فمذهبه الثاني وهو آخرهما، وذلك كتناسخ أحكام الشرع، حيث يؤخذ بالآخِرِ، ويترك المتقدم، فكذلك يؤخذ بالآخِرِ فالآخِرِ من كلام الأئمة. قال الإمام أحمد: (إذا رأيتُ ما هو أقوى أخذتُ به، وتركتُ القول الأول)[(1150)]. وذلك لاستحالة الجمع بين القولين.
قوله: (وقال بعض أصحابنا: والأول) أي: قال بعض الحنابلة: يكون مذهبه الأول كالثاني، بمعنى أن كليهما مذهب له وإن علم التاريخ؛ وذلك لأن المسألة كالاجتهاد، والاجتهاد لا ينقض بمثله.
والأول أظهر؛ لقوة مأخذه، ولأنه إذا أفتى بإحلال شيء ثم أفتى بتحريمه، فقد أفتى ببطلان الأول، فلا يجوز أن يكون ذلك قولاً له، كما لو صرّح بالرجوع عنه[(1151)].
وإذا كان المجتهد قاضياً وقضى في مسألة، ثم عُرِضَتْ عليه مسألة أخرى مثل الأولى وبدا له رأي جديد، فإنه يحكم باجتهاده الجديد، ولا ينقض الأول.
ومما يدل على أن الاجتهاد المتأخر هو المعتمد فيما سيقع: ما حدّث به الحَكَمُ بن مسعود الثقفي، قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشرك بين الإخوة من الأب والأم مع الأخوة من الأم في الثلث، فقال له رجل: قضيتَ في هذا عام أول بغير هذا، قال: كيف قضيتُ؟ قال: جعلته للإخوة من الأم، ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئاً. قال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا[(1152)].(1/435)
وقولهم: إن الاجتهاد لا يُنْقَضُ بالاجتهاد؛ فيه تفصيل، فإن كان المجتهد لم يحكم في هذا الاجتهاد بشيء، فإنه يحكم بما ترجح عنده أخيراً، أما إن كان قد حكم به وانتهى، فهذا لا يُنقض، وإنما يُستأنف بالاجتهاد الثاني ما يستجدُّ؛ لأنه لو نُقض لاضطربت الأحكام، وفُقدت الثقة بالقضاة، وعمر رضي الله عنه لما عُورض باختلاف رأيه قال: (تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا) ولم يطالب الإخوة لأم الذين أعطاهم الثلث كله في العام الأول بإرجاعه ومشاركة الأشقاء لهم، والله أعلم[(1153)].
* * *
التقليد
و (التقليد) لغةً: وضع الشيء في العنق محيطاً به، ومنه القلادة، ثم استعمل في تفويض الأمر إلى الغير، كأنه ربطه بعنقه.
واصطلاحاً: قبول قول الغير بلا حجة. فَيَخْرُجُ الأخذ بقوله صلّى الله عليه وسلّم لأنه حجة في نفسه، والإجماع كذلك. ثم قال أبو الخطاب: العلوم على ضربين: ما لا يسوغ فيه التقليد كالأصولية، وما يسوغ وهو الفروعية.
التقليد
قوله: (التقليد لغةً: وضع الشيء في العنق) أي: من دابة أو غيرها. وذلك الشيء: قلادة. والجمع: قلائد.
قوله: (محيطاً به ومنه القلادة) هذا قيد، فإن لم يكن محيطاً فلا يسمى قلادة.
قوله: (ثم استعمل في تفويض الأمر إلى الغير كأنه ربطه بعنقه) ومنه قول لقيط الإيادي:
وقلِّدوا أمركم لله دَرُّكُمُ
رَحْبَ الذِّراعِ بأمر الحرب مُضْطَلِعاً[(1154)]
قوله: (واصطلاحاً: قبول قول الغير بلا حجة) أي: من غير معرفة الدليل، كمسح بعض الرأس تقليداً للشافعي ومن وافقه[(1155)]، وترك المقتدي قراءة الفاتحة في الصلاة أخذاً بقول أبي حنيفة[(1156)]، ونحو ذلك.
قوله: (فيخرج الأخذ بقوله صلّى الله عليه وسلّم) أي: يخرج بهذا التعريف الأخذُ بقول النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه حجة في نفسه، فلا يسمى تقليداً.
قوله: (والإجماع كذلك) أي: كذلك يخرج بهذا التعريف اتباعُ الإجماع، فليس بتقليد؛ لأنه حجة أيضاً[(1157)].(1/436)
قوله: (ثم قال أبو الخطاب: العلوم على ضربين: ما لا يسوغ فيه التقليد كالأصولية) أي: إن أبا الخطاب ذكر أن العلوم من حيث جواز التقليد وعدمه ضربان:
الأول: ما لا يجوز التقليد فيه، (كالأصولية) أي: أصول الدين التي يجب اعتقادها، كمعرفة الله تعالى، ووحدانيته، ومعرفة صحة الرسالة، ونحو ذلك.
فهذا لا يسوغ فيه التقليد، ونسبه أبو الخطاب إلى عامة العلماء[(1158)]، وذلك لأن العقائد يجب الجزم فيها، والتقليد إنما يفيد الظن فقط، لأنه يجوز خطأ من يقلده.
والقول الثاني: جواز التقليد في أصول الدين[(1159)]، وذلك لعموم قوله تعالى: {{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} [الأنبياء: 7] .
ووجه الدلالة: أن الآية في سياق إثبات الرسالة، فإن قبلها {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} ..} [النحل: 43] وهو من أصول الدين؛ ولأن العامة لا يتمكنون من معرفة الحق بأدلته، فإذا تعذر عليهم معرفة الحق بأنفسهم لم يبقَ إلا التقليد؛ لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] إذ لو مُنِعُوا من التقليد لأفضى ذلك إلى ضلالهم، وهم أكثر الأمة، وهذا لا يجوز.
