إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده ولا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، ثم أما بعد :
فإنه يتردد على السنة كثير من الأحبة سؤال يجب وجوب يمين على من فتح الله عليه جوابه أن يجيب ، مشافهة أو تأليفاً ، وهو قولهم : كيف نفهم اعتقاد أهل السنة في باب الأسماء والصفات ؟ والذي أوجب هذا السؤال هو دخول بعض الألفاظ الكلامية المنطقية في تقرير بعض مسائل الاعتقاد ، ولكثرة الشبه التي يوردها المبتدعة وللبحث عن أقرب الطرق وأسهل السبل لتقرير العقيدة في القلوب وثباتها في النفوس بلا عناء ولا التباس ، فلا حرج في هذا السؤال لأنني سمعت من بعض من سئل عن ذلك الإنكار الشديد على السائل ولا داعي لهذا الإنكار الذي يوجب إيغار النفوس واحتقار الذوات وقد يفضي إلى مالا تحمد عقباه ، وليس كل أحد يفهم الأدلة كما يفهمها العلماء ، فالمسئول عن شيء ينبغي له أن ينظر إلى السؤال مراعياً حال السائل لا حاله هو ، ناظرا إلى عقل السائل وفهمه لا عقله وفهمه هو فإنه قد يكون يسيراً عليه ما هو عسير على غيره ، وأوضح له ما هو غامض على من آتاه الله علماً أن يبذله لغيره بالطريقة التي يتحقق منها المقصود ، وليس هذا اختياراً ، بل فرض عين يثاب فاعلة امتثالا ويستحق العقاب تاركه ، وهذا السؤال المهم يحتاج إلى كتاباتٍ عديدة مبناها على التيسير والتفهيم والتنويع ووضوح العبارة وسلامة الاستشهاد ، فكلٌ له طريقته التي بها يوصل العلم إلى غيره ، فالمعلومة واحدة لكن طريق إيصالها إلى العقول والقلوب يختلف باختلاف الناس وعلى الكاتب الكريم أن يراعي ذلك ، فليس الأمر فتل عضلات ، ولا تحدٍ في فهم العبارات ، ونعوذ بالله تعالى من الإعجاب بقلة من يفهم عنا ما نكتبه ، حتى قال قائلهم : أنا أريد(1/1)
العبارات ، وإلغاز الإشارات ، وبُعدُ المآخذ حتى ولا يعرف إلى أي شيء يرمي بكلامه ، وأقول : إن حق هذا الصنف من الناس أن توسد كتبه معه على فراشه لينام عليها ، وهذا الأسلوب منافٍ كل المنافاة لمقاصد الشريعة فإن هذه الشريعة مبناها على التيسير لا التعسير وعلى التخفيف لا الإثقال ، وخير الكلام وأحسنه على الإطلاق كلام الله تعلى وقد قال : عنه ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) وقال : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقال : ( يريد الله أن يخفف عنكم ) فالوصية للكتاب أن يسعوا السعي الحثيث إلى تسهيل العبارة ووضوح الإشارة والبعد عن التكلف في الكلام والتنطع في الألفاظ فقد قال عليه الصلاة والسلام ( هلك المتنطعون ) ونحن إن شاء الله تعالى قد سلكنا في سائر ما كتبناه وما سنكتبه هذه الطريقة ، فلا أدخر وسعاً بما آتانيه الله تعالى في تصفية العبارة وإبعادها عن الألغاز والإغراب حتى يعرف القارئ الكريم ما أريد إثباته ، بل وأقصد في الكتابة إن شاء الله تعالى أن يقرأها القائم والقاعد والمضطجع ، ولا يجد غضاضة في الفهم ولا صعوبة في معرفة المراد ، وأسأله جل وعلا أن ييسر لي ولإخواني بذلك طريقاً إلى الجنة فإن الجزاء من جنس العمل ، والمقصود : أنه يجب عليَّ وعلى من عنده فضل أن يطرق في إجابة هذا السؤال المهم كل الوسائل التي بها يفهم الاعتقاد في هذا الباب العظيم الذي كثر فيه الضلال أتم الفهم ، وسوف أحاول إن شاء الله تعالى مستعيناً بالله تعالى أولاً وآخراً على أن أبسط منهج أهل السنة في هذا الباب ، وقد كتبت في ذلك النظم والنثر ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة ، فدونك أيها القارئ الكريم هذه الكتابة في تيسير فهم الاعتقاد في هذا الباب عسى الله أن ينفعني وإياك بها وان يجعلها مباركة محققة للمقصود بأيسر الطرق وأقل كلفة ، وقد أسميتها (( تيسير الاعتقاد )) فعسى أن يجعل الله تعالى بمنه وكرمه لها من اسمها(1/2)
نصيباً ، فيا رب أسألك باسمك الأعظم أن تنزل فيها البركة تلو البركة وأن تعين عبيدك الضعيف والعاجز الذي لا حول له ولا قوة على إتمامها على أحسن الوجوه وأتم الأحوال إنك خير مسئول وأنت المستعان وأستغفرك وأتوب إليك وعليك اعتمادي وبك ثقتي ، وأعوذ بوجهك الكريم أن تجعلها عليّ وأن تغفر لي زللي وتقصيري في العلم والعمل والدعوة ، وأسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تشرح لها الصدور وتفتح فيها الأفهام وترزقها القبول العام والخاص ، آمين ، إنك خير مسؤول والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم ، فإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق اعلم رحمنا الله وإياك ووفقنا للعلم النافع والعمل الصالح أن هذا الباب المهم العظيم يفهم فهماً جلياً إذا أتقنت عدة أمور :(1/3)
منها : أنه باب توقيفي على الدليل من الكتاب وصحيح السنة ، ومعنى ذلك أنه لا يجوز لأحدٍ كائنا من كان أن يثبت لله تعالى اسما أو صفة إلا وعلى هذا الإثبات دليل من القرآن أو صحيح السنة فما أثبته القرآن والسنة من الأسماء والصفات أثبتناه وما نفاه نفيناه ، وما لم يثبته ولم ينفه فإنه لا حق لأحد أن يثبته ولا ينفيه ، وسيأتي تفصيل ذلك بعد قليل إن شاء الله تعالى ، فلا تخلط بين المسائل ، والذي أريد إثباته هنا هو أن باب الأسماء والصفات من جملة الأبواب التوقيفية على ورود الدليل ، فلا نتعدى القرآن والحديث ، فهذا الباب لا نزال بخير معه مادام موقوفاً على النص الصريح الصحيح ، وأما إذا تجاوزنا به حد النص ، فناهيك عن الاضطراب والفساد الذي سيحصل ، فما سلم في دينه في هذا الباب إلا من وقف حيث وقف النص ، ودار مع النص حيث دار ، وهذا هو ما قرره أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في هذا الباب فهو مذهب الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة الدين قاطبة لم يخالف في ذلك أحد منهم ، فإن قلت : لماذا كان باب الأسماء والصفات من الأبواب التوقيفية على ورود النص ؟ فأقول : لأن هذا الباب من الأبواب الغيبية ، وقد تقرر عند عامة العلماء أن الأبواب الغيبية موقوفة على ورود الدليل ، وبيان ذلك : أن الله تعالى لما خلق هذا العقل جعل له حدوداً وطاقات ، فلا يزال تفكيره سليماً مادام داخلاً في حدوده وقدراته ، وأما إذا أقحمه فيما ليس له فيه مجال ، و تعدينا به حدوده وطاقاته فإنه لن يعود إلا بالحيرة والضلال والشكوك والتيه ، والأبواب الغيبية ليست داخلة في حدود ومدركات العقول ما لم تهتد بنور النصوص ، مدارها على النص ، أعني مدار أبواب الغيب ، وباب الأسماء والصفات من الأبواب الغيبية فصار مبناها على التوقيف أيضاً ، فلذلك قال أهل السنة : باب الأسماء والصفات توقيفي على الدليل الصحيح الصريح .(1/4)
ولذلك فنحن نقول : إن من أسمائه جل وعلا الله والرحمن والرحيم والقدير والكريم والولي والحميد والخبير والبصير والجبار والمهيمن والعليم والمتكبر ، كل ذلك لأن الدليل جاء بها ، ولكن ليس من أسمائه الناصر ولا القديم ولا الماجد ولا الخالد لأن هذه الأسماء لم يرد في إثباتها لله جل وعلا دليل ، وباب الأسماء من الأبواب التوقيفية على الدليل ، ولذلك فإن أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى يقولون : إن من الإلحاد في أسماء الله تعالى أن يسمى الله تعالى بما لم يسمي به نفسه ، ويمثلون لذلك بتسمية النصارى له بالأب وتسمية الفلاسفة له بالعلة الموجبة أو الفاعلة أو العقل الفعال أو صاحب الفيوضات ، كل ذلك لا يجوز لأنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه في كتابه الكريم أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته ، وما عدا ذلك فلا ، وكذلك نقول في صفاته أيضاً : فإننا نثبت لله جل وعلا العلو والاستواء والوجه واليد والرجل والعين والسمع والبصر والمجيء والإتيان يوم القيامة والنزول إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ، كل ذلك لأن الدليل أثبته ، وما أثبته الدليل فإنه يجب إثباته ، فهذا الأمر المهم هو أعظم ما يجب فهمه في باب الأسماء والصفات فاشدد عليه يديك ولا تعد عيناك عنه لحظة واحدة فاجعله دائماً في تقريراتك ودروسك العامة والخاصة ، حتى تتربى الأمة بسائر طوائفها على هذا الأصل المهم العظيم ، فما أعظمه وما أجمله وما أيسره وأسهله ، وأوضحه ، بل إنك تجد أنه متوافق مع الفطرة كل الموافقة ، فضلاً عن كونه من علو الأدب مع فاطر السماوات والأرض الذي له الحمد كله والشكر كله ، وإني أرجو منك بارك الله فيك أن تعيد قراءة هذا الأمر مرة ثانية من أوله ، قبل الانتقال إلى الأمر الثاني ، أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يشرح صدرك ويهدي قلبك ويرفع ذكرك وييسر أمرك ويزيدك توفيقاً على توفيقك ، وأن يعيذك من الفتن(1/5)
ماظهر منها وما بطن والله تعالى أعلى وأعلم .
(( فصل ))
ومنها : أي ومن الأمور المهمة التي لابد منها لفهم منهج السنة في باب الأسماء والصفات ، أن تعلم رحمك الله تعالى وبارك فيك وأجزل لك الأجر والمثوبة أن الصفات لا تخلو من ثلاثة حالات :
الأول : إما صفات كمال من كل وجه ، أي من حيث نظرت إليها وجدتها كمالاً كالحياة والعلم والسمع والبصر والقوة والقدرة والعلو ونحوها فهذه يجب إثباتها لله مطلقاً ، أي في كل الأحوال وسائر الأزمنة لأنها كمال من كل وجه ولا نطيل في هذا القسم لأنه واضح .
الثاني : صفات هي نقص من كل وجه أي من حيث أتيتها وجدتها نقصاً ، كالغدر والظلم والخور واللغوب والغش ونحو ذلك ، فهذه الصفات تنفى عن الله مطلقاً أي في كل الأحوال ، مع إثبات كمال ضدها ، كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى ، فهذان القسمان واضحان وفهمهما يسير فصفات الكمال المطلق تثبت لله تعالى على وجه الإطلاق ، وصفات النقص المطلق تنفى عن الله على وجه الإطلاق .
الثالث : صفات هي كمال باعتبار ونقص باعتبار ، أي أنك إذا رأيتها من وجه وجدتها كمالاً ، وإذا نظرت لها من وجهٍ وجدتها نقصاً ، فالمذهب في هذا النوع من الصفات أنها تثبت لله حال كمالها وتنفى عن الله حال نقصها .(1/6)
فلا تثبت لله مطلقاً ولا تنفى عنه مطلقاً ، بل تثبت له وتنفى عنه في حال دون حال ، فإذا كانت كمالاً أثبتناها وإذا كانت نقصاً نفيناها ويمثل لها بصفة المخادعة فإنها ليست من قبيل الكمال المطلق حتى نلحقها بالقسم الأول ، ولا من قبيل النقص المطلق حتى نلحقها القسم الثاني ، بل هي كمال باعتبار ونقص باعتبار ، فالمخادعة ابتداءً بلا موجبٍ ولا مقتضٍ صفة نقص فتنفى عنه جل وعلا ، أي أن الله تعالى لا يوصف بالمخادعة ابتداءً ، وأما المخادعة باعتبار الجزاء والمقابلة جزاءً وفاقاً فإنها كمال لأنها تدل على كمال علم الله تعالى وتمام قدرته جل وعلا فيوصف الله بها ولذلك فإنك لا تجد المخادعة مضافة إلى الله تعالى ابتداءً وإنما تجدها مضافة إليه من باب الجزاء والمقابلة كقوله تعالى ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) ، ومثال آخر : صفة الكيد ، فإن هذه الصفة ليست من الكمال المطلق حتى تلحق بالقسم الأول ولا من النقص المطلق حتى تلحق بالقسم الثاني ، بل هي كمال من وجه ونقص من وجه ، فيقال فيها ما قد قيل في القسم الثالث فنثبتها لله حال كمالها وننفيها عنه حال نقصها ، فإذا نظرنا إلى صفة الكيد ابتداءً بلا موجبٍ ولا سبب يقتضيه وجدناه نقصاً فننزه الله تعالى عنه ، لأنه حينئذٍ نوع من الظلم والله تعالى منزه عن الظلم ، وأما الكيد باعتبار الجزاء والمقابلة أي جزاءً وفاقاً ومعاملة بالمثل ، ومن باب الجزاء من جنس العمل فإنه كمال لأنه دليل على كمال علم الله تعالى وتمام قدرته على المقابلة بالمثل ، فيوصف الله تعالى حينئذٍ ، فالكيد ابتداءً نقص لا يوصف الله به ، والكيد من باب الجزاء والمقابلة كمال يوصف الله به ، ولذلك فإنك لا تجدها في القرآن مضافة إلى الله تعالى إلا من باب الجزاء ، كما في قوله تعالى ( إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) ، ومثال آخر: صفة المكر فإن هذه الصفة ليست من قبيل الكمال المطلق حتى نلحقها بالقسم الأول ولا من قبيل(1/7)
النقص حتى نلحقها بالقسم الثاني ، بل هي كمال باعتبار ونقص باعتبار ، فيقال فيها ما قررناه في القسم الثالث وهو أننا نثبتها لله حال كمالها وننفيها عنه حال نقصها ، فالمكر ابتداءً نقص ننزه الله عنه ، والمكر من باب الجزاء والمقابلة كمال فيوصف الله به ولذلك فإنك لا تجد المكر مضافاً في القرآن لله تعالى إلا من باب الجزاء والمقابلة كقوله تعالى ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) وكقوله تعالى ( ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون )
ومثال آخر : صفة الاستهزاء ، فإن هذه الصفة ليست من قبيل الكمال المطلق حتى نلحقها بالقسم الأول ولا من قبيل النقص المطلق حتى نلحقها بالقسم الثاني ، بل هي كمال باعتبار ونقص باعتبار فهي نقص باعتبار الابتداء ، فننزه الله عنها ، وهي كمال باعتبار الجزاء والمقابلة فيوصف الله بها ، وذلك كقوله تعالى ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون )
ومثال آخر : صفة السخرية ، فإنها ليست من قبيل الكمال المطلق حتى نلحقها بالقسم الأول ولا من قبيل النقص المطلق حتى نلحقها بالقسم الثاني ، فالسخرية ابتداءً نقص فينزه الله تعالى عنها ، والسخرية من باب الجزاء والمقابلة كمال فيوصف الله بها وذلك كما في قوله تعالى ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )
ومثال آخر : صفة النسيان ـ فإن هذه الصفة ليست من قبيل الكمال المطلق حتى نصف الله بها على وجه الإطلاق ولا من قبيل النقص حتى ننفيها عنه على وجه الإطلاق ، بل هي من الكمال باعتبار ومن النقص باعتبار آخر ، وبيان ذلك أن يقال : إن النسيان له في لغة العرب معنيان !(1/8)
المعنى الأول : النسيان بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء ، فتجد الرجل منا يضع مفتاحه أو نظاراته في مكان ، ثم ينساه ، أي غفل وذهل عنه ، بل قد يكون أحياناً في يده وهو يبحث عنها ، فهذا النسيان بهذا المعنى نقص فينزه الله عنه وهو النسيان المنفي في قوله تعالى ( وما كان ربك نسيا ) وفي قوله تعالى ( لا يضل ربي ولا ينسى ) وهذا النسيان مبناه على انقطاع التفكير وعزوب المعلوم عن القلب ، وهذا نقص لا يليق بالخالق الكامل في ذاته من كل وجه والكامل في صفاته من كل وجه والكامل في أفعاله من كل وجه
المعنى الثاني : النسيان بمعنى الترك عن علمٍ وعمدٍ جزاءً ومقابلة للمتروك ، فهذا الترك في لغة العرب يسمى نسياناً ، وهذا النسيان بهذا الاعتبار كمال فيوصف الله تعالى به وهو المثبت في قوله تعالى ( نسوا الله فنسيهم ) وفي قوله تعالى ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم) وفي فوله تعالى ( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) فلا نقص في هذا النسيان بوجهٍ من الوجوه لأن ما نثبته لله تعالى من الصفات فلله أعلاها وغايتها ونهايتها وكمالها المطلق ، وخلاصة الكلام : أن النسيان بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء نقص فلا يوصف الله تعالى به ، والنسيان بمعنى الترك عن علم ٍوعمدٍ جزاءً ومقابلة كمال فيوصف الله تعالى به والله أعلم .