ومما يدخل في الأصولية: أصول العبادات، كالصلوات الخمس وصيام رمضان، وحج البيت، والزكاة، وكل ما علم من الدين بالضرورة من جميع التكاليف، ومن ذلك حرمة الربا والزنا وشرب الخمر، فهذه لا يسوغ فيها التقليد ـ على أحد القولين ـ؛ لأنها ثبتت بالتواتر، ونقلتها الأمة خلفاً عن سلف، فمعرفة العامي توافق معرفة العالم فيها[(1160)].
قوله: (وما يسوغ وهو الفروعية) هذا الضرب الثاني ، والمراد بالفروعية: ما عدا القسمين السابقين: أصول الدين، وأصول العبادات، فيدخل في الفروعية: البيوع والأنكحة والحدود والكفارات وغيرها من تفاريع العبادات والعقود.(1/437)
فهذا يجوز التقليد فيه، فيقلد العاميُّ العالِمَ بها، لأن العامي لا يستطيع معرفة الحكم بنفسه، والله تعالى يقول: {{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} [النحل: 43] وأهل الذكر هم: أهل العلم.
وهذا الضرب وهو أن يقلد العامي عالماً أهلاً للفتيا في نازلة نزلت به لا خلاف فيه بين أحد من المسلمين، لكن لا يرتبط برجل معين، بل له أن يسأل عالماً في مسألة، وفي مسألة أخرى غيره، فمذهبه مذهب من يستفتيه.
وهناك قسم آخر لا خلاف في أنه لا يجوز، وهو تقليد المجتهد ـ الذي ظهر له الحكم باجتهاده ـ مجتهداً آخر، وتقدم الكلام على ذلك.
وهناك قسم ثالث: وهو أن يلتزم الإنسان مذهباً معيناً يأخذ برخصه وعزائمه في جميع أمور دينه، وهذا فيه خلاف، فمنهم من حكى وجوبه؛ لتعذر الاجتهاد في المتأخرين. ومنهم من حكى تحريمه؛ لأنه لم يرد به نص من كتاب ولا سنة، ولم يقل به أحد من سلف الأمة، وهو مخالف لأقوال الأئمة الأربعة ـ رحمهم الله ـ وهذا حدث في أوائل القرن الرابع، عند انقضاء القرون المفضلة[(1161)].
وقال بعض القدرية: يلزم العامي النظر في دليل الفروع أيضاً، وهو باطل بالإجماع.
قوله: (وقال بعض القدرية: يلزم العامي النظر في دليل الفروع أيضاً) نسب أبو الخطاب[(1162)] هذا القول إلى المعتزلة البغداديين، وهو قول الظاهرية[(1163)].
فهم يقولون: لا يجوز للعامي أن يقلد العالم، بل عليه أن ينظر في الأدلة الشرعية، ويستنبط الحكم بنفسه.
قوله: (وهو باطل بالإجماع) أي: فإنه قام الإجماع على جواز تقليد العامي للعالم قبل وجود هذا المخالف؛ لقوله تعالى: {{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} [النحل: 43] ولأن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين كانوا يُسْألون عن الأحكام فيفتون، ولا يعرِّفون السائل طريق الحكم ولا دليله؛ فكان ذلك إجماعاً على اتباع العامي للمجتهد مطلقاً.(1/438)
ثم إن الاجتهاد مَلَكَةٌ لا تحصل إلا لنفر قليل من الناس، فإذا كلف بها جميع الناس كان تكليفاً بما لا يطاق.
وقال أبو الخطاب: يلزمه معرفة (دلائل الإسلام) ونحوها مما اشتهر فلا كلفة فيه. ثم العامي لا يستفتي إلا من غلب على ظنه علمه، لاشتهاره بالعلم والدين، أو بخبر عدل بذلك لا من عُرف بالجهل، فإن جَهِلَ حاله لم يسأله، وقيل: يجوز، فإن كان في البلد مجتهدون تخيّر. وقال الخرقي: الأوثق في نفسه وهذا آخره، والله تعالى أعلم، وهو الموفِّق، وله الحمد وحده، وصلواتُه على سيدنا محمد رسوله المصطفى، وعلى آله وصحبه وسلامُه.
قوله: (وقال أبو الخطاب: يلزمه معرفة دلائل الإسلام...) أي: يلزم العامي معرفة دلائل أركان الإسلام، والمراد بذلك: أصول العبادات[(1164)]، ونحوها مما اشتهر ونقل نقلاً متواتراً؛ لأن العامة شاركوا العلماء في هذا الإدراك، فمعرفة العامي توافق معرفة العالم بدون كلفة، فلا وجه للتقليد.
قوله: (ثم العامي لا يستفتي إلا من غلب على ظنه علمه) هذا في بيان من يستفتيه العامي، فذكر المصنف أن العامي لا يستفتي إلا من غلب على ظنه علمه، وأنه من أهل الاجتهاد.
قوله: (لاشتهاره بالعلم والدين) هذا في بيان الطرق الدالة على معرفة من يصلح للفتوى. فالأول: الاشتهار، فمن اشتهر بالعلم والدين يُستفتى.
وأما من كان مشتهراً بالعلم فقط فلا يكفي ذلك في جواز استفتائه.
قوله: (أو بخبر عدل بذلك) أي: يخبره عدل بأن فلاناً يُسْتفتَى وهذا الطريق الثاني، والثالث: الانتصاب للفتوى.
والانتصاب للفتيا فرض كفاية، ويتعين على العالم إن لم يقم بها غيره من المؤهلين لها، أو أمره ولي الأمر الذي تلزم طاعته إذا كان أهلاً لها[(1165)].