ومثال آخر : صفة الأسف ، فإنها ليست من قبيل الكمال المطلق حتى نلحقها بالقسم الأول ، ولا من قبيل النقص المطلق حتى نلحقها بالقسم الثاني بل هي كمال باعتبار ونقص باعتبار، وبيان ذلك أن يقال : إن الأسف له في لغة العرب معنيان :
المعنى الأول : الحزن ومنه قوله تعالى ( ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً ) وهو ضعف في النفس يعتريها لعدم تحمل الأمر الوارد ، وهو نوع من النقص في البشر فالأسف بهذا الاعتبار نقص في ينزه الله عنه .(1/9)
المعنى الثاني : الأسف بمعنى الغضب ومنه قوله تعالى ( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) أي أغضبونا ، فالأسف بهذا المعنى كمال يوصف الله تعالى به ، وبناءً على ذلك فالأسف بمعنى الحزن نقص لا يوصف الله به ، والأسف بمعنى الغضب كمال يوصف الله به ولعل الأمر الثاني قد أتضح إن شاء الله تعالى ، وخلاصته أن يقال : إن الصفات إن كانت من قبيل الكمال المطلق فإنها تثبت لله على وجه الإطلاق ، وإن كانت من قبيل النقص المطلق فإنها تنفى عن الله على وجه الإطلاق وإن كانت من قبيل الكمال والنقص والمقيد ، فإنها تثبت لله تعالى كمالها وتنفى عنه حال نقصها ، فإذا أتقنت ذلك الأمر لان لك ذلك الباب إن شاء الله تعالى أسأله جل وعلا باسمه العظيم أن ينفع بك ويجعلك مباركاً حيثما كنت ، ويرزقك الاستقامة على منهج أهل السنة والله أعلى وأعلم .
(( فصل ))
ومنها : أي ومن الأمور التي لا بد منها لفهم منهج أهل السنة في هذا الباب ، أن تعلم رحمك الله تعالى هذا المذهب مبني على ثلاثة نقاط : إذا ألممت بها فقد ألممت بمذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وهي كما يلي :
الأولى : في الإثبات ، فهم يثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته من غير تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فهذا مذهبهم في الإثبات .
الثانية : في النفي ، فينفون عن الله تعالى منفاه عن نفسه في كتابه وما نفاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته ، مع إثبات كمال ضد الصفة المنفية ، فهذا في النفي.(1/10)
الثالثة : فيما لم يرد فيه دليل بخصوصه ، وهذا هو الذي أريد أن أطيل فيه وأسرد فيه الأمثلة حتى يتشربه ذهنك وتفهمه الفهم الكامل ، فأقول في بيانه وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون . اعلم رحمنا الله وإياك أن المبتدعة في هذا الباب قد تكلموا بألفاظ لا وجود لها بلفظها في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف الصالح ، وذلك كلفظ الجهة والحيز والجسم والمكان .(1/11)
وبنوا على هذه الألفاظ معتقداتهم في أسماء الله وصفاته ، فحرفوا الكلم عن مواضعه بسبب هروبهم من هذه الألفاظ ، فيقول الأشاعرة مثلاً لو أثبتنا له العلو لأستلزم ذلك أن يكون في جهة وهي ممتنعة على الله تعالى . ويقول المعتزلي مثلاً : لو أثبتنا الصفات لله تعالى لأستلزم وصفه بالجسمية ، وهي ممتنعة على الله تعالى فلما كثر جدالهم بهذه الألفاظ على عوام المسلمين نظر أهل السنة إليها بنظران : فنظروا إلى ألفاظها بنظرة ونظروا إلى معانيها بنظرة ، فقالوا : إن هذه الألفاظ التي لم يرد لها دليل بخصوصها لا من القرآن ولا من السنة ولا عن سلف هذه الأمة ، هذه الألفاظ لنا فيها مذهبان ، مذهب في ألفاظها ومذهب في معانيها ، فأما مذهبنا في ألفاظها فإننا نتوقف فيها فلا نتكلم بها نفياً ولا إثباتاً ، أي لا نثبت ألفاظها ولا ننفيها ، فلا نقول : الله في جهة ، ولا نقول : ليس في جهة ، وكذلك لا نقول : الله له جسم ، ولا نقول : ليس له جسم ، وكذلك لا نقول : الله في حيز ولا نقول : ليس في حيز ، وكذلك لا نقول : الله في مكان ولا نقول : ليس الله في مكان ، فلا نثبت شيئاً من هذه الألفاظ و لا ننفيه ، وذلك لأنه لم يرد في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف لا نفيه ولا إثباته ، وما لم يرد إثباته ولا نفيه في القرآن والسنة وكلام السلف فلا حق لأحدٍ أن يثبته أو ينفيه ، فهذا بالنسبة لذهب أهل السنة في ألفاظها وأعيده مختصراً فأقول : نتوقف في ألفاظها فلا نثبتها ولا ننفيها. ونمسك ألسنتنا عن الخوض فيها ، فهذا بالنسبة لمعتقدنا في هذه الألفاظ . وأما بالنسبة لمعانيها ، فقبل أن أبين لك مذهب أهل السنة فيها أحب أن أقدم لك مقدمة مهمة جداً لفهم حقيقة هذه الألفاظ ، وهي كما يلي :(1/12)
أعلم رحمنا الله وإياك أن هذه الألفاظ لها معانٍ فالجهة لها معانٍ والمكان له معانٍ والجسم له معانٍ والحيز له معانٍ ، وهذه المعاني التي تحملها هذه الألفاظ ليست باطلاً محضاً لترد مطلقاً ولا حقاً محضاً لتقبل مطلقاً ، بل فيها حق وباطل ، وقد تقرر عند السلف رحمهم الله تعالى أن ما أحتمل الحق والباطل ، فإنه لفظ مجمل ، فلا يردونه مطلقاً لأن فيه حقاً والحق لا يرد ولا يقبلونه مطلقاً لأن فيه باطلاً والباطل لا يقبل ، إذاً لا بد من أن يتميز حق هذه المعاني من باطلها ، ولا يمكن ذلك إلا بالاستفصال ، والمراد به طلب التفصيل من المتكلم بهذه الألفاظ فبالإستفصال يزول الإشكال ويتضح المقال، فإذا بين المعنى الحق فإنه يقبل وإذا قصد المعنى الباطل فإنه يرد ، وهذا شأن جميع الألفاظ المجملة ، وهذا هو الميزان الحق الذي به توزن هذه الألفاظ ، فإن الضلال في كثير من الأبواب إنما حصل بسبب هذه الألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً ، ولكن على مذهب أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى فلا ضلال ولا حيرة ولا شكوك ، بل هو العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف ، فأهل السنة رحمهم الله تعالى يعطون كل ذي حقٍ حقه ، ويرحمون الخلق ويقولون الحق ، حتى يتضح لك الأمر أكثر أضرب لك بعض الأمثلة هي غالب ما يقرره أهل السنة رحمهم الله تعالى ، فأقول وبالله التوفيق :(1/13)
منها : لجهة ، لأهل السنة فيها نظران ، نظر من ناحية لفظها ونظر من ناحية معناها ، فأما لفظها ، فأما لفظها فيتوقفون فيه فلا يثبتونه ولا ينفونه ، ولا يتكلمون به ، فلا يقولون : الله في جهة ولا يقولون : الله ليس في جهة ، وأما معناها فيستفصلون فيه ، فإن كان المتكلم بها يريد جهة سفل فهذا ممتنع باطل لأن السفل نقص والله تعالى منزه عن كل نقصٍ ، وإن كان يريد جهة علو محيطة بالله تعالى فهذا ممتنع باطل أيضاً لأن الله تعالى لا يحيط به شيء من لعظمته وكبره جل وعلا ، وإن كان يريد جهة علو غير محيطة بالله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته فهذا حق وصدق وبه جاءت الأدلة ولكن نقول : الله في العلو المطلق ، كما نطقت بذلك النصوص الكثيرة المتواترة المتنوعة من الكتاب والسنة . وهذا واضح .
ومنها : المكان ، فإن لأهل السنة فيه نظران ، نظر من ناحية لفظه ونظر من ناحية معناه ، فأما لفظه فيتوقفون فيه فلا يثبتونه ولا ينفونه ، أي لا يقولون : الله في مكان ، ولا يقولون : ليس الله في مكان ، لأنه لفظ لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفيه ولا إثباته ، وأما معناه فإنهم يستفصلون فيه ، فإن كان المتكلم به يقصد مكان سفلٍ فهذا ممتنع باطل لأن السفل نقص والله منزه عن النقص ، وإن كان يقصد مكان علوٍ محيط بالله تعالى فهو باطل ممتنع على الله كل الامتناع لأن الله تعالى لا يحيط به شيء ، وإن كان يقصد به مكان علو غير محيط على ما يليق بجلاله وعظمته فهذا حق وصدق يجب إثباته لله تعالى ولكن لا نطلق عليه لفظ المكان وإنما نقول : الله مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته ، ولا نغتر بالألفاظ المجملة التي بها يدخل أهل الأهواء على النصوص تحريفاً وتعطيلاً .(1/14)
ومنها : الجسم ، فإن لأهل السنة رحمهم الله تعالى في هذا اللفظ نظرين ، نظر من ناحية لفظه ونظر من ناحية معناه ، فأما من ناحية لفظه فإنهم يتوقفون فيه فلا يثبتونه ولا ينفونه ، أي لا يقولون : الله له جسم ، ولا يقولون : ليس لله جسم ، فاللفظ يتوقفون فيه ولا يتكلمون به نفياً أو إثباتاً ، وأما معناه فإنهم يستفصلون فيه ، فإن كان المتكلم بهذا اللفظ يقصد الجسم المعهود في حقنا من كونه أجزاء وأبعاض يفتقر بعضها إلى بعض ، فهذا باطل ممتنع على الله كل الامتناع ، وهو مذهب الممثلة ، الذين يعتقدون أن صفات الله تعالى كصفاتنا ، وقد قال سبحانه ( ليس كمثله شيء ) فهذا المعنى باطل لا يجوز إضافته إلى الله جل وعلا ، وأما إن كان المتكلم به يقصد الذات الإلهية الكاملة من كل وجه الموصوفة بصفات الكمال والجمال والمنعوتة بنعوت الجلال على ما يليق بالله جل وعلا ، فهذا حق لا ريب فيه ولكن لا نقول هذا جسم ، وإنما نقول : الله له ذات وصفات ، كما بذلك أهل السنة والجماعة رحم الله أمواتهم وثبت أحيائهم .(1/15)
ومنها : الحيز ، فإن أهل السنة رفع الله قدرهم في الدنيا والآخرة ، لهم فيه نظران : نظر من ناحية لفظه ونظر من ناحية معناه ، فأما من ناحية لفظه فقالوا : نتوقف فيه ، فلا نثبته ولا ننفيه ولا نتكلم به نفياً ولا إثباتاً ، أي لا نقول : الله في حيز، ولا نقول : ليس الله في حيز ، وأما معناه فإنهم يستفصلون فيه فإن كان المتكلم به يقصد أن الله تعالى يحوز الأشياء أوهي تحوزه ، فهذا باطل ممتنع كل الامتناع ، أي أن الأشياء داخلة في ذات الله تعالى ، أو أنه جل وعلا داخل في الأشياء حالٌّ فيها ، فهذا الضلال بعينه والتعطيل بعروقه وهو مذهب أهل الحلول والاتحاد الذين يقولون ـ لعنهم الله ـ إن الله تعالى داخل في الأشياء وهي داخلة فيه ، هو حال فيها وهي حالة فيه وهذا المذهب كفر بلا شك ، لأنه مفضٍ إلى تعطيل الخالق جل وعلا ، وأما إن كان المتكلم به يقصد أن الله تعالى منحاز عن المخلوقات بمعنى منفصل عنها كل الانفصال فليس فيه شيء منها وليس فيها شيء منه فهذا حق وصدق وهو الذي يجب اعتقاده ولكن نقول بما قال أهل السنة أن الله تعالى فوق السموات مستوٍ على عرشه بائن من خلقه ليس فيه شيء منهم وليس فيهم شيء منه ، وبهذا قد تحرر الحق هذه الألفاظ الأربعة أعني لفظ الجهة والمكان والحيز والجسم ، وبه يتضح ذلك الأمر إن شاء الله تعالى ، وأعيده لك ملخصاً : فأقول : مذهبنا في الإثبات إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته إثباتاً بلا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف . ومذهبنا في النفي نفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى لله عليه وسلم في سنته مع اعتقاد كمال الضد .(1/16)
ومذهبنا فيما لم يرد فيه دليل بخصوصه أننا من ناحية لفظه نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه ومن ناحية معناه فإننا نستفصل فيه فإن أريد به الباطل رددناه والله ربنا أعلى وأعلم ولعل الأمر قد أتضح لك بحول الله وقوته وأستغفر الله تعالى وأتوب عليه .