قوله: (لا من عرف بالجهل) أي: فلا يُسْتفتَى؛ لأن ذلك تضييع لأحكام الشريعة، فهو كالعالم يفتي بغير دليل.(1/439)
قوله: (فإن جَهِل حاله لم يسأله) أي: من جَهِلَ حاله فإنه لا يسأله، أي: لا يقلده، وهذا عند الأكثرين[(1166)]، وذلك لأن احتمال أهليته للفتوى مرجوحة، فإن أكثر الناس غير مجتهد، فَحَمْلُ هذا على غالب الناس راجح، فتكون أهليته مرجوحة.
قوله: (وقيل: يجوز) أي: استفتاء من جَهِلَ حاله؛ لأن العادة جرت بأن من دخل بلداً لا يسأل عن عِلْمِ من يستفتيه ولا عدالته، والعوائد المشهورة حجة، لدلالتها على اتفاق الناس عليها.
وهذا ضعيف؛ فإن الدليل على أن مجهول الحال لا يُسْتَفْتَى أقوى من هذه الحجة، وفَرْقٌ بين العدالة والعلم، فإن الأصل في المسلم العدالة، بخلاف العلم فالأصل عدمه، فلذا أوجبنا السؤال عن علم المفتي دون عدالته.
قوله: (فإن كان في البلد مجتهدون تخير) أي: إذا كان في البلد مجتهدون كثيرون فإن العامي يخير في استفتاء أيِّهم شاء، لعدم المرجح.
قوله: (وقال الخِرَقِيُّ[(1167)] : الأوثق في نفسه) أي: أومأ الخرقي رحمه الله إلى ذلك فقال في مختصره: (إذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه، ويتبع الأعمى والعامي أوثقهما في نفسه)[(1168)].
والمعنى: أن العامي يجتهد في معرفة الأوثق ثم يقلده، والخطأ بعد الاجتهاد مغتفر.
والظاهر القول الأول، وهو أنه يُخَيَّر؛ لأن الصحابة أجمعوا على أن للمستفتي أن يقلد فاضلهم ومفضولهم، وذلك يدل على التخيير.
وقال الطوفي: (القولان متقاربان، والأول أيسر، والثاني أحوط)[(1169)] والله أعلم.
قوله: (وهذا آخره، والله تعالى أعلم) ختم المؤلف رحمه الله هذا الكتاب برد العلم إلى الله تعالى، المحيط بكل شيء علماً.(1/440)
قوله: (وهو الموفق) الموفق: اسم فاعل، وهو صفة من صفات الله تعالى؛ لأن الله تعالى يوفق عباده، أي: يرشدهم ويهديهم إلى طاعته[(1170)]، قال تعالى عن شعيب عليه الصلاة والسلام: {{وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}} [هود: 88] . وقال تعالى: {{إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}} [النساء: 35] .
وباب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ لأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى ـ كما هنا ـ وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله لا منتهى لها[(1171)].
قال البغوي: (التوفيق: هو تسهيل سبيل الخير والطاعة)[(1172)]، وقال ابن القيم: (التوفيق: إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد؛ بأن يجعله قادراً على فعل ما يرضيه، مريداً له، محباً له، مؤثراً له على غيره، ويُبَغِّض إليه ما يسخطه، ويكرِّهه إليه، وهذا مجرد فعله، والعبد محل له...)[(1173)].
قوله: (وله الحمد وحده) تقدم معنى (الحمد) في شرح خُطبة المؤلف، وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، وأكَّد ذلك بقوله: (وحده) وهذا اللفظ لا يستعمل إلا مضافاً، وهو ملازم للنصب على الحال.
قوله: (وصلواته على سيدنا محمد رسوله المصطفى) تقدم في أول الكتاب معنى: صلاة الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
والسيد: يطلق على الرب، والمالك، والشريف، والفاضل، وغير ذلك مما ذكره علماء اللغة[(1174)].
ولفظ السيادة لم يرد في صيغة الصلاة على النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يرد على لسان أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان[(1175)]، واتباع المأثور أولى.
وقوله: (رسوله) صفة، والرسول: من بعثه الله إلى قوم، وأنزل عليه كتاباً، أو لم ينزل عليه كتاباً لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله، وأما النبي فهو: من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتاباً، أو يوحى إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ.(1/441)
واقتصر المصنف على وصف الرسالة؛ لأنها أعم من النبوة، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً[(1176)].
وقوله: (المصطفى) أي: المختار، وقد ورد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» [(1177)].
قوله: (وعلى آله وصحبه) تقدم أول الكتاب.
قوله: (وسلامُه) بالرفع، معطوف على قوله: (وصلواته..) أي: صلواته وسلامه على سيدنا محمد.. وكلاهما خبر لفظاً، إنشاء معنى، لأن المراد الدعاء. والمعنى هنا: اللهم سلّمه من النقائص والرذائل والآفات. وقد جمع المصنف بين الصلاة والسلام وهو المطلوب، بخلاف ما تقدم في خطبة الكتاب، وفي الجمع بينهما سر بديع، ففي الصلاة حصول المطلوب، وهو الثناء عليه والدعاء له، وفي السلام زوال المرهوب[(1178)].
وإلى هنا تم ما أردت كتابته على هذا المختصر المفيد، والله تعالى أسأل أن ينفع به، وأن يثيبني على ما بذلت في شرحه من جهد ووقت، وأن يغفر لي ما وقع فيه من خلل أو تقصير، وقد فرغت من مراجعته الساعة السادسة من آخر عصر يوم الاثنين الموافق للسابع والعشرين من شهر صفر ثاني شهور العام الثاني والعشرين بعد الأربعمائة والألف، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم راجعته للطبعة الثانية وفرغت منه في الساعة الثامنة وخمس وعشرين دقيقة من ليلة السبت الموافق 4/6/1424هـ في المسجد الحرام.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
فهرس أهم المراجع
1 ـ الإبهاج في شرح المنهاج: لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (ت756هـ) وولده عبد الوهاب (ت771هـ)، دار الكتب العلمية بيروت، توزيع مكتبة دار الباز.(1/442)
2 ـ الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث: للدكتور عبد المجيد محمود عبد المجيد، الناشر مكتبة الخانجي.
3 ـ الإتقان في علوم القرآن: لجلال الدين السيوطي (ت911هـ)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، (1399هـ).
4 ـ إثبات العقوبات بالقياس: للدكتور: عبد الكريم النملة، مكتبة الرشد.
5 ـ أثر الاختلاف في القواعد الأصولية: للدكتور: مصطفى الخِنّ، مؤسسة الرسالة.
6 ـ الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: مجموعة بحوث مقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام، عام (1396هـ).
7 ـ الاجتهاد ورعاية المصلحة: الدكتور عبد العزيز السعيد، من مطبوعات جامعة الإمام.
8 ـ إحكام الأحكام: لابن دقيق العيد (ت702هـ)، ومعه حاشية الصنعاني (ت1182هـ)، الناشر: المكتبة السلفية بالقاهرة.
9 ـ إحكام الفصول: لأبي الوليد الباجي (ت474هـ)، حققه: عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي.
10 ـ الإحكام في أصول الأحكام: لأبي محمد علي بن محمد بن حزم الأندلسي الظاهري (ت456هـ)، أشرف على طبعه: أحمد شاكر، توزيع دار الاعتصام.
11 ـ الإحكام في أصول الأحكام: لسيف الدين علي بن أبي علي بن محمد الآمدي (ت631هـ)، تحقيق: الدكتور سيد الجميلي، الناشر دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى سنة (1404هـ) (وأرجع أحياناً لطبعة المكتب الإسلامي).
12 ـ الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: اختيار البعلي (ت803هـ)، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، بدون تاريخ.
13 ـ أدلة التشريع المختلف فيها: للدكتور: عبد العزيز الربيعة، مؤسسة الرسالة.
14 ـ الأذكار بشرح ابن علان: (ت1057هـ) الناشر: المكتبة الإسلامية، بدون تاريخ.
15 ـ إرشاد طلاب الحقائق: للنووي (ت676هـ)، تحقيق: عبد الباري السلفي، الناشر: مكتبة الإيمان، بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى (1408هـ).(1/443)
16 ـ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: لمحمد بن علي الشوكاني (ت1250هـ)، دار المعرفة.
17 ـ إرشاد الفقيه: للحافظ ابن كثير (ت774هـ).
18 ـ إرواء الغليل: للألباني (ت1420هـ).
19 ـ أساس البلاغة: للزمخشري (ت538هـ)، تحقيق: عبد الرحيم محمود، دار المعرفة.
20 ـ الاستدلال عند الأصوليين: للدكتور: علي العميريني، الناشر: مكتبة التوبة.
21 ـ الاستصلاح والمصالح المرسلة: تأليف مصطفى الزرقا، دار القلم، دمشق.
22 ـ الاستيعاب: لابن عبد البر (ت463)، مطبوع مع الإصابة.
23 ـ الإصابة في تمييز الصحابة: لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ)، تحقيق: الدكتور طه محمد الزيني، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية.
24 ـ أصول أبي بكر الجصاص: لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي (ت370هـ)، تحقيق: محمد ناصر، توزيع مكتبة عباس الباز.
25 ـ أصول الاعتقاد: للدكتور: محمد بن سليمان الأشقر.
26 ـ أصول السرخسي: لأبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي (ت490هـ)، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، مطابع دار الكتاب العربي بالقاهرة (1372هـ).
27 ـ أصول الفقه الإسلامي: للدكتور: وهبة الزحيلي، دار الفكر.
28 ـ أصول الفقه: لابن مفلح، تحقيق: الدكتور فهد السدحان، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى.
29 ـ أصول الفقه: لأبي زهرة، دار الفكر العربي.
30 ـ أصول الفقه: لأبي النور، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة.
31 ـ أصول الفقه: للخضري، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، الطبعة السادسة (1389هـ).
32 ـ أصول الفقه وابن تيمية: للدكتور: صالح المنصور، الطبعة الثانية (1405هـ).
33 ـ أصول مذهب الإمام أحمد: للدكتور: عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة (1416هـ).
34 ـ الأصول من علم الأصول: للشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت1421هـ)، طبعة جامعة الإمام.
35 ـ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت1393هـ).(1/444)
36 ـ الاعتصام: للشاطبي، ضبطه وصححه الأستاذ: أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى (1408هـ).
37 ـ إعلام الموقعين عن رب العالمين: لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (ت751هـ).
38 ـ أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: للدكتور: محمد الأشقر، مؤسسة الرسالة.
39 ـ الأقوال الأصولية للإمام أبي الحسن الكرخي: للدكتور: حسين الجبوري، الطبعة الأولى.
40 ـ الإلماع: للقاضي عياض، تحقيق: أحمد صقر، الطبعة الثانية (1398هـ).
41 ـ الأم: لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت204)، دار الفكر.
42 ـ الإيمان: لابن تيمية، طبع المكتب الإسلامي.
43 ـ الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: للحافظ ابن كثير، تأليف أحمد شاكر، دار الباز.
44 ـ البحر المحيط في أصول الفقه: لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي (ت794هـ)، الطبعة الثانية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت.
45 ـ البرهان في أصول الفقه: لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت478هـ)، تحقيق: عبد العظيم الديب، مطابع دار الوفاء بمصر.
46 ـ التأسيس في أصول الفقه: لأبي إسلام مصطفى بن سلامة، الناشر: مكتبة خالد بن الوليد.
47 ـ تبصرة الحكام: لإبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون (ت799هـ)، مطبوع بهامش «فتح العلي المالك» ومطبوع وحده في مجلد، مكتبة دار الباز.