(( فصل ))
ومنها : أي ومن الأمور التي يتضح بها اعتقاد أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى في باب الأسماء والصفات أن تعلم رحمنا الله وإياك أن إثبات أهل السنة للأسماء والصفات بريء من خمسة محاذير ،
المحذور الأول : محذور التحريف ، والتحريف لغة هو التغير ، وهو تغير النص لفظاً أو معناً ، وقد قسمه أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى قسمين تحريف ألفاظ وتحريف معانٍ ، ويقصدون بتحريف الألفاظ تغييرها في الظاهر إما بزيادة حرف أو تغيير حركة ، وقد يتغير معه المعنى وقد لا يتغير ، فصار تحريف الألفاظ عندنا نوعان : تحريف للفظ يتغير معه المعنى وتحريف للفظ لا يتغير معه المعنى ، ومثال الأول : تحريف اليهود لقوله تعالى ( وقولوا حطة ) فقالوا ـ لعنهم الله تعالى ـ "حنطة " فزادوا النون وتغير معها المعنى تماماً ، فإن قوله تعالى ( وقولوا حطة ) أي حط عنا ذنوبنا ، فأتى الملاعين ذلك وقالوا " حنطة " وهم بذلك يكونون قد حرفوا اللفظ تحريفاً تغير معه المعنى ، ومثال آخر : ما زاده الجهمية في قوله تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) فقالوا ( استولى ) فزادوا اللام ، ومع هذه الزيادة تغير المعنى ، فاليهود زادت نوناً والجهمية زادوا لاماً ، وفي ذلك يقول أبن القيم في الكافية الشافية(1/17)
? نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان ? ومثال آخر : وهو أن المبتدعة أرادوا أن يحرفوا قوله تعالى ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)(النساء: من الآية164) وذلك بنصب الاسم الأحسن ، لتنفي صفة الكلام عنه جل وعلا ، وهذا تحريف للفظ يتغير معها المعنى ، ومثال آخر : في قوله تعالى ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )(الفاتحة: من الآية7) فيقرأها بعضهم ( أنعمتُ ) بالضم ، فهذا تحريف تغير معه المعنى ، فهذه بعض الأمثلة على التحريف اللفظي الذي يتغير معه المعنى ، وأما التحريف اللفظي الذي لا يتغير معه المعنى ، فكأن يقرأ أحد قوله تعالى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2) فينصب لفظ ( الْحَمْدِ ) ، فهذا تحريف لفظي لكن لم يتغير معه المعنى ، وكأن ينصب لفظ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فيقرأ ( رَبَّ الْعَالَمِينَ ) فهذا تحريف للفظ لكن لم يتغير معه المعنى ، وأما النوع الثاني : أعني تحريف المعنى فهو أن ينصبَّ التغيير على المعنى ، بأن يسلب المعنى الصحيح ويقحم في اللفظ معناً أجنبي ، واللفظ على ما هو عليه لم يتغير في الظاهر لا بزيادة حرف ولا بتغيير حركة ، ولكن الذي غير هو المعنى وذلك بتحريف المبتدعة لقوله تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)(المائدة: من الآية64) فقالوا : المراد بها النعمة أو القدرة ، فاللفظ لم يتعرضوا له ولكن التغيير حصل في المعنى ، وكتحريفهم لقوله تعالى( ينزل ربنا ) فقالوا : ينزل أمره أو رحمته أو ملك من الملائكة ، فاللفظ أبقوه على ما هو عليه ولكنهم حرفوا معناه ، وهذا الأمر أعني التحريف المعنوي هو غالب ما وقعت فيه فرق الأمة المخالفة لأهل السنة والجماعة , وأما حكم التحريف فهو حرام ولا شك وقد يصل بصاحبه إلى اكفر .
ومن باب زيادة الإيضاح ألخص لك أمر التحريف في هذا الرسم البياني :
التحريف
تحريف لفظي تحريف معنوي
كتحريف الأشاعرة(1/18)
يتغير معه المعنى لا يتغير معه المعنى والمعتزلة لنصوص "حنطة ، استولى" " الحمدَ لله رب العالمين " الصفات
... ... ... ...
فهذه بالنسبة للمحذور الأول وهو محذور التحريف . والله أعلم .
المحذور الثاني : محذور التعطيل ، والتعطيل لغة هو التفريغ والإخلاء ومنه قوله تعالى ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ )(الحج: من الآية45) وشرعاً : إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات إنكاراً كلياً أو جزئياً ، وقد قسمه أهل العلم إلى قسمين تعطيل كلي ، كتعطيل الجهمية الذين ينكرون الأسماء كلها والصفات كلها ، وتعطيل جزئي كتعطيل المعتزلة والأشاعرة فإن المعتزلة يثبتون الأسماء وينكرون الصفات والأشاعرة يثبتون الأسماء ولا يثبتون من الصفات إلا سبعاً فقط وهي الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة ويحرفون الباقي ، وحكم التعطيل حرام وقد يصل بصاحبه في بعض صوره إلى الكفر ، فإثبات أهل السنة للأسماء والصفات لا تعطيل فيه فإن فلت : فما الفرق بين التحريف والتعطيل ؟ فأقول : الفرق بينهما أن يقال : كل تحريف تعطيل وليس كل تعطيل تحريف ، وبيان ذلك : أن اللفظ الشرعي نزل بمعنىً ، والتعطيل هو تفريغ اللفظ عن معناه الصحيح ، فإن أقحم فيه معنىً آخر فهو التحريف ، فالتحريف درجة زائدة عن التعطيل ، فالمبتدعة عطلوا أولاً وحرفوا ثانياً ، وزيادة في الإيضاح أضرب لك بعض الأمثلة :
فمنها :قوله تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)(المائدة: من الآية64) فإن هذا النص نزل بإثبات اليدين لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته ، فيأتي المحرف ويقول : ليس المراد به ذلك فهذا تعطيل ، ثم يقول : إنما المراد بهما النعمة أو القدرة وهذا تحريف .(1/19)
ومنها : قوله تعالى ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22) فإن هذا النص فيه إثبات صفة المجيء لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته ، فيأتي المحرف ويقول: هذا النص لا يراد به ذلك ، فهذا تعطيل ، ثم يقول : بل المراد به مجيء أمره وهذا تحريف .
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) فهذا النص فيه إثبات صفة النزول إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر على ما يليق بجلاله وعظمته ، فيأتي المحرف فيقول : ليس المراد به ذلك فهذا تعطيل ، ثم يقول : إنما المراد به نزول أمره أو رحمته أو ملك من الملائكة وهذا تحريف . وهكذا ، فإذا فرغ اللفظ من معناه الصحيح فقط فهو التعطيل ، وإذا أقحم فيه معنىً آخر فهو التحريف ، وبناءً عليه فالتحريف أعظم أثماً وأشد جرماً وأكبر خطراً من التعطيل ، فهذا بالنسبة للمحذور الثاني وهو محذور التعطيل .
المحذور الثالث : محذور التمثيل ، وهو إثبات مماثل ، ومعناه أن يعتقد العبد أن صفات الله تعالى كصفات خلقه ـ نعوذ بالله من ذلك ـ وهو محرم وقد يصل بصاحبه إلى الكفر .
المحذور الرابع : محذور التكييف وهو حكاية كيفية الصفة ، ومعناه أن يكيف صفات الله تعالى ، نعوذ بالله من ذلك فإثبات أهل السنة لصفات الله تعالى إثبات بريء من التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل ، وهذا من نعمة الله تعالى ، وهذا من خصائص أهل السنة والجماعة ، فإن من سواهم من الفرق قد وقعوا في صفات الله تعالى تحريفاً وتعطيلاً وتكييفاً وتمثيلاً ، فأستعذ بالله من هذه المذاهب الضالة والآراء المعتلة ، وألزم جادة الحق وأنج مع أهل النجاة ، عافانا الله وإياك من كل بلاءٍ وفتنة. فإن قلت : فما الفرق بين التكييف والتمثيل ؟ فأقول : سأذكر لك فرقين خذ أيهما شئت :
الأول : كل تمثيل فهو تكييف وليس كل تكييفٍ تمثيلاً ، أي أن دائرة التمثيل أضيق من دائرة التكييف .(1/20)
الثاني : أن تقول : التكييف حكاية كيفيه الصفة غير مقرونة بمماثل ، وأما التمثيل فهو حكاية كيفية الصفة مقرونة بمماثل وبناءً عليه فأقول : كل من التكييف والتمثيل حكاية لكيفية الصفة ولكن إن كانت هذه الصفة تحاكي صفة أخرى فهو تمثيل أي مثلت شيئاً بشيء ، وإن كانت من نسج الخيال فهي تكييفٌ والله أعلم .
المحذور الخامس : محذور الإلحاد ، والإلحاد لغة : الميل ، ومنه اللحد في القبر لأنه ميل عن سن القبر، ومنه الملحد لأنه مائل عن الحق ، واصطلاحاً : الميل عن ما يجب اعتقاده في أسماء الله تعالى وآياته ، وقد قسمه أهل العلم إلى قسمين إلحاد في الأسماء وإلحاد في الآيات ، فأما الإلحاد في الأسماء فأنواع :
فمن ذلك : إنكارها جملة أو إنكار شيء منها ، كما فعله الجهمية .
ومن ذلك : إنكار ما تضمنته من الصفات كما فعله المعتزلة .
ومن ذلك : تسمية الله جل وعلا بما لم يسم به نفسه كتسمية النصارى له أباً ، وتسمية الفلاسفة له بالعلة الموجبة أو العقل الفعال أو صاحب الفيوضات ونحو ذلك .
ومن ذلك : أن تشتق من أسمائه أسماء لبعض المعبودات من دونه ، كاشتقاق العزى من العزيز ، واشتقاق اللات من الإله ، وهكذا ، فهذا هو الإلحاد في الأسماء ، وهو حرام وقد يصل بصاحبه إلى الكفر ، قال تعالى ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (لأعراف:180).(1/21)
وأما الإلحاد في الآيات فقسمان : إلحاد في الآيات الكونية وإلحاد في الآيات الشرعية ، فأما الإلحاد في الآيات الكونية فاعتقاد أن ثمة خالقاً أو مصرفاً أو مدبراً لها مع الله تعالى ، قال تعالى ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (سبأ:22) ، وأما الإلحاد في الآيات الشرعية فبالتكذيب بها وإنكارها وتحريفها وتعطيلها وإخراجها عن مدلولاتها التي نزلت بها وعصيان أحكامها ، كل ذلك من الإلحاد في الآيات ، وهو حرام أيضاً وقد يصل بصاحبه إلى الكفر، قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (فصلت:40) وبهذا يكون قد انتهينا من المحاذير الخمسة ، وهي باختصار : التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل والإلحاد ، فإثبات أهل السنة للأسماء والصفات لا تحريف فيه ولا تعطيل فيه ولا تكييف فيه ولا تمثيل فيه ولا إلحاد فيه ، جعلنا الله وإياك من الذين شرح الله صدورهم لموافقة الحق والله تعالى أعلى وأعلم .
(( فصل ))(1/22)
ومنها : أي من الأمور المعينة على فهم منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات أن تعرف منهج المخالفين لهم في هذا الباب وقد خالفهم في هذا الباب طائفتان ، الممثلة والمعطلة ، فأما الممثلة فقالوا : نحن نثبت لله الأسماء والصفات ولكن على وجهٍ يماثل صفات المخلوقات ، وهذا المذهب فيه حق وباطل ، فأما الحق فهو إثباتهم للأسماء والصفات ، والباطل هو اعتقادهم مماثلتها لصفات المخلوقات ، وأما المعطلة فقالوا : نحن ننزه الله تعالى عن مماثلة المخلوقات ، تنزيهاً ننفي معه الأسماء والصفات وهذا المذهب أيضاً فيه حق وباطل ، فأما الحق فهو قولهم : ننزه الله عن مماثلة المخلوقات، والباطل هو نفي الأسماء والصفات ، وأقول لك بارك الله فيك : لو جمعت الحقين للذين مع هاتين الطائفتين لصارا هما مذهب أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات ، فالحق الذي مع الممثلة : هو إثبات الأسماء والصفات ، والحق الذي مع المعطلة هو تنزيه الله عن مماثلة المخلوقات ، فتكون صياغته هكذا : نثبت لله الأسماء والصفات وننزهه عن مماثلة المخلوقات ، ولعلك بهذا قد تصورت مذهبهم في هذا الباب ، فهم أحق بالحق ، وغيرهم أحق بالباطل .(1/23)
ونزيدك إيضاحاً ونقول : إن أهل التمثيل أخذوا بالأدلة التي تثبت الصفات وتركوا الأخذ بالأدلة التي تنفي مماثلة الله بالمخلوقات ، وأهل التعطيل عكسوا الأمر فأخذا بالأدلة التي تنفي مماثلة الله للمخلوقات وتركوا الأخذ بالأدلة التي تثبت الصفات ، فكلاً من الطائفتين أخذ بطرف من الأدلة وترك الآخر ، وأما أهل السنة رحمهم الله تعالى فإنهم أخذوا بكل الأدلة ، فأخذوا بالأدلة التي تثبت الأسماء والصفات ، فأثبتوا لله الأسماء والصفات ، وأخذوا بالأدلة التي تنفي مماثلة الله للمخلوقات فقالوا بمدلولها ، فهم أسعد بموافقة النصوص من غيرهم ، وهذه هي المتابعة المطلقة ، وهي التي أختص بها أهل السنة رحمهم الله تعالى وأما غيرهم من الطوائف فإنما عندهم مطلق المتابعة أي بعضها ، وإن شئت أن نعبر عن مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات بعبارة أخرى فيها مجانبة لكلا المذهبين الضالين فنقول : إثباتنا لا تمثيل فيه وتنزيهنا لا تعطيل فيه ، فالأول رد على أهل التمثيل والثاني رد على أهل التعطيل ، وإن شئت أن تعبر بما هو خير من ذلك الخبرية المطلقة فعليك بقوله تعالى( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11) فهو خير الكلام على الإطلاق فإنه على وجازته يغني عن هذه التطويلات فقوله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) رد على أهل التمثيل ، وقوله تعالى ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) رد على أهل التعطيل . والله تعالى أعلى وأعلم .