48 ـ التحبير شرح التحرير: للمرداوي (ت885هـ)، دراسة وتحقيق: عبد الرحمن الجبرين وزميليه، مكتبة الرشد.
49 ـ التحرير مع شرحه التقرير: لابن أمير الحاج (ت879هـ)، الطبعة الأولى، بولاق.
50 ـ تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي: لعبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (ت1353هـ)، دار الفكر.
51 ـ تخريج الفروع على الأصول: شهاب الدين الزنجاني (ت656هـ)، تحقيق: محمد أديب الصالح، مؤسسة الرسالة.(1/445)
52 ـ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911هـ)، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية.
53 ـ تسهيل المنطق: تأليف عبد الكريم الأثري، دار مصر للطباعة.
54 ـ تسهيل الوصول إلى علم الأصول: للشيخ محمد المحلاوي، طبعة الحلبي (1341هـ).
55 ـ تشنيف المسامع بجمع الجوامع: لتاج الدين السبكي، شرح الزركشي (ت794هـ)، مؤسسة قرطبة.
56 ـ التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية: تأليف عبد اللطيف البرزنجي، دار الكتب العلمية، بيروت.
57 ـ التعارض والترجيح عند الأصوليين: للدكتور: محمد الحفناوي، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الثانية (1408هـ).
58 ـ التعريفات: لعلي بن محمد الشريف الجرجاني (ت816هـ)، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى (1403هـ).
59 ـ تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم): لإسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير الدمشقي، (ت774هـ)، دار الشعب.
60 ـ التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح: لزين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت806هـ)، دار الفكر.
61 ـ التلخيص الحبير: للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ)، تحقيق: شعبان محمد إسماعيل، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية.
62 ـ تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم: للحافظ خليل بن كيكلدي العلائي (ت761هـ)، تحقيق: الدكتور عبد الله آل الشيخ، الطبعة الأولى.
63 ـ التمهيد: لابن عبد البر (ت463هـ)، حققه عدة أشخاص.
64 ـ التمهيد في أصول الفقه: لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني الحنبلي (ت510هـ)، دراسة وتحقيق: مفيد محمد أبو عمشة (ج1، 2)، ومحمد بن علي بن إبراهيم (ج3، 4)، منشورات مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، الطبعة الأولى (1406هـ).
65 ـ التمهيد في تخريج الفروع على الأصول: لجمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي (ت772هـ)، تحقيق: محمد حسن هيتو، طبع مؤسسة الرسالة، بيروت.(1/446)
66 ـ تنبيه الرجل العاقل: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: علي العمران، محمد عزيز شمس، طبع عالم الفوائد.
67 ـ تهذيب التهذيب: للحافظ ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، الطبعة الأولى (1404هـ).
68 ـ تهذيب شرح الإسنوي: تأليف شعبان محمد إسماعيل، الناشر: مكتبة جمهورية مصر.
69 ـ تيسير علم أصول الفقه: تأليف عبد الله بن يوسف الجديع، توزيع مؤسسة الريان، الطبعة الأولى (1418هـ).
70 ـ جامع الأصول في أحاديث الرسول: لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري (ت606هـ)، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، طبع مكتبة الحلواني، مطبعة الملاح، مكتبة دار البيان (1389هـ).
71 ـ جامع بيان العلم وفضله: لابن عبد البر، الطبعة الثانية، دار الكتب الإسلامية بمصر.
72 ـ الجامع الصحيح: للترمذي، نشرة أحمد شاكر، (وأحياناً: نشرة بشار عواد).
73 ـ الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، (ت671هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
74 ـ جمهرة أشعار العرب: للقرشي (ت أوائل القرن الرابع)، تحقيق: محمد الهاشمي، طبع جامعة الإمام.
75 ـ جمع الجوامع: لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي (ت771هـ)، طبع مع (حاشية البناني على شرح المحلي عليه) طباعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
76 ـ الجنى الداني في حروف المعاني: للمرداوي (ت479)، تحقيق: الدكتور فخر الدين قباوة وزميله، دار الآفاق، بيروت، الطبعة الثانية (1404هـ).
77 ـ الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة: حسن المشاط، تحقيق: عبد الوهاب أبو سليمان، دار الغرب الإسلامي، (1990م).
78 ـ حاشية العطار على جمع الجوامع: للشيخ حسن العطار، دار الكتب العلمية، بيروت.
79 ـ الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام: للألباني، الدار السلفية في الكويت، الطبعة الأولى، (1406هـ).
80 ـ الحديث المرسل: لمحمد حسن هيتو، دار البشائر الإسلامية.(1/447)
81 ـ حروف المعاني: للزجاجي (ت340هـ)، تحقيق: علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، (1404هـ).
82 ـ الحكم التكليفي: للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني، دار القلم دمشق.
83 ـ الحكم الوضعي عند الأصوليين: لسعيد بن علي الحميري، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، الطبعة الأولى.
84 ـ دفع إيهام الاضطراب: للشنقيطي، مطبوع مع أضواء البيان.
85 ـ دلالات الألفاظ عند الأصوليين: للدكتور محمد توفيق سعد، مطبعة الأمانة بمصر.
86 ـ الذيل على طبقات الحنابلة: لابن رجب (ت795هـ)، تصحيح: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، (1372هـ).
87 ـ رسالة التعريف بعلامات البلوغ: للشيخ: فريح بن صالح البهلال.
88 ـ الرسالة: للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر.
89 ـ رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: للدكتور صالح بن حميد، الطبعة الأولى، (1403هـ).
90 ـ روضة الناظر وجنة المناظر: لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت620هـ)، «ومعها شرحها نزهة الخاطر العاطر» لعبد القادر بن بدران، المطبعة السلفية بمصر (1342هـ).
91 ـ زاد المعاد: لابن القيم (ت751هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزميله، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، (1401هـ).
92 ـ الزيادة على النص: للدكتور سالم الثقفي.
93 ـ سبل الاستنباط: للدكتور محمد توفيق سعد، مطبعة الأمانة بمصر.
94 ـ سبل السلام: للصنعاني (ت1182هـ)، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
95 ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
96 ـ سلسلة الأحاديث الضعيفة: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
97 ـ سنن ابن ماجه: نشرة محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة مصطفى البابي الحلبي.
98 ـ سنن أبي داود: نشرة محمد محيي الدين عبد الحميد.
99 ـ سنن الدارقطني: (ت385هـ)، دار المحاسن للطباعة بالقاهرة، سنة (1386هـ).(1/448)
100 ـ سنن الدارمي (ت255هـ)، مع تخريج وتصحيح: عبد الله هاشم اليماني، الناشر: حديث آكادمي.
101 ـ السنن الكبرى: للبيهقي (ت458هـ)، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدرآباد، سنة (1344هـ).
102 ـ سنن النسائي: نشرة عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت.
103 ـ السنة: للحافظ أبي بكر عمر بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني (ت287هـ)، تحقيق: الألباني، المكتب الإسلامي.
104 ـ سير أعلام النبلاء: لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قايماز الذهبي (ت748هـ)، تحقيق: مجموعة من الأساتذة بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت (1402هـ).
105 ـ شرح ابن بطال على صحيح البخاري (ت449هـ) الطبعة الأولى، مكتبة الرشد.
106 ـ شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول: لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت684هـ)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية، ودار الفكر (1393هـ).
107 ـ شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: للقاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (ت756هـ)، وبهامشه حاشية التفتازاني (ت791هـ)، وحاشية الشريف الجرجاني (ت816هـ)، دار الكتب العلمية في بيروت.
108 ـ شرح علل الترمذي: للحافظ ابن رجب، تحقيق: صبحي السامرائي، عالم الكتب، الطبعة الثالثة، (1416هـ).
109 ـ الشرح الكبير على الورقات: للعبادي (ت994هـ)، تحقيق: عبد الله ربيع، مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى.
110 ـ شرح الكوكب المنير: لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار (ت972هـ)، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، طبع مركز البحث العلمي بمكة، جامعة أُم القرى، الطبعة الأولى (1408هـ).
111 ـ شرح اللمع: للشيرازي (ت476هـ)، تحقيق: عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي (كما رجعت إلى تحقيق: الدكتور علي العميريني).
112 ـ شرح المحلي: (ت864هـ) على جمع الجوامع، مع حاشية البناني (ت1198هـ)، الطبعة الأولى، 1331هـ.(1/449)
113 ـ شرح مختصر الروضة: لنجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعد الطوفي الحنبلي (ت716هـ)، تحقيق: الدكتور عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة.
114 ـ شرح معاني الآثار: للطحاوي (ت321هـ)، تحقيق: محمد زهري النجار، دار الكتب العملية، يبروت، الطبعة الثانية.
115 ـ الشرح الممتع: للشيخ محمد بن عثيمين، جمعه: سليمان أبا الخيل وزميله، مؤسسة آسام، الطبعة الأولى.
116 ـ شرح نخبة الفكر بحاشية لقط الدرر: الشرح لابن حجر، والحاشية للسمين، طبعة مصطفى البابي الحلبي، (1356هـ).
117 ـ شرح صحيح مسلم: لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676هـ)، مراجعة خليل الميس، دار القلم، بيروت.
118 ـ شرح الورقات: لجلال الدين محمد بن أحمد المحلي (ت864هـ)، المطبعة السلفية ومكتبتها بمصر، وينظر طبعة مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
119 ـ شرح الورقات: لراقم هذا الكتاب، الناشر دار المسلم.
120 ـ الشعر والشعراء: لابن قتيبة (ت276هـ)، طبعة مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت.
121 ـ شفاء الغليل: للغزالي (ت550هـ)، تحقيق: حمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد، بغداد، (1390).
122 ـ الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري: (ت393هـ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، مطابع دار الكتاب العربي بالقاهرة (1377هـ).
123 ـ صحيح ابن خزيمة (ت311هـ)، تحقيق: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، الطبعة الأولى، المكتب الإسلامي.
124 ـ صحيح البخاري (ت256هـ)، المطبوع مع فتح الباري.
125 ـ صحيح مسلم (ت261هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، دار إحياء الكتب العربية بمصر.
126 ـ طبقات الحنابلة: لابن أبي يعلى (ت526هـ)، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة.
127 ـ طبقات الشافعية الكبرى: لابن السبكي (ت771هـ)، تحقيق: عبد الفتاح الحلو وزميله، الطبعة الثانية، هجر للطباعة والنشر.(1/450)
128 ـ العدة في أصول الفقه: للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسن الفراء الحنبلي (ت458هـ)، تحقيق أحمد سير المباركي، الطبعة الثانية (1410هـ).
129 ـ العقد المنظوم: للقرافي (ت648هـ)، دراسة وتحقيق: محمد علوي بنصر، الطبعة الأولى.
130 ـ غاية السول في خصائص الرسول: لابن الملقن (ت804هـ)، تحقيق: عبد الله بحر الدين عبد الله، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى (1414هـ).
131 ـ غاية الوصول شرح لب الأصول: لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت926هـ)، طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر (1360هـ).
132 ـ غريب الحديث: لأبي عبيد (ت224هـ)، تحقيق: الدكتور حسين شرف، الناشر: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، (1404هـ).
133 ـ فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى.
134 ـ فتح الباري: لابن حجر العسقلاني، مصورة عن الطبعة السلفية.