(( فصل ))(1/24)
ومنها : أي ومن الأمور التي تعينك على فهم منهج أهل السنة رحمهم الله تعالى في باب الأسماء والصفات ، أن تعلم رحمك الله تعالى وبارك فيك وفي فهمك وعلمك وعملك أن أهل السنة رفع الله قدرهم في الدنيا وأعلا منازلهم في الجنة ينظرون إلى صفات الله تعالى من جهتين ، من جهة معانيها ومن جهة كيفياتها ، فأما معانيها فإنهم يعلمونها ولا يجهلونها ، ومن نسبهم إلى الجهل به فهو جاهل بحقيقة مذهبهم ، بل هم يعلمونها وذلك لأنها نزلت بلسانٍ عربي مبين فوجب علينا حملها على معانيها المتقررة عندنا في هذا اللسان العربي ، ولأن الله تعالى أمرنا بتدبر القرآن ، فقال : ( لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه )(صّ: من الآية29) وقال ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ )(النساء: من الآية82) وغالب آياته في الأسماء والصفات ففهمنا بذلك انه يمكن تدبره وتفهمه وتعقله إذ كيف يأمرنا بتدبر ما لا يمكن فهم معناه أصلاً، فبان بذلك أن معاني الصفات معلومة ، فالوجه ما تحصل به المواجهة ، والاستواء المعدى بعلى معناه العلو والاستقرار ، والنزول هو التدلي من أعلى إلى أسفل هذا معناه في اللغة ، والعلم هو إدراك ما من شأنه أن يعلم ، والبصر رؤية الأشياء ، والسمع إدراك الأصوات ، وهكذا سائر الصفات ، فإن قلت : فمن من الطوائف قال إنها لا تعلم معانيها ؟ فأقول : هؤلاء هم المفوضة أي الذين يفوضون علم معاني الصفات لله تعالى ، فيقولون : نحن لا نعلم المعنى ، فلا نعلم معنى الوجه ولا نعلم الاستواء ولا نعلم معنى النزول ولا نعلم معنى السمع ولا نعلم معنى البصر ، وهكذا وقول هؤلاء هو شر أقوال أهل البدع كما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، وقد سماهم في الحموية بأهل التجهيل ، والمقصود أن أهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم يعلمون معاني الصفات وأما كيفياتها فإنهم يفوضون علمها إلى الله تعالى ، وكذلك فإنهم يقولون في سياق مذهبهم في الأسماء والصفات( ولا تكييف ) فهم لا يعملون(1/25)
ألسنتهم في شيء من كيفية صفات الله تعالى ، ويقولون : لا يعلم كيف الله إلا الله تعالى ، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح ولا أحد من الخلق ، وذلك لأن كيفية الشيء لا تعلم إلا بثلاثة أمور لا رابع لها :
الأول : أن تعلم بالرؤية ، وهذا منتف في حق كيفية صفات الله تعالى لأن أحداً لم يره جل وعلا ، وهذا بالاتفاق ، فقد اتفق العلماء رحمهم الله تعالى أن الله تعالى لا يرى في الدنيا يقضه ، وإنما اختلفوا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ،والصواب الذي عليه الأكثر أنه لم يره لحديث ( نور أنى أراه ) والذين قالوا إنه رآه كأبن عباس وغيره ، لم يقولوا إنه رآه بعيني رأسه وإنما أطلقوا في مكان وقيدوا في مكان ، فقالوا : رآه ، وقالوا رآه بفؤاده ، فيحمل المطلق على المقيد ، وأما قوله تعالى ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) (لنجم:13) فالمراد به جبريل عليه السلام وقد صح في ذلك الحديث فعن أبي إسحاق الشيباني قال : سالت زر بن حبيش عن قوله تعالى ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) فقال : حدثنا ابن مسعود أنه رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح وكذلك في حديث مسروق عن عائشة ، والمقصود أن الطريف الأول من طرق معرفة الكيفية وهو رؤية الشيء قد انتفى ، الثاني : رؤية نظيره ، فإذا رأيت النظير عرفت صفات الشيء الغائب ، لأنك قد رأيت مثيله ، وهذا أيضاً منتفٍ عن صفات الله تعالى لأنه جل وعلا ليس كمثله شيء " ولم يكن له كفواً أحد " فليس لله تعالى نظير ولا مثيل ولاسمي ولا كفؤ حتى نستدل برؤية صفاته على صفات ربنا جل وعلا وتقدس عن ذلك فالطريق الثاني انتفى أيضاً .(1/26)
الثالث : إن يخبرك الصادق عن الكيفية ، والمراد بالصادق في هذا المبحث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عنه حرف واحد في كيفية شيء من صفات ربنا جل وعلا وإنما أخبرنا بالصفة ولم يخبرنا عن كيفية الصفة ، فوجب الوقوف حيث النص ، فإنه يسعنا ما قد وسع صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فإنهم كانوا يسمعون هذه النصوص ولم يكونوا يتكلفون السؤال عن الكيفية ولو كان السؤال عنها من الخير لسبقونا غليه ، فإنهم كانوا أحرص على الخير والهدى ممن بعدهم وهذا لا شك فيه ، وبناءً عليه فنقول : كيف تعرف كيفية صفات الله تعالى ونحن لم نره ، وليس له مثيل ولا ند ولا نظير يستدل به عليه ولم يخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم عن الكيفية ، فحيث انتفت هذه الطرق كلها ينتفي معها العلم بالكيفية ، وحيث انتفى العلم بها لم يبقى إلا تفويضها إلى الله تعالى ، وهذا هو ما نريد إثباته هنا ، وهو أمر مهم جداً ، وأعيده مختصراً فأقول : أهل السنة رحمهم الله تعالى يعلمون المعاني ويجهلون الكيفيات . فإن قلت : ما العمل إذا سألني أحد عن كيفية صفة من صفات الله تعالى ، فقال : لي مثلاً : كيف وجه الله ؟ أو قال : كيف استواء الله تعالى ؟ أو قال : كيف نزول الله تعالى ؟ فما الرد عليه ؟ فأقول : الرد عليه يكون بعدَّةِ أمور :.
الأول : أن تبين له حقيقة قوله هذا وأنه قول مبتدع وسؤال مخترع لم يسبقه إليه إلا المخالفون لمنهج الصحابة والسلف الصالح ، وأنه هاوية إلى التمثيل ، ومزلق وخيم من مزالق الابتداع ومدخل شيطاني واسع على القلوب والعقول ، فيجب سده وإحكام إغلاقه بالأقفال الثقيلة وأعظم ذلك الإمساك وحبس اللسان والجنان عن التفكير والتلفظ بهذا السؤال الذي لا طائل من ورائه إلا الحيرة والشكوك والتيه والحسرة والخيبة .(1/27)
الثاني : أن تقول له ما قاله الإمام مالك لما سأله سائل عن كيفية الاستواء ، قال به : ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ) وهذا الجواب الحكيم صالح لإجابة كل من سأل عن كيفية الصفات ، فمن سألك عن كيفية الوجه تقول : الوجه معناه معلوم وكيفه مجهول والإيمان به واجب السؤال عنه بدعة ، ومن سألك عن كيفية النزول فتقول : النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، ومن سألك عن كيفية البصر فقل : البصر معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وهكذا في سائر الصفات ، فهي معلومة من ناحية معناها ، ومجهولة من ناحية كيفياتها والإيمان بها واجب لورود الأدلة بها وما صح به النقل وجب تصديقه إن كان خبراً والعمل به إن كان طلباً ، والسؤال عن الكيفية بدعة لأنه لا يعرف عن الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ، فهو من المحدثات التي يصدق عليها قوله صلى الله عليه وسلم ( وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلاله ).
الثالث : أن تبين له بياناً شافياً كافياً أنه لا يمكن أبداً أن تعلم كيفية شيء إلا إذا علمت ذاته ، ونحن لا نعرف كيف الله في ذاته وبناءً عليه فلا يمكن أيضاً أن نعرف كيفية صفاته ، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فما لم تُعلم ذاته فإنه لا تُعلم صفاته ، فإثباتنا للذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، وكذلك إثباتنا للصفات فإنه إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكيف تسألُني عن كيفية صفة الله تعالى وأنا وأنت أصلاً نشترك في عدم العلم بكيفية ذاته فإذا كنا نجهل كيف الله في ذاته فإنه من باب أولى أن نجهل كيفية صفاته .(1/28)
الرابع : أن تقول له : وكيف تسألني عن كيفية شيء لم أره وليس له نظير يستدل به عليه ، ولم يخبرني الصادق صلى الله عليه وسلم عن كيفية شيء من صفاته فكل طرق العلم بالكيفية هنا منتفية فلا مطمع أبداً في العلم بذلك ، فاتق الله تعالى وخف عقابه وأسلك سبيل سلفك الأوائل ، وقف حيث وقفوا ، وأحذر من التعدي والإفراط والخوض فيما لا طائل من ورائه ولا ثمرة تجنى منه ، وأشتغل بما خلقت له ودع ما لا شأن لك به ، والله يحفظنا وإياك . وخلاصة هذا الفصل أن تعلم أن أهل السنة والجماعة يعلمون معاني الصفات ويفوضون علم كيفياتها لله تعالى ، والله تعالى أعلى وأعلم .
(( فصل ))(1/29)
ومنها : أي من الأمور المهمة المعينة على فهم منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات ، أن تعلم يرحمنا الله وإياك أن سبب ضلال من ضل في هذا الباب هو تقعيد قاعدة إبليسية فاجرة هي التي جرّت أهل التمثيل للتمثيل ، وجرّت أهل التعطيل للتعطيل ، فاستعذ بالله منها قبل الدخول في تفصيلاتها ، فإنها بلية وخيمة وحفرة عميقة صادمت المنقول وناقضت المعقول ، وناضرت المحسوسات ، وهي قولهم : الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ، أي أن كل شيئين اتفقا في الاسم فإنهما لابد أن يتفقا في صفاتهما ، وقد ورثوا هذه القاعدة من الفلاسفة والمتكلمين الحمقى الذين لا عقل عندهم ولا نقل ، وقد كان الممثل والمعطل أخوين يمشيان في طريق واحد ، قد قعدا هذه القاعدة الخبيثة ، فلما نظرا على أسماء وصفات الله تعالى وجدوا أنها تتفق مع أسماء صفاتنا ، فأنتجت هذه القاعدة المنتنة أن صفات الله تعالى كصفاتنا ، فلما ظهرت هذه النتيجة رضي بها أهل التمثيل فوقعوا في التمثيل ورفضها أهل التعطيل فوقعوا في التعطيل فإذا سألت أهل التمثيل لماذا مثلتم صفات الله تعالى بصفات خلقه ؟ فسيقولون : لأن أسماء صفاته قد اتفقت مع أسماء صفات والاتفاق في الاسم يستلزم الاتفاق في الصفة فصار عمدتهم في التمثيل هذه القاعدة ، وإذا سألت أهل التعطيل لماذا أعطلتم الله تعالى عن صفاته ؟ لقالوا : لأننا لو أثبتنا له الصفات لأستلزم ذلك مماثلته للمخلوقات لأن الاتفاق في الاسم يستلزم الاتفاق في الصفة ، فصار عمدتهم في التعطيل هذه القاعدة ولذلك فإن أهل السنة رفع الله نزلهم في الدنيا والآخرة ، نظروا إلى هذه القاعدة وزادوا فيها حرفاً واحداً بزيادته ينعكس المعنى تماماً وقالوا : هذه القاعدة بلا هذا الحرف باطلة كل البطلان عقلاً ونقلاً وحساً ، وبزيادة هذا الحرف صحيحة كل الصحة عقلاً ونقلاً وحساً وهذا الحرف هو حرف ( لا ) فيكون نصها هكذا : الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في(1/30)
الصفات ، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه ولا معدل عنه ولا نقاش فيه ، وهو المتوافق مع النقل والعقل والحس ، فأما موافقته للنقل فإننا نجد في القرآن أن الله تعالى يسمي نفسه بأسماء يسمي بها عباده وليس المسمى كالمسمى ويصف نفسه بصفات يصف بها عباده وليس الموصوف كالموصوف فقال عن نفسه ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)(النساء: من الآية58) وقال عن عباده
( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيرا ً)(الانسان: من الآية2) وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير، وقال تعالى عن نفسه ( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ )(البقرة: من الآية143) وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)
(التوبة: من الآية128) وليس الرؤوف كالرؤوف ولا الرحيم كالرحيم .(1/31)
ووصف نفسه العظيمة بالقوة فقال ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات:58) ووصف بعض عباده بها فقال عن قوم بلقيس( قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ)(النمل: من الآية33) وليست القوة كالقوة ، ونسب الرزق إليه فقال (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) (صّ:54) وقال عن بعض عباده ( فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(النساء: من الآية8) وليس الرزق كالرزق .(1/32)
وسمى نفسه بالحليم فقال ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(آل عمران: من الآية155) وقال عن خليله ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ )(التوبة: من الآية114) وقال عن إسماعيل ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (الصافات:101) وليس الحليم كالحليم ، وسمى ووصف نفسه بالحكمة فقال ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) (التين:8) وقال عن لقمان ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ )(لقمان: من الآية12) وليست الحكمة كالحكمة، وهكذا في آيات كثيرة ، وأما عقلاً فإن المتقرر عند عامة العقلاء أن الصفة تختلف باختلاف من أضيفت إليه وهذا لا ينازع فيه عاقل ، بل لاحظّ للمنازع فيه من العقل ، والصفات المذكورة في القرآن لله تعالى لم يذكرها مطلقة ، وإنما ذكرها مضافة إليه فتكون لائقة به جل وعلا ، وصفاتنا لم تذكر مطلقةً وإنما ذكرت مضافة إلينا فتكون مناسبة لحالنا ، فلمت اختلفت الإضافات فإنه لا بد أن تختلف الصفة ، إذ مع اختلاف الإضافات تختلف الصفات ، ويوضح هذا الدليل الحسي ، وهو أننا نشاهد في المحسوسات أشياء قد اتفقت في أسمائها واختلفت في صفاتها وما ذلك إلا لاختلاف الإضافات ، فنحن نرى أن للفيل يداً وللبعوض يد ، فهل بالله عليك تكون يد الفيل كيد البعوض لأنها اتفقت في الاسم ؟ يا رجل ، أين عقول هؤلاء الذين يدعون أنهم أذكياء العالم ، تالله إنهم من المجانين المهاوييس ، فإذا كان هذا الاتفاق في الاسم لم يلزم منه الاتفاق في الصفات فيما بين المخلوقات بعضها البعض أفيكون ذلك لازماً بين الخالق والمخلوق ؟(1/33)
الحمد لله على نعمة العقل والفهم والهداية للصراط المستقيم ، ونحن نصف الشمس بالإضاءة ، وكذلك يصف الشمعة بالإضاءة ، فاتفق كل من الشمس والشمعة أن كلاً منهما يوصف بالإضاءة ، فهل يقول عاقل يدري ما يقول فضلاً عن كونه يوصف بالعلم أن إضاءة الشمس التي تنير الدنيا هي بعينها إضاءة الشمعة التي لا تضيء إلا جزءاً يسيراً مما هي فيه ؟ هل يقول عاقل ذلك ؟ بالطبع لا ، بل لكل إضاءته التي تخصه ، فلما اختلفت الإضافتان اختلفت الصفتان ، فلو سألنا وقلنا : لماذا اختلفت الإضاءتان ؟ فنقول : لأن الإضاءة الأولى أضيفت للشمس ، والإضاءة الثانية أضيفت للشمعة ، فصار لكل إضاءته الخاصة به ، ونحن نرى أيضاً أن للبعير وجهاً وللإنسان وجه ، فهل يتفق وجههما لاتفاق الاسم ؟ بالطبع لا ، فالوجه الأول أضيف للبعير فيكون مناسباً لحاله والوجه الثاني أضيف إلى الإنسان فيكون مناسباً لحاله ومجرد الاتفاق في اسم الوجه لا يلزم منه الاتفاق في الصفة . فإذا كان ذلك فيما بين المخلوقات التي تتفق في أصل الخلق ، أفيكون ذلك لازماً فيما بين الخالق الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله وبين المخلوق الضعيف والعاجز الناقص ، فنظر بارك الله فيك بركة هذه القاعدة ، فإنها تقضي على مذاهب الممثلة والمعطلة ، ونكون بذلك قد انتهينا من تقرير هذا الأمر المهم ، وهو بيان سبب ضلال هذه الفرق وكيف قابل أهل السنة ذلك الفساد وأصلحوه ، أصلح الله قلوبنا وأعمالنا وبواطننا وظواهرنا والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(( فصل ))(1/34)
ومنها : أي ومن الأمور المعينة على تيسير فهم منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات أن تعلم رفع الله نزلك في الدنيا والآخرة أن أهل السنة رحمهم الله تعالى قد قسموا صفات الله تعالى إلى قسمين : صفات ذاتية وصفات فعليه ، وفرقوا بينهما بقولهم : كل صفة ملازمة للذات لا تنفك عنها أزلاً وأبداً فهي صفة ذات ، وسموها صفة ذات لملازمتها للذات وعدم إنفكاكها عنها وذلك كالحياة والعلم والقوة والسمع والبصر والقدرة والوجه واليدين والعين ونحو ذلك فكل هذه الصفات صفات ذات لأنها لا يتصور أصلاً إنفكاكها عنه جل وعلا ، وأما الصفات الفعلية هي التي يفعلها متى شاء ، أي هي متعلقة بالمشيئة فمتى ما شاء فعلها ومتى ما شاء لم يفعلها فلأنها متعلقة بالمشيئة سميت فعلية ، لأن فعله جل وعلا راجع إلى مشيئته ، على ما يقتضيه علمه وحكمته ، وذلك كالغضب ، والفرح والرضى والنزول إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ، وكذلك صفة الاستواء فإنهما صفة فعلية ، ونحو ذلك فهذه الصفات كلها فعلية ، وقد يجتمع في صفة واحدة الأمران جميعاً فتكون ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار ، كصفة الكلام ، فإنها باعتبار أصلها صفة ذات أي لم يزل الله تعالى وصوفاً بالكلام على ما يليق بجلاله وعظمته ، وأما باعتبار آحاد الكلام فإنها صفة فعل ، ولذلك قال أهل السنة أعلا الله قدرهم في الدنيا ، ورفع درجاتهم في الجنة أن كلام الله تعالى قديم النوع حادث الآحاد ، فبالنظر إلى أصل الكلام فهو صفة ذات وبالنظر إلى آحاده فهو صفة فعل ، وهذا هو الفرق المشهور ـ أعني الفرق الذي ذكرته آنفاً بين صفات الذات وصفات الفعل ، وأعيد مختصراً فأقول : كل صفة ملازمة فهي صفة ذات ، وكل صفة تفعل بالمشيئة فهي صفة فعل والله أعلم .(1/35)
وهناك فرق آخر وهو قولهم : كل صفة لا يصح اتصاف الله بنقيضها فهي صفة ذات ، وكل صفة يصح اتصاف الله بنقيضها فصفة فعل ومبنى فهم هذا الفرق أن تعرف الصفة وتعرف نقيضها ، فإن كان نقيضها لا يتصف الله به فهي صفة ذات وإن كان يتصف الله به فهي صفة فعل وأضرب لك بعض الأمثلة فأقول :.
منها : صفة الحياة ، هل هي صفة ذات أم فعل ؟ أقول : أعرف أولاً نقيض الحياة فما هو ؟ بالطبع ستقول : الموت ، فهل يصح اتصاف الله بالموت ؟ بالطبع ستقول : لا، إذاً الحياة صفة ذات لأن نقيضها وهو الموت لا يجوز على الله تعالى وكل صفة لا يصح اتصاف الله بنقيضها فصفة ذات .
ومنها : العلم ، هل هو من صفات الذات أم الفعل ؟ أقول : لابد أولاً أن تعرف نقيض العلم ، فما هو نقيضه ، بالطبع ستقول : الجهل فأقول : فهل يصح أن يوصف الله بالجهل ؟ بالطبع ستقول لا ، فأقول : إذاً فالعلم صفة ذات لأن نقيضها الجهل وهو لا يجوز على تعالى ، وكل صفة لا يصح اتصاف الله تعالى بنقيضها فصفة ذات .
ومنها : العلو ، هل هو من صفات الذات أن الفعل ؟ أقول : لابد أولاً أن تعرف نقيض العلو ، فما هو نقيضه ؟ بالطبع ستقول : نقيضه السفل فأقول : وهل يصح أن يوصف الله بالسفل ؟ فستقول : لا ، فأقول : إذاً فالعلو صفة ذات لأن نقيضه السفل ولا يصح اتصاف الله به ، وكل صفة لا يصح اتصاف الله بنقيضها فصفة ذات .
ومنها : صفة السمع ، هل هي من صفات الذات أم الفعل ؟ أقول : لابد أولاً أن تعرف نقيض السمع ، فما نقيضه ؟ فستقول : نقيض السمع الصمم ، فأقول : وهل يصح أن يوصف الله بالصمم ؟ بالطبع ستقول : لا ، فأقول : فالسمع إذاً صفة ذات لأن نقيضه الصمم ولا يصح اتصاف الله به ، وكل صفة لا يصح اتصاف الله بنقيضها فصفة ذات .(1/36)
ومنها : البصر ، هل هي من صفات الذات أم الفعل ؟ فأقول : لابد أولاً أن تعرف نقيض البصر ، فما هو نقيض البصر ؟ فستقول : نقيض البصر العمى ، فأقول : هل يصح وصف الله تعالى بالعمى ؟ بالطبع لا ، فأقول :فالبصر إذاً صفة ذات لأن الله تعالى لا يصح اتصافه بنقيضها وكل صفة لا يصح اتصاف الله بنقيضها فهي صفة ذات.
ومنها : الغضب ، هل هو من صفات الذات أم الفعل ؟ فأقول : لابد أن تعرف أولاً ما نقيض صفة الغضب ؟ فستقول : نقيضها الرضى فأقول : وهل يصح اتصاف الله بالرضى ؟ فستقول : نعم ، قال تعالى ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) فأقول : فالغضب إذاً من صفات الفعل لأن نقيضها الرضى وهو من صفاته جل وعلا ، وكل صفة يصح اتصاف الله بنقيضها فهي صفة فعل . وأقول : لو عكست الأمر وقلت : والرضى أيضاً من صفات الأفعال لأن الله يصح أن يتصف بنقيضها وهو الغضب .
ومنها : صفة النزول إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ، هل هي من صفات الذات أم الفعل ؟ أقول : لابد أولاً أن تعرف ما نقيضها ؟ فستقول : نقيضها عدم النزول ، والله تعالى ليس موصوفاً بالنزول أزلاً وأبداً بل في وقت دون وقت فحيث صح اتصاف الله تعالى بنقيضها فتكون صفة فعل لأن كل صفة يصح اتصاف الله بنقيضها فهي من صفات الأفعال .
ومنها : صفة الانتقام ، هل هي من صفات الذات أم الفعل ؟ وكأني بك تقول : بل هي من صفات الفعل تخريجاً على هذه القاعدة وبناءً عليه يتحرر عندنا هذان الفرقان الصحيحان بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية ، وهما باختصار :.
الأول / أن صفات الذات هي الصفات الملازمة للذات التي لا تنفك عنها أزلاً وأبداً . وصفات الفعل هي التي تتعلق بالمشيئة .
الثاني / أن كل صفة لا يصح اتصاف الله بنقيضها في صفة ذات وكل صفة يصح اتصاف الله بنقيضها فهي صفة فعل . والله أعلى وأعلم .
(( فصل ))(1/37)
ومنها : أي من الأمور المعينة على فهم منهج أهل السنة رحمهم الله تعالى في الأسماء والصفات أن تعلم يرحمك الله تعالى أن كل أسم من أسماء الله تعالى فإنه يتضمن صفة من صفات الكمال ونعتاً من نعوت الجلال والجمال على الوجه اللائق به جل وعلا ، فيجب عليك أن تؤمن بالاسم علماً على الله تعالى ، وتؤمن أيضاً بالصفة التي تضمنها ذلك الاسم ، ولذلك فكل أسمائه جل وعلا حسنى ومن حسنها تضمنها لصفات الكمال ، فالقدير اسمه والقدرة صفته ، والعزيز اسمه والعزة صفته ، والقوي اسمه والقوة صفته ، والسميع اسمه والسمع صفته ، والبصير اسمه والبصر صفته ، والعلي اسمه والعلو صفته ، والجبار اسمه والجبروت صفته والكبير اسمه والكبر صفته ، والعظيم اسمه والعظمة صفته ، والملِكُ اسمه والمِلْكُ صفته ، والقدوس اسمه والقداسة صفته ، والمهيمن اسمه والهيمنة صفته ، والغفور اسمه والمغفرة صفته ، والرحمن والرحيم اسمه والرحمة صفته ، والسلام اسمه والسلامة من كل عيب ونقص على وجه الإطلاق هي صفته ، والمتكبر اسمه والكبرياء صفته ، والخالق اسمه وفعل الخلق صفته ، والمصور اسمه والتصوير الذي هو التكوين والخلق والتشكيل صفته ، والحكيم اسمه والحكمة صفته ، والعليم اسمه والعلم صفته ، والحي اسمه والحياة صفته ، والقيوم اسمه والقيومية صفته ، فهو جل وعلا القائم بنفسه والقائم بغيره ، والرقيب اسمه والرقابة صفته ، والحفيظ اسمه والحفظ صفته ، والصمد اسمه والصمدية صفته ، وهكذا في سائر أسمائه جل وعلا ، فكل اسم منها يدل على صفةٍ من صفات الكمال والجمال والجلال ، فلا يتم الإيمان بأسماء الله تعالى إلا بالإيمان بها اسماً له جل وعلا ، والإيمان بما تضمنتها من الصفات ، وهذا مذهب أهل السنة رفع الله نزلهم في الدنيا والآخرة ، ورحم أمواتهم وثبت أحياءهم وكفاهم الله عز وجل شر الأشرار وكيد الفجار ، فإن قلت : وهل هناك من أنكر ما تضمنته الأسماء من الصفات ؟ فأقول : نعم ، وهم(1/38)
المعتزلة أتباع واصل بن عطاء ، فإن هؤلاء يؤمنون بالاسم وينفون ما تضمنه من الصفة ، فيقولون : عليم بلا علم ، وقدير بلا قدرة ، وسميع بلا سمع ، وبصير بلا بصر ، وعظيم بلا عظم ، وقوي بلا قوة ، وهكذا في سائر الأسماء ومذهبهم هذا باطل كل البطلان لأنه مخالف للمنقول ومناقض للمعقول ، والجواب عنه له موضع آخر ، وإنما المقصود إجابة السؤال فقط ، إذا علمت هذا فنتم الكلام على هذا الفصل المهم بهذه المسألة المهمة : فأقول وبالله التوفيق :
أعلم رحمك الله تعالى أن من مقتضيات الإيمان بالاسم أيضاً إذا كان صيغته متعدية أن تؤمن بأثر الصفة التي تضمنها ذلك الاسم وأن تتعبد الله جل وعلا بمقتضى هذا الأثر ومثال ذلك اسمه الرقيب فيؤمن به اسماً وتؤمن بصفة الرقابة المطلقة وتؤمن أيضاً بأثر هذه الصفة وهو أنه لا يخفى على رقابته شيء في الأرض ولا في السماء قال تعالى ( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) فهو الرقيب على كل شيء جل وعلا فعلى العبد أن يستشعر هذه الرقابة فإنه باستشعارها يزجر نفسه الأمارة بالسوء عن الوقوع في المآثم ولذلك فإن العبد لا يقع في شيء من المعاصي إلا بعدم استحضاره لهذه الرقابة .
مثال آخر : ( الغفور ) فتؤمن به اسماً لله جل وعلا وتؤمن بالصفة التي تضمنها وهي صفة المغفرة وتؤمن بالأثر لهذه الصفة وهو أن العبد لا يجوز له أن يقنط من مغفرة الله فإذا وقعت فيه هفوة وتدنست نفسه بمقارفة شيء من الآثام فإنه يتذكر أن من أسماء ربه جل وعلا الغفور وأن من صفاته المغفرة فتشرح نفسه للتوبة ويبادر بها ولا يجد الشيطان على نفسه مدخلاً ليبعث فيها اليأس من روح الله قال تعالى ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) .(1/39)
ومثال آخر : ( الكبير ) فتؤمن به اسماً لله جل وعلا وتؤمن بالصفة التي تضمنها وهي الكبر المطلق ولا بد من انطباع أثر هذه الصفة على نفس المؤمن وهو يعلم أنه لا شيء أكبر من الله فالله جل وعلا أكبر من كل شيء وهذا يثمر للعبد ألا ينصرف قلبه لغير الله ولا يتعلق قلبه بالمخلوق كائناً من كان ولذلك جعل قول ( الله أكبر ) مفتاح الصلاة ليذكر العبد نفسه أنه بين يدي ربه جل وعلا الذي هو أكبر الأشياء فلا يلتفت قلبه في عبادته لشيء آخر ويا ليت قلوبنا تتعود على التعبد لله بآثار أسمائه وصفاته .
ومثال آخر : ( السميع ) فتؤمن به اسماً لله جل وعلا وتؤمن أيضاً بالصفة التي تضمنها ذلك الاسم وتؤمن أيضاً بأثر هذه الصفة وهي أن الله تعالى يسمع كل شيء فلا يخفى على سمعه شيء جل وعلا ، فهو يسمع دبيب النمل على الأرض ، ولقد كانت خوله تجادل النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها في حجرة عائشة رضي الله عنها وهي معهم وتقول : إنه كان يخفى عليّ بعض حديثها فأنزل الله تعالى من فوق سبع سماوات ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) وهذا يثمر في نفس المؤمن أن يحذر كل الحذر من التفوه بشيء يوجب غضب الله عز وجل وسخطه ، لأنه يعلم أن الله تعالى سميع ذو سمع كامل تام لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه .(1/40)
ومثال آخر : ( الحكيم ) فتؤمن به اسماً لله تعالى وتؤمن بالصفة التي تضمنها ذلك الاسم وهي الحكمة وتؤمن بأثرها وهو الاعتقاد الجازم الذي لا ريب فيه أنه جل وعلا الحكيم الحكمة المطلقة ، فلا يفعل الفعل إلا وله فيه الحكمة البالغة والغاية المحمودة ولا يشرع تشريعاً إلا وله فيه المصالح العظيمة والعوائد الجميلة المتوافقة مع الفطر السليمة كل الموافقة ولا يقدر شيئاً إلا لحكمة ، فله في كل أفعاله وأحكامه وأقداره الحكمة البالغة والمصلحة الكاملة علمها من علمها وجهلها من جهلها ، غير أني أقول إنه لا يعلم الحكمة والمصالح في أفعاله وأحكامه وأقداره على وجه التفصيل إلا هو جل وعلا وإن كان أهل العلم لهم إدراك لبعض ذلك ، فالحمد لله الحكيم ، وهذا يثمر في نفس المسلم أن إذا أصابه شيء من أقدار الله تعالى في نفسه أو ولده أو ماله الرضى والتسليم والصبر وعدم التسخط ، لأنه يعلم أن ربه حكيم في أفعاله ، ويثمر أيضاً اطمئنان القلب وراحة النفس وهدوء البال من جهة الحكمة في أحكامه جل وعلا ،فيعتمد المسلم على الحكمة الأصلية وهي أنه أمر الله تعالى ولا يأمر إلا بما فيه مصلحة ولا ينهى إلا عن ما فيه مفسدة ، وهكذا ، وخلاصة هذا الفصل أن الذي يجب عليك ليكون إيمانك بأسماء الله تعالى كاملاً أن تؤمن بثلاثة أشياء :
الأول : أن تؤمن بها اسماً لله جل وعلا .
الثاني : أن تؤمن بما تضمنته من الصفات .
الثالث : أن تؤمن بالأثر المتعدي للصفة إن كان لها أثر متعدٍ
وتمام ذلك التعبد لله تعالى بمقتضى أسمائه وصفاته جل وعلا وتقدس أسمه وتعالت عظمته ، فسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين والله ربنا أعلى وأعلم .