135 ـ فتح القدير: للشوكاني (ت1250هـ)، طبعة مصطفى البابي الحلبي.
136 ـ فتح القدير: لابن الهمام الحنفي (ت861هـ)، دار الفكر.
137 ـ فتح المبين في طبقات الأصوليين: للمراغي، الناشر: المكتبة الأزهرية للتراث.
138 ـ فتح المغيث: للسخاوي (ت902هـ)، علق عليه: صلاح عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت.
139 ـ الفتيا ومناهج الإفتاء: للأشقر، مكتبة المنار الإسلامي، الكويت.
140 ـ الفَرْقُ بين الفِرَقِ: لعبد القاهر البغدادي (ت429هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني بالقاهرة.
141 ـ الفروع: لابن مفلح المقدسي (ت763هـ) ومعه «تصحيح الفروع» للمرداوي (ت885هـ)، دار مصر للطباعة (1379هـ).
142 ـ الفروق للقرافي (ت684هـ)، الطبعة الأولى سنة (1344هـ).
143 ـ فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم: للقاضي الجهضمي (ت282هـ)، تحقيق: الألباني، المكتب الإسلامي (1383هـ).
144 ـ الفقيه والمتفقه: للخطيب البغدادي (ت463هـ)، تحقيق: عادل العزازي، دار ابن الجوزي.(1/451)
145 ـ فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: لابن عبد الشكور (ت1119هـ)، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري (ت1225هـ)، الطبعة الأولى بذيل «المستصفى للغزالي».
146 ـ قاعدة في الاستحسان: لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ)، تعليق: محمد عزيز شمس، دار عالم الفوائد.
147 ـ القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت817هـ)، والرجوع إلى (ترتيب القاموس) للأستاذ: الطاهر أحمد الزاوي، دار الكتب العلمية، ودار المعرفة، بيروت.
148 ـ قواعد الأحكام في مصالح الأنام: لابن عبد السلام (ت660هـ)، مراجعة وتعليق: طه عبد الرؤوف سعد، نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
149 ـ القواعد والفوائد الأصولية: لأبي الحسن علي بن محمد بن عباس الحنبلي الشهير بابن اللحام (ت803هـ)، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة (1375هـ).
150 ـ القواعد: لابن رجب (ت795هـ)، الناشر: دار المعرفة، بيروت.
151 ـ القواعد الفقهية: للندوي، الناشر: دار القلم بيروت، الطبعة الأولى (1406هـ).
152 ـ القواعد المثلى: للشيخ محمد العثيمين.
153 ـ القياس بين مؤيديه ومعارضيه: للأشقر.
154 ـ القياس في القرآن الكريم والسنة النبوية للباحث: وليد بن علي الحسين (رسالة ماجستير).
155 ـ الكتاب في النحو: لسيبويه (ت180هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة.
156 ـ كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي: لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري (ت730هـ)، الناشر: دار الكتب الإسلامية بالقاهرة.
157 ـ كشف الساتر، شرح غوامض روضة الناظر: تأليف الدكتور: محمد البورنو مؤسسة الرسالة.
158 ـ الكفاية في علم الرواية: للخطيب البغدادي، طبع دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد، سنة (1357هـ).
159 ـ الكليات: لأبي البقاء (ت1094هـ)، تحقيق: عدنان درويش وزميله، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.(1/452)
160 ـ لسان العرب: لجمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (ت711هـ)، طبعة: دار صادر، بيروت (1374هـ).
161 ـ متون أصولية مهمة، الطبعة الثانية، مكتبة الشافعي بالرياض.
162 ـ المجاز في اللغة والقرآن: للدكتور عبد العظيم المطعني، الناشر: مكتبة وهبة بالقاهرة.
163 ـ مجمع الزوائد: للهيثمي (ت807هـ)، الطبعة الثانية، دار الكتاب العربي، بيروت (1967م).
164 ـ مجموع الفتاوى: لأبي العباس أحمد بن عبد الحليم>;بن عبد السلام الحراني (ت728هـ)، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى بالرياض (1381هـ).
165 ـ المحرر: لابن تيمية مجد الدين أبي البركات (ت652هـ)، مطبعة السنة المحمدية، بالقاهرة، سنة (1369هـ).
166 ـ المحقق من علم الأصول: لأبي شامة الشافعي (ت665هـ)، تحقيق: أحمد الكوفي، دار الكتب الأثرية بالأردن.
167 ـ المحصول في علم الأصول: لفخر الدين أبي عبد الله محمد بن عمر بن حسن الرازي الشافعي (ت606هـ)، تحقيق: طه جابر العلواني، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، (1399هـ).
168 ـ المحلى: لابن حزم (ت456هـ)، دار الاتحاد العربي للطباعة، القاهرة، سنة (1390هـ).
169 ـ مختصر الروضة: وقد طبع باسم «البلبل في أصول الفقه»: لنجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي (ت716هـ)، مكتبة الإمام الشافعي بالرياض.
170 ـ مختار الصحاح: للرازي (ت666هـ)، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، (1967م).
171 ـ مختصر ابن الحاجب (مختصر المنتهى): لابن الحاجب المالكي (ت646هـ).
172 ـ مختصر ابن اللحام (ت803هـ)، تحقيق: الدكتور محمد مظهر بقا، طبع دار الفكر بدمشق (1400هـ).
173 ـ مختصر الصواعق المرسلة: لابن القيم (ت751هـ)، لمحمد الموصلي، دار الكتب العلمية، بيروت.(1/453)
174 ـ مدارج السالكين: لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيّم الجوزية (ت751هـ)، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت.
175 ـ المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل: لابن بدران (ت1346هـ)، علّق عليه: الدكتور عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة.
176 ـ مذكرة أصول الفقه: للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (ت1393هـ)، طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
177 ـ المراسيل: لابن أبي حاتم (ت327هـ)، عناية: شكر الله بن نعمة الله قوجاني، مؤسسة الرسالة.