(( فصل ))(1/41)
ومنها : أي من الأمور المعينة على فهم منهج أهل السنة رحمهم الله تعالى في باب الأسماء والصفات أن تعلم أرشدك الله لطاعته أن أهل السنة رفع الله نزلهم في جنات الفردوس الأعلى إذا أثبتوا صفات الكمال لله تعالى فإنهم يثبتونها على وجه التفصيل ، فيقولون مثلاً : لله سمع وبصر وعين ووجه وعلم وحكمة وهيمنة وعلو وقدم وأصابع وحياة وقيومية لائقة بجلاله وعظمته ، ففي الإثبات يفصلون أي يثبتون كل صفة على حدة ، وأما إذا نفوا صفات النقص عنه جل وعلا فإنهم لا يفصلون ، بل يجملون في النفي أي لا ينفون كل صفة بعينها على حدة ، بل ينفون كل صفات النقص إجمالاً من غير تفصيل أي من غير تخصيص لصفة بعينها ، وخلاصة ذلك : أن أهل السنة يفصلون في إثبات الصفات ويجملون في نفي صفات النقص ، أو تقول : أهل السنة يثبتون إثباتاً مفصلاً وينفون نفياً مجملاً ، وهذه هي طريقة القرآن ، بل وهي طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وهي جادة سلوك الأدب مع الله تعالى ، بل وحتى ملوك الدنيا ، فإن من الأدب معهم أن تفصل في الإثبات وتجمل في النفي ، وهذا كمال في ملوك الدنيا ، وقد تقرر في القواعد أن كل كمال في المخلوق لا نقص فيه فالله أحق أن يوصف به ، فبان بذلك أن طريقة أهل السنة هذه متوافقة مع النصوص والعقول ، وكذلك هي متوافقة مع الفطرة فإنه لو جاءك أحد وقال لك : إنك لست بخباز ولا بقال ولا زانٍ ولا ابن بغي ، ولا ، ولا ، لوجدت من قلبك وفطرتك النفرة العظيمة من هذا الكلام ، ولكن لو قال لك أنت لا يساميك أحد من البشر ، لأزداد بذلك الكلام فخرك وارتفع رأسك فالفطرة السليمة قد استقر فيه أن الأصح في إثبات الكمال التفصيل والأصح في النفي الإجمال ، ومثال الإثبات المفصل قوله تعالى في آخر سورة الحشر ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله(1/42)
عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى.....الآية )
وقوله تعالى ( وهو الغفور الرحيم )( وهو العزيز الحكيم )(وهو العلي العظيم )( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) والأمثلة على ذلك كثيرة لا تكاد تحصر إلا بكلفة ، قال تعالى ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) . وأما النفي المجمل فمثاله قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) وقوله ( فلا تظربوا لله الأمثال ) وقوله ( فلا تجعلوا لله أنداداً) وقوله ( هل تعلم له سمياً ) وقوله ( ولم يكن له كفواً أحد ) وكذلك كل آية فيها لفظ ( سبحان ) فإنها من النفي المجمل لأن معناه المنزه عن كل نقص وعيب في ذاته أو صفاته أو أفعاله ، فتلخص من ذلك أن القاعدة عند أهل السنة رحمهم الله تعالى في الإثبات التفصيل والقاعدة عندهم في النفي الإجمال ، ونحن نشهد الله تعالى ومن يسمعنا من الملائكة أننا على ذلك سائرون وبه مستمسكون وله معتقدون فإن قلت : هل هذه القاعدة كليه أم أغلبية ؟ أي هل كل نفي في القرآن مجمل وكل إثبات مفصل ؟ فأقول : لا بل هي قاعدة أغلبية ، أي أن الغالب في الإثبات التفصيل والغالب في النفي الإجمال ، لكن قد ورد إثبات مجمل كقوله تعالى ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) فأثبت الأسماء إجمالاً ولم يفصل ، وكقوله تعالى ( ولله المثل الأعلى) أي الوصف الأعلى ، فأثبت الصفات إجمالاً ولم يفصل ، لكنه قليل ، وأيضاً قد ورد النفي المفصل كقوله تعالى ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) فهنا قد نفى السنة التي هي مقدمات النوم ، ونفى النوم أصلاً ، وكقوله تعالى ( لم يلد ولم يولد ) وكقوله تعالى ( ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) ونحو ذلك ، ولكنه في القرآن قليل بالنسبة للنفي المجمل ، وخلاصة الأمر أن عندنا أربع مصطلحات إثبات مفصل وإثبات مجمل ، ونفي مفصل ونفي مجمل ، فالرسل وأتباعهم جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل ، أي أن طريقتهم في الإثبات التفصيل وطريقتهم في النفي الإجمال ، وأما من زاغ وحاد عن(1/43)
سبيلهم فإنهم جاءوا بعكس ذلك تماماً ، فإنهم لا يصفون الله تعالى إلا بالنفي فقط ، فيقولون : أملأ الدنيا نفياً ولكن لا تثبت له صفة واحدة ، فيقولون : الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ولا لون له ولا طويل ولا قصير ولا عالم ولا جاهل ولا حي ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا قدير ولا عاجز ولا يتكلم ، إلى غير ذلك من قلة الأدب وذهاب الحياء الذي جاء به هؤلاء الأوباش الأغبياء الحمقى ، وطريقتهم هذه مخالفة المخالفة المطلقة للقرآن والسنة ومنهج الرسل وأتباعهم ، وقد تصدى لردها الأئمة الفحول كشيخ الإسلام وتلميذه وغيرهما من المحققين رحم الله الجميع رحمة واسعة وجمعنا بهم في الجنة ، فإن قيل لك : ما طريقتك في إثبات الصفات ونفيها ؟ فقل : طريقتين في ذلك هي أنني أثبت لله تعالى صفات الكمال على وجه التفصيل وأنفي عنه صفات النقص على وجه الإجمال ، فإن قلت ذلك معتقداً لمدلوله فأنت على خير عظيم وطريق ومنهج مستقيم سليم .
وأبشر ثم أبشر ثم أبشر بالثواب الجزيل من الله الرحمن الرحيم ، جعلني الله وإياك من أهل الصلاح والهداية والعلم النافع والعمل الصالح والله أعلم .
(( فصل ))
أقول : لقد سمى الله تعالى القرآن العظيم بأسماء كثيرة :.(1/44)
فسماء بالكتاب وبالقرآن وبالنور وبالهدى وبالذكر وبالشفاء وبالموعظة ، فأنت إذا نظرت إلى هذه الأسماء وجدت أنها جميعها تدل على شيء واحد وهو هذا القرآن لكن إذا نظرت إلى دلالاتها وجدتها مختلفة ، فالكتاب يفيد أنه مكتوب والقرآن يفيد أنه مقروء والهدى يفيد أنه ما يهتدى به والذكر يفيد أنه ما يتذكر به ، والشفاء يفيد أنه مما يستشفى به ، والموعظة يفيد أنه مما يُوعَظُ ويُتَّعَظُ به ، فإذا نظرنا إلى هذه الأسماء من حيث دلالتها على شيء واحد وهو هذا القرآن وجدناها متفقة مترادفة ، وإذا نظرنا من حيث صفاتها التي وصفت هذا القرآن وجدنا أن كلاً منها يصف القرآن بصفةٍ أخرى غير الصفة التي يثبتها الاسم الأول ، فهي ـ أي هذه الأسماء ـ من هذا الاعتبار متباينة ، إذاً فينتج عندنا أن أسماء القرآن مترادفة من حيث دلالتها على شيء واحد وهو القرآن ، ومتباينة من حيث النظر إلى صفاتها ، فهي مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، وهذا واضح ، فإن قلت : ما الذي تريد إثباته ؟ فأقول أنتظر قليلاً حتى يتضح لك الأمر أكثر بضرب مثالٍ ثانٍ ، وهو : أسماء يوم القيامة : فإن الأدلة قد سمّت هذا اليوم بأسماء كثيرة ، فهو يوم القيامة ويوم البعث ويوم القارعة ويوم الصاخة ويوم التغابن ويوم الحسرة واليوم الآخر ويوم الواقعة ويوم الطامة وغير ذلك ، فإذا نظرت إلى هذه الأسماء من حيث دلالتها جميعها على يوم واحد وجدتها مترادفة ، فيوم القيامة هو يوم الصاخة ويوم الصاخة هو يوم التغابن ويوم التغابن هو يوم الطامة ويوم الطامة هو يوم الحسرة ويوم الحسرة هو يوم البعث ويوم البعث هو اليوم الآخر ، فكلها أسماء ليوم واحد فهي باعتبار دلالتها على هذا اليوم مترادفة متفقة ، لأنه ليس كل اسم منها يدل على يوم خاص ، بل كلها تدل على يوم واحد ولكن إذا نظرت إلى صفات هذه الأسماء ، وجدت أن كل اسم منها يتضمن صفة لا يدل عليها الاسم الآخر فالقارعة لأنه يقرع القلوب(1/45)
والصاخة لأنه يصخ الأذان والواقعة لأنه واقع لا محالة ماله من دافع ، والحسرة لأنه قضي الأمر على حين بغتةٍ وغفلة ، والتغابن لحصول التغابن العظيم فيه وهكذا ، فإذا نظرت إلى صفات هذه الأسماء وجدتها متباينة ، فيتضح من ذلك أن لك في هذه الأسماء نظرين ، نظر من ناحية دلالتها على ذات واحدة ، ونظر من ناحية دلالتها على صفات مختلفة ، فهي مترادفة باعتبار النظر إلى الذات أي ذات ذلك اليوم الآخر ، ومتباينة باعتبار النظر إلى ما تضمنته من الصفات ، لأن كل اسم منها يصف ذلك اليوم بصفةٍ غير صفة الاسم الآخر ، والخلاصة أن اسماء يوم القيامة مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات ، فإن قلت : وما الذي تريد إثباته بهذين المثلين ؟ فأقول : أنتظر حتى يتضح لك الأمر أكثر بضرب مثالٍ ثالث ، وهو أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو أحمد ومحمد والعاقب والحاشر ونبي الرحمة ونبي الملحمة والمقفي وغير ذلك مما ثبت له من أسماء ، فإذا نظرت إلى هذه الأسماء وجدت أنها متفقة من وجه ومتباينة من وجه ، فهي متفقة باعتبار دلالتها على ذات واحدة وهي ذات النبي صلى الله عليه وسلم وذاته واحدة لا تتعدد ، فهذه الأسماء الكثيرة مترادفة باعتبار دلالتها على ذاته صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا نظرت إلى صفة كل اسم منها وجدت أن كل اسم منها يصف هذه الذات بصفةٍ غير صفة الاسم الآخر ، فالمقفي أي أنه لا نبي بعده ونبي الملحمة أي أنه مبعوث بالسيف ، ونبي الرحمة أي أنه بعث رحمة للعالمين ، وأحمد أي أنه كثير الحمد ، وهكذا فهذه الأسماء إذا نظرنا إلى دلالتها على ذاتٍ واحدة وجدناها مترادفة وإذا نظرنا إلى دلالتها على صفاتٍ مختلفة وجدناها متباينة ، فإذاً يصدق عليها قولنا : أسماؤه صلى الله عليه وسلم مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث دلالتها على الصفات فإن قلت : وما الذي تريد إثباته بهذه الأمثلة الثلاثة ؟ فأقول : أنتظر حتى يتضح لك الأمر أكثر بضرب مثالٍ(1/46)
رابع ، فإننا نكتب في تيسير الاعتقاد فلا بد من التيسير التام والتوضيح الذي يزيل كل لبس وجهالة ، والمثال الرابع : هو أسماء السيف ، فإن العرب قد سمت السيف بأسماء كثيرة ، فسمته بالسيف والمهند والبتار والقاطع وغير ذلك ، وهذه الأسماء باعتبار دلالتها على ذاتٍ واحدة وهي ذات السيف مترادفة ، ولكن كل اسم منها يدل على صفة مختلفة عن الصفة التي يدل عليها الاسم الآخر، فهذه الأسماء إذا نظرنا إلى صفاتها فهي متباينة وإذا نظرنا إلى دلالتها على ذاتٍ واحدة فهي مترادفة ، فإذاً يصدق عليها قولنا : أسماء السيف مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات ، فإذا فهمت هذه الأمثلة ، فإني أريد منك أن تجيب عن هذا السؤال الذي يقول: هل أسماء الله تعالى مترادفة أم متباينة ؟ كأني بك ستقول : هي مترادفة من حيث دلالتها على ذات الباري جل وعلا ومتباينة من حيث دلالتها على الصفات ، فالعزيز والحكيم مترادفة من حيث أنها اسم لذاتٍ واحدة لكن بالنظر إلى صفتيهما يختلفان ، لأن العزة ليست هي الحكمة ، وكذلك نقول : الغفور والقوي مترادفة من حيث دلالتها على ذاتٍ واحدة ، لكن بالنظر إلى صفتيهما يختلفان لأن المغفرة ليست هي القوة ، وكذلك نقول : السميع والبصير مترادفة من حيث دلالتها على ذاتٍ واحدة ، ولكن بالنظر إلى صفتيهما يختلفان لأن السمع ليس هو البصر وكذلك نقول : العلي والقدير مترادفان من حيث إنهما اسم لذات واحدة ، لكن بالنظر إلى صفتيهما يختلفان لأن العلو ليس هو القدرة ، وكذلك نقول : العليم والمتكبر مترادفان من حيث دلالتهما على ذات واحدة ، ولكن بالنظر إلى صفتيهما يختلفان ، لأن العلم ليس هو الكبرياء ، وكذلك نقول : الجبار والرحيم مترادفان من حيث أنهما اسم لذات واحدة ، ولكن بالنظر إلى صفاتهما يختلفان لأن الجبروت ليس هو الرحمة ، وهكذا في سائر أسماء الله تعالى فإذا نظرت إلى أنها جميعها تدل على ذات الله تعالى فإنها مترادفة وإذا نظرت(1/47)
إلى أن كل اسم منها يدل على صفةٍ غير صفة الاسم الآخر فإنها متباينة ، وبناءً عليه ، فليس مذهب أهل السنة أن نقول : هي مترادفة مطلقاً ، وليس مذهبهم أن نقول هي متباينة مطلقاً ، بل مذهبهم في ذلك أن نقول : هي مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، وأظن الأمر قد اتضح إن شاء الله تعالى ، وأرجو منك بارك الله فيك أن تعيد قراءة هذا الفصل مرة ثانية لينكشف عنك ما عساه أن يكون فيه لبس بعد معرفتك لما أريد إثباته والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
(( فصل ))
ومنها : أي ومن الأمور العينة على تيسير اعتقاد أهل السنة في باب الأسماء والصفات ، أن تعالى رزقني الله وإياك الإخلاص باطناً وظاهراً في الأقوال والأعمال والاعتقادات أن القاعدة المتقررة عند أهل السنة رفع الله نزلهم في الدنيا والآخرة تقول: ( كل نفي فإنه يتضمن ثبوتاً ) وبيان ذلك أن يقال إن من الصفات ما يثبتها الله لنفسه ومن الصفات ما ينفيها عن نفسه ، وهذا الفصل الذي نشرح فيه هذه القاعدة إنما هو في القسم الثاني أي في الصفات التي ينفيها الله تعالى عن نفسه الكريمة ، فأهل السنة رحمهم الله تعالى لهم في الصفات المنفية أمران :.
الأول : نفي هذه الصفة بعينها .
الثاني : إثبات كمال ضد هذه الصفة لله جل وعلا .(1/48)
فأهل السنة رحمهم الله تعالى لا يقفون عن نفي هذه الصفة فقط بل يعتقدون الاعتقاد الجازم أن الله تعالى لم ينف عنه هذه الصفة إلا لأنه متصف بكمال ضدها ، وهذا الاعتقاد فيصل بينهم وبين كثير من المبتدعة فإن المبتدعة الذين يصفون الله النفي ، إنما يصفون الله بالنفي المحض الذي لا يتضمن ثبوتاً ، أي يقفون عند الأمر الأول فقط ، ولا يعتقدون الأمر الثاني ، وهذا مجانب للحق ، مخالف للكتاب والسنة ، وأما أهل السنة فإنهم قالوا ( كل نفي فإنه يتضمن ثبوتاً ) أي أن كل صفة نفاها الله تعالى عن نفسه فإنه لزاماً يتضمن ثبوتاً ، وهذا الثبوت يقصدون به إثبات ضد الصفة المنفية ، أي أنف الصفة وأثبت لله تعالى كمال ضدها ، ويستدل أهل السنة على صحة ذلك بعدة أمور :.
منها : أن النفي المحض أي النفي الذي لا يتضمن ثبوتاً إنما هو عدم محض ، والعدم المحض لا يتمدح به ، لأن العدم المحض يصدق عليه أنه لا شيء ما ليس بشيء فإنه كما قال ليس بشيء ، فإنك إذا قلت : الجدار لا يظلم ، فأي مدح في ذلك بالله عليك ، لأنك لما نفيت الظلم عن الدار لم تعتقد اتصافه بضدها أي لأنه عادل ، لأن الجدار لا يقبل الظلم ولا العدل وإنما المقصود التمثيل فقط . فإذا قلت : الله لا يظلم ، فهذا نفي ، فإذا لم تعتقد ثبوت الضد لله فهو نفي محض ، وأهل السنة لا يصفون الله تعالى بالنفي المحض ، لأن النفي المحض عدم محض والعدم المحض لا يصلح أن يكون طريقاً للمدح .
ومنها : أن المتقرر عند أهل السنة أن كل نقص في المخلوق لا كمال فيه فالله أحق بالتنزيه عنه ، ومما يتنزه عنه المخلوق أن يوصف بالنفي المحض أي الذي لا يتضمن ثبوتاً فإذا كان ذلك الأمر مما يتنزه عنه المخلوق فالله تعالى أحق بالتنزيه عنه .(1/49)
ومنها : أن النفي لا يلزم منه كمال الضد ، لأنه قد يكون لعدم القدرة أصلاً كقولك للفقير المسكين : هذا لا يظلم أحداً ، فإن هذا النفي ـ أعني نفي الظلم ليس لأن هذا الفقير عادل ، وإنما لأنه غير قادر على الظلم أصلاً ، وذلك كما قال الشاعر يذم قبيلة:
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل
فنفى عنهم صفة الغدر والظلم لا لأنهم متصفون بالوفاء والعدل وإنما لأنهم عاجزون أصلاً عن الغدر والظلم فليس كل نفي لا بد أن يتضمن ثبوتاً ، ولذلك فلا بد في الصفات التي نفاها الله عن نفسه أن نعتقد ثبوت كمال ضدها له جل وعلا .
ومنها : أن هذا هو جادة الأدب مع الرب جل وعلا وتبارك وتقدس ، فإنه ما عظم الله تعالى حق تعظيمه من وصفة بالنفي المحض أي النفي الذي لا يتضمن إثباتاً ، كما هو سبيل أهل الأهواء والبدع فإنهم وقعوا في بليتين:
الأولى : أنهم ينفون عن الله تعالى ما تهواه نفوسهم بلا دليل يستند عليه ولا برهان يعتمد عليه فيقول أحدهم : املأ الدنيا نفياً ولا تثبت صفة واحدة ، فيقولون : لا عالم ولا جاهل ولا طويل ولا قصير ولا أبيض ولا أسود ولا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ولا محايث ولا يرى . ولا ، ولا ، ولا ، ولا وهذه قلت أدب وتعطيل محض ووصف للرب بما لا يليق ويا ليت الأمر اقتضى على ما لم يرد الدليل بإثباته بل تجاوزوا الحد ونفوا ما تواتر الدليل بإثباته ، فنعوذ بالله من حالهم .(1/50)
الثانية : أن نفيهم هذا نفي محض لا يتضمن ثبوتاً ، وهذا زيادة في قلة الأدب ، ففي الحقيقة أن هؤلاء الأوباش قوم بهت لا أدب ولا عقل ولا نقل ولا حياء يردعهم عن نسبة هذه الخرافات لله العلي العظيم جل وعلا وتبارك وتقدس " سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " فمن أراد سلوك جادة الأدب معه جل وعلا ، فلينف عنه ما نفاه عن نفسه في كتابه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته وليعتقد الاعتقاد التام أنه ما نفى عن نفسه ذلك إلا لأنه متصف بكمال الضد ، أي كمال ضد الصفة المنفية .
ومنها : أن ذلك المنهج هو ما سار عليه القرآن والسنة وجميع الرسل والصحابة وأئمة الهدى الذين لهم لسان صدق في الأمة من سادات أهل السنة والجماعة . ولا شك أن خير الطرق طريقهم وأقوم المناهج منهجهم ، وأفضل السبل سبيلهم والله أعلم .
وخلاصة القول أن تعتمد هذه القاعدة التي تقول :(كل صفة نفيت في الكتاب والسنة عن الله جل وعلا فإنه يجب نفيها واعتقاد كمال ضدها ) وهذا ما ندين الله تعالى به وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا وندرسه لطلابنا في مجالسنا العامة والخاصة ونوصيهم بتدريسه لمن بعدهم من الأجيال القادمة ونسأله جل وعلا أن يميتنا عليه وأن يحشرنا في زمرة أهله من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا والله أعلت وأعلم ، فإن قلت : قد عرفنا ذلك الأمر تنظيراً واستدلالاً فهلا تممت ذلك بذكر بعض الأمثلة والتفريعات عليه حتى يترسخ في الذهن تخريجاً وتطبيقاً ؟ فأقول : نعم وعلى الرحب والسعة وعلى العين والرأس ، فدونك هذه الأمثلة :.
الأول : قال تعالى ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ )(البقرة: من الآية255)فالسنة والنوم صفتان منفيتان فلك فيها أمران :(1/51)
الأول : أن تنفي هذه الصفات فتقول : الله لا تأخذه السنة ولا النوم ، فهو لا ينام ولا ينبغي له أن ينام جل وعلا ، وتعتقد كمال الضد فتقول : وذلك لكمال حياته وقيوميته ، فلأن حياته جل وعلا حياة كاملة من وجه وقيوميته قيومية كاملة من كل وجه فإنه لا تأخذه سنة ولا نوم ، فتعتقد الأمرين جميعاً ، فتقول : هكذا : ( لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته )
الثاني : قوله تعالى ( مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً)(الجن: من الآية3)فهنا شيئان نفاهما الله جل وعلا عنه ، هما الصاحبة والولد ، فالواجب عليك في هذا النفي أمران :.
الأول : أن تنفيه فتقول : الله لا صاحبة له ولا ولد ولا تقف عند هذا النفي بل تقول بعد ذلك : وذلك لكمال ملكه وغناه عن كل أحد ، فلأنه الغني الغنى المطلق في ذاته وصفاته ولأنه القوي القوة المطلقة ولأنه القدير القدرة المطلقة فلا يحتاج إلى صاحبة ولا إلى ولد ، فتلخص من ذلك قولنا ( لم يتخذ ربنا صاحبة ولا ولد لأنه الغني عن كل أحد ) فهذا النفي يتضمن كمال القدرة وكمال العظمة وكمال الكبرياء قال تعالى ( وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم الآية :92، 93، 94، 95)
الثالث : قال تعالى ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(الكهف: من الآية49) فهنا نفي صفة الظلم عن نفسه جل وعلا ، فالواجب عليك في هذا النفي أمران : أن تنفيه فتقول : الله لا يظلم ، ولا تقف عند ذلك بل يجب عليك أن تعتقد أن هذا النفي متضمن ثبوتاً وهو كمال الاتصاف بالعدل فتقول : الله لا يظلم أحد مثقال ذرة لكمال عدله جل وعلا وتبارك وتقدس وتعالى عن كل نقص .(1/52)
الرابع : قوله تعالى ( ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) فهنا نفي الشريك في الملك والولي من الذل ، فالواجب علينا نفيهما واعتقاد أن ذلك لكمال ملكه ، وكمال عظمته وكمال سلطانه وكمال قهره وكمال عزته وكمال ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، فهو الكامل الكمال المطلق في ذاته وهو الكامل الكمال المطلق في أسمائه وصفاته وهو الكامل الكمال المطلق في أفعاله وأحكامه جل وعلا ، وهو الكامل الكمال المطلق في عزه وملكه وقهره وسلطانه ، فإذا أعتقدت ذلك فأنت الموفق والمهدي إلى صراط مستقيم .
الخامس : قال تعالى ( ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) أي عجز وإعياء وتعب ، فهنا نفي عن نفسه جل وعلا اللغوب ، فالواجب عليك في ذلك أمران : أن تنفي عنه هذه الصفة ، وتعتقد اتصافه بكمال ضدها فتقول : لا يمسه لغوب لكمال قدرته وقوته وعظمته فلأنه الكامل الكمال المطلق في قدرته وقوته وعظمته فإنه جل وعلا لا يمسه لغوب بوجهٍ من الوجوه .
السادس : قوله تعالى ( ولم يكن له كفواً أحد ) فهنا نفي أن يكون له من خلقه مكافئ ، فالواجب علينا نفي ذلك ، ولا تقف عند حدود هذا النفي بل لا بد أن نقرنه بالأمر الآخر وهو اعتقاد كمال الضد فنقول : ليس له مكافئ في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في أفعاله وذلك لأنه الكامل الكمال المطلق في كل ما ينسب إليه ، فله الكمال المطلق في ذاته وله الكمال المطلق في أسمائه وله الكمال المطلق في صفاته وله الكمال المطلق في أفعاله فلأنه الكامل الكمال المطلق من كل وجه في ذلك كله لم يكن له كفواً أحد ، وليس كمثله شيء جل وعلا وتبارك وتعاظم وتعالى وتقدس .(1/53)
السابع : قوله تعالى ( لا يضل ربي ولا ينسى ) والنسيان المنفي هنا هو النسيان بمعنى الغفلة والذهول ، فهنا نفى عنه جل وعلا صفة النسيان ، فالواجب عنلينا في هذا أمران : أن ننفي هذه الصفة ، ولا نقف عند النفي فقط بل لابد من قرن هذا النفي بالإثبات وهو اعتقاد كمال علمه فالله لا ينسى لكمال علمه وسائر صفاته جل وعلا .
الثامن : قوله تعالى لكليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما قال لربه جل وعلا ( رب أرني أنظر إليك *قال لن تراني ) فهنا نفى عن نفسه الرؤية في هذه الدار ، فالواجب علينا أمران أن ننفي ذلك ونقول : الله جل وعلا لا يرى في هذه الدار كما قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه ( وتعلوا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت ) فهذه الدار ليست محلاً لرؤيته جل وعلا وذلك لكمال عظمته وكبره وكبريائه وكماله في سائر صفاته ولضعف النفس البشرية عن تحمل هذه الرؤية ، وأما في الآخرة فإنه جل وعلا يرى في عرصات يوم القيامة ويرى بعد دخول الجنة رؤية حقيقية على الكيفية التي يريدها جل وعلى كما قررناه في مناسبات عدة ، والمقصود أن نفي الرؤية في هذه الدار إنما هو لكماله في عظمته وكبره وكبريائه وجماله وسبحات وجهه التي لو كشفها لأحرقت ما انتهى إليه بصره والله أعلم .
التاسع : قوله صلى الله عليه وسلم ( يد الله ملآى لا يغضها نفقة .... الحديث ) وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، والشاهد هو قوله ( لا يفيضها نفقة ) فهذا نفي فالواجب عليك فيه أمران : أن تنفيه وتعتقد أن ذلك لكمال الغنى وتمام الملك فلأنه الغني الغنى المطلق والمالك الملك المطلق فلا ينقص هذا الإنفاق ما في يده جل وعلا ، فلعن الله اليهود إذ قالوا ( الله فقير ونحن أغنياء ) وإذ قالوا (يد الله مغلولة ) فنعوذ بالله من قولهم ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) سبحانه لا نحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه جل وعلا ، والله أعلم ، وغير ذلك من الأمثلة .(1/54)
وخلاصة الأمر : أن كل ما نفاه الله جل وعلا عن نفسه العظيمة الكريمة في كتابه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته فالواجب عليك فيه أمران : الأول : نفي ما نفاه ـ والثاني : اعتقاد ثبوت كمال الضد والله نحفظك ويرعاك ويفقني وإياك وسائر إخواننا المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح والله أعلم .
(( فصل ))
ومنها :أن تعلم العلم اليقيني الجازم وتؤمن الإيمان الكامل التام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الباب بياناً شافياً قلا لبس فيه ولا غموض ولا إشكال ، فقد بلغه للأمة البلاغ المبين ، وبينه البيان الكامل الكافي الشافي ، ودليل ذلك عدة أمور :.
الأول : أنه قد بين لنا آداباً كثيرة بياناً شافياً كافياً كآداب الأكل والشرب والخلاء والنوم ودخول البيت والخروج منه والوطء وغير ذلك من الآداب المعلومة المتقررة بالأدلة الصحيحة الصريحة ، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بيانها للأمة البيان الكامل وتوضيحها التوضيح الشافي الكافي فإذا كان ذلك البيان في هذه الآداب يوصف بأنه شافٍ كافٍ فلأن يكون بيانه لباب ما يجب اعتقاد العبد في ربه جل وعلا وفي أسمائه وصفاته يوصف بذلك من باب أولى لأن باب معرفة الله بأسمائه وصفاته أعظم وأهم بكثير من هذه الآداب فإذا حضيت هذه الآداب بهذا البيان فلأن يكون باب معرفة الله بأسمائه وصفاته أحضى بالبيان من باب أولى ، لأن من أهتم ببيان الأدون فاهتمامه ببيان الأعلى سيكون أشد وأعظم وأكبر لا سيما وأن باب معرفة الله بأسمائه وصفاته هو لب الرسالة وزبدة ما يجب اعتقاده ، فلا والله ما قدر النبي صلى الله عليه وسلم حق قدره من نسبه إلى التقصير في بيان هذا الباب ، وما أنزله حق منزلته من زعم أن باب الأسماء والصفات باب ملتبس مشكل لا يعرف حقه من باطله ونعوذ بالله من هذا القول وحال أصحابه .(1/55)
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالهدى والنور ، قال تعالى ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) فكل سشيء جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه نور وهدى فآداب الأكل نور وهدى ، وآداب المسجد نور وهدى ، والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وبر الوالدين والصدق وغير ذلك كله نور وهدى ولكن أعظم النور والهدى هو باب معرفة الله بأسمائه وصفاته فمن المحال أن يهمله النبي صلى الله عليه وسلم بلا بيان ، أو يتركه مشكلاً غامضاً لا يعرف الحق فيه من الباطل ، أفيظن فيه صلى الله عليه وسلم أن يترك بيان أعظم النور وأكمل الهدى ؟ لا والله ثم لا والله ثم لا والله بل الذي نعتقده بقلوبنا أنه لما كان باب معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته أعظم النور والهدى الذي بعث به صلى الله عليه وسلم فإننا نعتقد أن بيانه كان أكمل وحرصه عليه كان أشد ، وأنت خبير بأنه صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى التوحيد بل وحتى بعد الهجرة لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً الحرص الكامل على تبين هذا الباب البيان الشافي الكافي ولم يمت صلى الله عليه وسلم إلا وقد بلغ البلاغ المبين وأكمل الله لنا ديننا وأتم علينا نعمته هذا ما يجب اعتقاده والله أعلم .(1/56)
الثالث : أن باب معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته هو أساس العمل وقاعدته وأصله لأن عبادة الله تعالى موقوفة على معرفته بأسمائه وصفاته ، فمن لا يعرف الله بذلك فكيف يفرده بالعبادة ، وما عداه من الأعمال فإنما هي كالفروع له التي تبنى عليه ، فكيف بالله عليك يحرص صلى الله عليه وسلم على بيان الفروع ويترك أو يهمل بيان أصل الأصول وقاعدة العمل وأساسه ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، فإن ذلك لو فعله أصغر داعية من دعاة الإسلام لعددنا ذلك منه تقصيراً وتفريطاً في أمر الدعوة ، ولعددناه من جملة عيوبه الدعوية إذ كيف يترك الأصل والقاعدة والأساس الذي يبنى عليه العمل ويهتم ببيان الفروع والجزئيات ؟ فإذا كان عيب في أصغر دعاة الإسلام ، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أكبر الدعاة وأعظمهم وسيدهم وأدلهم في هذه الأمة ؟ هذا ما لا يجوز اعتقاده لأنه نسبة له للتقصير والإخلال والنقص ، فمن المحال أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم أصل الأصول ملتبساً غامضاً لا يعرف وجه الحق فيه ، لا والله هذا ما لا يكون أبداً ، ومن اعتقد ذلك فإنما أتي من جهله وحمقه وقلة أدبه ، بل معتقد ذلك هو الناقص والجاهل الذي ما قدر النبي صلى الله عليه وسلم حق قدره والله له بالمرصاد ويحاسبه على هذا الاعتقاد .(1/57)
الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم قد بينوا للتابعين هذا الباب بياناً شافياً كافياً وقد قالوا فيه كلمة الحق لا يخافون في ذلك لومة لائم وأخذه منهم التابعون كاملاً لا لبس فيه ولا غموض ، مما يدل أنهم رضي الله عنهم قد تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الكمال والتمام فإن فلاح الطالب دليل على إتقان معلمه ، فلم يكن الصحابة رضي الله عنهم ليبلغوا من بعدهم هذا الباب البلاغ المبين إلا لأنهم أتقنوه والإتقان التام وتعلموه التعلم الواضح من النبي صلى الله عليه وسلم ، مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد استفرغ جهده بالبيان الكامل والفصاحة التامة والشفقة الكاملة والنصح التام في تعليمهم هذا الباب بك ل ما آتاه الله تعالى من قوةٍ ، وهذا هو الحق الذي كان ، ولا عبرة بمن قصر فهمه وضعف عقله عن معرفة الحق في هذا الباب أو سلك مسالك أهل الأهواء والبدع في النظر لمسائل هذا الباب ، فمثل هذا لا عبرة بقوله ولا يؤبه له في صغير ولا كبير ، ولذلك فإنه لا يعرف مثل هذا الكلام عن أحد من أهل السنة وإنما هو شيء يتفوه به من هو مغموس في النفاق وموصوف بالبدعة ، وأما أهل السنة فإنهم بتوفيق الله ومنته قد سلموا في هذا الباب ـ وغيره من أبواب الاعتقاد ـ السلامة المطلقة ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة ونسأله جل وعلا أن يوفقنا وإياك لسلوك سبيلهم والحشر معهم إنه خير مسئول والله أعلم .