178 ـ المزهر في علوم اللغة: للسيوطي (ت911هـ)، طبعة: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
179 ـ مسائل الإمام أحمد: رواية أبي داود (ت275هـ)، طبع دار المعرفة، بيروت.
180 ـ مسائل الإمام أحمد: رواية ابنه عبد الله (ت290هـ)، تحقيق: زهير الشاويش، طبعة المكتب الإسلامي.
181 ـ المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين: لمحمد العروسي عبد القادر، دار حافظ للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى (1410هـ).
182 ـ مستدرك الحاكم (ت405هـ) وبذيله التلخيص للذهبي (ت748هـ)، الطبعة الأولى.
183 ـ المستصفى من علم أصول الفقه: لأبي حامد بن محمد الغزالي (ت505هـ)، دار صادر.
184 ـ مسند الإمام أحمد، طبعة دار صادر، (وأحياناً الطبعة الأخيرة التي حققها جماعة من الباحثين).
185 ـ المسودة في أصول الفقه لآل تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني القاهرة (1384هـ).
186 ـ المصالح المرسلة: للشنقيطي، الطبعة الأولى، مركز شؤون الدعوة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
187 ـ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: للفيومي (ت770هـ)، المكتبة العلمية، بيروت.
188 ـ مصطلح الحديث: لابن عثيمين، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
189 ـ معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة: تأليف محمد بن حسين الجيزاني.(1/454)
190 ـ معاني القرآن وإعرابه: للزجاج (ت311هـ)، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب.
191 ـ المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر: لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت794هـ)، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى (1404هـ).
192 ـ المعتمد في أصول الفقه: لأبي الحسين البصري (ت436هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
193 ـ معجم الأخطاء الشائعة: محمد العدناني، مكتبة لبنان ناشرون.
194 ـ معجم البلدان: لياقوت الحموي (ت626هـ)، طبع بيروت، سنة (1376هـ).
195 ـ معجم مقاييس اللغة: لابن فارس (ت395هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون، الطبعة الأولى، دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة، سنة (1369هـ).
196 ـ معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى (1414هـ).
197 ـ المغني شرح مختصر الخرقي: لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت620هـ)، تحقيق: الدكتور عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى (1409هـ).
198 ـ مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول: لأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بالشريف التلمساني (ت771هـ)، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الكتب العلمية، بيروت (1403هـ).
199 ـ المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصبهاني (ت502هـ)، تحقيق: محمد سيد كيلاني، طبعة الحلبي.
200 ـ مقدمة ابن الصلاح: لابن الصلاح (ت642هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة (1398هـ).
201 ـ الملل والنحل: للشهرستاني (ت548هـ)، تعليق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت.
202 ـ المنخول من تعليقات الأصول: لأبي حامد بن محمد الغزالي (ت505هـ) تحقيق: محمد حسن هيتو، دار الفكر بدمشق، الطبعة الثانية (1400هـ).
203 ـ مناهج الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام للدكتور: خليفة بن بكر الحسن، الناشر: مكتبة وهبة الطبعة الأولى (1409هـ).(1/455)
204 ـ مناهج الأصوليين في التأليف: لمحمد بن أحمد القحطاني، الناشر: مكتبة دار الوفاء بجدة.
205 ـ منهاج السنة النبوية: لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ)، طبع جامعة الإمام.
206 ـ المهذب: للسيوطي، تقديم وتحقيق: التهامي الراجي الهاشمي، الطبعة الأولى.
207 ـ الموافقات في أصول الشريعة: لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي (ت970هـ)، تعليق: عبد الله دراز، دار المعرفة بيروت.
208 ـ موطأ الإمام مالك: (ت179هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة الحلبي.
209 ـ ميزان الاعتدال: للذهبي (ت748هـ)، تحقيق: علي البجاوي، طبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة.
210 ـ نثر الورود على مراقي السعود: للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (ت1393هـ)، تحقيق وإكمال تلميذه: محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي، توزيع دار المنارة، الطبعة الأولى (1415هـ).
211 ـ نزهة الخاطر شرح روضة الناظر: لابن بدران (1346هـ)، المطبعة السلفية بالقاهرة، (1342هـ).
212 ـ نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر: لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ)، طبع المكتبة العلمية.
213 ـ النسخ في دراسات الأصوليين: نادية شريف العمري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى (1405هـ).
214 ـ نصب الراية: للزيلعي (ت762هـ)، الطبعة الأولى، مطبعة دار المأمون، سنة (1357هـ).
215 ـ نظم المتناثر من الحديث المتواتر: لأبي عبد الله محمد بن جعفر الكتاني (ت1345هـ)، دار الكتب السلفية بمصر، الطبعة الثانية.
216 ـ النكت على كتاب ابن الصلاح: للحافظ ابن حجر، تحقيق: الدكتور ربيع بن هادي، الطبعة الأولى (1404هـ).
217 ـ نهاية السول في شرح منهاج الأصول: للإسنوي (ت772هـ)، ومعه «سلم الوصول»، المطبعة السلفية بمصر.
218 ـ نيل الأوطار: للشوكاني (ت1250هـ)، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة.
219 ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري: لابن حجر، مصورة عن الطبعة السلفية.(1/456)
220 ـ الواضح في أصول الفقه: لمحمد بن سليمان الأشقر، الدار السلفية، الكويت.
221 ـ الواضح: لابن عقيل (ت513هـ)، تحقيق: التركي، مؤسسة الرسالة.
222 ـ الوجيز في أصول الفقه: للدكتور: عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، (1987م).
223 ـ وفيات الأعيان: لابن خلكان (ت681هـ)، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت.(1/457)