وخلاصة هذا الفصل أن تؤمن إيماناً جازماً راسخاً أعظم من رسوخ الجبال في الأرض أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين باب الأسماء والصفات بياناً شافياً كافياً فكل ما يحتاجه العبد في هذا الباب قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أكمل البيان ، والله أعلى وأعلم .
(( فصل ))(1/58)
ومنها : أي ومن الأمور المعينة على فهم منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات أن تعرف كيف الجواب عن ما يورده أهل البدع من التحريفات في آيات الصفات ، فإنهم يحرفون صفة الوجه إلى الثواب أو الذات ويحرفون صفة العين إلى العلم ويحرفون صفة الأستواء إلى الإستيلاء ويحرفون صفة العلو الذاتي إلى علو القور فقط ويحرفون صفة اليد إلى النعمة والقدرة ويحرفون صفة المجيء إلى مجيء الأمر ويحرفون صفة الكلام إلى القول النفسي الذي لا حرف له ولا صوت ، ويحرفون صفة النزول إلى نزول الأمر أو الرحمة أو ملك من الملائكة ويحرفون نصوص الرؤية في الآخرة إلى رؤية الثواب ويحرفون صفة الرجل إلى طائفة من الخلق ، وهكذا ـ عليهم من الله ما يستحقون فلابد من الجواب عليهم ، وعندنا أجوبة عشرة هي أساس الأجوبة في كل تحريف فاجعلها كالقاعدة عندك في كل تحريف من هذه التحريفات أو غيرها ، أي كل من سمعته يحرف شيئاً من صفات الله تعالى ويخرجها عن مدلولها الصحيح إلى معانٍ أخرى فأجبه أولاً بهذه الأجوبة الذي سأذكرها لك بعد قليل إن شاء الله تعالى ، وهذا يحتم عليك أن تحفظها عن ظهر قلب ولا يكفي أن تمر عليها مرور قراءة فقط ، بل أريدك أن تحفظها حفظاً تاماً كما تحفظ سورة الإخلاص والفاتحة ، لأن هذه الأجوبة هي أساس الأجوبة التي أجاب بها أهل السنة على كل تحريفات المبتدعة ، ودونك هذه الأجوبة :.
الأول : أن هذا خلاف ظاهر الأدلة من الكتاب والسنة .
الثاني : أنه خلاف لغة العرب .
الثالث : أنه ليس عليه دليل .
الرابع : أنه انتقال للمجاز بلا قرينة والأصل في الكلام الحقيقة .
الخامس : أنه مخالف لما أجمع عليه السلف .
السادس : أنه إقحام للعقل فيما هو من قبيل الأبواب الغيبية .
السابع : أنه فرار من شيء ووقوع في نظيره أو شر منه .
الثامن : أنه تجهيل للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان .
التاسع : أنه مفضٍ إلى تعطيل الرب عن ما وصف به نفسه .(1/59)
العاشر : أنه تحكيم للعقل فيما ثبت به النص القاطع .
فهذه الأجوبة العشرة هي أساس ما تجيب به كل محرفٍ من أهل الأهواء والبدع فأوصيك بحفظها وإتقانها وإني أخرجتها لك على وجه الاختصار ليسهل حفظها واستذكارها . فأعد قراءتها وأدم النظر فيها فإن التكرار وإدمان النظر في الشيء موجب لحفظه بعد زمن ، ولا أقول : أن هذه هي كل الأجوبة ، لا ، بل هناك بعض التحريفات قد تزيد بعض الأجوبة إلا أن هذه الأجوبة العشرة هي الأصل الذي تبدأ به إجابة كل من حرف شيئاً من صفات الله تعالى ، فهذه الأجوبة العشرة تتكرر معك في كل تحريف فمن حرف صفة الوجه إلى الثواب فأجبه بها ، ومن حرف صفة النزول إلى نزول الرحمة أو الأمر فأجبه بها ، ومن حرف صفة الاستواء إلى الاستيلاء فأجبه بها ومن حرف اليد إلى النعمة والقدرة فأجبه بها ومن حرف العين إلى العلم فأجبه بها وهكذا ، فهذه الأجوبة العشرة هي الأجوبة التي تتكرر معك في كل تحريف أتى به المبتدعة ، فأوصيك بحفظها وتكرارها حتى ترسخ في حافظتك ويتشربها عقلك ومن باب زيادة التوضيح اشرح لك بعضها شرحاً ميسراً حتى تعرف المراد منها فأقول :
قوله في الجواب الثاني : " أنه خلاف لغة العرب " ، ذلك لأن الله تعالى قد أنزل وحيه من كتابٍ وسنة باللسان العربي المبين فالواجب حمل معاني هذه الألفاظ على ما تقتضيه دلالة اللسان العربي ، فمن حمل ألفاظ الكتاب والسنة على معانٍ تخالف ما تعرفه العرب من لسانها فقوله باطل مردود عليه ومضروب به في وجهه ومثال ذلك تحريفهم صفة الوجه إلى الثواب ، فإنه شيء لا يعرف في لغة أمة من الأمم وليس عند العرب فقط ، فلم يعبر عند أحدٍ من الأمم عن الثواب بأنه الوجه ، فتحريفهم هذا مخالف للسان العرب لأن الوجه عند العرب ما تحصل به المواجهة ، هذا معناه في اللسان العربي وأما نقله من معناه الصحيح إلى الثواب فإنه باطل كل البطلان .(1/60)
ومثال آخر : تحريفهم قول الله تعالى ( لما خلقت بيدي ) إلى القدرة والنعمة ، فإن العرب وإن كانت تطلق اليد على القدرة والنعمة إلا أنها في هذا التركيب لا تجيز إرادة النعمة والقدرة لأن اليدين وردت مثناة ، والنعمة والقدرة المضافة إلى الله تعالى لا تذكر مثناة ، فتخريجهم هذا الشيء لا يسوغ في لسان العرب
ومثال آخر : وهو تحريفهم العين إلى العلم ، أين يوجد هذا ؟ في أي لغة هو ؟ إنه في لغة المجانين الذين لا يستحون على وجوههم ولا يعظمون نقلاً ولا رباً ولا نبياً ولا سلفاُ ولا خلفاً بل هم الواحد منهم أن يعطل الصفة بأي شيء من غير نظر هل هو سائغ أم غير سائغ ، فجاءوا بهذا الخلط العجيب والزندقة الفاضحة التي لا توافق منقولاً ولا معقولاً ، والله المستعان . ومثال آخر : تحريفهم الاستواء بالاستيلاء مخالف للسان العرب ، فإن العرب لا تطلق على الاستيلاء استواءً ، وبيتهم الشعري الذي يرددونه هواء لا شيء ، مع ما يلزم على تحريفهم من اللوازم الباطلة ، ولذكرها موضع آخر . والمقصود أن تعرف كيفية مخالفتهم للغة العرب فيما أتوا به من تحريفات .
وقوله في الجواب السابع : " أنه فرار من شيء ووقوع في نظيره أو أشد منه " أي أن هؤلاء المعطلة الذين عطلوا الله تعالى عن صفاته قد حرفوها لمعانٍ أخرى ، يزم عليهم في هذه المعاني نظير ما لزمهم في المعنى الذي فروا منه ، وأضرب لك أمثلة
منها : حرف الأشاعرة صفة الغضب إلى إرادة الانتقام وقالوا لو وصفناه بالغضب لاستلزم ذلك تمثيله بخلقه فيقال لهم : والمخلوق له إرادة أيضاً ، فأنتم فررتم من شيء ووقعتم في مثله مع ما يلزمكم من التحريف والتعطيل .(1/61)
ومنها : حرف المبتدعة صفة الرحمة إلى إرادة الثواب ، خوفاً من تمثيل الله بخلقه ، فيقال لهم : وكذلك يلزمكم في الإرادة ما لزمكم في الرحمة ، فإن المخلوق له إرادة كما أن له رحمة ، فإذا كنتم قد فررتم من وصفه بالرحمة لأن المخلوق له رحمة فيلزمكم أن تنفوا الإرادة لأن المخلوق له إرادة ، وإلا لكنتم متناقضين .
ومنها : حرف المبتدعة صفة العين إلى العلم خوفاً من تمثيل الله بخلقه ، فيقال لهم : والمخلوق أليس به علم ؟ الجواب بلى ، فإذاً يلزمكم في العلم نظير ما لزمكم في العين ، فما هذا التناقض وهذه السفسطة ؟ وهكذا ، فلا تجد المبتدعة ينفون شيئاً ويثبتون مكانه شيئاً إلا ويلزمهم في المعنى الذي فروا إليه نظير ما لزمهم في المعنى الذي فروا منه فهذا معنى قوله " إنه فرار من شيء ووقوع في نظيره " وأما قوله(1/62)
" أو أشد منه " وذلك كقول القرامطة غلاة الغلاة من الجهمية فإنهم يسلبون عن الله تعالى النفي والإثبات أي يسلبون عنه النقيض فيقولون ليس بأبكم ولا يسمع وليس بأصم ولا موجود ولا معدوم ولا يبصر وليس بأعمى وهكذا ، ويقولون : لو أننا وصفناه بالإثبات لشبهناه بالموجودات ولو وصفناه بالنفي لشبهناه بالمعدومات ، فسلبوا عنه النفي والإثبات فراراً من تشبيهه بالمعدومات والموجودات ن لكنهم وقعوا في شرهم ذلك وهو أنهم شبهوه بالممتنعات التي لا تقبل الوجود أصلاً وهذا غاية الكفر والزندقة والإلحاد . والأمثلة كثيرة لكن المقام مقام اختصار ، وباقي الأجوبة واضحة إن شاء الله تعالى ، وعلى كل حال فالذي أريده منك في هذا الفصل أن تحفظ هذه الأجوبة العشرة ، فأرجوك بارك الله فيك أن تتفضل علي بحفظها وضبطها وإتقانها فإنها صفعة في وجوه المحرفين وسيف يقطع شبهات المتهوكين وقد رأيت بركتها وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، فأرجوك أن تعيد قراءتها مرة ومرتين وثلاث حتى يتمرس لسانك على استعادتها ويسهل عليك استذكارها والله يرفع نزلك في الدنيا والآخرة ويعلي لك الدرجة ويحسن لك الخاتمة ، ويجمعنا بأهل السنة في يوم الحشر والله أعلم .
(( فصل ))(1/63)
أعلم بارك الله فيك أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن الأصل في الكلام الحقيقة فلا يجوز الانتقال عن الحقيقة إلى المجاز إلا بالقرينة الصادقة ، ولكن بشرط ، وهو أن تكون الحقيقة متصورة أصلاً ، أي أنك مثلاً إذا قلت : رأيت أسداً قد أمتطى صهوة المنبر يخطب ، فإن عقلك وفهمك لا يمكن أبداً أن يحمل هذا الكلام على حقيقته لأنك تعرف حقيقة الأسد وأنه لا يمكن أن يفعل ذلك فعرفت أن المراد المجاز ، لكن بالله عليك لما صرف المبتدعة صفات الله تعالى من حقائقها إلى مجازاتها ، هل كانوا يعرفون حقيقة هذه الصفة حتى يتيقنوا أنه لا يراد بها الحقيقة ؟ هل كانوا يعلمون حقيقة الوجه حتى يصرفوه إلى الثواب ؟ هل كانوا يعلمون حقيقة اليد حتى يصرفوها إلى النعمة والقدرة ؟ هل كانوا يعلمون حقيقة العين حتى يصرفوها إلى العلم ؟ بالطبع لا ، إذاً كيف يصرفون الكلام من حقيقته التي لم يتصوروها أصلاً ولم يعرفوا كيفيتها إلى المجاز ويقولون : أنه لا يمكن أن يريد الحقيقة ، أي حقيقة هي التي يفرون منها ؟ أن القوم قوم بهت أهل أهواء وشهوات ، يتحكمون في الأدلة بأهوائهم وشهواتهم كما يتحكم الصبي بالكرة تحت يده ، فيحذفون من الدليل ما لا يريدون ويدخلون في دلالته ما يريدون بلا حياء ولا خوف ولا برهان ، وإنما هي العقول العفنة والأهواء المنتنة ، فانتبه لهذا الأمر الانتباه التام ، وأعيد لك بعبارة أسهل ومثال جديد وهو : لو سمعت أحداً يقول : لقد رأيت أسداً قد حمل حقيبته وذهب إلى مدرسته ، فبالله عليك هل ستفهم من لفظ الأسد أنه الحيوان المفترس ؟ بالطبع لا ، ولو قلت لك : لماذا لا تحمل الكلام على أنه الأسد الحقيقي ؟ فستقول لي بك ثقةٍ لأنني أعرف حقيقة الأسد وأنه لا يمكن أن يحمل حقيبة ويذهب إلى المدرسة ، إذا أنت حملت الكلام على المجاز لأنك تصورت حقيقة الأسد وأنه لا يمكن صدور ذلك الفعل منه ، إذاً لابد أن تعرف الحقيقة أولاً حتى ننظر هل يمكن حمل(1/64)
الكلام عليها أم يكون المراد هو المجاز ؟ وهؤلاء المبتدعة لما زعموا أن آيات الصفات لا يراد بها حقائقها هل بالله عليك كانوا يعرفون كيفيات هذه الحقائق حتى يقرروا أنه لا يمكن أن يراد حقائقها ؟ الجواب لا ، إذاً كيف يفرون من حقيقة لا يعرفونها ويحاربونها وهم لم يتصوروها أصلاً ؟ هذا والله هو الذي لا ينتفض منه عجبي ، لكن يزول الإشكال إذا علمت انهم لا يفهمون من هذه الآيات إلا ما يفهمونه من صفات البشر ، فلا يفهمون من العين إلا أنها كأعيننا ولا يفهمون من الوجه إلا أنه كوجوهنا ولا يفهمون من الاستواء إلا أنه كاستوائنا وهكذا ، فلما قامت هذه المفاهيم في رؤوسهم أرادوا أن يفروا منها ظناً منهم أن هذه المفاهيم الباطلة هي المراد من هذه الآيات فترقوا بذلك ولله الحمد من الجهل البسيط إلى الجهل المركب ، فجمعوا جهلاً على جهل وغباء على غباء وحمقاً على حمق ، وبناءً عليه فإذا سمعت مبتدعاً يقول : لا يمكن أبداً أن يوصف الله بأن له وجهاً ، فاسأله أولاً : ماذا تعني بالوجه ؟ فإنه وإن خادع وزخرف القول فسينتهي به الأمر إلى الاعتراف بأنه لا يفهم من صفة الوجه إلا الوجه المعهود في المخلوق ، وحينئذٍ فبين له الآيات التي فيها قطع دابر المماثلة بين الخالق والمخلوق ، فإن أذعن ورجع فالحمد لله وإلا فهو شيطان في مسلاخ إنسان وحمار في بدن آدمي والله يعصمنا وإياك من زلل القول ونعوذ به من مناهج أهل الأهواء والله أعلم .
وخلاصة هذا الفصل أن تعلم أنه لا يجوز الانتقال من حقيقة الكلام إلى مجازه إلا إذا دلت القرينة على ذلك بشرط أن تكون الحقيقة معلومة لك أولاً وأما إذا كانت من عالم الغيب الذي أستأثر الله تعلمه فالواجب عليك أن تبقى على الحقيقة . والله أعلى وأعلم.(1/65)